قضايا ثقافية
البعد العقدي في العلاقة بين الإسلام والغرب
كمال السعيد حبيب
العلاقة بين الإسلام والغرب أصبحت من أهم القضايا الاستراتيجية والسياسية
منذ نهاية الحرب الباردة، لكنها أصبحت بعد أحداث 11 سبتمبر أهم قضية كونية،
تلك الأحداث التي هزت بقوة كبرياء القوة العظمى في العالم وغرورها، وكشفت
عن الوجه الحقيقي للغرب في علاقته بالعالم الإسلامي؛ فما كان يُعَدّ له في الخفاء
أصبح مكشوفاً، ولم تعد الخطط والاستراتيجيات قيد البحث في الدهاليز والغرف
المغلقة، وإنما أصبحت مشاعاً لوسائل الإعلام الغربية، تتداولها مرئية ومسموعة
بلا أي تحفظات أو قيود.
وكشفت هذه الخطط فيما كشفت عن وجود بعد عَقَدِيّ يحركها، فالإدارة
اليمينية التي تحكم الولايات المتحدة الأمريكية لا تحركها فحسب الدوافع السياسية
والاقتصادية على الرغم من أهميتها، وإنما تصدر عن بواعث ثقافية وحضارية
ودينية؛ بحيث يمكن القول: إننا بحاجة إلى «علم سياسة» جديد، يجعل من
(الدين، والهوية، والثقافة) موضوعه؛ بناء على أن المصالح لم تعد هي جوهر
«علم السياسة» أو «العلاقات الدولية» ، كما جرت تقاليد هذا العلم منذ
(ميكافيللي) وحتى اليوم.
«علم السياسة» الجديد يجعل الجغرافيا السياسية الجديدة تقوم على الحدود
الحضارية والثقافية والدينية، وليست خطوطاً وهمية على خريطة العالم، وفي
الواقع؛ فإن «الدين» كان أحد محركات الغرب في علاقته بعالم الإسلام، لكن
الجانب الثقافي والاجتماعي والحضاري لم يكن ظاهراً للعيان، كما كان جانباً أقل
أهمية من الجانب السياسي، ومن ثم فإن الاهتمام بالعلاقة السياسية مع الغرب والتي
تمحورت حول التحرر السياسي منه كانت هي الأساس، أما الجوانب الثقافية
والحضارية والدينية فكانت غائمة ومشوشة، بل سعى الغرب إلى إسدال الحُجُب
عليها، ولم ير المناضلون والساعون للتحرر في العالم الإسلامي المسألة الحضارية
ذات بالٍ، بل كانوا ينازعون الغرب على المستوى السياسي، لكن على المستوى
الثقافي كانوا يستلهمون قيم الغرب وطريقته للحياة! وكان الغرب اللئيم يدرك جيداً
أن المعركة مع العالم الإسلامي خصوصاً هي بالأساس معركة الدين الإسلامي
والثقافة العربية الإسلامية، وكأن لسان حاله يقول: إذا كسبنا معركة الدين والثقافة
نكون قد انتصرنا حقاً، أما معركة السياسة والاقتصاد فخسارتها يمكن تعويضها
بأدوات الهيمنة والضغوط المختلفة. واستطاع الغرب أن يستعيد مكاسب السياسة
والاقتصاد، إلى حد أن التحرر السياسي والاقتصادي للعالم الثالث لم يكن سوى
مسألة شكلية، لكن معركة الثقافة والحضارة والدين ظلت قائمة ومشتعلة.
وللحق؛ فإن التيار الإسلامي انتبه منذ البداية لأهمية معركة الحضارة، والتي
يقع الدين في قلبها، أما العلمانيون الذين قادوا معارك الاستقلال في العالم الإسلامي
وكانوا متأثرين بالنموذج الغربي الحضاري؛ فقد اعتبروا قضايا الدين والثقافة
قضايا هامشية يهتم بها دراويش التيار الإسلامي، لكن الذين تحرروا من وهم أن
الصراع مع الغرب هو صراع سياسي بالأساس أعلنوا أنهم كانوا مخطئين [1] .
ومع تراجع النظرية السياسية الغربية التي تأسست على جعل الدين قوة عينية
لا صلة لها بالواقع أو الحياة، وإعادة الاعتبار للدين بوصفه قوة محركة للشعوب؛
بدأ النظر للدين وللحركات الإسلامية بوصفها جزءاً من علم السياسة والاجتماع،
لكننا نتحدث اليوم عن اعتبار الدين والثقافة والحضارة هي صلب علم السياسة
والعلاقات الدولية، وكما كان الدين الإسلامي وليس أي دين آخر هُو الذي لفت
انتباه الغرب لأهمية الدين في أن يصبح قوة ثورية إيجابية؛ فإنه - أي الدين
الإسلامي - هو الذي يلفت الانتباه مرة أخرى إلى أن الدين، والجوانب الثقافية
والحضارية هي صلب العلاقات الدولية، وصلب العلوم السياسية والاجتماعية.
والعلاقة بين الإسلام والغرب فيما يتصل بالجانب الحضاري والديني والثقافي
قديمة؛ منذ سَعْي الغرب إلى الدعوة لِقَيمه حتى صار له أتباع وعملاء ينافحون عن
هذه القيم، وكانت مسألة الغزو الثقافي والفكري محوراً أساسياً في علاقة الغرب
بالعالم الإسلامي، ولم تَغِب الروح الصليبية في علاقة الغرب بالعالم الإسلامي،
واعتبر الاستعمار نفسه جزءاً من استمرار الحملات الصليبية، وحين قدر للجيوش
الفرنسية أن تدخل دمشق ذهب الفرنسي «جور» لقبر صلاح الدين، وقال:
«ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين!» ، ولم يكفّ الفرنسيون والبريطانيون
وغيرهم عن محاولة النفاذ إلى مصادر القوة في الإسلام لتحطيمها، فكانت
(العلمانية) و (فصل الدين عن الدولة) في تركيا وباكستان، ثم على المستوى
الفكري بكتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) ، وكانت الدعوة
لتحرير المرأة التي قادها قاسم أمين، والتي كانت تعني خلع المرأة المسلمة لحجابها
وحيائها، وكانت الدعوة إلى الاجتهاد، والتي لم تكن إلا عنواناً لتطوير
الشريعة ذاتها لتوافق متطلبات العصر الحديث، ثم كانت اللغة العربية والأزهر
ميادين للصراع مع الغرب؛ ثم كانت القومية العربية التي رَوَّجَ لها نصارى
الشام لتفتيت الدولة العثمانية، وظلت معركة المصحف والإسلام والعقيدة حية لم
تمت أبداً في الوعي الغربي، وظلَّ العالم الإسلامي يمثل معضلة أمام الغرب؛
لأن الإسلام بوصفه منهجاً شاملاً للحياة ظل يمثل حصناً لا يمكن القضاء عليه،
وكانت العودة للإسلام مرة أخرى منذ السبعينيات معضلة جديدة أمام الغرب،
فغزله على المستوى السياسي تعافى وقوي واشتد، أما غزله على المستوى
الحضاري والثقافي فقد نُقض أنكاثاً بعد وهم قوته؛ ولمّا كانت المعركة الجديدة
تستهدف ما نطلق عليه «ما قبل السياسة» أي المحاضن الدينية والثقافية التي
حفظت الإسلام طوال الصراع مع الغرب فإن المعركة اليوم مقصود بها العقيدة
والشريعة معاً.
الجديد في الموضوع أن الصراع الثقافي والحضاري الذي يقع الدين في قلبه
كان يقوم به دوائر ثقافية؛ مثل الكنائس والجامعات، أو الدوائر الثقافية في وزارات
الخارجية، أو حتى أجهزة المخابرات، أما اليوم فإن الذي يقوم بتنفيذ معركة
المواجهة هو قلب الإدارة الحاكمة في أمريكا، فالإدارة الأمريكية اليوم تهدف إلى
إعادة رسم خريطة العالم الإسلامي على أساس ديني وثقافي وحضاري، وهي
تستلهم تقاليد المدرسة الإنجليزية والفرنسية، لكنها تتقدم بخطى واسعة وناجزة،
وبيدها القوة والقرار، ولكن قبل الحديث عن هذه الخطط، نحاول إلقاء الضوء
على البعد العقدي في الصراع بين الإسلام والغرب؛ عبر شهادات لسياسيين
ومثقفين غربيين في هذا السياق.
* الرؤى الأمريكية الجديدة للعالم الإسلامي:
يقول «روبرت أليسون» في كتابه (اختفاء الهلال) : «ورث الأمريكيون
عن أوروبا المسيحية صورة شبح الإسلام، كدين ولد من الطغيان، يؤيد القمع
الديني والسياسي والجمود الاقتصادي، ولم يهتم الأمريكيون بصحة هذا الوصف أو
خطئه، لكنهم استلهموه؛ لأنه مناسب لهم سياسياً» ، ويضيف: «استخدم
الأمريكيون العالم الإسلامي مراراً وتكراراً كنقطة مرجعية لإظهار تميزهم في
الحرية والقوة والتقدم الإنساني» .
الرؤية التي يتحدث عنها «أليسون» لها جذور نصرانية ورثها الأمريكيون
عن أوروبا، والذي صاغ هذه الرؤية الأوروبية هم المستشرقون الذين أسسوا علماً
من الزيف والبهتان والتحيز ضد الإسلام وعالمه، ولا ننسى أن مرجعية الاستشراق
وأسسه هي دينية ذات طابع عقدي.
وفي تقرير فريق العمل الخاص بالإرهاب والحرب غير التقليدية بمجلس
النواب عام 1990م؛ قال: «المسجد في مقدمة جهاد المتشددين المتطرفين ضد
العالم الغربي المعاصر، وقيام صحوة إسلامية متطرفة، مع أهمية النفط، يجعل
الصراع على الشرق الأوسط بمثابة أول مواجهة خطيرة بين هذه الصورة الجديدة
من الإسلام والعالم اليهودي المسيحي» ، ويقول «برنارد لويس» : «الصراع
الحالي ليس سوى صراع بين الحضارات، ورد فعل غير منطقي لمنافس قديم
وتاريخي ضد تراثنا (اليهودي النصراني) ، وحاضرنا العلماني، والتوسع العالمي
للاثنين» ، وهذا هو نفسه ما قاله هانتنجتون عن الحدود الدامية للصراع بين
الإسلام والغرب، والذي أكد أن الصدام سوف يكون حضارياً، ويقول «موريتمر
زوكرمان» : «إننا في الخط الإمامي لصراع يعود تاريخه إلى مئات السنين،
فنحن العقبة الرئيسة في طريق رغبة المتطرفين لإلقاء قيم الغرب الشائنة في البحر،
مثلما دخلوا يوماً مع الصليبيين» .
ويقول «دانيال بايبس» : «إن الأصوليين الإسلاميين يتحدون الغرب بقوة
وعمق أكبر مما فعل ويفعل الشيوعيون، فهؤلاء يخالفون سياساتنا ولكن لا يخالفون
نظرتنا إلى العالم كله؛ بما في ذلك طريقة اللبس والعبادة» .
ويقول «إدوارد ديجيريجيان» مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى:
«الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة الباقية، والتي تبحث عن
إيديولوجية لمحاربتها؛ يجب أن تتجه نحو قيادة حملة صليبية جديدة ضد الإسلام» ،
وهو التعبير نفسه الذي استخدمه «بوش الابن» في بداية الحملة الأمريكية
الجديدة على العالم الإسلامي، والتي بدأت بأفغانستان وتتجه الآن إلى العراق.
هذه الرؤية كانت قبل أحداث 11 سبتمبر، وهو ما يؤكد أن التصورات كانت
معدة، والأفكار جاهزة، وكانت تنتظر لحظة إخراجها المسرحي إلى الوجود،
وجاءت أحداث سبتمبر لتكون الفرصة السانحة لإخراج هذه الخطط إلى عالم الوجود
المنظور، وكما هو واضح؛ فإن البعد العقدي واضح في الرؤية الأمريكية التي
عبر عنها ساسة ومفكرون، وتضمنها بشكل تفصيلي كتاب مهم عنوانه: (أمريكا
والإسلام السياسي.. صدام ثقافات أو صدام مصالح) .
) America and political islam, clash of cultures or clash
of interests (.
لمؤلفه «فواز جرجس» .
ومن المهم متابعة الرؤية الأمريكية الجديدة التي تتحدث عما أسميناه
«السياسة الأمريكية.. ما بعد بن لادن» ، وهذه السياسة عبّر عنها أحسن
تعبير اثنان من المفكرين الأمريكان هم «فوكوياما، هانتنجتون» ، ففي
صحيفة نيوزويك بتاريخ 25/12/2001م قال «فوكوياما» في مقال خطير:
«الصراع الحالي ليس معركة ضد الإرهاب، ولا ضد الإسلام بوصفه ديناً
وحضارة، ولكن صراع ضد الفاشية الإسلامية؛ أي العقيدة الأصولية غير
المتسامحة، والتي تقف ضد الحداثة» ، ومضى ليقول: «ويمكن تصنيف الفكر
الوهابي بسهولة على أنه إسلامية فاشية، فهناك كتاب دراسي إجباري للصف
العاشر يشرح أنه يجب على المسلمين أن يخلصوا بعضهم لبعض، وأن يعتبروا
الكفار أعداءهم» ، ثم يوضح أكثر فيقول: «التحدي الذي يواجه أمريكا هو أكثر
من مجرد مجموعة صغيرة من الإرهابيين، فبحر الفاشية الإسلامية يقصد الوهابية
الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحدياً إيديولوجياً هو أكثر من الخطر
الشيوعي» ، ويوضح أكثر فيقول: «إن الصراع الأساسي ليس مع الإرهابيين
فقط، ولكن مع الأصوليين الإسلاميين الذين يقدرهم» دانيال بايبس «بحوالي
15% إلى 10% من العالم الإسلامي، والذين يؤيدون أسامة بن لادن» ،
وينهي المقال بقوله: «الصراع بين الديمقراطية الغربية الليبرالية والفاشية
الإسلامية ليس صراعاً بين نظامين حضاريين يتمتعان بقابلية البقاء نفسها» ،
ويشير هانتنجتون إلى البعد الحضاري في استجابة الغرب مع أمريكا بعد سبتمبر،
فيقول: «الدول الغربية تعاطفت بشكل كاسح مع أمريكا، وأعربت عن التزامها
الانضمام للحرب، خاصة بريطانيا وأستراليا وكندا، وهي مجتمعات تشاطر
أمريكا الثقافة الأنجلوساكسونية، ووقف الألمان والفرنسيون إلى جانب أمريكا؛
لأنهم اعتبروا العدوان على أمريكا عدواناً عليهم، وقالت» لوموند «: (كلنا
أمريكيون) ، وقال الألمان: (كلنا نيويوركيون) ، وذكر أن قلة عدد الشباب
المسلم سوف تؤدي إلى تراجع الحروب بين المسلمين على حد فهمه، وفي السياق
نفسه قال» ستانلي فايس «الكاتب الأمريكي في» هيرالدتريبيون «:» إن
حقيقة الحرب على الإرهاب تكمن في: هل ستقوم الدول الإسلامية باتباع النموذج
السياسي لتركيا، أكثر النماذج نجاحاً في العالم بوصفها دولة مسلمة حديثة وعلمانية
وديمقراطية، أو نموذج السعودية المبني على الرؤية الوهابية المتعصبة للأصولية
الإسلامية، والذي يدفع معتنقيه إلى الوراء «.
إن الرؤية الأمريكية القديمة تنتقل من التفكير إلى التنفيذ، وكما أوضحنا؛ فإن
الإدارة الأمريكية تتبنى الأفكار الأصولية النصرانية، والتي تؤمن بضرورة تدمير
العالم الإسلامي، وتدعيم الكيان الصهيوني تمهيداً لمعركة» هرمجدون «التي
يتربع بعدها المسيح على عرش العالم، وبعدها تبدأ ألفية مسيحية جديدة، ويتحول
اليهود إلى المسيحية، وسوف يكتشف المدقق الذي يولي أهمية للاقتراب الحضاري
أن لحظات الخطر تكشف بقوة وعمق بروز البعد الديني والثقافي، وكما يقول
» بيرلسكوني «رئيس وزراء إيطاليا وقت إعلان روما:» التاريخ والثقافة
والجذور «النصرانية» ؛ هي التي توحد أوروبا في لحظة الخطر الراهن «،
وها هي روسيا الأرثوذكسية، وإيطاليا الكاثوليكية، وأمريكا البروتستانية جميعهم
يقفون صفاً واحداً في مواجهة الإسلام الذي أطلقوا عليه الإرهاب!
* الأهداف الأمريكية.. العقل الإسلامي:
تسعى أمريكا في استراتيجيتها الجديدة نحو العالم الإسلامي إلى تحقيق
مجموعة من الأهداف الخطيرة، وهي:
1 - القضاء على الإسلام السُّنِّي الذي يلتزم المنهج السلفي الصحيح؛ بدعوى
أنه وهابي، والتأسيس لإسلام أمريكي مستنير لا يعترف بعقيدة الولاء والبراء، ولا
يعترف بقتال الكفار أو جهاد الأعداء، ولا يعترف بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ولا يقول بأن المسلمين أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من
سواهم، الإسلام الجديد كما يريدون نسخة مشوهة من الطقوس النصرانية التي
تُمارس في دور العبادة.
2 - تغيير المناهج الإسلامية الدينية بوصفها منبعاً للأصولية والالتزام بالدين
الإسلامي، وقد قدمت أمريكا مذكرة لحكومات إسلامية عديدة بضرورة تغيير
مناهجها الدينية؛ حدث ذلك في السعودية واليمن وباكستان، وبالطبع كانت مصر
سبّاقة لهذا، والعمل على علمنة التعليم الديني من أجل تجفيف ينابيع التدين عند
الشعوب الإسلامية، وحتى لا يخرج» بن لادن «من جديد، أو حتى لا تظهر
» طالبان «مرة أخرى.
3 - العمل على تجنيد» أئمة مستنيرين «يروجون للإسلام الأمريكي الجديد؛
عن طريق زيادة المنح الثقافية لرجال الدين الأمريكان؛ بحيث يقوم هؤلاء الأئمة
بتفسير الإسلام وفق التصور الأمريكي؛ أي الإسلام الذي يعلي قيم الحياة (أي يمنع
العمليات الاستشهادية ضد الغاصبين المعتدين، ويعزز قيم التسامح وقبول الآخر) ،
الدور الآن على تجنيد المشايخ والدعاة بعد أن كانت أمريكا تسعى لتجنيد المثقفين
المدنيين؛ أي أنها تركز الآن على الذين لم يتعلموا تعليماً دينياً.
4 - تحديث الخطاب الديني طبعاً الإسلامي؛ بحيث يفسر الحجاب بأنه
الحشمة، وبعض المأجورين في مصر يتحدثون عن» الحجاب رؤية عصرية «،
ويفسر الجهاد بالجري وراء لقمة العيش، وتفسر طاعة ولي الأمر بالطاعة المطلقة؛
بصرف النظر عن كونها في المعروف أم لا؟ ثم البحث عما يطلق عليه
الأمريكان:» القواسم المشتركة بين الإسلام والنصرانية «، وتدعيم الجانب
الصوفي والروحي الذي يجعل من الإسلام الجديد طاقة سلبية تعزز البدع والخرافات
ليس إلا.
5 - هدم النظام الاجتماعي الإسلامي عن طريق» عولمة المرأة «، وتعزيز
انطلاقها وإباحيتها عبر الأجندة الدولية التي ترعاها اتفاقيات الأمم المتحدة؛ بحيث
يعطيها الحق في التضحية بالأسرة، وخلق علاقات شراكة خارجها، بل وهدم
قوامة الرجل، وعدم النظر للأسرة بوصفها أداة للعمران والاستخلاف، وإنما مظلة
للمتعة والشهوة، وأعطيت المرأة في مصر والغرب الحق في السفر دون إذن الزوج
أو موافقته، وصارت قضايا الخُلع مثار سخرية في مصر، فكل من تطلب الخُلع
تتحدث عن أنها لا تستطيع أن تقيم حدود الله مع زوجها!! والوثائق الدولية تتحدث
عن» عولمة الطفل «المسلم أيضاً، فهناك وثيقة الطفل الدولية التي تعطي له
الحرية الكاملة أمام تسلط والده؛ بحيث لا يكون له سلطان عليه، وكذلك البنت
المسلمة.
هذا ما يريده الغرب منا وهو لا يتورع عن الذهاب كل مذهب لتنفيذ مخططه؛
بما في ذلك الإطاحة بأنظمة، وتقسيم دول؛ لحرمان من يصفهم بالأصوليين من
مصادر الثروة (البترول) ، والإدارة الجديدة الأمريكية تسوق خططاً للتنفيذ، وبعد
ضربة العراق؛ فإن» باول «يتحدث عن» شرق أوسط جديد «.
إنها لحظة الحقيقة التي يواجهها العالم الإسلامي.. فماذا يفعل؟
1 - تقوية الجبهة الداخلية في البلدان الإسلامية بتكاتف النظم الإسلامية،
وأبناء الحركات الإسلامية في مواجهة الخطر الأمريكي القادم.
2 - إعادة الالتزام بالمنطق القرآني في المواجهة، ومنه قوله تعالى: [وَلَن
تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم] (البقرة: 120) ، والملة هنا
ليست الدين أو العقيدة، ولكنها معنى أوسع يمكن أن نقول عليه: طريقة الحياة
(life of Way) . وآيات الموالاة والمعاداة الكثيرة في القرآن تؤكد أن الصراع
مع الغرب هو صراع عقدي بالأساس، وهو في الوقت نفسه صراع شامل على
جميع المستويات.
3 - التمسك بالفهم الصحيح لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على
طريقة السلف الصالح بوصفها الطريقة المستقيمة، والطريق الذي يدخل بنا إلى
الجنة، والعض بالنواجذ على هذا الفهم؛ فهو النجاة في وقت الفتنة والمحنة.
4 - إعادة الالتزام بمبدأ الاعتصام بحبل الله، وتمثل مفهوم الأمة الذي إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ونبذ التفرق والشقاق،
فالخطر القادم يؤكد أن» حصوننا مقصودة من العدو «، والدفاع عنها يوجب
الاعتصام والوحدة، ونبذ التفرق والخلاف.
5 - توعية المسلمين كافة بالخطر المحدق بهم، لحماية أسرهم وزوجاتهم من
فتنة مضلة، وإفهامهم أن المعركة هي معركة المسلمين جميعاً، وليس فقط الدعاة،
أو الطليعة من أبناء المسلمين، [وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ] (التوبة: 36) ، وقوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران:
110) ، إن المشهد الراهن يظهر لنا الغرب بقيادة أمريكا كأنه القوة التي لا غالب
لها، وهي فتنة عظيمة أشبه بفتنة الدجال التي يُختبر فيها إيمان الناس، والإيمان
بالله هو الذي يحفظ المسلمين من التزلزل أو الشك في نصر الله، وثقته في أن
المستقبل لهذا الدين، إن تقديم الغرب لنفسه كفرعون يقول: [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى]
(النازعات: 24) ؛ هو قمة الصراع العقدي معه، وثبات المسلم على عقيدته هو
مفازته وأمته إلى الصبر والمصابرة، والرباط والمرابطة، والنصر بإذن الله [2] .
__________
(1) مثلاً: البشري في كتابه الحركة السياسية في مصر، 45 - 52، الطبعة الثانية، وغيره كثيرون؛ منهم: محمد عمارة، عادل حسين، وبدأ الوعي بأهمية معركة الحضارة والدين يتسع بين الفصائل القومية واليسارية.
(2) لطبيعة الموضوع الصعبة، ولتجنب الاستطراد في الاستشهادات؛ أحيل القارئ إلى بعض المصادر المهمة، وهي:
- محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، القاهرة، دار الفرقان،،
- مصطفى خالدي، وعمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية، بيروت، صيدا، المكتبة العصرية،،
- زينب عبد العزيز، تنصير العالم، القاهرة، دار الوفاء،،
- منى ياسين، الغرب والإسلام، مجموعة مقالات مختارة عن الغرب والإسلام،،
- نيكسون، الفرصة السانحة، القاهرة، دار الهلال،،
- فواز جرجس، أمريكا والإسلام السياسي، القاهرة، الهيئة العامة للاستعلامات.(185/104)
الورقة الأخيرة
حرب معلوماتية
د. مالك الأحمد
منذ ما يقارب العام استُنفر العالم أثناء حربه على الإرهاب على الجمعيات
الخيرية الإسلامية، وتم إيقاف العديد منها في أمريكا وبعض البلدان الأوروبية، وتم
التضييق على بعضها الآخر، فضلاً عن حملة التشهير الإعلامية الواسعة؛ دون
التكلف بتقديم أدنى المسوغات.
وكانت الخاتمة التضييق على هذه المؤسسات ومنها المؤسسات الخيرية في
السعودية في المشاركة العامة في المؤتمرات الدولية؛ حيث منعت فرنسا وفداً
سعودياً ممثلاً للمؤسسات الخيرية الإسلامية في السعودية من المشاركة في مؤتمر
عالمي عقد في فرنسا، نظمته الجمعية العربية لحقوق الإنسان، وحضره وفود من
65 دولة.
خضعت فرنسا رافعة لواء الحرية والعدالة للضغط الأمريكي، والذي بلغ
أوجه في توجيه الاتهام للكثير من المؤسسات الخيرية الإسلامية بدعم الإرهاب
بأموال التبرعات!!
السؤال: كيف نرد على ذلك؟ وكيف نواجه الموقف الأمريكي ذا النزعة
الصليبية، والذي يحاول محاصرة النشاط الإسلامي الممثل في الأعمال الخيرية
والدعوية التي تقوم بها المؤسسات الخيرية الإسلامية في العالم الإسلامي خصوصاً،
والعالم الثالث عموماً؟
لا شك أن جزءاً من المقاومة حرب إعلامية ومعلوماتية؛ بحيث تكون
مصادرنا موثقة، ومعلوماتنا مؤكدة، وصياغتنا موضوعية.
لا بد أولاً من جمع المعلومات حول النشاط التنصيري في العالم ومنه العالم
الإسلامي، وتوضيح أن هذا النشاط يمد اللقمة بيد والصليب في اليد الأخرى،
ويستخدم أسلوب الترغيب والترهيب.
ولا بد أيضاً من بيان مجاراة المنصرين للعقائد الوثنية في إفريقيا مثلاً وسعيهم
إلى مزاوجتها بالنصرانية؛ بحيث ينتج دين هجين ظاهره النصرانية وباطنه الوثنية
الصارخة، وهذا فقط لإقناع الوثنيين بالدخول في النصرانية.
لا ننسى أيضاً أن الجمعيات الكنسية تدعم الدكتاتوريات في إفريقيا، وتؤيد
القمع السياسي، وتتحالف مع الأحزاب السياسية التي تضمن لها العمل بحرية.
وليس من الأسرار أن «جون جارنج» في جنوب السودان تدعمه الكنائس
الغربية وبالمال، وتضغط على الحكومات الغربية لدعمه بالسلاح، وبالطبع فإن
جميع وسائل النقل والإمكانات اللوجستية للمنصرين تحت تصرفه.
لا بد أيضاً من توضيح السلوكيات الحاقدة للمنصرين الذين يقصدون مناطق
المسلمين وتجمعاتهم في إندونيسيا لبناء الكنائس؛ لتكون منطلقاً للتنصير بين أبناء
المسلمين.
نحتاج لعمل بحوث ميدانية، وجمع معلومات تفصيلية، ومقابلة الناس في
مناطق المسلمين الفقيرة ومناطق العالم الثالث؛ لتوعيتهم حول نشاط المنظمات
الكنسية ودورها في مجتمعاتهم، مع الحرص على التوثيق والصور لدعم المعلومات.
من جانب آخر لا بد من التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني، وهيئات
حقوق الإنسان، والمنظمات الإنسانية؛ لبيان طبيعة الدين الإسلامي، وتوضيح
نشاط الجمعيات الإسلامية، ودورها الإغاثي والتعليمي، وأهدافها النبيلة، وعرض
مقالات الناس والمسؤولين في مناطق عملهم حول هذه الأنشطة، وأثرها عليهم
وعلى مجتمعاتهم.
أما وسائل الإعلام العربية منها والغربية؛ خصوصاً ذات الانتشار الواسع
فيجب الاتصال بها والتنسيق معها لعرض أنشطة الجمعيات، وإبراز دورها،
وعرض خططها وبعض ميزانياتها؛ مما يصلح للنشر.
إن وسائل الإعلام أصبحت مصدراً لتلقي المعلومات، ثم سبباً لاتخاذ المواقف
من قبل أهل السياسة والفكر حتى رجال الأعمال، لذلك فإن حسن العلاقة معها مهم
للغاية، ولا يكفي أن يكون في كل مؤسسة خيرية مسؤول علاقات عامة، بل لا بد
من إدارة كاملة للإعلام تتولى التعريف بالأنشطة، والتواصل مع وسائل الإعلام
واسعة الانتشار، وكسر شوكة الحصار الإعلامي الخبيث الذي تقوم به الولايات
المتحدة ضد الجمعيات الخيرية الإسلامية، [وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
العَزِيزِ الحَمِيدِ] (البروج: 8) .
الحرب المعلوماتية والإعلامية ضرورة عصرية للمؤسسات الخيرية،
والصيغة لا بد أن تكون إيجابية؛ بمعنى أن تبادر وتهاجم ولا تدافع إلا عند
الضرورة، وألا يكون الدفاع سياسة؛ بل موقفاً مؤقتاً.
بالطبع لا بد من التنسيق والتعاون بين الجمعيات الخيرية الإسلامية، ووضع
أطر عامة للتعامل مع الواقع الحالي والتحديات الضخمة، وأن يكون الحدث الحالي
فرصة للالتقاء والتنسيق، فالعدو واحد، والمستهدف واحد وهو العمل الخيري
الإسلامي، وإذا لم تستطع المؤسسات ترتيب أوراقها في أوقات المحن والأزمات؛
فمتى تستطيع ذلك؟(185/108)
صفر - 1424هـ
أبريل - 2003م
(السنة: 18)(186/)
كلمة صغيرة
رجل المرحلة..!
وعود شارون لوأد الانتفاضة الفلسطينية ذهبت أدراج الرياح؛ فقد أثبتت
الأيام أنها وعود انتخابية لا حقيقة لها في الواقع، وكلما ازدادت الآلة العسكرية
اليهودية بطشاً وجبروتاً وطغياناً، ازدادت الانتفاضة تجذراً في الشارع الفلسطيني،
وما سلك اليهود سبيلاً في الطغيان والقتل والتدمير وإهلاك الحرث والنسل إلا سلكت
الانتفاضة المباركة سبلاً في التضحية والثبات..!
وفي ظل الرعب الذي تصدعت به قلوب اليهود وتزلزل به الكيان اليهودي
تساءل المفكرون والعسكريون: إلى أين تقودنا الانتفاضة؟ وهل من سبيل لوقفها
بعد الإخفاق الذريع لسياسات البطش والتدمير..؟!
لقد أدركت الحكومات اليهودية المتعاقبة أن أفضل وسيلة لاختراق الصف
الفلسطيني اختراقه من داخله، ولا يمكن أن نعزل تعيين محمود عباس أبو مازن
رئيساً للوزراء عن هذا السياق. فأبو مازن من أبرز صناع سلام أوسلو عرفه
اليهود مفاوضاً مرناً، لا يتعصب لآرائه، بل لديه الاستعداد للتنازل تلو التنازل،
ولهذا وصفته (جريدة هآرتس) بأنه: رجل واقعي! كما أنه من أكثر رموز
السلطة الفلسطينية ضيقاً بالانتفاضة الفلسطينية، وهو لا يخفي نقده الشديد لما يسميه
بعسكرة الانتفاضة، ولهذا احتفى به الرئيس الأمريكي قائلاً: يجب أن يشغل مركزاً
يمنحه سلطة حقيقية لكي يصبح شريكاً جديراً بالثقة ومسؤولاً.
وصرّحت (كونداليزا رايس) عن رغبة الرئيس الأمريكي لمقابلة أبو مازن،
أما اليهود فقد حددوا مهمة محمود عباس بوضوح؛ ففي حديث إذاعي قال باراك:
«إن الاختبار الحقيقي لمحمود عباس هو في المجال الأمني بالقضاء على قدرة
حركتي الجهاد الإسلامي وحماس» .
وقال بيريز: «الصلاحيات التي بحوزة أبو مازن ليست هي المهم، بل
الأهم من ذلك هو السيطرة على السلاح وحملة السلاح» !! ونحسب أن أخطر ما
في هذه المرحلة أن يتجرأ العدو اليهودي مستغلاً انشغال العالم بالحملة
الأمريكية على العراق ويهدم المقدسات الإسلامية، أو يضرب الفلسطينيين بقسوة
شديدة تمهيداً لترحيلهم وتوطينهم خارج الأراضي الفلسطينية.
إن محمود عباس ليس هو خيار الشعب الفلسطيني كما يزعم الإعلام الغربي
والعربي؛ بل هو خيار أمريكي؛ فهل اختياره في هذه المرحلة الحرجة تمهيد لوأد
الانتفاضة والتضييق على رجالاتها المخلصين..؟!
نعم! يمر الفلسطينيون بمحن شديدة، لكنهم يدركون أيضاً أن تجربة السلام
لن تزيدهم إلا شقاء، وأن الطريق الوحيد للعزة وانتزاع الحقوق هو الجهاد في
سبيل الله، واستشعار قول الحق جل وعلا: [إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] (النساء: 104) .(186/3)
الافتتاحية
لك الله يا شعب العراق!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين،
أما بعد:
فلقد كشفت حرب الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان القناع عن وجه
كالح عبوس يُضمر الحقد والظلم، ويتعامل مع المستضعفين بكل استعلاء
وصلف وغرور، وبقي ستار رقيق تدثرت به أمريكا، واجتهدت وسائل الإعلام
الأمريكية في تلميعه وتزييفه، وتبعتها بعض وسائل الإعلام العربية في تسويقه
وترقيعه! ثم جاءت الحرب (الأمريكية البريطانية) على العراق لتنزع ذلك الستار
بشدة، ويظهر ذلك الوجه الصليبي الحاقد على حقيقته الكاملة بلا تزييف أو
تضليل!! قال الله تعالى: [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر]
(آل عمران: 118) .
بدأت المعركة بعدوان (أمريكي بريطاني) شرس على العراق.. عدوان
تجاوز كل المقاييس الإنسانية؛ ليمارس أبشع ألوان الجبروت والطغيان. ولئن
كانت أرض بغداد والموصل والبصرة والناصرة تتزلزل بشتى أنواع الأسلحة
وحشية؛ فإن قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تتزلزل إشفاقاً ورحمة
للمسلمين المستضعفين من النساء والولدان والشيوخ الذين لا يملكون حيلة ولا
يهتدون سبيلاً، [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (التوبة: 71) .
وإزاء هذه النازلة الخطيرة التي تمرّ بها الأمة نقف هذه الوقفات:
أولاً: إنَّ الأمة الإسلامية في هذه المرحلة الحرجة أحوج ما تكون إلى
الالتجاء إلى الله تعالى، والتوكل عليه سبحانه، فهو عزَّ جاهه وتعالى سلطانه
المنجا والملجأ لأوليائه المؤمنين، قال الله تعالى: [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ] (يوسف: 64) . ولجوؤنا إلى الله تعالى ليس لجوء اليائس الذليل أو
المُحْبَط الكسير؛ لكنه لجوء المؤمن الصادق الذي يركن بكل اطمئنان إلى حول الله
وقوته، ويعتقد يقيناً بأن الطمأنينة والسكينة لا تكون إلا في جنب الله، قال الله
تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ]
(الرعد: 28) .. لجوء المؤمن الذي يؤمن بأن المدافعة بين الحق والباطل سُنَّة
دائمة ما دامت السموات والأرض، وأن نصر المؤمنين لا يكون إلا بتعظيم كتاب
الله تعالى، والتمسك به علماً وعملاً، [فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً]
(الفرقان: 52) .
ثانياً: يجب أن يستثمر العلماء والدعاة هذه الأحداث ببيان أن ما أصابنا لم
يكن ليخطئنا، وأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن ما أصابنا فبما كسبت أيدينا،
قال الله تعالى: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]
(الشورى: 30) ، وقال تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) .
ولهذا يجب أن يُذَكَّر الناس بضرورة العودة إلى دين الله عز وجل عوداً صادقاً؛
ليكشف الله عنهم البلاء، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، ومن بعد ضعفهم قوة، قال
الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
ثالثاً: إنَّ ذلك الظلم الصارخ الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية
وبريطانيا على المسلمين على الرغم من الأذى الشديد الذي يترتب عليه؛ فإن عاقبته
ستكون خيراً بعون الله تعالى، وسيكون باباً عظيماً من أبواب يقظة الأمة ونهوضها
من غفلتها وكبوتها.
إنَّ ثمة حقيقة مهمة يجب الالتفات إليها: وهي أن التحدي الشديد الذي
وُوجهت به الأمة أثمر هزَّة عنيفة في صفوف المسلمين، وأيقظ كثيراً منهم من
سباتهم، وأشعرهم بحقيقة ما يُحاك ضدهم في وضح النهار..!!
والأمة بجميع طبقاتها تشهد ولله الحمد وعياً كبيراً بدأ يتنامى بشكل مطرد؛
منذ أن صرح الرئيس الأمريكي بحقيقة الحرب التي ستخوضها الولايات المتحدة
الأمريكية على الإرهاب. وإنَّ من أولى الأولويات في المرحلة القادمة استثمار هذا
الوعي وترشيده، ثم توظيفه في السعي الحثيث إلى بناء الأمة وإعادة تشكيل
صفوفها، وإنَّ المظاهرات الحاشدة التي شهدتها العواصم العربية والإسلامية
استنكاراً للحرب الجائرة؛ تدل بحمد الله على خير كبير ومخزون عظيم في شعوبنا
المسلمة؛ فهي تمتلئ غيرة وحمية على دين الله تعالى وحرماته.
وإنَّ من التحديات الكبيرة التي تواجه الدعاة والمصلحين: توظيف تلك
الحميات المتقدة في برامج عمل جادة لنصرة دين الله تعالى، والذبِّ عن بيضتها
ومقدساتها.
لقد جربت الشعوب العربية الشعارات الثورية التي كانت تتشدق بها الأحزاب
العلمانية العربية؛ فلم تجنِ منها إلا العلقم، وتاهت بها في شعاب الهزيمة والذلة،
وقد آن الأوان لأن يتصدر أبناء الصحوة الإسلامية ويمسكوا زمام الأمور، ويكونوا
على مستوى المسؤولية، ويوظفوا طاقات الأمة توظيفاً صحيحاً بعيداً عن التباكي
والصياح والتلاوم، وما أجمل قول الشاعر:
قد رشَّحوك لأمر لو فطنتَ له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
رابعاً: لقد خدعنا الإعلام الغربي وأبواقه العربية ردحاً طويلاً من الزمن،
وصوَّر لنا أن الحضارة الأمريكية هي قمَّة السمو الإنساني، وأن القيم الغربية لا
يدانيها قيم على الإطلاق، أو كما يزعم فوكوياما في (نهاية التاريخ) بأنها الصورة
النهائية لنظام الحكم البشري!
وعندما كان بعض المصلحين في وقت مضى ينتقد الحضارة الغربية بشتى
مدارسها؛ يواجهه بعض أبناء جلدتنا العلمانيين والمستغربين بعاصفة من السخرية
والاستهزاء؛ فالحضارة الغربية عندهم هي قمة الطموح الذي يتطلعون إليه!!
أما وقد تكشَّفت الحقيقة وسقطت الأقنعة؛ فمن يجرؤ الآن من أولئك العلمانيين
على تقديم النموذج الغربي مثالاً على التحضر؟! حتى غلاة العلمانيين اضطروا
للتجاوب مع الواقع، وانتقدوا على استحياء منظومة القيم الغربية، لكن بعضهم
يصرّ في الوقت نفسه على غيّه ويمكر بنا ثانية، ويحدثنا بأن ما نشهده من سخرية
بمبادئ العدل وحقوق الإنسان؛ إنما هو موقف شريحة محدودة من الصقور، وأن
أغلب المثقفين والمفكرين الغربيين لم يفقدوا توازنهم..!!
ولهذا نحسب أن هذه الأيام فرصة من أعظم الفرص لتحقيق مطلبين في غاية
الأهمية:
الأول: إبراز عوار قيم الحضارة الغربية التي افتُتن بها كثير من المنهزمين
عندنا.
الثاني: إبراز عوار التوجهات العلمانية التي سقطت في مستنقع التبعية، ولم
تعرف سوى استنساخ قيم الغرب أو الشرق.
ويتبع ذلك بناء العزة والثقة بدين الله تعالى، والعضِّ على عقيدة الأمة
بالنواجذ.
خامساً: الحرب على العراق بداية المرحلة الأمريكية في الحرب على أهل
المنطقة، والأيام حبلى بمراحل خطيرة في الصراع القادم، ونحسب أن من أخطر
هذه المراحل المقبلة مرحلتين:
الأولى: التواطؤ مع العدو اليهودي لسحق الفلسطينيين وإثارة الإحباط في
صفوفهم، وإنهاء ما يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) .
ولئن تمخضت حرب الخليج الثانية عن مؤتمر السلام في مدريد؛ فإن المتوقع
أن تتمخض حرب الخليج الثالثة عن مشروع أبعد خطراً وأبلغ أثراً..!
الثانية: مواجهة التديُّن في المنطقة العربية، وفتح كل أبواب التغريب
والإفساد والحرب على القيم والأخلاق، ويتبع ذلك تحجيم للعمل الإسلامي،
وتضييق على أبواب الدعوة والخير. فمع وقوع الحرب ضد العراق، قد تنفتح
مرحلة جديدة من الحرب العالمية والإقليمية ضد الإسلاميين، ضمن ما يسمى بـ
(الحرب على الإرهاب) وقد آن لنا، بكل ألواننا وأطيافنا ومناهجنا الدعوية
والحركية أن نعيد النظر في مرحلة الخطر، فنراجع برامجنا وعلاقتنا ومناهجنا
التغييرية بما يتناسب مع تلك النوازل الجديدة، مؤمنين مع ذلك كله بفضل الله علينا
وعونه، ومستجيرين بقوته وحوله، ومعتقدين يقيناً بأن الدين منصور بلا ريب،
وأن الأمة ولله الحمد تملك إمكانات دعوية كبيرة، وأنها قادرة بإذن الله تعالى على
رفع راية التوحيد، والثبات على الحق.
سادساً: من الواجبات المهمات في هذه المرحلة استنهاض الهمم لنصرة
المستضعفين من أهلنا وأحبابنا في العراق، وإغاثتهم ومواساتهم، والتخفيف من
مصابهم، وإمدادهم بكل ما يحتاجونه من الدواء والغذاء، فـ (المسلم أخو المسلم لا
يظلمه ولا يُسلمه) [1] ، وفي رواية: (ولا يخذله) [2] .
فلك الله يا شعب العراق.. لك الله يا شعب العراق!
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 6437.
(2) أخرجه مسلم، رقم 4650.(186/4)
إشراقات قرآنية
وعند الله مكرهم
د. عبد اللطيف بن عبد الله الوابل
[وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ] (النمل: 50-51) .
إن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل، وهي ماضية في الآخرين كما كانت في
الأولين. والقرآن حين يتحدث عن الأمم الماضية وما حل بها من الهلاك والبوار؛
إنما مقصوده الإنذار والتحذير، وأخذ العبرة من هلاك الأمم السابقة، وتجنب
أسباب ذلك.
وهذه الآيات عقَّب الله بها على قصة ثمود مع أخيهم صالح - عليه السلام -؛
حين دعاهم إلى الحق وإلى الهدى فما استجابوا، بل تكبروا وعتوا عتواً كبيراً، وما
كان من الملأ من قومه إلا أن ائتمروا به وبأهله؛ رغبة منهم في إهلاك نبي الله
والقضاء عليه وعلى أهله لئلا يبقى لهم أثر؛ كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: [وَكَانَ
فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ
لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] (النمل: 48-
49) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: «يخبر تعالى عن طغاة
ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح، وآل
بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة، وهمُّوا بقتل صالح أيضاً؛ بأن يبيتوه في أهله ليلاً
فيقتلوه، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه: إنهم ما علموا بشيء من أمره، وإنهم
لصادقون فيما أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك» . ثم ساق رحمه الله بسنده
عن عبد الرحمن بن أبي حاتم أنه قال: «لما عقروا الناقة قال لهم صالح:
[تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] (هود: 65) ، قالوا:
زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث. وكان
لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه، فخرجوا إلى كهف - أي
غار - هناك ليلاً، فقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله
ففرغنا منهم. فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم، فخشوا أن تشدخهم
فتبادروا، فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار، فلا يدري قومهم أين هم،
ولا يدرون ما فُعل بقومهم، فعذب الله هؤلاء ها هنا، وهؤلاء ها هنا، وأنجى الله
صالحاً ومن معه. ثم قرأ: [وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا
ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (النمل: 50-52) » ؛ أي يعلمون
الحقائق ويتدبرون وقائع الله في أوليائه وأعدائه، فيعتبرون بذلك، ويعلمون أن
عاقبة الظلم الدمار والهلاك، وأن عاقبة الإيمان والعدل النجاة والفوز، ولهذا قال:
[وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] (النمل: 53) ؛ أي أنجينا المؤمنين بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وكانوا يتقون الشرك بالله
والمعاصي، ويعملون بطاعته وطاعة رسله [1] .
والمتأمل أخي القارئ في تاريخ الأمم يجد هذه السنَّة الربانية واضحة جلية،
فهذا فرعون لعنه الله لما دعاه موسى - عليه السلام - إلى الحق طغى وبغى وأرغد
وأزبد، وتوعد موسى وقومه أن يستأصل شأفتهم، كما ذكر الله قصته بقوله:
[وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف: 127-128) ، وفي الآية الأخرى: [فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي
المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجِمِيعٌ
حَاذِرُونَ] (الشعراء: 53-56) ، فكانت النتيجة ما أخبرنا الله به: [فَأَخْرَجْنَاهُم
مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم
مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ
مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ
أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ
رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] (الشعراء: 57-68) .
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم تآمر المشركون على قتله وإنهاء أمره،
وتواعدوا على ذلك، وفرح طغاتهم بالأمر ليتم لهم القضاء على ما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى، كما في سورة الأنفال: [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
المَاكِرِينَ] (الأنفال: 30) ، فكانت النتيجة نجاة محمد صلى الله عليه وسلم
وظهور أمره، وفتح مكة، وهزيمة المشركين، بل وإسلام كثير منهم، وتلك حكمة
العليم الحكيم.
وهكذا كان الحال مع دول الكفر في تاريخ الإسلام؛ من الروم، والفرس،
والمغول، والتتار، وغيرهم.
وما أشبه اليوم بالأمس، فمنذ سنوات معدودة كان العالم يتحكم به قطبان
طاغيان مجرمان، سقط أحدهما (وهو الاتحاد السوفييتي) على أعتاب جهاد
المسلمين يوم أن صدقوا الله في جهادهم، ولا يزال هذا المعسكر في تردٍ مستمر،
وتقهقر دائم في جميع المجالات؛ السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والأخلاقية،
واليوم بدأت نهاية القطب الثاني (الولايات المتحدة - إسرائيل الكبرى) بإذن الله
ليكون في ذلك عبرة لغيرهم.
وبعيداً عن الجدل الدائر في أسباب حادث 11 سبتمبر، وهل كان بتخطيط
وتدبير من الملأ الصهيوني في الحكومة الأمريكية مكراً وكيداً، أم أنه بتخطيط
وتنفيذ المجاهدين في أفغانستان؟ فهناك حقيقة يتفق عليها المسلمون، وهي أن هذا
الحادث هو إنذار من الله لدولة الكفر والعناد، وكسر لطغيانهم وجبروتهم، وبداية
لهزائم متعددة؛ سياسية، وعسكرية، واقتصادية وأخلاقية، كما قال الله تعالى:
[وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) ، وبعيداً كذلك عن الجدل الدائر حول أهداف أمريكا
الصهيونية وذيلها بريطانيا من الحرب على العراق؛ فلا شك أن خوفهم من ذلك
العملاق الذي بدأ يستيقظ، ومعرفتهم بأنه لا بقاء لهم مع قوة الإسلام ووعي
المسلمين - أي محاولتهم استباق الحدث ومحاصرة المسلمين في عقر دارهم
ومصدر هدايتهم - فذلك السبب هو من أهم دوافع هذه الحملة الصليبية، وليس
النظام البعثي الذي هو صنيعة من صنائعهم، فهم إنما جاؤوا محاربين لهذا الدين
غير أنهم لا يدركون أن الله غالب على أمره، وأنه من يغالب الله يُغلب، وأن من
يقف عائقاً أمام هذا الدين فهو هالك خاسر لا محالة: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف:
9) ، ولذلك فإن مؤشرات مكر الله بهم بدأت تظهر، ومنها:
1 - وقوع الاختلاف والتفرق داخل المجتمع الأمريكي من جهة، وبينهم وبين
بني قومهم من الأوروبيين من جهة أخرى؛ إذ وصل الأمر إلى السباب والشتائم،
وقريباً بإذن الله سيزداد الخلاف، فالحرب الباردة بين أمريكا وأوروبا متمثلة في
قطبيها ألمانيا وفرنسا قد بدأت منذ سنوات، وما أن تقع الفرقة ويحدث الاختلاف
في داخل أمة إلا حل بها الهلاك والدمار، وكان ذلك مؤذناً بالزوال.
2 - تبين ظلمهم الواضح، وبغيهم، وعلوهم في الأرض، وتسلط الملأ منهم
وتجبرهم حتى على الإرادة الإلهية، وهذا بلا شك مؤذن لهم بعذاب من الله، كما
قال سبحانه: [وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ
بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوَارِثِينَ] (القصص: 58) ، وقال سبحانه: [إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ] (القصص: 4-6) ، وقال سبحانه
أيضاً: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ] (القصص: 59) ، وفي الحديث:
«إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» [2] .
3- عزلتها الدولية، ووقوف أكثر دول وشعوب العالم ضدها، وبروز قوى
مناهضة لها صراحة، ولأول مرة في تاريخ مجلس الأمن تهدد دولة صديقة لأمريكا
باستخدام حق الفيتو ضد المشروع الأمريكي وهي فرنسا. تلك الدولة التي انضمت
مع ألمانيا العدوة القديمة ضد الصديقة التي حررتها منها، فسبحان من يدبر الأمر
كما يشاء! وهذا من مكر الله بأمريكا.
4 - ازدياد الحمية الإسلامية في قلوب شعوب العالم الإسلامي، وتقاربهم في
الرأي، ولجئهم إلى الله، وعودتهم إلى الدين الحق، وهذا من أسباب نصر الله لهذه
الأمة وخذلان الكافرين والمنافقين.
5 - ظهور انكسار أصحاب القلوب المريضة وذلهم؛ من الذين يسارعون في
تولي الكافرين، وخوفهم الشديد من بطش أوليائهم من الكافرين والمكر بهم؛ حتى
أصبح بعض من كان بالأمس يسبح بحمد أمريكا يلعنها على الملأ، ويتمنى زوالها
بعد أن كان يدعو إلى التبعية لأمريكا بلد الحرية والمساواة!!
6 - ما حصل في عدد من الدول الإسلامية من تقدم للحركات الإسلامية،
وخاصة في تركيا، والباكستان، والمغرب، وهذا لم يكن في حسابات أمريكا.
7 - انهيار القاعدة الأخلاقية التي كانت تنادي بها أمريكا، وتدَّعي بها أنها
الزعيمة الأخلاقية للعالم، فانطلاقاً من هذه القاعدة بنت صداقتها مع الآخرين
وكسبت مودتها، فقد كانت تزعم أنها بلد العدالة والحرية والأخلاق والمساواة، وهذا
ما دفع كثيراً من أصحاب العقول المتميزين في تخصصاتهم إلى الهجرة إلى
الولايات المتحدة وتفضيلها على غيرها من الدول؛ لما تدَّعي من الحرية والمساواة
بين أفراد شعوبها، ولكنها اليوم فقدت ذلك وأصبحت زعيمة العنصرية؛ حتى
رماها بعض الساسة من الألمان بأنها نازية القرن الحادي والعشرين، فقد أظهرت
الأحداث أن ما تدعيه كذب وسراب خادع، وأنها لا تمتلك من الأخلاق ما يمكنها من
البقاء.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وختاماً؛ فإن بشائر النصر كثيرة، ومكر الله بالقوم ظاهر، وما على الأمة
إلا أن تعود إلى دينها، وأن تأخذ بأسباب النصر الممكنة مع الثقة الصادقة بالله
والتوكل عليه، وإقامة الجهاد بشروطه المعتبرة شرعاً، والاهتمام بإحياء شعيرة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعات المسلمين، والاعتصام بحبل الله،
والاجتماع على الحق؛ حتى يتحقق وعد الله بنصر هذه الأمة وتأييدها، وإهلاك
الظالمين المجرمين، وما ذلك على الله بعزيز: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن
لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ] (محمد: 4-6) .
__________
(1) انظر: تفسير السعدي.
(2) البخاري، رقم 4686.(186/6)
دراسات في الشريعة
الدعاء.. الدعاء
محمد بن حسن البكري
يُبصر الناس ما في المصائب من آلام وابتلاءات، ويشعرون في أوقاتها
بالأحزان والنكبات، ولكن قلّةٌ مَنْ رَجَع البصر وكرَّره، وأمعن فكره في القرآن
وتدبَّره، وترسَّم هدي أئمة الهدى وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ
مما يواجهه في حياته الدروس والعبر.
والجدير بالمؤمن خشيته من أن تشبه حاله في الضراء ما وصف الله تعالى من
حال مَنْ لا يؤمن بالآخرة في قوله سبحانه: [وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ
الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّنضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً
ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ] (المؤمنون: 74-77) .
ومع ما يعيشه المسلمون من بأساء وضراء في مجموعهم، ومع ما لا ينفك
عنه أفرادهم من الكَبَد، قال الله سبحانه: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ] (البلد:
4) ؛ تَحْسُن الدلالة على باب من أبواب التيسير عظيم، وحكمة من حكم المصائب
جليلة، إنه دعاء الله، والتضرع إليه، واللجوء في السراء والضراء إليه، قال الله
عز وجل: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 42-43) ، وليس لنا معشر العباد أن نخص ذلك
بحال الضر دون الأخرى؛ فهل نحن إلا لله؟ وهل نحن إلا إليه راجعون؟ قال
ربنا تبارك وتعالى: [وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ] (فصلت: 51) .
والعلاقة بين الله عز وجل وعبده قائمة على افتقار العبد واحتياجه إلى ربه
غاية الاحتياج؛ بحيث لا يستغني عنه طرفة عين، فهو خالقه من العدم، ومربيه
بالنعم، بيده مقاليد الأمور، وهو الغني عن جميع خلقه، والقدير على كل شيء،
والعليم بكل شيء، العزيز الذي لا يُغلب، والغالب الذي لا يُقهر، لا يخرج شيء
عن ملكه في السماوات ولا في الأرض، الكريم الذي يحب أن يُسأل فيعطي،
وليس لعطائه نفاد سبحانه وتعالى، وتبارك وتقدس، فكيف يستغني عنه العبد الفقير
الضعيف المسكين العاجز الذي تخفى عليه كثير من منافعه ومصالحه، بل قد يسعى
في هلاك نفسه؟! وثمة أمور قد تُجهل فهاك علمها، وأخرى قد تُنسى فإليك الذكرى؛
ليكون دعاؤنا على بصيرة، ونحن حاضرو القلوب منيبون، نفعنا الله بها.
* فالدعاء يُطلق على أمرين:
1 - دعاء العبادة: وهو شامل لجميع القربات الظاهرة والباطنة؛ لأن المتعبد
لله طالب وداع ربه قبول تلك العبادة والإثابة عليها، فهو العبادة بمعناها الشامل.
2 - دعاء المسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره أو
دفعه [1] .
* من فضائل الدعاء [2] :
1 - الدعاء عبادة عظيمة: قال الله عز وجل: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] (غافر: 60) ،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» [3] ، وقال صلى الله
عليه وسلم: «أفضل العبادة هو الدعاء» [4] ، وقال صلى الله عليه وسلم:
«ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» [5] .
2 - في الدعاء ابتعاد عن الكبر: ويدل عليه قوله عز وجل: [وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]
(غافر: 60) ، جاء في (تحفة الذاكرين) للشوكاني: «فأفاد ذلك أن الدعاء
عبادة، وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار،
وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه، وموجده من العدم، وخالق
العالم كله ورازقه ومحييه ومميته ومثيبه ومعاقبه!» [6] .
3 - ما يعطيه الله تعالى للداعي: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا بقطيعة
رحم؛ إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يُعَجِّل له دعوته، وإما أن يدخرها له في
الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» ، قال: إذن نكثر، قال: «الله أكثر»
[7] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في
العمر إلا البر» [8] .
* آداب الدعاء:
ترى الإنسان حين يطلب من أحد من الناس شيئاً يتأدب معه غاية الأدب،
فيقدِّم بين يديه مقدمات، ويختار أنسب الكلمات، ويستمع بإنصات لما يرد عليه به،
وكلما عظم الطلب اشتد الأدب، حتى إنه يفعل ما يطلبه منه لكي يتحقق له طلبه.
ولا شك أن الله تعالى هو أحق من دُعي وسُئل وطُلب منه، وأحق من يُتأدب له.
وإذا كان الدعاء من أعظم العبادات استحق أن يُحاط بجملة من الأحكام
والآداب الواجبة والمستحبة، وأن تُجتنب موانع الإجابة والمحاذير الشرعية فيه.
وما يتعبد لله تعالى به لا بد أن يكون خالصاً له، ومنه الدعاء، فلا يدعو مع الله
غيره، بل لا يدعو إلا الله في الشدة والرخاء وفي كل حال، قال تعالى: [وَأَنَّ
المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً] (الجن: 18) ، وقال سبحانه: [قُلْ
أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ]
(الأنعام: 40) . فإذا كان لا يُدعى في الشدة غيره؛ فلماذا يُلجأ إلى غيره في
الرخاء؟! قال تعالى: [ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ
عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ] (النحل: 53-54) ، وقال تعالى: [إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ] (الأعراف: 194) ، وقال: [وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ] (الأعراف: 197) ،
وجملة [مِن دُونِ اللَّهِ] ، [مِن دُونِهِ] : شاملة لكل ما يُعبد من دون الله؛ من
جماد، أو نبات، أو حيوان، أو إنسان، أو صنم، أو شمس، أو ولي، أو نبي..
إلخ.
ومن ذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه ابن عباس رضي الله
عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «يا غلام!
إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله،
وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك
إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف» [9] .
وكذلك فإن على الداعي أن يحذر من الرياء ومن السمعة، قال صلى الله عليه
وسلم: «من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به» [10] .
وللدعاء آداب يتأدب بها الداعي، منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب،
ومن ذلك:
1 - الجزم بالدعاء، واليقين بالإجابة: وهذا ينشأ من معرفة الله تعالى،
ومعرفة غناه وقدرته وكرمه وصدق وعده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا
يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت،
وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء، لا مُكره له» [11] ، وقال صلى الله عليه وسلم:
«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ
غافلٍ لاهٍ» [12] .
2 - التضرع والخشوع، والرغبة في فضل الله، والرهبة من عقوبته:
لقوله تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً] (الأعراف: 205) ،
وقوله تعالى: [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا
خَاشِعِينَ] (الأنبياء: 90) .
ومن تضرُّع النبي صلى الله عليه وسلم وخشوعه: ما جاء عن عبد الله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل
عن إبراهيم عليه السلام: [رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي]
(إبراهيم: 36) ، وقول عيسى عليه السلام: [إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (المائدة: 118) ، فرفع يديه وقال: «اللهم
أمتي أمتي» وبكى، فقال الله عز وجل: «يا جبريل، اذهب إلى محمد وربك
أعلم فسَلْه ما يُبكيه» . فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال
وهو أعلم، فقال الله تعالى: «يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في
أمتك ولا نسوؤك» [13] .
3 - إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والشكوى إليه من الضعف والضيق
والبلاء: إذ قال الله تعالى في حق أيوب عليه السلام: [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] (الأنبياء: 83) ، وقال سبحانه حاكياً دعاء
زكريا عليه السلام: [رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ] (الأنبياء: 89) .
ودعاء إبراهيم عليه السلام: [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] (إبراهيم: 37) .
4 - حمد الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجلاً يدعو في صلاته؛ لم يمجد الله تعالى، ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجل هذا» ، ثم دعاه فقال له أو
لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه جل وعز والثناء عليه، ثم يصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء» [14] ، وفي رواية أنه صلى الله
عليه وسلم قال: «عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله،
وصلّ عليّ ثم ادعه» ، ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها المصلي،
ادع تُجَب» [15] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل دعاء محجوب حتى يُصلى
على النبي صلى الله عليه وسلم» [16] .
5 - أن يسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا: قال الله عز وجل:
[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] (الأعراف: 180) ، وسؤال الله تعالى
بأسمائه وصفاته كثير في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
قام من الليل يتهجد قال: «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن
فيهن، ولك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت
الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق،
والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت،
وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما
أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت أو:
لا إله غيرك» [17] .
وسمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول في تشهده: «اللهم إني أسألك يا الله
[الواحد] الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ أن تغفر لي
ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم» ، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد غفر له، قد
غفر له» [18] .
وسمع صلى الله عليه وسلم آخر يقول في تشهده: «اللهم إني أسألك بأن لك
الحمد، لا إله إلا أنت [وحدك لا شريك لك] [المنان] ، [يا] بديع السموات
والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، [إني أسألك] [الجنة، وأعوذ
بك من النار] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تدرون بما دعا؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: [والذي نفسي بيده] لقد دعا الله باسمه العظيم. (وفي
رواية: الأعظم) الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» [19] .
6 - الاعتراف بالذنب: عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت،
خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما
صنعت، أبوء [20] لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر
الذنوب إلا أنت. قال: ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يُمسي
فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من
أهل الجنة» [21] .
7 - ألا يدعو الداعي على نفسه إلا بالخير: فحتى يكون الدعاء مقبولاً عند
الله لا بد أن يكون في الخير بعيداً عن الإثم وقطيعة الرحم، قال صلى الله عليه
وسلم: «يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» [22] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا
على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء
فيستجيب لكم» [23] .
8 - الدعاء بصالح الأعمال: وقد ورد هذا في حديث الثلاثة الذين دخلوا
الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بأخلص أعمالهم، فذكر أحدهم:
بره بوالديه، وذكر الثاني: عفافه عن الحرام بعد أن تيسر له الزنا دون أن يراه
أحد من الناس، وذكر الثالث: أمانته وأداءه الحقوق، وكل منهم يدعو بعد ذكر
عمله ويقول: «اللهم! إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه»
فاستجاب الله دعاءهم [24] .
وفي آيات آل عمران في دعاء أولي الألباب قال تعالى: [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا
مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ] (آل عمران: 193) .
9- أن يتخير جوامع الدعاء ومحاسن الكلام: فقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء وَيَدَع ما سوى ذلك [25] ، وعن عائشة
رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي وله حاجة
فأبطأت عليه، قال: «يا عائشة، عليك بجُمل الدعاء وجوامعه» ، فلما انصرفت
قلت: «يا رسول الله، وما جمل الدعاء وجوامعه؟» قال: «قولي: اللهم إني
أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من
الشر كله، عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرب إليها
من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك
مما سألك به محمد، وأعوذ بك مما تعوذ منه محمد، وما قضيتَ لي من قضاء
فاجعل عاقبته رشداً» [26] ، قال الخطابي رحمه الله: (وليتخير لدعائه والثناء
على ربه أحسن الألفاظ، وأجمعها للمعاني؛ لأنه مناجاة العبد سيد السادات الذي
ليس له مثل ولا نظير) [27] .
10- الإكثار من الدعاء، والإلحاح فيه: وهذا من زيادة الرجاء في فضل
الكريم سبحانه، جاء في الحديث: «إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه» [28] ،
وقال صلى الله عليه وسلم: «يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم
يستعجل. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال يقول: قد دعوت فلم أرَ
يُستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» [29] . وقال: «ما من مسلم يدعو،
ليس بإثم ولا بقطيعة رحم، إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته،
وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» ، قال: إذن
نكثر. قال: «الله أكثر» [30] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألظُّوا بيا ذا
الجلال والإكرام» [31] ، ومعنى (ألظوا) : «الزموه واثبتوا عليه، وأكثروا من
قوله والتلفظ به في دعائكم» [32] .
11 - الدعاء في كل الأحوال: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ
سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء» [33] ،
وبئس صنيع المرء أن يدعو حال الضر، ويذر بعد كشفه، وإنه لحال المسرفين،
قال ربنا تعالى: [وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
(يونس: 12) .
12- تكرار الدعاء ثلاث مرات: هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال
ابن مسعود رضي الله عنه يصف الرسول صلى الله عليه وسلم: «وكان إذا دعا
دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً» ، ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم على بعض
المشركين لما وضع على ظهره صلى الله عليه وسلم سلا جزور وهو يصلي، فلما
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «اللهم عليك بقريش، اللهم
عليك بقريش، اللهم عليك بقريش» ، ثم سمى: «اللهم عليك بعمرو بن هشام،
وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف،
وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد» . قال عبد الله: فو الله! لقد رأيتهم
صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب - قليب بدر -، ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «وأُتبع أصحاب القليب لعنة» [34] .
13 - خفض الصوت بالدعاء: قال تعالى: [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ
لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (الأعراف: 55) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ارْبَعُوا
على أنفسكم؛ إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم»
[35] ، وقد امتدح الله دعاء زكريا عليه السلام فقال: [إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا]
(مريم: 3) .
14 - الوضوء قبله: وهذا ثابت في حديث أبي موسى في قصة بعث أبي
عامر بعد حنين، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يستغفر لأبي
عامر ويدعو له دعا بماء، فتوضأ ثم رفع يديه فقال: «اللهم اغفر لعبيدٍ أبي
عامر» ، ورأيت بياض إبطيه، ثم قال: «اللهم! اجعله يوم القيامة فوق كثير
من خلقك من الناس» ، فقلت: ولي فاستغفر، فقال: «اللهم! اغفر لعبد الله بن
قيس ذنبه، وأدخله مدخلاً كريماً» [36] . قال ابن حجر: (يستفاد منه
استحباب التطهير لإرادة الدعاء) [37] .
15 - رفع اليدين: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رفع النبي صلى
الله عليه وسلم يديه فقال: «اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين [38] .
وفي حديث أبي موسى: «ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيدٍ أبي عامر. ورأيت
بياض إبطيه، ثم قال: ... » الحديث [39] ، وقد ذكر السيوطي أن أحاديث رفع
اليدين في الدعاء تواترت تواتراً معنوياً [40] .
16 - استقبال القبلة: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «استقبل
النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، فدعا على نفر من قريش..» [41] .
* محاذير يجتنبها الداعي:
هي أمور إما أن تفسد الدعاء من أصله، وإما تضر بالداعي، وإما توقعه في
مخالفة شرعية ... ومن ذلك:
1 - دعاء غير الله تعالى [42] : إذا تقرر أن الدعاء أعظم العبادات، وأجلّ
الطاعات، وأنه يجب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له؛ فإن من دعا أو استغاث
أو استعان أو استعاذ [43] بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ فقد
كفر وخرج من الملة؛ سواء كان هذا الغير نبياً، أو ولياً، أو ملكاً، أو جنياً، أو
غير ذلك من المخلوقات. كما قال تعالى: [وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ
يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ
هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ
الرَّحِيمُ] (يونس: 106-107) ، وقال تعالى: [وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] (القصص: 88) ،
وقال سبحانه: [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ
القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ] (الأحقاف: 5-6) ، وقال سبحانه وتعالى: [وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ
تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً] (الجن: 18) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات
وهو يدعو لله نداً دخل النار» [44] ، فمن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان؛
أن يدعو العبد غير الله؛ فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يُشرك به، وإن
الشرك لظلم عظيم: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] (الكهف: 110) [45] .
ومن أجلى أنواع الشرك الأكبر: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم،
والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك
لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن
يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده [46] .
ويجب أن يعلم أن من قصد غير الله بدعاء أو استعاذة أو استعانة فهو كافر،
وإن لم يعتقد فيمن قصده تدبيراً وتأثيراً أو خلقاً، فمشركو العرب الذين قاتلهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون عن معبوداتهم إنها تخلق وترزق، وتُدبّر
أمر مَنْ قصدها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم سبحانه في قوله:
[مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى] (الزمر: 3) [47] .
2 - الاعتداء في الدعاء: قال تعالى: [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ
يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (الأعراف: 55) .
* ومن الاعتداء في الدعاء:
أ - أن يشتمل الدعاء على شرك بالله؛ كأن يدعو غير الله تعالى؛ من بشر،
أو حجر، أو شجر، أو قبر، أو غير ذلك. أو يدعو وهو يرجو غير الله أن يحقق
مطلوبه.
ب - أن يشتمل الدعاء على بدعة.
ت - الدعاء على النفس بالموت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين
أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد [48] فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما
كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» [49] ، ولما جاء عن
قيس قال: أتيت خباباً وقد اكتوى سبعاً، قال: «لولا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهانا عن أن ندعو بالموت لدعوت به» [50] .
ث - الدعاء بتعجيل عقوبة الآخرة في الدنيا. لما جاء في حديث أنس رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ فصار
مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل كنت تدعو بشيء أو
تسأله إياه؟» ، قال: «نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة
فعجِّله لي في الدنيا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، لا
تطيقه - أو لا تستطيعه -، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة،
وقنا عذاب النار» ، قال: فدعا الله له فشفاه [51] .
ج - أن يفصِّل الداعي تفصيلاً لا لزوم له؛ لما عن سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه أنه لما سمع ابنه يدعو قائلاً: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها
وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فقال: «يا بني،
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» سيكون قوم يعتدون في
الدعاء «؛ فإياك أن تكون منهم، إن أُعطيت الجنة أُعطيتها وما فيها، وإن
أُعذت من النار أُعذت منها وما فيها من الشر» [52] .
3 - تحجير رحمة الله عز وجل: كأن يقول: اللهم اسق مزرعتي وحدها،
أو اللهم أصلح أولادي دون غيرهم، أو رب ارزقني وارحمني دون سواي، فعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة
فقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا
أحداً. فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: لقد حجّرت واسعاً
- يريد رحمة الله -» [53] .
4 - الدعاء على النفس والأهل والمال: لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا
من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم» [54] .
5- تكلف السجع في الدعاء: ويوضح هذا نصيحة ابن عباس رضي الله
عنهما لعكرمة رحمه الله، قال فيها: «حدِّث الناس كل جمعة مرة ... » ، ثم قال:
«فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت رسول الله وأصحابه لا يفعلون
إلا ذلك» ؛ يعني: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب [55] .
* من موانع إجابة الدعاء:
ثمة أمور إذا حصلت من الداعي؛ فإنه متوَعد بعدم إجابة دعائه، ومنها:
1- المطعم الحرام، والمشرب الحرام، والملبس الحرام، والتغذية بالحرام:
لا يفطن الإنسان أحياناً إلى العلاقة بين الجسد والروح الذي يتركب منهما الإنسان،
وأن كل واحد يؤثر في الآخر، فنوعية الغذاء تؤثر أحياناً في نفسية الإنسان،
وكسبه يؤثر في عبادته، ومن أخطر ذلك: العيش من الكسب المحرم؛ من ربا،
أو غش، أو رشوة، أو سرقة، أو مال يتيم، أو دخل لا يستحقه.. وهو يمنع
إجابة الدعاء: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها
الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين
فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ]
(المؤمنون: 51) . وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم]
(البقرة: 172) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء:
يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذِّي بالحرام؛
فأنى يستجاب لذلك؟!» [56] .
2 - ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عن حذيفة رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف
ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا
يستجيب لكم» [57] .
3 - الاستعجال في إجابة الدعاء: صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو
قطيعة رحم، ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله، فما الاستعجال؟ قال: «يقول
قد دعوت فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدَعُ الدعاء» [58] ،
والاستحسار: الإعياء والانقطاع عن الشيء، والمراد هنا أنه ينقطع عن الدعاء،
ومنه قوله تعالى عن الملائكة: [لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ]
(الأنبياء: 19) ؛ أي لا ينقطعون عنها، وفيه طلب دوام الدعاء وعدم استبطاء
الإجابة. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُستجاب لأحدكم ما لم
يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي» [59] ، وكذلك قوله تعالى: [وَيَدْعُ الإِنسَانُ
بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً] (الإسراء: 11) . وهذا لا ينافي
الدعاء بتعجيل الطلب، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
الاستسقاء قوله: «عجلاً غير رائث» [60] .
4 - غفلة القلب وشروده: شرود القلب حال الدعاء والذكر والقراءة والصلاة
من أشد ما يحرم الإنسان من ثمرات العبادة وبركاتها، فالصلاة بلا خشوع لا أجر
عليها، والدعاء بلا قلب لا يُستجاب!
عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب
غافل لاهٍ» [61] ؛ أي يجب أن يكون قلبك حاضراً وأنت تدعو، متفهماً لما تقول،
وتذكر من تخاطب؛ فإنك تخاطب الله رب العالمين، فلا يليق بك وأنت العبد الذليل
أن تخاطب مولاك بكلام لا تعيه، أو بجمل عفوية قد اعتدت على تكرارها دون
التفهم لفحواها أو الإدراك لمعانيها.
5 - ومن موانع الإجابة: ما بينه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله:
«ثلاثة يدعون فلا يُستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها،
ورجل كان له على رجل مال فلم يُشهد عليه، ورجل آتى سفيهاً ماله، وقال الله عز
وجل: [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم] (النساء: 5) » [62] .
* أوقات وأحوال ترجى فيها إجابة الدعاء:
1- عند النداء للصلوات المكتوبة، وعند التحام الصفوف: لقوله صلى الله
عليه وسلم: «ثنتان لا تردان أو قلما تردان الدعاء عند النداء، وعند البأس حين
يُلحِم [63] بعضهم بعضاً» [64] .
2- بين الأذان والإقامة: لقوله عليه الصلاة والسلام: «الدعاء لا يرد بين
الأذان والإقامة، فادعوا» [65] .
3 - في السجود: لقوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من
ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» [66] .
4 - دُبُر الصلوات المكتوبة: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الدعاء
أسمع؟ فقال: «جوف الليل الآخر، ودُبُر الصلوات المكتوبات» [67] .
5 - آخر ساعة من يوم الجمعة: لقوله صلى الله عليه وسلم: «يوم الجمعة
اثنتا عشرة ساعة؛ منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه،
فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» [68] .
6 - في أوقات من الليل، وخاصة ثلثه الأخير: الليل وقت يخلو فيه
المحبون بأحبابهم، فيجد المؤمنون فيه فرصة للأنس بربهم ومناجاته، وهو وقت
خصه الله بمزيد فضل المناجاة والدعاء فيه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن في
الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه
إياه، وذلك كل ليلة» [69] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين
يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له؟ ومَنْ يسألني فأعطيه؟
ومَنْ يستغفرني فأغفر له؟» [70] .
والقسم الأول من ثلث الليل الآخر «وهو جوف الليل الآخر» [71] أفضل
للدعاء، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع؟ فقال: «جوف
الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات» ، وهو الموافق لصلاة داود عليه السلام،
قال صلى الله عليه وسلم: «… أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام؛
كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» [72] ، فصلاته تبدأ قبل جوف
الليل الآخر وتشمله، حتى يبدأ السدس الأخير من الليل فينام.
7 - عند التعار من الليل وقراءة الذكر الوارد: لحديث عبادة بن الصامت
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعار من الليل
فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو
على كل شيء قدير، الحمد الله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم دعا: رب اغفر لي، غفر له، أو دعا
استُجيب له، فإن قام فتوضأ ثم صلى قُبلت صلاته» [73] .
8 - دعاء العبد بـ: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين: لقوله
صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله
إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط، إلا
استجاب الله له» [74] .
9 - أحوال أخرى للداعي:
أ- دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب: عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر
الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به:
آمين ولك بمثل» [75] .
ب - دعوة الصائم، والمسافر، والمظلوم، والوالد لولده، وعلى ولده: لقوله
صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على
ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم» [76] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
«ثلاث دعوات لا تُرد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر» [77] ،
وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما بعثه لليمن: «واتق دعوة المظلوم؛ فإنه
ليس بينها وبين الله حجاب» [78] .
ج - يوم عرفة: قال صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء يوم عرفة، وخير
ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد،
وهو على كل شيء قدير» [79] .
د - دعوة المضطر: المضطر: المكروب المجهود [80] ، والله تبارك وتعالى
يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان مشركاً، فكيف إذا كان مسلماً عاصياً مفرطاً في
جنب الله؟ بل كيف إذا كان مؤمناً براً تقياً؟ قال تعالى: [أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا
دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] (النمل: 62) ، قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير
الآية السابقة: «أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي يكشف ضر
المضرورين سواه؟» [81] .
هـ - دعوة الحاج، والمعتمر، والغازي في سبيل الله: لقوله صلى الله عليه
وسلم: «الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر؛ وفد الله، دعاهم فأجابوه،
وسألوه فأعطاهم» [82] .
فيا ترى: أين نحن من الدعاء؟ وما حالنا معه؟ .
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، ربنا انصر مجاهدنا وثبت قدمه،
ربنا نج مستضعفنا، ربنا اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين.
__________
(1) انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم، 3 / 2.
(2) انظر: إلى الدعاء لمحمد الحمد، ص 16 - 22.
(3) رواه أبو داود، رقم 1479، الترمذي، رقم 2969 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، رقم 3828.
(4) أخرجه الحاكم، 1/ 491، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 1122.
(5) أخرجه الترمذي، رقم 3370 وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عمران القطان، وابن ماجه، رقم 3829، وأحمد، رقم 8350، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم 5392.
(6) تحفة الذاكرين، للشوكاني، ص 19 - 20.
(7) رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم 710، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، رقم 547.
(8) رواه الترمذي، رقم 2139 وقال: هذا حديث حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم 7867.
(9) رواه الترمذي، رقم 2516، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 7957.
(10) رواه البخاري، رقم 6499، ومسلم، رقم 2987.
(11) رواه البخاري، رقم 7477.
(12) رواه الترمذي والحاكم وغيرهما، وهو حسن بشواهده، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 594.
(13) رواه مسلم، رقم 202.
(14) رواه أبو داود، رقم 1481، والترمذي، رقم 3477، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم 1314.
(15) انظر: إحياء علوم الدين، 1/ 304 - 311، والأذكار، للنووي، ص 353 - 354، وبدائع الفوائد، لابن القيم، 3/ 6 - 10، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص 10 - 14، وجامع العلوم، لابن رجب، 269 - 277، وتحفة الذاكرين، للشوكاني، ص 47 - 61، والدعاء لحسين العوايشة، ص 8 - 15، والذكر والدعاء لسعيد بن وهف القحطاني، ص 88 - 101.
(16) حسن لطرقه وشواهده، وانظر: الصحيحة، برقم 2035، وفيها: (وخلاصة القول: إن الحديث بمجموع هذه الطرق والشواهد لا ينزل عن مرتبة الحسن إن شاء الله على أقل الأحوال) .
(17) أخرجه البخاري، رقم 6317، وبنحوه مسلم، رقم 769.
(18) رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وابن خزيمة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، أورده الشيخ الألباني في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) ، ص 203، وقال (ص 19) في المقدمة موضحاً ما يرمز إليه بالقوسين المستطيلين: (وكثيراً ما يوجد في بعض الطرق من الألفاظ والزيادات ما لا يوجد في الطرق الأخرى، فأضيفها إلى أصل الحديث الوارد في القسم الأعلى إذا أمكن انسجامها مع أصله، وأشرت إلى ذلك بجعلها بين قوسين مستطيلين هكذا [] دون أن أنص على من تفرد بها من المخرجين لأصله، هذا إذا كان مصدر الحديث ومخرجه عن صحابي واحد، وإلا جعلته نوعاً آخر مستقلاً بنفسه) .
(19) رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، والبخاري (في الأدب المفرد) ، والطبراني، وابن منده في (التوحيد) (44/2، 67/1، 70/1 - 2) ، بأسانيد صحيحة، كما في (صفة الصلاة) ، ص 204.
(20) أبوء: أعترف.
(21) رواه البخاري، رقم 6306.
(22) أخرجه مسلم، رقم 2735، الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله بعد الأكل والشرب، والبخاري في الأدب المفرد، رقم 655، والطبراني في الدعاء، 83 باب: كراهة الاستعجال في الدعاء.
(23) رواه مسلم، رقم 3009.
(24) رواه البخاري، رقم 2215، ومسلم، رقم 2743.
(25) رواه أبو داود، رقم 1482، الصلاة، باب: الدعاء، والحكم 1/539، والطبراني في الدعاء، 50 باب: ما كان النبي يستحب من الدعاء، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 4949.
(26) الأدب المفرد، رقم 639، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، رقم 497.
(27) شأن الدعاء، ص 15.
(28) مسلم مع الشرح، 17/10.
(29) رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة.
(30) رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم 710، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، رقم 547.
(31) رواه أحمد، رقم 17596، وصحح إسناده محققو المسند، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 1250.
(32) يقال: ألظَّ بالشيء يلظ إلظاظاً؛ إذا لزمه وثابر عليه، النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 4/252.
(33) رواه الترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر تفصيله في الصحيحة، برقم 593.
(34) رواه البخاري، رقم 520.
(35) رواه البخاري، رقم 4202، ومسلم، رقم 2704.
(36) رواه البخاري، رقم 4323، وهذا لفظه، ومسلم، رقم 2498.
(37) فتح الباري، 7/639.
(38) رواه البخاري، رقم 4339.
(39) رواه البخاري، رقم 4323.
(40) تدريب الراوي، 2/136.
(41) رواه البخاري، رقم 3960، ومسلم، رقم 1794 وغيرهما.
(42) نواقض الإيمان القولية والعملية، عبد العزيز آل عبد اللطيف، ص 142 - 143.
(43) يقول ابن تيمية: (الاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة كلها من نوع الدعاء أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة) ، انظر: مجموع الفتاوى، 51/ 722.
(44) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، 8/176، حديث 4497، وأحمد 1/374.
(45) انظر: الرد على البكري، ص 95.
(46) انظر: مدارج السالكين، 1/346.
(47) انظر: في مناقشة من زعم جواز دعاء الأموات ما دام الداعي يعترف بأن الله هو الخلاق: تفسير المنار، 2/65، والدر النضيد، للشوكاني، ص 6 - 19، وضوابط التكفير، للقرني، ص 139 - 148.
(48) قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن كان لا بد» محمول على خوف الوقوع في الفتن والضرر في الدين، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت؛ لأن الحياة مع طاعة الله خير لنا من الموت، فقد صح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يَدْعُ به قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً» ، وهذا من عظيم شفقته ورحمته بأمته.
(49) البخاري، رقم 5671.
(50) رواه البخاري، رقم 6430، ومسلم، رقم 2681.
(51) رواه مسلم، رقم 268.
(52) رواه أبو داود، رقم 1480، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم 1313.
(53) رواه البخاري، رقم 6010، الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم.
(54) رواه مسلم، رقم 3009.
(55) رواه البخاري رقم، 6337.
(56) رواه مسلم، 7/100.
(57) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم 7070.
(58) رواه مسلم، 17/52.
(59) رواه مسلم، 17/51 والترمذي، 9/330 وأبو داود، رقم 1470.
(60) صحيح رواه ابن ماجه، رقم 1269، وأحمد، 4/235 وقوله صلى الله عليه وسلم: «غير رائث» : أي غير آجل.
(61) رواه الترمذي، رقم 3479، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، رقم 2766.
(62) أخرجه الحاكم، والطحاوي في مشكل الآثار، وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 3075، وهو في الصحيحة، برقم 1805.
(63) أي يشتبك الحرب بينهم.
(64) أخرجه أبو داود، وقال الحافظ في (النتائج) : حديث حسن صحيح (77/1) وانظر: (الكلم الطيب) برقم 75.
(65) أخرجه أحمد، والترمذي، وغيرهما، وصححه الألباني في الإرواء، برقم 244.
(66) رواه مسلم، رقم 284.
(67) رواه الترمذي وحسنه من حديث أبي أمامة، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، رقم 2782.
(68) أخرجه أبو داود، رقم 1048، والنسائي، رقم 1390، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 8190.
(69) رواه مسلم، رقم 757، وغيره.
(70) رواه البخاري، رقم 6321 ومسلم، رقم 758.
(71) إذا قسمنا الليل نصفين، ثم قسمنا كل نصف ثلاثة أقسام، فسيكون القسم الثاني من كل من الأقسام الثلاثة هو جوف كل نصف - أي وسطه -، فيكون لليل جوفان، جوف في النصف الأول، وجوف في النصف الثاني، وهو الجوف الآخر، وبطريقة أخرى: إذا قسمنا الليل ستة أقسام (أسداس) ، فيكون القسم (السدس الخامس) هو جوف الليل الآخر، والخامس مع السادس هما ثلث الليل الأخير.
(72) رواه مسلم، رقم 1158.
(73) البخاري، رقم 1154، ابن ماجة، رقم 3878.
(74) أخرجه الترمذي، رقم 3505، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 3383.
(75) رواه مسلم، رقم 2733.
(76) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 3013، وهو في الصحيحة، برقم 596.
(77) رواه البيهقي، والضياء في المختارة، وهو في الصحيحة، رقم 1797، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم 3032.
(78) رواه البخاري، رقم 2448، ومسلم، رقم 19.
(79) رواه الترمذي وغيره، وهو حسن لغيره، وانظر: المشكاة، برقم 2598.
(80) معالم التنزيل، للبغوي، 6/173.
(81) تفسير ابن كثير، 3 / 853.
(82) رواه ابن ماجه، رقم 2893، المناسك، باب: فضل دعاء الحاج، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 4171، وانظر: الصحيحة، رقم 1820.(186/10)
دراسات في الشريعة
وتوبوا إلى الله جميعاً
فيصل بن علي البعداني
albadani@gawab.com
للأزمات أثرها في شعور الناس بضعفهم وعجزهم، يصاحب ذلك تطلع إلى
الخلاص، فإذا المرء يتلفت عن يمينه وشماله بحثاً عن مخرج، فهناك تتجه
النفوس إلى خالقها، حتى إن المشركين إذا مسهم الضرّ دعوا الله مخلصين له الدين!
تلك الفرصة السانحة من إقبال القلوب على الله تعالى هي مفتاح الفرج، إذا
ما أُحسن استثمارها بابتداء عملية مراجعة شاملة للنفس، مع صدق العزم على
المضي في التغيير الجاد الذي جعله الله شرط تغيرُّ الأحوال: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
ولمسيس حاجة الأمة أفراداً وجماعات إلى المراجعة والتوبة، وخاصة في
مثل هذه الظروف العصيبة.. جاء هذا المقال، أسأل الله أن ينفع به.
* حقيقة التوبة:
التوبة: رجوع العبد إلى ربه تعالى؛ بفعل الطاعة واجتناب المعصية،
ومفارقة طريق المغضوب عليهم والضالين. فهي رجوع عما تاب منه العبد إلى ما
تاب إليه.
فالتوبة المشروعة هي: الرجوع إلى الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى
عنه، وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الناس، ولايتصورون
التوبة إلا عما يفعله العبد من الفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات
المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها، فأكثر الخلق يتركون
كثيراً مما أمرهم الله به من الأقوال والأعمال، وقد لا يعلمون أن ذلك مما أُمروا به،
أو يعلمون الحق ولا يتبعونه، فيكونون: إما ضالين؛ بترك العلم النافع، وإما
مغضوباً عليهم؛ بالإعراض عن الحق بعد معرفته.
* منزلتها:
وردت العديد من النصوص التي تبين فضل التوبة وعظم منزلتها، ومن ذلك
أنها:
1 - سبب لنيل محبة الله عز وجل: كما قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ] (البقرة: 222) ؛ إذ في التوبة تقرب من الله تعالى بالإقدام
على الطاعة واجتناب المعصية، وذلك عن طريق الظفر بحب الله، كما جاء في
الحديث القدسي أنه عز وجل قال: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما
افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه» [1] .
2 - سبب للفلاح في الدنيا والآخرة: كما قال الله عز وجل: [وَتُوبُوا إِلَى
اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: 31) ، ومن دلائل ذلك حديث
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض
فدُلَّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً؛ فهل له من توبة؟ قال:
لا. فقتله فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عالم،
فقال: إنه قتل مائة نفس؛ فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينه وبين
التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا
ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت،
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً
مقبلاً بقلبه إلى الله. وقالت: ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم ملك
في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى
فهو له. فقاسوه فوجوده إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة» [2] ، فهذا
الرجل لم يعمل خيراً قط لكن حين تاب أفلح وسعد.
3 - سبيل عدم الخوض في الظلم: كما قال الله عز وجل: [وَمَن لَّمْ يَتُبْ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (الحجرات: 11) .
قال ابن القيم: «قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمَّ (هناك) قسم ثالث
ألبتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه،
وبعيب نفسه، وآفات عمله» [3] .
4 - سبب لتكفير السيئات ودخول الجنات: كما قال عز وجل: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ]
(التحريم: 8) . وقال عز وجل: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ
ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا
وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ] (آل عمران: 135-136) . وقال صلى الله
عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» [4] . وقال صلى الله عليه
وسلم: «اتق الله حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق
حسن» [5] . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمسحها»
[6] . وقال صلى الله عليه وسلم: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما
الآخر، كلاهما يدخل الجنة. فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقاتل هذا في سبيل
الله عز وجل فيُستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، فيقاتل في سبيل الله عز
وجل فيُستشهد» [7] .
5 - سبب لتبديل السيئات حسنات: كما قال الله عز وجل: [إِلاَّ مَن تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً]
(الفرقان: 70) ، وعن أبي طويلٍ رضي الله عنه أنه قال: «أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو
في ذلك لم يترك حاجة ولا دَاجَة إلا أتاها؛ فهل لذلك من توبة؟ قال: فهل أسلمت؟
قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: تفعل الخيرات،
وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن. قال: وغدراتي وفجراتي. قال:
نعم. قال: الله أكبر. فما زال يكبر حتى توارى» [8] .
6 - سببٌ لسلامة القلب ونقائه: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا أخطأ نُكتت في قلبه نكتة سوداء،
فإذا هو نَزَع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيه حتى تعلو قلبه، وهو
الران الذي ذكر الله [كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (المطففين:
14) » [9] .
7 - سبب لتحصيل دعاء الملائكة واستغفارهم: كما قال عز وجل حكاية عن
الملائكة أنهم يدعون الله قائلين: [فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ
الجَحِيمِ] (غافر: 7) .
* الترغيب في التوبة:
وردت العديد من النصوص التي تأمر بالتوبة وترغب فيها، ومن ذلك:
1 - قول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً]
(التحريم: 8) .
2 - وقوله تعالى: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]
(النور: 31) .
3 - وقوله سبحانه: [أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
(المائدة: 74) .
4 - وقوله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] (الزمر: 53) .
5 - وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [10] .
6 - وعن رفاعة الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «إن الله يمهل حتى إذا ذهب من الليل نصفه أو ثلثاه قال:» لا يسألن
عبادي غيري، مَنْ يدعني أستجب له، مَنْ يسألني أعطه، مَنْ يستغفرني أغفر له.
حتى يطلع الفجر « [11] .
7 - وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:
» إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب، لا يغلق حتى
تطلع الشمس من مغربها « [12] .
8 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:» لله أشد
فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه؛ من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت
منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من
راحلته، فبينما هو كذلك؛ إذ بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة
الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك!! أخطأ من شدة الفرح « [13] .
9 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
» لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم « [14] .
10 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» كل
بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون « [15] .
* حكم التوبة:
التوبة نوعان: واجبة ومستحبة:
فالواجبة: هي التوبة من ترك واجب أو فعل محظور، وهذه واجبة على
جميع المكلفين؛ إذ تجب التوبة على جميع العباد من ذنوبهم ومعاصيهم؛ لقوله عز
وجل: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: 31) ،
وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً] (التحريم: 8) .
وهذا الوجوب واجب على الفور لا التراخي؛ لأن ظواهر النصوص، ووضع
اللغة يدلان على ذلك، ولأن التنفيذ على الفور والمبادرة إلى التوبة طريق السلامة
من خطر الوقوع في المعاصي.
والمستحبة: هي التوبة من ترك المستحبات وفعل المكروهات، فمن اقتصر
على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين
المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين؛ إما الكافرين، وإما الفاسقين.
* شروط التوبة:
إذا استجمعت التوبة الشروط اللازمة لها؛ فإنها مقبولة ماحية للذنوب
والمعاصي التي يتب منها، وشروط التوبة هي:
1 - أن تكون خالصة لله تعالى، واقعة لمحض الخوف من الله وخشيته،
والرغبة فيما لديه، والهيبة مما عنده سبحانه، لا كمن يتوب لحفظ مصلحته
ومنصبه ورياسته، أو لحفظ قوته وماله، أو لاستدعاء حمد الناس أو الهروب من
ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لكرهه للأمر الذي كان عاصياً لله تعالى به،
وانتهاء نهمته منه، أو لإفلاسه وعجزه وعدم قدرته على اقتراف المعصية، ونحو
ذلك من العلل التي تقدح في صحة التوبة وخلوصها لله عز وجل. قال الله تعالى:
[فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً]
(الكهف: 110) ، وقال سبحانه في الحديث القدسي:» أنا أغنى الشركاء عن
الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه « [16] .
2 - أن تكون التوبة موافقة لهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن
التوبة من العبادات الخالصة التي يجب أن تتلقى عن الله ورسوله صلى الله عليه
وسلم الذي قال:» من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد « [17] .
قال ابن رجب رحمه الله:» فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى
فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله؛ فهو مردود
على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في
شيء « [18] .
وقال الثوري رحمه الله:» كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل،
ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بالسنة « [19] .
3 - أن يقلع الإنسان عن الذنب: وذلك لأن التوبة تستحيل مع مباشرة العبد
للذنب الذي يتوب منه، فمن لا يصلي لا بد له أن يصلي، ومن يكذب لا بد له أن
يترك الكذب، ومن يعق والديه لا بد له من برهما.. وهكذا.
ولا شك أن من ادعى التوبة، وأكثر من ترديد قول: (أستغفر الله) مع
إقامته على المعصية التي يتوب منها، لا شك أنه كاذب في ادعائه، بل هو
كالمستهزئ بالله سبحانه، والمقياس هو العمل والسلوك، وليس الكلام والادعاء،
فكم من إنسان ليس له من الإسلام إلا الاسم، ومن الأخلاق إلا الادعاء، ومن
التوبة إلا الرياء.
4 - أن يندم على فعل الذنوب: إذ من لم يندم على فعل الذنب فذلك يدل على
رضاه به وإصراره، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
» الندم توبة « [20] .
والنادم: هو الذي يتمنى لو عاد به الزمان، واستقبل من أمره ما استدبر؛ ما
فعل الذنب، ولاستقام على أمر الله عز وجل وطاعته ولم يفارقها.
5 - أن يعزم على ألا يعود إلى الذنب أبداً: والعزم: هو الإصرار على عدم
العودة إلى اقتراف الذنب مرة أخرى. وهو من لوازم صدق التوبة، فلا توبة لمن
يعلن الإقلاع عن ذنب وهو ينوي اقترافه، أو لا مانع لديه من ذلك؛ إذ ذلك حال
المتلاعبين. والعزم على عدم الذنب لا يعني عدم الوقوع في الذنب؛ بحيث متى
عاد إلى الذنب بطلت توبته، بل المطلوب من العبد أن يعزم عزماً أكيداً، وأن
يصر إصراراً جازماً على عدم العودة إلى الذنب، فمتى فعل ذلك صحت توبته
وقبلت، فمن أزله الشيطان بعد ذلك فوقع في الذنب مرة أخرى؛ فإنه يحتاج إلى
توبة صادقة أخرى، ولا علاقة لهذه التوبة الثانية بالتوبة الأولى، وتوبته الأولى
صحيحة غير باطلة، لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه إن رجلاً جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال:» يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: يُكتب عليه. قال:
ثم يستغفر منه ويتوب. قال: يُغفر له ويتاب عليه. قال فيعود فيذنب. قال:
فيُكتب عليه. قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: يُغفر له ويتاب عليه، ولا يمل
الله حتى تملوا « [21] ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل قال:» أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي
ذنبي! فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.
ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي! فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب
ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر
لي ذنبي! فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ
بالذنب. اعمل ما شئت فقد غفرت لك « [22] .
6 - إرجاع الحقوق إلى أصحابها: إذا كان الذنب يتعلق بحق آدمي كسرقة أو
غش ونحو ذلك فلا بد أن يرد الحق إلى صاحبه إلا أن يسامح صاحب الحق ويعفو.
أما إن كان الذنب سباً أو شتماً أو غيبة أو نميمة؛ فالواجب أن يطلب من صاحب
الحق مسامحته، إلا إذا كان طلب المسامحة منه يؤدي إلى نفرة وعداوة بينهما،
فالمطلوب منه أن يدعو له في ظهر الغيب، ويذكره بخير في المجالس التي ذكره
فيها بِشر، حتى يغلب على ظنه أنه رد حقه ووفَّاه بقدر ما نال منه.
7 - أن تقع التوبة في وقتها المشروع، وهو قبل أحد أمرين:
أ - الغرغرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:» إن الله يقبل توبة العبد ما لم
يغرغر « [23] . والمراد بالغرغرة: بلوغ الروح الحلقوم، ووصول العبد في النزع
مرحلة يوقن فيها بحضور الموت دون شك، كفرعون الذي قال حين أدركه الغرق:
[آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ] (يونس:
90) ، فلم يقبل الله توبته قال عز وجل: [آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ
المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا
لَغَافِلُونَ] (يونس: 91-92) .
ب - طلوع الشمس من مغربها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:» من تاب قبل
أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه « [24] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
» للجنة ثمانية أبواب: سبعة مغلقة، وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس
من مغربها « [25] .
* أساليب الشيطان في إبعاد الإنسان عن التوبة:
1 - التزيين: بحيث يزين الشيطان للعبد المعاصي، ويحببها له، ويجعله
يميل إليها، وينفره من الطاعة، ويظهر له صعوبتها، والمشقة في فعلها.
2 - التلبيس: بحيث يلبس الشيطان على العبد ويخدعه في كون الحرام
حلالاً، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً، حتى تأنس نفسه إلى فعل ما لا يرضي الله
تعالى، ويزول ما في نفسه من تحرج من إتيان المعصية، ويصير اقترافه لها أمراً
معتاداً لا غضاضة ولا حرج في نفسه منه.
3 - التسويف: حين لا يجدي تزيين الشيطان وتلبيسه على العبد؛ يقود
الشيطان العبد إلى التسويف وتأخير التوبة، فيقول له حين يراه مصرّاً على التوبة:
لا بأس أن تتوب، ولكن لماذا العجلة وأنت في مرحلة الشباب؟ لماذا تتوب؟ ..
حتى تكمل الدراسة. فإذا أكمل الدراسة قال له: حتى تجد عملاً. فإذا وجد قال:
حتى تتزوج. فإذا تزوج قال له: حتى تؤمّن المستقبل. وهكذا يتدرج معه في
التسويف حتى يضعف إقباله على التوبة، أو حتى يفاجئه الموت قبلها.
وعلاج التسويف يكون بتذكر الموت والبلى، وأن الصغير قد يموت قبل
الكبير، والصحيح قبل المريض، قال صلى الله عليه وسلم حاضاً على تذكره:
» أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت « [26] . وقد ذم الله سبحانه من اغتر بالمغفرة
فتمادى في المعصية، فقال تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ
عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا] (الأعراف: 169) .
4 - تهوين المعصية: حين يحرص العبد على التوبة مستعظماً ذنبه وما
اقترفه؛ يأتيه الشيطان ويقول له: ماذا فعلت حتى تتوب؟ أنت من خيار الناس،
والتوبة يحتاجها أصحاب المعاصي الكثيرة الكبيرة، فأنت لست منهم فلا تشغل
نفسك بذلك، وحتى لو تضاعفت ذنوبك فهي صغيرة قليلة بالنسبة لغيرك، والله
غفور رحيم؛ لا يؤاخذ الناس بمثل ذلك، قال ابن مسعود رضي الله عنه:» إن
المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه
كذباب وقع على أنفه، قال به هكذا فطار « [27] .
5 - تصعيب الاستمرار على الطاعة بعد التوبة: التوبة: تحتاج إلى استقامة
على الطاعة، والاستقامة شاقة على النفس، وتجلب عداوة أصدقاء السوء، فيأتيه
الشيطان ويقول له: لماذا تتعب وتحمل نفسك مشقة الطاعة وعداوة من حولك من
المنحرفين القريبين والبعيدين.
6 - التيئيس: يسرف بعض العباد في اقتراف المعاصي، ويذنبون فيطمعون
في التوبة، وحين يقدمون عليها يستعظمون ذنوبهم وهي عظيمة فيغلب عليهم جانب
الخوف على جانب الرجاء، فيدخل الشيطان عليهم من هذا السبيل، ويقذف في
نفوسهم أن الله عز وجل لا يقبل توبتهم لأن ذنوبهم عظيمة وكثيرة؛ لذا يصاب
الإنسان باليأس والقنوط من رحمة الله، وهذا اليأس والقنوط ذنب آخر يضاف إلى
الذنوب الأخرى التي تحتاج إلى توبة منها.
وعلاجه بتذكر سعة رحمة الله وعظيم مغفرته، قال الله تعالى: [قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] (الزمر: 53) . وقال صلى الله عليه وسلم:
» قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما
كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت
لك ولا أبالي، يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض [ملؤها، أو ما يقارب
ملأها] خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة « [28] . وجاءت
امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» وهي الغامدية «فقالت: يا رسول الله!
إني قد زنيت فطهرني. فردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله! لم تردني؟
لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً! فو الله إني لحبلى! قال:» إما لا، فاذهبي
حتى تلدي «، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته. قال:
» اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه «، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز
فقالت: هذا يا نبي الله! قد فطمته وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من
المسلمين، ثم أمر بها فحُفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن
الوليد بحجر فرمى رأسها، فتَنَضَّح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع النبي صلى الله
عليه وسلم سبَّه إياها فقال:» مهلاً! فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها
صاحب مكس لغُفر له « [29] ، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت، وفي رواية
أخرى:» لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل
وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى « [30] .
7 - الاغترار بكثرة العاصين: بمشاركتهم في المعصية ثم العقوبة، والظن
بأن ذلك ينفع، وقد نفى الله ذلك، فقال: [وَلَن يَنفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي
العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ] (الزخرف: 39) .
* علامات صحة التوبة:
هناك علامات كثيرة لصحة التوبة، من أبرزها:
1 - أن يكون العبد بعد التوبة خيراً منه قبلها؛ بحيث يكثر من عمل
الصالحات، ومصاحبة أهل العلم والخير والصلاح، ويحرص جداً على ترك
المعاصي والسيئات، والابتعاد عن أهل الزيغ والانحراف.
2 - أن لا يزال الخوف مصاحباً له لا يأمن من مكر الله طرفة عين، فخوفه
مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: [أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ] (فصلت: 30) .
3 - عظم ندمه وتحسر قلبه على ما فَرَط منه وخوفه من سوء عاقبته؛ لأن
من لم يتحسر قلبه ويندم على ما فرط في الدنيا تحسر في الآخرة إذا حقت الحقائق
وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بد من تقطُّع القلب إما في الدنيا وإما
في الآخرة.
* بواعث التوبة:
هناك دوافع كثيرة تساعد العبد على الإسراع في التوبة والتعجيل بها، ومن
ذلك:
1 - عموم الأمر بالتوبة والحث على تعجيلها: ومن ذلك قوله تعالى:
[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: 31) . وقوله عز
وجل: [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] (طه: 82) .
وقال صلى الله عليه وسلم:» إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار،
ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها « [31] .
2 - معرفة الإنسان لعلاقته بالزمن:
أ - الزمن هو الحياة: قال الحسن البصري:» يا ابن آدم: إنما أنت أيام
مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وإنما أنت بين راحلتين تنقلانك، ينقلك
الليل إلى النهار، وينقلك النهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة « [32] .
ب - أهمية استثمار العبد للحياة ليسعد: قال صلى الله عليه وسلم:» اغتنم
خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك،
وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك « [33] .
ج - الزمن الماضي لا يعود، ولكن يمكن محاسبة النفس على تفريطها فيه؛
بحيث يتذكر العبد أخطاءه وذنوبه في ماضيه، ليورثه ذلك ذلاً وانكساراً بين يدي
الله عز جل، فيندفع في مستقبله لاستثمار أيامه في طاعة الله عز وجل، والابتعاد
عن الذنوب والمعاصي التي يقع فيها؛ حتى لا يكون مستقبله شبيهاً بماضيه.
3 - الحياء من الله تعالى: باستشعار نعمه وعظيم فضله وجزيل عطاياه، ثم
مقارنتها بتقصير العبد وتفريطه في حق الله تبارك وتعالى، وهذه المعاني لما
اجتمعت في دعاء استحق أن يسمى (سيد الاستغفار) ، وهو أن يقول:» اللهم
أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت
أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي
فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت « [34] .
4 - الموت والمستقبل: يمكن للعبد أن ينوي استثمار مستقبله فيما يرضي الله
عز وجل، لكن تلك الإمكانية تبقى أمراً يمكن تحققه ويمكن عدم تحققه؛ لاعتبارات
كثيرة؛ أهمها: إمكانية مفاجأة الموت للعبد في أي لحظة؛ إذ قد يصبح ولا يمسي،
ويمسي ولا يصبح، وحين يدرك العبد ذلك فإن ذلك يحثه على المسارعة إلى تنفيذ
ما عزم عليه من توبة وتصحيح لواقع حياته. وفي هذا المعنى يقول الصحابي
الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:» إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا
أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك « [35] .
5 - التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول:
» يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة « [36] .
ويقول:» والله! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة «
[37] ، ويقول صلى الله عليه وسلم:» إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في
اليوم مائة مرة « [38] . وللعبد في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة،
قال الله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21) . وقد كان الصحابة رضي الله عنهم
يعدون له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قبل أن يقوم:» رب اغفر لي
وتب علي إنك أنت التواب الغفور «مائة مرة [39] . وما صلى صلاة قط بعد إذ
أنزلت عليه سورة: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] (النصر: 1) إلا قال فيها
صلى الله عليه وسلم:» سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي « [40] .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:» لن ينجي أحداً منكم عملُه. قالوا: ولا
أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل « [41] .
6 - مرافقة الأخيار: إذ المرء على دين خليله، ولذا قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه:» اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة « [42] . وقال محمد بن
كعب القرظي:» التوبة يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع
بالأبدان، وإضمار ترك العَود بالجَنان، ومهاجرة سيء الإخوان « [43] .
7 - الاقتداء بالسلف الصالح: نظراً لعظم الذنب وشناعته فقد أدرك السلف
أهمية التوبة، وقد روي عن الصحابة الكرام الشيء الكثير، ومن ذلك:
أ - عن خالد اللجلاج أن اللجلاج أباه أخبره:» أنه كان قاعداً يعمل في
السوق، فمرت امرأة تحمل صبياً فثار الناس معها وثرت فيمن ثار، فانتهت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من أبو هذا معك؟» فسكتت، فقال
شاب حذْوَها: أنا أبوه يا رسول الله. فأقبل عليها فقال: «من أبو هذا معك؟»
قال الفتى: أنا أبوه يا رسول الله. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض
من حوله يسألهم عنه، فقالوا: ما علمنا عنه إلا خيراً، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم له: «أحصنت؟» قال: نعم. فأمر به فرُجم، قال: فخرجنا به فحفرنا له
حتى أمكنا، ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ، فجاء رجل يسأل عن المرجوم، فانطلقنا
به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: هذا جاء يسأل عن الخبيث. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «لهو أطيب عند الله من ريح المسك» ، فإذا هو أبوه!
فأعنَّاه على غسله وتكفينه ودفنه وما أدري قال: والصلاة عليه أم لا « [44] .
ب - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:» جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة،
وإني أصبت منها دون أن أمسها، فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت. فقال له عمر: لقد
سترك الله لو سترت نفسك. قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقام
الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية:
[وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ
ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] (هود: 114) ، فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له
خاصة قال: «بل للناس كافة» [45] .
ج - قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، فقدم النبي صلى الله عليه
وسلم فسألهم عن سبب تخلفهم، فصدقوا في قولهم وأنهم لا عذر لهم، فقاطعهم النبي
صلى الله عليه وسلم خمسين يوماً، ونهى المسلمين عن كلامهم حتى زوجاتهم،
حتى أنزل الله توبتهم، ونزل فيهم قوله عز وجل: [لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا
ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ
إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] (التوبة: 117-118)
[46] .
د - عن سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! طهرني. فقال: «ويحك، ارجع
فاستغفر الله وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله!
طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيم أطهرك؟» فقال: من الزنا، فسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبِهِ جنون؟» فأُخبر أنه ليس بمجنون. فقال:
«أشرب خمراً؟» فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول
الله: «أزنيت؟» فقال: نعم. فأمر به فرُجم، فكان الناس فيه فرقتين: قائل
يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة
ماعز؛ أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني
بالحجارة! قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: «استغفروا لماعز بن مالك» قال: فقالوا:
غفر الله لماعز بن مالك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب توبة
لو قسمت بين أمة لوسعتهم» [47] .
وختاماً: إن هذا الواجب الكبير ليس يستغنى عنه عبد، ولا يعذر في تركه
فرد، ولن يقوم شأن الأمة ما لم يبادر الأفراد إلي أداء واجباتهم، والتوبة مما فرطوا
فيه في حق الله تعالى، بدلاً من التلاوم وإلقاء التبعات على الآخرين؛ تهرباً من
المسؤولية، وهل الأمة إلا مجموع أفرادها؟! نسأل الله سبحانه بمنِّه وكرمه العون
والسداد، وأن يجود علينا بالنصر لدينه والمؤمنين، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) البخاري، رقم 6502.
(2) البخاري، رقم 3470.
(3) مدارج السالكين، ابن القيم، 1/ 199.
(4) ابن ماجه، رقم 4250، وحسنه الألباني.
(5) الترمذي، رقم 1987، وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني.
(6) أحمد، رقم 21487، وقال محققه: حسن لغيره.
(7) مسلم، رقم 1890.
(8) المعجم الكبير، للطبراني، رقم 7235، وقال عنه المنذري في الترغيب والترهيب، 4/ 113، وهذا إسناد جيد قوي.
(9) الترمذي، رقم 3334، وقال حسن صحيح، وحسنه الألباني.
(10) مسلم، رقم 2759.
(11) مسلم، رقم 758، ابن ماجه، رقم 1367، واللفظ له.
(12) الطبراني في الكبير، رقم 7383، وصححه النووي في شرحه لمسلم: 17/40.
(13) مسلم، رقم 2747.
(14) ابن ماجه، رقم 4248، وحسنه الألباني.
(15) ابن ماجه، رقم 4251، وحسنه الألباني.
(16) مسلم، رقم 2985.
(17) مسلم، رقم 1718.
(18) جامع العلوم والحكم: 1/ 59.
(19) الإبانة الكبرى، لابن بطة: 1/ 333.
(20) ابن ماجه، رقم 4252، وصححه الألباني.
(21) الطبراني في الأوسط، رقم 8689، وقال الهيثمي في المجمع: (10/200) ، إسناده جيد.
(22) البخاري، رقم 7507، مسلم، رقم 2758، واللفظ له.
(23) الترمذي، رقم 3537، وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني.
(24) مسلم، رقم 2703.
(25) الطبراني في الكبير، رقم 10478، وذكر المنذري في الترغيب والترهيب: (4/ 89) بأن إسناده جيد.
(26) الترمذي، رقم 2307، وقال: حسن صحيح، ووافقه الألباني.
(27) البخاري، رقم 6308.
(28) الترمذي، رقم3540، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني.
(29) مسلم، رقم 1695.
(30) مسلم، رقم 1696.
(31) أحمد، رقم 19619، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(32) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي، 60.
(33) الحاكم في مستدركه، رقم 8688، وصححه الألباني.
(34) البخاري، رقم 3606.
(35) البخاري، رقم 6416.
(36) مسلم، رقم 2702.
(37) البخاري، رقم 6307.
(38) مسلم، رقم 2702.
(39) الترمذي، رقم 3434، وقال (حسن غريب) ، وصححه الألباني.
(40) البخاري، رقم 4968، وأحمد، رقم 3745.
(41) البخاري، رقم 6463، وأحمد، رقم 10614، واللفظ له.
(42) إحياء علوم الدين، للغزالي، 4/ 15.
(43) مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 310.
(44) أبو داود، رقم 4435، وحسن الألباني إسناده.
(45) مسلم، رقم 2763.
(46) مسلم، رقم 2769.
(47) مسلم، رقم 1695.(186/18)
دراسات في الشريعة
من فقه الجهاد
الفرار من الزحف من كبائر الذنوب
الأمين الحاج محمد أحمد [*]
الحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيل الله رهبانية الإسلام، وذروة سنامه،
فأعزَّ به المؤمنين وأكرمهم، وأذلَّ به الشرك والمشركين وأهانهم.
فالجهاد في سبيل الله بنوعيه: جهاد الطلب، والدفاع ماض إلى يوم القيامة،
وما ترك المسلمون جهاد الكفار والمنافقين وركنوا إلى الدنيا إلا ذلوا وهانوا على
أعدائهم: «إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة [1] ، واتبعوا أذناب
البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى
يراجعوا دينهم» [2] .
فجُلُّ المسلمين اليوم مفرطون إلا من يباشر الجهاد بنفسه أو ماله وينوي الغزو
منهم لتركهم فريضة الجهاد وركونهم إلى الدنيا فاستبدلوا الذي هو أدنى، بالذي هو
خير، فسلَّط الله عليهم أعداءهم فساموهم سوء العذاب، فقتلوا أبناءهم ونساءهم،
واستباحوا حرماتهم، واغتصبوا أراضيهم وممتلكاتهم، وتركوهم في حال لا
يحسدون عليها أبداً:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
لم يكتف المسلمون اليوم بترك جهاد الطلب الذي هو أسُّ الجهاد، بله تقاعسوا
وتخاذلوا عن نصرة إخوانهم المضطهدين في دينهم، المحارَبين في أوطانهم
وديارهم، المسلوبة حقوقهم، المهانة كرامتهم، المستذلة حرماتهم، كما هو الحال
في فلسطين، وأفغانستان، وكشمير، والهند، وغيرها من بلاد المسلمين، بل
لم يكتفوا بالخذلان والوقوف متفرجين على إخوانهم المغلوبين، وإنما حارب بعضهم
جنباً إلى جنب مع الكفار، وتجسسوا على إخوانهم، كما حدث في أفغانستان،
وقدموا تسهيلاتهم لقوات العدو ليقضوا على دولة الطالبان.
أرجو أن تقارن أخي المسلم بين حالنا وحال سلفنا في هذا المضمار، لترى
البون الشاسع والفرق الواسع بين حال الناس اليوم وحالهم بالأمس، وبين جيوش
اليوم ومجاهدي الأمس.
عندما وصل القائد المسلم عقبة بن نافع - رحمه الله - المحيط الأطلسي، بعد
أن فتح كل شمال إفريقيا، قال: «يا رب! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد
مجاهداً في سبيلك» ، ثم قال: «اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا
البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله حتى لا يُعبد أحد من دونك» ، ثم وقف
ساعةً وقال لأصحابه: ارفعوا أيديكم؛ ففعلوا، فقال: «اللهم! إني لم أخرج بطراً
ولا أشراً، وإنك لتعلم إنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن
تُعبد ولا يُشرك بك شيء، اللهم! إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين
الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا، يا ذا الجلال والإكرام!» ، ثم انصرف راجعاً
[3] .
وعندما نادت المرأة المسلمة المعتصم بدار السلام «بغداد» وهي بعمورية
«أنقرة» وقالت: «وامعتصماه» ، قال لها: لبيك يا أَمَةَ الله. ولبس لأْمته [4] ،
وعبَّأ جيوشه، وذهب لخلاصها من الأسر، وضمَّ تلك الرقعة إلى الدولة الإسلامية.
وما فعله المعتصم العباسي فعله الخليفة الأموي الحكم بن هشام بالأندلس،
عندما استغاثت به امرأة كذلك في ناحية وادي الحجارة بالأندلس قائلة: «واغوثاه
يا حكم! قد ضيعتنا وأسلمتنا واشتغلت عنا، حتى استأسد العدو علينا» . فلما وفد
عباس إلى الحكم وهو أحد عماله رفع إليه شعراً يستصرخه فيه، ويذكر قول المرأة
واستصراخها به، وأنهى إليه عباس ما عليه الثغر من الوهن والْتياث الحال، فرثى
الحكم للمسلمين، وحَمِيَ لنصر الدين، وأمر بالاستعداد للجهاد، وخرج غازياً
لأرض الشرك، فأوغل في بلادهم، وافتتح الحصون، وهدم المنازل، وقتل كثيراً،
وأسر كذلك، وقفل على الناحية التي كانت فيها المرأة، وقال لأهل تلك الناحية
وللمرأة: هل أغاثكم الحكم؟ قالوا: شفى واللهِ الصدورَ، ونكى في العدو، وما
غفل عنا؛ إذ بلغه أمرنا، فأغاثه الله وأعزَّ نصره [5] .
فمَنْ للمستغيثات والمستغيثين في فلسطين، وأفغانستان، وكشمير، والهند؟
فليستغيثوا بمن شاؤوا من المسلمين، ولكن ليس لهم مغيث إلا الله، ولله درُّ القائل:
ربَّ وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه الضحايا اليُتَّم
لامست أسماعهم لكنها ... لم تلامس نخوة المعتصم
وبعدُ؛ فهذا تحذير ووعيد، ونهي شديد، وتغليظ أكيد، من الفرار من
الزحف، وتولي الأدبار، وخذلان الأخيار، عن حكم ذلك ووزره، وما ورد فيه
من أدلة، إلا في بعض الحالات التي أذن الشرع بالتولي فيها.
واللهَ أسأل أن يوفق المجاهدين في سبيله، وأن يجعل جهادهم خالصاً لوجهه
الكريم، ولنصرة هذا الدين، وأن يسدد سهامهم وآراءهم، ويخذل أعداءهم ومن
والاهم.
* حكم الفرار من الزحف وتولي الأدبار:
الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر العظام، لما فيه من الخذلان البين
والخطر العظيم على الإسلام والمسلمين، ولهذا ورد فيه من التغليظ والتهديد ما ورد،
وقد أجمعت الأمة على تحريمه إلا بشروط معينة وأسباب واضحة.
* الأدلة على تحريمه:
من القرآن الكريم:
قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ
الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ
مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (الأنفال: 15-16) .
وقوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال:
65-66) .
وقال: [قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّه] (البقرة:
249-251) .
من السنة المطهرة:
الأدلة على تحريم الفرار والتولي من الزحف من السنة، ما يأتي:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«اجتنبوا السبع الموبقات [6] ! قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله،
والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،
والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» [7] .
- سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، قال: «الإشراك بالله،
وقتل النفس المسلمة، وفرار يوم الزحف» [8] .
- وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده رضي الله
عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: «وإن أكبر الكبائر عند الله يوم
القيامة الإشراك بالله ... والفرار في سبيل الله يوم الزحف» [9] .
- روى عبد الله بن المبارك بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال:
«الجريء كل الجريء الذي إذا حضر العدو ولى فراراً، والجبان كل الجبان الذي
إذا حضر العدو حمل فيهم حتى يكون منه ما يشاء الله. فقيل: يا أبا هريرة!
كيف هذا؟ قال: إن الذي يفر اجترأ على الله عز وجل، وإن الجبان فَِرقَ [10]
من الله عز وجل» .
* فالتولي يوم الزحف لا يجوز إلا في بعض الحالات منها:
1 - أن يكون متحرِّفاً لقتال، والتحرف: الزوال والتحرك عن مواجهة العدو.
2 - أو متحيزاً إلى فئة، أي منضماً إلى جماعة المسلمين، قريبة كانت هذه
الجماعة أم بعيدة.
* الوعيد الوارد في الفرار من الزحف: هل هو خاص بيوم بدر أم عام؟
قولان لأهل العلم، الراجح منهما أنه عامٌّ إلى يوم القيامة، وهذا مذهب
الجمهور، مالك، والشافعي، وأكثر العلماء؛ لأن الآية: [إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا]
(الأنفال: 45) نزلت بعد بدر.
وذهب بعض أهل العلم منهم أبو سعيد الخدري، ونافع، والحسن، وقتادة،
وهو مذهب أبي حنيفة، أن هذا الوعيد خاص ببدر.
* من أقوال العلماء في ذلك:
قال أبو زكريا النحاس رحمه الله: «اعلم أن الفرار من الزحف حيث لا
يجوز من أعظم كبائر الذنوب عند الله تعالى بإجماع العلماء، وفاعله مستحق
لغضب الله ومقته، وأليم عذابه، وقد ورد في الترهيب من ذلك والتحذير من فعله
جملة أحاديث» [11] .
قال ابن قدامة رحمه الله: «وجملته أنه إذا التقى المسلمون والكفار، وجب
الثبات، وحرم الفرار بدليل قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ] (الأنفال: 15) ، وحكي عن الحسن والضحاك أن هذا
كان يوم بدر خاصة، ولا يجب في غيرها، والأمر مطلق، وخبر النبي صلى الله
عليه وسلم عام؛ فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا بدليل، وإنما يجب الثبات
بشرطين: أحدهما: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين، فإن زادوا
عليه جاز الفرار، لقوله تعالى: [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن
يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] (الأنفال: 66) ، وهذا إن كان لفظه لفظ
الخبر فهو أمر بدليل قوله: [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ] ولو كان خبراً على حقيقته لم
يكن ردُّنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفاً، ولأن خبر الله تعالى
صدق لا يقع بخلاف مخبره، وقد عُلم أن الظفر والغلبة لا تحصل للمسلمين في كل
موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون، فعلم أنه أمر وفرض، ولم يأت
شيء ينسخ هذه الآية، لا في كتاب ولا سنة، فوجب الحكم بها.
قال ابن عباس: نزلت [إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]
(الأنفال: 65) ، فشقَّ ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من
عشرة، ثم جاء تخفيف فقال: [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ] إلى قوله: [يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]
فلما خفف الله عنهم في العدد، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد، رواه
أبو داود [12] . وقال ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما
فر.
الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة، ولا ليتحرف لقتال: فإن قصد
أحد هذين، فهو مباح له لقول الله تعالى: [إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة]
(الأنفال: 16) . ومعنى التحرف لقتال، أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه
أمكن، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما، أو من نزلة
إلى علو، أو من معطشة إلى موضع ماء، أو يفر من أيديهم لتنتقض صفوفهم أو
تنفرد خيلهم من رجالاتهم. أو ليجد فيهم فرصته، أو ليستند إلى جبل، ونحو ذلك
مما جرت به عادة أهل الحرب.
* لا فرق في هذا بين أن يكون الجهاد فرض عين أم فرض كفاية:
الفرار من الزحف من أكبر الكبائر، وأعظم العظائم، وهو من المهلكات
الموبقات، سواء كان الجهاد فرض عين أو فرض كفاية، طالما أن المرء شهد
القتال، ووقف في الصف.
قال النحاس - رحمه الله -:» اعلم أن الجهاد إذا كان فرض كفاية على
الإنسان ثم حضر الصف صار عليه فرض عين، وحرم عليه الفرار، وإنما يحرم
الفرار إذا لم يزد عدد الكفار على المثلين، فإن فر متحرفاً لقتال كمن ينصرف
ليكمن في موضع ويهجم أو يكون في مضيق فينصرف ليتبعه العدو إلى متسع يسهل
القتال فيه ... وكذلك إذا فر متحيزاً إلى فئة يستنجد بها جاز، وسواء كانت تلك
الفئة قليلة أو كثيرة قريبة أو بعيدة على الصحيح. ومن عجز بمرض أو نحوه، أو
لم يبق معه سلاح فله الانهزام إن لم يمكنه الرمي بالحجارة، فإن أمكنه الرمي
بالحجارة حرم عليه الانهزام على الأصح، ويسن لمن وقع له شيء من الأعذار
وأراد أن يولي، أن يولي متحرفاً أو متحيزاً، ولو مات فرسه وهو لا يقدر على
القتال راجلاً فله الانهزام، ولو غلب على ظنه أنه إن ثبت قتل لم يجز له الانهزام
على الصحيح، وإن زاد عدد الكفار على المثلين جاز الانهزام، وإن كانوا رجالة
والمسلمون فرساناً، فلو كان المسلمون رجالة والكفار فرساناً حرمت الهزيمة « [13] .
* حكم الفرار إذا كان عدد المسلمين أكثر من اثني عشر ألفاً:
ذهب أهل العلم في حِل الفرار إذا كان عدد المسلمين اثني عشر ألفاً أو أكثر
مذهبين:
1 - يجوز الفرار إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعفي عدد المسلمين، للأدلة
السابقة.
2 - لا يجوز الفرار لما روي عنه صلى الله عليه وسلم:» ولن يغلب اثنا
عشر ألفاً من قلة «، وهذا مذهب العمري [14] الزاهد، وروي عن مالك - رحمهما
الله -، والحديث فيه متروك لا يحتج به، فالصواب القول الأول.
قال القرطبي - رحمه الله -:» قال ابن القاسم - رحمه الله -: ويجوز
الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفاً، فإن
بلغ اثني عشر ألفاً لم يحل لهم الفرار، وإن زاد عدد المشركين على الضعف لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة» فإن أكثر
أهل العلم خصّصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية. قلت: رواه أبو بشر
وأبو سلمة العاملي، وهو الحكم بن عبد الله بن خُطَّاف، وهو متروك، قال: حدثنا
الزهري عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أكثم بن
الجَوْن اغزُ مع غير قومك يحسن خلقك، وتكرم على رفقائك، يا أكثم بن الجَوْن!
خير الرفقاء أربعة، وخير الطلائع أربعون، وخير السرايا أربعمائة، وخير
الجيوش أربعة آلاف، ولن يُؤتى اثنا عشر من قلة» [15] . وروي عن مالك ما
يدل على ذلك من مذهبه، وهو قول للعمري العابد إذ سأله: هل لك سعة في ترك
مجاهدة من غيَّر الأحكام وبدَّلها؟ فقال: إن كان معك اثنا عشر ألفاً فلا سعة لك في
ذلك « [16] .
* الخلاصة:
إن الفرار من الزحف والتولي منه من عظائم الأمور الجالبة للشرور في
الدارين، وأن الإقدام في حرب العدو والثبات في الصف لن يقدم الأجل، وأن
الفرار من ذلك لا يؤخره. ورضي الله عن خالد بن الوليد ذلك البطل المغوار
والمجاهد الشجاع، حيث قال عندما حضرته الوفاة:» لقد خضت عشرين زحفاً،
وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح، أو ضربة بسيف، وها أنا أموت
على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء «أو كما قال.
وقد رُخّص للمسلمين إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعفي عدد المسلمين، في
التحيز إلى فئة، قريبة كانت أم بعيدة، أو التحرف لقتال، ولكن الأفضل والأحسن
الأخذ بالعزيمة والثبات مهما بلغ عدد الكفار وعتادهم؛ لأن النصر من عند الله
سبحانه وتعالى لمن كان في ثباته نكاية بالكفار، أو احتمال فتح للمسلمين، وإن لم
يكن إلا أن ينال الشهادة مقبلاً غير مدبر، لكفاه فخراً، وإعزازاً، ورفعة؛ والله
أعلم.
اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر
على الأعداء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على سيد
ولد آدم أجمعين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين.
__________
(*) أستاذ بجامعة أفريقيا العالمية.
(1) أن يشتري السلعة بدين إلى أجل ثم يبيعها لمن اشتراها منه بأقل من الثمن الذي اشترى به.
(2) حسن، كما جاء في فيض القدير، 1/397، رواه أحمد، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان.
(3) الكامل، لابن الأثير، 3/ 308 - 309.
(4) اللأْمة: الدرع.
(5) البيان المغرب، 2/ 72.
(6) المهلكات.
(7) متفق عليه، مسلم رقم 89.
(8) أحمد والنسائي.
(9) أخرجه ابن حبان في صحيحه.
(10) فَرِقَ بكسر الفاء يعني خاف وثبت.
(11) مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام، للنحاس، 1/ 566.
(12) رواه أبو داود، 2 / 43 في الجهاد.
(13) مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، 1/ 569.
(14) عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أزهد أهل زمانه، مات 184هـ.
(15) قال الألباني في ضعيف الجامع الصغير، رقم 6394، ضعيف جداً، وقال المعلق: قد صح منه جله فانظره في الصحيح، 7727، ضعيف الجامع الصحيح، 3/ 98.
(16) الجامع لأحكام القرآن، 4/ 372.(186/26)
دراسات في الشريعة
تأثير إلغاء سعر الفائدة في المجتمع
(2 ـ 2)
عدنان بن جمعان الزهراني
adnanzhrani@hotmail.com
قدَّم الكاتب في الحلقة السابقة مشروع (إلغاء سعر الفائدة) إلى مجلس
الشورى في مدينة (ندى) التي تصورها في خياله، وبدأ بتقديم مسوغات المشروع،
والتي تمثلت في: توفير فرص عمل جديدة، وتشجيع الاستثمار، والحد من
الغلاء، والمحافظة على قوة العملة، وتحقيق الاستقرار في الأسواق، وقبل كل
ذلك رفع المقت الإلهي؛ من خلال إغلاق باب كبير من أبواب الحرب لله ولرسوله
صلى الله عليه وسلم.
ثم قام الكاتب بعرض مشروعه، وتقديم الأمثلة والبراهين المستقاة من الواقع،
والتي تؤكد أن سعر الفائدة هو أحد أهم عوامل البطالة والتضخم في المجتمع؛
مبيناً في الوقت نفسه حال المجتمع عند إلغاء سعر الفائدة، مستنداً في كل ذلك إلى
دراسات عدد من العلماء والخبراء في مجال الاقتصاد.
وفي هذه الحلقة يستعرض الكاتب مداخلات الأعضاء، ثم تصويت المجلس
على المشروع..
ثالثاً: مداخلات الأعضاء.
أ - مداخلة الدكتور حمدان.
أخي عدنان: لدي سؤال أرغب في الإجابة عنه: وهو: أليس ما يسمى
(سعر الفائدة) هو الربا بعينه ولكن باسم جديد؟
أجاب عدنان: الجواب: بلى.
حمدان: فلماذا هذا البحث، وسيقرر مجلسنا منعه تماماً في جميع التعاملات
البنكية؛ لأننا نملك دستوراً شرعياً لا يقر شيئاً يخالف الشرع، فهو أمر ليس مما
يدخل تحت طائلة سلطة مجلسنا؛ لأنه فوقها بموجب دستورنا.
أجاب عدنان: هذا صحيح، ولكننا نجد من أهل العلم مَنْ قبل مثل تلك
التعاملات، ولم يرها من الربا في شيء، وفي مثل هذه الحالة كما هو مقرر في
نظام مجلسنا فإن من حق المجلس اتخاذ قرار في كل ما اختلفت فيه وجهات نظر
العلماء، وخاصة أننا نشهد أن تلك التعاملات موجودة في مجتمعنا لعدم وجود قرار
يخصها، وليس لدى السلطة التنفيذية شيئاً تعتمد عليه في إيقاف مثل تلك التعاملات،
خصوصاً في ظل قاعدتنا الدستورية التي تقول: (الأصل صحة ما يفعل المرء
وجوازه؛ ما لم يرد ما يوجب البطلان أو التحريم) ، وهذا في باب العادات
والمعاملات، فليس لدينا من الوسائل الدستورية ما نمنع به مثل ذلك التعامل ما لم
يُصدر مجلسنا قراراً بهذا الشأن. ثم ومن خلال الواقع سنجد مَنْ يحتجّ ببعض
الفتاوى الصادرة من جهات معترف بها رسمياً تجيز مثل ذلك التعامل، والناس
سيجدون مسوِّغاً للعمل بتلك الفتوى، وهو ما لا حرج عليهم فيه؛ لأنهم ليس لديهم
من العلم ما يميزون به بين البيع والربا، ولكن هذا المجلس حين تتضح له الصورة
سيملك اتخاذ القرار الملزم عملياً حيال ذلك.
ب - مداخلة المستشار محمد.
الأخ عدنان: لقد وصلتني فتوى صادرة عن مجمع البحوث الإسلامية تجيز
الاستثمار مع ضمان نسبة ربح، وأعرض عليك السؤال مع إجابته كما وصلتني من
أحد الأصدقاء، وهي كما يأتي:
فتوى مجمع البحوث الإسلامية
حول استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدماً
بقلم: الدكتور / محمد سيد طنطاوي - شيخ الأزهر
بعث الدكتور حسن عباس زكي رئيس مجلس إدارة بنك الشركة المصرفية
العربية الدولية، كتاباً بتاريخ 22/10/2002م إلى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور
محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، وهذا نصه:
(حضرة صاحب الفضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن عملاء بنك الشركة المصرفية
العربية الدولية يقدمون أموالهم ومدخراتهم للبنك الذي يستخدمها ويستثمرها في
معاملاته المشروعة مقابل ربح يُصرف لهم، ويُحدد مقدماً في مدد يتفق مع العميل
عليها، ونرجو الإفادة عن الحكم الشرعي لهذه المعاملة.
... ... ... رئيس مجلس الإدارة / دكتور حسن عباس زكي) .
وقد أحال فضيلة الإمام الأكبر الكتاب ومرفقه للعرض على مجلس مجمع
البحوث الإسلامية في جلسته القادمة.
وعقد المجلس جلسته في يوم الخميس 25/8/1423هـ الموافق 31/10/
2002م، وعرض عليه الموضوع المذكور، وبعد مناقشات الأعضاء ودراستهم
قرر المجلس: الموافقة على أن استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدماً
حلال شرعاً ولا بأس به.
ولما لهذا الموضوع من أهمية خاصة لدى المواطنين الذين يريدون معرفة
الحكم الشرعي في استثمار أموالهم لدى البنوك التي تحدد الربح مقدماً، وقد كثرت
استفساراتهم عن ذلك؛ فقد رأت الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية أن تعد
الفتوى بالأدلة الشرعية، وخلاصة أقوال أعضاء المجمع؛ حتى تقدم للمواطنين
صورة واضحة كاملة تطمئن إليها نفوسهم.
وقد قامت الأمانة بعرض نص الفتوى بصيغتها الكاملة على مجلس مجمع
البحوث الإسلامية في جلسته المنعقدة في يوم الخميس 23/9/1423هـ الموافق
28/11/2002م، وبعد قراءتها ومداخلات الأعضاء في صياغتها تمت موافقتهم
عليها.
وهذا نص الفتوى:
(الذين يتعاملون مع بنك الشركة المصرفية العربية الدولية أو مع غيره من
البنوك، ويقومون بتقديم أموالهم ومدخراتهم إلى البنك ليكون وكيلاً عنهم في
استثمارها في معاملاته المشروعة، مقابل ربح يُصرف لهم ويُحدد مقدماً في مدد
يتفق مع المتعاملين معه عليها. هذه المعاملة بتلك الصورة حلال ولا شبهة فيها؛
لأنه لم يرد نص في كتاب الله أو من السنة النبوية يمنع هذه المعاملة التي يتم فيها
تحديد الربح أو العائد مقدماً؛ ما دام الطرفان يرتضيان هذا النوع من المعاملة.
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن
تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ] (النساء: 29) . أي: يا من آمنتم بالله حق
الإيمان! لا يحل لكم ولا يليق بكم أن يأكل بعضكم مال غيره بالطرق الباطلة التي
حرمها الله تعالى؛ كالسرقة، أو الغصب، أو الربا، أو غير ذلك مما حرمه الله
تعالى، لكن يباح لكم أن تتبادلوا المنافع فيما بينكم عن طريق المعاملات الناشئة عن
التراضي الذي لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ سواء أكان هذا التراضي فيما بينكم
عن طريق التلفظ أم الكتابة أم الإشارة أم بغير ذلك مما يدل على الموافقة والقبول
بين الطرفين.
ومما لا شك فيه أن تراضي الطرفين على تحديد الربح مقدماً من الأمور
المقبولة شرعاً وعقلاً حتى يعرف كل طرف حقه.
ومن المعروف أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد
مقدماً؛ إنما تحددها بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع
الاقتصادية في المجتمع، ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها.
ومن المعروف كذلك أن هذا التحديد قابل للزيادة والنقص؛ بدليل أن شهادات
الاستثمار بدأت بتحديد العائد 4%، ثم ارتفع هذا العائد إلى أكثر من 15%، ثم
انخفض الآن إلى ما يقرب من 10%. والذي يقوم بهذا التحديد القابل للزيادة أو
النقصان؛ هو المسؤول عن هذا الشأن، طبقاً للتعليمات التي تصدرها الجهة
المختصة في الدولة.
ومن فوائد هذا التحديد لا سيما في زماننا هذا الذي كثر فيه الانحراف عن
الحق والصدق أن في هذا التحديد منفعة لصاحب المال، ومنفعة أيضاً للقائمين على
إدارة هذه البنوك المستثمرة للأموال.
فيه منفعة لصاحب المال؛ لأنه يعرفه حقه معرفة خالية عن الجهالة،
وبمقتضى هذه المعرفة ينظم حياته.
وفيه منفعة للقائمين على إدارة هذه البنوك؛ لأن هذا التحديد يجعلهم يجتهدون
في عملهم وفي نشاطهم؛ حتى يحققوا ما يزيد على الربح الذي حددوه لصاحب
المال، وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم حقاً خالصاً لهم
في مقابل جدهم ونشاطهم.
وقد يقال: إن البنوك قد تخسر؛ فكيف تحدد هذه البنوك للمستثمرين أموالهم
عندها الأرباح مقدماً؟
والجواب: إذا خسرت البنوك في صفقة ما فإنها تربح في صفقات أخرى،
وبذلك تغطي الأرباح الخسائر، ومع ذلك فإنه في حالة حدوث خسارة فإن الأمر
مرده إلى القضاء.
والخلاصة أن تحديد الربح مقدماً للذين يستثمرون أموالهم عن طريق الوكالة
الاستثمارية في البنوك أو غيرها حلال ولا شبهة في هذه المعاملة؛ فهي من قبيل
المصالح المرسلة، وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز التغيير أو التبديل
فيها، وبناء على ما سبق فإن استثمار الأموال لدى البنوك التي تحدد الربح أو العائد
مقدماً حلال شرعاً ولا بأس به، والله أعلم.
... ... ... ... ... ... 27/9/1423هـ 2/12/2002م) .
انتهى السؤال ونص الفتوى.
ثم عقب محمد قائلاً: فما جوابك عن هذه الفتوى التي تجيز ما ترغب من
خلال دراستك منعه، وبقرار من مجلسنا، وتجادل في قوة ملحوظة أن مثل ذلك
التعامل من الربا المحرم؟
وأجاب عدنان: أخي المستشار محمد: ليست هذه الفتوى جديدة في قول
الدكتور سيد طنطاوي، وإن كانت جديدة من حيث صدورها من قِبَل مجمع البحوث،
وقد سبق لي الاطلاع عليها؛ بيد أن هناك وقفات سأذكرها مع تلك الفتوى.
الوقفة الأولى: إني أبدأ بشكري لأصحاب الفضيلة والسعادة الذين صادقوا
على الفتوى، ونحن نقول لهم إن الاختلاف لا يفسد للودِّ قضية، ومن حقهم النظر
إلى المسألة من الجهة التي يريدون، ولكن لدى الاختلاف يُرد الأمر إلى الكتاب
العظيم والسنة المطهرة، ونسلم أن مسألتنا ليست مما وضح أمره حتى نراه ظاهراً
في الكتاب والسنة، بل لقد أخرج مسلم (4 / 2322) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
«خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ
قَالَ: ... ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ وَدِدْتُ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ
عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهَا: الْجَدُّ، وَالْكَلاَلَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» . كما أخرج أحمد
(1/ 36) وغيره عَنْ سَعِيدِ بْن ِالْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ
الْقُرْآنِ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا، فَدَعُوا
الرِّبَا وَالرِّيبَةَ» . وإسناده لا ينزل عن درجة الحسن، فإذا كان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يجد ذلك - أي عدم وضوح مفهوم الربا -؛ مما حمله على ترك
كثير من أبواب الحلال خوفاً من الربا، قال رضي الله عنه: «تركنا تسعة أعشار
الحلال مخافة الربا» ، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه مرسلاً عن عمر رضي الله
عنه، وفي النفس شيء من الاحتجاج به على الرغم من أنه من مراسيل الشعبي
عامر بن شراحيل، وقد قال عنها في معرفة الثقات (2 / 12) نقلاً عن العجلي:
«لا يكاد يرسل إلا صحيحاً» ، أقول ولكنها مرسلة على كل حال، ودون الجزم
باتصالها خرط القتاد، إلا أن تلك النصوص تحملنا على عذر المخالف في مثل هذه
الأبواب، مع يقيننا الجازم بأن الحق لا بد من ظهوره، وخاصة في صدد ما عنه
نتحدث، قال ابن حزم في المحلى (8 / 477) معلقاً على ما سبق ذكره عن عمر
رضي الله عنه: (حاش لله من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين
الربا الذي توعد فيه أشد الوعيد، والذي أذن الله تعالى فيه بالحرب، ولئن كان لم
يبينه لعمر فقد بينه لغيره، وليس عليه أكثر من ذلك، ولا عليه أن يبين كل شيء
لكل أحد، لكن إذا بينه لمن يُبلِّغه فقد بلَّغ ما لزمه تبليغه) أهـ.
ولهذا على أهل العلم دراسة ما يعرض لهم من وقائع جازمين بوجود تشريع
إسلامي يخصها؛ لقوله تعالى: [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء] (الأنعام:
38) ، ولقوله تعالى: [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ] (الأنعام: 119) ، وهذا
أصل عليه يعوِّلون في دراساتهم؛ بيد أنهم حين لا يجدون جواباً شافياً يحصل لهم
به الجزم بحكم شرعي، فليس عليهم سوى التوقف، حين لا يطمئن الواحد منهم
للجزم بالرجوع إلى الأصل الكلي الذي نعلم به صحة كل فعل صدر من الإنسان
وجوازه، وهنا لست أجد أدنى ريبة في أن تلك المعاملة من الربا الذي نهى الله عنه،
مع حملي قول المخالف على حسن الظن، وبيان قولي فيما يأتي:
الوقفة الثانية: نجد من خلال ما سبق شرحه في الدراسة أن الربح المحدد
بنسبة ثابتة يُوجد عبئاً ثقيلاً على المجتمع بأكمله، وهو جدير بالمنع لهذا السبب؛
حتى لو لم نسمِّه ربا، فما قولكم ونحن نجزم أنه من الربا الذي حرم الله تعالى؛
لأن ما يدفعه الناس لتلك الجهات الاستثمارية من بنوك ونحوها ليس سوى صرف
[1] أُلبس ثوب الاستثمار؛ لأنهم يدفعون نقودهم ويأخذون بدلها وليس في نيتهم
الارتفاق ولا التعاون على البر والتقوى، بل هو بيع للعملة مع اشتراط زيادة محددة
من قِبَلهم أو من قِبَل غيرهم، فصارت تلك المعاملة صرفاً ولو سموها استثماراً،
فهم لا يريدون سوى تلك النقود، وليس في تصورهم ما يسمى استثماراً أصلاً؛ لأن
الرجل منهم يدفع كمثال 10000 دولار في إحدى مجالاتهم الاستثمارية، ويعلم أنه
سيأخذ بدلها بعد عام 11000 دولار، فقل لي بالله عليك: ما الفرق بين هذا وبين
رجل أعطى آخر 10000 دولار، ليرد بدلها تماماً بعد أجل، ولكن مع زيادة
10 %، كنسبة مشروطة؟
إنهما في كلا الحالتين لم يفكرا إلا في مردود الـ 10000 دولار ليس غير،
وفَقَدَ النقد ما من أجله وُجد؛ حيث صار غاية في ذاته دون دخول ملموس إلى
السوق [2] .
فالقول في الحالتين لا يختلف من حيث الحكم الشرعي، والمعاملة صرف ولو
سميت استثماراً، ومن شرط الصرف التقابض في مجلس العقد [3] ، وهنا لم يحدث
التقابض، فهو من الربا وإن لم تكن زيادة؛ فما قولنا وقد تم تحديد زيادة
مشروطة [4] ؟
قال المستشار محمد: لماذا لا نعتبرها مضاربة، والبنك ليس سوى شريك
مضارب مع المستثمر رب المال؟
أجاب عدنان: بداية؛ البنك لم يجعل من نفسه مضارباً، وليس في عقودهم
ما يحدد وضع البنك في تلك العقود، سوى أنه ليس أكثر من جهة تأخذ كذا،
وسترد كذا بعد كذا، ولا يهمه وصف أو تكييف وضعه أكثر من ذلك، وهو الأمر
نفسه لدى من وضع ماله عند البنك؛ لا يفكر إلا في أنه وضع كذا وسيأخذ كذا بعد
كذا، بل الفتوى نفسها لم تجعل البنك في توصيفها سوى وكيل لأولئك المستثمرين
كما جاء في نصها الذي سبق ذكره ونحن لا نستطيع جعلها مضاربة؛ لأن من شرط
صحة شركة المضاربة وهو مما اتفق عليه علماء الشرع الحنيف [5] لحوق الخسارة
برأس المال عندما توجد خسارة، والمضارب عندها يخسر جهده ليس غير.
وهنا رأس المال مضمون، بل مع زيادة مشروطة، وليس يخسر البنك بتاتاً،
بل لا يُتصور ذلك لأنه شخص اعتباري، وموظفوه تقاضوا رواتبهم، ولا شأن
لهم بخسارة البنك لو خسر. ولو قيل: قد يربحون في مشاريع أخرى؛ فهذا الذي
قد ربحوا فيه يحمل ما وقعت فيه خسارة [6] .
وأقول عندها: ماذا تقولون لو خسر البنك في جميع مجالاته الاستثمارية بل
وغيرها عندما يعرض كساد عام، أو ما أشبهه؛ لماذا تقع الخسارة فقط على رب
المال، ولا يوجد من يخسر شيئاً في الطرف الآخر؟ ولماذا لا نزال نُصرُّ على
اعتبار تلك المعاملة قراضاً أي مضاربة ضاربين عرض الحائط بكل تلك الفروق،
على الرغم من وجود تخريج أصح وشبه أقرب؛ حين نقول: هو صرف فَقَدَ شرط
حلِّه [7] ، والسلام.
والوقفة الثالثة: أنها اعتبرت البنك وكيلاً، وهو أقرب من اعتباره مضارباً،
وعلى الرغم من ذلك لا يصح هذا الاعتبار؛ لأن الوكيل من شأنه ألا يضمن إذا لم
يتعد [8] ؛ لأن يده يد أمينة.
وهنا نجد البنك ضامناً لرأس المال بل ولربْح زائد، ولا نظر إلى ماهية
المشروع، ولا إلى ربحيته أصلاً، وليس يسأل البنك عن خسارة بتاتاً، حتى نقول
بتحميله تضمينه رأس المال؛ قائلين له: لقد قصَّرت فاضمن. فهو ضامن مع
زيادة قصَّر أم لم يقصِّر؛ فهل هذه وكالة؟ ليس هناك توكيل أصلاً، وعقدهم لم
ينص على ذلك حتى نتبرع من قِبَلنا بوضع هذا التوصيف، وخاصة حين نجد ما
هو أصح وأقرب شبهاً!
الوقفة الرابعة: نصت الفتوى على أنه لا مانع (ما دام الطرفان يرتضيان
هذا النوع من المعاملة) .
أقول: وهو صحيح، عندما تكون تجارة يديرونها بينهم، لا صرفاً فاقداً
لشرطه؛ مما صرح الشرع بتحريمه، وجعل آكله كمن يتخبطه الشيطان من المس.
ولعل في بياني السابق ما يوضح صحة هذا التقرير.
الوقفة الخامسة: نصت الفتوى قائلة: (ومما لا شك فيه أن تراضي الطرفين
على تحديد الربح مقدماً من الأمور المقبولة شرعاً وعقلاً؛ حتى يعرف كل طرف
حقه) أهـ.
وهو صحيح 100% إذا كان المقصود بذلك نسبة من الربح، لا من رأس
المال، فلا بد من التنصيص على نصيب كل من الشريكين من الربح، وبالنسبة
التي يكون بها خراج كل منهما، ولكن ما الجواب لو لم يكن ربح أصلاً؟ فهل مما
لا شك فيه أن يتحمل الخسارة أحدهما دون الآخر، وهل هو من المقبول عقلاً؛
فضلاً عن الشرع؟!
الوقفة السادسة: نصت الفتوى على أن: (من المعروف أن البنوك عندما
تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد مقدماً؛ إنما تحددها بعد دراسة دقيقة
لأحوال الأسواق العالمية والمحلية، وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع، ولظروف
كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها) أهـ.
يبدو من الكلام أن أعضاء المجمع ليسوا على دراية كافية بالكيفية التي يتم بها
حساب الأرباح في تلك البنوك.
وللفائدة أقول:
الأموال التي يستثمرها الناس لدى دور المال الكبرى - أوعية الاستثمار على
اختلافها - تسير غالباً - ولعله بنسبة تزيد عن 70% من حجم المال المستثمر في
طريقين.
الأول: الوعاء البنكي.
الثاني: وعاء شركات التصنيع والخدمات ونحوهما، من شركات المساهَمة.
والوعاء الأول: إنما يحكم نسبة الربح فيه سلطة النقد في تلك الدولة، فليس
للبنك دور إلا في هامش يسير تتركه تلك السلطة كي تسهل عمليات التدفق والسيولة
- لدى البنوك لمواجهة بعض الظروف الاستثنائية -، فلدى البنك قدر محدد يدفعه
للناس، وآخر يأخذه بنسب معينة من قِبَل تلك السلطة.
أما الوعاء الثاني: فهو مما لا يقع تحت طائلة دراستنا هنا، وهو لا يكاد
يغطي ما نسبته 30% من حجم المال في الوعائين، على الرغم من تأثره بالنسبة
التي تحددها تلك السلطة؛ باعتباره يستثمر لدى تلك البنوك، وهي تستثمر لديه،
والنسب هنا تقريبية إلى حد بعيد، ولكنه يشبه ألا يختلف معي أحد المختصين في
تقديرها تقريباً.
الوقفة السابعة: نصت الفتوى على الآتي: (ومن فوائد هذا التحديد لا سيما
في زماننا هذا الذي كثر فيه الانحراف عن الحق والصدق أن في هذا التحديد منفعة
لصاحب المال، ومنفعة أيضاً للقائمين على إدارة هذه البنوك المستثمرة للأموال.
فيه منفعة لصاحب المال؛ لأنه يعرفه حقه معرفة خالية عن الجهالة، وبمقتضى هذه
المعرفة ينظم حياته. وفيه منفعة للقائمين على إدارة هذه البنوك؛ لأن هذا التحديد
يجعلهم يجتهدون في عملهم وفي نشاطهم؛ حتى يحققوا ما يزيد على الربح الذي
حددوه لصاحب المال، وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم
حقاً خالصاً لهم في مقابل جدهم ونشاطهم) أهـ.
صحيح أن زماننا كثر فيه الانحراف، وخاصة في تعاطي الناس مع
المعاملات المشبوهة، بل ما يجزم أهل العلم بالاتفاق على تحريمه، وليس من دليل
يصحح هذا القول أقوى من صدور هذه الفتوى؛ ليس لأن أصحابها خالفوا الصواب،
كلا، فلعل من حقهم الاجتهاد؛ فيُعذرون ويُؤجرون، ولكن السائل يسأل عن أمر
يعلم مسبقاً أنه يتفق مع ما يريده، وإلا فلماذا لم يوجه سؤاله إلى شيخ الأزهر
السابق رحمه الله تعالى [9] ؟! ولا أظنه تخفى عليه وجهة نظر فضيلته.
ونحن نقول للسائل: هب أنهم قد قالوا لك: بل هو محرم وكبيرة من كبائر
الذنوب. فقط قدِّر ذلك ذهنياً! هل ستمتثل وتقبل؟ أجب نفسك، بل كل واحد منا
حين يسأل عالماً؛ هل يريد الامتثال، أو مجرد التسلية، أو تحقيق رغبات معينة؟
من يسأل وهو يريد الامتثال؛ فإنه يسأل من يحسبه مكاناً لثقته هو علماً
وتقوى، حتى حين لا يكون صاحب منصب رسمي؛ لأنه يريد ما يبرئ ذمته يوم
لا ينفع مال ولا بنون، ولن يتوجه بسؤاله هكذا كيفما اتفق، فالناس لا بد أن
يراجعوا أنفسهم، ولا بد أن تقوم توعية بهذا الشأن على أوسع مدى، نعم لا بد أن
يفهم الجميع أن السؤال لرفع الجهل والامتثال، ولذلك لا بد من عرض القضية على
أوثق من يجده المرء، في أمر من الأمور [10] ، لا أن ينتقي حسب هواه.
ثم نصت الفتوى في القسم السابق الذي عرضته على أن هذه المعاملة مفيدة
لصاحب رأس المال، وللبنك.
هذا صحيح 100%؛ لأنه حين تقع خسارة: فإنه لا البنك سيتأثر؛ لأنه ليس
أكثر من شخص اعتباري، نال مشغِّلوه رواتبهم، وما استطاعوا الحصول عليه منه
على اختلاف الوسائل وتعددها، ولا المستثمر لديهم سيتأثر؛ لأنه سينال ماله
والربح المقرر من ضمان الدولة، أو من ضمان شركات التأمين. أما كيف ضمنت
الدولة؛ وعلى حساب من؟ هذا لا يهمه وقد رأينا شيئاً منه من قبل وأما كيف
ضمنت شركات التأمين، وعلى حساب من ضمنت فهو أيضاً لا يهمه [11] .
والحقيقة أنه المجتمع بأكمله؛ على نحو ما سبق شرحه.
يا سادة! نحن أمام كارثة أخلاقية، حتى لو سلمنا من الكارثة الاقتصادية،
أليس من موقف لمثل هذا النوع من الأنانية؟!
الوقفة الثامنة: نصت الفتوى على الآتي: (ومع ذلك؛ فإنه في حالة حدوث
خسارة؛ فإن الأمر مرده إلى القضاء) ؛ أي حين تحدث خسارة.
وأقول: ماذا يستطيع أن يفعل القضاء هنا؟ من سيُحاسب لو وقعت خسارة
فادحة؟ هل المسؤول هو المدير، أو نائبه، أو فلان؟ ثم ماذا؟ يُسجن! يغرم!
حسناً؛ ما فقدناه من خير كان يمكن أن يقدمه رأس المال لو دخل إلى السوق كيف
سيُستدرك؟
بعبارة ثانية: هل سجنهم سيعوِّض المجتمع؟ أليست الوقاية خير من العلاج؟!
ج - مداخلة المستشار فهد.
الأخ عدنان: أليست المصلحة كفيلة لتجعل مثل تلك المعاملة صحيحة؛ نظراً
لحاجة المجتمع في دورته الاقتصادية للاستثمار لدى تلك البنوك، وهو أمر قد نبهت
إليه تلك الفتوى؟
وأجاب عدنان: لعلك وجدت ذلك من قولهم: (ولا شبهة في هذه المعاملة؛
فهي من قبيل المصالح المرسلة، وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز
التغيير أو التبديل فيها) .
وهنا أقول: لقد ذكر علماؤنا تعريف المصلحة المرسلة، وهي أمر لم يشهد له
الشرع بإبطال ولا باعتبار معين [12] ، ولدى تأمل التعريف نجد تلك المعاملة مما
شهد الشرع بإبطاله، كيف لا وهي صرف، أو مما يُسلك به مسلك الصرف على
أقل تقدير، وقد فقد شرط حلِّه، وقرر الشرع تحريمه وفساده، وليس كافياً قولنا:
هذا فيه مصلحة حتى نقول بحلِّه، بل لا بد من موافقة الشرع لاعتبار تلك المصلحة،
أو على الأقل مما لم يشهد الشرع بإبطاله، وإلا فلن يجد أحد عناء في تغيير كل
شيء يرغب في تغييره من الشرع بدعوى المصلحة، وهذا مما يتنافى مع إيماننا
بصلاحية شرعنا لكل زمن.
د - مداخلة المستشار زيد.
الأخ عدنان: ما هي فقرات المشروع الذي تطلب التوقيع عليه؟
أجاب عدنان: ملخص ما أطلبه حسب المذكرة التي بين أيديكم:
1- إلغاء سعر الفائدة.
2- فتح نافذتين في البنوك؛ إحداهما للاستثمار الشرعي؛ حيث يصير البنك
مضارباً برأس ماله، ويشجع الناس من خلال مشاريع قام هو بدراستها، تنتظر من
يقبل تشغيلها، وتفضيل أصحاب الهمة في هذا الميدان في جميع العطاءات
الحكومية.
3- فتح نافذة ثانية لحفظ الأموال مقابل أجر، وهي تحتفظ باحتياطي 100%،
ويكون المال وديعة بالمفهوم الشرعي للوديعة.
4- قيام توعية كبيرة بخصائص الاقتصاد الإسلامي، على اختلافها،
للأسباب التي سبق بيانها.
صاحب المعالي رئيس المجلس، أيها المستشارون الكرام: أرجو عرض
مشروعي للتصويت، وتقبلوا خالص شكري.
رئيس المجلس:
أيها الأعضاء، الآن يمكنكم التصويت.
وبعد التصويت خرجت النتيجة الآتية:
- موافق بنسبة 85 %
- متحفظ بنسبة 10 %
- معترض بنسبة 5 %
وتم إقرار المشروع، ونحن بانتظار نتائجه في الواقع، والتي نسأل الله أن
تعود بالنفع على أبناء مدينة الندى.
__________
(1) هناك تفاوت في عبارات المتخصصين الاقتصاديين من فقهاء الشريعة في توصيف الوديعة البنكية، مع اتفاقهم أنها ليست وديعة بمعناها الشرعي؛ لأن الوديعة تُحفظ كما هي، وتُرد بعينها، قال المناوي في التعاريف ص 723 هي: (استنابة في الحفظ وشرعاً: استحفاظ جائز التصرف متمَوَلاً، أو ما في معناه، تحت يد مثله) أهـ، وليس هو الواقع فيما يسمونه وديعة بنكية اليوم، فهي ليست كذلك شرعاً، ولكن حين تكون في حساب جاري يعدُّونها قرضاً؛ لأنه نقد لا يأخذه الناس بعينه بل يأخذون بدله انظر: المهذب ص 302، كشاف القناع (3 / 312) ،، وأنبه هنا أن من شرط الشرع في جعل النقد المدفوع قرضاً حالتئذ أن يكون ما دفع إنما دفع من باب الارتفاق والتعاون؛ لأنه إن لم يكن كذلك صار صرفاً، ولهذا قرر فقهاؤنا أن باب القرض جاء على خلاف القياس، وإنما جوزه الشرع رفقاً بالناس، والسؤال الآن: هل ما يودع لدى البنوك بغرض الاستثمار يصح توصيفه قرضاً؟ الجواب: لا يصح، ولذلك قلت: إنه صرف، وإن سُمي استثماراً، فالملح ملح ولو سميته سكراً؛ لأن الصرف كما في التعريفات للجرجاني، ص 147 هو: (بيع الأثمان بعضها ببعض) ، والمستثمرون هنا يعطون ليأخذون؛ لا بنية الارتفاق بل بنية التجارة، وبالمناسبة؛ قد يطرأ سؤال هنا يقول: هل تعتبر الوديعة في الحساب الجاري قرضاً؛ لأننا فهمنا أنك لا تعتبرها قرضاً سوى بشرط نية الارتفاق؟ الجواب: صحيح هذا الاعتراض، وهو وجيه أيضاً؛ لأن المودعين لدى البنوك لا يضعون أموالهم مساعدة للبنوك، بل لقد جاء في سنن ابن ماجه (2/ 812) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوباً: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: لأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ) ، والحديث في إسناده خالد بن يزيد الدمشقي، قال عنه النسائي في الضعفاء (1 / 36) : (ليس بثقة) ، كما ضعفه ابن حبان على تساهله، انظر: المجروحين (1 / 284) ،، والحديث مع ضعفه إلا أنه يقرر واقعاً من حيث طبيعة القرض؛ لأنه لا يكون سوى من حاجة، والمودعون لا يكون شأنهم كذلك؛ فكيف يصبح ما يضعونه قرضاً، ليس من جهة أنهم يضعونها لا بنية الارتفاق فقط، بل ومن جهة أنهم يعطونها لمن لا يحتاج أصلاً؟ والجواب: إننا لسنا في حاجة لبحث جانب الارتفاق في المسألة على أهميته؛ باعتبار أن التوصيف الشرعي للمعاملات اليوم ليس مطلوباً منه أن يكون دقيقاً على نحو ما ورد في كتب علمائنا من قبل، بل يكفي قرب الصورة وعدم وجود فروق كبيرة ومؤثرة كي يصح التخريج وبناء الأحكام، وبعبارة ثانية سيكون متحتماً التغاضي عن فروق لا أهمية لها في المقارنة وتخريج الأحكام الشرعية، بل لقد رأيت الحنفية مثلاً يعتبرون القرض سالكاً مسلك العارية ويعطونه أحكاماً بهذا الاعتبار انظر بدائع الصنائع، للكاساني (7 / 396) والأمر هنا كذلك؛ إذ لا نملك توصيفاً شرعياً أقرب من اعتبار النقد المودع لدى البنوك في الحسابات الجارية قرضاً، على أن جانب الارتفاق ما زال موجوداً لا من قبل المودع بل من قبل البنك؛ لأنه يتبرع بالحفظ، فهو ارتفاق من هذا الجانب، وأقول: حتى حين يجادل الآخرون في نية الارتفاق هنا، ليخرجوا التوصيف من باب القرض؛ فإننا نسلك به مسلك القرض لعدم نية التجارة البيع من قبل المودع، وللفائدة راجع كتاب: الجامع في أصول الربا، د / رفيق يونس المصري، ص 213 وما بعدها؛ حيث ميز بجلاء بين الاصطلاحات التي سبق ذكرها، وغيرها مما يقع فيه الخلط، والكاتب متخصص يعمل مستشاراً لدى البنك الإسلامي للتنمية، والرجل مرجع من كبار المراجع في هذا الباب، وفقه الله تعالى.
(2) ولعلنا نجد شبهاً بين هذه المعاملة وما يسميه علماؤنا بـ (صورة عكس العينة) ، وذلك عندما نضع العقد أي ذلك المشروع الذي يستثمر فيه البنك في الاعتبار، و (عكس العينة) : أن يبيع رجل شيئاً بثمن حال، ثم يشتريه المشتري بثمن أعلى مؤجلاً، فهنا المستثمر اشترى العقد من البنك بثمن ولنقل 1000 دولار، وباعه للبنك مؤجلاً بـ 1200 دولار، وهي صورة قريبة جداً مما نراه في تلك العقود إلا أن صورة الصرف بل وحقيقته أقرب؛ لأننا في (عكس العينة) نجد سلعة معلومة، وهنا لا سلعة أصلاً فليس لدينا سوى أوراق ثبوتية، فصورة الصرف أقرب، فلا ريب في سلوك العقد هنا مسلك الصرف.
(3) وقد استقر أن العملة تأخذ أحكام النقدين (الذهب والفضة) ؛ بحيث تعامل العملة باعتبارها صنفاً واحداً، والأخرى صنف آخر، وبذلك صدرت فتاوى كثير من المجامع الفقهية.
(4) أخرج مسلم (3 / 1208) وغيره، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا أي تزيدوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ) .
(5) انظر: الإجماع، لابن المنذر، ص 98.
(6) هناك قاعدة في الاقتصاد الإسلامي لا بد من التذكير بها ضمن هذا السياق، وتلكم القاعدة تقول: (الخراج بالضمان) ، قال السيوطي في الأشباه والنظائر، ص 135: (القاعدة الحادية عشرة: الخراج بالضمان: هو حديث صحيح أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث عائشة، وفي بعض الإشارة ذكر السبب، وهو أن رجلاً ابتاع عبداً فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيباً فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، قد استعمل غلامي! فقال: (الخراج بالضمان) أهـ، والسيوطي هنا قد صحح الحديث، إلا أن له طرقاً لا تبلغ به درجة الصحيح، وحسبها أن تصل به إلى درجة الحسن لغيره، وهذا لا يعكر صحة تلك القاعدة؛ لأننا وجدناها تتفق مع قواعد الشريعة وعموماتها، وخاصة أنها قد ثبت من طرق أخرى معنى ما ترشد إليه تلك القاعدة، مثل ما أخرجه أحمد في مسنده (2/ 174) وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِى بَيْعَةٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ أي البائع، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) ، وهو حديث لا ينزل عن درجة الحسن، والمهم هنا أن الرجل هنا ينال ربحاً وليس يضمن أي ليس يغرم عندما تقع خسارة، وهو ما توضحه قاعدة أخرى تقول: (الغنم بالغرم) انظر: التقرير والتحبير (2/ 269) ومفادها: ألا غنيمة لمن لا يغرم مقابل غنيمته.
(7) سبقت الإشارة إلى شرط صحة الصرف، وهو المماثلة، والحلول أو التقابض على اختلاف بين أهل العلم في ذلك؛ أي الاكتفاء بمجرد الحلول، وهو يجعل القبض على التراخي حين يتأخر صاحب الحق في قبضه، ولكن الحق مهيأ له تحت طلبه، وهو وما يعني أن القبض على التراخي لا على الفور، أو التقابض وهو مباشرة الاستلام من الطرفين لمجرد وقوع القبض لأحد العوضين، انظر: الجامع في أصول الربا، ص 82.
(8) انظر: مجلة الأحكام العدلية، ص 284، وهو ما لا خلاف فيه بين العلماء من حيث الأصل.
(9) وقد أفتى فضيلته بتحريم ذلك، فتوى رقم (1257) ضمن مجلدات فتاوى دار الإفتاء المصرية، بشأن الأموال المودعة في البنوك وبنك فيصل الإسلامي، بتاريخ ذو القعدة 1400 هجرية 8/10/1980م، ونصها: قال شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد: - المبدأ: تحديد الفوائد عن الأموال المودعة بالبنوك مقدماً من قبيل القرض بفائدة، وهو محرم شرعاً،، - وعدم تحديدها مقدماً هو من قبيل المضاربة في المال، وهي جائزة شرعاً،، سئل: بالطلب المتضمن الإفادة بيان حل أو حرمة الحصول على الفائدة عن المبالغ المودعة بالبنوك التجارية، وكذلك فوائد المبالغ المودعة ببنك فيصل الإسلامي من وجهة نظر الشريعة الإسلامية،، أجاب: جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275 - 276] ، وروى البخاري وأحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) ،، بهذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وبإجماع المسلمين ثبت تحريم الربا، سواء كان ربا الزيادة أو ربا بالنسيئة،، لمَّا كان ذلك، وكان إيداع النقود بالبنوك التجارية بفائدة محددة مقدماً من قبيل القرض بفائدة؛ كانت هذه الفائدة من باب ربا الزيادة المحرم بتلك النصوص الشرعية، وإذا كانت الفوائد التي يؤديها بنك فيصل الإسلامي محددة مقدماً كانت من هذا القبيل المحرم شرعاً، أما إذا كان طريقها الاستثمار دون تحديد سابق للفائدة، وإنما يبقى العائد خاضعاً لواقع الربح والخسارة كل عام أو في كل صفقة كان هذا التعامل داخلاً في نطاق عقد المضاربة الشرعية، والربح واستثمار الأموال بهذه الطريقة حالاً لشدة الحاجة إليها في التعامل؛ لأن من الناس من هو صاحب مال ولا يهتدي إلى التصرف، ومنهم من هو صاحب خبرة ودراية بالتجارة وغيرها من طرق الاستثمار ولا مال له، فأجيز عقد المضاربة الشرعية لتنظيم وتبادل المنافع والمصالح،، هذا، وإن الله سائل كل مسلم ومسلمة عن ماله: من أين أكتسبه؟ وفيما أنفقه؛ والله سبحانه وتعالى أعلم «أهـ.
(10) وهو كما عبَّر عنه الأصوليون بقولهم: (مذهب العامي مذهب مفتيه) ، ونص ابن عبد البر في جامع بيان العلم على أن العامي حين يختلف الناس في أمر يسأل عنه؛ فإنه يقلد أكثرهم علماً في نظره، وعدّ ذلك رحمه الله تعالى إجماعاً.
(11) وشركات التأمين هذه مثار سخرية في وطننا العربي، ليس نظراً للحكم الشرعي، فأنا لست ضدها، ولكن نظراً للخدمة السيئة التي تقدمها، ونظراً للتحيز الخبيث لصالح رأس المال؛ مما سلمت منه كثير من الدول الغربية، وليس هنا مكان شرح ذلك.
(12) انظر: روضة الناظر (1/ 169) .(186/30)
تأملات دعوية
المصلحون يصنعون الفرص
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
من مسئولية الإنسان في الحياة أن يأخذ بأسباب النجاح، ويتعرف على سنن
الله في خلقه، ويسعى للأخذ بها، والمصلحون المتقون من أولى الناس بمعرفة سنن
الخالق تبارك وتعالى؛ فهم أعلم الناس به، وهم الذين يدلونهم على طريقه.
إن ضخامة متطلبات التغيير لن تواجه ببذل المزيد من الجهد البدني فحسب،
ولا بزيادة رصيدها ممن يتحدثون ويخطبون؛ وإنما تواجه بعقول تعيش تحديات
عصرها؛ فلن ينجح في زحمة هذا العصر ومتغيراته إلا من يملك الروح الإيجابية
المنتجة، والقطار لن ينتظر الذين يسيرون ببطء، ويتطلعون أن يفتح لهم الطريق.
وبقدر ما تتصارع المتغيرات وتتعقد عناصر الحياة تزداد الفرص؛ فالحياة
أوسع من أن يتحكم بها حفنة من البشر، والميدان لم يعد ذلك الذي يسيطر عليه فئة
دون أخرى، ولن يكون بمقدور كائن من البشر أن يرسم الخطوط والحدود للناس
فيما يأتون ويذرون.
فالمصلح الإيجابي هو من يسعى لاغتنام الفرص حين تتاح أمامه، وله أسوة
بإمام المصلحين صلى الله عليه وسلم، فقد كان هذا شأنه وديدنه.
فحين جاءت امرأة من السبي تحتضن صبيها ذكر صلى الله عليه وسلم
أصحابه برحمة الله لعباده.
وحين يكون مع أحد أصحابه يعلمه ويوصيه، وحين يكون الموقف مؤثرا يعظ
أصحابه كما في حديث البراء بن عازب المشهور.
إن الذين يثمنون الفرص لا يقف الأمر لديهم عند مجرد اغتنامها حين تتاح،
بل هم يبادرون، لأنهم يدركون أنها لا تدوم.
وقد أوصى صلى الله عليه وسلم أمته بذلك فقال: «اغتنم خمسا قبل خمس:
حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك،
وغناك قبل فقرك» [1] .
وها هو يوسف - عليه السلام - حين عبر رؤيا السلطان وأخبر أنهم أمام
سبع سنين من الرخاء، وسبع سنين من الشدة أمرهم أن يغتنموا فرصة الرخاء
ليدخروا لسني الجفاف.
والمصلح الإيجابي يتجاوز مجرد اغتنام الفرص التي تتاح له ليبحث عنها
ويفتش، وها هو صلى الله عليه وسلم في سيرته يغتنم فرص اجتماع قومه ليدعوهم،
ويبحث عن فرص أخرى ليدعو غيرهم، فقد كان يوافي الموسم كل عام يتبع
الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه
حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة.
وحين لا يجد المصلح فرصة سانحة أمامه، ويفتش يمنه ويسره؛ فإنه يسعى
لأن يوجد الفرصة؛ فالحاجة أم الاختراع، ولن تعجز عقول المصلحين عن أن
تهيئ الفرصة وتوجدها؛ فها هم صناع السلاح والمتاجرون به حين تكسد سوقه
يفتعلون المعارك والحروب ويؤججون نارها ليروجوا بضاعتهم، وها هم أصحاب
رؤوس الأموال يغرقون الناس بالدعاية لمنتجاتهم حتى يوجدوا فرص تسويقها.
وقديما كان الصياد حين لا تتاح له فرصة اجتماع الطير يلقي له طعما حتى
يجتمع فيصيده.
والمصلحون الإيجابيون لا يقف جهدهم عند ذلك فحسب، بل هم يبحثون في
المواقف السيئة، ومن بين الصور المظلمة يبحثون عن النور والضياء، إنهم حين
تحل المحن والنكبات، وحين يتشاءم الناس مما أمامهم يتلمسون الصور المشرقة،
ويبحثون عن الثغرات ليستثمروا الواقع الجديد.
حين يقع الابن في معصية أو مصيبة؛ يستثمرها والده العاقل لتكون منطلقا
لنصحه وإصلاحه.
ومهما كانت الأحوال سيئة ومظلمة؛ فالأوضاع الجديدة تحمل في طياتها
العديد من الفرص التي يمكن أن يستثمرها العقلاء.
__________
(1) المستدرك للحاكم، رقم 7846.(186/38)
حوار
المفكر الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي
في حوار شامل وصريح لـ " البيان "
أعد الحوار: خالد محمد حامد
حاوره في واشنطن: عارف المشهداني
almashhadani@yahoo.com
أمريكا قائدة الإرهاب العالمي
وصناع القرار الأمريكي خطر على البشرية!!
تمهيد:
يعد المفكر اليهودي الأمريكي البروفيسور نعوم تشومسكي من المفكرين
الأمريكان القلائل الذين أحدثوا ضجة فكرية وسياسية لدى الرأي العام الأمريكي بل
والعالمي؛ بمواقفه الجريئة المتحررة وغير الخاضعة لسلطة اللوبي الصهيوني الذي
يريد صياغة الرأي العام وفقا لأطروحاته وأجندته، وهذا ما أثار حنقهم عليه
ومحاربتهم له على كل الأصعدة، لكن سمعة الرجل ومكانته الفكرية تتصاعد يوماً
بعد آخر، وكتبه تتلقفها الأيدي نظراً لعمق وصواب تحليلاته التي لا تروق
للكثيرين من صناع القرار الأمريكي.
«البيان» حملت أسئلتها، فيما يخص قضايا الساعة، إليه فكان هذا الحوار.
البيان: أنتم تُحسبون على رموز التيار اليساري الاشتراكي في أمريكا: ما
موقع هذا التيار في الساحة السياسية الأمريكية؟ وما مدى قوته وتأثيره سياسيّاً
وشعبيّاً؟
- الولايات المتحدة ليست مجتمعاً عقائدياً بحيث نصف ونقسم المجموعات
على أساس عقائدي. نحن مجتمع نشط جداً، ولدينا منظمات عديدة واسعة الانتشار
من مختلف الاتجاهات، تساهم في طرح آرائها بشكل واضح في مختلف القضايا
بدءاً من قضايا المشردين وليس انتهاء بالحرب على العراق. وتختلف وتنتقد بشدة
إدارة البيت الأبيض في كثير من القضايا السياسية والاقتصادية كالعولمة مثلاً؛
فأمريكا منظمة من هذا الجانب فعدم وجود أحزاب كثيرة في أمريكا، كما هو الحال
في أوروبا لا يعني أن الشعب الأمريكي غير منظم أو نشط سياسياً؛ فأنا أمضي
الساعات العديدة يومياً لأرد على استفسارات الأمريكان من مختلف الاتجاهات؛
وهذا يدل على فاعلية الشعب الأمريكي.
البيان: إلى أي مدى برأيك يلعب الإعلام دورًا في تشكيل الرأي العام
الأمريكي عن الصراع في الشرق الأوسط وخصوصاً تجاه قضيتي العراق
وفلسطين؟
- هذا الدور كبير جداً، وسأتناول موضوع العراق أولاً؛ فالرئيس العراقي
صدام حسين أصبح مكروهاً لدى الشعب الأمريكي، ويكاد يكون العراق هو البلد
الوحيد الذي نسمع عنه بشكل يومي في أمريكا. ولو أجرينا استفتاء منذ أحداث
سبتمبر لغاية الآن فسنجد أن 60 - 70% من الشعب الأمريكي خائفون من صدام
حسين. فالكثير من الأمريكان يظنون أنه إن لم نوقفه الآن فسيبتلعنا غداً!! وربما
تجد ذلك في كل مكان تقريباً ولكن قد تجدهم يكرهونه ولكن لا يخافونه كما في
أمريكا. فمن أين جاء ذلك؟ إنه من الدعاية الضخمة حوله والتي ابتدأت بعد أحداث
سبتمبر إلى الآن مروراً بانتخابات الكونغرس التكميلية بداية نوفمبر الماضي.
فالدعاية الأمريكية كانت تصوّر الرئيس العراقي سابقاً على أنه مثير متاعب؛ أما
الآن فإنها تصفه بأنه عدو لمدنيتنا! وهذه الدعاية أثرت في الناس هنا. هذه الدعاية
تأتي من الحكومة مثلما تأتي عن طريق الإعلام؛ وهو ما قاد الناس إلى الخوف منه.
قد تراهم يعارضون الحرب على العراق لكنهم خائفون إن لم نوقفه اليوم فسيقتلنا
غداً!! هذا الخوف لم ينتج عن معلومات حقيقية وإنما من ضخامة الدعاية والرعب
الذي أثاره الإعلام الأمريكي في قلوب الناس. أما فيما يخص النزاع العربي
الإسرائيلي فنجد أن الموقف الشعبي الأمريكي يثير الاستغراب حقاً!! لقد تعرضوا
إلى غسل دماغ من قِبَل الإعلام. ففي دراسة موسعة لأحد مراكز البحوث التي تعنى
برصد ودراسة مواقف الرأي العام في جامعة مريلاند حول النزاع العربي
الإسرائيلي جاءت النتائج مثيرة ومفادها أن الرأي العام يريد من الحكومة الأمريكية
قطع أية مساعدة مادية عن أي طرف من الجانبين الفلسطيني و «الإسرائيلي»
يرفض الجلوس على طاولة المفاوضات ولا يقبل بتسوية الأزمة سياسياً. لكن
الرأي العام لا يعرف أنه واستناداً لذلك يجب قطع المساعدة المادية عن «إسرائيل»
لأنها ترفض التسوية السلمية. فهم يتصورون أن «إسرائيل» ونتيجة الدعم
الأمريكي لها تسعى للحل السلمي وليس العكس!!
ولننتقل إلى خطة السلام السعودية؛ فعندما سئل المشاركون في الدراسة نفسها
أنه لو تم الوصول إلى حل سلمي بين الطرفين فكيف تقترحون ان تكون نسبة
المساعدات المادية الأمريكية للطرفين؟ فكات النتيجة بالأغلبية أن تكون المساعدة
بالتساوي لكلا الطرفين!! فالناس هنا لا يعرفون ماذا يعني هذا؛ لأنهم لا يعرفون
حقيقة الوضع على الأرض. والنسبة نفسها ترى أن على الولايات المتحدة أن تدفع
عملية السلام للأمام ولا يعرفون أنها الولايات المتحدة هي التي وقفت بوجه ذلك منذ
أكثر من 25 سنة عندما رفضت أول قرار لمجلس الأمن الدولي لتسوية النزاع عام
1976م!! كما أن الشعب هنا لا يعرف حقيقة ما جرى في مفاوضات كامب ديفيد
التي جرت هنا في الولايات المتحدة صيف 2000م؛ فوصف الإعلام الأمريكي كان
أن «إسرائيل» والولايات المتحدة بذلتا جهوداً عظيمة وخارقة، وقدمت
«إسرائيل» تنازلات ضخمة لحل النزاع، وأن الطرف الفلسطيني هو الذي
رفض الحل وفضل اللجوء إلى العنف!!! وأسهل طريقة لمعرفة مقدار هذه
«الجهود العظيمة والخارقة» هو النظر إلى الخارطة لمعرفة حقيقة الأمر. لكن لا أحد من الصحفيين يرغب بنشر الحقيقة؛ فالمقترحات الإسرائيلية تريد تقسيم
الضفة الغربية إلى ثلاث مقاطعات منفصلة بعضها عن بعض، وقطع القدس
الشرقية عنها، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة؛ لكن الناس هنا لا يعرفون
كل ذلك، وما يعرفونه هو ما يقرؤونه، وهو أن يقدم الطرف الفلسطيني جهوداً
عظيمة وتنازلات ضخمة كما «قدّم» الطرف الإسرائيلي والقبول بهذه التسوية؛
فمعلوماتهم محدودة جداً عن حقيقة ما يجري، ومواقفهم لا تختلف كثيراً عن أية
مواقف أخرى في باقي دول العالم، ولكنهم لا يعرفون حقيقة التطبيقات السياسية
لمواقفهم المبنية على معلومات غير صحيحة. فأوافقك الرأي بأن الإعلام الأمريكي
يلعب دوراً كبيراً في صياغة الرأي العام الأمريكي في مختلف القضايا.
البيان: وجد كتابكم الأخير عن أحداث سبتمبر انتشارًا ملحوظًا لدى القراء؛
فهل تعتقدون أن الرأي العام الأمريكي يبحث بالفعل عن الحقيقة ولكنه لا يجدها في
الخطاب الثقافي السائد، أم أنه استسلم لـ (الماكينة) الإعلامية الأمريكية؟ وهل
من سبيل لتغيير المفاهيم الخاطئة التي ينشرها هذا الإعلام؟
- معلومات الشعب الأمريكي عما يجري في العالم محدودة للغاية؛ فهم
يجهلون الكثير. أحداث سبتمبر كانت حدثاً مثيراً فتحت أعين الكثير من الأمريكان،
وجعلتهم يدركون أن من الأفضل الاطلاع على ما يجري في أنحاء العالم الذي
نعيش فيه. صحيح أن الحدث هز الجميع لكن الكثير بدأ يتساءل: لماذا حدث ما
حدث؟ وأرادوا معرفة وجهة النظر الأخرى. الكتاب المذكور مثال لعدة كتب
أخرى لعدة مؤلفين نالت رواجاً كبيراً بين القراء. فأنا وقلة قليلة من المؤلفين ممن
تصدوا لتبصير القراء بالحقائق المغيبة عنهم قبل أحداث سبتمبر، وازداد الإقبال
على كتبنا بعد أحداث سبتمبر. بل أن صغار الناشرين بدؤوا بإعادة طبع كتبنا
المؤلفة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي التي تكشف تحليلاتنا
السياسية لما ستؤول إليه أمريكا نتيجة سياساتها. لقد حدث تحول إيجابي لدى الرأي
العام الأمريكي خلال السنوات الأربع الماضية ويمكن ملاحظته من خلال ردة فعل
الشارع الأمريكي للحرب التي تنوي الإدارة الأمريكية شنها ضد العراق وموقفه تجاه
الحرب الأمريكية ضد فيتنام. لقد مرت الذكرى الأربعون لعدوان أمريكا ضد فيتنام
1962م عندما قصفت الطائرات الحربية الأمريكية جنوب فيتنام. لقد كان عدواناً
مباشراً وحرباً غير منضبطة قتل فيها 270 ألفاً من الشعب الفيتنامي، وكما يحدث
الآن في أفغانستان؛ فهل حدث احتجاج وقتها؟ لا؛ فقد مرت 4 - 5 سنوات حتى
بدأ الشعب الأمريكي بالاحتجاج والتظاهر والمطالبة بإيقاف الحرب في فيتنام،
وحينها كانت جنوب فيتنام قد دمرت، والآلاف من الجنود الأمريكان قد تعرضوا
للقتل والإصابة، فبدأ الشارع الأمريكي يتحرك، وأغلب الاحتجاج كان ضد توسع
الحرب التي شملت بقية فيتنام!! وكذا كان الحال في أوروبا. لكن الاحتجاج
الحقيقي ضد الحرب المدمرة في جنوب فيتنام لم يتطور لدى الشعب الأمريكي إلا
في وقت متأخر عام 1969م عندما أعلن 70% من الشعب الأمريكي أنها حرب
خاطئة وغير أخلاقية. الآن المعارضة للعدوان في ازدياد مستمر، والتظاهرات
الشعبية الواسعة تخرج قبل وقوع الحرب على العراق، وهذا ما لم يحدث في تاريخ
الولايات المتحدة وأوروبا سواء فيما يخص حرب فيتنام أو أية قضية أخرى.
فحركات الحقوق المدنية والعدل ومعارضة العولمة في نمو في كل مكان منذ
السبعينيات من القرن الماضي وإلى الآن، وازدادت بعد أحداث سبتمبر. لكن مع
ذلك فالناس ما زالوا خاضعين لتأثير الإعلام، بل حتى الذين يعارضون الحرب ضد
العراق ربما يخبرونك بأن عليهم شن حرب ضد العراق؛ لأنهم إن لم يفعلوا ذلك
فإنهم يخشون أن يقتلهم صدام حسين؛ فالناس إن لم يكن لديهم معلومات وتحليلات
كافية فإنهم سيكونون عرضة للدعاية الأمريكية المضللة!
البيان: رغم كونك يهودياً؛ لكنك تنتقد السياسة الإسرائيلية؛ فما تفسير
ذلك؟
- الكثير من الإسرائليين ينتقدون السياسة الإسرائيلية أكثر مما انتقدها أنا؛
فموقعي يفرض عليَّ انتقاد ما أراه خاطئاً، والسياسة الإسرائيلية تحتاج إلى المزيد
من هذا الانتقاد.
البيان: كيف تفسر دعم الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد الرئيس
ترومان إلى الآن لـ «دولة إسرائيل» خاصة أنه في كثير من الأحيان على
حساب المصالح الأمريكية؟
- هذا ليس دقيقاً؛ فخلال عقد الخمسينيات من القرن الميلادي السابق لم يكن
الدعم الأمريكي لـ (إسرائيل) قوياً نسبياً. العلاقات أصبحت أقوى إلى حدٍّ ما في
سنة الأزمة 1958م عندما بدا واضحاً أن دعم «إسرائيل» - كقاعدة للقوة
الأمريكية يمكن الاعتماد عليها - أصبح هاماً لأزمة الولايات المتحدة مع القومية
العربية، القلق الرئيسي لها. في عام 1967م قدمت إسرائيل خدمة عظيمة
للولايات المتحدة والدول العربية المتحالفة معها بقضائها على الرئيس جمال عبد
الناصر. منذ ذلك الوقت تطورت العلاقة بين الطرفين (أمريكا - إسرائيل) لالتقاء
أهدافهما الاستراتيجية في المنطقة، إلى حد أصبحت فيه إسرائيل اليوم قاعدة
عسكرية أمريكية في المنطقة، مع تعاون اقتصادي عسكري عالي المستوى.
البيان: مارس الأوروبيون حملات إبادة ضد السكان الأصليين في أمريكا،
ثم مارس الأمريكان عمليات إرهاب عديدة أثناء حرب التحرير؛ فهل ترون أن هذه
الممارسات تشكل خلفية تاريخية ونفسية لتسويغ التأييد الأمريكي المطلق
للممارسات الإسرائيلية الإرهابية تجاه الشعب الفلسطيني؟
- بصراحة.. لا أرى ربطاً بينهما فيما يبدو لي.
البيان: ينكر كثير من السياسيين على الفلسطينيين قيامهم بعمليات مسلحة
أو تفجيرية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.. باعتباركم مفكرًا تقدميًا، ما هي
الوسائل الملائمة التي ينبغي اتخاذها في ظل القيادة والممارسات الصهيونية
الحالية؟
- يوجد إجماع دولي قوي على التسوية السياسية المتمثلة بدولتين، فلسطينية
و «إسرائيلية» وفق الحدود المقررة دولياً (ما قبل سنة 1967م) مع تعديلات
بسيطة مشتركة (النص الرسمي الأمريكي لم يلغ رسمياً بعد سنة 1967م ولحد الآن
رغم أنه أنتهك عملياً) . الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي توافق على هذا الحل
الذي انتهك من قبل الحكومة الأمريكية عام 1976م عندما مارست حق النقض
(الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن بهذا الخصوص. لكن يمكن الوصول لهذا الحل؛
فمحادثات طابا في يناير 2001م بين الفلسطينيين والإسرائيليين اقتربت منه.
صحيح أن المفاوضات لم تكن رسمية لكنها كانت على مستوى رفيع، وجهد
دبلوماسي جدي يمكن أن يدفعهم للأمام، ربما لحل مقبول. كثير من النزاعات في
العالم بدت غير قابلة للحل لأول وهلة؛ لكن لا بد من السير للأمام باتجاه تسوية
عادلة تقلل على الأقل مستوى العنف وتفتح الطريق لتطورات بناءة. هذا ما يمكن
عمله، مع إرادة وحسم كاف. أما الآخرون، وأقصد خارج الولايات المتحدة
وإسرائيل وفلسطين، فيمكنهم المشاركة جزئياً.
البيان: أشرتم في بعض كتاباتكم إلى أن رحلات كريستوفر كولومبوس
وفاسكو دي جاما كانت بداية لعهد استعماري وتأسيس نظام عالمي قائم على النهب
والاستلاب، هل ترون أن ذلك كان لأهداف حضارية مرتبطة بسقوط دولة
المسلمين في الأندلس ومن ثم: بداية استكشافهم واستهدافهم في عقر دارهم،
أم أن الأهداف كانت أطماعًا اقتصادية بحتة؟
- كانت هناك أهداف عديدة، لكن الهدف الاقتصادي كان الأهم، العالم
الإسلامي سيطر على خطوط التجارة المباشرة بين أوروبا والدول الغنية والمتطورة
في الشرق وجنوب آسيا، وهذا ما دفع الآخرين للبحث عن طريق بحري.
البيان: بغض النظر عن أحداث سبتمبر، هناك دراسات ومؤشرات أطلقها
بعض المفكرين والباحثين الغربيين والأمريكيين قبل هذه الأحداث تخلص إلى أن
قوة أمريكا آخذة في الأفول وربما الانهيار؛ فماذا ترون حيال هذه الرؤى؟ وهل
تعتقدون أن تحركات أمريكا الحالية ترمي إلى منع هذا التدهور والانهيار والحفاظ
على موقع القوة العظمى الوحيدة في العالم؟
- لا أعتقد ذلك. أعتقد أن التحركات العسكرية الأمريكية تستغل أحداث
سبتمبر كمسوغ لتوسيع قوة الولايات المتحدة عالمياً، وهي ليست وحدها في هذا
المسعى؛ فهناك دول عديدة حذت حذوها؛ فروسيا زادت من عدوانها على الشعب
الشيشاني، وكذلك الصين ضد أهالي الصين الغربية (أي مسلمي تركستان الشرقية)
فالولايات المتحدة وفرت لهم الفرصة لذلك. أنا لست ممن يعتقد أن قوة الولايات
المتحدة في أفول، في بعض الحالات نعم؛ مثلاً قبل 50 سنة وبعد نهاية الحرب
العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة تملك نصف ثروة العالم، ونقصت النسبة إلى
ربع ثروة العالم سنة 1970م؛ فمن هذا الجانب نعم هناك تناقص، أما عسكرياً فلم
تكن الولايات المتحدة قوية عسكرياً على مر التأريخ كما هي الآن من ناحيتي
الميزانية والمعدات الحربية إضافة إلى سعة تحالفاتها. على الجانب الآخر هناك
نقاط ضعف؛ لكن أمريكا بلد غني ومن أفضل الدول صناعياً، ولديها الكفاءات في
كل الميادين، ومن ناحية المال والقوة فالذين يمتلكون هذه القوة يمكنهم استخدامها
لأغراض خاطئة. وهذه المجموعة التي تملك هذه القوة هي التي تحكم الآن في
واشنطن إنهم يهددون العالم بل ويهددون القيم التي تأسست عليها الولايات المتحدة
الأمريكية.
البيان: مع قدوم الإدارة الأميركية الجمهورية الجديدة عاد نظام الدرع
الأميركي المضاد للصواريخ، ثم جاءت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية
المنشورة في سبتمبر 2002م لترسخ الاتجاه نحو الاعتماد على القوة في حل
المنازعات وتهميش القوى الأخرى أو المصادمة معها، بحجة حماية «مصالح
الأمن القومي الأمريكي» . فما هي قراءتك؟
- لديَّ بعض الشكوك حول عبارة «مصالح الأمن القومي» . ساسة الدول،
وليس فقط في الولايات المتحدة، يبالغون في تضخيم التهديدات التي تواجه الأمن
القومي الحقيقي. فهناك قضايا أخرى لها أهمية. مصطلح «الأمن القومي» غالباً
ما يساء استخدامه لتسويغ سياسات تحمل أغراضاً أخرى. هذه قراءتي في حدود
علمي.
البيان: في رأيك ما هي الأهداف الحقيقية وراء الحرب الأمريكية ضد
العراق؟
- هناك مصالح عديدة وراءها؛ فالعراق يملك ثاني أكبر احتياطي من النفط
الخام، ومنطقة الخليج هي أهم منطقة في العالم لتصدير مصادر الطاقة (النفط
والغاز) وستصبح أكثر أهمية مستقبلاً؛ فمنذ الأربعينيات من القرن الماضي كانت
الولايات المتحدة تخطط لزيادة مصادر الطاقة وهي بحاجة فعلية للنفط، كما أن
الولايات المتحدة ترغب بزيادة قوتها وهيمنتها على دول العالم وإلغاء أو تهميش
القوى المنافسة كفرنسا مثلاً، كما أن السيطرة على العراق تعني التحكم بشكل
مباشر أو غير مباشر بمصادر الطاقة العالمية، وتأسيس قواعد عسكرية في المنطقة.
كما أن المصالح الداخلية والصراع بين الحزبين الجمهوري الحاكم والديمقراطي له
دور في ذلك؛ فقد كان يوصف صدام حسين سابقاً على أنه شرير؛ أما خلال
الانتخابات النصفية للكونغرس (نوفمبر الماضي) فقد أصبح يوصف بأنه خطر
على أمن الولايات المتحدة، وتم استغلال ذلك جيداً ما ساهم في فوز مرشحي
الحزب الجمهوري في تلك الانتخابات، وهم يريدون استغلال نفس الأمر
للانتخابات الرئاسية القادمة؛ فموظفو الإدارة الأمريكية الحالية يعيدون سياسة إدارة
ريغان في ثمانينيات القرن الماضي عندما شنت عدواناً ضد نيكارغوا وغرينادا
وليبيا لتقوية مكانتها عسكرياً ومن ثم استغلال ذلك لأغراض انتخابية؛ فقد يثيرون
الهلع في قلوب الشعب كما هو الحال اليوم من أجل الفوز في الانتخابات وقد حققوا
ما يريدون سواء أكانت إدارة ريغان أم إدارة بوش.
البيان: هل تعتقد أن المستهدف بالحرب هو العراق فقط، أم أن هناك فكرة
لتأسيس خارطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط؟ وما هي انعكاسات هذه الخريطة
لو تحققت على خريطة أوروبا المستقبلية؟
- مخططو السياسة الأمريكية والذين يمسكون القوة في أيديهم لا يرغبون
بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط وحدها؛ وإنما الصين أيضاً؛ بل إعادة رسم
خارطة العالم من جديد؛ وهذا خطر عظيم؛ فهناك مجموعة ترغب بذلك وهنا
المشكلة.
البيان: مع تسارع الأحداث الحالية في المنطقة، هل تعود فكرة (الترانسفير)
لترحيل الفلسطينيين إلى الأردن أو العراق مثلاً مرة أخرى؟ وما درجة احتمالية
تحقيق هذه الفكرة الآن؟
- يمكن ذلك في حالة حدوث حرب كبرى في المنطقة، وكان الأمر مدبراً
ومتفقاً عليه. عدا ذلك لا أتوقع أن يتم هذا الأمر. على الجانب الآخر؛ فإن فرض
ظروف قاسية تدفع الكثيرين إلى المغادرة وخاصة المتميزين وذوي الكفاءات كما
حدث ويحدث الآن.
البيان: في نظركم.. ما هي مصداقية ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب،
وهل تعتقد أن الإسلام كحضارة مستهدف من هذه الحرب؟
- هي ليست حرباً ضد الإسلام كما أنها ليست حرباً ضد الإرهاب!! فأمريكا
نفسها قائدة الإرهاب في العالم!! وقد أدينت من قِبَل محكمة العدل الدولية بدعم
الإرهاب في العالم، ولديها سجل حافل بذلك لا يخفى على أحد!! فإدارة ريغان
جاءت للحكم عام 1981م حاملة شعار الحرب على الإرهاب، وما يسمى الحرب
على الإرهاب الآن إنما هو إعادة لما طرح سابقاً! وشنت إدارة ريغان حروباً في
أكثر من مكان في العالم، فقد شنت أمريكا في الثمانينيات حرباً في أمريكا الوسطى
التي تضم كبرى الجماعات الإرهابية وقتل فيها الآلاف، كما أن الكنائس الكاثولوكية
كانت من ضمن الأهداف الرئيسة المستهدفة، وتشن الولايات المتحدة حرباً ضد
المنظمات المعادية لها والكنائس في كولومبيا التي لها أسوأ سجل في انتهاك حقوق
الإنسان. كما أن أمريكا دعمت دولاً إسلامية مثل إندونيسيا التي تعد أكبر بلد
إسلامي؛ فقد دعمت الجنرال سوهارتو وسجله حافل بانتهاك حقوق الإنسان أكثر
من صدام حسين، بل إن أمريكا دعمت صدام حسين نفسه في الثمانينيات، فيوجد
صراع بين الإسلام والغرب ولكن توجد مصالح كبيرة بينهما أيضاً.(186/40)
الإسلام لعصرنا
سياسة التناقضات المستعلنة
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
ما جريمة العراق التي ستعاقبه عليها الولايات المتحدة بحرب ربما أزهقت
آلاف النفوس من العراقيين، وشردت آلافاً أخرى، وأعاقت آلافاً غيرها، وخربت
البلاد، وكلفت الولايات المتحدة بلايين الدولارات، وذهب ضحيتها العشرات إن لم
تكن الآلاف من الجنود الأمريكان، ثم ربما كان من آثارها تلويث للأجواء يتضرر
منه البشر من كان منهم قريباً من العراق ومن كان قاصياً عنها؟
ما الجريمة التي تستدعي هذا العقاب البالغ التكاليف؟ إنه تهمة امتلاكه لما
يسمى بأسلحة الدمار الشامل. العراق ينفي هذه التهمة. لكن الدولة التي تريد أن
تخوض تلك الحرب الضروس تملك من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي كما يقولون
لتحطيم الكرة الأرضية كلها. وحليفتها في تلك الحرب بريطانيا تملك منها الشيء
الكثير، ومحرضتها على الحرب إسرائيل تملك عدداً من القنابل النووية؛ فما الذي
جعل امتلاكهم لها حلالاً وللعراق وغيرها من الدول العربية حراماً وإجراماً؟ وإذا
كانت العراق تنفي امتلاكها لمثل تلك الأسلحة، فإن دولاً أخرى وصفت بأنها من
محور الشر تعترف بأنها تملكها، بل وأنها ستطورها.
وإذا كانت العراق قد سمحت لمفتشي الأمم المتحدة بدخول أراضيها، وولوج
كل مرفق فيها، فإن كوريا الشمالية قد طردتهم شر طردة، وأعلنت ذلك على الملأ؛
فما الذي جعل العراق خطراً داهماً ولم يجعل كوريا كذلك؟ وإذا كانت جريمة
العراق أنها لم تنصع لقرارات الأمم المتحدة، فإن الدولة التي تريد معاقبتها على
ذلك تقدم قرارات مجالسها التشريعية على كل قرارات الهيئات الدولية، وتحول دوم
معاقبة إسرائيل حين تخرج على تلك القرارات. بل إن الدولة التي تريد معاقبة
العراق على عدم انصياعها لأوامر الأمم المتحدة، تعلن أنها ستخوض حربها مع
العراق رضيت الأمم المتحدة أم غضبت. والمسؤولون فيها يتكلمون عن الأمم
المتحدة بكثير من التعالي، ويأمرونها بأن تفعل كذا وكذا، وإلا كانت قد فشلت في
أداء مهمتها؛ حتى إنك لا تدري: أعن الأمم المتحدة يتحدثون، أم عن مدرسة
ثانوية في قرية من قراهم؟
وإذا كانت أسلحة الدمار الشامل أول ما تكون خطراً على الدول المجاورة لها،
لا على بريطانيا وأمريكا التي تسعى لحربها وعقابها، والتي تبعد آلاف الأميال
عنها، فإن هذه الدول المجاورة مجمعة على رفضها للحرب، فلماذا لا يستمع لرأيها؟
وإذا كان الغرض من الحرب هو تخليص الشعب العراقي من دكتاتورية
غاشمة؛ فما دكتاتوريته بالدكتاتورية الوحيدة في العالم، فلماذا كانت هي الوحيدة
التي تستحق أن تحارب؟
حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا حكومات ديمقراطية، والديمقراطية هي
حكم الشعب، أو هي في الواقع حكم من تختاره أغلبية من شاركوا في الانتخابات
ممن تحق لهم المشاركة. لكن الذين يعترضون على الحرب الآن في كل من
الدولتين هم بحسب الاستطلاعات أكثر عدداً من الذين صوتوا لكل من الزعيمين
الأمريكي والبريطاني ومكنوهما من حكم بلادهم. لكن كلاً من الزعيمين الآن
يضرب برأي هذه الأغلبية عرض الحائط، ويمضي لا يلوي على شيء في طريقه
إلى الحرب. وكذلك تفعل الدول الديمقراطية المؤيدة للحرب؛ حتى إن مراسلاً
لمحطة الـ (بي. بي. سي) قال إنه تجول في شوارع بلدان أوروبا الوسطى
فالتقى بالكبار والصغار والرجال والنساء باحثاً عن شخص واحد مؤيد للحرب فلم
يجده! بل وجد الناس معارضين للحرب قائلين إنها حرب من أجل البترول. لكن
حكومات هذه الشعوب كانت من أول من أعلن تأييده للولايات المتحدة.
وأيضاً إذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، فلماذا لا يستمع إلى الشعوب
العربية التي يهمها أمر العراق أكثر مما يهم غيرها. وقد قالت هذه الشعوب وقال
حكامها إنهم لا يريدون الحرب، وأنهم يعدونها اعتداء، وأن آثارها ستكون ضارة
ضرراً بليغاً بالمنطقة كلها.
ولماذا لا يستمع إلى رأي الشعوب الأوروبية والأسترالية والنيوزيلندية
وغيرها من شعوب العالم التي خرجت في مظاهرات تقدر بالملايين معترضة على
خوض مغامرة الحرب، خائفة من نتائجها؟ أم أن الديمقراطية إنما يلتزم بها إذا
كانت موافقة لمعتقدات الحاكم؛ فإذا هي خالفتها تحولت إلى دكتاتورية لا تلقي لآراء
الشعوب بالاً مهما كثر عددهم، ومهما كان الأمر مهماً لهم؟
ومع هذا الخروج على مبدأ الديمقراطية تزعم لنا الدول التي توقد نار الحرب
أنها إنما تفعل هذا لنشر الديمقراطية وتحقيق الحرية!
إن الباطل لجلج؛ وهذا التناقض يدل على أن الأهداف المعلنة لحرب العراق
ما هي بالأهداف الحقيقية. ما الذي يدعو الحكومات الغربية المصرة على الحرب
للوقوع في مثل هذا التناقض؟ ما الذي يدعوها لأن تخالف رأي شعوبها وتخسر من
كانوا يعدون من أصدقائها؟ ما الذي يدعوها لأن تصرف الأموال الباهظة وتضحي
بالنفوس الغالية؟ إنه لا يمكن أن يكون مجرد حرص على إزاحة دكتاتور عن
كرسي حكمه، ولا يمكن أن يكون هلعاً من أسلحة دمار شامل على فرض وجودها
لا تأثير كبير لها على الدول الغربية. لا بد أن يكون إذن شيئاً تراه هذه الحكومات
أمراً جللاً مهدداً لاستمرار ثقافتها وحضارتها الغربية، لكنه مع ذلك أمر لا تستطيع
أن تصرح به؛ لأنه من الصعب عليها أن تقنع شعوبها به، ولأنه ربما كان منطلقاً
من موقف اعتقادي لا تشاركها جماهيرها فيه، ولأنه يتناقض مع قيم طالما رُبِّيَ
الناس في الغرب الحديث عليها، ولا سيما في أيام الحرب الباردة، لإظهار تفوق
الحضارة الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية على الأيديولوجية الشيوعية. كيف تتخلى
هذه الجماهير عن قيم قيل لها إنها لب حضارتها وسر تفوقها الخلقي؟
ما هذا الأمر الجلل الذي يدعو حكام الدول الغربية وبعض مناصريهم من قادة
فكرهم إلى الخروج على هذه القيم التي عاشوا عليها سنين طويلة من حياتهم الحديثة
التي أعقبت الحركة الاستعمارية؟
لا بد أن يكون الذي سبب كل هذا الخوف وسوغ تلك التناقضات والتضحيات
أمراً لا تقاومه أو تقف في طريقه قوة السلاح المادي مهما عظمت. إنه أمر يُخشى
أن يدخل في قلوب كثير من الأفراد فيجعل منهم أفراداً آخرين لا صلة لهم
بالحضارة الغربية كما عرفت حتى الآن.
فما هو يا ترى هذا الشيء؟
أترك أمر تحديده لفطنة القراء الكرام.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(186/46)
نص شعري
أبشري يا أمتي
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
أبشري يا أمتي، زال الغُثاءُ ... وصَفَا من كَدَر الأَوهامِ ماءُ
كشَفَتْ أوراقَها مؤتمراتٌ ... لم يَعُدْ يَحجبُها عنَّا غِطاءُ
وانجلى عنَّا غبارٌ، كان يُخفي ... مَنْ تنادَوا وتمادَوا وأساؤوا
بَرَزَ الوجهُ الهُلاميُّ قبيحاً ... وبدا ما كان يُخفيه الخَفَاءُ
كُسِرَ القُفْلُ عن الدَّار فلمَّا ... فُتِحَ البابُ، عَلاَ فيها البكاءُ
وبدتْ منها وجوهٌ بائساتٌ ... وجراحٌ نازفاتٌ ودماءُ
خبّرينا عن ضحاياكِ، وبُوحي ... يا زوايا الدَّار، فالبَوْحُ شفاءُ
افتحي بابَ خفاياكِ، وقولي: ... ما الذي خبَّأ فيكِ الأدعياءُ؟
ولماذا التحفوا بالصَّمْتِ لمَّا ... واجهوا اللِّصَّ وبالخسران باؤوا؟
إيهِ يا دار الأسى، قولي لزيدٍ: ... ضَرْبُ عَمْرٍو يا أخا الوهم اعتداءُ
واحتفاءُ المرء بالباغي جنونٌ ... بئسما يصنع هذا الاحتفاءُ
إيهِ يا دارَ الأسى، ما زلتُ أدعو ... أمةً، أسرف فيها الأشقياءُ:
أمتي، في وجهك القَمْحيِّ معنىً ... لم يزل يسأل عنه الدُّخَلاءُ
قرؤوا الألفاظ والمعنى بعيدٌ ... دونَه جَهْلُ الأعادي والغَبَاءُ
لا تخافي من أباطيلِ رجالٍ ... ذهبوا بالظلم في الدنيا وجاؤُوا
لا تخافي من رؤوس عظَّموها ... وهي من معنى المروءَاتِ خُواء
حدِّثي مَنْ شربوا الوَهْمَ كؤٌوساً ... وإذا ما أَحسنَ الناسُ أساؤوا
أرسلي صوتَكِ فيهم بنداء ... ربما يُوقظهم منكِ النداءُ:
يا رجالاً شَرِبوا الليلَ، فلمَّا ... أظلمتْ أعماقُهم، ساءتْ وساؤوا
كيف نرقى سُلَّمَ المجد، إذا لم ... يَرْدَعِ الجاهلَ منَّا العُقَلاءُ؟
إنَّما يُفْتَحُ بابُ الذُّلِّ، لمَّا ... يُكْرَمُ العاصي ويُجْفَى الأتقياءُ
كَبُرَ الوعيُ لدينا فاعذرونا ... إنْ كشفنا زَيْفَكُم يا أذكياءُ
يا دُهَاةَ القومِ، مهلاً، كم رجالٍ ... زادَهُم بُعْداً عن الحقِّ الدَّهاءُ
إنَّما ينهزم الإنسانُ حَقّاً ... حين تُعمي مقليته الكبرياءُ
شُرَفاءُ القومِ مَنْ يَأْبَوْنَ ذُلاً ... وخضوعاً حين يُدْعى الشرَفاءُ
أمةُ الإسلامِ، لا يَدْفَع عنها ... صولةَ الكفَّارِ، رَقْصٌ وغناءُ
وبياناتٌ، لها لفظٌ غريبٌ ... ومعانٍ، دينُنا منها بَرَاءُ
وفضائياتُ وَهْمٍ وانحرافٍ ... يشتكي من سوءِ ما فيها الفَضَاءُ
شُبُهاتٌ، شهواتٌ، ورجالٌ ... يشربون الوهمَ صِرْفاً، ونساءُ
ومِرَاءٌ يجعلُ الناسَ حيارى ... ولَكَم يَفتكُ بالعقلِ المِرَاءُ
أمةُ الإسلام لا يدفَعُ عنها ... صَوْلَةَ الباغينَ إلا الشُّهَداءُ
أبشري يا أمتي، فالنورُ يَهْمي ... ومع النورِ عطاءٌ وسَخاءُ
يَفْرَحُ الليلُ بمعنى الليل، لكنْ ... يفقدُ المعنى إذا لاحَ الضِّياءُ
قيمةُ الإنسانِ في قلبٍ سليمٍ ... ولسانِ الصدقِ، واللَّوْنُ طِلاَءُ
أنشَدَ اللُّؤلؤُ في البحر نشيداً ... يُطْرِبُ القلبَ، فلا كانَ الغثاءُ
داؤُنا فينا، ولو أنَّا اعتصمنا ... بكتاب الله، ما استفحلَ دَاءُ(186/48)
المسلمون والعالم
ملحمة بغداد
هل تغير وجه العالم؟
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
يبدو أن التغيير الذي تريد أمريكا إحداثه في منطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من
بغداد؛ سوف يشمل نظام العالم كله لا نظام المنطقة فحسب، فمنذ بدأت حرب
الإرهاب الأمريكية ضد العرب والمسلمين في محطتها الأولى بأفغانستان؛
والأحداث تسير بما يشير إلى قدر إلهي غالب؛ تبدو فيه الولايات المتحدة ماضية
في طريق الاستدراج بقيادة طاقم الشر في الإدارة الأمريكية، فهي تمضي إلى حتفها
مع حلفها المساند لها في الظلم مهددة الحضارة الغربية بأسرها بالسقوط؛ بكل ما
تحمله من مظاهر خدَّاعة لم يُقَدَّر لها أن تُكشف على حقيقتها مثلما يحدث اليوم،
فالعالم يتغير، وفي طريقه إلى مزيد من التغير، لا وفق «نظام عالمي جديد» ،
بل وفق انقلاب دولي شامل، يجعل من حرب العراق بداية لانهيار المؤسسات
العالمية والإقليمية، فمجلس الأمن والأمم المتحدة وحلف الأطلسي والاتحاد
الأوروبي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، كلها تواجه تغييراً جذرياً،
ربما يلغي بعضها بشكل نهائي، وللولايات المتحدة الدور الأساس في ذلك التغيير
الذي قد يعود عليها بالتدمير.
* شكراً للطاغوت الأبله:
- لم يشهد تاريخ الولايات المتحدة بروز طاغوت متجبر مثل جورج بوش،
ولكن يبدو أن انتقام الله تعالى من الأمريكيين على جرائمهم التاريخية؛ بدأ بعد أن
تولى رئاستهم ذلك الرئيس الأخرق، فهو على ما نرى أداة انتقام إلهية، سُلط
الأمريكيون به على أنفسهم ليخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فابتداء جورج
بوش عهده باستفزاز المسلمين عن طريق المساندة الكاملة لمجرم الحرب شارون،
مع وصفه بأنه رجل سلام؛ ألَّب على الأمريكيين الغضب، وألهب إرادة الانتقام
التي تصاعدت وتضاعفت حتى بلغت ذروتها بحادثة 11/9/2001م، والتي أفقدت
الإدارة الأمريكية صوابها وعقلها، فراح الرئيس الأمريكي وأركان إدارته يتخبطون
في سياسات هوجاء، تسير على عكس ما يريده الأمريكيون، ولا نشك أن هذا من
مكر الله بالذين يمكرون السوء، فيعاملهم الله بضد قصدهم، ويجعل نتائج أعمالهم
عليهم، ولو رحنا نتأمل كيف أضر الرئيس الأمريكي بأمريكا من حيث يريد لها
النفع، أو كيف نفع أعداءها من حيث أراد بهم الضر لما انتهى بنا العجب!
[وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ
أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ] (النمل: 50-51) .
- أراد طاغوت أمريكا أن يقود العالم في حرب استئصال لما سماه بالإرهاب؛
فإذا به يساهم من حيث لا يدري في إقامة أكبر يقظة جهادية على مستوى الأمة
منذ قرون؛ حيث أسهمت إجراءات الحرب الإرهابية التي شنها على الإسلام باسم
الحرب على الإرهاب؛ في استثارة الحمية لدى الآلاف، بل الملايين من شباب
العالم الإسلامي، والذين بدؤوا يدركون أن أمريكا تستهدف دينَهم قبل دنياهم،
وعِرْضَهم قبل أرضهم، وهُويَّتَهم قبل ثقافتهم.
- وأراد الطاغية أن يوحد العالم خلفه في تلك الحرب المعلنة؛ فإذا به يسهم
بحربه الطائشة في العراق في تفكيك ما سُمي قبل شهور بـ (التحالف الدولي ضد
الإرهاب) ، حتى إن بعض الأطراف كالصين وروسيا وإيران بدأت تقدم
المساعدات لأعداء أمريكا من وراء الكواليس؛ نكاية في تلك الدولة الراغبة في
الإضرار بالجميع لحماية مصالحها فقط، ولأول مرة ينجح رئيس أمريكي في عزل
أمريكا وتكثير أعدائها بتلك الصورة المدهشة.
- وأراد بوش أن يسهم مع المنافقين في العالم الإسلامي في تشويه صورة
الإسلاميين؛ بتصويرهم أعداء للعدالة والحرية والإنسانية؛ فإذا به يُكسبهم مصداقية،
وينشئ تعاطفاً شعبياً جارفاً لهم في أكثر البلدان.
- وأراد الـ (بوش الأصغر) أن يكمل ما بدأه الـ (بوش الأكبر) ؛ من
التمكين لأمريكا بالتفرد على قمة القطب الأوحد في قيادة العالم؛ حيث كان التخطيط
أن يظل القرن الحادي والعشرين أو نصفه على الأقل أمريكياً؛ فإذا به يمهد بصلفه
وغروره لميلاد عالم متعدد الأقطاب في بداية العام الثالث فقط من القرن الجديد،
فالعالم الآن يشهد ميلاد قطب أو أقطاب جديدة؛ بعد المواقف الرعناء لإدارة بوش
قبل وأثناء الحرب العراقية في المحافل الدولية؛ حيث أخرج ضغائن فرنسا، وأثار
قلق الصين، وأمعن في الاستهانة بروسيا وألمانيا، وهذه ليست قوىً هامشية في
العالم، فهي قادرة إذا تكتلت أن ترغم أمريكا على التنازل عن عرش التفرد بالقطبية،
وتزاحمها فيها.
- وأراد بوش استغلال نظم الزيف والدجل المسماة بـ (الشرعية الدولية) ؛
لتكمل أمريكا من خلالها استعباد العالم وإخضاع الشعوب؛ فإذا بجورج المشؤوم
يُنَكِّل بتلك الشرعية المزعومة، ويظهرها أمام العالم على أنها شريعة شيطانية ما
اختُرعت إلا لإضفاء الشرعية على هيمنة قوى الظلم الخمس صاحبة الفيتو على
مقدرات بقية شعوب العالم ومصائرها، وقد أوجد بوش شعوراً متزايداً بأن تلك
المؤسسة الدولية، ومنظمتها العالمية (الأمم المتحدة) لا تستحق أن تبقى؛ بعد
مهزلة التفرد الأمريكي دون قراراتها وتوصيات أعضائها في أزمة العراق، ولا
أظن أن تبقى تلك المنظمة بنظامها القديم الذي أغرى أمريكا باللعب بها، بل لا بد
أن تسعى الدول المتضررة إلى تطويرها في وجه أمريكا، أو إلغائها وابتكار لعبة
دولية أخرى تُحَيِّد السيطرة الأمريكية على المنظمات الدولية.
- وأراد بوش أن يصور أمريكا على أنها حامية قيم العالم (الحر) ، وأنها
مسؤولة عن حماية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فإذا ببوش نفسه، بعد
أقل من عام ونصف على بدء حملته الصليبية، يدمر أمام العالم تلك القيم، فيهين
الديمقراطية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويدوس حقوق الإنسان في جوانتانامو
والعراق، ويقمع الحرية في فلسطين والسودان، وغيرها.. وهو بذلك لا يحطم
القيم التي طالما تفاخر بها الأمريكيون على الشعوب فحسب؛ بل يطحن معها
الأسس التي قامت عليها (نظرياً) الحضارة الغربية كلها، تلك الحضارة التي دللت
بتطبيقها لها على عنصرية فجة؛ إذ لا ترى تلك القيم الغربية جديرة إلا بالإنسان
الغربي في بلاده، أما بقية الشعوب فالحرية ضارة بها، والديمقراطية لا تصلح لها،
وحقوق الإنسان محجوبة عنها، ولا أظن أن أحداً أضر اليوم بذلك الثالوث القيمي
العنصري حتى في بلاده مثل جورج بوش.
- أحب بوش أن يدعم وجود أنظمة النفاق العميلة في أنحاء عديدة من العالم
الإسلامي؛ فإذا به يهدد الدعائم التي يقوم عليها استقرار تلك الأنظمة، بمبالغته في
إحراجها، وإظهار عمالتها أمام شعوبها، وجرأته على إعمال المبدأ الأمريكي
العريق في تقديم المصلحة الأمريكية فوق كل اعتبار، وإصراره على التعامل مع
القادة والزعماء بفوقية وعنجهية؛ تسهم الآن إلى حد كبير في توهين سند
الأمريكيين في بلدان المسلمين؛ بحيث ظهر لأكثر الشعوب على وجه يشبه المفاجأة
أن ما يتحدث به الحكام عن «الاستقلال» و «الإرادة الوطنية» و «المصلحة
العليا للشعب» ما هي إلا شعارات جوفاء تُخفي أشكال التبعية، والعمالة، وفقدان
الاستقلال.
وكل هذه الإنجازات وغيرها؛ يتبرع راعي الجبروت الأمريكي بتعجيل
تحقيقها ببلاهة لا يُحْسَد عليها؛ تعجيلاً للأجل المحتوم للأمة الأمريكية؛ إلحاقاً بما
سبقها من الأمم: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]
(الأعراف: 34) .
* (حرب الفرات) والفرصة السانحة:
- كان الحديث عن المشروع الصهيوني الأنجلوساكسوني (إسرائيل الكبرى
من النيل إلى الفرات) منذ بضع سنوات فقط؛ يعني عند بعض الناس ضرباً من
«الأوهام» ، ولوناً من «السطحية» ، وشكلاً من أشكال التأثر بـ
(نظرية المؤامرة) ؛ إذ استغرب هؤلاء الحديث عن مثل تلك المؤامرات
«النظرية» في ظل واقع متغير، أصبح فيه الأمريكيون والإنجليز أصدقاء،
وأصبحت فيه فرص التعايش مع اليهود ممكنة الوقوع وقريبة المنال. إلا أن المتابع
لانتظام تنفيذ اليهود لمخططاتهم بمؤازرة من النصارى، في ظل غفلة وغياب
المسلمين، كان لا يسعه إلا أن يخاف من مجيء الوقت الذي تتهيأ فيه الظروف
لاستكمال ذلك المشروع، مثلما تهيأت أو هُيئت من قبل الظروف لاغتصاب أرض
فلسطين، ثم إقامة الدولة عليها، ثم اتخاذ العاصمة لها.
الأمريكيون والإنجليز يريدون احتلال العراق، وكلما اقتربوا من نهر الفرات،
اقترب الإسرائيليون منه، وقد أعادت هذه الأحداث الحديث عن المشروع العتيد
(إسرائيل الكبرى) ، ذلك المشروع القديم قدم التوراة المحرفة، والحديث حداثة
حرب العراق وقت كتابة هذه السطور. المشروع ليس مجرد وجود نص في التوراة
(لنسْلِكَ أُعطي هذه الأرض، من نهر الفرات إلى نهر مصر الكبير) [التكوين:
12] ، بل هو أيضاً محتوى الخطة التي أودعها هرتزل في كتابه (الدولة
اليهودية) ، ومنذ بداية القرن الميلادي الماضي، وذلك المشروع يمضي بلا توقف
، عبر مراحل من الحرب المدبرة، أو السلام الخادع، كل مرحلة تقطع شوطاً على
درب التنفيذ [1] .
كان العراق على مائدة التخطيط لدى من وضعوا ما عُرف في حقبة
الثمانينيات الماضية بـ (مخطط الدويلات الطائفية) ، وهو مخطط نشرت محتواه
مجلة (كيفونيم) الإسرائيلية، عن تقرير للمنظمة الصهيونية العالمية بالقدس، وقد
طُرحت خلال ذلك التقرير تصورات وخيارات الدولة العبرية لما يمكن أن يُنفذ في
المناطق المحيطة بـ (إسرائيل) ؛ لقطع شوط جديد على طريق (إسرائيل
الكبرى) ، وفي الفقرة الخاصة بالعراق قال التقرير: «أما العراق؛ فهي غنية
بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفكيكها أهم بالنسبة لنا من تفكيك
سوريا [2] ؛ لأن العراق يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل» [3] .
هذا الكلام قيل قبل أن تبدأ حرب الخليج الأولى، وحرب الخليج الثانية،
لنصل الآن إلى حرب الخليج الثالثة التي مهد لها ما سبقها.
خلال العقد المنصرم رُسمت خطوط استراتيجية جديدة، جرت تحركات
بشأنها للتمهيد لما يحدث الآن من تغيير لخريطة الشرق الأوسط وغيرها من الأماكن
المهمة في العالم؛ مما يخدم المصلحة المزدوجة للولايات المتحدة و (إسرائيل) ،
وكانت بداية ذلك حرب الخليج الثانية، والتي زلزلت استقرار المنطقة تمهيداً لإيجاد
(نظام إقليمي جديد) ؛ يضمن سيطرة إسرائيل على منطقة الشرق الأوسط سلماً أو
حرباً، وهو ما يمهد في الوقت نفسه لإيجاد (نظام عالمي جديد) يضمن هيمنة
الولايات المتحدة على العالم، وبالفعل أعلن بوش الأول عن بدء (النظام العالمي
الجديد) بعد حرب الخليج الثانية، ثم أعلن شمعون بيريز عن (النظام الإقليمي
الجديد) أو نظام (الشرق أوسطية) ، ولكن مشروع بيريز الذي كان يرمي في
النهاية إلى التمكين لـ (إسرائيل الكبرى) سلمياً، فشل أو أُفشل، وفشل أيضاً
جورج بوش الأب في التمكين لـ (النظام العالمي الجديد) سلمياً بسبب سقوطه
السريع، فجاء الآن كل من بوش بن بوش وشارون (ابن....) لتحقيق
المشروعَيْن عسكرياً لا سلمياً؛ مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم، ومشروع
الهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط.
أما المشروع الأمريكي؛ فقد تطور من مسمى (النظام العالمي الجديد) إلى ما
يسمى (مبدأ بوش الجديد) الذي أعلن عنه في 20/9/2002م؛ تحت ذريعة حماية
الأمن القومي الأمريكي، ومبدأ بوش يمثل انقلاباً في طريقة الولايات المتحدة لأجل
السيطرة على العالم؛ حيث انحاز إلى الطرق العسكرية بدلاً من الأساليب السلمية،
ويوازي هذا الانقلاب الأمريكي انقلاب إسرائيلي على الطرق السلمية لتحقيق
مشروعها الخاص بها في الشرق الأوسط. وهو ما يقوم به شارون عملياً منذ بدأت
الانتفاضة؛ حيث يتوقع أن ينتقل في المرحلة المقبلة من الحرب الداخلية إلى
الحرب الخارجية لتغيير التركيبة الإقليمية لصالح دولة اليهود.
وقد تحدَّثَتْ عن المشروعَيْن منذ أكثر من عشر سنوات مؤسسة (هيرتاج)
التي تعد أهم مراكز البحوث المتخصصة في الفكر والتخطيط السياسي في الولايات
المتحدة، وهي ذات توجه يميني متشدد، ومعروفة بارتباطها الوثيق بتيار
المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه بوش وفريقه المسعور،
وقد أشار الجزء المتعلق بالشرق الأوسط إلى استغلال المبدأ المعروف في علم
الاستراتيجية بـ (لحظة الاقتناص) أو (استغلال الفرص السانحة) ، والتي تعني
الاستمرار في تهيئة الظروف للخطط؛ حتى يجيء أوان تنفيذها، ولو استغرقت
التهيئة عشرات السنين.
من الأمور اللافتة للاهتمام جداً في أحداث الحرب الأخيرة؛ أن الحرب التي
نشبت ضد العراق تطلق عليها بعض الأوساط الأمريكية اسم (الفرصة السانحة) ،
ومما يلفت الانتباه أكثر وأكثر ترادف الأخبار وتواترها عن مشاركة إسرائيلية فعلية
في تلك الحرب، ولعل الأيام القادمة تكشف عن أبعاد تلك المشاركة وعن موقع
مخطط (إسرائيل الكبرى) من تلك الحرب السابعة من حروب ما كان يعرف بـ
(الصراع العربي الإسرائيلي) .
* حلف الإرهاب الساكسوصهيوني، وعاقبة الظالمين:
- في تحالف نصراني يهودي غير مسبوق بدت الولايات المتحدة الأمريكية
في الآونة الأخيرة مصرَّة على سلوك سبل الأمم الطاغية التي عرَّضت أنفسها لبأس
الله وانتقامه، فخلال الشهور القليلة الماضية فقط استطاعت أمريكا مع حلفها أن
تحوز شهادة عالمية من أكثر شعوب الأرض بأنها ظالمة ومسرفة في الظلم، وأي
أمة يُشهد عليها بذلك، ويصبح هذا الوصف غالباً عليها تصبح عرضة للهلاك ولو
بعد حين: [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً] (الكهف:
59) ، وإذا نظرنا فقط لظلم الأمريكيين للشعب العراقي بين حربي الخليج الثانية
والثالثة، لتعجبنا من عظيم حلم الله تعالى على عباده عندما يطغون ويبغون.
والوقت لا يزال مبكراً للحديث عن نتائج الإجرام الأمريكي في حرب الخليج الثالثة،
لكن ما سبقها يشير إلى ما يمكن أن يحدث الآن، والأرقام تتحدث عن ملامح هذا
البغي والطغيان، فبحسب تقارير منظمة اليونيسف التابعة للأمم المتحدة، والتي
نشرتها صحيفة الواشنطن بوست في 12/3/2003م؛ فإن ضحايا الحصار
الأمريكي الممتد إلى اثني عشر عاماً يزيد أضعافاً كثيرة عن ضحايا حرب الخليج
الثانية، فبينما أدت تلك الحرب إلى مقتل ما لا يقل عن 30 ألف عراقي؛ بينهم
خمسة آلاف مدني؛ فإن العراق يخسر شهرياً خمسة آلاف طفل من جراء الحصار؛
أي ستين ألف طفل في العام، ولهذا قال تقرير اليونيسف المذكور إن ضحايا
الحصار كان يمثل حرب خليج أخرى تتجدد كل عام منذ انتهاء حرب 1991م.
إضافة إلى ما سبق؛ فإن وثيقة غير معلنة للأمم المتحدة، صدرت في
7/1/ 2003م عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHA) تحدثت عن
أن 30% من أطفال العراق دون سن الخامسة أي حوالي 1.26 مليون طفل يمكن
أن يموتوا جوعاً بسبب نشوب حرب جديدة، وهذه النسبة تزيد على ربع
مجموع أطفال العراق البالغ عددهم 4.2 ملايين طفل!
والأمريكيون الذين لم يرحموا الصغار؛ يُسرفون ولا يزالون يُسرفون في إبادة
الكبار، فالحرب الدائرة اليوم هي امتداد رهيب للنزيف البشري الذي حدث في
حرب الخليج الثانية، حيث ألقي على الشعب العراقي (141) ألف طن من
المتفجرات؛ منها (350) طن من اليورانيوم المنضب، خلال طلعات جوية بلغت
(112) ألف طلعة.
كل ما يجري على يد الأمريكيين من مظالم في العراق، وما يجري على يد
الصهاينة في فلسطين، إنما تتحمل المسؤولية فيه بشراكة كاملة، راعية الإرهاب
المعاصر ضد المسلمين بريطانيا الحقود التي كانت ولا تزال وراء أكثر نكبات
المسلمين.
وما يحدث ولا يزال يحدث في العراق، هو استئناف عنيد لمسيرة الإرهاب
الساكسوصهيوني المتواطئ منذ أكثر من مئة عام ضد المسلمين، لاستكمال
مشروعي السيطرة العالمية للأنجلوساكسون، والإقليمية لأبناء صهيون.
* الثيران السود ومصارع السوء:
- المَثَل السائر (أُكِلْتُ يوم أُكل الثور الأبيض) لم يعد صالحاً للاستشهاد به
على واقع العرب والمسلمين، فالمَثَل المشهور يحكي قصة ثيران غافلة ساذجة
شاهدت (بسلبية) شقيقها والأسد يفترسه، ثم كررت الموقف السلبي مع باقي
الثيران، حتى جاء دور آخرهم وهو الثور الأسود، فقال تلك الكلمة التي صارت
مثلاً. تلك الثيران كان يمكن وصفها حقاً بأنها غافلة وغير عاقلة، ولكن الثيران
السود في واقع الأنظمة العربية والإسلامية الراهن لم تقف موقفاً سلبياً، ولكن الكثير
منها وقف موقفاً (إيجابياً) مع «الأسد» ؛ فبعض تلك الثيران سمح للأسد بأن
يعتلي ظهره ليقفز منه على ظهر شقيقه، وبعضها فتح له حظيرته ليمر من أجوائها
وسمائها، وآخر يسَّر له المرور من مياهه الإقليمية؛ ممارساً حق (السيادة) في
مساعدة حملات الإبادة، وبعضٌ آخر أمدَّ الأسد بتسهيلات ومكرمات كلما احتاج إلى
عون على عناء التعب من الافتراس، أو أخذ من الأسد معونات ومكرمات في
مقابل سكوته أو مشاركته في خططه، لن أذكر هنا ما يدلل على ذلك من البيانات
والإحصاءات، ولكني أترك للقارئ البحث عن ذلك وهو موجود، وأترك له أيضاً
البحث عن جواب للسؤال الحائر: مَنْ قتل الثور الأبيض في فلسطين، وأفغانستان،
والشيشان، والسودان؛ أهو أسد من الأسود، أم الثيران السود؟!
على كل حال؛ نحن نعتقد أن مصارع السوء تنتظر العديد من الثيران السود،
ولكن أسوأها مصرعاً أكثرها تعاوناً مع الأسد الخسيس!
* وقفات مع الأحداث:
- أولاً: لا يسع أي مراقب منصف إلا أن يحيي صلابة المقاومين العراقيين
للغزو الصليبي الأنجلو أمريكي في المراحل الأولى، ويحيي صمود شعب العراق
في وجه المحنة الكبرى التي ألمت بهم، ونلمح هنا مستجداً جديراً بالوقوف أمامه
بتأنٍ وروية، من خلال نظرة تجمع بين الواقعية والعلمية، وهو ذلك التغير
الملحوظ وإن كان نسبياً في خطاب بعض القيادات العراقية، السياسية والعسكرية،
فقد بدأ هذا الخطاب يستدعي المعاني الإسلامية، ليخلطها بالمبادئ القومية، بعد أن
كانت المبادئ القومية هي كل شيء في العراق، وهنا نقول: سيسعد كل مسلم أن
يكون هذا التحول حقيقياً، ولو على مراحل، والقلوب بين أصبعين من أصابع
الرحمن يقلبها كيف يشاء، على أنا نقول: إن الشعب العراقي ليس هو البعث، ولا
حتى الجيش العراقي هو البعث، ففي العراق الكثير والكثير من الأمناء على دين
العراق وأمنه واستقلاله كوطن من أوطان المسلمين، وأمثال هؤلاء؛ إنما ينافحون
عن أمة، بقيمها وشعوبها ومقدراتها، لا عن مجرد شخص، وهذا هو الحال أيضاً
في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، ومع ذلك لا ينبغي أن ننكر أثر التغير في
اتجاهات العديد من القوميين في السنوات الأخيرة، بل تحول بعضهم إلى الإسلام
في بعض الأحيان، وأبرز مثال على ذلك ما حدث في حزب العمل الاشتراكي
بمصر، فتغير موازين القوى في العالم، مع تقلب الأحداث ووضوح حقيقة ما
يجري على أرض الصراع ينشئ تحولات تتنامى مع الأيام، فهل يسهم جبروت
الغزاة في العراق، مع تبنيهم للخطاب الديني النصراني واليهودي الفج الصريح،
مع تداعي الشعارات القومية وسقوطها على الأرض من الناحية العملية؛ في إقناع
المزيد من العراقيين بإفلاس القومية العربية كراية وحيدة لمواجهة التحالف الديني
الصهيوساكسوني؟ وهل سيدفعهم ذلك إلى تبني التوجه الإسلامي الذي أثبت قدرته
على تجييش الأمة، وتعبئة الشعوب؟ وهل سيرى أهل العراق حكاماً ومحكومين
في ضوء المحنة، ألا ملجأ من الله إلا إليه؟ لا نريد أن نسرف في التفاؤل، كما لا
ينبغي أن نسرف في الجفاء، فصمود العراقيين أمام الجبروت الأمريكي مطلب
مجمع عليه بين كل من يخشى على هذه الأمة من الاجتياح السهل السريع الذي
كانت تحلم به أمريكا وحلفها المشؤوم.
- ثانياً: الساحة العراقية المستباحة، ليست خاصة بالعرب فقط، ولا
بالعراقيين فحسب، بل إن أرض إبراهيم الخليل ولوط ويونس عليهم السلام،
وأرض الأمجاد الإسلامية في القادسية والمثنى وذي قار، هي مسؤولية كل
مسلم، وفتاوى علماء المسلمين الرسمية وغير الرسمية، التي أجمعت على وجوب
الجهاد على المسلمين لرد العدوان على العراق، كافية لأن تؤرق جفن كل غيور،
حتى يجد له موطئ قدم في المساهمة في أداء ذلك الواجب العيني، حتى يلقى الله
بريئاً من إثم النكول عن الجهاد، أو القعود عن نصرة الدين. يستطيع كل منا أن
يفعل الكثير من الآن، استعداداً لمرحلة قد تكون أشد خطراً، بما قد يفرض
على المسلمين أن يقيموا ساحة جهاد عالمية في العراق ضد الغزاة الجدد، على
أنا لا ننصح تحت أي ظرف بإقامة شرعة الجهاد والتي أفتى بها العديد من أهل العلم
الآن، إلا تحت راية إسلامية خالصة، ولهذا فإن التأني وعدم العجلة ينبغي أن
يضبط حركة شباب الأمة في هذه الظروف المصيرية، كما ينبغي أن لا ينجروا بين
يدي ذلك إلى أي معارك جانبية، فالمرحلة تحتاج إلى توحيد الجهود، ورص
الصفوف مع تنقيتها وتقويتها.
- ثالثاً: الإسلاميون بعلمائهم ودعاتهم وجماعاتهم وجمعياتهم، ينبغي أن
يكونوا في مقدمة صفوف الأمة في هذه الأيام العصيبة، بالقول والعمل، لا بالقول
فقط، فالله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً
عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ] (الصف: 2-3) ، وقد شهدت الآونة الأخيرة
ظاهرة لافتة، وهي تصدر العوام من القوميين والوطنيين لقيادة دفة الأمة، وتراجع
الصوت الإسلامي في كثير من البلدان، حتى من بعض الجماعات التي اتخذت من
الجهاد شعاراً لها، فلما جاء وقت الجهاد اكتفت بالقول عن العمل، أو بالسكوت عن
القول، وهذا من الخذلان عياذاً بالله. فالإسلاميون أولى الأمة بالتصدي لقضاياها،
وعلماؤهم أولاهم بحمل أمانتها، ولن يكون ذلك كذلك حتى يجتمعوا على كلمة سواء
من دين الله، علماء وعوام وطلاب علم، ينافحون عنه صفاً كأنهم بنيان مرصوص،
وإذا لم يكن هذا أوان وحدة الصف واجتماع الكلمة فمتى يكون؟! [وَإِن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
- رابعاً: أمام أمتنا الإسلامية في هذه الأيام فرصة عظيمة، في أن يتأهلوا
لشرف عظيم ومنقبة كريمة، خص الله بها هذه الأمة، وجعلها سمة بارزة من
تاريخها، وهي: أنه سبحانه يجعل هلاك الظالمين على أيدي مجاهديها، فإذا كان
هلاك الظالمين والكافرين في الأمم السابقة، يتم من خلال انتقام إلهي بتسليط
ظواهر الطبيعة عليهم، أو تسليط بعضهم على بعض في شكل انتقام قدري، فإن
انتقام الله تعالى من الكفار الظالمين في تاريخ هذه الأمة، شاء الله تعالى أن يظهره
في شكل انتقام شرعي، فقد جعل الله من أمر تعذيب الكفار المجرمين شريعة وديناً،
فقال سبحانه: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ] (التوبة: 14) ، والكفار قبل ذلك كانوا يعذبون بأمور قدرية
طبيعية [فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] (العنكبوت: 40) . وهذا لا ينفي إمكان تعذيب الجبارين
المعاندين لأمة محمد بالأمور القدرية أيضاً مع الأمور الشرعية، ولهذا قال الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم: [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ
نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ]
(التوبة: 52) ، ومن تأمل في تاريخ هذه الأمة، يجد الأقدار تجري بما يمكِّن
المسلمين من جريان سنة الانتقام الشرعي من الكفار على أيديهم، فقد كان هلاك
مشركي قريش على يد المسلمين في بدر، وسقوط الفرس على أيديهم في القادسية،
وإذلال الروم على أيديهم في تبوك واليرموك وحطين، كما أن سقوط القسطنطينية
كان على أيدي المجاهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وحتى في عصرنا، فقد أبى الله تعالى أن يجعل شرف إسقاط اتحاد الإلحاد
الروسي إلا على أيدي مجاهدين من جميع بلدان المسلمين في مرحلة الجهاد الأفغاني
السابق.
ولهذا نقول: لعل الله تعالى يهيئ لأهل الإسلام فرصة جديدة، في أن يكونوا
سبباً في إسقاط كيان الجبارين الآخرين في معسكر الغرب، بعد سقوط معسكر
الشرق، وما ذلك على الله بعزيز، فلنجعل من أرض العراق منطلقاً للتغيير لصالح
الإسلام، لمواجهة إصرار الكفار على جعلها منطلقاً للتغيير لصالح تحالف الكفر
والبغي العالمي الراهن بقيادة أمريكا الظالمة.
__________
(1) يمكن - إن شئت - أن تراجع فصل (إسرائيل الكبرى والحرب السابعة) في كتاب: (حمى سنة 2000) (من إصدارات المنتدى) ، حيث توقع الكاتب أن تقع حرب جديدة لخدمة مشروع (إسرائيل الكبرى) في بداية الألفية الثالثة؛ لتكون بذلك الحرب السابعة، بعد حروب 1948، 1956، 1967، 1973، 1982، 1991م، حيث كانت تلك الأخيرة في عام 1991م ضمن حروب الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن حاربت فيها أمريكا بالنيابة عن إسرائيل، كما يحدث الآن في الجولة السابعة من الصراع.
(2) لاحظ الكلام عن تفكيك سوريا! .
(3) نشرت هذا التقرير جريدة العرب تايمز (11/12/ 1992م) ، وجريدة العالم الإسلامي (9/10/1998م) ، والعرب الدولية (12/2/1998م) .(186/50)
المسلمون والعالم
بدأت الملحمة..
فماذا عن (إسرائيل الكبرى) ؟
هكذا تحكم الرؤية التوراتية الحرب مع العراق
أمير سعيد
amirsaid@hotmail.com
نعم! مؤرخنا العظيم ابن الأثير.. أنت تملك ما لا نملك معشاره؛ من صدق
الشعور، ورقة القلب، وحرارة الانفعال؛ حين خططت بيراع الألم مأساة الهجوم
التتري الوحشي ومجازره: «لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة
استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أُقَدّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهل
عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت
أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً ... ثم رأيت أن ترك ذلك
لا يجدي نفعاً» ، وهو كذلك لا يجدي نفعاً؛ فتشخيص الداء خير من التعامي عنه،
غير أنها المرارة تغص بها الحلوق، والمآقي تفيض منها الدموع، والقلوب
يعتصرها الألم.
التاريخ إذن يعيد نفسه؛ الجثث المتناثرة هي الجثث، الهجمة البربرية التترية
هي أيضاً القصف السجادي «الذكي» .
* الصور جد متشابهة في بشاعتها:
ربما كان التدمير الذي يكابده العراق اليوم مقارباً للتدمير الذي أحدثته الهجمة
البربرية التترية قبل ثمانية قرون؛ من حيث بشاعته لا من حيث دوافعه وخلفياته؛
إذ إن هذه الدوافع ترتكن إلى حيثيات إيديولوجية عميقة الجذور، وتقفز فوق كل
أطماع اقتصادية نفطية، ورؤى استراتيجية تتناول ضرورة تدمير أسلحة الدمار
الشامل المفترض حيازة العراق لها؛ إلى تحقيق الحلم (الديني) للكيان الصهيوني؛
بإنشاء ما يُسَمَّى بـ (دولة إسرائيل الكبرى) أو (مملكة الرب) ، أو على الأقل
اجتياز إحدى المحطات بسبيل تحقيقها، وهو ما لم يكن يمثل حافزاً للتتر على غزو
ديار الإسلام من جهة الحيثيات الإيديولوجية [1] .
قبل أقل من شهر، تحديداً في 11/2/2003م، نشرت أسبوعية نيوزويك
تحقيقاً استحوذ على غلافها بعنوان (بوش والرب) !! تناول الخلفية الدينية لزعيم
حملة اليمين الأمريكي على العراق، وجددت ما تردد عن محافظة الرئيس الأمريكي
على الاستيقاظ قبل انبلاج الفجر، ومطالعته كتاب عظات إنجيلية قصيرة بعنوان
(أعظم ما يمكنني لعظم العظماء) ، لـ (أوزوالد تشيمبرز) ، وهو قس بروتستانتي
وافاه الأجل في مصر وهو يقوم بدعوته بين الجنود الاستراليين والنيوزيلنديين،
والذين كانوا في مصر في عام 1917م قبل شهور من قيامهم بانتزاع القدس من
أيدي المسلمين العثمانيين.
«إن على أمريكا أن ترى أنها تواجه الشر المتجسد في صورة صدام
حسين.... إن كان للمرء أن يرتاح ضميره؛ فأنا مرتاح الضمير بهذا الشأن» ،
مقولة بوش التي نقلتها نيوزويك تدفعنا إلى التساؤل: كيف يرتاح ضميرك يا بوش
وأنت تقتل وتحرض وتعربد؟! الإجابة سهلة جداً ... بوش لا ينظر لنفسه إلا على
كونه «متديناً» ينفذ تعاليم الرب، ومن ثم فهو لا يرى نفسه هولاكو جديداً؛
وإنما مؤمناً مخلصاً لمعتقداته (الرئيس الأمريكي ضاعف عدد ساعات عمله اليومية
وفاء لمخطط نظامه) .. ولكي يتضح الأمر أكثر نعود سنوات إلى الوراء.. أسرة
بوش انتقلت في عام 1948م من ولاية كناتيكت إلى مناطق النفط بولاية
تكساس (للمفارقة هو العام الذي أُعلنت فيه الدولة اللقيطة في فلسطين) ، وهناك
انضمت العائلة إلى الكنيسة المشيخية (من أكثر الكنائس التصاقاً بيهود) ، وقد
انتظم بوش الثاني في شبابه في مجموعة غير طائفية لدراسة (الكتاب المقدس) ،
وتدرب على الجانب التطبيقي لما يقرأه بنهم (أسلوب التعاطي المباشر مع
العهدين القديم والحديث؛ من دون أي تدخل من قِبَل القساوسة هو نمط بروتستانتي
أصولي؛ يسمح بمزيد من الإملاء اليهودي على معتنقي هذا المذهب) .
أصولية بوش الثاني جعلته يتجرأ على زيارة جامعة بوب جونز في ساوث
كارولينا، وهي الجامعة المعروفة بأصوليتها المتطرفة، وبمعاداتها الرسمية للكنيسة
الكاثوليكية أثناء حملته الانتخابية.
«بوسع ملاك أن يركب الزوبعة (أداة تسمع صوت الرب!!) ، وأن يوجه
هذه العاصفة» (21/1/2001م) [2] .
«الحرية التي تناضل من أجلها ليست هدية أمريكا إلى العالم، بل هي هدية
الرب إلى البشرية» (29/1/2003م) .
«نحن في صراع بين الخير والشر، وستسمي أمريكا الشر باسمه» (1/6/
2002م) [3] .
كلمات بوش السابقة، ومثلها طلبه من رامسفيلد خلال الشهر الماضي في
سهرة «بيضاوية» خاصة؛ تلاوة صلاة شكر: «هل بوسعكم مساعدتنا على ذلك
يا معالي الوزير!» ، وتربيته الكنسية؛ كلها تؤكد أصولية بوش.
هذا واضح تماماً، لكن تُرى هل ينفرد بوش الثاني في أصوليته من دون
دائرة حكمه وأسلافه؟
الأمر حينئذ يكون هيناً؛ بيد أن الحقيقة ليست كذلك ألبتة، فذات يوم وجه
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق رونالد ريجان كلامه لسياسي صهيوني
قائلاً: «إنني أعود إلى نبوءاتكم القديمة في التوراة؛ حيث تخبرني الإشارات بأن
المعركة بين الخير والشر (ستقع) .. قد لاحظت هذه النبوءات مؤخراً، ولكن
صدِّقني! إنها تصف الأوقات التي نجتازها الآن» .
وحين كشف بوش الأول عما يضمره في نفسه للعراق وأهله إبان حرب
الخليج الثانية: «سأعيد العراق إلى العصر الحجري» ؛ فإنه استند فيما قال إلى
خلفية توراتية سنعرض لها لاحقاً.
كانت إدارات الولايات المتحدة يهيمن عليها دائماً العنصر البروتستانتي، لكنها
هذه المرة تختلف كثيراً، فالإدارة الحالية لم تترك لنا مجالاً للبحث عن أيٍّ من
عناصر هذه الإدارة ليس أصولياً صهيونياً، إذا أردت أن تبحث ستجهد وسترجع
إلينا بقائمة خالية.. أرح نفسك، ستجد زوجة رئيس الموظفين أندرو كارد راهبة
في الكنيسة المنهجية، سترى والد مستشارة الأمن القومي «كونداليزا رايس»
مبشراً أصولياً صهيونياً في آلاباما.. ستجد رامسفيلد «واعظاً» في اجتماعات
المكتب البيضاوي، ستجد «ريتشارد بيرل» الذي خدم من قبل في إدارة ريجان
لمدة 7 سنوات، واستقال إثر فضيحة «بولارد» حين دارت الشبهات حول
تسربيه معلومات خطيرة للكيان الصهيوني.. ستجده كما تظن وفياً لأصوليته
الصهيونية..
سيقرع «بول ولفوفيتز» أذنك وهو يصرخ: «الوقت قد حان لتغيير
موازيين القوى في منطقة الشرق الأوسط ... لأن شعوب العالم العربي إذا لم تكن
قادرة على تغيير الحكومات المستبدة في المنطقة؛ فإن الولايات المتحدة التزاماً
بمهمتها» الرسالية «ستقوم بذلك نيابة عنهم» .
ليس فلتة اصطباغ الإدارة الأمريكية ووجوه المجتمع الأمريكي بالصبغة
الأصولية اليمينية؛ بل هي ثمرة جهد حثيث بذله اليهود منذ أكثر من ثلاثة قرون؛
حين قادهم خبثهم إلى زرع اليهودي ألمستتر مارتن لوثر في قلب ألمانيا لـ «يبشر»
بضرورة العودة إلى الأصول مباشرة دون وسطاء كنسيين؛ ليفسح المجال
لاختراق يهودي شامل على خلفية مرجعية الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل معاً) ،
بل التوراة بالأساس (العهد القديم) هي المرجع الأعلى لدى البروتستانت، وهكذا
قامت البروتستانتية، وانتشرت حتى صارت تشكل تحالفاً أنجلوساكسونياً يضم
(الولايات المتحدة - كندا - بريطانيا - أستراليا - نيوزيلندا) ، وحتى صار لأهلها
الغلبة في الدولة العظمى، فهم يسيطرون على مفردات القوة الأمريكية: عسكرية
واقتصادية وسياسية، ومن ورائهم أكثر من 150 مليون بروتستانتي أمريكي
يدعمونهم بكل قوة، تتلاقى مصالحهم مع مصالح الصهيونية اليهودية في ضرورة
إقامة «مملكة الرب» .
هل من سر وراء تولي كبر العدوان على العراق دولتين هما الولايات المتحدة
وبريطانيا؛ إضافة على الكيان الصهيوني السرطاني؟ الأمر ليس سراً، فحتى غير
المهتمين بالشؤون السياسية يمكنهم أن يلحظوا مئات من الأفلام والروايات الأمريكية
الصادرة منذ إعلان استقلال «الدولة» اللقيطة وحتى اليوم، والتي تصور بابل
[4] على أنها «مدينة الشيطان» ، وعشتار «إله الشر» الذي تتماهى تسميته مع
تسمية «محور الشر» التي أطلقها بوش الثاني، فأمريكا البروتستانتية،
وبريطانيا الدولة الأم «بريطانيا بلفور» ، والكيان الصهيوني، كل أولئك معنى
واحد تجسده هوليود يهود، كما يجسده الكونجرس ومجلس العموم. ويمكنهم أن
يتحولوا من قناة تليفزيونية إلى أخرى، ومن محطة إذاعية إلى أخرى ليفجأهم
الشكل نفسه والصوت نفسه للقس البروتستانتي الأمريكي «جيري فالويل» ليشدد
بكل وضوح: «لا أعتقد أن بوسع أمريكا أن تدير ظهرها لشعب إسرائيل وتبقى
في عالم الوجود، والرب يتعامل مع الشعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع
اليهود» [5] .
* «مملكة الرب» إرادة بروتستانتية صهيونية:
ثمة رأيان يستقطبان المحللين بشأن مسألة «مملكة الرب» أو «دولة
إسرائيل الكبرى» ؛ هل نسيت الصهيونية هذا الحلم، أو ما تزال تحفره في
ذاكرتها، وتظل مستمسكة بتنفيذه بوصفه عقيدة لا مناص من التسليم لها؟
الأول: رأى أصحابه أن الانتفاضة الفلسطينية العظيمة قد نجحت إضافة إلى
عوامل أخرى نشير إليها لاحقاً في حرف اليهود عن التطلع إلى هذا الحلم؛ بوصفه
وهماً لا أثر له الآن إلا في عقول صهيونية متعفنة؛ تجاوزها التاريخ والجغرافيا
والسياسة، ففي ديسمبر 2001م صرح «أريح ناعور» أمين عام في حكومة
بيجين السابقة: «إن على الإسرائيليين نسيان حلم إسرائيل الكبرى ... إيديولوجية
(إسرائيل الكبرى) لم يعد يدافع عنها إلا المستوطنون المتدينون» . ويستبعد
حسين عطوى الخبير في الشؤون الصهيونية شن الكيان الصهيوني لحرب توسعية
الآن للخروج من مأزقها الاقتصادي الحالي كما كانت تفعل في السابق «فالحروب
التوسعية لم تعد ممكنة بعد هزيمة الكيان الصهيوني في لبنان، ونشوء توازن رعب
بين لبنان - سوريا من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، فيما هي اليوم تواجه
استنزافاً حقيقياً من الداخل لأول مرة منذ نشأتها بفعل الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية
المستمرة منذ أكثر من سنتين ونصف؛ الأمر الذي يشل قدرتها ويُصَعِّب عليها
الدخول في حرب ثانية على جبهة أخرى، وهي التي تتردد في اقتحام غزة (ربما
يعني بالكامل، وإلا فالاقتحامات الجزئية مستمرة حتى كتابة هذه السطور) ؛ خوفاً
من الخسائر الكبيرة التي ستتكبدها» ، ولكن لا يُستبعد محاولة القيام بعملية تهجير
أكبر عدد من الفلسطينيين إلى الأردن تحت غطاء الحرب [6] .
وأصحاب هذا الرأي يستندون إلى رؤية رئيس وزراء الكيان الصهيوني
الأسبق شيمعون بيريز، والذي حاول الترويج لفكرة السيطرة الاقتصادية الصهيونية
على الشرق الأوسط بديلاً عن احتلاله، والتي جرى تنفيذ أجزاء منها حتى الآن.
الثاني: رأى أصحابه أن تدمير العراق الآن يُعَدُّ إيذاناً بإنشاء كيان «مملكة
الرب» استناداً إلى كثير من المعطيات:
1 - الكيان الصهيوني منذ نشأته لم يرد أن يضع حدوداً ثابتة لدولته
المزعومة، وبن جوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي يرى «حدوداً مرنة»
لـ «إسرائيل» ؛ إذ إن حدود كيانها عنده تفرضها حاجتها الوقتية والمناخ
السياسي الذي قد يسمح أو لا يسمح لها بذلك (وهو الآن يسمح بالتأكيد) .
بن جوريون نفسه لما التقى سراً قُبيل حرب السويس 1956م رئيس وزراء فرنسا
«سيفرس» ؛ قدم له ورقته لـ «تغيير خريطة الشرق الأوسط» (يلاحظ أنها
العبارة نفسها التي يستخدمها رؤوس النظام الأمريكي اليوم) ، والتي تتضمن اجتياحاً
لمعظم أراضي ما يسمى بـ (إسرائيل الكبرى) ، وعقد اتفاق سلام مع العراق
«الملكي» على اقتسام الأردن! (يلاحظ أن إعادة الملكية إلى العراق ظلت أحد
خيارات القوم) .
2 - حكام الكيان الصهيوني الآن من اليمينيين يؤمنون تماماً بالسياسة
التوسعية، وبـ (إسرائيل الكبرى) ، وفي مقدمة «المؤمنين» الراديكاليين يقف
حزب ليكود، وتحيا، وكاخ، وتوسميت.
وفي 15/11/1998م ألقى شارون خطبة أذاعها راديو «إسرائيل» ،
خاطب فيها المستوطنين واليمينيين قائلاً: «على الجميع أن يفعل شيئاً ما، أن
يجري وأن يسيطر على المزيد من التلال (في الضفة الغربية، ربما مرحلياً) .
فلنوسع المنطقة.. كل ما نستولي عليه يصبح ملكنا، وكل ما نخفق في الاستيلاء
عليه يبقى في يد العرب.. هذا هو ما ينبغي فعله» .
«تدمير جنين يمهد الطريق لضرب العراق» ؛ هكذا علق أحد الخبراء
الصهاينة على مذبحة جنين التي جرت منذ عام، تحديداً في أبريل 2002م.
3 - ذكرت صحيفة «العرب اليوم» الأردنية 5/5/2002م أن مصادر
سياسية رفيعة المستوى قد كشفت النقاب عن تفاصيل مخطط أمريكي إسرائيلي
يقضي بإقامة (إسرائيل الكبرى) في المنطقة خلال الفترة المقبلة؛ مؤكدة في
الوقت نفسه أن الرئيس الأميركي جورج بوش تبنى هذا المخطط، واقتنع بوجهة
نظر رئيس الوزراء الصهيوني الحالي شارون الذي رأى أن تنفيذه لن يتم إلا عبر
القوة العسكرية؛ بحث لا تنتهي الأمور عند حدود إقامة (إسرائيل الكبرى) ، وإنما
لا بد من إعادة رسم المنطقة كلها على أسس جديدة.
وقد تم الاتفاق بين الطرفين الأميركي و «الإسرائيلي» على أن تحقيق ذلك
المخطط يستوجب القيام بعملين عاجلين:
الأول: ضرب العراق عسكرياً، وإسقاط نظام صدام حسين، وهذا العمل
تقوم به الولايات المتحدة.
الثاني: أن تمهد (إسرائيل) لذلك بالقضاء على عناصر ما تسميه
بالجماعات الإرهابية؛ سواء كانت فلسطينية أو غيرها. وهذا هو سيناريو المرحلة
الأولى.
بينما تبدأ المرحلة الثانية التي يطلق عليها اسم «الطوق الأمني
الاستراتيجي» ؛ على الدول العربية والمنطقة كلها بعد إسقاط نظام صدام وبعض
النظم المعادية.
ويتطرق ذلك المخطط إلى البعد الفلسطيني؛ حيث جاء في المخطط على
سبيل المثال: «حتى تكون إسرائيل دولة قوية وذات تأثير قوي في المنطقة؛ فإن
حدودها الجغرافية يجب أن تتسع، وأن يزيد عدد المهاجرين اليهود لديها، وإن
أفضل خيار مرحلي لذلك هو ضم أراضي مناطق الحكم الذاتي إلى إسرائيل، وضم
أجزاء كبيرة منها؛ بحيث يُحشر الفلسطينيون في مدينة أو اثنتين، وأن تكون لهم
دولة في داخل حدود جغرافية ضيقة وقاصرة ليس بمقدورها تهديد الأمن
الإسرائيلي» .
4 - يعرِّف المصطلح الصهيوني الكيان الاحتلالي الحالي بأنه «أرض
إسرائيل الغربية» ؛ ولذا فإن كل معتنق للفكر الصهيوني هو مؤمن بإيديولوجية
(إسرائيل الكبرى) التي يعدُّونها وعداً إلهياً للشعب اليهودي «المختار» .
الأمر بالقطع لا يقتصر على اليهود، فالحدود التوراتية لـ (إسرائيل) من
النيل إلى الفرات يؤمن بها كذلك اليمين البروتستانتي الأمريكي البريطاني
المتطرف، ولا يفوتنا في هذا الصدد أن نذكر أن كثيراً من المسؤولين في الإدارة
الأمريكية الحالية تتردد على ألسنتهم عبارة أن «الله كلَّف الولايات المتحدة
بمهمة تطهير العالم من الأشرار، وإقامة مملكة الرب» .
لذا فإن إقامة هذه المملكة حلم يراود الأمريكان كما اليهود، لا فارق، ولعل
اختيار الجنرال تومي فرانكس حاكماً للعراق بعد الحرب حسبما تؤكده الدوائر
الأمريكية وهو الصهيوني «كامل الأهلية» تجسيد لهذه الرغبة الأمريكية.
في ظني وربما كان غير مجاف للصواب أن (إسرائيل الكبرى) هي سقف
آمال الصهاينة، وهدفهم الذي يصبون إليه؛ غير أنهم اعتمدوا مستويين لتحقيق
استراتيجيتهم تلك:
- مستوى أعلى وهو المعني بتأسيس «مملكة الرب» ، ويتم تطبيق ذلك
عبر خطط مرحلية عشرية.
- ومستوى أدنى يعنى بحل المعضلات الآنية.
وذاك يعني أن تدمير العراق خطوة واثبة في طريق (إسرائيل الكبرى) ،
لكنها ليست بالضرورة الخطوة الأخيرة، وحال استكماله تكون دنت كثيراً من هدفها.
عوض الانخراط الظني في هذه الإشكالية عبر التساؤل: من يمنع الكيان
الصهيوني ومن ورائه الدولة العظمى في استكمال مخطط (إسرائيل الكبرى) فور
تدمير العراق؟
هناك قضية على طاولة البحث الآن لدى دوائر صنع القرار الصهيوني؛
يُخشى أن يجري تنفيذها فعلاً بما ينعكس كثيراً على فاعلية المقاومة الفلسطينية،
وهي قضية الترحيل القسري (التراسنفير) لأعداد غير محددة من الفلسطينيين
بهدف:
1 - تحريك الأوضاع الأمنية والاقتصادية والنفسية شديدة التردي لدى الكيان
الصهيوني؛ على الرغم من خطة «شارون» الطموحة لتصفية المقاومة
الفلسطينية.
2 - الحد من فاعلية «القنبلة الديموجرافية الإسلامية» في فلسطين؛ حيث
نسبة الولادة لدى المسلمين 4.5%، ولدى اليهود 2.5%، مع إخفاق كل
المحاولات الصهيونية للوقوف بوجه فلسطين ذات أغلبية إسلامية، على الرغم من
عدم انقطاع الهجرة اليهودية إلى فلسطين لحد الآن [7] ؛ بما يهدد بتقويض عرى
الكيان الصهيوني من أساسه.
في السياق نفسه؛ تتردد أنباء صحفية كثيرة عن مشروع صهيوني لتوطين
الفلسطينيين في سيناء.
وقبل سيناء هناك الأردن الذي يتردد اسمه اليوم بديلاً لفلسطين، وعن أكبر
عمليات التهجير القسري إليه، وهو ما استدعى سؤالاً من صحفي عربي أجرى
حواراً مع الشيخ أحمد ياسين زعيم حماس، حول خطة التراسنفير تلك، فكانت
إجابة الشيخ على هذا النحو: «العدو (الإسرائيلي) ليست عليه أمور مستبعدة،
لكن هنا أود أن أنبه أنه لكي يكون هناك ترانسفير لا بد من وجود طرفين؛ طرف
يُبعد، وطرف يستقبل.
وما نخشاه في حالة هزيمة العراق أن تقوم دولة عربية كالأردن مثلاً بفتح
حدودها واستقبال المواطنين الذين يتم ترحيلهم، وهو أمر وارد جداً في ظل الهيمنة
العسكرية الأمريكية المتوقعة في المنطقة بعد نشوب الحرب، وهنا أدعو كافة الدول
العربية إلى إغلاق حدودها في وجه الترانسفير؛ مثلما حدث في قضية مبعدين
» مرج الزهور «على الحدود اللبنانية، عندما أغلق لبنان حدوده ورفض المبعدون
أنفسهم فكرة إبعادهم؛ الأمر الذي أرغم الأمم المتحدة على إرجاعهم.
إذن فالتصدي للترانسفير يتطلب منا رفضاً فلسطينياً وعربياً، وعندئذ
فـ (إسرائيل) لن تستطيع فعل أي شيء؛ فهل يوجد مثل هذا القرار المتمثل
في الرفض العربي؟ أنا شخصياً لا أعوّل على الموقف العربي لبعض دول
الجوار؛ لأن تاريخهم تاريخ سيئ في هذا المجال» .
* تدمير العراق مطلب صهيوني لا حياد عنه:
بيد عمرو لا بيدي.. رغبة صهيونية جموحة في تدمير العراق؛ تسعرها
الأحقاد التلمودية التي تحقن نفوس اليهود على الدوام بانكسارات السبي البابلي، ولا
ينتقص من هذه الرغبة المسعورة ما يظهر من أن (إسرائيل) ما زالت تغل يدها
عن إطلاق رصاصة واحدة حتى الآن ما دامت الولايات المتحدة تدمر «بابل
الجديدة» بدلاً منها، بل تعهد الكيان الصهيوني إبان حرب الخليج الثانية بعدم الرد
على توجيه الجيش العراقي صواريخه إليها؛ لأن الهدف كان وما يزال تدمير
الجيش العراقي بأقل الخسائر الصهيونية، وتلك قمة الخبث اليهودي.
وعلى الرغم من تهديد صدام حسين قُبيل حرب الخليج الثانية بحرق نصف
(إسرائيل) فإنها أحجمت عن الرد، والاستثناء الوحيد كان في العام 1981م حين
دمرت المفاعل النووي العراقي في عملية أطلقت عليها اسم «بابل» ؛ كنوع من
الانتقام الرمزي على عملية السبي البابلي الأول التي نفذها نبوخذ نصر قبل الميلاد.
تدمير «بابل الجديدة» إذن عقيدة لدى اليهود تتعالى، تحرز لها كل
المكاسب بضربة واحدة: تدمير الخطر الذي تشدد عليه التوراة كأداة «لانتقام
الرب» !! ووجود لقوات قوية أمريكية ظهيرة للأمن الصهيوني بالقرب منها،
تحقيق مآرب اقتصادية (نفط) ، سياسية (توسع، الكومنولث العبري) ،
استخباراتية (أمان من أهل السنة باستخدام غيرهم) !
كتب بن جوريون عام 1954م يقول: «إننا نعيش في محيط سنِّي، ولذلك
على إسرائيل أن تتعاون، بل وتجند الأقليات العرقية والمذهبية في المنطقة
المحيطة لخدمة المصالح الإسرائيلية» . المعنى نفسه تردد على لسان المعلق
العسكري الأشهر في الكيان الصهيوني [8] . عشية الغزو الصهيوني للبنان:
«مصلحة إسرائيل تتطلب تجزئة العراق إلى دولة شيعية وأخرى سنية،
وفصل الجزء الكردي في شمال العراق» .
* العدوان على العراق:
ماذا تقول عنه النصوص التوراتية: تتحدث النصوص التوراتية عن معركة
كبيرة تدمر بابل عن بكرة أبيها جزاء ما فعلته باليهود، الأصوليون البروتستانت
واليهود يؤمنون بها إيماناً جازماً، ويسقطون «مملكة بابل» على دولة العراق
الحالية بزعامة صدام حسين (ملك بابل) .
سنحاول أن نتمثل عقول الأصوليين الصهاينة ونضع أقواساً من عندنا لننظر
كيف يفكرون:
- رؤيا أشعياء: 13: 1 - 8: «انصبوا راية فوق جبل أجرد، اصرخوا
فيهم، ليدخلوا أبواب العتاة.. لأن الرب القدير يستعرض جنود القتال، يقبلون من
أرض بعيدة (الولايات المتحدة) ؛ من أقصى السماوات (بقاذفات بي 52،
وطائرات إف 16 شاهقة الارتفاع) ، هم جنود الرب وأسلحة سخطه لتدمير
الأرض كلها (بأسلحة الدمار الشامل التي تحمل الاسم نفسه) » .
هل يستحق نصف مليون طفل عراقي الموت؟ سؤال شبكة CBS يوم
11/5/1996م أجابت عنه مادلين أولبرايت: «نعم أعتقد يستحقون ذلك» ،
وعلى الرغم من بشاعة الإجابة فإن أولبرايت لا تتحدث بلسان جنرال، وإنما
بلسان «قدِّيسة» تؤمن حرفياً بنصوص المزامير التي تنص على: «.. يا بابل
المخربة: طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك
ويهشم على الصخرة رؤوسهم» .. أولبرايت ليست وحدها من تؤمن بذلك غير
أنها هي التي صرحت، فكل أصولي بروتستانتي يؤمن بمثل ما تؤمن به.
- رؤيا أشعياء: 13: 9 - 16: «ها هو يوم الرب قادم مفعماً بالقسوة
والسخط والغضب الشديد؛ ليجعل الأرض خراباً ... وأعاقب العالم على شره
(محور الشر) ... ، وأضع حداً لصلف المتغطرسين، وأذل كبرياء العتاة (ديكتاتور
العراق) ... وأزلزل السماوات، فتتزعزع الأرض في موضعها (بفعل القنابل
الذكية) ، وتولي جيوش بابل (منسحبة) حتى ينهكها التعب عائدين إلى
أرضهم ... ، ويمزق أطفالهم على مرأى منهم (بفعل السرطان الناتج عن
اليورانيوم المخصب، أو بفعل القنابل الثقيلة) ، وتنهب بيوتهم (بنهب نفطهم) ،
وتغتصب نساؤهم» .
- وتخاطب رؤيا أشعياء 14: 4 - 23: ملك بابل (صدام حسين) قائلة:
«أما أنت فقد طرحت بعيداً عن قبرك، كغصنٍ مكسور (بعد أن تقبل بالرحيل
الذي تفرضه عليك أمريكا) ؛ لأنك خربت أرضك، وذبحت شعبك (في مذبحة
حلبجة، وقمع انتفاضة الشيعة، أو بواسطتنا) فذرية فاعل الإثم يبيد ذكرها إلى
الأبد. أعدوا مذبحة لأبنائه جزاء إثم آبائهم» .
- رؤيا يوحنا 16: 12 - 14: «وجمعت الأرواح الشيطانية في
هرمجدون ثم سكب الملاك السابع كأسه على الهواء (بالقنابل الفراغية، والأسلحة
النووية) ، فحدثت بروق وأصوات رعود وزلزال عنيف، فانقسمت المدينة
العظمى (بابل العراق) إلى ثلاثة أقسام (دولة كردية، ودولة سنية، ودولة
شيعية) » .
* صرخة أخيرة:
.. وما زال مراسلونا مشغولين بإحصاء عدد المتظاهرين، وما زال الزعماء
منشغلين بإجراء مشاوراتهم المهمة! .. ما زالت الشعوب غائبة.. ما زلنا نلهو..
إنها معركة بلا ضمير تخوضها دول بلا أخلاق.. معركة تهشيم رؤوس الأطفال..
معركة بلا أسرى كما تقول نصوصهم!
تنفق الولايات المتحدة شهرياً في أفغانستان بليون دولار في المجالات
العسكرية، في مقابل 25 مليون دولار في مجال إعادة البناء، وتقديم المساعدات
الضرورية للمنكوبين من الشعب الأمريكي (للمفارقة هذه نسبة زكاة المال نفسها
عند المسلمين!!) . إنها بلا ريب أمة عدوانية باغية، تكرس كل جهودها لمحونا
من خريطة العالم، إنها أمريكا قد رمتكم بقوس واحدة، جاءت بقضها وقضيضها
وخيلائها.. جاءت تحمل الشر والهلاك.. أتت تحظر أسلحة الدمار بأسلحة الدمار
.. جاءت لتقتل الأمل في نفوس المؤمنين.. وهو أمر يدعو للحزن، بيد أنه لا
يدعو للجزع.. فهذا الدين متين كما قال خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
لذا؛ فإننا من قلب المحنة نطلق صرختنا: مهلاً أيها الأمريكان! لكم جولة
ولنا كرة، ليست هذه أول معركة نخسرها ثم نقوم شامخين من جديد.
يقول المؤرخ العظيم محمود شاكر: «ارتبط اسم المغول في أذهاننا
بالبربرية والفظاظة وسفك الدماء ... حتى رفض ابن الأثير كتابة تلك الأحداث؛ إذ
ظن أنها نعي الإسلام وانتهاء أمره على أيدي هؤلاء المخربين، غير أن هذا الشعب
لم يلبث أن بدأ يدخل في الإسلام، ولم ينقض على اجتياحه بلاد الإسلام أكثر من
خمس وثلاثين سنة، كما لم يمض نصف قرن حتى غدا كله مسلماً، وأصبح ينافح
عن الإسلام» [9] ، ونحن نؤمن كذلك أن الروم بعد سيسلمون، لكن حين تنهض
هذه الأمة، وتتحمل المسؤولية، وتواصل مسيرتها الرائدة.. إننا إن تسلل اليأس
إلينا انتهينا وانهزمنا.. ونحن لن نسمح بذلك ما دامت لنا عين تطرف، وقلب
يخفق، ودم يجري في العروق.
__________
(1) يحسن أن نلفت إلى أن التتر رأوا في قتل خوارزم شاه لرسل جنكيز خان مسوِّغاً لهم لشن حرب لا هوادة فيها انتقاماً لـ (اغتيالهم) ، فيما رسل بوش الثاني وجواسيسه يسرحون ويمرحون في طول بلاد الرافدين وعرضها دونما اعتراض.
(2) ثمة كلام توراتي مشابه عن تدمير بابل سنعرض له لاحقاً.
(3) (الخير والشر) هما مصطلحان يكثر الحديث عنهما في العهد الجديد، ويكثر أيضاً الحديث عنهما في الخطاب الأمريكي الأصولي الحالي، كمثل الحديث عن (محور الشر) ، ووصم صدام وبن لادن بأنهما (من الأشرار) .
(4) مملكة بابل قبل الميلاد جزء من خريطة العراق الحالي، سبت في عهد نبوخذ نصر أكثر من 50 ألف يهودي في السبي البابلي الأول.
(5) برنامج: (ساعة من أزمان الإنجيل) الأسبوعي، لفالويل، يبث عبر 500 محطة إذاعية، و 392 محطة تلفزيونية، بالإضافة إلى شبكة الإنترنت.
(6) الوطن القطرية، 3/3/2003م.
(7) لاحظت مجلة (الوطن العربي) الباريسية (7/3/2002م) نقلاً عن جهات أوروبية أن تركيز الكيان الصهيوني على استقبال 18 ألف يهودي جديد من الفلاشا هو للتغطية على هجرة معاكسة مكثفة إلى أوروبا الشرقية.
(8) صحيفة هآرتس 2/ 6/ 1982م.
(9) التاريخ الإسلامي، ج 7، 131.(186/56)
المسلمون والعالم
ما وراء العدوان الأمريكي.. البريطاني على العراق
أمريكا ترسم حدوداً دموية في بغداد
كمال السعيد حبيب
* في المشهد العراقي لدينا مستويان من الصور:
المستوى الأول:
هو صور السياسيين وصنَّاع القرار الأمريكي، والذين يبشرون الشعب
العراقي بأن اللحظة التي كان ينتظرها من الحرية قد حانت، وأن المجتمع الجديد
الذي يحمله الأميركيون لأهل العراق؛ هو مجتمع الديمقراطية والتعددية والكرامة،
وأن الحرب هي ضد الحاكم الظالم صدام حسين.
المستوى الثاني:
هو صور الدبابات والمقاتلات العملاقة وهي تدك المنازل، وتقتل المدنيين
والأطفال، وتُهلك الحرث والنسل، إنها الحرب الغاشمة بكل معاني الكلمة.
فكيف يمكن أن تستقيم العلاقات بين صور هذين المستويين في المشهد الحزين
الذي يواجهه العراق؟! كيف تستقيم صور الدم والغزو والقتل، مع صور الإخراج
المسرحي الذي تبثه القنوات الأمريكية والبريطانية للساسة وهم يتحدثون عن قيم
الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية؟!
في الواقع.. الحضارة الغربية في طورها الإمبراطوري تحاول أن تُركِّب
الصورتين في مشهد واحد له طابع الدم والنار وطابع القيم الإنسانية، فالإمبراطورية
الرومانية التي تمثل المرجعية الأساسية للتفكير الغربي كانت تسعى إلى فرض قيمها أو سلامها على العالم مستخدمة الحديد والنار، حيث تعتقد أن العالم يجب أن يتبع
قانونها الإمبراطوري بوصفه القانون الأفضل له، وكأن العلاقات بين القوة وبين
القيم في الحضارة الغربية هي علاقة حيلية مراوغة، يجري فيها توظيف القيم
لمصلحة القوة!
وحين تحولت روما إلى النصرانية؛ فإن الخط الإمبراطوري ذا الطابع
الإمبريالي ظل قويّاً لم يخفت، وظل المفهوم الغربي للحرب التي أطلق عليها
(الحرب العادلة) ، ظل هذا المفهوم أي مفهوم العدل كما يفهمه الغرب؛ أي أن
الحرب العادلة هي التي تحقق المصلحة بالمفهوم الصليبي.. لقد طبعت روما
النصرانية بطابعها أكثر مما استلهمت منها.
وظلت ازدواجية القيم مسألة ثانية في علاقة الغرب بالعالم، وفي علاقة
الغرب بالآخر، وباسم الصليب شنت أوروبا الصليبية على العالم الإسلامي حروباً
دامت أكثر من قرنين، واحتلت مدنه وبلاده، وفرضت عليه في قلب بلدانه وحشية
دموية راح ضحيتها ما يقرب من مئة ألف نفس.
ومع الكشوف الجغرافية وظهور الموجات الاستعمارية الأولى؛ ظهر مفهوم
(عبء الرجل الأبيض) ؛ أي مسؤولية الرجل الأبيض نحو تحضير العالم وتحديثه،
وهي القصة نفسها التي يطلقها الأمريكان اليوم؛ أي أن هناك عبئاً حضاريّاً نحو
العالم يقومون به، وهذا العبء لم يفرضه على المستعمرين القدامى أحد، كما لم
يفرضه أحد على المستعمرين الجدد.
وذهبت تحليلات غربية ذات طابع تقدمي [1] إلى أن الاستعمار يحمل وظيفة
حضارية تجاه الدول المستعمَرة، فهذه الدول لا بد من تحديثها وإدخالها ولو بالقسر
والقوة عالم الحداثة والصناعة والتقدم الغربي.
وكما رسم الصليبيون والاستعمار حدوداً دموية في العلاقات بينهم وبين الدول
والعوالم التي استعمروها؛ فإن الأميركيين اليوم يرسمون حدوداً دموية جديدة في
قلب العالم العربي، هذه الحدود الدموية التي خطتها القنابل ورسمتها الدماء والنيران
ستمثل في تقديرنا معلماً جديداً في العلاقة بين العالم الإسلامي، وبين (أميركا
وبريطانيا) اللذين يمثلان القوى الإمبراطورية في العالم الغربي.
وتمثل التصريحات الأميركية أي المستوى الأول من الصور في المشهد
العراقي الحزين التسويغ الأخلاقي من المنظور الإمبراطوري للمصالح الأميركية في
الطرق، وكما هو معلوم؛ فإن بدايات الحرب يمكن التحكم فيها بينما مساراتها
وتطوراتها ومآلاتها تظل محمَّلة بالمفاجآت والألغاز، ويبدو أن نغمة الحرب الأولى
قد تبددت في نفس صناع القرار الأمريكي؛ فإذا بهم يتحدثون عن مفاجآت الحرب
وإمكان امتدادها وطولها..
إننا بإزاء حرب صليبية جديدة على العالم الإسلامي تدخل طوراً جديداً أكثر
وحشية وخطراً:
فالحرب الصليبية على أفغانستان كانت بعنوان (مقاومة الإرهاب) ، واليوم
الحرب على العراق بعنوان (نزع أسلحة الدمار الشامل) ، وفي الجعبة المزيد من
العناوين الجديدة التي تحمل المستويين نفسهما من الصور، كما هو الحال اليوم في
المشهد العراقي، وكما كان الحال في المشهد الأفغاني.. صورة صنَّاع القرار
واللوبي الحاكم يتحدث عن عالم جديد لم يطلبه أحد منهم، وصورة الدم والدمار
والنار والخراب والأشلاء التي تعصف بأرواح الأبرياء، بل والمغلوبين على أمرهم
والمغرر بهم؛ ممن يُدنيهم طواغيت الحكم في أميركا إلى أن يكونوا وقوداً لنار
شهواتهم وأهوائهم المريضة.
* الرؤية الغربية للحدود:
يشير المعنى اللغوي لكلمة (الحد) إلى أنه منتهى الشيء، وهو الحاجز أو
الفاصل بين شيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو يعتدي أحدهما على الآخر، فالحد
هو أداة للتمييز ووسيلة لمنع الاعتداء، أو بقول آخر هو إثبات للهوية، وتأكيد
للذات على المستوى الداخلي عبر وجود سلطة سياديَّة على إقليم دولة (ما)
ومواطنيها، وفي الوقت نفسه حماية هذا الإقليم ومواطنيه من أي اعتداء خارجي،
ولا تمثل الحدود بين الدول والحضارات مجرد خطوط سياسية تُرسم على الخرائط؛
وإنما تمثل في جانبها الأهم وعيّاً ثقافيّاً وحضاريّاً؛ خصوصاً في مواجهة الذين
يقفون وراء هذه الحدود، أو الذين يريدون أن يرسموا هذه الحدود بالقوة وفق قيمهم
ومصالحهم.
والعدوان (الأميركي البريطاني) على العراق اليوم سيعقبه احتلال لفرض
نموذج لعراق على المقاس الأميركي.. إنهم يريدون عراقاً أميركيّاً روحاً ودماً،
وليس عراقاً عربيّاً أو إسلاميّاً.. وهم من منطلق إمبراطوري يريدون اختبار
الخريطة الأمريكية الجديدة لعالم الشرق الأوسط في ظل الهيمنة الإمبراطورية
الأمريكية الجديدة، فالعراق ورسمه هو الأنموذج الذي تسعى أميركا إلى فرضه
على المنطقة بعد اختباره في بغداد.
والواقع فإن فكرة الحدود السياسية والجغرافية هي أحد مكونات الفكر
الإمبراطوري، فالجيبوليتكا والمجال الحيوي ارتبط بالأطماع الهتلرية في البلدان
المجاورة، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي البائد عادت فكرة الحدود للظهور مرة
أخرى في الفكر الغربي الأمريكي؛ بوصفه فكراً يسعى إلى الهيمنة، ففي دراسة
«لبرنارد لويس» بعنوان (صراع الثقافات: المسيحيون والمسلمون واليهود في
عصر الاكتشاف) ، يقول: (هناك ثلاثة أحداث فاصلة في العلاقة بين العالم
الإسلامي والغرب؛ تمثل حدوداً فاصلة بينهما وهي: سقوط غرناطة في يناير
1492م، حيث أدى هذا السقوط لِسَمّ صراع امتد لثمانية قرون بين الإسلام
والمسيحية. ثم طرد اليهود من إسبانيا باعتبارهم الخطر الأكبر على المسيحية، لقد
كان على اليهود: إما اختيار التعميد أو المفاوضة. والحد الثالث هو اكتشاف أميركا،
حيث يرى أن اكتشاف أميركا من قِبَل العالم النصراني تعد نقطة تحول في التاريخ
الإنساني، ومكوناً رئيساً في انتقالها إلى الحداثة، والأهم من ذلك؛ فإن اكتشاف
أمريكا كان انتصاراً غربيّاً على الأعداء الذين دُمِّروا قبل أن يصلوا إليها) . هنا
رؤية (برنارد لويس) للحدود هي من منظور ثقافي، وهو يؤسس بوصفه ممثلاً
للفكر الإمبراطوري الأميركي والغربي للحدود من منظور صراعي ودموي، فهذه
الأحداث أو الحدود الفاصلة التي تأسس عليها الوجود الغربي المعاصر نجد أنها
ملطخة بالدموية والعنف.
وفي دراسة صموئيل هانتنجتون عن صدام الحضارات يتحدث عن الحدود
الحضارية ويقول: (الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك
في المستقبل) .
ويذكر في موضع آخر من دراسته: (إن خطوط التقسيم بين الحضارات
تحل محل الحدود السياسية والأيديولوجية للحرب الباردة؛ باعتبارها إشارات
وميض للأزمات والمذابح منذ أن بدأت الحرب الباردة؛ عندما قسَّم الستار الحديدي
أوروبا سياسيّاً وأيديولوجيّاً، وانتهت الحرب الباردة مع انتهاء الستار الحديدي،
ومع اختفاء الانقسام الأيديولوجي لأوروبا؛ فإن الانقسام الثقافي لأوروبا بين
المسيحية الغربية من ناحية والمسيحية الأرثوذكسية والإسلام من جانب آخر قد عاود
الظهور) .
ودراسة هانتنجتون وهو أحد أهم الرموز الفكرية التي تضع الأفكار
والتصورات للإدارة الأمريكية الحالية تتحدث عن الحدود الحضارية كبديل للحدود
الجغرافية والسياسيّة.. وهذا ما نقصده حين نقول: إن أميركا تعتمد حدوداً ذات
طابع دموي في علاقتها بالعالم الإسلامي في بغداد، فاقتحام بغداد واحتلالها ومحاولة
بناء نموذج لدولة وفق الإرادة الأمريكية يمثل في تقديرنا أحد الأطوار المهمة في
العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، يستعيد فيه العالم الإسلامي ذكريات
الهجمة الصليبية وذكريات الهجمة الاستعمارية.. وذكريات التتار الذين اقتحموا
مدينة بغداد عام 1258م قبل أن توجد أمريكا بمئات السنين، والعديد من المحللين
حتى الأمريكان أنفسهم يتحدثون عن التتار الجدد الذين يستعدون لاقتحام بغداد
واحتلالها.
* ملامح الحدود الدموية الجديدة:
الحدود الجديدة التي يجري رسمها الآن في العراق، أو التي ستُرسم في بغداد،
لها ملامح نتصورها كالآتي:
1 - ظهور خط جديد للمواجهة بين أميركا كقوة احتلال في العراق، وبين ما
يمكن أن نطلق عليه (أممية جهادية) ذات طابع إسلامي مقاوم؛ ترى أن مقاومة
أي احتلال أمريكي لأرض العراق باعتبارها أرضاً إسلامية فرض عين،
والمتصور أن خط المواجهة الجديد سيتواصل مع خطوط جهادية مماثلة، كما هو
الحال في كشمير والشيشان وفلسطين وأفغانستان، كما يتصور أن تكون القواعد
الأمريكية في البلدان العربية والإسلامية والتي استخدمت للانطلاق لضرب العراق
قواعد احتلال مقصودة هي الأخرى بالجهاد والمقاومة، كما يتصور أيضاً أن يحدث
فرز بين القوى السياسية والشعبية في العراق؛ بحيث يتصدر القيادة في المواجهة
مع قوى الاحتلال القوى الجهادية الإسلامية التي ترى أن كرامة الأمة وشرفها في
الميزان، وأعتقد أن خط الموجهة الدامي في العراق هو الذي سيحدد مستقبل
المنطقة العربية بكاملها، كما سيحدد مستقبل العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب.
2 - ظهور خط ممتد للمواجهة مع أميركا يتسع حول نقطة المحور في
المواجهة بالعراق؛ بحيث تصبح المصالح الأمريكية مقصودة بالمقاومة والمواجهة
في كل العالم الإسلامي، بل وفي كل العالم حتى في داخل أميركا نفسها؛ ذلك لأن
العدوان الأميركي على العراق هو عدوان نموذجي لا توجد أي شبهة في كونه
مقصوداً بالدفع والمواجهة والمقاومة من جانب القوى الإسلامية المجاهدة في العالم
الإسلامي.
3 - تصاعد موجات التظاهرات في العالم العربي والإسلامي وفي العالم كله،
وردود الأفعال الدولية التي ترى أن الحرب الأمريكية هي حرب عدوانية، وأنها
احتلال واضح ومدان، ومن ثم فإنه يعطي لخط المقاومة شرعية معنوية على
المستوى الرمزي والمعنوي، ولا شك أن موجات التظاهر هي تعبير عن نوع من
الوعي المتصاعد بين الجماهير الإسلامية، ومن المتصور أيضاً أن يؤدي تصاعد
موجات التظاهرات والنزوح في العالم الإسلامي إلى تصاعد الشعور بأهمية الإسلام
ومفهومات الجهاد والمقاومة في دفع الهجمة الأمريكية الشرسة على العالم الإسلامي.
4 - تطويل أمد الحرب سوف يكشف عن الطبيعة الوحشية للإدارة الأمريكية،
والتي سوف تضطر للتخلي عن اصطناع صورة المحررين والفاتحين إلى صورة
الغزاة المتوحشين الذين لن يترددوا في استخدام أفتك أنواع الأسلحة وأكثرها دموية
من أجل تحقيق أهدافهم؛ بحيث يحاولون تنفيذ ما يتصورونه (الصدمة والرعب) ،
وهنا لا يستبعد أن يتحول الرأي العام حتى داخل أميركا بقوة لمقاومة توجهات هذه
الإدارة، ومن الواضح أن سير العمليات يتجه ليتخذ صورة حرب الشوارع التي لا
يمكن للجيوش النظامية أن تحسمها.
5 - خط المواجهة الذي يُقَدَّر أن يكون في بغداد سوف يكون فرقاناً بين الحق
والباطل، ونعتقد أن هذه المواجهة ستكون فارقة، وأن الله سبحانه وتعالى سينتصر
للحق بإعادة أميركا إلى كونها دولة وليست إلهاً يقرر شؤون الكون، [فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض] (الرعد: 17) ، [وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ]
(القصص: 5) .
__________
(1) ماركس كان من بين الذين تحدثوا عن الدور الحضاري للاستعمار ولو بالقوة.(186/62)
المسلمون والعالم
تعاون إسرائيلي أمريكي في الحرب ضد العراق
ودور (إسرائيل) في الحرب العراقية
يوسف رشاد
في اجتماع عُقد مؤخراً بين بوش ورئيس وزراء (إسرائيل) ربت الأول
على كتف الثاني وزوده بـ «خريطة طرق» للتقدم نحو إقامة دولة فلسطينية، إلا
أن التوجيه العملي حسب هذه الخريطة لن يبدأ إلا بعد انتهاء المعركة العسكرية التي
يشنها بوش على العراق، وعلى صعيد آخر؛ فإن الملاحظات التي أبداها في نهاية
محادثته مع شارون تُفسَّر على أنها تشجيع لـ (إسرائيل) لاستخدام حقها في الرد
العسكري على هجوم عراقي، وذلك بعدما قدّم شارون اقتراحاً بإشراك (إسرائيل)
في هجوم مبكر على غرب العراق لمنع إطلاق صواريخ على (إسرائيل) ، ونقلت
صحيفة (واشنطن بوست) عن مسؤول أمني أمريكي كبير قوله: «إن قوات
خاصة تابعة للجيش الإسرائيلي عملت أثناء صيف 2002م في غرب العراق،
وقامت برصد مواقع إطلاق الصواريخ» ، وقال المسؤول الأمريكي إن المهمة
الإسرائيلية السرية كانت تهدف إلى التأكد من قدرة العراق على إطلاق طائرات
صغيرة بدون طيار، بالإضافة إلى إطلاق صواريخ سكود من قواعد في غرب
العراق.
وفي الاحتفالات التي كانت تجري في البيت الأبيض بمناسبة أعياد الميلاد؛
جرى الاحتفال في مكتب الرئيس بوش بعيداً عن الأضواء، والصحافة، وكان من
بين ما قاله بوش لجمهور الحاضرين: «سادتي، إننا نعتزم البحث عنهم فرداً فرداً،
إرهابياً إرهابياً، والقضاء عليهم قضاءً مبرماً» ، وكانت صحيفة يديعوت
أحرنوت اليهودية قد ذكرت أثناء زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز
لواشنطن في الأول من يناير من عام 2003م تقول: «إن الناظر الخارجي
لواشنطن سيلحظ سريعاً جو الحرب، حيث أكملت القيادة المركزية حسب تقدير
الخبراء ثلثي الاستعدادات للحرب. ولم يعد السؤال الذي يتردد هو هل ستنشب
الحرب؟ إنما متى ستنشب هذه الحرب؟» .
كان للأمريكيين كل الأسباب الوجيهة وغير الوجيهة لتأجيل زيارة موفاز،
فأمريكا عشية الحرب ضد دولة عربية في غنى عن إبراز متانة علاقاتها
بـ (إسرائيل) في هذا المناخ وفي هذا التوقيت، إلا أن موفاز يُعَدّ بالنسبة
للأمريكيين شخصية رئيسية، فربما تعذر عليه مساعدة الأمريكيين، لكنه يمكنه
بالقطع عدم إفساد الجو عليهم أو تعطيلهم، فهم يبذلون أقصى ما في وسعهم
لإزالة العقبات المحتملة التي قد تعترض طريقهم.
إن الحرب التي ينظمها اليوم جورج بوش الابن أكثر حداثة وذكاء، وأكثر
تنظيماً وترتيباً، وأكثر تخطيطاً واستعداداً من الحرب التي نظمها «بوش» الأب
في عام 1991م.
وكانت بعض الخلافات قد تفجرت تحت السطح بين (إسرائيل) وأمريكا
على خلفية فجوات الآمال والتوقعات بين الطرفين حول الدور الذي سيقوم به كل
طرف منهما في الحرب مع العراق، ف (إسرائيل) لم تكن مستعدة لتكرار ما
حدث للدور البائس والسلبي الذي قامت به في عام 1991م؛ حيث لم تكن
(إسرائيل) شريكاً في المعلومات، ولم يُسمح لها بالرد إذا ما أضيرت؛ أي أن
(إسرائيل) تحسب أنها خُدعت.
وموفاز سواء بوصفه رئيس الأركان أو وزير الدفاع لم يُخف رأيه بأنه كان
من الخطأ أن تبدي (إسرائيل) تمالكاً إزاء الصواريخ التي أُطلقت عليها، إن آخر
شيء يحتاج له الأمريكيون هو ضلوع (إسرائيل) غير المنسق في حرب الخليج
طراز 2003م، ففي سيناريوهات الحرب التي أعدها الأمريكيون يرد احتمال
تعرض (إسرائيل) في هذه الحرب لضربها بالصواريخ أو مهاجمتها بالطائرات
بنسبة كبيرة جداً؛ لذا يحاول الأمريكيون سلفاً، ومن الآن، الحيلولة دون رد
(إسرائيلي) غير منسق، وغير محسوب من حيث الحجم؛ يُلحق خسائر حتمية
وأضراراً بالمصالح الأمريكية، وعليه فكانت زيارة وزير الدفاع لواشنطن بعد
شهرين من زيارة شارون أمراً حتمياً للتنسيق حول ما سيتم عمله مع العراق.
وأحد الخلافات التي نشبت إن لم يكن هو الخلاف الرئيس بين أمريكا
و (إسرائيل) ينصبُّ حول رد الفعل الإسرائيلي على ضربها بأسلحة غير تقليدية،
ولم يكن الأمريكيون مستعدين للتعهد بمعاقبة العراق بضربها بأسلحة غير تقليدية
على ضربة قد توجهها لـ (إسرائيل) بأسلحة مماثلة، ويرجع سبب ذلك إلى
أن الولايات المتحدة لا تريد التسبب في عمليات قتل جماعي، وإلحاق أضرار
يتعذر إصلاحها بالبنيات التحتية في العراق؛ لأنها تعتزم محاولة إعادة الحياة إلى
حالتها الطبيعية بأسرع ما يمكن بعد الإطاحة بصدام حسين.
في حين تريد (إسرائيل) الرد بـ (تدمير هائل) إذا تعرضت لاعتداء؛
لردع دول أخرى عن استخدام أسلحة مشابهة ضدها مستقبلاً.
وهذا التناقض لن تنجح (إسرائيل) وأمريكا في تسويته والتوصل إلى حل
بشأنه، وكان الشيء الذي نجح فيه الأمريكان هو غرس الثقة في الإسرائيليين بأن
الإدارة الأمريكية تبذل جهوداً حقيقية لاقتلاع التهديد العراقي.
وفي عام 1991م صنع الأمريكيون في (إسرائيل) معروفاً، فبالإضافة إلى
التحذير من تعرضها لهجوم بالصواريخ قبل انطلاقها ببضع دقائق، فقد قدَّموا لها
صوراً بالقمر الصناعي، لكن الصور جاءت متأخرة عن موعدها ببضعة أيام.
إن (إسرائيل) غير مستعدة لقبول هذا الموقف وتكرار السيناريو مرة أخرى،
ففي اجتماع استراتيجي عُقد بين الإسرائيليين والأمريكان قال الإسرائيليون: لا
تبلغونا بكل خطط الحرب، ولكن قولوا لنا كيف تعتزمون منع انطلاق الصواريخ
من غرب العراق؟ أعطونا الفرصة للفت انتباهكم، ولتقديم المشورة لكم،
أقيموا أجهزة اتصال معنا على المستوى العملياتي والحربي، لا على المستوى
الاستراتيجي.
وعندما عيّن الأمريكيون «الأدميرال متسجار» (قائد القيادات المشتركة)
ضابط اتصال؛ لم يُهدئ ذلك من روع (إسرائيل) ولم يُطمئنها، وكان تعليق
(إسرائيل) على هذا الإجراء: أن ذلك الإجراء على المستوى السياسي الأمني،
بينما نحن في حاجة إلى تنسيق على مستوى العمليات، وكانت الرسالة واضحة
ومؤداها: «ما دام أننا لن نتلقى ردوداً وإجابات شافية، ومعقولة؛ فإن (إسرائيل)
مصرَّة على الرد» .
وكان الأمريكيون لا يزالون يرفضون حتى قبل بضعة أيام من زيارة موفاز
للولايات المتحدة إشراك (إسرائيل) وإطلاعها على معلومات «وديَّة جداً» ؛
سواء لأسباب تتعلق بالأمن الميداني، أو لكي لا تثير مجرد الإحساس باشتراك
(إسرائيل) في الحرب، إلا أن البذور التي بُذرت في ذلك اللقاء الاستراتيجي
بواشنطن قد آتت ثمارها، فعندما حضر مساعد وزير الدفاع الأمريكي «داج فايت»
إلى (إسرائيل) قبيل زيارة موفاز لواشنطن ببضعة أيام تم الاتفاق بين الطرفين
على مبدأ تشكيل أطقم عمل مشتركة؛ ليس على مستوى الجنرالات، لكن من
الكولونيلات الذين سيقرؤون معاً خطط العمليات الحربية وخرائطها، ومن هنا
جاءت زيارة موفاز للتأكد من تطبيق هذا القرار، وعندما تكون الأمور ومواضيع
الزيارة متفقاً عليها «مسبقاً» تكون الزيارة لمجرد التهنئة وتبادل الابتسامات.
لقد عامل وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد «موفاز» الذي لم
يكن يعرفه من قبل بودٍّ شديد وواضح في وجبة الغداء المشتركة؛ تجاوز
حدود البروتوكول كما لو كانا صديقين قديمين.
وهذا لا يعني أن الإدارة الأمريكية قد كفَّت عن محاولات إرسال «جينيفر
كوبرا» ، وكوبرا هذه ليست نجمة سينمائية ولا عملية سرية، وإنما هي مناورة
دورية بالأسلحة المضادة للطائرات في قطاع النقب بـ (إسرائيل) ، وفي
المناورات السابقة أحضر الأمريكيون إلى (إسرائيل) بطارية صواريخ باتريوت،
وقاموا بالمناورة مع (إسرائيل) لمدة أسبوع أو أسبوعين، ثم انصرفوا عائدين إلى
أوروبا أو الخليج، أما في هذه المرة فإن «جنيفر» أكبر وأغلى ثمناً، فبدلاً من
بطارية واحدة هناك لواء بطاريات صواريخ مضادة للطائرات، وحوالي ألف رجل
بعتادهم؛ وهي صواريخ أحدث من باتريوت الموجودة لدى سلاح الجو الإسرائيلي،
وهي الصواريخ المسماة بـ «فاك جيم» ، وأنظمة الإنذار واكتشاف مواقع
الصواريخ المحمولة على سفن، واستثمر الأمريكان في هذه المناورة حوالي
20 مليون دولار، وسوف تبقى بطاريات الصواريخ في (إسرائيل) لتهدئة
الإسرائيليين، وللوفاء بالتعهد الذي قطعوه لرئيس الحكومة «شارون» ووزير
الدفاع.
خطط الأمريكان لإنشاء قيادة خاصة مشتركة بغرب العراق، وخصص لهذه
القيادة قوات ثابتة ودائمة خاصة بها، وبعيدة ومنفصلة عن باقي الجبهات، وأرسل
الأمريكان إلى (إسرائيل) عشية الحرب كبار ضباط هيئة الأركان من القيادة
المركزية الأمريكية في الميدان الجوي والعمليات الخاصة، ويقيم هؤلاء الضباط مع
نظرائهم من الإسرائيليين، وتقوم هذه المجموعة بإعداد كل شيء؛ لكي يكون
الخطاب بلغة واحدة، فالأكواد والشفرات في الخرائط على سبيل المثال واحدة
ومتطابقة لدى كلا الجانبين.
والجهات التي تقود الموضوع في (إسرائيل) هي السلاح الجوي الإسرائيلي
وشعبة التخطيط بهيئة الأركان، ويقوم هذان بتشكيل هيئة أركان دائمة بالتعاون مع
الأمريكان أثناء الحرب، وتضطلع هذه الهيئة بثلاثة مواضيع هي:
- تلقي الصور الجوية في توقيت التقاط الصور نفسه حول ما يحدث في
غرب العراق.
- وتتلقى تحذيرات وإنذارات جارية ومتوالية من انطلاق الصواريخ العراقية،
كما تتولى مهمة الدفاع الجوي الإسرائيلي الأمريكي المشترك عن سماء (إسرائيل) .
- وتنقل الردود والمقترحات الإسرائيلية أثناء الحرب بأسرع ما يمكن إلى
البنتاجون وإلى القيادة المركزية الأمريكية.
* الاستعدادات لحرب العراق:
- نشر شبكة جمع معلومات استخبارية؛ متمثلة في الأقمار الصناعية،
وطائرات التجسس والإنذار، وأجهزة تنصت، وطائرات بدون طيار.. وغيرها.
- وإعداد التشكيل الجوي، وهذا التشكيل عبارة عن قوة جوية تتضمن قاذفات
استراتيجية، تتمركز في قواعد جوية بتركيا والكويت وقطر، وعلى حاملات
الطائرات، وهذا التشكيل يقوم بضرب مراكز القوة بالعراق، ومنع إطلاق
صواريخ أرض أرض وغيرها من الصواريخ.
- تشكيل القوة البرية التي تتكون بصفة خاصة من القوات الخاصة المحمولة،
وتقوم هذه القوة بشن غارات ومداهمات عميقة بالعراق، والاستيلاء على مراكز
التأثير والقوة وتدميرها.
- المساعدة اللوجستية، وخاصة ما يتعلق بالنشاط الذي يزاول في غرب
العراق، فإن (إسرائيل) قاعدة للقوات الأمريكية في المجالات والميادين الطبية،
والوقود، وسائر المكونات والعناصر الأخرى، إن الأمريكيين لم يطلبوا المساعدة
من (إسرائيل) ، إلا أن هناك اتفاقات بين الدولتين تتعلق بالتعاون في أوقات
الأزمات.
لقد ودَّع وزير الدفاع الإسرائيلي موفاز واشنطن وهي واثقة جداً من نفسها؛
أنها ستنتصر في حرب الخليج بسرعة، حيث يرى الأمريكيون أن حرباً تستمر
لشهرين تُعَدُّ إخفاقاً، وكانت استطلاعات الرأي والتحليلات السيكولوجية التي أعدها
رجال المخابرات أظهرت أن ضربة قوية تُوجه إلى الأهداف والنقاط الصحيحة؛
سوف تكشف مدى هشاشة نظام صدام حسين وهلاميته، وسوف تكشف أيضاً أنه لا
يتمتع بتأييد شعبي حقيقي، وبالتالي سوف يكون انهياره سريعاً، ويرى الأمريكيون
أن مثل هذه الخطوة أي الضربة السريعة من شأنها أن تؤدي إلى استئناف ضخ
النفط العراقي للعالم، وإلى انخفاض كبير في أسعار الطاقة، وإلى حدوث طفرة
بالاقتصاد الأمريكي والعالمي، وإلى ضمان انتخاب بوش لفترة ولاية ثانية في عام
2004م، وإذا لم يحدث كل ذلك؛ فإنهم يرون أنهم سوف يعانون جميعاً الأزمات
والضائقات. والسيناريوهات الأمريكية تُظهر أن نجاحاً جزئياً في هذه الحرب
سوف يكون معناه ازدياد قوة القوى المتطرفة بالعالم الإسلامي، وعندئذ سوف تدفع
(إسرائيل) أيضاً الثمن.
فهل تعي القيادات والحكومات العربية هذا المخطط؛ فتعمل على إحباطه؟
وهل ستكون الشعوب العربية والإسلامية على مستوى المسؤولية وتهب لنجدة
إخوانهم في العراق؟ أو أن موقفنا جميعاً سيكون موقف المتفرج الذي ينتظر أن
يأتي عليه الدور!!
إن التاريخ الإسلامي يزخر بصفحات مضيئة من تلاحم الشعوب ضد قوى
البغي والظلم والعدوان، وقد مرت على الأمة الإسلامية خطوب ومحن وابتلاءات
كانت تخرج منها أكثر صلابة وتلاحماً من ذي قبل، وما كان يتم لهم ذلك إلا بعد
إحياء ما أماتوه من قوة العقيدة، وقوة الأخوة والتلاحم والإخاء، ثم قوة الساعد
والسلاح، ولن يتم دحر أعداء الله عز وجل من الأمريكان واليهود إلا بإحياء هذه
الروح في الأمة بأسرها، فلا بد من الإيمان الصادق الذي لا نفاق فيه، ولا بد من
الأخوة الصادقة التي لا عداء ولا خصام فيها، ثم لا بد من إعداد القوة ما استطعنا
إلى ذلك سبيلاً، عند ذلك إذا توجهنا إلى ملك الملوك سبحانه وتعالى بقلوب خاشعة
أوَّاهة مُنيبة، وبدعاء خالص بالنصر؛ فسيمدنا الله بجنود من عنده سبحانه وتعالى،
وسينصرنا على أعدائنا؛ لأنه عز وجل لا يُخلف الميعاد، وقوله حق، وقد قال:
[إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) ، وقال تعالى: [وَلَن
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] (النساء: 141) .
__________
(*) كاتب وباحث مصري.(186/66)
المسلمون والعالم
عراق المستقبل والبعد الديني للحرب
عارف المشهداني
almashhadani@yahoo.com
يبدو أن سطحية التفكير لدى الإدارة الأمريكية، وعدم معرفتها بتركيبة النفسية
العراقية جعلاها تتخبط بوضع خطط ما أنزل الله بها من سلطان حول من يحكم
العراق مستقبلاً!! فأحدث (الطبخات) أو السيناريوهات التي ترشحت تشير إلى
نية الإدارة الأمريكية إقامة حكومة احتلال عسكري؛ تعيد العراق والمنطقة إلى أيام
احتلال شبيهة بتلك الأيام السود التي قضاها تحت الاحتلال الإنكليزي الذي دخل
البصرة سنة 1914م وبغداد سنة 1917م، لكن ذلك الاحتلال لم يدم طويلاً؛ حيث
سرعان ما خرج الإنكليز وهم يجرُّون أذيال الخيبة بعد قيام العشائر العراقية على
اختلاف مذاهبها بثورتها العارمة سنة 1920م، والتي عُرفت بـ (ثورة العشرين) ،
مرددين هتافاتهم وأهازيجهم الشهيرة (الطوب أحسن لو مكواري؟!) .
و «الطوب» كلمة تركية الأصل بمعنى المدفع (الإنكليزي) ، أما
«المكوار» فهو عصا غليظة تنتهي بالقير المتصلب، والتي كان العراقيون
يستخدمونها للدفاع عن النفس، حيث استطاعوا بالأسلحة الخفيفة (المكوار) من
دحر الإنكليز (بمدافعهم) إلى غير رجعة، وكان العراق بذلك من أوائل الدول التي
نالت استقلالها في المنطقة؛ لذا فإن حكومة الاحتلال العسكري الأمريكية (والتي
تُقدِّر الدوائر الحكومية فترة بقائها ما بين سنة إلى 15 سنة، أو بالأحرى إلى أجل
غير مسمى؛ بحجة حفظ الأمن والسلام في المنطقة) لن يكون حالها بأحسن من
حال سلفها الإنكليزية، بل ستكون أقصر عمراً؛ خاصة إذا ما علمنا أن العشائر
العراقية اليوم والتي تمتهن القنص عن بعد مسلحة ببنادق كلاشنكوف حديثة الصنع!
فإذا عجزت الحكومة الأمريكية عن الإمساك بقناص واحد في واشنطن طيلة ثلاثة
أسابيع؛ فكيف يكون حالها عندما يكون القناصون في العراق من كل حدب
وصوب؟!
أما الخيار الآخر المتمثل في إقامة حكومة تقيم في بغداد، وتُدار بجهاز تحكُّم
عن بعد (الريموت كونترول) من واشنطن؛ فهو المضحك المبكي لمن خبر طباع
العراقيين عن قرب! فالعراقيون على مر التاريخ قد يقبلون بحكم طاغية، على
مضض، لكن لم يُعرف عنهم قبولهم بحكم عميل قطّ!! والشعب العراقي المحافظ
والمتمسك بالأخلاق الإسلامية الفاضلة لن يقبل بالتأكيد زعيماً عربي اللسان وغربي
السلوك مثلما تريد أن تسوّقه واشنطن لهم، وهذا ما ينطبق مثلاً على أحد قيادات
المؤتمر الوطني المعارض (وهو أحد المرشحين البارزين لتولي رئاسة العراق؛
فيما لو صدقت أمريكا في وعودها) ، والذي حضر مؤتمر المعارضة العراقية في
مصيف صلاح الدين / محافظة أربيل سنة 1996م، وقد أحضر معه من بريطانيا،
حيث يقيم، ابنته ومعها صديقها (ال بوي فريند) !!
ولكن قبل أن نتحدث عن شكل الحكومة المرتقبة؛ من حقنا أن نتساءل: هل
الإدارة الأمريكية قادرة فعلاً على إسقاط النظام العراقي الحالي؟ أم أنها مجرد أوهام
وسراب يحسبه الظمآن ماءً؟ فهل بمقدور الحكومة التي تعجز عن الإمساك بقناص
واحد طيلة ثلاثة أسابيع كما أسلفنا أن تمسك بصدَّام الذي لا يعلم إلا الله سبحانه أين
يمسي وأين يصبح؟! وكما أورد النائب البريطاني جورج جالوي الذي زار بغداد
والتقى الرئيس العراقي صدّام حسين فإنه أمضى 20 ثانية بالمصعد (أو بالأحرى
بالمهبط) لينزل تحت الأرض ليصل قصر صدّام، عدا رحلة الممرات الخفية
المظلمة التي قد تستمر ساعة؛ فكيف تصيب الصواريخ الأمريكية هذا القصر؟ بل
وأي قصر تصيب؟ أهي قصور بغداد أم تكريت أم الموصل؟ وأي صدّام تستهدف؟
أهو صدّام الحقيقي أم بدلاؤه الثمانية الذين يشبهونه طبق الأصل؟
وعندما نذكر ذلك؛ فلك أن تتصور - عزيزي القارئ - مقدار الضحايا من
الشعب العراقي الذين سيذهبون ضحية هذه المغامرة الطائشة وغير محسوبة
النتائج!! فالآلاف من الأطفال الرضّع والشيوخ الركّع سيسقطون قتلى وجرحى
نتيجة الصواريخ الأمريكية؛ ليأتي التسويغ الأمريكي بأنها سقطت خطأً، أو أنها
انحرفت عن مسارها، أو تسويغ جاهز بأن صدّام احتمى بهذا المكان واستخدم المدنيين دروعاً بشرية!! والكل يتذكر كيف أن القوات الأمريكية وجهت أثناء حرب
1991م صاروخين بدم بارد إلى ملجأ العامرية ببغداد، والذي كان مخصصاً لحماية
المدنيين ضد الضربات النووية والكيمياوية، وحولت 400 طفل وامرأة إلى جثث
متفحمة خلال ثوان؛ بحجة استهدافها لصدّام الذي كانت تظن أنه موجود هناك
لحظتئذ!! ثم من ذا الذي يصدق الدعاوى الأمريكية عن الديمقراطية وحقوق
الإنسان؟ فأمريكا التي تتحدث عن «نشر الديمقراطية» هي نفسها التي تدعم
الأنظمة الاستبدادية من شرق الوطن العربي حيث التقبيل بالأنوف، إلى مغربه
حيث تقبيل الأيدي والأكتاف!! كما أن ذاكرة الشعب العراقي ما زالت حية
وتتذكر جيداً أن وزير الدفاع (أو الحرب بالأحرى) الأمريكي دونالد رامسفيلد
الذي يعدُّ صدّام حسين عدوه الأول الآن؛ هو نفسه الذي قابل صدّام حسين عام
1983م عندما كان يعدُّه حليفه، كما قابل طارق عزيز وزير الخارجية العراقي
وقتئذ عام 1984م!! وأمريكا التي ترفع شعار «حرية التعبير» هي التي
وجهت صاروخاً إلى منزل الرسَّامة العراقية ليلى العطار في مدينة المنصور
ببغداد عام 1993م ليقتلها مع زوجها؛ لمجرد أنها رسمت صورة جورج بوش
الأب على أرضية مدخل فندق الرشيد ببغداد لتطأه أقدام الداخلين والخارجين!!
كما أن أمريكا نفسها سبق لها أن ترجمت عملياً شعار (الحرب الصليبية) قبل أن
يطلقه جورج بوش الابن؛ عندما وجهت صاروخاً أصاب مدخل فندق الرشيد أثناء
انعقاد الجلسة الختامية للمؤتمر الإسلامي العالمي الشعبي في العام نفسه
(1993م) ؛ بحجة أن صدّام حسين كان ينوي حضور الجلسة الختامية للمؤتمر!!
فأمريكا كما يقول اليهودي هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: (دولة
لا تعرف المبادئ وإنما المصالح) !! كما أن بعض الشائعات التي تطلقها أمريكا من
قبيل ترحيب شيعة العراق وأكراده بالغزو الأمريكي للعراق تعتريها الكثير من
الشكوك؛ فالأكراد على يقين أن أمريكا لن تمنحهم دولة؛ لأن ذلك سيُغضب
تركيا حليفة أمريكا؛ خشية تشجيع أكراد تركيا على المطالبة بالمثل، والشيعة
موقنون بأن أمريكا لن تمنحهم حكومة؛ خشية تحالفها مستقبلاً مع إيران، وهذا ما
لا يسرُّ أمريكا؛ لذا نرى التردد من الطائفتين - الأكراد والشيعة - عن الخوض في
مسألة المشاركة في الغزو الأمريكي المتوقع للعراق.
ثم أيُّ وَهْمٍ هذا الذي يعشش في أذهان الإدارة الأمريكية؛ بحيث تتصور أن
الشعب العراقي سيستقبل قواتها بالورود؟! فماذا ينتظرون من أبٍ يرى ابنه يصارع
الموت بين يديه ولا يجد له دواء بسبب الحصار الذي تفرضه أمريكا باسم الأمم
المتحدة؛ تحت ذرائع واهية كما يعلم الجميع؟ وماذا يتوقعون من أمٍّ لا تجد حليباً
لابنها الصريخ؛ لأن أمريكا ترفض استيراد العراق لأجهزة معمل حليب الأطفال،
والذي دمرته الطائرات الأمريكية خشية استخدامه لإنتاج أسلحة بيولوجية!! بل ماذا
عن الشباب الذي حرمته أمريكا من حقه في طلب العلم في فترة صباه؛ عندما
منعت استيراد العراق لأقلام الرصاص؛ بحجة استخدامه مادة الرصاص لإنتاج
أسلحة كيمياوية!! فمن يرحب بقدومهم يا ترى.. من؟
ثم إن أمريكا بضربها العراق تمنح صدّام حسين فرصة لم يكن يحلم بها من
الالتفاف الشعبي، لا حباً له، وإنما دفاعاً عن العراق أولاً، ومن باب (عدوُّ عدوِّي
صديقي) ! فبعد اثنتي عشرة سنة من الحصار الذي أهلك الحرث والنسل؛ لا يوجد
عراقي اليوم إلا ويتمنى اليوم الذي يمسك فيه الجندي الأمريكي من رقبته ويمصّ
دمه، كما يردد الكثير من العراقيين اليوم! فهل يعي محور النفط (بوش، تشيني،
رامسفيلد، رايس) ذلك.. أو أنهم في غيهم يعمهون؟!
كما أن كل ذي بصيرة يدرك أن الهدف من الحرب الأمريكية ليس إيجاد نظام
ديمقراطي عراقي؛ بقدر ما هو ترسيخ لمبدأ التسلط الأمريكي، وسيطرتها على
المنطقة التي تضم أكبر إنتاج واحتياطي نفطي، وفتح الأبواب أمام الشركات
الأمريكية الاستثمارية الضخمة، فالحرب إذن ليست لتحرير العراقيين وإسعادهم،
وإنما هي جسر عبور للقطط السمان!!
ومن الضروري أيضاً ملاحظة البعد الديني في الأزمة الحالية، فغالبية
أعضاء الإدارة الأمريكية الحالية من النصارى البروتستانت الذين يؤمنون أن
المسيح - عليه السلام - لن ينزل إلا بعد قيام دولة (إسرائيل) !! لذا ينطلق دعمهم
للكيان الصهيوني وكأنه واجب ديني!! وكما قالها بوضوح الرئيس الأمريكي السابق
بيل كلينتون عند زيارته الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1999م، وبعد فضيحة
مونيكا لوينسكي: «إن مرشدي الروحي أخبرني أني سأرتكب أخطاء يغفرها الرب
لي، لكنه لن يغفر لي إذا تقاعست بحق (إسرائيل) » !! ومن قبله الرئيس
الأمريكي الأسبق رونالد ريجان؛ عندما عبَّر بوضوح عما يدور بخاطره بقوله:
«إنني أحلم باللحظة التي يأمرني فيها الرب بالضغط على الزر النووي وبدء حرب
هرمجدون» !! وللتذكير فإن (هرمجدون) هي التسمية اليهودية النصرانية
للمعركة الحاسمة ضد المسلمين، والتي سينزل فيها المسيح - عليه السلام - للقتال
إلى جانب اليهود والنصارى ضد المسلمين بزعمهم!!
أما الرئيس الحالي جورج بوش؛ فهو وعلى الرغم من نشأته كمدمن خمر فقد
تحول إلى الالتزام الديني البروتستانتني بتشجيع من زوجته، علماً أن والده الرئيس
الأسبق جورج بوش وأمه كانا على درجة عالية من التدين، بل إن بوش (الابن)
قاد الحملة الانتخابية لأبيه أواخر الثمانينيات من خلال التركيز على إقامة علاقات
وطيدة مع القساوسة من أجل التأثير في أتباعهم.
ولمن لا يعلم؛ فإن الشعب الأمريكي، على الرغم من التحلل الخلقي
المستشري فيه، يُعَدُّ من أكثر شعوب العالم تديناً!! بل إن كل جلسات الكونجرس
الأمريكي بجناحيه (النواب والشيوخ) تُفتتح بدعاء ديني، يفتتحه في الأغلب
راهب نصراني، وأحياناً أحد زعماء الدين من ديانات أخرى، بل حتى لو عُقدت
جلستان في يوم واحد؛ فإن كلتي الجلستين تُفتتحان بدعاء ديني!! (وللإشارة فقط؛
فإنه لم توجه الدعوة لمسلمين لافتتاح جلسات الكونجرس طيلة عمره سوى ثلاث
مرات في أعوام 1994م و 1996م و 2001م) .
ولمعرفة عقيدة الرجل (بوش) من الحري بنا أن نعرف مَثَلَه الأعلى؛ ألا
وهو القس (بيلي جراهام) الذي وصفه بوش بقوله: «إنه الرجل الذي قادني إلى
الرب» ، كما أن ابنه فرانكلين هو الذي أقام الصلوات في حفل تدشين رئاسة
بوش!! ونذكِّر القارئ الكريم ثانية بأن القس (جراهام) قد أطلق مؤخراً تصريحات
قذرة بحق الإسلام والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يستنكرها أحد من
أركان الإدارة الأمريكية!! ومن ينظر إلى حاشية بوش ويرى مثل وزير العدل
«آشكروفت» ، وهو من قيادات اليمين النصراني المتطرف، والذي صرح
ذات مرة تعالى الله عما يقول: «إن رب المسلمين يأمرهم بقتل أنفسهم من أجله؛
في حين أن رب النصاري يضحِّي بنفسه من أجلهم» ، ومستشارة الأمن القومي
«كونداليزا رايس» ، وهي ابنة قسيس؛ يدرك حجم التأثير فيه دينياً. لذلك
كله وغيره كثير؛ لا ينتابنا شك بأن حماية الكيان الصهيوني، بل وتحقيق حلم
(إسرائيل الكبرى) من الفرات إلى النيل هو أحد أبرز أهداف هذه الحرب التي يندفع
فيها بوش دون إدراك لعواقبها المُرَّة؛ لا على الشعب العراقي الذي ذاق الأمرَّين
نتيجة الحصار الذي أهلك الحرث والنسل فحسب، بل وعلى الشعب الأمريكي الذي
بدأ يتململ قليلاً؛ على الرغم من التضليل الإعلامي الذي تمارسه الإدارة الأمريكية،
ويتظاهر على هذه الحرب التي لا يجد لها مسوِّغاً مقنعاً سوى تحقيق أحلام إدارة
تعاني من مرض غطرسة القوة!!(186/70)
المسلمون والعالم
مستقبل العلاقات الأوروبية الأمريكية
حسن الرشيدي
الإدارة الأمريكية تجاوزت كل الحدود المقبولة والمعقولة في تعاملها مع حلفائها
الأوروبيين وبقية العالم؛ فهي تتعامل مع أوروبا كمحميات أمريكية وليس كدول
مستقلة، وإنها تفرض علينا مواقف معينة في الحقيقة ضارة بمصالحنا «.
هذا قول مسؤول أوروبي كبير يصف فيه بصدق العلاقات الأمريكية
الأوروبية في الآونة الأخيرة.
هذه العلاقات التي تبلورت في الآونة الأخيرة في صورة خلافات بين بعض
الدول المؤثرة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ خاصة بخصوص المسألة
العراقية.
وهذا الخلاف الناشب على مدى الأسابيع الأخيرة بين الولايات المتحدة
الأميركية من جهة، وعدد من حلفائها الأوروبيين بزعامة ألمانيا وفرنسا من جهة
أخرى، حول الأزمة العراقية وسبل التعامل معها، ليس وليد تلك الأزمة وحدها،
وإن كانت هي التي دفعته إلى نقطة الصراع.
فقبله اندلع خلاف حول شبكة الدرع الصاروخي الأمريكي، ومساعي التميز
الأمني الأوروبي، وموقع روسيا على خريطة السياسة الأمنية الدولية، وعلاقات
الحلف الغربي بمنظمة الاتحاد الأوروبي الغربي الأمنية، ومستقبل صناعة القرار
الأمني بين الحلف والأمم المتحدة.
بل إن أسباب هذا الخلاف تضرب بجذورها في عمق العلاقات الأميركية
الأوروبية عموماً، وعلاقات أميركا بكل من فرنسا وألمانيا خصوصاً.
وحار كثير من المراقبين في تفسير هذا الخلاف: هل هو لحماية المصالح
الاستراتيجية للدول الأوروبية المعارضة للحرب، أم أن المعارضة للحرب هي
محاولة أوروبية لاستثمار الأزمة ومساومة أميركا على ثمن مناسب نظير تخلي هذه
الدول عن موقفها الرافض للحرب.
وفي كلا الحالتين ما هو مصير هذه الخلافات ومسلسل التدهور؟ وماذا يحمل
المستقبل بشأن العلاقات بين أكبر حليفين في السنوات الخمسين الماضية؟
لا شك أن أي منهج تحليلي لاستجلاء التطورات المستقبلية لهذه العلاقة لا بد
أن يراعي عدة أمور؛ أهمها:
- الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي.
- طبيعة الهيمنة الأمريكية على العالم وخصائصها.
- الصراع داخل النظام الدولي.
* الانقسامات داخل أوروبا:
قبل أسابيع قلائل من أحداث 11 سبتمبر سخر دونالد رامسفيلد وزير الدفاع
الأمريكي ممن يتحدثون عن تعاظم قوة الاتحاد الأوروبي، وقال في تصريحات له:
إن أوروبا لا تمثل كياناً موحداً، وإنها مجرد مساحة جغرافية تضم دولاً صغيرة
ومتوسطة الحجم عجزت خلال عقود من الزمان عن الاتفاق على الاتحاد في إطار
كيان واحد أو دولة واحدة.
وتوقع رامسفيلد مزيداً من المشكلات في العلاقات الأوروبية الأمريكية بسبب
ما وصفه بالخلافات داخل الاتحاد الأوروبي، وقال: إنه ليس من السهل التعامل
مع هذا النوع من اللاكيان الذي ليس بدولة بل مجموعة من الدول تعمل معاً.
وكشفت الأزمة العراقية وما صاحبها من تباين المواقف الأوروبية أنه يصعب
حتى الآن اعتبار القارة الأوروبية وحدة سياسية واحدة تتكلم بصوت واحد مسموع.
ويقول وزير الخارجية البلجيكي: لو كان للاتحاد الأوروبي موقف مشترك من
الموضوع لكان بإمكانه فرض تحول النزاع مع العراق باتجاه الحوار؛ وذلك بفضل
وجود أربعة من أعضائه في مجلس الأمن الدولي وهي: بريطانيا، وفرنسا،
وألمانيا، وإسبانيا.
وكانت الدول الـ 15 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي منقسمة فيما بينها حول
السبيل الأمثل للتعامل مع الأزمة العراقية، بين جانب يدعو لاستخدام القوة المسلحة
لنزع أسلحة الدمار الشامل، وجانب آخر يدعو إلى منح المفتشين الدوليين فرصة
أخرى لإتمام مهمتهم.
وتقود فرنسا وألمانيا معسكراً أوروبياً مناوئاً للحرب يضم في عضويته أيضاً
بلجيكا والسويد وفنلندا والنمسا واليونان وإيرلندا ولوكسمبورج.
أما المعسكر المؤيد للحرب فيضم بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا والدانمارك
والبرتغال وهولندا.
غير أن التظاهرات الكبرى المناوئة للحرب التي شهدتها عدة عواصم غربية
قد أضعفت الزخم الذي كان قد تشكل نحو الصدام المسلح.
وقد صعدَّت فرنسا لهجتها تجاه دول أوروبا الشرقية المرشحة للانضمام إلى
الاتحاد الأوروبي؛ إذ حذرت وزيرة الدفاع الفرنسية» ميشيل إليو ماري «هذه
الدول من أنها تعرض للخطر مشروعات انضمامها إلى الاتحاد نتيجة دعمها
للولايات المتحدة.
وقالت في مؤتمر صحفي بعد لقائها نظيريها البولندي والألماني: إنه لمصلحة
تلك الدول أقول: عليهم أن يأخذوا حذرهم؛ لأنه سيكون هناك رد فعل من
المواطنين عند إبرامهم اتفاقية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وسيقولون إن تلك
الدول لا تريد السلام داخل الأسرة الأوروبية.
وجاءت تصريحات الوزيرة الفرنسية بعد ساعات من شن الرئيس الفرنسي
جاك شيراك هجوماً لاذعاً في ختام القمة الأوروبية الطارئة على الدول المرشحة
للانضمام إلى الاتحاد لانحيازها للموقف الأميركي إزاء العراق، قائلاً: إنهم فوَّتوا
فرصة جيدة للسكوت. واتهم شيراك في مؤتمر صحفي عقده عقب انتهاء القمة
الأعضاء الجدد بعدم اعتماد سلوك مسؤول؛ واصفاً موقفهم بأنه غير لائق، وأعرب
شيراك عن خشيته من أن تؤدي هذه الخطوة الخطيرة التي قامت بها هذه الدول إلى
تعزيز شعور عدائي تجاهها لدى الرأي العام في الدول الـ 15.
وقد أبدت الدول الأوروبية الشيوعية السابقة استياءها الشديد إثر التصريحات
الحادة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي، وشددت على حقها في التعبير عن رأيها،
واعتبر الرئيس الروماني» يون إيليسكو «أن تصريحات الرئيس شيراك في غير
محلها في إطار هيكلية ديمقراطية مثل الاتحاد الأوروبي، واتهم جاك شيراك بالعودة
إلى سيناريوهات الحرب الباردة؛ موضحاً أن التمييز بين المؤيدين للولايات المتحدة
والمناهضين لها يذكرني بعقيدة كنت أظنها ولَّت ومفادها: (من لم يكن معنا فهو
ضدنا) .
وقال رئيس الوزراء السلوفاكي» ميكولاس جوريندا «، وهو من كبار
أنصار سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش: يحق للجميع أن يكون له مواقف
خاصة به، وأود هنا أن أشدد على أن لسلوفاكيا مواقفها الخاصة. وأضاف: إننا
نستعد للمشاركة في تحديد سياسة أوروبية؛ هذا حقنا ومسؤوليتنا.
واعتبر آدم روتفيلد نائب وزير الخارجية البولندي أن فرنسا يجب أن تحترم
موقف بولندا، وأوضح: يحق لفرنسا تحديد سياستها في هذا المجال، ويجب
احترام هذا الحق؛ هذا حق فرنسا كما أن لبولندا الحق أيضاً باختيار ما هو مناسب
لها، ويجب أن تنظر فرنسا إلى ذلك باحترام، والاهتمام بأسباب هذا الاختلاف.
واعتبر نائب وزير الخارجية البلغاري» لوبومير إيفانوف «أن تصريحات
شيراك تنم عن بعض التوتر، هذه ليست مقاربة مثمرة للتوصل إلى وحدة الصف
في مجلس الأمن الدولي؛ حيث تحتل بلغاريا مقعداً غير دائم؛ لكن الكثير من قادة
هذه الدول سعى إلى تهدئة الوضع. وأشاد» إليسكو «بالعلاقات التقليدية بين
فرنسا ورومانيا.
والدول العشر التي ستنضم إلى الاتحاد الأوروبي في مايو 2004م هي
بولندا، والمجر، وتشيكيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وليتوانيا، ولاتفيا، وأستونيا،
وقبرص، ومالطا.
أما الدول الثلاث المرشحة فهي بلغاريا ورومانيا اللتان يتوقع أن تنضما بحلول
العام 2007م، وتركيا التي لم يحدد لها أي موعد محتمل بعد.
وحصلت دول أوروبا الشرقية على دعم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير
الذي اعتبر أن لتلك الدول الحق بالكلام مثلها مثل بريطانيا وفرنسا أو أي عضو
حالي في الاتحاد الأوروبي؛ لأنها ستنضم إلى الاتحاد العام المقبل كعضو كامل
الصلاحيات.
* تكمن عدة أسباب وراء الجذور العميقة لهذا الانقسام:
الأول: دوافع الدول الأوروبية لمبدأ التعاون؛ حيث تنقسم دول أوروبا حول
أهداف اتحادها أو دخولها في منظومة الاتحاد الأوروبي إلى فريقين: الفريق الأول
يرى أن الهدف الرئيس لدخوله الاتحاد الأوروبي هو دافع اقتصادي والسعي الدائم
إلى تحقيق تكامل اقتصادي ومالي؛ وذلك من أجل تدعيم وتكريس السيطرة على
الأسواق العالمية لعملاق اقتصادي ومالي يتمتع بقدرة تنافسية جديرة به، ويحظى
بمكانة مرموقة فيما بين الدول في ظل حرية الأسواق العالمية؛ لذلك يصر هذا
الفريق على ضرورة الاهتمام بتوسيع العضوية الأوروبية في شرق أوروبا تطلعاً
لمزيد من الأسواق التابعة له. وتأتي السياسة الأمنية في مرتبة أدنى لهذا الفريق؛
حيث إن الولايات المتحدة هي التي تكفل الجانب الدفاعي لأوروبا متمثلاً في حلف
شمال الأطلنطي. أما الفريق الثاني فيضع هدف وجود أوروبا كقوة فاعلة على
الصعيد الدولي؛ وهذا لا يتأتى إلا بوجود سياسة أمنية ودفاعية خاصة بأوروبا
مستقلة عن حلف شمال الأطلنطي. وطوال الفترة الماضية كانت الغلبة للتيار الأول
الذي يرى أن أهداف أوروبا هي السيطرة الاقتصادية، وشجعه على ذلك انهيار
الاتحاد السوفييتي، واندفاع دول أوروبا الشرقية للالتحاق بالركب الأوروبي. ولكن
اندلاع الصراع في كوسوفو والتدخل الأمريكي أظهر مدى المهانة التي لحقت
بأوروبا من جراء اعتمادها على الحليف الأمريكي، وأدركت بعض دوله الضرورة
القصوى في أن تقوم بدور الفاعل الاستراتيجي المسؤول والقادر على معالجة هذه
الصراعات ذات الطابع الأوروبي البحت؛ ولذلك عند انعقاد قمة ألمانيا للمجلس
الأوروبي في يونيو 1999م صدر القرار بدعم وتجهيز نواة لقوة عسكرية أوروبية
تابعة للاتحاد الأوروبي. ولكن حقيقة أن توسيع أوروبا بقدر ما كان سلاحاً أميركياً
وأوروبياً لحصار روسيا من جهة الغرب، فإنه كان أيضاً سلاحاً أمريكياً لحصار
أوروبا من جهة الشرق وللتغلغل فيها، وفتح طرق جديدة للهيمنة عليها، وممارسة
الضغوط الأميركية ضدها حينما يلزم الأمر.
ذلك أن النخب السياسية والاقتصادية في دول وسط أوروبا وشرقها مرتبطة
بالولاء العميق للولايات المتحدة منذ فترة العمل على إسقاط الشيوعية وطرد النفوذ
السوفييتي من تلك البلدان. ويعتبر المراقبون أن كثيرين من عناصر هذه النخب
مرتبطة مباشرة بأجهزة المخابرات الأميركية التي كانت ولا يزال لديها نشاط واسع
للغاية في تلك البلدان؛ ليس بين عناصر اليمين فقط، بل وأيضاً عناصر من
الأحزاب الشيوعية السابقة الاشتراكية حالياً؛ فقد كان الاختراق الأمريكي
والصهيوني ولا يزال عميقاً للغاية في تلك البلدان، وبانضمام تلك البلدان إلى الناتو
أيضاً؛ فإن التغلغل الأميركي يتسع نطاقه ويمتد عميقاً في الجيوش وقياداتها
العسكرية أيضاً.
أما السبب الثاني: للانقسامات الأوروبية فهو التنوع العرقي الذي لا يزال
يضفي مزيداً من عدم التجانس الأوروبي؛ فأوروبا في تاريخها الحديث والقديم
شهدت صراعاً متصلاً بين الأنجلوساكسون واللاتينيين والجرمان. ونلاحظ في
هذا السياق أن قوة الانتشار السريع الأوروبية تمثل الجناح اللاتيني في أوروبا؛ أي
فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال؛ وإن كان هذا الجناح قد شهد مؤخراً انقساماً
ناتجاً عن عداوة فرنسية تاريخية عموماً للموقف الأمريكي.
والسبب الثالث: في تكريس الانقسامات الأوروبية هو الطابع الفردي لدوله؛
حيث تنظر كل دولة لإرثها التاريخي وعناصر قوتها على الساحة؛ ففرنسا تحمل
ثأراً تاريخياً من أمريكا التي حاولت إبعادها عن الساحة الدولية بعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية. ويروي» آرثر شلزينغر «في كتابه الضخم عن روزفلت أن
الرئيس الذي قاد الولايات المتحدة الأميركية حتى أبواب النصر كان رأيه أنه لا
يستطيع أن يتصور فرنسا بعد الحرب إلا دولة من الدول المحررة بجهود غيرها،
وليس بجهودها الذاتية، وهذه الدول وضمنها فرنسا يجب أن تقبل الحياة منزوعة
السلاح حتى لا تعود أوروبا إلى سباق سلاح جديد يشعل نيران حرب عالمية ثالثة.
وتقود فرنسا معسكر الفرانكفونية، وتضم تحت لوائه الدول متحدثة الفرنسية؛
في حين أن ألمانيا لم تنس هزيمتها ووقوف أميركا ضدها في الحرب العالمية؛
ففرنسا وألمانيا يعتبران نفسيهما الممول الرئيس لدول أوروبا خاصة الشرقية منها؛
وهكذا يكون سبب الغضب الأوروبي الواسع مفهوماً حينما اختارت بولندا أن تشتري
لقواتها الجوية مقاتلات إف 16 الأميركية، وليس أية مقاتلات أوروبية تماثلها أو
تتفوق عليها، أو حتى تتخلف عنها قليلاً، مثل اليوروفايتر أو الميراج أو التورنادو.
مع أن الأموال في الأصل أوروبية وهذا مجرد مثال واحد.
وإذا كانت ألمانيا قد استثمرت أموالاً طائلة في أوروبا الشرقية؛ لأنها تعتبرها
تاريخياً مجالاً لمصالحها الحيوية، وإذا كانت فرنسا بدورها قدمت مساعدات سخية
لتلك المنطقة سعياً إلى إدماجها في أوروبا، وإذا كانت هاتان الدولتان أكبر ممولين
لميزانية الاتحاد الأوروبي ومساعداته؛ فإننا نستطيع أن نتفهم الشعور بالغبن
والخديعة الذي يسيطر على هاتين الدولتين بصورة خاصة؛ نتيجة للموقف المنحاز
بصورة عمياء من جانب تلك الدول العشر للولايات المتحدة.
أما الموقف البريطاني وهو دائماً مرتبط بالسياسة الأمريكية فيفسره سياسيون
على أنه نتيجة ثلاثة عوامل مهمة: التشابه في الجنس والدين بين الإنجليز
والأمريكيين؛ كذلك أن بريطانيا تستظل بحائط الدفاع الصاروخي الأمريكي الذي
يحمي سماءها من أي هجمات خارجية، والسبب الأخير هو أيرلندا الشمالية
والصراع هناك؛ وخاصة أن للجالية الأيرلندية دوراً كبيراً في التأثير في السياسة
الأمريكية.
* خصائص العنجهية الأمريكية:
منذ قيام الرئيس الأمريكي جورج بوش بإعلان قيام نظام عالمي جديد مع
انطلاق عاصفة الصحراء في منطقة الخليج العربي 1991م أصبح واضحاً للجميع
أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى جاهدة إلى فرض إرادتها على العالم؛ عن
طريق قرارات تتخذها وتنفذها خارج الشرعية الدولية؛ ولا تقبل الحوار بشأنها،
وتنطلق في ذلك معتمدة على نظرية: من يخالفنا فهو ليس معنا؛ ولكنه عدونا.
وعند ملاحظة خصائص الهيمنة الأمريكية على العالم نجد أنها تتصف بعدة
سمات؛ هذه السمات ما فتئت تنسكب على علاقتها بدول العالم؛ وأهمها:
- أنها هيمنة تستمد من العقيدة البروتستانتية أساساً ومنهجاً ورسالة، ولقد بدا
المفهوم العقدي واضحاً أكثر في شخصية الرئيس الأخير بوش؛ حيث فاجأت
النيوزويك الأمريكية قراءها بمقالة في صدر غلافها في عدد 11 مارس يحمل
عنوان: (بوش والرب) ، حيث تروي على حد تعبير المجلة سيرة إيمان بوش،
وكيف يستخدمه وهو يقود أمة إلى شفير الحرب. وتقول المجلة في أوبريلاند
بمدينة ناشفيل: توجه بوش إلى رجال الإعلام الدينيين قائلاً:» إن الإرهابيين
يكرهون حقيقة أن نعبد الرب العظيم بالطريقة التي نراها مناسبة، وأن الولايات
المتحدة مدعوة إلى إيصال هدية الحرية التي منحها الرب لكل إنسان على وجه
المعمورة «. وقبيل ذلك بأيام قليلة كان قد أعلن خلال مأدبة الفطور القومية للصلاة
أنه خلف كل حياة وكل تاريخ يكمن تفانٍ وهدفٌ حددتهما يد إله عادل وأمين، وإن
صح ذلك فما من مجال (أن تخفق أمريكا) .
وتقول المجلة:» إن كل رئيس يتضرع إلى الله ويطلب بركته، وكل رئيس
يعد ولو عادة بكلمات أقل بأن يقود وفق أسس أخلاقية راسخة في تعاليم الكتاب
المقدس؛ لذا كان الكاتب الإنجليزي «كيلبرت كيه تشيستيرتون» قد وصف
أمريكا بأنها أمة بروح كنيسة، وكل رئيس كقس يلقي على المنبر عظات توعدية؛
لكن بعد انتهاء حرب واحتمال شن أخرى تجلى أمر محوري وهو: أن الرئيس
الحالي والرئاسة الحالية هما الأشد رسوخاً في الإيمان خلال العصور الحديثة، وكأن
هذه الرئاسة تأسست ودعمت وأرشدت بأمانة في ظل قوة الرب الدنيوية والروحانية،
وإدارة بوش تتبنى الفكرة القائلة إن هناك حلاً للمشكلات الاجتماعية في الداخل
ولمشكلات الإرهاب في الخارج، وهي تتلخص في: «أعطِ الجميع في كل مكان
حرية إيجاد الرب أيضاً» .
هذه النزعة الدينية المتعصبة تتجلى في تقسيم العالم إلى عالم خير وهو الذي
يذعن للهيمنة الأمريكية، وعالم شر وهو الذي يقاوم تلك الهيمنة. ولا شك أن تأثير
هذه النظرة الأمريكية البروتستانتية تختلف بشكل كبير عن التصور الأوروبي الذي
تهيمن عليه الروح الكاثوليكية، والتي دائماً تنظر بشك إلى التوجهات البروتستانتية
على أنها تجذب أعداداً جدداً على حساب الكاثوليك. ويرجح كثير من المراقبين أن
الإعلان عن حالات الشذوذ والانهيار الخلقي للقساوسة الكاثوليك في أمريكا هو جزء
من رغبة أمريكية في إضعاف الدور الكاثوليكي في العالم.
- أنها هيمنة وسيلتها السلاح لتسوية مشكلات السياسة الخارجية المتنازع
عليها، وقد قال أحد كبار المفكرين السياسيين الأمريكيين «ألكسندر هاملتون» :
(إن الناس طموحون، حقودون، مهابون) . وفي معرض تفسيره لأسباب حتمية
الحروب في حياة الجنس البشري يقول: (إن التطلع إلى استمرار التوافق بين عدد
من الدول المستقلة ذات السيادة والمنفصلة بعضها عن بعض معناه التغاضي عن
المسار المطَّرد للأحداث الإنسانية، والعمل على تحدي الخبرة المتراكمة للأجيال) .
وبعد أن قام هاملتون بتلخيص تلك الخبرة ابتداء من أثينا في عصر بركليز
إلى إنجلترا وفرنسا في أيامه أطلق على الذين يعتقدون أن من الممكن تحقيق سلام
دائم بين الأمم صفة المثاليين، وهو يعتبر ما يشبه البديهي في السياسة أن المجاورة
أو قرب الموقع هو الذي يشكل الأعداء الطبيعيين للأمم.
وقد تحققت للولايات المتحدة وحدتها كدولة بوحشية الحرب الأهلية بتكلفة
نصف مليون قتيل، وهو ما يزيد على أي خسائر بشرية تكلفتها في أي حرب
عالمية خاضتها توافقت مع الوقت الذي كانت فيه أصداء نظرية داروين عن أصل
الأنواع وقصة النشوء والارتقاء تملأ الأجواء، وتشرح لدنيا بهرتها كشوفات
الجغرافيا والعلوم درساً مؤداه أن البقاء للأقوى، وأن الفائزين في صراع الحياة هم
الأقدر على التكيف والتلاؤم ومغالبة العوائق وإزاحة غيرهم. ومع أن صراع الحياة
شغل أوروبا كما شغل أميركا؛ فقد كان درس البقاء للأقوى حياً في الممارسة
الأميركية المستجدة، وبعيداً في الذاكرة الأوروبية المعتقة، ثم إن الغِنى الأوروبي
من مكتسبات الثقافة والفنون كان في استطاعته ترويض الغرائز، ووضع شيء من
العقل في رأس الوحش الدارويني الذي هو أقدر المخلوقات على البقاء في نظر
أصحابه.
- هيمنة تتبع مبدأ مصلحتها فوق أي اعتبار أخلاقي أو غير أخلاقي، وهذا
المبدأ يعتبر مسلّمة رئيسة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية؛ فهو المفتاح والعامل
المحرر لنشاط أمريكا على الساحة العالمية؛ وهو يمثل النظرة للسياسة الخارجية
الأمريكية من منظور المدى الطويل.
وعلى وجه التحديد فقد كانت درجة الأفضلية الممنوحة لانتصار استراتيجي
طويل المدى بالنسبة إلى ميزة عابرة مرحلية هي التي اتخذت مقياساً للاستنارة
والمصلحة القومية؛ فإذا تشبث قادة دولة بمكاسب قليلة الأهمية وفورية متغاضين
عن المصالح الأكثر جوهرية التي يمكن تحقيقها، وحينما يترجم مبدأ المصلحة
الخاصة في السياسة الخارجية إلى لغة الاستراتيجية فإنها تعني الاحتفاظ بحرية
المناورة للولايات المتحدة في أي ظرف من الظروف.
ويقول جورج واشنطن مطوراً مفهوم حرية المناورة: «لماذا نترك أرضنا
لكي نقف على أرض أجنبية؟ لماذا نعرقل سلامنا ورخاءنا بحبائل ومعاداة مصالح
أوروبا ومنافساتها في مصالحها وأمزجتها وأهوائها؛ إذا جعلنا مصيرنا ملتحماً بأي
جزء من أوروبا؟ إن سياستنا الحقة هي أن نوجه سفينتنا بعيداً عن التحالفات
الدائمة مع أي جزء من العالم الأجنبي» ويمضي قائلاً: «إنه يجب اعتبار أي
تحالف مع دولة أجنبية مؤقتاً، أي لا تلتزم به الولايات المتحدة إلا إذا كان هذا
التحالف مفيداً لتنمية مصالحها، ولكن بمجرد أن يصير هذا التحالف عبئاً على
الولايات المتحدة، ويزج بها في غمار الصراع من أجل المصالح الأجنبية؛ فإن من
الواجب تصفيته وإحلال تحالف آخر مكانه إذا كان ذلك ضرورياً؛ حتى لو كان ذلك
مع عدو الأمس إذا دعت الحاجة إليه للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة الخاصة» .
لذلك نجد أن الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى تتبع في سياستها
البعد عن التدخلات العسكرية؛ فهي سياسة تجميع القوى وحشدها قبل أن تزج بها
في ساحة الصراع العالمي.
- ومن خصائص هذه الهيمنة الطمع وحب الاستحواذ على الثروات والسيطرة
على الاقتصاد، ولا نندهش أنه في أواخر القرن التاسع عشر اعتمد الأمريكيون ما
سمي في تاريخهم بخطاب مسيرة الراية؛ ففي 16/9/1898م أُلقي خطاب ممتلئ
بالحماسة في مدينة أنديانا بوليس دفاعاً عن السياسة الجديدة للولايات المتحدة، وكان
مُعد هذا الخطاب هو «ألبرت بفريدج» الذي كان مرشحاً لمجلس الشيوخ في
انتخابات ذلك العام؛ وكان يعتمد على تأييد الدوائر الصناعية والمالية ذات النفوذ،
وقد أعلن أن مسألة التوسع الاقتصادي أكبر من أن تكون مسألة حزبية؛ إنها مسألة
أمريكية: هل سيواصل الشعب الأمريكي زحفه نحو السيادة التجارية على العالم؟
هل سنحتل أسواقاً جديدة لما ينتجه مزارعونا وما تصنعه مصانعنا وما يبيعه تجارنا؟
إننا اليوم ننتج أكثر مما نستطيع استهلاكه، ونصنع أكثر مما نستطيع استعماله؛
لذلك يجب أن نجد أسواقاً جديدة لمنتجاتنا.
لقد كان مستقبل السياسة الاقتصادية الأمريكية حيوياً بالنسبة إلى دائرة رجال
الأعمال، وفي الشهر نفسه في ذلك العام ظهر في المجلة الأمريكية الشمالية مقال
بقلم «تشارلس كونانت» في مجلة نيويورك للتجارة عنوانه: (الأساس
الاقتصادي) جاء فيه: إن الميل الذي لا تمكن مقاومته إلى التوسع الذي يؤدي
بالشجرة النامية إلى أن تفجر أي حاجز، هو الميل الذي ساق القوط والوندال
والساكسون في موجات متعاقبة لا يمكن مقاومتها للتغلب على أقاليم روما المتدهورة؛
هذا الميل يبدو الآن فعالاً مرة ثانية؛ ولذلك فلا بد من منافذ جديدة لرأس المال
الأمريكي، ولفرص جديدة للمشروع الأمريكي. إن قانون المحافظة على النفس،
وكذلك قانون البقاء للأصلح يدفعان شعبنا في طريق هو بلا جدال تحول عن سياسة
الماضي، ولكنه طريق لا يحيد عن أن ترسم حدوده شروط الحاضر ومتطلباته.
* الصراع داخل النظام الدولي:
أثناء الحرب الباردة التقت التوجهات الأمريكية والأوروبية حول سياسة
الاحتواء، والتي كانت تقتضي تحالفاً أمريكياً أوروبياً تمثل في حلف شمال
الأطلنطي، وعندما تشكل الناتو كان يضم في عضويته 12 دولة، ثم توسع ليضم
اليونان وتركيا عام 1952م، وألمانيا الغربية عام 1955م؛ إلا أن الولايات
المتحدة كانت القوة العسكرية المهيمنة عليه منذ البداية وحتى الآن، وقد اعتبر
الاتحاد السوفييتي الهيمنة الأميركية وضم الناتو لألمانيا الغربية تهديداً مباشراً له،
وفي عام 1955م أسس تحالفاً مضاداً أطلق عليه اسم: (حلف وارسو) الذي تم
حله عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م.
كان واقع الحلف في حقيقته يعني تخلي أوروبا عن الدفاع عن أراضيها
وإطلاق حرية التصرف للحليف الأمريكي في هذا الشأن خاصة؛ حيث إن الحلف
كان تحت قيادة أمريكية. ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتراجع الحرب الباردة
يمكننا تقسيم أطوار النظام الدولي إلى مجموعة من الأحقاب:
الأول: عالم ما بعد الحرب الباردة.
والثاني: ما بعد عولمة بيل كلينتون.
والثالث: ما بعد هجمات 11 سبتمبر، وتدريجياً من خلال هذه الأحقاب التي
كانت لكل منها خصائصها وتجلياتها بدأ النظام العالمي يميل إلى سيادة القطب الواحد،
والذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت نفسه الذي بدأ فيه الاتحاد
الأوروبي في البروز والتوجه، ومع هذا الظهور بدأ نوعان من التوجه والأفكار
بخصوص مستقبل النظام الدولي ينشآن ويتجابهان في العالم، يتعلق كل منهما بمدى
رؤيته لمستقبل النظام الدولي:
- الأول تمثله الولايات المتحدة، والذي يعتبر أن الدولة القومية هي الأداة
الناجحة، ليس فقط في الداخل الأمريكي بل أيضاً لتثبيت الزعامة في العالم.
- أما الثاني فيمثله الاتحاد الأوروبي الذي يسعى لإقامة نظام عالمي جديد
يتخطى مفهوم الدولة الأمة، ويستند إلى نظام أمني عالمي جديد، تحرسه أمم متحدة
قديمة (أو جديدة لا فرق) ، وتسوسه محاكم عدل دولية في القانون وحكومة عالمية
في السياسة.
ويقول «جيمس سيزار» بروفسور علم السياسة في جامعة فرجينيا: إنه
لفترة عقود عدة، كان من المعترف به أن اللاعب الرئيس في الشؤون العالمية هو
الدولة الأمة، تساندها منظمات دولية وبعض التحالفات شبه الدائمة.
بيد أن هذا الرأي لم يعد عملة رائجة الآن في أوروبا؛ إذ خلال السنوات
القليلة الماضية بدأ الاتحاد الأوروبي عملية تفكيك الدولة الأمة، ونزع الطابع
القومي عن سياسات بلدانه، وهذا كان مثل الانقلاب الأكبر في العصر الحديث؛
ذلك أن أوروبا كانت المهد الذي ولدت فيه الدولة القومية في الفترة بين القرنين
السادس عشر والتاسع عشر، ومن ثم انتقلت منها لتنتشر في كل أنحاء العالم،
سواء بحكم التقليد أو بقوة الاستعمار.
إن أمريكا تخشى من أن تؤدي مساعي محور برلين - باريس إلى ولادة
أوروبا جديدة وليست أوروبا قديمة عجوزة - كما قال رامسفيلد عنها -، تخشى من
ولادة أوروبا مستقلة سياسياً وعسكرياً ومتفوقة عليها اقتصادياً وليست تابعة لها على
المستوى العالمي، وعليه تسعى واشنطن إلى منع ظهور مثل أوروبا هذه، وهي
في سعيها إلى تحقيق هذا الهدف تجد في الحرب التي تعدها ضد العراق فرصة
كبيرة لتطويق أوروبا وإضعافها والانقضاض على محورها ولولبها السياسي
(محور برلين - باريس) الباحث عن دور عالمي لأوروبا، بينما تحاول باريس
وبرلين ومن خلال الاستفادة من مواقف الصين وروسيا والدول العربية والإسلامية
حشر واشنطن في الزاوية الحرجة، الزاوية التي تفقدها الشرعية والأخلاقية، ومن
ثم التأييد العالمي، وقد حققتا في هذا المجال نجاحاً كبيراً؛ سواء من خلال المعركة
الدبلوماسية الجارية داخل مجلس الأمن أو من خلال التظاهرات الضخمة التي
اجتاحت شوارع مدن العالم احتجاجاً على الحرب الأميركية المقررة على العراق،
ولكن على الرغم من كل هذه الخلافات والمخاطر التي سترتب على العلاقات
الأميركية الأوروبية ولا سيما التجارية منها؛ فإن واشنطن وتحت وهج سباقها إلى
التحكم بمصير الزعامة العالمية تبدو مصرة على توجيه ضربة إلى مستقبل الاتحاد
الأوروبي من خلال حربها ضد العراق.
أميركا تريد كسر الجرة العراقية كي تمتلكها، وأوروبا تريد مشاركتها في
الموجود بداخلها دون كسرها، ويعبر «بات بوكانان» المرشح للرئاسة في
الولايات المتحدة بأصدق عبارات عن الرؤية الأمريكية للعلاقات الأوروبية
الأمريكية ودورها في النظام العالمي حيث يقول: «إن تحالف الولايات المتحدة مع
أوروبا عبر منظمة الحلف الأطلسي هو في واقعه تحالف مع طرف ميت وقد أصبح
جثة» .
يؤكد «بوكانان» أن الدول الأوروبية تبدو لصعوبة قادرة على ضمان ولاء
مواطنيها للانضمام إلى قوة الشرطة للحفاظ على الأمن الداخلي فضلاً عن الانضمام
إلى جيوش تقود حروباً في الخارج: الشرق الأقصى أو الأوسط كأمثلة.
ويقول «بوكانان» بأن اتفاقية الحلف الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا
لم تعد تتمتع بأي مسوِّغ موضوعي أو تاريخي، وفي موضوع البوسنة اضطر
الإنجليز والفرنسيون إلى الاستعانة بالأمريكان لمواجهة الصرب؛ فاذا كانت فرنسا
وبريطانيا غير قادرتين على مواجهة قومية متآكلة كالصرب فكيف تقدر على
مؤازرة الولايات المتحدة في شكل فعال؟ ويقول «بوكانان» : في الخليج أو
الشرق الأوسط عموماً لم تعد أوروبا قادرة على التضحية لأي شيء. ويعتقد
«بوكانان» أن هذا المرض الأوروبي قد بدأ يزحف إلى عمق الولايات المتحدة؛
إذ قررت الأخيرة الانسحاب تماماً من الصومال بعد عملية ناجحة لتنظيم القاعدة
اقتنص ثمانية عشر جندياً وضابطاً أمريكياً فقط، والرئيس كلينتون عندما أمر
بقصف بلغراد اشترط على سلاح الجو الأمريكي أن يفعل ذلك من على ارتفاع
خمسة عشر ألف قدم مخافة أن تخسر الولايات المتحدة طياراً واحداً، وأثر ذلك في
معنويات بقية الطيارين.
الأوروبيون كما يقول «بوكانان» كانوا منذ اليوم الأول يتحايلون على
الحظر الاقتصادي الأمريكي على إيران والعراق وليبيا، وحريصين منذ البداية
على التجارة أكثر من السياسة والاستراتيجية.
في سنة 2100م سوف تنكمش أوروبا حسب «بوكانان» إلى ثلث عدد
سكانها اليوم نظراً لانهيار معدلات المواليد وامتناع الأوروبيين عن إنجاب الاطفال،
وحرصهم على مبدأ اللذة في حياتهم اليومية، وفقدانهم حسب «بوكانان» لأي
غاية أرفع من اللذة الحسية وهو مرض أوروبي بدأ يجد له مضارب في الولايات
المتحدة. إذا كان هذا هو حال الأوروبيين كما يستنتج «بوكانان» فلماذا تضيع
الولايات المتحدة وقتها في الدفاع عنهم؟ ولماذا تراجع الولايات المتحدة حساباتها
الاستراتيجية على ضوء مطالبهم؟ ولماذا لا تمضي الولايات المتحدة وحدها لتحقيق
أهدافها الاستراتيجية غير عابئة بهم؟
ولا يمثل رأي «بوكانان» نفسه فقط، بل يعبر عما يجيش في صدر الطبقة
السياسية الحاكمة في أمريكا خاصة ما يعرف بجناح الصقور أو اليمين الأمريكي
المتشدد؛ حيث بات ينظر إلى أوروبا شيراك وشرويدر على أنها أوروبا القديمة
العجوزة، وما قاله وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بهذا الخصوص لم يكن
مجرد زلة لسان أو هفوة؛ وإنما يشكل في الجوهر حقيقة التفكير لدى صقور الإدارة
الأميركية، والدليل على ذلك أن أياً من أقطاب هذه الإدارة بما في ذلك الرئيس
جورج بوش ووزير خارجيته كولن باول المحسوب على الحمائم واصلا هذا
الخطاب؛ سواء بتهديد فرنسا وألمانيا والتعهد بحرمانهما من المغانم المنتظرة من
الحرب ضد العراق، أو بالتأكيد على أن الحضارة الأميركية تمثل العصرية
والديمقراطية والحرية، وأن الحضارة الأوروبية المتمثلة في فرنسا وألمانيا باتت
عاجزة وقديمة، وكذلك سخرية بوش من أوروبا حينما قال: «إن أصدقاءنا في
أوروبا تعلموا حقاً من الماضي» .
لقد تركزت الاستراتيجية الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على
تحقيق وضع الانفراد بالهيمنة على العالم كهدف نهائي تسعى إليه، ومن خلاله
توجه استراتيجياتها الدولية، فقدم «جورج كينان» عام 1947م أولى هذه
الاستراتيجيات التي تركزت على نظرية الاحتواء.
وأهم أسس هذه الاستراتيجية كانت مواجهة ما وصفه صانعو السياسة
الأميركية بالتهديد الذي كان الاتحاد السوفييتي العامل الأهم والعدو الأخطر بالنسبة
لراسمي أسس هذه الاستراتيجية.
وجاءت بعدها وفي أثنائها استراتيجية الردع التي سادت لفترة طويلة، وعليها
بنيت الترسانة الضخمة التي جاءت نتيجة للحرب الباردة وسباق التسلح النووي.
واستراتيجية الردع تعتمد على منطق الرد بهجوم مدمر على فعل عسكري
نووي يهدف للتدمير، ووفق «ويدي وولت» الخبير الاستراتيجي الأمريكي فإن
استراتيجية الردع هي ركوب الموجة؛ إذ يقول: «عندما تواجه تهديداً خارجياً
كبيراً فإن الدول إما أن توازن موقفها، وإما أن تركب الموجة» ، ويعني بركوب
الموجة الانحياز إلى مصدر الخطر.
وهناك مصطلح آخر يندرج تحت مفهوم الردع هو الإكراه، ويعرفه بول
هاث وبروس راسيت بأنه: محاولة من صانعي القرار في دولة ما لإجبار صانعي
القرار في دولة أخرى على التجاوب مع مطالب الدولة الأولى.
ولا يعني حديثنا عن هذه الاستراتيجيات التي كانت في أيام الحرب الباردة
أنها أصبحت الآن بعد انتهاء الحرب الباردة في طي النسيان، ولكنها ما زالت في
خدمة المصالح بالإضافة إلى الاستراتيجية الجديدة وهي الضربات الوقائية.
وتقول كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي في تعريفها لهذه
الاستراتيجية الجديدة: «هي استباق فعل التدمير الذي يمكن أن يقوم به عدو
ضدك» .
أما أوروبا فتنظر بقلق إلى تحديات العولمة الأمريكية وانعكاساتها؛ كالهجرة
المتزايدة من بلدان العالم الثالث، والفقر والتغير المناخي؛ كما تبدو عاجزة عن
منافسة حليفتها الأطلسية في ميدان البناء والتطور العسكري، والأهم من ذلك أنها لا
تبدو راغبة في مجاراتها في استراتيجيتها الجديدة (الضربات الوقائية) بل تنتقدها.
وقد أدركت فرنسا بشكل خاص أن الولايات المتحدة عازمة على خوض
حربها ضد (محور الشر) دون الالتفات لما يقرره القانون الدولي، وما يسمى
بالمجموعة الدولية متمثلة في منظمة الأمم المتحدة، وهو أمر يعني في نهاية
المطاف تهميش دور فرنسا الدولي الذي يعتمد أول ما يعتمد حالياً على عضويتها
الدائمة في مجلس الأمن الدولي.
ويبدو أن فرنسا تخشى جدياً من أنها ستصبح هي نفسها، اليوم أو غداً، من
بين دول الشر الذي تريد الولايات المتحدة محاربته، خصوصاً بعدما ردد الرئيس
الأميركي جورج بوش وأركان إدارته علناً أن من ليس معنا فهو ضدنا؛ فالتطبيق
العملي للخير الأميركي يعني ضمان المصالح الأميركية بأي ثمن، مثلما يعني الشر
الأميركي الأضرار التي تلحق بهذه المصالح.
ومن أجل مواجهة الموقف الأميركي المتفرد، بادرت فرنسا لاستنهاض همتها
وتنشيط دبلوماسيتها، وإحياء تحالفاتها السابقة، ومنها المحور الفرنسي الألماني،
والتقارب الفرنسي الروسي، والغزل الفرنسي الصيني، لخوض هذه المعركة التي
انفتحت أمامها، وعندما حانت لحظة المواجهة مع الولايات المتحدة فإن الرئيس
شيراك التفت إلى عموم الفرنسيين، بما في ذلك خصومه السياسيون الذين صوتوا
لصالحه مجبرين؛ حيث وجد في كل الطبقة السياسية الفرنسية التي التفت إليها،
مواقف مساندة لموقفه المتشدد إزاء السياسة الأميركية، بل إن بعضاً من هذه القوى
طالبته أن يكون أكثر تشدداً عندما ألحت أن تستخدم فرنسا حقها في استخدام حق
النقض الفيتو لإبطال قرار بشن الحرب على العراق.
وبموازاة ذلك شهدت المكتبات الفرنسية في السنتين الأخيرتين عشرات الكتب
الفرنسية المخصصة لاستقراء، وإعادة استقراء حقيقة العلاقات الفرنسية الأميركية،
وبدا وكأن الفرنسيين اكتشفوا لأول مرة العنجهية الأميركية والتفرد الأميركي.
وبدت الصحف الفرنسية تتبارى في نشر مقالات تهاجم الولايات المتحدة
بطريقة لم يعد يميز فيها إن كانت هذه المقالة أو تلك كتبها معلق يساري عرف
بمناهضته التقليدية لأميركا، أو يميني أصابته حديثاً عدوى كراهيتها.
إن المستقبل يشي بتطور المنافسة بين القطبين، ولكنها منافسة محكومة
بمعادلات على الأرض لا يمكن تجاوزها؛ لأنها بين قطبين: أحدهما: يمتلك
مقومات التفرد على الساحة من تماسك داخلي وأهداف طموحة واستراتيجيات مقننة،
وقطب آخر: تتنازعه من داخله أهواء شتى، ولا يمتلك على ما يبدو أي
تصورات واضحة عن نظام عالمي جديد سوى إقصاء الآخر من على ساحة التفرد
دون آليات متماسكة في سعيه هذا.(186/74)
المسلمون والعالم
الشرق الأوسط ومشروع (إسرائيل الكبرى)
د. إبراهيم نصر الدين [*]
لا يمكن فهم الاستراتيجية الصهيونية الأمريكية في عالمنا العربي إلا في إطار
صراع الإيديولوجيات على هذا العالم، وما أسفر عنه هذا الصراع من نتائج؛ ذلك
أنه كما أن لكل إيديولوجية استراتيجية؛ فإن أي استراتيجية لا يمكن أن ترسم وتنفذ
إلا في ظل إيديولوجية.
وقد كان عالمنا العربي منذ بدايات القرن العشرين ميداناً لصراع ست
إيديولوجيات، حاولت كل منها أن تفرض نفسها بالفكر، وبالحركة «الاستراتيجية»
بالتحالف تارة، وبالصدام تارة مع غيرها من الإيديولوجيات.
ولقد تمثلت هذه الإيديولوجيات في: الجامعة الإسلامية، والقومية العربية،
والاشتراكية، والرأسمالية، والصهيونية، والـ «شرق أوسطية» .
ومع بدايات القرن الحادي والعشرين خضع العالم العربي خضوعاً كلياً للهيمنة
الرأسمالية التي تعززت بانهيار الكتلة الاشتراكية، وما أفرزته عملية العولمة من
ضغوط التكيف الهيكلي، والحكم الجيد. ومن جهة ثانية؛ فإن المشروع الصهيوني
قد حقق بعضاً من غاياته في إقامة دولة (إسرائيل) ، وتوسيع حدودها بعد عام
1967م، وتحقيق أمنها، والاعتراف بشرعيتها؛ ليتجه هذا المشروع بعد ذلك إلى
تحقيق الهيمنة على المشرق العربي تحت راية الـ «شرق أوسطية» ؛ في
صياغة أمريكية وصهيونية تجعلها مقبولة عربياً.
ومن الغريب أن مصطلح الـ «شرق أوسطية» بات مقبولاً لدى الساسة
والمفكرين على طول العالم العربي وعرضه، بوعي أو دون وعي، على الرغم
من أنه مصطلح يُقصد من ورائه أن يكون بديلاً عن مصطلح «العالم العربي» ،
وهو ما حدث بالفعل.
ونشير هنا إشارات سريعة لتطور استخدام المصطلح، فقد وصفت حرب عام
1948م بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) ، وحرب عام 1956م بـ (العدوان
الثلاثي على مصر) ، ومنذ حرب 1967م بدأ وصف الصراع بـ (الصراع في
الشرق الأوسط) ، ووُثِّق ذلك في وثائق الأمم المتحدة، ومنظمة الوحدة الإفريقية،
والجامعة العربية ... إلخ، وظهر هذا الوصف في الكتابات الأكاديمية والصحفية
العربية، بل وعلى لسان المسؤولين الرسميين العرب!
ومنذ حرب الخليج الثانية بدأ بث برنامج في إذاعة صوت أمريكا يحمل
عنوان: (الشرق الأوسط والمغرب العربي بين العناوين والأخبار) ، وهنا لم
تضف كلمة «العربي» إلا ملحقة بالمغرب فقط، وكأنما عز على أولئك الذين
صاغوا توجه الـ «شرق أوسطية» مجرد ذكر كلمة «العربي» حتى لو كانت
ملحقة فقط بالمغرب! فإذا بهم يلغونها كلية من اسم «المؤتمر الاقتصادي للشرق
الأوسط وشمال إفريقيا مينا» ، والذي كان يعقد تحت مظلة المفاوضات الجماعية
الـ «شرق أوسطية» .
هكذا تحالف الغرب الصليبي تحت قيادة الولايات المتحدة مع الصهيونية،
وتحت راية الـ «شرق أوسطية» لمحو الهوية العربية الإسلامية كلية لعالمنا
العربي؛ تمهيداً لفرض الهيمنة عليه وإقامة (إسرائيل الكبرى) .
المسألة إذن ليست عملية السور الواقي، ولا مخيم جنين، ولا رام الله، ولا
كنيسة المهد، ولا تدمير أسلحة الدمار الشامل لدى العراق ... إلخ؛ إنها مجرد
بالونات اختبار، أو فلنقل إنها مجرد عمليات قُصد بها صرف الأنظار بعيداً عن
الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية لإقامة (إسرائيل الكبرى) ؛ بناءً على أن
الظرف الحالي أكثر ملاءمة لتحقيق هذا الهدف الذي طال انتظاره وتعرقل تحقيقه؛
إما بسبب توازن القوى في فترة الحرب الباردة، وإما بسبب العجز العربي الذي
دفع بالدول العربية إلى رفع شعار السلام بوصفه خياراً استراتيجياً، فلم تتخذ موقفاً
متشدداً يدفع الخصم إلى القيام بعمل عسكري يحقق به استراتيجيته.
إن ما سبق قوله يحتاج مرة أخرى إلى الاستدلال عليه فكرياً وحركياً.
فعلى المستوى الفكري تكفينا الإشارة هنا إلى بعض ما كتبه «ناحوم جولدمان»
رئيس المنظمة الصهيونية العالمية بين عامي 1956 - 1968م في كتابه
الصادر في يونيو 1975م، والذي يحمل عنوان: (إسرائيل إلى أين؟) ، حيث
يحدد فيه طبيعة الدولة اليهودية، يقول «جولدمان» : «أكد كل المفكرين والآباء
المؤسسين للصهيونية على الصفة الإنسانية والكونية لهذه الدولة، وبالقدر نفسه على
صفتها الوطنية والخاصة، ولم يقم طموح هؤلاء المحركين الإيديولوجيين للحركة
الصهيونية، على إيجاد أرض غالبيتها من اليهود فقط، حيث يصبح اليهود سادة
مصيرهم، بل استخدام هذه البقعة لتطبيق الأفكار الأساسية في التاريخ اليهودي» .
ويضيف «جولدمان» : «إن الخطر الكبير الذي تقع فيه (إسرائيل) هو نسيان
صفتها الفريدة؛ إذ أنشئت في محاولة لخلق دولة وحيدة من نوعها، من المؤكد أن
دولة (إسرائيل) لا يمكن أن تبقى إلا إذا شكلت ظاهرة لا مثيل لها في العالم» .
ويرفض «جولدمان» أي محاولة لجمع كل يهود الشتات في داخل دولة
(إسرائيل) ؛ لأن لهم مهمة خارج (إسرائيل) قائلاً: «إن ما يمكن تسميته
تطبيع الحياة اليهودية؛ لن يكون بإلغاء التشتت وجمع الشعب بأكمله على أرضه،
بل بنوع من الحياة المركبة من (إسرائيل) في الوسط، والمناطق المتاخمة
على السواء، وأحدهما مرتبط بالآخر، ويمثلان معاً الشعب الواحد، إن للشعب
اليهودي مهمة فريدة لا مثيل لها في الزمن الحاضر ولا في الماضي» .
ويتضح مما تقدم عدة حقائق نذكر منها:
1 - الاستمرار في تأكيد الصفة العنصرية والاستعمارية للكيان الصهيوني،
وللشعب اليهودي. يظهر ذلك في تأكيد «الصفة الكونية» للدولة، والصفة
«الفريدة» لها، والعمل على إشاعة أنها دولة وحيدة من نوعها، وأنها تشكل
ظاهرة لا مثيل لها في العالم، وأن للشعب اليهودي مهمة فريدة لا مثيل لها.
2 - الإصرار على انتهاك سيادة الدول الأخرى؛ بالزعم بأن اليهود أينما
وجدوا يشكلوا جزءاً من الشعب اليهودي، وأن ولاءهم لدولة (إسرائيل) يتوازى
مع إن لم يكن يجب ولائهم للدول التي يعيشون فيها، مع التأكيد على استمرار قطاع
كبير من يهود الشتات خارج (إسرائيل) ؛ في رفض واضح لمبدأ حق تقرير
المصير بمفهومه الحديث؛ حيث يصير من حق كل أمة أن يكون لها دولة،
فالشعب اليهودي أينما وجد يشكل أمة تعمل بتوجيه من المركز (إسرائيل) .
3 - ويظهر مما سبق استمرار «عقدة الحصار» ؛ إذ على الرغم من رغبة
القادة الصهاينة في تجميع الشعب اليهودي في (إسرائيل) ؛ فإن الخوف من نتائج
هذا التجمع تبدو واضحة، خوفاً من توجيه ضربة عسكرية لكل الشعب اليهودي
المتجمع في (إسرائيل) ، وخوفاً من فقدان التأثير على سياسات الدول الموجود
فيها يهود الشتات، وخوفاً من فقدان مصادر التمويل الخارجية.
وعلى المستوى الحركي، وتنفيذاً للإيديولوجية الصهيونية الرأسمالية الشرق
أوسطية التي باتت تحس بأنها أقرب إلى تحقيق غاياتها في الوقت الراهن؛ انطلقت
الاستراتيجية التوسعية من عقالها، وبشكل سافر دفع بعض الناس إلى عدم التصديق؛
حيث تزايدت عملية التنسيق الأمريكي الصهيوني في المشرق العربي منذ عقد
اتفاقات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وهو التنسيق الذي
وصل إلى حد التحالف الاستراتيجي بينهما، ولتظهر خريطة جديدة لـ (إسرائيل)
عام 1989م تحدد حدودها الجديدة المتصورة (إسرائيل الكبرى) .
كما أن حرب الخليج الثانية قد مهدت لتحديد حدود (إسرائيل الكبرى) ،
عندما قامت القوات الأمريكية بحصار معظم المنطقة الواردة بهذه الخريطة؛ ذلك أن
الخريطة تضم النصف الشرقي لسيناء، حيث القوات المتعددة الجنسيات تحت
المظلة الأمريكية موجودة بحكم معاهد السلام المصرية الإسرائيلية، وشمال المملكة
العربية السعودية، وقلب العراق السنّي، فيما عدا الجنوب الشيعي، والشمال
الكردي.
لاحظ أن فرض أمريكا وبريطانيا لمناطق الحظر الجوي على العراق والذي
يخالف الشرعية الدولية يكاد يتطابق مع حدود هذه الخريطة، وكل الأردن وجنوب
سوريا، ومعظم الأراضي اللبنانية ما عدا شريط ساحلي يمتد من بيروت في اتجاه
الشمال.
وها هنا عدة ملاحظات:
1 - أن الخريطة السابقة قد نشرتها الجامعة العربية على غلاف مجلة لها
تحمل عنوان «القضية الفلسطينية في شهر» عدد خاص «رقم 8» ، لكنها لم
تعقب عليها من قريب أو من بعيد!
2 - أن هذه الخريطة مرسومة على خلفية شعار دولة إسرائيل؛ حيث
شمعدان الهيكل المزعوم ذو الأفرع السبعة، ألا تشير الأفرع السبعة إلى أراضي
الدول العربية السبع الداخلة في الخريطة، وهي: فلسطين، مصر، الأردن،
السعودية، العراق، سوريا، لبنان؟!
3 - أن الخريطة نفسها مرسومة على العملة (الإسرائيلية) «الشيكل» بكل
فئاتها، فيما يبدو وكأنه عملية تنشئة مستمرة للنشء الصهيوني على حدود الدولة
المزعومة، هذا في الوقت الذي بدأت فيه خريطة فلسطين تختفي من بعض الكتب
المدرسية العربية، ويتوارى الحديث عن العالم العربي، أو الوطن العربي؛ ليعلو
مصطلح (الشرق الأوسط) !
4 - أن المخطط الصهيوني الأمريكي على نحو ما تظهره الخريطة يصل
بحدود (إسرائيل الكبرى) إلى قرب المدنية المنورة من جهة، ويبدو أنه يتجه إلى
إعطاء جنوب العراق الشيعي لإيران من جهة ثانية (لاسترضائها؛ لكونها دولة
منبوذة من المحيط العربي المجاور) ، فيما يتجه إلى إقامة (دولة كردية) عازلة
شمال العراق، وشمال سوريا يتجمع فيها الأكراد من كل الدول المجاورة وخاصة
من تركيا وإيران تكون معادية للعرب، ومتحالفة مع الصهيونية من جهة ثالثة.
5 - أن المخطط الصهيوني الأمريكي على نحو ما تظهره الخريطة لا يبدو
أنه يتجه في الوقت الراهن إلى إقامة (إسرائيل الكبرى) بمفهوم السيطرة الكاملة
على حدود هذه الخريطة، فذلك أمر يفوق قدرة (إسرائيل) ، وإنما بمفهوم
«الهيمنة» ؛ حيث تتم محاصرة هذه المنطقة عسكرياً، وضرب قدراتها العسكرية؛
بغية تطويع الإدارة السياسية لكل من «العراق، وسوريا، والمقاومة اللبنانية» ؛
مرة تحت دعوى تدمير أسلحة الدمار الشامل، ومرة تحت دعوى مكافحة الإرهاب،
ثم إحكام الحصار حول حدود هذه المنطقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً؛ لتقبل
الخضوع لمفهوم الـ «شرق أوسطية» تحت المظلة الأمريكية الصهيونية؛ تمهيداً
في مرحلة تالية قريبة لإعلان (إسرائيل الكبرى) .
ولعل ما سبق يشير إلى ضرورة اهتمام العرب شعوباً وحكومات بفضح هذا
المخطط بجميع السبل، وإظهار النية التوسعية للكيان الصهيوني في المحافل
الدولية، وألا يتوقف العرب طويلاً أمام العمليات الجزئية «على أهميتها»
مثل مخيم جنين، ورام الله، وكنيسة المهد، ورفض الليكود قيام دولة فلسطينية..
إلخ، فهذه العمليات؛ إما أنها جزء من المخطط، وإما أنها تهدف إلى جر العرب
بعيداً عن فهم طبيعة الكيان الصهيوني التوسعية، والعنصرية، والإحلالية.
ويفرض كل هذا وذاك ضرورة التنسيق العربي لمواجهة هذا المخطط (الصهيوني
الأمريكي) قبل فوات الأوان.
__________
(*) أستاذ العلوم السياسية، ورئيس الجمعية الإفريقية للعلوم السياسية، بريتوريا، جنوب إفريقيا.(186/82)
المسلمون والعالم
العمل الخيري والعراق
د. محمد عبد الله السلومي
بدأت الحرب العسكرية.. كما أن الحرب الإعلامية والنفسية على العراق
وبعض الدول المجاورة قائمة ومستمرة؛ وعلى رأسها إيران، والسعودية،
ومصر، ولبنان، وسوريا، وهي تزداد يوماً بعد يوم، هذه الحرب العسكرية على
العراق، بدأت لتحقق أهدافها من العراق، كما تحقق الأهداف نفسها من دول
الجوار بحرب من نوع آخر، كما قال صانعو السياسة الأمريكية وبعض مفكريها،
ومنها حرب المسجد والمدرسة والمناهج، وإلى ذلك أشار الكاتب الأمريكي
(فريدمان) حيث يسميها حرب (الإيديولوجيا) ، ولا شك أن أمريكا وفق استراتيجية
اليمين المتطرف فيها، والمتمكن من سياستها مع القوى الصهيونية المسيطرة
خاضت هذه الحرب العسكرية لتحقيق أهدافها التي يجمع بينها تحقيق الأمن
الإسرائيلي، وتأمين المصالح الأمريكية الاقتصادية المنهارة، والتي تحقق من
خلالها السيطرة العالمية حتى على أوروبا الموحدة، وإن كانت هذه الحرب
العسكرية تعتبر من الانتحار كسابقتها في أفغانستان، كما أن العراق أو رئيسه أو
سلاحه ما هي جميعاً إلا غطاء، ويصدق فيها أنها (قميص عثمان) .
لقد عبر المحافظون الجدد عن هذه الرؤى في مواضع مختلفة؛ من أهمها
مشروع القرن الأمريكي الجديد، (org.century american new.www)
الذي أسس عام 1997م للبحث في سبل دعم القيادة الأمريكية للعالم، ورؤيتهم
لمنطقة الشرق الأوسط، والسياسة الأمريكية التي تقوم على حماية أمن وسلامة
دولة (إسرائيل) ؛ عن طريق تدخل أمريكي كبير لإعادة رسم خريطة القوى في
المنطقة [1] .
وقد أشار الكاتب البريطاني ميلان ري (Rai Milan) في كتاب له صدر
حديثاً بعنوان خطة حرب العراق Iraq Plan War إلى العلاقة الوثيقة بين أزمة
العراق وأمن (إسرائيل) ، وأنها علاقة متلازمة أوضحتها العلاقة الوثيقة بين لجنة
مراقبة أسلحة الدمار الشامل للعراق (يونسكوم) و (إسرائيل) ، خاصة في
السنوات ما بين 1994م 1997م [2] .
وتأتي أهمية العمل الخيري في العراق من أن هذ الأزمة والله أعلم بوابة
جديدة لأزمات تتلازم معها أو تتبعها، فلا بد أن يكون العمل الخيري ومؤسساته
على مستوى المرحلة ومتطلباتها؛ بوضع خطط واستراتيجيات بعيدة المدى،
ومجالس تنسيقية لجميع جوانب العمل الخيري، وليس في جانب الإغاثة والعلاج
فحسب؛ وإنما في جوانب المعركة الأخرى المعلنة التي تستهدف تغيير مفاهيم
العقيدة والدين؛ من خلال عولمة القيم الأمريكية، وتغيير المناهج والثقافات داخل
العراق، وفي جميع الدول المجاورة لـ (إسرائيل) ؛ والعمل الخيري بمفهومه
الشمولي يجب أن يستمر ويتضاعف في فترات الحرب العسكرية وبعدها؛ لأن ذلك
من متطلبات المرحلة التي تركز على تفريغ قوة الأمة العربية والإسلامية من
مصادر قوتها الدينية والعلمية والعسكرية.
* لماذا العمل الخيري في العراق؟
1 - لأن العراق قد عاش حربين طاحنتين عرفتا بحرب الخليج الأولى
والثانية، مع حصار حكومي في جوانب الدعوة والتعليم؛ بقيت آثاره تتطلب
مضاعفة مجهودات العمل الخيري، وقد أدركت الحكومة العراقية أخيراً أن رصيدها
وقوتها بالانفتاح والاستثمار لمصادر القوة الحقيقية (الدعوة الإسلامية) للمرحلة
المستقبلية، ثم عاشت حصاراً ظالماً تجاوز اثني عشر عاماً، فُقد فيه أكثر من
(نصف مليون) طفل نتيجة سوء التغذية وعدم توفر العلاج، إضافة إلى أن العراق
قد فقد بشكل جماعي أكثر من (مليون ونصف المليون) من البشر أثناء تلك
الحرب الثانية وما تلاها؛ حسب إحصائيات منظمات الأمم المتحدة.
2 - لأن الحرب على العراق لا تخرح عن دائرة تأثير اليمين المتطرف
وقوى الضغط اليهودي لصالح (إسرائيل) ، وتحقيق مطامعها وأمنها. كما أن
الحرب تعمل على تحقيق مصالح سياسية واقتصادية متعددة، وقد أصبحت لدى تلك
القوى ضرورة دينية وأخلاقية لتحديث الخرائط السياسية، والسيطرة على مصادر
رئيسة عالمية في الاقتصاد داخل العراق وخارجه، وهذا هدف رئيس تسعى إلى
تحقيقه الإدارة الأمريكية بأي شكل من أشكال السيطرة. ومن أجل هذا وذاك؛ فإن
الشعوب الغربية التي تقوم بمظاهرات الاحتجاج ضد الحرب على العراق تدرك
أخطار الحرب، وإمكانية توسعها وامتدادها. وهذا يتطلب مقابلة الإيمان بالإيمان،
والاستراتيجيات بمثلها؛ ولو على مستوى مؤسسات العمل الخيري.
3 - لأن المستهدف الشعب العراقي وعلماؤه المتميزون بقدرات التصنيع
والتطوير، والعراق قد لا يمتلك السلاح المعني ولكنه يمتلك القدرة على تجاوز
الأزمات، وعلى العمل والإنتاج في تطوير القدرات العسكرية والمهارات الحربية،
وهذا يهدد الأمن والسلام لـ (إسرائيل) والمصالح الأمريكية في المنطقة، ولهذا
الشعب حقوق قديمة وجديدة على مؤسسات العمل الخيري.
4 - لأن الحرب الأمريكية في العراق يصاحبها تحضير لحرب إبادة الشعب
الفلسطيني في فلسطين، وترحيل البقية الباقية منهم قسراً إلى الأراضي العراقية؛
مما يسمى (الترانسفير) ؛ حسب ما تشير إليه بعض الدراسات والتحليلات
السياسية الأجنبية، وسوف تتضاعف المسؤوليات على العمل الخيري ومؤسساته
حينئذٍ.
5 - لأن الحرب الصليبية التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جورج دبليو
بوش تعتبر العراق بداية لحروب أشمل، والمبررات جاهزة؛ فالشرعية الدولية
التي حصلت عليها أمريكا سابقاً لحماية الأقليات في العراق وتجاوزت عقداً من
الزمن؛ هي نفسها جاهزة لتطبيقها على الدول المجاورة، وما عليها إلا أن تفتعل
شيئاً من الأزمات في داخل تلك البلدان.
علماً أن الحرب الصليبية الجديدة، والتي أعلنها الرئيس (جورج دبليو
بوش) ، وكما تحدث عنها الكاتب الأمريكي (فريدمان) قد لا تعني الحرب
العكسرية، بل تعني ما هو أشمل؛ حيث حرب الدين والثقافة؛ بحرب المسجد
والمناهج، كما صرح بذلك الكاتب المذكور، وغيره من السياسيين، ورجال الفكر
والإعلام في أمريكا.
كما أن الحرب العسكرية مع أمريكا أو غيرها في عصر فنون الحرب
المتنوعة تعتبر بحق من أوضح أنواع الحروب التي يمكن التعامل معها بنفس القدر
من الوضوح؛ حيث تسقط فيها الأقنعة والشعارات الزائفة، ويتم التعامل معها بنفس
لغتها، لغة القوة في الدفاع أو الهجوم، والأمة العربية الإسلامية تعيش فتنة القوة أو
(الحرب الناعمة) وهي أشد من القتل، ولم تتنفس الصعداء من أنواع الحروب
النفسية والدينية والثقافية والاقتصادية، وذلك منذ سقوط الدولة العثمانية.
والحرب العسكرية لا تعدو أن تكون الحلقة الأخيرة والمكشوفة، وقد قال
تعالى: [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ] (البقرة: 191) ، كما قال تعالى: [وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ القَتْل] (البقرة: 217) ، وقال تعالى: [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(1) انظر: على سبيل المثال: دراسة الأستاذ علاء بيومي الكاتب والباحث السياسي في منظمة (كير) واشنطن بعنوان: (رؤية أمريكية غير واضحة للمستقبل) ، وقد نشرتها صحيفة الرياض في 8 /9/1423هـ، الموافق 13/11/2002م.
(2) المصدر: انظر كتاب خطة حرب العراق (Iraq Plan War) ، ص 65، تأليف ميلان ري (Rai Milan) .(186/86)
المسلمون والعالم
دراسة في انعكاسات الانتفاضة
على الواقع السكاني والاجتماعي والفكري في الكيان الإسرائيلي [*]
في كتابه (يوم الحساب) ؛ يرى المفكر والكاتب الإسرائيلي الشهير «باروخ
كلمبرينغ» انتفاضة الأقصى نقطة تحوُّل مهمة في تاريخ الدولة العبرية، ويشير
المفكر الذي يتلقف القائمون على دوائر صنع القرار في الدولة العبرية كتاباته إلى
أن انتفاضة الأقصى قد «عرَّت» الكثير من المسلَّمات والفرضيات التي كانت
تحكم تعامل الدولة العبرية مع الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه يؤكد أن
الانتفاضة قد عصفت بالنظم البنيوية للمجتمع (الإسرائيلي) بشكل ضاعف حجم
التحديات التي تقف أمام هذا المجتمع.
ويرسم المفكر الصهيوني علامات استفهام كبيرة حول قدرة المجتمع
الصهيوني على مواجهة ما يسميه «الآثار الكارثية للانتفاضة على المجتمع
(الإسرائيلي) » .
أما المفكر والجنرال المتقاعد «رؤفين فيدهستور» فيصل إلى حد اعتبار
انتفاضة الأقصى أهم تحد يواجه الدولة العبرية، ولا يخفي «فيدهستور» شعوره
بالخوف من أن تمثل الانتفاضة تهديداً وجودياً للدولة العبرية [1] .
وفي هذه الدراسة مناقشة لمظاهر تأثير انتفاضة الأقصى على التركيبة
السكانية في الدولة العبرية، إلى جانب تشخيص مظاهر تأثيرها على المجتمع
(الإسرائيلي) فكرياً واجتماعياً.
أولاً: الانعكاسات على الواقع السكاني:
* نزوح المستوطنين عن المستوطنات، وتقلص عدد المتجهين للاستقرار فيها:
تدل المعطيات الرسمية الإسرائيلية على أن اندلاع انتفاضة الأقصى،
وعمليات المقاومة الفلسطينية التي تتخللها قد أدت إلى تآكل المسوِّغات التي جعلت
المستوطنات اليهودية في أرجاء الضفة الغربية وقطاع غزة بيئة مغرية للاستقرار
بالنسبة لكثير من اليهود.
وقد وجد هذا التأثير ترجمته في مظهرين مهمين:
الأول: تقلص عدد اليهود الذين يتجهون للاستقرار في هذه المستوطنات.
المظهر الثاني: نزوح الكثير من المستوطنين عن هذه المستوطنات.
وحسب معطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي؛ فإنه في عام 2002م
طرأ انخفاض بنسبة 62% على عدد اليهود الذي قدموا للاستقرار في المستوطنات؛
عما كان عليه الحال في عام 1999م [2] .
أما فيما يتعلق بنزوح المستوطنين عن مستوطناتهم؛ فحسب معطيات حركة
«السلام الآن» الإسرائيلية؛ فقد نزح في عام 2002م حوالي 45% من
المستوطنين اليهود؛ بحيث اتجهوا للاستقرار داخل حدود (إسرائيل) .
والمستوطنات التي تعرَّض سكانها بشكل مباشر لعمليات المقاومة؛ كانت حركة
النزوح عنها أكبر بشكل واضح، فمثلاً مستوطنة «عموانئيل» ، الواقعة شمال
نابلس، والتي تعرضت لعمليتين استشهاديتين نفذتهما كتائب عز الدين القسام
(الجناح العسكري لحركة حماس) ؛ فقد هجرها 60% من سكانها [3] .
ويشير البرفيسور «حانوخ بيرمان» المختص بدراسة اتجاهات
المستوطنين؛ إلى أن الانتفاضة والعمليات الفدائية الفلسطينية قد أثرت بشكل
كبير في ذلك القطاع من المستوطنين الذي قدم للاستقرار في الضفة الغربية وقطاع
غزة لأسباب اقتصادية، وللبحث عن ظروف حياة أسهل، مع العلم أن هذا القطاع
يشكل أكبر من 60% من المستوطنين.
ويؤكد «بيرمان» أنه بالنسبة لهذا القطاع من المستوطنين؛ فإنه في حال
توفر جهة حكومية إسرائيلية تبدي استعدادها لتعويضهم عن المنازل التي بنوها،
وتضمن لهم توفير فرص عمل في مكان آخر؛ فإن أياً من هؤلاء لن يبقى في
المستوطنات؛ حيث يصرح هؤلاء أنهم لم يقدموا لدوافع إيديولوجية، ومن ثم فإنهم
لا يجدون أن هناك أي مسوّغ يدفعهم للتضحية بالبقاء في هذه المستوطنات [4] .
لكن على الباحثين هنا توخي الحذر في التعاطي مع المعطيات التي تقدمها
المؤسسات الرسمية الإسرائيلية بشأن مظاهر تأثير الانتفاضة في الاستيطان، فمثلاً
يتعمد مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة دوماً الادعاء بأن
الانتفاضة لم تؤد إلا لزيادة عدد المستوطنين، ويمارس مجلس المستوطنات اليهودية
ضغوطاً كبيرة على العديد من مؤسسات الدولة ووزاراتها لكي توائم معطياتها بشأن
الاستيطان مع هذا التوجه [5] .
* انخفاض الهجرة، وتعاظم الهجرة العكسية:
وقد تركت الانتفاضة تأثيرها بشكل واضح في حركة الهجرة اليهودية إلى
(إسرائيل) ، ففي عام 2002م طرأ انخفاض بنسبة 23% على عدد المهاجرين
اليهود الذين وصلوا إلى الدولة العبرية من أرجاء العالم [6] .
ويؤكد «سالي مريدور» رئيس الوكالة اليهودية (المؤسسة الصهيونية التي
تعنى بتهجير اليهود من أرجاء العالم إلى الدولة العبرية) أن اليهود الذين ينتشرون
في أرجاء العالم عندما يشاهدون عبر شاشات التلفزة أشلاء سكان المدن الإسرائيلية
وهي تتطاير في أعقاب تنفيذ عمليات التفجير التي يقوم بها الفلسطينيون؛ فإنهم
سيفكرون ألف مرة قبل التوجه إلى (إسرائيل) .
ويؤكد «مريدور» أنه لولا حدوث اضطرابات كما في الأرجنتين لكانت
نسبة انخفاض الهجرة اليهودية إلى (إسرائيل) أكبر مما عليه الآن [7] .
وهنا يجدر التنبيه إلى نقطة مهمة، وهي أنه يتوجب النظر بالشك إلى
معطيات الدوائر الرسمية الإسرائيلية في كل ما يتعلق بمعدلات الهجرة، وقد أكد
الصحافي «رونين بريغمان» أن هناك دلائل تؤكد أن الانخفاض في عدد اليهود
الذين هاجروا إلى الدولة العبرية خلال عام 2002م هو أكبر من الأعداد التي تفصح
عنها الوكالة اليهودية [8] .
وقد انخفضت نسبة الهجرة اليهودية على الرغم من أن الوكالة اليهودية
بالتعاون مع وزارة الاستيعاب الإسرائيلية قامت خلال عام 2002م بحملات
«توعية» في جميع الدول التي توجد فيها أقليات يهودية؛ من أجل إقناعها أنه
من الأجدر باليهود العيش في (إسرائيل) ، وأن الانتفاضة لا تؤثر بشكل فعليّ
في مجريات الحياة في الدولة.
ويشير «يولي أدلشتاين» ، نائب وزير الاستيعاب الإسرائيلي إلى أن انتفاضة
الأقصى كان لها تأثيران سلبيان على حركة الهجرة اليهودية إلى (إسرائيل) :
الأول: الخوف من العمليات الاستشهادية التي تنفذها الحركات الفلسطينية.
الثاني: بسبب التدهور الاقتصادي الناجم عن الانتفاضة، فلم تعد (إسرائيل)
مغرية لكثير من قطاعات اليهود في أرجاء العالم [9] .
لكن يتضح أيضاً أن الانتفاضة لم تؤثر سلباً فقط على حركة الهجرة اليهودية
إلى (إسرائيل) ، بل إنها شجعت وبشكل كبير الهجرة العكسية من (إسرائيل) إلى
العالم الخارجي، وهذا يتضح بشكل واضح حتى من المعطيات الإسرائيلية الرسمية
نفسها.
ويتضح أيضاً أنه مقابل كل مهاجرَيْن يهوديَيْن وصلا (إسرائيل) في عام
2002م؛ غادر يهودي آخر (إسرائيل) إلى الخارج، في حين أن تقديرات
الجهات الرسمية ذات العلاقة بالهجرة تؤكد أن نسبة المهاجرين من (إسرائيل)
ستصل إلى 50% من المهاجرين لها [10] .
لكن انتفاضة الأقصى لم تجبر فقط المهاجرين الجدد على مغادرة الدولة
العبرية؛ بل إنها دفعت فئتين من أهم الفئات في المجتمع الإسرائيلي للهجرة:
الفئة الأولى: قطاع المستثمرين ورؤوس الأموال، فحسب معطيات جمعية
الصناعيين في (إسرائيل) ؛ فقد غادر (إسرائيل) في كل من عام 2001م، وعام
2002م أكثر من 850 مستثمر إسرائيلي يملكون رأس مال يفوق عشرين مليار
دولار [11] .
وهنا يتوجب الإشارة إلى ما أصبح معروفاً للجميع، وهو قيام شركة بناء
كندية عملاقة ببناء عشرات الفيلل لرجال الأعمال الإسرائيليين في كندا بناءً على
طلبهم، وذلك تمهيداً لانتقالهم للعيش هناك بشكل دائم، ونظراً للإقبال على عروض
الشركة الكندية؛ فقد قامت الشركة بنشر إعلانات في الصحف وقنوات التلفزة
الإسرائيلية.
أما الفئة الثانية: فهم أصحاب المؤهلات العلمية والأكاديمية الذين تعذر
استيعابهم في المرافق الاقتصادية؛ بسبب التدهور الاقتصادي الذي أدت إليه
الانتفاضة، فغادروا (إسرائيل) ، وبشكل خاص إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
وهنا يتوجب الإشارة إلى أن الدولة العبرية تُعَدُّ دولة رفاهة؛ حيث إن الفرد
يحصل على مخصصات اجتماعية كبيرة ومتنوعة، ابتداءً بمخصصات البطالة،
ومخصصات الأطفال، فضلاً عن التسهيلات التي تُمنح للأسر كثيرة الأولاد، ولولا
مواصلة الدولة دفع هذه المخصصات؛ فإنه مما لا شك فيه أن ظاهرة الهجرة
العكسية ستكون أوسع مما هي عليه الآن، مع العلم أن قدرة الدولة العبرية على
مواصلة دفع هذه المخصصات في المستقبل غير مضمونة؛ في ضوء التدهور
الحاصل في الاقتصاد الإسرائيلي.
* الهجرة الداخلية:
على الرغم من أن منطقة (تل أبيب) وما يحيط بها من مدن شكَّلت وما
زالت تشكِّل نقطة جذب لمعظم الإسرائيليين؛ لكونها تضم البنية التحتية الصناعية
والتجارية في الدولة العبرية، فضلاً عن انتشار مرافق اللهو والترفيه فيها، لكن مع
ذلك فقد أدت الانتفاضة إلى انتقال عدد من اليهود القاطنين في هذه المنطقة إلى
أطراف الدولة العبرية خلال العامين الماضيين، فمن المعروف أن منطقة تل أبيب
والمنطقة المجاورة لها، والتي يُطلق عليها منطقة «المركز» ؛ قد شهدت العدد
الأكبر من العمليات الاستشهادية في انتفاضة الأقصى.
وحسب «رون خولدائي» رئيس بلدية «تل أبيب» ؛ فإن هناك علاقة
وثيقة بين هذه الظاهرة والعمليات الاستشهادية، ويؤكد أن قسم «الرفاهية
الاجتماعية» في البلدية قد أعد دراسة أكدت أن معظم الذين تركوا المنطقة أقدموا
على ذلك بسبب الخوف من إمكانية تعرضهم للأذى في عمليات استشهادية [12] .
* تفاقم الخطر السكاني (الديموجرافي) :
رأت الحركة الصهيونية، وجميع دوائر صنع القرار في الدولة العبرية؛ أن
الحفاظ على التفوق السكاني (الديموجرافي) لليهود في فلسطين هو أهم هدف
يتوجب، ليس فقط تأمينه في الوقت الحاضر، بل والحرص على ضمانه في
المستقبل، ولما كانت الهجرة اليهودية لفلسطين هي أهم وسيلة لتعزيز الثقل السكاني
(الديموجرافي) لليهود؛ فإن أي عامل يؤثر سلباً في الهجرة اليهودية؛ إنما يفاقم
الخطر السكاني (الديموجرافي) ، وفي المؤتمر الذي عقده «مركز هرتسليا متعدد
الاتجاهات» ، طالب وزير البنى التحتية الصهيوني «إيفي إيتام» ، رئيس حزب
«همفدال» الديني باعتبار انتفاضة الأقصى أحد أهم العوامل التي تعمل على
تقليص الفجوة بين عدد اليهود والفلسطينيين في أرض فلسطين، ولذا لم يتردد
«إيتام» في وصف الانتفاضة بأنها «خطر وجودي من الطراز الأول» [13] .
ثانياً: الانعكاسات على الواقع الاجتماعي:
* تغير أنماط الحياة والسلوك الاجتماعي لدى الإسرائيليين:
تشير الدكتورة «سيغال أهارونشكي» أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة تل
أبيب إلى أنه منذ تأسيس الدولة العبرية وحتى الآن لم يؤثر حدث في أنماط الحياة
والسلوك الاجتماعي للإسرائيليين مثلما أثرت انتفاضة الأقصى.
وحسب معطيات دائرة العلاقات العامة في شركة «إيغد» الرسمية للنقل
العام؛ فقد أدى الخوف من العمليات الاستشهادية إلى حدوث انخفاض بنسبة 43%
على عدد الإسرائيليين الذين يستخدمون عادة وسائل النقل العامة حتى أواخر عام
2002م؛ حيث إنها كانت هدفاً مفضلاً لمنفذي العمليات الاستشهادية، وفي البداية
حدث ارتفاع في عدد المتجهين لاستخدام القطارات، لكن بعد أن تم استهداف
القطارات ومحطات السكك الحديدية من قِبَل المقاومين الفلسطينيين حدث انخفاض
على عدد الذين يستخدمون القطارات، وفي المقابل زادت نسبة الذين يستخدمون
سيارات الأجرة «التاكسي» ، وأولئك الذين يتجهون لأعمالهم مشياً على الأقدام،
ونظراً لاستهداف الفنادق والمطاعم بالعمليات الاستشهادية؛ فقد زادت نسبة
الإسرائيليين الذين أصبحوا يقيمون حفلاتهم الخاصة في بيوتهم بدلاً من إقامتها في
الفنادق والمطاعم، وحسب معطيات اتحاد الفنادق في إسرائيل؛ فإنه خلال عام
2001م وحتى أواخر عام 2002م طرأ انخفاض بنسبة 61% على عدد
الإسرائيليين الذين يحتفلون بمناسباتهم الخاصة في الفنادق والمطاعم وصالات اللهو
الكبيرة، وفي الفترة نفسها طرأ انخفاض بنسبة 59% على عدد الشبان اليهود الذين
يتجهون للمراقص الليلية في أعقاب استهدافها من قِبَل الاستشهاديين [14] .
وبسبب الخوف من العمليات الاستشهادية حدث انخفاض في عدد الإسرائيليين
الذين يتجهون إلى شبكات التسوق الكبيرة، وحسب معطيات اتحاد الغرف التجارية
في الدولة العبرية؛ فقد طرأ انخفاض بنسبة 35% على أرباح شبكات التسوق
الكبيرة بسبب تقلص عدد الإسرائيليين الذين يتجهون إليها [15] ، مع العلم أن هذه
الشبكات كانت أيضاً هدفاً لعدد من العمليات الاستشهادية.
إلى ذلك؛ أدت الانتفاضة إلى تقلص عدد الإسرائيليين الذين يقضون إجازاتهم
في المنتجعات السياحية في مدن وسط (إسرائيل) بنسبة 43% في عام 2001م،
وفي الوقت نفسه زادت نسبة الإسرائيليين الذين يتجهون إلى مدينة «إيلات»
للاصطياف؛ لأن الإسرائيليين يعتقدون أنها بعيدة عن أيدي منفذي العمليات
الاستشهادية [16] .
إلى جانب ذلك زادت نسبة الموسرين الإسرائيليين الذين يتجهون إلى قضاء
إجازاتهم في الخارج في عام 2001م بدلاً من قضائها في (إسرائيل) ؛ كما دلت
على ذلك معطيات اتحاد شركات السفر والسياحة الإسرائيلية.
إلى ذلك؛ أدت الانتفاضة إلى اتجاه مزيد من الإسرائيليين إلى تقليص عدد
الساعات التي يقضونها خارج البيت ليلاً، فحسب استطلاع أجراه معهد «سميث»
لاستطلاعات الرأي، عرضت نتائجه القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي
(23/6/2002م) ؛ فإنه بعد عامين من الانتفاضة؛ أصبح 40% من الإسرائيليين
يحرصون على العودة إلى البيت مبكراً بسبب الوضع الأمني المتدهور الذي ارتبط
بالانتفاضة.
وواضح تماماً أن اتجاه الإسرائيليين لتغيير أنماط حياتهم مرتبط بشكل أساسي
بتدهور مستويات الشعور بالأمن الشخصي في الدولة العبرية نتيجة الانتفاضة،
وهنا يتوجب الإشارة إلى أن قدرة الإسرائيليين على موائمة أنماط حياتهم مع ما
تفرضه الانتفاضة ليست بالنسبة نفسها، وأنه يمكن الافتراض أن من يخفق في
موائمة نفسه مع الانتفاضة؛ فإنه قد يندفع نحو الهجرة للخارج.
* رفض الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة عام 1967م:
انشغلت (إسرائيل) على مدى العامين الماضيين بظاهرة رفض الخدمة
العسكرية في الأراضي المحتلة؛ حيث إن عدد الشبان الإسرائيليين الذين يرفضون
الخدمة في الجيش الإسرائيلي يصل إلى ألف شاب، وهؤلاء يرفضون الخدمة
لأسباب ضميرية؛ بمعنى أنهم لا يريدون أن يكونوا جزءاً من جيش احتلال يمارس
القمع ضد الشعب الفلسطيني، وإن كان مكتب الناطق بلسان جيش الاحتلال يدَّعي
أن عدد الرافضين للخدمة يصل في أحسن الأحوال إلى أربعمائة شاب فقط، لكن
حركة «السلام الآن» الإسرائيلية تؤكد أنه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى وحتى
نهاية عام 2002م؛ فقد بلغ عدد الجنود والضباط الذين يرفضون الخدمة في الجيش
لأسباب ضميرية أكثر من ألف جندي وضابط [17] .
لكن هناك نسبة آخذة بالتعاظم داخل الأوساط الشبابية اليهودية ترفض الخدمة
في الجيش الإسرائيلي ليس لأسباب ضميرية؛ بل لأنهم يرون أن الخدمة العسكرية
في الأراضي المحتلة أثناء الانتفاضة مع كل ما يتضمنه ذلك من مخاطر؛ إنما
يعكس تكريس للغبن والتمييز الذي تمارسه الدولة ضدهم؛ حيث إن هؤلاء الشباب
يشيرون إلى أن هناك عشرات الآلاف من الشباب اليهود المتدينين الذي ينتمون
للأحزاب الدينية الأرثوذكسية اليهودية؛ يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية «بدون
وجه حق» ، فقط لأن رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبين يُبدون حرصاً على
ضم الأحزاب الدينية إلى الائتلافات الحكومية التي يشكلونها، وهذه الأحزاب
ترفض تجنيد منتسبيها في الجيش، وفي خضم الانتفاضة تداعى الآلاف من ضباط
وجنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي إلى تشكيل جمعية تُدعى: «كفى
استغلالاً» ، وتدعو إلى إعفائهم من الخدمة العسكرية في الوقت الذي لا يتم فيه
تجنيد أتباع الأحزاب الدينية الأرثوذكسية اليهودية.
وقد أدت سيادة هذا المناخ إلى بروز جماعات ضغط مجتمعية غير سياسية
وحزبية تدعو إلى إعادة الجنود إلى داخل (إسرائيل) ، وعدم إرسالهم للتعرض
للمخاطر في الانتفاضة، والانسحاب من الأراضي المحتلة، مثل جماعة «نساء
بالسواد» ، التي عادت لتنشط بعد اندلاع انتفاضة الأقصى إلى جانب ذلك؛ فإن
هناك تياراً متنامياً داخل الإسرائيليين يرفض التضحية من أجل المستوطنين اليهود
في الضفة الغربية وقطاع غزة. حتى قد وصل الأمر بنائبة يمينية في البرلمان
الإسرائيلي، وممثلة عن حزب الليكود الحاكم وتدعى «نحميا رونين» إلى دعوة
الجيش إلى تسريح زوجها الذي يعمل ضابط احتياط في الضفة الغربية.
وقالت «رونين» في مقابلة مع القناة الأولى في التلفزة الإسرائيلية بتاريخ،
29/8/2002م: «لقد صعقت عندما اكتشفت أن زوجي وعشرة من جنوده يقومون
بحراسة بؤرة استيطانية؛ مكونة من» بيت متنقل «واحد وكلب وحصان،
يعودان لمستوطن لا يصل النقطة إلا مرة في الشهر؛ لذا فأنا لا أخجل من مطالبة
الدولة بتسريح زوجي من هذه الخدمة» .
وتصل «رونين» إلى قناعة مفادها أن ما أطلقت عليه «هذا الغبن
المجتمعي» يستدعي إصلاحاً؛ ولو أدى ذلك إلى انسحاب (إسرائيل) من الضفة
الغربية، على الرغم من أنها تنتمي إلى حزب يرفض الانسحاب لدوافع إيديولوجية.
وعلينا هنا أن نشير إلى أن أهمية هذا التطور تكمن في حقيقة أن الجيش
والخدمة العسكرية كانا دوماً محط إجماع صهيوني عام، ومما لا شك فيه أن
التعرض لمحور هذا الإجماع المهم يمثل تطوراً لم يكن ليتسنى حدوثه لولا
الانتفاضة.
ومما لا شك فيه أن كسر الإجماع الصهيوني حول الخدمة العسكرية في
الجيش يمثل خطراً كبيراً يعمل على تآكل قدرة الدولة العبرية على مواجهة
الانتفاضة ومقاومة الشعب الفلسطيني، من هنا كانت الحساسية الكبيرة التي أبدتها
مؤسسات الدولة لظاهرة رفض الخدمة العسكرية.
* ارتفاع معدلات الجريمة، وزيادة معدلات الطلاق:
حسب المعطيات المتوفرة لدى مكتب الناطق باسم الشرطة الإسرائيلية؛ فإنه
منذ اندلاع انتفاضة الأقصى طرأت زيادة مرتفعة في معدلات الجريمة والعنف داخل
المجتمع الإسرائيلي. وكما تدل هذه المعطيات؛ فإن حجم الجريمة ازداد بنسة
15% في أواخر عام 2001م عما كان عليه في عام 1999م، كما أنه زاد
بنسبة بنسبة 35% حتى منتصف عام 2002م مقارنة مع الفترة نفسها في عام
1999م، حسب معطيات مكتب الناطق باسم الشرطة الإسرائيلية.
إلى ذلك؛ فقد زادت معدلات الطلاق بنسبة 18% حتى منتصف عام 2002م
عما كانت عليه حتى أواخر عام 2000م [18] .
بالنسبة لارتفاع معدلات الجريمة؛ فإن البرفيسور «إيلان يادين» أستاذ
العلوم الاجتماعية في جامعة تل أبيب، يؤكد أن هناك علاقة وثيقة بين انتفاضة
الأقصى وبين زيادة معدلات العنف في المجتمع الإسرائيلي.
ويضيف «يادين» في برنامج «مباط» الإخباري الذي بثته القناة الأولى
في التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ (19/5/2002م) أن الضباط والجنود الذين
يخدمون في الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة يميلون للعنف بشكل
خاص؛ إذ إن هؤلاء يكونون دائماً مفوضين لاستخدام قدر كبير من العنف ضد
الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ الأمر الذي يفقدهم الاستعداد لإبداء أي
صبر تجاه أي موقف أسري أو اجتماعي يتطلب منهم بعض الصبر.
ويؤكد «يادين» أن الجندي الذي أدى الخدمة العسكرية في الضفة والقطاع
يكون بعد عودته إلى الحياة المدنية مستعداً للتشاجر مع أي شخص في المحيط
الأسري أو العائلة.
ويرى أن هناك علاقة بين زيادة معدلات العنف الأسرى في الدولة العبرية
والخدمة العسكرية في ظل الانتفاضة، ويستند «يادين» إلى معطيات توفرت لديه
تؤكد أن أكثر من 50% من الرجال الذين تفتح ضدهم ملفات تحقيق بسبب الاعتداء
على زوجاتهم هم من الضباط والجنود الاحتياط الذين سبق لهم الخدمة في جيش
الاحتلال ضمن أنشطة مواجهة الانتفاضة.
ويتوقع «يادين» أن تكون هناك آثار كارثية للخدمة العسكرية للجنود في
الضفة الغربية وقطاع غزة على المجتمع الصهيوني؛ في حال تطلب الأمر تواصل
وجود الجنود في المناطق الفلسطينية؛ إذ إن ذلك سيكون كفيلاً بزيادة معدلات
الجريمة والعنف في الدولة العبرية إلى حد كبير.
أما عن زيادة معدلات الطلاق في المجتمع الإسرائيلي في الانتفاضة؛ فإن
«يادين» يشير جازماً إلى أن 40% من النساء اللواتي يرفعن قضايا طلاق
في المحاكم ضد أزواجهن هنَّ زوجات رجال كانوا ضباطاً أو جنوداً احتياطيين
في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويعدد «يادين» ثلاثة أسباب وراء هذه الظاهرة:
أولاً: غياب الرجال عن البيت بسبب الخدمة العسكرية.
ثانياً: لجوء الرجال للعنف بسبب الخدمة العسكرية في التعامل مع زوجاتهم.
ثالثاً: تدهور الأوضاع الاقتصادية للعائلة بسبب الخدمة؛ إذ إن الكثيرين من
الرجال الذين يخدمون في سلك الاحتياط فقدوا أعمالهم؛ حيث تم استبدالهم بعمال
أجانب، ويجزم «يادين» أن هناك علاقة بين تدهور الأوضاع المادية للعائلة
وبين ارتفاع نسبة الطلاق.
وعندما يتغلغل تأثير الانتفاضة إلى قلب الأسرة الإسرائيلية على هذا النحو؛
فإن هذا يعكس هشاشة المجتمع الصهيوني في مواجهة الانتفاضة، هذا من ناحية،
ومن ناحية ثانية؛ فإن هذا يدل على حقيقة طالما تجسدت في كل مرة تجرؤ فيه
جماعة على استلاب شعب آخر حريته وأرضه، فحصانة المستعمر تتآكل شيئاً شيئاً
بسبب مقاومة الشعب المحتل وإرادته الصلبة في التحرير.
* ازدياد معدلات المرضى النفسيين، والإقبال على المخدرات:
الإسرائيليون الذين يتعرضون للعمليات الاستشهادية، أو أولئك الذين يكونون
شهود عيان عند وقوع هذه العمليات، أو حتى أولئك الذين يتابعون أخبار العمليات
الاستشهادية عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية تتأثر أوضاعهم النفسية بشكل مباشر.
فحسب معطيات نقابة الأطباء النفسيين الإسرائيليين؛ فإنه في عام 2002م
بلغت نسبة الإسرائيليين الذين اضطروا لعلاج نفسي بسبب الانتفاضة 55% من
الإسرائيليين الذين زاروا العيادات النفسية [19] .
وقد دلت دراسة أجراها قسم العلوم الاجتماعية في جامعة حيفا أن 45% من
الإسرائيليين الذين ترددوا على العيادات النفسية في عام 2001م؛ قد أكدوا أنهم
كانوا إما ممن أصيبوا في عمليات استشهادية، وإما كانوا شهود عيان لها، وإما أنهم
لم يتعرضوا لها ولم يكونوا شهود عيان لها؛ لكن الخوف من السقوط في هذه
العمليات قد أدى إلى تدهور أوضاعهم النفسية [20] .
لكن تدهور الأوضاع النفسية طال أيضاً الجنود والضباط الذين يخدمون في
الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد ذكرت صحيفة «معاريف» بتاريخ (5/11/
2002م) أنه قد تم إقامة قرية خاصة لمعالجة الجنود الذين أنهوا خدمتهم في الضفة
الغربية وقطاع غزة نفسياً.
وتشير الصحيفة بشكل واضح إلى أن الكثير من الجنود قد تدهوروا إلى
تعاطي المخدرات شديدة التأثير، وذلك في محاولة يائسة للتغلب على الأزمات
النفسية التي تعصف بهم.
لكن تأثير انتفاضة الأقصى في المجتمع الإسرائيلي تجاوز هذا المستوى، وإذا
كانت الدولة العبرية تتباهى بأنها جزء من العالم الغربي «المتحضر» الذي تسود
فيه معايير سلوك تعكس هذا «التحضر» على حد الدعاية الإسرائيلية، إلا أن
الانتفاضة خصوصاً قد دللت على أن المجتمع الإسرائيلي يتشرب حتى أحط
مستويات السلوك الاجتماعي وأكثرها تخلفاً، فقد أشارت جميع وسائل الاعلام
الإسرائيلية بتوسع أن الخوف من السقوط في العمليات الاستشهادية قد أنعش أعمال
المشعوذين المعروفين برجال «هكبلا» ؛ بحيث إن هؤلاء يقومون ببيع الجمهور
الواسع الحجب والتعويذات، والتي يدّعون أنها بإمكانهم أن تقيهم من التعرض لأذى
نتيجة لهذه العمليات [21] .
بكلمات أخرى؛ فإن الدولة العبرية التي تتباهى بأنها جزء من العالم الغربي؛
لم يجد المجتمع فيها بداً سوى إبداء أنماط سلوك تشي بهشاشة هذا المجتمع، وعدم
قدرته على مواجهة الضغوط والتحديات التي فرضتها الانتفاضة.
ثالثاً: الانعكاسات على أسس الفكر الصهيوني:
انطلقت الممارسات الإسرائيلية في التعامل مع الشعب الفلسطيني والأمة
العربية من عدة مسلَّمات وموروث فكري، شكَّل ما أطلق عليه في الدولة العبرية
«حدود الإجماع الصهيوني» ، ونحن هنا بصدد الإشارة إلى عدد من هذه
المسلَّمات، ومناقشة تأثير انتفاضة الأقصى في تماسكها:
* عجز القوة عن مواجهة إرادة الفلسطينيين:
أحد أهم المنطلقات الفكرية التي شكلت أرضية مهمة في تعامل المؤسسة
الإسرائيلية الحاكمة مع الشعب الفلسطيني كان التشديد الصهيوني وخاصة وفق
المدرسة اليمينية، على أنه تحت أي ظرف يجب إقناع الفلسطينيين أنهم لن يحرزوا
أي مكسب سياسي من خلال استخدام المقاومة المسلحة، وأنه قبل الشروع في أي
تسوية سياسية؛ فإنه يتوجب انتهاء كل مظاهر المقاومة الفلسطينية دون شروط
مسبقة.
وهذا الفهم جعل دوائر صنع القرار وخاصة في عهد الليكود تستنفد أقصى
طاقة عسكرية في مواجهة المقاومة الفلسطينية، لكن تجربة انتفاضة الأقصى أدت
إلى تآكل هذا المنطلق الفكري بشكل متزايد؛ حيث بات واضحاً بالنسبة للكثير من
المفكرين وجنرالات الجيش، فضلاً عن قطاع مهم من الطبقة السياسية ومن ضمنها
رموز في اليمين الصهيوني أن القوة العسكرية، وحرص (إسرائيل) على استغلال
تفوقها العسكري لن يجبر الفلسطينيين على التسليم.
فقد وقَّع أكثر من مائة مفكر وجنرال متقاعد صهيوني على وثيقة تنص على
أن استخدام القوة المسلحة وحدها في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني لن تؤدي إلا
لمزيد من التدهور في مستويات الأمن الشخصي بالنسبة لمجمل سكان الدولة العبرية.
وشدد هؤلاء المفكرون والجنرالات على أن الأسلوب الأمثل للخروج من
الضائقة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تواصل الانتفاضة
هو استئناف العملية السياسية والمفاوضات [22] .
وقد تسربت هذه القناعات حتى للعديد من مفكري اليمين الصهيوني في الدولة
العبرية، فنجد أن «إيال عراد» المستشار الاستراتيجي لأرئيل شارون يقول:
«الجميع بات يدرك أن المخرج من الوضع الحالي لا يمكن أن يكون إلا
بتسوية سياسية، وأن الأنشطة والحملات الأمنية التي يقوم بها الجيش لا يمكنها أن
تضع حداً للانتفاضة» [23] .
ويشهد «بنيامين بن اليعازر» الذي شغل منصب وزير الدفاع في حكومة
شارون قائلاً: «إنني أثق أن شارون وجميع الوزراء بمن فيهم ممثلي الأحزاب
اليمينية والدينية باتوا يدركون أن هناك بوناً شاسعاً بين المسلمات الإيديولوجية
المعششة في أذهانهم، وبين الواقع على حقيقته، وهم في قرارة أنفسهم يثقون أنه لا
يوجد حل عسكري للانتفاضة، وأنه بدون الاستعداد لدفع ثمن سياسي للفلسطينيين؛
فإن الانتفاضة لن تعمل فقط على تحطيم ما تبقى من الشعور بالأمن الشخصي
لسكان الدولة، بل إنها ستعمل أيضاً على تآكل الكثير من المنجزات الاستراتيجية
التي راكمتها (إسرائيل) على مدى عشرات السنين» [24] .
حتى المفكرون الأجانب الذين حاولوا دراسة الانتفاضة؛ قد نصحوا دوائر
صنع القرار في الدولة العبرية بالاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني قبل أن يكون
الأمر متأخراً، ففي يوم دراسي عقد في جامعة تل أبيب بمناسبة مرور عامين على
اندلاع انتفاضة الأقصى، وجه المستشرق الأمريكي «باتريك دويتش» حديثه لعدد
من قادة الدولة العبرية الذين حضروا الندوة قائلاً: «يؤسفني أن أقول لكم إنكم
تقودون دولتكم نحو مغامرة غير محسوبة بالمرة، ففي هذه المعركة لا إمكانية أمامكم
إلا أن تخسروا فقط»
* استحالة ردع الفلسطينيين:
آمنت دوائر صنع القرار في الدولة العبرية منذ تأسيسها أنه يتوجب دوماً
مراكمة عنصر الردع في المواجهة مع العالم العربي، وتتمثل فلسفة الردع التي
تؤمن بها المؤسسات الحاكمة في (إسرائيل) بأنه يتوجب مواصلة تكريس الانطباع
الذي تولد بعد الهزائم التي لحقت بالجيوش العربية في الحروب التي خاضتها ضد
(إسرائيل) ، وهو أن الجيش الإسرائيلي «جيش لا يقهر» ، وأن الدول العربية
تحسن صنعاً مع نفسها عندما تُقبل على كل الخيارات باستثناء الخيار العسكري في
التعامل مع (إسرائيل) .
وكما يؤكد «يوسي بيلين» أحد قادة اليسار الصهيوني وأحد مهندسي اتفاق
«أوسلو» في محاضرة ألقاها أمام طلبة جامعة تل أبيب، بتاريخ (15/6/2001م)
أن اتفاق أوسلو شأنه في ذلك شأن اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، واتفاقية وادي
عربة مع الأردن لم يتسن التوقيع عليه إلا بعد أن أدرك العالم العربي أن خيار
المفاوضات هو الخيار الأوحد الذي يمكن أن يعود بالنفع على الدول العربية، وأن
هذه الدول لا يمكنها إلا أن تخرج مهزومة في كل مواجهة عسكرية مع (إسرائيل) .
لكننا نجد أن ثقة الصهاينة بقوة ردعهم قد تضعضعت بشكل كبير في انتفاضة
الأقصى، وكان هذا التضعضع استمراراً لاهتزاز قوة الردع بعد انسحاب جيش
الاحتلال القسري من جنوب لبنان.
ويؤكد الجنرال «داني روتشيلد» الذي كان يشغل منصب مدير قسم
الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية؛ أن قوة الردع الإسرائيلي
في الانتفاضة تضررت وتآكلت بشكل كبير.
ويضيف «روتشيلد» قائلاً: «ما دام كان هناك فلسطينيون يؤمنون أنه
بالإمكان تحقيق مكاسب عن طريق القوة والعنف، وما دام لم تقنعهم قوتنا أنهم
يقدمون على انتحار حقيقي عبر إصرارهم على استخدام القوة العسكرية؛ فإنه
يتوجب الاستنتاج بشكل سريع أن عوامل الردع في مواجهتم قد أخفقت» [25] .
ويصل المفكر والاستراتيجي الإسرائيلي «موتي ليرنير» إلى استنتاج مفاده
أن اقتناء الدولة العبرية لأهم تقنيات الأسلحة، وأشد وسائل الدمار الشامل غير
التقليدية فتكاً لن تضمن لـ (إسرائيل) الأمن، ويذهب إلى حد التأكيد أن هذه
الترسانة العسكرية هي بالضبط التي أدت إلى تدهور وضع (إسرائيل) الأمني.
ويضيف قائلاً: «الجمود الفكري عند صانعي القرار الإسرائيليين جعلهم
يعتقدون أن القوة العسكرية كفيلة بحل المشكلات مع الجيران على الرغم من بطلان
هذه النظرية عدة مرات في الماضي» [26] .
وفي ندوة عقدت بغزة بتاريخ 18/10/2002م؛ يشدد الكاتب والصحافي
الفرنسي «إيلي بوردو» على أن الشعب الفلسطيني قد أثبت أن إرادة الشعوب في
التحرر أقوى دوماً من كل عناصر القوة العسكرية التي تفتقد لأي بعد أخلاقي.
* الانقلاب الفكري في أوساط اليمين الإسرائيلي:
لعل أحد أهم تجليات تأثير انتفاضة الأقصى في قلب الكثير من المسلَّمات
الفكرية قد تجلت بشكل واضح في التحولات التي طرأت على مواقف الجمهور
الانتخابية لليمين الإسرائيلي، فما أدركه معظم المفكرين في الدولة العبرية بات
يتشربه أيضاً جمهور الأحزاب اليمينية. فحتى هذا الجمهور الذي كان يؤمن بأنه
يتوجب الاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة بوصفها (جزءاً لا يتجزأ من أرض
الآباء المحررة) ، كما تشدد أدبيات حزب الليكود على سبيل المثال، حتى هذا
الجمهور قد أدرك أن التشبث بهذه المواقف يتطلب منهم ثمناً أمنياً واقتصادياً
واجتماعياً كبيراً، في الوقت الذي تبين لهم أن القوة العسكرية لجيش الاحتلال
أخفقت وبشكل واضح في توفير الأمن، وكبح المقاومة الفلسطينية التي أصبحت
تهديداً مباشراً لكل إسرائيلي حيثما كان.
هذا الإدراك أدى إلى تغيير مواقف الجمهور اليميني الإسرائيلي من قضايا
مهمة، مثل الموقف من إقامة دولة فلسطينية أو تفكيك المستوطنات، فعلى الرغم
من أن البرامج السياسية للأحزاب اليمينية تصر على أنه يتوجب عدم إقامة دولة
فلسطينية، وأن أكثر ما يمكن الموافقة عليه هو حكم ذاتي للفلسطينيين، وفي الوقت
الذي تشدد فيه هذه البرامج ليس على رفض تفكيك المستوطنات، بل ومواصلة
الأنشطة الاستيطانية بوتيرة أعلى.
على الرغم من ذلك؛ فإننا نجد أن اقتناع جمهور اليمين الإسرائيلي بعجز
القوة العسكرية عن وقف المقاومة الفلسطينية قد أدى إلى تغيير مواقف هذا الجمهور
من هاتين القضيتين، فجميع استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي تشير إلى أن أكثر
من 50% من مصوتي اليمين الإسرائيلي يؤيدون إقامة دولة فلسطينية وتفكيك معظم
المستوطنات اليهودية، مع أنه في زخم تطبيق اتفاق أوسلو كان أقل من 25% من
مصوتي اليمين الإسرائيلي يؤيدون إقامة الدولة الفلسطينية، وأقل من 20% يؤيدون
تفكيك المستوطنات اليهودية. ونشير إلى مصوتي اليمين خاصة؛ لأن جمهور
اليسار والوسط لا يبدي معارضة بشكل تقليدي لهاتين المسألتين.
إذن هذا يثبت أن انتفاضة الأقصى قد أجبرت الجمهور الإسرائيلي على تبني
مواقف أكثر مرونة حول القضايا التي تشكل الصراع بين دولة الاحتلال والشعب
الفلسطيني، مع العلم أن الأحزاب اليمينية لا تصر فقط على تجاهل التغيرات في
مواقف جمهورها، بل إنها أضفت مزيداً من التطرف على مواقفها الإيديولوجية،
فنجد أن الدعوة لتطبيق «الترانسفير» عادت بقوة في البرامج الانتخابية من
الأحزاب مثل حزب «التجمع الوطني» ، وحركة «حيروت» ، إلى جانب تبني
مواقف أكثر تزمتاً من ملف القدس، فنجد أن حزب مثل «الاتحاد الوطني»
بزعامة ليبرمان يدعو إلى السيطرة المباشرة على المسجد الأقصى ومنع المسلمين
من الصلاة فيه، ولو تطلب الأمر خوض مواجهة شاملة مع العالم العربي
والإسلامي [27] .
* تراجع الرهان الإسرائيلي على التباين الإيديولوجي بين الفلسطينيين:
المؤسستان السياسية والأمنية في الدولة العبرية كانتا دوماً تراهنان على أن
هناك فروقاً إيديولوجية بين الفلسطينيين يفترض أنها تلزم الدولة العبرية باعتماد
سبل مواجهة مختلفة مع قوى الشعب الفلسطيني المختلفة، على اعتبار أن
المنطلقات الفكرية للفصائل الفلسطينية كانت تقتضي اتباعها أساليب مقاومة مختلفة،
فمثلاً كانت تفترض المؤسسات الصهيونية أنه باستثناء الحركات الإسلامية
الفلسطينية؛ فإن بقية الفصائل الفلسطينية لن تعتمد أسلوب العمليات الاستشهادية؛
لذا عندما حاول قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في بداية
الانتفاضة تحديد سمت الاستشهادي الفلسطيني؛ استبعد هذا السمت أن يكون
الاستشهادي منتمياً إلى تنظيم غير إسلامي، لكن انتفاضة الأقصى سرعان ما أدت
إلى تغيير هذا الانطباع؛ عندما اعتمدت بقية التنظيمات الفلسطينية العمل
الاستشهادي بوصفه أسلوباً من أساليب المقاومة ضد الاحتلال.
ويقر وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز أن الانتفاضة قد
قلصت الفروق الإيديولوجية بين الفلسطينيين في كل ما يتعلق بمواقفهم من القضايا
التي تشكل الصراع، حتى شخص مثل السفير الأمريكي الحالي في الدولة العبرية
«دان كيرتسير» ، يهودي ومعروف بتعصبه لإسرائيل؛ ضاق ذرعاً بما أسماه
«الغباء الذي يميز تفكير دوائر صنع القرار الإسرائيلي» ، ففي مقابلة مع
القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، بتاريخ 19/11/2002م، قال
«كيرتسير» : «إن التوسع في استخدام القوة ضد الفلسطينيين لم ينجح إلا في
تجميعهم وتوحيدهم، وحشرهم في معسكر واحد ضد (إسرائيل) » .
* الصهاينة: الإسلام أهم قوة دفع وراء الانتفاضة:
لا يختلف اثنان من المفكرين والاستراتيجيين الإسرائيليين على أهمية الدور
الذي يقوم به الدين الإسلامي في تحريك انتفاضة الأقصى، وبالنسبة لـ «فرايم
سنيه» الجنرال المتقاعد وأحد قادة حزب العمل؛ فإن الدين الإسلامي يمثل أهم
مصدر لتأجيج انتفاضة الاقصى، وينصح «سنيه» بالتعجيل بحل الصراع مع
الشعب الفلسطيني عبر تسوية سياسية؛ بناءً على أن مثل هذه التسوية ستقلص دور
الإسلام في الصراع، وهذا يخدم المصلحة الإسرائيلية [28] .
أما المفكر الإسرائيلي الكبير «أوري بار يوسيف» فإنه يؤكد في كتابه
(المشاهد الذي نام) فيذهب أبعد من ذلك؛ عندما يحذر من مغبة عدم حل القضية
الفلسطينية وبأقصى سرعة؛ حيث يرى أن بقاء هذه القضية دون حل يوسع دائرة
العداء للدولة العبرية في أرجاء العالم الإسلامي.
ويضيف: «إن المسلمين الفلبينيين والصينيين والأتراك والأمريكيين
والأوروبيين مثل المسلمين الأفارقة؛ يشعرون تجاهنا بعداء شديد كلما ذكر اسم
القدس في أي نشرة أخبار، هذا يمثل بؤرة شعور هؤلاء الناس، ولا يمكن أن
نطبع وجودنا ووجود دولتنا في هذا العالم بدون القضاء على كل الأسباب التي تجعل
المسلمين في العالم يكرهوننا» .
* سقوط مقولة: «إسرائيل واحة الديمقراطية» في المنطقة:
عكفت إسرائيل وآلتها الدعائية على الزعم دوماً بأنها الدولة الوحيدة التي يحكم
فيها نظام ديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط.
وقد تساوقت المنظومة الغربية مع هذه الدعاية وتعاملت مع إسرائيل والعالم
العربي وفق هذه الدعاية، لكن الانتفاضة قد كشفت الوجه الآخر للدولة العبرية،
حيث أثبتت الانتفاضة أن النظام السياسي في الدولة العبرية سرعان ما يتخلى عن
المضامين الديمقراطية في لحظات الاختبار الحقيقية. وقد ظهر هذا في الانتفاضة
على النحو الآتي:
1 - معروف أنه من أهم مزايا النظام الديمقراطي أن تخضع المستويات
العسكرية في الدولة لدوائر صنع القرار السياسي المنتخبة ديمقراطياً، لكن في
إسرائيل قد حدث العكس تماماً؛ إذ تبين خلال انتفاضة الأقصى أن الجيش
والمؤسسة الأمنية هي التي تقرر والحكومة تتبنى هذه القرارات، وفي كثير من
الأحيان مرغمة. وقد عدد المعلق العسكري الإسرائيلي الكبير «روني دانئيل»
عشرات الحوادث التي اضطرت فيها الحكومة لتعديل مواقفها للتوافق مع مواقف
المؤسسة العسكرية [29] .
2 - الصحافة الحرة هي أحد أهم ركائز أي ديمقراطية، وقد دلت تجربة
الانتفاضة على أن الصحافة الإسرائيلية قد تحولت إلى بوق دعاية خاص بالحكومة،
وتجندت بشكل كامل من أجل خدمة المؤسسة الحاكمة، وتبنت الرواية الرسمية
الإسرائيلية؛ على الرغم من أن هذه الرواية مختلقة في كثير من الأحيان. ويكفي
هنا أن نشير إلى أنه منذ مطلع عام 2001م وحتى الآن قد أعد خمس وعشرين
بحثاً أكاديمياً حول تغطية الصحافة الإسرائيلية لأحداث الانتفاضة، وقد دلت جميع
نتائج هذه البحوث على أن الصحافة الإسرائيلية قد تحولت إلى مجرد بوق للدعاية
التي تناسب أنظمة غير ديمقراطية.
3 - النظام القضائي في الدولة العبرية وفر الغطاء القانوني لكل عمليات
المس بحقوق الإنسان الفلسطيني، فما يعرف بـ «محكمة العدل العليا» أضفت
صفة قانونية على الجرائم بحق الإنسانية التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد الشعب
الفلسطيني، فهذه المحكمة أجازت أن يقوم الجيش بعمليات التصفية والاغتيال التي
هي في الحقيقة عمليات إعدام خارج نطاق القانون، كما أجازت قيام الجيش بتدمير
منازل أسر الاستشهاديين؛ على الرغم من أن هذا الإجراء هو صورة من صور
العقاب الجماعي، إلى جانب الاعتقال الإداري الذي يتم دون مذكرة اتهام، فضلاً
عن الكثير من عمليات المس بحقوق الإنسان الفلسطيني.
لدى إجراء عملية تقييم شامل لتأثير الانتفاضة في الدولة والمجتمع
الإسرائيلي؛ فإننا نجد أن هذه الانتفاضة قد هزت هذا المجتمع من الداخل
بشكل قوي، وأظهرت بشكل واضح هشاشته، كما أن الانتفاضة تواصل إثبات
بطلان المنطلق الإسرائيلي المؤمن بالقوة في مواجهة إرادة الشعب الفلسطيني
في التحرر، فالانتفاضة تثبت لمزيد من الإسرائيليين أنه يجدر بهم أن يتوقفوا
عن الوهم القائل إنه بالإمكان احتمال الثمن الباهظ الذي يدفعونه بسبب احتلالهم
للأرض الفلسطينية.
__________
(*) إعداد مركز دراسات الشرق الأوسط، قسم المعلومات الباحث: صالح النعامي.
(1) القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، بتاريخ 28/10/2002م.
(2) بيان صادر عن قسم تسجيل الأنفس في وزارة الداخلية الإسرائيلية، بتاريخ 15/1/2003م.
(3) صحيفة ياتيد نئمان، 26/11/2002م.
(4) مجلة نتيف العدد العاشر، 2002م.
(5) وقد فضح هذا التوجه الصحافي الإسرائيلي (أمنون إبراموفيتش) في القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، بتاريخ 12/11/2002م.
(6) معاريف، 13/1/2003م.
(7) شبكة الإذاعة العامة، 14/1/2003م.
(8) القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، 13/1/2003م.
(9) تقرير صادر عن وزارة الاستيعاب الإسرائيلية، 20/10/2002م.
(10) معاريف، 13/1/2003م.
(11) النشرة الدورية الخاصة باتحاد الصناعيين في إسرائيل، 18/1/2003م.
(12) أسبوعية تل أبيب، 23/9/2002م.
(13) إذاعة الجيش الإسرائيلي، 22/11/2002م.
(14) دائرة العلاقات العامة في اتحاد الفنادق، 15/2/2003م.
(15) قناة التلفزة الإسرائيلية الأولى، 9/8/2002م.
(16) صحيفة تل أبيب، 14/3/2002م.
(17) مكتب الناطق بلسان الحركة، 15/2/2003م.
(18) العدد السابع من النشرة الشهرية الخاصة باتحاد منظمات المرأة الإسرائيلية المعروفة بـ (نعمات) .
(19) معطيات العلاقات العامة في نقابة الأطباء النفسيين، 15/2/2003م.
(20) الشبكة الإذاعية العامة، 25/7/2002م.
(21) القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، 23/6/2002م.
(22) القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، 9/8/2002م.
(23) إذاعة صوت الجيش الإسرائيلي، 25/10/2002م.
(24) القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، 3/10/2002م.
(25) مجلة بمحنية العسكرية، 27/5/2002م.
(26) هاآرتس، 29/12/2002م.
(27) معاريف، 30/12/2002م.
(28) القناة الثانية في التلفزة الإسرائيلية، 23/4/2002م.
(29) القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، 26/10/2002م.(186/88)
مرصد الأحداث
وائل عبد الغني
مرصد الأخبار:
- ذكرت مجلة نيوزويك أن أنصار بوش من الإنجيليين يأملون أن تكون
الحرب القادمة على العراق فاتحة لنشر المسيحية في بغداد.
[نيوزويك، عدد: (11/3/2003م) ]
- في خطوة غير مسبوقة سمحت السلطات الكويتية لصحفي إسرائيلي
بالدخول إلى أراضيها والعمل بشكل حر لتغطية أحداث العدوان الأمريكي البريطاني
المرتقب علي العراق.
والصحفي الإسرائيلي يدعى إيتاي أنجل، ويحمل جواز سفر إسرائيلي فقط،
وهو يعمل لصالح القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، وهي قناة تجارية ومستقلة.
[القدس العربي، العدد: (4289) ]
- ضمن زيارة أثناء زيارة وفد مجلس النواب الأمريكي لأنقرة مؤخراً حذر
جول هيفلي رئيس وفد الحكومة التركية تحذيراً صارماً، من عدم الانصياع للرغبة
الأمريكية بقوله: قواتنا تنتظر في البحر الأبيض على متن السفن الحربية قراركم
بهذا الشأن. وسوف تتوجه تلك القوات إلى الخليج العربي عبر قناة السويس في
حالة صدور قرار سلبي من الحكومة التركية.
[المجتمع، العدد: (1540) ]
- تحولت شبه الجزيرة الصغيرة في الخليج العربي من دولة إلى قاعدة للقوات
الأمريكية التي وصلت إليها بكثافة في غضون الأيام القليلة المقبلة، وأكد مراسل
وكالة أنباء (رويترز) في الدوحة أن طائرات الحرب النفسية والإلكترونية
الأمريكية التي تقوم بحراسة منطقة حظر الطيران في العراق تعمل من قطر.
[الزمان، العدد: (1435) ]
- قال مسؤولون أمريكيون إن الولايات المتحدة تعتزم تقديم قروض ومنح
لمصر قيمتها 3,2 مليار دولار لمساعدتها على التغلب على الصدمة الاقتصادية
لحرب العراق. وقال المسؤولون المطلعون على الخطة الخمسية إن صفقة
المعونات التي تشمل ضمانات قروض أمريكية قدرها ملياران من الدولارات،
ومنحاً اقتصادية قيمتها 300 مليون دولار؛ سوف ترد ضمن ميزانية حرب تزيد
على 75 مليار دولار.
[الزمان، العدد: (1459) ]
- نشرت صحيفة التايمز تقريراً مثيراً عن مراسلها في الأردن بعنوان يقول:
قوات إسرائيلية خاصة تنضم إلى «جبهة سرية» في الأردن.
كشف التقرير عن وجود جبهة أخرى على طول الحدود الأردنية العراقية التي
تبلغ 113 ميلاً، وتقول إن قوات بريطانية وأمريكية وإسرائيلية تقوم بعمليات
استطلاع واسعة المدى داخل العراق عبر الحدود الأردنية.
وتنقل التايمز عن خبير غربي تأكيده وجود وحدات خاصة تعمل عبر الأردن
رغم إخفاء تحركاتها عن العلن، كما تنقل الصحيفة عن مسؤول أردني تأكيده وجود
خمسة آلاف جندي أمريكي في الأردن، بينما قال دبلوماسي غربي إن عددهم سبعة
آلاف وإن المزيد من الجنود سيصلون لاحقاً.
[راديو BBC: 18/3/2003م]
- أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية وضع العراق والسودان وإيران
والصين وكوريا الشمالية وميانمار (بورما سابقاً) ضمن من تصفهم بالدول المثيرة
للقلق بشأن حريات الأديان فيها، مشيرة إلى أن الدول الست متورطة في انتهاك
شديد للحريات الدينية.
[جريدة الزمان، العدد: (1447) ]
- العلو الكبير:
أعرب الرئيس البوسني سليمان تيهيتش عن امتعاضه من الدور المتنامي الذي
يلعبه يعقوب فنسي زعيم الطائفة اليهودية في البوسنة (100 فرد) ، ورئيس دائرة
شبه حكومية أقامتها الإدارة الدولية يطلق عليها (99) ، لها صلاحيات واسعة في
إدارة شؤون البوسنة.
[الشرق الأوسط، 19/3/2003م]
- أدانت منظمات حقوق الإنسان بقطاع غزة استخدام قوات الاحتلال القذائف
المسمارية والعنقودية؛ مما أدى إلى زيادة ملحوظة في عدد الإصابات بين
الفلسطينيين، يذكر أن كل قذيفة تحتوي على تسعة آلاف مسمار، طول المسمار
خمسة سنتيمترات، وتطلق القذيفة بواسطة دبابة، وتستخدم هذه القذائف غالباً في
ساحات وميادين الحرب وليس ضد الأبرياء من المدنيين، وقد استشهد نتيحة انفجار
هذه القذائف 418 شاباً وطفلاً وسيدة فلسطينية.
[الأسبوع، المصرية، العدد: (314) ]
«المعونة» الأمريكية و «خلطة» «باول» !!
وقع اختيارالإدارة الأميركية على مكتبة الإسكندرية لتكون أحد مقار انطلاق
(مبادرة باول للديمقراطية في العالم العربي) ، وكانت مكتبة الإسكندرية قد حصلت
على منحة تبلغ 23 مليون دولار أميركي من هيئة المعونة الأميركية، وقالت نشرة
مكتب الإعلام الأميركي بالإسكندرية إن هيئة المعونة اشترطت للإفراج عن المنحة:
وجود تبادل ثقافي خاص بالجزء الثالث من مبادرة باول، وقيام المراكز الثقافية
بنشر الكتب المترجمة في المراكز الحضرية بالعالم العربي، وفي إطار الكتب
المترجمة التي ظلت السفارة الأميركية بالقاهرة تنشرها على مدى الأعوام الثلاثين
الماضية، وحصلت المكتبة على 128 كتاباً تتناول الثقافة الأميركية، وتعرض
الإنجازات الفنية والثقافية، وتضم مجموعة من الكتب الخاصة بالعراق، والتي
توزعها الإدارة الأميركية، وعدداً من أفلام السينما.
وتهدف تحركات أمريكية لوضع الترتيبات الخاصة بعقد مؤتمر حول تطوير
التعليم في شهر مايو (أيار) القادم بتمويل من هيئة المعونة، وقد حث السفير
الأمريكي «ديفيد ولش» د. إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة على استقبال
«جاري جاربو» مدير إدارة الشؤون الإقليمية لإدارة الشرق الأدنى بالخارجية
الأميركية، والذي سيلتقي خلال زيارته عدداً من المسؤولين بالمنطقة؛ ليبحث معهم
موضوعات تتعلق بالديمقراطية والتعليم.
[ (الشرق الأوسط) ، العدد: (8865) ]
الخوف من الإسلام الكردي
استغل الاتحاد الوطني بزعامة الطالباني هستيريا الخوف من الجماعات
الإسلامية الجهادية لدى الإدارة الأميركية بعد أحداث سبتمبر. وراح يروج لدى
واشنطن وجود صلة بين هذه الجماعة (أنصار الإسلام) والقاعدة، وبوجود
معسكرات يدعمها بن لادن في المناطق التي تسيطر عليها أنصار الإسلام. ووصل
بالحملة الدعائية التي شنها الاتحاد الوطني إلى القول بوجود مختبرات كيميائية لدى
هذه الجماعة تحاول استخدامها في صنع أسلحة خطيرة.
واستغلت واشنطن الحرب على العراق لشن قصف جوي مكثف، مستغلة
العديد من الأسلحة ذات القوة التدميرية العالية مثل طائرات بي 52 التي أسفرت عن
مقتل 57 شخصاً من الجماعتين الإسلامية وأنصار الإسلام خلال الأيام الثلاثة
الأولى من الحرب.
[مفكرة الإسلام، 23/3/2003م]
أنقذوه قبل فوات الآوان!!
حذَّر الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر،
ورئيس مؤسسة الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية من مخطط إسرائيلي؛ لتحويل
غرف داخل المسجد الأقصى إلى كنيس يهودي، وناشد العلماء والشعوب والحكام
في العالمين العربي والإسلامي التدخل قبل فوات الأوان، وحذَّر من وقوع كارثة!
وأكد في بيان أصدره أن الشرطة الإسرائيلية تطمع بعد إغلاقها مكاتب لجنة
التراث الإسلامي في باب الرحمة داخل المسجد الأقصى؛ بأن تستولي على غرفتها
الواقعة داخل الحرم القدسي الشريف، وإحكام سيطرتها بالفعل على جزء من
المسجد المبارك.
وشدد صلاح على أن سلطات الاحتلال تنوي تحويل المبنى في باب الرحمة
إلى كنيس يهودي؛ كما فعلت سابقاً بتحويل عدد من البيوت السكنية القريبة من
محيط المسجد الأقصى؛ بعد الاستيلاء عليها إلى كنيس وقاعات لتعليم التوراة، أو
ثكنات للشرطة الإسرائيلية.
وأضاف أن المخابرات الإسرائيلية كشفت مؤخراً جولاتها داخل المسجد
الأقصى مصحوبة بعدد من المستوطنين، وأن هذه الجولات توالت في الأيام
الماضية مشيراً إلى إحباط حراس المسجد الأقصى عدة محاولات قامت بها
مجموعات من المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى بعد تنظيم مسيرات في شوارع
القدس، وحاولوا الدخول من بابي الغوانمة والأسباط من الجهة الشمالية للأقصى.
وكانت القناة العاشرة الصهيونية قد بثت مشهداً لمجموعة من الشباب اليهود
يغنون ويرقصون، ويرددون هتاف «فليتفجر ... فليتفجر ... فليتفجر المسجد» ،
ويقصدون بذلك المسجد الأقصى.
[ (التجديد) المغربية، العدد: (587) ، و (البيان) ، العدد: (6305) ]
قالوا عن العدوان على العراق:
- إن نظاماً جديداً في العراق يمكن اعتباره مثالاً درامياً وملهماً للحرية بالنسبة
للدول الأخرى في المنطقة.
[جورج دبليو بوش، في خطاب له أمام معهد (أميركان انتربرايز) اليميني في واشنطن،
(الشرق الأوسط) ، العدد: (8872) ]
- «إن أغلب المصلين الذين يحضرون إلى كنيستي الصغيرة لا يرون
أنفسهم، ولا يرون الأمة الأمريكية مجموعة من القديسين» ، وهم «ليسوا
مستيقنين من الورع الأمريكي» الذي يتحدث عنه جورج بوش. وهم «يرون أن
انتصارنا على صدام حسين ليس دليلاً كافياً على فضيلتنا أمام الناس ولا أمام الله،
حتى هو لا يبدو دليلاً كافياً على انتصارنا على الإرهاب» .
[القس الأمريكي فريتس، (نيوزويك) ، عدد: (10/3/2003م) ]
- الولايات المتحدة تعمد إلى تغيير قواعد اللعبة باستمرار.
[وزير الخارجية الروسي (إيغور إيفانوف) موقع الإذاعة السويسرية
(سويس إنفو) : 13/3/2003م]
- إن أمتنا العربية والإسلامية هي هدف أساسي لكل الحشود العسكرية، وإن
الإصرار على ضرب العراق ما هو إلا مقدمة لضربات أخرى تستهدف بقية الوطن
العربي.
[من بيان مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، والذي دعا فيه إلى الجهاد
ضد القوات الأميركية حال غزوها للعراق، (الشرق الأوسط) ، العدد: (8870) ]
- يتضح مع كل صبح جديد أن المستر بوش لم يكوّن تحالفاً للراغبين؛ بل
كون تحالفاً للطامعين. وإنها لحقيقة مؤسفة أن كثيرين جداً لا يقبلون التحالف معنا
إلا عن طريق الرشوة أو القسر وليّ الأيادي.
[الكاتب الأمريكي: توماس فريدمان، (الشرق الأوسط) ، العدد: (8865) ]
- إنني أقرأ الإنجيل يومياً، وأنام جيداً في الليل، وصلوات الشعب تدعمني.
[جورج بوش الابن، لدى سؤاله عن كيفية تهيئة نفسه للحرب نفسياً وعقلياً،
السفير: 6/3/2003م]
- يهدف المخطط الأمريكي الإسرائيلي إلى إنشاء قوة مركزية جديدة هي
الدولة الإسرائيلية، تنزع كل المركزيات الأخرى من المنطقة، وتحولها إلى دول
تابعة باسم الإصلاحات الديمقراطية، أو بالنص الصريح لوزير الخارجية الأمريكي
كولن باول «إعادة تشكيل المنطقة بما يتفق مع المصالح الأمريكية» !
[الكاتب: أحمد عباس صالح، (الشرق الأوسط) ، العدد: (8865) ]
- بينما يزعم إمبرياليو (إدارة) بوش الوقحون تنصيب ديمقراطية جديدة في
العراق؛ نراهم متضايقين من الديمقراطية العتيقة التي يمارسها حلفاؤنا المترددون
(في خوض الحرب) .
[الكاتبة الأمريكية: مورين داود، لصحيفة النيويورك تايمز عن
(الشرق الأوسط) ، العدد: (8867) ]
- هناك ما يشبه الإجماع بين كثرة من علماء النفس الاجتماعي والسياسي أن
الأصولية الدينية وامتداداتها في السياسة الأمريكية متمثلة في اليمين المتطرف؛
ترجع في جذورها العميقة إلى أسلوب التنشئة القائم على العقوبات البدنية القاسية،
وإلى العنف، وسوء المعاملة التي يتلقاها الأطفال في سنوات العمر الأولى من
حياتهم.
[محمد يوسف عدس، (وجهات نظر) ، العدد: (50) ]
- ضميري المسيحي مطمئن لخوض الحرب رغم ما قد يسفر عنه ضرب
العراق من خسائر فادحة في الأرواح. بالتأكيد؛ إن إيماني والقيم التي أدعو إليها
مهمة جداً بالنسبة إلي.
[رئيس الوزراء البريطاني، أنطوني بلير، في حوار مع إندبندنت أون صنداي، عن:
(البيان) الإماراتية، العدد: (6293) ]
- إننا ندعو اليوم أرئيل شارون رئيس الحكومة بالصعود إلى جبل الهيكل
على رأس مجموعة مختارة من الجيش، وضرب الأعداء وتحرير جبل الهيكل.
[رئيس حركة أمناء جبل الهيكل المدعو (جدعون سلمون) ،
(التجديد) المغربية، العدد: (587) ]
- إننا نشعر بالقلق تجاه نمو التيارات المتشددة في الولايات المتحدة والغرب،
فالأصولية بمنطقتنا في تراجع، أما هناك فهي في تقدم، وهذا هو الخطر الحقيقي.
[شخصية خليجية بارزة، (الشرق الأوسط) ، العدد: (8858) ]
- روسيا قد تفكر من جديد بعقد صفقة مع واشنطن يتم فيها دعم العمل
العسكري الأميركي ضد العراق (كما ألمح الرئيس الروسي أخيراً) مقابل الدعم
الأميركي لعملية عسكرية روسية ضد جورجيا.
[فيكتور كريمينيوك نائب مدير (معهد دراسات الولايات المتحدة وكندا،
في أكاديمية العلوم الروسية) موسكو (الشرق الأوسط) ، العدد: (8857) ]
أرقام حربية:
- حذر مدير برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة «جيمس موريس»
مؤخراً من أن العالم «بدأ يخسر المعركة» في مواجهة الجوع؛ في ظل الظروف
الدولية الراهنة، وقال: إن 800 مليون شخص يعانون المجاعة في العالم ربما
يكونون أول ضحية للحرب على العراق؛ بسبب تحول المجتمع الدولي عن
الاهتمام بمعالجة أزمتهم إلى ترقب ماذا سيحصل في العراق، وكيف ستؤثر الحرب؟
ما لم يذكره «موريس» أن السر الأكبر هو في تأميم الولايات المتحدة للعمل
الخيري الإسلامي من جهة، ولاستغناء الرأسمالية العالمية عن حاجتها لهؤلاء البشر
في ظل توحش العولمة.
[الحياة، العدد: (1484) ]
- جمدت السلطات الأميركية نحو 17 مليون دولار من أرصدة رجال أعمال
عرب، وآخرين ذوي أصول عربية، خلال الشهرين الماضيين؛ بحجة «الاشتباه
بتعاملاتهم المالية» .
[ (الشرق الأوسط) ، العدد: (8859) ]
- قدر الدكتور فؤاد شاكر أمين عام اتحاد المصارف العربية خسائر البنوك
العربية المتوقعة؛ نتيجة للحرب ضد العراق، بحوالي: 60 مليار دولار.
[ (البيان) الإماراتية، العدد: (6281) ]
- وفقاً لتقدير أحد المتخصصين الفرنسيين؛ تتحكم الولايات المتحدة وحدها
بحوالى40% من المصاريف العسكرية العالمية، مقابل 6% لروسيا، و 5%
لفرنسا، و 3% للصين.
وتنفق أميركا على جيشها مصاريف تفوق جملة مصاريف القوى الإمبراطورية
الكبيرة منذ خمسمئة سنة.
والمفارقة المدهشة هي أن هذه المصاريف الهائلة لا تلتهم حصة كبيرة من
الميزانية الأميركية، فميزانية وزارة الدفاع (البنتاجون) بلغت عام 1980م أكثر
من 6%، فيما هي اليوم تكاد تتجاوز 3%.
[الحياة، العدد: (13694) ]
- في حرب الخليج الثانية استخدم الحلفاء 300 طن متري من اليورانيوم
المنضب في أسلحتهم؛ الأمر الذي أدى إلى كوارث في أوساط العراقيين، وإصابة
أطفالهم بأمراض سرطانية غير مألوفة.
وتشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة ستستخدم كمية أكبر بخمس مرات
من اليورانيوم المنضب؛ أي 1500 طن متري، وهذا يعني أن الجيلين العراقيين
المقبلين سيهلكان تقريباً، وسيكونان فريسة المرض والضعف.
فما هي فائدة الديمقراطية إذا كانت ستأتي إلى شعب سيخسر مئات الآلاف من
أبنائه تحت (القصف السجادي) لحرب (التحرير) الأمريكية، وستهلك أجياله
المقبلة بفعل الأمراض السرطانية؟!
[القدس العربي، العدد (4295) ]
أخبار سريعة:
- ألقى الصحاف الضوء على استخدام القوات المتحالفة القنابل العنقودية.
وقال إنها تستخدم بشكل مجنون وهستيري، واستطرد قائلاً: «إنهم مثلاً أسقطوا
في محافظة ديالي قنابل عنقودية على قرية تسمى نهر البستان بناحية بني سعد،
وبسبب هذه القنابل استشهد 9 وجرح 19، وفي محافظة بابل أسقطوا قنابل
عنقودية على اثنين من الأحياء السكنية بالمدينة؛ مما أدى إلى مقتل 4 وجرح 18،
كما أسقطوا قنابل عنقودية في بغداد وفي عدة أماكن أخرى» .
[BBCA، 27/3/2003م]
- قالت اليابان إنها ستمنح الأردن معونات بقيمة 100 مليون دولار لمساعدته
في مواجهة آثار الحرب التي تشنها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق.
[الجزيرة نت، 23/3/2003م]
- قال الدكتور عبد العظيم المطعني: إنه خلال القرنين الماضيين أخرجت
المطابع في الغرب أكثر من (200.000) مائتي ألف مجلد، كلها هجوم وانتقاص
واحتقار لكل مقومات الأمة الإسلامية والعربية.
[آفاق عربية، المصرية، العدد: (597) ]
- انتهت يوم 22 فبراير فترة الحظر السياسي البالغة خمسة أعوام، والتي
حكمت بها المحكمة الدستورية التركية على زعيم حزب (الرفاه) نجم الدين أربكان.
ومن المرجح أن يتولى أربكان زعامة حزب (السعادة) خلفاً لرجائي قوطان
بقرار تتخذه اللجنة المؤسسة للحزب. لكن أربكان لن يتمكن من الترشح في أي
انتخابات فرعية أو عامة حتى شهر ديسمبر المقبل؛ بسبب عقوبة السجن الصادرة
بحقه من المحكمة الدستورية لمدة سنة واحدة.
[ (المجتمع) ، العدد: (1540) ]
- صدرت في أفغانستان أول مجلة نسائية، وتحتوى المجلة في جانب منها
على قصص مصورة، في بلد تنتشر فيه الأمية على نحو واسع، المجلة موجهة
للشريحة المتعلمة القليلة، وستوزع المجلة مجاناً خلال الأشهر الستة الأولى؛ مع
كل عدد يباع من مجلة خاصة بالرجال ذائعة الصيت هناك، ويحرص القائمون
على المجلة على غزو المرأة الأفغانية؛ دون إثارة الرأي العام، على الأقل في
المرحلة الأولى.
[عن موقع: BBC، 8/3/2003م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
تنصُّر المسلمين مسؤولية من؟!
كشفت دراسة علمية ميدانية في الجزائر عن ارتداد عدد من القبائل الجزائرية
عن دين الإسلام واعتناقهم النصرانية.
أشارت الدراسة - قامت بها طالبتان من معهد العلوم السياسية والإعلام
بالجزائر - إلى أن القبائل المرتدة تتركز في ولايات (واضية) و (بوغني)
و (تيزي أوزو) ، وأن هذا التحول من الإسلام إلى النصرانية استغرق سنوات
طويلة، لكن المحصلة كانت كبيرة للغاية؛ في ظل غياب الدعوة والدعاة من
ناحية، وحماية المنظمات التنصيرية العاملة في كثير من الولايات الجزائرية من
ناحية أخرى.
قامت الطالبتان بعمل استمارة استبيان، تم توزيعها على مساحة واسعة من
الولايات والقبائل التي أعلنت ارتدادها، وتضمنت (44) سؤالاً؛ غير أن عينة
البحث توجهت بالتحديد إلى (85) حالة ارتداد، روعي فيها متوسط الأعمار،
والمجال الجغرافي، والمستوى التعليمي للمتنصرين، وآبائهم وأمهاتهم، والحالة
الاجتماعية.
وخلصت نتائج الدراسة إلى أن 70% من الذين ارتدوا عن دينهم هم من
الشباب، ومنهم 43% فتيات.
أما عن المستوى التعليمي؛ فأفادت الدراسة أن 50% من عينات الدراسة كان
مستواهم التعليمي فوق الثانوي؛ غير أن 25% منهم وصفتهم الدراسة بـ
(العاطلين) ، وأنهم ينحدرون من طبقات اجتماعية متنوعة.
[السفير الجزائرية، العدد: (142) ]
الاتحاد الكاثوليكي للصحافة
احتفل في روما الاتحاد الكاثوليكي الدولي للصحافة بمرور 75 عاماً على
تأسيسه، وقد التقى يوحنا بولس الثالث الأعضاء المشاركين، وألقى كلمة للمناسبة
قال فيها: (إن سمات الصحفي الكاثوليكي وأسلوبه في الحياة يجب أن يعكس رسالة
السيد المسيح وتعاليمه؛ مما يستوجب بحثه الدائم للوصول إلى الأهداف) .
كان الاتحاد الكاثوليكي للصحافة قد أقر في أبريل الماضي عضوية منطقة
الشرق الأوسط (الإسلامية) أحد الأقاليم التي يعمل بها الاتحاد، وتجري المساعي
لفتح مكتب له في المنطقة لم يتحدد موقعه بعد.
[حامل الرسالة، النشرة رقم: (2294) ]
الكاثوليك في الصين الشيوعية
هناك 100 ألف معمَّد سنوياً ينضمون إلى الكاثوليكية في الصين، وقد زاد
عدد كاثوليكي الصين من 3 ملايين عام 1949م، إلى 12 مليوناً عام 2002م،
لكنهم يحتاجون إلى مزيد من الثراء الروحي والنمو.
[حامل الرسالة، نشرة: (2295) ]
مختارات عبرية:
كتّاب (إسرائيل) يرصدون ملامح الحرب الأمريكية
وتداعياتها على المنطقة
تتعدد اهتمامات وتحليلات وسائل الإعلام في (إسرائيل) حول الحرب
الأمريكية - البريطانية على العراق، فقد تناول كتاب (الرأي والأعمدة في الدولة
العبرية) هذه الحرب بوجهات نظر متباينة تتمحور حول نقطتين أساسيتين هما:
- أن الحرب الأمريكية على العراق حرب إسرائيلية بحتة تهدف لخدمة
المصالح اليهودية.
- أن (إسرائيل) ليس لها علاقة نهائية بهذه الحرب.
ومن خلال رصد هذه التحليلات والتعليقات يمكننا رؤية جانب مهم جداً في
هذه الحرب، وأحد أهم الأسباب القوية والخفية لإشعال هذه الحرب، وهو الجانب
الصهيوني.
وحقيقة الأمر أن غالبية الآراء الإسرائيلية تؤكد أن الحرب لن تكون «نزهة»
للأمريكان كما حدث في أفغانستان؛ للاختلاف الواضح بين طبيعة كلا البلدين
المسلمين، واختلاف الاستعدادات العسكرية التي تميل إلى العراق؛ رغم أنها
بالتأكيد لا تصل إلى حجم الاستعدادات الأمريكية البريطانية مجتمعة.
رهان إسرائيلى
تحت عنوان: (إسرائيل تراهن على أوضاع جديدة فى المنطقة) ، ذكرت
صحيفة هاآرتس في عدد 20 مارس أن الحكومة الإسرائيلية الحالية بزعامة أرئيل
شارون تراهن بقوة على تغيير الوضع اللوجيستي والحدودي لعدة مناطق في الشرق
الأوسط، وأهمها العراق التي تشكل خطراً كبيراً على المصالح الأمريكية
والأوروبية في المنطقة، كما أنها تشكل خطراً مضاعفاً على الوجود العبرى ما بقي
أمثال الرئيس العراقي صدام حسين على رأس النظام الحاكم.
من جهة أخرى؛ أفاد تحقيق الصحيفة الإسرائيلية حول الحرب على العراق
بأن أي حرب تؤدي إلى تغيير في الأوضاع الإقليمية والحدودية، مشيرة إلى أن
إسرائيل ستكون الكاسب الأكبر وفقاً لأقوال مصادر في المخابرات الإسرائيلية.
إخفاق أمريكى دبلوماسي
رصد الكاتب السياسي لصحيفة هاآرتس يوئيل ماركوس الحرب من الناحية
الدبلوماسية، بالتأكيد على أن البيت الأبيض أخفق إخفاقاً ذريعاً على المستوى
الدبلوماسي، وأن الاستعدادات الناقصة للحرب الدبلوماسية هي التي أدت إلى
غضبة الشعوب حتى في الولايات المتحدة نفسها. وقال «أكبر علامات هذا
الإخفاق هو استجابة الرئيس العراقي العلنية لكل القرارات من السماح للمفتشين
بالتفتيش، إلى تدمير صواريخ الصمود، إلى إعلان رغبته في حل الأزمة
السلمية» ، مؤكداً أن صدام كان يستنفد حجج واشنطن لكسب التأييد العالمي؛
حتى لو قصف الجنود الأمريكيين والبريطانيين بالأسلحة الكيماوية.
واعترف ماركوس بأن واشنطن لم تقدم أي دليل دامغ على امتلاك العراق
لأسلحة نووية أو كيماوية ... إلخ لكنه نفى أن تكون هذه الحرب في مصلحة
(إسرائيل) ، مشيراً إلى أن الرئيس الأمريكى جورج بوش لم يهتم من الأساس بحل
النزاع الإسرائيلى الفلسطيني منذ توليه الحكم في البيت الأبيض. وأنهى مقاله
بالقول إنه يجب على (إسرائيل) دعم واشنطن في هذه الحرب رغم أنها حرب في
مصلحة أمريكا فقط وليس (إسرائيل) على حد زعمه مشدداً على أن واشنطن دائماً
هي الحليف والسند لإسرائيل؛ لذا يجب دعمها في كل الأحوال.
صعوبة الانتصار
على الرغم من اقتناع الإسرائيليين غير المعتاد بالقوة العسكرية للولايات
المتحدة الأمريكية؛ فإن غالبية كتاب الرأي في (إسرائيل) يرون أن الحرب
ستواجه من قبل العراقيين بالشراسة وبمنتهى القوة.
ويتزعم هذا الاتجاه زئيف شيف المحلل العسكري لهاآرتس، فيقول في مقاله
«عدد 21-3» : «لا أتوقع أن تحقق الولايات المتحدة هدفها في العراق بسهولة
كما يتخيل البعض؛ سواء في أمريكا أو بريطانيا أو في (إسرائيل) ، فالتفوق
التكنولوجي الأمريكي ربما يعطي مؤشراً لتقليل أمد الحرب، لكنه ليس كل شيء
لتحقيق الانتصار النهائي والشامل، فطبيعة البيئة والبشر في العراق مختلفة عما
واجهته واشنطن من قبل في حروبها السابقة» .
على كل الأحوال، فعن متابعة الشأن الإسرائيلي ربما تسهل لنا معرفة الكثير
من أسرار القرارات التي تتخذها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، خاصة الإدارة
الحالية.. إدارة الصقور التي يتزعمها المنتمي معظم أعضائها إلى طائفة
«الميسودست» الدينية ذات الارتباط الوثيق بالتعاليم التوراتية الهادفة إلى
عودة المسيح المخلص عن طريق عودة (إسرائيل) الكبرى من النيل للفرات،
ويبدو أن بوش يعمل على تحقيق هذا الهدف لكن من «الفرات إلى النيل» .(186/98)
متابعات
يا ليت رسالة الشيخ الحوالي عامة! [1]
فهد بن محمد بن عبد الرحمن القرشي [*]
لقد قرأت رسالة [2] فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي،
الموجهة إلى أهل اليمن، والتي نشرت في مجلتكم الغرَّاء في عددها (181) في
شهر رمضان المبارك لعام 1423هـ، وهذه الرسالة بحث يُكتب بماء الذهب؛ لا
لأن كاتبها فضيلة الشيخ الدكتور سفر الحوالي، ولكن لما حوت وحملت بين طياتها
من ملامح ذلك المنهج البديع لأهل السنة والجماعة ومعالمه في تعاملهم مع أهل
القبلة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى: أنها جاءت في وقت عصيب أحوج ما
نكون فيه لمراجعة مناهجنا الدعوية، وتعاملنا مع أهل قبلتنا؛ لأن الأمة الإسلامية،
أفراداً وجماعات، شعوباً وحكومات، تمر بمرحلة مخاض، بل بمعركة وجود أو لا
وجود، فهي حرب مصيرية بالنسبة للأمة الإسلامية؛ مما يستدعي منا النظر
الفاحص الصادق في حالنا، وفي دعوتنا، وفي قربنا أو بعدنا عن منهج أهل السنة
والجماعة بعامة، وفي التعامل مع أهل القبلة بخاصة.
1 - إن جهل ثلة من شباب الصحوة الإسلامية المباركة بذلك المنهج القويم
سبَّبَ له ضيقاً في أُفُقه، وَعطَناً في فكره، فضلاً عن تلك الأزمة التي يعيشها بعضٌ
منَّا في قَصْر حديثهم على النخبة فقط [3] ؛ متغافلين عن سلبية هذا الأمر الذي
يجعلنا نفرِّط في شريحة كبيرة من المسلمين؛ غير مبالين بما لديهم من طاقات
وإمكانات قد تفوق في بعض الأحيان ما عند النخبة، وما خبر أبي محجن عنا ببعيد.
وثمة أمر آخر مهم: هو توجيه الدعوة لتعم جميع شرائح المجتمع؛ لأن
مقصدنا هو تعبيد الناس لربِّ الناس.
والفهم الصحيح لمنهج أهل السنة والجماعة في تعاملهم مع أهل القبلة يجعلنا
نستفيد من كل الطاقات والإمكانات، كما يجعلنا نسير في خطوط متوازية يكمل
بعضنا بعضاً، ويعين بعضنا بعضاً، ويجبر بعضنا كسر بعض، رحماء بيننا، لا
أن نسير في خطوط متقاطعة يهدم بعضنا بناء بعض، ويأكل بعضنا لحوم بعض،
ويفرح بعضنا بخطأ بعض، ويسفِّه بعضنا رأي بعض، كما هو الحال!
2 - قال الشيخ - حفظه الله -: «إن سبيل السنة والاتباع، كما هو أهدى
سبيل وأقومها هو كذلك أوسعها وأرحمها، وقد وسع السابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار ومسلمي الأعراب ... » إلخ.
فمن الواجب علينا جميعاً أن يسعنا هذا المنهج الذي وسع سلفنا الأخيار من
المهاجرين والأنصار ومسلمي الأعراب، على ما بينهم من تفاوت في الإيمان،
والعمل، والعلم، وغير ذلك من منازل السائرين إلى رب العالمين، فأحسن
محسنُهم إلى مسيئهم، وصبر حليمهُم على جاهلهم، وصحح مصيبهُم لمخطئهم،
وهم مع كل ذلك بل أشد منه كما حصل بينهم رضي الله تعالى عنهم جميعاً من قتال
إخوة متحابون متآلفون، فلا بد إذن أن يسعنا ما وسعهم.
والناظر إلى شباب الصحوة المباركة اليوم يرى بعضهم يعيش في عزلة عن
ذلك المنهج، وسبب ذلك فهمه غير الصحيح لبعض معاني الشريعة الإسلامية،
وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يكون بسبب طبيعته التي جُبل
عليها من الشدة والغلظة في غير محلها، أو يكون بسبب الغلو، سواء كان في
التدين أو في الإنكار، حتى إنك ترى غضب بعضهم إذا رأى رجلاً مدخناً أو مرتكباً
لمعصية ما كغضبه لمن وقع في ناقض من نواقض الإسلام سواء بسواء!!
وقد يرجع ذلك إلى ضيق الأفق عند بعضهم، وهو ما يجعله ينفر من مجالسة
كل من يخالفه، ولو كان خلافه معه في حركة الأصبع في التشهد، أو النزول في
السجود: هل هو على الركبتين أو اليدين [4] ؟ ونحو ذلك من المسائل التي لا
ينتهي فيها الخلاف إلا إذا أطبق الجهل، وأناخ بكلكله، وضرب بجرانه في عقول
المسلمين، فأين مثل هؤلاء من سير سلفنا الصالح الذين وقع بينهم الخلاف في
مسائل تتعلق بأركان الإسلام، كاختلافهم في الوضوء من لحم الإبل مثلاً؛ فمن
أوجبه أبطل صلاة من لم يتوضأ منه، أو كان ذلك الخلاف متعلقاً بالأعراض؛
كاختلافهم في معنى (القرء) المذكور في قوله تعالى: [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء] (البقرة: 228) ، وهم مع ذلك متحابون، يحب بعضهم
بعضاً، ويجل بعضهم بعضاً؟!
3 - قال الشيخ - سلَّمه الله -: «وهم لا يهدرون الأحكام الثابتة والأصول
الكلية لأجل الأحكام العارضة والوقائع العينية» .
وهذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير كما تقول العرب؛ إذ إنك ترى ثلة
من شباب الصحوة المباركة بدلاً من أن يجعل الأصول والمحكمات المتفق عليها
التي عبر عنها شيخ الإسلام بـ (الدين المشترك بين الأنبياء) [5] أصلاً تقوم الأمة
عليه في ولائها وبرائها، وفي حبها وبغضها؛ جعل بدلاً من ذلك تلك المسائل
الجزئية، أو قل المسائل التي يسعنا فيها ما وسع سلفنا من قبل، فأصبحت هي
الميزان في قرب الأشخاص منه أو بعدهم عنه، ولذا فمن الطبيعي بعد ذلك أن
يحدث إهدار أحكام ثابتة وأصول كلية لأجل تلك العوارض، فبمجرد ما تختلف مع
أحد منهم في مسألة ما إلا ضرب بحرمة دمك ومالك وعرضك عرض الحائط! وقد
يجعل حكماً عارضاً يتغير بتغير الزمان والأشخاص أصلاً مستقراً لا يقبل التغيير
والتبديل أبد الآبدين، ويستخدمه مع كل أحد.
4 - قال الشيخ - وفقه الله -: «وهم أقوياء في الحق من غير غلو،
رحماء بالخلق من غير تهاون» .
والذي نراه من بعض أولئك وفقنا الله تعالى وإياهم لأحسن الأخلاق والأعمال
والأقوال القوة في الحق، وهذا مما يُحمد عليه، ولكنه في المقابل يتمتع بغلظة
وجفاء وقوة مع الخلق، سواء كان ذلك في دعوته أو أمره ونهيه؛ مما قد يكون سبباً
وليس مسوِّغاً في رفض بعض الخلق للحق، فما أن يقع أحدهم في جرم أو خطيئة
إلا شتمه بأقذع العبارات، وعنَّفه أيما تعنيف، فضلاً عن هجره لمدة غير معلومة!!
[6] مستبعداً وجود إيمان في قلب ذلك الرجل صاحب الخطيئة أو المعصية؛ لأن
عقله لا يحتمل وجود شخصٍ ما يقع في كبيرة من كبائر الذنوب كشرب الخمر مثلاً،
وهو ممن يحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يشهد له النبي
صلى الله عليه وسلم بذلك لما صدق! بل ما هو أشد من ذلك كما ذكر صحاب
الرسالة فضيلة الشيخ أنه قد يجتمع في الشخص الواحد والطائفة الحرص الشديد
على السنة؛ مع الوقوع الصريح في البدعة، وما الخوارج عنا ببعيد.
5 - قال الشيخ - حفظه الله -: «وهم يوفون الكيل والميزان بالقسط، ولا
يبخسون الناس أشياءهم» .
وهذه دونها خرط القتاد إلا على من وفقه الله تعالى ويسره لذلك؛ لأن إيفاء
الكيل والميزان بالقسط، وعدم بخس الناس حقوقهم، وخاصة إذا كانوا من
المخالفين لك فيما يسوغ فيه الخلاف؛ لا يستطيع ذلك إلا أفذاذ الرجال، وهم قلائل،
ومما زاد الطين بلة؛ أن معيار العدل والإنصاف، وعدم بخس الناس أشياءهم
عند الكثير إلا من رحم ربي قائم على التجاذب الشخصي، والمحبة لذلك الشخص،
أو مدى طاعته له، فمثل هذا من المقربين ولو كان من المفرِّطين، وهو طالب
العلم ولو كانت بضاعته فيه مزجاة، وهو من الشجعان القلائل وإن كان يخاف من
ظله، وهو من العباقرة الأذكياء وإن كان من البلداء، أما الطرف الآخر؛ فهو
مهضوم الحق وإن كان من المبرزين المشهود لهم بالعلم والعقل والفضل، وأخطاؤه
طوام، وزلاته لا تغفر وإن كانت ما دون الشرك، وآراؤه شاذة وإن كانت صواباً،
وعلمه ممزوج وإن كان حافظاً، وغير ذلك مما يطول الحديث فيه. وصدق الشاعر
عندما قال:
... وعين الرضا عن كل عيب كليلة ...
... ... ... ... ... ولكن عين السخط تُبدي المساويا ...
أما بالنسبة لاختيار أيسر الأمرين، وارتكاب أخف الضررين؛ فهذا ما لا
يعرفه بعضهم؛ بحجة أنه يجب حمل الأمة على الأفضل، ولا تعارض بين
الأمرين، ولكنه افترض التعارض، فهذا سيد ولد آدم أجمعين صلى الله عليه وسلم
الذي لا يشك أحد في بلوغه أعلى المراتب والدرجات ما خُير بين أمرين إلا اختار
أيسرهما ما لم يكن إثماً [7] ، وهذا ما تعلمه أصحابه رضي الله تعالى عنهم منه
صلى الله عليه وسلم، رجالاً ونساءً، فقد روى البخاري في صحيحه عن الأزرق
بن قيس قال: «كنا بالأهواز [8] نُقاتل الحرورية [9] فبينا أنا على جُرُف نهر [10]
إذا رجل يُصلي [11] ، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تُنازعه، وجعل يتبعها
قال شعبة: هو أبو بَرزة الأسلمي فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا
الشيخ. فلما انصرف الشيخ قال: إني سمعتُ قولكم، وإني غزوت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ست غزوات أو سبع غزوات وثمانياً، وشهدت تيسيرَهُ، وإني
إن كنت أن أُراجع مع دابتي أحب إليَّ من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق عليَّ»
[12] .
وهذه ابنة زيد بن ثابت رضي الله عنها وعن أبيها كانت تعيب على بعض
النساء ما يفعلنه من أنهن كن يَدْعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر،
وكانت تقول: «ما كن النساء يصنعن هذا» [13] . والأمثلة في هذا الباب كثيرة
جداً.
6 - قال الشيخ - حفظه الله -: «ومن حكمتهم في الدعوة: أن يظهروا
محاسن الأئمة المتبوعين» .
وهذا أدبٌ جم وخُلُق رفيع، وهو مما يساعد على وحدة الكلمة والصف، وما
وقع فيه أولئك الأئمة من خطأ يُبين ويُكشف بالأسلوب الحسن بعيداً عن الأشخاص
وتجريحهم، مع المحافظة على فضل الأكابر؛ لأن المقصود رد القول الخطأ دون
النيل من قائله، أما عندما تنعكف الصحوة المباركة على نفسها، وتبدأ القدح في
رموزها وعلمائها؛ فهذا بداية سقوطها وانهيارها، وإن تعجب فعجب من ذلك التغير
الذي يصيب بعض الناس فينتقل من طرف المحبة بل والغلو في بعض الأحيان إلى
الطرف الآخر وهو البغض، والأدهى من ذلك والأمرُّ أن تأتيك هذه الانتقادات
الجارحة، والتي يضع قائلها نفسه في موضع أئمة الجرح والتعديل، تأتيك ممن
ليس تخصصه تخصصاً شرعياً، بل من أناس ليسوا من أهل العلم ولا هم من
طلابه، ومع ذلك يُقدم على مثل ذلك ولكأنه إلا شيخ الإسلام.
7 - قال الشيخ: «هم أكثر الناس ازدراءً للنفس في ذات الله، وأبعدهم عن
ادعاء الكمال» .
أقول: إن السلف رضي الله عنهم جمعوا بين أمرين:
الأول: الخوف من مكر الله تعالى مع كثرة أعمالهم.
الثاني: خوفهم من عدم قبول أعمالهم؛ لأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين.
ومن جاء بعدهم من الخلف (أي بعد القرون المفضلة) إلا من رحمه الله
جمعوا بين أمرين؛ هما:
الأول: الأمن من مكر الله تعالى مع قله العمل.
والآخر: ظنهم بأن أعمالهم جميعها متقبلة منهم!
وهذان مرضان خطيران يُفسدان على الشخص دينه ودنياه؛ أما بالنسبة لإفساد
دينه فظاهر، وأما بالنسبة لإفساد ذلك دنياه؛ فلما يدخل عليه بسببه من العجب،
والغرور، والتعالي على الخلق، وظنه أنه هو الذي على الصواب والحق، وغيره
ليس على شيء، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة التي يمقته عليها الخالق سبحانه
وتعالى قبل المخلوق.
وأخيراً أقول: هذا ما أسعفني به قلمي؛ فإن أصبت فمن الله وحده لا شريك
له، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأنا راجع إن شاء الله تعالى عن أي خطأ
وقعت فيه، فالمعصوم من عصمه الله تعالى، فمن كانت له ملاحظة أو تصحيح
فليُهدها إليَّ، وله مني دعوة صالحة بظهر الغيب.
ولا تزال هذه الرسالة القيمة تحتاج إلى شرح مفصل مع ذكر بعض الأمثلة؛
إذ بالمثال يتضح المقال، وخير قلم لذلك قلم كاتبها.
__________
(*) الدراسات العليا، مرحلة الماجستير، قسم العقيدة، جامعة أم القرى.
(1) سبب اختياري لهذا العنوان: هو رسالة فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، والتي وجهها إلى إخواننا في اليمن، وكم تمنيت أن تكون هذه الرسالة للمسلمين بعامة، ولشباب الصحوة بخاصة؛ لأننا أحوج ما نكون إلى معرفة منهج أهل السنة والجماعة في تعاملهم مع أهل القبلة.
(2) أثناء قراءتي لهذه الرسالة القيِّمة هجمت على نفسي خواطر لم أستطع دفعها، فغلبتني حتى كتبتها.
(3) لا يفهم أحد من هذا أن نُهمل محاضن التربية القائمة على الحديث مع النخبة والصفوة، ولكن المقصود عدم إهمال تلك الشريحة الكبيرة من المجتمع بسبب الانشغال المفرط مع النخبة! وقد سبَّب هذا الانشغال بالنخبة عند بعض الناس نفوره عن غير الملتزمين، وأصبح المجتمع في نظره مقسم إلى قسمين: ملتزمين، ومنحرفين أو مقصرين، والصنف الثاني عنده لا عمل لهم، ولا ينبغي لهم أن يعملوا لهذا للدين أو أن يُخاطبوا بذلك، أما بالنسبة لاختصاص قوم بحديث دون غيرهم؛ فهو أمر لا إشكال فيه، وقد بوَّب الإمام البخاري في صحيحه (باب: مَنْ خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا) / الفتح (1/ 272) / ثم ذكر حديث معاذ المشهور.
(4) قال شيخ الإسلام: (ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف؛ ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيثارها، ونحو ذلك) ، اقتضاء الصراط المستقيم: (1 / 133) .
(5) أنتهز هذه الفرصة لأذكر إخواني بكتاب قيم لفضيلة شيخي وأستاذي الشيخ الدكتور عابد بن محمد السفياني، بعنوان: المحكمات وأثرها في بناء المجتمع.
(6) هناك قاعدة نبوية شرعية لتغيير المنكرات، ولكن لعجلة بعضنا، وشدة حنقه، وثالثة الأثافي قلة علمه؛ تجعله يتعدى ويغفل عن هذه القاعدة العظيمة ليقع فيما هو أعظم من المنكر الذي يريد تغييره، وهو الافتئات على الشارع بوضع بعض الأحكام الشرعية في غير مراتبها، كوضع المباح مثلاً في مرتبة المحرم، أو جعل المستحب في مرتبة الواجب ونحو ذلك، وإليك القاعدة النبوية في التعامل مع المنكرات، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه، عن خالد بن ذكوان قال: (قالت الربيع بنت معوذ بن عفراء: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمحلك مني، فجعلت جويريات يضربن بالدف ويندبن من قُتل من آبائي يوم بدر؛ إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين) ، حديث 5147 (9 / 109، 110) ، فتأمل كيف قبل النبي صلى الله عليه وسلم المشروع من إباحة ضرب الدف ونحوه، ورد الممنوع والمنكر العظيم الذي يتعلق بجناب التوحيد، وهو قول الجارية: (وفينا نبي يعلم ما في غد) ؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله عز في علاه.
(7) لا أقصد بهذا فقه بعض المعاصرين المعروف بفقه التيسير، والذي هو في الحقيقة فقه التسيب؛ لأن غايته الالتفاف على النصوص الشرعية، وليّ أعناقها وتفريغها من مضمونها ودلائلها، متجاوزين بذلك ما انعقد من إجماعات للسلف بزعم وحجة التيسير.
(8) الأهواز: مقاطعة تقع شرقي البصرة، بينها وبين إيران.
(9) الحرورية: هم الخوارج، نُسبوا إلى حروراء، قرية بظاهر الكوفة.
(10) الجرف: المكان الذي أكله السيل أو النهر.
(11) ورد في بعض طرق الحديث: أنه كان يصلي العصر، كما ذكر ذلك ابن حجر، انظر: الفتح: (3 / 100) .
(12) حديث 1211 (3 / 79، 98) .
(13) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، رقم 164 (1/ 65) ، والبخاري تعليقاً، في كتاب: الحيض، تحت باب: إقبال المحيض وإدباره، الفتح: (1 / 120) .(186/104)
الورقة الأخيرة
فضيلة الشيخ (سكوتي) وبيان الأزهر الإرهابي!
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
في سابقة غير مسبوقة وإن كانت غير مستغربة هددت أوساط سياسية رسمية
أمريكية بإدراج الأزهر ضمن ما تسميه بالمؤسسات الإرهابية؛ ففي التقرير الذي
أعده «ريتشارد سكوتي» وهو أحد مستشاري الخارجية الأمريكية والذي نشرت
بعض الصحف المصرية مقتطفات منه شن حملة شعواء على الأزهر؛ معتبراً
«أن دور الأزهر الديني في العالم الإسلامي قد يتحول إلى قاطرة للعمليات
الإرهابية ضد القوات الأمريكية في منطقة الخليج، وخاصة أن الإرهاب الفكري
للأزهر معروف منذ قرون عدة» ، وأضاف «سكوتي» : أنه راجع بنفسه
العديد من فقهاء الأزهر طوال السنوات الماضية، وأن الأزهر باستمرار منظمة
ذات طابع محافظ، تصدر البيانات أو ما يطلق عليه المسلمون (الفتاوى) ذات الأثر
المحافظ الذي لا يشجع القيام بأعمال تخل بالسلام أو الاستقرار.
وقال: إن الإدارة الأمريكية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تتدخل
بصورة حاسمة وقاطعة لدى الحكومة المصرية؛ حتى يصدر الأزهر بياناً آخر
يعتذر فيه عن هذا البيان الإرهابي، وإلا فإن الأزهر يجب أن يكون على قائمة
المؤسسات الإرهابية التي تجب محاربتها!!
بقي أن يعرف القارئ قبل أن نذكر المفارقات في تقرير مستشار الخارجية
الأمريكية شيئاً عن بيان الأزهر الذي أثار حفيظة الخارجية الأمريكية؛ مما حدا بها
لمطالبة الإدارة الأمريكية بممارسة ضغوط على الحكومة المصرية، ومما حمل
مسؤولين بالسفارتين الأمريكية والبريطانية في القاهرة على إجراء اتصالات بالشيخ
سيد أبو الوفا عجُّور الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، والذي أصدر البيان
الأزهري (الإرهابي) لحمله على التراجع عن البيان، ولكن الشيخ رفض ذلك
رفضاً قاطعاً، وقال لمسؤولة ملف الشرق الأوسط بالسفارة الأمريكية: «تراجعوا
أنتم عن قرار الغزو؛ نتراجع نحن عن البيان» ، وسألها ساخراً عما إذا كانت
تعرف ساعة الصفر لبدء الغزو؛ حتى يقوم المسلمون بالاستعداد لهم!
وأكد الشيخ أبو الوفا أن البيان صادر بإجماع علماء المجمع، وأنه لا يمكنه
التراجع عنه، وأنه يفخر أن يختم حياته العملية قبل إحالته إلى التقاعد بالتوقيع على
هذا البيان.
الفقرة التي أثارت الإدارة الأمريكية في بيان الأزهر جاء فيها: «.. وفي
ضوء ما سبق يعتقد الجميع أن العدوان على العراق واقع لا محالة، وهنا وبمنطق
وشريعة الإسلام؛ أنه إذا نزل العدو في أرض المسلمين يُصبح الجهاد فرض عين
على كل مسلم ومسلمة؛ لأن أمتنا العربية والمسلمة ستكون أمام غزوة صليبية جديدة
تستهدف الأرض، والعرض، والعقيدة، والوطن. وبناءً عليه؛ فإن مجمع
البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف يدعو العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم أن
يكونوا على استعداد للدفاع عن أنفسهم وعن عقيدتهم، وأن يعتصموا بحبل الله
جميعاً ولا يتفرقوا، ويكونوا فوق ما يحيطهم من خلافات حتى يقضي الله أمراً كان
مفعولاً. ويدعو المجمع جميع العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم ألا يهنوا وألا
يضعفوا أمام هذا العدوان؛ لأن الحق تبارك وتعالى متكفل بنصرة دينه وإظهاره
على الدين كله» .
محتوى هذه الفقرة لم يكن جديداً على مسامع الإدارة الأمريكية، فقد تعددت
أصوات علماء سابقين ولاحقين تنادي بمضمون هذه العبارات، ولكن ما أقلق هذه
الإدارة اعتبارات أخرى خارج مضمون الكلام نفسه وإن كان الكلام قوياً وصريحاً
ومهماً: فقد أقلقها أن يصدر هذا الكلام عن أعلى هيئة علمية في أعلى مؤسسة دينية
رسمية في العالم الإسلامي، وحسب تعبير «ريتشارد سكوتي» : «إن بيان
الأزهر يجب أن نقابله بجدية بالغة؛ لأنه صدر عن مؤسسة دينية كبرى في العالم
الإسلامي ولها تاريخها، بل إن البعض يعتبر أن هذه المؤسسة تعادل وضع
الفاتيكان في أوروبا» ، فصدور هذا البيان من الأزهر يعني شيوع مضمونه بين
قطاعات كبيرة من عوام المسلمين في سائر أنحاء العالم الإسلامي الذين ليس لهم
ارتباطات بفصائل العمل الإسلامي السياسي والجهادي، وهذا يعني عملياً إمكانية
ضم قطاعات من هؤلاء العوام إلى خندق العداء والمواجهة العملية مع أمريكا وقوات
التحالف في المنطقة؛ تحت غطاء مشروعية دينية يطمئن إليها هؤلاء العوام..
وهذا ما أشار إليه «سكوتي» بقوله: «إن دور الأزهر الديني في العالم
الإسلامي قد يتحول إلى قاطرة للعمليات الإرهابية ضد القوات الأمريكية في منطقة
الخليج» . وأقلقها أيضاً أن يصدر هذا الكلام عن هيئة مشهود لها من جميع
الأطراف بما فيها أمريكا نفسها بالاعتدال والبعد عن اتهامات التطرف والإرهاب،
فالرئيس بوش كان قد استشهد في الخطاب الذي ألقاه صباح السبت في الجمعية
العامة للأمم المتحدة في دورتها السادسة والخمسين عقب أحداث سبتمبر بإعلان
«شيخ الأزهر، أقدم جامعة إسلامية في العالم، أن الإرهاب داء، وأن الإسلام
يحرّم قتل المدنيين الأبرياء» .
ومجمع البحوث الذي أصدر هذا البيان هو نفسه الذي قررت لجنة العقيدة
والفلسفة فيه منذ قليل العدول عن عقوبة قتل المرتد بعد استتابته ثلاثة أيام، وفتح
الباب لتوبته طوال حياته؛ مما أثار كثيراً من العلماء الآخرين.. وهو أيضاً الذي
أصدر منذ وقت قريب فتوى إباحة الفوائد البنكية محددة القيمة مسبقاً، وهو أمر أثار
كذلك كثيراً من العلماء الآخرين حتى داخل الأزهر نفسه.
فصدور هذا البيان من هيئة علمية هذا حالها من (الاعتدال) ؛ يعني أن
محتوى هذا البيان يمثل حداً أدنى في الإسلام لا يمكن التنازل عنه أو المساومة عليه،
وهذا يعطي قوة ذاتية لمضمون هذا الكلام.
وصدور هذا الكلام من هيئة علمية رسمية يضفي نوعاً من المصداقية
والمرجعية لدى العامة على (المفتين المارقين) الذين كان ينظر إليهم بعض
العامة سابقاً بعين الشك والاستخفاف بقدراتهم العلمية، أما بعد أن تطابقت فتاواهم
(المتحمسة) مع بيانات الهيئات الرزينة الراسخة و (المعتدلة) ؛ فهذا يعني أنهم
يصدرون عن أصول علمية وليس عن أهواء نفسية.
وإضافة إلى كون هذا البيان الصادر من مؤسسة دينية علمية رسمية يحرج
المؤسسات السياسية الرسمية ويضعها في مأزق أمام شعوبها؛ فإنه يفضح ويعري
أعضاء حزب (الشياطين الخرس) الذين كانوا يستترون وراء جدار الصمت
المطبق، أما وقد تحطم هذا الجدار؛ فإنهم باتوا مكشوفين أمام أنفسهم وضمائرهم
أولاً، ثم أمام متبوعيهم الذين كانوا ينتظرون منهم كلمة صدق وحق يبتغون بها وجه
الله؛ في مرحلة مصيرية وأحداث حاسمة في حياة الأمة.
تقرير «ريتشارد سكوتي» يحمل بوضوح صفاقة معتادة، وصلفاً يناسب
الغطرسة الأمريكية الشائعة الآن في الخطاب السياسي للإدارة الحالية، وهو يعد
تدخلاً، ليس في شؤون دولة أخرى فحسب، بل في شؤون ديانة عالمية ينتسب
إليها أكثر من ربع تعداد البشرية، وفوق أنه يهدر ادعاءات حرية الرأي؛ فإنه
يُظهر الرغبة الدائمة لدى الغرب وأذيالهم من العلمانيين المحليين في إقصاء الدين
عن ساحة التوجيه والتأثير إذا كان ذلك لغير صالح سياساتهم، مع قبول تدخل الدين
سياسياً عندما يمكن استخدامه وتطويعه لصالح مخططاتهم وسياساتهم، وهذا ما
يكشفه حرصهم السابق على الاستشهاد بفتاوى علماء الإسلام لمواجهة الاتجاهات
الجهادية المعادية لأمريكا سابقاً، ثم هجومهم الحاد على هذا البيان ومصدريه.
ورغم كون البيان لا يعدو في حقيقته أكثر من تقرير حق مشروع لأي أمة في
مواجهة عدو محتل غاصب يعتدي على بلد لم يناله منه أذى أو تهديد، ويستهدف
منهج حياة شعوب وثروات بلدان المنطقة بأسرها، والتمكين للصهيونية والأصولية
النصرانية، وهو عدوان يظهر بوضوح لكل ذي عينين محايد حتى لو كان فرنسياً
أو ألمانياً أو صينياً ... إلا أن الخارجية الأمريكية رأت فيه تحريضاً على الإرهاب
يستدعي تحريك السفارات، والضغط على الحكومات، وممارسة كل أشكال
الإرهاب السياسي.
ولكن الذي فات مستشار الخارجية الأمريكية أن مبدأ الولاء والبراء الذي
يستند إليه من غير تصريح بيان مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف لم
يخترعه ويبتدعه هذا المجمع، ولا الدعوة (الوهابية) المتهمة أيضاً سراً وجهراً
بتهم التطرف والإرهاب، بل لم يبتدعه ويخترعه حتى الإسلام نفسه، فكل أمة
وكل عقيدة تعرف هذا المبدأ وتطبقه، حتى أمريكا نفسها التي يشيع فيها الآن (من
ليس معنا فهو ضدنا) ؛ إلى حد اتهام بعض فناني هوليود المعارضين لغزو العراق
بعدم الولاء، ووصمهم بانعدام الوطنية، إضافة إلى دعوات مقاطعة أفلامهم
وأشرطتهم الموسيقية الرائجة في البرامج الحوارية الإذاعية، وفي منتديات الحوار
عبر الإنترنت.. لم تكن أمة الإسلام بدعاً في تطبيق ذلك المبدأ، ولكن الإسلام الذي
ينظم حياة هذه الأمة جعل محور الولاء والبراء على التوحيد والإيمان، وليس على
العشيرة أو القبيلة أو العرق أو الأرض أو المصالح أو الفكر الوضعي.. أو غيرها
من الروابط التي يتجمع عليها البشر والأنعام.. وهذا هو سر قوة الإسلام التي
يرون أثرها من جاكرتا إلى طنجة، وهذا ما يخشون اشتعاله بهذا البيان أو بغيره..
لذا لزم التهديد ولزم الوعيد.. ولكن خفي عليهم أن الله غالب على أمره، ولكن
أكثر الناس لا يعلمون.(186/108)
ربيع الأول - 1424هـ
مايو - 2003م
(السنة: 18)(187/)
كلمة صغيرة
لنكن على مستوى الحدث!
وعدنا قراءنا في العدد الماضي أن نصدر عدداً إضافياً في منتصف صفر
لمتابعة وتحليل الأحداث الجارية في العراق، ولكن في اللحظات الأخيرة حصل
تطور نوعي في ميدان المعركة، عكس ما كان يتوقعه كثير من المتابعين والمحللين،
فرأينا أن نلغي العدد الإضافي متأسفين كثيراً لقرائنا، من أجل أن نقدم لهم في
عددنا هذا رؤية تحليلية جديدة تتجاوب مع المستجدات، وتتناسب مع خطورة
المرحلة القادمة التي تنتظرها المنطقة، ونحسب أن قراءنا أهل لإحسان الظن
والتماس العذر.
ويحسن بنا هنا أن نشير إلى أن بعض قرائنا عتب علينا تركيزنا في الأشهر
الماضية على الزاوية السياسية، مما أثر نسبياً على المادة الشرعية والدعوية
والتربوية، ونحن نقدر ذلك كثيراً، ونحرص على التوازن في موضوعات المجلة
وأبوابها، لكننا في الوقت نفسه لا نريد أن نكون خارج إطار النوازل التي تعصف
بالأمة، وليس من العقل بل ولا من الشرع أن نتحدث في واد والأمة تعيش في واد
آخر، خاصة في هذا العصر الذي انفتح فيه فضاؤنا الإعلامي لكل دخيل، وسيطر
فيه العلمانيون على زمام الأمور، وراحوا يعبثون في قضايا الأمة ومصالحها..!
وفقه المرحلة يقتضي إحياء الوعي في صفوف الأمة، وكشف زيف الباطل،
وبيان سبيل المجرمين، كما أن الواجب يقتضي أن تستنفر كل الطاقات،
وتستنهض كل الهمم لنصرة الدين، والذبِّ عن حياض المسلمين، وعلى العلماء
والدعاة والمصلحين أن يكونوا على مستوى المسؤولية.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا
اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه..(187/3)
الافتتاحية
حرب «تحرير» العراق
قراءة جديدة في أقوال قديمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
ومن والاه، وبعد: فإن طبائع الأمور تقضي في الغالب بأن تُطلق الأقوال لتشرح
الأحداث والأفعال، أما أن تتولى الأحداث والأفعال شرح الأقوال التي مرت عليها
أجيال وأجيال؛ فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن تلك الأقوال لم تكن
عابرة، بل هي معبِّرة عن إصرار وعناد لدى قائليها كي يحولوها إلى واقع وحقيقة.
يصدق هذا بشكل كبير على ما جرى في العراق، فالعراق كان يشغل حيزاً
كبيراً في اهتمامات أعداء الأمة ومخططاتهم ومؤامراتهم؛ انطلاقاً من تحريفات
أُلبست ثوب الثوابت المحكمة، وتحريفات أُعطيت شَبَه الحقائق المسلَّمة، مع أن
تلك الدعاوى لا يكاد يصدقها عقل صحيح، أو يؤيدها وحي صادق.
ولكن الإشكال هنا أن تلك التحريفات والتخريفات وجدت أعيناً ساهرة على
إحيائها وإخراجها إلى حيز الوجود، ونقلها من أطر الأساطير إلى دنيا الحقائق
والشهود.
قالوا إن العراق لا بد أن ينضم يوماً إلى إرث الأمة الغضبية، لتبدأ من فراته
شرقاًَ حدود الدولة التوراتية المزعومة وعداً لإبراهيم - عليه السلام -، ولتصل
تلك الدولة غرباً إلى حدود نهر النيل في الديار المصرية! ونسبوا إلى الرب جل
وعلا قوله لإبراهيم عليه السلام: (لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى
النهر الكبير نهر الفرات) [سفر التكوين الإصحاح: 15/18] .
وفي تزكية أبدية لهذا (النسل) حَجَرَ هؤلاء على التاريخ أن يحفظ في
دواوينه نقيصة لهؤلاء الذين قالوا: [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ] (المائدة: 18) ،
حتى لو لعنهم الله على ألسنة أنبيائهم كما في قوله عز وجل: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]
(المائدة: 78) ، هذا اللعن الذي تكرر عليهم في كتبهم (المقدسة) أكثر من
تكرار الكلام عن كثير من الأحكام.
إنهم على الرغم من اللعن والطرد من رحمة الله يقولون نحن جديرون بوعد
الله بإرث هذه الأرض التي وعدها الله نسل إبراهيم، ونسوا أن إسماعيل - عليه
السلام - وذريته من نسل إبراهيم - عليه السلام - أيضاً بنصّ توراتهم نفسها، لقد
ظلوا مع هذا يرددون: (لنسلك أعطي هذه الأرض ... ) ؛ منذ عصر التشريد
والتيه إلى عصرنا هذا الذي نعيشه، فبعد عشرات القرون من العجز والذلة
والمسكنة المضروبة على كفار بني إسرائيل؛ جاء هذا العصر الذي تمكنوا فيه
بحبل من النصارى لكي يعيدوا القول ويعودوا للعمل لتحقيق ذلك الوعد المزعوم
للخليل - عليه السلام -، وانطلاقاً من هذه العبارة انطلق مشروع تسلطي رهيب،
ظل ينتقل في محطات التنفيذ بدءاً من فلسطين، حتى وصل الأمر إلى الحال
الراهنة التي استبيحت فيها أرض العراق ضمن مشروع (إسرائيل الكبرى) ؛ لكي
تُسلَّم مفاتيح ثرواته ومقدراته نفطاً وماءً وأرضاً وسماءً إلى العصابة الصهيونية
العالمية والإقليمية.
ما يحدث في هذه الآونة هو شرح عملي لأقوال وتصريحات صدرت طوال
قرن مضى، كان العرب والمسلمون خلالها نائمين أو متناومين؛ في حال انشغال
دائم بأزماتهم الداخلية، وصراعاتهم الحدودية، وشعاراتهم الثورية، مصروفين عن
مواجهة مشروعات الأعداء وخططهم التي لم تكن خفية يوماً.
نريد هنا أن نستعرض ما استعلن به الأعداء قديماً وحديثاً، لا لنتذكر فقط أن
ما حدث للعراق كان أمراً مخططاً سلفاً، ولكن لندرك أن هذا الذي يحدث الآن هو
ضمن خطة أبعد من بغداد والفرات، بل من سيناء والنيل، إنها عندهم تمتد
لتصل إلى جنوب تركيا وشمالي سورية، وحتى مشارف المدينة المنورة.
وإليك أيها القارئ بعضاً من الأقوال القديمة لتقرأها قراءة جديدة في ضوء ما
يحدث، وما يمكن أن يحدث؛ علماً بأن النصارى وبخاصة البروتستانت يعدُّون
أنفسهم من أصحاب ذلك الوعد؛ لأن الأنجلوساكسون كما يدَّعون هم من بقايا
سلالات بني إسرائيل.
- في تفسيره لنص الوعد المزعوم في التوراة؛ قال المؤرخ د. جورج
بوست في كتاب (قاموس الكتاب المقدس) : «الأرض الموعود بها إبراهيم
الموصوفة في كتاب موسى؛ تمتد من جبل هور إلى مدخل حماة، ومن نهر مصر
إلى النهر الكبير نهر الفرات، وأكثر هذه الأراضي كانت تحت سلطة سليمان،
فكان التخم الشمالي حينئذ سورية، والشرقي في الفرات، والجنوبي برية التيه في
سيناء، والغربي البحر المتوسط» .
- في يومياته التي كتبها مؤسس الصهيونية الحديثة؛ قال تيودور هرتزل،
ص 1473: (إن القاعدة يجب أن تكون فلسطين أو بالقرب منها، إن علينا تشييد
البنيان على أساس قوميتنا اليهودية) .. (إن الشعار الذي يجب أن نرفعه: هو
فلسطين داود وسليمان) .. (المساحة.. من نهر مصر إلى نهر الفرات، نريد
فترة انتقالية في ظل مؤسساتنا الخاصة، وحاكماً يهودياً خلال تلك الفترة، بعد
ذلك تنشأ علاقة كالتي تقوم الآن بين مصر والسلطان) .
- وفي رده على لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة؛ وعندما تحدثت
تلك اللجنة عن حدود تختلف عن الحدود التوراتية في زعم اليهود؛ قال الحاخام
اليهودي فيشمان عضو الوكالة اليهودية في الأربعينيات من القرن الماضي:
«الحدود: من مدينة الإسكندرية، محيطة بمنطقة الدلتا غرباً في مصر، ثم
تمتد جنوباً مع مجرى النيل، لتتجه شرقاً في خط مستقيم، قاطعة الجزيرة
العربية، حتى محاذاة مصب نهر الفرات، ثم تصعد الحدود مع مجرى الفرات
حتى حدود تركيا لتصل إلى سوريا، لتقفل الدائرة بعد ذلك بالحدود الشرقية للبحر
المتوسط) .
- في العديد من خطبه وتصريحاته؛ أصر (داود بن جوريون) أول رئيس
وزراء لدولة اليهود على أن يبين أن فلسطين هي المحطة الأولى، أو قاعدة
الانطلاق كما قال سلفه هرتزل، وفي تصريح له عام 1948م بعد إعلان الدولة قال:
» على الشعب اليهودي أن يجمع قواه لتحقيق هذه الخطط، للوصول إلى الهدف
النهائي في بناء الدولة اليهودية التي تضم يهود العالم جميعاً، وتحقق النصوص
الواردة في التوراة «، وقال بن جوريون في تصريح له عام 1953م بعد خمس
سنوات من إعلان الدولة:» إننا لم نحقق بعد هدفنا وهو النصر النهائي، فنحن
حتى الآن لم نحرر من بلادنا سوى قسم واحد فقط، وسنجعل الحرب وظيفة يهودية
حتى يتم تحرير بلادنا كلها بلاد الآباء والأجداد، وسنحقق رؤيا أنبياء إسرائيل «،
وقال في تصريح آخر: (أرضنا من البحر المتوسط حتى الفرات، ومن لبنان إلى
نهر النيل) .
- وبعد استقرار الدولة اليهودية واعتراف العالم بها، واتخاذها علماً رسمياً
يضم خطَّيْن أزرقَيْن تتوسطهما نجمة داود، قال جوزيف رستوا أحد خبراء
الاستراتيجية الإسرائيلية مفسراً ذلك الرمز على العلم: (العلم الإسرائيلي مساحة
بيضاء، يحدهما شريطان عموديان باللون الأزرق؛ هما نهرا الفرات والنيل) .
- وقبل توليه منصب رئيس الوزراء في (إسرائيل) ومشاركته في عقد
اتفاق سلام مع مصر بنحو ربع قرن؛ أكد» مناحيم بيجن «أن (أرض إسرائيل
الكاملة) هدف لا يقبل المساومة، وقال:» إن إسرائيل بوضعها الحالي لا تمثل
إلا خُمس ما يجب أن تكون عليه أرض الآباء والأجداد، ومن ثم يجب العمل على
تحرير الأخماس الأربعة الباقية «وبعد أن تولى منصب الرئاسة، كتب في مذكراته:
» لن يكون سلام لشعب إسرائيل ولا لأرض إسرائيل حتى ولا للعرب؛ ما دمنا
لم نحرر وطننا بأجمعه بعد، حتى لو وقَّعنا معاهدات صلح « [1] .
هذه التصريحات، لم تكن مجرد كلمات من الزعماء والساسة، ولكن كان
وراءها دائماً أجهزة فعالة، وعلى رأسها المؤتمر الصهيوني العالمي الذي أعلن في
توصيات المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين المنعقد في القدس في أغسطس سنة
1951م: (لا ينبغي أن نجبن عن الجهر بعزم الصهيونية على جمع يهود العالم في
أرض إسرائيل الكاملة) .
وهذه المساعي اليهودية التوراتية المحمومة كانت دائماً مدعومة بمساندة
إنجيلية نصرانية تستند أيضاً إلى نصوص في الإنجيل خاصة في سفر الرؤية عن
شأن نهر الفرات في آخر الزمان، وأنه سيجف لتمر عليه جيوش جرارة ستلتقي
للقتال في فلسطين، وقد ذكر اسم نهر الفرات في العهدين القديم والجديد أكثر من
20 مرة.
وقد جعل النصارى المتهودون من النصوص الإنجيلية مادة تدعو للسيطرة
على الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات للتعجيل بمجيء المسيح، ففي تصريح
لصحيفة كوريوتايمس تلجراف الصادرة في فبراير 1983م؛ قال القس الصهيوني
الأمريكي الشهير (جيري فالويل) :» أفضِّل أن يستولي الإسرائيليون على أجزاء
من العراق وسوريا وتركيا والسعودية ومصر والسودان، وكل لبنان والكويت «،
وكان كلامه في معرض الاستعداد التاريخي لملحمة المسيح!
وتجيء حرب العراق التي أسماها الأمريكيون والبريطانيون الأنجلوساكسون
المتهودون:» حرب التحرير «تماماً كما سميت حرب النكبة في فلسطين عام
1948م؛ لتؤكد بشكل عملي ما ظل يتردد بشكل نظري لأكثر من مئة عام؛ عن
الوعد المدعى منذ أربعة آلاف عام، وتبرهن أمام الناس أن التحالف اليهودي
النصراني لا يلعب ولا يضيع وقتاً، ولا يدع شيئاً للصدف.
وتجيء الجيوش البروتستانتية لتقود الجولة الثانية ضد العراق نيابة عن الدولة
اليهودية، قاصدة الفرات وعينها على النيل في مرحلة لاحقة، وكيف لا؛ وسيناء
المنزوعة السلاح لا تقل قداسة عند اليهود والمتهودين من القدس نفسها؟!
لم يعد سراً أن خطة (تحرير العراق) هي خطة يهودية صرفة، وضعها
فريق المتنفذين اليهود في الإدارة الأمريكية وعلى رأسهم (ريتشارد بيرل) . أما
» الرئيس «الأمريكي المرشح لرئاسة العراق المحتل، والذي سيخلف صدام حسين،
كما يرتب الآن؛ فهو الجنرال المتقاعد (جاي جارنر) رئيس مكتب إعادة التعمير
والمساعدات» الإنسانية «في وزارة الدفاع الأمريكية، وقد قدم بالفعل إلى الكويت
منذ بداية الحرب، وانتقل بعد الحرب إلى بغداد لمباشرة مهامه في العراق.
إن ذلك الجنرال الأمريكي القادم لحكم العراق فوق دبابة صليبية عَبَرت من
أرض عربية؛ هو صهيوني عريق، وأحد أعضاء المعهد اليهودي لشؤون الأمن
القومي بأمريكا، وقد كان يتردد على (إسرائيل) باسم ذلك المعهد، وهو جزء من
العصابة الليكودية نفسها التي خططت للحرب التي نفذها بوش، وسيطرة هذا
الصهيوني ستكون سيطرة في الوقت نفسه لشارون، وحُكمه لبغداد سيكون كما لو
حكمها شارون.
لقد دعا حاكم العراق الصهيوني الأمريكي الجديد مع فريقه المخطط للحرب
مثل وولفوفيتز، وريتشارد بيرل، ودوجلاس فايث؛ منذ أكثر من عشر سنوات
إلى إلغاء عملية السلام، وفرض سيطرة إسرائيلية بالقوة على الدول العربية كلها
بمساعدة أمريكية؛ بدءاً من العراق بالتحديد، وذلك قبل أن تنطلق الانتفاضة، أو
تحدث تفجيرات 11 سبتمبر، أو يؤسس أسامة بن لادن الجبهة العالمية لمحاربة
الصهيونية، أو ينشئ الملا عمر حركة طالبان!! بل إنهم، وقبل عشر سنوات
أيضاً، دعوا إلى ضرب سورية بعد إيران؛ تمهيداً لفرض أوضاع جديدة في بقية
البلدان العربية، ثم الإسلامية الواقعة في إطار» الشرق الأوسط الجديد «الذي
يمتد من المغرب إلى أفغانستان.
إن حدثاً تاريخياً خطراً جرى هذه الأيام، ولكننا ما زلنا في سكرة السِّكين لم
نشعر بفداحة حجمه، وهو وصول اليهود إلى الفرات بعد عهد دولة داود وسليمان -
عليهما السلام - بثلاث آلاف عام.
هل وعى سياسيونا الحكماء المحنكون أبعاد مسلسل السيطرة المتحقق بانتظام
على أرض الواقع العربي والإسلامي منذ أكثر من مائة عام؟! أم يريدون الانتظار
حتى تكمل بقية المراحل الأخرى بذرائع أخرى غير ذرائع (تحرير العراق) ؟! إن
بقية نهر الفرات تمتد على أرض سوريا، وسوريا الآن في مهب المواجهة.
وإذا كان سياسيونا الحكماء المحنكون لا يعون؛ فهل نعي نحن؟! وهل ندرك
نحن الإسلاميين خطورة الوضع الذي وصلت أمتنا إليه، والذي يمكن أن تصل إليه
في ظل هواننا حكاماً ومحكومين؟!
اللهم لطفاً ... اللهم لطفاً!
__________
(1) كتاب الثورة، لمناحيم بيجين، ص 235.(187/4)
دراسات في الشريعة
العلاقات الإسلامية النصرانية
رؤية شرعية في الماضي والحاضر والمستقبل
(1 ـ 2)
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي [*]
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،
ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله
بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه
كتاباً لا يغسله الماء، ففتح الله به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وأقام به
الحجة، وأضاء به المحجة، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين.
أما بعد:
فلقد كان أولى الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب، وذلك
لأسباب:
أحدها: أنه البشارة المرتقبة التي زفها الأنبياء إلى أقوامهم، وخلعوا عليه
وعلى أتباعه أجلَّ الأوصاف، وأكرم المعاني، فتعلقت أفئدتهم بذلك النبي المنتظر،
قال تعالى: على لسان عيسى ابن مريم - عليه السلام -: [وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد] (الصف: 6) ، وقال: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ
عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ
الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ
أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (الأعراف: 157) .
والثاني: أنه البينة التي بها افتكاكهم من دوامة الخلاف المرير الذي مزقهم كل
ممزق، حتى كفَّر بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، قال تعالى: [لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ] (البينة: 1) .
والثالث: أنه فَتْحٌ لأهل الإيمان على أهل الشرك والأوثان، قال تعالى:
[وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ] (البقرة:
89) .
ولكن هذا التوقع لم يقع إلا بصورة جزئية فردية، فقد تحددت مواقف أهل
الكتاب؛ من يهود ونصارى، إبان العهد النبوي، وحين تنزل القرآن. وبدلاً من
أن تنضوي زعامتا الديانتين (اليهودية والنصرانية) في الديانة الإسلامية التي تمثل
الامتداد الطبيعي لملة إبراهيم - عليه السلام -؛ ناصبتاها العداء، وتفنَّنتا في ردها،
ومحاولة وأدها في مهدها.
ونقصد في هذه المقالة الإلمام بمجمل العلاقات التاريخية بين المسلمين
والنصارى؛ بوصفها الجبهة الساخنة ذات الشوكة والمواجهة، والكر والفر،
والمد والجزر، على مدار التاريخ، بينما تختفي اليهودية في معظم فترات التاريخ
عن الصدارة بسبب القلة العددية، والشتات القومي ليهود، والذلة والمسكنة التي
ضربها الله عليهم، دون التقليل من خطرهم وكيدهم الخفي.
ولا شك أن الإحاطة بتفاصيل ومفردات العلاقات التاريخية بين المسلمين
والنصارى عمل موسوعي ضخم؛ يتطلب توافر عشرات الباحثين عليه لِسِعَة رقعته
الزمانية والمكانية، وتنوع مادته.
والمقصود هنا وضع خطوطٍ عامة بارزة لتكوين خلفية تاريخية، يستصحبها
الناظر للأحداث الراهنة، ويستشرف بها المستقبل؛ إثر أحداث الحادي عشر من
سبتمبر وتداعياتها.
يمكن أن نقسم تاريخ العلاقات الإسلامية النصرانية إلى عدة مراحل متميزة:
- المرحلة الأولى: (المرحلة النبوية) :
دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب عامة، والنصارى خاصةً، إلى
الإسلام، والتوحيد، ونبذ الشرك، كما أمره ربه بقوله: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران:
64) . ونهاهم عن مقالة التثليث، والغلو في الدين، فقال: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً
لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] (النساء: 171) ، وشنَّع عليهم ادعاء بنوة المسيح لله سبحانه،
فقال: [وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (التوبة: 30) . فاستجاب لدعوته
صلى الله عليه وسلم مَنْ سبقت له من الله الحسنى، والذين أثنى الله عليهم بقوله:
[لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً
لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] (المائدة: 82-83) ،
فاتصلت علائقهم بملة إبراهيم، وآتاهم الله أجرهم مرتين، كما قال تعالى: [وَلَقَدْ
وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ *
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]
(القصص: 51-54) .
وأما من أصروا على مقالتهم، وغلبتهم شقوتهم، فقد حكم الله بكفرهم، فقال:
[لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] (المائدة: 17) ، وقال:
[لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا
عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (المائدة: 73) ، وأمر نبيه
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتالهم، فقال: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ
بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] (التوبة: 29) .
وقد تذرع النبي صلى الله عليه وسلم بكل الوسائل لدعوة زعمائهم، ومراجعهم
الدينية والسياسية؛ فكاتب ملوكهم: هرقل عظيم الروم، والمقوقس عظيم القبط،
والحارث بن أبي شمر ملك غسان، والنجاشي ملك الحبشة الذي وليهم بعد
أصحمة - رحمه الله -.
كما ناظر أساقفتهم حين وفد عليه نصارى نجران، وحاجَّهم وباهَلَهم، ولكن
القوم ضنوا بمُلْكهم وشرفهم في قومهم، فمنهم من أعطى الجزية، ومنهم من شهر
السيف، وصد عن سبيل الله.
ومن شواهد عداء النصارى للمسلمين في هذه المرحلة:
- حَشْدهم مائتي ألف مقاتل من الروم، ونصارى العرب، في معركة
«مؤتة» ، مقابل ثلاثة آلاف مجاهد من المسلمين [1] .
- قَتْلهم فروة بن عمرو الجذامي عامل الروم على من يليهم من العرب لما
أسلم، وصَلْبهم إياه [2] .
- قَتْلهم «صفاطر» الأسقف لما شهد شهادة الحق، وقد كان مقدماً معظماً
عند الروم [3] .
- المرحلة الثانية: من عام 11هـ إلى عام 114هـ:
تضم هذه المرحلة عصر الخلفاء الراشدين، وصدر الإسلام، وعلى وجه
التحديد: من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى معركة «بلاط الشهداء» في
زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، حيث بلغت الدولة الإسلامية الفتية أقصى
اتساعها في غرب أوروبا، وشارفت جيوش عبد الرحمن الغافقي - رحمه الله -
على اجتياح فرنسا.
وتمثل هذه المرحلة «المرحلة الذهبية» للإسلام مع النصرانية، حيث تم
طي بساط النصرانية عن الأقاليم المعمورة؛ في الشام، والعراق، ومصر،
والمغرب، بل وإسبانيا، وجنوب فرنسا، ونشرت أعلام الإسلام عبر سلسلة
متتابعة من الفتوحات السريعة المذهلة، كان قوادها ولحمة سداها أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم.
يقول برنارد لويس [4] : (لقد وصل محمد إلى السلطة والحكم أثناء حياته،
وقد أسس بنفسه أول دولة إسلامية، وحَكَمَها مع أصحابه، لقد انتهت مهمة الرسالة
الروحية لمحمد بوفاته، ولكن رسالته الدينية والسياسية استمرت على يد خلفائه.
وتحت حكم الخلفاء؛ تقدم المسلمون من انتصار إلى انتصار، وبالتالي نشأ خلال
قرن واحد كيان شاسع الأصقاع، يمتد من حدود الهند والصين، إلى جبال
البيرينيه، وسواحل المحيط الأطلسي. وهو كيان يحكم ملايين الأتباع، وبأعدادٍ
هائلة؛ ممن اعتنقوا الدين الجديد ... إن تاريخ الدولة الإسلامية المبكر الذي يحظى
بالقداسة؛ يشكل جوهر ولب ذاكرة ووعي المسلمين في كل مكان، وهو يحكي
قصة الفتوحات السريعة المتواصلة، والتي تساقط أمامها زعماء العقائد الفاسدة التي
تضطهد شعوبها. لقد وصل الإسلام إلى الانتصار النهائي؛ سواء من حيث العقيدة
أو السلاح، وأوصل كلمة الله إلى البشرية كلها، وفرض الشريعة الإلهية على العالم
كله) [5] .
(.. وهكذا، فعندما وصل المسلمون في العصور الوسطى إلى صقلية،
وإسبانيا، والبرتغال؛ شاهدنا بعد فترة قصيرة عمليات تحول ودخول جماعات
كثيرة من النصارى إلى الدين الجديد) [6] .
ويقول «جيبون» : (لو انتصر العرب في تور بواتييه، لتُلي القرآن وفُسّر
في أكسفورد وكمبردج) [7] .
- المرحلة الثالثة: من عام 115هـ إلى عام 490هـ:
تشغل هذه المرحلة حيزاً زمنياً طويلاً، يمتد من منتصف العقد الثاني من
القرن الثاني الهجري، حيث بلغت الفتوحات الإسلامية أقصى امتدادٍ لها، وآذنت
بالانحسار التدريجي البطيء. وينتهي بالإرهاصات السابقة لأولى الحملات
الصليبية على بلاد الشام في العقد الأخير من القرن الخامس الهجري، أي ما يقارب
أربعمائة سنة تقريباً.
إن السمة المميزة لهذه المرحلة من ناحية العلاقات الإسلامية النصرانية، على
جانبيها الشرقي والغربي (أي في خط المواجهة مع الإمبراطورية البيزنطية شرقاً،
والفرنجة غرباً) ؛ كونها مرحلة كرٍّ وفرّ، ومناوشات متبادلة، وحماية ثغور،
ومعاهدات صلح، وتبادل أسرى، دون أن تشهد إضافة أقاليم كبار لدار الإسلام،
كما كان الحال في المرحلة الأولى، وربما كانت الكفة راجحة للجانب الإسلامي في
العقود الأولى من هذه المرحلة، وخاصة في خط التماس مع الإمبراطورية
البيزنطية، ثم مالت الكفة لصالح الجانب النصراني في أواخر هذه المرحلة،
وخصوصاً في بلاد الأندلس.
في النصف الثاني من القرن الخامس؛ وقعت ثلاثة أحداث كبار في تاريخ
العلاقات الإسلامية النصرانية:
أولها: معركة «ملاذكرت» أو «مانزكرت» عام 463هـ / 1070م،
بين جحافل الإمبراطورية البيزنطية بقيادة ملك الروم «أرمانوس» ، والسلاجقة
السُّنيين بقيادة السلطان ألب أرسلان؛ في معركة من معارك التاريخ الفاصلة، كان
الظفر فيها حليف المسلمين [8] .
الثاني: سقوط مدينة «طليطلة» بيد «ألفونسو» ملك قشتالة، عام 478
هـ / 1085م بعد حكم دام 372 سنة [9] .
الثالث: استيلاء الفرنج النورمانديين على جزيرة «صقلية» عام 484هـ /
1090م [10] .
إن لهذه الأحداث الكبار دلالات كباراً أيضاً:
1 - لقد كانت معركة «ملاذكرت» إيذاناً بانهيار الخطر البيزنطي، وإخفاق
محاولات النصارى من قِبَل المشرق، ومن ثم التفكير الجاد بالبحث عن سبل أخرى.
(ولم تقم للروم مذ ذاك قائمة، وبعدها لم ينفك أباطرة بيزنطة يوفدون البعثات إلى
الغرب، يروجون الدعوة للحروب المقدسة) [11] .
2 - كان سقوط «طليطلة» عاصمة القوط قديماً بيد النصارى إيذاناً بأفول
شمس المسلمين في الأندلس، فقد كانت هذه المدينة واسطة عقد المدن الأندلسية،
وسُرُّة الجزيرة، وقد عبَّر بعض الشعراء عن هذا المعنى بقوله:
يا أهل أندلس حثوا مطيكم ... فما المقام بها إلا من الغلطِ
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسطِ
ونحن بين عدوٍّ لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيات في سفطِ [12]
3 - كان سقوط جزيرة «صقلية» بأيدي الفرنج إيذاناً بانتهاء سيادة
المسلمين البحرية على بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) ؛ بوصفها درة ذلك
البحر، وكبرى جزره، والمسيطرة على طرق التجارة والأساطيل فيه. واطمأن
النصارى على سلامة عاصمتهم الكبرى «روما» التي هددها الفاتحون المسلمون،
وحاصروها عام 231هـ / 850م، في عهد البابا «سرجيوس الثاني» [13] .
- المرحلة الرابعة: من عام (490 - 690هـ) :
تمثل هذه المرحلة فترة الحملات الصليبية المنطلقة من غرب أوروبا
النصرانية ووسطها إلى بلاد المشرق الإسلامي (سواحل الشام، ومصر، وآسيا
الصغرى) ، في سبع حملاتٍ متعاقبة، استغرقت قرابة قرنين من الزمان
(490 - 690هـ) ، بالإضافة إلى استمرار الزحف النصراني جنوباً على بقية
الأندلس المسلمة، وبقية جزر البحر الأبيض المتوسط.
إن السمة المميزة لهذه المرحلة هي انتقال المجابهة النصرانية من
الإمبراطورية البيزنطية الأرثذوكسية إلى دول أوروبا الكاثوليكية وغربها؛ بقيادة
بابوات روما، وبالتالي انتقال أرض المعركة من الحدود والثغور المتاخمة
للإمبراطورية البيزنطية في آسيا الوسطى إلى العمق الإسلامي في السواحل الشامية،
وبيت المقدس؛ بسبب عمليات الإنزال البحري التي تقذف بها هذه الحملات، أو
الجموع الهوجاء التي تنطلق من الممالك الأوروبية لتلتقي عند أسوار القسطنطينية،
وتُفوّج هناك.
ويمكن أن يؤرخ لبدء الحملات الصليبية بالاجتماع الحاشد الذي دعا إليه البابا
«أوربان الثاني» في مدينة «كليرمون» ، في جنوب فرنسا، في نوفمبر من
عام 1096م، وحضره كبار الأساقفة، والأمراء، والإقطاعيين.
وقد ألهب البابا حماس المجتمعين بخطبة بليغة مؤثرة أثار فيها العصبية
الدينية، بل والأطماع الدنيوية، وقد تمحورت حول أربع ركائز:
الأولى: الدعوة إلى حملة مقدسة هدفها فلسطين؛ استناداً إلى نصوص من
الإنجيل.
الثانية: أنه يدعو إلى هذه الحملة باسم الرب؛ بوصفه نائباً عنه في الأرض.
الثالثة: الحث على نبذ الخلافات بين المؤمنين بالمسيح، وتوحيد الجهود.
الرابعة: منح غفران جزئي لكل من يشارك في هذه الحملة؛ سواءً مات في
الطريق أو قتل [14] .
واستجاب الحاضرون لنداءات البابا التحريضية، وصاحوا جميعاً في ذلك
الحقل الفسيح صيحة مدوية، صارت شعاراً في حروبهم المقبلة مع المسلمين قائلين:
(الرب يريدها) أو (تلك إرادة الله) . ثم شرع البابا أوربان الثاني يجوب أنحاء
فرنسا للدعوة إلى حربه المقدسة.
كما برز قادة كنسيون شعبيون، من أمثال «بطرس الناسك» ، هجروا
أديرتهم، وتفرغوا لتهييج الفلاحين والفقراء؛ لإنقاذ مهد المسيح بزعمهم، ودغدغة
مشاعرهم بامتلاك الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً [15] .
وعلى مدى قرنين من الزمان تمخضت أوروبا الصليبية عن سبع حملات
شهيرة موجهة نحو بلاد المشرق الإسلامي، نوجزها بما يلي:
أولاً: الحملة الصليبية الأولى:
تكونت من خمسة جيوش جرارة قدمت من فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا،
التقت في عاصمة الإمبراطورية البيزنطية «القسطنطينية» ، في أواخر عام
1096م، ثم عبرت مضيق البسفور متجهة نحو دولة سلاجقة الروم في آسيا
الصغرى، فسقطت عاصمتهم «نيقيَّة» عام 1097م.
وفي الطريق إلى «أنطاكية» جنح قسم من الصليبيين نحو الرها، وكوَّنوا
أول إمارة صليبية في قلب العالم الإسلامي.
وفي أواخر عام 1097م فرض الصليبيون حصاراً على أنطاكية التي صمدت
صموداً باهراً أمام الحصار، لولا خيانة بعض الأرمن المستأمنين على أحد أبراجها،
فسقطت في منتصف عام 491هـ / 1098م، وهكذا تكونت الإمارة الصليبية
الثانية عام 1099م في أنطاكية.
وكان الهدف الأخير، والحلم المنشود لهذه الجموع الهادرة مدينة «القدس» ،
فحاصروها على مدى خمسة أسابيع.
قال ابن كثير - رحمه الله -: (لما كان ضحى يوم الجمعة، لسبع بقين من
شعبان، سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة، أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه
الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل
من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيراً) [16] .
ثانياً: الحملة الصليبية الثانية:
جاءت هذه الحملة رد فعل بطيء لسقوط إمارة الرها، في عهد البابا
«إيجينيوس الثالث» (1145 - 1153م) ، وتكونت من جيوش ألمانيا،
بقيادة الإمبراطور «كونراد الثالث» ، وفرنسا، بقيادة ملكها «لويس التاسع» ،
ووصلت إلى المنطقة نهاية عام 1147م، وقد مُنيت بالإخفاق الذريع، وعاد الملكان
الصليبيان يجران أذيال الخيبة [17] .
وكان من آثار هذه الحملة على الجانب الإسلامي؛ مزيد من التوحد بين
الممالك الإسلامية؛ فقد صارت بلاد الشام جبهة واحدة، تحت قيادة نور الدين
محمود، في مواجهة الإمارات الصليبية على امتداد الساحل.
وقد تصدى نور الدين محمود زنكي لجهاد الصليبيين، وانتزاع الحصون
والبلاد من أيديهم، في بلاد الشام، في وقائع مظفرة، إلى أن توفي رحمه الله سنة
تسع وستين وخمسمائة، بعد حياة حافلةٍ بالجهاد في سبيل الله.
وتسلَّم الراية بعده الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وبعد أربعة عشر عاماً
قضاها في لمِّ الشمل، وجمع الكلمة، والقضاء على الفتن الداخلية، والإثخان في
الصليبيين، وإصلاح أمور الرعية [18] ؛ تهيأ في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة
للملحمة الكبرى مع الفرنج، والتي كانت مقدمة ضرورية لفتح القدس؛ فكانت
معركة (حطين) الفاصلة في شهر ربيع الآخر، حشد فيها الجانبان قواتهما،
وشهدها ملوكهما، ودارت رحى الحرب يومي الجمعة والسبت، لخمس بقين من
ربيع الآخر، (ثم أمر السلطان بالتكبير، والحملة الصادقة، فحملوا، وكان النصر
من الله عز وجل، فمنحهم الله أكتافهم، فقُتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم، وأُسر
ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم، وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم، سوى
قومس طرابلس؛ فإنه انهزم في أول المعركة. واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم،
وهو الذي يزعمون أنه صُلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب، واللالئ
والجواهر النفيسة. ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودمغ الباطل
وأهله [19] .
وفي الخامس عشر من شهر رجب من السنة نفسها 583 هـ، سارت جحافل
المسلمين إلى بيت المقدس، ففتحوه يوم الجمعة، في السابع والعشرين من رجب،
بعد أن بقي بيد عبدة الصلبان اثنتين وتسعين سنة (492 - 583هـ) [20]
(1099 - 1187م) . ثم اتجه صلاح الدين - رحمه الله - لفتح الحصون
الممتنعة، واستنقاذ مدن الساحل الشمالية، حتى كاد يفتح أنطاكية.
ثالثاً: الحملة الصليبية الثالثة:
كان وقع أنباء انتصارات صلاح الدين مؤلماً في أوروبا، حتى إن البابا
أوربان الثالث (1185 - 1187م) مات من هول الصدمة حين بلغته الأنباء [21] .
قال ابن الأثير: (ثم إن الرهبان والقسوس، وخلقاً كثيراً من مشهوريهم،
وفرسانهم، لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم،
وأخذهم البطرك الذي كان بالقدس، ودخل بهم بلاد الفرنج، يطوفها بهم جميعاً،
ويستنجدون أهلها، ويستجيرون بهم، ويحثونهم على الأخذ بثأر البيت المقدس.
وصوروا المسيح - عليه السلام -، وجعلوه مع صورة عربي يضربه، وقد جعلوا
الدماء على صورة المسيح - عليه السلام -، وقالوا لهم: هذا المسيح، يضربه
محمد نبي المسلمين، وقد جرحه وقتله. فعظم ذلك على الفرنج، فحشروا،
وحشدوا حتى النساء) [22] .
وقد تكونت الحملة الصليبية الثالثة من كبار ملوك أوروبا، وهم: الإمبراطور
الألماني فردريك بربروسا (1152 - 1190م) الذي هلك غرقاً في أحد أنهار آسيا
الصغرى، وتمزق جيشه، وملك إنجلترا ريتشارد الأول (1189 - 1199م) ،
وملك فرنسا فيليب أغسطس (1180 - 1223م) .
وقد وصل الفرنسيون عكا في ربيع الأول سنة سبع وثمانين، ثم وافاهم
الإنجليز في جمادى الأولى من السنة نفسها، وحاصروها حصاراً شديداً، واستبسل
أهلها وحاميتها في الدفاع عنها، ومن ورائهم الملك صلاح الدين، يُمدهم بالمؤن
والأقوات عن طريق البحر، حتى سقطت بأيدي الفرنج في السابع من جمادى
الآخرة. وقتل الفرنج ثلاثة آلاف أسير من أهلها صبراً رحمهم الله.
ولم تتمكن هذه الحملة التي علقت عليها الآمال تحقيق أهدافها؛ من استعادة
بيت المقدس ومدن الساحل، رغم ما بذلوه من محاولات، وتكبدوه من خسائر،
وهزائم متكررة. وانحصرت مكاسبهم في الاستيلاء على عكا التي دافع عنها صلاح
الدين الأيوبي سبعة وثلاثين شهراً. وحاولوا أخذ عسقلان، فصدهم المسلمون حتى
يئسوا، وطلبوا الصلح والأمان. وجرت الهدنة بين المسلمين والنصارى في السابع
من شعبان من سنة ثمان وثمانين وخمسمائة؛ على وضع الحرب ثلاثين سنة
ونصف. وعاد ملوك أوروبا يجرّون أذيال الخيبة، وعاد صلاح الدين إلى بيت
المقدس يصلح شؤونها، ثم إلى دمشق حيث توفي - رحمه الله - جاهداً مجاهداً،
في السابع والعشرين من شهر صفر، سنة تسع وثمانين وخمسمائة [23] .
رابعاً: الحملة الصليبية الرابعة:
كان هدف هذه الحملة «مصر» ، وذلك في عهد البابا «إنوسنت الثالث»
(1198 - 1216م) ، ولكن مسار الحملة انحرف عن القاهرة إلى القسطنطينية؛
تحقيقاً لأحلام بابوية روما القديمة في القضاء على الكنيسة البيزنطية الأرثذوكسية،
فدمروا المدينة الحصينة ونهبوها، وقتلوا إخوة الدين، وكفى الله المؤمنين القتال،
سوى فرق قليلة من هذه الحملة اتحدت مع المستوطنين في بلاد الشام من الصليبيين.
قال ابن كثير: (ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام، وقد تقووا بملكهم
القسطنطينية، فنزلوا عكا، وأغاروا على كثيرٍ من بلاد الإسلام من ناحية الغور،
وتلك الأراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل أبو بكر بن أيوب أخو صلاح
الدين، وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية، ونازلهم بالقرب من
عكا، فكان بينهم قتال شديد، وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة،
وأطلق لهم شيئاً من البلاد، فإنا لله وإنا إليه راجعون [24] .
خامساً: الحملة الصليبية الخامسة:
استهدفت هذه الحملة مصر أيضاً، وانطلقت قوات الصليبيين من عكا على
الساحل الشامي، ونزلت على «دمياط» ، وذلك سنة خمس عشرة وستمائة. وفي
تلك الأثناء توفي الملك العادل، فسقطت دمياط وما وراءها. ثم سار الصليبيون
متجهين نحو القاهرة، ونازلهم المسلمون في مواقع كثيرة، حتى إن الملك الكامل
(عرض عليهم في بعض الأوقات أن يرد إليهم بيت المقدس، وجميع ما كان صلاح
الدين فتحه من بلاد الساحل، ويتركوا «دمياط» فامتنعوا من ذلك، ولم يفعلوا.
فقدر الله تعالى أنها ضاقت عليهم الأقوات، فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم،
فأخذها الأسطول البحري، وأرسلت المياه على أراضي «دمياط» من كل ناحية،
فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في أنفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى،
حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن، فحينئذٍ أنابوا إلى المصالحة بلا معاوضة)
[25] . وكان ذلك سنة ثمان عشرة وستمائة.
يقول د. قاسم عبده قاسم: (كانت الحملة ضد دمياط آخر محاولات البابوية
لتوجيه حملة صليبية تحت قيادتها فقط، ولحسابها منفردة) [26] .
سادساً: الحملة الصليبية السادسة:
قائد هذه الحملة هو الإمبراطور الألماني المحنك فردريك الثاني (1215 -
1250م) ، والذي استغل تفرق حكام الدولة الأيوبية، وروح الضعف والمسالمة
التي أبداها الملك الكامل أثناء حصار دمياط، فحقق عن طريق السياسة مكاسب لم
تحققها الحملات الصليبية العسكرية الضخمة! فقد قدم فلسطين بستمائة فارس فقط،
وأسطول هزيل [27] ، ومع ذلك رجع وقد تسلم بيت المقدس!
ويصف ابن كثير هذه الملابسة العجيبة، في أحداث سنة ست وعشرين
وستمائة، فيقول: (استهلت هذه السنة، وملوك بني أيوب مفترقون، مختلفون،
قد صاروا أحزاباً وفرقاً، وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر، وهو
مقيم بنواحي القدس الشريف، فقويت نفوس الفرنج لعنهم الله بكثرتهم بمن وفد إليهم
من البحر، وبموت المعظم، واختلاف مَنْ بعده من الملوك، فطلبوا من المسلمين
أن يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذ منهم، فوقعت المصالحة بينهم وبين
الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده! وتبقى بأيديهم بقية البلاد. فتسلموا القدس
الشريف، وكان المعظم قد هدم أسواره، فعظم ذلك على المسلمين جداً، وحصل
وهن شديد، وإرجافٌ عظيم. فإنا لله وإنا إليه راجعون) [28] .
وظل بيت المقدس بيد الصليبيين عشر سنين (626 - 636هـ) ،
(1229 - 1239م) . وما أن انقضت سني الهدنة حتى هجم الصليبيون على
جنوب فسلطين، فقاتلهم الأيوبيون في غزة سنة ست وثلاثين وستمائة، وهزموهم
شر هزيمة، ثم استنقذوا بيت المقدس في السنة نفسها، وظلت بأيدي المسلمين،
حتى استولى عليها الإنجليز، ثم اليهود الصهاينة، في العصور الأخيرة [29] .
سابعاً: الحملة الصليبية السابعة:
كانت هذه الحملة موجهة أيضاً إلى مصر، لكن دون المرور بعكا معقل
الصليبيين في السواحل الشامية، بل انطلقت من ميناء مرسيليا الفرنسي بقيادة
لويس التاسع ملك فرنسا، ونزلت قبالة «دمياط» ، وذلك في آخر حياة الملك
الصالح أيوب، (فهرب من كان فيها من الجند والعامة، واستحوذ الفرنج على
الثغر، وقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين) [30] . ثم توفي الملك الصالح في تلك
الأثناء، واستدعي ابنه الملك المعظم توران شاه.
وفي مطلع السنة التالية، سنة ثمانٍ وأربعين وستمائة (في ثالث المحرم، يوم
الأربعاء، كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين
ألفاً، وقيل مائة ألف، وغنموا شيئاً كثيراً ولله الحمد، ثم قتل جماعة من الأمراء
الذين أُسروا، وكان فيمن أُسر ملك الفرنسيين وأخوه) [31] . وقد أفرج عنه فيما
بعد لقاء فدية كبيرة، والانسحاب عن دمياط. وقد كانت هذه الحملة آخر حملة
صليبية على مصر [32] ، بل كانت آخر حملة صليبية ذات بال على المشرق
الإسلامي.
وبعد أن آل الأمر إلى دولة المماليك الفتية التي قضت على الهجوم التتري
الكاسح في عين جالوت سنة 658هـ، اتجه القائد المظفر الظاهر بيبرس
البندقداري (658 - 676هـ) إلى تصفية الوجود الصليبي في بلاد الشام بحزم
وعزم وصرامة، فتهاوت معاقل النصارى واحدة تلو الأخرى، في موسم حصاد
رابح، وحصل الفتح الكبير لأنطاكية بعد أن ظلت أسيرة بيد الصليبيين أكثر من
مائة وخمسين عاماً.
وتابع السلطان المنصور قلاوون فتوح سلفه بيبرس، ثم ابنه السلطان
الأشرف خليل، حتى سقط المعقل الأخير للصليبيين في بلاد الشام ميناء «عكا»
سنة (690هـ / 1291م) ؛ مؤذناً بنهاية الوجود الصليبي على أرض الإسلام،
بعد مائتي عامٍ تماماً من حملتهم الأولى [33] .
وفي الوقت الذي كانت تدور فيه رحى حرب صليبية في المشرق الإسلامي؛
كانت تجري أحداث مشابهة في الساحة الأندلسية؛ إذ لم تشترك «إسبانيا
النصرانية» في الحملات الصليبية المتجهة إلى بيت المقدس؛ لأنها كانت تخوض
حرباً صليبية حامية الوطيس في عقر دارها، هدفها طرد المسلمين من شبه الجزيرة
الأيبيرية، وإعادتها إلى المنظومة الأوروبية، والكنيسة الكاثوليكية.
فبعد سقوط «طليطلة» الخطير، مستهل ثمانٍ وسبعين وأربعمائة (478هـ /
1085م) ؛ لم يوقف تقدم الإسبان الجارف لالتهام دويلات ملوك الطوائف إلا
جواز أمير المرابطين، يوسف بن تاشفين (463 / 500 هـ) إلى البر الأندلسي،
والتحام المسلمين والنصارى في سهل «الزلاقة» في معركة فاصلة من معارك
التاريخ الكبرى، كان النصر فيها حليف المسلمين، في الثاني عشر من شهر رجب،
سنة تسع وسبعين وأربعمائة (479هـ / 1086م) [34] .
وكان من ثمرات هذه المعركة إلى جانب وقف الزحف النصراني؛ إنهاء عهد
ملوك الطوائف، وتوحيد الأندلس المسلمة تحت راية المرابطين، إلى أن سقطت
دولتهم سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، تحت مطارق الموحدين في البر المغربي،
والنصارى في الأندلس.
انبعثت روح الجهاد الإسلامي في بلاد المغرب مع دولة «الموحدين» الفتية،
في الوقت الذي انبعثت فيه هذه الروح على يد «آل زنكي» ، ثم «آل أيوب»
في بلاد المشرق الإسلامي. فقد قام عبد المؤمن بن علي الموحدي بشن غاراتٍ
برية وبحرية على ثغر «المهدية» ، على الساحل التونسي، واستعادها من الفرنج
النورمانيين حكام صقلية، بعد أن بقيت رهينة بأيديهم اثنتي عشرة سنة. وذلك سنة
خمس وخمسين وخمسمائة (555هـ / 1160م) .
وجاءت الوفود الأندلسية تستنصر إمام الموحدين عبد المؤمن بن علي القيسي
في الدين، فجاز البحر في سنة ست وخمسين وخمسمائة (556هـ / 1161م) ،
وضم ممالك الأندلس ومدنها تحت راية الموحدين، وأثخن في النصارى، حتى
توفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وقد حشد حملة عسكرية ضخمة كانت مؤهلة
للقضاء على ممالك النصارى الخمس شمال الجزيرة. وخلفه في جهاد النصارى
ابنه أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الذي قضى أربعة عشر عاماً في الفتوح
ومناوشة الأعداء، حتى قضى نحبه في معركة «شنترين» سنة ثمانين وخمسمائة
(580هـ / 1184م) [35] .
وبعد خطاب تحدٍ واستفزاز بعث به ألفونسو الثامن ملك قشتالة، إلى سلطان
الموحدين أبي يوسف يعقوب بن يوسف المنصور؛ كتب سلطان الموحدين أبو
يوسف على ظهره مجيباً: « [ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا
وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ] (النمل: 37) ، الجواب ما ترى، لا ما
تسمع!» التقى جحفلان عظيمان، كأمثال الجبال، حشد فيها كل طرف وسعه،
يوم التاسع من شعبان، سنة إحدى وتسعين وخمسمائة (591هـ / 1195م) ، في
معركة فاصلة عُرفت باسم «الأرَك» ، انتصر فيها الموحدون، تذكِّر بمعركة
«الزلاقة» التي انتصر فيها المرابطون قبل أكثر من مائة عام في سنة
(479هـ) . وسار الموحدون الظافرون يخترقون الأراضي القشتالية، حتى بدت
لهم مشارف «طليطلة» معقل النصارى، فحاصروها ولكنها امتنعت، فأعقب
ذلك هدنة. وهكذا أوقفت موقعة «الأرَك» زحف النصارى البطيء عشرين
سنة لاحقة.
وابتدأ الوهن في جانب الموحدين إثر موقعة «العقاب» التي مُني فيها أبو
عبد الله محمد الناصر، سلطان الموحدين، بهزيمة فادحة، وذلك سنة تسع وستمائة
(609هـ / 1212م) ، أعقبها انتكاسات خطيرة في النصف الأول من القرن
السابع الهجري. فقد سقطت «ماردة» و «بطليوس» سنة ثمان وعشرين،
و «أبدة» سنة إحدى وثلاثين، و «قرطبة» سنة ثلاثٍ وثلاثين، ثم «بلنسية»
و «شاطبة» و «دانية» سنة ستٍ وثلاثين، ثم «مرسية» سنة إحدى
وأربعين، وأخيراً «إشبيلية» سنة ستٍ وأربعين وستمائة.
وهكذا تهاوت حواضر الأندلس الشهيرة، الواحدة تلو الأخرى في ملحمة
مأساوية، وبدت الأندلس المسلمة في النصف الثاني من القرن السابع تسير نحو
مصيرها المحتوم، وخاتمتها البائسة، لولا نفحة ربانية أجراها الله تعالى على أيدي
«المرينيين» ، أنعشت الوجود الإسلامي في جنوب الجزيرة، المتمثل في مملكة
بني الأحمر في «غرناطة» ، والذين لم تفدهم مصانعتهم للنصارى في تجنب
استنزافهم إياهم، واستنقاصهم أراضيهم من أطرافها، فاستنجد بنو الأحمر بأخوَّة
الدين، فهب أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني لنجدتهم، وتمكن من دحر
النصارى سنة أربعٍ وسبعين وستمائة (674هـ / 1275م) ، وقتل قائدهم
«دونونة» ، الذي عاث في أرض المسلمين قتلاً، ونهباً، وفساداً. ثم سار،
فحاصر «إشبيلية» ، و «شريش» سنة خمسٍ وسبعين، وتوغل في أراضي
النصارى سنة سبعٍ وسبعين. كما تمكن الأسطول المريني من الانتصار على
الأسطول القشتالي في معركة بحرية، سنة ثمان وسبعين وستمائة، أسفرت عن
تحرير «الجزيرة الخضراء» ، التي أراد النصارى بالاستيلاء عليها قطع الطريق
على المدد الآتي من المغرب الإسلامي. واضطر «شانجة» ملك قشتالة إلى طلب
الصلح من المسلمين. وهكذا اكتشف النصارى أن من الخير لهم الرضى بوجودٍ
إسلامي محدود في جنوب الأندلس، دون المخاطرة بعمل عسكري أحمق يثير حمية
المسلمين في العَدْوة المقابلة، فيتعرضون لحملة إسلامية لا يستطيعون التنبؤ بآثارها.
وقد أجّلت هذه التحسُّبات والمخاوف دولة بني الأحمر قرنين من الزمان، إلى أن
سقطت آخر الحواضر الإسلامية من بلاد الأندلس مدينة غرناطة، في الثامن من
ربيع الأول، سنة سبعٍ وتسعين وثمانيمائة (897هـ / 1492م) . ولله الأمر من
قبل ومن بعد [36] .
لقد كانت حرب الاستعادة الإسبانية Recconquest Spanish كما يسميها
المؤرخون النصارى، حرباً صليبية صرفة، تقف خلفها حركة الإصلاح الكلوني
التي ولدت في «دير كلوني» ، في مطلع القرن العاشر الميلادي (910م) ،
وأشعلت فكرة الحرب المقدسة ضد المسلمين الغزاة الذين استولوا على الممالك
النصرانية. فقد أكد البابا جريجوري السابع أن إسبانيا جزءٌ من أرض القديس
بطرس، وأن الجزيرة الأيبيرية جزء لا يتجزأ من الجسد المسيحي. كما حرَّم البابا
«باسكال الثاني» (1099 - 1118م) ، وكان راهباً كلونياً، على الفرسان
الإسبان المشاركة في الحروب الصليبية في الشرق [37] ، وذلك لأولوية المشاركة
في الحرب الصليبية في الغرب على أرض الأندلس.
وللحديث بقية إن شاء الله.
__________
(*) أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم.
(1) انظر: ما أفرد في وصف المعركة مثل: غزوة مؤتة، لمحمد أحمد باشميل، وغزوة مؤتة، لشوقي أبو خليل، وغيرهما.
(2) انظر: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لابن هشام (4/261) ، طبعة: إدارات البحوث العلمية.
(3) انظر: البداية والنهاية (4/267) ، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الثانية 1978م.
(4) برنارد لويس: ولد في لندن عام 1916م، أستاذ الدراسات الخاصة بالشرق الأدنى في جامعة (برنستون) ، وعضو دائم في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون نيوجرسي 1974م، يشغل العديد من المناصب العلمية، وعضو فخري في عشرات الجمعيات، مؤلفاته تربو على العشرين، وله عشرات الأبحاث المنشورة في التاريخ والفرق، انظر التعريف به في مقدمة كتابه (الإسلام الأصولي) ، دار الجيل، بيروت، طبعة 1414هـ/1994م.
(5) الإسلام والغرب: برنارد لويس، دار الرشيد - دمشق - بيروت، مؤسسة الإيمان بيروت، الطبعة الأولى (1414هـ/1994م) ، ص5.
(6) الإسلام والغرب، ص8.
(7) نقلاً عن: بلاط الشهداء: شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، الطبعة الرابعة (1400هـ /1980م) ، ص36، وأكسفورد، وكمبردج جامعتان عريقتان في إنجلترا.
(8) انظر: البداية والنهاية (12/101) ، والكامل في التاريخ (8/223) .
(9) انظر: الكامل في التاريخ (8/298) ، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة: 1417هـ - 1997م.
(10) انظر: الكامل في التاريخ (8/345) .
(11) الحروب الصليبية والمجابهة، شمس الدين الكيلاني، (مجلة الاجتهاد) (ملف العلاقات الإسلامية المسيحية) ، الأعداد (28 - 32) رئيس التحرير: الفضل شلق، رضوان السيد، دار الاجتهاد بيروت (1416هـ/1996م) (28 /53) .
(12) عن كتاب الزلاقة: شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، الطبعة الرابعة، (1400هـ/1980م) ، ص19.
(13) انظر: مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ص101، عن: فتح صقلية: شوقي أبو خليل، دار الفكر دمشق، الطبعة الرابعة (1400هـ/1980م) ، ص87.
(14) باختصار من: ماهية الحرب الصليبية، د / قاسم عبده قاسم، (103 - 106) .
(15) انظر: ماهية الحروب الصليبية: د / قاسم عبده قاسم، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، طبعة 1993م، (108 - 111) .
(16) البداية والنهاية (12/156) .
(17) انظر: ماهية الحروب الصليبية (139 - 140) .
(18) انظر تفاصيل ذلك في البداية والنهاية: من ص (285 إلى 320) ، ج 12.
(19) البداية والنهاية (12/321) .
(20) انظر: تفاصيل ذلك الفتح العظيم في البداية والنهاية (12/323 - 327) .
(21) انظر: ماهية الحروب الصليبية (148) .
(22) الكامل في التاريخ (10/69) .
(23) انظر تفاصيل ذلك في البداية والنهاية (12/334 - 351) .
(24) البداية والنهاية (13/37) .
(25) البداية والنهاية (13/95) .
(26) ماهية الحروب الصليبية (158) .
(27) ماهية الحروب الصليبية (160) .
(28) البداية والنهاية (13/124) .
(29) ماهية الحروب الصليبية (162) .
(30) البداية والنهاية (13/177) .
(31) البداية والنهاية (13/178) .
(32) ماهية الحروب الصليبية (165) .
(33) انظر: ماهية الحروب الصليبية (166 - 170) والبداية والنهاية (13/244، 246، 251، 252، 305، 309، 313، 320) .
(34) انظر: الكامل في التاريخ (8/307) .
(35) انظر: الكامل في التاريخ (9/480) .
(36) انظر: مقالة (حرب الاستعادة الإسبانية: هل هي حرب كلونية مقدسة ضد الإسلام؟) لـ: فيسنت كانتارينو، مجلة الاجتهاد (29 / 59 - 81) .
(37) المرجع السابق.(187/6)
دراسات في الشريعة
الجهاد في سبيل الله..
هو الطريق الوحيد إلى النصر
د. محمد عبد الله الخطيب [*]
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ
مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] (الحج: 77-78) .
[كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى] (العلق:
6-8) .
إن من الواجب على المسلمين اليوم أن يلتفتوا إلى دستورهم الخالد ليعملوا
بتوجيهاته، وينفذوا أوامره كاملة فى حياتهم؛ فإن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما
صلح به أولها، وهذه حقيقة لا جدال فيها، ولقد قال الله لنا آمراً وموجهاً: [قُلْ
سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] (الأنعام: 11) .
والسير في الأرض للاستطلاع والتدبر ودراسة التاريخ، ولمعرفة سنن الله
التي لا تتغير، ورؤية مصارع الطغاة، من المكذبين والمستهترين، وقد آخذ الله
من قبلنا أمماً كانت أشد منا قوة، وأكثر تمكيناً، وثراء ورخاء، لكنهم استكبروا
وبغوا وظلموا، فكانت العاقبة الأليمة.
قال تعالى: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ]
(فصلت: 15) .
إن مساحة ضخمة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي
تاريخ الأمم، تدور حول عاقبة الظلم والظالمين، والطغاة، والمستكبرين، وتكشف
عن حقيقة هذه القضية لما لها من خطر على مستقبل الشعوب ومصير الأمم.
يقول الحق سبحانه: [كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى
رَبِّكَ الرُّجْعَى] (العلق: 6-8) ، ويقول: [وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً
وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ] (الأنبياء: 11) .
ولقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن عاقبة هذا التهور، ونهاية هذا
الظلم فقال: «إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 102) » [1] .
ولقد حدثنا الحق تبارك وتعالى عن مواقف فرعون المخزية فقال: [إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] (القصص: 4) . لقد بغى وطغى على
بني إسرائيل، واستطال بجبروت الحكم والسلطان، كما بغى قارون بجبروت العلم
والمال، وكانت النهاية واحدة: هذا خسف به وبداره، وذاك أخذه اليمّ هو وجنوده؛
لقد بلغ السفه به بل الجنون: [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] (النازعات: 24) ، وقال:
[مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى] (غافر: 29) ، وقال: [مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي]
(القصص: 38) ، عند ذلك تدخلت القدرة الإلهية، فوضعت حداً للبغي والفساد،
حين عجز الناس عن صد التيار الجارف العنيف، تدخلت القدرة الإلهية سافرة
متحدية، [وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ] (الأنعام:
4) .
إن القدر الأعلى الذي يرعى هذا الكون ويدبره دائماً للظالمين بالمرصاد:
[وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] (الشعراء: 227) .
وها هو طاغية آخر إنه أبو جهل، طالما تحدى الرسالة في مكة، وتحدى من
يحملها، ووقف بالمرصاد أمام المؤمنين، وفي غزوة بدر خرج مغروراً متحدياً
للمؤمنين، متطاولاً على الله، وحين قيل له: إن العير قد نجت، ولا داعي لملاقاة
محمد فارجع! فقال الطاغية: «واللهِ لا نرجع حتى نَرِدَ بدراً، فنقيم ثلاثاً: ننحر
الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب
وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً» [2] .
لكن نهايته كانت في بدر؛ فقد سقط يلفظ أنفاسه، ومر عبد الله بن مسعود
بالقتلى، فوجد أبا جهل فيهم لا يزال به رمق، فصعد على صدره وأجهز عليه.
واليوم تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بحمل راية ما سمي بالنظام العالمي
الجديد، وهو نظام مزعوم، يقوم بدور مشبوه يوقد الصراعات في مناطق العالم
الثالث، ويباشر سياسة مزدوجة المعايير، ويؤكد على ضرورة التحكم في مصير
المنطقة العربية والإسلامية بأسرها، وأمريكا تعطي وتمنح كيف شاءت، فهي
تزود الصهيونية بكافة أنواع الأسلحة الفتاكة، وتمدها بالمال وبالخبرة النووية، ثم
في نفس الوقت تفرض قيوداً صارمة على صادرات الأسلحة لأي دولة عربية، أو
إسلامية، بل وتهدد باستخدام القوة العسكرية في مواجهة أي دولة تشك أن لديها أي
مصنع للأسلحة الكيماوية، حتى ولو كان للأدوية.
إن صفحات التاريخ وسنن الله تعلمنا أنه ليس هناك دولة واحدة، مهما كانت
قادرة على التحكم في قيادة العالم، وهذا ما يؤكده الواقع، والعولمة نظام استعماري
يهدف إلى المزيد من الهيمنة والسيطرة، ويغطي تلك التوجهات تحت شعار حقوق
الإنسان، أو الشرعية الدولية التي لا وجود لها.
واليوم تصدم الجماهير العربية والإسلامية، ومعها عقلاء العالم كله، بما
يجري من كيد وإجرام وعدوان يهودي على إخواننا في فلسطين، وعدوان أمريكي
غاشم على إخواننا في أفغانستان، وتهديد وحشي، وحشد للأساطيل وللجيوش
وللصواريخ حول شعب العراق المسلم الأعزل، وتندفع أمريكا في تهديدها للشعوب
العربية والإسلامية خاصة في السودان واليمن وإيران، تطاولاً وعربدة، وترويعاً
للآمنين، وها هي العراق تمطر ليل نهار بالصواريخ والقنابل وتهدم البيوت على
رؤوس أهلها.
إن التصريحات الغريبة التي يرددها بوش ليست مصادفة، وإن كانت
أعجب من المصادفة، كما أنها ليست ضربة حظ جاءت عفواً، وإن فاقت أقصى
التصورات فى غرابتها؛ فالعراق في زعمه عنده أسلحة تهدد العالم، ويجب عليه
أن يعترف بها، وأن يتخلص منها، ولجان التفتيش تطوي الأرض يميناً وشمالاً،
بحثاً عن لا شيء، والجيوش والأساطيل وحاملات الطائرات تحيط بالأمة العربية
كلها، وسلسلة طويلة من التصريحات والأحداث والتهديدات، من أجل مخطط رُسِمَ
وأعد من شر استعمار عرفته الدنيا، استعمار الرأسمالية الأمريكية واليهودية العالمية
التي تسعى للسيطرة على العالم، من خلال السيطرة على الوطن العربي، قلب
الكرة الأرضية، ومركز السيطرة الاستراتيجي على العالم، وتساند أمريكا اليهود
بكل ما تملك في تنفيذ هذا المخطط، ولقد بدؤوا بأفغانستان، وها هي بغداد، ولا
ندري ماذا بعد ذلك؟ وموقف النمرود الذي زعم أنه يحيي ويميت، وجادل سيدنا
إبراهيم؛ وهذا لون من الطغيان بسبب الملك الذي آتاه الله إياه؛ والمفروض أن
يشكر عليها، فرد عليه سيدنا إبراهيم بما أحجه وأوقفه عند حده، ورد باطله
وضلاله: [قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ
يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (البقرة: 258) .
موقف أصحاب الأخدود الذين فتنوا عباد الله من المؤمنين والمؤمنات، ولم
يتورعوا عن حرقهم بالنار وإلقائهم في الأخدود المشتعل، فتوعدهم الحق سبحانه
بقوله: [قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ]
(البروج: 4-8) .
هذا كله وغيره طغيان وعدوان، والحق تبارك وتعالى هو المنتقم الجبار:
[إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ] (البروج: 12-13) .
إن اليهود في هذا الموقف العصيب يواصلون غاراتهم ضد العزل في أرض
الإسراء، الذين لا يجدون لقمة الخبز، ولا شربة الماء؛ فهم تحت الحصار،
ومواكب الشهداء لا تنقطع، والجرحى لا حصر لهم، والسجون والمعتقلات تمتلئ
بالشباب المسلم في قبضة اليهود، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والأمة العربية لا
تفعل شيئاً، بل هي غائبة أو مغيبة، وحكامها آثروا الصمت، فالسكوت من ذهب!
* ناقوس الخطر:
هذا الطيش وهذا الاندفاع من الولايات المتحدة الأمريكية نعتقد يقيناً، ونؤمن
إيماناً جازماً بأنه سينتهي، كما انتهت عهود الطغيان على مدار التاريخ، ولقد
تعالت في هذه الأيام أصوات العقلاء في أمريكا نفسها، تحذر من عواقب هذا
الطيش، وهذا الطغيان والاندفاع، ولم تكن هذه الأصوات من أفراد أو رجال
عاديين، لكنها من رئيسين سابقين للولايات المتحدة، ينتقدان الأوضاع بشدة:
الأول الرئيس كارتر الذي يقول: «إن سياسة القوة التي تتبعها الإدارة الأمريكية
الحالية، لن تجلب لأمريكا النصر أو الاستقرار، ولكنها سوف تثير عليها العداوات
في كل مكان، وستواجه بالإرهاب وهو سلاح الفقراء والضعفاء، في مواجهة القوة
الطاغية» [3] .
ويقول الرئيس السابق بيل كلينتون في حديثه المنشور في نفس الصحيفة
تحت عنوان: «أمريكا يجب عليها أن تقود العالم بدلاً من أن تسعى إلى الهيمنة»
يقول: «ومن الحكمة أن يكون دور أمريكا قيادة العالم، لكي يدوم لها هذا التفوق،
بدلاً من السعي إلى الهيمنة؛ لأن الهيمنة لا تدوم» ويقول: «ويجب عليها ألا
تستخدم قوتها لإكراه الشعوب على الخضوع لإرادتها، وممارسة الضغط والقهر،
وفرض الإذعان على الآخرين» ثم يقول: «وعلى أمريكا أن تفهم أن تعامل
الشعوب معها في المستقبل، عندما تتوافر لها القدرة سيتوقف على الطريق التي
تعاملهم بها الآن» .
فهل يرتفع صوت العقلاء؟ وهل يصل إلى ما يسمى صقور الإدارة الأمريكية
اليوم الذين يريدون أن يدمروا العالم وأن يقودوه إلى البوار والضياع؟
* التفوق الروحي هو الحل:
حيوية الأمة شبه معطلة مع أن أسباب الحيوية موجودة ومتاحة، وهي العقيدة
والإيمان والوحدة؛ وصلاح الدين الأيوبي، حين واجه الصليبيين، حرص على
وحدة المسلمين على أساس العقيدة، ثم جمع الأمة تحت راية الإسلام، وحارب
المجرمين واللصوص وقضى على الجريمة، وجمع المسلمين على إحياء فريضة
الجهاد في سبيل الله؛ وبهذا انتصر.
إن عقيدة الإسلام هي التي عزت بها الأمة المقهورة، وتحولت على أثرها إلى
أمة تمكنت من رد العالم إلى الله، وإخضاعه لكلمة العدل المطلق، وأحيت المفهوم
الإنساني الواسع لكلمة حقوق الإنسان، التي ترتبط بتوحيد الخالق، رب كل الخلق.
إذا أردنا أن نقف أمام هذه الموجة الطاغية؛ فالعقيدة سر قوة الإنسان، وسر
الخوارق التي صنعها المسلمون على الأرض، وهي الزاد الحقيقي الذي دفع أسلافنا
إلى البذل والجهاد، والتضحية والفداء، وبذل العمر الفاني المحدود في سبيل الحياة
الباقية: [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] (العنكبوت: 64) ،
هي التي تجعل الأفراد القلائل يقفون أمام قوى الباطل، وقوى المال، وقوى الحديد
والنار؛ فإذا بها كلها تنهزم أمامهم؛ هي القمة الكبرى في حياة الفرد، وفي حياة
الجماعة، وفي حياة الأمة.
إن هذه العقيدة هي القوة الهائلة في حياتنا العميقة في كياننا، لا يمكن أن
يتخلى عنها الفرد أو الأمة، في الصراع مع الباطل، إلا أن يكون هناك اضطراب
في الموازين أو قصور في الفهم، ومن العقيدة ينبثق كل شيء، فهي القاعدة التي
ينطلق منها وينظر إلى الدنيا وما عليها من خلالها، فسعي المسلم وعلمه وحياته
تصبغه بها: [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] (البقرة:
138) .
* أيها المسلمون:
للأسف الشديد أن عدوكم وهو على الباطل يتمسك بدينه؛ فهو يحرم الزواج
المدني ولا يقبل من يهودي أن يعمل في يوم السبت، ولقد رفض رئيس إسرائيل
وسار في جنازة على الأقدام، حيث وافق اليوم الذي يحرم فيه استخدام وسائل النقل؟
لقد قالوا: «إن شعب إسرائيل لم يحافظ على السبت، بل إن السبت هو
الذي حافظ على شعب إسرائيل» .
بالإيمان المزعوم يهاجر اليهودي من أقصى الدنيا، ويضحي، ويتحمس،
ويسرق الاختراعات ويقاتل، كل ذلك في سبيل الباطل والضلال والعدوان.
ماذا كان يملك أسلافنا؟ لا شيء سوى عقيدة التوحيد، والإحساس بأنهم
يقاتلون من أجل الحق، ومن أجل قيم أفضل، ونظرة للوجود أشمل، والإنسان
أرقى وأكمل، ونظراتهم أفضل من نظرة خصومهم، وأحق بأن تنصر. روى
الطبري أن قيصر بعث جاسوسه إلى معسكر المسلمين، فعاد إليه بصفة المسلمين
فقال: «هم بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن مليكهم قطعوا يده،
ولو زنى رجم، لإقامة الحق فيهم» .
أسلافكم بالعقيدة انتصروا، وتعلموا وعلموا وجاهدوا واخترعوا وهاجروا
وشيدوا، وأثروا التاريخ البشري.
إن نقطة البدء في كل حضارة وتقدم هي العقيدة، هي القيم الصحيحة التي
تقود وتوجه، هي الأفكار الربانية التي تملأ العقل والقلب، وتبني الأمم
والحضارات.
إن العقيدة هي الراية التي يجاهد المؤمنون تحتها وينتصرون من أجلها وبها،
ولا بد من اتخاذ الأسباب من قوة روحية ومادية، لنواجه المؤامرات التي تدخل
علينا من كل باب، وصدق الله العظيم إذ يقول: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج:
40-41) .
__________
(*) من علماء الأزهر الشريف.
(1) متفق عليه.
(2) سيرة ابن هشام.
(3) هيرالد تريبون، عدد 19 ديسمبر 2002م.(187/14)
نص شعري
عودة التتار
محمد العامر الفتحي
في حدِّكَ (الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ)
... ... ... ... ... وحدُّنا غارقٌ في الذنب لم يَتُبِ
بيضُ الدنانيرِ أغرتنا فما برحتْ
... ... ... ... ... سودُ الزنابيرِ تَحْسُو من دم العربِ
(بغداد) لا تغضبي منا فإنَّ لنا
... ... ... ... ... عذراً نعانيه في الأوتادِ [1] والسببِ
* * *
هذا التتاريُّ كم بَدْرٌ أضاء له
... ... ... ... ... ما بين أظهرنا الـ (حمالةِ الحطبِ)
هذا التتاريُّ.. جُرْحٌ في ضمائرنا
... ... ... ... ... ولَطْمَةٌ في جبين العزّ والغضبِ
هذا التتاريُّ.. يجري في أزقتنا
... ... ... ... ... مُنَقَّباً زمناً أو غير منتقبِ
* * *
يا (بصرةَ) المجدِ.. حلَّ المجدُ حَبْوَتَهُ
... ... ... ... ... منذ امتطينا رياحَ الشكِّ والهربِ
وراح يرقص في ثوب البغاء أسىً
... ... ... ... ... ويحتفي - مثلنا - بالسُّحْتِ والكَذِبِ
يَحِنُّ للدولة العظمى فتطعمه
... ... ... ... ... كأس النبيذ.. على كفٍّ من الطربِ
فينحني مرَّةَّ أخرى.. صريعَ هوىً
... ... ... ... ... كأنه لم يقل يوماً «وكان أبي»
* * *
يا بصرة المجد يا داراً أراح بها
... ... ... ... (سعدٌ) [2] ركائب لم تخرج إلى اللعبِ
نادى منادي جهاد الكفر فانفجرتْ
... ... ... ... ... نَبْعاً.. وماست أزاهيراً وهَدْيَ نَبِي
تُغِيرُ حتى يفيقَ الفجرُ مبتهجاً
... ... ... ... ... بفجرها الغَضِّ في ثوب من الذهبِ
يقودها الدين.. لا تسعى إلى سببٍ
... ... ... ... ... من الحياةِ ولا تسعى إلى نشبِ
ها نحن نسلمها.. للموت (غرنطها) [3]
... ... ... ... ... ونحتسي إثرها كأساً من اللهبِ
* * *
سليلةَ الأمَّةِ العظمى.. فداك دمٌ
... ... ... ... ... لم ينتفض غيرةً - يوماً - ولم يَثِبِ
وما تفطَّرَ للأطفال لقَّنَهُمْ
... ... ... ... ... هذا التتاريُّ أنَّ الذُّلَّ في الخُطَبِ
* * *
سألتك الله هل أزرى بنا زمنٌ
... ... ... ... ... منْ قبلُ أو ضمنا قبرٌ من الرَّهَبِ؟
وهل قنعنا بأنْ نحيا على طرفٍ
... ... ... ... ... فلا مِسَاسَ.. وهل ذُبْنَا ولم نَذُبِ؟
وهل إلى دار هارونٍ ومعتصمٍ
... ... ... ... ... نعودُ أم دارِ خوَّانٍ ومغْتَصِبِ؟
__________
(1) مصطلحات عروضية.
(2) ابن أبي وقاص.
(3) غرنطها: أي جعلها غرناطة أخرى.(187/17)
دراسات تربوية
أزمة.. ومواقف
باسل بن سعود الرشود
وتجيء الأزمة كالكير الذي يُذهِب خَبَثَ الحديد، كالنار التي تحرق الأرض
فتعود أخصب من أخصب منها، كالحُمَّى تأخذ الجسد وتطرحه وتمتصه لتطهره من
الذنوب.. وتجيء الأزمة وفي طيها خير للأمة:
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعللِ
وهكذا لا تنفك الأمة في كل زمن عن أزمة تكون لها كالصدمة الكهربائية التي
تنفضها وتحرك دماءها الساكنة
... إنها دروس في استثمار الأزمات:
فيا ابن الإسلام! قد أقبلت عليك أزمة.. ولا بد لك من موقف، فهاك هذه
المواقف:
1 - تثبيت الناس:
الأزمات عواصف تهز الأمة؛ ولا بد للأمة من تثبيت..
الهلع الذي يغمر القلوب الضعيفة يجعلها كالخشبة على ظهر الموجة، كورقة
في ممر الريح.
القلوب الضعيفة عرضة للمد والجزر، ولجذب الشياطين.. واليقين هو حظ
المؤمنين.
فيا أيهذا الداعية! إذا جاءت الأزمة فصِحْ بأعلى صوتك: «يا عباد الله!
فاثبتوا» [1] ، «بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض،
فمن عمل عملَ الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» [2] .
يا أخا الدرب! هوِّن عليك الأمر لا بد من زوال المصابِ ...
سوف يصفو لك الزمان، وتأتيك ظعون الأحبة الغيابِ ...
وليالي الأحزان ترحل، فالأحزان مثل المسافر الجوابِ ...
في الغار.. في أزمة الهجرة.. تجمَّع شرذمة من دولة قريش يطاردون رأس
الأمة صلى الله عليه وسلم؛ يلاحقونه في الجبال.. في الكهوف.. في كل الدروب؛
يرسلون العيون، يتتبعون الآثار، حتى وقفوا على رأسه، وهنا يلتفت أبو بكر
رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفاً عليه.. ولم يعلم أن
في جوف الجبل مَنْ هو أشد ثباتاً من الجبل!
قال أبو بكر رضي الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار
فرأيت آثار المشركين؛ قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا! قال:
«ما ظنك باثنين الله ثالثهما!» [3] .
ويستمر الثبات والتثبيت؛ قال أبو بكر: واتبَعَنَا سراقة بن مالك ونحن في
جَلَدٍ من الأرض؛ فقلت: يا رسول الله، أُتينا! فقال: «لا تحزن؛ إن الله معنا» ،
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سراقة فارتطمت فرسه إلى بطنها [4] ..
[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا] (التوبة: 40) .
2 - وتثبيت العلماء:
والعلماء بشر؛ تعصف بهم الفتن كما تعصف بالناس، ويرتفع الإيمان
وينخفض، وتشتد العزيمة وترتخي، ويميل ويثبت، وما زال السلف يوصي
بعضهم بعضاً أن اصبروا:
في موقف ينسى الحليم سداده ... ويطيش فيه النابه البيطارُ
قال الذهبي في ترجمته لإمام السنة والثابت يوم المحنة أحمد بن حنبل:
«قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: صرنا إلى الرحبة، ورحلنا منها في
جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا. فقال
للجمّال: على رِسلك. ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تُقتل ها هنا وتدخل الجنة؟ ثم
قال: أستودعك الله. ومضى فسألت عنه فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة
يعمل الشعر في البادية، يقال له: جابر بن عامر، يُذكر بخير ... !
قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة
أعرابي كلمني بها في رحبة طوق؛ قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مت شهيداً،
وإن عشت عشت حميداً. فقوَّى قلبي» [5] .
ضع في يديَّ القيدَ، ألهبْ أضلعي ... بالسوطِ، ضع عنقي على السِّكينِ
لن تستطيع حصار فكري ساعة ... أو ردَّ إيماني ونور يقيني
فالنورُ في قلبي، وقلبي في يدَيْ ... ربي، وربي حَافظي ومُعيني
فهذه أزمة (فتوى) .. أزمة (كلمة الحق) .. جاء فيها الأعرابي الضعيف لم
يحقر نفسه يُثَبِّتْ فيها عَلَمَ الأمة..؛ فلم تكن هناك كلمة أقوى منها في قلب أحمد،
[وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (وَالعصر: 1-3) .
3 - ترسيخ الإيمان:
في الأزمة تُقبل القلوب على خالقها.. تلتفت إلى أعلى، [وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ
مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ] (التوبة: 118) ، وكلما رأت القلوب أن الدنيا أدبرت عنها
أقبلت هي على الآخرة! فيا أيهذا الداعية! .. خذ بزمام القلوب وقدها إلى الله.
على الدعاة أن يستثمروا الأزمة.. أن يجعلوها موسماً إضافياً من مواسم
الدعوة.. فهو موسم حافل، عليهم أن يضيفوا إلى نشاطاتهم برنامجاً اسمه: برنامج
الأزمة، ولجنة اسمها: لجنة الأزمة، عليهم أن يضخوا القلوب بمعاني الإيمان
والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة، أن يصيحوا بهم، أن يلقوا لهم بحبل التوبة في
لُجَّة الأزمة.. الأزمة لا تخلو من فتنة وظلمة وجفاف وتيه؛ وفي الإيمان نور
وغيث وهداية.. الأزمة تصيب القلوب.. تغمرها بالخوف والفوضى وتزاحم
الإيمان.. فلا بد أن تملأ قلبك، أن تتصل بالله، أن تضخ القلوب بمغذيات الإيمان؛
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]
(الأنفال: 45) .
عن هند الفراسية أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً يقول: «سبحان الله! ماذا أنزل الله من
الخزائن، وماذا أنزل من الفتن! مَنْ يوقظ صواحب الحجرات يريد أزواجه لكي
يصلين؟ رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» [6] ، قال ابن حجر رحمه الله:
«وفي الحديث استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر؛ كما قال تعالى:
[اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 153) ، وكان
صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة، وأمر مَنْ رأى في منامه ما
يكره أن يصلي..، وفيه التسبيح عند رؤية الأشياء المهولة، وفيه تحذير العالم
مَنْ يأخذ عنه من كل شيء يتوقع حصوله، والإرشاد إلى ما يدفع ذلك المحذور»
[7] . وقال في موضع آخر: «في الحديث الندب إلى الدعاء، والتضرع عند
نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة؛ لتُكشف أو يَسْلم الداعي ومَنْ
دعا له» [8] .
وأزيد: ولتكون الصلاة زاداً في طريق الأزمة المظلمة: «بادروا بالأعمال
فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً
ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا» [9] ، [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى] (البقرة: 197) .
عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ» [10] .
4 - توضيح الدين:
في الأزمات يكثر السؤال، والقيل والقال، تتفرع الأسئلة.. تتزايد، ويفجر
الموقف الواحد ألف سؤال وسؤال..
وتتلفت الأمة إلى قامات العلماء ليسمعوا الكلمة.. والكلمة هنا غالية، غالية
لأنها قد تكلف الإنسان رأسه.. أو ظهره.. أو وظيفته، أو على الأقل ذماً ونفوراً..!
وغالية لأنها قد تخالف هوى مَنْ فوقه أو مَنْ تحته أو مَنْ معه، أو حتى هوى
نفسه!
وحينئذ فلا بد من قيام لله بتوضيح الدين؛ خاصة إذا مُسَّت الأمة في عقيدتها،
وشُوِّش التوحيد، وهُشِّمت الثوابت، ونطق الرويبضة، فهنا: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ
غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] (النساء: 135) ، و «اللَّي» : هو الكذب أو
التحريف، و «الإعراض» : كتمان الحق؛ وآفة الشهادة من أحد هذين.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو معمر القطيعي قال: لما أُحضرنا
إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أُحْضِر؛ فلما رأى الناس
يُجيبون وكان رجلاً ليناً فانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين،
فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت: أبشر؛ عن أبي سلمة، قال: كان من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذا أريد على شيء من أمر دينه، رأيت حماليق
عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون [11] .
ثمن المجد دمٌ جُدنا به ... فاسألوا كيف دفعنا الثمنا!
وافتح كتب التاريخ؛ لتجد صفحات أول أزمة بعد حياة الرسول صلى الله
عليه وسلم؛ أزمة تشتبك فيها السياسة الخارجية بالسياسة الداخلية بمسائل التوحيد
والفقه؛ فيأتي عَلَمُ الأمة أبو بكر فيقول كلمة يوضح بها الدين.
في الصحيحين أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: «لما توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب،
فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:» أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فمن قالها فقد عصم مني
ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله «؟ فقال: والله! لأقاتلن مَنْ فرَّق بين
الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال. والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فو
الله! ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق»
[12] !
ضجرَ الحديدُ من الحديد ولم يزل ... في نصر «دين محمد» لم يضجرِ
حلف البليد ليظفرن بمثله ... حنثت يمينك يا بليدُ فكفِّرِ
واعلم أن المعاني المجردة من التطبيق قد يتمدد العلماء وأنصاف العلماء
وأرباعهم في تنظيرها؛ يرفعون ويخفضون، ويحكمون ويوجبون ويحرمون،
ويرسمون المواقف، فإذا وقعت الأزمة ووجب أن تُترجم تلك المعاني إلى مواقف،
إلى حركة، إلى ثمن، إلى نعم أو لا؛ فهنا تكعُّ النفوس، أو يتغير الموقف، خوفاً
أو ضعفاً أو جهالةً إلا من شاء الله.
وقد تكون المسألة بغاية الوضوح وقت الرخاء؛ فإذا وقعت الواقعة فكأنما
غشيتها غمامة!
ولقد تساءل أحدهم يوماً فقال: «هل غابت معاني القرآن في أحداث العراق؟
.. فالناظر إلى حال أهل الإسلام تجاه نازلة العراق يرى انحساراً وذهولاً عن
معاني القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: [وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] (المائدة:
51) ، فمظاهرة الكفار على أهل الإسلام ردة وخروج عن الملة ... وها هو شيخ
الإسلام ابن تيمية مع سعة علمه ورحابة صدره يقرر ذلك بكل صرامة قائلاً:
» فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار؛ فإن التتار
فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة
الكافر الأصلي، من وجوه متعددة «؛ مع أن الحكم على التتار في حد ذاته مشكل
على بعض أهل العلم، لكن الإمام ابن تيمية يقطع بكفرهم، وكفر من لحق بهم
وظاهرهم؛ فما ظنك بالقتال مع الأمريكان الصليبيين المقطوع بكفرهم وظلمهم
واستبدادهم؟! .. ولم يقتصر علماء الدعوة السلفية على مجرد تنظير هذه المسألة؛
بل نزّلوا هذا الحكم الشرعي على ما يلائم من الوقائع وبكل رسوخ وتحقيق،
والناظر إلى رسالتيّ» الدلائل «للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد
الوهاب، و (النجاة والفكاك من مولاة المرتدين وأهل الإشراك) للشيخ حمد بن
عتيق، ومناسبة تأليفهما يدرك جلياً صرامة هؤلاء الأعلام تجاه هذه القضية» [13] .
5 - استشعار الأزمة:
وقد تمر الأزمة بالأمة فلا يبالي الرجل بما كان وما يكون، العالم يضطرم
وهو في ثلاجة؛ كأن الأزمة مجرد شهر جديد من شهور السنة؛ تسير حياته فيه
كما سارت في الشهر الذي قبله؛ لم يغير جدوله، ولم يُعِدّ نفسه، ولم يضع بصمته
في صفحة الأزمة، وربما دهمته الأزمة وخنقته وقد فرّط.
لقد كان الإمام مالك رحمه الله يترك التحديث في رمضان ليفرغ إلى الصلاة
والذكر، ولقد عرض للأمة نازلة توجب الاشتغال بما هو أعظم من نوافل الذكر
والصلاة.
وأعظم من ذلك أن ترى ذا العلم وذا الدعوة يرى الأزمة تركض إليه وإلى
قومه، في يدها الفتنة والضلال، تقسم بالله لأغوينكم أجمعين، ولأقتلنكم، ولأقطعن
أيديكم أرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم؛ وهو لم يحرك ساكناً، ولم يسكِّن متحركاً،
ليس لغفلة أو لجهالة أو لعجز فيُعذر؛ بل تعامياً وتماوتاً، وموت القلوب أشد من
موت الأبدان:
أبني! إن من الرجال حجارةً ... في صورة الرجل السميع المبصرِ
فطن بكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعرِ
وقد غضب ابن القيم رحمه الله تعالى يوماً، فقال في (أعلام الموقعين) كلاماً
جزيلاً طويلاً، ننقله لك بطوله وعرضه، حيث كان كتلة من المعاني:
«ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته - سوى العبودية العامة
التي سوَّى بين عباده فيها -؛ فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث
الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس
على غيره، وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به،
والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغني من عبودية أداء
الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادر على الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما..
وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فقالت له امرأة: هذا واجب قد وُضع عنا. فقال: هبي أنه قد وُضع عنكن
سلاح اليد واللسان؛ فلم يوضع عنكن سلاح القلب! فقالت: صدقت، جزاك الله
خيراً.
وقد غرَّ إبليس أكثر الخلق بأن حسَّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة
والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يُحدِّثوا
قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً؛ فإن الدين هو
القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله
من مرتكب المعاصي؛ فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين
وجهاً ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه.
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو
وأصحابه؛ رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً والله المستعان،
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يُترك،
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت
اللسان شيطان أخرس؛ كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بليَّة الدين إلا
من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين،
وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو
ماله؛ بذَّل وتبذَّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه!
وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم؛ قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليَّة
تكون وهم لا يشعرون؛ وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان
غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل، وقد ذكر الإمام أحمدُ وغيره أثراً؛
أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا. فقال: يا
رب! كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ يوماً قط.
وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قل
لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إليّ فقد
اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب! وأي شيء لك
عليّ؟ قال: هل واليت فيَّ ولياً أو عاديت فيَّ عدواً؟» انتهى [14] .
إذن؛ أول قواعد استثمار الأزمة أن تستشعر الأزمة! والباقي في الطريق!
لستَ بحاجة لأن أقول لك: إن التفاعل المطلوب مع الأزمة هو التفاعل
الإيجابي؛ التفاعل الذي يدفعك، ويحركك، ويرفع وعيك، وليس هو القلق
والخوف والقنوط، ليس هو الهمَّ الذي يحاصرك، ويقتل حماسك وعقلك وفكرتك،
ويجمد أعضاءك.
6 - استنهاض الهمم:
السيوف والقنابل قبل أن تقصف الرؤوس تقصف الهمم! وجيوش الهموم
تسبق جيش الناس لتحارب العزائم، تخوفها، تخوّرها، تسحبها إلى الوراء،
تجذبها إلى الأرض.. وعلى الأمة أن تستنهض هممها، وأن تشعلها.. بل تفجرها
تفجيراً..
استنهاض الهمم بالآي، بالحديث، بالخطبة، بالقصة، بالشِّعر.. بالموقف
الشجاع.
لما خرج المسلمون إلى مؤتة للقاء النصارى قال المسلمون: صحبكم الله ودفع
عنكم، وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
أو طعنةً بيدَي حرانَ مجهزةً ... بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي: ... أرشده اللهُ من غاز وقد رشدا
وخرج جيش المسلمين بثلاثة آلاف، وجيش الصليب يموج بمائتي ألف
مقاتل، كفتان غير متكافئتين في نظر الحسبة العسكرية الفقيرة، «فلما بلغ ذلك
المسلمين أقاموا على (معان) ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدوِّنا؛ فإما أن يمدنا بالرجال، وإما
أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم، والله!
إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا
كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى
الحسنيين؛ إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد والله! صدق ابن رواحة.
فمضى الناس» [15] ، وقد والله! صدق ابن رواحة.
وفي القرن السابع؛ جاء التتار يزحفون من مشرق الأرض، يأكلون الأخضر
واليابس والبلدان والقرى والناس، يسيلون في كل واد، يبتلعون كل شيء..
سقطت الهند والسند وما وراء النهرين وفارس، وابتلعوا بغداد عاصمة الخلافة،
وقضموا من الشام وفلسطين،.. وذعر الناس، وهُزموا هزيمتهم النفسية،
وهربوا وهربت قبلهم هممهم! وظن بعضهم أنها القيامة، وأنهم يأجوج ومأجوج،
وظن بعضهم أن لا طاقة لنا اليوم بهولاكو وجنوده، وطفق عُبّاد التراب والكراسي
من النصارى والمتمسلمين إلى الإخذاء للتتر، وفتحوا الأبواب ودفعوا الأموال،
«حتى أمدهم البعض بجند مسلمين ليشاركوهم في احتلال المواقع الإسلامية
الأخرى، يضاف إلى ذلك أن النصارى في بلاد الشام وأرمينية خصوصاً ملك
أرمينيا هيثوم قدَّموا كل دعم للمغول، وشاركوهم في غزو بعض مدن الشام، ومنها
حلب ودمشق، حتى تمكنوا من الوصول إلى فلسطين» [16] .
فخرج إليهم جيش الإسلام من مصر يتقدمهم المظفر قطز رحمه الله، وكان
حديث عهد بالولاية ليس له غير أشهر، وكان ذا صلاح وتقى، بعيداً عن الخمر
واللهو، كثير الصلاة في الجماعة.
وقد أرسل هولاكو خطاباً عنيفاً يتهدد فيه المسلمين ويتوعدهم، ومما قال فيه:
«نحن قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى! وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا
سكانها! .. فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا
ويعود عليكم الخطا، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكا! وقد سمعتم أننا
فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد! .. فالحصون لدينا لا تُمنع، والعساكر
لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع! فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفّون عند كلام،
وخنتم العهود والأيمان! وفشا فيكم العقوق والعصيان!» إلى آخر الرسالة.. [17] .
ولما جاء الخطاب جمع قطز القضاة والعلماء، والقادة والأمراء، وأطلعهم
عليه واستشارهم، فمنهم قال بالاستسلام والصغار، ومنهم من أشار بالفرار، وقال
بعضهم: إلى المغرب أو اليمن حيث لم يصل المغول بعد! فغضب قطز وقال:
«يا أمراء، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون! وأنا
متوجه، فمن اختار الجهاد ليصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته؛ فإن
الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين» [18] .
فخرج بنفسه رحمه الله، والتقى الجيشان في (عين جالوت) في غور
الأردن، وتردد بعض الأمراء في القتال، فقال قطز: أنا ألقى التتار بنفسي.
فتشجع الأمراء والقواد. وعندما لامه بعض الأمراء وقال: يا خوند لم لا ركبت
فرس فلان؛ فلو كان رآك بعض الأعداء لقتلك وهلك الإسلام بسببك؟! فقال: أما
أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله ربٌّ لا يضيعه؛ قد قُتل فلان وفلان
وفلان وعدَّد خلقاً من الملوك فلم يُضع الله الإسلام! «.
وفي هذه المعركة حمل التتار بقيادة» كتبغانوين «على ميسرة المسلمين
فكسروها؛ ففزع المسلمون وانكشفوا، فلما رأى ذلك المظفر رحمه الله رمى
الخوذة من على رأسه وصرخ فيهم المظفر رحمه الله: وا إسلاماه! وا إسلاماه!
وا إسلاماه! فتشجعت الهمم:
من لي بجيلٍ نداء الموت يطربهُ ... وللرصاص بساحاتِ الفدا زجلُ
لبيك لبيك يا صوت الجهاد فقد ... أجابك القلبُ والأشواقُ والمقلُ
لو لم تسرْ بنا قدمٌ سارت بنا مهجٌ ... تكاد عنا إلى لقياك ترتحلُ
» ثم أيَّد الله المسلمين وثبتهم، فحملوا حملة صادقة على التتار فهزموهم
هزيمة لا تُجبر أبداً، وقتل «كتبغانوين» في المعركة، وأُسر ابنه، وكان شاباً
حسناً، فأُحضر بين يدي المظفر قطز، فقال له: أهرب أبوك؟ قال: إنه لا يهرب.
فطلبوه فوجدوه بين القتلى فلما رآه ابنه صرخ وبكى، فلما تحققه المظفر قال: نام
طيباً، كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سعدهم. وهكذا كان كما قال، ولم يفلحوا
بعده أبداً، وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، لعنه الله تعالى «
[19] .
7 - تجميع الصفوف:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقن تكسرت آحاداً
وقد علم الناس أن الريح أشدَّ من الرياح، وإذا كانت اليد الواحدة لا تصفق؛
فإن الأيدي المختلفة ما لم تُضبط تعترك وتتخاصم.
لا شك؛ لن تجعلها صفاً واحداً، لكن استووا وتراصوا، وأتموا الصف الأول
فالأول! ..
نحتاج إلى رص الصفوف والقلوب والجهود، ونحتاج إلى نشر أدب الخلاف
وفقه الأخوة مع قاموس نظيف للألفاظ، ونحتاج ثالثاً إلى النصح والتصحيح، وبيان
الحق والصبر على ذلك.. ولا شك أن المقصود ليس هو الاجتماع فقط، وليس هو
كونك على شيء من حق فقط، ولكن المقصود الاجتماع على الحق، والله يقول:
[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) ، وأول من
نحتاج إلى الالتفاف حوله ورص الصف معه: العلماء والمجاهدون والدعاة.
نحتاج إلى ترشيد الجهود، إلى التسامي عن المعارك الهامشية حول اسم
ورمز، أو المجادلة عن حظ النفس باسم الدفاع عن الدين..، أو الأنانية الفكرية
الضيقة في (أنا) الفردية أو (نحن) الحزبية.
لما اقترب التتار من دمشق سنة 702هـ في شهر شعبان، جاء شيخ الإسلام
العالم المجاهد ابن تيمية فحرَّض الناس على القتال، وكان الناس قد خافوا،» ولم
يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد، وازدحمت المنازل
والطرقات، واضطرب الناس، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية صبيحة يوم
الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد
القتال بنفسه ومن معه؛ فظنوا أنه إنما خرج هارباً، فحصل اللوم من بعض الناس،
وقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد؟ فلم يرد عليهم!! « [20] .
وكلام سيئ قد وقرت ... أذني عنه وما بي من صمم!
ابن تيمية يهرب من البلد؟! سبحان الله! ولكن الوقت عنده رحمه الله ليس
وقت أنت هربت وأنا لم أهرب!
نحتاج كذلك إلى تقليل القيادات! نعم؛ من المستحيل حالياً على الأقل أن
تجعل الأمة تحت قيادة واحدة، ويفيئون إلى راية واحدة، ويستمعون لشيخ واحد أو
صوت واحد، ومع ذلك فلا يصلح أبداً أن تموج الأمة في عشرات آلاف الرؤوس
في عشرات الآلاف من الطرق والتوجهات! ، وتكون كما قيل:» جاءت إليك
لجنة، تبيض لجنتين، تفقسان بعد جولتين عن ثمان، وبالرفاء والبنين تكثر
اللجان! «.
فلو فاءت كل فئة إلى أكبر رأس لها من أهل العلم تحسبه يخشى الله ويعلم عن
الله وأنه على الحق؛ فتستمع له، وترد إليه وتصدر عنه، وتقترب منه، وتناقشه
فيما ترى، ولا مانع أن تخالفه في الرأي والعمل إذا صحَّ عندها الدليل، ولكن على
الأقل ألا تخبط في الآراء خبط عشواء.
والمقصود هنا قلة القيادات الموجِّهة، أما قيادات العمل والتفعيل والتنفيذ فنعم،
بل وزد؛ لأن الأمة لن تستوعبها الرؤوس ولا الجماعات الموجودة ولو تضاعفت،
بل ينبغي أن نفعِّل الأمة كل الأمة..
8 - تفعيل الأمة كل الأمة:
كل الأمة؛ الصغير والكبير، والرجل والأنثى، الغني والفقير وما بينهما،
الصحيح والمريض، والأعرج والمشلول، حتى البر والفاجر وآخرين خلطوا، بل
حتى المبتدع ونصف المبتدع وربعه ما لم يخرج عن الإسلام؛ هذا فضلاً عن
الجماعات المسلمة بكل الأسماء وفي كل الاتجاهات..
تريد مهذباً لا عيب فيه ... وهل عود يفوح بلا دخانِ؟
العمل للأمة واجب الجميع؛ لأنها أزمة الجميع، ولأنَّا نحتاج إلى كل الطاقات،
وهي أوسع من فئة أو أفراد أصلحوا ما بينهم وبين الله، وبالطبع؛ فلا بد أن
يكون التفعيل وفق ما يرضي الله، وأن تصب مصلحته فيما يرضي الله، وأن يبقى
النصح والعتاب، وربما البغض في الله، بما يوافق شرع الله..
نحتاج أولاً: إلى إيقاظ الأمة، إلى نفض بقايا النوم، إلى إحياء الموات
وبعث الجماد.
نحتاج ثانياً: إلى تجييش الأمة، إلى الكلمة التي تستنهض همتها؛ إلى
الصورة، والخطبة، والقصة، والعاطفة.
نحتاج ثالثاً: إلى التغاضي شيئاً ما، وإلى تهدئة لهجة العتاب شيئاً ما، وإلى
تأجيل الخصومات الداخلية وتجاوز الخلافات الشكلية.
في الخندق، والأزمة أزمة الأحزاب.. يعمل الجميع، الرجال يحفرون،
ويحملون الصخور، ويحرسون الثغور، سلمان يخطط، وعلي يقصف رأس من
يعبر الخندق، وعبد اللَّه بن رواحة وخوات بن جبير يتحسسان أخبار قريظة،
حتى امرأة جابر تصنع طعاماً يبارك الله فيه فيكفي أهل الخندق، وحتى عبد الله بن
الزبير الفتى الصغير يراقب من على سور الحصن، وحتى عبد الله بن أم مكتوم
الرجل الضرير يوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم» مديراً «لأمور المدينة..
في أزمة الردة، تنتفض الأمة كلها: أبو بكر يفتي ويوجه ويعقد الألوية، بل ويقاتل
بنفسه في ذي الحسي والقصَّة، علي والزبير وطلحة وسعد يحرسون أنقاب
المدينة، وآل مقرن في معركة مع الأعراب، وأسامة إلى الروم، وخالد إلى
البطاح، وعكرمة إلى اليمامة، وعمرو إلى الشمال، والعلاء إلى البحرين،
وعدي يثبت أهل الطائف، وسهيل يثبت أهل مكة، إلى آلاف الأسماء والمهمات
خلفها الأمة كلها..
في القادسية، يفترسون الفرس بجيش فيه سعد بن وقاص القائد المصاب،
وفيه أبو محجن الثقفي شارب الخمر مجلود الظهر ولكنه يحب الله، وفيه ربعي بن
عامر الخطيب المؤمن الذي يقول: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى
عبادة رب العباد.
بل وانظر إلى زمن صلاح الدين بطل حطين، والمظفر قطز بطل عين
جالوت، وابن تيمية بطل شقحب؛ اقرأ الأخبار، واسبر الرجال، واقرأ الفهارس،
لتجد أن الأمة مع انتصارها لا تخلو من ضعف وتقصير، ومعاص وبدع،
وشغب وخصومات، فالكمال عزيز، ومن اشترط للنصر أن تعود الأمة كلها
» جيلاً فريداً «كجيل الصحابة؛ فقد اشترط محالاً، وغفل عن سيرة
الأمة..
وقد أجمعوا أن الجهاد ماضٍ مع كل إمام مسلم؛ بر أو فاجر، فإذا جاز أن
تقاتل الأمة خلف إمام فاجر في سبيل الله طبعاً؛ ألا يجوز أن يكون في جيشها
الفاجر وشبه الفاجر؟ و» إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر « [21] .
9 - إلى الله:
وأخيراً إلى الله.. وما جعلت هذا الموقف هنا أخيراً لأنه مهمل، ولا أتيت به
تكميلاً للقسمة و» أسلمة «للبيان.. ولكن جعلته هنا ليكون آخر ما تقرأ؛ لتذكره
فلا تنساه، لتحفظه حفظاً وتحفره في ذاكرتك، وتكتبه في يدك، وتجعله في
خاتمك..
إلى الله؛ فالخير بيديه، والشكوى إليه، والأمر منه وإليه.
إلى الله؛ فهو أمان الخائفين، وأنس المستوحشين، ورب العالمين. [فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ
مُّبِينٌ] (الذاريات: 50-51) .
في يوم بدر جاءت قريش، جاءت بجيش من خيلها وجيش من خيلائها،
جاءت بهيلمانها وانتفاشها، جاءت برؤوسها؛ يسيرون في غابة أشجارها السيوف
والرماح، ألف من المقاتلين الحنقين المغضبين.. خرجوا بطراً ورئاء الناس
ويصدون عن سبيل الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في ثلاثمائة رجل، جاؤوا
وليس لهم غير فرسين، وغير جمال يتعاقب على الواحد منها الثلاثة والأربعة
والخمسة، جاؤوا بالثياب المرقعة.. ونام الصحابة» إلا رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح! « [22] .
ذهب إلى الله؛ وقد» بات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي
إلى جذع شجرة هناك، ويكثر في سجوده أن يقول: يا حي يا قيوم. يكرر ذلك «
[23] .
جَمَعَ الشجاعةَ والخشوعَ لربِّه ما أحسن المحرابَ في المحرابِ! وأصبح
الصبح، وتراءى الجمعان.. وجاءت الولاءات المتحدة القرشية!» فلما أقبلت
ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاؤوا
منه إلى الوادي، فقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها؛ تحادك
وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة» [24] .
ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الله! قال عمر بن الخطاب: لما كان يوم
بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه
ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً؛ فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه
فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن
تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض» ، فما زال يهتف بربه ماداً
يديه مستقبل القبلة؛ حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه
على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه
سينجز لك ما وعدك، [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ
المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ] (الأنفال: 9) . فأمده الله بالملائكة « [25] .
علي بن أبي طالب قال:» لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال، ثم جئت
مسرعاً لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، فجئت فأجده وهو ساجد
يقول: «يا حي يا قيوم!» لا يزيد عليها، فرجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد
يقول ذلك، ثم ذهبت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، فلم يزل يقول
ذلك حتى فتح الله عليه « [26] .
إلى الله يوم أزمة الخندق..
يوم بلغت القلوب الحناجر، وخرجت العيون من المحاجر، يرسل رسول الله
صلى الله عليه وسلم حذيفة يستطلع خبر القوم، فيرجع إليه فإذا هو قائم يصلي [27] !
قال حذيفة:» وكان إذا حَزَ بَه أمرٌ صلَّى « [28] :
لله درُّك ما نسيت رسالةً ... قدسيةً وعِداك بالأبوابِ أفديك
ما رمشت عيونك رمشة ... في ساعة والموت في الأهدابِ
وإلى الله.. يوم قتال الترك..
قال الأصمعي: لما صافّ قتيبة بن مسلم للترك، وهاله أمرهم، سأل عن
محمد بن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه، يبصبص بأصبعه
نحو السماء. فقال قتيبة: تلك الأصبع أحب إليَّ من مائة ألف سيف شهير وشاب
طرير! [29] .
وإلى الله.. يوم قتال الروم في (ملاذكرد) عام 463 هـ..
وها أنا ذا أسوق قصتها لك كما حدَّث بها قلم ابن كثير، وما حفزني إلى ذلك
إلا مشابهة الحال للحال، وكيف أن روم الأمس كروم اليوم جمعوا الناس، وساقوا
المدرعات، وخططوا فيما بينهم في اقتسام البلاد!
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:» وفيها [أي سنة 463هـ] أقبل ملك الروم
أرمانوس في جحافل أمثال الجبال، من الروم والكرج والفرنج، وعدد عظيمة
وتجمل هائل، ومعه خمسة وثلاثون ... من البطارقة، مع كل بطريق ما بين ألفي
فارس إلى خمسائة فارس، ومن الغزِّ الذين يكونون وراء القسطنطينية خمسة عشر
ألفاً، ومعه مائة ألف نقّاب وحفّار، وألف روزجاري [أي عامل] ، ومعه أربعمائة
عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والعرّادات
والمجانيق، منها منجنيق يمده ألف ومائتا رجل، ومن عزمه قبحه الله تعالى أن
يجتث الإسلام وأهله، أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد!! واستوصى نائبها بالخليفة
خيراً! فقال له: ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا! ثم إذا استوسقت ممالك العراق
وخراسان لهم؛ مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة فاستعادوه من أيدي المسلمين،
واستنقذوه فيما يزعمون، والقدر يقول: [لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ]
(الحجر: 72) . فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين
ألفاً؛ بمكان يقال له الرهوة في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف
كثرة المشركين، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن
يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين
[30] .
فلما تواجه الفتيان نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل، ومرغ وجهه
في التراب ودعا الله واستنصره؛ [وبكى وتضرع] ، فأنزل نصره على المسلمين،
ومنحهم أكتافهم؛ فقتلوا منهم خلقاً كثيراً لا يُحصون كثرة، وأسر ملكهم أرمانوس؛
أسره غلام رومي، فأمَّره السلطان وأعطاه شيئاً كثيراً.
وقد كان هذا الغلام عُرض على نظام الملك الوزير في جملة تقدمةٍ فلم يقبله؛
فقال له سيده: إنه.. وإنه.. يثني عليه، فرده [أي رده إلى الجيش] وقال كهيئة
المستهزئ به: لعله يجيئنا بملك الروم أرمانوس أسيراً!! فوقع الأمر كما قال، فلله
الحمد والمنة «.
إليك وإلا لا تُشد الركائبُ ... ومنك وإلا فالمؤمِّل خائبُ
وفيك وإلا فالرجاء مضيعٌ ... وعنك وإلا فالمحدِّث كاذبُ
وإن تعجب فاعجب لقوم يحاربون الله ويعادون دينه ويقاتلون أولياءه، قد
جندوا أنفسهم للشيطان، وقتلوا النفوس وسرقوا الأوطان، ومع ذلك فروا بزعمهم
إلى إلههم!
روت مفكرة الإسلام في موقعها بتاريخ 27/1/1424هـ فقالت:» رغم أن
الجنود الأميركيين الذين يشاركون في القتال ضد العراق هم الذين يواجهون الخطر
في أرض المعركة إلا أنه طُلب منهم الدعاء من أجل رئيسهم جورج بوش،
ووزعت كتيبات على آلاف من رجال مشاة البحرية الأميركية [المارينز] تحمل
عنوان «واجب المسيحي» ، وتحتوي تلك الكتيبات على أدعية، كما تحتوي على
جزء يتم نزعه من الكتيب لإرساله بالبريد إلى البيت الأبيض ليثبت أن الجندي الذي
أرسله كان يصلي من أجل بوش! وطبقاً لأحد الصحفيين المرافقين لقوات التحالف؛
فإن هذا الجزء يقول: (لقد صليت من أجلك، ومن أجل عائلتك، وموظفيك
وجنودنا؛ في هذه الأوقات التي تسودها حالة عدم اليقين والاضطراب؛ ليكن سلام
الله دليلك!) ، ويقدم الكتيب الذي وضعته جماعة تسمى «إن توتش منيستريز»
صلوات يومية من أجل الرئيس الأميركي، وتقول صلاة يوم الأحد: (ادع من
أجل أن يلجأ الرئيس ومستشاروه إلى الله وحكمته كل يوم، ولا يعتمدون على فهمهم
الخاص!!) . أما صلاة الاثنين فتقول: (ادع أن يكون الرئيس ومستشاروه أقوياء
وشجعاناً لعمل الصواب بغض النظر عن النقاد) !! [31] .
وبعد؛ فهذه أزمة، وهذا موقف؛ فيا مسلم.. اثبت وثبِّت، ازرع الإيمان
ووضِّح الدين، اهتم وأشعل الهمة، وحِّد الصف، وفعِّل الأمة، وفر إلى الله؛ جرِّد
حسام العزم وقل: باسم الله، واضرب رأس الأزمة، ولا تعجز، واجمع أصحابك
وكونوا:
رجالاً إذا الدينُ ناداهم ... أجابوا بـ «لبيك» قبل الصدى!
جرى حبُّ نصرته في العروق ... فأضحى بها المنهضَ المقعدا
إذا ابتدؤوا همةً في العلا ... ففي ظلِّه خبرُ المبتدا
__________
(1) روى مسلم في صحيحه، برقم (5228) ، في كتاب: (الفتن وأشراط الساعة) عن النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال، الحديث، وفيه: (إنه خارج خلة بين الشآم والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً؛ يا عباد الله! فاثبتوا) .
(2) رواه أحمد، عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري في فضائل القرآن، برقم (4663) ، ومسلم في فضائل الصحابة، برقم (4389) عن ثابت البناني: حدثنا أنس قال: حدثني أبو بكر.
(4) رواه البخاري في كتاب المناقب، برقم (3652) ، ومسلم في كتاب الزهد، برقم (5329) ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(5) انظر: تاريخ الإسلام، ص 4166، وسير أعلام النبلاء.
(6) رواه البخاري، كتاب الفتن، رقم 7069.
(7) فتح الباري، 1/ 211.
(8) فتح الباري، 13/23.
(9) رواه مسلم في كتاب الإيمان، برقم 169، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(10) رواه مسلم في كتاب الفتن، رقم 5242.
(11) سير أعلام النبلاء، للذهبي.
(12) البخاري في كتاب الزكاة، رقم 1400، ومسلم في كتاب الإيمان، رقم 26.
(13) من مقال للشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، في موقع الإسلام اليوم، زاوية مقال الأربعاء، بتاريخ 17/1/1424هـ.
(14) أعلام الموقعين عن رب العالمين، 2/ 177.
(15) البداية والنهاية، لابن كثير، في حوادث سنة 8هـ، واعلم أن مؤتة من أرض البلقاء شرقي الأردن، وأن سبب المعركة هي أن النبي صلى الله عليه وسلم جهز هذا الجيش انتقاماً لمقتل رجل واحد فقط هو الحارث بن عمير الأزدي، حين حمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل أمير غسان فقتله، ثم جاء جيش الصليب.
(16) انظر: الفتوح الإسلامية عبر العصور، لعبد العزيز العمري، ص 342.
(17) انظر: تاريخ مختصر الدول، للعبري، ص 247، وانظر: المصدر السابق.
(18) انظر: الفتوح الإسلامية عبر العصور، لعبد العزيز العمري، ص 342.
(19) انظر في النقول: البداية والنهاية في أحداث عين جالوت، وفي ترجمته للمظفر من وفيات سنة 658 هـ.
(20) البداية والنهاية، في ذكر وقعة شقحب؛ من أحداث سنة 702 هـ.
(21) البخاري في كتاب الجهاد والسير، رقم 3062، ومسلم في كتاب الإيمان، رقم 162.
(22) تفسير ابن كثير، 2/ 292، وانظر: ابن حبان، 1/ 409.
(23) انظر: البداية والنهاية في أحداث السنة، 5/ 82.
(24) السيرة النبوية، لابن هشام، 3/ 168.
(25) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير، برقم 3309، وأصله في البخاري.
(26) رواه الحاكم (1/ 344) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة، وبوب عليه بقوله: (فزعه صلى الله عليه وسلم في الشدائد إلى الصلاة) ، وبوب عليه الهيثمي في مجمعه فقال: (باب الاستنصار بالدعاء) ، 10/ 147، وحسنه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وليس في إسناده مذكور بجرح، وقد أورده ابن حجر في الفتح وسكت عنه؛ فهو حسن عنده، والحديث من رواية عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده علي رضي الله عنه.
(27) التصريح بأنه كان يصلي في مسند البزار، 7 / 318، ومعناه في صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، رقم 3343.
(28) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، برقم 1124.
(29) سير أعلام النبلاء، وكان محمد بن واسع من العباد الزهاد، روى معتمر عن أبيه قال: (ما رأيت أحداً قط أخشع من محمد بن واسع) ، وقال جعفر بن سليمان: (كنت إذا وجدت من قلبي قسوة؛ غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع) .
(30) ويشبه هذا ما فعله قطز حين أخر القتال يوم (عين جالوت) حتى زالت الشمس وحضرت الصلاة، ودعا الناس لهم في خطبهم يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان عام 658هـ، كما في البداية والنهاية؛ في أحداث سنة 658هـ.
(31) انظر الموقع:
www.islammem.cc/news/ne_news.asp?IDnews=754(187/18)
قضايا دعوية
معالم في التعامل مع مآسي المسلمين
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
أصبحت المأساة والمعاناة اليوم هي القاسم المشترك بين أحوال المسلمين، فهم
ما بين جائع يبيت لياليه طاوياً، وبين خائف لا يعرف أن هناك في الوجود شيئاً
يسمى الأمن والطمأنينة، وبين مَنْ يصبح ويمسي على أزيز الرصاص ودوي
القنابل، قد أصبح اللون المعهود لديه هو لون الدم، وغدت مناظر الأشلاء والجثث
المتطايرة مشاهد معتادة لديه لا تثير استغرابه أو دهشته، كل يوم يشيعون ضحية
بل ضحايا.
حين تلفظ بكلمة المأساة؛ يقفز إلى الذهن أنك تعني المسلمين الذين ما أن
يفيقوا من مصيبة إلا ويصبحون على أخرى.
وإزاء هذا الواقع نسمع حديث الغيورين والناصحين، فنبكي وننتحب، ثم
نبكي وننتحب، ثم يعود الأمر برداً وسلاماً.
إننا ومع تعدد المآسي التي تواجه الأمة بحاجة إلى ترسم معالم منهج في
التعامل معها والنظر إليها، ومن ذلك:
1 - فهمها في إطار الواقع:
الأحداث التي تمر بالأمة ليست نموذجاً شاذاً بل هي إفراز للواقع الذي تعيشه،
وثمرة للتخلف الذي تعاني منه في جوانب شتى من حياتها. ومن ثم فلا يمكن أن
نفهم الأحداث فهماً سليماً حين نعزلها عن إطار الواقع العام للأمة، فهي حلقة من
سلسلة، ونموذج من ظاهرة، والتخلف الذي تعاني منه الأمة اليوم يمكن تلخيصه
في مجالين رئيسين:
الأول: ضعف الأمة في دينها، وبعدها عنه.
والثاني: تقصيرها في الأخذ بأسباب القوى المادية التي أُمرت بها.
2 - وزن ردود الأفعال:
تولد الأحداث بضخامتها صدمات عنيفة لدى كثير من الناس، وهذه الصدمات
تفقد الكثير منهم اتزانه، وكثيراً ما يحدث الخلل في ردود الأفعال مع الأحداث
المؤلمة.
إننا لا يسوغ أن نلغي تفاعل الناس مع الحدث، ولا أن نهزأ بمن يملكون
عاطفة جياشة حرمنا منها نحن، لكننا بحاجة إلى ضبط ردود الأفعال، وتربية
الناس على وزنها بميزان الشرع والعقل، وعلى أن تكون العاطفة والحماسة وقوداً
للعمل المثمر المنتج لا لاجتهادات تفسد أكثر مما تصلح.
كما أننا بحاجة إلى تربية الناس على أن التفاعل الحقيقي مع الحدث هو تفاعل
الإنسان بكيانه كله، بعاطفته وبعقله وماله وبدنه، وبفكره ورأيه، وحين يعلو جانب
على حساب آخر يطيش الميزان ويضطرب.
وها هو صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أبي جندل وسائر ضعفاء المسلمين
بما يقتضيه الموقف، وإن كان التفاعل العاطفي المجرد يوحي بخلاف ذلك.
3 - التفاعل معها باعتدال:
إن التفاعل مع قضايا الأمة وهموم المسلمين ليس مجرد ثقافة سياسية أو
انشغال بما لا يعني، بل هو أثر من آثار الإيمان، عن أَبِي مُوسَى الأشعري رضي
الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ
بَعْضًا. ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ
يَسْأَلُ أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ؛ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ
عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» [1] .
وعن النعمان رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا
تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» [2] . وفي رواية: «الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ
وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» [3] .
ومع أهمية التفاعل وضرورته، إلا أنه ينبغي أن يأخذ القدر الملائم معه
فتتوازن اهتماماتنا ومطالبنا. وهذا يعني أن تدخل هذه القضايا ضمن منظومة
اهتماماتنا ومشاغلنا، دون أن تكون هي كل شيء أو أن نطالب الناس بأن يجعلوها
كل شيء.
إن المآسي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من واقع الأمة، وحين تستغرقنا كل حالة
فهذا يعني أن جهدنا كله سينحصر في التعامل مع المآسي، ولن يتبقى حينها وقت
لمشروعات الإصلاح الأخرى فضلاً عن مشروعات البناء الهادئة، فمتى نجد الوقت
لتقديم برامج علمية وإنشاء مؤسسات تعليمية، أو إيجاد برامج إصلاح اجتماعي،
أو تطوير مراكز وقنوات إعلامية، فضلاً عن قراءة الواقع قراءة متأنية. بل قد
يستغل الآخر هذا الانشغال فيمرر كثيراً من مشروعات الإفساد؛ مستثمراً انشغالنا
بمثل هذه الأزمات.
4 - الحل ضمن مشروع شامل للإصلاح:
الأحداث ليست نموذجاً شاذاً، بل هي جزء من نسيج الأمة وواقعها كما سبق،
ولن يكون التعامل معها سليماً حين نفصلها عن واقعنا، وفي المقابل فلن يتأتى
الحل بعيداً عن حل القضية الكبرى، ولن يكون الحل إلا جزءاً من مشروع
الإصلاح الشامل؛ فلتوظف الأحداث لحشد الأمة إلى مشروع التغيير والإصلاح
الذي يرتقي بها.
إننا بحاجة إلى العمل في مسارين: مسار يتفاعل مع الأحداث ويهتم بها،
ومسار يسير في مشروع الإصلاح الشامل.
5 - توسيع دائرة الاهتمام:
إن اتساع دائرة الأزمات، وتعدد مواطن الخلل في المجتمعات الإسلامية؛
يتطلب أن يتسع أفقنا للتعامل مع الأزمات، وأن نبتعد عن المراهنة على أن يتم
حسم هذه القضايا المعضلة من خلال فئة محدودة من المتعاطفين مع الأحداث لا
يملكون حضوراً حقيقياً في مؤسسات المجتمع، ولا يجيدون لغة التواصل مع فئاته
المختلفة، فضلاً عن مدى النضج الذي يمتلكونه.
وإننا بحاجة إلى ألا يمنعنا تحفظنا على بعض فئات المجتمع ومؤسساته من
السعي إلى النهوض بها، فقوة مجتمعات المسلمين رصيد مهم للأمة، فامتلاك
باكستان على سبيل المثال للسلاح النووي أفاد شعبها المسلم وحماه من تسلط محتمل
من عدوه، رغم الفارق بين النظام والشعب. وها هو الغرب يعي أن قوة الأنظمة
العربية مهما بلغت في عمالتها ليست في صالحه ولا صالح ربيبته المدللة.
6 - البعد عن التناول العاطفي المجرد:
الجانب العاطفي يبدو جلياً في المآسي، فهي تستثير عاطفة الجامدين فضلاً
عمن يحملون الغيرة والحمية لدينهم، ويتألمون لآلام إخوانهم.
والخطاب الدعوي اليوم خاصة المسموع منه يتفاعل بصورة ملحوظة مع
المآسي، إلا أن الغالب عليه هو الحديث العاطفي، وهو مع أهميته خاصة في مثل
هذه القضايا إلا أنه لا ينبغي أن يكون هو النمط الوحيد، فلا بد من الاعتناء
بالخطاب المنطقي العقلاني الذي يتناول المواقف ويحللها بصورة متزنة؛ فالإصرار
على الخطاب العاطفي وحده قد يجعل العاطفة هي مصدر تحديد المواقف لدى طائفة
من المستمعين، كما أن استمرار هذا اللون من الخطاب يسهم في تسطيح عقلية
المستمعين.
7 - الأحداث مدعاة للاجتماع لا الافتراق:
الأحداث المتسارعة والمتلاحقة قد لا يتفق على تفسيرها العقلاء، وقد لا تلتقي
الآراء والأفهام حول موقف واحد في تسويغ عمل أو ردة فعل، فما يراه أحدهم
سائغاً ومشروعاً قد لا يراه غيره كذلك.
والمأمول من الأمة أن يتسع صدرها لتقبل الاجتهاد وتعدد الآراء، وألا تخلع
على من يخالفها في فهم المواقف ألفاظ الجبن والتخاذل، أو التهور والاندفاع، وأن
يتم التفريق بين الخلاف في المباديء والمفهومات، والتطبيقات العملية لها.
والأحداث فرصة للاجتماع لا الافتراق، ومن الافتراق أن نتطلع إلى أن يتفق
البشر على ما لا يمكن أن تجتمع كلمتهم عليه.
8 - لكل حدث خصوصياته:
لكل حدث طبيعته وخصوصياته، وما يجدي في موطن لا يجدي في آخر،
وما يطفيء النار في مكان يزيدها اشتعالاً في غيره.
ثمة مواطن يحتاج فيها المسلمون إلى حمل السلاح وإعلان الجهاد والصراع
مع العدو، ومواطن يحتاجون إلى كف اليد لا رفضاً لمبدأ الجهاد، فهو ماض إلى
يوم القيامة، لكن لأن ما يرجى من مصالح الصراع والمواجهة دون مفاسد ذلك
بكثير، والله تعالى لم يشرع الجهاد لمجرد أن تراق الدماء بل لتعلو كلمة الله ويكون
الدين له عز وجل.
وثمة مواطن تتطلب أن يهب لها طائفة من أبناء الأمة ممن أخذوا بعنان
خيولهم في سبيل الله يبتغون الموت والقتل مظانه، وأخرى تتطلب أن يكون دور
غير أهل البلاد مدهم بالمال والرأي والحكمة.
إننا بحاجة إلى فقه ووعي وإعطاء كل موقف ما يناسبه.
9 - التفاؤل والبعد عن التيئيس:
الأحداث المتلاحقة والمحن المتواصلة تورث اليأس لدى النفوس، وتغرس
بذور الإحباط والقنوط، والدعاة الحكماء هم أولئك الذين لا يحولونها إلى آلة لرفع
رصيد اليأس، وإلى وسيلة لصنع الأسى.
إنهم يؤمنون بأن في المحن منحاً، وبأن النصر مع الصبر، وبأن مع العسر
يسراً: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:
139) ، [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن
نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) .
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أنه يعتني بتعزيز روح
التفاؤل لدى أصحابه في المواقف الحرجة، فحين أتاه خباب رضي الله عنه يشتكي
له ما لقي من المشركين قال له: «وَاللَّهِ! لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ
صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ، أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»
[4] .
وفي غزوة الأحزاب حين اشتد الكرب بالمؤمنين، وبلغت القلوب الحناجر،
وظن المنافقون الظنون بربهم تبارك وتعالى؛ فتح النبي صلى الله عليه وسلم باب
الفأل أمام أصحابه، «عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ
لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ، ثُمَّ هَبَطَ
إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ:
اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي
هَذَا. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ
مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا.
ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ
مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» [5] .
وإشاعة الروح الإيجابية والتفاؤل ينبغي أن تكون واقعية، ومستندة إلى السنن
الربانية، لا أن تكون مجرد تخدير للمشاعر والعواطف، فضلاً عن تلمس المنامات
أو السعي إلى تنزيل ما صح وما لم يصح من أخبار الفتن الملاحم.
10 - الاعتناء بتقديم البرامج العملية:
نستطيع استثارة عواطف الناس ومشاعرهم، وفي المصائب والمآسي مادة
ثرية لا تعجز المتحدث والخطيب ولا تحوجه إلى اللسان الفصيح أو القلم السيال،
لكننا مع ذلك بحاجة إلى أن نوقف الناس على مشروعات وجهود وبرامج عملية
يطبقها الصغير والكبير، ويقوم بها الرجل والمرأة.
إننا أمام تحد يتجاوز النحيب والبكاء، أو التفاعل العاطفي، ويسعى إلى
الانطلاق والعمل، فالشعور الحي الصادق ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.
وحين تستثار النفوس وتتفاعل المشاعر، فالناس أكثر تهيؤاً لأن يعملوا عملاً
ذا بال، ويخطوا خطوات ذات أثر، والمأمول من أصحاب الكلمة المسموعة أن
يضعوا أقدام الناس على معالم الطريق، وأن يرشدوهم إلى ما يعملون.
11 - توظيفها توظيفاً إيجابياً:
الدعاة وبناة المجتمع يبحثون عن الفرص حتى من بين المواطن التي يتبادر
اليأس فيها إلى ذهن الناس، وبقدر ما في المآسي من أعباء ومشكلات؛ ففيها فرص
كثيرة يمكن توظيفها واستثمارها.
ومن مجالات توظيف الأحداث والمآسي ما يلي:
* على مستوى بلاد الدعاة ومناطقهم:
1 - فهم مشكلات الأمة:
الأحداث والمشكلات لا تنفصل عن واقع الناس، وهي إفراز لأمراض
تعايشها الأمة وتعاني منها، ومن ثم فهي بقدر ما تستثير فينا المشاعر للتعاطف مع
إخواننا والتألم لآلامهم؛ فهي تكشف لنا أمراضاً وعللاً كانت تحجبنا عنها الأوضاع
الهادئة المستقرة، وفي التنزيل: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 165) .
[وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى: 30) .
فما أجدر الغيورين الناصحين أن يجعلوا من الأحداث نذير خطر لأمتهم، وأن
يوظفوها في الكشف عن مواطن العلل والخلل في واقع الأمة.
2 - تقرير المبادئ والمفهومات:
كما أن الأحداث تكشف الأمراض والعلل فهي تتيح فرصاً لتقرير كثير من
المبادئ، وتجلية كثير من المفهومات الغائبة لدى الناس، وتصحيح ما علا عليه
الران وغطى عليه الغبش.
فهي فرصة لتقرير حقائق الولاء والبراء، والقضاء والقدر، والتوكل واليقين،
وهي فرصة لبناء جسور الأخوة المقطوعة بين الأمة، وترميم ما أورثته
الحزبيات والصراعات الجاهلية.
وهذا هو منهج القرآن الكريم في التعقيب على كثير من الأحداث، كما جاء
سورة الأنفال في التأكيد على إصلاح ذات البين عند التعقيب على غزوة بدر، وكما
جاء في سورة النور حول حادثة الإفك، والتأكيد على التثبت، وحسن الظن
بالمسلمين، وكما جاء في سورة آل عمران في بيان مسؤولية الأمة عما يحل بها من
مصائب عند التعقيب على أحداث أُحُد.
وفرق بين تناول هذه القضايا في الأجواء الساخنة والمواقف التي تتفاعل معها
النفوس، وتناولها في الأجواء الهادئة والنفوس مترهلة.
3 - فهم واقع الصحوة:
تمثل شرائح الصحوة أكثر شرائح المجتمع الإسلامي تأثراً بالأحداث وتفاعلاً
معها، وهذا التفاعل يتيح للمصلحين قرءاة واقع الصحوة قراءة أدق وأعمق،
فالأحداث تُبرز مكنونات النفوس، فتبدو إيجابيات غائبة، وعلل وأمراض خفية.
وكما أن الأحداث تبدي لنا ما كان خافياً من محاسن أو مساوئ، فهي ترينا أن
كثيراً من الأمور محاسن أم مساوئ أكبر أو أقل بكثير مما كنا نعتقد.
4 - الارتقاء بالوعي:
يتيح تفاعل الناس مع الأحداث اتساعاً في دائرة الإقبال على السماع والمناقشة
لتفاصيلها، وهي فرصة سانحة لتوظيف هذا الإقبال والتفاعل مع حضور الحدث
في الأذهان لتنمية الوعي الذي نعاني من ضحالته لدى مجتمعات المسلمين، ولدى
شباب الصحوة، وهذا لن يتم تحقيقه ما دام الخطاب العاطفي هو السائد كما أشرنا.
5 - إيجاد المؤسسات والجمعيات:
تعد المؤسسات والجمعيات الدعوية والإغاثية مطلباً مهماً لدى كثير من الدعاة،
ولا يزال القائم منها دون المستوى المطلوب، والأحداث والمآسي تهيئ فرصاً من
تفاعل أهل الأموال وتعاون أصحاب القرار، وهذه الفرص لا تتاح في الظروف
المعتادة.
فمن المفيد استثمار هذا التفاعل لما وراء الحدث، ومن ذلك السعي إلى إنشاء
الجمعيات والمؤسسات التي يمكن أن يمتد نشاطها زماناً ومكاناً وموضوعاً.
6 - التواصل مع شرائح وفئات أخرى:
ما زالت الصحوة تعاني من ضعف تفاعلها مع كل طبقات المجتمع، فثمة فئة
عريضة من غير المتدينين يملكون طاقات جيدة يمكن توظيفها في كثير من
المشروعات الدعوية. وكثير من هؤلاء يتفاعلون مع الأحداث، وهذا التفاعل إما
أن يتلاشى أثناء الحدث لعدم تهيؤ المجالات العملية، وإما بعد انتهاء الحدث.
ومن المهم أن يستثمر هذا التفاعل في إزالة كثير من الحواجز، وفي مد
الجسور معهم ليزداد التواصل فيما بعد.
7 - تفعيل الطاقات المعطلة:
تملك الصحوة عناصر غير فاعلة من المستجيبين لها والمحسوبين عليها،
وهذه العناصر تمثل هدراً في الطاقات بل عبئاً يستهلك كثيراً من الجهد الدعوي
والتربوي، وأياً كان السبب في ذلك فالأحداث تدعو كثيراً من هذه العناصر لإعادة
التفكير، وتحفزهم على التفاعل؛ مما يمثل فرصة ثمينة لتوسيع دائرة هذ التفاعل
زماناً فلا يتوقف عند هذا الحدث، وموضوعاً فيمتد لمجالات أخرى من العمل.
* في مناطق الأزمات:
1 - الوجود الدعوي:
تتيح الأحداث والأزمات زوال كثير من الحواجز التي تقف دون وصول
العمل الدعوي إلى تلك المناطق، كما تمثل الأعمال الإغاثية فرصة لإيجاد
المؤسسات الدعوية هناك.
وهذا يتيح مجالاً للوجود الدعوي في هذه المناطق بقدر لا يتحقق في ظل
الأوضاع المعتادة.
2 - تبنّي قيادات مستقبلية:
تفتقر كثير من مناطق المسلمين إلى قيادات علمية ودعوية، وكثيراً ما تعوق
الحواجز السياسية واللغوية والأوضاع المادية للمجتمعات أمثال هؤلاء عن التواصل
مع الدعاة وأهل العلم.
والأزمات تسهم في زوال كثير من الحواجز، وفي استفاقة فئات عدة من
شباب المسلمين في مواقع الحدث.
ومن هنا فهي فرصة سانحة للاعتناء بأمثال هؤلاء، وإعدادهم ليكونوا قادة
ودعاة في مجتمعاتهم.
3 - استثمار فرصة التفاعل:
يتفاعل كثير من المسلمين مع المناطق المنكوبة والمصابة بالأزمات، وهذا
يهيئ فرصاً لأن يُوظف هذا التفاعل في مشروعات دعوية حيوية تنهض بهذه
المناطق؛ من خلال إنشاء مدارس ومعاهد شرعية، ومن خلال احتضان العديد من
أبنائها في الجامعات الإسلامية، ونشر اللغة العربية عند من لا يتحدثونها، وطباعة
الكتب وترجمتها ... إلى غير ذلك من الفرص التي يمتد تأثيرها، وقد يصعب القيام
بها في غير أوقات الأزمات.
* عالمياً:
يمتاز عصرنا باتساع دائرة التفاعل العالمي مع الأحداث، فما يحدث في
الشرق يتردد صداه في الغرب، وكثيراً ما يتسابق العالم للتفاعل مع هذه الأحداث
وفق مصالحه.
وجدير بالمصلحين في الأمة أن يوظفوا التفاعل العالمي مع الحدث بما يحقق
مصالح الأمة بقدر استطاعتهم.
فأحداث العراق الأخيرة على سبيل المثال قد أحدثت تصدعاً في التحالف
الدولي؛ يمكن تفعليه وتوظيفه في اختراق هذا التحالف الذي كثيراً ما يكون ضد
مصالح الأمة.
__________
(1) رواه البخاري (6027) ، ومسلم (2585) .
(2) رواه البخاري (6011) ، ومسلم (2586) .
(3) رواه مسلم، (2586) .
(4) رواه البخاري (6943) .
(5) رواه أحمد (19219) .(187/26)
قضايا دعوية
الحوادث المعاصرة
رؤى ومواقف وعبر
د. إبراهيم بن ناصر الناصر [*]
كشفت أحداث الحملة الأمريكية على العراق عن دروس كثيرة، وذكَّرت بعبر
عظيمة يحسن بنا الوقوف عندها وتدارسها ومعرفة الرؤى الصحيحة؛ لنتخذ
المواقف الشرعية المناسبة لخدمة الدعوة وحفظ الأمة ونصرة الدين، ومن ذلك:
أولاً: عدم التسرع والعجلة في أيام الفتن، ولزوم التؤدة في جميع الأمور،
وضبط ردود الأفعال:
فالتؤدة خير كلها إلا في أمور الآخرة، وتتأكد في أوقات الفتن والهرج
والحوادث الكبيرة، ومن التؤدة استشارة الناصحين من الدعاة والعقلاء وأهل العلم،
وعدم التفرد بالرأي في اتخاذ المواقف العلمية أو العملية، وأن يُستشار مَنْ يجمع
بين العلم الشرعي وبين البصيرة في أحوال الزمان، مع قوة الديانة ما أمكن، مع
العلم أن التؤدة لا تتعارض مع ضرورة اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب.
ومن الميادين التي يحصل فيها التعجل:
1 - أحاديث الفتن والملاحم فهي جزء من ميراث النبوة ما صح منها، ومن
العلم الذي يتعبد المسلم به ربه تعلماً وتعليماً في كل وقت، يقوي به إيمانه ويحسن
به الظن بربه، ولا يسوغ تحذير الناس من هذا العلم بسبب ردة فعل من بعض
الجهلة الذين يسلكون طريقة غير شرعية في التعامل مع هذا العلم وفهمه.
وترويج مصطلح «التعلق بالغيبيات» لا يسوغ إلا ببيان المقصود منه بياناً
واضحاً؛ وهو التحذير من ترك العمل تعلقاً بما في الغيب، وبيان أنه لا يجوز
تنزيل أحاديث الفتن والملاحم على وقائع معينة أو أشخاص بأعيانهم مثل (المهدي،
القحطاني، السفياني، ... ) ؛ قبل أن يتحقق من العلامات والأوصاف والأحوال
التي جاءت في الأحاديث ما يقطع أو يغلب على الظن بأنها هي المقصودة، مع
الحذر من ترويج الأحاديث الموضوعة والضعيفة في هذا الباب إلا للتحذير منها؛
فمصنفات هذا العلم أحد أودية الوضع كما ذكر علماؤنا.
2 - الرؤى والمنامات، وتأثر المواقف بها، فضلاً عن انطلاقها منها،
فالحذر من مكر الشيطان في هذا الباب؛ فالرؤيا للمؤمن مبشِّرة وليست حاكمة على
مواقفه.
3 - اتخاذ المواقف بناءً على حوادث جزئية، أو مقدمات الأحداث الكبيرة،
أو التهويلات الإعلامية؛ فهالة أمريكا العسكرية والإعلامية جعلت أكثر أهل
الأرض يقطعون بأن الحملة على العراق ستنجح بالوقت والكيفية التي تروِّجها
أمريكا، حيث ستحصل انتفاضة للشعب العراقي وتحسم المعركة خلال يومين،
وعندما أبدت العراق مقاومة باسلة في البداية وأعاقت التقدم الأمريكي؛ ذهب الكثير
إلى أن أمريكا ستندحر في المعركة! وهكذا.
ثانياً: وفي ظل الحوادث الكبرى ينبغي التشديد في أخذ الحيطة والحذر من أمور:
1 - الأمن من مكر الله؛ بترك الدعوة إلى الله وعدم تربية الناس على الإيمان،
وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة الفساد وعدم إقامة الحجة
على الناس حكاماً ومحكومين، وترك تحذيرهم من الوقوع فيما يضاد التوحيد من
مظاهرة الكفار ومناصرتهم، قال الله تعالى: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود: 117) ، وقال: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنكُمْ خَاصَّةً] (الأنفال: 25) .
2 - مكر الزنادقة والمنافقين ومرضى القلوب في الداخل، والذين يظهرون
في أوقات الفتن وينتهزون شغل الناس بالمحن لتنفيذ مخططاتهم الفاسدة في
مجتمعات المسلمين، ويتقوون بموقف الكفرة الأمريكان الغاضب على كل ما هو
إسلامي؛ فيُحَذَّر منهم، وتُفضَح مخططاتهم بين المسلمين، وتلبيسهم على المؤمنين،
فهم إخوان للعدو الصليبي. قال الله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ
لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] (الحشر: 11) . وقال
تعالى: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) .
3 - ترك مناصحة السمَّاعين للمنافقين الذين تجري على ألسنتهم شبهاتهم،
ويرددون مصطلحاتهم، ويحسنون الظن بهم؛ باسم الوحدة الوطنية، واحترام الرأي
الآخر، والمصير المشترك، والسِّلم الاجتماعي، والحوار مع الآخر. قال الله
تعالى: [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] (التوبة: 47) .
ثالثاً: دعوة العامة وغيرهم إلى الأخذ بأسباب النجاة، ومن ذلك:
1 - الدعاء والتضرع إلى الله برفع البأس واستنزال النصر، قال تعالى:
[فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 43) ، ويُؤكد ذلك مع الضعفاء والشيوخ الكبار من
الصالحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا
بضعفائكم؟» [1] .
2 - كثرة العبادة خاصة في أوقات الفتن، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم» [2] . الحديث. وقال صلى الله
عليه وسلم: «العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ» [3] ، وعند أحمد: «العبادة في
الفتنة كالهجرة إليَّ» [4] ، والمعنى أن الناس زمن الفتنة يتبعون أهواءهم كأهل
الجاهلية؛ فمن استمسك بدينه وعبدَََ ربَّه كان بمنزلة من هاجر من أهل الجاهلية إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المعنى أن الناس ينشغلون في الفتنة عن العبادة،
فرغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة وقت انشغال الناس وإعراضهم عنها.
رابعاً: هل كانت الحرب حرب مصالح أم حرباً صليبية؟ وما حجم البعد الديني
فيها؟
هذه الحرب يسوغ أن نطلق عليها أنها «حرب صليبية» ، وهذا المصطلح
للحرب أقر به السياسيون الغربيون فضلاً عن رجال الدين، وتحت لافتة «الحرب
الصليبية» تدخل أبعاد كثيرة؛ منها البعد الديني، والبعد الحضاري، والبعد
العنصري، والبعد الاقتصادي (المصالح) . صحيح أنها ليست حرباً دينية بمفهوم
الحروب الدينية التي عاشتها أوروبا في العصور الوسطى، لكنها «حرب صليبية»
بمفهوم حروبهم للمسلمين التي أطلقوا عليها «الحروب الصليبية» في نهاية
القرن الخامس الهجري، والتي دخلت فيها الأبعاد المذكورة جميعاً؛ فالصليب لدى
الغربيين اليوم يمثل انتماء وهوية حضارية أكثر من أن يمثل التزاماً دينياً. أما البعد
الديني في هذا الصراع فله خمسة مظاهر:
الأول: أحد مكونات بيئة القرار الأمريكي الخارجي هو البعد الديني لدى
الإنجيليين الصهاينة المؤثرين في ذلك القرار.
والمظهر الثاني: الخلفية الدينية لدى الرئيس بوش، فهو تلميذ مخلص
للقسيس المتشدد بيلي جراهام، وعضو في طائفة «الميثوديت» التي تمثل
التحالف الصهيوني المسيحي، والذين يؤمنون بفكرة هدم المسجد الأقصى، وإقامة
الهيكل، وأن المسيح لن يظهر ما دام المسجد الأقصى قائماً، وأن إسرائيل مشروع
إلهي لا بد أن يسيطر، ويرى أنه يخوض حرباً تحت شعار «عودة المسيح» ،
وأن الإسلام «دجل ديني» .
والمظهر الثالث: احتلت العراق مساحة كبيرة في العقل الديني للمسيحيين
الإنجيليين، فكتب طائفة «الميثوديت» حافلة بالحديث عن العراق، وأن المسيح
إذا خرج لا بد أن يحيط به الذهب النقي الخالص الذي يكون في دولة مسلمة قريبة
من أورشليم، وأن هذه الخصائص تنطبق على العراق، ويعتقدون أن جبل الذهب
ما زال موجوداً داخل العراق، وإن لم يُكتشف بعد، كما أن بابل وملكها الذي
سيدمر إسرائيل مرة أخرى هي إحدى نبوءات كتبهم.
والمظهر الرابع: مطالبة الرئيس الأمريكي للكونجرس بأن يصدر بياناً
يطالب فيه الأمريكيين بتقديم الصلوات لصالح الجيش الأمريكي في العراق،
وفتاوى حاخامات اليهود في إسرائيل للجنود اليهود الأمريكيين والبريطانيين بإقامة
صلواتهم في خيامهم غرب نهر الفرات؛ بناءً على أنهم في أرض إسرائيل الكبرى.
والمظهر الخامس: أن أحد أبرز المستهدفين بهذه الحروب هم أهل الدعوة
والجهاد، وبيئات المسلمين الدينية والدعوية والجهادية.
صحيح أن الدول المشاركة في الحرب هي الدول البروتستانتية (أمريكا،
بريطانيا، أستراليا) ، فقط لكن الدول الكاثوليكية متعاطفة معهم، ومن خالفهم قبل
الحرب بدأ يتعاطف معهم بعد الحرب، ثم لا ننسى الدور الإسرائيلي في هذه
الحرب، فإسرائيل في قلب الحدث تخطيطاً وإعداداً ومشاركة، ولذا يمكن أن
نصف هذه الحرب بوصف أدق، وهو أنها «صليبية صهيونية» .
خامساً: سنة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وسنة الإملاء والإمهال للكافرين:
فكل فتنة تقع بين المسلمين والكافرين هي مقتضى هاتين السُّنتين، قال تعالى:
[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 141) ، فمحق
الكافرين يسبقه تمحيص المؤمنين، قال تعالى: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا
نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ] (آل عمران:
178-179) .
فالمسلمون في مواجهة الفتن يكونون تحت الابتلاء والتمحيص؛ لأن المسلمين
اليوم فيهم الصادق والكاذب، والمؤمن والمنافق؛ وفيهم دعاة الإصلاح ودعاة الفساد،
وفيهم قوي الإيمان وضعيفه، وفيهم من تعصف به الأفكار والعصبيات
والانتماءات الجاهلية؛ فتأتي الأحداث للتمييز والفرز؛ بحيث يظهر الصالح من
الطالح، والأصيل من الرديء، ومريدو الآخرة من مريدي الدنيا. والابتلاء
والاختبار يقع على ما في القلوب، وعلى ما تتلفظ به الألسنة، وما تفعله الجوارح،
وما يُتخذ من مواقف؛ لتتضح مواقف الصدع بالحق من مواقف المداهنة، ومواقف
البراءة من الشرك وأهله من مواقف الركون إليهم ومظاهرتهم.
سادساً: انكشاف أمريكا من أهم دروس الحوادث تلك، وأبرز ما ظهر في مجالين:
1 - المجال الإعلامي: وكيف أن أمريكا تُسَخِّر آلتها الإعلامية في التضليل،
وإصرارها على ذلك على الرغم من وعي الكثيرين به. كذلك المؤسسات الإعلامية
الأمريكية وهي غير حكومية تتحالف مع حكومتها في هذا التضليل، والذي يقع
معظمه على الشعب الأمريكي خاصة والشعوب الغربية عامة؛ فاحتراف الكذب
والتضليل بالحجم الذي تُظهره هذه الحوادث يكشف جانباً من أخلاقيات هذه
الحضارة، والذي وصل إلى ضرب الصحفيين غير الأمريكيين وقتلهم عندما
اقتضى الأمر ذلك؛ من أجل التعتيم الإعلامي؛ ضاربة بذلك الأعراف والأخلاقيات
والمعاهدات التي تمنع ذلك.
2 - المجال الأخلاقي: حيث تختفي كثير من القيم التي تدعيها الحضارة
الغربية؛ فتأييد بوش في حربه الظالمة على العراق يزداد داخل الشعب الأمريكي
بعد رؤيتهم للدمار في العراق؛ وهذه مأساة أخلاقية لدى هذا الشعب. ثم قتل
المدنيين من النساء والأطفال والاستهانة بدمائهم، وتدمير المنشآت المدنية، واحتقار
الآخرين، والاستهتار بهم؛ فالأسرى العراقيون، وقبلهم أسرى جوانتانامو، يجوز
إظهارهم على وسائل الإعلام وهم في منتهى المهانة، أما الأسرى الأمريكان
والبريطانيون فلا يجوز؛ لأنه يخالف «اتفاقية جنيف» في شأن الأسرى!!
موقف عنصري بغيض، فهم يرون أن الفرق بين المسلمين وبينهم كالفرق بين
200 دولار التي دفعتها أمريكا دية لكل فرد قُتل جراء قصف أمريكا الخاطئ لحفل
زفاف إبان حملتها على أفغانستان، وبين 10 ملايين دولار التي دفعت لكل واحد
من قتلاهم في حادثة لوكربي، وهذا يدل على «سقوط أخلاقي» مروِّع، بل
هو انكشاف لحقيقة هؤلاء الأخلاقية، وانهيار في أخلاقيات هذه الحضارة؛ مما
يتيح فرصة تربوية لأجيال المسلمين في تخفيف شعور الإعجاب والانبهار بهؤلاء
القوم وحضارتهم.
سابعاً: كشفت الحوادث وجود تباين في المواقف بين الأنظمة والشعوب وبين
القادة والقواعد:
ففي الوقت الذي نرى قطاعات من الشعوب الإسلامية تنهض مناصرة للقضية
العراقية، ويتدفق المتطوعون لدعم الشعب العراقي؛ نجد أن أغلب الأنظمة في
البلاد الإسلامية والعربية مشاركة أو متحالفة أو ساكتة عما يحدث للمسلمين في
العراق؛ خاصة بعدما بانت وحشية الحرب واستهتار الأمريكان والبريطانيين بدماء
الشعب العراقي، ووضوح دور (إسرائيل) في الحرب؛ مما يؤكد أن هذه الأنظمة
تتحمل مسؤولية أكبر عن حال ضعف المسلمين، وفي كلٍّ ضعف؛ لكن الله يزع
بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ فالكثير من أفراد الشعوب الإسلامية والعربية يبادرون
إلى الجهاد في سبيل الله عندما يوجد ميدان معركة، وعندما تجري انتخابات حرة
يصوتون لرافعي شعار الإسلام، وعندما يجري استفتاء حول تطبيق الشريعة يفتون
لصالحها؛ لكن بيئة الحكام وملئهم في البلاد الإسلامية تقف حجر عثرة أمام هذه
المبادرات الإيجابية من الشعوب، فأزمة الأمة في القيادة تظهر في طائفتين:
1 - القيادات السياسية الخائرة، والتي لم تعد تملك قرارها، وحسمت أمرها
في الانسجام مع أمريكا، وقبول هيمنتها على حساب دينها وسيادتها وشعوبها.
2 - القيادات الدعوية والعلمية الحائرة، والتي لم تستطع أن تواكب تطلعات
قواعدها وتلاميذها، والمترددة في مواقفها.
ثامناً: التاريخ يعيد نفسه، ويجسد سننه ودروسه، والغافلون يكررون المأساة
ولا يلتفتون للعظات والآيات:
وذلك بتكرار ما حدث في التاريخ الماضي وكثر في التاريخ المعاصر؛ وهو
وقوف بعض المسلمين في خندق واحد مع الكفرة الأعداء ضد مسلمين آخرين،
حدث هذا أيام الصليبيين في بلاد الشام، وحدث مع ملوك الطوائف بالأندلس،
وحدث أيام الاستعمار الأوروبي لبلاد المسلمين في العصر الحديث، وحدث أثناء
الحملة الأمريكية الأخيرة على أفغانستان، ويتكرر المشهد اليوم فيما يجري من
أحداث على الساحة العراقية بوقوف بعض دول الجوار للعراق في خندق واحد مع
الأمريكان المعتدين، والتاريخ ينبئ عن نهاية غير كريمة للذين يضعون أنفسهم
مطية للكافر، فضلاً عن سبَّة التاريخ، ومذمة الأجيال، وعقوبات الله العاجلة
والآجلة.
تاسعاً: [وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأنعام:
129) :
ومعنى الآية أن الله سبحانه وتعالى يُسَلِّط بعض الظالمين على بعض، ويهلك
بعضهم ببعض، وينتقم من بعضهم ببعض جزاءً على ظلمهم وبغيهم؛ فطغاة بغداد
ظلموا وبغوا على شعوبهم المسلمة، وعلى جيرانهم من المسلمين؛ فسلَّط الله عليهم
من هو أقوى وأظلم، وفي الأثر: «عقوبتان معجلتان: العقوق والبغي» ، والله
تعالى ينتصر للمظلوم من الظالم بتسليط بعض عباده على ذلك الظالم ولو كانوا
كفاراً، وقد قيل:
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيُبلى بأظلم
وهذا درس أشبه بالسُّنة الثابتة، ونوجهه إلى طائفتين:
1 - إلى الحكام الظالمين لشعوبهم؛ أن الله لهم بالمرصاد، وأن الظلم عاقبته
وخيمة، وعقوبته معجلة، وأن الذي يعين الظالم على ظلمه ظالم مثله ومستحق
للعقوبة.
2 - ثم نوجهه درساً للشعوب المسلمة عامة وشعب العراق خاصة؛ للعودة
إلى الله وترك الذنوب والمعاصي، ونبذ الانتماءات والولاءات غير الشرعية؛ فما
نزلت عقوبة إلا بذنب، ولا رُفعت إلا بتوبة، وأن الشعب العراقي الذي كان
موضعاً لظلم حكامه، ثم ضحية لعدوان الأمريكان الظالم في مرات عديدة يجب عليه
أن يتذكر قول الله تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) ، إن هذا الشعب جدير بالنصر إذا
صدق مع الله؛ فتاريخه مجيد في بناء حضارة الإسلام، وحاضره مشرف في
مقاومة المحتلين.
عاشراً: هذه الحرب إذا حققت أهدافها العاجلة؛ فسوف ننتظر أهدافاً آجلة تسعى
إليها القوى المنتصرة خاصة أمريكا وإسرائيل:
وأخطرها هدفان رئيسان:
- التغريب الذي ستقوم عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
- والتطبيع الذي ستقوم عليه إسرائيل.
ولن يتحقق هذان الهدفان إلا بمحاولة إزالة العوائق من طريقهما، والعائق
الرئيس هم أهل العلم والديانة، أو هو الدين بذاته، وإزالته تكون بعلمنة المجتمع
وتغريبه، وتحريف ثوابت الدين، ومراجعة المواقف، لطرح نموذج محرف
للإسلام يتواءم مع رياح التغريب والتطبيع بما يسمى لدى الغرب بـ (الإسلام
المعتدل) ، ويسميه البعض بـ (الإسلام الأمريكي) . وسوف ينشط تيار النفاق
في توطين هذا النموذج من خلال الاستقواء بالموقف الغربي واليهودي، ومن خلال
تمكين الحكام لهم من وسائل التوجيه والإعلام، ومن خلال استثمار مواقف بعض
مرضى القلوب ممن كان ينتمي إلى الدعوة والعلم في يوم من الأيام، ومن خلال
كلام رخو لبعض الدعاة في هذا الزمان.
حادي عشر: غياب معاني القرآن الكريم عند الحوادث:
فحكم تولي الكفار ومظاهرتهم ومناصرتهم على المسلمين من أوضح المسائل
وأجلاها في القرآن، وقد أجمع أهل العلم على حرمتها، وهي من الوضوح لدرجة
أن تجد من صبيان المسلمين مَنْ يحفظها، ولأهميتها كانت هذه المسألة إحدى أهم
المسائل التي قامت عليها الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية، وقد اعتبرها إمام
هذه الدعوة إحدى المكفرات؛ ومع هذا كله عند الحوادث تغيب هذه المعاني حتى
عن بعض أهل العلم؛ وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما قال:
«الناس تغيب عنهم معاني القرآن عند الحوادث» [5] .
عايشنا هذا الموقف من بعض المسلمين والمفتين في أحداث أفغانستان
الأخيرة، ونشاهده الآن في أحداث العراق كما قال تعالى: [أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ] (التوبة: 126) .
إن الذهول عن هذه المعاني يحتاج إلى تعريف بها، وبعض الناس يعرف إذا
عُرِّف، لكن بعضهم يقع تحت تأثير الأهواء السياسية والمطامع الشخصية؛
فيحرِّف معاني كتاب الله عند حلول الحوادث، وغلبة الأهواء، وتحكُّم السياسة
بالدين.
ثاني عشر: ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، ولا بينه وبين أحد معين من
خلقه عهد:
فالمسلمون الذين يقفون مع الظالم المجرم ويعينونه على الظلم والإجرام؛ ماذا
ينتظرون؟ أليسوا ظالمين مثله.. والله توعد الظالم بالأخذ الشديد؟ قال صلى الله
عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» [6] ، ثم قرأ: [وَكَذَلِكَ
أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 102) ، عندما
يعان المجرم (أمريكا) على تدمير بلد مسلم، وتقتيل وتشريد شعب مسلم في
أفغانستان، ثم يتكرر الموقف مع هذا المجرم، فيعان على تدمير بلد آخر وتقتيل
شعب مسلم آخر في العراق؛ ماذا ينتظر هؤلاء الراكنون إلى الظالمين؟ هل اتخذوا
عند الله عهداً أن يحفظ لهم أمنهم ورغد عيشهم من أجل أن يعينوا بها الكفرة على
قتل المسلمين وتدميرهم؟ حاشا الله الحَكَم العدل من ذلك؛ فليحذر أولئك العقوبات
الأخروية الآجلة، والابتلاءات الدنيوية العاجلة؛ فالظلم عاقبته وخيمة، وليحذر
أهل العلم والدعوة والرأي في الأمة من السكوت على ذلك وعدم الإنكار؛ فالله تعالى
يقول: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
العِقَابِ] (الأنفال: 25) .
ثالث عشر: (إسرائيل) في قلب الحدث:
فالمعلومات المثيرة التي تنشر عن دور غلاة اليهود في أمريكا في إعداد
مشروع الحرب وصياغة أهدافه، ودور إسرائيل في الإعداد لها وفي المشاركة فيها
بأساليب مختلفة، فضلاً عما بقي طي الكتمان ولم يُنشر؛ يؤكد بما لا يدع مجالاً
للشك علاقة الحرب باليهود وبمشروعاتهم في المنطقة، والتي لُخصت بثلاثة
أهداف:
الأول: رئيس أركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية (موشيه يعلون) يعلن
بأن الانتصار يسرب الشعور بالعجز والهزيمة لدى العرب عامة والفلسطينيين
خاصة؛ مما يجعل من العام الحالي عام الحسم ضد الانتفاضة.
والثاني: أورده (شفتاي شفيط) رئيس الموساد الأسبق الذي توقع أن يسود
العالم العربي بعد الحرب مناخ ثقافي مغاير يعطي للجناح الداعي إلى التطبيع مع
(إسرائيل) قوة دفع جديدة.
والثالث: صرح به (داني جيلرمان) رئيس اتحاد الغرف التجارية في
(إسرائيل) بأن النصر سيجلب العديد من الفوائد الاقتصادية لـ (إسرائيل) ، وهي
حصولها على نفط رخيص من العراق، وتراجع المخاطر الأمنية التي تهدد
(إسرائيل) ؛ مما سيؤدي إلى تقليص النفقات الأمنية، ثم فتح السوق العراقي
للبضائع الإسرائيلية.
ونحن المسلمين إزاء هذه الحقائق المذهلة نؤكد أمرين:
1 - أن هذه حرب أوقد نارها اليهود والمسيحيون المتهودون في أمريكا،
والصهاينة في (إسرائيل) ، ووعدوا شعوبهم بالنصر فيها، والله سبحانه وتعالى
توعدهم بقوله: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ] (المائدة: 64) ؛ لذا
يجب أن نحسن الظن بربنا، ونثق بوعده لنا، وأن نارهم سيطفئها الله؛ بالحيلولة
دون تحقيق أهداف الانتصار بعد الحرب، أو دفع ثمن باهظ لا يكافئ الأهداف، أو
بأي صورة أخرى قد لا ندركها الآن، والمهم أن نستيقن أن وعد الله محقق في
الحال أو في المآل.
2 - أن مآل اليهود القريب بين تهديدَيْن: فإما أن ينتصر اليهود في هذه
المعركة نصراً يمكنهم من تحقيق أهدافهم؛ ومن هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل؛
ومن ثم تحقيق العلو الثاني الكبير لهم والإفساد الثاني في الأرض، قال الله تعالى:
[وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ
كَبِيراً] (الإسراء: 4) ، وإذا تحقق هذا الأمر لهم فسيقع عليهم قضاء الله
الموعود لهم: [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: 7) . وإما أن لا يتحقق لهم ذلك
فتُدخل آثار الحرب ونتائجها الولايات المتحدة في وضع يشجع الشعب الأمريكي
على فتح ملف اليهود ودورهم في توريط أمريكا في مشكلات دولية وأزمات عالمية؛
مما يؤدي إلى موقف مستقبلي رافض لليهود ولدورهم في أمريكا والعالم، وهناك
إرهاصات مبشرة في هذا الاتجاه.
رابع عشر: حال الأمة المسلمة وسبيل النهوض بها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما
تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ
كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» [7] .
فحال الحكومات العربية في مؤتمر القمة العربي، ومؤتمر وزراء الخارجية
العرب، وحال الحكومات الإسلامية في مؤتمر القمة للدول الإسلامية، والتي
انعقدت لمناقشة الأزمة العراقية؛ يُجسد حالة الغثاء تلك، وحال التشرذم والخداع
والهوان، وهذه حال مرت على الأمة في تاريخها السابق، ودفعت ثمنه غالياً،
ولعل من أحلك فترات ذلك التاريخ الذي ينبغي أن يعتبر به هو غزو التتار للعالم
الإسلامي، وتدمير بغداد؛ فما أشبه الليلة بالبارحة؛ إلا أن تتار اليوم قدموا من
الغرب وليس الشرق، وحكام بغداد طغاة وليسوا خلفاء.
والعبرة من هذه الحادثة التاريخية هو الاعتبار بالأسباب، فأسباب سقوط بغداد
سابقاً هي الأسباب نفسها لاحقاً، ففي الحالين هناك أعداء كفرة متربصون في
الخارج، ومنافقون خائنون في الداخل، وفي سدة الحكم رؤساء غير جديرين
بالقيادة مع الفارق بين خلفاء الأمس وطغاة اليوم، ثم كيف احتوت الأمة آثار هذه
الكارثة، ويظهر هذا في ثلاثة أمور:
1 - أن الإعصار التتري المدمر لم يوقفه إلا الجهاد في سبيل الله، والذي
نهضت به الأمة معتبرة بما حصل في بغداد؛ حيث بدأت طلائعه في مقاومة أهل
الشام لهم في موقعة (شقحب) ، ثم بالمعركة الفاصلة في (عين جالوت) التي
كانت بداية النهاية لهذا الغزو الهمجي.
2 - أن الأمة عندما انهارت في بغداد عسكرياً، ودمر التتار مكتبات العلم،
وقتلوا العلماء؛ لم تنهزم علمياً ولا معنوياً؛ فبقيت دمشق والقاهرة وغيرهما من
حواضر العلم في العالم الإسلامي منارات للعلم، وكانت تلك الفترة وما بعدها من
أزهى العصور العلمية، وبقي العلماء ينشرون العلم، ويربون على الإيمان،
ويحرضون على الجهاد.
3 - أن الدور الباطني الخطير الذي مثَّل طابوراً خامساً للتتار وخيانة ومكراً
بالمسلمين في سقوط بغداد؛ نبه الأمة وفتح عينها على دور المنافقين داخل الصف
الإسلامي واستعدادهم للتحالف مع الأعداء الكفرة، وقد أدرك ذلك مبكراً حكام
المسلمين من السلاجقة والأيوبيين فأزاحوهم عن قيادة الأمة.
وخلاصة العبرة هنا أن العلاج مما نحن فيه هو بالجهاد في سبيل الله لدحر
العدو الخارجي، والعلم بالشريعة لزيادة الإيمان في الأمة، والوعي بأساليب العدو
الداخلي للحذر منه.
خامس عشر: استشراف مستقبل هذه الحوادث وتداعياتها:
إن المستشرف لمستقبل هذه الحملة يمكن أن يحصر استشرافه بشكل عام في
احتمالين:
أحدهما: أن تتعرقل أمريكا في حملتها ولا تتمكن من تحقيق أهدافها حتى بعد
أن استطاعت إسقاط النظام العراقي، وأن تدفع ثمناً باهظاً لحملتها لا يكافئ النتائج،
وهذا له صور متعددة لا مجال لتفصيلها هنا، وسيكون من نتائج هذا الاحتمال لو
تحقق؛ زوال الوهم وانكسار الغطرسة الأمريكية، وانتعاش الروح المعنوية
للمسلمين، وجراءة دول العالم على أمريكا، وازدياد مواقع المقاومة لنفوذها، وما
ينطبق على أمريكا ينطبق على إسرائيل، ويمكن أن يكون من آثار ذلك تقهقر
المشروعَيْن الأمريكي والإسرائيلي في الهيمنة العالمية والإقليمية، وفي هذا نصر
ظاهر للإسلام والمسلمين في المدى القريب.
الاحتمال الآخر: نجاح الحملة على العراق، ونجاح مشروع أمريكا في
ترتيب آثار هذا الانتصار بترتيب أوضاع المنطقة، ومن ذلك: الضغط لإحداث
تغييرات دينية وفكرية، وترويج العلمنة، وتقليص مساحة الدين والتدين في
المجتمع، وتشجيع طوائف من المفكرين والباحثين والمفتين والمؤسسات الدينية
على التناغم مع هذه الأطروحات، وتسويغها دينياً مع دعم رسمي وإعلامي، وقد
يشارك في هذه الفتنة بعض من ينتسب إلى العلم والدعوة والفتوى، وتثار الشبهات
حول أصول الدين والمراجعات لثوابت الإسلام، ويُمكَّن لأصحابها؛ مما يسبب فتنة
لكثير من الناس، وعند هذه النقطة وفي هذا الحال سيبرز ثبات طائفة من الناس
على الحق والسنة، والذين سينافحون عن هذا الحق بالحجة والبيان، وسيستعصون
على هذه التراجعات بالرغم من التحدي والمحاصرة المتوقعة لهم، وعندها سنكون
أقرب إلى رؤية صور من معاني الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خالفها من
الكفار، ولا من خذلها من المسلمين.
وقد تشهد بيئة الدعوة والعلم والمجتمع انقساماً وتمايزاً بين الفئة الثابتة على
الحق والفئة المستدبرة للحق المداهنة فيه، وسنرى صورة من صور انقسام الناس
إلى فسطاطين؛ فسطاط إيمان، وفسطاط نفاق، عند هذه النقطة يتحقق معنى من
معاني النصر ويبرز في أجلى صورة؛ من حيث التميز، والثبات، وانتصار
الطائفة، والظهور بالحق والبرهان، كما قال تعالى: [فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ] (الصف: 14) .
الدرس المقصود من ذلك هو أننا بين نَصْرَيْن: نصر حسي عاجل؛ أو نصر
معنوي آجل تكون نتائج هذه الحوادث مفاتيح لهما بحسب أي احتمال يقع، فلله
الحمد والمنة أن هدانا لهذا الدين المنصور على أي حال.
سادس عشر: أبرزت حملة أمريكا على العراق، وقبلها أفغانستان، حجم الحرب
النفسية التي تديرها الولايات المتحدة ضد خصومها:
وكشفت حملتها على ما تسميه بالإرهاب صوراً خطيرة لهذا النوع من الحرب
المستمرة؛ لأن الحرب النفسية من أمضى الأسلحة في الصراعات والمواجهات،
فهي تجرد الخصم من إرادته القتالية، ومن روحه الجهادية؛ لأنها تستهدف العقل
والتفكير والقلب والعواطف لكي تحطم الروح المعنوية وتقود إلى الهزيمة، وهو
سلاح مستخدم منذ القدم، والنبي صلى الله عليه وسلم من خصائصه أنه نُصر
بالرعب مسيرة شهر، وممارسة الحرب النفسية من قِبَل المسلمين ضد خصمهم هو
نوع من الجهاد.
والحرب النفسية التي جرت أثناء الحملة على العراق ظاهرة وجلية، وهي
مستخدمة من قِبَل أمريكا في مطاردتها للشباب المسلم المجاهد، وهم يمارسونها على
المسلمين حتى في أحوال السلم، وكثير من المسلمين مهزوم بسبب هذه الحرب
النفسية خاصة بعد التقدم الكبير في وسائل الإعلام، حيث نشأت أوهام ضخمة في
عقول المسلمين لصالح أعدائهم.
والدرس المستفاد من ذلك هو الحذر من هذه الحرب الخطيرة، واليقظة
الشديدة لإبطال مفعولها، ومسؤولية قادة الأمة والمربين فيها هي إبطال مفعول هذا
السلاح الموجه إليهم، ورده بأساليب مناسبة محترفة، ومن المناسب أن يقوم بعض
المهتمين برصد هذا النوع من الحرب وأساليب ممارسته تفصيلاً؛ من أجل أن
يتضح الدرس المقصود، وتتحقق الفائدة المرجوة في المستقبل.
سابع عشر: هل كنا ننتظر أن ينتصر النظام البعثي العلماني في العراق، وهو
النظام الذي حارب الإسلام وأهله، وطارد أولياء الله، ونحى شريعة الله؛ ولم
يملك حتى القوة المادية المكافئة لأمريكا؟
لم نكن ننتظر ذلك في لحظة من اللحظات، ومن انتظر ذلك فهو لم يفقه سنن
الله الكونية والشرعية، فنظام البعث فاقد لأسباب النصر الشرعية ولأسباب النصر
المادية، فكيف يُنتظر منه ذلك؟ نعم تمنى البعض أن تطول مدة الحرب من أجل
مزيد من الاستنزاف لأمريكا والنكاية بها، ومن أجل إعطاء فرصة المقاومة للشعب
العراقي، وحصلت بوادر ذلك في بداية الحرب، وعندما تعلق الناس بالآمال جاءت
النهاية المعبرة عن حقيقة الواقع لحكمة أرادها الله ولا شك؛ حتى يعي المسلمون
الدرس بوضوح، وحتى تثبت السنن ولا تتبدل، وحتى تبقى قوانين النصر
والهزيمة حجة على الناس، لو انتصر النظام البعثي العلماني لأصبح فتنة للناس
مسلمين وكفاراً، ولارتفعت الرايات الجاهلية العلمانية من جديد، ولتأخر النصر
الموعود به المسلمون، والذي سيحققه الله على مقتضى سننه الثابتة في الزمان
والمكان المقدرين، وبالأشخاص المرادين لله العزيز الحكيم.
ثامن عشر: لماذا هزم نظام البعث العلماني؟
أكثر الناس يوحدون السبب فينسبون ذلك إلى قوة آلة الحرب الأمريكية، وهذا
سبب مهم لكنه ليس الوحيد، فكما سبق أن النظام البعثي فاقد لأسباب النصر
الشرعية والمادية، ومن ذلك أن من أهم عوامل الهزيمة أن هذا النظام يعيش
كجزيرة معزولة وسط شعب مقهور يتحين الفرصة للانقضاض على هذا النظام
المستبد، فقامت العلاقات بينهما على أساس من الشك والريبة والتربص، ولذا
عندما حانت الفرصة وانهار النظام انقسم الشعب إلى طائفتين؛ طائفة رحبت بالغزاة
كرهاً في النظام، وطائفة رافضة للاثنين، فبقي النظام معزولاً عن شعبه، وكثرت
الخيانات وعندما سقط بدأت حملة ثأر وتصفيات لعناصر النظام؛ في صور تذكر
بمصير الظالمين ونهايتهم.
والعبرة من ذلك هي للحكام المستبدين المستكبرين على شعوبهم الظالمين لهم،
والمستأثرين بخيرات بلادهم على حساب المحرومين؛ أن يعيدوا النظر في علائقهم
بشعوبهم، ويتخلوا عن الظلم والاستبداد والاستئثار بالثروات، وينشروا العدل،
وهذا هو الذي يعزز الجبهة الداخلية ويقوي تماسكها؛ بحيث تستعصي على
الاختراق من قِبَل العدو الخارجي، فلا يفكر بغزوها أصلاً، وبذلك يتحقق الأمن في
الأوطان، قال الله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ] (الأنعام: 82) ، وليعلم الحكام أنه لا سبيل لتوافق الشعوب معهم
إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، والأخذ بمنهج الإسلام الشامل، قال الله تعالى:
[إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] (الإسراء: 9) .
تاسع عشر: عندما وقعت الحرب على العراق، اضطربت المواقف، وحار الناس:
هل يقف المسلم مع العراقيين في ظل حزب البعث ذي الراية الجاهلية، أم
يترك العراق سلماً للغزاة الصليبيين؟ وهل يتعين على الشباب المسلم القادر أن
يذهب إلى هناك، وما هو موقف الشباب المسلم داخل العراق؟ وإزاء هذا
الاضطراب الذي سببه واقع العراق وسوء الأحوال السياسية حيال هذه القضية
نسجل النقاط التالية:
1 - يجب أن لا ننظر للعراق وكأنه شخص الحاكم المستبد أو حزبه العلماني،
فالعراق بلد مسلم وشعب مسلم وحضارة إسلامية لا تُختصر في حاكم أو حزب
تمكن منه في لحظة تاريخية حرجة ومؤقتة. وهكذا الموقف من كل بلد مسلم سيطر
عليه طاغوت أو ظالم، فكل شعب مسلم أو بلد مسلم هو جزء من الأمة الواحدة، له
حق الولاء العام والمناصرة عند الحاجة.
2 - إن الأمة المسلمة في حالة مواجهة شاملة مع عدوها من خلال جبهات
متعددة؛ جهادية، سياسية، دعوية، ثقافية، إعلامية، وكلها بحاجة إلى عناصر
صالحة حسب اختصاصها، وهذه الحاجة منها ما هو فرض عين، ومنها ما هو
فرض كفاية، وعلى الأمة أن تكون في حالة نفير عام من خلال معنى الجهاد العام
في كل الجبهات، وكذا عندما تنفتح جبهة من جبهات المواجهة مع العدو؛ ينبغي أن
نتعامل معها بناء على ما سبق، فلا تترك من الجبهات الأخرى لحساب هذه الجبهة
الجديدة، ولا تلغى الواجبات الأخرى لحساب الواجب الجديد، والاستثناء من ذلك
يقرره أهل الحل والعقد من الدعاة والعلماء الصادقين العالمين بأحوال الجهاد
والمجاهدين.
3 - إن جهاد المسلمين منذ أكثر من قرن وإلى الآن هو نوع من جهاد الدفع،
وأحكام جهاد الدفع تختلف في بعض الأحوال عن أحكام جهاد الطلب؛ من حيث
الراية، وإذن الإمام، ومقاصد القتال المباشرة، فيجب أن لا ننزل أحكام جهاد
الطلب وهي غالب ما في أبواب الجهاد من كتب الفقه على جهاد الدفع.
العشرون: أثبتت الحوادث أن تفوق أمريكا المسلح عامل مهم في انتصاراتها
الأخيرة كما في صربيا وأفغانستان والعراق، وما لم يتغير ميزان القوى لصالح
الآخرين ولو بشكل نسبي فستبقى أمريكا متغطرسة بقوتها مهيمنة بجبروتها،
والدروس المستفادة من التجارب السابقة تدل على أنه لا سبيل لمواجهة أمريكا
من حيث الأسباب المادية إلا بإحدى وسيلتين:
الأولى: حيازة أسلحة غير تقليدية (الدمار الشامل) وعلى رأس القائمة
السلاح النووي. وهذه الأسلحة لم تعد سراً من الأسرار، فالعلم ليس فيه أسرار أو
خصوصيات، وصدَّام قطع شوطاً في هذا المجال لكن حماقاته وسوء مقاصده
أحبطت مشروعه، والسوق العالمية تحفل بأعداد هائلة من العلماء المتخصصين في
هذا المجال، بل حتى بالمواد والأجهزة اللازمة، وعندما سقط الاتحاد السوفييتي
سرّح أعداداً هائلة من العلماء، وهُربت كميات كبيرة من المواد، وهذا الدرس تفوه
به وزير الدفاع الهندي عندما أجاب عن الدرس من حرب الخليج الثانية بقوله:
عليكم ألا تقاتلوا أمريكا ما لم يكن بحوزتكم أسلحة نووية. وتقدمه كوريا الشمالية
اليوم كدرس من حرب الخليج الثالثة؛ بقولها إنها لن تكرر خطأ العراق بتدمير
أسلحة الدمار الشامل التي بحوزتها كما فعل العراق، ولم يشفع له ذلك ويمنع
الحرب عنه.
الثاني: تحييد ترسانة أمريكا العسكرية؛ من خلال انتهاج أسلوب حرب
العصابات كما يحصل في أفغانستان، وأسلوب العمليات الاستشهادية كما يحصل في
فلسطين، وهذان الأسلوبان كفيلان بهزيمة أمريكا وإن على المدى الأطول، وفتح
جبهات متعددة عليها تستنزفها بشرياً واقتصادياً ومعنوياً.
حادي وعشرون: وسقطت راية قومية أخرى، وبسقوطها يمكن أن تعلن وفاة
الفكر القومي العلماني الذي ابتليت به الأمة منذ أواخر الدولة العثمانية، والذي
نشأ برعاية غربية ثم استخدموه من أول ما ظهر لإسقاط الدولة العثمانية:
ثم في تمزيق الأمة إلى طوائف عرقية، وإلى شيع وأحزاب، وإثارة النعرات
القومية لدى الشعوب المسلمة غير العربية، حتى في البلد الواحد، ثم تمزيقه
بواسطة هذا الفكر. ففي بلد كالعراق يرفض الأكراد حكم العرب، ويرفض
التركمان حكم الأكراد والعرب وهكذا، لقد كان لهذا الفكر دور رئيس في هزائم
الأمة المتلاحقة، ومن رحمة الله بهذه الأمة أنه مع كل هزيمة يتسبب فيها تيار من
تيارات هذا الفكر يكون هو المهزوم الأول، فهزيمة 1967م أسقطت التيار
الناصري الذي كان سبباً فيها، وهزائم فلسطين أسقطت تيار القوميين العرب الذي
كان سبباً فيها، وهزائم حرب الخليج أسقطت البعث الذي كان سبباً فيها، وبسقوط
هذه الراية التي حكمت دولاً، وانتظمت مثقفين ومفكرين، واجتاحت عقولاً وشعوباً
في العالم العربي؛ تكون الساحة العربية الإسلامية قد تخلصت من فكرين علمانيين
هما الفكر القومي والفكر الشيوعي الذي سقط من قبل عند سقوط الاتحاد السوفييتي،
ولم يبق إلا الإسلام في مواجهة الفكر الليبرالي الغربي، فالصراع القادم والمعارك
القادمة هي بين ذينك المنهجين وتينك العقيدتين، وسيكون الصراع طويلاً في
المركز وعلى الأطراف، وستكون الأرض المباركة في فلسطين حيث المسجد
الأقصى وما حولها، وأرض الجزيرة العربية حيث المسجد الحرام والمسجد النبوي
وتخومها؛ من أبرز ميادين الصراع، فالعدو شرس ومتمكن وممتد ويستند إلى دين
وثقافة وحضارة تبقي الصراع ممتداً في المستقبل كما هو في التاريخ، كما أخبر
بذلك النبي صلى الله عليه وسلم عن الروم ذات القرون، وما جرى معهم اليوم ما
هي إلا نطحة من نطحاتها، وسيستمر ذلك الصراع والله أعلم حتى يلتحق هذا
الصراع بأحداث الملاحم التي ستكون بين المسلمين والروم في آخر الزمان، قال
تعالى: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة:
217) .
ثاني وعشرون: ما أشبه الليلة بالبارحة، في عام 1917م جاءت بريطانيا
بجحافلها لاحتلال العراق بقيادة الجنرال مود؛ رافعة شعار تحرير العراق من
العثمانيين، ونشر الديمقراطية وإزاحة الدكتاتورية كأهداف معلنة، وأما الأهداف
الحقيقية فهي استعمار بلد مسلم والسيطرة على نفطه:
وما أن استقروا حتى تنكروا لكل تلك الوعود وغدروا بالشعب، وأدخلوا البلاد
في ممتلكاتهم الاستعمارية، واليوم يتكرر المشهد مع ممثل آخر هو أمريكا التي أتت
بجحافلها بقيادة الجنرال فرانكس؛ رافعة الشعار نفسه ومعلنة الأهداف نفهسا كما
يرددها هذا الجنرال في قطر كل يوم. قال الله تعالى: [تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (البقرة: 118) .
وأمام هذا الواقع والتاريخ نسجل ما يلي:
1 - أن الغدر شيمة لهذه الدول، وخاصة بريطانيا سابقاً عندما كانت الدولة
العظمى، وأمريكا لاحقاً عندما أصبحت القوة العظمى، فها هي أمريكا قد غدرت
بحلفيتها باكستان فيما سمي حرب الإرهاب؛ عندما مكنت خصومها الطاجيك من
حكم أفغانستان، ووقفت مع الهند ضدها. وغدرت بتركيا عندما نكثت بوعودها لها
بعد حرب الخليج الثانية، ولا نستبعد أن تغدر بها اليوم فيما يخص قضية الأكراد
والأمثلة كثيرة.
2 - على الحكام الذين راهنوا على حماية أمريكا لهم وزهدوا في بناء جيوش
قوية، وفرطوا في بناء جبهة داخلية صامدة؛ أن يعيدوا حساباتهم، فالاتفاقيات
السرية وتحالفات الحماية لن تقيم لها أمريكا أي وزن بعد اليوم، وها هي قد ضربت
بالمجتمع الدولي كله عرض الحائط، وأعلنت الحرب على العراق من طرف واحد.
3 - على حكام دول الخليج أن يتعظوا بما يجري ويأخذوا حذرهم، ولا يبقوا
يتغنوا بالعلاقات الاستراتيجية مع أمريكا، فالمعادلات تغيرت والعلاقات تبدلت،
ودوافع أمريكا للمحافظة على العلاقات الاستراتيجية معهم انتهت، فلم تعد أمريكا
بحاجة إلى الإسلام لمواجهة الشيوعية لأن الشيوعية سقطت، وليست مضطرة إلى
بترول الخليج دون خيار؛ لأن بترول الخليج ليس له خيار إلا أمريكا في ظل
القطب الواحد المارق، فضلاً عن بترول العراق المسيطر عليه الآن، وبعد ذلك
ليس بين أمريكا وبين هذه الدول نسب ديني ولا ثقافي ولا حضاري.
ثالث وعشرون: الحذر من حزب أمريكا داخل المجتمعات الإسلامية والعربية،
والذي سينشط هذه الأيام خاصة داخل المجتمعات المحافظة:
وهذا الحزب سوف يستثمر ظروف انتصار أمريكا وهزيمة العراق،
وتهديدات أمريكا المتلاحقة للدول الأخرى، وضغوطها على تلك المجتمعات
المحافظة؛ من أجل تحقيق مكاسب علمانية تغريبية حاضراً، وتطبيعية مع اليهود
لاحقاً، وسيُعرفون صراحة أو في لحن القول، ومن ذلك:
1 - الإشادة بالدور الأمريكي في تحرير العراق، واستدعاؤها لتحرير مزيد
من الدول، وإقناع الناس بصدق دعوى الحرية والديمقراطية المجلوبة بالدبابات
الأمريكية.
2 - الهجوم على البنية الدينية والبيئة الاجتماعية المحافظة (المرأة) ،
والمناهج الشرعية لتمهيد الطريق للتغريب والتطبيع، وقد بدؤوا ينادون بها من الآن.
3 - الهجوم على الدعاة والمطالبة بتقليص دورهم في المجتمع، وعزلهم عن
مواقع التأثير، وعن إدارة الشأن العام.
4 - إثارة نقاشات وحوارات حول مسائل شرعية مجمع عليها، ونقد ثوابت
الدين كالجهاد في سبيل الله، وإبراز الخلاف الشاذ حول كثير من الأحكام الشرعية
كتشريع غير ما أنزل الله، والشغب على قواعد وأصول متفق عليها كأصل سد
الذرائع، وإعادة إجلال أهل البدع والأهواء، وترديد مقولات المستشرقين
وتلامذتهم وترويجها.
رابع وعشرون: وسقطت المراهنة على الخرافات والاستكانة إلى تعبيرات الرؤى:
وبان انحراف منهج تنزيل أحاديث الفتن والملاحم على الأوضاع المعينة
والأشخاص المسمين، ذلك المنهج الذي نشط أصحابه منذ حرب الخليج الثانية، ثم
حرب أفغانستان، ثم حرب الخليج الثالثة، وأصدروا عدداً من المصنفات وروجها
لهم الجهلة. وهي مصنفات يستند فيها أصحابها إلى بعض مصادر أهل الكتاب وإلى
نبوءات العرَّافين والدجالين، وإلى الأحاديث الضعيفة والموضوعة. وقد أثرت في
مواقف بعض الضعفاء والجهلة، وتشوّف لوقوعها دهماء الناس؛ لذا يجب أخذ
العبرة بالنتائج والآثار لمثل ذلك، وتحذير الناس منه، وعدم تكراره فالمدعى أنه
المهدي لم يظهر، والسفياني المزعوم أنه صدام قتل أو شرد ولم يدخل بيت المقدس،
وتعبيرات الرؤى لم تقع، قال تعالى: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) .
خامس وعشرون: [فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً]
(النساء: 19) :
سقط العراق تحت الاحتلال الأمريكي العسكري، وليس هذا أول احتلال
للعراق ولا لغيره، فقد تكرر دخول الغزاة منذ الحروب الصليبية إلى اليوم بلاد
المسلمين، ثم يخرجون بمقاومة الشعوب المسلمة لهم، والأيام دول، وقد كان
المسلمون يحكمون إسبانيا في يوم من الأيام وسيفتحون روما بالوعد النبوي مستقبلاً،
قال الله تعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] (آل عمران: 140) ، لكن
المحصلة النهائية بعد هذا التداول والصراع ستكون للإسلام حتماً، نستشرفه مستقبلاً
ونعتقده ديانة، قال تعالى: [وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] (طه: 132) ، وحتى يتم ذلك
لن يهزم الإسلام هزيمة شاملة، وستبقى الطائفة المنصورة على مدار الزمان حتى
يتم التمكين الشامل للإسلام والمسلمين؛ ولذا فإن المصائب والهزائم التي تحل
بالمسلمين تكون دروسها زاداً لهم في الطريق، وتذكيراً لهم عن الغفلة، وإيقاظاً
لضعف هممهم، وإعادة لهم إلى الله، كما حصل في العراق، حيث نستطيع أن
نلتمس حكماً عظيمة ودورساً كثيرة؛ من ذلك:
1 - كثير من الدروس المذكورة في هذه الورقة وأخرى لم تذكر وذكرها
غيري لم تستبن إلا بمثل هذا الحدث، ومن ثمار هذه الدروس زيادة الوعي في
الأمة، الوعي بالواقع، والوعي بأحوال الناس والزمان، والفهم لآيات الله في
الأنفس والآفاق، وإدراك سنن الله في التاريخ والمجتمعات، ومعرفة طبيعة هذا
الدين، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل.
2 - معرفة حال القيادات السياسية التي تقود الأمة، وأنها خائرة جائرة
وليست أهلاً للمواجهة ولا تستحق النصر، كذلك الأحزاب والأفكار التي تقوم عليها
هذه الأنظمة وأسست عليها نظمها وقوانينها ودساتيرها، فهي على شفا جرف هار،
وهذا سيدفع بالأمة إلى حظيرة الإسلام وإلى الاحتماء بمظلة الدين.
3 - سقوط الرايات العمِّية الجاهلية، والدعاوى الملبسة للحق بالباطل،
والمدلسة على الناس دينهم، وبروز العدو الحقيقي الصليبي في وضح النهار؛ يزيل
الغبش الذي يعمّي على الناس مشروعية الجهاد في سبيل الله، فالكافر الأجنبي
سيثير روح المقاومة في الأمة، ويستدعي روح الجهاد، وتستبين سبيل المجرمين
[لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة] (الأنفال: 42) ، حيث
تتقلص المساحة على أهل النفاق والأهواء في أن يبقوا مع العدو سراً ومع المسلمين
علناً؛ كما هي حال كثيرين من حكام ومحكومين، قال تعالى: [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]
(البقرة: 14) .
4 - قد يتيح الوضع القادم في العراق هامشاً من الحرية والانفتاح يسمح
للدعوة والدعاة بالنشاط والانتشار، ويكثر العلم وطلابه، وينشط المصلحون في بلد
ظل مغلقاً في وجه هذه الأنشطة منذ أكثر من ثلاثة عقود، ويعود أهل العلم والدعاة
الذين شردهم النظام السابق خارج العراق ليؤدوا دورهم الإصلاحي والدعوي
والعلمي في بلد هو في أمسّ الحاجة إلى مثلهم في هذه الأيام.
5 - وأخيراً: نختم بهذا الحديث العظيم الذي يختصر لنا الدروس ويبين
الأحوال السابقة واللاحقة للأمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله
زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي
منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها
بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن
ربي قال يا محمد: إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيت أمتك أن لا
أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم،
ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم
بعضاً» [8] ، زاد بعضهم: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع
عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي
بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون
ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من
أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله
تبارك وتعالى» ، ولفظ الحاكم: «ولكن لا تزال طائفة يقاتلون على الحق
ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» [9] .
__________
(*) باحث ومفكر سعودي.
(1) رواه البخاري، رقم 2681.
(2) رواه مسلم، رقم 169.
(3) رواه مسلم، رقم 5242.
(4) رواه أحمد، رقم 19424.
(5) الفتاوى، 27/363.
(6) رواه البخاري، رقم 4318.
(7) أخرجه أبو داود، رقم 4297.
(8) رواه مسلم، من حديث ثوبان.
(9) أبو داود في الفتن، وابن ماجه، وأحمد، والحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين.(187/30)
نص شعري
بغداد أولاً
محمد أبو العز
...
إيه بني قومي، فاستيقظوا ... مِنْ نومِكمْ كيْ تَدْرؤُوا الأخطارَا
وعن السَّواعدِ شمِّروا ولْتَشْحذوا ... أذهانَكمْ وتُمحِّصوا الأفكارَا
وذَروا الشِّقاقَ فإنَّه عَينُ الرَّدَى ... ولْتَتركوا الماضي الأليمَ يُوارَى
أَهْلُ الصليبِ على الخليجِ تَوافَدوا ... عَبَروا إليه مَضَايقاً وبحارَا
أَتَوُوا الخليجَ بقضِّهم وقَضيضِهم ... بِعَتادِهمْ واسْتكْبروا اسْتكبارَا
قدْ ساقَهم نحْوَ الخليجِ مَطامعٌ ... ومَآربٌ فتَلَمَّسُوا الأَعْذارَا
قالوا العراقُ يَحوزُ أسلحةَ الرَّدَى ... وهْوَ الذي لم يَرْعَ قبلُ جِوارَا
فَلَنَنْزِعَنَّ من العراقِ سلاحَهُ ... حتى نُجنِّبَ شَرَّهُ الأحرارَا
وَلَنَنْشُرَنَّ الأمنَ في جنباتِهِ ... ولَنُبْدِلَنَّ الفقرَ فيه يَسَارَا
بلْ هُمْ على نفطِ العراقِ تكالبوا ... ومنَ (المعارَضةِ) اصْطَفَوْا أنصارَا
هُمْ أَشْعَلوا حربَ الخليجِ ليسرقوا ... نفطَ الخليجِ ويَدْعموا الدولارَا
هُمْ أَشْعَلوا حربَ الخليجِ ليَنْشروا ... في كلِّ أرضٍ عَسْكرًا جرَّارَا
تبًّاً لأمريكا التي كَمْ قَتَّلَتْ ... مِنْ غير ذنبٍ نِسْوةً وصِغارَا
ومَضَتْ تُناصِبُنَا العداوةَ تَارَةً ... جَهْراً وأخرى تُؤْثِرُ الإسْرارَا
وتُدمِّرُ المُدُنَ الحِسانَ وتَدَّعي ... أَنَّا سَنَجْني بَعْدَ ذاكَ ثمارَا
فِرْعونُ هذا العصرِ أمريكا التي ... قَدْ أصبحتْ في أرضِنا جزَّارَا
عقدٌ مِنَ الزمنِ انْقضَى فيه العِدَى ... ضَرَبوا على أهْلِ العراقِ حِصارَا
مُدُنٌ لَقِينَ الفقرَ مِنْ بَعْدِ الغِنَى ... ولَقِينَ مِنْ بعدِ الشُّموخِ دَمَارَا
مليونُ طِفْلٍ قُتِّلوا، وهُمُ البَرِي ... ئُونَ الأُلَى لَمْ يحْمِلوا أَوْزارَا
كانوا الشموسَ لأهْلِهِمْ طُولَ النَّها ... رِ وفي الدُّجَى كانوا لهمْ أقمارَا
أهْلَ العراقِ أتى العِدَى فَلْتَنْفِرُوا ... وَلْتَخْرُجُوا لقتالِهمْ ثُوَّارَا
فَهُمُ المَغُولُ المُحْدَثونَ ورُبَّمَا ... فَاقوا المَغُولَ تَوَحُّشاً ودَمَارَا
يَا أَيُّها الْعَرَبُ اسْمَعُوا وَلْتَعْقِلُوا ... قَوْلاً حكيماً في الْوَرَى قَدْ طارَا:
إنْ تُسْلِمُوا أَهْلَ العراقِ لِتَسْلَمُوا ... يُنْشِبْ عِدَاكُمْ فيكُمُ الأَظْفَارَا(187/39)
الإسلام لعصرنا
يريدوننا غنماً.. هم رعاتها.. وهيهات
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
j@jaafaridris.com
«سنوفر لكم الطعام والشراب والدواء. ستنعمون بعائدات نفطكم. ستكونون
أحراراً في بلادكم. ستكون هنالك ديمقراطية......» .
هذا الذي يبشر به أئمة الاحتلال شعب العراق، ومن ورائه كل شعب عربي
وغير عربي يريدون تسخيره لما يسمونه بمصلحتهم الوطنية.
ما العيب قد يقال في أن ينعم الناس بالطعام والشراب والكساء والدواء؟ لا
عيب إلا إذا كان هذا على حساب كرامتهم. وقديماً قال الشاعر في بيت عده بعضهم
أهجى بيت في الشعر العربي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد؛ فإنك أنت الطاعم الكاسي
فأئمة البغي والاحتلال يريدون لشعب العراق ولكل شعب عربي أن يكون
قطيعاً من الغنم يأكل ويشرب ويداوى؛ لكنه لا يحمل عصا ولا يصد عدواً. إنما
الذي يحمل العصا هو سيده؛ فبها يهش عليه ويسخِّره، وبها يحد له الحمى الذي لا
يتجاوزه. في حدود هذا الحمى تتمتع الغنم بحرية الأكل والشرب والثغاء والنزو
والتوالد. نعم! سيترك لها راعيها شيئاً من حليبها لترضع به أولادها وليصرف منه
على طعامها وشرابها، وليأخذ سيدها النصيب الأكبر منه ليصرفه على طعامه هو
وشرابه وسائر ملذاته، بل وسلاحه الذي به يسوقها ويستعبدها.
ربما صدق المحتلون في توفير ما وعدوا بتوفيره، وربما زادوا عليه
فاستجلبوا للعراق كل ما في بلادهم من أنواع الملذات: أسواق كبرى يعرض فيها
كل ما أنتجته مصانعهم، وشركات لكل أنواع السيارات وسائر المراكب، دور
سينما، حانات ومراقص ونواد ليلية، قنوات لكل أنواع اللهو من أفلام قذرة وأغان
خليعة ودعايات رخيصة وتسويق للفكر الغربي والحضارة الغربية. لكن الذي لن
يفعلوه، والذي عدوه خطيئة صدام الكبرى هو أن تكون بلادهم قادرة على أن
تتطور صناعياً ولا سيما في مجال الأسلحة. إنهم لا يريدون أن تخلو العراق ويخلو
كل بلد عربي وغير غربي مما أسموه بأسلحة الدمار الشامل، بل إنهم لحريصون
أن يخلو حتى من المقدرة على إنتاج السلاح مدمراً تدميراً شاملاً او غير شامل.
ولكي يخلو من هذه المقدرة فلا بد أن يخلو من العلماء الذين يملكون هذه المقدرة.
سيخلو العراق كما سترون من هؤلاء العلماء، ربما بقتل بعضهم أو سجنه، ولكن
يقيناً بإغراء آخرين بالمال الوفير لكي يهاجروا إلى أرض (محرريهم) ويشاركوا
في صناعة الأسلحة لهم، كما فعلوا مع كثير من علماء الاتحاد السوفييتي.
لماذا اختاروا أرض العراق ليجعلوا من شعبها أول قطيع من أغنامهم (أهم
أول قطيع؟) ؟ اختاروها أولاً؛ لأنها أرض لبون لا بقاء لهم بغير حليبها. وهذا
أمر قد أصبح من البدهيات؛ فلا نقضي فيه وقتاً. وأما ثانياً فلأن في حكمها ضعفاً
يجعل ذريعة استعباده باسم التحرر ذريعة مقبولة لشعبهم ولمن هو على شاكلتهم من
غير شعبهم. لا زلت أذكر منظراً شاهدته على التلفاز آلمني رغم أن الضحية فيه
كانت حيواناً. رأيت وحشاً يشتد جرياً وراء قطيع من الغزلان، وهي تعدو منه
هرباً؛ لكنه رأى في إحداها عرجاً أبطأ من جريها فركز عليها وترك بقية القطيع
حتى أدركها فقتلها ومزقها. وقد كان في النظام العراقي عرج بيِّن كان هو السبب
الأساس في سرعة انهياره. كان نظاماً مبنياً على جرف هار، هو شخص صدام؛
فلما انهار الجرف انهار البناء كله. إن الأمة التي ترضى لنفسها أن تكون قطيعاً من
الأنعام يسوقه واحد منها، لا تستعصي على أن يكون سائقها واحداً من غيرها.
ومعاذ الله أن يكون شعب العراق كله كذلك. لكن داء هذه التبعية أصاب الجميع،
من كان راضياً به ومن لم يكن راضياً. فأول درس ينبغي لنا أن نعيه هو أن لا
نكون قطيعاً ولا شبه قطيع لواحد منا. إنه لا بد لكل مجتمع، مسلماً كان أو كافراً،
ديمقراطياً كان أو غير ديمقراطي، لا بد له من ولاة أمر يكونون مسؤولين عن
إدارة شؤونه. لكن أن يكون الواحد منا مسؤولاً عن إدارة شؤوننا شيء، وأن يجعل
منا قطعاناً يقضى أمرها وهي غائبة شيء آخر. هذا درس جعله ربنا أصلاً من
أصول ديننا. فنحن لا نحكم برأي فلان وعلان وإن كثر عددهم، وإنما نحكم بكتاب
ربنا الذي يخضع له حاكمنا كما نخضع له نحن المحكومين. وحاكمنا الذي يحكمنا
بكتاب ربنا لا يستبد بالأمر من دوننا؛ لأن صفة التشاور في أمورنا من الخصائص
المميزة لنا لا يكتمل بغيرها إسلامنا، مثلها في ذلك مثل الإيمان بالله والتوكل عليه
وغيرها من الصفات التي تبينها الآية الكريمة: [فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ] (الشورى: 36-39) .
تذكرت وأنا أشاهد على التلفاز كثرة صور الرئيس صدام وتماثيله، وأنا أسمع
الناس يهتفون في كل مكان: بالروح بالدم نفديك يا صدام، تذكرت قول الله تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ] (الزمر: 30) . ومع
أنه لا دين إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه: [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ] (النساء: 80) ، ومع أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت
ضرورية لتربية جيل كالذي رباه، ومع أن حياة المسلمين بعده لم تكن مثلها في
حياته، إلا أن الله سبحانه أراد أن يعلِّم المؤمنين أن كل هذا لا يعني ارتباط الدين
بحياته صلى الله عليه وسلم. ولم يكتف سبحانه بتقرير حقيقة موت الرسول هذه،
بل أكدها بدرس عملي؛ وذلك أنه شاع يوم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل،
بل إن أحد المشركين واسمه ابن قميئة بشَّر إخوانه الكفار بأنه هو الذي قتله، وإنما
كان في الحقيقة قد ضربه فشجه. فلما شاع هذا الخبر الأليم ضعف بعض المسلمين،
فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ
فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران: 144) .
وكل فَقْدٍ بعد فَقْدِ الرسول صلى الله عليه وسلم يهون، ويمضي المسلمون في
طريقهم يتقون ربهم حق تقاته ما استطاعوا. بهذا ينبغي أن يُذكَّر الناس، وعليه
ينبغي أن يربوا، فلا يربطوا تمسكهم بدينهم وجهادهم في سبيل إعلاء كلمة ربهم
بموت أحد ولا حياته، بل عليهم أن يسدوا كل الذرائع المؤدية إلى تعلق الدين بحياة
الأشخاص مهما عظموا علماً وورعاً، أو حكماً عدلاً، أو شجاعة وبسالة.
وإنه لمن مقتضيات تمسكنا بديننا، وكوننا أمة ذات رسالة، أن نكون أمة
قوية مرهوبة الجانب، لا نأكل ونتمتع كما تأكل الأنعام، ولا نكون غنماً تهش عليها
وتوجهها أنى شاءت عصا الكافرين. لكن القوة المادية لها ثمن ينبغي أن نكون
مستعدين لدفعه. يجب أن نربى على التضحية بكثير من الملذات، بل يجب أن
نتربى على الاقتناع بالكفاف، ثم نرصد ما تبقى من دخلنا القومي للأخذ بأسباب
القوة المادية، من تأهيل علمي ولا سيما للنابغين من أبنائنا، ومن طَرْق لأبواب
الصناعة الثقيلة، ولا سيما صناعة الأسلحة. كيف تدافع عن نفسك، أم كيف لا
تكون فتنة لعدوك، وأنت تعتمد عليه في أسلحتك التي بها تدافع عن نفسك؟ هذه
هي الخطوة الأولى للسير في طريق القوة: عزمة نجتمع عليها حكاماً ومحكومين.
أما تفاصيلها وكيفية تحقيقها، فيترك للمختصين منا، ولن تعجزنا بإذن الله تعالى.
ومن سار على الدرب وصل.
لكن ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أننا نريد أن نفعل كل هذا باعتبارنا مسلمين.
وعليه فكما نسعى لامتلاك القوة المادية، فعلينا أن نجتهد في امتلاك القوة المعنوية:
قوة العلم بالدين الحق، والاستمساك به، والدعوة إليه، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر. فهذا هو سر قوتنا، وسبب دوام بقائنا، فإننا بفضل الله أمة لا تموت:
كتابها محفوظ ذكراً، لا حفظاً متحفياً، ذكراً بحفظ لغته، وحفظ سنة نبيه، وحفظ
العلماء العارفين به، المجددين له، الداعين إليه، المجاهدين في سبيله. أما الأمم
الكافرة فإنها تنتفش وتنتفش ثم لا تلبث أن تُخرق وتسقط مهما كان لها من قوة مادية،
تخرقها وتسقطها ما ترتكب من فواحش وظلم واعتداء، وما يملأ صدورها من
غرور وحمية الجاهلية: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ *
الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] (الفجر: 6-14) .
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(187/40)
في دائرة الضوء
الإسلاميون.. كيف يقرؤون الأحداث؟
بعض قادة الصحوة يقوّمون الواقع السياسي للأمة
إعداد: أحمد فهمي
قامت مجلة البيان بإجراء استطلاع لآراء نخبة من قادة العمل الإسلامي
ورموزه حول الأحداث الراهنة، وكيفية مواجهة الأمة للمشروع الأمريكي
الصهيوني في المنطقة، وقد شارك في هذا الاستطلاع تسعة وعشرون من رموز
الدعوة ينتمون إلى اثنتي عشرة دولة؛ منها عشر دول عربية..
منذ ما يقرب من أربعة عشر عاماً، وتحديداً منذ سقوط الاتحاد السوفييتي،
وانفراد الولايات المتحدة بالسعي إلى السيطرة العالمية؛ هناك ظاهرة سياسية باتت
تتكرر كل عدة أعوام، يمكن أن نسميها «ظاهرة الحدث الانقلابي» ، ونعني بها
الحدث الذي يتوفر فيه سمات أساسية:
أولاً: يترتب عليه إعادة صياغة لمنظومة التوازن السياسي العالمي لحساب
القوة الأمريكية المتفردة.
ثانياً: يحدث بعده مباشرة تسارع وتداع للأحداث بصورة مختلفة تماماً عما
قبله.
ثالثاً: المنحنى العام لهذه الأحداث يتجه نحو تهميش العمل السياسي
ومؤسساته، وتعظيم العمل العسكري ومؤسساته، وبمعنى آخر طرح مفهوم القوة
كمحدد رئيس، ثم وحيد؛ لأنماط العلاقة بين مختلف الدول والشعوب.
ونستطيع القول إن هناك أحداثاً أربعة بالتحديد يصلح أن تمثِّل هذه الظاهرة،
وهي: سقوط الاتحاد السوفييتي - حرب الخليج الثانية - هجمات 11 سبتمبر -
العدوان الأمريكي على العراق.
والملاحظ أن أكثر الدول تأثراً سلباً بالطبع بهذه الأحداث هي الدول الإسلامية،
والذي يهمنا في هذا المجال ما يتعلق بموقف الصحوة الإسلامية من الحدث
«الانقلابي» الأخير، وهو العدوان على العراق، وذلك بناءً على أن
الصحوة الإسلامية هي فيما نحسب: عقل الأمة الواعي، وقلبها النابض، ويدها
المجاهدة، ومن ثم فإن المسؤولية الملقاة على عاتق قادتها ورموزها وناشطيها؛
مسؤولية تنوء بحملها الجبال، وأول ما يجب عليها في هذه الأزمة أن تتوفر لديها
القدرة على استيعاب الحدث بكل أبعاده وتداعياته، وقد كان أحد أهداف هذا
الاستطلاع أن نتأكد من تحقق ذلك لدى فصائل الصحوة المؤثرة في العالم
الإسلامي.
أما الهدف الآخر للاستطلاع فهو أن يكون ممارسة لأحد صور التفكير
الجماعي الذي أصبح حتمياً مع التطورات الأخيرة..
إن لزوم التفكير الجماعي في النوازل التي تعرض للأمة الإسلامية ينبع من
تعقد الأحداث، وتراكبها؛ بصورة تجعل من الصعوبة أن تستقل حركة إسلامية
واحدة مهما كانت قوتها وانتشارها بتكوين رؤية شاملة وشافية لمواجهتها، ولن
تتجمع والله تعالى أعلى وأعلم أجزاء الصورة المبعثرة إلا بين أيدي الحركة
الإسلامية العالمية وعقولها.
وهذا الاستطلاع بين أيدينا يُثبت هذه الحقيقة من وجهين متعارضين.
فمن ناحية: يتضمن ما كتبه رموز العمل الإسلامي ما يصلح أن يكون
الخطوط العريضة لرؤية شاملة للحالة الراهنة، والتي يمكن تقسيمها إلى هذه
المحاور:
أولاً: ملامح الأزمة وعلامات الخطر.
ثانياً: تحليل الأزمة.
ثالثاً: دور علماء الأمة.
رابعاً: دور الحركة الإسلامية.
خامسا: دور الأمة الإسلامية
سادساً: استشراف المستقبل.
ومن ناحية أخرى: فإن هذه المحاور لم تتجمع كلها في كلام أي من هؤلاء
الرموز، وإنما هي محصلة لما ذكره الجميع.
وهذه أسماء المشاركين في الاستطلاع وفق الترتيب الأبجدي:
* الشيخ أبو بكر أحمد: الأمين العام لجمعية أهل السنة والجماعة بالهند،
وجامعة مركز الثقافة السُّنية الإسلامية.
* د. أحمد بن عبد الله الزهراني: عميد كلية القرآن في الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة سابقاً.
* د. أحمد الريسوني: رئيس حركة التوحيد والإصلاح المغربية، أستاذ
بجامعة محمد الخامس - الرباط.
* الشيخ أحمد ياسين: زعيم حركة حماس الفلسطينية ومؤسسها.
* د. إسماعيل محمد حنفي الحاج: عميد كلية الشريعة جامعة إفريقيا العالمية
- الخرطوم.
* الشيخ حامد البيتاوي: رئيس رابطة علماء فلسطين، ورئيس المحكمة
الشرعية بالضفة الغربية.
* الشيخ حامد العلي: من علماء الدعوة السلفية الكويت.
* الشيخ قاضي حسين أحمد القاضي: أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.
* الأستاذ راشد الغنوشي: زعيم حزب النهضة التونسي.
* الشيخ رفاعي سرور: داعية مصري.
* الشيخ سلامات هاشم: رئيس جبهة مورو الإسلامية، وأمير بانجسا مورو،
الفلبين.
* د. السيد العربي: داعية مصري.
* د. صلاح الدين النكدلي: رئيس تحرير مجلة الرائد ألمانيا، ومدير
المركز الإسلامي بآخن.
* د. عبد الحق الأنصاري: أمير الجماعة الإسلامية بالهند.
* الشيخ العلامة عبد الرحمن البراك: أحد علماء السعودية البارزين.
* د. عبد الستار قاسم: أستاذ العلوم الإسلامية جامعة النجاح الوطنية -
الضفة الغربية.
* د. عبد العزيز الرنتيسي: قيادي بارز في حركة حماس الإسلامية -
فلسطين.
* الشيخ عبد الله جاب الله: رئيس حركة الإصلاح الوطني - الجزائر.
* الشيخ عبد المجيد بن محمود الريمي: من علماء الدعوة السلفية - اليمن.
* الشيخ عبد المجيد الزنداني: رئيس جامعة الإيمان - اليمن.
* د. عبد المنعم أبو الفتوح: عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين
- مصر، وأمين عام مساعد اتحاد الأطباء العرب.
* الأستاذ عصام العطار: داعية ومفكر إسلامي سوري معروف.
* الأستاذ علي صدر الدين البيانوني: المراقب العام للإخوان المسلمين في
سوريا.
* الشيخ محمد حسان: رئيس مجمع أهل السنة بالمنصورة؛ التابع لجماعة
أنصار السنة المحمدية، مصر.
* الشيخ محمد حسين يعقوب: داعية مصري معروف.
* الشيخ محمد سيد حاج: داعية بجماعة أنصار السنة المحمدية - السودان.
* الأستاذ محمد الهندي: قيادي بارز في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية.
* الأستاذ محمد يتيم: رئيس تحرير جريدة التجديد المغربية، نائب برلماني.
* د. همام عبد الرحيم سعيد: من رموز العمل الإسلامي في الأردن.
وسوف نستعرض مادة الاستطلاع الثرية من خلال المحاور الخمسة المذكورة
آنفاً:
- أولاً: ملامح الأزمة وعلامات الخطر:
أفاض المشاركون في الاستطلاع في الحديث عن خطورة الأوضاع الحالية،
ويصف الأستاذ الغنوشي الاحتلال الأميركي للعراق بأنه «بلا ريب من نوع
الأحداث الدولية الكبرى التي تمثل عادة منعطفاً كبيراً في التاريخ، وعاملاً رئيساً
في توجيه المستقبل لعشرات السنين، وبالخصوص في مسرح الحدث وما يجاوره» ،
كما يؤكد الدكتور همام سعيد أن هذا العدوان يمثل «الحملة الصليبية العاشرة،
وهي أشد من أي حملة صليبية سابقة، فالهدف منها هو القضاء على جذور الإسلام
في المنطقة؛ في جميع مناحي الحياة، الثقافية، والدينية، والعسكرية،
والاجتماعية، والاقتصادية» .
ويتحدث الشيخ رفاعي سرور عن الالتباس الهائل في أحداث العراق، فيقول:
«وبدت في هذه الأحداث الحيرة التي في الفتنة التي أشار إليها الرسول صلى الله
عليه وسلم حين أشار إلى الشرق أو إلى العراق فقال:» ألا إن الفتنة ها هنا، من
حيث يطلع قرن الشيطان « [1] ، والذي جعل هذه الحيرة واضحة اختلاط الرايات
المرفوعة، فإذا فكَّر الإنسان في الدخول فيها بدا له تساؤل: من سينصر؟ هل
ينصر النظام البعثي الكافر، أم زعيمه الطاغوت؟ أم المنافقين؟ .. وذلك في غيبة
القلة القليلة من المسلمين الموحدين الذين قتلهم صدام برصاص الشوارع.. وإذا
توقف الإنسان عن المشاركة؛ فهل يترك أمريكا الصليبية تعيث فساداً؟» .
وفيما يتعلق بالهدف أو الأهداف الأميركية، يقول الشيخ قاضي حسين: إن
«هدف الاحتلال هو إعادة خريطة المنطقة حسب مصالح أميركا، وإزالة كل
التحديات التي تهدد أمن إسرائيل، والسيطرة على منابع النفط، ومن ثم السيطرة
على مستقبل العالم كله، هذا ما بدا من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر» ،
ويقول الشيخ الزنداني: إن «ما حدث في العراق الخطوة العملية في النظام العالمي
الجديد في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ وضح الهدف وهو البترول، والوجود
العسكري إعادة الاستعمار مرة ثانية، والغزو الثقافي» ، ويعبِّر الشيخ الريمي عن
الأهداف الأميركية في المنطقة بصياغة أخرى، فيقول: إن أميركا تريد «ضرب
القوة العلمية والإيمانية في الأمة؛ من خلال متابعتها للإسلاميين وضربها لهم تحت
شعار مكافحة الإرهاب، و» ضرب «القوة المادية؛ من خلال ضرب القوة
العسكرية في البلدان العربية كالعراق ومصر، وكذلك استنزاف ثروات المسلمين» .
وفيما يتعلق بالأهداف التي تمكنت الإدارة الأميركية من تحقيقها بالفعل من
غزو العراق، يلخصها الأستاذ الغنوشي بأنها:
«- تدمير الجيش العراقي وأسلحته شر تدمير.
- وضع اليد على ثاني، وربما أول، مخزون نفطي عالمي.
- البدء بتشكيل حكم مستأنس ضعيف، ووضع هذا القطر بتركيبته المعقدة على
طريق التفتت.
- توجيه رسائل تهديد مباشرة وقوية إلى بقية الأنظمة العربية.
- توجيه رسائل إلى القوى الدولية.
- البدء بتنفيذ مشاريع بناء تمكيناً لشركاتهم العملاقة من الغرف واعتصار العراق
حتى الدم» .
ويتفق كثير من المشاركين في الاستطلاع على أن الخطر الحقيقي ليس فيما
حدث، ولكن فيما يُنتظر أن يحدث في الفترة المقبلة، فيقول الشيخ عبد الله جاب
الله: إن «سقوط بغداد فاجعة كبيرة تفوق في حجمها وتداعياتها نكبة فلسطين عام
1948م؛ لأن أميركا هي حاملة مشروع الحركة الصهيونية» ، ويضيف الأستاذ
عصام العطار: «إنني أعتقد أننا من غزو العراق واستعماره الفعليّ المباشر في
أول البلاء وليس في آخره، وأنّ وجودنا كلّه: ثقافةً وحضارةً، وشعوباً وأمةً؛
مهدّد أشدّ تهديد» ، ويضيف أيضاً: «الخطوة التالية بعد العراق في تفكيرهم
وتخطيطهم قد تكون سورية أو إيران، ثم تتبعها بشكل من الأشكال، ووقت من
الأوقات: السعودية، ومصر، ودول عربية أخرى» ، ويؤكد الشيخ حامد العلي
على المعنى نفسه بالقول إن الأمة «بدأت بالفعل تعيش مرحلة احتلال غربي
صليبي العنصر، صهيوني الروح، وستعصف بالمنطقة كلها، وخاصة على الدول
التي يرى التحالف الصهيو أميركي أنه من الضروري إعادة ترتيبها لتلائم الحقبة
الدولية الجديدة» ، ويشير الأستاذ البيانوني إلى أن «الأهداف الحقيقية لهذه الحرب
كانت تشير بوضوح إلى أن العدوان لن يتوقف عند حدود العراق، كما أنه لم
يتوقف من قبل عند حدود أفغانستان» ، ويقول الأستاذ محمد يتيم: إنهم «لن يقفوا
عند العراق، وسيعلنونها حرباً لا هوادة فيها ضد الإسلام والمسلمين، حرباً مباشرة
وغير مباشرة، لذلك نصبوا عليها (العراق) حاكماً أمريكياً ذا أصول صهيونية،
وبدؤوا بتغيير مناهج التعليم، وجاؤوا بجحافل المنصّرين إلى جنوب البلاد» .
- ثانياً: تحليل الأزمة:
تناول المشاركون أزمة العراق الأخيرة تناولاً سببياً من مختلف الأبعاد،
وبصورة شاملة تعطي رؤية أكثر من واضحة. فمن الناحية العقدية الشرعية: يقول
الشيخ عبد الرحمن البراك: «بالصبر والتقوى يحفظ الله عباده المؤمنين من كيد
الكافرين والمنافقين، قال تعالى: [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] (آل عمران: 120) ، ويقول أيضاً:» لا يكون
التسليط على المسلمين إلا بسبب من قِبَل أنفسهم، وهو تضييعهم لأمر الله وإقبالهم
على الدنيا وتعطيلهم الجهاد، حتى لا تكون لهم هيبة، لهذا مع كثرة المسلمين لم
تستطع حكوماتهم أن يردوا غزو أمريكا وحلفائها لبلادهم بدءًا بالعراق بعد غزو
الأفغان، بل قد يكون منهم من قدَّم بعض المساعدة لأولئك الغزاة «، ويرى الشيخ
محمد يعقوب أن تفسير ما حدث» لا يعدو إحدى ثلاث - والله أعلم -؛ إما هو من
قبيل العقوبة والجزاء، أو هو من قبيل المحنة والابتلاء، أو هما معاً، وأظن أن
الأمر كذلك «، ثم يلفت إلى أمر مهم يتعلق بالولاء والبراء، فيقول:» كانت
المشكلة الأكبر ولاء بعض المسلمين في الواقعة الأخيرة وتعاطفهم وحماسهم لشخص
هو أبعد ما يكون عن الإسلام ونصرة الدين، فلم يأت الخذلان إلا من جهته، وكان
الضياع منه وبسببه «، ويؤيده في جزء من كلامه الشيخ محمد حسان الذي يقول:
» نحن مسؤولون ابتداءً وانتهاءً عن هزائمنا، ونرفض بشدة كل محاولة تسويغية
تجعل من أعدائنا مشجباً نعلِّق عليه كل أخطائنا، قال تعالى: [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ
أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً]
(النساء: 123) «.
ويشير الشيخ أحمد ياسين إلى لفتة عقدية طيبة يفسر بها ما حدث فيقول:
» لعل الله سبحانه وتعالى أراد أن تنطلق الشعوب العربية والإسلامية في
جهادها معتمدة على الله عاقدة رايتها عليه بعد أن سقطت الأصنام البشرية «،
ويضيف:» أردنا أمراً وأراد الله أمراً آخر، خرجنا بالمسيرات لدعم العراق؛
من أجل هزيمة الشيطان الأكبر، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يجتث جذور الفساد
والكفر من العراق وغير العراق؛ لتصبح التربة صالحة لغرس الإسلام «.
وأيضاً يشير الشيخ رفاعي سرور إلى الأثر العقدي في هذا الحدث من وجهة
أخرى، فيقول:» من طبيعة الأحداث الخطرة أنها ساهمت بصورة كبيرة جداً في
تأكيد أثر العقيدة، فبمقارنة سريعة بين المجاهدين في أفغانستان وبين صدّام تتأكد
حقيقة العقيدة، وبمقارنة سريعة بين المجاهدين الذين دخلوا العراق ليدفعوا عنه أهل
الصليب وبين كثير من العراقيين الذين انشغلوا بالسرقة والنهب يتأكد أيضاً أثر
العقيدة، وظهور هذا التأثير هو من طبيعة علامات الساعة؛ لأن غاية هذه
العلامات هو تحقيق إيمان الناس «.
ومن الناحية التاريخية: يقول الشيخ السيد العربي:» ابن العلقمي الشيعي
وزير المستنصر يبيعه لجنكيز خان بثمن بخس، ويسلم بغداد وما وراءها للمغول،
بالأمس المغول، واليوم الصليبيون، والروافض هم هم؛ لا يقل جرمهم عن جرم
البعثيين، لقد سقطت بغداد في ساعات بخيانة من الروافض حين خرقوا جدارها
المخرّق أصلاً من قِبَل البعث «، ويوافقه الشيخ محمد حسان على ذلك، فيقول:
» ما حدث وقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير: [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 62) ، وما زال أبناء العلقمي
يحيون بيننا «.
أما البعد الواقعي السياسي: فقد توجه كثير من المشاركين بالنقد لمواقف
الدول العربية، فيقول الشيخ جاب الله:» كان الواجب عليهم رفض العدوان ومنعه
بكل الوسائل والطرق، ولكنهم لم يفعلوا وسكتوا، أو ساعدوا بالقليل أو الكثير يعني
للتحالف الأميركي حتى وقعت الجريمة، فسقطت بغداد ليتمهد الطريق أمام أميركا،
ومن ورائها إسرائيل «، ويقول الشيخ عبد الحق الأنصاري:» أوضاع البلاد
العربية تتيح للقوى الخارجية الانتهازية فرصة التعدي والظلم، وإن الدول المسلمة
لا ترجع إلى الحق بكل جدية، بالإضافة إلى الاختلاف فيما بينهم من أجل
السياسات الخاطئة «، وينعى الأستاذ العطار على هذه الدول» استسلامها المخزي
للواقع المخزي، وافتقارها إلى إرادة التغيير والنهوض والإصلاح، وانفصالها
الصارخ عن الشعوب «، ويضيف:» لو كان بين بلادنا العربية وحدة وتعاون
لأمكنها أن يكون لها من القوة والمنعة ما يجعلها في مصاف الدول العظمى «.
أما الشيخ عبد المجيد الريمي؛ فيوسع إطار النقد قليلاً ليُدخل فيه القوميين
والإسلاميين، فيقول:» المواقف التي قادنا إليها القوميون مواقف كلها تجر إلى
الهزيمة «، ويضيف:» لا تزال المعالجات عند القوميين أو بعض الدعاة أو
بعض الناس تعالج الخطأ بخطأ أكبر. لا بد من مراعاة الحكمة والمصالح، وآن
الأوان لضرورة أن يُرجع إلى الشرع في كيفية حل هذه المشكلات؛ لا بالهوى
والعصبية والآراء الشخصية «.
وقد تناول بعض المشاركين (البعد الميداني) في العدوان الأميركي على
العراق، فيقول الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح:» عجيب أن تصمد أم القصر ذات
الأربعين ألف نسمة ثلاثة أيام، وتسقط بغداد في ساعات، ثمة خيانة أو خيانات
وقعت، وسط صمت عربي وإسلامي رهيب. لا شك أن النظام العراقي أحد
المسؤولين عما جرى ويجري حين خسر شعبه باستبداده «، وحول المعنى نفسه
يقول الأستاذ محمد الهندي:» كان بإمكان المقاومين أن يصمدوا في بغداد طويلاً،
ولكن أنا أرجح أن يكون هناك اتفاق مع قادة الحرس الجمهوري الذي عمل على
الاستسلام «، لكن يرى الدكتور الرنتيسي أن» الانهيار السريع كان مفاجئاً، وأما
الانتصار الأمريكي فلم يكن مفاجئاً والسبب في ذلك أن هناك فرقاً هائلاً في ميزان
القوى بين ما يملكه الأمريكان وما يملكه العراق «، أما الدكتور عبد الستار قاسم
فيقول: إن» الانهيار كان متوقعاً؛ لأن الجيش العراقي وجد نفسه لا يحارب من
أجل قضية بل من أجل شخص، خاصة أن كثيرين في العراق لديهم خصومات مع
النظام «.
- ثالثاً: دور علماء الأمة:
الواجب على علماء الأمة وطلبة العلم أكثر من غيرهم، كما يقول الشيخ عبد
الرحمن البراك، ويضيف أن:» الواجب عليهم أولاً توثيق الروابط فيما بينهم ليتم
التعاون والتشاور فيما يجب اتخاذه في مثل هذه النازلة العظيمة، ومن الواجب
عليهم تبصير الناس بحكم الله في أقداره وبما يجب عليهم من محاسبة أنفسهم والعودة
إلى الله بالتوبة «، ويزيد الدكتور أحمد الزهراني دور العلماء وضوحاً بقوله:
» إن من الواجب المتحتم عليهم عدة أمور:
- السعي إلى توحيد صفوف الأمة وجمع الكلمة ضد العدو الداخلي والخارجي.
- التحلي بالشجاعة والإقدام في مواجهة الأمور دون تردد أو خوف.
- تثبيت الأمة ودعوتهم إلى الوقوف ضد الباطل وأهله.
- الصدع بكلمة الحق في وجه كل ظالم وباغ؛ سواء كان حاكماً أو محكوماً حتى
يرتدع.
- كشف حال أهل الباطل.
- نصرة المسلمين بكل ما يستطيعون.
- رفع راية الجهاد ودعوة الناس إليه والمشاركة الحسية والمعنوية في ذلك.
- كشف مخططات الأعداء وتحذير الأمة من الارتماء في أحضانهم.
- أن يكونوا مرجعاً للأمة في الأزمات «.
- رابعاَ: دور الحركات الإسلامية:
يعبِّر الشيخ جاب الله عن أهمية الدور الملقى على عاتق الصحوة الإسلامية
بقوله:» لا أمل للأمة في التصدي لتلك المشاريع والأهداف إلا في الحركة
الإسلامية «، ويُسوِّغ ذلك بقوله:» فَهُم خير من يعرف طبيعة المؤامرة، وحقيقة
العدوان، وخير من يدرك طبيعة الواجب الشرعي والتاريخي والإنساني الملقى على
عاتق أمة الإسلام، وهم أبرز من يدافع عن دين الأمة ووحدتها ولغتها واستقلالها،
ويحمي حقوقها وثرواتها «، ويقول الأستاذ صلاح الدين النكدلي: إن الأحداث
الأخيرة تلقي» على الربانيين من المسلمين مسؤولية كبيرة في تحرير القلوب
والعقول والنفوس من الشبهات والشهوات التي تهز اليوم معاقد الإيمان، وأن يوقنوا
بقول الله تعالى: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 33) «.
ويحدد بعض الدعاة والعلماء الدور المطلوب من الصحوة الإسلامية في نقاط
محددة، فيقول الشيخ قاضي حسين: إن عليها:
» - مقاومة ما يأتي من قِبَل قوى الشر من الهجمات الفكرية والثقافية والاقتصادية
التي تستهدف إبعاد المسلمين عن ربهم، وجرِّهم نحو الفساد الشامل.
- التركيز على الشباب، والطلبة، والنساء، وأصحاب القرار؛ لإقناعهم بضرورة
أداء الواجب في هذ الفترة الحساسة، ثم بوضع برامج تناسب قدراتهم وكفاءاتهم.
- محاولة تبصير كل المسلمين بما يحاك ضدهم وضد دولهم وأجيالهم ومستقبلهم،
وحثهم على المشاركة في فعاليات المقاومة «.
ويدعو الشيخ محمد سيد حاج إلى أنه ينبغي» تأكيد أن الإسلام لا يُهزم،
ومبادئه الحية لا تموت، وأن ما بيننا وما بين أميركا هدم المباني وبقاء المعاني «،
وينادي الشيخ جاب الله الحركة الإسلامية أن» عليها أن تخرج بنضالها من ميدان
القول والارتجال إلى ميدان التخطيط والعمل، ومن منطلق النخبة على ساحة الأمة،
ومن سياسة التنافي والتصادم إلى سياسة التعايش والتعاون، ومن عقلية المصالح
المائعة إلى منطق المصالح المنضبطة بالحق «، أما الشيخ الريمي فينبه الإسلاميين
إلى أنه» من العجب أن يدعو بعض الناس إلى مقاطعة السلع وهذا أمر طيب،
ويدعون في الوقت نفسه إلى الحلول المستوردة في السياسة والاقتصاد؛ بمعنى أنهم
يدعون إلى الفكرة الديمقراطية والحرية «، ويقول:» فنحن نهيب بأهل الإسلام
والدعاة إلى الله عز وجل أن يبينوا خطورة ما في هذه الأفكار الغربية المستوردة من
مخاطر على وحدتنا، وعلى إيماننا، وعلى عقيدتنا «، ويقدم الشيخ حامد العلي
اقتراحاً أخيراً بأن» يُعقد مؤتمر عام لعلماء الأمة لإعلان النفير العام، وأن على
الأمة تجنيد كل طاقاتها وتركيزها لصد هذه الموجة الصليبية «.
- خامساً: دور الأمة الإسلامية:
توزع الخطاب الموجه إلى الأمة من المشاركين في الاستطلاع إلى نوعين:
الأول موجه إلى الشعوب الإسلامية، والثاني موجه إلى حكومات الدول الإسلامية.
فأولاً: توجه قادة العمل الإسلامي إلى أبناء الأمة الإسلامية يدعونهم إلى
إعلان التوبة والتخلص من الذنوب التي تكبل الأمة، فيقول الشيخ أبو بكر بن أحمد:
» يمكن للأمة الإسلامية أن تواجه المشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة
وتستعيد شرفها المفقود بعودتها إلى الله، والتي تتمثل في اتباع القرآن والسنة،
والسير على نهج الأنبياء، والمقاطعة التامة مع الأعداء، قال تعالى: [وَلَن
تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى]
(البقرة: 120) .
ويحذر الأستاذ عصام العطار قائلاً: «إما أن نستيقظ فوراً فنرجع إلى ربنا،
ونبدل ما بأنفسنا، ونأخذ بأسباب النجاة والإصلاح الشامل، وإما أن نضيع ونزول
ونبوء بخزي الدنيا والآخرة» ، ويقول الشيخ عبد الرحمن البراك: «في هذه
النازلة درس للمسلمين ليراجعوا أنفسهم، ويأخذوا بأسباب النصر على عدوِّهم؛
وذلك بإقامة دين الله وتحكيم شرعه، وإحياء شريعة الجهاد» ، ويطالب الدكتور
همام سعيد بأن يشمل الإصلاح المطلوب كل مسلم، فيقول: «ما يجري هو
مؤامرة كبيرة ستصيب كل فرد وجماعة، ويجب أن يكون الرد على مستوى هذا
الشمول» .
ويطرح الشيخ قاضي حسين الوحدة بوصفها دوراً أساسياً مطلوباً من الأمة،
فيطالبها بـ «وحدة الصف الداخلي والمصالحة الشاملة بين ألوان الطيف الشعبية
كلها من ناحية، وبين الشعوب وحكوماتها من الناحية الثانية، وبين الحكومات
الإسلامية من الناحية الثالثة» ، ويقول الأستاذ علي البيانوني أنه ينبغي أن
«تتوقف كل أشكال الصراعات البينية، وتُستنفر جميع القوى لمواجهة العدوان؛ قبل
أن يأتي يوم نلوم فيه أنفسنا ولات ساعة مندم» ، ويؤكد الشيخ عبد الحق الأنصاري
أهمية «الرجوع إلى الحق، والهدوء والسكون إليه، واتخاذ خطوات جادة لتنمية
أواصر الوحدة والوئام الكاملين بين الفئة الحاكمة والجماهير» ، أما الشيخ إسماعيل
حنفي الحاج فيحذر الأمة من الاستسلام للحزن الذي يولِّد القعود، ويقول:
«يجب أن يكون الحزن إيجابياً لا سلبياً؛ أي يدفعنا إلى العطاء والبذل لا إلى
الانكماش واليأس.. [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا]
(آل عمران: 146) . يجب ألا يزيد الحزن عن حده فينقلب إلى ضده،
يتحول بصاحبه إلى القسوة والتبلد فلا يتجاوب مع الأحداث الآتية» .
وأكد بعض المشاركين أنه لا سبيل للأمة إلا الجهاد، فيقول الدكتور همام
سعيد: «الحل الوحيد للوقوف في وجه هذه الحملة والمحافظة على المكتسبات
الحالية هو الجهاد» ، ويؤيده الشيخ حامد العلي بالقول: «المطلوب من الأمة
اليوم أن تنهض مجاهدة لصد موجة الاحتلال هذه وتحطيمها، كما حطمت سابقتها،
وأن تستعد لتقديم كل ما يتطلبه ذلك من تضحيات» ، وينسج الشيخ سلامات هاشم
على المنوال نفسه، حيث يقول: «تشير النصوص إلى أن الجهاد لإعلاء كلمة الله
هو السبيل لرد مكايد الكفار ومنهم النصارى، وتاريخ الإسلام يؤكد ذلك، قال تعالى:
[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
العَالَمِينَ] (البقرة: 251) » .
وثانياً: توجه كثير من المشاركين بخطابهم إلى حكومات الدول الإسلامية،
وكان العامل المشترك في كلامهم الدعوة إلى تحكيم شرع الله، وتوحيد الصف،
وإتاحة الفرصة للشعوب كي تعبر عن نفسها، ويقول الدكتور أحمد الريسوني:
«إن المسؤولين في الدول العربية والدول الإسلامية المجاورة لها؛ إن استطاعوا أن يغيروا سلوكهم مع شعوبهم من جهة بالتجاوب معها، ومع أميركا بتصعيد
المناهضة والرفض؛ فإنهم يستطيعون تحاشي الاشتعال الواسع في دول المنطقة» ،
ودعا الأستاذ علي البيانوني إلى «تحصين الجبهة الداخلية، بالمبادرة إلى
مصالحة وطنية شاملة» ، ودعا الدكتور همام سعيد إلى «إيجاد موقف عربي موحد
رافض ومقاوم لهذه الحملة، وإلى اتخاذ موقف مستقل عن القرار الأميركي، مع
الأخذ في الحسبان استبعاد تكوُّن وحدة بين الدول العربية» ، أما الأستاذ عصام
العطار؛ فقد دعا الحكومات الإسلامية إلى أخذ العبرة من الحدث العراقي، فقال:
«الذين كانوا يهتفون أمس خوفاً أو طمعاً أو نفاقاً، ليل نهار: بالروح بالدم نفديك
يا صدّام. لم يفتدوه اليوم بروح أو دم، بل افتدوا أنفسهم بهجره، وربما افتدى
بعضهم نفسه بسبِّه وشتمه وحربه. لا بد أن يقوم في أقطارنا الإسلامية حكم
شوري يرضي الله عز وجل» .
- سادساً: استشراف المستقبل:
أبدى المشاركون في الاستطلاع اهتماماً كبيراً بالمستقبل الغامض الذي ينتظر
العالم الإسلامي بكل مفرداته، وتراوح الحديث عن المستقبل بين منبِّه إلى أخطار،
ومثبِّت للأركان، وداعٍ إلى التفاؤل، ومحللٍّ للخيارات المحتملة.
يقول الشيخ حامد البيتاوي محذراً: «هزيمة العراق ستنعكس سلباً على العالم
العربي والإسلامي، ومعروف أن الولايات المتحدة أعلنت أنها تريد تغيير خريطة
المنطقة؛ يعني لن يتوقف العدوان» ، ويقول الأستاذ محمد يتيم: «نحن الآن
على مشارف مرحلة جديدة يواجه فيها الإسلام والمسلمون تحدياً أخطر من تحدي
الاستعمار في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين» ، ويفسر بعض هذه
الأخطار بقوله: «ستبرز شخصيات وزعامات مصنوعة تتحدث عن حقوق
الإنسان، وعن حقوق المرأة، وعن الحريات الدينية في دول الخليج، وها هم قد
بدؤوا يتحدثون عن أسلحة الدمار الشامل المهربة إلى سوريا» ، ولا يبعد الشيخ
قاضي حسين كثيراً عن هذا التحليل، حيث يقول: «إن هذه المرحلة المصيرية قد
تؤدي إلى حقبة جديدة من التشرذم والتقسيم والاحتلال والهلاك، لكن في الوقت
نفسه هي مرحلة مرشحة لأن تؤدي إلى كسر الأغلال، ومقاومة الانحلال، ودحر
الاحتلال» .
ويلتقط الأستاذ العطار هذا الأمل الأخير فيقول: «إن فرصتنا للنجاة وأداء
رسالتنا الربانية العظيمة لم تضع بعد، فالعالم بأكثرية شعوبه وأنظمته يرفض أن
يتحول إلى إمبراطورية أميركية، ويتمسك بالتعددية، وسنجد في جهادنا سنداً من
كثير من أحرار العالم، وإن كان اعتمادنا أولاً وآخراً على الله عز وجل، ثم على
أنفسنا وما نملكه من طاقات، وما نقدمه من تضحيات، [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا
وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) » ، ويقول الشيخ الريمي:
«هناك بداية تململ، وإن كانت تحتاج إلى ترشيد، وإلى أسباب إيمانية، وأسباب
مادية» .
ومن اللفتات الطيبة ما أشار إليه الأستاذ الغنوشي بقوله: «ها هم الأميركيون
قد جاؤوا يسوقهم القدر الإلهي لإنجاز ما عجزت عنه أجيال من المناضلين؛ أي
وضع المنطقة على طريق التغيير في الاتجاه الذي تريده شعوبنا وليس فيما أرادوا،
[وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (آل عمران: 54) . إن نجاحهم في
تحقيق أهدافهم سيكون مستحيلاً بفضل الله ثم ببركات الصحوة» ، ويضيف:
«المرجح مع تضخم الغطرسة الأميركية الصهيونية وإصرارها على الاحتلال
وتوسيعه إلى بلاد عربية وإسلامية أخرى؛ أن تتحول المنطقة كلها من طنجة إلى
جاكرتا ناراً ملتهبة بالثورة» ، ويؤيد الدكتور الريسوني هذا الكلام: «أميركا
أحدثت حالة احتقان لم يسبق لها مثيل في العالم العربي والإسلامي، وهذا
الاحتقان سيعبِّر عن نفسه، وسيجد طريقه إلى الانفجار والاشتعال ولو بعد حين،
ولا أستطيع التكهن بمسار هذا الانفجار» .
وعلى الصعيد السياسي؛ فقد قدم بعض المشاركين توقعات عما يمكن أن يطرأ
على الساحة من تغيرات، فقال الدكتور صلاح الدين النكدلي: «والذي يلوح لي
أن بعض الحكومات العربية ستعمل على توفير أدلة تقنع أمريكا بصيانة مصالحها،
وبمصادرة دين الأمة وثقافتها المناوئة، وستعمد هذه الحكومات إلى المناورة في
ميدان التغييرات السياسية، وربما رفض بعضها الانصياع التام للإجراءات
الأمريكية، وهنا قد تنشأ أزمة أو أزمات» ، ويتحدث الدكتور همام سعيد عن
«إمكانية ظهور كيانات جديدة أو دول جديدة، وهذه الكيانات من الممكن أن
تشكل خطورة كبيرة، ومن الممكن أن يُعاد تقسيم بعض دول المنطقة لكيانات
أصغر، أو إعادة توزيع لبعض الأنظمة على حساب بعضها الآخر» ، وبالنسبة
إلى العراق يتحدث عن «إمكانية إيجاد كيانات ثلاثة: شيعية في الجنوب، وسنِّية
في الوسط، وكردية في الشمال، ومن الممكن إعطاء حكم ذاتي تحت السيطرة
الأميركية» .
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ يقول الدكتور همام أنه من المحتمل
«تطبيق سياسة الترانسفير على الفلسطينيين، ولكن بطريقة طوعية وكثيفة؛
عن طريق تقديم إغراءات مادية، وبالنسبة إلى المسجد الأقصى فمن المحتمل
تطبيق السياسة نفسها التي اتبعها اليهود في تقسيم المسجد الإبراهيمي» .
أما قادة العمل الإسلامي في فلسطين المحتلة؛ فلهم رؤيتهم المتعلقة بتأثير
الأحداث في المقاومة، يقول الشيخ أحمد ياسين: «سيكون تأثير ما حدث في
العراق سلباً على الأنظمة العربية؛ مما سيؤثر على المقاومة في فلسطين خاصة،
حيث سنواجه تياراً فلسطينياً عربياً يسوق الهزيمة ويرفع الرايات البيضاء، وللحق
أقول: إن المقاومة عاقدة العزم بعون الله تعالى أن تستمر في جهادها لتشكل رافعة
للأمة» ، ويقول الدكتور الرنتيسي: «أطمئنكم أن المقاومة ستستمر، ولا علاقة
لنا بما يحدث في العراق، ونحن هنا والحمد لله نقاوم منذ عقود من الزمن ولم
نتوقف؛ لذلك عجبنا للسرعة التي توقفت فيها المقاومة في العراق» ، ويؤيد
الأستاذ محمد الهندي ذلك بقوله: «المقاومة الفلسطينية لم ترتبط ببغداد لذلك
ستستمر. نحن بوصفنا مقاومة إسلامية لا نراهن اليوم على الأنظمة العربية، وأنا
أقول مثلاً عندما اجتاحت إسرائيل الضفة الغربية كان هناك آلاف القوات الرسمية
الفلسطينية خلال ساعات اختفت المقاومة منها، نحن نراهن على مقاومة شعبية» .
ونختم هذا التقرير بما قاله الشيخ محمد حسان في سياق بث الأمل، حيث
تحدث عن أميركا وأنها «استكملت كل حلقات الظلم والفساد، وراحت تردد
باستعلاء كلمات عاد الأولى.. [مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] (فصلت: 15) ، والجواب:
[أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً] (فصلت: 15) . فلكل
حضارة دورة فلكية؛ فهي تغرب هنا لتشرق هنالك، قال تعالى: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ]
(الصافات: 171-173) » .
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 6564.(187/42)
المسلمون والعالم
الأبعاد الاستراتيجية لحرب العراق
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
ينظر الكثير ممن تستغرقهم اللحظة الحاضرة إلى الحرب في العراق على أنها
حرب ذات أهداف محدودة، وغايات آنية؛ فهناك من يظن أنها حرب من أجل
أهداف اقتصادية فقط، وأن مراد المعتدين هو الاستيلاء على نفط العراق فحسب،
وآخرون يصدقون دعاوى أمريكا بأنها من أجل إزالة أسلحة الدمار الشامل، مع أنه
لا يوجد في العالم دولة تملك من أسلحة الدمار الشامل ما تملكه أمريكا، كما لا يوجد
في المنطقة دولة تملك ما تملكه إسرائيل في فلسطين.
ولا يعني هذا أن أمريكا ليست معنية بتحطيم قوة العراق، ولكنها تعلم قبل
غيرها كذب دعوى امتلاك العراق لتلك الأسلحة، وهذا ما أكدته فرق التفتيش التي
فرضتها.
وتصل السذاجة منتهاها عند البعض عندما يقولون: إن أمريكا تريد تغيير
نظام صدام من أجل سعادة وحرية الشعب العراقي، والإتيان بنظام ديمقراطي بديل،
ولذلك سميت هذه المعركة بـ (حرية العراق) ؛ مع أن أمريكا هي التي مكنت
لصدام وبخاصة بعد حرب الخليج الثانية؛ فقد كانت قاب قوسين أو أدنى من القضاء
عليه كما صرح بذلك قائد قوات «الحلفاء» في تلك الحرب (شوارتسكوف) ، لكن
الأوامر صدرت إليه من بوش الأب بعدم التقدم صوب بغداد وترك صدام وشأنه.
ودعوى تخليص الشعب العراقي من ظلم صدام تنهار من أصلها إذا ما تأملنا
ما أحدثته أمريكا في حربها الظالمة في عدة أيام بما يفوق جرائم صدام في عدة عقود،
كما أن ما تحدثه إسرائيل من جرائم في حق الشعب الفلسطيني تحت رعاية وحماية
ودعم أمريكا يؤكد أنها هي راعية وحاضنة الظالمين في العالم، وما بين تاريخي
هيروشيما وأفغانستان ومن ثم العراق يؤكد ذلك التاريخ الأسود، مما تهون عنده
جرائم هتلر وموسوليني.
وحقيقة الأمر أن كل هذه الدعاوى ثبت بطلانها وزيفها وأنها لم تكن الباعث
الحقيقي لتلك الحملة الظالمة، عدا الهدف الاقتصادي؛ فهو أحد الأهداف ولكنه ليس
أهمها. كما سيأتي، ومن أجل إيضاح الصورة وبيان الحقيقة فيمكن إجمال أهم
الأهداف الأمريكية لتلك الحرب الظالمة بما يلي:
1 - ترسيخ النفوذ الأمريكي، وإحكام السيطرة والهيمنة على أهم بقعة على
وجه الأرض، لما تتمتع به تلك المنطقة من بُعد استراتيجي في جميع المجالات
الدينية والعسكرية والاقتصادية والبشرية والجغرافية التي لا تتوافر مجتمعة في أي
بقعة أخرى من العالم. وترسيخ النفوذ الأمريكي في العالم حلم طالما راود ساسة
أمريكا وقادتها وبخاصة بعد سقوط منافسهم الرئيس الاتحاد السوفييتي. أما النظام
العالمي الجديد فهو صناعة أمريكية أرادت تسويقه بقناة ديمقراطية عبر الأمم
المتحدة، ولما لم يحقق نتائجه المرجوة كان الظلم والدمار والاحتلال هو الأداة
لتحقيق ذلك الهدف الرهيب، وهي بذلك تعيد عصور الاستعمار السابقة، ولكن
بصورة تختلف عن الاستعمار الأول في بعض أشكاله لا في مضمونه وأهدافه.
2 - أدركت أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بأنه لا بد من عدو قادم بناء
على نظرية صراع الحضارات، التي أكدها هنتنجتون في كتابه الشهير (صراع
الحضارات) ورسم (سيناريوهاتها) الرئيس الأمريكي نيكسون؛ حيث حدد ذلك
العدو بالإسلام، وأن الصراع القادم سيكون مع المسلمين، ومن هنا انطلقت أمريكا
في وضع الخطط وبناء السياسات، وإعداد القوة وتهيئة الجيوش لخوض تلك
المعارك القادمة، وقد عقد عام 1994م مؤتمر في استانبول بتركيا حضرته الدول
الغربية تحت رعاية أمريكا كان الهدف منه تحديد ذلك العدو، ورسم السياسة
والخطط لمواجهته، وتقدمت مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية وبخاصة في
أمريكا بدراساتها وبحوثها التي أكدت فيها بشكل قاطع أن العدو القادم هو الإسلام،
وأن المعركة مع المسلمين. ولم تكن أمريكا قبل ذلك تجهل هذا الأمر، ولكن هذا
المؤتمر من أجل وضع النقاط على الحروف، بناء على دراسات وبحوث أعدتها
مراكز استشراف المستقبل، ومن العجب واللافت للنظر أن يعقد المؤتمر في
عاصمة آخر خلافة إسلامية؛ ذلك الخصم الذي أقض مضاجع الغرب قروناً طويلة
وأسقطته مؤامراتهم وخيانة المنافقين في تلك الدولة، ومن ثم تفريط المسلمين
وبعدهم عن شرع الله.
وكان تنامي المد الإسلامي، وبخاصة الجهادي منه بعد الانتصار الذي حققه
المجاهدون في أفغانستان أثناء الحرب مع الاتحاد السوفييتي والذي انتهى بخروجه
مهزوماً تحت ضربات المجاهدين، ثم قامت ونشطت جبهات جهادية في أماكن
متفرقة من العالم كالشيشان والبلقان والفلبين وكشمير وغيرها، كل ذلك جعل
الغرب وبخاصة أمريكا يدرك أنه سيخوض معركة قادمة مع المسلمين لا مفر منها،
وترسخت لدى أمريكا هذه القناعة بعد أحداث سبتمبر 2001م فأرادت أن تأخذ بزمام
المبادرة قبل أن يفلت الأمر من يديها، فتغزى في عقر دارها، كما حدث عندما
ضربت أبراجها، ومعقل القوة فيها ومن هنا فإن هذا الهدف هو قطب الرحى،
ومعقل تلك الاستراتيجية، وهو الذي يجب أن نخضعه لمزيد من الدراسة والتحليل
لما يترتب عليه من آثار ومواقف.
3 - ومن أهداف هذه الحملة الظالمة؛ حماية إسرائيل، وتأمين استقرارها،
وبخاصة بعد الضربات الموجعة التي وجهها المجاهدون في فلسطين، وما حققته
الانتفاضة الباسلة من انتصارات باهرة، وثبات نادر استعصى على الإرهاب
اليهودي بجميع أشكاله وأنواعه التي قلَّ أن تخطر على قلب بشر، وتزامن هذا
الأمر مع الإخفاق الذريع الذي منيت به مشاريع الاستسلام من سلام موهوم،
وتطبيع مزعوم.
وترسخ هذا الهدف بعد تنامي المد الجهادي في العالم الإسلامي الذي أشرت
إليه في الهدف الثاني، واليهود يدركون قبل غيرهم أنهم هدف استراتيجي لهذا
الجهاد - طال الزمن أو قصر.
ومما جعل لهذا الهدف تلك الأهمية لدى أمريكا تولِّي جيل من القادة الأمريكان
ممن يوصفون بأنهم من الإنجيليين الجدد، الذين يؤمنون بخليط من الإنجيل
والتوراة؛ ولذا يعدون أهداف اليهود ضمن أهدافهم الكبرى، وهم جيل يشكل
خطورة لا يستهان بها؛ حيث يسخرون مقادير وإمكانات دولة علمانية كبرى
لعقيدتهم المبنية على التحريف والضلال.
ومن أفضل ما اطلعت عليه حول علاقة اليهود بغزو العراق ما كتبه (باتريك
بيوكانان) المرشح السابق للانتخابات الأمريكية؛ حيث ذكر فيه من الحقائق الدامغة
ما لا يحتاج بعده إلى مزيد بيان.
وعلاقة هذا الهدف بالحملة الظالمة على العراق يتجلى من خلال السيطرة على
الدول التي يخشى أن تكون منطلقاً لتهديد أمن إسرائيل، والتي قد تنشأ فيها قوة
جهادية تتنامى مع مرور الزمن مما تستحيل معه السيطرة عليها بعد ذلك، ويتعلق
بهذا الهدف أيضاً قطع أي إمداد معنوي أو حسي للمجاهدين في داخل فلسطين،
على أن يتزامن ذلك باستمرار الضربات الموجعة واستعمال جميع أدوات العنف
والإرهاب من قِبَل اليهود ضد المجاهدين في الداخل، ويؤكد هذه الحقيقة تجديد
انتخاب شارون؛ لأنه الأقدر على تحقيق هذا الهدف، وإن كانوا كلهم شركاء في
الإجرام، وليس فيهم صقور وحمائم، بل كلهم ذئاب.
وهذا الهدف يشكل بعداً استراتيجياً لما له من طابع عقدي يتفق عليه اليهود
وحلفاؤهم من الإنجيليين الجدد، ويرتبط بمستقبل إسرائيل وصراعها العقدي مع
خصومها، ويستندون في ذلك إلى نصوص محرفة من التوراة، جعلوها مرتكزاً
أساسياً في خططهم وأهدافهم وتحالفاتهم.
وعلينا ألا نُخدَع فنقلل من هذا الهدف بحجة أن أمريكا دولة علمانية؛ فما
صرح به رؤساؤهم وقادتهم ومفكروهم وقساوستهم يؤكد جدّية هذا الهدف والذي قبله،
ومما يزيد من تمسكهم بهذين الهدفين أنهما ينسجمان مع بقية الأهداف ولا
يعارضانها.
4 - ومن الأهداف الكبرى لتلك الحملة الظالمة، الهدف الاقتصادي، وإن
كان هذا الهدف يندرج ضمن الهدف الأول، ولكنه يتميز بخصوصية مرحلية،
وبخاصة أن أمريكا تواجه انهياراً اقتصادياً، اتضح جلياً في الإفلاسات الضخمة
التي أعلن عنها في عدد من الشركات الكبرى التي كانت تشكل دعامة أساسية في
الاقتصاد الأمريكي، وهناك قائمة أخرى تتضمن إفلاس عدد من الشركات، ولكن
لم يعلن عنها بعد لأسباب متعددة، بعضها يتعلق بتلك الشركات، وأخرى تتعلق
بالسياسة الاقتصادية الأمريكية، وارتباطاتها الدولية. ثم هناك ما يتعلق بالبترول،
والنقص الحاد في المخزون الاستراتيجي الأمريكي، والإخفاق في البدائل الأخرى
بعد بحوث مضنية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن البترول لا منافس له على وجه
الأرض ولا في باطنها، وأن حاجة أمريكا خصوصاً والغرب عموماً تزداد يوماً بعد
يوم. ثم إن منطقة الخليج والعراق بشكل أخص تسبح على محيطات من البترول
تشكل أكثر من 50% من الاحتياط العالمي أجمع. وأمريكا منزعجة من بقاء هذه
الثروة تحت أيدي خصومها الحقيقيين؛ فهي لا تضمن استمرار تلك التحالفات مع
الأنظمة القائمة؛ لأنها تعلم أن تلك الأنظمة نفسها لا تضمن بقاءها، بالإضافة إلى
الحملات التي بدأت ترتفع أسهمها لمقاطعة الاقتصاد الأمريكي وما حققته تلك
الحملات من أثر ملموس يزداد يوماً بعد يوم ويتأكد كلما تنامى المدّ الإسلامي،
وازدادت أمريكا في صلفها وطغيانها ودعمها اللامحدود لليهود في فلسطين.
بالإضافة إلى أمراض داخلية يشكو منها الاقتصاد الأمريكي نفسه، وكذلك
المنافسة الحادة من قِبَل دول لم تكن تشكل أهمية كبرى من قبل، كاليابان والصين
وألمانيا والهند وغيرها من عمالقة الاقتصاد العالمي.
كل هذه العوامل وغيرها تجعل الهدف الاقتصادي يشكل بعداً استراتيجياً لتلك
الحملة الظالمة، ولكنه لا ينفرد بها، وإنما يشكل غطاء مقنعاً للشعب الأمريكي الذي
لا يستطيع أن يستوعب الأهداف الأخرى، وبخاصة الثاني والثالث، مع أنهما أهم
من هذا الهدف، وهو خاضع لهما، ولا يخضعان له.
وبعد: فتلك هي أهم الأهداف الاستراتيجية التي تشكل البعد الحقيقي للحملة
على العراق، ومن هنا فإن دراسة تلك الأهداف وتحليلها من أولى الواجبات التي
يجب أن تعنى بها الأمة من أجل اتخاذ ما يجب حيالها؛ حيث إن المعركة لن تنتهي
بالانتصار على العراق، بل إن الأسلوب التدميري الذي سلكته أمريكا وحلفاؤها في
حربها مع العراق يشكل عائقاً مهماً في تحقيق ما تصبو إليه، وقد بدأت تلك العوائق
فعلاً على المستوى الدولي، وذلك بتنامي الكره العالمي لأمريكا وسياساتها وبخاصة
بعد جرائمها في العراق وكذب دعاواها.
ففي دراسة أعدها معهد (بيو) للأبحاث في واشنطن تصمنت استطلاع الرأي
في (8) دول صديقة لأمريكا أثبتت تلك الدراسة انخفاض شعبية أمريكا وزيادة
الكره لها في تلك الدول وبخاصة بعد مقارنة هذه الدراسة بدراسة أعدها معهد
(جالوب) في أمريكا قبل سنة من دراسة معهد (بيو) مما يظهر الفرق الكبير بين
واقع أمريكا قبل سنة فقط وواقعها الآن.
وهذا الانخفاض الشديد في نسبة المؤيدين لها سببه غزو العراق، وما ارتكبته
من جرائم أخلاقية وإنسانية ودولية وسياسية، وهذه إشارة إلى نتائج هاتين
الدراستين.
ففي بريطانيا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (75%) وأصبحت الآن (48%) .
وفي ألمانيا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (61%) وأصبحت الآن (25%) .
وفي بولندا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (79%) وأصبحت الآن (50%) .
وفي فرنسا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (63%) وأصبحت الآن (31%) .
وفي إيطاليا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (70%) وأصبحت الآن (34%) .
وفي أسبانيا يعارض (70%) السياسة الأمريكية و (79%) يعارضون
سياسة الرئيس بوش شخصياً.
بل داخل أمريكا نفسها يعارض (35%) من الشعب استعمال الحرب لحل
مشكلة العراق كما يعارض (44%) السياسة الخارجية الأمريكية عموماً.
وإذا كان هذا الانخفاض في سنة واحدة، ومن دول صديقة لأمريكا؛ فكيف
تكون شعبيتها في الدول الأخرى وبالذات الدول الإسلامية؟ ونتيجة استطلاع تركيا
يدل على ذلك، بل إن نتيجة استطلاع العام الماضي أثبتت أن نسبة المؤيدين
لأمريكا في باكستان (4%) فقط؛ فكيف تكون الآن؟ وهذه الأرقام تعطينا فرصة
عظيمة لمواجهة المد الأمريكي وعرقلة أهدافه من خلال محاور عدة؛ فليس كل ما
يخطط له الأمريكيون يتحقق على أرض الواقع، بل إن أمريكا بسبب سياستها
العدوانية في العالم، وظلمها الذي أضحى حقيقة مسلَّمة لدى أكثر شعوب الأرض،
بدأت تفقد زعامتها التي تربعت عليها عقوداً من الزمن، ونشأت لديها مشكلات
داخلية وخارجية كبرى على جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية
والأمنية والاجتماعية والثقافية بل والدينية، وهذه المشكلات ستتعمق مع مرور
الأيام والشهور، وتدخل أمريكا في صراعات لا نهاية لها بإذن الله، كل ذلك سيقف
عائقاً مهماًَ دون تحقيق هذه الأهداف التي أشرت إليها، وهذا يتطلب من المسلمين
جهوداً وخططاً تواكب هذه المرحلة، مما يساهم مساهمة فعالة في الحيلولة دون أن
تحقق أمريكا أطماعها ومراميها في منطقتنا الإسلامية، بل ونعمل على قلب نتائج
هذه الخطط وتوظيفها لتكون في صالح المسلمين بإذن الله.
وأرى أن المرحلة المقبلة مواتية جداً للقيام بأعمال على مستوى تطلعات الأمة،
وإن كنت أدرك أن الطريق طويل، ويحتاج إلى جهود مضاعفة تبنى على
الدراسات والخطط الإستراتيجية، وليس على ردود الأفعال، والأعمال الآنية التي
أنهكت الأمة وأضعفت من أثرها على مستوى العالم.
والأمة تملك من مقومات العزة والسؤدد ومفاتيح النصر ما لا مجال للشك فيه
أو الارتياب، ولكن عليها الأخذ بأسباب النصر، ونبذ الوهن؛ وحب الدنيا
وكراهية الموت، ومن أهم ما أشير إليه في هذه الكلمة مما يجب على الأمة أن
تبادر إليه ما يلي:
1 - تهيئة الأمة لمرحلة قادمة تخوض فيها معارك مع عدوها في جميع
الميادين الدعوية والعسكرية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية وغيرها،
وهذا يتطلب إعداداً خاصاً لكل فرد من أبناء هذه الأمة رجالاً ونساءً، صغاراً
وكباراً؛ فإن المعركة شاملة طويلة، وتوجيه جهودهم وطاقاتهم من خلال مؤسسات
يكفل لها المشاركة الفعالة في جميع شؤون الأمة، وإقناع أصحاب القرار بالتجاوب
الحقيقي الصادق مع متطلبات المرحلة، وإتاحة الفرصة لكل فرد أن يقوم بواجبه
مما يحقق الأمن ويصد كيد العدو ويقضي على أسباب المركزية والأثرة والارتجال
والفوضى. ويكون كل ذلك ضمن مؤسسات مؤهلة فعالة وليست شكلية.
2 - السعي الجاد لتوحيد صفوف الأمة على كلمة سواء، ونبذ الخلافات التي
لم تجن منها الأمة إلا الويلات مما زاد من أطماع عدوها فيها، ويكون نبراسنا في
ذلك قوله سبحانه: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران:
103) ، وقوله سبحانه: [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال:
46) .
3 - المبادرة إلى إنشاء مراكز الدراسات الإستراتيجية التي تعنى باستشراف
المستقبل بطريقة علمية، مما يساهم في التخطيط الجاد، وتحديد متطلبات المرحلة،
والأسلوب الأمثل لاستثمار الإمكانات بناء على أسس علمية وحقائق ثابتة بعيداً
عن الاستعجال والارتجال.
4 - تربية الأمة تربية جادة، تتجاوز فيها حياة اللهو والعبث، وتستشعر
مسؤوليتها في هذه المرحلة العصيبة من تاريخها، متطلعة إلى مستقبل مشرق باهر
بإذن الله وهذا يتطلب إنشاء المؤسسات التي تعنى بهذا الأمر من مدارس وجامعات
ومراكز تعليم وتدريب ومحاضن تربوية متنوعة تتناسب مع ظروف المرحلة
ومتطلباتها؛ فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
5 - إقامة المؤسسات والندوات والملتقيات التي تطرح فيها هموم الأمة
ومشكلاتها، يستثمر في ذلك خلاصة عقول أبنائها، ضمن أطر علمية شرعية تكون
الشورى خلاصتها وقطب الرحى فيها، من أجل توجيه جهود الأمة إلى مقاومة
أعدائها، واستثمار إمكاناتها، دون إفراط أو تفريط.
6 - العناية الخاصة بإنشاء المؤسسات الإعلامية المتنوعة، نظراً لما تحتله
الوسائل الإعلامية من مكانة في قيادة الأمم وتوجيه شعوبها، وتنشئة الكوادر
المؤهلة لإدارة تلك المؤسسات، والاستغناء عن أعدائنا، والاستقلال بوسائلنا حتى
لا نؤخذ على حين غرة، ويكون من أبرز ما تعنى به في المرحلة القادمة هو فضح
الأخلاق والقيم الأمريكية الخادعة، مع فضح ومزاحمة المروجين لهذه القيم بيننا
والداعين للاستسلام للقوة الغربية ممثلة بأمريكا وحلفائها، الذين يأخذون بدعوى من
سبقوهم [لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ] (البقرة: 249) .
هذه خلاصة موجزة حول بعض متطلبات المرحلة القادمة التي من خلالها
سيتحقق للأمة ما تصبو إليه من سؤدد ومكانة، وما ستلحقه بعدوها من هزيمة
محققة بإذن الله، على أن لا نغلِّب العاطفة على العقل، وألا نخضع لضغط الواقع،
وإنما نسير بخطى ثابتة، مستهدين في ذلك بهدي الكتاب والسنة؛ فلن يصلح آخر
هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام: 153) ،
ومعنا البرهان واليقين: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً:
كتاب الله، وسنتي» .
فهلموا إخوتي إلى الفلاح وعز الدنيا والآخرة، وإلا فستصدق علينا سنة الله
الثابتة: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
[وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(187/50)
المسلمون والعالم
اجتياح النجمة والصليب لربوع العراق الخصيب
تداخل المسارات في حرب الأديان والحضارات
د. سامي محمد صالح الدالال
حرب مدمرة، لها اسمان: «حرب الحواسم» لدى العراقيين (وقيل: الفتح)
و «حرية العراق» لدى الصليبيين، وهذا بحث حول تلك الحرب التي اندلعت
شرارتها في فجر يوم 17 محرم 1424هـ الموافق 20 مارس 2003م.
أخي القارئ! عندما تصل هذه الدراسة بين يديك وتقع جملها تحت ناظريك
فإن هذه الحرب تكون قد وضعت أوزارها وطوت صفحاتها، وتكون الولايات
المتحدة قد غرست خنجرها الثاني في الجسد الإسلامي بعد أن غرست خنجرها
الأول في أفغانستان.
* أولاً: اللوحة الخلفية:
كثير من الناس ينظرون إلى الأحداث بحسب ظواهرها، وقليل جداً منهم من
يحاول إزاحة الستار عن المحركات الخلفية لها والدوافع النفسية التي تقف وراءها
والبواعث العقدية التي تحدد مساراتها. وسنسلط الضوء على كل من الخلفية
الأمريكية والعراقية.
* الخلفية الأمريكية:
ما يجب أن نعرفه أن اللوحة الخلفية الأمريكية لها عدة أوجه، منها:
الأول: وجه مصلحي يتعلق بالسيطرة على آبار النفط العراقية، وتشغيل
الشركات الأمريكية لعشرات السنين ضمن عقود طويلة الأجل لإعادة إعمار العراق
بعد أن يدمره على رؤوس شعبه، وهذا بدوره سيقضي على البطالة في الولايات
المتحدة وينعش السوق الاقتصادية الأمريكية، ويدعم الدولار، وينشط البورصات
وجميع أسواق الأوراق المالية، ويعطي الثقة لجميع دول العالم بالقدرات الأمريكية
مما يساعد على نشر بضائعها وتسويق منتجاتها.
الثاني: وجه سياسي يتعلق بتثبيت صورة الهيمنة الأمريكية على سياسات
الدول في العالم وقدرتها على توجيه تلك السياسات بما يخدم مصالحها حيث إن
احتلالها لأفغانستان ثم العراق سيسحب البساط من تحت أقدام جميع دول العالم التي
تفكر في معارضة السياسة الأمريكية، كما يعزز تحركاتها الدولية وممارستها لكافة
الضغوط ضمن الأمم المتحدة وخارجها للحصول على ما تريد بما يحقق أهدافها
الحالية والمستقبلية، ويتم كل ذلك باسم نشر الديمقراطية.
الثالث: وجه عسكري يتعلق باتخاذ قواعد عسكرية لها في المناطق الحساسة
من العالم. حيث إن قواعدها في أفغانستان قد غيرت صورة الوضع العسكري
الاستراتيجي في منطقة وسط وشرق آسيا بما أضعف الوضع العسكري لكل من
الصين وروسيا. وإن إيجاد قواعد مماثلة في العراق سيمهد لقيام إسرائيل الكبرى
من خلال ترتيبات معينة تمزج بين السياسة والسلاح في إطار متفق عليه بين دول
المنطقة المؤثرة في الصراع مع اليهود.
الرابع: وجه ثقافي اجتماعي يتعلق بنشر الثقافة الغربية في دول العالم
الإسلامي، وإن ذلك لا يتم إلا من خلال الحضور الأمريكي المباشر في تلك الدول،
وإن بعض أهداف الحرب على العراق داخل في هذا السياق، والذي إطاره العام
مبادرة كولن باول للشراكة الأمريكية الشرق أوسطية والذي جانبها التفصيلي هو
المذكرة التنفيذية لهذه المبادرة.
الخامس: وجه يهودي يتعلق بنجاح اليهود في تسيير الحزب الجمهوري ثم
مجلس الأمن القومي الأمريكي في اتجاه تحقيق الرغبات اليهودية؛ حيث إن هذا
المجلس ينافس شارون في المسارعة إلى تحقيق أهداف اليهود الكبرى.
وإن من الواضح جداً لديهم أن أهل السنة في منطقة التوسع هم العائق الرئيس
دون الوصول إلى غاياتهم التوسعية. يقول «أناتول لايغن» في دراسته المعنونة
«أسرار الاندفاع نحو غزو العراق» : «.. والاعتقاد بإمكان نشر الديمقراطية
عن طريق القوة الأمريكية لا يكون دائماً حديثاً مخادعاً، بل على العكس، فهو لا
ينفصل عن التصور الأمريكي بأن للولايات المتحدة رسالة في العالم هي ضرورة
نشر العقيدة الأمريكية، غير أن هذا الاعتقاد التبشيري ثبت أيضاً أنه عظيم الفائدة
في تدمير منافسي الولايات المتحدة أو شل حركتهم.. وعلى أية حال فإن الحرب
المعتزمة ضد العراق لا تهدف فقط إلى إبعاد صدام حسين، بل إلى تدمير هيكل
الدولة العراقية الوطنية العربية التي تهيمن عليها طائفة السنة على النحو الذي
وجدت به منذ نشأة هذا البلد. والمفترض أن الديمقراطية التي تحل محل النظام
العراقي الحالي ستكون شبيهة بالديمقراطية القائمة في أفغانستان، أي تحالف
عشوائي من الجماعات العرقية ولوردات الحرب، ويعتمد بصورة كلية على القوة
العسكرية الأمريكية، ويخضع تماماً للرغبات الأمريكية والإسرائيلية. وبالمثل،
فبعد تدمير نظام صدام حسين، إذا لم تخضع المملكة العربية السعودية للرغبات
الأمريكية وتعرضت للهجوم بدورها، فعند ذاك واستناداً إلى الأفكار التي يجري
تداولها في دوائر البحث في واشنطن، سيكون الهدف منها ليس مجرد استبعاد
النظام السعودي والقضاء على الوهابية كأيديولوجية للدولة، بل سيكون تدمير الدولة
السعودية وتقسيمها، وعند ذلك توضع آبار البترول الخليجية تحت الاحتلال
العسكري الأمريكي، ويتولى الأمور في المنطقة أمير تابع، وربما تعود مكة
والحجاز إلى الأسرة الهاشمية الحاكمة في الأردن..» [1] .
السادس: وجه نصراني صليبي متطرف تغذيه مجموعة من المسيحيين
اليمينيين الإنجيليين، وهم يحيطون بالرئيس الأمريكي من كل صوب، غير أن
الذي يجب كشف اللثام عنه أن بوش نفسه هو متطرف مثلهم أو من أشدهم
تطرفاً؛ فهو نصراني متدين جداً ينتمي إلى طائفة التحالف الصهيوني المسيحي
«الميسوديت» . وقد كتب هوارد فاينمان مقالاً بعنوان: «بوش والرب» [2] .
وقد جاء فيه: «إن جورج بوش الابن قد بنى حياته المهنية من خلال نسيج
علاقات مع رجال دين كانوا يشكلون حينذاك الحركة الإنجيلية الصاعدة في الحياة
السياسية، واليوم يمثلون قلب الحزب الجمهوري.. فالمسيحيون المتدينون أشد
الداعمين لبوش؛ لذا فإن حشدهم بأعداد أكبر كان في صدارة أولويات مستشار
الرئيس السياسي كارل روف» .
من هذا المنطلق فإن تصرفات بوش الابن تنبع من هذه البؤرة. يقول فاينمان:
«ويعرف مستشارو بوش أن الكثير من الأمريكيين، وفي العالم أجمع، يرونه
كرجل أعمته معتقداته ومعتقدات أنشط مناصريه» .
لقد نشأ بوش في ظل الكنيسة وانتظم وفق أصولها وتقاليدها، لكنه عاقر
الخمر ثم أقلع عنها عام 1986م، وانخرط في الدراسة المعمقة للكتاب المقدس،
وعمل ضابط اتصال مع اليمين الديني في دعمه لحملة أبيه الانتخابية عام 1987م،
وانفلت لسانه عام 1993م فصرح للصحافي أوستن، وكان يهودياً، بأن المؤمنين
بالمسيح وحدهم سيصعدون إلى الجنة، وانفلت لسانه مرة أخرى بعد أحداث
11 سبتمبر 2001م ليعلن الحرب الصليبية.
ولعب الواعظ المشهور المتطرف بيلي غراهام دوراً رئيساً في انطلاقة بوش
الابن. وعندما رشح بوش نفسه للمنافسة على الرئاسة الأمريكية عام 1999م جمع
كبار القساوسة في قصره لينال بركتهم، وأخبرهم بأنه «تمت دعوته» لينشد
منصباً أرفع. ويقول العاملون في البيت الأبيض إن الأجواء المخيمة على القصر
الرئاسي تتسم بجو من الصلاة. ولطالما كانت مجموعة دراسة الكتاب المقدس
موجودة في البيت الأبيض، وزوجة رئيس الموظفين أندروك كارد قسة في الكنيسة
المنهجية، أما والد مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس فكان مبشراً في آلاباما.
وقد أعد برنامجاً شاملاً يسمح للكنائس والكنس اليهودية والجوامع باستخدام الأموال
الفيدرالية لتقديم برامج رفاهية اجتماعية. وقد تبلورت محصلة ذلك كله في
التصدي للعدو الأول الذي يراه منافساً للانتشار المسيحي وهو الإسلام. فالحرب
على الإسلام مردها إلى شدة إيمانه بالمسيحية. يقول فاينمان: «يفكر بوش في
سياسة خارجية تستند إلى الإيمان، لكنها من النوع القادر على تفجير الوضع،
يفكر في حرب محتملة باسم الحرية المدنية، بما في ذلك الحرية الدينية، في القلب
القديم للإسلام العربي» أي الجزيرة العربية. وهذا يعني أن حربه على أفغانستان ثم
على العراق ما هي إلا تمهيد لذلك، وسيأتي المزيد من ذلك لاحقاً في هذه الدراسة.
ويقول فاينمان: «لكن المبشرين الإنجيليين لا يخفون رغبتهم في تحويل المسلمين
إلى المسيحية ولا سيما في بغداد. وإذا كان أحد أهداف إطاحة صدام منح شعب
مقموع حرية العبادة؛ فكيف للرئيس أن يعارضه في ذلك؟! إن الرئيس الأمريكي
بوش يغذي نفسه يومياً بهذه الأفكار، وخاصة التي تقرر أن صدام» شرير «
بالمعنى المسيحي الذي يراه. يقول فاينمان:» في معظم الأيام يستيقظ بوش قبل
انبلاج الفجر، حين تكون أعلى الأصوات خارج البيت الأبيض مجرد هدير
مضجر لطائرات إف 16 وهي تجوب السماء البعيد. وحتى قبل أن يجلب لزوجته
لورا فنجان القهوة الصباحية، ينزوي في مكان هادئ للقراءة. أما النص الذي
يقرؤه فليس ملخصاً إخبارياً أو برقيات استخباراتية أرسلت خلال الليل، فهذه
النصوص سيقرؤها فيما بعد في المكتب البيضاوي، كما أنه لا يقرأ كتاباً
ترفيهياً لكن بدل من ذلك أخبر أصدقاءه أنه يقرأ عظات إنجيلية قصيرة
بعنوان: (Highest His For Utmost My أعظم ما يمكنني لأعظم
العظماء) . مؤلف الكتاب أوزوالد تشيمبرز. وفي ظل الظروف الراهنة تبدو
أصداؤه التاريخية رنانة للغاية. وتشيمبرز هو مبشر معمداني من أستكتلندا مات
عام 1917م «. ولهذا قال القس الأمريكي فريتس ريتسش:» لم يحدث في التاريخ
أن كانت أمريكا مسيحية سياسياً وبشكل علني مثل ما هي اليوم. وإن تقديم بوش
تسويغات دينية لحربه على العراق لهو أمر مقلق، بل ومرعب لكثيرين « [3] .
إن خلاصة الحديث في هذا الوجه النصراني أن بوش يقود حملة صليبية على
العالم الإسلامي باسم» الحرية «، ولذلك سمى حملته على العراق بـ» حرية
العراق «.
السابع: الوجه التخطيطي؛ حيث إن قضية الحرب على العراق ليست وليدة
هذا القرن. بل بداياتها التخطيطية كانت مع نهايات القرن الماضي. وقد كان للعالم
الاقتصادي لينرون لاروش المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية عام
2004م دور بارز في كشفه من خلال بيان وزعه في العام الماضي 2002م قبيل
مرور الذكرى الأولى على أحداث 11 سبتمبر 2001م. (تم توزيع مليون نسخة
من هذا البيان في كافة أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية) . ونحن نشير إلى أهم
النقاط الواردة في هذا البيان مما له متعلق بموضوع الحرب على العراق، وذلك
ضمن النقاط التالية:
1 - الإعلان عن وجود أدلة صلبة تشير إلى أن الحملة الرامية إلى حث
الرئيس بوش عن شن حملة على العراق هي سياسة وضعتها الحكومة الإسرائيلية
عام 1996، بناء على توجيه من الشبكة اليهودية القابعة في موقع القرار الأمريكي.
2 - ابتدأت القصة بقيام ريتشارد بيرل [*] الذي كان يشغل قبل استقالته
مؤخراً منصب رئيس مجلس الدراسات الدفاعية (وهي مجموعة استشارية تقدم
دراساتها وتوصياتها لبول وولفو ويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي حالياً) بتقديم
وثيقة مكتوبة إلى رئيس وزراء الكيان اليهودي بنيامين نتانياهو عام 1996م يقترح
فيها سياسة إسرائيلية خارجية تقوم على إلغاء اتفاقيات أوسلو ومبدأ الأرض مقابل
السلام وتسعى لضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الدولة اليهودية بشكل نهائي،
ويتم ذلك من خلال حرب على العراق تنتهي بزعزعة استقرار حكومات سوريا
ولبنان والسعودية وإيران، وقد تم تحضير هذه الوثيقة في معهد الدراسات
الاستراتيجية والسياسية المتقدمة الذي يموله البليونير اليميني ريتشارد ميلون
سكيفي، وله مقران أحدهما في القدس والآخر في واشنطن. عنوان الوثيقة هو:
انقطاع نظيف: استراتيجية جديدة لضمان أمن البلاد:
وقد شارك في كتابة هذه الوثيقة (بحسب مناصبهم الحالية) كل من:
- ريتشارد بيرل (رئيس مجلس الدراسات الدفاعية سابقاً) .
- دوجلاس فيث (مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون السياسة) .
- ديفيد وورمسير (مساعد خاص للمفاوض الرئيسي في وزارة الخارجية
لشؤون نزع السلاح) .
- ميراف وورمسير (مديرة قسم سياسات الشرق الأوسط في معهد هادسون) .
- جون بولتون.
وقد ألقى نتانياهو بعد يومين من استلامه مسودة هذه الوثيقة من بيرل خطاباً
أمام الكونغرس الأمريكي مردداً الأفكار التي وردت بها، وفي نفس اليوم نشرت
صحيفة وول ستريت جورنال مقتطفات منها، ثم نشرت مقالاً في اليوم التالي 11/
7/1996م تتبنى فيه وثيقة بيرل.
3 - في بداية فبراير 1998م شنت الحكومة البريطانية بقيادة توني بلير
بالتنسيق مع الحكومة اليهودية والشبكات اليهودية في الولايات المتحدة حملة
ضاغطة على الرئيس الأمريكي كلينتون لتبني وثيقة بيرل وشن حرب على العراق
بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وقد دعم ذلك وزير الخارجية البريطاني آنذاك
روبن كوك بتقديمه تقريراً حول جهود العراق بامتلاك تلك الأسلحة، وقد تضمنت
الحملة رسالة مفتوحة موجهة إلى كلينتون بتاريخ 19/2/1998م كتبها بيرل نفسه
وعضو الكونغرس السابق ستيفن سولارز تطالب فيها الرئيس بالقيام بحملة شاملة
تقودها الولايات المتحدة لتغيير نظام الحكم في بغداد. وقد شكلت تلك الرسالة
ضغطاً هائلاً على كلينتون لثقل مكانة الموقعين عليها، وتضم ممن هم الآن في
إدارة بوش كلاً من: إليوت أبرامز في مجلس الأمن القومي، ريتشارد آرميتاج في
وزارة الخارجية، جون بولتون في وزارة الخارجية، دوجلاس فيث في وزارة
الدفاع، فريد أيكل في مجلس الدراسات الدفاعية، زالماي خليل زادة في البيت
الأبيض، بيتر رودمان في وزارة الدفاع، دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الحالي،
بول وولفو ويتز نائب وزير الدفاع الحالي، ديفيد وورمسير في وزارة الخارجية،
دوف زاخيم في وزارة الدفاع. ولم يستجب كلينتون لهذه الرسالة مما أثار غضب
كل من نتانياهو وبلير بشكل شديد جداً. لكن الضغوط على كلينتون استمرت إلى
أن أثمرت عملية» ثعلب الصحراء «تحت وطأة فضيحة مونيكا لوينسكي، غير
أن تلك الضربة التي وجهت للعراق لم تكن مقنعة لليهود.
4 - استعداداً لاحتمال تولي بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية تم
إدراج بول وولفو ويتز ضمن الدائرة الداخلية المحيطة ببوش قبل عام من انتخابات
الرئاسة، وذلك بمبادرة من الوزير الأسبق جورج شولتز. وفي عام 1999م أصبح
كل من وولفو ويتز وكونداليزا رايس مسؤولي شراكة عن تأليف فريق السياسة
الخارجية والأمن القومي لحملة بوش، وهو الفريق الذي أطلق عليه» الفولكان «
(وهي آلة الحديد والنار عند الرومان) . وقد كان ريتشارد بيرل من أوائل من
ضموا إلى الفريق، كما ضم مجموعة من المشتبه بهم في قضية الجاسوس اليهودي
جوناثان بولارد وهم فرانك جافني، وستيفن براين، ومايكل ليدين؛ ليتولوا
تدريس الرئيس بوش بواطن وظواهر السياسة الخارجية والأمن القومي. وقد قامت
هذه المجموعة المهيمنة اليوم على إدارة بوش بترتيب اجتماع يوم 10 يوليو 2002
لمجلس السياسات الدفاعية، وطالبت فيه بتطهير قيادة الأركان الحربية الأمريكية
من كل المعارضين للحرب ضد العراق، كما دعت إلى احتلال منابع النفط
السعودية والتخلي عن العلاقات المتميزة مع الأسرة المالكة السعودية، وهي نفس
الأفكار الواردة في الوثيقة المقدمة إلى نتانياهو [4] .
إضافة إلى ذلك، نسجل ما يلي:
1 - في إحدى كنائس ولاية فرجينيا أقيم مؤتمر ضد الحرب على العراق،
وكان أحد المتحدثين جيمس موران العضو الديمقراطي في الكونغرس، فأبدى
ملاحظات هامة حول دور اليهود في هذه الحرب، نشرتها صحيفة» واشنطن
بوست «مما دعا الصهاينة إلى شن حرب شعواء عليه نقبت في حياته الشخصية.
2 - كتب الصحفي والسياسي بيوكانان الذي كان أحد مرشحي الحزب
الجمهوري لرئاسة أمريكا في مجلته:» أمريكا كونسير فاتف «قائلاً:» لأول
مرة بدأ الناس يتحدثون علناً عن شيء ظلوا يهمسون به سراً، لأول مرة ظهرت
حقيقة حزب الحرب اليهودي، لأول مرة هناك أسماء ووثائق « (أورد أسماء
اليهود في المواقع الحساسة في الإدارة الأمريكية) .
3 - كيرن نوينج مراسل القناة الأولى في الكيان اليهودي، وأمنون
إبراموفيتش كبير المعلقين في القناة، وعودي سيجل مراسل القناة الثانية، أجمعوا
أن مشروع الحرب على العراق من وضع ثلاثة من غلاة اليهود الأمريكيين هم:
ريتشارد بيرل، جون وولفو فيتز، دوغلاس فيث؛ حيث هم الذين صاغوا أهداف
الحرب وحث الإدارة الأمريكية على خوضها. وهؤلاء الثلاثة محسوبون على
الليكود اليهودي. وقد عقدوا بعد شهر من أحداث 11 سبتمبر اجتماعاً مع كل من:
أفرايم هلايفي (كان وقتذاك رئيس الموساد وهو الآن مدير مجلس الأمن القومي في
الكيان اليهودي) وعاموس مالكا (رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الكيان
اليهودي) إضافة إلى رئيسي قسم الأبحاث في كل من الموساد وجهاز
الاستخبارات العسكرية في الكيان اليهودي، وذلك لصياغة أهداف الحرب الميدانية
والاستراتيجية، وتم تشكيل لجنة تنسيق عسكرية مشتركة، يتم من خلالها أن يقوم
الكيان اليهودي بتقديم كل ما يتطلبه الجهد الحربي الأمريكي إبان غزوه للعراق.
4 - تم تشكيل لجنة للتنسيق السياسي يرأسها من الجانب الأمريكي مستشارة
الأمن القومي كونداليزا رايس وتضم أعضاء من فريقها في مجلس الأمن القومي،
ومن جانب الكيان اليهودي تضم دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون وبعض كبار
موظفي وزارة الخارجية، وقد عملت هذه اللجنة على توفير الظروف السياسية
المساعدة على الحرب، وعلى رأسها خطة» خارطة الطريق «.
5 - تم تشكيل لجنة عسكرية ضمت جنرالات في هيئة أركان الجيش
الأمريكي ومنهم الجنرال تومي فرانكس، قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأمريكي
وقائد حملة الحرب على العراق، وكانت مهمة اللجنة تقديم معلومات استخبارية عن
الأوضاع في العراق تساعد على حسم المعركة ضد بغداد، والمساعدة في تقديم
خطط ميدانية بشأن الحرب.
6 - تبنى الأمريكيون خطة لاغتيال الرئيس العراقي صدام حسين أُطلق عليها
اسم:» تسنيلم «حسب ما ذكرته كل من القناة الأولى في تلفزيون الكيان اليهودي
وشبكة الإذاعة العامة» «ليشيت بيت» . وقد وضع الكيان اليهودي هذه الخطة
في صيف عام 1991م بسبب إطلاق الصواريخ العراقية على فلسطين المحتلة في
حرب الخليج الثانية، وقد أشرف على الخطة رئيس أركان الجيش اليهودي آنذاك
الجنرال أيهود باراك. وتقرر أن تنفذ العملية وحدة «سيريت متكال» أي سرية
الأركان حيث قامت بالتدرب عليها في منطقة «تسيليم بيت» على بعد حوالي 35
كلم إلى الجنوب الشرقي من مدينة بئر السبع. الخطة لم تنفذ بسبب خطأ فني أثناء
التدريب أودى بحياة خمسة من الجنود اليهود. تبنى الأمريكيون بعد ذلك الخطة
وأدخلوا تعديلاتهم عليها، وتدربوا على تنفيذها، لكنها لم تنفذ بسبب تطور ظروف
جر المنطقة إلى حرب لإسقاط نظام بغداد بدل مجرد اغتيال صدام.
7 - كشف برنامج «بوبو ليتكا» الذي بثته القناة اليهودية في 18/3/2003م،
أن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني عقد خلال الشهرين السابقين للحرب
لقاءات مع 70 خبيراً إسرائيلياً في مختلف المجالات، ناقشهم خلالها في كيفية حسم
المواجهة مع العراق.
8 - حدثان إضافيان مهمان لهما دلالتهما في الحرب على العراق.
الأول: دخول وحدتين عسكريتين يهوديتين للعمل في غرب العراق وعدد
أفرادهما حوالي خمسة آلاف وذلك لمسح المنطقة للتأكد من عدم وجود صواريخ
عراقية تهدد الكيان اليهودي.
الثاني: دعا الحاخامان الأكبران في دولة الكيان اليهودي، ومجلس حاخامات
المستوطنات إلى إقامة الصلوات يوم الأربعاء 26/3/2003م، من أجل سلامة
جنود التحالف الذين يحاربون في العراق. وقد اشترك في تلك الصلوات السفيران
الأمريكي والإنكليزي [5] . فالحرب على العراق هي حرب يهودية صليبية.
9 - في تصريح أدلى به هانز بليكس كبير مفتشي الأسلحة التابعين للأمم
المتحدة لصحيفة «البايس» الإسبانية قال: «إن من المؤكد أن الحرب على
العراق تم التخطيط لها مسبقاً منذ زمن طويل، لذلك كان موقف الولايات المتحدة
حيال المفتشين يثير الشكوك في بعض الأحيان، وأن مسألة أسلحة الدمار الشامل
العراقية جاءت في المرتبة الرابعة لدى الولايات المتحدة وبريطانيا على لائحة
أسباب الحرب، وبودي أن أعرف حقاً إذا كانوا سيعثرون عليها. إن ما ذكر
بخصوص عقود مفترضة أبرمها العراق لشراء اليورانيوم المخصب من النيجر كان
تضليلاً فاضحاً» [6] .
وبعد؛ فتلك كانت سبعة أوجه ربما تساعد في توضيح الجوانب غير المنظورة
في أعماق الأحداث التي تضطرم على الساحة في دائرة الخلفية الأمريكية.
* الخلفية العراقية:
ينظر اليهود بحذر شديد وتيقظ وثاب إزاء كل ما يشكل عوامل قوة في الحكم
في العراق، وينطلقون في ذلك من منظار توراتي نبوءاتي مفاده أن الذين
سينقضُّون في آخر الزمان على دولة الكيان اليهودي فيدمرونها ويجتثون جذورها
ويعيدون تشتيت اليهود بعد أن يقتلوا منهم من يقتلون هم البابليون، أي العراقيون.
ولهذا السبب فإن تدمير العراق قضية ضاغطة في العقل اليهودي؛ لأن ذلك يؤخر
تحقيق النبوءة التوراتية.
ويتضمن تدمير العراق في الفكر اليهودي الحالي:
- تدمير الجيش العراقي تدميراً شاملاً.
- تدمير البنية التحتية العراقية.
- السيطرة على نظام الحكم في العراق.
- التغلغل إلى داخل البنية العراقية اقتصادياًُ وسياسياً وعسكرياً وثقافياً
واجتماعياً وسلوكياً، وطي صفحة تاريخها الحضاري الإسلامي.
- توقيع اتفاقيات سلام مع الجهة الحاكمة في العراق قبل أو بعد أن يضم
الكيان اليهودي الأراضي الفراتية العراقية الداخلة في مشروع إسرائيل
الكبرى.
ولقد كانت مشاركات الجيش العراقي، رغم محدوديتها، في الحروب السابقة
مع دولة الكيان اليهودي ذات طابع مرعب بالنسبة لليهود، سواء التي كانت في عام
1948م والتي توقفت بسبب «ماكو أوامر» أو التي كانت في حرب 1973م
والتي أوقفت تقدم الجيش اليهودي نحو دمشق عند قرية سعسع السورية.
إن العراق دولة ذات إمكانات هائلة على كافة المستويات، غير أن حزب
البعث العربي الاشتراكي الذي حكمها أدخلها في نفق أظلم مما كان فيها، حيث:
1 - أراد اقتلاع عقيدة الإسلام من أبناء العراق، وشرع في زرع عقيدة
علمانية كافرة تحت شعاره المعروف: وحدة حرية اشتراكية.
2 - استخدم جميع أنواع البطش والشدة والقمع والتعذيب والقتل والتنكيل ضد
معارضيه وخاصة التيار الإسلامي بكافة فصائله وتوجهاته.
3 - بدد الثروة العراقية الهائلة في البذخ والإسراف والاستهتار.
4 - دخل في حرب طاحنة غير مسوغة مع إيران استمرت حوالي ثماني
سنوات قضت على الأخضر واليابس في العراق.
5 - قام بغزو الكويت واحتلها ظلماً وجوراً وتعسفاً وبغير أي سبب، فأحدث
فيها القتل والتدمير والإحراق والاغتصاب والسرقة، ثم انسحب منها بعد حرب
ضروس أدت إلى الوجود الدائم للقوات الأمريكية وغيرها في عموم منطقة الخليج،
كما قضت على قدرات الجيش العراقي وشلت فاعليته. وقد صب هذا الاحتلال في
تحقيق المشروع اليهودي الخاص بإضعاف العراق تمهيداً للقضاء عليه.
6 - أدى احتلال الكويت إلى إضعاف الموقف العربي، وساعد في تشرذمه
إلى أبعد من تشرذمه الأول، وقسم العالم العربي إلى محاور متخاصمة، مما ساعد
على انتعاش المشروع السياسي اليهودي والذي تم تتويجه بمعاهدة السلام مع الأردن
وتوقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993م.
إلى هذا الحد فإن نظام حكم حزب البعث في العراق كانت جميع تصرفاته
تصب في نهاياتها في سلة المشروع اليهودي التوسعي، ولذلك لم يكن مطروحاً
إسقاط هذا النظام أو استبداله، ولكن بعد انتهاء حرب الخليج الثانية وانسحاب
الجيش العراقي من الكويت حصلت أمور مهمة جعلت اليهود يعيدون النظر في
موقفهم من هذا النظام ووجوب اتخاذ إجراءات محددة إزاءه لإعادة ضبط مساره
على نسقه السابق، وإلا فإن آخر الدواء الكي!! أي اقتلاع هذا النظام الحاكم
والدخول في المرحلة الجديدة لتوسيع الكيان اليهودي ضمن المخطط الليكودي الذي
وضعه نتانياهو ثم طوره شارون.
إن النقاط التالية تلقى ضوءاً على ما ذكرناه:
1 - لقد كان فكر صدام حسين إلى حين غزوه للكويت مواتياً وملائماً ومطابقاً
للمشروع اليهودي في المنطقة، مما جعله أهلاً لرضا السيد الأمريكي، حيث إنه
أحسن استعمال اللافتات القومية والشعارات الوطنية كما فعل جمال عبد الناصر،
كما أن اتصالاته السابقة مع السفارتين البريطانية والأمريكية في القاهرة عندما كان
طالباً قد أكسبته الثقة به.
في عام 1979م بعث القس جاكوب ياسو راعي أبرشية ديترويت برسالة
تهنئة إلى صدام بمناسبة صعوده إلى الحكم، وتلقى مقابل ذلك 250 ألف دولار
كهدية من الحكومة العراقية الجديدة للكنيسة الكلدانية في ديترويت، كما تلقى دعوة
لزيارة العراق قام بتلبيتها عام 1980م برفقة 25 عضواً من رعايا الكنيسة؛ حيث
سلم لصدام حسين مفتاح مدينة ديترويت نيابة عن الطائفة الكلدانية؛ وذلك بحضور
عمدة مدينة ديترويت كولمان يونغ بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس الكنيسة.
وتلقى مقابل ذلك شيكاً آخر بقيمة 200 ألف دولار لتسديد الديون المستحقة على
الكنيسة.
يقول القس ياسو الذي بلغ الآن 70 عاماً: كان صدام حسين مواطناً أمريكياً
صالحاً في ذلك الوقت، وعاملنا معاملة الملوك، وكنا ضيوفاً على الحكومة العراقية،
وفرش لنا طاقم السفارة السجاد الأحمر. لقد تغير الزمن منذ ذلك العهد، فقد كان
صدام حسين صديقاً للولايات المتحدة في ذلك وألعوبة في يدها، يعتمد على دعمها
له في مواجهة غريمه الإيراني، بل إن حزب البعث نفسه تأسس بفضل الدعم
الأمريكي [7] .
2 - بعد حرب الخليج الثانية وإخراج الجيش العراقي من الكويت تيقن صدام
أن الولايات المتحدة قد قلبت له ظهر المجن، لقد قادت تآلفاً وتحالفاً عالمياً لدحر
جيشه وطرده من الكويت. وكان اللوبي اليهودي الذي نوهنا عنه هو المحرك
الخلفي لتلك الأحداث. هنا شعر صدام حسين بالخطر المحدق، وأن الخطوة التالية
ستكون الإطاحة به نفسه؛ لأن المرحلة في الفكر اليهودي التوراتي قد تجازوت
خدماته. لذا فقد بدأ يعد العدة لمواجهة محتملة، وكان واضحاً لديه أن إمكانات
العراق مهما بلغت فلن تطال القدرات الأمريكية الفائقة والساحقة. وقد وجد أن
تطوير أسلحة الدمار الشامل، والتي قد جرب بعضها في حلبجة إبان الحرب مع
إيران، هي عتاده للردع. هنا نشط اللوبي اليهودي، وحاصرت الولايات المتحدة
العراق سياسياً في مجلس الأمن بعد أن حاصرته اقتصادياً بعد حرب الخليج الثانية،
ومن خلال مجلس الأمن أيضاً، فقرروا مراقبة العراق داخلياً من خلال ما سموه
بفرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل وهي الأسلحة الكيميائية والبيولوجية
والنووية.
3 - إن إصرار الولايات المتحدة، المتخمة إداراتها بالشخصيات اليهودية
البارزة، على إرسال فرق التفتيش عام 1996م لم يأت من مجرد الخوف من
امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل؛ ذلك لأن كميات هائلة من هذه الأسلحة قد تم
تدميرها بعد حرب الخليج الثانية بإشراف الأمم المتحدة، ودمر قسم كبير آخر بعد
إرسال فرق التفتيش عام 1996م والتي استمرت إلى أن طردها العراق عام 1998م
لقيامها بأدوار تجسسية ولعدم موافقة الأمم المتحدة على رفع الحصار عن العراق.
إن الخوف جاء من تسرب الصحوة الإسلامية التي عمت العالم الإسلامي إلى
مختلف فئات الشعب العراقي ومن ثم إلى صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي
نفسه.
إن المنتسبين لهذا الحزب ثلاث فئات رئيسة:
- فئة النخبة: وهم المؤسسون الأوائل الذين يحملون الفكر القومي الوطني
العلماني المعادي لأي توجه إسلامي، وهم بمثابة عمود الخيمة. إن عدد هؤلاء قليل
قياساً على مجموع أعضاء الحزب.
- فئة المنتفعين: وهم الذين انتموا إلى الحزب إما لتثبيت مصالحهم الخاصة
والحفاظ عليها من المصادرة، وإما لاستغلال اسم الحزب للحصول على منتفعات
ذاتية. إن عدد هؤلاء أيضاً ليس كبيراً قياساً إلى مجموع منتسبي الحزب، لكنه
بذاته كبير نسبياً وهو أكثر بكثير من فئة النخبة. ويدخل ضمن هؤلاء «فدائيو
صدام» الذين يكتسبون مزايا مصلحية خاصة.
- فئة المضطرين: وهم عموم أبناء الشعب من موظفين وفلاحين وأصحاب
مهن وتجار وطلبة وغيرهم، ممن يجبرون على الانتساب إلى الحزب وإلا تعرضوا
للطرد من وظائفهم أو مضايقتهم في أرزاقهم، وهذه الفئة هي الفئة الكبيرة جداً من
منتسبي الحزب.
إن جميع تلك الفئات تضم عرقياً العرب والأكراد والتركمان والشركس
والأشوريين ومن في حكمهم، وتضم طائفياً السنة والشيعة، وتضم دينياً المسلمين
والنصارى وغيرهم.
إن الصحوة الإسلامية التي دخلت العراق رغماً عن قيادة حزب البعث قد
شملت المسلمين في الفئات الثلاث بدرجات متفاوتة لكنها تركزت في الفئة الثانية
خاصة، ومع توالي السنين المنصرمة أصبحت هذه الصحوة ذات ثقل وزخم لا
يمكن للحزب البعثي العلماني تجاهله أو تجاوزه، خاصة أن بعض المؤسسين قد
تأثروا بها، حتى بات واضحاً لدى الجميع أن هناك خللاً كبيراً في طبيعة مفهوم
الصراع، إذ تبين تماماً أن الطرف الآخر، وهو الولايات المتحدة تنطلق في
صراعها مع العراق من خلفية دينية عقدية، وإن مقابلة ذلك بحفنة من الشعارات
الفارغة التي لا تستند إلى عقيدة ذات بعد ديني حضاري لا يجدي شيئاً وأن نتيجته
محسومة حتماً لصالح الطرف الآخر.
4 - إن المناقشات الحزبية المستفيضة تمخضت عن ضرورة إعادة الالتصاق
بالبعد الديني الإسلامي لمقابلة البعد الديني النصراني اليهودي، وقد أفضى ذلك إلى
ما أطلق عليه العراق بـ «الحملة الإيمانية» . وقد بدا ذلك واضحاً في الخطاب
الرسمي العراقي الذي أصبح قوياً في هذا الاتجاه ابتداء من عام 1996م. وقد تبنى
قيادة هذه الحملة صدام حسين نفسه مستفيداً من المكنوز الحضاري الديني الإسلامي،
معتبراً ذلك المكنوز أداة لموازنة الصراع، حتى وإن كان إيمانه الذاتي به ضعيفاً
أو منعدماً. ونظراً لأن الكوادر الحزبية كلها كانت قد عبئت بالشعارات القومية عبر
عقود سبقت فإن الحملة الإيمانية جاءت مشوبة بهذه الشعارات. وهذا يفسر اختلاط
«ألفاظ شعارات» هذه الحملة قومياً وإسلامياً، إضافة إلى ذلك فإن إزالة الجذور
العميقة للفكر القومي العلماني من عقول وقلوب الفئة الأولى بالذات، وهم النخبة،
قضية فيها نظر، بل هي صعبة جداً إن لم تكن مستحيلة.
5 - من جهة أخرى يمكن القول إن المرحلة التي وصل إليها المخطط
اليهودي قد تجاوز مرحلة الخدمة التي يقدمها حزب البعث العربي الاشتراكي، وإن
هذا الحزب ربما قد استنفد أغراضه، سواء في العراق أو في سوريا.
6 - وبما أن هذا التوجه، أعني تأثير الصحوة الإسلامية على القواعد
الحزبية، قد أخذ مساره وغذ سيره بعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991م فإن
اليهود قرروا مسابقة الزمن وإسقاط هذا النظام، فركبوا صهوة الخيل الأمريكية
النصرانية، وشرع بيرل ونتانياهو في اتخاذ الإجراءات العملية لذلك.
7 - إن استحضار هذه الخلفية لا يلغي خلفية السيطرة على آبار البترول
وسوى ذلك من المصالح العظمى التي تحقق الآمال الاقتصادية لرجال البترول
الحاكمين للبيت الأبيض، وكذلك المصالح الاستراتيجية التي تحقق الهيمنة الشاملة
للولايات المتحدة على دول العالم.
هذا هو مجمل اللوحة الخلفية فيما يتعلق بالعراق.
* ثانياً: قوى المجابهة في الميزان:
العراق من جهة، وأمريكا وبريطانيا وحلفاؤها من جهة أخرى هما قوى
المجابهة. ولتحليل مكونات هذه القوى لا بد من سبر مكوناتها، وأهمها ما يلي:
أولاً: الجانب السياسي:
ابتدأت الحرب والوضع السياسي كالتالي:
1 - العراق موافق تماماً على قرار مجلس الأمن 1441 ويقوم بتنفيذه بشكل
دقيق. (راهنت أمريكا على عدم موافقة العراق على عودة المفتشين الدوليين، ثم
على عدم قبول العراق لهذا القرار، لكن العراق فاجأها بالموافقة فأسقط في يدها) .
2 - العراق فتح أبوابه للجان التفتيش البيولوجي والكيماوي والنووي.
3 - تقارير مسؤولي لجان التفتيش «بليكس» و «البرادعي» أشادت
بالتعاون العراقي في كافة الجوانب الإجرائية وسجلت ملاحظات على الجوانب
الجوهرية، لكنها غير أساسية.
4 - أعلن العراق رسمياً خلو أراضيه من جميع أسلحة الدمار الشامل، لم
تفلح لجان التفتيش في العثور على أي منها رغم أن عملها استمر حوالي أربعة
أشهر ونصف الشهر.
5 - إخفاق كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي في اقناع مجلس الأمن في
أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل.
6 - طلب العراق من الولايات المتحدة أن ترسل مبعوثين في الـ A.I.C
لاستخراج أسلحة الدمار الشامل التي تدعي وجودها لديه فلم تستجب لهذا الطلب.
7 - طلب الرئيس العراقي صدام حسين أن يجري مناظرة علنية مع الرئيس
الأمريكي جورج دبليو بوش فرفض.
8 - تمكن العراق من الحصول على تأييد مؤتمر القمة العربي ومؤتمر منظمة
التضامن الإسلامي ومؤتمر قمة عدم الانحياز في معارضتهم للحرب عليه.
9 - حاولت الولايات المتحدة الحصول على قرار من مجلس الأمن يفوضها
استخدام القوة ضد العراق، فأخفقت إخفاقاً ذريعاً في جمع الأصوات التي تمرر هذا
القرار، رغم محاولاتها الشديدة في الضغط على الدول الأعضاء في مجلس الأمن.
10 - الموقف الروسي الفرنسي الألماني المناهض لاستعمال القوة ضد
العراق كان حاسماً في عدم إمكانية تمرير القرار الأمريكي من مجلس الأمن،
خاصة وأن كلاً من روسيا وفرنسا هددتا باستعمال حق النقض «الفيتو» لإسقاط
القرار.
11 - قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها دخول الحرب ضد العراق دون
الحصول على تخويل من مجلس الأمن، وأعلن ذلك الرئيس الأمريكي بوش في
خطابه في يوم الإثنين 15 محرم 1424هـ الموافق 18 مارس 2003م.
12 - وبذلك تكون الولايات المتحدة قد مارست عملاً عدوانياً حربياً سافراً
خارج منظومة الشرعية الدولية. ويترتب على ذلك أن جميع الدول التي تساعد
أمريكا ووقفت معها في هذه الحرب خارجة أيضاً على الشرعية الدولية.
13 - وبما أن الولايات المتحدة هي القطب الوحيد الدولي، وقد تبعها في
موقفها ذلك حوالي 49 دولة؛ فهذا يعني فقدان الأمم المتحدة دورها العالمي، وأنها
باتت غير ذات قيمة مؤثرة في الصراعات الدولية، وهذا يعني أن الولايات المتحدة
قد تجاوزت مفهوم القوة العظمى المنضبطة في دائرة الأمم المتحدة إلى دائرة القوة
العظمى المطلقة التي لا يحد حركتها شيء. وبذلك تكون قد دخلت كلياً في دائرة
الإهلاك الرباني السنني لجمعها بين الاستكبار والظلم.
قال تعالى: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ]
(فصلت: 15) .
وقال تعالى: [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً]
(الكهف: 59) .
وبذلك يكون العراق قد خرج منتصراً بامتياز في المعركة السياسية عشية
اندلاع الحرب؛ إذ تمكن بحنكة لافتة من:
1 - عزل الولايات المتحدة وحلفائها عن المجتمع الدولي.
2 - دق إسفين غائر في وحدة الكيان الأوروبي.
3 - إعادة نبش الصراع بين روسيا والولايات المتحدة بما يمكن اعتباره
مقدمة لعودة الحرب الباردة بين الطرفين.
4 - الحصول على دعم سياسي دولي من معظم حكومات العالم.
5 - تعرية انهزامية حكومات معظم الدول العربية والإسلامية أمام شعوبها
والعالم.
6 - إعادة النظر في التحالفات الدولية القائمة الآن.
7 - إظهار عورة الأمم المتحدة وضعفها الشديد وذلك أمام دول العالم أجمع.
8 - عدم تمكينه دولة الكيان اليهودي من القيام بأي دور إبان الأزمة السياسية.
9 - استقطابه لبعض الدول العربية لتقف في صفه تماماً كسوريا ولبنان.
10 - نجاحه بشكل غير مرئي في تصديع التحالف التركي الأمريكي.
ثانياً: الجوانب العسكرية والاقتصادية والإعلامية:
لا مجال للإسهاب في بيان التفوق الساحق للولايات المتحدة على العراق في
هذه الجوانب كلها. فالولايات المتحدة دولة نووية متخمة بالقوة العسكرية حتى
النخاع، وتتميز بتقدم تقني وتعبوي فائقين. أساطيلها تجوب المحيطات، وقواعدها
متوزعة في أرجاء البقاع، وأقمارها الصناعية تغطي الأجواء. اتخذت قرار
الحرب على العراق استناداً إلى هذه القوة الهائلة وانطلاقاً من أطماع صليبية يهودية
ظلماً وعدواناً. لقد قررت خوض حرب غير عادلة.
أما العراق فإن قواه العسكرية متهالكة، عتاده قديم، وأسلحته يعلوها الصدأ،
ومستوى الصيانة في الحضيض، وخدماته دون مستوى التواضع، لقد تعرض
لهزيمة شديدة في حرب الخليج الثانية، رغم أنه خرج من حرب الخليج الأولى
منتصراً. ورغم ذلك فقد كان متوقعاً أن تكون قابليته للتصدي للقوات الأمريكية
وحلفائها متوقدة، لكونه يقاتل على أرضه ودفاعاً عن نفسه وماله وعرضه، وأنه
يخاصم معتدياً اعتدى عليه ظلماً وجوراً. وأن عدوه عدو صليبي حاقد يحمل في
جوف قلبه ثارات التاريخ الصليبية، وأنه طليعة للهجمة اليهودية الصهيونية
التوسعية، لكن القيادة البعثية في بغداد خذلت تلك التوقعات.
وبناء على ذلك يتقرر لدينا أن القوة العسكرية المحضة هي لصالح الولايات
المتحدة. لكن القوة المعنوية إن لم تكن متكافئة، فإنها تميل شيئاً ما لصالح العراق
من حيث البواعث والحوافز.
وأما في الجانب الاقتصادي، فإن الولايات المتحدة هي أقوى دولة في العالم
اقتصادياً، أما العراق فلا يزال ينوء تحت أثقال الحصار منذ أكثر من اثني عشر
عاماً، مما أدى إلى ضعف شديد في خدماته الغذائية والصحية والعلمية وغيرها.
فهو من هذا الجانب غير مؤهل لدخول أية حرب مع أية دولة مهما كانت ضعيفة.
وأما في الجانب الاعلامي فإن الإعلام الأمريكي يغطي من خلال قنواته
المتنوعة جميع ربوع الدنيا، ويكاد يتمكن من إعادة صياغة أجناس البشر على وفق
المنظور الأمريكي في الأفكار والممارسات. إنه إعلام عولمة الأمركة.
وأما الإعلام العراقي فهو إعلام متواضع لا تصح مقارنته إلا مع مثيلاته من
الأجهزة الإعلامية المتخلفة في العالم الثالث.
وبناء على ذلك فإنه كان من المتوقع أن تحظى الولايات المتحدة بدعم دولي
هائل لموقفها من الحرب على العراق استناداً إلى إعلامها النشط جداً، والذي يتميز
بقدرته الفائقة على قلب الحقائق وتسويق الزيف في أنحاء العالم، غير أن الواقع
كان على خلاف ذلك تماماً؛ إذ خرجت المظاهرات الصاخبة في جميع دول العالم
تندد بحرب أمريكا على العراق، وقد تضمن ذلك حرق الأعلام الأمريكية والتنديد
الشديد بسياسات الولايات المتحدة، ولا تزال هذه المظاهرات مستمرة. هل كان
ذلك بسبب قوة الإعلام العراقي؟!! كلا!! بل هو رد فعل طبيعي لهذه الشعوب على
الاستكبار الأمريكي والغطرسة التي تمارسها ضد دول العالم ولاستعلائها المستحقر
لباقي شعوب المعمورة. ولكن من اللافت أن الحكومة الأمريكية لم تلق بالاً لكل هذه
المظاهرات وتلك الاحتجاجات وضربت بها كلها عرض الحائط، واعتبرت ذلك
مجرد هيجان من الغوغاء لا يستحق أن يعار حتى ولو مجرد التفاتة.
بعد أن استعرضنا توزعات الجوانب المختلفة لدى الطرفين العراقي
والأمريكي، فإننا لن نغادر هذه المحطة قبل أن نبين المرتكزات التي ارتكز عليها
كلا الجانبين عندما قرر المضي في الطريق إلى نهايته التصادمية الحربية.
المرتكزات الأمريكية هي كالتالي:
1 - السمعة الأمريكية والهيبة العالمية (رغم الإخفاق السياسي في مجلس
الأمن) .
2 - القوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية.
3 - وجود أرض انطلاق متاخمة للعراق مباشرة (هذا المرتكز خسروه في
تركيا وربحوه في الأردن والكويت) .
4 - هزالة وضعف الجوانب العسكرية والاقتصادية والإعلامية لدى العراق.
5 - انهيار الروح المعنوية العراقية لدى الشعب والجيش.
6 - اشتعال انتفاضات ضد النظام العراقي في مختلف المدن العراقية.
7 - تمرد قطعات الجيش على النظام العراقي الحاكم.
8 - تشكيل ائتلاف عسكري من قوى المعارضة تكون طليعة للتقدم العسكري
الأمريكي في أرض العراق.
9 - استسلام الجيش العراقي بمجرد مجابهته للجيوش المتحالفة.
10 - هرب القادة السياسيين والعسكريين بمجرد بدء الحرب.
11 - انهيار أركان الدولة (سياسياً وعسكرياً) عندما تتساقط المدن العراقية
الواحدة تلو الأخرى في أيدي الجيوش المتحالفة.
12 - وبناء على ذلك فإن الحرب ستكون خاطفة ولا تحتاج إلى تعبئة عظيمة
كتلك التي كانت في حرب 1991م.
يلاحظ في المرتكزات الأمريكية أن التأييد الدولي مغيب عنها، رغم أنها تقود
تحالفاً من 50 دولة. لكن هذا التأييد فاقد لزخمه بسبب المعارضة الروسية الفرنسية
الألمانية الصينية، وكذلك معظم الدول الإسلامية والعربية، وإن كان ظاهرياً.
ويلاحظ أيضاً أن بعض هذه المرتكزات لم يتحقق. وبناء عليه فإن الخطة
الاستراتيجية الأمريكية لهذه الحرب قد أصابها خلل مما أدى إلى إدخال تعديلات
عليها تضمنت استخدام أقصى إمكانات القوة العسكرية المتاحة، ما عدا الذرية.
المرتكزات العراقية هي كالتالي:
1 - التأييد السياسي الدولي، وخاصة التأييد الروسي والفرنسي.
2 - العزل السياسي للولايات المتحدة وبريطانيا، وقيام المظاهرات العارمة
في أرجاء الدنيا المعارضة للحرب.
3 - استخدام طرق ووسائل غير تقليدية في مجابهة القوى العسكرية للحلفاء.
4 - تسليح كافة فئات الشعب لتحويل المعركة إلى مجابهة شاملة وليست
قوات الجيش فحسب.
5 - الاستفادة من خبرات الحروب السابقة ضد إيران وضد التحالف عام
1991م.
6 - تلاحم الشعب مع السلطة باعتبار أن هذه الحرب هي حرب احتلال
للعراق وليس مجرد حرب لإسقاط النظام؛ فالمعركة هي معركة دفاع عن الدين
والوطن والعرض والمال.
7 - توزيع الهبات والعطايا والهدايا وإسباغ الوعود لكافة القبائل والعشائر في
مختلف أنحاء العراق، وذلك في حال وقوفها مع النظام.
8 - نجاح الإعلام العراقي في وضع كل مؤيد أو متحالف من أي فئة في
الشعب العراقي مع الأمريكان والإنكليز في خانة الخيانة العظمى وبيع الضمير
والوطن للأجنبي.
9 - المراهنة على أن جميع الشعب العراقي بكافة فصائله سيقف ضد
الاحتلال الأجنبي، سواء كان ذلك عن اقتناع أو عن خوف من القمع والبطش من
قبل فدائيي صدام.
10 - المراهنة على أن الأكراد، وإن أيدوا الأمريكان، فإنهم لا يقبلونهم
حاكمين عليهم أو متسلطين في أراضي تواجدهم.
تلك كانت أهم مرتكزات العراق في مجابهته للحلفاء. والملاحظ أنها عملت
لصالحه إلى حين حصول الانهيار الكبير في دفاعات بغداد التي أدت إلى احتلالها
واختفاء جميع أفراد القيادة العراقية وعلى رأسهم صدام حسين.
* النصر الأمريكي:
- لم يكن أمام الولايات المتحدة في تلك الملحمة الكبرى سوى الانتصار،
وليس ثمة خيار آخر؛ فإنها لو لم تنتصر فإنها ستتعرض إلى الانهيار الداخلي
الحتمي، فضلاً عن انهيار كافة المخططات النصرانية واليهودية الموضوعة لهذه
المنطقة والمخطط لإنجازها عقود عدة أهمها السنوات العشر القادمة والتي تبتدئ من
1/1/2003م.
- ولم يكن أمام العراق في تلك الملحمة الكبرى سوى الانتصار، وليس ثمة
خيار آخر، فإنه إذا لم ينتصر في هذه الحرب فإن نظام حزب البعث سينهار إلى
الأبد، كما أن العراق سيقع فريسة الاحتلال الأمريكي الإنكليزي وحلفائهما وستحقق
دولة اليهود خطوة عظيمة في اتجاه إقامة دولتها الكبرى، وهذا الذي حصل بالفعل.
فعندما نشبت الحرب تحقق الهدف الأمريكي وتم احتلال العراق من قِبَل القوات
الغازية الأمريكية والإنكليزية. وقد لعب الإعلام لدى الطرفين دوراً بارزاً ومميزاً
إبان الحرب، وقد حاول الإعلام العراقي رغم هزالته أن يحقق ندية للإعلام
الأمريكي، وذلك من خلال التحرك النشط لوزير إعلامه محمد سعيد الصحاف.
- لا بد أن نلقي ضوءاً على سير العمليات الحربية التي قادت إلى النصر
الأمريكي الإنكليزي الصليبي. لقد استعدت الولايات المتحدة لهذه الحرب أيما
استعداد، ووضعت لها احتمالات منوعة، ثم دربت قياداتها وقواتها تدريبات متتالية
لخوض مختلف أشكال المعارك. وتضمنت التدريبات الجوانب الميدانية والجوانب
الإلكترونية، ثم مثلت هذه الحرب وخاضتها فعلياً على شاشات الكمبيوتر في قاعدة
عديد في قطر. وانطلاقاً من ذلك حشدت الولايات المتحدة حوالي ربع مليون جندي،
وبريطانيا حوالي خمسين ألف جندي موزعة في كافة القطاعات القتالية التي
ستشارك في شن الحرب على العراق بما في ذلك حاملات الطائرات والسفن
الحربية والقواعد الجوية فضلاً عن مراكز انطلاق القوات البرية. ولكن عندما
اقتربت الحرب من لحظة اندلاعها حصل أمران مهمان:
الأول: استراتيجي: وهو رفض البرلمان التركي انتشار القوات الأمريكية
عبر أراضيه متجهة إلى شمال العراق. مما عطل الهجوم على العراق من شماله
وأدى إلى توقف حوالي ستين ألف جندي وعشرين سفينة حربية قبالة السواحل
التركية في انتظار ما سيسفر عنه القرار التركي النهائي، في حين أن ساعة الصفر
لبدء الحرب كانت تقترب سريعاً. وقد أدى ذلك إلى «دربكة» شديدة في الخطة
العامة للحرب وأجهض تناسقها زمنياً وتعبوياً وتكتيكياً ونفسياً.
الثاني: تكتيكي: لكنه مهم جداً؛ حيث إن الخطة العامة المعتمدة من قِبَل
البنتاغون هي تحقيق المفاجأة القاصمة في الضربة الأولى، المفاجأة الزمنية
والمفاجأة التكتيكية. فقد كانت الخطة تقوم على أساس أن تكون الضربة الأولى في
تمام الساعة الواحدة ظهر يوم الجمعة 18 محرم 1424هـ الموافق 21 مارس
2003م حيث يكون الجيش والشعب العراقي منشغلين جميعاً في صلاة الجمعة.
غير أن ورود أنباء مؤكدة من خلال الـ A.I.C بوجود القيادة العراقية مجتمعة
في أحد القصور الرئاسية دعا بوش ومستشاريه إلى اتخاذ قرار طارئ وغير
مدروس بتوجيه ضربة ساحقة إلى مقر الاجتماع المذكور، وهكذا كان، مما أدى
إلى تداعي السير الزمني والنفسي للخطة الرئيسة؛ فبدأ التنفيذ الأعرج لتلك الخطة
وقد فقدت عمودها الفقري وهو التوقيت السليم، وقد أعطى الخطأ الأمريكي
التكتيكي الفرصة للعراقيين للاستعداد لتلقي الضربة الرئيسة، فطاشت تلك الضربة
ولم تؤدِّ غرضها.
بعد أن اندلعت الحرب وقعت القيادة العسكرية الأمريكية البريطانية في مطبات
أعدها الجيش العراقي بعناية، من أهمها:
- استدراجه القوات الأمريكية إلى أم قصر ثم الانقاض عليها.
- وضع قوات مدافعة عن المدن، حالت دون تمكن الجيوش الغازية من
احتلالها، رغم ضعف تلك القوات.
وقد أدى ذلك إلى إخفاق القوات البريطانية في احتلال البصرة، وإخفاق
القوات الأمريكية في احتلال الناصرية والنجف وكربلاء.
وتحت الضغط النفسي الذي يلاحق القوات الأمريكية اندفعت تلك القوات نحو
بغداد تاركة خلفها قوى عسكرية غير كافية لمحاصرة تلك المدن، مما نتج عنه
بعثرة القوة العسكرية الأمريكية.
- أدى ذلك إلى أمرين:
الأول: قامت القوات العراقية العسكرية والشعبية بالهجوم على مؤخرات
القوات المتقدمة وبقاياها العسكرية فأوقع فيها خسائر فادحة.
الثاني: طول خطوط الإمداد؛ حيث تبلغ المسافة من مواقع الانطلاق إلى
بغداد حوالي سبعمائة كيلو متر، ولا تستطيع القوات الأمريكية تأمين هذه الخطوط،
ومن المحتمل جداً أن تحاصر القوات الأمريكية على تخوم بغداد في حال ضربت
خطوط إمدادها. وهذا ممكن جداً ومقدور عليه من قِبَل الجيش العراقي.
- بدأت القوات الشعبية والعسكرية بخوض حرب عصابات على مختلف
القطاعات العسكرية الأمريكية والإنكليزية التي أصبحت مبعثرة هنا وهناك، وقد
ساعدت الحيل العسكرية العراقية والكمائن والاستدراجات إلى حالة من التدهور
النفسي لدى القيادات الميدانية لقوات التحالف.
- إحراق البحيرات النفطية التي أعدها العراقيون مما أدى إلى تشبيع الأجواء
بالدخان الكثيف الأسود، مما ترك آثاره على مجسات الالتقاط والاستشعار لصواريخ
كروز، وكذلك عرقل وضوح الرؤية لطياري الهوليكوبتر من طراز أباتشي وكوبر
الأمريكيتين.
- ومن عجائب قدر الله المحكم أن تهب العواصف الهوجاء في أوقات ليست
معتادة وتطارد القوات الأمريكية والإنكليزية ابتداء من مراكز تحشداتها وإلى حين
وصولها إلى تخوم بغداد، مما عطل تنفيذ الخطط الموضوعة وعرقل سير القطعات
العسكرية وتأمين الحماية الجوية لها.
وقد تمكن العراقيون، بسبب العواصف، من إيقاع دمار كبير في القوات
الأمريكية في منطقة الناصرية، وحالوا دون تمكنها من احتلالها لعدة أيام، مما أخر
المرور عبرها في اتجاه بغداد.
- معارك بغداد البرية كانت هي مفاجأة الحرب؛ إذ لم تصمد قوات بغداد
سوى ثلاثة أيام ثم انهارت انهياراً مدوياً، فدخلت القوات الأمريكية بغداد بتاريخ
7 صفر 1424هـ الموافق 9 إبريل 2003م، في حين استمرت المناوشات الحربية
في مختلف المدن الأخرى، ثم ما لبثت أن انحسرت لتحقق قوات التحالف الصليبي
سيطرة كاملة على جميع أنحاء العراق.
لقد حققت هذه الحرب إلى الآن ثلاثة أهداف:
الأول: قضاؤها على الجيش العراقي وإخراجه تماماً من أية مواجهة منظورة
مع الدولة اليهودية.
الثاني: القضاء على البنية التحتية العراقية.
الثالث: إسقاط نظام الحكم في العراق.
* ثالثاً: تداعيات الحرب ونتائجها:
إن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على العراق لم تأت من
فراغ، ولم تتم عبثاً، بل قد جاءت في سياق مدروس ومعد جيداً وبإحكام، في
إطار التمهيد والتوطيد لتحقيق المخطط اليهودي الصهيوني في إقامة الدولة العبرية
الكبرى من الفرات إلى النيل، وذلك من خلال ركوب صهوة الآمال الصليبية التي
توشحت بها الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما.
هذه الحرب الضروس، التي وضعت أوزارها وأرخت سدولها، ما هي
نتائجها وما المتوقع من تداعياتها؟ هذا ما سأحاول أن أذكره مقتضباً.
بانتصار أمريكا في هذه الحرب فإن التداعيات والنتائج المتوقعة كثيرة، من
أهمها:
1 - على المستوى الأمريكي الداخلي:
أ - سيستمر ارتفاع الروح المعنوية للشعب الأمريكي إلى أعلى درجاتها بما
يزيد من شعورهم بالفوقية والغطرسة.
ب - إذا واظب الإيقاع الحالي على منحاه فسيعاد انتخاب بوش رئيساً
للولايات المتحدة.
ج - ستنتعش سوق الشركات الأمريكية من خلال تنفيذ عقود إعادة إعمار
العراق الذي سيخرج من الحرب مدمراً تدميراً شاملاً، وقد قُدِّر مبدئياً تكليف إعادة
الإعمار 20 مليار دولار سنوياً، وقدرت المبالغ الكلية بـ 900 مليار دولار،
وهي تقديرات أولية. وسيؤدي ذلك إلى خفض نسبة البطالة بشكل حاد.
د - ستزدهر الشركات الأمريكية لصناعة السلاح، وذلك لتعويض الجيش
الأمريكي عن أسلحته التي فقدها في الحرب.
هـ - هاجس الخوف سيبقى متسرباً إلى داخل قلوب الشعب الأمريكي وذلك
بسبب قلقهم من احتمالات الضربات الانتقامية الداخلية الكبيرة على غرار أحداث
الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
و لن يكون الشعب الأمريكي مستعداً للموافقة على دخول الولايات المتحدة
في أي حرب أخرى في المستقبل المنظور إلا إذا تم إخراجها يهودياً - نصرانياً
بطريقة تفيد أنها دفاع عن النفس وأنها شر لا بد منه.
ك - سترتفع قيمة الدولار على حساب العملات الأخرى، وسينخفض
التضخم وترتفع قيمة الأسهم بما يساعد على سرعة تعويض نفقات الحرب.
2 - على مستوى الشرق الأوسط:
أ - تطبيع احتلال العراق ووضع قواعد أمريكية ثابتة فيه، أقلها ثلاثة قواعد:
الأولى شمال البصرة، والثانية غرب بغداد، والثالثة شمال العراق، وفك الحصار
عنه، والوعد بإقامة نظام سياسي أمريكي على طريقة أفغانستان ويضفى عليه
وصف الديمقراطية، ولكن بعد أن تخضع العراق لحكم أمريكي مباشر لسنوات
عديدة. وفي أغلب ظني أن هذه السنوات ستكون مصحوبة باحتمالات عدم
الاستقرار؛ وذلك لأنه ليس من المتوقع أن يذعن الشعب العراقي للاستعمار
الأمريكي لفترة طويلة. وسيكون للعراق جيش رمزي هزيل، لا يكاد يهش ولا
ينش. وسيصبح العراق المركز الاستراتيجي في المنطقة على حساب تركيا
والكويت. وستكون أولويات الحكم العلماني الجديد في العراق القضاء على الصحوة
الإسلامية فيها تحت شعار مكافحة الإرهاب.
ب - توقيع اتفاقيات سلام مع الكيان اليهودي بعد ممارسة الضغوط اللازمة
على سوريا التي سيكون موقفها ضعيفاً جداً بعد أن انتصرت أمريكا في الحرب.
وستشمل الاتفاقيات العراق ولبنان كذلك.
ج - قد يكون المفضل لدى اليهود عدم توقيع اتفاقية سلام مع سوريا ابتداءً،
بل إعلان الحرب عليها (إما مباشرة أو عن طريق الولايات المتحدة) واحتلال
بعض أو كل أراضيها ثم جرها إلى اتفاقية سلام مذلة بعد أن يكون جيشها قد انهار
وقضي عليه في الحرب، وبعد أن تكون بنيتها التحتية قد ضربت (نفس سيناريو
العراق، المتضمن الحصار ثم الحرب) .
د - وفي إطار التسوية الشاملة قد تلجأ دولة الكيان اليهودي خلال السنوات
القادمة إلى تنفيذ برنامجها الذي خلاصته تفريغ الضفة الغربية وقطاع غزة من
الفلسطينيين وإعادة توطينهم في الأردن وجنوب العراق وجنوب سوريا. أو
احتمالات أخرى كثيرة لا محل لذكرها الآن.
هـ - ولإضفاء مزيد من الضوء على ما أوردته في كل من (ب) و (ج)
و (د) ، أسوق ما ذكره شاؤول موفاز، وزير الدفاع في الكيان اليهودي، في
محاضرة له في مركز «حرتسلي، متعدد الاتجاه» وهو أهم وأعرق مركز في
دولة الكيان اليهودي حيث قال: «إن النصر في الحرب يعني إخراج العراق من
دائرة العداء لإسرائيل، والضغط على سوريا لإخراج المنظمات الفلسطينية من
دمشق ولوقف حمايتها لحزب الله في لبنان، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تخفيف
مصادر رفد المقاومة الفلسطينية في الضفة والقطاع» .
أما عوزي عراد (رئيس وحدة التحليل في المركز المذكور والذي كان
مستشاراً سياسياً لنتانياهو) ، فقد قال: «إن النظام الجديد في العراق سيضع
سوريا وإيران بين فكي كماشة مرعبين، حيث ستجدان نفسيهما محاصرتين من كل
صوب» .
ك - ستحقق دولة الكيان اليهودي مكاسب اقتصادية مهمة؛ حيث ستحصل
على النفط من العراق بأسعار زهيدة، وسيمر أنبوب النفط العراقي عبرها إلى ميناء
حيفا، مما يشكل دخلاً مادياً مجزياً وثابتاً، وستفتح التبادل التجاري معه في أوسع
نطاق، وسوف تحصل على وفر بارز ينجم من تخفيف إجراءاتها الأمنية المتعلقة
بالانتفاضة.
ل - النصر الأمريكي ربما سيضعف الروح المعنوية للفلسطينيين ويشجع
دولة الكيان اليهودي على مزيد من القمع ضد الانتفاضة، نسأل الله تعالى أن لا
يؤدي إلى إيقافها أو وقف زخمها.
م - سيزداد ضغط اليهود في الإدارة الأمريكية لدفعها لاتخاذ مواقف جادة ضد
المملكة العربية السعودية. وكان قد عقد في 8 يناير 2003م اجتماع في الولايات
المتحدة بين الرئيس الأمريكي بوش ورئيس المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة
مورتيمور تسوكرمان؛ حيث طلب الأخير من الرئيس الأمريكي اتخاذ مواقف
متشددة ضد السعودية بعد أن قدم له تقارير رفعتها الاستخبارات اليهودية تفيد أن
السعودية تقدم دعمها للفلسطينيين بما يساعدهم على المضي قدماً في العمليات
الاستشهادية (الإرهابية) فوعده بوش بتأديبهم!!
و هدم المسجد الأقصى.
3 - على المستوى العربي:
أ - سيكون الصوت العربي الحكومي أكثر خنوعاً للسلطة الأمريكية،
وستفرض الولايات المتحدة سياستها على كافة الدول العربية، وستستعد للحرب مع
سوريا إما مباشرة أو عن طريق دولة الكيان اليهودي.
ب - إغراق الدول العربية في بحر الثقافة الأمريكية وخاصة ما يتعلق
بالشهوات والشبهات باسم الديمقراطية والانفتاح.
ج - التطبيع الشامل مع الكيان اليهودي، ويؤيد ذلك ما ذكره شفتاي شفيط
رئيس الموساد السابق من توقعه بأن يسود العالم العربي مناخ ثقافي مغاير، يعطي
للجناح الراعي إلى التطبيع مع إسرائيل قوة دفع جديدة، تمكنهم من الدعوة إلى
مراعاة متغيرات الموقف والواقعية في التعامل مع الأوضاع المستجدة [8] .
د - تغيير المناهج الدراسية أو تعديلها بما يتناسب مع الإرادة اليهودية
النصرانية، وهذا يشمل الدول الإسلامية أيضاً.
4 - على المستوى الإسلامي:
أ - ستكون وطأة الولايات المتحدة على باكستان وأفغانستان أشد.
ب - التجهيز للحرب مع إيران.
ج - دعم الهند في قضية كشمير والتشديد على كافة الحركات الجهادية
ومحاربتها في جميع أنحاء العالم.
د - محاربة الدعوة الإسلامية في كل بقاع الأرض؛ وذلك بتجفيف منابعها
وتطويق أنشطتها وخاصة الدعوية والاقتصادية والثقافية.
6 - على المستوى الدولي:
أ - فرض الهيمنة الأمريكية على العالم وجعل العراق مثلاً لكل من يتمرد
على الإرادة الأمريكية.
ب - احتمال عودة الحرب الباردة مع روسيا، وهذا بدوره سيعيد نظام توازن
الأقطاب عالمياً بما يضع لجاماً يكبح الجموح الأمريكي. وإذا عادت الحرب الباردة
فإن بروزاً شيوعياً قوياً سيشق طريقه نحو الزعامة الروسية.
ج - احتمال وقوع حرب مع كوريا الشمالية.
د - بروز أقطاب دولية بشكل محاور، من أهمها محور ألمانيا وفرنسا
وروسيا.
ك - هيمنة الاقتصاد الأمريكي بما يؤدي إلى مزيد من التبعية لها وخاصة من
جهة اليابان.
ل - انخفاض أسعار البترول عالمياً، وسيؤثر ذلك على خطط التنمية في
دول الخليج العربي بشكل سلبي وقاس.
م - تفتت في الكيان الأوروبي، ومزيد من بروز قطبية زعامة أمريكية في
حلف الناتو.
ن - ستعزز الولايات المتحدة دعمها لتايوان بغية إضعاف موقف الصين،
ومن ناحية ثانية ستعزز الولايات المتحدة علاقاتها الاقتصادية مع الصين لتكون
مسرباً لها للتأثير على وضع الصين الداخلي من خلال الانفتاح على العالم الغربي.
و ستمارس الولايات المتحدة العولمة الأمريكية على كافة المستويات وفي
جميع النواحي سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وعسكرياً.
وبعد: فإن الذي ذكرناه ما هو إلا استشراف لما يمكن أن يحدث أو يقع، وهو
مبني فقط على ما يجري بين أيدينا وأمام أعيننا من أحداث جسام في هذه الحرب
التي أضاء أجيج نارها أجواء السماء، وصخت أصوات انفجار قنابلها وصواريخها
آذان الرجال والأطفال والنساء.
ونختم بالقول: إن الغيب لله وحده، وله الأمر في الأولى والعقبى.
__________
(1) مجلة (وجهات نظر) ص 22 - العدد 47 - ديسمبر 2002 - مصر.
(2) النيوزويك - عدد 11 مارس 2003م.
(3) نيوزويك - 11/3/2003.
(*) ينتمي ريتشارد بيرل إلى اليمين الديني المتطرف الذي أنشئ عام 1979م عندما قامت حكومة كارتر الديمقراطية بإلغاء الامتيازات المالية لجامعة بوب جونز الأصولية بسبب ممارساتها للتفرقة العنصرية، وقد أثار هذا القرار سخط من يسمون أنفسهم بـ (الإنجيليين) الذين قرروا إنشاء لوبي ديني سياسي تحت اسم (الأغلبية الأخلاقية) التي أسسها الراعي المعمداني جيري فالويل الذي تطاول في مناسبات كثيرة على الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم، وعقب ذلك ظهر (الائتلاف المسيحي) الوريث الروحي للأغلبية الأخلاقية بزعامة بات روبرتسون الذي يضم في عضويته أكثر من سبعة ملايين عضو، كان بيرل في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغن مساعداً لوزير الدفاع في الثمانينيات، ويعرف عنه أنه حقق لنفسه سمعة الرجل النافذ الذي لا يمكن تجاوزه في أوساط السلطة في واشنطن بعد سنوات طويلة أمضاها في مجالس إدارة عدة شركات أغلبها مرتبط بالصناعات العسكرية، في عام 1983م تعرض بيرل لهجوم مكثف من الصحافة الأمريكية لقبوله مبالغ كبيرة مقابل تمثيله لمصالح شركة يهودية إسرائيلية وهو ما يتعارض مع منصبه كمسؤول في وزارة الدفاع آنذاك، كما أنه واحد من فريق من العناصر اليهودية البارزة بالإدارة الأمريكية الحالية يضم نائب وزير الدفاع بول وولفو تيز ووكيل الدفاع دوغلاس فايث، وهؤلاء الثلاثة هم من خريجي المعهد اليهودي للشؤون الأمنية الوطنية ومركز السياسات الأمنية ومعهد أمريكان أنتر برايز ومعهد هدسون، وهم من أبرز مؤيدي الدولة اليهودية وأبرز اليمين المسيحي المتطرف في أمريكا، وعندما كان بيرل يعمل لدى عضو مجلس الشيوخ السابق سكوب جاكسون مثل للتحقيق أمام وزارة العدل التي أثبتت أنه متورط في انتهاك القواعد التي تحظر تزويد الدولة اليهودية بمعلومات سرية وحساسة للأمن القومي الأمريكي، عام 1998م كان بيرل من بين الموقعين على الرسالة المفتوحة إلى كلينتون التي وقع عليها أكثر من عشرين شخصية بارزة في الولايات المتحدة التي انتقدت سياسة كلينتون الضعيفة إزاء العراق، وقد جاء في نص الرسالة: (إن السياسة الأمريكية حيال العراق غير كافية بصورة خطيرة، وإنه يتعين على واشنطن الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين ونظامه في بغداد) (القبس الكويتية 26 محرم 1424هـ الموافق 29 مارس 2003م) ، بتاريخ 28 مارس 2003م قبل وزير الدفاع رامسفيلد استقالة ريتشارد بيرل مع منصبه في رئاسة المجلس الاستشاري للبنتاغون بسبب ملابسات تعلقت بتعاقده مع (غلوبال كروسينغ) .
(4) المصدر: الوطن الكويتية 29 رجب 1423 الموافق 6 أكتوبر 2002، دراسة كتبها د / إسماعيل الشطي بعنوان: أبالسة الحرب في الإدارة الأمريكية مع تصرف يسير) .
(5) الوطن الكويتية، (إسرائيل في قلب الحرب) فهمي هويدي، 28 محرم 1424هـ الموافق 1 إبريل 2003م، (بتصرف) .
(6) القبس 8 صفر 1424هـ الموافق 15/4/2003م) .
(7) القبس 26 محرم 1424هـ الموافق 29 مارس 2003م.
(8) الوطن الكويتية 28 محرم 1424هـ الموافق 1 أبريل 2003م، فهمي هويدي، إسرائيل في قلب الحرب.(187/54)
المسلمون والعالم
صافرات الإنذار ... ستظل تدوي من بغداد
د. عبد العزيز كامل
لا يمكن أن نفلح في وصف الدواء، ما لم ننجح في تشخيص الداء؛ هذه
قاعدة مطردة، وتجاهلها هو الذي يُراكِم المشكلات، ويعقد الأمور، ويضلل في
المسير ...
الهزيمة في العراق.. هل هي جناية فرد؟ أم خيانة جيش؟ أم صناعة شعب؟
أم مسؤولية أمة؟! .. لا يسع أحداً يريد صواب الجواب في ذلك، أن يتجاهل
طبائع الأمور، ودوافع الأفعال، ومجريات السنن وقوانين النصر والهزيمة، وكل
ذلك يجمعه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يخاطب الوحي
فيهما أمة المسلمين، فيبين لها عوامل عزها وانتصارها، أو أسباب ذلها وانكسارها.
والمتأمل في خطاب الوحي في ذلك، يراه متوجهاً إلى مجموع الأمة؛ فحالها كلها
هو الذي يوصلها للنصر، أو يبلغ بها إلي الهزيمة، حتى لو بدا أن بعض الأسباب
المباشرة للهزيمة أو النصر صادرة من فئة بعينها أو شريحة بخصوصها، فإجراء
النصر أو الهزيمة بسبب هذه أو تلك، إنما هو جريان للسنن العامة، ولو كانت
أسبابها وقائع خاصة.
انتصار بدر مثلاً، كان استحقاقاً لأمة كاملة لا لمجرد ثبات فريق من المؤمنين
في وجه المشركين عند عين بدر. وهزيمة أحد كانت هزيمة ودرساً لنفس الأمة
كلها، لا لمجرد فئة خالفت الأوامر وتسرعت إلى قطف النتائج، أما يوم حنين،
فكان الخطاب فيه للجميع، مع أن التفريط والفرار قد وقع من البعض.
تأمَّلْ معي هذه النصوص التي تربى عليها الجيل الأول والقرن المفضل،
تأمل هذه المخاطبة للمجموع، سواء كان ذلك في حال النصر أو في وقت الهزيمة:
- في بدر خاطب القرآن الأمة بعد المعركة: [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (آل عمران: 123) ، مع أن الذين انتصروا في
المعركة هم الفريق الخارج للقاء قافلة أبي سفيان فقط، فانتصرت الأمة بهم؛ لأن
الأمة كانت تستحق النصر معهم.
- وفي أحد خوطبت الأمة بهذا الخطاب الجماعي، مع أن الخطأ كان من عدد
من الأفراد: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ
أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا
قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ] (آل عمران:
165-167) .
- وفي وقعة حنين يجيء الخطاب عامّاً، وكأن الأمة كلها شاركت في صنع
انكشاف حنين: [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ] (التوبة: 25-26) .
أما النصوص العامة المحددة لقوانين النصر والهزيمة، فلا نكاد نلمح فيها
تخصيصاً لفريق دون فريق، أو فئة دون فئة؛ فالأمة كلها تنتصر إذا أخذت
بأسباب النصر، والأمة كلها تنهزم لمشاركتها في أسباب الهزيمة. قال تعالى
مخاطباً الأمة كلها: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]
(محمد: 7) .
- وقال: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ
بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران: 160) .
- وقال: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ
قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ] (التوبة: 14) .
- وقال: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: 40-41) .
وحتى الكفار، جاء الخطاب عنهم عامّاً؛ فسبب إقدامهم فينا أو إحجامهم عنا،
هو أثر من آثار ثبات الأمة أو فشلها، قال تعالى عن اليهود: [لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ
أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ] (آل عمران: 111) .
وقال عن الكفار عموماً: [وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ
وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]
(الفتح: 22-23) .
نعم! لن نجد لسنة الله تبديلاً، ولكن التبديل يأتي منا نحن، على مستوى
الأمة قبل الشعوب، وعلى مستوى الأفراد قبل الجماعات، وعلى مستوى الخاصة
قبل العامة، إلا إذا أدت الخاصة واجبها كاملاً تجاه العامة.
ما حدث في العراق على هذا؛ لا ينبغي أن نختزله كما يفعل جهلة المثقفين
ودجاجلة الإعلاميين في سقوط نظام صدام، أو خيانة بعض قادته، أو عدم صمود
شعبه، فصدام وفريقه، كان ضلعاً واحداً ضمن أضلاع عديدة على خارطة الحدث
العراقي، والهزيمة هذه المرة صناعة عربية قبل أن تكون أمريكية.
لما ضُرب العراق في المرة السابقة؛ استعداداً للمرة اللاحقة، من الذي جهز
لهزيمته، ومن الذي شارك في إنهاك قوته، وحصار شعبه، وتدمير جيشه المبني
من أموال المسلمين؟ صدام حسين كان سيئاً حقاً، ولكن أثناء الأحداث الأخيرة كان
هناك من هو أسوأ منه، فهو قُتل إن كان قُتل وهو يقاتل بين شعبه بعد فوات الأوان،
أما غيره فقد شاركوا في القتل لا في القتال، وشتان بين الأمرين، أما العلمانية
المأخوذة عليه فهو وغيره فيها سواء، ولا فرق عندنا بين البعث العربي الاشتراكي،
والعبث العربي الديمقراطي، فكلاهما شر وشرك في توحيد الطاعة والاتباع.
يريد بعضنا أن يقول: إن العراق كان يستحق الهزيمة، وبغداد كان لا بد أن
تُحتَل!! تماماً كما قيل من قبل عن الفلسطينيين: هم الذين باعوا الأرض لليهود،
وهم الذين فروا من الديار، وهم الذين لم يثبتوا أمام التهجير والترانسفير!
لا يا عزيزي: كلنا هُزمنا على أرض العراق، وكلنا نُضرب كل يوم على
أرض فلسطين، وعلى أرض الشيشان، وعلى أرض أفغانستان؛ فأمتنا واحدة،
منتصرة ومغلوبة [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 92) ،
النصر نصرنا جميعاً، والهزيمة هزيمة لنا جميعاً، أمتنا كلها فرطت في أسباب
نصر الله، فمعذرة، ثم معذرة، ثم معذرة إلى الله، من تفريطنا في أسباب نصر
الله، وتسارعنا إلى أسباب خذلان الله.
- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين صنعنا تلك الهزيمة الكبرى الجديدة لـ (أمتنا
المجيدة) ، وصنعنا من أقزام النصارى عمالقة، ومن أحفاد القرود أبطالاً، ومن
المخنثين المجرمين من الكفار والمشركين نجوماً ورجالاً.
- معذرة إلى الله؛ فنحن صنَّاع (الكارثة) التي توقعناها، وانتظرناها
وأسهمنا في إنجازها بهواننا حكاماً ومحكومين، علماء ودهماء، مثقفين وجهلاء،
مدنيين وعسكريين، أكاديميين وحرفيين؛ فالأمة كلها شاركت في صنع الكارثة
الجديدة التي بدت أسوأ من نكبة العام 1948، وأنكر من نكبة 1967، وأكثر
فضيحة مما جرى عام 1982، وأشد حسرة مما حدث عام 1991م.
- معذرة إلى الله؛ فنحن «كلنا» الذين لم نصبر ولم نصابر ولم نرابط،
ولم نتق الله على الوجه الذي يؤهلنا للنصر، نحن الذين لم نجاهد في الله حق جهاده،
ولم نقاتل الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله
ولا يدينون دين الحق من الذين أوتو الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون، ونحن الذين لم نجاهد الكفار والمشركين ونغلظ عليهم كما أمر الله ونحن
الذين إذا قيل لنا انفروا في سبيل الله أثقالنا إلى الأرض ورضينا بالحياة الدنيا.
- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين لم نأخذ على يد الظالم حتى نقصره على الحق
قصراً، ونأطره على الحق أطراً، نحن الذين لم يأخذ عقلاؤنا في أعلى السفينة
على أيدي سفهائنا في أسفلها حتى ينجوا وننجو جميعاً، ونحن الذين لم نتق فتنة لا
تصبن الذين ظلموا منا خاصة، بتفريطنا في أعظم منقبة لخير أمة أخرجت للناس،
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.
- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين لم نعتصم بحبل الله جميعاً، بل كنا من الذين
تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، ولم نكن من الذين يقاتلون في سبيل الله
صفاً كأنهم بنيان مرصوص.
- معذرة إلى الله؛ فنحن أمة، اتخذ أكثر أهل الشأن فيها، من الذين اتخذوا
ديننا هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب والكفار أولياء، واتخذوا بطانة من دوننا لا
يألوننا خبالاً، وراحو يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة.
- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين ضيعنا النصيحة والدين النصيحة فلم نؤدها
على وجهها لله ولرسوله وللمؤمنين خاصتهم وعامتهم؛ فعامتنا تجافوا عن نصح
خاصتنا، ودعاتنا جاملوا علماءنا، وعلماؤنا داهنوا حكامنا، وحكامنا صانعوا
أعداءنا إلا من رحم الله وقليل ما هم.
- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين لم نستقم كما أُمرنا، وجعلنا الله على شريعة
من الأمر فلم نتَّبعها واتَّبعنا أهواء الذين كذبوا بآيات الله. وتحاكَمَ أكثرنا إلى
الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به، ولم نحكم بما أنزل الله كما أمر الله، ووقعنا في
فعل المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين.
ثم بعد كل ذلك نتساءل: ماذا حدث؟! ومن السبب في صنع ما حدث؟ ومن
المسؤول عن تلك المصيبة الرهيبة التي لها ما بعدها: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
(آل عمران: 165) .
سبحان الله؟! مصاب أصحاب رسول الله من عند أنفسهم، ونحن مصائبنا
نعدها من فعل بعضنا أو صنع أعدائنا؟! ونخذع أنفسنا بعد ذلك بأنه مجرد ابتلاء!!
ومجرد امتحان! ولماذا لا يكون عقوبة؟! لماذا لا يكون تذكرة؟ لماذا لا يكون
دعوة للتوبة والإنابة [أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ
يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ] (التوبة: 126) ؟ .
نطمئن أنفسنا في كل مرة بأن المنحة في قلب المحنة، وأن الله لم يخلق شراً
محضاً، وأننا يجب أن نستثمر الحدث ... صحيح كل هذا، ولكن الصحيح أيضاً أننا
لا ننجز شيئاً في الواقع يعدِّل الدفة ويقوِّم المسيرة وينقذ السفينة، ونظل ننقِّب في
حطام الكارثة علَّنا نعثر على (الجوانب الإيجابية في الحدث) !!
المصيبة كبيرة، والحدث جلل، والأمة لا تزال مخدرة، وصدمة السكين
على رقبتها جعلتها لاهية وهي تلقى الهلاك، ويتندر سفهاؤها في صحافتهم
الخضراء والصفراء والغبراء بما حدث في العراق مكررين الحديث عن (علي
الكيمياوي) و (ليلى جرثومة) و (الملاذات الجنسية) وكأن بغداد هي تل أبيب،
أو أن رامسفيلد هو صلاح الدين! و (جاي جارنر) هو سيف الدين قطز!!
المصيبة كبيرة، وأكبر ما فيها عدم الشعور بما فيها. وهي في الحقيقة أكبر
من كل سابقاتها، لماذا؟
- لأن العرب والمسلمين كانوا فيما سبق يعزي بعضهم بعضاً في المصائب،
أما اليوم، فنرى البعض يهنئ بعضاً، وسيأتي اليوم الذي يتفاخرون فيه بأيهم لعب
الدور الأخطر في إسالة بحار الدم الأحمر!
- ولأنهم قبل ذلك كانت تحل عليهم المصائب بلا مقدمات، أما هذه المرة،
فهي مخبر عنها قبل وقوعها بسنوات وسنوات، ولم يعملوا عملاً، أو يتخذوا إجراء
لإيقاف الجائحة أو التخفيف من وقعها، بل ما جرى كان هو الاستعجال لسوء المآل.
- ولأنهم كانوا قبل ذلك يتنادون إلى التضامن ضد العدوان، أما هذه المرة
فكان تضامن أكثرهم مع العدوان، فاتفاقية ما كان يسمى بـ (الدفاع العربي
المشترك) التي فُعِّلت في «تحرير» الكويت، لم تفعل لمنع احتلال العراق، بل
جرى تطبيقها على الوضع المعكوس.
- والمصيبة أكبر هذه المرة من كل ما سبقها؛ لأن الكل يعلم أنها مقدمة لما
بعدها؛ فاحتلال العراق هو بداية لاحتلال المزيد من العواصم العربية والإسلامية،
ومع ذلك ظن البعض أن حرب العراق مسألة خاصة، وأن العراق يستحق
«الاحتلال» حتى «يتحرر» من صدام حسين!!
- وهي أكبر هذه المرة؛ لأن الهزائم السابقة كانت تقع وسط أوضاع ثقافية
ودعوية وإعلامية متردية، أما هذا المرة، فهي تقع في ظل ما ظنناه صحوة
إسلامية عالمية، قادرة على أن تحرك الشعوب الثائرة، وتقضي على الأنظمة
الخائنة الخائرة، فكانت الهزيمة المُرَّة هذه المرة للأمة ولصحوتها.
إن مشاهد ميدان المعركة في العراق كئيبة رهيبة، بحيث أصبحت كالشعلة
القادرة على نقل وقودها كاملاً إلى المشاعل المطفأة حولها دون أن ينقص ذلك من
وقودها شيئاً.
لا بد أن نصارح أمتنا، لا بد أن نواجه شعوبنا، ودعونا من التحسس
والتدسس، والحوْم حول القضايا دون لُبِّها، والالتهاء بمظهرها دون جوهرها، لا
بد أن تعلم الأمة أنها تجني هذه الأيام ما زرعته منذ سنين، وتحصد في هذه العقود،
ما غرسته قبل قرون؛ فالأمة لم تكن في يوم أحوج إلى المصارحة والمناصحة
فيما بينها مثلما هي الحاجة الآن؛ فالمشاهد المحيطة بنا مقلقة، والمظاهر مستفزة،
والظواهر لا تدعو إلى الاطمئنان. ومع هذا، يظل الأمل في الله، أن يبرم لهذه
الأمة أمراً رشيداً، ويلهمها رأياً حميداً وفهماً سديداً.
* المشهد العراقي: ماذا يعني سقوط بغدادا؟!
للذين صفقوا، والذين شمتوا، والذين استراحت (ضمائرهم) بالمشاركة أو
الموافقة أو المباركة للغزو الأمريكي للعراق ... وأيضاً للذين لم يعنهم الأمر، أو
عدُّوه محرقة جديدة لطاقات المسلمين، أو استدراجاً ذكياً من الأمريكيين للمسلمين
حتى يلهُّوهم بمشاغل «جانبية» ، نسأل ونتساءل: ماذا يعني سقوط بغداد وهزيمة
العراق؟ وماذا يعني السكوت على بدء الاحتلال حتى يتمكن ويستحيل اقتلاعه؟!
- إن سقوط بغداد، واحتلال العراق، يعني انطلاق عملية التغيير الأمريكي
الشامل في المنطقة، بدءاً من تغيير الأنظمة غير القادرة على الجهر بالصداقة
والتعاون مع اليهود وأوليائهم، ومروراً بتغيير المناهج التعليمية والإعلامية،
وانتهاء بتغيير ما تبقى من مظاهر التمسك بالشرائع والشعائر الإسلامية.
- إن سقوط بغداد واحتلال العراق يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية
وحلفاءها الأشرار حققوا، أو بدؤوا في تحقيق كل ما ظل المحللون والمراقبون
يتبارون في إثباته من أهداف الحرب قبل أن تبدأ تلك الحرب بشهور بل بسنين.
- إن سقوط بغداد واحتلال العراق، يعني أن دولة اليهود قد وصل نفوذها
بالفعل إلى حدود الفرات، وأن خطة الغزو التي وضعها (ريتشارد بيرل) اليهودي
ونفذها (بوش، وتشيني، ورامسفيلد، وباول، ورايس) وغيرهم من
الإنجيليين اليمينيين الصهيونيين، قد دشنت مرحلة التحام تام بينهما من الناحية
النظرية والعملية.
- وسقوط بغداد واحتلال العراق، يعني زوال التهديد ضد اليهود شكلاً
وموضوعاً من الجبهة الشرقية بعد زواله من الجبهة الغربية بخروج مصر من
الصراع بعد كامب ديفيد، بما يعني أن الفلسطينيين أصبحوا وحدهم في المعركة،
ولم يعد هناك من ينادي بدعم صمود الفلسطينيين لا حقيقة، ولا شعاراً.
- هذا السقوط يعني أن الولايات المتحدة قد وضعت يدها بالفعل على ثروة
العراق النفطية، وأن إسرائيل قد ضمنت نصيبها من تلك الثروة، بل وجدت
طريقها لحل أزمتها المائية، وقد يترجم بعد ذلك إلى خطط مد ماء الفرات إلى دولة
اليهود عبر أراضٍ أخرى في طريقها للوقوع تحت السيطرة الأمريكية.
- وسقوط بغداد واحتلال العراق، يعني انفراط عقد التركيبة السكانية
والاجتماعية والسياسية للشعب العراقي، لصالح الرافضة الذين استوعبوا مرحلة
القهر الصدَّامي بسبب ما لديهم من نظام ووحدة مرجعية، جعلتهم أول الطوائف
استفادة مما حدث في العراق، مع كون أهل السنة هم أكثر الطوائف تضرراً
لهشاشتهم ومع أن الحكم كان بأيدي من ينتسبون إليهم نسبة شكلية وتاريخية، وهذا
وذاك سينعكسان سلباً على سائر أوضاع المنطقة، حيث يتوقع أن ينتعش الوجود
الشيعي في شرق الجزيرة العربية ليلتحم مع الوجود الشيعي في إيران والعراق، في
ظل أوضاع مهلهلة لأهل السنة في جميع المجالات وفي سائر الأنحاء.
- سقوط بغداد واحتلال العراق، دون أن تحرك الجامعة العربية ساكناً أو
يرف لمنظمة المؤتمر الإسلامي جفن، يعني أن النظام العربي كان وهماً،
والتضامن الإسلامي الرسمي كان خدعة، والجيوش العربية التي اُنفقت عليها
المليارات من أقوات الشعوب، كانت (تحت الخدمة) لأعداء الأمة، لا لحماية
الأمة.
- سقوط بغداد واحتلال العراق، يعني وبكل صراحة نهاية عهد (الاستقلال)
وبداية عهد (الاحتلال) ؛ فالمنطقة كلها عائدة إلى ذلك الاحتلال بصورة من
الصور أو بشكل من الأشكال إذا لم يتداركها الله برحمته: إما احتلال عسكري،
وإما احتلال سياسي واقتصادي، أو احتلال حضاري وثقافي؛ فالمشكلة الآن ليست
في العراق فقط، ولكن فيما ستمتد إليه يد التغيير الإجرامي اليهودي النصراني
للبلدان المحيطة وغير المحيطة بالعراق.
* المشهد السوري: «سيناريو» الحرب الثامنة:
جاءت حرب الخليج الثالثة، لتكون الحلقة السابعة في مسلسل ما كان يسمى
بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) ، لأن حروب 1948، 1956، 1967،
1973، 1982م، التي وقعت بين العرب واليهود، قد تُوِّجت بحرب سادسة
خاضها الأمريكيون نيابة عن اليهود عام 1991م التي كانت حرباً لصالح اليهود؛
لأنه لم يستفد منها أحد مثلما استفاد اليهود [1] ، فبعدها دشنت (عملية السلام) التي
قننت الاسترخاء والاستسلام مدة تزيد على عقد كامل، حتى إذا ما جاء أوان الحرب
السابعة، كان مفعول سم السلام الإسرائيلي قد جرى وسرى في شرايين العرب
العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، حتى بات الجسد العربي في وضع
الشلل التام أمام ما أجمعوا (رسمياً) على أنه «عدوان مرفوض» ! وبدأ العدوان
(المرفوض) على العراق، ورفضت الأنظمة العربية من الناحية العملية أي إجراء
من شأنه أن يعطل أو يعرقل أو يؤجل هذا العدوان، بل كان الأمر كما رأينا من
(التعاون العربي المشترك) ، بين أطراف كثيرة، سهلت مهمة الأمريكيين التي
كانت مستحيلة في العراق؛ فلولا هذا (التعاون) لما استطاعت أمريكا أن تحقق
ذلك الهدف لعقود طويلة قادمة! إن تلك المواقف أغرت الحلف الأنجلو ساكسوني
بعد ذلك الانتصار الخياني، أن يكرر تلك الحرب الاستعراضية في مكان آخر،
قبل أن ينصرف الجيش المسرحي ويغادر ساحة الأحداث، فما أن استقرت قوات
بوش في بغداد، حتى وجَّه تجاه دمشق قذائف (الصدمة والترويع) السياسي،
مهدداً بنفسه وعلى ألسنة كبار المسؤولين في إدارته بعواقب وخيمة لسوريا بسبب
موقفها (العدائي) أثناء الحرب! مع أن سوريا لم تلتزم وقت الحدث بالحد الأدنى
من تفعيل (اتفاقية) الدفاع العربي المشترك!!
سوريا ليست هدفاً أمريكياً الآن، ولكنها مستهدفة إسرائيلياً منذ زمان، وفي
اعتقادي أنه إذا وجهت ضربات إلى سوريا تحت أي ذريعة من الذرائع المعلنة على
لسان المسؤولين في أمريكا أو بريطانيا أو أستراليا أو إسرائيل، فلن تكون تلك
الضربات صادرة إلا عن (إسرائيل) نفسها وبتخطيطها ولمصلحتها؛ لأن إسرائيل
في حاجة إلى (نصر جديد) أسهل من نصر أمريكا، وأسرع من فوز بوش!
إذا كانت إحدى أسباب الحرب على العراق هي إيصال النفوذ اليهودي إلى
نهر الفرات، فإن بقية نهر الفرات تجري على أرض سورية، ومن ثم، فإن
(حرب الفرات) التي أُريدَ بها استكمال شوط آخر على طريق (إسرائيل الكبرى)
لا بد أن تستكمل على أرض سوريا بعد العراق، وهنا قد لا تدعو الحاجة أمريكا
إلى التدخل المباشر كما حدث في العراق، لكن لا بد أن يكون لها أيضاً دور غير
مباشر، من خلال الإسناد الثقيل لخطط إسرائيل تجاه دمشق، وقد بدأ ذلك بالفعل
عندما اتهمت أمريكا سوريا بأنها تمتلك أسلحة دمار شامل، وأنها آوت بعض قادة
النظام العراقي، وأمدت العراق أثناء الحرب ببعض المعدات العسكرية (مناظير
عسكرية) ! ، ونحو ذلك من التهم الابتزازية التي كان الغرض منها إشعار
السوريين بأن مصير العراق ليس بعيداً عنهم إذا لم (يتجاوبوا) مع المطالب
الإسرائيلية، ولهذا فإن (إسرائيل) سرعان ما التقطت خيط التآمر العلني، وقدمت
قائمتها الخاصة بها إلى سوريا، وتتلخص في أن تعمل سوريا فوراً على إزالة خطر
حزب الشيعة في جنوب لبنان، وتعمل على وقف السماح بمرور شحنات السلاح
الإيرانية عبر أراضيها لجنوب لبنان، إضافة إلى إغلاق مقرات حركتي حماس
والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين في دمشق، وطالبت دولة اليهود سوريا أيضاً بتفكيك
شبكة صواريخ أرض أرض التي تقول إسرائيل إن حزب الله نصبها في جنوب
لبنان، وواضح من هذا أن دولة اليهود تريد تدمير تلك الصواريخ على غرار ما
حدث في العراق عندما أُجبر على تدمير صواريخ الصمود 2 خلال الأسابيع القليلة
السابقة على الحرب.
ومن مطالب إسرائيل المعلنة أن تطرد سوريا قوات الحرس الثوري الإيراني
من سهل البقاع في لبنان، وقد جاءت هذه المطالب كلها على لسان شاؤول موفاز
وزير الدفاع الإسرائيلي في تصريحات له صدرت لصحيفة معاريف الإسرائيلية بعد
الإعلان عن سقوط بغداد مباشرة. ويلاحظ هنا أن قائمة الاتهامات والمطالب
الأمريكية والإسرائيلية، تتضاعف عن تلك التي كانت موجهة ضد العراق.
سوريا إذن مستهدفة بالحرب ثم التفكيك مثل العراق، وهذا أحد بنود خطة
(الدويلات الطائفية) التي وضعت في بداية الثمانينيات، ونشرتها مجلة (كيفونيم)
التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية باللغة العبرية، ثم ترجمت إلى العربية
ونشرت تفاصيلها جريدة العرب بتاريخ (11/12/1992م) ، وجريدة العرب
العالمية بتاريخ (12/2/1998م) ، حيث جاء في التقرير الخاص بتلك الخطة كلام
موهم عن سوريا وعن حرب مزعومة بينها وبين العراق، تتسبب في تفكيكهما معاً،
وذلك لإخفاء حقيقة ما يدبر للبلدين من حروب تستهدفهما دون أن يتحاربا مع
بعضهما، جاء في التقرير: «أما العراق فهي غنية بالبترول، وفريسة لصراعات
داخلية، وسيكون تفكيكها أهم بالنسبة لنا من تفكيك سوريا؛ لأن العراق على الأجل
القصير أخطر تهديد لإسرائيل، وقيام حرب سورية عراقية سيساعد على تحطيم
العراق داخلياً، قبل أن يصبح قادراً على الانطلاق في نزاع كبير ضدنا، وكل
نزاع داخلي عربي سيكون في صالحنا، وسيساعد على تفكك العرب» [2] .
وجاء فيه أيضاً: «إن تفكيك سوريا والعراق إلى أقاليم ذات طابع قومي
وديني مستقل كما هو الحال في لبنان، هو هدف إسرائيل الأسمى في الجبهة
الشرقية، سوف تتفتت سوريا تبعاً لتركيبها العرقي والطائفي إلى دويلات، كما هو
الحال الآن بلبنان، ويقترح أن تظهر على الشاطئ دولة علوية، وفي منطقة حلب
دويلة سنية، وفي منطقة دمشق دويلة سنية أخرى معادية لتلك التي في الشمال، أما
الدروز فسوف يشكلون دويلة في الجولان التي تسيطر عليها، وسوف يكون هذا
التقسيم ضماناً للأمن والسلام في المنطقة وبكاملها على المدى القريب» .
المأزق السوري سيشكل إحراجاً مضاعفاً للأنظمة العربية يفوق ما حدث أثناء
أزمة العراق التي انتهت بحرب الكارثة، فماذا عسى أن تفعل الأنظمة العربية إذا
ما طلبت أمريكا منها أن تشارك في حصار سوريا اقتصادياً، أو أن تُفعِّل العقوبات
ضدها، وكيف ستتصرف لتنفيذ أو تسويغ رغبات الإدارة الصهيونية الإجرامية
المشتركة، لكل من أمريكا وبريطانيا وأستراليا وإسرائيل؟! الرامية إلى عزل
سوريا تمهيداً لذبحها كما حدث للعراق؟
هل الدول العربية ستطالب الرئيس بشار بالتنحي للحفاظ على وحدة سوريا
وسلامة أراضيها وشعبها؟ وهل ستطالب سوريا (بمزيد من التعاون) مع فرق
التفتيش التي طلبت أمريكا من سوريا السماح بدخولها ليتجول جواسيسها في
المنشآت والمواقع والقصور؟ وهل ستدعو الأنظمة العربية وقتها لعقد (مؤتمر قمة)
لإنقاذ الوضع في سوريا ليتبادل فيه المسؤولون العرب أنخاب السباب؟!
الموقف في سوريا يحمل مخاطر أخرى جسيمة لا يقل تأثيرها عن تأثير ما
حدث للعراق، ولا يزال العرب ينتظرون كما كان عهدهم دائماً، مع فارق واحد
وهو غياب الشجب والتنديد!
* المشهد الفلسطيني: خارطة الطريق «المظلم» :
مهما حاولنا الفصل بين القضيتين، أو هوَّنَّا من الأثر المتبادل بين النكبتين،
فإن العراق المحتل أصبح كارثة جديدة على فلسطين المحتلة؛ فالقيادة الأمريكية في
العراق أصبحت على مرمى البصر من فلسطين، وخطط المجرم شارون ستلقى من
الآن فصاعداً دعماً عملياً مباشراً من نظام العراق (الصديق) في بغداد!!
عندما عزمت أمريكا على غزو العراق، جهزت ما يسمى بـ (خارطة
الطريق) لإقناع العرب بأنها جادة في حل القضية الفلسطينية، وعُرضت الخطة
ببنودها، لتكشف عن أن الإدارة الأمريكية لا تزال مصرة على التعامل مع القضية
الإسلامية الكبرى على أنها (مسألة أمنية) ، ومع ذلك فقد وافقت عليها الدول
العربية (المعنية) بالقضية الفلسطينية، وألحت في مطالبة أمريكا بالإسراع في
إنجاز خارطة الطريق، حتى ينتهي هؤلاء المعنيون أو المعينون من (صداع)
القضية الفلسطينية، الذي طال عجزهم عن حسمه سلماً أو حرباً، حقيقة أو خيالاً.
ما هي خارطة الطريق؟ وهل ستغير من مسار (الصراع) العربي
الإسرائيلي الذي أضحى (النزاع) الفلسطيني الإسرائيلي؟!
أريد أن أقرر هنا أولاً، أن ذلك (النزاع) لم يعد يكفيهم فيه أن يكون نزاعاً
فلسطينياً إسرائيلياً، بل المراد الآن، وبعد أن جاء أبو مازن؛ أن يكون تفاهماً
فلسطينياً إسرائيلياً؛ فأبو مازن القادم من رحم السلطة الهزيلة، هو أكثر رموزها
استعداداً للمهازل، وهذه حقيقة يؤكدها اقتران اسمه بوثيقة (مازن - بيلين) التي
تنازل فيها أبو مازن نيابة عن الشعب الفلسطيني، بل الشعب العربي، بل الأمة
الإسلامية، عن القدس لليهود، في مقابل أن تأخذ السلطة قرية (أبو ديس) التي
قرر اليهود تسميتها باسم (القدس) مع احتفاظهم هم بالقدس الأصلية، ولهذا نحذر
من الآن، من أن أبا مازن، قد يرفع عقيرته بالكلام عن استعادة القدس، وهو في
الحقيقة يقصد مع اليهود القدس المزيفة أو قرية (أبو ديس) . الواقعة على أطراف
القدس من خارجها.
أما خارطة الطريق التي ستوكل مهمة التعاون فيها إلى أبي مازن، بعد انتهاء
تاريخ الصلاحية لأبي عمار؛ فإنها جريمة أخرى في حق فلسطين بل في حق
الإسلام ذاته، حين يوافق هؤلاء على المشاركة في مقاومة الجهاد الشرعي، بعد
تسميته إرهاباً.
خارطة الطريق تتضمن باختصار ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وحدد لها المدة من أكتوبر 2002م إلى مايو 2003م،
وتهدف إلى إنشاء سلطة فلسطينية جديدة يكون رئيس الوزراء فيها هو صاحب
الصلاحيات (يعني إحالة عرفات إلى التقاعد) ، بحيث تعتمد هذه السلطة على
هبات (الدول المانحة) مقابل إصدارها بياناً لا يقبل التأويل يعيد التأكيد على حق
اليهود في اغتصاب فلسطين، المعبر عنه بـ (حق إسرائيل في العيش بسلام وأمن)
وفي مقابل أن تقوم تلك السلطة الجديدة أيضاً بوقف الانتفاضة المسلحة على الفور،
بل منع كل أشكال العنف (ولو بالحجارة) ضد الإسرائيليين في كل مكان،
إضافة إلى إغلاق كافة المؤسسات التي تحرض ولو سلمياً على مقاومة الاحتلال،
وتتضمن تلك الخارطة الشيطانية إعادة تأهيل السلطة أمنياً بالتعاون مع أمريكا
ومصر والأردن (ضد من؟) تحت قيادة تنفيذية قوية، يمثلها وزير الداخلية،
وتضيف الخطة الجهنمية إلى ذلك إلزام السلطة الجديدة بالعودة إلى (التنسيق الأمني)
مع الإسرائيليين وفق خطة (تينت) بإشراف أمريكي، وفي مقابل ذلك، ترفع
الحكومة الإسرائيلية الحظر المفروض على أموال السلطة المجموعة من شعوب
الدول العربية والإسلامية بحيث تستثنى منها بشكل قاطع كل الجماعات
(المتطرفة) . وهنا يمكن لشارون أن يقدم ما سماه (تنازلات مؤلمة) بأن يأمر
بإيقاف بناء المستوطنات التي تم إنشاؤها منذ قدومه المشؤوم، إضافة إلى تنازل
آخر (مؤلم) يتمثل في العودة إلى حدود يونيو 1967م عفواً أقصد حدود سبتمبر
2000م، حيث سيكون هذا ثمناً (معقولاً) لإعادة سفير مصر والأردن إلى
تل أبيب!
أما المرحلة الثانية: فقد حدد لها المدة من يونيو 2003م إلى ديسمبر 2004م.
والطريق المرسوم لها في الخارطة هو ربط إمكانية إنشاء دولة فلسطينية ذات
حدود مؤقتة بمدى تطبيق متطلبات المرحلة الأولى، وإذا أثبتت السلطة الفلسطينية
الجديدة قدرتها على الوصول إلى تلك المرحلة، فستتم الدعوة إلى إطلاق
المفاوضات من جديد على أساس «سلام الشجعان» الشامل والعادل بين كل من
إسرائيل وفلسطين وسوريا ولبنان، بحيث تتوج هذه المفاوضات في حال إكمالها
بإعلان سلام نهائي وتطبيع كامل بين (إسرائيل) وكافة الدول العربية في المجالات
كلها وبخاصة المجال الأمني!
وأما المرحلة الثالثة: والمحدد لها ما بين سنتي 2004م و 2005م، فخارطة
الطريق فيها مرسومة على أساس عقد مؤتمر دولي ثانٍ في بداية عام 2004م،
لإطلاق مفاوضات (الحل النهائي) ليتحول إلى وضع دائم عام 2005م، بما يشمل
حل كل المشاكل المعلقة، كمشكلة اللاجئين والحدود، ومصير القدس والمستوطنات
وذلك في كامب ديفيد ثالثة على ما يبدو.
لقد أراد الأمريكيون والإسرائيليون الوصول إلى هدفين لكل منهما من خلال
طرح مشروع خارطة الطريق، الأول منها تحقق أكثره لأمريكا وهو إضاعة الوقت
بشغل العرب بمسائل جانبية حتى تستكمل أهدافها في العراق، والثاني وهو الذي
تريد تحقيقه (إسرائيل) يتمثل في البدء (أولاً) وقبل كل شيء بسحق الانتفاضة
الفلسطينية بأيد فلسطينية، وبمباركة عربية.
أما إسقاط عرفات بطريقة ديمقراطية، وإضعاف أي رئيس للسلطة الفلسطينية
يأتي بعده، فهي أهداف تأتي تبعاً، وأما الهدف الذي لن يأتي أبداً في ظل
المفاوضات والمساومات والمراوغات، فهو إنشاء دولة فلسطينية مستقلة؛ لأن
الاستقلال لا يأتي إلا عن طريق الرجال، فهؤلاء، وهؤلاء فقط هم الذين سيدمرون
مشاريع شارون وأبي مازن وأبي عمار، وكل آباء رغال.
المضحك المبكي هنا أن العرب يراهنون من جديد على حزب العمل
الإسرائيلي (المحب للسلام) وعلى نجمه الصاعد (ميتسناع) ، الذي يشاركون من
الآن في إنجاح حملته الانتخابية ضد شارون، تماماً كما شاركوا في حملة باراك
الذي جاء بشارون! وما نخشاه الآن أن يبدأ عرفات في المزايدة على أبي مازن،
فيبدأ في إطلاق حملة مقاومة للمقاومة ليثبت لأمريكا المجرمة أنه رجلها الوحيد!
* المشهد الخليجي: التغيير البطيء.. سريع المفعول:
لم تعد اتهامات الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الدول الخليجية، برعاية
(الفكر الإرهابي) خافية على أحد؛ فتلك الدول، وبخاصة بلاد الحرمين، متهمة
بأن الإرهاب يفرخ فيها عن طريق المناهج الدراسية التي تقوم كما يزعمون على
الفكر الوهابي، والأمريكيون يعلمون أن استعمال القوة العسكرية ضد دول الخليج لا
يوجد ما يسوِّغه أمام العالم، في الوقت الراهن على الأقل، ولكنهم مع هذا مقتنعون
بأن الخطر الحقيقي على المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة قد ينبعث من
أرض الجزيرة العربية، حاضنة الإسلام، وحاضرة البعث الإسلامي على مدى
الأربعة عشر قرناً الماضية، من خلال التزام أكثر سكانها بالإسلام الصحيح في
الاعتقاد والتحاكم التشريعي. وهو ما يعود في النهاية إلى تميز مناهجها التعليمية
بثوابت إسلامية فرطت فيها الكثير من الدول الأخرى.
مشكلة الخليجيين مع الأمريكيين إذن هي في استمرار بقاء وعطاء هذه
المناهج (الإرهابية) !! ولهذا فقد عكفت مجموعة من الخبراء الأمريكيين، يطلق
عليهم (مجموعة الـ 19) على وضع تقرير وخطة في كيفية إجراء ذلك التغيير
الذي لم يعد يقبل التأجيل، لا في دول الخليج فحسب، بل في كل دولة عربية أو
إسلامية تعطي مساحة كبيرة من مناهجها لبثِّ تعاليم الإسلام، وقد انتهى الخبراء
بالفعل من كتابة تقرير، رفعوه إلى جهاز الأمن القومي يحوي دراسة مفصلة وشاملة
مع التوصيات، لما أسموه (الجوانب النفسية للإرهاب الإسلامي) ، ورفعت
الدراسة إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، حيث وافق عليها على الفور، ويمكن
تلخيص محتوى الدراسة وتوصياتها فيما يلي:
- الصورة السلبية عن الولايات المتحدة وعلاقتها بإسرائيل، هي البذرة
الأولى للأفعال الإرهابية العربية والإسلامية، ولا بد من تغيير هذه الصورة.
- لا بد من إيجاد صيغة إلزامية «للتعاون» بين الأنظمة العربية والولايات
المتحدة الأمريكية لتغيير مناهج التعليم والسياسة الإعلامية، وفق خطة مشتركة.
- ينبغي تغيير المفاهيم التي تحتوي عليها المناهج التعليمية من جهة حضها
على كراهية اليهود والغرب.
- المناهج التعليمية في كثير من البلاد العربية والإسلامية تحض على
الإرهاب من خلال الدعوة إلى مفهوم (الجهاد) ، وهذا المفهوم هو المسؤول عن
تفشي ظاهرة الإرهاب في فلسطين ضد الإسرائيليين.
- الجيل القادم من الإرهابيين العرب سيكون أكثر شراسة من الجيل الحالي؛
ولهذا يجب أن يبدأ القضاء على النفسية الإرهابية من المراحل الأولى للتعليم،
وبدون ذلك ستكون الإجراءات الحالية للحملة على الإرهاب في العالم مجرد مسكِّن
وقتي.
- يمكن لدول الخليج أن تلعب دوراً مهماً باستغلال ثقلها الديني في عملية
تغيير المناهج، وكذلك يمكن أن تقوم مصر بدور لا يقل أهمية لوجود الأزهر فيها.
- من المهم إلزام المرجعيات الدينية بالتركيز على الفرعيات المتعلقة
بالطقوس والعبادات، لضمان بقاء الدين علاقة منفردة بين الإنسان وخالقه.
- من المهم الكف في المناهج الدراسية عن إثارة الحديث في قضايا التحدي
الحضاري ودور المسلمين فيه، ويكون ذلك عن طريق التدرج في تغيير المناهج
التعليمية في البلدان العربية، على أن يبدأ هذا من المرحلة الابتدائية.
- من الأفضل أن يطلق على حصة التربية الإسلامية اسم (الثقافة الدينية)
لتشمل الكلام عن الفضائل الدينية الموجودة في اليهودية والمسيحية بجانب
الإسلامية.
- لا بد من مراجعة مادة اللغة العربية وبخاصة ما يتعلق بالنصوص الأدبية،
وفقرات المطالعة التي تتضمن الكثير من مظاهر بث الكراهية للآخرين، والتي
تصور (القاتل) العربي على أنه بطل التاريخ.
- مناهج التاريخ أيضاً تحتاج إلى تغيير، لتنقيته مما سمي بمراحل الاستعمار،
وتنقيته من الدروس المتضمنة تصوير القتلة على أنهم أبطال وشهداء، والتي
تتضمن تصوير الحضارة العربية على أنها كانت سباقة في ميدان العلم والمعرفة.
- تغيير المناهج مهم للمدرسين، بدرجة لا تقل في الأهمية عن الدارسين؛
فتعديل المفاهيم عند المدرس، سيكون له أثره على من يدرسهم.
- يجب أن تعتمد دراسة المادة الدينية على العقل والمنطق، لا على اتباع
النصوص؛ فهذا في حد ذاته خطوة مهمة على طريق محاربة الفكر الإرهابي.
- لا بد من استغلال التغييرات (الفسيولوجية) في المراحل المتوسطة عند
الطلاب والطالبات في سن المراهقة، من أجل بناء إنسان خالٍ من النوازع
الإرهابية.
- طلاب المراحل الثانوية لا بد أن يطلعوا على موضوعات دينية خاصة
بأصحاب الديانات الأخرى، إضافة إلى موضوعات عن الإخاء الإنساني وحوار
الحضارات؛ لأن تركيبهم العقلي في هذه المرحلة يقبل ذلك.
- لا بد أن تخلو المناهج الجامعية من المناهج الدينية بالمرة، ونوصي
بإطلاق برنامج (التعاون الجامعي) الذي بمقتضاه، سيتم ترتيب رحلات جامعية
مشتركة بين جامعات الدول لإزالة الحواجز النفسية عند الطلاب.
- من المهم دعم أفضل النماذج في عملية التغيير القادمة لتعميمها ونشرها.
- تغيير مناهج التعليم جزء من استراتيجية الولايات المتحدة في علاقاتها
الأساسية مع الدول العربية، ولا بد أن يبقى هذا في إطار التعاون مع الحملة الدولية
ضد الإرهاب.
- ستُرفض كل الطروحات والبرامج المتعلقة بمشاريع إقامة دول دينية في
الشرق الأوسط؛ لأنها ستمثل مرتعاً خصباً للإرهاب.
* المشهد الإسلامي: تغيرات الواقع الجديد:
وأعني به مشهد الساحة الإسلامية بجماعاتها ومنظماتها ومؤسساتها وهيئاتها
وجمعياتها، بعد المصاب العراقي. ماذا ينتظِر هذه الساحة، وماذا يُنتظَر منها، في
ظل أوضاع جديدة مكنت العدو الأمريكي من نصب خيمة جديدة في عقر ديار
المسلمين، وفي عاصمة خلافتهم، وغرة حضارتهم ومنطلق فتوحاتهم إلى أقصى
بقاع الأرض؟
ماذا يدبر للإسلام في شخص أنصاره من الإسلاميين في المنطقة والعالم؟
وماذا يمكن للإسلاميين أن يدبروا في حدود الشرع والعقل، من خطط وتحركات
لرفع الغمة، ودفع العدوان، ورد الصائل عليهم في معركة الإرهاب الأمريكية
العالمية؟
الكلام هنا سيطول، ولهذا أرجئه إلى عدد قادم بإذن الله.
__________
(1) تفاعلت التداعيات لتلك الحرب في ذلك الوقت، بعد أن أطلق صدام حسين تهديده المشهور (سأحرق نصف إسرائيل) ، وكل ما حدث بعد ذلك من خلاف مع الكويت، ثم إغراء باحتلالها ثم استدراج لغزوها، ثم تحالف لتحريرها، هو في رأيي،،،، (مجرد تفاصيل) ! .
(2) لقد نفذ ما يتعلق بالعراق من الخطة، تنفيذاً كاملاً، أما تفكيك سوريا ثم تفكيك بقية الكيانات الكبرى من العرب، فإنها حلقات يؤثر بعضها في بعض، ويوصل بعضها إلى بعض.(187/66)
المسلمون والعالم
بعد سقوط بغداد.. ماذا ينتظر العالم العربي؟
كمال السعيد حبيب
صمد العراق عشرين يوماً في وجه القوات الأمريكية الغازية، ولم تصمد
بغداد العاصمة أكثر من يومين، كان الناس في العالم العربي والعالم كله ينتظرون
المعركة الفاصلة التي سيُقتل العلوج على أبوابها، وكان الغزاة والعالم كله يترقبون
المعركة الكبرى.. معركة بغداد، وكانت التوقعات تتحدث عن صمود للمدنية
يستمر لأربعة أشهر على الأقل؛ بيد أن الاقتحام الأمريكي السهل لها كان مفاجئاً
بكل المقاييس.
في تقديرنا؛ قصة أو لغز سقوط بغداد هو تلخيص أمين لحالة النظام البعثي
في العراق، فالنظم الشمولية لا يمكنها الصمود في معركة حقيقية أمام الأعداء، إن
عنف هذه النظم وغشمها ووحشيتها تكون ضد مواطنيها لكنها تصبح خائفة مذعورة
جبانة أمام التحديات الخارجية، سقوط بغداد كان عنواناً لسقوط نظام صدام الوحشي،
فالناس في العاصمة حيث يكونون أقرب لمعرفة طبيعة النظام لم يجدوا لديهم
الدافع للمقاومة للدفاع عن شخص صدّام والحلقة الطبقية المحيطة به، وخاصة أنه
في لحظات الخطر تُختبر النيات والإرادات، ويبدو كل شيء على حقيقته، ومع
عنف الضربات الأمريكية الوحشية على العاصمة فإن فرزاً حقيقياً حدث؛ حيث
شعر قادة البعث أنهم غير قادرين على المقاومة؛ فإما القتل وإما الأسر [1] .
كما أن الناس في العاصمة وجدوا أن التكلفة العالية التي يدفعونها من دمهم
وبيوتهم وحياتهم هي أثمن من بذلها لأجل نظام البعث الوحشي.. وتبقى الدلالة
الأساسية، وهي أن الهزائم في المعارك الكبرى هي هزائم للأنظمة التي دخلتها
وليست هزائم فقط لجيوشها، ومن ثم فسقوط البعث جاء على أسنة الأسلحة
الأميركية وتحت سنابكها، وتبقى المقاومة العراقية في أم قصر، والناصرية،
والنجف، وكربلاء، وحتى في بغداد نفسها عنواناً على جسارة الشعوب وقوتها،
فالذين قاتلوا لمدة عشرين يوماً كانوا تعبيراً عن إرادة الشعب العراقي في رغبته في
الدفاع عن وطنه، شاهدنا الضابط الذي نفذ أول عملية استشهادية، والسيدتين اللتين
استشهدتا، والرجل العجوز الذي أسقط الطائرة، لكن هؤلاء جميعاً كانوا تعبيراً عن
روح الشعب العراقي والأمة العربية والإسلامية، ولم يكونوا في شيء تعبيراً عن
النظام القمعي الوحشي لصدّام.
ويمكن القول إن روح الشعب العراقي العربية والإسلامية تجلت في المقاومة
بعيداً عن العاصمة، أما العاصمة التي تمثل القلب الحيوي للدولة؛ فكانت تعبيراً
عن روح النظام الذي انهار بسرعة أمام الضربات الأمريكية، ولم يكن أعضاؤه
مستعدين للشهادة، فالمعلومات تتحدث عن أن قيادات حزب البعث لما رأوا القاصمة
الأمريكية قالوا إننا سنقتل أو نؤسر، وعمموا تعليمات على القيادات العليا
بالانسحاب المنظم إلى منازلهم.
إن الناس في العالم العربي كانوا يطمحون إلى معركة مشرِّفة على أسوار
بغداد؛ تكبِّد الأمريكان خسائر كبيرة لإنقاذ العالم العربي والإسلامي بل والعالم كله
من جنونهم، لكن سنن الله غالية، وما كان لنظام فاشي أذاق الشعب العراقي
الويلات أن ينتصر في معركة فاصلة كبيرة تحدد ملامح العالم في القرن الحالي.
هل للمرء أن يتساءل، ويثير علامات الاستفهام حول أسباب دعم الأمريكان
لمثل هذه النظم الاستبدادية؟
إن السبب الرئيس فيما نعتقد هو نزع إرادة المقاومة والصمود لدى الشعوب
حين يدعوها داعي الجد والخطر، وحين تتعرض لخطر حقيقي يهدد وجودها
وحياتها، فمعظم مشكلات الدول التي تم استعمارها من العالم الغربي تم زرعها من
قِبَل المستعمرين قبل رحيلهم، ويمثل التلاعب بالجانب الإثني والعرقي والسلالي
أحد أهم أدوات الدول الاستعمارية في صناعة المشكلات، في الدول التي كانت
مستعمرة في إفريقيا وآسيا، أما الأدوات الحديثة لزرع المشكلات، والتي تقوم بها
أمريكا خاصة؛ فهي دعم النظم الاستبدادية وتقويتها حتى لا تبقى للشعوب إرادة
حين تتعرض مجتمعاتها للخطر.
* المأزق الأمريكي:
حتى اليوم، وعلى الرغم من سقوط النظام العراقي؛ فإن الولايات المتحدة
الأمريكية لم تُعلن بعد أنها انتصرت، وتفيد المعلومات أن الجنود الأمريكيين لم
يسيطروا إلا على حوالي 40% من الأراضي العراقية، ولا تزال الـ 60% الباقية
خارج سيطرتهم، وبينما أسقطت الجحافل الأمريكية نظام صدّام القمعي؛ فإنها لم
تستطع أن تملأ الفراغ الذي تركه، وشجعت إطلاق الفوضى، وأطلقت العصابات
المجرمة لتدمر المؤسسات والوثائق والمكتبات والمتاحف، وكأنها تريد الانتقام من
العراق دولة وشعباً.
وعلى الرغم من وصول «جاي جاردنر» ومعه أكثر من عشرين قيادة
أمريكي؛ يفترض أنها ستتولى المرحلة الأولى من إعادة الحياة للمؤسسات العراقية
التي حطمتها الآلة العسكرية الأمريكية الغاشمة؛ فإن أمريكا تبدو في مأزق حقيقي؛
فهي حتى الآن لم تحدد بعد الطريقة التي ستدير بها العراق، ولم تحدد بعد كيف
سيكون تعاملها مع العراق، وهناك نظريتان في هذا السياق يتنازعان الفكر
الأمريكي تجاه العراق؛ بصرف النظر عن الدعاية التي أطلقها بوش حين تحدث
عن «عراق جديد يكون نموذجاً لدول الشرق الأوسط» .
النظرية الأولى: يمثلها «روبرت كابلان» [2] ، وذلك في مقال له بعنوان:
«سيناريو لمرحلة ما بعد صدّام» ، وفيه يدعو إلى التحرر من أي إغراءات
تبشيرية فيما يتصل بإرساء الديمقراطية والحرية في بلد ليست الديمقراطية من
تقاليده، ويدعو صراحة إلى بناء نظام علماني مستبد، لكنه يتحدث عن الاستبداد
المستنير، إن أصحاب هذه النظرية يتحدثون عن أمريكا بوصفها قاعدة احتلال
عسكري في منطقة حساسة جغرافياً، وهذا الوجود سوف يفرض نفسه على المنطقة
وعلى الدول المجاورة التي ستضطر للتكيف مع هذا الوجود، ففي السياسة؛ يمثل
الجوار الجغرافي محدداً للسلوك السياسي، ووجود دولة جارة لقوة عسكرية عدائية
سوف يجعل هذه الجارة تأخذ في حسابها رغبات هذه القوة العسكرية الجبارة.
النظرية الثانية: ويمثلها مثقفون عرب في البلاط الأمريكي، وهم ما نطلق
عليهم «المثقفون الأمريكان» [3] ، وهم يتبنون ضرورة التدخل الأمريكي في
العلاقة بين الحكام المستبدين والشعوب في العالم العربي؛ بحيث يدعم التدخل
الأمريكي قوى الإصلاح التي تؤمن بالقيم الغربية، كما يجب أن تتعامل أمريكا مع
الطبقة الوسطى في العالم العربي وتتخلى عن دعم الحكام المستبدين؛ لأن هذا الدعم
وإن كان حرم أعداء أمريكا من الوصول إلى السلطة؛ لكنه أدى إلى انتشار
الكراهية والاحتقان الذي عبر عن نفسه في قلب أمريكا نفسها، كما أن السكوت
على الحكام المستبدين جعل من عروض الإسلاميين للشعوب إغراءاً بانتشالهم إلى
وضع أفضل.
وعلى المستوى الميداني يصعب على الولايات المتحدة أن لا تكون قوة احتلال
واستعمار في العراق، فهي أمَّنت فقط وزارة النفط من بين جميع الوزارات
والمؤسسات العراقية التي جرى نهبها والأمريكان يشاهدون ويدعمون؛ ومن ثم فما
يهمها بالأساس هو النفط، كما أن الشركات الأمريكية هي التي تتولى اليوم مسألة
عقود الإعمار، وعقود تأمين آبار النفط وإنتاجها، وعقود تأسيس شرطة وجيش
عراقيين، بل إن أمريكا تتعاقد مع شركات أمريكية لإعادة بناء النظام التعليمي في
العراق؛ بحيث يكون متوافقاً مع المرحلة الاستعمارية الجديدة.
وتسعى أمريكا أيضاً على المستوى الميداني إلى التلاعب بالمرجعية الشيعية
في العراق؛ بحيث تضمن ولاء الشيعة في العراق لها حتى تُفقد إيران تأثيرها
المرجعي في شيعة العراق، بل إن أمريكا لم تتردد في الاستعانة بصفوف حزب
البعث نفسه فضلاً عن زعماء القبائل وبقايا الحرس الصدّامي القديم؛ لتؤسس على
أركانهم النظام الجديد الذي تسعى إليه، وهو ما يؤيد لدينا احتمال اتباع الإدارة
الأمريكية على المستوى الميداني ومستوى الممارسة لنصائح فريق «كابلان» ؛
في بناء نظام علماني مستبد في العراق؛ بحيث يكون هذا النظام أداة طيعة في يدها؛
وبحيث يبقى هذا النظام أداة لكبت حريات الشعوب والجماهير التي تكره أمريكا
وتراه قوة احتلال يجب التخلص منها.
وكما هو معلوم فإن خلافاً حقيقياً بين بريطانيا وبين أمريكا حول دور الأمم
المتحدة؛ حيث تريد بريطانيا أن يكون للأمم المتحدة دوراً سياسياً في العراق، بينما
ترى أمريكا أن الأمم المتحدة يمكن أن يكون لها دور إنساني، فهي ترى أن جنودها
وقوتها العسكرية هي التي فرضت الأوضاع الجديدة في العراق، وأنها يجب أن
تكون القوة التي تقرر والقوة التي تجني النصر، وبالطبع فإن القوى الدولية الأخرى
مثل: روسيا، وفرنسا، وألمانيا تمثل ضغطاً على أمريكا، لكن يمكن شراؤهما
بإعطائهما بعضاً من مغانم الحرب الأمريكية في العراق، وجميع هذه القوى تحدثت
عن رغبة في نصر أمريكي بالعراق، لكنه نصر يجب أن يأخذها في الحسبان.
وتواجه أمريكا مأزقاً حقيقياً في العراق؛ حيث يمكن وهو ما نتوقعه أن تتولد
قوة جديدة شابة في العراق ترى أن قوة أمريكا قوة احتلال تعيد إلى الأذهان
الاحتلال البريطاني، وتنشط هذه القوة الجديدة في مواجهة الخطط الأمريكية، وإذا
كان الناس في العراق عبّروا عن ابتهاج بسقوط النظام العراقي الذي دام لأكثر من
25 عاماً، حتى لو أبدوا ترحيباً بأمريكا في محطة التغيير هذه لكنهم لن يرحبوا بها
كقوة احتلال أبداً، ولا يزال الشعب العراقي يتمتع بخصائص وصفات نفسية دينية
ووطنية عميقة جداً، وفي مثل حالات الفراغ السياسي وانهيار الأنظمة كما يحدث
في العراق؛ فإن الشعوب هي التي تسعى إلى ملء الفراغ عبر حركة المجتمع
والأمة وليس وفق خطط المحتل.
وفي العراق تبقى الثقافة العربية والإسلامية من جانب والتحيز الأمريكي
للكيان الصهيوني من جانب آخر عائقين مهمين أمام إنفاذ هذه الخطط كما هو مقرر
لها في البنتاجون أو البيت الأبيض، فهناك خصوصية في الثقافة العربية تجاه
المحتل فالعربي والمسلم يمكن أن يضحي بالحرية الفردية من أجل حرية وطنه
الكبير، أو ما يطلق عليه «الوطنية» ، أو ما يطلق عليه «الحفاظ على حدود
الوطن أو الإقليم» ، أو بالتعبير الإسلامي «الذود عن البيضة» و «حماية دار
الإسلام» ، وهناك خصوصية في الثقافة العربية الإسلامية تجاه اليهود وتجاه
فلسطين.
وإذا كان «كابلان» يقرر وجود الأمريكان بوصفهم قوة استعمارية محتلة في
العراق؛ فإن هناك قوة شعبية تستلهم الإسلام في مقاومة المحتل كما في فلسطين،
ويكفي أن نتذكر أن مخيم جنين صمد أمام القوة الصهيونية بكل جبروتها لمدة عشرة
أيام وأسقط منها 26 جندياً؛ منهم جنرال كبير، ومن ثم فأمريكا تواجه مأزقاً حقيقياً
في العراق يصنعه أولئك المحافظون الجدد في البيت الأبيض، والذين يضعون
الخطط على الأوراق بشكل طفولي يثير السخرية، وهم منفصلون عن الواقع
وعاجزون عن فهم الشعوب.
* مستقبل العالم العربي:
1 - ماذا ينتظر الحكام في العالم العربي بعد كارثة سقوط العراق واحتلاله من
قبل أمريكا؟ إن التصريحات التي تتحدث عن تغييرات جيواستراتيجية في خريطة
المنطقة صحيحة، وهناك خطط يعدها المحافظون الجدد المسيطرون على القرار في
البيت الأبيض تستند إلى ما يطلقون عليه الحسم العسكري والوضوح الأخلاقي،
وهذا الحسم العسكري والوضوح الأخلاقي يستعمل فقط ضد العرب والمسلمين؛
بينما تجاه الكيان الصهيوني تجد رخاوة أخلاقية وهزال عسكري، ومن ثم فالخطر
المحدق بالعالم العربي حقيقي وهو لا يطرق بابه لكنه أصبح في قلبه، فالعراق هو
البداية الشرقية للأمن القومي العربي، وسقوط العراق هو لصالح الكيان الصهيوني
بكل المقاييس؛ حيث زال الخطر الذي كان يمثله العراق على أمن «إسرائيل» ،
وتشير التقارير إلى سحب القوات الصهيونية التي كانت على الجبهة الشرقية، كما
أن البترول العراقي سوف يضخ إلى الكيان عبر بناء خط الموصل - حيفا،
وسوف تسطع من جديد فكرة الشرق الأوسط الذي يحوِّل المنطقة إلى سوق
اقتصادي تكون الهيمنة فيه للمركز الصهيوني، وتتحول البلدان الأخرى إلى مجرد
أتباع هزيلة لهذا المركز.
ولا شك أن الانتصار الأمريكي في العراق سوف يدعم خطط الحكومة اليمينية
في الكيان الصهيوني، والإتيان بحكومة فلسطينية تقبل بخطط شارون، وربما
تسعى إلى فرضها على المقاومة الفلسطينية التي ترفض بقوة أي خطط تفرِّط في
القضية الفلسطينية لمصلحة الخطط الاستعمارية الصهيونية، فأمريكا بوصفها
استعمارية ستدعم الوجود الصهيوني في فلسطين، كما ستدعمه بوصفه وجوداً
اقتصادياً وحضارياً.
2 - بوش أعلن امتلاك سوريا لأسلحة كيمياوية، وأنه لا بد من خضوعها
للتفتيش، ورامسفيلد قال إن قرار ضرب سوريا يعود لقوات التحالف، وتحدث
عن متطوعين سوريين يقاتلون في العراق ضد القوات الأمريكية، كما تحدث عن
ضرورة تسليم سوريا لقيادات النظام العراقي السابق، وتأتي هذه التصريحات بعد
وقت قصير من إعلان المجرم شارون أن التغيير يجب أن يشمل سوريا، وليبيا،
والمملكة العربية السعودية، وقال شارون حرفياً: «إن زوال العراق كتهديد يثير
ارتياحنا، لكن كل المشكلات التي نواجهها لم تنته، فهناك مشكلات مع إيران،
وليبيا، والسعودية، فإيران تضاعف جهودها لتطوير أسلحة الدمار الشامل
والصواريخ البالستية، وليبيا تسعى إلى الحصول على أسلحة نووية، والسعودية
تقدم المساعدات للمنظمات الإرهابية» ، إذن هناك تهديدات حقيقية للدول الثلاث
التي تمثل قاعدة الوجود العربي في المنطقة، وهي سوريا، ومصر، والسعودية،
وعليهم أن يتحركوا قبل فوات الأوان وإلا فماذا ينتظرون؟ هل يقفون صامتين حتى
تأتي القوات الأمريكية لتدق عروشهم كما حدث مع صدّام حسين؟
3 - على الدول العربية هذه أن ترتب بيتها الداخلي للخطة الحقيقية القادمة
بلا محالة، وهذا يفترض قيادة الإصلاح الداخلي، والذي يتمثل في رأب الصدع
الداخلي بين هذه الأنظمة ومجتمعاتها، وخاصة القوى الإسلامية التي ثبت وقت الجد
أنها هي التي تصمد وتقاتل وتقاوم.
إن النظم والجيوش والقادة الرسميون في العالم العربي يواجهون امتحاناً قاسياً،
ونجاتهم هي في العودة لإصلاح ما بينهم وبين شعوبهم ومجتمعاتهم.
إنني أستلهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول فيه:
«ويل للعرب من شر قد اقترب» [4] .
فإما التحرك للمواجهة، وإما انتظار الفناء والزوال!
[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
__________
(1) تشير المعلومات إلى أن صفقة تم عقدها بين وزير الدفاع العراقي وبين القوات الأمريكية؛ لتسليم بغداد بوساطة سورية، وبينما اعتُقل العديد من قيادات البعث؛ فإن مصير صدام ما زال مجهولاً.
(2) (روبرت كابلان) هو أحد أهم العقول الأمريكية التي تمثل نبوءاته وتحليلاته موضع احترام كبير، يأخذها صانع القرار الأمريكي مأخذ الجد.
(3) يمثلهم، فؤاد عجمي، كما هو مقرر في بعض مقالاته.
(4) أخرجه البخاري، رقم 3097.(187/74)
المسلمون والعالم
القومية العربية ضيعت العراق!
ممدوح إسماعيل [*]
في ظل العدوان الأمريكي البريطاني على العراق ارتفعت أصوات عالية
تتحدث عن العروبة والقومية العربية، وأنها سبيل النصر للعراق في ظل محنته
الحالية. وتعالمت تلك الأصوات العالية عن الحقيقة الناصعة والسبيل الوحيد للنصر
ألا وهو التمسك بالإسلام؛ ولعل هذا يدفعنا إلى توضيح حقيقة القومية العربية.
* البداية:
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت أول بوادر ما سمي بالقومية
العربية، وقيل إن الذي انزلق إلى لفت الانتباه إلى العصبية العربية هو الشريف
حسين، ولكن الحقيقة أن الرجل لم يَعِ خطورة هذا الانزالق بخلاف ابنه فيصل
الذي وجد الإنجليز ضالتهم فيه في إرساء هذا التيار؛ لذلك توجه لورانس إليه بدلاً
من أبيه في بحثه عن ذلك الزعيم؛ فهو يقول: (وأخذت طول الطريق أفكر في
سوريا وفي الحج وأتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل
يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقاد الديني؟ وبمعنى أوضح: هل تحل المثل العليا
السياسية مكان الوحي والإلهام، وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى
الوطني؟ هذا ما كان يجول بخاطري طوال الطريق) ، وقد كوفئ فيصل وعينه
الإنجليز حاكماً للعراق؛ لذلك كان لورانس الضابط الإنجليزي هو مؤسس القومية
العربية التي ما لبث أن حمل لواءها نصارى الشام، وأسسوا كثيراً من الجمعيات
الأدبية والعلمية في دمشق وبيروت والقاهرة.
وهذا يدفعنا إلى التأكيد على أن ظهور القومية العربية لم يكن كما قيل نتيجة
ظهور القومية الطورانية في تركيا، ولكن هذا يؤكد أنه مخطط استعماري لتضيع
الهوية الإسلامية قبل القضاء على الخلافة الإسلامية نهائياً؛ ففي نفس الوقت
ظهرت أيضاً القومية الكردية.
وانطلت الحيلة والمخطط على كثير من أبناء المسلمين المغفلين خاصة الذين
تأثروا بالفكر الغربي الذين آمنوا بالعلمانية وإقامة الرابط القومي بدلاً من رابط الدين
الإسلامي.
كما أراد الغرب أن تكون القومية رابطاً لتكوين أمة بديلاً للدين، وبرزت
أفكار عديدة من أهمها:
1 - وحدة الأصل والعرق.
2 - وحدة اللغة.
3 - وحدة التاريخ.
4 - وحدة الثقافة.
5 - المصالح المشتركة.
ولكنهم لما أرادوا تصدير وإرساء فكرة القومية في البلاد العربية الإسلامية
جعلوا القومية العربية ترتكز على عنصرين اثنين فقط لا غير:
1 - وحدة اللغة:
فبغض النظر عن التدقيق في عناصر القومية الأخرى؛ فكل من يتكلم العربية
فهو عربي، ولو لم تكن أصوله عربية ومن كانت لغة آبائه العربية فهو عربي.
2 - وحدة التاريخ:
يقول ساطع الحصري أحد أهم وأبرز مؤسسي ومفكري القومية العربية: (إن
وحدة التاريخ هي التي تلعب أهم الأدوار في تكوين القرابة المعنوية) .
ويلاحظ أنه لدى تطبيق القوميين العرب عنصر وحدة التاريخ على واقع
الشعوب العربية نجدهم يقفزون عن تاريخ العرب المسلمين؛ لأنه لا يمثل وحدة
تاريخ بين كل العرب مسلميهم، وغير مسلميهم، بل قد يحقدون عليه وهم لا
يعترفون بأنه تاريخ لهم؛ إنما هو تاريخ خصومهم، بل أعدائهم؛ فكيف يكون
عنصراً يربطهم بالأمة العربية؛ فهؤلاء لهم تاريخ خاص بهم غير تاريخ العرب
المسلمين ولو عاشوا بينهم أقلية.
والعجيب أنهم حين يقفزون عن تاريخ العرب المسلمين يسقطون على تاريخ
عصور الجاهلية العربية البائدة والعاربة والمستعربة، ويبرزونه أدبياً وثقافياً على
أنه تاريخ العرب.
أما بعد الإسلام فلا يظهرون إلا ما كان فيه نقائض في التاريخ الإسلامي أو لا
تأثير واضح للإسلام فيه، أو مراحل الضعف، أو ما يتعلق بتاريخ غير المسلمين
وتزيينه؛ لذلك نجدهم في عنصر وحدة التاريخ ينحُّون كل ما هو إسلامي مجيد
ويسلطون الأضواء على غيره.
ولا يهمل مفكرو ومفلسفو القومية العربية العناصر التالية:
أ - وحدة المشاعر والمنازع.
ب - وحدة الآلام والآمال.
ج - وحدة الثقافة.
ولكنهم يجعلونها نتائج طبيعية لوحدة اللغة ووحدة التاريخ.
وفي ذلك يقول ساطع الحصري إمام القومية العربية: (إن أسس الأساس في
تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ؛ لأن الوحدة في هذين
الميدانين هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر، وحدة الآلام والآمال ووحدة الثقافة؛
وبكل ذلك تجعل الناس يشعرون بأنهم أمة واحدة متميزة عن الأمم الأخرى. ولكن
لا وحدة الدين ولا وحدة الدولة ولا وحدة الحياة الاقتصادية تدخل بين مقومات الأمة
الأساسية.. كما أن الاشتراك في الرقعة الجغرافية أيضاً لا يمكن أن يعتبر من
مقومات الأمة الأساسية، وإذا أردنا أن نعين عمل كل من اللغة والتاريخ في تكوين
الأمة قلنا: اللغة: تكوِّن روح الأمة وحياتها، والتاريخ: يكوِّن ذاكرة الأمة
وشعورها) .
واستناداً إلى ما سبق فالقومية العربية تجمع كل من يتكلم العربية وينتسب إلى
البلاد العربية مهما كان دينه أو بلده أو مذهبه أو أصله، والعروبة تشمل المصري،
والعراقي، والمغربي المسلم، والمسيحي، والسني، والشيعي، والدرزي،
والنصيري، والكاثوليكي، والأرثوذكسي، والبروتستانتي فهم أبناء العروبة.
وهكذا استطاعت القومية العربية أن تسلب المسلمين العرب أصحاب الدين
الحق والأرض والسيادة، بل والأكثرية العددية من حقهم في السيادة على أرضهم
لصالح الأقليات غير المسلمة التي دافعت عن القومية العربية بكل ما تستطيع، ومع
ذلك لم تتنازل عن عصبياتها الطائفية المضادة للإسلام والمسلمين مرة واحدة،
ووقائع الأحداث في كثير من البلاد العربية تؤكد ذلك في لبنان وسوريا والعراق؛
ليظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن شعار القومية العربية لم يستطع أن يوحد بين أتباع
الأديان المختلفة والمذاهب المتعارضة ليثبت سقوط الفكرة من أساسها؛ لأن عناصر
القومية غير صالحة لتكوين أمة متحدة؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يكون خالياً على
الدوام من مبدأ أو عقيدة يعمل له، ويعطي له ويبذل من أجله، ويستظل بفكره،
وينطلق نحو أهدافه.
* فساد وضعف رابطة اللغة والتاريخ:
فالرابط اللغوي وذكريات التاريخ بطبيعة مكوناتهما لا يشبعان نهمة العقول
حول معرفة كثير من أسرار الحياة والغيب والبعث والنشور والعبادة ولا منهج حياة
مستقيم فيه العدل والخير؛ وأجمع جامع للناس في هذا دين رباني حق تدفعهم للأخذ
به والاجتماع عليه عدالته وكماله، والرغبة بالثواب العظيم، والرهبة من عذاب
أليم أعدهما الرب الخالق منزل الدين.
* الجامعة العربية:
لقد سعى أولئك القوميون إلى تقويض كل اتحاد باسم الإسلام، وأخذوا يبذلون
كل ما لديهم لاتحاد باسم العروبة.. رفضوا فكرة الجامعة الإسلامية في بداية القرن
العشرين، وسعوا إلى الجامعة العربية؛ فماذا صنعت الجامعة العربية التي كانت
أهم الصعاب التي تواجهها الاحتلال اليهودي لفلسطين؟ جعلوا القضية عربية
وأعدوا الجيوش العربية عام 1948م، فكانت النكبة والهزيمة والخسران، وكان
ترسيخ الاحتلال؛ لأنها لم تكن لله ولا جهاداً في سبيل الله، ولا من أجل الإسلام
والمسلمين ولا أرض إسلامية، وقالوا: فلسطين عربية، والصراع العربي
الإسرائيلي، ثم ما لبثوا أن قالوا: القضية الفلسطينية.
لقد حافظوا على الجامعة العربية للمحافظة على الشكل بدون أي مضمون أو
عمل حقيقي؛ لأن الإسلام بعيد عن أساس وأهداف عملهم.
* شعراء القومية العربية:
قال أحدهم:
يا مسلمون ويا نصارى دينكم ... دين العروبة واحد لا اثنان
وقال الآخر:
سلام على كفر يوحد بيننا ... وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وقال ثالثهم:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له ... وبالعروبة ديناً ما له ثان
* القومية في ثوبها الجديد:
ما قدمناه كشف لثوابت وأسس القومية العربية، ولقد سيطرت القومية العربية
بتلك الأفكار والأسس على المنطقة العربية فترة الخمسينيات، وتمكنت من السيطرة
على بعض نظم الحكم في البلاد العربية، وسيطرت على الإعلام والثقافة لتضمن
التحكم في التوجيه الفكري للشعوب.
وظهر حزب البعث العربي الذي أسسه النصراني ميشيل عفلق القائل في
كتابه: (سبيل البعث) : «إن الأمة العربية تفصح عن نفسها بأشكال متنوعة في
تشريع حمورابي، وتارة في الشعر الجاهلي، وتارة بدين محمد (!!) وأخرى
بعصر المأمون» .
وانقسم حزب البعث إلى شقين: واحد في العراق، وآخر في سوريا، وبينهما
عداوة وصراع وبغضاء لا تنتهي.
وتبنى الرئيس المصري جمال عبد الناصر فكرة القومية العربية وعلا صوته
بها في الستينيات، وكان من نتائج القومية العربية على مصر أن ذهب الجنود
المصريون إلى اليمن لقتال اليمنيين، ثم هزيمة 1967م النكراء، وانقسم القوميون
ما بين الشيوعية والرأسمالية والفوضوية والإباحية، ومنهم من عاد للإسلام، ومنهم
من ظل تائهاً يتخبط.
ولكن في الآونة الأخيرة ونظراً لظهور المد الإسلامي مع بداية السبعينيات
حاول بعض القوميين ارتداء عباءة الإسلام مع القومية العربية كما فعل بداية
الشريف حسين، والبعض ظل على موقفه مع الاعتراف بالتواجد الإسلامي،
والآخر وهم كثيرون ظلوا يناصبون التيار الإسلامي العداء علانية وخفية.
ولكن المشكلة الحقيقية أن بعض الإسلاميين نظراً لظروف سياسية معقدة
يتنازل عن وضوح فكره الإسلامي وعقيدته من أجل العمل السياسي المشترك الذي
ظهر باسم العمل أو اللجان القومية، ولقد ظهر ذلك بوضوح في مواجهة الاحتلال
اليهودي لفلسطين وانتفاضة الأقصى، والعدوان الأمريكي البريطاني على العراق.
فلقد انبرى القوميون ليعلو صوتهم في الأمرين في شتى المحافل ليظهر على
السطح العمل القومي الذي لا يتميز فيه الإسلاميون بفكرهم في تجمع يجمع اليساري
الشيوعي العلماني القومي النصراني والناصري؛ والإسلامي مطلوب منه أن ينسجم
في تلك البوتقة بدون تمييز ولو حتى بشعار ملفت للنظر لنجد من يخرج من الأزهر
الشريف يهتف: يحيا الهلال مع الصليب في مظاهرات تندد بالعدوان على العراق.
ولقد خفف القوميون خطابهم المعادي للإسلام تحت ضغط ارتفاع المد
الإسلامي في شتى بقاع الأراضي العربية، ولكنهم استطاعوا أن ينفذوا ببعض
المصطلحات على الساحة الإعلامية مثل: العدو الأجنبي، وأعداء العروبة،
وشهداء الوطن، والمؤتمر القومي الإسلامي.
* موقف الإسلام والعصبية للقومية العربية:
لقد قاوم الإسلام العصبية القومية ورفضها واعتبرها نزعة جاهلية منتنة،
وأقام بين المسلمين الأخوة الإيمانية الإسلامية.
فالحق تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (الحجرات: 10) .
فعقد الله بهذه الآية الأخوة بين كل المؤمنين دون استثناء منهم أخوة برابطة
وحدة الإيمان بالله الواحد الأحد وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمسلمون في الصين أخوة للمسلمين في المغرب العربي، وكذلك المسلمون
في إفريقيا أخوة للمسلمين في أمريكا.. الكل ارتبط بعضه ببعض بوحدة الإسلام
التي أوجبت عليهم حقوقاً لبعضهم على الآخر.
فقد روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [1] .
فالمسلم في ماليزيا يألم لمصاب إخوته في فلسطين، والمسلم في إفريقيا يحزن
لما أصاب إخوانه في العراق.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح
على راحلته يستلم الأركان بمجحفة: فلما خرج ولم يجد مناخاً تنزل على أيدي
الرجال فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم
عصبية الجاهلية وتكبرها بآبائها. الناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر
شقي هين على الله؛ والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب. قال الله: [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات: 13) ، ثم قال:» أقول قولي هذا
واستغفر الله لي ولكم « [2] .
* وفي خطبة الوداع:
عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط
أيام التشريق خطبة الوداع فقال:» يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم
واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على
أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ ألا هل بلغت؟
قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فليبلغ الشاهد الغائب « [3] فالإسلام بكل وضوح
يرفض التعصب للانتماء إلى جنس أو لون؛ فلا تاريخ ولا جغرافية ولا لغة ولا
جنس ولا لون.
فبلال الحبشي مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلمان الفارسي قال
عنه صلى الله عليه وسلم:» سلمان منا آل البيت « [4] .
والبخاري والترمذي أئمة الحديث، وطارق بن زياد قائد لجيوش المسلمين.
* العراق ما كان لينتصر إلا بالإسلام:
لقد فرضت الحرب على العراق جدية الاهتمام بالبحث عن أسباب النصر،
وبعدما قدمنا عن القومية العربية ونشأتها وأفكارها يتضح لنا كم هي مناقضة ومعادية
للإسلام.
ولقد بسط الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - الحديث عن ذلك في كتابه:
(نقد القومية العربية) ولكننا إزاء ما حدث في العراق ينبغي أن نتوقف عند عدة
نقاط هامة وحيوية:
أولاً: العراق كنظام وحكومة تدين بالقومية العربية وبأفكار ميشيل عفلق
مؤسس حزب البعث.
ثانياً: الشعب العراقي ينقسم إلى شيعة وسنة، وأكراد.
أهل السنة في الأصل بعضهم ينتمي إلى أحزاب علمانية ويسارية موالية
للكفار أعداء الإسلام من الأمريكان، وأهل السنة مثل جماعة أنصار الإسلام أو
الجماعة الإسلامية وعوام الأكراد.
أما الشيعة فهم يسيطرون على مناطق النجف، وكربلاء. ومعلوم فساد
عقيدتهم وبدعتهم، غير أنهم موالون لنظام الحكم في إيران.
وبالنظر لأهل السنة في العراق لا يخفى سيطرة الأفكار البعثية على البعض،
والآخر يسيطر عليه شرك القبور وهو شر مستطير منتشر في العراق، ولا يخلو
العراق من أقلية من النصارى، وأيضاً فيه قلة من الصابئة، ولكن الإسلام هو دين
أغلبية الشعب العراقي.
والنظام العراقي كم حارب التوجهات الإسلامية الداعية إلى الالتزام بشريعة
الإسلام والأخلاق والفضائل، وكان نتيجة ابتعاد الدعاة المخلصين عن توعية
الشعب أن انتشرت المنكرات والكبائر والمعاصي؛ غير أن كثيراً من الشعب اكتوى
بنار الظلم والاستبداد، ورغم أن الحكومة العراقية عدلت من خطابها السياسي،
وأضافت إليه بعض العبارات الإسلامية والاستدلال بآيات القرآن والإفراج عن كل
المسجونين قبل سقوطها إلا أن العقيدة البعثية القومية ظلت هي المسيطرة.
هذه نظرة سريعة لشكل العراق من الداخل كجبهة أمام جبهة الكفر الصليبي
الحاقد التي استعدت لتلك الحرب بكل الإمكانيات المتاحة لها من أرقى أنواع الأسلحة
المتنوعة في زيادة القوة التدميرية غير تعبئة الأفراد والتمويل المالي؛ يضاف إلى
ذلك السيطرة العسكرية على المناطق المحيطة بالعراق فضلاً عن وضوح الهدف
الذي أعلنته الإدارة الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر أنها حرب صليبية بدأت
بأفغانستان المسلمة وهو عنوان لم يضعه المسلمون لتلك الحرب، بل تتحمل تبعته
الإدارة الأمريكية؛ وذلك بأسلوبها المعادي لكل نشاط إسلامي على مستوى العالم،
وملاحقتها بكافة السبل الجماعات الإسلامية المجاهدة في كشمير، والشيشان،
وفلسطين المقطوعة الصلة تماماً بأحداث 11 سبتمبر، وكان اختيار العراق هدفاً
للحرب ليس من أجل إسقاط نظام استبدادي، ولا من أجل أسلحة الدمار الشامل أو
البترول فقط، ولكن العراق كان هدفاً لما يمثله من تاريخ إسلامي وعاصمة للخلافة
في أزهى عصور الخلافة الإسلامية، والعراق كان هدفاً؛ لأنها في تقدير الإدارة
الأمريكية هدف ضعيف يسهل التغلب عليه بأقل الخسائر لما يلي:
1 - الخلافات والانقسامات الموجودة داخل العراق: سنة، وشيعة، أكراد.
2 - الاعتماد على ظلم النظام للشعب مما جعلهم يتوقعون أن يتعاون مع
القوات الغازية تحت زعم التخلص من الاستبداد.
3 - كثرة الحروب التي خاضها النظام العراقي أضعفت قدراته العسكرية.
4 - طول مدة الحصار الاقتصادي الذي أنهك العراق في كل النواحي، وأثر
تأثيراً بالغاً على قدراته العسكرية.
كل ذلك يجعل العراق هدفاً سهلاً يسهل على أمريكا أن تجعل منه نموذجاً في
التغريب الأمريكي وإقامة نظام حكم موالٍ للأمريكان يعمل على مسح هوية الشعب
تماماً، وتغريب أفكاره ومبادئه، وتنحية الفهم الإسلامي الصحيح عن الحياة تماماً،
ثم يتجهون بعد ذلك إلى بلد عربي آخر.
__________
(*) كاتب ومحامٍ إسلامي، وكيل مؤسس حزب الشريعة في مصر تحت التأسيس.
(1) البخاري، كتاب الأدب، حديث، رقم (5552) .
(2) أخرجه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان.
(3) مسند الإمام أحمد، رقم (22391) .
(4) رواه ابن سعد في الطبقات، 4/ 83، 7 / 319، وصححه الألباني موقوفاً على علي رضي الله عنه برقم (3272) .(187/78)
المسلمون والعالم
السقوط الكبير
لم يسقط النظام العراقي وحده.. بل سقط معه آخرون
أحمد بن عبد العزيز العامر
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وبعد: فلقد تابع الكثيرون حرب
الخليج الثالثة، وعلى الأصح: (الحرب العدوانية الأمريكية الإنجليزية) ومن
تابعهم على العراق؛ تلك الحرب التي لم يعضدها قانون دولي أو أخلاق إنسانية
حينما شن المعتدون حربهم الظالمة تلك، وأوقعوا في هذا البلد الشقيق كل أنواع
الدمار والخراب والنهاية المأساوية والطبيعية للنظام البعثي العراقي بعد حكم تجاوز
العقود الثلاثة اتسم بالحكم الشمولي، وسام شعبه سوء العذاب.
وجعل أكثرهم بالرغم من غنى هذه الدولة وكثرة مواردها فقيراً أو تحت خط
الفقر؛ وذلك لعنايته بالدعاية للحاكم المطلق، وعنايته أيضاً بعسكرة النظام الذي بلغ
حجم الجيش مبلغاً عُدَّ في فترة من الفترات خامس جيش في العالم، واستطاع أن
يصنّع الأسلحة الكيمياوية والجرثومية أو ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل، واستطاع
أن ينجح في إنشاء مفاعل نووي، وكاد أن يفجر القنبلة الذرية إلا أن غرور هذا
النظام وتهوره جعله يسقط في حروب عقيمة وخاسرة ليس مع العدو، بل مع بعض
فئات شعبه من ناحية، ومع جيرانه من ناحية أخرى باء فيها بالإخفاق والخسران
المبين، وخسر في تلك الحروب مع إيران، وأُخرج صاغراً من الكويت، وأضاع
في هذه الحرب غير المتكافئة الكثير الكثير من مقدرات شعبه مما هو معروف
للجميع، وانعكس ذلك سلبياً على الدولة والشعب العراقي زيادة على الحصار الذي
فرض عليه لأكثر من 12 سنة.
وادعت (أمريكا) أن النظام العراقي لم يلغِ أسلحته ذات الدمار الشامل كلها،
وأنه استطاع بمعاونة بعض الدول الصديقة أن يعيد الكثير من مقوماته العسكرية؛
وهذا بالطبع غير صحيح؛ وذلك خوفاً على ربيبتها (دولة العدو الصهيوني) مما
جعل التيار اليميني المتطرف الذي يتحكم ويدير الإدارة الأمريكية يصنفون دولة
العراق مع (كوريا وإيران) باعتبارهم (محور الشر) المزعوم الذي يجب أن
يُحطَّم بدعوى أنهم يشكلون خطراً على العالم بعامة وأمريكا والعدو الصهيوني
بخاصة، وبما أن العراق هو أسهل تلك الحلقات الثلاث ولكونها تشكل البداية السهلة
للاتجاه الراديكالي للتغيير الذي تطالب به أمريكا بعد (واقعة 11 سبتمبر 2001م) .
ولذلك صممت أمريكا على ضرورة نزع أسلحة الدمار الشامل المزعومة لدى
العراق بالقوة، وحاولت أن يكون ذلك بأسلوب دولي يتفق ونظام هيئة الأمم،
فاستصدرت قرارها (1441) بدخول فرق التفتيش الأممية للبحث عن ما تدعيه
أمريكا، ووافقت العراق على دخول الفرق، وأن تبحث في كل مكان يرون أنه
مظنة وجود ذلك السلاح المزعوم، ووافق النظام العراقي على ذلك، وذرعوا أرض
العراق في كل الاتجاهات، وأصدرت اللجنتان قرارهما بعدم وجود شيء مما زُعم
في حق العراق، وحاولت أمريكا استصدار قرار أممي آخر يسوغ إعلان الحرب
على العراق باعتبارها تهدد السلم العالمي؛ وهذا يخالف نظام الهيئة الدولية في
الفصل السابع، ولما أخفقت في ذلك أصر الرئيس الأمريكي (بوش الابن) على
إعلان أمريكا الحرب حتى بمفردها، وكان حليفها الاستراتيجي (بريطانيا) معها
في إعلان الحرب، ووافقها عدد من الدول الحليفة بالدعم العسكري واللوجستي حتى
بعض الدول العربية مع الأسف كما سنرى فيما بعد أيدتها ودعمتها، وقامت الحرب
العدوانية في 17/3/2003م التي أعلن النظام العراقي الخائب أنه على أتم الاستعداد
لمواجهتها وهزيمتها، وأن الجيوش الحليفة ستغرق في مستنقع العراق، وسينتحر
المهاجمون على أسوار بغداد.
وحاول الكثيرون منع الحرب بوساطات مختلفة منها تنحي الرئيس العراقي
حتى لا يورط شعبه والمنطقة في حرب معلوم سلفاً نتيجتها لأسباب معروفة منها:
1 - القوة العسكرية وما يملكه المعتدون من أسلحة متطورة.
2 - ضعف الجيش العراقي بعد حروب متوالية منذ عام 1980م حيث لم
تُحَدَّث قواته منذ عشرين عاماً.
3 - فقدان الجيش العراقي لسلاح الطيران وهو من أهم الأسلحة الفاصلة في
الحروب.
فضلاً عن أسباب أخرى سنعرفها فيما يعد.
ومع توعد النظام العراقي للمهاجمين بإعادة ملحمة (ستالينجراد) في مواجهة
الجيش النازي في الحرب العالمية الثانية وتدمير الأعداء عن بكرة أبيهم، ومع أن
الجيش العراقي أبلى بلاءً حسناً وبخاصة (الدفاع الجوي) في إسقاط العديد من
الطائرات المختلفة والقتل والأسر للعديد من المعتدين إلا أن الحرب التقنية وتجريب
الكثير من الأسلحة الجديدة أسهم في تدمير دفاعاته خلال عشرين يوماً تقريباً وهو ما
ظنه المعتدون ساعات أو أياماً قليلة؛ غير أن الجيش العراقي سقط وتداعى بشكل
(دراماتيكي) حار حياله الكثير من المحللين العسكريين والاستراتيجيين في بيان
أسبابه ومسوغات سقوطه الغريب وغير المتوقع؛ حيث أرجعوا ذلك لما يلي:
1 - أنه لا بد أن يكون هذا السقوط نتيجة خيانات، وهذا ما قاله رئيس
الأركان المصري السابق الفريق سعد الدين الشاذلي؛ إذ يستحيل أن تصمد (أم
قصر) لأسبوعين بينما لم تصمد العاصمة (ذات القصور) إلا أيام.
2 - أو أن الحرب التقنية الرهيبة وسقوط الدفاعات المقاومة أنهكت الجيش
وقضت عليه.
3 - الحرب الإعلامية وإسقاط وسائل الاتصال بين القادة والمحاربين مما كان
له دور كبير في زعزعة المقاومة.
4 - وجود طابور خامس داخل بغداد وغيرها من المدن أسهم في إحكام
الضرب على مراكز القوى.
5 - أو أن هناك تفاهماً بين القيادة العراقية وأمريكا للخروج كما قيل عن
طريق السفارة الروسية، وهذا ما أنكرته روسيا، وهناك اتجاه قوي يؤيد ذلك إن لم
تكن القيادة قد قضي عليها فعلاً.
وهذه الأسباب مع وجاهتها وإمكانية وقوعها إلا أن المحللين نسوا أو تناسوا
أمراً مهماً كان السبب الأول والأخير في السقوط وهو بنية النظام البعثي السياسية
والأيديولوجية المتمثلة في النهج الشمولي فكراً ومنهجاً وهو ما يتناقض مع ما يدين
به جل الشعب العراقي من دين وعقيدة إسلامية. فضلاً عن أن هذا الاتجاه العلماني
طبق على الشعب العراقي بالحديد والنار والدعايات، بل سخر كلاً من الإعلام
والتعليم للترويج لهذا النهج والمطالبة بالانضواء تحت لوائه.
وكذلك الشعب العراقي بأديانه ومذاهبه وأحزابه اضطر تحت القوة إلى الكمون
تحت الرماد حتى يجد متنفساً، فوجد الفرصة السانحة له للانقلاب؛ وبالفعل سجل
أكثر من 20 محاولة انقلاب لم تنجح ضد حكم صدام حسين.
كما أن حرب العصابات وحرب الشوارع التي وعد بها النظام البعثي المعتدين
ما كان لها أن تنجح يوم يكون الشعب غير راض عن النظام؛ فما أن وجد الفرصة
وتداعت هيمنته حتى انتفض الشعب وتبرأ من النظام، وصور الإعلام الكاذب أن
الشعب العراقي يرحب بالمعتدين بينما قامت المظاهرات الصاخبة في بغداد
والموصل وغيرها وعداء الشعب الملغوب على أمره للنظام وكذلك عداء كل مسلم
يعود لأسباب كثيرة منها:
1 - أنه ما كان يؤيد النظام إلا لتسلطه عليه بالحديد والنار.
2 - معاناة الشعب العراقي من الحروب المتوالية التي دمرت مقدرات هذا
البلد وعرضتهم للحصار الظالم 12 سنة.
3 - القتل والسحل للآلاف من أفراد الشعب في المحاكمات الظالمة والحروب
الخاسرة.
4 - الرغبة في الخلاص من هذا النظام القمعي، والبحث عن نظام بديل
أحسن منه، وإلا فإن الشعب العراقي من أشد الشعوب العربية بغضاً للاستعمار
لمعاناته منه يوم تعرض للهيمنة الإنجليزية في العشرينيات من القرن الماضي.
ولذلك نعتقد أن هذا الشعب المسلم لن يستكين للمستعمرين إن بقوا كما
يتوهمون، وسيطردهم بإذن الله شر طردة.
هكذا سقط النظام العراقي للأسباب آنفة الذكر؛ لكن هل سقط وحده أم أن
السقوط أيضاً كان لآخرين؟ نعم السقوط كان لآخرين وهم ما يلي:
* أولاً: سقوط النظام الدولي لهيئة الأمم المتحدة:
هيئة الأمم المتحدة نشأت عام 1945م لحل مشكلات العالم وقد نجحت في حل
كثير من المعضلات الدولية إلا أنها عجزت عن حل حاسم لقضايا أمتنا الإسلامية
وعلى رأسها (القضية الفلسطينية) وذلك راجع لما يلي:
1 - تحكم الدول الكبرى في قرارات الهيئة بواسطة ما يسمى بـ (حق الفيتو) .
2 - اقتصار (مجلس الأمن) على عضوية الدول المنتصرة في الحرب
العالمية الثانية + الصين.
3 - تحكم الدول الكبرى في ميزانية الهيئة ومراعاتها في كل ما يصدر من
قرارات؛ بحيث لا تصطدم قراراتها مع مصالحها.
ولذلك حينما رفضت هيئة الأمم المتحدة إعلان الحرب على العراق لمعارضة
بعض الدول في مجلس الأمن ورفض الجمعية العمومية ذلك أيضاً أصرت أمريكا
على إعلان الحرب لوحدها، وتحالفت معها (بريطانيا) وغيرها من الدول، مع
مخالفة ذلك للنظام الدولي، المادة (7) من نظام هيئة الأمم.
ومما يؤسف له أنه لا يوجد في النظام الأممي ما يمنع مثل هذا التصرف
بوقوف الجميع في وجهه وعدم التعامل مع المعتدي وإيصاد الأبواب والأجواء في
وجهه؛ فلو وجد شيء من ذلك فهل ستجرؤ أمريكا على إمرار رأيها (إعلان
الحرب) سواء وافقت الهيئة أو لم توافق؟
4 - الهيئة الأممية تكيل بميكالين حيال رفض قراراتها؛ فإن كان من (العدو
الإسرائيلي) فلا مانع لديهم، وإن كان من غيرها فيمكن أن تعلن الحرب عليها،
فلماذا تحابَى دول دون أخرى؟
فهذه بعض علامات سقوط الهيئة الأممية.
* ثانياً: سقوط الدول والحكومات العربية والإسلامية:
فهناك كثير من الدول العربية لها دور مؤسف في سقوط العراق سواء بفتح
أراضيها وقواعدها للمعتدين، أو بموافقتها المعلنة على إعلان الحرب الظالمة التي
تسببت في تدمير ذاك البلد المسلم.
وبالرغم من معاداة حكومة العراق لبعض الدول العربية وبخاصة دول الخليج
إلا أنه وبحكم ما يربط الجميع من الدين والتاريخ والمصالح المشتركة كان ينبغي
السمو على أي مشكلة، وتعاون الجميع في رأب الصدع وجمع الشمل وإعادة المياه
إلى مجاريها؛ وبخاصة أن الجامعة العربية التي يشترك الجميع في عضويتها قد
وضعت اتفاقية (الدفاع العربي المشترك) الموقع عليها من الجميع؛ فأين الالتزام
بهذه الاتفاقية؟ ولماذا لم توحد الدول العربية رأيها وتفاتح به أمريكا بأنها لا توافق
على أي عدوان على أي واحدة منها وأنهم ضد ذلك تماماً؟ فلو أجمعوا على رأي
واحد فهل ستجرؤ أمريكا أو غيرها على مخالفة ذلك؟ وأعتقد أن ما جرأ أمريكا
على فعلتها هو الخلاف العربي المستشري في كل مشكلة وأمام أي معضلة، ولماذا
لم يقف الجميع حينما هجم العراق على الكويت ظلماً وعدواناً؟ بل وجدنا من
يناصرها على ذلك العدوان.
إن سقوط الجامعة ناتج من ضعف أنظمتها وآلية عملها، ومن هنا سقطت أمام
هذه الأزمة، وسيستمر سقوطها حتى يتم علاجها بما يكفل تحقيق الأهداف المرجوة
منها لمصالح الأمة جمعاء.
ومما يؤسف له أن تركيا البلد الإسلامي وفي فترة حكم (التيار الإسلامي)
فتحت أجواءها وأراضيها لمعاونة أمريكا في غزوها لشمال العراق بدعوى مراعاة
مصالحها المادية المحدودة بالرغم من الرفض للأغلبية البرلمانية لهذا التوجه
الانهزامي؛ أليس هذا سقوط؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
* ثالثاً: سقوط الإعلام الغربي:
بالرغم من أن الديمقراطية الغربية قد أعطت الإعلام حقه في النشر بالأسلوب
الموضوعي والمحايد بين المتحاربين إلا أنه وبعد حرب فيتنام وحرب الخليج الثانية
حصل نوع من التحفظ لدى الأمريكيين بأهمية أن يكون الإعلام الحربي تابعاً
جنرالات الحروب وكذلك حينما قامت أمريكا بهجمات بربرية، وعدم احترام لحقوق
الإنسان ضربت أمريكا قناة الجزيرة في حرب أفغانستان 2001م، وحينما قامت
بعض القنوات بنشر وبث الحرب الهمجية ضد الإنسان وحقوقه ضربت كلاً من
قناتي (الجزيرة) و (أبو ظبي) وتم قتل العديد من المراسلين منهم 3 صحفيين
من بينهم مراسل الجزيرة (طارق أيوب) ؛ إضافة إلى مراسل لوكالة (رويتر)
والمراسل الثالث (مراسل التلفزيون الأسباني) ومع اعتذار المتحدث العسكري
الأمريكي عما حصل إلا أنه قال جواباً على سؤال: هل تضمن أمريكا حياة
المراسلين وعدم تكرار ما حدث؟ قال المتحدث بكل صفاقة إنهم لا يضمنون حياة
إلا من كان تحت مظلتهم! ولذلك يقول (نعوم تشومسكي) في كتابه: (السيطرة
على وسائل الإعلام) : «إن مالكي الشركات الكبرى والصغرى الحاكمة
يستخدمون الدعاية والإعلام لتوجيه الرأي العام وتحقيق أغراضهم التي تتعارض مع
المصلحة العامة للشعب، وتخدم قلة ضئيلة» .
العجيب أن أمريكا أخذت على العراق بثه لصور بعض الأسرى الأمريكيين
بدعوى أن ذلك مخالفة لاتفاقية جنيف التي تمنع مثل هذا التصرف مع الأسرى؛
بينما هي قبل ذلك وبعده تنقل صوراً للأسرى العراقيين في أوضاع غير إنسانية،
بل أسرت الآلاف من المدنيين بزعم أنهم عسكريون في ثياب مدنية.
والمشكلة التي دفعت لهذه الأعمال غير الأخلاقية هو الخوف من نتائج البث
على الرأي العام الغربي، وكأن حقوق الإنسان ليست إلا للأمريكيين فقط.
والعجيب أن محطة (NBC) الأمريكية التي تدعي الموضوعية والحرية
وحماية حقوق العاملين فيها فصلت مراسلها (بيترارنت) في العراق بعد إجرائه
حواراً مع الرئيس صدام؛ فأين الديمقراطية المزعومة؟ وأين الحرية التي
يجعجعون بها؟ وما ذاك إلا لخوفهم من الحقيقة؛ ومن هنا كان السقوط للإعلام
الغربي في هذه الحرب.
* رابعاً: سقوط الاتجاهات العلمانية:
العلمانية نهج يفصل الدين عن الحياة، وليس الدين عن الدولة فقط كما يتوهم
بعضهم، وهي وإن كانت علاجاً للمجتمع الغربي إبَّان تسلُّط الكنيسة إلا أنها بالنسبة
للدول الإسلامية أصبحت داءً وعامل فرقة وشقاق بين فئات المجتمعات المسلمة،
وكانت العلمانية نهج الكثير من الدول الإسلامية التي أرادت تنحية الإسلام وشريعته
الغراء عن الحكم؛ فلا هي التي أخذت بالإسلام، ولا هي التي طبقت العلمانية
الغربية بأصولها المعروفة مما يخفف بعض غلوائها وعدائها للإسلام ودعاته،
فكانت القومية أول اتجاه أشاعه النصارى في ديار العرب وتبناه تلاميذهم من
المسلمين بدعوى وحدة الأمة العربية وطرد الاستعمار، فلم تتحد الأمة وبقي
الاستعمار حاكماً في قوانينه وأيديولوجياته.
وكان (البعث) إحدى الدعوات القومية التي نشأت باعتبارها حزباً حاكماً
بإجماع بعض الأحزاب القومية والاشتراكية، فنشأ من اتحادها (حزب البعث
العربي الاشتراكي عام 1953م وكان أبرز مؤسسيه النصراني الشهير (ميشيل
عفلق) ومثله من القوميين العرب في سوريا (صلاح الدين البيطار) و (أكرم
الحوراني) ، و (زكي الأرسوزي) وغيرهم ممن جلبوا على الأمة العربية الهزائم
والشقاق فيما بينها.
وقامت أيديولوجية البعث على شعار: (وحدة حرية اشتراكية) وصرختهم
المشهورة: (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) مع الدعوة إلى تحرير الدول
العربية المستعمَرة، وأن الاشتراكية ضرورة منبثقة بزعمهم من صميم القومية
العربية، وأن نظام الحكم برلماني دستوري مع كون البناء التنظيمي للحزب على
نسق التنظيم الشيوعي من حيث البنية المركزية والهيمنة.
وانتشر الحزب في العراق ولبنان والأردن وجزيرة العرب نتيجة تأثر
الطلبة الدارسين آنذاك بتلك الأفكار. فأصبح للبعث بناء قطري وقومي؛ لكنه انشق
عام 1970م، باختلاف النظامين العراقي والسوري بقيام الحرب العراقية الإيرانية،
وما زال هذا الحزب العلماني لم يزد الأمة إلا وهناً، ولم يؤدِّ إلا إلى الانهزامية
والدمار للأمة بتأييده في العراق لمغامرات الحاكم المطلق صدام حسين الذي تولى
قيادة الحرب والدولة، فقاد الأمة إلى مغامرات طائشة لا مسوِّغ لها قادها وحزبه إلى
النهاية المأساوية الأخيرة؛ وهكذا فإن هذه الاتجاهات العلمانية التي حاربت الإسلام
ودعاته، ووقفت منهم موقفاً عدائياً لم تستفد الأمة منها إلا الهزائم المتوالية؛ ولذلك
سقطت؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
* خامساً: سقوط المذهبية والقومية:
عرفنا كيف أن دعوى القومية التي طالما تحدَّث عنها الإعلام العربي ودعا لها
لم يعد لها أي قيمة حينما يخالفون مقتضاها بالتواطؤ ضد بعضهم. وعرفنا كيف
سقطت القومية (الكردية) بتواطئهم ضد إخوانهم العرب العراقيين.
نعم! كان للأكراد مع النظام العراقي مآسٍ واضطهادات، لكن المسلم جدير
بأن يتسامى على جراحه، وأن يعلو على ما يعانيه من مآسٍ ونكبات؛ لأن من
يتعاون مع العدو ضد إخوانه المسلمين، ويكون درعاً يحارب دونهم فتلك والله
المصيبة؛ وذلك والله هو السقوط.
ومن العقوبات للأكراد بالرغم مما قدموه للأمريكان مطالبة الأتراك بطردهم
من المناطق التي دخلوها في شمال العراق بعد أن أسهموا في سقوطها، وخرجوا
منها صاغرين بعد أن ساهم بعضهم مثل غيرهم في تصرفات رعناء لا تمت للخلق
الإسلامي بصلة من السرقات التي شاهدها العالم في بث مباشر من كركوك
والموصل؛ فهذه هي الأخلاق القومية ومن هنا جاء السقوط.
أما المذهبية فتمثلت في الزعيم الشيعي (عبد المجيد الخوئي) الذي جاء على
ظهر دبابة إنجليزية ليحرض قومه الشيعة على عدم مقاومة المستعمرين ونقل عن
(آية الله السيستاني) فتوى بذلك كما جاء في حوار معه عبر (BBC) بعد وصوله
البصرة.
ولما خشي القوم أن يتذكر الناس أسلوب ابن العلقمي في إدخال المغول
استنكروا الفتوى من خارج العراق وأنها منحولة على (السيستاني) ثم نقل عنه
فتوى مع آخرين بخلاف ما قيل.
ولا ندري هل: (الخوئي) كاذب أم صادق؟ لكن هل يجرؤ الخوئي على
الكذب على السيستاني؟ هذا هو السؤال، ثم إن الخوئي تمت تصفيته في النجف
على أيدي مجهولين، ولعل ذلك راحة له عن هذا الجواب المحرج له والواضح
للكثيرين.
نعم! سقط النظام العراقي القمعي، لكن هل تعتبر الأمة شعوباً وحكاماً من
هذا السقوط المخزي؟ هذا ما نرجوه فيتم تلافي المآخذ والأخطاء التي يرتكبونها في
حق الله، وفي حق شعوبهم، وهل يعيدون النظر في وحدتهم وتعاونهم وعودتهم
إخواناً متوادين متحابين متناصرين، هذا ما نرجوه؟
* وأخيراً: الأخلاق تسقط:
بعد سقوط النظام العراقي هرب العسكر ورجال الأمن، وأصبح الأمن منفلتاً،
فظهرت عصابات قامت بالنهب والسلب من كافة القوميات التي سرقت الدور
الحكومية والمؤسسات الأهلية.
ومما يؤسف له أن النهب وصل إلى بيوت المواطنين، والأشد أسفاً أننا قرأنا
أن من هؤلاء الحرامية من ألقى بالمرضى على الأرض، وسرق الأسرَّة في
المستشفيات؛ وهذا بلا شك سقوط أخلاقي لا يرضاه مسلم لمنافاته لأبسط القواعد
الشرعية.
والغريب أن القوات الأمريكية لم تحرك ساكناً يمنع مظاهر السرقة والعدوان
على المراكز الحكومية والأهلية، وكان اللصوص يمرون بالمسروقات أمام الجنود
الأمريكيين وهم يتفرجون، بل ظهر تلفزيونياً أن الجيش الأمريكي يحرض الشعب
على السرقة، وقال أحد أساتذة جامعة بغداد في لقاء مع إذاعة (C. B. M) إن
هؤلاء اللصوص هم من دربتهم أمريكا في المجر ليؤكدوا أهمية وجود أمريكا وبقائها
بالعراق، وهم من حرض الرعاع على ما شاهدناه من سرقات، وكأن لسان حالهم
يقول: هذا هو الشعب العراقي المتخلف، وها نحن جئنا للأخذ بيده وتعليمه الحرية
والديمقراطية والنظام؛ مع العلم أن النظام الدولي قد فرض على الدول المحتلة حفظ
الأمن العام، وإيقاف الفوضى؛ ولكن ذلك لم يحصل لأنه مقصود.
وقفة أخيرة: أبلغ كلمة قيلت بعد سقوط النظام البعثي قالها مندوبه في هيئة
الأمم المتحدة، الدكتور محمد الدوري، حينما قال للصحفيين: (لقد انتهت اللعبة) !!
نسأل الله أن يلطف بالشعب العراقي، وأن يأخذ بيده، وأن يعوضه عما فقده
في عصور الظلام خيراً.(187/82)
المسلمون والعالم
أثر حرب العراق في النظام الدولي
حسن الرشيدي
(إن الدول الديمقراطية الحرة التي تقود الحرب ضد العراق هي أمل العالم
في تأسيس نظام عالمي جديد فاعل) .
هذه افتتاحية مقال كتبه أبرز عرَّابي الإدارة الأميركية الحالية، وهو ريتشارد
بيرل رئيس مجلس سياسات الدفاع في وزارة العدل الأميركية قبل استقالته، والذي
أكده في صحيفة ناشيونال بوست الكندية قبل استقالته.
وانتقد بيرل في مقاله من يعتقدون بأن النظام العالمي يمكن إنشاؤه فقط من
خلال منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي؛ مشيراً إلى أن تصرفات دول مثل
فرنسا والصين وروسيا من خلال الأمم المتحدة هي «أقرب إلى الفوضى وليس
للنظام» ؛ على حد تعبير المسؤول الأميركي المعروف بوصفه أبرز منظري التيار
الجديد المتنامي في الإدارة الأميركية.
ولمحاولة توقع أثر الحرب التي وضعت أوزارها في العراق في النظام الدولي
الراهن؛ لا بد من فهم كينونة النظام الدولي، وتتبع مساره في العالم منذ أن بدأ
الحديث عن ذلك النظام؛ لدراسة العوامل والمتغيرات والسنن والقوانين التي حكمت
هذا النظام منذ بروزه على الساحة الدولية حتى يومنا هذا؛ من أجل فهم عميق،
ومحاولة توقع المتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه في أعقاب الحرب على العراق،
ثم نعرج إلى هذه الحرب وتداعيتها على النظام الدولي.
* تعريف النظام الدولي:
إذا كان علماء السياسة اتفقوا على أن الدولة مجتمع منظم، وأن أهم مظاهر
هذا التنظيم هو وجود سلطة الدولة التي تملك من الأدوات ما يمكنها من فرض
إرادتها على جميع أفراد الدولة في تلك الرقعة الجغرافية التي تشكل حدود الدولة،
ولكنهم اختلفوا في مجتمع الدول والعلاقات بينها.
فبعضهم يقول إن هذه العلاقات لا يحكمها نظام؛ لأن مجتمع الدول بطبيعته
يخلو من ترتيب هرمي للسلطة، ويقوم على مصفوفة أفقية مشكَّلة من وحدات
مستقلة وذات سيادة لا تخضع لأي سلطة أعلى منها، فكل دولة تخول لنفسها الحق
في أن تتصرف كما يحلو لها دون أن تخضع في تصرفاتها هذه إلى أي قواعد
ملزمة، وحتى في حالة وجود تلك القواعد الملزمة فلا توجد سلطة عليا فوق سلطة
الدول تضمن تطبيق هذه القواعد في حال الخروج عليها. وبعبارة أخرى فإن قانون
الغاب هو الذي تخضع له الدول وفق هذه النظرية.
بينما يرى آخرون أن هناك نظاماً يحكم بين الدول، وهو نظام يضم مجموعة
من الوحدات المتفاعلة التي تسمى أمماً أو دولاً، يضاف إليها أحياناً بعض المنظمات
فوق القومية مثل الأمم المتحدة.
ويقول هؤلاء إن النظام الدولي يشتمل على خمسة أبعاد أساسية هي:
- وحدات النظام: وهي الدولة بمفهومها الحديث.
- التفاعل بين هذه الوحدات: مثل الاتصالات، والتجارة والدبلوماسية.
- البيئة الدولية: وهو ذلك الوسط الذي توضع على أساسه السياسة
الخارجية لوحدات النظام الدولي.
- حدود النظام: ويتميز كل نظام دولي بوجود حدود جغرافية وثقافية
واقتصادية؛ تحدد طبيعة النظام وتميزه عن النظم الأخرى.
- هيكل النظام: ويقصد به عناصر القوة داخل وحدات النظام وترتيبها
بالنسبة إلى بعضها.
بتتبع أحوال النظام الدولي وتاريخه في القرون الثلاثة الأخيرة نجد أن الهيمنة
الغربية على العالم تكرست عبر تقاسم القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت أغلب
مناطق العالم الجغرافية؛ لذلك يرتبط النظام الدولي في هذه القرون بالعالم الغربي
وحجم القوى داخله.
وباستعراض تاريخ العلاقات الدولية نجد أن النظام الدولي مر بمحطات رئيسة
أثرت في شكل هذا النظام:
- معاهدة فيينا لسنة 1815م.
- الحرب العالمية الأولى عام 1914م.
- الحرب العالمية الثانية 1945م.
- سقوط الاتحاد السوفييتي.
- أحداث 11 سبتمبر.
* معاهدة فيينا عام 1815م:
كانت هزيمة نابليون مناسبة مهمة لإعادة صياغة الواقع الأوروبي من جديد
على قواعد وأسس تراعي المتغيرات الحاصلة على الأرض، ولذلك تداعت الدول
المنتصرة إلى عقد مؤتمر فيينا الذي أسس لمرحلة جديدة من النظام الدولي. أما
أبرز ما أتت به معاهدة فيينا لسنة 1815م فهو إعادة التوازن في أوروبا عبر إعادة
العروش إلى أصحابها، وتقسيم الأراضي الأوروبية مجدداً. كما تمت إعادة الملكية
إلى بروسيا والنمسا، وتوحيد السويد والنرويج في اتحاد فعلي، وضُمت بلجيكا
إلى هولندا في مملكة قوية بمواجهة فرنسا، وبمقتضاها أزيلت بولندا عن الخريطة
الجغرافية السياسية لأوروبا، وتوزيعها بين روسيا وبروسيا والنمسا، ووضعت
سويسرا في حياد دائم.
كانت الدولة القومية هي العامل الوحيد في السياسة الدولية، ولم تعرف هذه
المرحلة المنظمات الدولية ولا المؤسسات غير القومية مثل الشركات العالمية،
وكانت قوة الدولة مرادفة لقوتها العسكرية.
وكان الموقف الدولي منذ الحروب النابليونية وحتى الحرب العالمية الثانية بيد
بريطانيا تمارس فيه دور الحَكَم، وكان النظام الدولي نظامها تمارس فيه دور الدولة
العالمية؛ بينما كانت الدول الأوروبية تؤدي أدواراً أوروبية أكثر منها عالمية،
حيث كانت بريطانيا تترك للدول الأوروبية أمر إيجاد التوازن في أوروبا؛ بينما
تتفرغ هي بكليتها لبناء إمبراطوريتها الشاسعة المترامية الأطراف، وكانت لا
تتدخل إلا عند تعرض الميزان إلى اختلال بيِّن، حين تكون الحرب وشيكة الوقوع
أو نشبت فعلاً، وكانت تتدخل عندئذ إلى جانب الطرف الأضعف لإعادة التوازن،
أو تتدخل إذا تعرضت الأراضي المنخفضة للاجتياح أو خطر الاجتياح من قِبَل دولة
أوروبية طامعة في السيطرة على أوروبا، ولم تكن تقيم الأحلاف مع أحد في أوروبا
إلا عند التدخل. ولما كانت قوة بريطانيا في أسطولها فقد كانت تفتش عن حليف
أوروبي يقدم القوات البرية. كانت بريطانيا تعتمد تقليدياً على النمسا في حفظ
التوازن في أوروبا لتخليها عن حلم السيطرة على أوروبا، ولأنها كانت تعمل على
الحفاظ على الوضع الراهن لتحافظ على تماسك إمبراطوريتها المتنافرة. ولما
أصاب النمسا الضعف رحبت بريطانيا بألمانيا في بادئ الأمر بوصفها قوة من
الدرجة الأولى لتكون دعامة رئيسية لتوازن القوى.
أثبتت هذه المعاهدة أن أي نظام عالمي هو نتاج المنتصر في الحرب؛ كما
تثبت أن أياً من الأنظمة العالمية التي مرت عبر التاريخ لم تدم، بل كانت عرضة
لتغيير مستمر؛ وبطبيعة الأمر فإن ما يسود اليوم هو متغير غداً.
إن هذه المعاهدة وما أعقبها من معاهدات لم تتح للنظام الذي أنشأته أن يدوم
طويلاً؛ فسرعان ما انقلب موقعو المعاهدات على تواقيعهم، وجرت أوسع عمليات
التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وسادت المصالح الخاصة مكان التعاون،
والأطماع الإقليمية وحروبها مكان حل النزاعات بالطرق السلمية.
باختصار: لم تنتج الدول الأوروبية نظاماً عالمياً إلا وبدأت هي نفسها في
الاتجاه الذي سيلغيه مجدداً؛ وهذا ما كان.
* الحرب العالمية الأولى عام 1914م:
كان السبب الرئيس في اندلاع هذه الحرب هو أن النظام الدولي السابق لم يعد
صالحاً؛ فألمانيا والنمسا اللتان اختارتهما بريطانيا ذراعاً لها لتنفيذ طموحاتها البرية
في أوروبا قد بدأتا في التمرد؛ وخاصة أن ألمانيا شرعت في تكوين إمبراطورية
استعمارية دفعتها إلى بناء أسطول بحري عسكري لإجبار بريطانيا على إعادة
التقسيم. فتكتلت الدول، وتكونت الأحلاف كحلف الوفاق الثلاثي الذي يضم:
(فرنسا، بريطانيا، روسيا) الموجه ضد دول الحلف الثلاثي المتكون من (ألمانيا،
النمسا، وإيطاليا) .
كان السبب المباشر - وهو بالمناسبة كأي ذريعة تأخذها القوى الكبرى لبدء
الصراع سواء كان سياسياً أو عسكرياً في تاريخ النظام الدولي - اغتيال ولي عهد
النمسا في صربيا بمدينة سراييفو؛ مما دفع النمسا لتقديم مطالب لصربيا وهي: حل
الجمعيات السرية، والمشاركة في محاكمة المتهمين.
أمام رفض صربيا لهذه المطالب أعلنت النمسا الحرب عليها بمساندة (ألمانيا،
والمجر، وتركيا) ، وعرف هذا التكتل بـ (المحور) ؛ ضد (الحلفاء) وهم
(فرنسا، بريطانيا، روسيا، بلجيكا) .
وكعادة النظام الدولي الذي يقوم على شريعة المنتصرين؛ فقد تمت في أعقابه
تغيرات جغرافية قسرية يمكن اعتبارها مسؤولة عن غالبية الصراعات الراهنة من
تقسيم دول البلقان الذي خلق تداخلاً قابلاً للانفجار بين دولها، ثم خصوصاً الدولة
العربية وتفتيتها بين اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور؛ وبذلك تم إيجاد جغرافية
سيئة للعالم عن طريق صنعهم لكيانات قابلة للانفجار على شكل حروب صغيرة ذات
ضحايا بشرية بأعداد هائلة.
إن أبرز ما أنجزته الدول المنتصرة محاولة إيجاد نظام دولي على أسس
شرعية وفقاً لمصالحها، فكان تأسيس عصبة الأمم وانضمام العديد من الدول الفاعلة
إليها رغم بقاء الولايات المتحدة خارجها وإعطائها صفة الإشراف على النظام
العالمي؛ إضافة إلى إنشائها ضوابط تحكم العلاقات الدولية.
وعلى الرغم من الآمال الكبيرة التي علقت عليها فإن عصبة الأمم التي أوكل
إليها مهمة الإشراف على النظام العالمي كانت تحمل في طياتها أسباب إخفاقها
وانهيارها لاحقاً؛ فعلى الرغم من المهمة العسيرة التي أنيطت بها لم تُعْطَ
الصلاحيات الكافية لها؛ فإجراءاتها توصيات ليس إلا، وليس بمقدورها فرض أي
قرار تمليه مصلحة النظام العالمي حتى لو كان من منظور الدول المنتصرة.
إضافة إلى ذلك؛ فإن بقاء الولايات المتحدة خارجها وانسحاب ألمانيا منها بعد
دخولها إليها قد ولَّد الانطباع بأن النظام العالمي الذي ساد آنذاك كان في الواقع متكئاً
على قدم عرجاء، وليس بمستطاعه المضي كثيراً.
إن أحد المرتكزات التي قام عليها النظام العالمي آنذاك هو توازن القوى في
عالم متعدد الأقطاب، ومن الطبيعي عند اختلال التوازن أنه سيختل النظام القائم؛
وهذا ما حدث عملياً بعد فترة وجيزة من الزمن، وهو الأمر الذي أسس للحرب
العالمية الثانية.
* الحرب العالمية الثانية عام 1945م:
وكالعادة في تاريخ النظام الدولي؛ برزت عيوب النظام الذي نتج عن الحرب
الأولى مع مرور السنين، وكانت ألمانيا أيضاً هي أبرز الناقمين على نتائج النظام
السابق؛ إذ شتّتت القوميات الألمانية في الدول المحدثة كبولونيا وتشيكوسلوفاكيا،
وعجز الاقتصاد الألماني عن تجاوز مخلّفات الحرب الأولى وتسديد تعويضات
الحرب لفرنسا وإنجلترا؛ كما لم تنل إيطاليا الترضيات التي وُعدت بها في الحرب
الأولى وتجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات. في المقابل تمكنت فرنسا
وإنجلترا من إعادة بناء اقتصادهما، وبدأت الولايات المتحدة في فك عزلتها،
والسعي إلى إيجاد دور عالمي لها في النظام الدولي.
أدت هذه الحرب إلى تراجع القوى الاستعمارية القديمة فرنسا وبريطانيا نتيجة
الانهيار الاقتصادي مقابل تدعيم اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية؛ كما برز
الاتحاد السوفييتي كثاني قوة اقتصادية في العالم، ومن نتائجها الأساسية الاتفاق على
تأسيس هيئة دولية تحل مكان العصبة، وتسند إليها مهام الإشراف على النظام
الدولي المزمع إنشاؤه إن لم نقل فرضه.
وكما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى تداعى المنتصرون ليضعوا
أسساً لنظام عالمي جديد؛ ففي قمة يالطا عام 1945م تم إعادة رسم الخريطة
العالمية وتوزيع مناطق النفوذ بين المنتصرين في الحرب، ثم تحوَّل شكل النظام
الدولي إلى القطبية الثانية بعد تكوين حلف الأطلسي عام 1949م وامتلاك الاتحاد
السوفييتي القنبلة الذرية وتكوين حلف وارسو عام 1955م، وحاول القطبان
الظهور بأن النظام العالمي بعد الحرب العالمية هو برعاية وعناية هيئة الأمم المتحدة
وتحديداً مجلس الأمن الذي أنيط به حماية السلم والأمن الدوليين، بل التدخل
بالطرق العسكرية لفرضه إذا دعت الضرورة إلى ذلك؛ وعلى الرغم من ذلك أي
إظهار الصلاحيات الواسعة لمجلس الأمن إلا أن الأمر لا يعدو كونه صورياً من
الناحية العملية؛ باعتبار أن المسيطر على القرار الفعلي لمجلس الأمن هو الدول
الخمس الكبرى؛ أي أن النظام العالمي في هذه الفترة هو عملياً نتاج هذه القوى
وعلى شاكلة هذه الدول نفسها وقدرتها. كما أن إفساح المجال لكل الدول المستقلة
للدخول في عداد الأمم المتحدة هو في الواقع محاولة إسباغ العالمية على المنظمة
الدولية؛ ومن ثم ربط هذه الدول بمواثيق ومعاهدات من الصعب الإفلات منها
بسهولة، وهذا ما حدث فعلاً عبر شبكة المنظمات والوكالات المتخصصة التابعة
للمنظمة الدولية؛ بحيث باتت جميع الدول المنضمة تحت لواء المنظمة الدولية
أسيرة سياسات النظام العالمي المفروض على الدول الأخرى، والتي لا حول لها
ولا قوة إلا الدخول والمضي فيه؛ بصرف النظر عن بعض الاستثناءات القليلة
والمعزولة عملياً، وظهر أن التوسع القاعدي لعدد الدول في تركيبة النظام العالمي
وتحلُّقها حول الأحلاف وخصوصاً بين المحورين الأساسيين أدى إلى انقسام واضح
على المستوى العقائدي والسياسي والاقتصادي بين الدول، وهو ما انعكس سلباً
على النظام العالمي في ظل الأمم المتحدة، وجعل هذا النظام أداة بيد الدول المؤثرة
فيه من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، كما أن حصر التنافس عملياً بين واشنطن
وموسكو آنذاك على قيادة النظام العالمي أدى عملياً إلى تهميش كل القوى الواعدة
للمنافسة معهما، وبذلك ظلت جميع الأطراف الأخرى دولاً تابعة بصرف النظر عن
قوتها وقدرتها التي تبدو بأنها لا يستهان بها؛ كنموذج (اليابان، وألمانيا،
وإيطاليا) ، ومجموعة الدول الأوروبية (كفرنسا وبريطانيا شركاء الحلفاء في
الحرب) .
* سقوط الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج عام 1990م:
منذ منتصف الثمانينيات بدأ التأكيد أن شيئاً ما سيحل محل النظام العالمي القائم،
وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى العديد من الأسباب المتعلقة بوضع الاتحاد
السوفييتي الداخلي من جهة، وأزمة النظام الغربي وتطوره المطرد والمتسارع،
والسباق على التطور التكنولوجي للأغراض الاستراتيجية ذات الصلة بالهيمنة
الدولية.
لقد اتجه النظام الدولي خلال هذه المرحلة نحو أحادية القطبية بعد انهيار
الاتحاد السوفييتي وظهور الولايات المتحدة بوصفها قائدة للمعسكر الغربي منفردة
بقيادة العالم، وتمدد دورها وهيمنتها على الأمم المتحدة. وقد شهدت هذه المرحلة
زيادة عدد الدول نتيجة الانقسامات والانشقاقات التي حدثت في كثير من الدول.
وفي الوقت نفسه يشير النظام خلال هذه المرحلة إلى أنواع تفاعلات جديدة تركز
على الجوانب الثقافية وتوزيع مصادر القوة والنفوذ بصورة جديدة تعطي دوراً أكبر
للمنظمات غير الحكومية؛ مما جعل بعض المحللين يطلق عليه اسم النظام العالمي
الجديد بدلاً من النظام الدولي الجديد.
وكما هو الحال في أعقاب انهيار نظام دولي ونشوء نظام آخر؛ قامت حرب
جديدة، وتم اتخاذ أسباب مباشرة لها كتهديد عراقي للنظام الدولي، ولكن في واقع
الحال كما هو في المرات السابقة؛ فإن الأسباب الحقيقية كانت تكمن في رغبة القوة
الدولية المهيمنة في فرض نظام جديد يقضي على عيوب النظام السابق من وجهة
نظرها، ويغير من المعادلات التي تحد من نفوذها وهيمنتها بما يناسب حجم قوتها
بوصفها قوة أولى ومهيمنة على العالم.
وقد حدد بوش الأب في خطابه الشهير أمام الكونجرس في 14/4/1991م
المبادئ العامة التي ستحكم النظام العالمي، فكان مما قاله: «كانت الولايات
المتحدة على مدى قرنين من الزمان هي المَثَلُ الأعلى للعالم في الحرية والديمقراطية،
وقد حملت أجيال متعددة راية النضال للحفاظ على الحرية وتعظيم المكاسب التي
حققتها، واليوم وفي عالم يتحول بسرعة شديدة؛ فإن زعامة الولايات المتحدة لا
غنى عنها. لقد أنقذنا أوروبا، وتغلبنا على الشلل، ووصلنا إلى القمر، وأضأنا
العالم بثقافتنا، والآن ونحن على مشارف قرن جديد نسأل: لمن يُنسب هذا العصر؟!
إنني أؤكد أنه سيكون عصراً أمريكياً آخر» .
كانت من أبرز ملامح هذا العصر الأمريكي مشاركة واشنطن في خلق البؤر
المناسبة للصراعات الإقليمية، ومن ثم التدخل في إدارتها وصولاً إلى فرض
الحلول المناسبة لها من الوجهة الأمريكية البحتة؛ كما طبقت وفرضت أساليب
جديدة لفرض مشيئة منطق القوة في السياسة الدولية؛ كما جرى تهميش جميع القوى
الأخرى في العالم وعزلها عملياً عن مواقع الحل والربط، وربطها بأزمات داخلية
اقتصادية مالية ذات صفة وخلفيات سياسية، وهو الأمر الذي أدى إلى غياب تام
لتوازن القوى العالمي، وابتدعت مفهومات ومصطلحات ظاهرها مختلف عن
خلفياتها ومضمونها، وسوغت أعمالاً بحجج واهية ليس لها أي علاقة لا من قريب
ولا من بعيد بالقضايا التي تطرح من أجلها كنموذج (العقوبات الذكية) .
وفي الجانب الاقتصادي كان الإعلان رسمياً عن جذوة النصر للرأسمالية
الحديثة القادرة على عولمة ما يخطر ولا يخطر على البال؛ بدءاً من حرية التجارة
العالمية، وإلغاء الحواجز الجمركية وفتح الأسواق المالية دون قيد داخلي؛ مروراً
بالتدخل في السياسات العامة للدول عبر ظاهرة المديونية، وسياسات التخصيصية،
وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المؤسسات المالية ذات الهوية والمنشأ
الرأسماليين، وصولاً إلى تطويع دول العالم وفقاً لمنظور معين من التدخل من
الصعب تخطيه أو تجاهله؛ بدءاً من عالم الاتصالات والثقافة، ووصولاً إلى سلوك
البشر وأمزجتهم وتفكيرهم.
إن مجمل تلك المظاهر قد ساعدت في تأجيج العداء للولايات المتحدة الأمريكية
بشكل غير مسبوق، وجعلها في الموقع المسؤول عما جرى في ظل قيادتها للعالم.
* أحداث 11 سبتمبر 2001م:
قبل أحداث 11 سبتمبر 2001م وجدت الولايات المتحدة نفسها في مأزق
كبير، فكثير من القوى العالمية مثل أوروبا والصين وروسيا، وحتى الكيانات
الضعيفة؛ بدأت في رفض الهيمنة الأمريكية على العالم، فقد اعتادت معظم
وسائل الإعلام الأوروبية كما اعتاد العديد من الزعماء على اتهام واشنطن بالأحادية
غير المكترثة، وكانت أميركا على وشك تعريض علاقاتها مع روسيا للخطر
بسبب الدفاع الصاروخي؛ كما اتجه بعض زعماء أوروبا نحو إثارة علامات
الاستفهام بشأن أهمية الأمن المشترك في ظل عالم ما بعد الحرب الباردة، وبات
جيش أوروبا على وشك أن يصبح خارج إطار حلف الناتو يقوم بمهام غامضة
حددت أساساً وفقاً لسياسة الابتعاد السياسي عن الولايات المتحدة، وأخذت تسلك
مسلكاً وتشق عصا الطاعة على القطب الأمريكي؛ كما أن كثيراً من المناطق
الجغرافية في العالم أصبحت خارج السيطرة.
وهناك عامل كبير أخذ في البروز والتشكل، وهو سيطرة اليمين البروتستانتي
على السياسة الأمريكية، وهذا الفريق له أجندته الخاصة في العالم وقيمه ومفهوماته،
وكما قال المستشار الألماني الأسبق هيلموت شميث بالحرف الواحد: «إن سطوة
المثقفين الإمبرياليين من غلاة القوميين المتمركزين حول أنفسهم في واشنطن الآن
أقوى من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، وسوف تكون لهذه النزعة
الأحادية الانفرادية الكفة العليا في أمريكا لعدة عقود مقبلة» .
وكما هو في السابق فقد تم اتخاذ حادث ضرب برجي نيويورك وتفجير
البنتاجون ذريعة لشن حرب تفرض فيها الولايات المتحدة مفردات جديدة لنظام
عالمي جديد يلبي المطالب الأمريكية في الهيمنة والنفوذ، فانهالت العروض
الأوروبية بشأن الانضمام للحملة الدبلوماسية والعسكرية الأميركية ضد الإرهاب؛
كما أن روسيا أصبحت شريكاً في الحملة ضد الإرهاب، ووفرت الصين معلومات،
كما أن العلاقات مع الهند نمت بشكل أفضل على الرغم من اعتماد أميركا على
القواعد الباكستانية في الحرب ضد أفغانستان، وقامت الولايات المتحدة بخطوات
إيجابية تجاه إيران، كما أن الدولتين اللتين تعرضتا لهزيمة خلال الحرب العالمية
الثانية (ألمانيا واليابان) تخلتا عن المعوقات الداخلية السابقة؛ إذ بعثت ألمانيا
بقواتها متخطية حدود حلف الناتو، ونشرت اليابان سفناً في المحيط الهندي بعيداً
عن مياهها الإقليمية؛ لا شيء من هذه الخطوات كان متوقعاً قبل ستة أشهر مضت
من الحادث.
باختصار أدى العدوان على أميركا إلى إقناع الدول الكبرى بأهمية الدور
الأميركي، ونتيجة لذلك فإن الولايات المتحدة وللمرة الأولى خلال نصف قرن لم
تعد تواجه خصماً استراتيجياً أو أي بلد وحيداً أو متحالفاً يستطيع أن يصبح كذلك
على الأقل خلال العقد المقبل، كما لم تعد الدول الكبرى الأخرى تنظر إلى أمريكا
على أنها تشكل تهديداً استراتيجياً، والخطر الذي يتعرض له جميعهم لا يأتي عبر
الحدود، وإنما من خلايا إرهابية مزروعة داخل بلدانهم أو من النزاعات بين قوى
عسكرية ثانوية.
لقد أدى يوم الحادي عشر من سبتمبر إلى إقناع أوروبا بأنها لا تمتلك وسائل
الانتقام من هجمات مشابهة، وبأن الحاجة لعلاقات أمنية عبر المحيط الأطلسي تظل
قائمة؛ كما أن التحسن الواثق للعلاقات الروسية الأميركية يستبعد الحاجة إلى دور
الوساطة المبكر بين روسيا وأميركا، والذي حاول بعض قادة أوروبا القيام به؛
ولهذه الأسباب تبنَّى مجلس حلف الناتو ولأول مرة في تاريخ الحلف خلال ثمانٍ
وأربعين ساعة من الهجمات الإرهابية طبقاً للمادة الخامسة من معاهدة الحلف التي
تسمح بالقيام بإجراءات دفاعية مشتركة، وعكست الدبلوماسية المشتركة التي برزت
تأكيداً أكبر على التعاون الثنائي مع واشنطن؛ انطلاقاً من أسس وطنية وضمن
إطار شمال الأطلسي بدلاً من هيئات الاتحاد الأوروبي، وقد دعمت دبلوماسية
التحالف الفطنة التي اتبعتها إدارة الرئيس بوش بقوة هذه العملية.
وكما قال أحد خبراء العلاقات الدولية: لو لم توجد أحداث 11 سبتمبر
لأوجدتها أمريكا.
* اجتياح العراق 2003م:
لقد تميز هيكل النظم الدولية كما مر بنا باستعراض المراحل السابقة بأنه يعبر
عن مجموعة من الدول الكبرى؛ بحيث يمكن أن تكون أحدها أقوى من الجميع،
ولكن هي في محل قيادة لهم، وليس تسلطاً وتجبراً عليهم وتهميشاً لهم، وهذا الدور
مارسته بريطانيا في كثير من مراحل النظام الدولي، ولكن كان بجانبها قوى أخرى
كان لها رأيها النافذ والمتحكم أيضاً كفرنسا، والنمسا، وألمانيا، وروسيا، وأمريكا،
في مراحل مختلفة، وتميزت هذه النظم بأنه عندما تريد دولة أو تحاول حتى
الانفراد بالهيمنة؛ فسرعان ما تندلع الحرب لتعيد التوازن أو شبه التوازن مرة
أخرى، ولكن في النظام الدولي الجديد بدأت أمريكا في الشروع بالانفراد الذي يعني
إخضاع الآخرين وعدم السماح بنفوذ لهم في هيكل النظام الدولي، وكان من أبرز
مظاهر هذا الطغيان والتجبر:
- جعل أمريكا مركز العلاقات الدولية: فقد بدأت الولايات المتحدة محاولة
إخضاع جميع التفاعلات الدولية لأسلوب أنها لا بد أن تمر بالمركز. وإذا لاحظنا
في السنتين أو السنوات الثلاث الأخيرة فسنجد أن هناك أكثر من محاولة، وكل
شيء في العالم لا يمر إلا عن طريقها: الصراع العربي الإسرائيلي، كوسوفا
البلقان، وأصبحت أمريكا هي المركز الذي يجب أن تمر عبره جميع التفاعلات،
وليس لبقية القوى في هيكل النظام الدولي نصيب.
- التدخل في العلاقات الإقليمية والثنائية: حتى العلاقات الأخرى الصغيرة؛
ولكن أقل من العلاقات السابقة على سبيل المثال: روسيا واتفاقها مع إيران؛
فالمفروض أن هذا بعيد عن أمريكا، ولكن اتفاقية مع إيران يجب أن يكون
للأمريكان دور فيها، ولذلك كل المحاولات والاتفاقيات نجدهم موجودين فيها،
ويطلبون من الروس شروطاً؛ فلا يريدون لشيء أن يحدث إلا من خلالهم.
- إخضاع حكام العالم: حقن العالم بشعور أن حكامه ليسوا أكثر من مجرد
حكام محليات، وظلت الولايات المتحدة تزيد من هذه الفجوة، وتحكمت في أشياء
كثيرة منها المعونات الاقتصادية والعسكرية والتجارة الخارجية، والبيع والشراء،
وأصبح الحكام مكلفين؛ هذا يعمل هذا، والآخر يعمل هذا، ومن ثم أصبح الحكام
لهذه الدرجة يخدمون هذا النظام الدولي الأمريكي.
ومن ثم بدأ التململ يحدث في النظام الدولي، ومن مظاهره الانقسام الحاصل
في الجسد الأوروبي، وبروز ما يسمى بالمحور الفرنسي الألماني ضد الولايات
المتحدة يؤكد مدى رفض القوى الدولية واستنكارها للغطرسة الأميركية، ومحاولة
واشنطن فرض هيمنتها الكونية، وإلغاء دور الآخرين وإزاحتهم من المشهد الدولي
كلاعبين أساسيين، وهو تأكيد أيضاً لواشنطن بأن الدول الأوروبية ليست تابعة
للولايات المتحدة، وأن لها مصالح في بقاع العالم المختلفة ينبغي إدراكها ومراعاتها.
والواضح أن جبهة الرفض العالمية للحرب تتسع شعبياً ورسمياً؛ إذ انضمت
(روسيا والصين) إلى (باريس وبون) في المطالبة باحترام الشرعية الدولية،
والتأكيد على الحل السلمي، وإعطاء مهلة أكبر لفرق التفتيش لممارسة مهامها.
لقد بدأ القلق يتنامى داخل أوروبا - بشكل عام - وفرنسا وألمانيا على وجه
الخصوص؛ عندما أعلنت إدارة بوش الابن عن استراتيجية الأمن القومي الأميركي
الجديدة، وتبني مفهوم الضربات الاستباقية، وفطنت أوروبا إلى أن العقيدة الأمنية
الأميركية تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الأحادية خلال القرن الـ 21 ليكون قرناً
أميركياً، حتى لو أدى ذلك إلى وأد نمو القوة الأوروبية المستقلة على الصعيد
الدفاعي، ويعني ذلك أول ما يعني تهميش كل من فرنسا وألمانيا وقطع الطريق
على تطوير الدفاع الأوروبي المستقل؛ أي أن مصلحة الولايات المتحدة تتمثل في
نكوص الأوروبيين بقيادة فرنسية ألمانية عن الاضطلاع ببناء قوة عسكرية أوروبية
قادرة على توفير غطاء مستقل لأمن القارة بعيداً عن الغطاء الأطلسي.
وبذلك بدا النظام الدولي السائد منذ الحرب العالمية الثانية لا يعبر حقيقة عن
هيكل النظام الدولي، وظهر ما يشبه الصراع بين قوة تحاول تحطيمه وصياغة
نظام جديد يتفق مع إمكانيتها وطموحها، وبين قوى تحاول الاحتفاظ به والتشبث
بقواعد قديمة تحفظ لها مكانتها في النظام الدولي؛ لذلك رجعت الإدارة الأمريكية
للأسلوب التقليدي في تغيير النظام الدولي وهو افتعال حرب تفرض من خلالها
نظامها الدولي الذي تريده، ولجأ بوش ومعه إدارته إلى حرب العراق مرة أخرى
نتيجة عدة اعتبارات معينة ليتم عن طريقها هيكلة النظام الدولي.
إن الحرب التي دارت في ربوع العراق لهي مفصل مهم لا يختلف عن
مفاصل تاريخ النظام الدولي كمعاهدة فيينا، أو الحربين العالميتين الأولى والثانية،
وحرب الخليج الأولى، وأحداث 11 سبتمبر؛ حيث إن نتيجتها سيتوقف عليها
كذلك تغيير كبير في النظام الدولي.
وخروج أمريكا منتصرة سيفرض نظاماً جديداً في خصائصه كما أسلفنا سابقاً،
وكما توقع مستشار ألمانيا جيرهارد شرودر؛ أن يقرر الغزو الأمريكي للعراق
مستقبل العالم لمدة خمس عشرة أو عشرين سنة؛ في انتظار القوة التي هي خير أمة
أخرجت للناس كي تتبوأ قيادة العالم مرة أخرى.(187/88)
المسلمون والعالم
موقع السودان
على خريطة الحرب الأنجلوساكسونية
ضد الإسلام
مدثر أحمد إسماعيل [*]
في كلمة عابرة، ولكنها خطيرة في مضمونها، قال عمرو موسى الأمين العام
للجامعة العربية في كلمته أمام مؤتمر القمة العربي الأخير بالقاهرة: (ما يجري في
السودان لا يقل خطورة عما يجري في العراق) ، ويبدو أن هذا الكلام صحيح إلى
حد كبير؛ في ضوء تحليل ما يجري في السودان من تواطؤ مريب بين نصارى
أمريكا ونصارى السودان.
وانطلاقاً من قوله تعالى: [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ] (آل عمران: 118) ؛ حقيق على كل مسلم يقرأ كتاب الله ويعيه ويفهمه
أن يربط الأحداث الجارية في واقع الأمة الإسلامية على وجه العموم، والعربية
على وجه الخصوص بتلك الآيات القرآنية المحكمة؛ ليبني عقيدة وتصوراً ومنهاجاً
تنضبط به التفاعلات والمواقف مع الأحداث بضابط الشرع، فإن لم يكن كذلك؛ فلا
أقل من أن يضع الآيات نصب عينيه وهو ينظر إلى سياسات العدو من حوله، فقد
بات واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار أن أعداء الدين والملة والأمة إنما
ينطلقون في عدائهم من وراء عقيدة متجذرة في سويداء قلوبهم، تواطؤوا وتواثقوا
أن لا يحيدوا عنها قيد أنملة. فاليهود والنصارى ينطلقون في حربهم ضد الإسلام
وأهله من عقيدة تلقوها من كتبهم المقدسة؛ فنصوص العهد القديم والعهد الجديد هي
التي تنطلق منها أمريكا و (إسرائيل) في تأجيج نيران الحرب وتسعيرها؛ ففي
سفر التكوين - الإصحاح رقم 20: (واشتغل نوح بالفلاحة، وغرس كَرْماً،
وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خيمته، فشاهد حام أبو الكنعانيين عورة أبيه،
فخرج وأخبر أخويه، فأخذ سام ويافث الرداء ومشيا القهقرى إلى داخل الخيمة،
وسترا عورة أبيهما من غير أن يستديرا بوجهيهما نحوه فيبصرا عورته، وعندما
أفاق نوح من سُكره وعلم ما فعله به ابنه الصغير قال: «ليكن كنعان ملعوناً،
وليكن عبد العبيد لإخوانه» ، ثم قال: «تبارك الله إله سام، وليكن كنعان عبداً له،
ليوسع الله ليافث فيسكنه في خيام سام ليكن كنعان عبداً له» ) .
وفي الإصحاح السابع عشر: (أقيم عهدي بيني وبينك وبين نفسك من بعدك
في أجيالهم عهداً أبدياً؛ لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من
بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً) .
وفي الإصحاح الخامس عشر تحدد التوراة المحرَّفة الأرض التي هي ملك
وحق أبدي فتقول: (لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر
الفرات) .
السؤال: من هو كنعان الذي وردت عليه اللعنة، وأكدت عبوديته ثلاثاً؟
والجواب: هو جد العرب وسلالتهم قبل إسماعيل عليه السلام.
للعلم هذا النص هو مفتاح الدراسة في عدد كبير من المدارس الإنجيلية في
الولايات المتحدة الأمريكية، هذه المدارس فيها الملايين من التلاميذ يفتتحون
دراساتهم بهذا الكلام، وتتفتح مداركهم عليه.
إن هذه النصوص التي ألَّفها الرهبان والأحبار فيما كتبوه من عند أنفسهم
وقالوا: هو من عند الله، وما هو من عند الله. ابتداءً بحاخامات اليهود، ومروراً
ببولس (شاؤول) ، ثم الباباوات الضالين المضلين، وانتهاءً بهرتزل ومن كان معه.
هذه النصوص هي التي تتحكم في إدارة الصراع اليهودي النصراني ضد
المسلمين، فالحرب التي دارت رحاها ضد العراق دافعها الأول العقيدة سالفة الذكر،
ومستندهم في ذلك بعض التأويلات لما جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي، ومنامات
الرهبان، وتكهنات الكهان أمثال (نوسترا دامُس) الذي حولت السينما الأمريكية
توقعاته المستقبلية إلى فيلم لاقى رواجاً كبيراً في العقد الماضي، ثم برز الحديث
عنها أيام حرب الخليج بين الغرب والعراق.
أما سياسة أمريكا و (إسرائيل) المستقبلية فيما يتعلق بإفريقيا عموماً،
وبأرض «كوش» خصوصاً (السودان والحبشة) ؛ فتلك أيضاً متلقاة من كتابهم
المقدس؛ فسيناريو الأحداث في جنوب السودان مثلاً إنما هو مأخوذ من العهد القديم
أشعياء، ومزامير داود، وصفنيا. فكل النبوءات تنص على أن أرض «كوش»
يقطنها شعب أجرد طوال القامة، سيبثون الرعب في القاصي والداني، ويقدمون
هدايا إلى الرب القدير في جبل صهيون.. والترجمات التفسيرية لهذه النصوص
تكاد تجمع على أن أرض «كوش» هي أرض السودان، وأن جنود الرب الجُرْد
طوال القامة هم شعب جنوب السودان؛ لذلك يتوالى المدد المادي والمعنوي خفياً
وجلياً لهذا الشعب من قِبَل أمريكا وإسرائيل؛ لتقوى شوكته ويصلب عوده، فيكون
مهيأً عند نزول المسيح.
وإليك بعض تلك النصوص:
في أشعياء (18) : (ويل لأرض حفيف الأجنحة في عبر أنهار كوش التي
تبعث رسلاً في البحر في قوارب البردي السابحة فوق المياه، امضوا أيها الرسل
المسرعون! إلى شعب طوال القامة جرد، إلى شعب بث الرعب في القاصي
والداني، إلى قوم أقوياء وقاهرين تشطر الأنهار أرضهم، يا جميع أهل الأرض
والساكنين فيها! عندما ترتفع راية على الجبال فانظروا، وعندما يدوي نفير بوق
فاسمعوا) .
(وفي ذلك الوقت؛ يقدم الشعب الطويل القامة الأجرد الذي بث الرعب في
القاصي والداني آلامه القوية القاهرة التي تشطر الأنهار أرضها هدايا إلى الرب
القدير في جبل صهيون موضع اسم الرب القدير) .
وفي مزامير داود (مزمور: 68 - 38) : (ستأتيك يا الله! أشراف مصر،
وتسرع كوش بهداياها إليك، انشدوا لله يا ممالك الأرض، رتلوا للرب كل
الترتيل) .
وفي صفنيا (2 - 12) : (وأنتم أيها الكوشيون! تسقطون صرعى سيفي،
ثم يبسط يده نحو الشمال ويبيد آشور، ويجعل نينوى قفراً موحشاً أرضاً قاحلة
كالصحراء، تربض في وسطها القطعان وسائر وحوش البر، ويأوي إلى تيجان
أعمدتها القوق والقنفد، وينعب الغراب....) .
هذه النصوص استغلها المنصِّرون بشكل واسع في تنصير أبناء جنوب
السودان، بل إن المثقفين منهم وفي مقدمتهم (جون جارنج) جعلوها عقيدة
مصيرية يسعون إلى تحقيقها، والتعاون مع من يدين بالصليب وينتظر عودة المسيح.
لقد دفعت تلك النصوص الحكومة الأمريكية الأصولية الإنجيلية؛ ممثلة في
مجلس الكونجرس، إلى إصدار قانون السلام في السودان، والذي أقره الرئيس
الأمريكي جورج بوش الابن، وهو قانون من شأنه أن يؤدي إلى فرض عقوبات
على السودان إذا أخفقت حكومة الخرطوم في تحقيق تقدم لوضع حد للحرب الأهلية
الدائرة منذ تسعة عشر عاماً، أو إذا رأت إدارة الرئيس بوش أن حكومة السودان لا
تتفاوض مع المتمردين (بنيات حسنة) ، أو إذا تبين أنها تعرقل الجهود الإنسانية
في الجنوب.
وبموجب هذا القانون؛ سيكون من حق الحكومة الأمريكية إعادة النظر كل
ستة أشهر فيما إذا كانت الحكومة السودانية والجبهة الشعبية لتحرير السودان
تتفاوضان بنيات حسنة! وإذا قررت الحكومة الأمريكية أن الإدارة السودانية
مقصرة؛ فإنها ستصوِّت ضد منح قروض متعددة الأطراف إلى السودان، وستدرس
تخفيض التمثيل الدبلوماسي، ومحاولة منع حكومة الخرطوم من استخدام عائدات
بيع النفط في شراء الأسلحة، والسعي إلى استصدار قرار من مجلس الأمن بحظر
تصدير السلاح إلى الخرطوم.
كما يخول القانون الإدارة الأمريكية إنفاق 100 مليون دولار سنوياً على مدى
السنوات الثلاث في مساعدات إنسانية للمناطق الواقعة خارج نطاق سيطرة الحكومة.
وقد ردت الحكومة السودانية بغضب على القانون الذي سنَّته الولايات المتحدة،
ففي حديث أدلى به الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير إلى (بي. بي.
سي) أثناء وجوده بسويسرا لحضور منتدى الاستثمار الدولي في أكتوبر 2002م؛
اتهم الكونجرس والإدارة الأمريكية بتشجيع استمرار الحرب في بلاده؛ مشيراً إلى
أن القانون الأخير هو قانون حرب.
وقال إن القانون يحرض المتمردين على الحرب، وأنه ليس متوازناً، بل إنه
ينحاز للمتمردين بتقديم 300 مليون دولار، وعن تفسيره لصدور هذا القانون؛ قال
البشير إن في الولايات المتحدة مجموعات ضغط قوية جداً ومؤثرة، وعلى رأسها
اليمين المسيحي، وهي التي قادت إلى إخراج هذا القانون إلى النور وتمريره على
الكونجرس حتى وصل إلى الرئيس، وهي مجموعات مؤثرة في القرار الأمريكي
والانتخابات التكميلية القادمة في واشنطن.
مما سبق يتضح جلياً أن السياسة الأمريكية تهدف إلى جعل السودان (أرض
كوش) هدفاً عقائدياً لا بد أن تسعى جاهدة إلى تحقيقه وبكل حزم؛ ولذلك فإن هناك
مقترحاً أمريكياً خفي المضمون لإعادة النظر في خريطة السودان عبر نظام
كونفيدرالي يجعل من الجنوب حكومة مستقلة ذات سيادة، ومن الشمال حكومة
مستقلة ذات سيادة، وتجمعهما عاصمة قومية هي (ملكال) .
أما الإجراءات العسكرية التي قامت بها الإدارة الأمريكية في السودان؛ فمنها
الظاهر ومنها الخفي. وأشد الظاهر خطورة إنزال 1500 جندي أمريكي في مناطق
جبال النوبة بحجة حفظ السلام.
بهذه المعطيات وغيرها مما لم نذكره يبدو أن أمريكا أوشكت على التدخل
المباشر في السودان لحسم النزاع الدائر في الجنوب لصالح الشعب الأجرد طوال
القامة، وتهيئته لموعد مجيء المسيح، فيقدم ذلك الشعب هداياه لرب الجنود في
جبل صهيون.
لكن لا يُدرى على وجه التحديد ما هو السيناريو الذي سوف تختلقه أمريكا
للتدخل العسكري! ولا يفوتني أن أنبه لحقيقة مهمة، وهي أن الحكومة السودانية
على علم بخبايا أمريكا تجاه السودان، فنرجو منها أن تتقي الله تعالى وتعد العدة من
منظور شرعي، يدفعها عقيدة راسخة مدارها على قول الله تعالى: [وَلَن تَرْضَى
عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
__________
(*) من الدعاة البارزين في السودان، الخرطوم.(187/94)
المسلمون والعالم
أين الصين في المعركة حول العراق
داخل مجلس الأمن أو على الأرض؟
طلعت رميح [*]
منذ أن اشتدت أزمة العراق، وعبر مراحلها المختلفة التي وصلت إلى حد
الأزمة الدولية، وإلى أن وصلت للعدوان العسكري واحتلال الأرض والسؤال الذي
يتردد هو: أين الصين؟ لقد ظهرت ألمانيا في موقف بالغ القوة في مجابهة
الولايات المتحدة وهي الدولة التي لا تملك مقعداً دائماً في مجلس الأمن.. كما
ظهرت فرنسا كنِدّ في مجلس الأمن وتصاعد موقف روسيا؛ إلا أن الصين وهي
المرشح الأول لمنافسة أمريكا كدولة عظمى ظهرت عبر تلك الأزمة التي عصفت
بالوضع الدولي وتحوَّلت إلى أزمة دولية غير مسبوقة، وعصفت بالأمم المتحدة بعد
أن ضربت بها أمريكا عرض الحائط.. إلا أن الصين لم يأت ذكرها إلا في المرتبة
الرابعة بعد فرنسا وروسيا وألمانيا حتى إنها الدولة الوحيدة خارج أمريكا وبريطانيا
التي لم تهدد باستخدام حق النقض الذي تمتلكه في مجلس الأمن الدولي.
ومن يتابع موقف الصين يلحظ أنه ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك
منظومته والتغير الحاد الذي أصاب وزنه ودوره الدولي ربما تحت ضغط الشعور
«ببرودة» الوضع الدولي بعد انكشاف «الغطاء الموهوم» للعرب دولياً من قِبَل
الاتحاد السوفييتي والمثقفون والكتاب والمفكرون العرب، يستدعون بين الحين
والآخر دوراً للصين ويرجونه، كلما ازداد الشطط الأمريكي في عسكرة السياسة،
وكلما وجهت للأمة ضربة جديدة. وقد ارتكن هذا الاستدعاء للموقف الصيني غالباً
للحديث المتكاثر وهو صحيح في حد ذاته حول الصعود الاقتصادي للصين وإلى
فكرة تعدد الأقطاب في العالم.. أي ظهور أقطاب دولية أخرى في مواجهة الهيمنة
الأمريكية وهو الآخر صحيح في حد ذاته باعتبار الصين هي من أول الدول
المرشحة إلى هذا الدور. غير أن الملاحظ هو أن ثمة هوة واضحة وربما تحير
البعض بشأنها بين هذا الصعود الدولي للصين وبين مواقفها من قضايا الأمة العربية
والإسلامية خلال مواجهاتها المتعددة مع الولايات المتحدة؛ ذلك أنه وبغض النظر
عن أن هذا الاستدعاء لدور الصين في جوهره ناتج عن افتقاد الرؤية بإمكانية قيام
قطب إسلامي دولي، والسعي خلف ذلك الهدف الاستراتيجي بديلاً عن الاستدعاء
الدائم لقوة خارجية للحماية؛ فإن الأهم فيما نحن بصدده هو أن المواقف السياسية
التي صدرت عن الصين حتى الآن تجاه قضايا الأمة جاءت مخيبة للآمال وبما
يتناقض مع التصور السائد بأن صعود الصين لا بد أنه سيأتي من خلال مواجهة
الهيمنة الأمريكية.
ففي مجال المواجهة الدائرة حول العراق يغيب صوت الصين أو يكاد.. حيث
لم تصوِّت الصين ضد أي عدوان عسكري على العراق خلال فرض الولايات
المتحدة وبريطانيا مناطق الحظر الجوي في شمال وجنوب العراق، كما لم تصوت
الصين قبلها ضد أي قرار من القرارات الجائرة المتوالية ضده.. بل كان صوت
فرنسا وروسيا أعلى من صوت الصين على الأقل في أجهزة الإعلام والمواقف
الرسمية المعلنة. حينما احتدمت المواجهة حول العراق في مجلس الأمن الدولي
وتحولت إلى أزمة دولية تهدد الأمم المتحدة، وصارت تقسم العالم بوضع دولي
جديد تماماً غاب صوت الصين، بل جاء ترتيبها في المواجهة مع أمريكا بعد دولة
مثل ألمانيا التي لا تمتلك موقعاً دائماً في مجلس الأمن، وبعد فرنسا الدولة الغربية
حليفة الولايات المتحدة، وبعد روسيا الجريحة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وهو
موقف سبق أن تشابه مع الموقف في مجال القضية الفلسطينية والمواجهة العربية
الإسلامية مع الحلف الصهيوني الأمريكي؛ حيث لم يسمع للصين صوت.. حتى
بشأن المجازر الصهيونية التي جرت وتجري.. فما بالنا إذا كان المطلوب هو
المراهنة أو التمني باستخدام حق الفيتو. هذا في الوقت الذي يعلن بين الحين
والآخر عن صفقات تسليح مع الكيان الصهيوني، أو بمعنى أدق صفقات تستورد
بمقتضاها الصين أسلحة من الكيان الصهيوني وهو الأمر الذي يقوّي اقتصادياته
وصناعته الحربية بشكل خاص، ويعني كذلك درجة من الارتباط العسكري
التسليحي والخططي بين الجيشين الصهيوني والصيني. وحينما اشتعلت وقائع
العدوان الأمريكي ضد أفغانستان على حدود الصين جاء الموقف الصيني مخيباً لكل
المراهنات، حتى إن باكستان التي يحلو للاستراتيجيين دوماً القول بأن قنبلتها
النووية تنطق باللغة الصينية وأن باكستان هي حليف الصين في المنطقة على الأقل
في مواجهة الهند وجدت نفسها في حالة انكشاف استراتيجي في مواجهة الضغوط
الأمريكية والصهيونية والهندية.. وفي اللحظات التي بلغت التهديدات الهندية
ذروتها ضد باكستان.. باستخدام الأسلحة النووية لم تحرك الصين ساكناً؛ حتى إن
التصريحات التي صدرت عقب زيارة الرئيس الباكستاني للصين في ذروة تصاعد
الصراع بشأن موقف الصين جاءت على لسان الرئيس الباكستاني لا على لسان
المسؤولين الصينيين. وإذا عدنا للوراء قليلاً نجد أن الصين وافقت على كل
القرارات الخاصة بتيمور الشرقية ولم تعارضها، ونفس الأمر كان بشأن كل ما
جرى في البوسنة وكوسوفا. وبينما المواقف الصينية على هذا الحال استمرت
الأنباء المتواترة عن سوء أوضاع المسلمين في الصين تراوح مكانها دون تغير.
ويزيد من وطأة هذه المواقف أو مما يصيب التحليلات حول دور صيني في مواجهة
الهيمنة الأمريكية بالاضطراب، هو أن هذه المواقف الضعيفة أو المائعة أو الموافقة
على إجراءات عدائية تجاه القضايا العربية والإسلامية، جاء على نقيضها مواقف
متشددة ضد الولايات المتحدة فيما يخص القضايا المتفجرة في المحيط الحيوي
للصين، حيث كان الموقف الصيني حاسماً وقوياً ولم يقبل المساومة في قضية
طائرة التجسس الأمريكية التي اسقطت داخل الأراضي الصينية كما كان الموقف
الصيني حاسماً في قضية قصف مقر السفارة الصينية في جمهورية الصرب والجبل الأسود؛ كما كان الحال نفسه في قضايا تايوان وهونج كونج الذي وصل حد التهديد باستخدام القوة العسكرية في بعض الأحيان. كيف إذن نفهم مواقف
الصين تجاه قضايا الأمة: العراق، وفلسطين، وأفغانستان؟ هل نعتبر الصين
دولة تكيل بمكيالين هي الأخرى في القضايا الدولية؟ وهل انضمت الصين إلى
الحلف الأمريكي ضد العرب والمسلمين؟ وما الفرق بين المراهنة على موقف
الصين مسانداً لقضايا الأمة في مواجهة الولايات المتحدة وبين القول بأنها قطب
صاعد دولياً في مواجهة الولايات المتحدة؟
* السياسة الدولية في العالم الراهن:
لفهم الوضع الاستراتيجي والسياسة الدولية للصين.. وربما لفهم السياسة
الدولية الراهنة ينبغي إدراك عدة أمور:
أولها: الجديد في أسلوب إدارة الصراعات الدولية.
وثانيها: طبيعة الشبكة العنكبوتية الاقتصادية وتأثيراتها في مجال السياسات
الخارجية للدول في الوضع الدولي الراهن.
وثالثها: العوامل التي تتحدد في إطارها السياسة الخارجية الصينية
وأولوياتها.
وبصدد الجانب الأول فإن ثمة ضرورة لمراجعة المفاهيم القديمة في أساليب
إدارة الصراع الدولي والإمساك بالمتغيرات الجديدة في أساليب الصراع. لقد
سيطرت لغة الحرب على أسلوب إدارة النزاعات الدولية بين الدول المتصارعة
على السوق العالمي ومراكز النفوذ والثروات في العالم الثالث خلال الحقبة الأولى
من مطلع القرن الماضي، فكانت الحربان الأولى والثانية بين الدول المتنافسه في
الغرب. غير أن ظهور الاتحاد السوفييتي والصين بعد الحرب الثانية لم يغير فقط
من التوازنات الدولية وإنما غيَّر كذلك من أساليب إدارة الصراع الدولي نفسها،
فشهدنا ما سمي بالحرب الباردة وحروب الوكالة في العالم الثالث أو بالدقة على
أرض العالم الإسلامي أساساً وعلى جسده الجغرافي والسكاني.
وفي الجانب الثاني فإنه وبانتهاء الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة
بالعالم حدث تغيران متلازمان: الأول هو تحول الولايات المتحدة باتجاه استخدام
القوة العسكرية ضد الدول الأضعف. أما المتغير الثاني فهو بروز دور الولايات
المتحدة في ممارسة الضغوط الاقتصادية على الدول الكبرى وليس الصغرى فقط..
وتلك هي المرحلة التي نعيشها الآن؛ حيث تتقيد أدوار الدول والكتل الدولية بقيود
ثقيلة في الجوانب الاقتصادية والعسكرية. أي أن الصراع الدولي في الفترة الراهنة
ليس صراعاً مفتوحاً وليس بلا حدود، ومن ثم فلا يتوقع مثلاً أن تصل درجة
الصراع بين الدول الكبرى إلى حد التلويح بالقوة وهو الأمر الذي يعني احتمالات
الانزلاق نحو استخدام الأسلحة النووية؛ ذلك أن حالة التداخل الاقتصادي باتت
تشكل مراكز للضغط على القرار في الدول بما يقلل احتمالات التفكير في هذه
الخيارات المدمرة خاصة في المواجهة مع الولايات المتحدة بشكل خاص التي تملك
أكبر فائض من رؤوس الأموال التي تستثمر في الخارج بشكل مخطط ومدروس.
وخلاصة الأمر هنا هو أن حالة الاستدعاء للدور الصيني تأتي ارتباطاً بمفاهيم
وأساليب قديمة لممارسة الصراع الدولي.
وفي الجانب الثالث: فإن العوامل التي تتحدد في إطارها ثوابت السياسة
الخارجية الصينية هي أنها بلد يمثل 20% من سكان العالم؛ ومن ثم فإن الجانب
الاقتصادي السكاني يحتل أهمية بالغة. وإنها بلد يمتلك حتى الوقت الراهن قدرة
نووية رادعة أكثر من امتلاكه قدرة نووية وتكنولوجية هجومية. كما أنها بلد في
واقع الحال ما يزال في مرحلة الخروج من دوامات العالم الثالث اقتصادياً وعسكرياً -
تحصل الصين حتى الآن على قروض من البنك الدولي منخفضة العائد باعتبارها
من الدول الأفقر في الدخل - وأنها لا يمكنها - على الأقل - في المرحلة الراهنة
الدخول في صراع مباشر أو واسع مع الولايات المتحدة على الأقل استفادة من
تجربة الاتحاد السوفييتي. وإنه إذا كانت هناك ضرورات في هذا التحول فإنه لا
يمكن أن يجري إلا بسرعة حركة الفيل ودون اندفاع. والصين كذلك تدرك أنها بلد
يحيطه من كل جانب المشكلات والدول المرتبطة بالولايات المتحدة خاصة اليابان
التي تلوح الولايات المتحدة بين الحين والآخر بإعادة دورها العسكري في مواجهة
الصين وكوريا إضافة إلى الهند. وما يعنيه ذلك هو أن الصين تعاني في محيطها
الاستراتيجي من مشكلات استراتيجية لا بديل عن تسويتها ولا بديل عن احتلالها
الأولوية الأولى في هذه المرحلة.
وبالإجمال فإنه ليس فقط الظروف والتعقيدات في أساليب الصراع الدولي
الجديدة هي التي تتحكم في مواقف الصين من قضايا العالم العربي والإسلامي ولكن
أيضاً الأولويات الاستراتيجية للصين في محيطها الاستراتيجي هي ما تجعل قضايا
العالم العربي والإسلامي متأخرة في سلم الأولويات في السياسة الخارجية الصينية.
* الصين والقضايا العربية:
لا تمثل المنطقة العربية في المرحلة الراهنة من الاستراتيجية الصينية دولياً
مكانة رئيسية؛ حيث الأولوية بالصراع الحيوي في منطقة آسيا، أي محيطها
الاستراتيجي المباشر، وهي منطقة تضم أهم الدول الصاعدة في العالم أو الدول
الأكثر تاثيراً (روسيا واليابان والهند) وبمقارنة المصالح الاقتصادية وهي القضية
الأكثر حيوية للصين وتطورها - مع الولايات المتحدة والغرب - بالمصالح
الاقتصادية والسياسية مع العالم العربي فإن الكفة تميل بلا شك لصالح الأولى
وخاصة أن الدول العربية والإسلامية لا توجه أي قدر من استثماراتها إلى ذلك البلد
في الوقت الذي تتدفق الاستثمارات الغربية عليه حتى قيل إن المستثمرين
الأمريكيين يسعون إلى تحويل الصين إلى هونج كونج كبرى وهي استثمارات ولا
شك بات لها دور في التأثير على القرار الصيني بدرجة أو بأخرى؛ فهي تعمل
داخل الاقتصاد الصيني منذ السبعينيات خلال مرحلة التحالف الأمريكي الصيني في
مواجهة الاتحاد السوفييتي. ويضاف إلى ذلك أن المنطقة العربية كانت تاريخياً -
خلال مرحلة الحرب الباردة - إما مع الاتحاد السوفييتي، وإما مع أمريكا حتى إن
الصين لم تجد لها موطئ قدم في المنطقة طوال هذه الحقبة، فذهبت بعيداً إلى
إفريقيا لتمارس دورها العدائي ضد السوفييت. وإذا كان الأمر يتعلق بالأسواق
العربية فهي مفتوحة أمام الصين بلا قيد ولا شرط، وجاء انضمام الصين إلى
اتفاقية التجارة العالمية ليعطيها حقاً كبيراً في تصدير سلعها إلى مختلف أنحاء العالم.
ومن ثم فإن السؤال ليس هو: أين الصين من قضايا العالم العربي والإسلامي؟
وإنما هو: لماذا نتوقع دوراً للصين في مساندة القضايا العربية والإسلامية وفي
مواجهة الولايات المتحدة؟ لكن هل يعني ذلك أن الصين ليست قطباً صاعداً في
مواجهة الولايات المتحدة؟ بالقطع لا؛ فالصين هي من أول الدول المرشحة في
العالم للصعود في هذه المواجهة وتلك قضية أخرى لكن المقصود هو أنه ليس معنى
صعود الصين أن تكون مواقفها إلى جانب العرب والمسلمين، وكذلك التأكيد على
أن الصراع الدولي وتعديل توازناته وصراع المصالح باتت له أساليب أخرى تحتاج
إلى مراجعة وفهم.
* الصين تنتظر:
ويمكن القول من جانب آخر إن الصين تعد في مرحلة انتظار.. الانتظار إلى
موقف تتمايز فيه القوى الدولية إلى حد عدم الرجعة مرة أخرى، وربما حتى تنهك
القوى الدولية نفسها في الصراعات لتصبح الأوضاع مهيأة لبروز الصين بأقل قدر
من الصراعات والإنهاك.. أي أن الصين تتبع نفس الاستراتيجية الأمريكية خلال
الحرب العدوانية الثانية (الحرب العالمية الثانية) أي الانتظار خارج الصراع
المباشر مع البقاء على مقربة منه، وحين تنهك الصراعات الدول المشتبكة تدخل
هي الحلبة لتكون الأكثر تحقيقاً للمكاسب، والأكثر قدرة على البروز في الوضع
الدولي.
__________
(*) رئيس تحرير جريدة الشعب - القاهرة.(187/98)
نص شعري
رياح الفداء
مشبب بن أحمد القحطاني
كيف ضلَّتْ قصائِدٌ عصماءُ؟! ... وتوارت مناقِبٌ قَعْساءُ؟!
أكثرُ الشِّعْر بالمدائِح يَسْعى ... ليْسَ بالمدْح يُصْنعُ العُظماءُ!
وشَجِيٌ يهفو لِوصلِ شَجِيٍ ... وغرام يَجِلُّ عنه الحياءُ!!
كيف تخبُو للحقِّ نارٌ تلظّى؟ ... وشموخٌ، وعِزّةٌ، وإباءُ؟
يا دعاةَ البيانِ شيئاً قليلاً ... فبظِلِّ الإسلام يُبدِعُ الشُّعراءُ
خيْبةُ الشِّعرِ أن يعيشَ عقيماً ... لا طموحٌ، ونظرْةٌ عمياءُ
وحَّد الكُفْر صفّهُ واستباحوا ... بيضة الدِّين، والحِمى وأساؤُوا
غرز الوهْنُ مِخلبَ الضعْفِ فينا ... لمْ تُفِقْنا الدِّماءُ والأشْلاءُ!
يا لَهولِ المُصابِ يَومَ ارتَحَلْنا ... مَركب التِّيه واحْتوانا الشَّقاءُ
ليتَ شِعْري بأيِّ شيءٍ فُتنَّا؟ ... هل سَبتْنا بقِدّها الحسناءُ؟!
أم من المال، والمناصِب تُغْري! ... أو هوى النّفس، والرَّدى، والغِناءُ
ألفُ بابٍ إلى عذابٍ بئيسٍ ... وذِئَابٌ يَزُفُّهنّ العُواءُ
يندُب اليومَ حالنا كُلّ شيءٍ! ... ضاقَ عنَّا وعن أسانا الفضاءُ
أينَ داعي الجهادِ؟ هل من مُجيبٍ؟ ... عظمَ الخَطْبُ، واستفاضَ البَلاءُ
يا رياحَ الفِدا: أثيري سحاباً ... من نِضالٍ يَسوقُه الأقْوياءُ
لم تزل تمْلأُ الزّوايا خبايا ... ومنايا يحبُّها الشّهداءُ
رُبِّ يومٍ يكونُ مِنا قريباً ... يبْزغُ الفجْر، تنهضُ (البلقاءُ)
لو ثبتنا على العقيدةِ صِدْقاً ... ومَضينا سيرجِعُ (الإسراءُ)
هيِّئُوا للحِمام كُلَّ صقيل ... في صفُوفٍ يقودُها العُلماءُ
وإذا اشتدَّ بالعباد بلاءٌ ... كُشِفَ الكربُ، واستُجبيبَ الدُّعاءُ
وإذا الموتُ قادِمٌ وهو حتمٌ ... فمماتٌ تُثْنِي علْيهِ السّماءُ(187/101)
نص شعري
أسفي على أرض العراق
محمود العمراني
...
ما أنتَ عن ليل الهموم بغائبٍ ... كلاَّ، ولستَ عن الجراح بمعزلِ
فاجعل قصيدك في المحافل صرخةً ... واترك لأهل العشق شدوَ البلبلِ
واقبس لنا من نور حسانٍ سناً ... يمحو الظلام ودع مجون الأخطلِ
إني رأيت الشعر يعظم قدرُه ... إن قيل في وصف العظائم أو تُلي
ويكون أوضع ما يكون إذا أتى ... في مدح طاغية.. ووصف مُقبَّلِ
أسفي على أرض العراق فإنها ... نزلت من الدنيا بأسوأ منزلِ
من بعد أن كانت مناراً يُهتدى ... بضيائه وشذاً لكلّ مؤمِّلِ
صارت كألحان الغروب كئيبةً ... لكن بغير نسيمه المتسلّلِ..!
يا أرض بغداد الجريحة هزني ... خذلان أمتنا.. وألجم مِقْوَلي
ما كان هذا من خلائق أمتي ... يوماً، ولا من طبعها المتأصلِ
لكنها بُليت بما أودى بها: ... ليلٍ أقام على رباها أليلِ
ما كان أخلقها بنصرة بضعةٍ ... من أرضها قُصدت وشَعْبٍ أعزَلِ
لا أن تقول لمن أرادت قتلها: ... أهلاً وسهلاً بالسلام.. تفضلي!(187/101)
مرصد الأحداث
وائل عبد الغني
أقوال غير عابرة:
- رأيت بنفسي كيف شجعت القوات الأميركية عراقيين على سلب وحرق
جامعة التكنولوجيا.
[شاكر عزيز، أستاذ جامعي، عراقي، (البيان الإماراتية) العدد: (8335) ]
- في حالة تعرض سوريا لهجوم عسكري من قبل الولايات المتحدة؛ فقد
يمس هذا بإسرائيل أيضاً.
[وزير الخارجية السوري فاروق الشرع، يرد على تحذيرات جورج بوش الصغير،
يديعوت أحرونوت، 14/4/2003م]
- احتلال العراق بمثابة إنجاز استراتيجي كبير؛ يفسح المجال أمام الجيش
الإسرائيلي لتجميد وتطبيق خطته المختلفة على مدى فترات زمنية أطول.
[مصدر من وزارة المالية الإسرائيلية، (البيان الإماراتية) العدد: (8335) ]
- لا أدري إن كان حتى الآن من حق الإنسان العربي أن يحزن بعد أن
صودر حقه في التعبير عن أحزانه داخل أوطانه!!
[زينب حفني، (الشرق الأوسط) العدد: (8887) ]
- إن الأمر الذي أحدث صدمة في لندن أن الولايات المتحدة قد اختارت
شركات أميركية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
[صحيفة لوموند الفرنسية، (البيان) العدد: (8320) ]
- إن سقوط بغداد يعني سقوط المنطقة برمتها.
[عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية، (البيان) العدد: (8320) ]
- إنني لا أعتقد أن الدور الإعلامي للقاعدة سينتهي بعد انتهاء الحرب التي لا
نستطيع التنبؤ بنهايتها.. إن دورها ك «بنتاجون مصغر» ، ومنبر إعلامي؛ لا
يقتصر على حرب تحرير العراق، بل الإدارة من خلالها للعمليات العسكرية أو
الوجود العسكري الأميركي في 25 دولة أخرى في المنطقة.
[مارك كيتشينس، المتحدث باسم المركز القيادي للجيش الأميركي في السيلية،
(الشرق الأوسط) العدد (8899) ]
- الأمريكيون يواجهون في العراق اليوم أزمة أكثر تعقيداً من أزمة ما قبل
الحرب؛ بغض النظر عن النتائج العسكرية المباشرة للحرب.. ستزداد هذه الأزمة
تعقيداً كلما ازداد تدفق المتطوعين العرب إلى العراق.
[بشير موسى نافع، (القدس العربي) العدد: (4319) ]
- إن الرئيس الأميركي جورج بوش كان واقعاً في «سوء فهم هائل» حينما
أعلن أنه ينفذ «مهمة إلهية» بالحرب على العراق.
[الرئيس الألماني يوهانس راو، (الشرق الأوسط) العدد: (8889) ]
- إن الحرب التي تخيم على العراق هي نسيج أيدي اليهود الأمريكيين. وإنه
لولا دعم المجموعة اليهودية القوي لهذه الحرب لكنا تصرفنا بشكل مختلف.
[جيم موران، عضو الكونجرس عن فرجينيا، أحد أبرز هذه الشخصيات.
(الأهرام) العدد: (42492) ]
- استهدفوا الصحفيين لأنهم لا يريدون كشف الحقيقة.
[بيتر آرنت، الصحفي الأمريكي، المبعد من قناة NBC الأمريكية،
(التجديد) العدد: (623) ]
- واشنطن تستهدف من إزاحة صدام حسين ونظامه عن سدة الحكم برغم
استجابته لكل متطلبات التركيع والترويض؛ لكي يكون هذا النظام أمثولة تحمل في
طياتها رسالة لمن تريد واشنطن أن تبعث لهم برسائل محددة داخل المنطقة وخارجها!
[الأهرام، العدد: (42493) ]
مرصد الأرقام:
- يفوق إجمالي الديون والتعويضات المستحقة على العراق 423 مليار دولار؛
منها نحو 17 مليار دولار للكويت وحدها، وتقدر الديون الخارجية العراقية نحو
127 مليار دولار؛ منها 80 مليار دولار هي أصل تلك الديون، ونحو 47 مليار
دولار زيادات ربوية مستحقة عليها، وإذا لم يتم إزالة الحظر الاقتصادي المفروض
على العراق بشكل كامل بما يعني استمرار إنفاق أموال العراق تحت إشراف الأمم
المتحدة؛ فإنه سيتم نهب ثروة العراق لتسديد الديون والتعويضات، والتي يمكن أن
تستنفذ كل قيمة الصادرات النفطية العراقية لنحو ربع قرن، ولا تترك للشعب
العراقي شيئاً لإعادة الإعمار والتنمية.
[الأهرام، العدد: (42497) ]
- نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤول أميركي أنه من بين الجنود
في الجيش الأميركي البالغ تعداده حوالي 1.5 مليون جندي؛ يوجد 31 ألفاً لا
يحملون الجنسية الأميركية.
[الحياة، اللندنية العدد: (24605) ]
- أعلن مسؤول أميركي أن القوات الجوية الأميركية والبريطانية قامت منذ
بدء الحرب في 20 مارس الماضي، وحتى سقوط بغداد تقريباً بـ 12 ألف غارة
ألقت خلالها أكثر من 14500 قذيفة موجهة، و6800 قنبلة غير موجهة منذ بدء
الحرب فوق الأراضي العراقية.
[صحيفة تشرين، السورية، 9/4/2003م]
- يقدر عدد العلماء العراقيين المرموقين بنحو 3500 عالم، من بينهم قرابة
500 عالم خدموا في تطوير صناعة السلاح العراقية؛ بما فيها قطاع الأسلحة غير
التقليدية.
[التجديد، العدد: (623) ]
مرصد الأخبار:
شروط البقاء في اللعبة خلال اتصال هاتفي
أبلغ توني بلير الرئيس السوري بشار الأسد خمسة شروط أميركية لضم
سوريا إلى نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط يزمع تشكيله مع حلول الصيف
المقبل، ويضم هذا الإقليم كلاً من: العراق الجديد، والأردن، وإسرائيل،
وسوريا، ولبنان؛ إن التزمت دمشق بهذه الشروط، إضافة لتركيا كمعبر إلى
أوروبا.. هذه الشروط هي:
1 - إعادة النظر في الدستور السوري سلطة حزب البعث لتوفير مشاركة
شعبية أكثر في حكم البلاد عبر مؤسسات دستورية، ومشاركة شعبية واسعة من
مختلف التيارات السياسية والفئات والقطاعات والطوائف السورية المختلفة.
2 - إجراء تغييرات في هرم القيادة السياسية لإنهاء تحكم رجال الحرس
القديم بمقاليد السلطة في البلاد، وهذا يعني:
3 - سحب جميع قواته من لبنان، وفتح المجال أمام لبنان للتحرك السياسي
في إطار الخطط المقبلة لبناء الشرق الأوسط الجديد بإرادته بعيداً عن الضغوط.
4 - التخلص من استضافة جماعات المقاومة مثل حزب الله والجهاد
الإسلامي وحركة حماس.
5 - تحجيم العلاقات مع إيران؛ إذ لا دور لها في الإقليم الشرق أوسطي.
[البيان الإماراتية، العدد: (8335) ]
خطاب التفتيت
لا بد من محاولة لقراءة (الخطاب الأميركي) الموجه إلى العراقيين.. أول
ما يستوقف أن هذا الخطاب المبشّر بديمقراطية ما بعد الاحتلال؛ لا يتوجه إلى
العراقيين كشعب واحد في وطن واحد له دولة واحدة.. إنه في الشمال، غيره مع
الجنوب، ومع بغداد غيره مع سائر الجهات، إنه في الشمال يخاطب (الأكراد) ،
وفي الجنوب يخاطب (الشيعة) ، وفي الوسط يخاطب (السنة) ، كما يتوجه في
بعض فقراته إلى (التركمان) و (الكلدان) و (الآشوريين) كأقليات دينية وعرقية.
إنه خطاب تقسيمي للعراقيين قبل أن يكون تقسيمياً لدولتهم. إن الحرب الأميركية
تحت شعار (الحرية للعراق) إنما أسقطت برصاصتها الأولى حق العرب في
التحرر، أما الرصاصة الثانية فقد أصابت (الرأي العام الدولي) في صميمه؛
معلنة احتقارها لشعوبه ودوله جميعاً.. وما بعد العراق سيكون أدهى وأمر ...
[الكاتب طلال سلمان، السفير، 10/4/2003م]
الويلات (الولايات) المتحدة الأمريكية
شاهدت فظائع لا يمكن تصورها ارتكبتها القوات الأميركية في مدينة
الناصرية العراقية، كنت أقوم بالتصوير قرب مساكن طينية منهارة، وكنت أسمع
أنيناً تحت التراب، وعندما حاولت النبش بيدي العزلاء بدأ القصف من الجانبين
واضطررت لدخول مركبة الصحافيين، وصوت الأنين لا يزال في أذني حتى
الآن ... حصلت جرائم كثيرة، وسُحبت منا عدة أشرطة احتوت على مشاهد مثيرة،
ولكننا استطعنا إخفاء الكثير أيضاً.. لم أر أبرد من دمائهم كانوا يطلقون النار على
كل ما ارتفع من الأرض، كانوا يستخدمون سياسة الأرض المحروقة، أما ما يقال
عن عدم استهداف المدنيين وانتقاء الأهداف العسكرية فإنه كان مجرد تصريحات
للسياسيين والعسكريين في المؤتمرات الصحافية، أما الواقع والحقيقة فقد كانت
الحرب مذبحة لكل كائن حي، وتسوية كل ما علا بالأرض في أكثر الأحيان،
خاصة إذا اعتقد المارينز أن تلك البيوت يختفي وراءها مقاتلون عراقيون.. كل
سقف في الناصرية أصابته القذائف، وبعض البيوت ظل واقفاً ولكن لا يوجد شيء
بداخله؛ فقد خرقته قذائف الهاون، وقتلت أرواح كثيرة ممن كانوا بداخلها ...
الجنود الأميركان تعرضوا على ما يبدو لعملية غسل دماغ قبل أن يأتوا، وشُحنوا
بالحقد والكراهية، واستُغل صغر سنهم؛ فمعظمهم لم يتجاوز 22 سنة، وكانوا
ينتظرون بدء الحرب ليمارسوا هواياتهم.. كان النساء والأطفال وأحياناً الرجال
يبكون، يستغيثون، وكان ذلك يملأ الجنود بالغرور؛ فها هم أعداؤهم تحت أقدامهم
يطلبون الرحمة.. الناس فقراء يسكنون في بيوت من القش والطين، وكان
رصاص الرشاشات الأميركية يخرق ستة جدران متتالية، ولم يكن الجنود يخشون
من شيء، فلن تُعقد لهم محاكمات في لاهاي أو في غيرها فهم أميركيون،
ومستعدون لإطلاق النار على من يرميهم بحصاة.. القوات الأميركية منعت كل
المراسلين المرافقين لها من بث أي تقارير أو صور لا ترضيهم.
تلك بعض شهادة «دامير شاغولاي» المصور بوكالة رويترز العالمية
للأنباء عن رعاة البقر وحربهم الصليبية الجديدة.
[البيان الإماراتية، العدد: (8330) ]
موعظة الثعالب
لم تنته الحرب في العراق بعد رغم التقدم السريع الذي حدث في بغداد، ولكن
التهديدات للأنظمة العربية بدأت بالصدور من صقور في الإدارة الأمريكية، حيث
اعتبروا ما حدث في العراق درساً للجميع. فجون بولتون هدد سورية، وإسرائيل
تجرأت وطالبت الفلسطينيين بالاتعاظ بما يحدث في بغداد. وهذه التهديدات تخفي
وراءها تفكيراً في إدارة بوش لجعل المنطقة العربية مختبراً للتجريب، تحت شعار
إدخال الديمقراطية.
ومن ضمن الخطط التي تريد أمريكا إحداث التغيير فيها في مرحلة ما بعد
الحرب؛ هي تغيير النظام التعليمي. وكانت وكالة (يو إس أي إيد) قد طرحت
قبل الحرب العديد من العطاءات لاستدراج عروض من أجل تجديد النظام التعليمي
في العراق.
[القدس، العدد: (4319) ]
نموذج للدمقرطة
خرجت صحيفة الإندبندنت عن الإصرار المعتاد لصفحتها الأولى؛ وأفردتها
لمقال مراسلها في بغداد روبرت فيسك، استهله بهذا الوصف: «إنه مشهد فاحش
مثير للاستنكار ... يد مبتورة التصقت بالباب الحديدي ... على الأرض اختلطت
الدماء بالطين.. داخل أحد المستودعات رأيت بقايا مخ بشري، وبقايا عظمية
محترقة لأم عراقية وثلاثة من أطفالها ... صاروخين من طائرة أمريكية قتلا الجميع
... في تقديري مات 20 مدنياً عراقياً قطعت أجسادهم إرباً إرباً قبل أن» تحررهم «
الدولة التي أزهقت أرواحهم ... » .
[بي. بي. سي، 27/3/2003م]
عادٌ الثانية!
كتب الدكتور أولمان مذكرة بعنوان: «الصدمة والرعب» Shock)
(awe and وُضعت أمام بوش الصغير ونشرتها الصحافة الأميركية
(وبينها جرائد نيويورك تيمس، وواشنطن بوست، ولوس أنجلوس تيمس) ،
وفيها يقول بالنص: على الولايات المتحدة أن تستعمل أقوى شحنة من القوة المكثفة،
والمركزة، والكاسحة؛ بحيث تنهار أعصاب أي عدو يقف أمامها، وتخور
عزيمته قبل أن تنقض عليه الصواعق من أول ثانية في الحرب إلى آخر ثانية،
ويتم تقطيع أوصاله، وتكسير عظمه، وتمزيق لحمه؛ دون فرصة يستوعب فيها
ما يجري له.
[وجهات نظر، العدد: (51) ]
تساؤلات؟!
- لماذا لم يقع اختيار وزارة الدفاع الأمريكية لإدارة العراق بعد صدام إلا على
جنرال أمريكي له ارتباطات قوية ومعروفة مع إسرائيل؟ هل هي مصادفة؟ .. أَوَ
ليس هناك غيره لهذه المهمة؟ .. ولماذا لا يكاد يمر يوم إلا وتتأكد الروابط بين خط
سير السياسة الأمريكية وبين ما تريده إسرائيل، ليس فقط في علاقتها بالفلسطينيين،
بل أيضاً بالنسبة للعالم العربي ومستقبل المنطقة؟
[الأهرام، العدد: (42492) ]
- لماذا تركت كونداليزا رايس واشنطن في عز الحرب وذهبت إلى موسكو
في رحلة لم نعرف عنها أي شيء؟ لماذا اختفى سعدون حمادي رئيس البرلمان
العراقي ولم يظهر طوال فترة الحرب؟ ! لماذا تمت مذبحة الصحفيين فجر الثلاثاء
بالذات مع العلم أن الاقتحام الكبير كان موعده صباح الأربعاء؟ ولماذا دخل جنود
المارينز بغداد يتمشون بجوار دباباتهم وكأنهم في فسحة؟ ولماذا انسحب جنود
الحرس الجمهوري وفدائيو صدام وفرق الموت؟ لدرجة أنه لم يبق في الشوارع
سوى بعض المتطوعين العرب الذين سُحبت جوازات سفرهم قبل تسليمهم السلاح؟!
هل هناك علاقة بين الذين قاموا بالسلب والنهب في بغداد، والذين مثلوا دور
أعضاء الفرقة التي استسلمت لقوات المارينز في البصرة في يوم الحرب الأول.
ومن سيحكم العراق؟ هل هو الجنرال حامل العضوية المنتسبة في حزب الليكود
الإسرائيلي؟ أم الجلبي العائد في طائرة أمريكية؟ لماذا لم تستأنف عمليات القصف
شمال بغداد وتكريت والموصل وكركوك والعمارة والبصرة صباح الخميس بعد
الهدوء المريب يوم الأربعاء؟ هذه الحرب شنت تحت عناوين لم يتحقق منها شيء،
أسلحة الدمار الشامل لم يعثر على شيء منها. الحرية وصلت بدلاً منها الفوضى.
[الأسبوع، العدد: (319) ]
- «ما هي الديمقراطية التي يتحدثون عنها عندما يكونون عاكفين على
محاولة تدمير البلاد بالكامل؟» .
[بي. بي. سي، 27/3/2003م]
العب لتكسب.. استثمار في الهدم!
الرئيس بوش الصغير أضاف هو وإدارته في الواقع جديداً للتاريخ الإمبريالي
الأمريكي، وهو ابتداع نظرية إمبراطورية لاستعمار الشعوب. وهذه النظرية
مؤسسة في الواقع على عدد محدود من الأفكار الإجرامية مبناها أن أمريكا تقوم من
خلال القصف العشوائي بصواريخ كروز وقنابل الطائرات الثقيلة بتدمير الدولة التي
تحاربها ثم تبدأ بعد ذلك في إعادة تعميرها من خلال نهب ثرواتها والاستيلاء على
مصادر دخلها وتوزيع عقود الإعمار على الشركات الأمريكية. وقد تولى صياغة
هذه النظرية المستحدثة في استعمار الشعوب لجنة مشتركة من جمعية الجيش
الأمريكي بالاشتراك مع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن (يضم
190 باحثاً وخبيراً) .
صدر هذا التقرير في يناير عام 2003م بعد عام أو أكثر من البحث العميق،
وله عنوان غريب يدل في الواقع على العقلية السوقية الأمريكية التي لا تركز إلا
على الربح والربح الوفير؛ سواء في مجال الاقتصاد أو في مجال الحروب وما بعد
الحروب. «العنوان هو:» العب لتكسب «! والعنوان الفرعي» لجنة إعادة
الإعمار بعد نهاية الصراعات «.
وقد صاغت هذه اللجنة 17 توصية موزعة على أربع فئات كبرى هي:
ضمان الأمن وتحقيق العدل، والمصالحة، وإشباع الحاجات الاقتصادية
والاجتماعية، وأمور الحكم والمشاركة. ويتسم بصراحة فجة حين تحدث عن دور
الولايات المتحدة في إعادة إعمار الدول الفاشلة، حيث قرر بوضوح أن المسألة
تعتمد أساساً على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية؛ بمعنى أن الإسهام الأمريكي
في إعادة إعمار هذه الدول لا علاقة له البتة باعتبارات إنسانية أو غيرها. وعلى
ذلك إن كانت هناك مصالح أمريكية كبرى فعلى الولايات المتحدة الأمريكية أن
تمارس دوراً رئيسياً، أما إذا لم تكن هناك مصالح مهمة فلا ينبغي الاهتمام بالقيام
بأي دور أمريكي في هذا المجال.
وحين نطالع التوصيات المتعددة سنكتشف أنها تهدف أساساً للسيطرة على كل
مقدرات البلد المستعمر (وهنا في هذه الحالة هو العراق) لضمان الأمن وتحقيق
العدل، وإشباع الحاجات الاقتصادية للسكان، وضمان إقامة نظام حكم استعماري
صريح قد يشارك فيه بعض سكان البلاد بصورة كبيرة أو صغيرة؛ حسب الظروف
والأحوال.
وتطبيقاً لهذا الفكر الاستعماري المستحدث؛ نُشر أن الحاكم العسكري المقبل
للعراق هو الجنرال المتقاعد» جاردنر «الذي يمكث الآن في أحد فنادق الكويت
تمهيداً لاستدعائه لحكم العراق يا للجهالة! ونشر أيضاً أنه ستشكل وزارة مكونة من
23 وزيراً أمريكياً قد يعين لهم مستشارون عراقيون!
[الأهرام، العدد: (42493) ]
مسعِّرو الحرب
خلال السنة الأخيرة تنامى في هذه القرية إيمان جديد: الإيمان بالحرب ضد
العراق. هذا الإيمان المتقد بثته ثلة صغيرة تعدادها 3025 شخصاً من المحافظين
الجدد، كلهم تقريباً من اليهود، كلهم تقريباً مثقفون (قائمة جزئية: ريتشارد بيرل،
بول وولفوفيتز، داغ بييت، بيل كريستول، اليوت أبراهمس، تشارلز
كروتهايمر) ، أشخاص تربطهم ببعض صداقات، ويؤازرون بعضهم بعضاً،
ومقتنعون بأن الأفكار السياسية هي قوة دفع مركزية في التاريخ. وهم يؤمنون بأن
الفكرة السياسية الصحيحة مرهونة بالمزاوجة بين الأخلاق والقوة، وحقوق الإنسان
والتصميم.
المحافظون الجدد في واشنطن يؤسسون فكرهم على هوبس، وميكيافيللي،
وأدموند برك. ويجلّون ونستون تشرتشل وسياسة ريجان. ويميلون إلى قراءة الواقع
بمصطلحات فشل الثلاثينيات (ميونيخ) مقابل نجاح الثمانينيات (سقوط سور
برلين) .
[الكاتب الصهيوني، آري شافيت، تحت عنوان: أنا وأنتم سنغيّر العالم،
إسرائيل ويكلي، عن السفير، 7/4/2003م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
تنصير: في الطريق إلى بغداد
أعلنت منظمتان نصرانيتان أميركيتان أنهما تعدان فرق عمل لدخول العراق
ونشر النصرانية، وقالت المنظمتان وهما» المؤتمر المعمداني الجنوبي «أكبر
التجمعات البروتستانتية في الولايات المتحدة، و» فرانكلين جراهام ساماريتانس
بيرس «، في تصريحات لموقعي بليف نيت، ونيو هاوس الإخباريين: إن
أعضاءهما متواجدون حالياً على الحدود العراقية الأردنية في انتظار الدخول إلى
الأراضي العراقية عندما تستقر الأوضاع الأمنية.
وقال مترجم: إن المنظمتين تشكلان فرقاً من المترجمين للقيام بمشروع
ترجمة من الإنجليزية إلى العربية. وأنه اطلع على مقتطفات من مشروع الترجمة
ولاحظ أنه ذو طبيعة تبشيرية؛ مشيراً إلى أن ذلك المشروع يستهدف ثلاث دول
هي السعودية والكويت والعراق.
وأعلنت المنظمتان اللتان أساءتا قبل ذلك للإسلام أن من أولوياتهما تقديم
الطعام والمأوى والاحتياجات الأخرى للعراقيين المتضررين من الحرب، وأنهما
ستنشران الديانة المسيحية بين العراقيين الذين يبلغ نسبة المسلمين بينهم 98%.
وأعلن فرانكلين جراهام من قبل أن منظمته على اتصال دائم بما أطلق عليه
وكالات الإدارة الأميركية في العاصمة الأردنية عمان لتنفيذ خططها. ولكنه عاد
ليقول: إن المنظمة لا تعمل لحساب الإدارة الأميركية؛ وإنها لا تنتظر منها
تصريحاً لتباشر عملها.
[البيان، العدد: (8320) ]
النمسا تستجيب لطلب شنودة
بعد ثلاثين عاماً متواصلة من الرفض والتسويف من طرف الحكومة النمساوية
وبواسطة هيئة oriente pro- التنصيرية الدولية، وافق البرلمان النمساوي في
جلسته المسائية يوم الأربعاء 26/3/2003م بأغلبية الأعضاء على قبول طلب الأنبا
شنودة بابا الكنيسة المصرية للاعتراف بها ككيان رسمي، أسوة بالكنيستين
السريانية والأرمنية في النمسا.
تحدث في جلسة البرلمان التي خصصت لهذا الشأن أربعة من أعضاء
البرلمان يمثلون أكبر ثلاثة أحزاب في النمسا، هم (حزب الشعب) و (الحزب
الاشتراكي) ، و (حزب الخضر) الذي أبدى تعجبه الشديد من هذا الحدث
المباغت للجميع؛ مشيراً إلى أن القانون الذي طرحه رئيس مجلس النواب تم طبخه
في فترة لم تتجاوز الشهر الواحد، وهي فترة إعداد القانون وتعديله وصياغته
واعتماده؛ مما يضع علامات استفهام عديدة.
وجاء الرد من الوزيرة المختصة، وتدعى» جيرا «وزيرة الحضارة
والأديان والتعليم فقالت: إنني قررت أن أعمل بنشاط من أجل الاعتراف بهذه
الكنيسة، خاصة بعد اتصال الكاردينال بورن المسؤول بالمنظمة الدولية للتنصير؛
مؤكداً أهمية حصول هذه الكنيسة على الاعتراف الكامل لرعاية أبنائها في النمسا
ولتبادل المصالح الاستراتيجية.
[مجلة الكرازة المرقسية، 4/4/2003م]
الفاتيكان يناقش قضية
صراع الراهبات مع رغبات الرهبان لم يكن جديداً على قارئ صحيفة الكنيسة
الأسبوعية» ناشيونال كاثوليك ريبورتر «التي تصدر في أمريكا؛ أن يقرأ في
عددها الصادر أول فبراير الماضي تقريراً تحت عنوان:» الفاتيكان يهوِّن من
اغتصاب الراهبات «، فقالت الصحيفة إنها رصدت بعض الحالات التي حملت
فيها الراهبات من القساوسة ثم أجبرن على الإجهاض.
وأشارت الصحيفة في موضوعها إلى خمسة تقارير أعدها رجال دين كاثوليك
في الفترة من 1994م حتى 2002م، وتعقيب للأب جواكين نافارو فولز المتحدث
باسم الفاتيكان؛ يؤكد فيه علم قيادة الكنيسة الكاثوليكية بالمشكلة، ولكن أشار إلى
أنها تنتشر في منطقة جغرافية محدودة يقصد بها الولايات المتحدة الأمريكية
وإيطاليا والهند وأيرلندا والبرازيل؛ من بين ثلاثة وعشرين دولة أخرى
حدثت فيهم نفس المشكلة لكن في إطار محدود للغاية.
ونقلت الصحيفة عن الأب» روبرت جي فيتيلو «الذي يرأس حالياً حملة
الأساقفة الأمريكيين من أجل التنمية البشرية في محاضرة ألقاها عام 1994م
حول هذه المشكلة، قال فيها: إنه سمع بنفسه قصصاً مأساوية عن أخوات
راهبات أُجبرن على ممارسة الفاحشة مع قساوسة أو رهبان أو رجال دين؛
أقنعوهن بأن ممارستها مفيدة للطرفين.
وأشار التقرير إلى نقطة وصفها بالخطورة هي أن الأخوات الراهبات اللاتي
تعرضن لهذه المأساة لم يجدن كثيراً من التعاطف أو الاهتمام عندما قدمن شكاواهن
لإدارة الكنائس، حيث تضمن واحد من التقارير الخمسة، قولاً للراهبة الطبيبة
ماورا أودوني؛ أن أخواتها المتضررات قدمن مناشدتهن الحارة إلى الكنيسة الأم في
روما يطلبن فيها المساعدة فلم يجدن آذاناً صاغية، واكتفت الإدارة المسؤولة عن
شؤون الراهبات في الفاتيكان في رد رسمي أنهم يعملون على حل هذه المشكلة؛
منبهاً إلى أهمية ألا تغطي هذه القضية على أعمال جيدة أخرى يقدمها الرهبان
ورجال الدين.
منظمة» 2000 راهب وراهبة «
نقلاً عن نشرة حامل الرسالة في 30/3/2003م في احتفال أقامته منظمة
» العناية الإلهية الكاثوليكية «بمرور مائة عام على تأسيسها بالمقر البابوي في روما،
قال بابا الفاتيكان إن عمل هذه المنظمة يمتد إلى 30 دولة، خاصة في مجال التعليم،
ويبلغ عدد أعضائها 1023 كاهناً، و 282 راهباً، و 8 نساك، و 3 أساقفة،
كما أنشأت هذه المنظمة فرعاً نسائياً يضم 990 راهبة يسهمن في أعمال الدعوة
الروحية التنصيرية في البلاد التي تنتشر فيها فروع المنظمة.
أخبار قصيرة جداً:
- عقدت في سويسرا، ولمدة ثلاثة أيام بدأت في 24 فبراير الماضي،
الجمعية العمومية لمجلس الكنائس العالمي بالعاصمة جنيف؛ لمناقشة تطوير أساليب
التعاون بين الطوائف النصرانية في العالم، والوصول إلى صيغ لاهوتية تنزع فتيل
الصراع الديني بينها. وقررت الجمعية أن يكون لقائها التالي في فبراير 2006م
بالبرازيل.
- نظمت الكنيسة المصرية في الأسبوع الثالث من شهر مارس الماضي
مؤتمراً لاهوتياً موسعاً في جمهورية كينيا بالسفارة الإفريقية، حضره عدد كبير من
الأساقفة ورؤساء الكنائس في أمريكا، وسويسرا، وتنزانيا، وزامبيا،
والسودان.
- وافق مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري على نقل وقائع
صلوات الكنيسة التي تقام في الساعة الحادية عشرة من كل يوم أحد أسبوعياً على
الهواء مباشرة؛ من خلال الفضائيات المصرية والقمر الصناعي، ومن خلال
الإذاعات المصرية الموجهة إلى كل من أستراليا وأمريكا.
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
* تصريحات إسرائيلية:
-» إن صورة تحطيم التمثال الضخم للرئيس العراقى صدام حسين أدى إلى
زلزال زعزع جميع أنظمة القياس السياسية في الشرق الأوسط. ولا نعرف ماذا
أراد أن يفعل كل من بشار الأسد ومعمر القذافي وآية الله خامينئى، وكيم يونج
إيل وأمثالهم في الساعات التي تلت سقوط نظام صدام حسين يوم الأربعاء التاريخي
الموافق 9/4/2003م، لكنني أخمن أنهم قرروا تأجيل خططهم الدفينة داخلهم.
فالأسد والقذافي ويونج إيل وآيات الله تسمروا أمام شاشات التليفزيون مثل ملايين
البشر، ورأوا كيف سقط أول عضو في فريق رؤساء دول محور الشر، عندها
أيقنوا أن هذه هي النهاية الحتمية لبقية أعضاء الفريق «.
[حامي شاليف، معاريف، 16872]
- صحيح أن الأمريكيين يأتون بالديمقراطية إلى بغداد اليوم على فوهات
الدبابات، لكن العراق سيكون ديمقراطياً بفضل نفسه. سيكون أول دولة عربية
تتحرر من لعنة الأجيال التي تقول إن الديمقراطية والعروبة تلغيان بعضهما بعضاً،
وتتناقضان بكل ما تعنيه الكلمة. وسيثبت العراق بطلان النظرية التي تقول إن
الحضارة العربية ترفض القيم الديمقراطية المتحررة؛ لأنها لديها قيمها المختلفة.
فأي قيم مختلفة تلك التي يجري الحديث عنها هنا؟! أهي قيم الشرطة السرية
المتربصة بالمواطنين عند زاوية كل شارع؟! أم قيم سجون وغرف التعذيب؟! أم
قيم الناس الذين يختفون من الحياة ليلاً؟! أم قيم الشعب الجائع في وقت يبني فيه
حكامه القصور لأنفسهم؟!
إن مشكلة العالمين العربي والإسلامي لا تكمن في الصراع الإسرائيلي
الفلسطيني؛ إنما تكمن في الأنظمة المتسلطة الديكتاتورية وغير الديمقراطية التي
تتحكم في مقدراتها.
لكل دكتاتور يومه، لقد سقط أمس أحد آخر هؤلاء، لقد سقط صدام حسين،
لكن بغداد لم تسقط، بغداد نهضت وانتصبت قامتها.
[سفر بلوتسكر، يديعوت أحرونوت، عدد 10/4/2003م]
-» بعد عشرات السنين من القومية العربية المتفاخرة بما فيها ترويج
أسطورة طرد الفرنسيين والبريطانيين من قِبَل جمال عبد الناصر، جابت الدبابات
الإمبريالية الأمريكية البريطانية شوارع أكبر عاصمة عربية. والآن الجميع في
العالم العربي يتساءل: على من الدور القادم في الطابور الأمريكي؟ هل سيكون
الدور على تماثيل الأسد - الأب والابن - في ساحات دمشق؟ أم يكون الدور على
بورتريه الرئيس الليبي معمر القذافي في طرابلس؟ وفي القاهرة أيضاً يخافون كما
في الكويت، الجميع يتساءل: أي محطة سيستقر عندها الرئيس بوش في المرحلة
القادمة؟ فبالنسبة لمبارك وحاشيته من أعضاء فريق الرؤساء المنتخبين بأغلبية
99%؛ فإن الديمقراطية والانتخابات الحرة ليست مجرد كلام، بل مادة ثمينة
للكوابيس الليلية التي تكتنفهم الآن «.
[جاد شومرون، معاريف 16872]
- أطمئن الأسرة اليهودية أن الحرب العراقية على إسرائيل وردت في
(التناخ) وهي الكتب الدينية الثلاثة الأسفار الخمسة للتوراة، وأسفار الأنبياء،
وأسفار المكتوبات حينما ورد في أحد فصول سفر إرميا أن» الموت سيأتي من
النافذة «. وها هو الموت قد يأتي إلينا من النافذة عن طريق الأسلحة العراقية.
[الحاخام، البريكت فوكس، أحد رؤساء الجماعة الدينية اليهودية،
موقع وله العبري، 29/3/2003م]
* يديعوت أحرونوت: الأمة الإسلامية متفرقة.. فلم الخوف؟!
تحت عنوان:» تفرق الأمة الإسلامية «، كتب المعلق السياسي للصحيفة
الإسرائيلية» سيفر بلوتسكر «: إلى هؤلاء اليهود الخائفين من تظاهرات العالم
العربي والإسلامي التي تعبِّر عن غضبهم وكراهيتهم لليهود ولإسرائيل أقول لهم لا
تخافوا ولا تتشاءموا، فإن العالم الإسلامي متفرق، وكل دولة مشغولة في همومها
وأوضاعها الاقتصادية السيئة» . أضاف: «وعلى اليهود المتشائمين أن يتذكروا
أن وضعنا الآن بالنسبة للمسلمين موضع قوة، وأوضاعنا أصبحت أفضل بكثير عن
ذي قبل، الدليل أننا كنا في بداية سنوات السبعينيات منبوذين ومُحاصرين من الدول
الإسلامية والعربية على المستوى السياسي والاقتصادي والديبلوماسي، إضافة إلى
عدم وجود علاقات دبلوماسية لنا مع العديد من الدول الأخرى المؤيدة وقتها للدول
الإسلامية والعربية مثل الصين. أما الآن وفي غضون أقل من 25 عاماً استطعنا
أن نقيم علاقات مع معظم دول العالم، والتي تُتيح لنا حق الوجود كدولة يجب أن
تعيش في أمن وأمان.
وقال المعلق الإسرائيلي:» لقد أصبحنا أقوياء الآن، وحرب «الغفران»
عام 1973م لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى، السبب ببساطة أن المسلمين لا يمكنهم
التوحد والاتفاق على شيء إلا الخلافات فيما بينهم. وعلى الجميع أن يتذكر أننا
الدولة الخامسة على مستوى العالم في مجال صناعة التكنولوجيا والبرمجيات التي
باتت تحقق الرخاء الاقتصادي لأي مجتمع. حيث يبلغ حجم التصدير الإسرائيلى
40 مليار دولار «.
* هل يضيع المسجد الأقصى بحلول عام 2005 م؟
قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون استثمار انشغال العالم بتمكين
اليهود من الإقامة في إحدى النقاط المهمة والأساسية للسيطرة على المسجد الأقصى.
فقد نشر موقع» وله «الإخباري العبري، صحيفة هتسوفيه الإسرائيلية ذات
الميول الدينية؛ أن شارون قرر زيادة الوجود اليهودي في منطقة» رأس العمود «
المجاورة للمسجد الأقصى، والتي يسكنها غالبية من المسلمين. وقرر شارون
تخويل شركة» كادوميم 3000 «بتسكين عدد 25 أسرة يهودية خلال الأشهر
الثلاثة الأخيرة؛ على أن تشرف الشركة نفسها على مرحلتين أخريين الأولى تشمل
تسكين 10 عائلات يهودية، والثانية تضمن تسكين 51 أسرة في عيد الفصح
اليهودي القادم.
قال الموقع الإسرائيلي على شبكة الإنترنت إن هذه الأسر كلها من المتدينين
» المتطرفين «اليهود الذين يؤمنون أشد الإيمان بفكرة نزول المسيح بعد إقامة
هيكل سليمان المزعوم، وحسب معتقداتهم المتطرفة؛ فإنه لا بد أولاً من تدمير
المسجد الأقصى ليتسنى لهم بناء هيكلهم الذي تم إعداده بالفعل منذ عدة سنوات في
الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا.
نقل الموقع عن مسؤول في مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية قوله:» يهدف
شارون من وراء هذا القرار إلى زيادة الوجود اليهودي في منطقة (رأس العمود)
الاستراتيجية الموقع بالنسبة للمسجد الأقصى حتى يتسنى حشد أكبر عدد ممكن من
اليهود في هذه المنطقة من الآن وحتى عام 2005م.. بعدها يمكن لليهود منع
المسلمين من دخول المسجد الأقصى والحرم القدسي.
من جهة أخرى؛ قال أحد اليهود المتطرفين الذين تم توطينهم في (رأس
العمود) ضمن هذه الخطة الإجرامية: «هذا الأمر من شأنه أن يلغي فكرة تقسيم
القدس إلى عاصمتين شرقية وغربية، حيث يمكننا بعد تنفيذ باقي المخطط الذي
سيستمر حتى 2005م؛ أن نعلن أمام العالم أن القدس هي بالفعل عاصمة الدولة
اليهودية.
أخبار سريعة:
- عندما دخل مشاة البحرية الأميركية» المارينز «مدينة صدام، وهي
عبارة عن ضاحية بغدادية يقيم فيها نحو مليونين من الشيعة، استقبلتهم حشود
مبتهجة وهي تهتف:» إننا نحبكم «،» لا صدام بعد اليوم «. وكان سكانها قد
طردوا ميليشيات نظام صدام حسين قبل وقت قصير تمهيداً لدخول قوات الاحتلال.
[النهار، اللبنانية العدد: (21573) والشرق الأوسط، العدد: (8899) ]
- لخَّص وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم موقفه من الاحتلال الأمريكي
للعراق قائلاً للعراقيين المتعاونين مع الاحتلال:» مرحباً بكم في نادي واشنطن «.
[العربي، المصرية، العدد: (854) ]
- كشف جنرال فرنسي متقاعد النقاب عن دخول قوات كوماندوز إسرائيلية
تضم أكثر من 150 عنصراً الأراضي العراقية تنفيذاً لخطة اغتيال الكفاءات التي
كان لها الفضل في بناء منظومة السلاح العراقية، ومن المرجح أن تجد فرق
الاغتيالات نفسها في مهمة يسيرة بعد توفير مفتشي الأمم المتحدة قائمة بأسماء
العلماء العراقيين الذين أجرى المفتشون تحقيقات مع بعضهم مؤخراً، ويؤكد
الجنرال أنّ الخطة قد وضعت بالتعاون بين مسؤولين صهاينة وأمريكيين.
[التجديد، العدد: (623) ]
- كشف يوسف باريتسكي وزير البنى التحتية الوطنية في الكيان الصهيوني
عن اتصالات رسمية تجري بخصوص قيام النظام الموالي للولايات المتحدة الذي
سيقام في العراق بتشغيل أنبوب النفط بين الموصل وحيفا، والذي سيخفض أسعار
الوقود بنحو 25 في المئة في الكيان الغاصب، و» ستتحول حيفا روتردام الشرق
الأوسط «.
[النهار، العدد: (21577) ]
- من الأدوار الخطيرة التي قام بها الشيعة في دعم قوات العدوان الأمريكي
على العراق هو زرعهم للشرائح المعدنية المتصلة بالأقمار الصناعية في أماكن
حيوية وحساسة لضربها بالصواريخ الموجهة، وقد ظهرت بالفعل آثار هذه الشرائح
في ضرب كثير من الأماكن الحيوية والحساسة، والتي لم تكن معلومة لاستخبارات
أمريكا قبل الحرب نتيجة استخدام هذه الشرائح.
[مفكرة الإسلام، 10/4/2003م]
- ذكرت منظمة العفو الدولية أنه منذ شن الحملة الأميركية البريطانية على
العراق حدثت انتهاكات لحقوق الإنسان في 14 دولة هي بلجيكا، وبريطانيا،
والدانمارك، ومصر، وألمانيا، واليونان، والأردن، والنرويج، وإسبانيا،
والسودان، والسويد وتركيا، والولايات المتحدة، واليمن؛ باعتبارها دولاً
منتهكة لحقوق الإنسان.
وقالت المنظمة في بيان» يبدو أن الحكومات تستغل تركيز العالم على مسرح
الحرب لانتهاك حقوق الإنسان بعيداً عن تدقيق الرأي العام «.
[البيان، العدد: (8320) ]
- على الرغم من أن الرئيس الروسي بوتين استمر في انتقاد الحرب؛ فإنه
قال أيضاً إن هزيمة التحالف لن تكون في مصلحة روسيا.
[الشرق الأوسط، العدد: (8899) ](187/102)
في دائرة الضوء
الصهيونية المسيحية
سر تبني أمريكا لمشاريع اليهود
صالح بن عبد الله الهذلول
المفهوم الاصطلاحي لـ: «الصهيونية المسيحية» [*] :
يقصد بهذا الاسم أنه بالإضافة إلى وجود حركة صهيونية يهودية؛ فإنه يوجد
حركة صهيونية مسيحية.
فإذا كانت الصهيونية اليهودية هي: دعوة وحركة دينية قومية، تدعو اليهود
إلى العودة إلى جبل صهيون في فلسطين، وإقامة دولة يهودية خاصة بهم في
فلسطين.
فإن الصهيونية المسيحية هي: حركة ودعوة أيضاً دينية، لكنها مسيحية،
تدعو إلى العصمة الحرفية للكتاب المقدس، والعودة الحقيقية للمسيح، وقيام حكمه
الألفي الذي تكون عاصمته مدينة القدس.
وصهيونيتها تأتي من دعوتها إلى وجوب عودة اليهود إلى أرض الميعاد
(فلسطين) تحقيقاً للنبوءات التوراتية التي يؤمن بها المسيحيون.
علماً أنه بالإضافة إلى هذا الاسم «الصهيونية المسيحية» ؛ فإنه يطلق عليها
أحياناً أسماء أخرى؛ مثل: «الأصولية المسيحية» ، أو «الأصولية الإنجيلية» ،
أو «الصهيونية غير اليهودية» . وكل هذه الأسماء لمسمى واحد.
* عوامل ظهور «الصهيونية المسيحية» :
1 - الأصل في دين المسيحية هو التوحيد، وهو دين الأنبياء جميعاً عليهم
الصلاة والسلام، وما جاء عيسى عليه السلام إلا به، التوحيد بكل شُعبه: في
العبادة، فلا يُعبد إلا الله وحده لا شريك له، وفي الربوبية، فالله خالق كل شيء،
وفي الأسماء والصفات، فليست ذات الله جل جلاله مركبة، كما أنها منزهة عن
مشابهة المخلوقين [1] .
يقول الله تعالى: [وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ
قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ * مَا
قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ
فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (المائدة:
116-117) .
ومع ما دخل كلاً من التوراة والإنجيل من تحريف عبر التاريخ، إلا أنه لا
يزال يوجد فيهما الآن نصوص تدل على توحيد الله سبحانه، ففي التوراة مثلاً:
(في البدء خلق الله السماوات والأرض) [2] . (لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا
تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مما في السماء فوق، وما في الأرض من
تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن، ولا تعبدهن؛ لأني أنا
الرب إلهك، إله غيور) [3] . (فاحترزوا من أن تنغوي قلوبكم، فتزيغوا، وتعبدوا
آلهة أخرى، وتسجدوا لها، فيحمى غضب الرب عليكم) [4] .
وورد في الإنجيل: قال المسيح: «إن أول الوصايا هي: (اسمع يا
إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد) [5] . فقال له الكاتب: جيداً يا معلم، بالحق قلت؛
لأنه الله واحد، وليس آخر سواه» [6] . وقال المسيح أيضاً: (إنه مكتوب للرب
إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد) [7] .
ولكن بولس (شاؤل) اليهودي [8] الذي اعتنق النصرانية عام 38م أي بعد
رفع المسيح عليه السلام استطاع أن يغير اتجاهها، ويحدث فيها كل ما ليس من
أصلها، حيث كان من أشدّ وألدّ أعدائها. لقد كان دخوله المسيحية، كما يقول عنه
لوقا: «وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء،
فسقط على الأرض، وسمع صوتاً قائلاً له: شاؤل، شاؤل، لماذا تضطهدني؟
فقال: من أنت يا سيدي؟ فقال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. فقال وهو
مرتعد متحير: يا رب! ماذا تريد أن أفعل؟ فقال له الرب: قم وادخل المدينة،
فيقال لك ماذا ينبغي لك أن تفعل» [9] .
قال لوقا: «وللوقت جعل يكرز أي بولس في المجامع بالمسيح أن هذا هو
ابن الله» [10] .
هذه الجملة الأخيرة غيرت وجه التاريخ؛ إذ لم تكن معروفة من قبل،
فأصبحت نقطة تحول في الدراسات المسيحية، وأصبح بولس معلم المسيحية [11] :
«وأعرفكم أيها الأخوة الإنجيل الذي بُشِّرت به، إنه ليس بحسب إنسان؛ لأني لم
أقبله من عند إنسان، ولا عُلِّمتُه، بل بإعلان يسوع المسيح» [12] .
قال ذلك، مع أنه «لم ير المسيح قط، ولا سمعه يتكلم، ولكنه قال بصلة
مباشرة بينه وبين المسيح. وبهذه الدعوى؛ لم يَصِر لأحد حتى في أن يناضله فيما
ينشره من تعاليم ما دام أنه تلقاها مباشرة من السيد المسيح» [13] .
إذن فالأصل في دين المسيحية التوحيد كغيره من الأديان السماوية التي جاءت
من عند الله سبحانه كما شهدت بذلك الكتب السماوية الثلاثة: التوراة، والإنجيل،
والقرآن.
فمن أين إذن جاء التثليث ليصبح جوهر العقيدة المسيحية بعد المسيح؛ مع
ملاحظة أن التوراة وهي أصل المسيحية، وأن كثيراً من نصوص الإنجيل تنطق
بالألوهية الواحدة؟
والجواب: ما يروى عن المسيح عليه السلام أنه قال لتلاميذه يوماً: «اذهبوا،
وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب، والابن، والروح القدس» [14] .
وقد سبق إيراد ما يخالف ظاهر هذا النص من الإنجيل نفسه؛ مما يدل قطعاً على
دخول التحريف إلى الإنجيل والعبث به. ولعل الدافع لإقحام هذا النص فيه جعل
المسيحية ديناً عالمياً من ناحية، وبث فكرة التثليث من ناحية أخرى.
ولقد اتسعت عقيدة التثليث وانتشرت بين المسيحيين حينما دخل الوثنيون من
الرومان، واليونان فيها، حيث كان أكثر من يحضر المجامع الكنسية من الرومان
واليونان، ولهم السيطرة فقرر الرومان بسلطة قسطنطين [15] وقوته هذه العقيدة في
مجمع نيقية سنة 325م، ثم قرروها في الآفاق، على الرغم من أن الآريوسيين
[16] ذهبوا إلى أن المسيح إنسان مخلوق من العدم، فنفاهم قسطنطين، وبقوا بضع
سنين في المنفى، ثم عادوا إلى الإسكندرية. وبعودتهم نادى الأساقفة المكرهون
على التوقيع بالتثليث ببطلان مساواة عيسى لله في الجوهر.
فاضطر قسطنطين أن يقيم مجمعاً جديداً في أنطاكية، وكثر فيه الجدل، ثم
أقرّ فيه صحة مذهب آريوس، وبطلان رأي خصومه الذين دعوا أنفسهم أرثو ذكس
(أي مستقيمي الرأي) ولكن سرعان ما توفي آريوس فاستغل خصومه ذلك حجة
على بطلان زعمه [17] ، فغلبت عقيدة التثليث وراجت.
وجددت الكنيسة الكاثوليكية، والمذهب البروتستانتي عقيدة التثليث؛ مع
اعترافهم أن أدلة التاريخ تخالف ذلك، وأنه طارئ على الديانة المسيحية [18] ،
وهكذا سيطر الرومان الذين دخلوا المسيحية، وأحدثوا فيها ما أحدثوا من الوثنيات،
ولهذا قيل: «لم تتنصر الروم ولكن تروَّمت النصارى» .
واستمر حكمهم إلى القرن السادس الميلادي، حيث جاء الإسلام فاضطرهم
بفتوحاته وانتصاراته إلى الانحصار على أوروبا. وهناك - وفي العصور
الوسطى - سيطر رجال الكنيسة على أوروبا دينياً؛ فكان لهم الحق وحدهم في فهم
الدين، وتفسيره. كما سيطروا سياسياً؛ حيث كان البابا هو الذي يعين الحكام.
وسيطروا علمياً؛ حيث فرضوا فهمهم الديني على ممالكهم.
2 - وبعد سقوط غرناطة عام 1492م؛ بدأت محاكم التفتيش تفتك بالمسلمين
واليهود معاً، فهاجر المسلمون إلى شمال إفريقيا ومعهم بعض اليهود، إلا أن أكثر
اليهود هاجر إلى أوروبا، فحملوا معهم ثروة علمية ومالية جمعوها من الأندلس،
وكان لها أكبر الأثر في تغلغل اليهود بالمجتمع الأوروبي، حيث وصل ذلك التغلغل
إلى الكنيسة نفسها؛ مما حدا بمارتن لوثر [19]- زعيم حركة الإصلاح ورائد
المذهب البروتستانتي - أن ينشر كتاباً عام 1523م بعنوان: (عيسى وُلد يهودياً) .
ووضعت حركة الإصلاح البروتستانتية العصمة في الكتاب المقدس، كما أدت
القراءة الحرفية له إلى النظر إلى شعب اليهود بوصفه شعباً مميزاً، وإلى أن
عودتهم إلى فلسطين شرطٌ لتحقيق المجيء الثاني للمسيح.
وهكذا نفذ الفكر اليهودي والأدبيات اليهودية إلى صميم العقيدة المسيحية،
وتدور تلك الأدبيات حول أمور ثلاثة:
أ - أن اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم يكونون بذلك الأمة المفضلة على
كل الأمم «لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك. إياك قد اختار الرب إلهك؛ لتكون
له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض» [20] .
ب - أن ثمة ميثاقاً إلهياً، يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين أعطاه
الله لإبراهيم حتى قيام الساعة: «وقال الرب لأبرام: اذهب من أرضك ومن
عشيرتك، ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك،
وأعظم اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه ... وخرجوا
ليذهبوا إلى أرض كنعان.... وظهر الرب لأبرام، وقال: لنسلك أعطي هذه
الأرض» [21] .
ج - ربط الإيمان المسيحي بعودة المسيح، بقيام دولة صهيون؛ أي بتجميع
اليهود حتى يظهر المسيح فيهم مرة ثانية.
هذه الأمور الثلاثة ألفت في الماضي، وهي تؤلف اليوم، قاعدة «الصهيونية
المسيحية» التي سبقت الصهيونية اليهودية بثلاثة قرون؛ أي قبل المؤتمر
الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل بسويسرا عام 1897م برئاسة د. هرتزل [22] .
في لقاء تم بين جريس هالسل ومسيحي أمريكي في فلسطين؛ تمنى ذلك
المسيحي أن لو وُلد يهودياً، وقال: «إن خلق إسرائيل جديدة مع عودة اليهود إلى
الأرض التي وعدهم الله بها؛ يعطينا دليلاً لا يناقش على أن خطة الله المباركة هي
موضع التنفيذ، وأن العودة الثانية لمخلصنا قد تأكدت» [23] .
وجاء في دائرة المعارف البريطانية: «إن الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين
قد بقي حياً في الأذهان بفعل النصارى المتدينين، وعلى الأخص في بريطانيا أكثر
من اليهود أنفسهم» ، ويؤكد هذا المعنى وايزمان بقوله: «إن من الأسباب
الرئيسية لفوز اليهود بوعد بلفور؛ هو شعور الشعب البريطاني المتأثر بالتوراة،
وتغنيه بالشوق الممض لأرض الميعاد» [24] .
لم تكتف «الصهيونية المسيحية» بهذا الحد من التغلغل الفكري في أوساط
المسيحيين الغربيين، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك وأعمق، فعندما ترجم
الكتاب المقدس للغات القومية الأوروبية، أصبح ما ورد في العهد القديم من تاريخ،
ومعتقدات، وقوانين العبرانيين، وأرض فلسطين أموراً مألوفة في الفكر الغربي.
وغدت قصص العهد القديم وشخصياته مألوفة كالخبز، وأضحى كثير من
البروتستانت يرددونها عن ظهر قلب. وأصبح المسيح نفسه معروفاً، ولم يُعتقد أنه
ابن مريم، بل واحد من سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين. وحل أبطال العهد
القديم كإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب؛ محل القديسين الكاثوليك.
وأصبحت فكرة أن الحج للقدس يكفر الخطايا مرفوضة، كما أنكرت شفاعة
القديسين، وتبجيل رفاتهم. لكن ذلك لم يُنس الناس الأرض المقدسة تماماً، بل إنها
حظيت بأهمية جديدة، حيث ارتبطت بدلالات صهيونية.. وهكذا أصبحت فلسطين
أرضاً يهودية في الفكر المسيحي في أوروبا البروتستانتية، وأصبح اليهود هم
الفلسطينيون الغرباء في أوروبا والذين سيعادون إلى فلسطين عندما يحين الوقت
المناسب [25] .
3 - ويذكر الباحثون أن أول من دعا إلى البعث اليهودي في فلسطين هو
اللاهوتي الإنجليزي توماس برايتمان (1562 - 1607م) ، وتلميذه هنري فنش
عضو البرلمان البريطاني الذي كتب عام 1621م أن اليهود سوف يعودون إلى
بلادهم، ويعيشون بسلام هناك إلى الأبد؛ تحقيقاً لصالح الديانة المسيحية، بعد أن
يسودوا أعدائهم الذين يسميهم الكتاب المقدس «جوج وماجوج» . وفي هذا الوقت
- أي القرن السابع عشر - قامت في إنجلترا حركة «تطهيرية» تعاطفت مع
اليهود، واستخدمت العبرية في الصلوات، وفي تلاوة الكتاب المقدس، وشددت
على أن العهد القديم يعطي مثالاً للحاكمية الإلهية في تاريخ أمة، وعلى مفهوم
الشعب المختار [26] .
هذه الحركة التي يسميها المؤرخ سيسل روث: «حب السامية» ، تميزت
بالخصائص الآتية:
أ - التأثر بالمثالية العبرية كما تظهر في الكتاب المقدس.
ب - شعور بالخجل تجاه آلام اليهود في الماضي والحاضر، والعطف عليهم.
ج - نقل يوم الاحتفال الديني ببعث اليهود؛ إلى يوم السبت.
وفي عام 1649م وجّه كل من عالمي اللاهوت التطهيريين الإنجليزيين
«جوانا» ، و «أيبنزر كاترايت» مذكرة إلى الحكومة البريطانية يطالبان فيها:
أن لبريطانيا شرف حمل أولاد إسرائيل إلى الأرض التي وُعد إياها أجدادهم.
هذه المذكرة لها أهمية من حيث:
أ - أنها تعبِّر عن مدى التحول في النظرة إلى فلسطين والقدس؛ من كونها
أرض المسيح المقدسة، إلى كونها وطناً لليهود.
ب - أنها أول تعبير عن التحول من الإيمان بأن عودة المسيح تسبقها عودة
اليهود إلى فلسطين، وأن العودتين لن تتحققا إلا بتدخل إلهي، تحول من ذلك
الإيمان إلى الإيمان بأن هاتين العودتين يمكن أن تتحققا بعمل البشر.
واعتمد هذا الربط كرومويل سنة 1655م في مؤتمره للتشريع لعودة اليهود
إلى بريطانيا، وقد حضر المؤتمر هذا العالم اليهودي ناسخ بن إسرائيل الذي ربط
الصهيونية المسيحية بالمصالح الاستراتيجية لبريطانيا.
إن توظيف الدافع الديني لتحقيق مكاسب سياسية ذات بعد استراتيجي؛ أسس
القاعدة الثابتة للصهيونية المسيحية في أوروبا ثم في أمريكا. ولكن حركة «حب
السامية» تضاءلت بعد موت كرومويل، وارتقاء الستيورات عرش الحكم في
إنجلترا سنة 1660م التي هزمت فيها البيوريتانية «التطهيرية» ، غير أن البعث
اليهودي من حيث هو تمهيد للمجيء الثاني للمسيح شقت طريقها بين المسيحيين في
إنجلترا، وكثير من البلدان الأوروبية، وهي تندرج في سياق النظرة «الألفية»
إلى المستقبل، والقائلة: إن العالم يشرف على النهاية، وإن ألفاً من السنين تتميز
بالمودة والسلام والأخوة ستبدأ بعد تلك النهاية.
وفي مطلع القرن التاسع زاد زخم هذه الفكرة في إنجلترا، فتأسست في لندن
عام 1807م جمعية لنشر المسيحية بين اليهود! وعمل القس لويس وي الذي أصبح
عام 1809م مديراً للجمعية على ترويج فكرة عودة اليهود إلى فلسطين تحقيقاً
للنبوءات التوراتية [27] .
وعملت هذه الجمعية، بل تخصصت في تثقيف «المهتدين» من اليهودية
إلى المسيحية ودعمهم، ثم تحولت بسرعة إلى دعم الصهيونية.
وهنا وقفة جديرة بالتأمل والملاحظة، وهي: ظاهرة تحول بعض اليهود إلى
المسيحية، مع ما عرف عن اليهود من انغلاق! فهل يهدف المسيحيون لإدخال
بعض اليهود في المسيحية؟ أو أن ذلك من قبيل اختراق اليهود للمسيحية والعبث
بها، وتسخير المسيحيين لمصلحتهم [28] ؟ ولقد عمل اللورد شافتبري على معارضة
اندماج اليهودية في المجتمع الإنجليزي، ويرى وجوب بقاء اليهود غرباء في كل
بلد إلا فلسطين.
إلا أن اليهود لم يتحمسوا كثيراً للذهاب إلى فلسطين، بل همهم الأول نيل
الحقوق المدنية، والسياسية في مختلف البلدان.
ثم بدأ الأمر يتغير تدريجياً مع قيام حركة سياسية، أطلقها مجموعة من اليهود
الأوروبيين الذي عقدوا المؤتمر الصهيوني عام 1894م: وحينما رفع هرتزل شعار
«أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» [29] ؛ استفادت منه الحركة الصهيونية
اليهودية.
ومما يجدر ذكره والتنويه به أن كلاً من «آرثر بلفور» ، و «دافيد جورج»
رئيس الحكومة البريطانية في تلك الفترة، ينتميان إلى تيار «الصهيونية
المسيحية» .
وفي منتصف القرن التاسع عشر انتشرت فكرة «الألفية» [30] على يد
المبشر البريطاني جون داربي الذي قسم التاريخ إلى حقبات تحددها كيفيات التدخل
الإلهي، وبشَّر بقرب تحقيق النبوءات مع التشديد على «الأمر الإلهي» بعودة
اليهود إلى فلسطين بالمجيء الثاني الحقيقي للمسيح.
4 - في عام 1878م أصدر رجل الأعمال المسيحي وليم بلاكستون:
(1841 - 1935م) كتابه «يسوع آت» ، ووزع منه أكثر من مليون نسخة في
الولايات المتحدة الأمريكية، وترجم إلى (48) لغة، وعُدّ أكثر الكتب انتشاراً في
القرن التاسع عشر [31] .
وفي هذا العام نفسه؛ أسس بلاكستون منظمة تدعى «البعثة العبرية من أجل
إسرائيل» ، جمع خلالها توقيعات (413) شخصية أمريكية بارزة من أعضاء
الكونجرس، والقضاة، ورجال الأعمال والصحافيين. ورفعها ضمن عريضة
للرئيس الأمريكي هاريسون (1889 - 1893م) وذلك سنة 1891م، يطلبون
فيها تجميع اليهود في وطنهم فلسطين.
وعندما تردد هرتزل في أمر فلسطين كأرض تقام عليها دولة إسرائيل أرسل
بلاكستون إليه نسخة من الكتاب المقدس، تظهر فيها علامات وضعها هوتشير إلى
عودة اليهود إلى الأرض المقدسة.
وهكذا فلقد استطاعت الحركة الصهيونية اليهودية ولفترة طويلة توظيف
مشاعر التأييد في الأوساط الصهيونية المسيحية، إلى حد أن اقترح الرئيس
الأمريكي توماس جفرسون (1801 - 1809) اتخاذ رمز لأمريكا يمثل أبناء
إسرائيل تظللهم غيمة في النهار، وعمود من نار في الليل، توافقاً مع ما يتضمنه
سفر الخروج (13: 20 - 22) .
ومنذ عام 1814م ارتفعت في أمريكا دعوات «الصهيونية المسيحية»
لتوطين اليهود في فلسطين، بل إن أحد رواد هذه الحركة القس وردر جريسون؛
هاجر من أمريكا إلى فلسطين، واعتنق الديانة اليهودية، وقد ترقى في الأعمال
الوظيفية إلى أن أصبح قنصلاً عاماً لأمريكا في فلسطين، وكان متحمساً لعودة
اليهود إلى فلسطين.
وهكذا تفاعل شعور الحركتين الصهيونيتين: المسيحية واليهودية؛ بوجوب
توطين اليهود في أرض الميعاد «تحقيقاً لوعد الله» ! ، وتنامى على مستويات
عدة: سياسية، ودينية، ومادية، ونتج عنه مطالبة اليهود للمسيحيين الالتزام بثلاثة
مواقف:
1 - رفض العداء للسامية ومحاربتها، وتطهير المؤسسات المسيحية،
والطقوس الدينية، بل والأدب الديني بما فيه الذاكرة من كل أثر سلبي لها.
2 - الكف عن دعوة اليهود إلى الدخول في المسيحية.
3 - الاعتراف بحق اليهود في دولة خاصة بهم، والانتباه إلى العلاقة
الخاصة التي تشد يهود العالم إلى هذه الدولة.
وقد قبلت معظم الكنائس المسيحية الغربية الموقف الأول، وإن اختلفت في
شكل التعبير عنه. ومن صور ذلك ما تم في مؤتمر الجمعية العامة لمجلس الكنائس
العالمي المنعقد في نيودلهي سنة 1961م، حيث خرج المؤتمرون بوثيقة فيها:
(العداء ضد السامية خطيئة ضد الله، وضد الإنسانية، وعلينا في التعليم المسيحي ألا
نلقي الأحداث التاريخية التي أدت إلى صلب المسيح على عاتق الشعب اليهودي،
فالمسؤولية تقع على إنسانيتنا المشتركة، وليست محصورة بجماعة معينة أو قوم) .
وبنحو هذه المقررات أصدر المجمع الفاتيكاني وثيقة خاصة بالعلاقة مع
الأديان غير المسيحية، وذلك عام 1965م، وأصدرت البروتستانتية في مجمعها
العام بكنيسة هولندا عام 1970م بياناً جاء فيه: «إن لليهود الحق في إقامة دولة
خاصة بهم» .
كما أصدرت اللجنة الأسقفية الفرنسية الكاثوليكية عام 1973م وثيقة خاصة
بالعلاقة مع اليهود، وعنونتها بـ «الموقف المسيحي من اليهودية» . ولكن موجةً
من رياح التغيير هبت على هذه المواقف الكنسية المنساقة خلف اليهود، ففي عام
1975م عقد مجلس الكنائس العالمي مؤتمراً له في نيروبي بكينيا؛ أدان فيه
إسرائيل، ودعاها للانسحاب إلى حدود عام 1967م، وأيد حق تقرير المصير
للشعب الفلسطيني.
كما حدث مثل هذا الموقف في اجتماع عام 1983م في فانكوفر بكندا، وظهر
أيضاً في بعض فعاليات مؤتمر التنصير في كلورادو بالولايات المتحدة الأمريكية
سنة 1978م [32] .
ولعل هذا التغيير في المواقف له أسباب؛ منها:
أ - تظاهر الكنيسة بالتضامن مع الفقراء والمقهورين.
ب - تنامي قوة كنائس العالم الثالث التي لا تدين بفكر الصهيونية المسيحية.
ج - ما قام به المسيحيون العرب وخاصة الفلسطينيين.
ورغم كل ذلك؛ فإن هناك تياراً مسيحياً يشق طريقه بقوة، ينظر إلى
المستقبل بعين النبوءات، ويرى لزاماً عليه أن يساهم في بناء دولة إسرائيل لتتم
للمسيحيين بعد ذلك الوراثة الكبرى بتهيئة الأجواء والأوضاع لعودة المسيح وقيام
الحكم الألفي.
هذا التيار مؤثر وقوي في الولايات المتحدة، وفي أوروبا، إلا أنه برز أكثر
في أمريكا بعد منتصف هذا القرن.
هذا ما يسمى «بالصهيونية المسيحية» ، يرون أن تأييدهم لإسرائيل ليس
موقفاً سياسياً جاء نتيجة انفعالات معينة، بل هو مذهب، ورأي صادر عن اعتقاد
ديني يقيني، مستنده قراءة النبوءات الخاصة بالمجيء الثاني للمسيح في العهد القديم
والجديد، زكاه وأكده قيام دولة إسرائيل عام 1948م، ثم تنامى وتعمق بعد حرب
1967م واحتلال مدينة القدس.
ومنذ السبعينيات من هذا القرن الميلادي والعالم الغربي يشهد نمو هذه الحركة،
بل صار لها قوة سياسية يُحسب لها، فبلغ عدد المنتسبين إليها في أمريكا أربعين
مليوناً؛ حسبما جاء في العريضة الموجهة للرئيس ريجان في عام 1982م، والتي
وقّعها عدد من قادة هذه الحركة. ومما جاء فيها:
وجوب عودة أمريكا إلى تطبيق تعاليم الكتاب المقدس.
من جهة أخرى؛ فإن أحداث الشرق الأوسط عموماً أطلقت سيلاً من النبوءات،
بعضها يبشر بالمجيء الثاني للمسيح الذي بات وشيكاً! وبعضها الآخر يعلن أنه
لو قامت حرب عالمية ثالثة (هرمجدون نووية) [33] ؛ فإنهم إنما تصرفوا بمشيئة
الله وإرادته! لقد توسعت مثل هذه المشاعر أفقياً، وترسخت عمودياً، حتى
أصبحت العودة الثانية للمسيح حلماً وهاجساً يراود أفكار قطاع عريض من الغربيين.
5 - وأخيراً وبعد الاستعراض السابق يتبين أن أوروبا في العصور الوسطى
كانت حبلى؛ نتيجة تفاعل ظرفين مهمين في حياتها؛ هما الظرف السياسي،
والظرف الديني، كثمرة طبيعية لتسلط الكنيسة، وبيروقراطيتها [34] . فولدت
عملية الانعتاق منها ظهور طائفة البروتستانت، والتي تزامنت مع تململ اليهود
وتشوقهم إلى الرجوع لأرض الميعاد، ومع التململ والرغبة في التخلص منهم أيضاً.
هذه العوامل متضافرة أسفرت عن مولودٍ حمل صفاتٍ وراثية عدة:
سياسية، ويهودية، ومسيحية شاردة منفلتة من قيود كنيسة روما، ذلك
المولود هو ما سمي بـ (الصهيونية المسيحية) .
وهنا يقفز إلى الذهن سؤالان مهمان لعل الجواب عنهما يسهم في اكتمال
الرؤية عن عوامل ظهور تلك الحركة:
السؤال الأول: كيف انبعثت حركة الصهيونية المسيحية من طائفة
البروتستانت؛ مع ما بينهما من اختلاف ظاهري؟!
فالبروتستانت أحدثوا انقلاباً، وتمرداً ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما، أطاح
بحق البابوات في احتكار تفسير الكتاب المقدس وفهمه، بل وأطاح بالبيروقراطية
الكهنوتية التي كانت جاثمة على صدر أوروبا في القرون الوسطى.
وأما الصهيونية المسيحية؛ فإنها تدعو إلى الالتزام الحرفي بنصوص الكتاب
المقدس، وخاصة نبوءات العهد القديم، إلا أنه في الحقيقة ليس هناك خلاف
جوهري يُذكر بين الحركتين؛ لأن كلاً منهما هُجِّن بالفكر اليهودي، والعقائد
التوراتية، كما أفرغ محتواهما من الكثير الذي يجعلهما ديانة مسيحية مستقلة جديدة.
وإن وجد شيء من ذلك الخلاف؛ فإنما هو خلاف فكري أقرب من أن يكون
عقائدياً. حيث تؤمن «الصهيونية المسيحية» بالحكم الحرفي للمسيح؛ بينما يؤمن
البروتستانت خاصة اللوثرية منهم بالحكم المعنوي للمسيح، فعودة المسيح الثانية
عند «الصهيونية المسيحية» حقيقية، لكنها عند البروتستانت عودة معنوية،
تتمثل في انتشار المسيحية، وتمكنها وهيمنتها.
وأما السؤال الثاني فهو: ما السر في تبني حركة «الصهيونية المسيحية»
لقضية اليهود في العودة لأرض الميعاد (فلسطين) ، على الرغم من العداء
التاريخي بين أهل الملتين: المسيحية واليهودية؟!
وهذا العداء التاريخي كان بسبب الخلاف العقائدي العميق بينهما:
أ - فالمسيحيون يؤمنون بأن «يسوع الناصري» الذي تضمنت الأناجيل
تاريخه، وتعاليمه في «العهد الجديد» ؛ هو المسيح الذي بشرت بمجيئه نبوءات
«العهد القديم» ، ولهذا عظَّم النصارى وقدَّسوا العهد القديم.
في حين يرفض اليهود ذلك، ويتمسكون بأن المسيح الموعود لم يأت بعد.
والذي لا سبيل إلى المراوغة في شأنه؛ أن ذلك الانتظار لمجيء المسيح المنتظر
يظل حجر الزاوية في الإيمان اليهودي [35] .
ب - وفي «التلمود» ورد أن «المسيح الناصري» ابن غير شرعي،
حملته أمه وهي حائض، وأنه شرير، ومجنون، ومخبول، وساحر، ومشعوذ،
ووثني، وقد صُلب في ليلة عيد الفصح اليهودي [36] . كما أنهم يعتقدون أن كل ما
جاء به «المسيح الناصري» كذبٌ، وهرطقة، ولذا يعتقدون أنه في جهنم [37] .
ج - وهذه الخلافات، كانت مثار النزاع بين أرباب الديانات، فحينما يتمكن
اليهود من المسيحيين فإنهم يُثخنون فيهم القتل، والتمثيل والتعذيب، فقد فتكوا
بالمسيحيين عام 41م، ودبروا مذابح عديدة في عهد تراجان (98 - 117م) ،
ذهب ضحيتها حوالي نصف مليون مسيحي؛ في همجية لا نظير لها. كما قضى
يوسف ذو نواس في مذبحة الأخدود على عشرات الألوف من المسيحيين حرقاً سنة
524م [38] .
د - وكذلك رد المسيحيون على اليهود باضطهادهم؛ ففي سنة 352م ثار
اليهود في فلسطين، فأخمدت ثورتهم، وقتل الآلاف منهم، وشرد الآخرون. ثم
تتابعت الاضطهادات المسيحية لهم:
ففي إيطاليا سنة 1242م، وسنة 1540م، وفي بريطانيا سنة 1290م. وفي
فرنسا في عهد لويس التاسع، ثم في عهد فيليب.
ومحاكم التفتيش في إسبانيا عام 1492م، وقد طُرِدوا من إسبانيا، وهذا ما
اعتبره مؤرخوهم أكبر كارثة حلّت بهم بعد التدمير الثاني للهيكل سنة 70م،
وهزيمة باركوخبا [39] سنة 135م.
وآخر مذابحهم على أيدي المسيحيين نفذها هتلر الألماني في الحرب العالمية
الثانية عام 1945م [40] .
ولكن ومع كل ما سبق من صور العداء؛ فإن «الصهيونية المسيحية» تبنت
قضية اليهود في الرجوع لأرض الميعاد، وبقوة. وسبب ذلك يعود إلى عاملين
بارزين؛ سياسي وديني [41] : أما السياسي؛ فيتمثل في صراع الملك الإنجليزي
المزواج هنري الثامن مع الكنيسة، فقد طلب من الكنيسة الموافقة على طلاقه من
زوجة لم يستطع التخلص منها، فأصدر سنة 1538م أوامره إلى كل كنائس إنجلترا؛
بإنهاء الوصاية الكهنوتية على الكتاب المقدس، وتفسيره، وتمكين كل فرد
«مؤمن» من الاطلاع على نصوصه، وتفسيرها، كما يمليه عليه عقله
وضميره. وانضم إلى هنري الثامن، وأيد خروجه ذلك، الطبقة الرأسمالية الناشئة
الصاعدة في تلك الفترة، والتي كانت تعاني من سطوة وقيود الكنيسة في روما التي
تفرضها على حرية التجارة، والمعاملات، وضرائبها التي تجبيها منهم.
أصدر هنري الثامن أوامره تلك بعد ثلاث سنوات من حلوله محل بابا روما
رئيساً أعلى لكنيسة إنجلترا، فكسر بذلك حاجزاً ضخماً، كان يُعد تجاوزه جريمة
عقابها الموت حرقاً، بتهمة الكفر، وإفساد الدين. هذا الموقف؛ عزز تيار ما سمي
بالإصلاح الديني الذي بدأه مارتن لوثر، ثم تبعه كالفن الفرنسي (1509 -
1564م) ، والذي اتخذ شعار «العودة إلى الأصول» ؛ أي العودة إلى حرفية
«الأسفار المقدسة» .
تمازج «الورع الإصلاحي» مع السياسة؛ ليهدمَا مفهوم: «الكنيسة
الكاثوليكية المعصومة من الخطأ!» ، وتحل سلطة الكتاب المقدس باعتباره
معصوماً من الخطأ حقيقة (كما يعتقدون) ؛ لأنه كلام الله! محلَّ سلطة البابوية
الغاشمة. إن هذا التمازج فتح الأبواب على مصاريعها لفهم نصوص الكتاب المقدس،
وصياغاته الملغزة التي أكد أحبار اليهود باستمرار أنها تحتمل التفسير بأي معنى
من ستمائة ألف معنى «.
هذا التوجه الذي قبلته البروتستانتية مرحلياً؛ الهدف منه إضعاف خصمها
الكنيسة الكاثوليكية.
إلا أن التقديرات تلك تجاوزت الهدف المنشود إلى ما هو أبعد منه بكثير؛ إذ
» أصبح يَهْوه إله اليهود إلهاً للمسيحية، وحل أبطال العهد القديم، وأنبياؤه؛ محل
قديسي المسيحية «كما تقرره الكاتبة الصهيونية اليهودية بربارا توخمان [42] .
واستثمر اليهود الذين دخلوا المسيحية ظاهرياً ذلك، أمثال يهود المارّانو الذين
ساعدوا كولمبس في رحلاته [43] ، وأمثال كالفن اليهودي الأصل [44] ، بل إن عدداً
من وعاظ الكنائس، هم يهود اعتنقوا المسيحية؛ ليقوموا بدور سلفهم شاؤل.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه لا بد من إدراك وملاحظة أن فكر
» الصهيونية المسيحية «ومعتقدهم قائم على العمل على إعادة اليهود إلى فلسطين
للتخلص منهم، ولتحقيق وعد الله لهم إلى أن يأتي المسيح، وحينذاك يتحولوا إلى
مسيحيين مؤمنين. وما حصل من عداء وحروب بين أهل الديانتين: اليهود
والمسيحيين؛ إنما نتج من خطأ في التطبيق والممارسة لتلك العقيدة، ومخالفةٍ،
وعدم فهمٍ لنصوصها، وليس تطبيقاً لوصايا المسيحية المحرفة التي صيغت في
جملتها لمصلحة اليهود.
* أهم عقائد» الصهيونية المسيحية «:
إن» عقيدة المجيء الثاني، من العقائد المتميزة في المسيحية؛ إذ تعدُّ إحدى
الأركان الأساسية للإيمان المسيحي، فيؤمن المسيحيون بأن ملكوت الله يوجد الآن
في العالم من خلال شعبه الذي يؤمن به، ويجعله ملكاً على حياته. وسوف يعلن
ملك الله للعالم بقوة في اليوم الآخر؛ بالمجيء الثاني للمسيح، ونحن الآن حسب
اعتقادهم نعيش زمن ما بين مجيئين للمسيح. فالمجيء الأول وقع منذ ألفي عام [45] ،
و «الصهيونية المسيحية» ترقب الآن مجيئه الثاني، وهو أهم عقيدة عندهم،
كما يقول الصهيوني المسيحي هنري ثيسن [46] . إلا أن هناك ممهدات يجب أن
تسبق ذلك الانقلاب في حياة الناس عند نزول المسيح؛ هي:
1 - عودة اليهود إلى أرض الميعاد، ثم قيام دولة يهودية عليها، وقد تم هذا
عام 1948م حينما أعلن اليهود عن قيام دولتهم هناك.. «إن خلق إسرائيل جديدة،
مع عودة اليهود إلى الأرض التي وعدهم الله بها يعطينا دليلاً لا يناقش على أن
خطة الله المباركة هي موضع التنفيذ، وأن العودة الثانية لمخلصنا قد تأكدت.
إن خلق دولة إسرائيل هو أهم حدث في التاريخ المعاصر، إنها تمثل الخطوة
الأولى نحو بداية نهاية الزمن» [47] .
2 - الاستيلاء على مدينة القدس، وقد تم أيضاً سنة 1967م. «لقد أعطانا
الله إشارة في عام 1967م، عندما منح النصر لإسرائيل على العرب، ومكن اليهود
من أخذ الأرض التوراتية: يهودا والسامرة، والسيطرة العسكرية على مدينة
القدس. فلأول مرة منذ أكثر من 2000 سنة أصبحت القدس تحت سيطرة اليهود»
[48] .
ويقول الصهيوني المسيحي كلايد: «نعم إن المسيح سيعود إلى هذه الأرض
لإعادة حكم الله، ولتحقيق السلام العالمي، وسيتولى زمام قيادة العالم، وسوف يقوم
بذلك كله من مركز قيادته في القدس» [49] .
3 - معركة هرمجدون: إن قيام دولة إسرائيل، والاستيلاء على مدينة القدس؛
إرهاصات لقرب نشوب المعركة الفاصلة، وإندلاع نيران هرمجدون.
وهرمجدون: «هو اسم لمعركة نووية يعتقد الإنجيليون المتهودون أنها ستقع في
سهل القدس وعكا، وأن التنبؤ بها ورد في أسفار حزقيال ويوحنا ويوشع،
وتقول هذه النبوءات: إن قوات الكفار من المسلمين والملحدين سوف تُدمَّر فيها إلى
أن يظهر المسيح فوق المعركة، ويرفع بالجسد المؤمنين به، ويخلصهم من الدمار،
ومن ثم يحكم العالم مدة ألف عام حتى تقوم الساعة» [50] .
إن معظم المدارس الإنجيلية (الصهيونية المسيحية) في الولايات المتحدة
تدرس النظام الديني ونظرية «هرمجدون» استناداً إلى (دال كراولي) وهو
قسيس في واشنطن، وكان أبوه عضواً مؤسساً للمؤتمر الدائم للمذيعين الدينيين
الوطنيين [51] . وهناك في أمريكا (85) مليون أمريكي يعتقدون أن الحرب
النووية لا مفر منها، وذلك عبر «هرمجدون» النووية، وأن الإشارة إلى ذلك
وردت في الكتاب المقدس. جاء هذا من خلال استفتاء تم عام 1984م أجرته
مؤسسة باتكيلوفيتش [52] .
كما أن «معظم محطات التلفزيون الرئيسية الإنجيلية، تعلم ما قاله هول
لندسي في كتبه المشهورة: وهو أن هذه الكرة الأرضية سوف تصبح في حياتنا
آخر كرة أرضية عظيمة، إن الله يعرف أن ذلك سيحدث، إنه يعرف ذلك منذ
البداية الأولى، ولكن الله أخفى مخططه عن بلايين البشر الذين عاشوا قبلنا، أما
الآن واستناداً إلى» لندسي «فإن الله يكشف عن مخططه إلى» لندسي «وإلى
الآخرين، مثل:» جيري فالويل «و» جيمي سواجارت «و» بات روبرتسون «
الذين يبشرون بنظرية هرمجدون» [53] .
إن الإيمان بحتمية وقوع «هرمجدون» ، لم يعد قاصراً على الأفراد، أو
حتى على المؤسسات المنظمة التابعة للصهيونية المسيحية، أو المتأثرة بأفكارها،
بل تعداه ليصل إلى أعلى المراكز. فالرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان قبل
تفسيراً توراتياً لنبوءة تقول: بأن «هرمجدون» نووية، وأنها أمر لا يمكن تجنبه.
كما قرأ كتاب هول لندسي (آخر أعظم كرة أرضية) وغيره من الكتب التي
تتحدث عن «هرمجدون» [54] .
لقد سرى تأثر هذه العقيدة وتعمق، إلى حد أن «جيمس وات» وزير داخلية
أمريكي سابق أشار إلى لجنة النواب الأمريكية المعنية بشؤون الغابات والأنهار؛
أنه لا يقلق كثيراً بشأن تدمير مصادر الأرض، وقال: «لأنني لا أعرف كم من
الأجيال المقبلة سوف نعتمد عليها قبل أن يعود الرب» [55] .
إن القناعات السابقة لم تفرزها عواطف، بل ولم تأت تطلعاً إلى مصالح مادية؛
وإنما عن إيمان بنصوص توراتية وإنجيلية، تعدهم حسب فهمهم سعادة أبدية.
لقد ورد التصريح بذكر هرمجدون في سفر حزقيال (38، 39) ، وكذلك
في رؤيا يوحنا (16: 1 - 20، 20: 1 - 10) وأشعياء (11: 15 -
16) :
(ثم سكب الملاك السادس جامه على النهر الكبير الفرات، فنشف ماؤه لكي
يعد طريق الملوك الذين من مشرق الشمس. ورأيت من فم التنين ومن فم الوحش،
ومن فم النبي الكذاب ثلاث أرواح نجسة شبه ضفادع. فإنهم أرواح شياطين،
صانعة آيات تخرج على ملوك العالم وكل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم،
يوم الله العظيم، يوم الله القادر على كل شيء. ها أنا آتي كلص. طوبى لمن
يسهر، ويحفظ ثيابه لئلا يمشي عرياناً فيروا عريته. فجمعهم إلى الموضع الذي
يدعى بالعبرانية هرمجدون. ثم سكب الملاك السابع جامه على الهواء، فخرج
صوت عظيم من هيكل السماء من العرش قائلاً: قد تم. فحدثت أصوات ورعود
وبروق. وحدثت زلزلة عظيمة، لم يحدث مثلها منذ صار الناس على الأرض
زلزلة بمقدارها عظيمة هكذا « [56] .
* وقفة مع هذه العقيدة:
لخطورة فكرة المجيء الثاني، وما يتبعها، وما يترتب عليها، ولكون نزول
المسيح إلى الأرض آخر الزمان هو أيضاً من ضمن مسائل العقيدة عند المسلمين
التي يجب الإيمان بها.
وقد يقول قائل: إننا نؤمن بما آمنوا به، وجاءت نصوص تدل على ذلك؛
لذا أرى ضرورة تجلية هذا الأمر على ضوء الكتاب والسنة: فالمسلمون يؤمنون
بأن عيسى عليه الصلاة والسلام رُفع حياً، وأنه ينزل قرب قيام الساعة، ويقتل
الخنزير، ويكسر الصليب، كما يقتل مسيح الضلالة الدجال، ويضع الجزية ولا
يقبل إلا الإسلام.
قال الله تعالى: [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ
إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً]
(النساء: 157-158) .
وقال سبحانه: [وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً] (النساء: 159) .
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:» والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلاً،
فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد،
حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها « [57] ، وهذا لفظ البخاري.
ومن هنا نستطيع أن نلخص الفرق بين العقيدتين في هذه المسألة فنقول:
1 - تؤمن» الصهيونية المسيحية «بمجيء المسيح عيسى ابن مريم مرة
ثانية، ويؤمن المسلمون بذلك.
2 - تعلن» الصهيونية المسيحية «عن وجود معركة نووية فاصلة، ويعلن
المسلمون عن تلك المعركة، ولكن لا تحديد لكونها نووية في مصادرهم.
3 - تعتقد» الصهيونية المسيحية «بأن المسيح عيسى ابن مريم إذا جاء
سيدين الوحش، والنبي الكذاب، وأنه يخلص بني إسرائيل، وينجيهم، ويصنع
معهم عهداً جديداً، كما يقيد الشيطان، ويدين الأمم، ويحاسبهم في موضع
» هرمجدون «، وسوف ينقذ الخليقة، ويباركها، ثم يقيم مملكته، وعاصمتها
أورشليم، بعد أن يضرب كل ممالك الأرض [58] .
أما المسلمون فيعتقدون أنه سيكسر الصليب.. إلى آخر ما ورد في الحديث
السابق. وسيحكم بالإسلام.
فالفكرة لها أصل، ولكن كل فريق يفهمها حسب عقيدته، ويبقى الحكم
الصحيح للنص اليقيني، والذي يثبته منهج البحث العلمي الدقيق، وذلك من كتاب
الله جل وعلا، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
* الخاتمة:
دار البحث حول توضيح فكرة» الصهيونية المسيحية «بدءاً باستعراض
سريع لتاريخ اليهودية، وتعريف بالفكرة المطروحة للدراسة، ثم وقفة هادئة فيها
تأمل لعوامل ظهور هذه الحركة، ومروراً بأهم عقائدها وأبرزها، وكانت نهاية
المطاف بيان غايتها، والهدف الذي ترمي إليه، ولعل هذا كله يعدُّ تشخيصاً
للمرض.
ولأجل أن تكتمل حلقات هذا البحث، ونصل إلى ثمرة معينة، فلا بد من ذكر
العلاج مضمناً للموقف الشرعي كما أراه من هذه الحركة، وهو كما يلي:
1 - هناك حقيقة يجب أن تستقر في قلب كل مسلم وخاصة القائمين على أمر
الدعوة، وهي: أن وجود الإسلام في الأرض هو نفسه رعبٌ لأعداء هذا الدين في
كل حين، وفي كل مكان، وأن الإسلام نفسه يثيرهم ويحفزهم؛ لماذا؟ لأنه من
القوة واليقين بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد.
وعليه فيجب على المسلمين إدراك عداوة اليهود والنصارى للمسلمين،
وخاصة إذا تكاتفت جهودهم، وتعاونوا: [هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] (آل عمران: 119) .
2 - هناك جهود ضخمة، وإمكانيات مادية عظيمة تمتلكها هذه الحركة، ومن
ذلك [59] :
أ - شبكة تلفزيون (المحطة الجديدة) في فرجينيا بأمريكا، تعرض برامج
دينية على مدار الساعة، والقائم عليها: الصهيوني المسيحي الأمريكي جيري
فالويل.
ب - برنامج» يوم كشف النظام «التلفزيوني، للصهيوني المسيحي
ريتشارد دي هان، ويصل إلى 4.75 ملايين منزل.
ج - برنامج المبشر الصهيوني المسيحي ديكس همبرد، ويصل إلى 3.7
ملايين منزل، ويبشر بتعاليم سلفه سكوفيلد، التي تقول:» إن الله يعرف منذ
البداية الأولى أننا نحن الذين نعيش اليوم سوف ندمِّر الكرة الأرضية «.
د - ومن بين أربعة آلاف مبشر مسيحي يشتركون سنوياً في مؤتمرات
الإذاعات الدينية والوطنية؛ هناك ثلاثة آلاف صهيوني مسيحي يعتقدون أن كارثة
نووية فقط يمكن أن تعيد المسيح إلى الأرض. كما أن من بين ثمانية آلاف قسيس
إنجيلي مسيحي يذيعون يومياً من خلال أربعمائة محطة إذاعة؛ فإن الأكثرية منهم
ينشرون فكر الصهيونية المسيحية. وغير ما ذكر كثير، هذا إضافة إلى ما تتمتع
به الحركة من قدرات سياسية تقوي ذراعها.
3 - وعلى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية الاطلاع التام على ما ورد في
السنة النبوية المطهرة من أحاديث آخر الزمان، ونزول المسيح عيسى ابن مريم
عليه الصلاة والسلام، وقضائه على أبرز رموز وشعارات العقيدة المسيحية؛
فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير. وفي هذا دليل قاطع على براءته من دينهم الذي
يدينون به. وكذلك صلاته خلف المهدي المسلم، والذي هو على شريعة خاتم
الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، فالمسيح مسلم، وعبدٌ لله، ورسولٌ من عند الله
جل وعلا.
إن معرفة ذلك معرفة دقيقة، والإيمان به؛ يقي بإذن الله من الوقوع في
الإحراج والتضليل الذي يبثه دعاة المسيحية، وخاصة» الصهيونية المسيحية «.
4 - وللصهيونية المسيحية فهمٌ خاصٌ في شأن الإسلام، ينطق به كبار
مفكريهم:
- يقول سكوفيلد (1843 - 1921م) :» إن عالمنا سوف يصل إلى نهايته
بكارثة وبدمار، وبمأساة عالمية نهائية «، ويقول:» إننا لا نستطيع أبداً أن نعيش
في سلام « [60] .
- وأظهرت دراسة لمؤسسة» نلسن «نشرت في أكتوبر سنة 1985م أن
واحداً وستين مليون أمريكي يستمعون بانتظام إلى مبشرين يقولون لهم: لا نستطيع
أن نفعل شيئاً لمنع حرب نووية تتفجر في حياتنا.
ومن أشهر من ينادي بذلك: بات روبرتسون، وجيمي سواجارت، وجيم
بيكر، وأورال روبرتس، وجيري فالويل، وكينين كوبلاند [61] ، وغيرهم من
الوعاظ السياسيين، كلهم يرى أنه:» لن يكون هناك سلام حتى يعود المسيح، إن
أي تبشير بالسلام قبل هذه العودة هو هرطقة، إنه ضد كلمة الله، إنه ضد
المسيح «.
وأما جيمي سواجارت؛ فإنه يضع النقاط على الحروف في هذه الرسالة؛ إذ
يقول:» كنت أتمنى أن أستطيع القول إننا سنحصل على السلام، ولكنني أؤمن
بأن هرمجدون مقبلة، إن هرمجدون قادمة، وسيخاض غمارها في وادي مجيدو،
إنها قادمة. إنهم يستطيعون أن يوقِّعوا على اتفاقيات السلام التي يريدون، إن ذلك
لن يحقق شيئاً، هناك أيام سوداء قادمة، إن مشكلات إفريقيا لن تحل، وكذلك
مشكلات أمريكا الوسطى، ومشكلات أوروبا. إن الأمور ستتوجه نحو الأسوأ ...
إنني لا أكترث لمن تسبب هرمجدون له القلق والمتاعب، إنها تنعش روحي « [62] .
5 - فعلى المسلمين عامة، وأهل العلم خاصة، وعي خطط الأعداء،
وخاصة مثل هذه الخطة الماكرة الكبيرة، ولنعرف كيف نتعامل مع الأحداث عند
وقوعها وربما يأتي وقتها، ويبدأ تنفيذها عملياً والمسلمون ضعاف، فيتأكد دور
الداعية الآن أكثر لأن يُحَذِّر من شر هذا الخطر القادم والله أعلم، والأعداء لن
يرحموا أحداً، ولن يقبلوا صلحاً ولا هدنة، والواقع خير دليل.
6 - وأنه يوجد قطاع كبير من المجتمعات الإسلامية لا تدرك عداوة اليهود
والنصارى للمسلمين، لكن إذا عُرِّف هذا العداء بلغة العصر، وبأرقام وإحصائيات
ونتائج دراسات متعددة، ومتابعةٍ لتصريحات وجهائهم؛ اقتنع ذلك العدد الكبير من
المسلمين وخاصة أنهم يشاهدون على مسرح الأحداث أمثلة عملية: كالبوسنة
والفلبين، والصومال وإريتريا وفلسطين والعراق وأدركوا حقيقة عدائهم،
ووجدوا تفسيراً واضحاً وعملياً للآيات القرآنية. والأحاديث النبوية التي تتحدث عن
عداوة اليهود والنصارى، وأنهم لن يرضوا عنا أبداً حتى نتبع ملتهم.
7 - دراسة هذه العقائد والتصريحات دراسةً جديةً، والنظر إليها بمنظور
علمي، وليس من منظور العقائد الكامنة، ثم دراسة تأثيرها في رجال السياسة،
وقراراتهم، ومحاولة التأثير من خلال تلك العقائد في الرأي العام الغربي،
والأمريكي والمسيحي عامة، وأثر ذلك وانعكاسه على المسلمين في المشرق
والمغرب. وكما يبذل هؤلاء جهداً في التأثير على شعوبهم، وساساتهم؛ فإنه يجب
أن نفعل أقوى من ذلك لدرء الأخطار قبل وقوعها.
إن» الصهيونية المسيحية «تسعى جاهدة إلى الوصول إلى هدفها وبتخطيط
دقيق، وجاد؛ فماذا يجب أن يقوم به المسلمون؟ الأمر خطر وجسيم، وينتظر علم
الرجال، ووعي الأبطال، وجهود وبذل المخلصين الغيورين.
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله
نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) يلاحظ القارئ في هذا البحث ورود كلمة (المسيحية) ، مع أن التعبير في القرآن الكريم يصف أتباعها بالنصارى وليس بالمسيحيين، فالأولى والأصح إذن التعبير بلفظ (نصرانية) بدلاً من (مسيحية) ، وإنما الذي دفعني إلى اختيار لفظة المسيحية أن مصطلح (المسيحية) شائع الآن، فأنا أذكره من باب الموافقة في اللفظ لا في المدلول.
(1) بالإضافة إلى كتب العقيدة الإسلامية انظر أيضاً: أرنولد توينبي - تاريخ البشرية - ترجمة: د / نقولا زيادة - الأهلية للنشر والتوزيع - بيروت - الطبعة الثانية 1988م، 1/ 273.
(2) سفر التكوين (1 - 1) .
(3) سفر الخروج (20: 3 - 5) .
(4) سفر التثنية (11: 16 - 17) .
(5) إنجيل مرقس (12: 29) .
(6) إنجيل مرقس (12: 32) .
(7) إنجيل لوقا (4: 8) .
(8) وهو كما قال عن نفسه: (أنا رجل يهودي، ولدت في طرسوس كيليكية) ، أعمال (22: 3) ، وقال: (أنا فريسي ابن فريسي) أعمال (23: 7) ، يقول توينبي: (وتحول فريق يهودي إلى كنيسة مسيحية مسكونية؛ أمر يدعو في واقع الأمر إلى الدهشة) ، أرنولد توينبي تاريخ البشرية 1- 873، وانظر: سعيد أيوب - المسيح الدجال -، قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى - دار الاعتصام - القاهرة - الطبعة الأولى - 1409هـ - ص 53 - 85.
(9) أعمال (9: 3 - 7) .
(10) أعمال (9: 20) .
(11) انظر: د / أحمد شلبي - المسيحية - ص: 112.
(12) غلاطية (1: 11 - 12) .
(13) أحمد شلبي - المسيحية - ص 113.
(14) إنجيل متى (28: 19) .
(15) قسطنطين (288 - 337م) : أحد ملوك الروم المتنصرة، تولى الملك سنة 306م، ودخل النصرانية بعد سنة واحدة من توليه الملك الذي دام ثلاثين سنة، وهو مؤسس مدينة القسطنطينية، وفي عهده عقد عدد من المجامع الكنسية كان أبرزها مجمع نيقية سنة 325م، وفيه اعتمدت عقيدة التثليث وأقرت، وطرح ما سواها، انظر: 1- علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت 346هـ) مروج - مروج الذهب - دار المعرفة - بيروت - تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد 1: 317 - 320، 2- الموسوعة العربية الميسرة بإشراف: محمد شفيق غربال - دار الشعب بالقاهرة، ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر ص 1370.
(16) نسبة إلى القس آريوس؛ أسقف نيقوميدية الذي قال: إن المسيح ليس إلهاً.
(17) انظر: عبد الله العلمي - كتاب سلاسل المناظرة الإسلامية النصرانية بين شيخ وقسيس - أشرف على طبعه: د / عبد الحليم العلمي - الطبعة الأولى - 1390هـ - ص: 17، وانظر: شيخ الإسلام ابن تيمية - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح - مطابع المجد التجارية (1/ 115، 240) .
(18) ورد هذا في دائرة المعارف لاروس الفرنسية للقرن التاسع عشر، انظر: عبد الله العلمي - سلاسل المناظرة الإسلامية النصرانية - ص19.
(19) مارتن لوثر (1483 - 1546) قسيس ألماني، زار كنيسة روما سنة 1510م، وأنكر ما رأى فيها من الانحلال المتفشي في رجالها، وبعد عودته إلى بلده قرر الانشقاق عنها، وأنشأ مذهباً جديداً سمي بالمذهب البروتستانتي، ولقي في ذلك التعب والمعاناة، وكثيراً من ألوان الحرمان البابوي، لكن ذلك كله لم يثنه عن عزيمته، انظر: عبد الوهاب الكيالي - موسوعة السياسة - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت - الطبعة الثانية - 1990م، (5/ 497) .
(20) سفر التثنية (7: 6) .
(21) سفر التكوين: (12: 1، 2، 5، 7) .
(22) محمد السماك - الصهيونية المسيحية - دار النفائس - بيروت - الطبعة الثانية - 1413هـ، ص 33، 34 - بتصرف، وانظر: جريس هالسل (النبوءة والسياسة) ، ترجمة: محمد السماك - جمعية الدعوة الإسلامية - طرابلس - ليبيا - الطبعة الأولى 1989م، ص94.
(23) جريس هالسل - مصدر سابق - ص94.
(24) إسماعيل الكيلاني - الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي - مكتبة الأقصى الإسلامية - الدوحة، قطر - الطبعة الأولى - 1407هـ - ص: 101، وايزمان: زعيم يهودي صهيوني، ولد عام 1874م، قدم لإنجلترا خدمات علمية، حيث كان عالم كيمياء في وزارة الذخيرة الإنجليزية، واجتمع مع بلفور عام 1906م، وبلفور (1848 - 1930م) : سياسي بريطاني، وصهيوني مسيحي، صاحب الوعد المشهور عام 1917م حينما كان وزيراً لخارجية بريطانيا، انظر: عبد الوهاب الكيالي - موسوعة السياسة - (1/ 560) .
(25) ريجينا الشريف - الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي - ترجمة: أحمد عبد الله عبد العزيز - عالم المعرفة - الكويت - 1406هـ - ص32.
(26) في هذه الفقرة - 3 - انظر المراجع التالية: أ - محمد السماك - الصهيونية المسيحية - من ص: 37 إلى ص: 40، ب - شفيق مقار - المسيحية والتوراة - بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط - رياض الريس للكتب والنشر - لندن وقبرص - الطبعة الأولى - 1992م من ص: 93 إلى ص: 97، ج - ريجينا الشريف - الصهيونية غير اليهودية - من ص: 55 إلى ص: 59، ومن ص: 89 إلى ص: 92، د - طارق متري - مقال بعنوان: الأصول الدينية والثقافية للقرار الغربي في الصراع على فلسطين - مجلة الفكر الإسلامي - السنة (19) جمادى الأولى سنة 1409هـ، ص، 47، 57، 67.
(27) راجت في بريطانيا أعقاب الحرب الأهلية التي سبقت ظهور الحركة البيوريتانية (التطهيرية) فكرة تقول: إن هذه المعاناة مردها إلى غضب الله؛ بسبب سوء معاملة اليهود، كما يروج اليوم في أمريكا أن الله ينعم على أمريكا بالقوة والثروة بسبب تأييدها لليهود، ودعمها لإسرائيل، محمد السماك - مرجع سابق - ص: 40.
(28) يقول توينبي: (تحول فريق يهودي إلى كنيسة مسيحية مسكونية؛ أمر يدعو إلى الدهشة) .
(29) والشعار الذي رفعه هرتزل، كان أول من رفعه اللورد شافتسبري (1801 - 1885م) ، أبرز أركان جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود، وذلك عام 1839م.
(30) الألفية: (Millennium) من أهم عقائد وأفكار (الصهيونية المسيحية) ، وتعني: أن المسيح سيملك حقيقة على مملكة أرضية لمدة ألف سنة، وقد وردت كلمة الألف سنة ست مرات في رؤيا يوحنا (20: 2 - 7) ، انظر: محاضرات في علم اللاهوت النظامي هنري ثيسن ترجمة: د / فريد فؤاد عبد الملك - دارة الثقافة بالقاهرة، ص671.
(31) انظر المراجع التالية: لهذه الفقرة - 4 -: أ - يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية - مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م، ص 41، 42، 43، ب - طارق متري - مرجع سابق - الصفحات: من 76 إلى 81، ج - محمد السماك - مرجع سابق - ص 58، 59، د - جريس هالسل - مرجع سابق الصفحات من 10 إلى 13، ومن 83 إلى 164 و209.
(32) للمزيد من الاطلاع حول مسألة: فتور فكر (الصهيونية المسيحية) في منتصف عقد الستينيات وعقدا السبعينيات من هذا القرن، انظر: أ - د / محمد الرميحي - مجلة العربي الكويتية - العدد 425 - مقال بعنوان: (العودة إلى الله) ص: 18، أجرى فيه الكاتب دراسة حول كتاب The Revenge of God (العودة إلى الله) لمؤلفه الفرنسي جيليه كيبل، وفيه أن المجمع المسكوني الفاتيكاني توصل في دورته الثانية عام 1965م لما عرف بمبدأ الأجرامنتو (عصرنة وتطوير الكنيسة) سواء الكاثوليكية أو البروتستانتية بسبب ضغط الحداثة، ب - منى فياض - جريدة الحياة - العدد: 10403 - مقال بعنوان: الجذور الثقافية والاجتماعية لنهوض الأصولية في أوروبا - ص: 8، ج - كتاب: التنصير، خطة لغزو العالم الإسلامي - ترجمة لأعمال المؤتمر التبشيري الذي عقد في ولاية كلورادو الأمريكية عام 1978م - ص: 405 وغيرها، د - جريدة المسلمون - دراسة بقلم: د / محمد عمارة - الأعداد: 407، ص 14، 408، ص 14، 409، ص 14، 410، ص 14.
(33) سيرد الحديث إن شاء الله تعالى عن هرمجدون.
(34) البيروقراطية: Bureaucracy تنظيم إداري، يقوم على السلطة الرسمية، وعلى تقسيم العمل وظيفياً بين مستويات متدرجة، وعلى الأوامر الرسمية التي تصدر من رئاسات إلى مرؤوسين، نبيلة داود - الموسوعة السياسية المعاصرة - مكتبة غريب - القاهرة، ص 32.
(35) شفيق مقار - مصدر سابق - ص 57.
(36) عيد الفصح: هو ذكرى خروج بني إسرائيل من مصر، ومن العبودية التي كانوا يخضعون لها.
(37) انظر: الأب آي بي برانايتس - فضح التلمود، تعاليم الحاخامين السرية - إعداد زهدي الفاتح - دار النفائس - بيروت - الطبعة الرابعة - 1412هـ - من ص: 57 إلى ص: 76، لمزيد من التفصيل حول عقيدة اليهود في الفطير المقدس المعجون بدم مسيحي، والذي يقدمونه في عيد الفصح، انظر: نجيب الكيلاني - دم لفطير صهيون.
(38) انظر: عبد الله التل - جذور البلاء - المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الثانية - 1398 هـ، ص 91، 92.
(39) باركوخبا: اسم متمرد يهودي، قاد اليهود إلى مجزرة قتل فيها الرومان أكثر من نصف مليون يهودي، إبان الاضطهاد الروماني لليهود سنة 135م، انظر معجم المصطلحات الصهيونية - أفرايم ومناحم تلمي - دار الجيل للنشر - عمان - الطبعة الأولى - 1988م - ص: 79.
(40) انظر محمد علي البار - المسيح المنتظر وتعاليم التلمود - الدار السعودية للنشر والتوزيع - جدة - الطبعة الأولى - سنة 1407هـ - ص: 28.
(41) انظر: شفيق مقار - مصدر سابق - من ص: 65 إلى ص: 71.
(42) المصدر السابق ص: 70 - وأما (يهوه) فهو: اسمٌ يعني به اليهود الله سبحانه وتعالى، وقد ورد بهذا الاسم في مواضع عدة من العهد القديم.
(43) المصدر السابق، ص 124.
(44) ورد ذلك في أحد الخطابات التي ألقيت في مؤتمر مجمع بناي بريت في باريس، انظر: محمد السماك - مرجع سابق - ص: 12، و (بناي بريت) منظمة يهودية عالمية، تهتم بالنشاطات التربوية، والإنسانية بين اليهود في أرجاء العالم، معجم المصطلحات الصهيونية - أفرايم ومناحم تلمي - ص 75.
(45) القس إكرام لمعي - الاختراق الصهيوني للمسيحية - دار الشروق - بيروت - الطبعة الأولى - 1412هـ - ص 185.
(46) انظر: هنري ثيسن - محاضرات في علم اللاهوت النظامي - ص: 582.
(47) تصريح لأحد الصهاينة المسيحيين الأمريكيين، التقته جريس هالسل مؤلفة كتاب: (النبوءة والسياسة) في فلسطين، جريس هالسل - مصدر سابق - ص: 49.
(48) المصدر السابق والصفحة نفسها والتصريح لا يزال تابعاً لما قبله.
(49) كلايد: رجل أعمال متقاعد، وقد كان عسكرياً يعمل في الجيش الأمريكي في أوروبا، أثناء الحرب العالمية الثانية، صحب جريس هالسل في رحلتها إلى فلسطين سنة 1983م، انظر المصدر السابق نفسه ص: 72.
(50) محمد السماك - الصهيونية المسيحية - الطبعة الأولى - ص: 85، والمراد بالإنجيليين المتهودين هم الصهاينة المسيحيون.
(51) جريس هالسل - مصدر سابق - ص 34.
(52) انظر: المصدر السابق - ص: 29.
(53) المصدر السابق - ص: 23، وقد طبع كتاب هول لندسي (آخر أعظم كرة أرضية) وبيع منه حوالي (18) مليون نسخة، وظل على رأس لائحة الكتب الأكثر مبيعاً خلال السبعينيات، انظر ص: 21 من المصدر نفسه.
(54) انظر: المصدر نفسه ص 62، 63.
(55) المصدر نفسه ص: 62.
(56) رؤيا يوحنا (16: 12 - 19) .
(57) صحيح البخاري مع الفتح 6-490 - كتاب أحاديث الأنبياء - رقم الحديث 3448، وانظر: صحيح مسلم شرح النووي 2-189 - كتاب الإيمان.
(58) انظر: هنري ثيسن - مصدر سابق - ص 604 - 610.
(59) انظر: جريس هالسل - مصدر سابق - ص 32، 33، 34.
(60) المصدر السابق، ص 22.
(61) انظر: المصدر السابق من ص: 29 إلى ص: 37، وبات روبرتسون: هو أحد المرشحين للرئاسة في أمريكا، أيام الانتخابات التي جاءت بجورج بوش الأب رئيساً للولايات المتحدة، انظر ص: 284 من كتاب المسيحية والتوراة.
(62) المصدر السابق، ص 37.(187/110)
قصة قصيرة
لوحتان
أحمد محمد علي صوان
شعر بِخفّة، فبدأ يرسم في مخيلته لوحة فيها خيول قادمة من بعيد، خيول
كثيرة، لم تتّضح كلُّ دقائقها وتفصيلاتها، لكنها خيول جريئة مسرعة، خلفها
غمامة كبيرة من الغبار المتطاير، الشرر ينقدح من حوافرها الرشيقة، يمتطيها
فرسان كالنمور، نظراتهم ثاقبة، تتطاير منها أشعة الإقدام والجرأة، رؤوسهم
مرتفعة شامخة تطاول عنان السماء، لا شيء يعترض طريقها، النور ملء قلوب
أصحابها وجوانحهم، وقد فاض على ما حولهم فتراه يرافقهم بل هو سلاحهم، لن
يتركوا في طريقهم بقعة سوداء مظلمة، فاض نورهم وخيرهم حتى وسع الناس
والبهائم والجماد ... زنود مفتولة صلبة، أصابع تمسك بمقابض السيوف المسلولة
ولن تفارقها حتى تفلق الصخر أو تُبتر!
أوَ تظن أن هذه السيوف تجرؤ على قتل الصغار والنساء؟ لا.. إنها ما سُلّت
إلا لمقارعة الظلم والظّلام ... رايات عالية خفاقة لم تلامس الأرض قطُّ.
سرت بين أضلع الرسام نشوة الرِّضا التي ما ذاق طعمها منذ أمد بعيد ...
وصار يحدّث نفسه: هل اكتملت اللوحة؟ لا، سرب من الطيور البيضاء مناسب
رَسْمُهُ في الجهة المقابلة التي يتقدم منها الفرسان، وبعض الأشجار الخضراء
كالنخل، وبعض الأزهار المتنوعة الألوان، ونبع ينساب منه ماء فرات رقراق.
غدت هذه اللوحة ملأى بالحياة والحيوية والتفاصيل ... تراجع إلى الوراء
خطوات ليصور لوحته بعينيه الفرحتين: فرسان قادمون، أطيار تمخر عباب
السماء، شجر باسق لا يخشى الأعاصير الجبارة، جذوره غاصت في رحم الأرض
وتآلفت معها واتحدت، ولم تكن أذناه بمعزل عما تصوره عيناه، وصار كأنه يسمع
ما تشي به الصورة: يسمع وقع حوافر الخيول العاديات وضبحها، وخرير الماء
وهديل الحمائم وأصوات الفرسان الهادرة بصياحها: الله أكبر تملأ بها الفضاء
الرحب ...
جلس على كرسيه مسترخياً مسروراً يفكّر ماذا يضيف إلى تلك اللوحة لتزداد
حيوية وتعجّ بمزيد من الإيحاءات والحيوية ...
أدار مفتاح المذياع، فصارت تنهال عليه الأنباء من كل حدب وصوب، نقلته
الأخبار إلى عالم آخر، وزمن آخر يفصله عن لوحته أحقاباً عدة، لم تعد يده تقوى
على المتابعة في هذه اللوحة، حتى ولو كانت الإضافة خطاً أصفر أو أبيض أو
أخضر! كل شيء تغيّر في نفسه فضرب صفحاً عن هذه اللوحة ...
أغلق المذياع وأطلق تنهيدة طويلة، وضرب صفحاً عن اللوحة وتخيل لوحة
جديدة. أجواء معتمة مظلمة سوداء، وحوش ومخالب وأنياب في كل مكان، شجر
عارٍ يابس، ماء أسود راكد آسن ... رسم في وسط اللوحة مخلوقاً يبدو كأنه إنسان،
إنه قزم قصير جداً منهك متعب، ملامحه تحكي أنه لم يكن كذلك. رسمه بين
أقدام الذئاب ومخالبها المنتفخة غروراً وكبراً، وبين الضباع التي تصول وتجول في
هذه الأرض غير آبهة بشيء، مع عدد غير قليل من الأفاعي ...
كان لهذا القزم جسم نحيل معروق، جلد على عظم، وكأنه عود أجرد، إلا
أنه يحمل وجهاً عجيباً رغم قصر قامته؛ قسماته متجهمة غاضبة، عيونه تكاد
تتميز غيظاً واستنكاراً وحقداً، تخفي عملاقاً قادماً سيحرق كل شيء في هذه اللوحة؛
لأن ما حوله أحرق له كل شيء، يوشك أن يستيقظ المارد الذي في داخله، ولو
نطق لقال: أنا قادم.
لم يشأ هذا الرّسّام المصوّر أن يشيع التشاؤم الكامل في هذه اللوحة التي يُطبق
الظلام كلياً على جنباتها فرشق اللوحة بفرشاته المشبعة بالطلاء الأبيض فتقاطرت
عليها نقط بيض صغيرة ضعيفة ضئيلة ... كم تمنّى أن تتجمع هذه القطرات
البيضاء الصغيرة، ولكن كل قطرة فيها التصقت بمكان ما في هذه اللوحة وآثرت
الدعة ولو كان مكانها تحت أقدام هذه السباع أو عند ذيولها ...
لم يكن بحاجة إلى أن يتأمل لوحته الجديدة الباكية، فصورتها جاثمة في عقله
وقلبه يعايشها كل يوم، ويعاني من أجوائها كل وقت ... أنهكه العمل في هذه اللوحة،
كان في كل خطّ يخطّه يعاني معاناة جديدة وينفطر قلبه أسىً على ما حلّ بهذا
الإنسان. وكان يشعر في كل لحظة بهذا العملاق في داخله، بل إن العملاق الذي
في داخله أشدّ وأقوى من الذي رسمه على اللوحة، ولكن متى يستيقظ؟
رنّ جرس الهاتف، قام إليه متثاقلاً، إنه صديقه يسأل عن أحواله، وعرف
ما به، وبشّره بخبر سار: طفل فلسطيني يواجه دبابة بحجر ثم يقتله الأعداء من
خلف أكوام الحديد والإسمنت بأحدث الأسلحة، ورجل يُفجّر نفسه وسط حشد من
الغاصبين القتلة السفّاحين مصّاصي الدّماء، وامرأة كالخنساء، وما أدراك ما
الخنساء رضي الله عنها، ولكنها خنساء معاصرة ...
عاد إلى لوحته الثّانية مرّة أخرى، ورشقها بقطرات جديدة من الطلاء
الأبيض ...(187/120)
الورقة الأخيرة
عالم جديد.. عالم قديم
شريعة الغاب
د. محمد مورو [*]
بعد اندلاع العدوان الأمريكي على العراق، وتعرض المدن العراقية لكمية
هائلة جداً من القنابل والصواريخ، وأسلحة الدمار الشامل الأمريكية، بدأت كل
المسائل تصل إلى حافتها؛ فكثير من الأمور والمعاني قد سقطت وأخرى حلت
محلها، ويجب في كل الأحوال، ومهما كانت مرارة النتائج، وأياً كانت نتيجة
الحرب الجائرة أن نتعرف أن عالماً جديداً قديماً قد تشكل بالفعل وانتهى الأمر،
وعلينا مواجهة قواعد وآليات هذا العالم الجديد القديم!! وليس هناك مناص من ذلك.
اندلع العدوان الأمريكي الإنجليزي الأسترالي، بدون أخذ موافقة مجلس الأمن،
أي خارج ما يسمونه بالشرعية الدولية ... وهذا لا يعني أن شرعيتهم الدولية
كانت عادلة مثلاً أو أنها كانت تحمي حقوق الشعب؛ لأن تركيبة مجلس الأمن أصلاً
سمحت بالنفوذ والسيطرة لعدد محدود من الدول الكبرى، أي تعكس علاقات القوى
بينها على حساب الآخرين أو لصالحهم على حسب الظروف وليس وفقاً للحق
والعدل، ولكن رغم ذلك، فإن العدالة الجوهرية والشكلية أيضاً تم تجاهلها. وهكذا
سقط عملياً الشكل الباقي من تلك الشرعية المزعومة، وأصبحنا مباشرة أمام قانون
الغاب، ليس على مستوى المضمون فقط كما كان يحدث عادة ولكن على مستوى
الشكل أيضاً، أي أن أمريكا أعلنت مباشرة وبدون لف ولا دوران نهاية مجلس
الأمن ونهاية المنظمة الدولية، وأن الحق لا يدور مع العدل بل كل شيء يدور مع
«التوماهوك والكروز والبي 52» .
وحتى بعد أن وقع العدوان بالفعل، وسقطت الصواريخ على المدنيين، لم
يتحرك مجلس الأمن لإصدار قرار بالإدانة حتى لو تعرض للفيتو الأمريكي وجاء
كلام كوفي عنان، ليكرس حقيقة غياب العدل والحق والجوهر والشكل في المنظومة
الدولية، فاكتفى بكلام غير واضح ولا محدد ولا مفيد وهو أمر مؤسف جداً بالطبع.
كل التحرك الذي حدث في مجلس الأمن كان بإزاء محاولة عدم ترك أمريكا
تنفرد ببترول العراق ... ومحاولة وضعه تحت إشراف دولي أي تقسيم الكعكة
وليس معاقبة المعتدي، أو إنقاذ شعب العراق ومقدرات العراق ومرافق العراق التي
تتعرض للتدمير بلا هوادة.
بالطبع يوجد تميز في الموقف الفرنسي والروسي والألماني، ولكن علينا ألا
نعوّل بعد الآن على مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، وأن نبحث لأنفسنا عن أطر
أكثر فاعلية أو أقل خداعاً!! وإذا كان العالم ينقسم من جديد ... فإن الخطر كل
الخطر أن يتم تحييد موقف الدول المعارضة لأمريكا بالتلويح بشيء من الكعكة، أو
تجاهلها كما هو متوقع وهذا أو ذاك مختلف طبعاً على مستوى إدارة صراع
صهيوني سياسي واقتصادي وعسكري «مقاومة» ضد النظام العالمي الفاسد
والمجرم والمعتوه.
أسقطت الحرب ما يقال عن وجود ديمقراطية في البلدان الغربية عموماً،
وأمريكا وبريطانيا وأستراليا خصوصاً. بالنسبة لبلد مثل بريطانيا؛ فإن أغلبية
الشعب الإنجليزي ضد الحرب في بداية الأمر، وكل استطلاعات الرأي تقول إن
أقل من 35% هم الذين يؤيدون الحرب، تراوحت استطلاعات الرأي حول 23% -
35%، أي أن أغلبية الشعب الإنجليزي كان يعارض الحرب، وكذا فإن
المظاهرات التي اندلعت في كل مكان تؤكد ذلك ووصل بعضها إلى المليون،
واندلعت مظاهرات في كل المدن تقريباً في اليوم التالي على الحرب، ومع هذا
فاستناد توني بلير إلى تصويت البرلمان الذي صوت عدد من أعضاء حزب العمال
نفسه ضد الحرب، اعتمد على أصوات المحافظين. المهم أن هذا يعني أن هناك
خللاً بنيوياً في موضوع الديمقراطية؛ فكيف يصوت البرلمان على عكس رغبة
أغلبية الشعب؟ الأمر نفسه حدث في أسبانيا، فمؤيدو الحرب من الشعب الأسباني
لم يصل عددهم إلى 12%، ومع ذلك سارت الحكومة الأسبانية على عكس إرادة
الشعب مؤيدة للحرب ولأمريكا، وهو ما يمكن أن يقال أيضاً بالنسبة لأستراليا.
من الملاحظ أن الذين شاركوا في العدوان بجنودهم، هم الأمريكيون
والبريطانيون، والأستراليون «وكلهم أنجلو سكسون» !! فهل لهذا معنى مباشر
أو غير مباشر؟ من المعروف أن هناك نظاماً أمنياً خاصاً بالدول الأنجلوساكسونية
يسمى نظام «أتشيلون» . وهل هذه المسألة لها علاقة بموضوع صراع الأعراق
والحضارات المتوقع في عالم جديد ... قديم؟!
نلاحظ أيضاً أننا بإزاء عودة لنظام الاستعمار القديم، كما كان يحدث في
القرن التاسع عشر؛ فهل كل الإنجازات التي حققتها البشرية في حروب التحرير
الوطنية وتصفية الاستعمار كانت وهماً أو خدعة؟! أم أن آلة الغرور والقوة
الأمريكية أطاحت بكل هذا في لحظة واحدة، وأن علينا العودة من جديد إلى قيم
وأفكار وثقافات حروب التحرير الشعبية ومناهضة الاستعمار؟ وهل يمكن تحقيق
هذا في ظل العولمة والإنترنت والأقمار الصناعية، والصواريخ الذكية؟ هل
سيكون الأمر في ظروف أفضل من الحالة الأولى، أم أسوأ؟!
على كل حال الأمر يحتاج لمناقشة. وبصورة أولية؛ فإن تسارع وسائل
الاتصال وانتشارها يعني قدراً من الإيجابية لحركات التحرر، التي ستصبح أكثر
ارتباطاً وتأثيراً، ولكنها تعني في الوقت نفسه أنها أمام قوة عسكرية واستخباراتية
هائلة ولا تحمل أي قدر من الأخلاق، أي أنها ستمارس قمعاً وحشياً ضد أي شكل
من أشكال المقاومة، والمسألة تقتضي بالضرورة التمسك بخيار المقاومة واكتشاف
أشكال مبدعة وغير تقليدية لها، وإلا فإن الكرامة والمصالح ستضيعان معاً، ليس
بالنسبة لمصر أو العراق أو المسلمين، بل للعالم كله، وكذلك ينبغي البحث عن
جزء إنساني مشترك غير طبقي ولا وطني لممارسة هذا النضال العالمي ضد
الاستكبار الأمريكي، بدون تجاهل الدوافع القومية والدينية والوطنية المؤثرة
والفاعلة والمحرضة على المقاومة.
سوف تنقسم القوى إلى معسكرين: معسكر تابع وعميل قليل العدد يبشر
بالخضوع للأمريكان والانخراط في المنظومة ثقافياً وسياسياً وعسكرياً، على أساس
أنه لا طريق هناك للمواجهة لعدم تكافؤ القوى، أو لأن أفكار المقاومة غير صحيحة
أصلاً، أو لأن الأمريكان وما يملكونه هو التحضر والعصرنة. ومشكلة هؤلاء أنه
حتى بصرف النظر عن الكرامة المهدرة، أو الهوية والقيمة الدفينة أو كل شيء،
فإن هذا غير متاح؛ لأن الأمريكان لن يقبلوا إلا بعدد قليل ينخرط معهم في العملية
مقابل الفتات، أما آلاف الملايين من البشر فقد أصبحوا عالة ينبغي التخلص منهم
بالموت بالجوع أو الفقر أو الصراعات أو الأوبئة أو التعقيم الإجباري أو غيرها من
الوسائل!!
أما المعسكر الثاني فيراهن على الإيمان والصبر، وأن أمريكا القوية اليوم لن
تظل هكذا إلى الأبد، وأن المقاومة مهما كانت صغيرة وضعيفة اليوم سوف تقاتل
المارد الأمريكي كما أكل النمل عصا سليمان مع الفارق في التشبيه طبعاً.
الحرب الجائرة على العراق، وأياً كانت نتائجها، كشفت كذب الأمريكان؛
فهم ادعوا أن قنابلهم ذكية تصيب أهدافها بدقة، وثبت أنها لم تصب المواقع
العسكرية بقدر ما أصابت المدنيين، ولم تكن دقيقة لدرجة أن عدداً منها قد سقط في
مدينة عبدان بإيران وأخرى بالسعودية، بل في الكويت أيضاً، وهكذا فإن الحديث
عن حرب نظيفة، ومع تساقط عدد هائل من الضحايا المدنيين، أصبح حديث
خرافة؛ فالحرب هي الحرب مهما كانت درجة التكنولوجيا المستخدمة، ضحاياها
أساساً من المدنيين.
أثبتت تلك الحرب أن النظام العربي حكومة ومعارضة قد أفلس تماماً ولم يعد
قادراً على الاستمرار بأي حال من الأحوال؛ فالحكومات العربية وقفت عاجزة عن
منع الحرب، بل كان موقفها أقل من موقف فرنسا وروسيا وألمانيا، وهناك
حكومات عربية ساعدت العدوان الأمريكي بالفعل، وكذلك لعبت الاستخبارات
الأمريكية على راحتها الكاملة في معظم الدول العربية، للتمهيد اللوجستي للعدوان،
وكانت كل الدول العربية بلا استثناء أقل من الحكومة التركية التي راوغت رغم
ظروف معقدة، واستطاعت أن تفوت ما أمكنها على الأمريكيين معظم مطالبهم،
ورغم خسائرها المادية والاستراتيجية الكبيرة، فهل يرجع ذلك إلى أنها حكومة
منتخبة تحترم إرادة شعبها؟!
وعلى المستوى الشعبي؛ فإن الملاحظ أنه كلما كان هناك هامش من الحرية
في إحدى الدول العربية كانت الحركة الشعبية أقوى في مناهضة العدوان والعكس
صحيح تماماً، وكذلك نلاحظ أن حركة الجماهير العفوية كانت أقوى من الأطر
السياسية المعارضة والحكومية معاً، وفي بلد مثل مصر فإن القوى السياسية
المعارضة كانت أقل في رد فعلها من الجماهير العفوية.
والحقيقة أن العدوان الأمريكي قد أوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الحكومات
العربية أفلست، وأن المعارضة والقوى السياسية العربية أفلست أكثر منها، وأن
على الجميع أن يرفع كاهله عن الشعوب العربية، ولم يكن على مستوى الحدث إلا
الحركات الجهادية الإسلامية في فلسطين وغيرها، وما عدا ذلك فهو عبء على
الأمة وتكريس لسلبيتها وعليهم الرحيل غير مأسوف عليهم.
نعم! لقد أحرق العدوان الأمريكي مشروعية الحكومات العربية والقوى
السياسية المعارضة في وقت واحد، والأمل كل الأمل في أن يخرج من مرض
الأمة، وعلى ضوء هذا الألم الشديد والفظيع والمعاناة الهائلة التي تعانيها الأمة الآن،
أن يخرج جيل جديد قادر على اكتشاف الطريق الصحيح لانتزاع الحق في الحياة
والكرامة والمواجهة.(187/122)
ربيع الآخر - 1424هـ
يونيو - 2003م
(السنة: 18)(188/)
كلمة صغيرة
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه!
الأمن في الديار والأنفس والأموال والأعراض نعمة من أجلِّ نِعَم الله على
الأمم والأفراد؛ ولهذا امتنَّ الله عز وجل به على قريش، فقال: [الَّذِي أَطْعَمَهُم
مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ] (قريش: 4) .
والأمن هو البيئة الخصبة لنمو الدعوة، وانتشار المعروف، وحصول
الاستقرار النفسي، والاطمئنان الاجتماعي. وإذا اضطرب الأمن وظهرت الفتنة
وارتفع صوتها تزلزلت الأمة، وتخلخلت أركانها، وكثر فيها الخَبَث، والتبس
الحق بالباطل، واستعصى الإصلاح على أهل الخير.
ومن المتفق عليه بين أهل العلم أنَّ تحقيق الأمن مقصد عظيم من مقاصد الدين
الحنيف؛ فالشريعة الإسلامية إنما جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد
وتقليلها.
ولهذا نقول بكل وضوح: إننا في مجلة البيان نستنكر التفجيرات التي حصلت
في مدينة الرياض في منتصف ربيع الأول؛ فهي عمل متشنج غير مسؤول،
ومجازفة غير متزنة، وخطأ كبير يجب الحذر منه. وكل عمل مهما كان كبيراً أو
صغيراً فإنه يجب أن تراعى فيه نصوص الشريعة وقواعدها المحكمة التي تُحصِّن
الأمة من طَرَفَيِ الإفراط أو التفريط.
وفي الوقت نفسه فإنَّه لا يجوز على الإطلاق أن يستغل بعض المفسدين وأهل
الأهواء هذا الخطأ في الترويج لباطلهم، والإرجاف الفكري، وتجاوز الثوابت
الشرعية، والغلوِّ في تفسير الحدث وتعميمه؛ بل يجب ردّ الأمر إلى أهل البصيرة
والعلم الربانيين المعتصمين بحبل الله المتين؛ فالشريعة جاءت لتحكم أحوال الناس، وتضبط انفعالاتهم ومواقفهم، وتحول بينهم وبين أهوائهم، قال الله تعالى: [وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (النساء: 83) .
ونحسب أن نشر العلم الشرعي الأصيل المبني على الدليل في أوساط الخاصة
والعامة، وتوسيع أبوابه، وتسهيل سبله ومصادره، مما يعصم الأمة من الزلل
والخطأ.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن..(188/3)
الافتتاحية
طلائع التغريب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
ومن والاه، وبعد:
في يوليو من عام (1998م) وعلى مدى عامين اثنين احتفل مجموعة من
المثقفين المصريين بمناسبة مرور مائتي عام على الحملة الفرنسية التي قادها
(نابليون بونابرت) على مصر، وزعموا أنهم لا يحتفلون بالاستعمار، وإنما
بالعلاقات الثقافية مع فرنسا، وبالمجمع العلمي والمطبعة التي أدخلها نابليون لأول
مرة إلى مصر.
ولا نستغرب أن بعض نصارى العرب مثل ألبرت حوراني يؤرخ لبداية
الحداثة العربية بحملة نابليون، لكن الغرابة أن يتبنى هذه الرؤية أيضاً بعض
المثقفين المصريين المنتسبين إلى الإسلام، ويعيدون اجترار الفكر الاستعماري،
ويصفقون بكل انهزام لتاريخه وثقافته..!
الجدير بالتأمل أن نابليون عندما دخل إلى مصر تلبَّس بلباس المسلمين،
وزعم أنه يريد تحرير حقوق المصريين من الظالمين وقال في أول بيان نشره:
(بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه) ، ثم قال:
(يا أيها المصريون! قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم؛
فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قدمتُ إليكم إلا لأخلِّص
حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم
نبيه والقرآن العظيم!) [1] .
وبعد الغزو الأمريكي على العراق بدأت احتفالية أخرى عند بعض الخليجيين،
تتطلع إلى مرحلة جديدة من الحداثة الحضارية! فقد كتب أحد مثقفيهم مقالة
بعنوان: (نموذج أمريكي في العراق؟ لِمَ لا؟ .. تفاءلوا خيراً!) ، قال فيها:
(إنني من أكثر الناس تفاؤلاً بقدوم أمريكا إلى العراق، وعندي أسباب عديدة،
أولها: أن أمريكا لم تدخل بلداً إلا وحسنت من أوضاعه؛ فهي دخلت اليابان
وكوريا وألمانيا، وغيرها من البلدان، والنتيجة أن هذه الدول أصبحت من الدول
المتقدمة في الاقتصاد والعلم، أمريكا دفعت من جيبها أكثر من 12 مليار دولار
لدول أوروبا خلال مشروع مارشال لتنهض صناعياً بالدول المهزومة، وفي مقدمتها
ألمانيا، بالإضافة إلى عشرين مليار دولار كديون ميسرة بعيدة المدى ... ) ، ثم ختم
مقاله بقوله: (إنني واثق أن أمريكا ستلعب في منطقتنا دور المعلم الحازم الذي
يريد النجاح لتلاميذه، حتى لو تطلب ذلك درساً قاسياً، إن العالم العربي لن يتغير
من تلقاء نفسه، لذلك أقول أهلاً بالنموذج الأمريكي الحر، وعسى أن تكرهوا شيئاً
وهو خير لكم!!) [2] .
وكتب مثقف آخر مقالة بعنوان: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) ،
قارن فيها بين حملة نابليون بونابرت على مصر، والحملة الأمريكية على العراق،
وقال: (لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر شيئاً مثل صدمة كهربائية قوية،
أعادت الوعي إلى مجتمعات كانت غائبة عن الدنيا وما جرى فيها خلال قرون من
الاستكانة والسكون، ومن يقرأ تاريخ الجبرتي عن تلك الفترة يستطيع أن يتبين أثر
تلك الحملة القصيرة الزمن الطويلة التأثير على المجتمع المصري، ومن ثم
المجتمعات العربية الأخرى..) ، وبعد أن تحدث عن الصدمات القوية التي أعادت
الحياة والفاعلية الذاتية على يد الاستعمار الغربي في ألمانيا واليابان والصين،
أراد أن يقنعنا بأهمية الاستعمار الأمريكي قائلاً: (وهذا ما حدث لمصر والشرق
العربي حين غزاهما نابليون، فأعاد العرب إلى الوعي بالعصر الذي يعيشون فيه،
ولكنهم نكصوا على أعقابهم بعد ذلك، فكان لا بد من صدمات وصدمات؛ إذ لعل
وعسى؛ فمكر التاريخ لا يعرف الاستسلام. وإذا كانت الحملة الفرنسية على مصر
ومشرق العرب، أو الصدمة الأولى قبل قرنين من الزمان تقريباً، قد قدمت العرب
للحداثة، وقدمت الحداثة للعرب، فإن الحملة الأمريكية الحالية سوف تقدم العرب
للعولمة، وتقدم العولمة للعرب على أوسع نطاق!!) [3] .
وفي مقال ثالث كتب أحدهم: (لقد أثبتت الفضائيات العربية والإعلام العربي
بشكل عام، أننا أمة تقع خارج دائرة الفعل، فالأمة التي يقوم خطابها الثقافي
والإعلامي على التباكي وعلى مهاجمة الآخر والتحريض على كرهه، هي أمة
مكبلة بقيود العجز والسلبية وعدم القدرة على المبادرة، وهذا النوع من الأمم يحتاج
بالفعل إلى يد خارجية قوية تفرض عليه الإصلاحات اللازمة لتغيير واقعه نحو
الأفضل. إنَّ النظام العراقي لم يكن ليسقط ولو بعد مائة عام، لولا الحملة العسكرية
الأمريكية. والإصلاحات الديمقراطية لن تتحقق في العالم العربي بإرادة ذاتية؛ بل
بالمساعي الأمريكية، وإذا كان الأمريكيون يعملون على تحقيق هذه الإصلاحات
مدفوعين بقناعتهم بضرورة التغيير بعد أحداث سبتمبر؛ فإن المنطق يحتم علينا أن
نرحب بمساعيهم طالما أنها تلتقي بمصالحنا!!) [4] .
وفي حوار أجرته إحدى الإذاعات العربية مع أحد المعارضين العراقيين الذين
دخلوا بغداد تحت مظلة القبعة الأمريكية، استشهد على حرص الولايات المتحدة
الأمريكية على نهضة العراق وبنائه حيث ذكر أن من أوائل اللجان التي شكلتها
الإدارة الأمريكية لإعادة البناء هي اللجنة المكلفة بإعادة كتابة المناهج التعليمية، ممَّا
يؤكد حرصها على بناء عراق علمي متحضر، ثم يتفاءل كثيراً بإعادة بناء النموذج
الأمريكي في اليابان وألمانيا في عراق ما بعد الحرب..!!
هذه المواقف جزء من ضجيج هادر نضح به بعض إعلامنا الخليجي، وهي
مواقف تمثل صورة صارخة لمقدار التبعية الفكرية والانهزامية الثقافية التي يبشر
بها بعض المثقفين والصحفيين العرب؛ فما عادوا يخجلون من صعود الدبابة
الأمريكية والانضواء تحت رايتها.
وتعجب أشد العجب من جرأة هؤلاء المفتونين على تزييف الوعي؛ فالعالم
كله يرى إفلاس القيم الأمريكية وسقوطها المدوي الذي انكشف أمام الجميع، بينما
هم لا زالوا يسبحون بحمدها ويقدسون..!!
إنَّ الخطاب الفكري الذي يصوغ أطروحات هؤلاء القوم يستمد جذوره من
الانقلاب على الذات، والتنكر لعقيدة الأمة وجذورها التاريخية، والسقوط في
متاهات التقليد، واجترار الفكر الغربي بانهزامية مفرطة، ثم يتبع ذلك سعي حثيث
لمسخ هوية المجتمع، وتغيير بنيته الفكرية. ولئن كانت تلك الصورة الساذجة
للشاب الذي يلبَّس (الجينز) ويعلق الأساور والأقراط على يديه وأذنيه آية من
آيات الاستلاب الحضاري، ومثاراً للسخرية والاستهزاء؛ فإنَّ الانسلاخ الفكري
والعقدي الذي تلبَّس به بعض المثقفين أشد خطراً وأكثر إثارة للسخرية؛ لأنَّهم
يحملون مشروعاً تغييرياً يتقصد محاربة الأمة وتغييب ثقافتها!
وهذه الظاهرة ليست من الظواهر الحادثة؛ فمنذ أن رفع ابن أبي سلول راية
النفاق في العصر الأول، وأتباعه المقتدون به يظهرون بصور وأشكال متعددة،
تختلف أسماؤهم وألوانهم، وتتشابه مخازيهم في الكيد لهذه الأمة وشرخ عقيدتها.
قال الله تعالى: [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ] (محمد: 30) .
إنَّ المرحلة القادمة ستشهد حرباً ضروساً على القيم والثوابت الشرعية،
وسيكشف كثير ممن يسمون أنفسهم بالليبراليين عن حقيقة ثقافتهم وجذورهم!
ونحسب أن هذا التيار سيكون الأداة الطيعة الذي ستستخدمه الولايات المتحدة
الأمريكية في اختراق الأمة وتسويق مشاريعها الفكرية والاجتماعية، وبسط هيمنتها
على مراكز الرأي والتأثير. وباسم الإصلاح والتطوير ونحوها من الكلمات البراقة
سيرفعون لواء الإفساد والتغريب، [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] (البقرة: 11-12) .
ولهذا فإن استبانة سبيل هؤلاء القوم، ورصد توجهاتهم، وتتبع مكائدهم
ودسائسهم، ليس مجرد ترف ثقافي وإعلامي؛ بل هو من الأولويات المهمة التي
تحفظ الأمة من مكرهم وخداعهم. قال الله تعالى: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] (الأنعام: 55) .
__________
(1) تاريخ الجبرتي، أحداث سنة (1213هـ) ، ولاحظ أن هذا الشعار لا يبعد كثيراً عن شعار (تحرير العراق) الذي رفعه الأمريكيون لتسويغ حملتهم الجائرة على العراق! .
(2) الشرق الأوسط، 3/4/2003م.
(3) المصدر السابق، 24/3/2003م.
(4) المصدر السابق، 26/4/2003م.(188/4)
دراسات في الشريعة
ما كان أحد أحب إلي من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
د. عبد العزيز آل عبد اللطيف [*]
«خرج الركب العراقي - سنة 394هـ - حاجّاً إلى بيت الله الحرام زمن
خوف وهلع من الأعراب وسرّاق الحجيج، فلما فرغوا من الحج عزم أميرهم على
العود سريعاً إلى بغداد وأن لا يقصدوا المدينة النبوية خوفاً من أولئك السرّاق، فقام
شابان قارئان على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة النبوية، وقرأا: [مَا
كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا
بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ] (التوبة: 120) ، فضج الناس بالبكاء، وأمالت النوق
أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والأمير إلى المدينة النبوية فزاروا وعادوا
سالمين إلى بلادهم ولله الحمد والمنة» [1] .
إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم الفرائض، كما قال تعالى:
[قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي
سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] (التوبة:
24) .
قال القاضي عياض عن هذه الآية: «فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة
على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله
عليه وسلم؛ إذ قرّع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحبّ إليه من الله ورسوله،
وأوعدهم بقوله: [فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] ثم فسّقهم بتمام الآية، وأعلمهم
أنهم ممن ضلّ ولم يهده الله» [2] .
وقد حقق الصحابة رضي الله عنهم أسمى الأمثلة في محبة رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «فكان عمر الفاروق رضي الله عنه - يقول للعباس - عم رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أن تُسْلِم أحبّ إليَّ من أن يسلم الخطّاب؛ لأن ذلك أحبّ
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسئل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:» كيف كان حبكم لرسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا،
ومن الماء البارد على الظمأ « [3] .
وها هو عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول وهو في سياق الموت:» ما
كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه،
وما كنتُ أطيق أن أملأ عينيّ منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني
لم أكن أملأ عينيّ منه « [4] .
إن جنس المحبة أصل كل فعل وحركة في هذا العالم؛ فكل عمل في العالم
فهو صادر عن محبة وإرادة [5] ، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور
القلبية الوجدانية، وهذه المحبة توجب لوازمها ومقتضياتها من الأعمال والأقوال.
فمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم توجب الذبّ عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، والانتصار لسنته والاحتساب على من تطاول عليه، وتأمّل ما جاء في
حديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال:» إن أعمى كانت له أم ولد تشتم
النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر،
قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ
المِغْول [6] فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت
ما هناك بالدم، فلما أصبح، ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع
الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى
الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا
تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت
تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا اشهدوا أن دمها هدرٌ» [7] .
فتأمل ما قام به هذا «البصير» رضي الله عنه من الانتصار لرسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ فمع كونه أعمى، وتلك المرأة أم ولده، إضافة إلى كونها
رفيقة به، وله منها ابنان في غاية الحسن والجمال، مع ذلك كله، فقد قدّم محبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبّ عنه على سائر تلك المحبوبات فرضي الله
عنه.
وجاء في مغازي الواقدي: «أن مروان بن الحكم وكان أميراً على المدينة،
قال لابن يامين اليهودي: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدراً،
ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه جالس شيخ كبير، فقال: يا مروان أيُغدَّر
رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم، والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد، وأما أنت يا ابن يامين
فلله عليّ إن أفلتَّ وقدرتُ عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك، فكان ابن
يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولاً ينظر محمد بن مسلمة، فإن
كان في بعض ضياعه [8] نزل فقضى حاجته ثم انصرف، وإلا لم ينزل؛ فبينا
محمد بن مسلمة في جنازة وابن يامين في البقيع، فقام محمد إلى جرائد رطبة من
النخل، فلم يزل يضربه بها جريدة جريدة حتى كسّر ذلك الجريد على وجهه ورأسه
حتى لم يترك به مَصَحّاً [9] ، ثم أرسله ولا طَباخَ [10] به، ثم قال محمد بن مسلمة:
واللهِ لو قدرتُ على السيف لضربتك به [11] » .
وإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم توجب تعظيمه وتوقيره وإجلاله،
«ولما سئل مالك بن أنس رحمه الله عن أيوب السختياني قال: ما حدثتكم عن أحد
إلا وأيوب أفضل منه، وقال: وحجّ [أيوب] حجتين فكنتُ أرمقه ولا أسمع منه،
غير أنه كان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيتُ منه
ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبتُ عنه.
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغيّر
لونه، وينحني حتى يَصْعُب ذلك على جلسائه؛ فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو
رأيتم ما رأيت، لما أنكرتم عليّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان
سيّد القراء، لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه» [12] .
إن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط بين الإفراط والتفريط، والغلو
والجفاء، وقد قرر ابن عبد الهادي هذه الوسطية بقوله: «إن التعظيم [لرسول الله
صلى الله عليه وسلم] محله القلب واللسان والجوارح؛ فالتعظيم بالقلب ما يتبع
اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين،
ويصدق هذه المحبة أمران:
إحداهما: تجريد التوحيد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على
تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات.. ومدار دينه على هذا
الأصل الذي هو قطب رحى النجاة ولم يقرره أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم
بقوله وفعله وهديه وسدّ الذرائع المنافية، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته
على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين
وفروعه، والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم، والإعراض عمن خالفه وعدم
الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده
المعبود المألوه الذي إليه الرغبة والرهبة.. وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما
هو أهله مما أثنى به على نفسه وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير؛ فكما
أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه فالغالي المفرط كذلك.
وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه وإعلاء
كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه» [13] .
إن أعظم دواعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمران:
أحدهما: النظر إلى شمائله وأخلاقه؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم: «أكمل
الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل، ومكارم الأخلاق،
وترك الفواحش والظلم، وكل وصف مذموم، مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه
قبل النبوة، وممن آمن به وكفر بعد النبوة، لا يعرف له شيء يعاب به، لا في
أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرت عليه كذبة قط، ولا ظلم، ولا
فاحشة، وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على
كماله» [14] .
والآخر: النظر إلى إحسانه وإنعامه على أمته من رأفته بهم، ورحمته لهم،
وهدايته إياهم، وشفقته عليهم، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ورحمة للعالمين،
ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ويتلو عليهم آياته، ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة [15] .
قال الحافظ ابن حجر: «فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى
الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما
بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه
بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته
أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن
الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه» [16] .
فاللهم صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض.
(1) تاريخ ابن كثير، 11/334 - بتصرف يسير، وانظر أصل القصة في المنتظم، لابن الجوزي، 15/44.
(2) الشفا، 2/563.
(3) الشفا، لعياض، 2/568.
(4) أخرجه مسلم، كتاب، الإيمان، ح 192.
(5) انظر: جامع الرسائل، لابن تيمية، (قاعدة في المحبة) ، 2/193، 202.
(6) المغول: سيف قصير.
(7) أخرجه أبو داود، حديث، رقم 4361، والنسائي، 7/99.
(8) الضياع جمع ضيعة وهي العقار.
(9) مصحاً: من الصحة وهي العافية.
(10) الطباخ: القوة.
(11) مغازي الواقدي، 1/192 - باختصار، وانظر: الصارم المسلول، لابن تيمية، 2/184.
(12) الشفا، لعياض، 2/596، 597، وانظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 1/226.
(13) الصارم المنكي، ص 452، 454 - باختصار.
(14) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، 4/80.
(15) انظر الشفا، لعياض، 2/580.
(16) فتح الباري، 1/59، 60.(188/6)
دراسات في الشريعة
العلاقات الإسلامية النصرانية
رؤية شرعية في الماضي والحاضر والمستقبل
(2 ـ 2)
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي [*]
العلاقات التاريخية بين المسلمين والنصارى هي الجبهة الساخنة ذات الشوكة
والمواجهة، والكر والفر، والمد والجزر. وقد قصد الكاتب إلى وضع خطوط عامة
بارزة لتكوين خلفية تاريخية؛ يستصحبها الناظر للأحداث الراهنة، ويستشرف بها
المستقبل، فقسم تلك العلاقات إلى مراحل بحسب الأطوار التي مرت بها، فذكر في
العدد السابق: المرحلة النبوية، مرحلة الخلفاء الراشدين، مرحلة عصر الفتوحات،
مرحلة الحروب الصليبية. ويكمل لنا في هذا العدد استعراض مراحل العلاقات
بين المسلمين والنصارى في رؤية شرعية بين الماضي والحاضر والمستقبل.
- المرحلة الخامسة: (690هـ - 1213هـ) :
لم تكد تُطوى صفحة الصليبيين في بلاد الشام، وهم يستقلون مراكبهم هاربين
من عكا سنة تسعين وستمائة (690هـ / 1291م) ؛ حتى فتحت صفحة جديدة
من صفحات المواجهة الإسلامية النصرانية، لكن ميدان المعركة انتقل هذه المرة
إلى الطرف الآخر، وعلى وجه التحديد: الحدود الشرقية للإمبراطورية البيزنطية،
والمتاخمة لممالك السلاجقة المسلمين.
لقد شهد النصف الأخير من القرن السابع الهجري نشأة إمارة صغيرة لقومٍ من
الترك النازحين إلى هضبة الأناضول، فراراً من بطش المغول، وإثر مشاركتهم
في بعض المعارك المحلية منحهم سلطان «قونيه» ثغراً على حدود سلطنته مع
الإمبراطورية البيزنطية، انطلق منه هؤلاء المجاهدون يُثخنون في الأرض،
ويوسعون نفوذهم، حتى تأسست لهم دولة مستقلة على يد أميرهم عثمان بن
أرطغرل، صارت فيما بعد أطول دولة في التاريخ عمراً، عرفت باسم الدولة
العثمانية [1] .
اتجه آل عثمان إلى قتال الروم، ووطئت أقدامهم أراضٍ لم يطأها فاتح مسلمٌ
من قبل. فقد تمكن السلطان عثمان (699 - 726هـ) من توسعة الإمارة التي
ورثها عن أبيه أرطغرل أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، وتمكن من النفاذ
إلى بحر «مرمرة» سنة سبع وسبعمائة. وفي آخر أيامه تم فتح مدينة بيزنطية
عظيمة هي «بروسه» ، فنقل إليها خليفتُه وابنه السلطان «أورخان» كرسي
مملكته؛ ليكون قريباً من ساحات الفتوحات الجديدة في أوروبا الشرقية، فافتتح
مدينة «نيقوميدية» ، و «أزينق» من بلاد اليونان، وفتح مدينة «غليبولي»
التي تعد مفتاح القسطنطينية؛ في سنة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة. وفي عهد ابنه
السلطان الشهيد «مراد الأول» (761 - 792هـ) تم فتح «أدرنة» ، في
العام التالي لحكمه، ونقل إليها عاصمة مملكته، وأخضع معظم الأراضي البيزنطية؛
بحيث صارت «القسطنطينية» محاصرة تماماً بالأراضي العثمانية، والتي
بلغت حدود مملكة الصرب، وبلغاريا، وألبانيا.
وقد تحالف ملوك البوسنة، وصربيا، والمجر ضد العثمانيين إثر سقوط
أدرنة، بمباركة وتأييد من البابا «أربانوس» ، وهاجموا المدينة المفتوحة،
فهزمهم السلطان عندها هزيمة منكرة في سنة خمسٍ وستين وسبعمائة (765هـ /
1363م) .
وتتواصل الفتوح العثمانية حتى تسقط بلغاريا في أيدي المسلمين، ويأسرون
أميرها. وأمام هذا السيل الجارف من الانتصارات؛ يتحالف أمراء أوروبا الشرقية
ضد السلطان مراد الأول، فتدور معركة حامية الوطيس من معارك الإسلام الفاصلة
سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة (792هـ / 1389م) ، عرفت باسم «قوصووه» ،
ينتصر فيها العثمانيون، ويؤسر ملك الصرب، ويُقتل. ولكن السلطان مراد
يقضي نحبه بطعنة غادرة من جندي صربي، وهو يتفقد ساحة المعركة. وقد خلَّف
أراضيَ شاسعة، تبلغ خمسة أضعاف ما ورثه عن أبيه أورخان، في مدى ثلاثين
سنة تقريباً قضاها رحمه الله في الفتوح والجهاد.
وفي عهد ابنه السلطان «بايزيد الأول» ، الملقب بـ «الصاعقة» ؛
استمرت الجيوش العثمانية النظامية المعروفة بـ «الإنكشارية» تنتقص أوروبا
من أطرافها بطموحات عالية، وهمة ماضية، ففتح رومانيا، وألبانيا، وجزيرة
رودس، وحاصر «القسطنطينية» سبعة أشهر كاملة. فقام ملك المجر
«سيجسموند» بالاستنجاد بالبابا لتكوين حملة صليبية أوروبية، حملت شعار:
(سحق الأتراك أولاً، ثم احتلال القدس) . وتجمعت جيوش مَجَريَّة، وألمانية،
وفرنسية، وإنجليزية، وإيطالية، وإسبانية، بلغ تعدادها مائة ألف مقاتل، وعبرت
نهر الدانوب، لتصطدم بجيوش بايزيد الصاعقة، على مقربة من مدينة نيكوبولي
«نيقوبوليس» ، فتُصعق بهزيمة نكراء سنة تسع وتسعين وسبعمائة (799هـ /
1396م) ، كانت هزيمة لأوروبا كلها على يد آل عثمان.
لقد كان بايزيد الصاعقة يطمح إلى اجتياح أوروبا كلها وكان الأوروبيون
يدركون ذلك، فحينئذٍ يتجدد الحلف (النصراني المغولي) الذي سبق أن أبرمه
النصارى مع «هولاكو» ، لكن في هذا المرة مع طاغية مغولي آخر هو
«تيمورلنك» ؛ فـ (في سنة اثنتين وثمانيمائة اجتمع كثير من ملوك الروم الذين
اقتلع ملكهم السلطان يلدرم [2] بايزيد، وساروا إلى تيمور مستغيثين به، يشكون
إليه من السلطان بايزيد، ويرغّبونه في المسير إلى الروم، يستنجدون به عليه في
رد ممالكهم، فأجاب تيمور سؤالهم، وسار بجيوش كثيرة ... ) [3] . وكانت نهاية
هذا السلطان المجاهد أن وقع أسيراً في يد تيمور، وتوفي في عاصمته تبريز.
قام السلطان «محمد الأول» (816 - 824هـ) بلمِّ شعث الدولة بعد
تمزيقها، وإخماد الفتن والانشقاقات، حتى استقرت الأمور، وخلفه ابنه السلطان
«مراد الثاني» (824 - 855هـ) ، وجرت بينه وبين ملوك أوروبا وبابواتها
حروبٌ وملاحم عظيمة، تراوحت بين نصر وهزيمة، ٍ ولكنها أسفرت في نهاية
المطاف عن إخضاع الصرب، والبوسنة، وبلاد المورة، وضرب الجزية على
الأقاليم المجاورة.
ولما آل الأمر إلى «محمد الثاني» (855 - 886هـ) الملقب بالفاتح،
استهل ولايته بالتهيؤ لفتح القسطنطينية، فتم ذلك فعلاً سنة سبعٍ وخمسين وثمانيمائة
(857هـ / 1453م) ، وكان حدثاً مهماً اهتز له العالم الإسلامي فرحاً وسروراً،
وهز أوروبا وسائر النصارى في العالم حزناً وثبوراً. وسقطت الدولة البيزنطية
العريقة، وعُدّ ذلك التاريخ مبدءاً للتاريخ الحديث؛ لجلالة المناسبة، وعميق آثارها.
وتحولت مدينة قسطنطين «القسطنطينية» إلى مدينة الإسلام «إسلامبول» ،
وصارت كنيستها العظمى «أياصوفيا» جامعاً للمسلمين [4] .
وقد تابع السلطان محمد فتوحاته حتى أخضع بلاد المورة، والصرب،
والبوسنة، والأرناؤوط، وألبانيا، إلى سنة إحدى وسبعين وثمانيمائة (871هـ /
1467م) . ثم ولَّى وجهه نحو بلاد القرم، فأخضعها سنة تسع وسبعين وثمانيمائة
(879هـ / 1475م) . أما أهم دولتين في أوروبا ذلك العهد؛ وهما جمهوريتا
البندقية، وجنوة، فقد اضُطرتا للصلح مع السلطان محمد الفاتح، والتنازل عن
كثيرٍ من المواقع.
لقد كان النصف الثاني من القرن التاسع الهجري يمثل قمة تألق الدولة
العثمانية، وقوتها، ونفوذها؛ بحيث لا تساميها دولة من دول العالم آنذاك. وكان
فاتح القسطنطينية يطمح إلى فتح «روما» معقل البابوية؛ لولا أن عاجله الأجل
سنة ست وثمانين وثمانيمائة (886هـ / 1481م) ، بعد حكم دام أكثر من ثلاثين
سنة، أبلاها في الحروب، والفتوح، وتسطير الأمجاد الخالدة، رحمه الله رحمة
واسعة.
وفي نهاية القرن التاسع سجل التاريخ ثلاثة أحداث كبار:
1 - سنة ستٍ وثمانيمائة (886هـ / 1481م) وصل الرحالة البرتغالي
«فاسكو دي جاما» إلى الهند؛ عن طريق رأس الرجاء الصالح.
2 - سنة سبعٍ وتسعين وثمانيمائة (897هـ / 1492م) وصل الرحالة
الإسباني «كريستوفر كولومبس» إلى إحدى جزر الهند الغربية، كما كان يظن،
وتم اكتشاف قارة أمريكا.
3 - في العام نفسه كان سقوط «غرناطة» ، آخر ممالك المسلمين في
الأندلس، على يد النصارى الإسبان، وجرى طرد المسلمين من إسبانيا إلى الشمال
الإفريقي.
لقد كان للحدثين الأولين آثار استراتيجية واقتصادية بالغة الأثر في تغيير
ميزان القوى لصالح الغرب النصراني، كما كان للحدث الثالث أثر نفسي في رد
الاعتبار، والثأر الديني لنصارى أوروبا لقاء الهزائم المتكررة التي مُنوا بها في
الجانب الشرقي من قارتهم، ولا سيما سقوط القسطنطينية.
وتجددت الأمجاد الإسلامية في عهد أشهر سلاطين «آل عثمان» ، وهو
السلطان «سليمان القانوني» (926 - 974هـ) ، الذي هز أركان أوروبا
بفتوحاته العظام، وجهاده الدؤوب، في كل صوب. ومن أشهر مآثره:
- فتح «بلغراد» سنة سبع وعشرين وتسعمائة (927هـ / 1521م) .
- هزيمة الجيش المجري، وحلفائه الألمان، والنمساويين في معركة
«موكر» .
- حصار «فيينا» عاصمة النمسا سنة خمسٍ وثلاثين وتسعمائة (935هـ /
1529م) .
- تجريد حملة عثمانية بقيادة السلطان، عُرفت باسم الحملة العثمانية على
ألمانيا، لتأديب أسرة «هابسبرج» العريقة، اخترقت البلقان، والمجر، والنمسا،
وصولاً إلى ألمانيا، فاضطر فرديناند ملك النمسا؛ إلى التوقيع على معاهدة صلح
مذلة، ودفع جزية سنوية قدرها ثلاثون ألف دوق ذهباً للخزينة العثمانية.
- استعادة مدينة «بودين» المجرية سنة ثمانٍ وأربعين وتسعمائة (948هـ /
1541م) ، وتحويل أضخم كنائسها إلى جامعٍ للمسلمين، وتعيين ملكٍ للمجر من
قِبَل السلطان.
- القضاء على حملة صليبية بإشراف البابا بول الثالث، ومشاركة ملكي
النمسا والمجر سنة إحدى وخمسين وتسعمائة (951هـ / 1543م) ، وإلزامهما
بدفع الجزية.
كانت هذه الانتصارات المجيدة في ميادين القتال البرية، يقابلها على ثبج
البحار انتصارات مماثلة جعلت من البحر الأبيض المتوسط شبه بحيرة عثمانية،
تروح فيها أساطيلهم وتغدو، كما جحافلهم البرية، فمن أشهر الوقائع البحرية في
عهد السلطان سليمان القانوني:
1 - فتح جزيرة «رودس» سنة ثمانٍ وعشرين وتسعمائة (928هـ /
1522م) .
2 - كسر الأسطول الصليبي المتحالف في موقعة «بَرَوَزة» سنة خمسٍ
وأربعين وتسعمائة (945هـ / 1538م) ، الذي دعا لتكوينه البابا «بول الثالث» ، وقاده أشهر القادة البحريين في العالم حينذاك «أندريا دوريا» ، وضم ثلاثمائة
قطعة بحرية. فهزمهم القائد العثماني «خير الدين برباروس» ، والذي لم يكن
تحت يده سوى مائة وعشرين قطعة.
3 - هزيمة أسطول «شرلكان» ملك الألمان سنة ثمان وأربعين وتسعمائة
(948هـ / 1541م) ، وصده عن مهاجمة الجزائر.
4 - تحرير «طرابلس الغرب» من احتلال فرسان مالطة النصارى،
ومحاصرتهم سنة تسع وخمسين وتسعمائة (959هـ / 1552م) ، على يد قبطان
البحر العثماني «طورغود رئيس» .
5 - كما قامت القوات البحرية العثمانية بأربع حملات بحرية تأديبية
للبرتغاليين المعتدين على مسلمي الهند، بعد اكتشافهم طريق رأس الرجاء الصالح،
منذ عام أربعٍ وأربعين وتسعمائة (944هـ / 1538م) إلى أربعٍ وستين وتسعمائة
(964هـ / 1557م) .
توفي السلطان سليمان القانوني، بعد حكم دام ثمانٍ وأربعين سنة، عام أربعٍ
وسبعين وتسعمائة (974هـ / 1566م) .
يقول الدكتور محمد حرب: (كان عهد القانوني قمة العهود العثمانية، سواءً
في الحركة الجهادية، وفي الناحية المعمارية، والعلمية، والأدبية، والعسكرية.
كان هذا السلطان يؤثر في السياسة الأوروبية تأثيراً عظيماً، وبمعنى أوضح؛ كان
هو القوة العظمى دولياً في زمنه، نعمت الدولة الإسلامية العثمانية في عهده بالرخاء
والطمأنينة) [5] .
شهد آخر القرن العاشر، بعد وفاة سليمان القانوني، فتح العثمانيين لجزيرة
«قبرص» ، وانتزاعها من أهل «البندقية» ، سنة تسع وسبعين وتسعمائة
(979هـ / 1751م) ، ثم أعقبه اتحاد نصراني مكون من إسبانيا، والبندقية،
والبابوية، أخذوا المسلمين على حين غرة، وهزموهم في معركة «لينتر البحرية»
في السنة نفسها.
أما القرن الحادي عشر الهجري فقد كان قرناً جهادياً، حافظ العثمانيون فيه
بشكلٍ عام على تفوقهم العسكري، وأخضعوا الشعوب الأوروبية المتمردة، كما
أضافوا عدداً من الفتوحات والانتصارات المهمة.
ومن أبرز أحداث ذلك القرن على صعيد العلاقات الإسلامية النصرانية:
1 - فتوح في المجر، زمن السلطان «محمد الثالث» (1003 -
1012هـ) ، ثم نصر عظيم على التحالف الأوروبي في سهل «كرزت» ،
سنة أربعٍ بعد الألف (1004هـ / 1596م) .
2 - تأديب المتمردين من أهل بولونيا، وهم من القوزاق، والقضاء على
المتحالفين معهم من الروس، والفرنسيين، والنمساويين، سنة ثلاثين بعد الألف
(1030هـ / 1621م) .
3 - انتزاع جزيرة «كريت» من البنادقة، سنة ثمانين بعد الألف
(1080هـ / 1669م) .
4 - غزو بولندا سنة ثلاث وثمانين بعد الألف (1083هـ / 1672م) .
5 - حصار مدينة «فيينا» سنة إحدى وتسعين (1091هـ / 1680م) ،
ثم حصارها مرة ثانية سنة أربعٍ وتسعين (1094هـ / 1683م) ، وتم فك
الحصار على أيدي قوات مشتركة من النمسا، وألمانيا، وبولونيا، وسائر الأمم
الأوروبية، وأوقعت بالمسلمين خسائر فادحة. ويبدو أن هذه الحادثة رفعت
معنويات النصارى المنحطة، وأيقظت فيهم روح الأمل في التحرر من الهيمنة
العثمانية. ويصف أحمد زيني دحلان تلك التغييرات بقوله: (.. وبعد تلك الوقائع
الشديدة، والحروب المهولة، أخذ البابا يحرض أهل أوروبا على طرد المسلمين من
قرة بلادهم، فاجتمعت العساكر من كل الجهات، وعزموا على إخراج المسلمين من
أوروبا ... وزحفوا على بلاد الدولة العثمانية من جميع الأطراف، فكانت عساكر
الدولة تحارب الإفرنج من جملة أماكن، والبابا يحرض الإفرنج على التجلد والقتال،
وأنجدهم بجيوش كثيرة) [6] .
وفعلاً؛ مُني العثمانيون في نهاية القرن الحادي عشر بخسائر فادحة، بلغت
إلى حد حصار النمساويين لبلغراد. وبعد معارك متعددة في عهد السلطان
«مصطفى الثاني» (1106هـ / 1615م) تراوحت بين النصر والهزيمة؛
وقعت معاهدة «كارلونز» سنة عشر ومائة بعد الألف (1110هـ / 1699م) .
لقد تم في هذه المرحلة نشر الإسلام في مواطن كثيرة من آسيا، وأوروبا، لم
تبلغها دعوة الإسلام من قبل، واعتنقت شعوب وأعراق بأكملها هذا الدين في فترة
وجيزة. فقد اعتنق الألبان الإسلام، وظلوا يشكِّلون غالبية سكان ألبانيا على الرغم
من عمليات التهجير والاضطهاد النصراني، والشيوعي، والتي تمت فيما بعد. كما
دخل «البوغوميليون» [7] في دين الإسلام أفواجاً، في بلاد البوشناق، وبلغاريا،
وغيرهما. كما انتشر الإسلام في رومانيا، واليونان، وقبرص. وكذلك الحال في
الجانب الآسيوي من القرم، والشراكسة «الداغستان» وغيرهم. وامتزجت هذه
القوميات في هذا الكيان الإسلامي الكبير، وانتقلت أعداد كبيرة من الألبان،
والأرناؤوط، والشركس، والقرم إلى المشرق الإسلامي؛ في مصر، والشام،
والعراق. كما استقر عشرات الآلاف من الأتراك المسلمين في البلاد المفتوحة شرق
أوروبا، وأشادوا معالم الإسلام التي لا تزال شواهدها باقية حتى يومنا هذا في دول
البلقان. وصار المسلمون على الرغم من كل ما تعرضوا له من صنوف القهر
والفتنة، ولا يزالون جزءاً لا يتجزأ من بنية الشعوب الأوروبية الشرقية. ولولا
الوضع القلق، والفتن، والقلاقل المتتابعة، لاعتنقت تلك الشعوب الإسلام
بالكلية.
أما القرن الثاني عشر الهجري، فقد كان قرن المجابهة مع الروس الذين
نهضت دولتهم على يد قيصرهم «بطرس الأكبر» ، والذي اعتدى على الأراضي
العثمانية في «أزاق» ، فأعلنت إستانبول الحرب على روسيا سنة ثلاث وعشرين
بعد المائة والألف (1123هـ / 1711م) ، وانتصرت على القوات الروسية عند
نهر «بروث» ، حتى حاق الخطر بالقيصر، فلجأت زوجته «كاترينا» إلى
إبرام معاهدة «بروث» المذلة لهم. ثم استغلت روسيا انشغال العثمانيين بمحاربة
العجم فتحالفت مع النمسا، وأشهرت الحرب ضدهم، فمنيتا بالهزيمة سنة ثمانٍ
وأربعين (1148هـ / 1735م) .
وهكذا انقضى النصف الأول من القرن الثاني عشر، وكفة المسلمين راجحة
على الروس، بالإضافة إلى استرجاع بلاد المورة من جمهورية البندقية، سنة سبعٍ
وعشرين (1127هـ / 1715م) . أما النصف الثاني منه، فكانت الكفة تميل فيه
لصالح الروس؛ فقد هُزم العثمانيون في موقعة «شكزم» ، سنة اثنتين وخمسين
(1152هـ / 1715م) . وتبعها توقيع معاهدة بين الطرفين في بلغراد، وسرعان
ما نقضت «كاترينا الثانية» ، ملكة روسيا، المعاهدة، واعتدت على بلاد
«القرم» ، فأعلنت الدولة العثمانية الحرب على روسيا سنة اثنتين وثمانين
(1182هـ / 1768م) ، ولكنها هُزمت في معركة «جزيرة خيوش» البحرية،
سنة أربعٍ وثمانين (1184هـ /1770م) . ثم عقدت معاهدة «كجوق كينارجه»
سنة 1188هـ، ثم معاهدة «القسطنطينية» سنة 1198هـ إثر ضم روسيا بلاد
القرم إليها سنة (1197هـ / 1783م) . واستمر التفوق الروسي في مطلع
القرن الثالث عشر على حساب الممالك العثمانية في صربيا، والمجر، حتى
أُبرمت معاهدة «باسي» ؛ بتوسط دولة إنجلترا، ودولة بروسيا.
لقد شاخ هذا المحارب القديم، وأثخنته الجراحات الداخلية والخارجية،
وتكالبت عليه الأعداء ينهشونه من كل جانب، وهو يحاول أن يستمسك ويستقيم،
ولكنه يترنح ويهتز أمام أمم فتية، ناشطة، يؤلف بينها الحقد الصليبي، وتراث
التاريخ، كما يطعن في خاصرته الباطنيون من أحفاد هولاكو، وتيمورلنك، في
أجزاء كثيرة من بدنه المترهل.
- المرحلة السادسة: (1213هـ - 1368هـ) :
تمثل هذه المرحلة فترةً تمتد من قيام الحملة الفرنسية على مصر، سنة ثلاثة
عشر بعد المائتين وألف (1213هـ / 1798م) ، وتنتهي بالإعلان عن قيام دولة
يهود (إسرائيل) ، فوق أرض فلسطين عام (1368هـ / 1948م) .
والسمة العامة لهذه المرحلة هي التقهقر السياسي، والعسكري، والعلمي،
للأمة الإسلامية، مقابل النمو الأوروبي المطرد في جميع المجالات المادية؛ مما
أفضى إلى انهيار الخلافة العثمانية، وطي بساطها من أوروبا الشرقية، ثم احتلال
البلدان الإسلامية العريقة من قِبَل الاستعمار الأوروبي؛ بشكل لم يسبق له مثيل،
حتى في الحروب الصليبية.
والمتغير الوحيد في هذه المرحلة عن مرحلة الحروب الصليبية؛ أن
الحكومات الأوروبية المتأثرة بالثورة الفرنسية (1789م) العلمانية؛ باتت أكثر
دهاءً، وغزت المجتمعات الإسلامية بأسلحتها المتفوقة، تحت شعارات منمقة لا
تحمل الطابع الديني الصليبي، بل تحاول أن تتجنب استفزاز المشاعر الإسلامية،
وتتستر تحت لافتات سياسية مثل: «الانتداب» و «الوصاية» و «الحماية»
... إلخ.
ومن أبرز الحوادث التاريخية التي ترسم معالم هذه المرحلة، ما يلي:
1 - الحملة الفرنسية على مصر: سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف
(1213هـ / 1798م) . بعد عشر سنوات تقريباً من قيام الثورة الفرنسية جرد
«نابليون بونابرت» حملة بحرية للاستيلاء على مصر؛ أسوة بأسلافه الصليبيين
الذين كان آخرهم «لويس التاسع» .
2 - الحملة الإنكليزية على مصر: سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف
(1222هـ / 1807م) ، فاستولوا على الإسكندرية في محرم، ثم تصدى لهم
«محمد علي باشا» (1183 - 1265هـ) فهزمهم، وعقد معهم صلحاً،
فغادروا البلاد في شهر رجب من تلك السنة [8] .
3 - ثورة اليونان: أدى الضعف الذي أصاب الدولة العثمانية، وهزائمها
المتوالية أمام الجيوش الروسية في البلقان، إلى طمع اليونانيين في الاستقلال.
فشبت نار الثورة في بلاد المورة، سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف (1237هـ /
1826م) ، فعقدت الدول الأوروبية الكبرى مؤتمراً في لندن ذلك العام، بدعوى
الاحتجاج على الممارسات غير الإنسانية لإبراهيم باشا، ودمروا السفن العثمانية
والمصرية، واحتلت فرنسا بلاد المورة سنة أربع وأربعين (1244هـ / 1828م) ،
ثم أرغمت روسيا، والدول الأوروبية العثمانيين على القبول باستقلال اليونان
في معاهدة «أدرنة» ، سنة خمسٍ وأربعين ومائتين وألف (1245هـ / 1829م) .
4 - احتلال فرنسا للجزائر: سنة ست وأربعين ومائتين وألف (1246هـ /
1830م) بدعوى أن أهلها كانوا يعتدون على مراكبهم البحرية! وظلت الجزائر
رهينة الأسر مدة مائة وخمسة وثلاثين عاماً، حتى انسحابهم منها سنة إحدى
وثمانين وثلاثمائة وألف، تحت وطأة الجهاد الإسلامي المستميت (1381هـ /
1962م) .
5 - احتلال الإنكليز لعدن، والسيطرة على مضيق باب المندب: سنة أربع
وستين ومائتين وألف (1264هـ / 1839م) . وقد بقيت تحت نير الاحتلال حتى
سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وألف (1387هـ / 1967م) .
6 - سقوط رومانيا، واستقلالها عن الدولة العثمانية: سنة ثلاث وسبعين
ومائتين وألف (1273هـ / 1857م) ، بعد حكم دام أكثر من أربعة قرون
ونصف.
7 - حرب القرم: بين الحكومة العثمانية وحلفائها الإنكليز والفرنسيين من
جهة، وروسيا من الجهة الأخرى، سنة تسع وستين ومائتين وألف (1269هـ /
1853م) ؛ بسبب تحرشات الروس بالعثمانيين، وإهانتهم إياهم. واستمرت حتى
توقيع معاهدة «باريس» ، سنة ثلاث وسبعين (1273 هـ / 1856م) . وقد
أنهكت هذه الحرب الدولة العثمانية، وفقدت أجزاء من أراضيها، وزادت من نفوذ
الإنكليز، والفرنسيين، في سياسات الحكومة العثمانية تجاه الأقليات النصرانية.
8 - سقوط الهرسك: سنة ثلاث وتسعين ومائتين (1293هـ / 1876م)
بمساندة الروس، والدول المجاورة، في أول ولاية السلطان عبد الحميد الثاني، وقد
امتدت الحرب، وتقهقر العثمانيون إلى قرب أدرنة. وأعقب ذلك معاهدة تقضي
بتملك الروس لتلك البلاد، ويبقى للعثمانيين أدرنة، عاصمتهم القديمة، وما يليها
إلى إستانبول، مع تحميلهم دفع غرامة الحرب. وتلتها معاهدة «برلين» 1878م
التي كانت أشد إذلالاً.
9 - احتلال الفرنسيين تونس: سنة سبعٍ وتسعين ومائتين وألف (1297هـ /
1881م) ؛ بدعوى تأديب بعض قبائل العرب المعتدين! وظلت تونس بأيديهم
ثمان وسبعين سنة، حتى نالت استقلالها سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف
(1375هـ / 1956م) .
10 - احتلال الإنكليز لمصر: سنة ثمانٍ وتسعين ومائتين وألف (1298هـ /
1882م) للقضاء على ثورة «عرابي باشا» ، والتحكم في ولاتها من أحفاد
محمد علي باشا، ثم احتلال السودان تبعاً لمصر. وقد ظل الإنكليز في مصر حتى
سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة (1373هـ / 1954م) ، وفي السودان إلى ما بعد
ذلك بسنتين.
11 - انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول: في مدينة «بال» بسويسرا سنة
1897م، والذي ضم زعامات اليهود في العالم، لرسم الخطط للسيطرة على العالم،
وإنشاء وطنٍ قومي لهم في فلسطين.
12 - سقوط بلغاريا: سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وألف (1328هـ /
1908م) ، بعد حكم دام أكثر من خمسة قرون.
13 - قيام ثورة جمعية الاتحاد والترقي العلمانية التركية، وخلع السلطان
عبد الحميد الثاني: سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف (1329هـ / 1909م) ،
والذي كان آخر خليفة عثماني فعلي، وذلك لوأد فكرة الجامعة الإسلامية التي صار
يدعو إليها لمواجهة التسلط الأوروبي.
14 - سقوط ألبانيا وانتزاعها من الدولة العثمانية: سنة اثنتين وثلاثين
وثلاثمائة وألف (1392هـ / 1912م) بعد حكم إسلامي دام قرابة أربعة قرون
ونصف.
15 - احتلال فرنسا لمراكش، وتقاسمها مع إسبانيا الأراضي المغربية:
سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف (1321هـ / 1955م) ، حتى نالت
الاستقلال سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف (1375هـ / 1955م) . وبقيت
مدينتا «سبتة» و «مليلة» تحت الحكم الإسباني إلى الآن.
16 - احتلال إيطاليا لليبيا: سنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائة وألف (1334هـ /
1914م) . وقد ظلت أسيرة في أيديهم قرابة نصف قرن حتى سنة إحدى وسبعين
وثلاثمائة وألف (1371هـ / 1951م) .
17 - إبرام اتفاقية (سايكس - بيكو) : سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف
(1326هـ / 1916م) بين فرنسا، وبريطانيا، بشأن اقتسام المنطقة العربية
المتبقية من تركة الرجل المريض، أي الدولة العثمانية، وهي العراق، وسوريا
الكبرى، والخليج العربي، وفلسطين، والأردن، باسم «الحماية» لحكومات
مصطنعة، تنشأ بعد مسرحية (الثورة العربية الكبرى) التي يعلنها الشريف حسين
بن علي في الحجاز؛ ضد العثمانيين في تلك السنة، وتُدعم من قِبَل طرفي الاتفاقية.
وقد كشف البلاشفة بنود هذه الاتفاقية في العام التالي.
18 - صدور وعد رئيس وزراء بريطانيا «بلفور» : سنة سبع وثلاثين
وثلاثمائة وألف (1337هـ / 1917م) بتعهد من الحكومة البريطانية لليهود
بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي فوق أرض فلسطين. وفي العام نفسه دخل القائد
الإنكليزي «اللنبي» مدينة القدس هاتفاً: (الآن انتهت الحروب الصليبية) . كما
دخلوا بغداد، وفي السنة التالية دخل الفرنسيون بيروت.
19 - اندلاع الثورات العربية في فلسطين، وسوريا، ضد الانتداب الأجنبي:
سنة أربعين وثلاثمائة وألف (1340هـ / 1920م) ، وقمعها من قبل القوات
الغازية المتفوقة عسكرياً، كما في موقعة «ميسلون» ، قرب دمشق في العام نفسه.
وتتبع الإنجليز لفصائل المجاهدين التابعين لعز الدين القسام رحمه الله، في
فلسطين. ثم توقيع معاهدات استعمارية مع الحكومات المحلية في كل من سوريا،
وفلسطين، ولبنان، والعراق، ومصر، سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف
(1336هـ / 1956م) .
20 - إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية: سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وألف
(1344هـ / 1924م) ، بعد حكم دام أكثر من ستة قرون. وانتخاب مصطفى
كمال أتاتورك رئيساً للجمهورية التركية العلمانية الحديثة. وكان ليهود «الدونمة»
الدور الأكبر في اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة، ومن خلفهم المؤتمر الصهيوني
العالمي؛ بإثارة الفتن وتشويه صورة السلطان عبد الحميد الثاني، وتأسيس
الجمعيات المناوئة في داخل تركيا وخارجها [9] .
هكذا بدا العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر الهجري، إلى منتصف القرن
الرابع عشر، (التاسع عشر الميلادي، إلى منتصف القرن العشرين) !! بدت
صورته كئيبة قاتمة؛ هزائم متلاحقة، فوضى سياسية، جهل، وبدع، وانحرافات
عقدية، ومسلكية، تخلف في جميع مناحي الحياة الفكرية والمادية أزمة ثقة بين
شعوبه، وتحالف مع الأعداء أحياناً، في مقابل قفزات سريعة لدى الأمم النصرانية
في مجال الإعداد المادي، والقوة الصناعية، والعسكرية، والاقتصادية، وتنسيق
دائب على اقتسام التركة، وإذلال الورثة. أدى هذا وذاك إلى قطع شجرة الخلافة
الإسلامية الجامعة من أصلها، بفرع من فروعها، وبأيدي أبنائها، أو هكذا يبدو
ظاهراً على الأقل. ثم نهب ميراث الأيتام وعيونهم زائغة.
لقد كانت الحركات الإسلامية الجهادية التي ظهرت في أجزاء من العالم
الإسلامي إبان فترة الاستعمار الحديث، كانتفاضات الطير الذبيح، سرعان ما
أُخمدت أنفاسه.
جاء النصارى، هذه المرة، دون صلبان، يتقدمهم المستشرقون، وليس
القسس، ويفاوضون بقناصلهم، ومندوبيهم السامين، لا ببطرس الناسك. إنهم هذه
المرة لا يهدمون الجوامع، ويحولونها إلى كنائس وكاتدرائيات، ولكنهم يظهرون
تعظيم الدين والمشايخ، ويدغدغون مشاعر العامة والدهماء. لقد فقهت أوروبا
النصرانية درس الحروب الصليبية، وتحاشت أن تنجب الاستفزازات الدينية أمثال
«نور الدين زنكي» ، و «صلاح الدين الأيوبي» ، و «الظاهر بيبرس
البندقداري» .
جاء النصارى، هذه المرة، باسم السياسة لا برسم الدين، فحققوا ما لم يحققه
أسلافهم المتعصبون. لقد أوهنوا عرى الدين في المجتمعات الإسلامية، وغزوا
الأفكار قبل الديار، وغسلوا الأدمغة، وهزوا الثوابت والعقائد، ونشروا الرذيلة
باسم الحرية، ونفخوا في صورة أهل الذمة باسم حماية الأقليات، وأَحَلُّوا الفكرة
«العلمانية» محل الفكرة الدينية، واستنطقوا بذلك رجالاً من بني جلدتنا،
يتكلمون بألسنتنا.
فيا لها من داهية على المسلمين عظيمة، ونازلة لم يشهد تاريخ الإسلام لها
نظيراً. فالرزايا والبلايا التي وقعت في تاريخ هذه الأمة تكون على الأبدان،
والأموال، والبلدان، ولكن هذه الداهية الأخيرة تستأصل العقول والأفكار، وتورث
الردة والإلحاد، وقد كان؛ فكم التهمت نار المبادئ الضالة التي ولدت، وترعرعت،
في حضن هؤلاء المستعمرين من أبناء هذه الأمة، وسخرتهم في تدميرها. ولولا
أن الله تعالى تكفل بحفظ الذِّكر، وتجديد الدِّين، وبقاء الطائفة المنصورة، وإلا
لكان الإسلام نسياً منسياً.
وبعد هذه القراءة التاريخية لأبرز الأحداث التي رسمت حدود العلاقات
الإسلامية الكتابية، في مراحلها المختلفة، على مدى أربعة عشر قرناً هجرياً، في
مدٍ وجزر على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، والدول المطلة عليه، حيث جرت
معظم هذه الوقائع، ندرك مقدار الكم الكبير من الصور والذكريات التي تختزنها كلٌ
من الذاكرتين الإسلامية والنصرانية، وتستدعيها كلما تجدد لونٌ من ألوان المجابهة
والتَّماس. لقد كانت علاقة ساخنة لا تبرد، هادرةً لا تهدأ، متصلة لا تنقطع، أشبه
ما تكون بمعركة حامية الوطيس لا يكف طرفاها عن الكر والفر إلا أن يفنى صاحبه.
إن الذاكرة النصرانية لا يمكن أن تنسى كيف طوي بساطها، وقلص ظلها عن
مقدساتها، ومهد مسيحها، وأرض التوراة والإنجيل، وانتزعت من يدها مواطن
أشرف كنائسها في بيت المقدس، والإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية،
وصارت الأرض التي تدر عسلاً ولبناً دار إسلام، فما كان لهم أن يدخلوها إلا
خائفين.
لقد رُوعت النصرانية حين اخترقت جحافل الإسلام شمال إفريقيا، وعبرت
مضيق جبل طارق، واستوعبت شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) ، ثم
تسلقت جبال البرانس، لتمكث في جنوب فرنسا سبعين سنة.
إن الذاكرة النصرانية لا يمكن أن تنسى كابوس العثمانيين، الذين دوخوا
أوروبا، وأَقَضُّوا مضاجع البابوية عدة قرون، وأخضعوا عواصم البلقان تحت
سنابك خيولهم، وهدموا أسوار القسطنطينية، وبلغراد، وبودابست بمدافعهم
العملاقة، وحاصروا «فيينا» ثلاث مراتٍ، وطموحهم لا يقف إلا عند روما،
معقل النصرانية. ولهذا يصب النصارى لعناتهم على الأتراك، ليل نهار، في
أدبياتهم، فضلاً عن صلواتهم.
وبالمقابل؛ فإن الذاكرة الإسلامية لا يعزب عنها تلك الفظائع التي أنزلها
الصليبيون، بوحشية وهمجية، في بيت المقدس، وسواحل الشام، على مدى
قرنين من الزمان. رولا ينسى المسلمون حرب الاستعادة الإسبانية التي جازتهم
على ما ساقوه إلى الأندلس من علمٍ وحضارة جزاء «سنمار» ، وطردتهم شر
طردة، ثم أتبعتها بمأساة «الموريسيكيين» [10] التي تعد من أعظم مآسي التاريخ.
وكيف يغيب عن بال المسلمين صور الإذلال والقمع التي أحلها الغزاة
النصارى بديار الإسلام، على يد نابليون في مصر، وفظائع الروس بالعثمانيين في
بلاد البلقان، والقرم، والداغستان، وأواسط آسيا. وأخيراً تقاسم الدول الأوروبية
لتركة «الرجل المريض» ، كما يقسم المتاع، فيمتصون خيراتها، ويذيقون أهلها
الذل والهوان.
إنه إرث تاريخي لا يتجاهله إلا مغفل مغرور، بلغت به السذاجة مبلغاً عظيماً،
فصار ألعوبةً بيد أعدائه المستبصرين. وهو إرث يتفق اتفاقاً تاماً، جملةً
وتفصيلاً، مع الثوابت العقدية لدى المسلمين في نظرتهم نحو النصارى، ومفرداته
شواهد واضحة كالشمس في رابعة النهار.
- المرحلة السابعة: (المرحلة الراهنة) :
تمثل هذه المرحلة مرحلة الإذلال النصراني، المتلفع بالعباءة الدولية، للأمة
الإسلامية عامة، والعربية خاصة. فالاستعمار النصراني قد حمل عصاه، ورحل
إلى بلاده فعلاً، ولكنه زرع في جسم الأمة الإسلامية نوابت دخيلة. وطعنها عدة
طعنات نجلاء، خلَّفت جروحاً غائرة، لم تتعافَ الأمة منها بعد!!
تبتدئ هذه الفترة منذ أن استنبت النصارى الإنكليز دولة يهود على تراب
فلسطين سنة (1368هـ / 1948م) ، لتحقيق رؤاهم التوراتية التي تفترض
وجود مملكةٍ لأبناء يهوذا، ليتم القدوم الثاني للمسيح. وتمكن النصارى من تقطيع
أوصال الأمة الإسلامية إرباً إرباً، ورسموا بينها حدوداً دولية، بعد أن كانت أمةً
واحدة، يسير المرء من أقصاها إلى أدناها دون أن يُسأل عن هويته. كما استخلف
المستعمرون النصارى على الممالك الإسلامية أنظمةً مواليةً لهم، أو مسالمة، قبل
أن يمنحوها استقلالاً خداجاً، لم يُعِد الأمة إلى سيرتها الأولى، ولم يصبغها بصبغة
الله.
استقلت الدول الإسلامية فوجدت نفسها في عالم متغير بعد الحرب العالمية
الثانية، عالمٍ يرفع شعارات السلام الدولي، والمواثيق الدولية، والتي تعلن المساواة
بين شعوب العالم في الحقوق والواجبات، وتدعو إلى نبذ التمييز على أساس الدين،
والعرق، واللون. وكوّن لتمثيل هذه المبادئ وتطبيقها منظمة عالمية، عُرفت
باسم «هيئة الأمم المتحدة» ، تأسست عام 1945م، وتفرعت عنها الهيئات،
والمنظمات، واللجان العالمية التي تنتظم العالم بخيط واحد، وفق معايير متساوية،
على الأقل من الناحية النظرية [11] .
وعلى الرغم من هذا التظاهر الدولي من قبل النصارى، بإقصاء البعد الديني
في السياسة الدولية، والتستر وراء مسوِّغات اقتصادية، واستراتيجية، وأمنية،
وإنسانية؛ فإنها لم تفلح في حجب الدوافع الدينية المتأصلة لدى القوم، خلال هذه
الفترة، كما تشهد بذلك عشرات الشواهد، مثل:
1- الدعم المتواصل والمتنامي لدولة إسرائيل، من قِبَل جميع الدول
النصرانية.
2- اضطهاد المسلمين في الفلبين من قِبَل الحكومات النصرانية المتعاقبة.
3- اضطهاد الأكثرية المسلمة في الحبشة، وتنزانيا، والعديد من الدول
الإفريقية؛ من قِبَل الأقليات النصرانية الحاكمة.
4- الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة والهرسك، ثم مسلمي كوسوفا، من قبل
الصرب والكروات، في التسعينيات الميلادية.
5- دعم الدول النصرانية للحركات الانفصالية، والأقليات النصرانية في
السودان، وإندونيسيا.
6- الغزو العسكري النصراني لأراضي أفغانستان، والعراق.
لقد بذل النصارى جهدهم، واستفرغوا وسعهم؛ لتنشئة جيل من المسلمين
مبتوت الصلة بعقيدته، مغيَّب عن تاريخه، معمّىً عن حقيقة واقعه. ولكن أصالة
الإسلام من جهة، وتعصب النصارى وعدوانهم السافر من جهة أخرى؛ يوقظ
الحمية الدينية الفطرية التي لا تلبث أن تصبح حركةً واعية، تعيد إلى الأمة كرامتها،
ومكانتها، والقيام برسالتها العالمية.
- المرحلة الأخيرة:
لقد استيقظ المسلمون صبيحة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م؛ ليجدوا
أنفسهم يتضيَّفون لمرحلة جديدة من مراحل علاقتهم بأهل الكتاب عامة، والنصارى
خاصة. فقد غاب البعد الديني عن الصدارة، في تلك العلاقة، قريباً من ثمانين
سنة، وتحديداً: منذ إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م، ونشوء الحكومات المدنية
(العلمانية) في معظم أرجاء العالم الإسلامي، وانخرط الجميع في معاهدات دولية
ذات صبغة دنيوية، تُقصي الصفة الدينية لمختلف الأطراف، أو هكذا يبدو على
الأقل، ولكنه وضع مؤقت يوشك أن يتهاوى وينهار أمام سنن الله الكونية، فيعود
الأمر جذعاً، وينحاز الناس إلى فسطاطين؛ فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط
كفر لا إيمان فيه. وسيظل قطباها: المسلمون والنصارى.
إن هذه العلاقة العدائية ستظل إلى يوم القيامة عداوةً أبدية، لإخبار الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، بحكم اختلاف الاعتقاد من جهة، ولما يتميز به
هؤلاء النصارى، ممثلين بالروم، من صفاتٍ وخصائص نوعية من جهة أخرى
تبقي لهم أسباب القوة المادية، والشوكة الحربية، فلا يزال الناس يجدون منهم بأساً.
روى مسلم رحمه الله أن المستورد القرشي رضي الله عنه، قال عند عمرو
بن العاص رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم
الساعة والروم أكثر الناس) ، فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً
أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد
فرةً، وخيرهم لمسكين ويتيم، وضعيف. وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم
الملوك) [12] . وفي لفظ عند مسلم أيضاً: (وأجبر الناس عند مصيبة، وخير
الناس لمساكينهم، وضعفائهم) [13] . وعنه رضي الله عنه قال: بينا أنا عند عمرو
بن العاص، فقلت له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس
عليكم الروم، وإنما هلكتهم مع الساعة) ، فقال له عمرو: ألم أزجرك عن مثل هذا
[14] .
قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن والملاحم التي تكون في آخر
الزمان بين أهل الإسلام وعبدة الصلبان؛ بما لا يدع مجالاً للشك في أبدية هذه
العداوة، وأن ما يجري منهم من مجاملات، إنما هو قشرة رقيقة ظاهرة، تخفي
تحتها عداوة متأصلة، وكيداً خفياً، وإحناً، وأحقاداً، لا يطفئ لهيبها إلا أن نتبع
ملتهم، عياذاً بالله.
ومن أمثلة هذه الأحاديث الصحيحة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا
تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق [15] ، فيخرج إليهم جيش من
المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافُّوا قالت الروم: خلُّوا بيننا وبين
الذين سبوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا.
فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويُقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند
الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً. فيفتحون قسطنطينية، فبينا هم يقتسمون الغنائم،
قد علَّقوا سيوفهم بالزيتون؛ إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في
أهليكم. فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينا هم يُعِدُّون للقتال،
يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة؛ فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فأمَّهم،
فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك،
ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) [16] .
وعن يُسيرِ بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجلٌ ليس له
هِجِّيرى [17] إلا: يا عبد الله بن مسعود، جاءت الساعة. قال: فقعد، وكان متكئاً
فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يُقسم ميراث، ولا يُفرح بغنيمة. ثم قال بيده هكذا،
ونحّاها نحو الشام فقال: عدوٌّ يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام.
قلتُ: الروم تعني؟ قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردَّةٌ شديدة، فيشترط
المسلمون شُرطَة [18] للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل،
فيفيء هؤلاء وهؤلاءِ كلٌّ غير غالب، وتفنى الشُّرطة، ثم يشترط المسلمون شُرطة
للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء
كلٌّ غير غالب، وتفنى الشُّرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا
غالبةً، فيقتتلون حتى يمسوا، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كلٌّ غير غالب، وتفنى
الشرطة. فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام فيجعل الله الدَّبْرَة [19]
عليهم، فيقتلون مقتلةً إما قال: لا يرى مثلها. وإما قال: لم يُرَ مثلها، حتى إن
الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلِّفهم حتى يخر ميتاً. فيتعادُّ بنو الأب، كانوا مائة، فلا
يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد. فبأي غنيمة يُفرح، أو أي ميراثٍ يُقاسم.
فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك؛ فجاءهم الصريخ أن الدجال قد
خلفهم في ذراريهم، فيرفضون [20] ما في أيديهم، ويقبلون، فيبعثون عشرة
فوارس طليعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أسماءهم،
وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ، أو من
خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ) [21] .
وعن ذي مِخبَر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم،
فتُنصرون، وتغنمون، وتَسلمون، ثم ترجعون، حتى تنزلوا بمرجٍ ذي تلول،
فيرفع رجلٌ من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غلب الصليبُ. فيغضب رجل
من المسلمين، فيدقُّه، فعند ذلك تغدر الروم، وتجمع للملحمة) [22] ، وفي رواية:
(وتكون الملاحم، فيجتمعون إليكم فيأتونكم في ثمانين غاية، مع كل غاية عشرة
آلاف) [23] .
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم، فقال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة. وذكر
السادسة: ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين
غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) [24] . وفي رواية عنه عند أحمد: (قلت:
وما الغاية؟ قال: الراية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً. فسطاط المسلمين يومئذٍ
في أرضٍ يقال لها الغوطة، في مدينة يقال لها: دمشق) [25] . وفي رواية عن
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (وهدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر،
ليجمعون لكم تسعة أشهر، كَقَدْر حَمْل المرأة، ثم يكونون أولى بالغدر منكم ... )
[26] .
تلك طبيعة العلاقة مع عبّاد الصليب في الماضي الحاضر والمستقبل. وصدق
الله إذ يقول: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى
اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ
وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة: 120) ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 118) .
ألا فليعِ المسلمون ذلك، وليعدوا أنفسهم للملحمة، بالعلم والإيمان، والعدة
والعتاد.. [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
__________
(*) أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم.
(1) انظر في نشأة الدولة العثمانية وتاريخها: الفتوحات الإسلامية: أحمد زيني دحلان - مطبعة السعادة مصر - (2/ 89، 90) ، صحوة الرجل المريض: د / موفق بني المرجة - دار البيارق بيروت - الطبعة الثامنة (1417هـ / 1996م) ، العثمانيون في التاريخ والحضارة: د / محمد حرب - دار القلم، دمشق - الطبعة الأولى (1409هـ / 1989م) ص (13، 15) ، تاريخ المشرق العربي: د / عمر بن عبد العزيز عمر (35، 38) ، الشعوب الإسلامية: د / عبد العزيز سليمان نوار - دار النهضة العربية - بيروت - طبعة عام 1973م - (23، 210) .
(2) يلدرم كلمة تركية تعني: (الصاعقة) .
(3) الفتوحات الإسلامية (2/101) .
(4) انظر في تفاصيل هذا الفتح العظيم، وسيرة محمد الفاتح: محمد الفاتح: د / سالم الرشيدي، ومحمد الفاتح: عبد السلام فهمي.
(5) العثمانيون في التاريخ والحضارة (89) .
(6) الفتوحات الإسلامية (2/190، 191) .
(7) انظر: البوغوميليون والمسيحيون والبوسنة: لطفي المعوش، مجلة الاجتهاد (29/ 107، 116) ، وانظر أيضاً: الدعوة إلى الإسلام: السير توماس أرنولد، و: محمد الفاتح: د / سالم الرشيدي، ص (198، 199) .
(8) انظر: تاريخ عجائب الآثار (3/176، 214) ، عبد الرحمن الجبرتي، دار الجيل، بيروت.
(9) انظر في الأحداث المسرودة في الفقرات من 3 إلى 20 (العثمانيون في التاريخ والحضارة) ، (107، 127) ، (صحوة الرجل المريض) (228، 258) .
(10) الاسم الذي كان ينبز به النصارى الإسبان بقايا المسلمين في الأندلس، ومعناه عندهم: العرب الأصاغر.
(11) انظر في تفاصيل ذلك: أصول القانون الدولي العام د / محمد سامي عبد الحميد، المنظمات الدولية الحديثة وفكرة الحكومة العالمية، د / محمد حسن الأبياري.
(12) صحيح مسلم (4/2222) .
(13) المرجع السابق.
(14) مسند أحمد (4/230) ولعله زجره عن ذلك حتى لا يفت في أعضاد الناس في قتالهم، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/215) : رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(15) موضعان بالشام قرب حلب.
(16) رواه مسلم (4/2221) ، وفي الحديث دلالة على أن الروم سينتزعون القسطنطينية من أيدي المسلمين، ثم يفتتحها المسلمون ثانيةً.
(17) أي شأنه ودأبه ترديد تلك الجملة.
(18) طائفة من الجيش تتقدم إما للشهادة أو النصر.
(19) الدَّبرة: الهزيمة.
(20) يتركون.
(21) صحيح مسلم (4/2234، 2224) .
(22) رواه أبو داود (3/210) ، وابن ماجة (2/1369) ، والحاكم (4/ 421) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال في الزوائد: إسناده (5/371، 372) ، (5/409) .
(23) رواه أحمد (4/91) ، والحاكم (4/421) وصححه، ووافقه الذهبي.
(24) رواه البخاري (4/68) .
(25) المسند (6/25) .
(26) رواه أحمد (2/174) .(188/8)
دراسات تربوية
بشائر النصر
أحمد بن صالح السديس
ظهر في الناس اليوم اليأس، وفقد الكثيرون الأمل. وكانت مصائب الأمة
ونكساتها، وحروبها وانهزاماتها؛ سبباً في أنْ ينظروا إلى واقعهم بعين السخط
والتشاؤم، وأنْ يغضّوا الطرف عن أسباب للنصر وبشائر؛ فخارت منهم القُوى،
وتمكّن منهم العِدا. وما أحوجهم إلى استنطاق التاريخ، وقراءة النصوص، ومعرفة
البشائر، وليس ذلك ليركنوا للأماني، ويسلكوا درب التواكل، ولكنْ ليعدّوا القوى،
ويأخذوا بالأسباب والوسائل، في عزم صادق، وجهد متواصل وفاعل، بعيداً عن
اليأس والقنوط الذي هو أول الانكسار، وبداية الانهزام، وقد يكفي العدوَّ من الغنيمة
اليأسُ والانكسار؛ ذلك أنّ مَن يئس من النصر لم يعمل من أجله، ومن قنع ورضي
بالذل طال لُبثه ومكوثه فيه.
لقد قضت سنة الله العليم، وتدبيرُه الحكيم، أنّ الحق والباطل في صراع
وتدافع دائم، وأنّ الباطل قد يكون له في فترةٍ الفوزُ والغلب؛ ابتلاء من الله
وتمحيصاً، وتربية للمؤمنين وتطهيراً: [ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن
لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] (محمد: 4) .
ومتى وُجد الكفر والفتنة فقد فُرضت الحرب والقتال: [وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه] (الأنفال: 39) ، والفتنة لن تخلو منها الأرض، بل إنّ الساعة لا تقوم إلا على شرّ الخلق. وإنْ كانت الخصوم تبحث عن ولي لها
ومعين؛ فإنّ وليَّ المؤمن أعظم الأولياء، وما خاب مَن لجأ إلى الله: [ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ] (محمد: 11) .
ولو صَفَت الحياة من المصاعب والمصائب؛ لكان ذلك لأفضل البشر وخير
القرون!! لقد مرّ بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم محن
وبلاء، وبأساء وضراء، كما مرّ ذلك برسل قبلهم وأنبياء، حتى تاقت نفوسهم إلى
الخلاص، وتشوَّقت إلى النصر والنجاة، [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم
مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) .
لقد بلغ الضر والبلاء بالمؤمنين في صدر الإسلام مبلغاً عظيماً، وامتُحنوا
امتحاناً شديداً، حتى شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشدة، فقالوا:
ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان مَن قبلكم؛ يؤخذ الرجل فيُحفر له
في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين،
ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه. والله ليَتِمنّ
هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب
على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [1] .
هكذا هي سنة الله التي لا تحابي أحداً، سأل هرقلُ أبا سفيان عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟
قال: سجالاً، يُدال علينا ونُدال عليه. قال هرقل: كذلك الرسل تُبتلى، ثم تكون
لها العاقبة.
هذا يعقوب عليه السلام يفقد ابنه صغيراً، وبعد سنوات طِوال من الأحزان
يفقد ابنه الآخر، فيتجدّد حزنه، ويشتد مصابه، حتى ابيضت عيناه، فيقول لأبنائه:
[يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ
مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف: 87) ، فكانت عاقبة أحزان السنوات
الطوال تفريجاً ورفعة في الدرجات، وفوزاً بأحسن حال.
ولما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - رضي الله عنه - من
مكة إلى المدينة مهاجرَين؛ جُنّ جنون قريش، واستنفرت قواها، وجعلت مائة ناقة
لمن يأتيها بأحدهما حياً أو ميتاً، وطمع الناس بهذه الجائزة، ورجا كل منهم أنْ
يكون الفائز بها، وكان سراقة بن مالك ممن نشط لذلك، فانطلق يتبع أثرهما، حتى
دنا منهما، فعثرت فرسه، وغاصت يداها في الأرض؛ فعرف أنّ الرسول صلى
الله عليه وسلم محفوظ، وأنّ أحداً لن يناله بسوء؛ فناداهما بالأمان. وقال له
الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه مبشِّراً: «كأني بك يا سراقة! تلبس
سوارَيْ كسرى» ، فوقف سراقة متعجِّباً من هذه النبوءة والبشارة؛ محمد الذي
خرج من مكة مطارَداً من قومه وأقرب الناس إليه يعدني سوارَيْ كسرى!! ولكنه
اليقين بنصر الله وبموعوده الذي لا يتزلزل عند الملمّات والشدائد. وانقلب الحال
فتحوَّل سراقة من عدو طامع، إلى صديق مدافع، ووقف مكانه يصرف الناس
عنهما.
وفي غزوة الأحزاب التي أخبر الله عن حال المؤمنين، والشدة التي صاروا
فيها، حتى زاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنونا،
إنها الحال التي ابتُلي بها المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً. فلمّا بدؤوا بحفر الخندق
بذلاً للأسباب واستعداداً، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم صخرة صلْدةً
بالمِعْول فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت المدينة، فكبَّر الرسول صلى الله
عليه وسلم وكبَّر المسلمون، ولما تكرَّر ذلك ثلاث مرات؛ بشَّر عليه الصلاة
والسلام المسلمين في ذلك الكرب وتلك الصِّعاب بأنهم سيفتحون مدائن كسرى،
وقصور الروم، وقصور صنعاء.
إنّ الباطل وإنْ صال وجال، وإنْ علا في زمان أو طال؛ فإنه ولا ريب
سيعود إلى ما كان عليه من التراجع والصغار، وتلك سُنَّة من سنن الحكيم القهار.
وقد وعد أصدق الواعدين سبحانه: [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ
زَاهِقٌ] (الأنبياء: 18) ؛ ذلك أنّ هذا هو طبيعة الباطل: [إِنَّ البَاطِلَ كَانَ
زَهُوقاً] (الإسراء: 81) . وإنّ الذي يمكث ويبقى هو ما ينفع الناس: [فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] (الرعد: 17) .
إنّ المؤمنين الصابرين موعودون إحدى الحسنيين؛ فإما شهادة تعجِّل بهم إلى
دار النعيم والكرامة، وإما نصر تَقرّ به عيونهم؛ ففيم اليأس والأسى؟ أما غيرهم
ففيم يفرحون؟ وبم يُسرّون؟ أبالنار التي إليها يسيرون؟ أم بالعذاب الذي إليه
يُساقون؟ أم بالخسارة التي إليها يُهرعون؟ ! ولقد قال الحكيم العليم سبحانه: [إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ
الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ]
(الأنفال: 36-37) . لقد كانت غايتهم من إنفاق أموالهم الصدَّ عن سبيل الله،
فسيخسرون أموالهم، ثم تصير نفقتهم ندامة عليهم؛ لأنهم كما يقول ابن جرير
الطبري رحمه الله عند تفسير هذه الآية: «أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما
يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله؛ لأنّ
الله معلٍ كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين
كفروا به وبرسله إلى جهنّم، فيُعذَّبون فيها، فأعظِم بها حسرة وندامة لمن عاش
منهم ومَن هلك! أما الحي فحُرِبَ ماله، وذهب باطلاً في غير دَرْك نفع، ورجع
مغلوباً مقهوراً، محروباً مسلوباً. وأما الهالك فقُتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله
يخلد فيها» ، وتلك والله هي الخسارة الكبرى.
وإنّ من سنن الله عزّ وجلّ أنّ المستقبل لهذا الدين، والنصر لأوليائه
الصادقين، مهما كاد الكائدون، وتآمر المتآمرون، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) ، إنهم كما أخبر الله: [يُرِيدُونَ أَن
يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] (التوبة:
32) ، إنهم يكيدون الليل والنهار ويمكرون، والله خير الماكرين، وهو سبحانه
ولي المؤمنين المتقين.
والابتلاء هو سبيل المرسلين والمؤمنين، ولكنّ أمر المؤمن كله له خير؛ فهو
عند النصر والسراء من الشاكرين، وعند الكرب والضراء من الصابرين. ولقد
وعد الله، ولا أصدق منه وعداً، فقال: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ *
إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات: 171-173) ،
ونصر المؤمنين أعظم نصر وأشرفه؛ لأنه نصر للحق على الباطل، ونصر في
الدنيا والآخرة، بذا وعدنا الحكيم القادر: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) ، وجاء النص الإلهي الكريم في سورة
الروم على انتقامه سبحانه من المجرمين الذين صدُّوا عن هدي المرسلين، ثم وَعَد
بنصر المؤمنين، فقال تبارك وتعالى: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ
فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ]
(الروم: 47) .
وإنّ من نصر الله لدينه أنْ يبعث في كل حين مَن يجدِّده، كما جاء في سنن
أبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها» [2] .
إنه رجل لا ينهض من أجل نفسه، ولكنه ينهض من أجل هذه الأمة المنصورة. إنّ
الناس يموتون، ولكنّ الدين باق بعزَّة وشموخ، يقيِّض الله له من أبنائه مَن يكون
عزُّه ونصره على يديه.
ومن نَصْر الله لدينه أنْ جعل الزمان لا يخلو من أهل الحق، الصابرين في
سبيله، الذين يعضّون بنواجذهم عليه، ويتحمّلون في سبيله كل أذى وقتال، كما
جاء في الحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: «لا
تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر
الله، وهم ظاهرون على الناس» [3] .
إنّ الخوف على أنفسنا لا على دين الله، الخوف على أنفسنا في عالم تموج به
الفتن أنْ يتخبّطنا الشيطان، أما الدين فله رب يحميه، وقد تكفَّل ببقائه وحفظه
ونصره، ولا علينا أنْ يصيبنا ما يصيبنا في سبيل نصره وتمكينه، عن تميم
الداري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله
الله هذا الدين، بعزِّ عزيز، أو بذلّ ذليل؛ عزّاً يعزّ الله به الإسلام، وذلاً يذلّ الله
به الكفر» [4] .
وفي الحديث الصحيح الآخر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ
الله زوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي
لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمرَ والأبيضَ. وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها
بسنة عامة، وألا يسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيحَ بيضتهم. وإنّ ربي
قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم
بسنة عامة، وألا أسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع
عليهم مَن بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً» [5] .
ومن بشائر النصر العظيمة: فتح القسطنطينية وروما، وقد تحققت الأولى،
وبقيت الثانية، ولا شكّ في حصولها، فقد أخبر بذلك مَن لا ينطق عن الهوى،
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، قال: بينما نحن حول
رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب؛ إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أيّ المدينتين تُفتح أولاً؛ قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «مدينة هرقل تفتح أولاً» يعني قسطنطينية [6] .
ولئن كان لليهود اليوم صولة وجولة، وكان للنصارى مظاهرة لهم وممانعة،
ولئن ظنّ بعض المنهزمين ألا قدرة لنا عليهم، فقد جاءتنا البشارة بأنّ خاتمة
المطاف تحمل نصراً لنا وإبادة لهم؛ إبادة يتعاون معنا فيها الحجر والنبات.
أخبر عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «تقاتلكم اليهود، فتُسلَّطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا
يهوديّ ورائي، فاقتله» [7] . وفي رواية أخرى عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون
اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديّ من وراء الحجر والشجر، فيقول
الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا
الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود» [8] .
إنّ الإيمان أيها الإخوة هو شرط نصركم وتمكينكم، فمتى صحَّ ذلك منكم
تحقَّق وعد ربكم لكم. وإنّ العبرة ليست بالظاهر، فلربما أخفت الحقائقَ المظاهرُ.
وإنّ الكافرين وإنْ كانت لهم الغلبة الظاهرة، إلا أنّ النصر الحقيقي يتمثل في
الصبر والثبات، وفي خاتمة المسار والمطاف، [وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ] (الروم: 6-7) .
لقد كانت النتائج العسكرية البحتة لكثير من الغزوات والمعارك تمثل هزائم
ونكسات، ولكنها لم تكن القاضية، وكان بعدها جولات للمؤمنين غالبةٌ.
لما نجا خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بالمسلمين في مؤتة؛ صاح بهم
بعض الناس لما رجعوا إلى المدينة: يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله، ولكنّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: «بل أنتم الكرَّارون، أنا فئتكم» .
وفي أُحد دارت الدائرة على المسلمين بعدما كانت الغلبة لهم، واضطربت
صفوفهم، وتمكّن منهم أعداؤهم، ولكنّ الحكيم العليم خاطبهم: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ
وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] (آل عمران: 139-140) .
وليُعلمْ علم اليقين أنّ النصر قد يتأخر، ولكنه لا يتخلّف. وقد يأتي في غير
صورته المعروفة، وهيئته المألوفة؛ فالابتلاء والمصائب قد تحمل من الخير الخفيِّ
الكثيرَ، وقد تكون سبباً لنصر أعظم وأشمل. وعلينا ألا نيأس من نيل النصر،
وأن نبحث عن أسبابه، وأنْ نجتهد في أن نكون جنداً من جنده، [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
فأبشروا وأمِّلوا، وثقوا بالنصر واعملوا، واعلموا أنّ الخير لا يُدرى أين
يكون، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مَثَل أمتي مَثَل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره» [9] .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الإكراه.
(2) سنن أبي داود: كتاب الملاحم.
(3) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وصحيح مسلم، كتاب الإمارة.
(4) مسند الإمام أحمد.
(5) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.
(6) مسند الإمام أحمد.
(7) صحيح البخاري، كتاب المناقب، وصحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، واللفظ له.
(8) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.
(9) سنن الترمذي، كتاب الأمثال.(188/18)
حوار
الشيخ رائد صلاح
رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 48
للبيان (قبل اعتقاله)
نائل نخلة [*]
الشيخ رائد للبيان:
هناك إجماع بين الأحزاب الصهيونية
على هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم.
الشيخ رائد صلاح، من أبرز رموز العمل الإسلامي في الأراضي الفلسطينية
المحتلة عام 1948م، وهي الأراضي التي تبلغ نسبة سكانها نحو 20% من
إجمالي عدد السكان في أراضي 48 البالغ عددهم 6.7 مليون نسمة، ويطلق على
الفلسطينيين الباقين في تلك الأراضي اسم (عرب إسرائيل) لأنهم أكرهوا على
حمل الجنسية الإسرائيلية كشرط لبقائهم في أرضهم وأرض أجدادهم، بخلاف
الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة والقطاع وفي بقية الأراضي المحتلة التي
احتلت عام 1967م، فإنهم لا يحملون الجنسية الإسرائيلية.
وقد حاورته البيان قبل أن تقدم السلطات الإسرائيلية على اعتقاله مؤخراً، مع
نفر من إخوانه المجاهدين في فلسطين، وقد رحبت به مجلة البيان، وكان لها معه
الحوار التالي:
البيان: نرحب بضيفينا الكريم، ونعبر عن سعادتنا للقائكم.
- الشيخ رائد صلاح: مرحباً بكم وأهلاً.
البيان: شيخ رائد: إذا أمكن أن تعطينا لمحة سريعة عن الحركة الإسلامية،
تاريخ نشأتها وتطورها خلال العقود الأخيرة؟
- نشأت الحركة الإسلامية منذ أواخر السبعينيات ببدايات متواضعة سعت من
خلالها إلى إحياء الدين في حياة أهلنا وبناء المساجد ومحاربة المنكرات، ثم بارك
الله تعالى بتلك الجهود وازدادت الحركة الإسلامية عدداً وعدة ومؤسسات، وبدأت
تترجم مفهوم الإسلام الشامل إلى واقع عملي من خلال أعمالها وخطابها الإعلامي
وأدبياتها وفعالياتها الكبيرة التي شملت من ضمن ما شملت إقامة مهرجانات إسلامية
كبيرة تهدف إلى إحياء الأحداث التاريخية الكبرى في حياة المسلمين، وشملت إقامة
مهرجان الفن الإسلامي بهدف تنمية مواهب الشعر والمسرح والرسم والزخرفة
والنشيد وفق المنهج الإسلامي، وشملت إقامة لجان الزكاة والإصلاح والعيادات
والروضات والمكتبات ومعسكرات العمل الإسلامي بهدف إحياء روح التكافل
الاجتماعي في السراء والضراء، وشملت إقامة دوري كرة القدم الإسلامي
والأعراس الإسلامية والصحف الإسلامية وعلى رأسها صحيفة (صوت الحق
والحرية) بهدف الإحاطة بجيل الشباب وهمومه وطموحه، وشملت فيما بعد
المشاركة بالمنافسة الانتخابية في مجال البلديات والمجالس القروية، ثم كان وما
زال للحركة الإسلامية دورها الطيب بعد الانتفاضة الأولى وبعد انتفاضة الأقصى
من خلال دورها الإغاثي والإعلامي والشعبي، ثم تألقت الحركة الإسلامية بدورها
البارز في مشروع إعمار وإحياء المسجد الأقصى المبارك ومناصرة القدس الشريف،
ثم خطت الحركة الإسلامية بعد ذلك خطوات مباركة من خلال إقامة كلية الدعوة
والعلوم الإسلامية التي حصلت على تمثيل لها في رابطة الجامعات الإسلامية واتحاد
الجامعات العربية، وكذلك من خلال إقامة هيئة الدعوة والإغاثة العليا التي حصلت
على تمثيل لها في المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة؛ حيث ترعى هذه
الهيئة أكثر من عشرين جمعية ومؤسسة قطرية مثل مؤسسة (الأقصى لإعمار
المقدسات الإسلامية) التي ترعى شؤون أوقافنا ومقدساتنا عامة، وشؤون المسجد
الأقصى المبارك خاصة، وجمعية (اقرأ) التي ترعى شؤون الطلاب الجامعيين،
وجمعية (سند) التي ترعى شؤون الأمومة والطفولة، ومؤسسة (مسلمات من
أجل الأقصى) التي ترعى دور المرأة المسلمة تجاه المسجد الأقصى المبارك،
ومؤسسة (حراء) التي ترعى الأجيال الصغيرة والكبيرة بهدف حفظ القرآن الكريم،
ومؤسسة (النقب للأرض والإنسان) التي ترعى هموم أهلنا في النقب، ومؤسسة
(عكا وقراها) ومؤسسة (حيفا زهرة الكرمل) ومؤسسة (يافا) ومؤسسة (اللد
والرملة) هذه المؤسسات التي تعني بهموم أهلنا في هذه المدن الساحلية التاريخية
(عكا وحيفا ويافا واللد والرملة) ومؤسسة (لجنة الإغاثة الإنسانية للعون) التي
ترعى كفالة الأيتام في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتقديم العون المتواصل لهم
ولأهلنا هناك، ومؤسسة (الفجر) التي ترعى شؤون الأدب والشعر والنشيد
الإسلامي، وجمعية (البلاغ) التي ترعى شؤون الإعلام الإسلامي، ثم إن الحركة
الإسلامية تعكف في هذه الأيام على تنفيذ مشروعها الواعد الذي أطلقت عليه اسم
(المجتمع العصامي) الذي تهدف من خلاله إلى بناء الذات بكل ما تحتاج من إقامة
مدارس أهلية، ومستشفيات أهلية، واقتصاد أهلي، وغير ذلك.
البيان: كيف ترى الحركة الإسلامية نفسها داخل القانون الإسرائيلي؟ وكيف
ترى علاقتها بدولة الكيان؟
- الحركة الإسلامية هي جزء من هذا المجتمع الفلسطيني الصابر في المثلث
والجليل والنقب والمدن الساحلية (عكا، وحيفا، ويافا، واللد، والرملة) وهي
تعاني كما يعاني هذا المجتمع من مظاهر الظلم التاريخي والتمييز القومي
والاضطهاد الديني الذي ما زالت تفرضه المؤسسة الإسرائيلية علينا حتى الآن،
والذي بسببه ما زلنا نعاني من سياسة مصادرة أرضنا ومقدساتنا وأوقافنا وهدم بيوتنا
ومصادرة حقوقنا ومطاردتنا بكثير من قوانين الطوارئ سيئة الصيت، ولكن مع
ذلك فإن الحركة الإسلامية تسعى للقيام بواجبها في أوسع مساحة متاحة، وتسعى
لاستثمار كل وسيلة مشروعة لتعميق دورها الإسلامي وفق الآليات والأهداف التي
حددتها لنفسها.
البيان: ما هي الصعوبات التي تواجه الحركة في التأقلم والتعايش مع
القانون ودولة الكيان الإسرائيلي؟
- هي الصعوبات التي يعاني منها كل مجتمعنا الفلسطيني في الداخل ويتقدمها
إصرار المؤسسة الإسرائيلية على إبقاء ظلمها التاريخي رابضاً على صدورنا ومن
خلال إصرار هذه المؤسسة على تهميش وجودنا وشرعنة التمييز ضدنا إما بواسطة
قانون الطوارئ، أو استحداث قوانين جديدة مثل قانون (منع التحريض) الذي
يسعى إلى تكميم أفواهنا.
ومن الجدير بالذكر أن الحركة الإسلامية لا تزال تعاني بشكل خاص من
تواصل مطاردة بعض الأذرع الإسرائيلية لها؛ فقد قامت المؤسسة الإسرائيلية
بإغلاق عدة جمعيات للحركة الإسلامية مثل جمعية الإغاثة الإسلامية وجمعية
رعاية السجين واليتيم وجمعية الإغاثة الإنسانية، وقامت المؤسسة الإسرائيلية
بإغلاق صحيفة الحركة الإسلامية (صوت الحق والحرية) مرتين، وها هي هذه
المؤسسة الإسرائيلية تتوعد بإغلاق هذه الصحيفة لمرة ثالثة في مدة عامين، وقامت
المؤسسة الإسرائيلية بفرض إقامات جبرية في الماضي على كثير من قيادات
الحركة الإسلامية، أما اليوم فقد أصدرت المؤسسة الإسرائيلية أمراً بمنعي من
السفر ثلاث مرات متتالية؛ وها هي تهدد بإخراج الحركة الإسلامية عن القانون.
البيان: إلى أي مدى تحُول هذه الصعوبات دون تقدم وتطور العمل
الإسلامي في الداخل؟
- لا شك أنها تقلل من نسبة نجاح بعض مشاريعنا، وتحرم قطاعات كبيرة
من أهلنا من هذه الخدمات؛ فإغلاق جمعية الإغاثة الإسلامية وجمعية الإغاثة
الإنسانية وجمعية رعاية السجين واليتيم قد حرم قطاعاً واسعاً من شعبنا من خدمات
هذه المؤسسات، وكذلك قيام المؤسسة الإسرائيلية بالتضييق المتواصل على كلية
الدعوة والعلوم الإسلامية قد قلل من نسبة نجاح هذه الكلية على الرغم أنها ما زالت
قائمة ومستمرة، وكذلك فرض الإقامات الجبرية أو منعنا من السفر يؤدي إلى
تعطيل مشاريع كثيرة للحركة الإسلامية.
البيان: هل تعتقد أن القانون الإسرائيلي يتيح حريات معقولة، بحسب
دعوى (إسرائيل) أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط؟
- القانون الإسرائيلي شرع مصادرة أرضنا ومقدساتنا، وشرع هدم بيوتنا،
وشرع معاملتنا وفق قوانين الطوارئ سيئة الصيت.
البيان: ماذا تقول بشأن منعك من السفر من قِبَل السلطات الصهيونية للمرة
الثالثة على التوالي؟
- هذا مظهر ظالم من شرعنة القانون الإسرائيلي لمواصلة فرض
الظلم التاريخي علينا، وهو مظهر من مظاهر التضييق على الحركة الإسلامية.
البيان: كيف تنظرون إلى واقع فلسطينيي 48، وماذا تتوقعون أن يكون
التعامل الاستراتيجي الصهيوني معهم؟
- واقعنا واقع بائس جداً، وما زلنا نتجرع مرارة التمييز القومي والاضطهاد
الديني الذي ما زالت تفرضه علينا المؤسسة الإسرائيلية، وحاضرنا محاصر،
ومستقبلنا غامض، خصوصاً إذا ما علمنا أن بعض الأصوات الرسمية الإسرائيلية
تطالب بترحيلنا.
البيان: هل تعتقد أن هناك شرخاً ما طرأ على العلاقة بين دولة الكيان
وفلسطينيي 48؟
- الشرخ كان قائماً منذ نكبة فلسطين عام 1948م، ولكن هذا الشرخ تعمق
في هذه الأيام، وأدى إلى ظهور حالة من شعورنا بالمطاردة اليومية من قِبَل
المؤسسة الإسرائيلية، والذي عمق هذا الشرخ إقدام بعض القوات الإسرائيلية على
قتل أكثر من عشرين من أهلنا بداية من انتفاضة الأقصى حتى الآن؛ ناهيك عن
وجود عشرات المعتقلين منا في السجون، ثم قيام المؤسسة الإسرائيلية بنزع هوية
البعض منا وتهديد بعض رموزها بترحيلنا.
البيان: برأيك إن كان هناك شرخ فإلى أين يمكن أن يصل؟
- كما قلت خلال الأجوبة السابقة لا حدود لنتائج هذا الشرخ، خصوصاً أن
بعض الأصوات الرسمية الإسرائيلية تطالب بترحيلنا.
البيان: كيف ترى علاقتكم مع فلسطينيي الضفة والقطاع؟
- نحن جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، ونرى من الواجب أن نقوم
بدورنا الإغاثي والإعلامي والشعبي تجاه أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة،
ونرى من الواجب أن نقوم بدورنا في مشروع إعمار وإحياء المسجد الأقصى
المبارك ومناصرة القدس الشريف.
البيان: ما هي أوجه وقنوات تلك العلاقة؟
- نحن نملك مؤسسات الإغاثة التي تقوم بدورها تجاه أهلنا، ونملك صحيفة
(صوت الحق والحرية) التي تقوم بالدور الإعلامي، ونملك (مؤسسة الأقصى
لإعمار المقدسات الإسلامية) التي تقوم بمناصرة الأقصى المبارك والقدس الشريف،
ثم لنا دورنا الشعبي من خلال (لجنة المتابعة العليا) للجماهير العربية الفلسطينية
في الداخل.
البيان: من المعلوم أن رأيكم كان سلبياً ومعارضاً للتسوية السياسية التي
بدأت في مدريد عام 91، في ظل الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني الآن،
إلى أي مدى ترى أن رأيكم كان في مكانه؟
- واضح لكل عاقل أن هناك إجماعاً بين الأحزاب الإسرائيلية كلها بدون
استثناء يقوم على أساس رفض حق عودة اللاجئين من أهلنا ورفض قيام دولة
فلسطينية ذات سيادة كاملة، ورفض انسحاب كلي من المستوطنات في الضفة
الغربية وقطاع غزة، ورفض التفاوض على القدس الشريف، ثم هناك إجماع بين
هذه الأحزاب الإسرائيلية للعمل على بناء الهيكل على حساب المسجد الأقصى
المبارك؛ ولذلك فإن كل تسوية تقوم على هذه الثوابت الإسرائيلية هي مرفوضة في
نظرنا سواء كانت (أوسلو) أو غيرها، ولن تزيد إلا من ويلات شعبنا الفلسطيني.
البيان: ما هو رأيكم بالأصوات المنادية بضرورة العودة لطاولة المفاوضات
واستئناف العملية السياسية؟
- الأصوات المنادية كثيرة؛ ولذلك يبقى السؤال: ما هو هدف هذه الأصوات؟
وما هو سقف طاولات المفاوضات التي تدعو لها؟! ولذلك نختصر الأمر ونقول:
إن كل تحرك يهدف إلى ترسيخ الثوابت الإسرائيلية التي ذكرتها هو تحرك مشبوه
ومرفوض كائناً من كان صاحبه، ولو كان باسم العودة لطاولة المفاوضات
واستئناف العملية السياسية.
البيان: كيف تقيِّم علاقتكم مع العالم العربي؟
- بداية نحن نؤكد أننا جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية والعالم العربي
والشعب الفلسطيني، ونحن نطمح بتقوية تواصلنا الواضح والصريح مع عالمنا
العربي؛ لذلك نجحنا كما قلت بتحصيل عضوية كلية الدعوة في اتحاد الجامعات
العربية وحصلت مؤسستنا (هيئة الدعوة والإغاثة العليا) على تمثيل في (المجلس
الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة) ونبقى على أمل أن يقوى هذا التواصل كرافد
مهم لحفاظنا على وجودنا وهويتنا.
البيان: كيف تنظرون إلى الانتفاضة؟
- الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى هي تعبير فلسطيني شجاع عن رفض
الاحتلال الإسرائيلي؛ ولذلك فإن استمرار الانتفاضة أو قابلية تجددها سيبقى قائماً ما
دام هناك احتلال إسرائيلي وتنكُّر لمشروع شعبنا الفلسطيني الساعي إلى إقامة الدولة
الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
البيان: ما هو تقييمكم لحال الانتفاضة اليوم؟
- كنا نتمنى أن يكون لها مساندة إسلامية عربية أكبر من المساندة التي تمثلت
بالدعم الإغاثي والإعلامي فقط، ولذلك بقيت الانتفاضة محمولة على أكتاف شعبنا
الفلسطيني فقط مع التقدير الكبير لكل صاحب دعم إغاثي وإعلامي، والذي ما زلنا
نتمناه أن تتحرك الشعوب المسلمة والعربية لتشكيل ظاهرة شعبية قوية ودائمة
لرفض الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك ما زلنا نتمنى على الحكومات تشكيل (قوات
حفظ سلام إسلامية عربية) لحقن دماء المسلمين والعرب بما في ذلك شعبنا
الفلسطيني، ولا سيما أن قضية فلسطين هي إسلامية عربية.
البيان: كيف ترون مستقبلها، خاصة في ظل المتغيرات الدولة الحالية
المنادية بضرورة محاربة ما يسمى بالإرهاب؟
- يخطئ من يظن أن بإمكانه كسر إرادة الشعب الفلسطيني مقابل إملاءات
إسرائيلية؛ لذلك أنا على يقين أن المتغيرات الدولية الحالية والقادمة لن تستطيع
إلغاء قابلية استمرار الانتفاضة عند شعبنا الفلسطيني ما لم يَزُل الاحتلال الإسرائيلي.
البيان: في ظل الهجمة الصليبية الأمريكية وحلفائها على الإسلام والحركات
الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب، ما هو توقعكم لمستقبل هذه الحركات؟
- هذه المواجهة بين الإسلام وأعدائه ليست الأولى من نوعها؛ فكان قبل ذلك
المواجهة بين الإسلام وظاهرة الردة، وكذلك بين الإسلام والفِرَق الباطنية، وبين
الإسلام والمغول، وبين الإسلام والحملات الصليبية، وبين الإسلام والاستعمار
الأوروبي؛ فماذا حدث؟ لقد انتصر الإسلام واندثرت كل تلك الظواهر المتغطرسة؛
وهذا ما سيكون بإذن الله تعالى اليوم؛ حيث سينتصر الإسلام، وتندثر كل
الظواهر المتغطرسة التي تقودها أمريكا.
البيان: هل تعتقد أن هناك استراتيجية ما على الحركات الإسلامية اتباعها
لتجنب الضربات الأمريكية؟
- لا بد من التواصل الجماهيري بين الحركات الإسلامية والجماهير في العالم
الإسلامي والعربي، ولا بد من إحياء الدين بين هذه الجماهير، وتحديداً مفهوم
(الولاء والبراء) في هذه الأيام، ولا بد من التحلي بالموقف الحكيم والكلمة
الشجاعة، ولا بد من السعي لإجراء مصالحة صادقة تعود على شعوبنا بالخير بين
الحركات الإسلامية والأنظمة لعلها تقود إلى ترشيد سياسة الحكومات ودور الشعوب،
ثم لا بد قبل ذلك من التحلي بالصبر واليقين والتوكل على الله تعالى وكثرة الدعاء.
البيان: إلى أي مدى تتفق مع الرأي القائل إن أمريكا تبغي من وراء هذا
المبدأ (محاربة الإرهاب) إلى السيطرة على العالم العربي وثرواته الهائلة؟
- أمريكا تسعى إلى الهيمنة على العالم الإسلامي والعربي بداية من ضرب
العراق بهدف تهيئة كل الظروف لتطبيق مشروع (إسرائيل الكبرى) الذي ما زالت
تحلم به الكثير من القيادات الصهيونية، وبهدف إعادة رسم العالم الإسلامي والعربي
من جديد وفرض (سايكس - بيكو) جديدة، وبهدف الإذعان لقوى الضغط
(البروتستانتية - الصهيونية) أو (الكاثوليكية - الصهيونية) التي تعمل لتقريب
وقوع معركة (هارمجدُّون) ثم بهدف تصفية الثقافة الإسلامية ومحاربة الإسلام في
نفوس المسلمين لأمركة هذا العالم الإسلامي والعربي.
البيان: هل تخشون أن تستغل السلطات الصهيونية هذا الواقع (محاربة
الإرهاب والتطرف) وتقوم بإخراج الحركة عن القانون؟
- هذا وارد جداً؛ فما زال هناك تلويح بإخراج الحركة الإسلامية عن شكلها
القانوني.
البيان: هل أنتم مستعدون لذلك؟ وهل وضعتم استراتيجية ما لمجابهة هذه
الخطوة المحتملة؟
- استراتيجيتنا واضحة، ومفادها أننا سنبقى نعمل للإسلام ثم لخدمة أهلنا من
خلال انتمائنا للإسلام إن لم يكن من خلال الحركة الإسلامية.
البيان: ماذا عن ميثاق الحركة الإسلامية؟ وهل هناك ميثاق للحركة؟ ثم ما
هي أبرز نقاطه؟
- هناك قانون داخلي للحركة الإسلامية يؤكد أن الحركة الإسلامية تستمد
دورها من فهمها الصحيح المستمد من القرآن الكريم والسنة؛ ثم تسعى الحركة
الإسلامية للقيام بدورها من خلال أوسع مساحة ممكنة يتيحها الهامش الديمقراطي.
البيان: كيف تقيِّمون العلاقة مع الشق الآخر من الحركة الإسلامية؟
- لا شك أن هناك اختلافاً في قضايا هامة ومصيرية فيما بيننا، ولكن مع ذلك
نحافظ على حصر أسباب هذا الاختلاف في أضيق مساحة ممكنة على أمل أن
نتجاوزه، وأن نواصل مسيرتنا الإسلامية.
البيان: نحن نعلم أن هناك جهوداً حثيثة تسعى لرأب الصدع في الحركة
الإسلامية، فإلى أين وصلت هذه الجهود؟
- مرة أخرى أقول: نحن نأمل بتجاوز أسباب الخلاف على أمل مواصلة
مسيرتنا الإسلامية.
البيان: لماذا تعارضون دخول الكنيست؟
- لأننا من خلال دراستنا المتأنية والعميقة للكنيست وجدنا أنها ليست إلا
مؤسسة عملت ولا زالت تعمل على إجهاض كل جهود أعضاء الكنيست من العرب،
وستبقى بهذه الصفة؛ لأنها وُجِدَت لتحقيق أهداف المجتمع الإسرائيلي وإجهاض
كل محاولة للحصول على حقوقنا؛ لذلك فإن الاهتمام بها هو مضيعة للوقت
والجهود، وتبديد للطموح.
البيان: ماذا تقرأ في نتائج الانتخابات الأخيرة لدى فلسطينيي 48؟
- ارتفاع نسبة المقاطعة في وسطنا الفلسطيني؛ حيث وصلت إلى أكثر من
40%؛ وهذا يعني أن جماهيرنا تبحث عن بديل عن الكنيست التي قادتهم إلى وهم
وسراب ليس إلا. ثم من الواضح في الطرف الإسرائيلي ارتفاع نسبة تمثيل اليمين؛
لأن الشارع الاسرائيلي يسير في اتجاه يميني شديد جداً أكثر مما كان عليه سابقاً.
البيان: ألا تعتقد أن على الحركة الإسلامية أن تجد استراتيجية ما لهذا
«الحزب» (حزب المعارضين) وإلى أين يمكن أن يقود؟
- هذا صحيح. على الحركة الإسلامية أن تعطي الحل العملي البديل عن
الكنيست للمعارضين، بل حتى للمشاركين في الكنيست؛ لأنه مضى على وجود
أعضاء كنيست عرب في الكنيست قرابة الخمسين عاماً، وما زلنا نعاني من الظلم
التاريخي، والتمييز القومي والاضطهاد الديني، ومصادرة الأرض والأوقاف
والمقدسات وهدم البيوت؛ لذلك فإن عنوان البديل الذي تطرحه الحركة الإسلامية
هو إقامة مشروع (المجتمع العِصامي) الذي يسعى إلى بناء الذات بكل ما تحتاج
إليه من إقامة مدارس أهلية، ومستشفيات أهلية، واقتصاد أهلي وغير ذلك، وهذا
يعيننا على إزالة الظلم التاريخي الذي ما زال يجثم على صدورنا، ودفع أذى
التمييز القومي والاضطهاد الديني الذي نعاني منه.
البيان: ما هي المشاريع التي تقومون بها لأجل الأقصى الشريف؟
- منذ عام 1996م نجحنا بفضل الله تعالى من خلال (مؤسسة الأقصى
لإعمار المقدسات الإسلامية) بالاشتراك مع (لجنة التراث - بيت المقدس)
وبالتعاون مع هيئة الأوقاف بإعمار المصلى المرواني، ثم إعمار الأقصى القديم،
ثم إقامة وحدات مراحيض ووضوء عند باب الأسباط وحطة وفيصل، ثم فتح
بوابات المصلى المرواني العملاقة وتبليط الساحات الممتدة أمامها، ثم مشروع
(مسيرة البيارق) الذي نُسَيِّر من خلاله مئات الحافلات من المثلث والجليل والنقب
والمدن الساحلية (عكا وحيفا ويافا واللد والرملة) إلى الأقصى المبارك كل شهر،
وإقامة مشروع (صندوق طفل الأقصى) ، وكذلك إحياء دروس مصاطب المسجد
الأقصى وتفريغ الدعاة، وإقامة مؤسسة (مسلمات من أجل الأقصى) ، وإعداد
الكتب والخرائط والأفلام الوثائقية عن المسجد الأقصى، وإقامة المهرجان السنوي
الكبير الذي بدأناه منذ عام 1996م بعنوان (الأقصى في خطر) والذي يحضره كل
عام أكثر من سبعين ألف مسلم ومسلمة.
البيان: هل هناك صعوبات تقف حائلاً أمام إتمام وإكمال هذه المشاريع؟
- هناك صعوبات كثيرة جداً؛ فمنذ بداية انتفاضة الأقصى منعت المؤسسة
الإسرائيلية إدخال أية مواد إعمار إلى الأقصى المبارك ولو كانت بحجم (دلو رمل) ،
ثم قامت المؤسسة الإسرائيلية بالإعلان عن (لجنة التراث - بيت المقدس) أنها
منظمة إرهابية لا لسبب إلا لأننا كنا نقوم بالاشتراك معها بتنفيذ كل تلك المشاريع؛
لذلك قاموا بمصادرة أموالها واعتقال أعضائها وإغلاق مكاتبها.
البيان: ما هو دور الصهاينة في اختلاق وابتداع هذه العقبات والصعوبات؟
- هي صعوبات تقوم بها المؤسسة الإسرائيلية بهدف فرض هيمنتها الاحتلالية
على المسجد الأقصى، ومنعنا من مواصلة مشاريع إعمارنا في المسجد الأقصى،
وبهدف أن تتحكم المؤسسة الإسرائيلية بكل أبواب المسجد الأقصى، فتسمح لمن
تشاء بالدخول إلى الأقصى، وتمنع من تشاء!! لذلك من المحزن أن نقول إنها
منعت دخول مجموعة من أهلنا إلى المسجد الأقصى المبارك بأوامر احتلالية ظالمة،
وقامت قبل أسابيع بتركيب آلة تصوير عند باب الأسباط لمراقبة تحركات كل
المسلمين لدى دخولهم وخروجهم من الأقصى المبارك.
البيان: ما هي الإجراءات التي تتخذونها لحل مثل تلك الصعوبات؟
- بداية نحن لا نيأس ولا نستسلم؛ لذلك لما منعتنا المؤسسة الإسرائيلية من
مواصلة (مشروع إعمار) الأقصى المبارك انتقلنا إلى (مشروع إحياء) الأقصى
المبارك من خلال مسيرة البيارق وإحياء مصاطب العلم وتفريغ الدعاة وإقامة
الإفطارات الجماعية طوال أيام رمضان، وإقامة صندوق طفل الأقصى، ومؤسسة
(مسلمات من أجل الأقصى) وإعداد الكتب والخرائط والأفلام الوثائقية عن
الأقصى.
البيان: ماذا عن العمل بباقي المقدسات الإسلامية؟
- لنا مشاريع كثيرة في هذا المضمار تقوم على إعمار وصيانة المساجد
والمصليات والمقابر، والتصدي لكل محاولات الاعتداء الإسرائيلية على أوقافنا
ومقدساتنا، وقد وفقنا الله تعالى وأنجزنا مشروع مسح هندسي لكل المقدسات الواقعة
بين قيساريا والخالصة، والذي شمل قضاء حيفا وعكا والناصرة وطبريا
وبيسان وصفد ونحن مصرون على مواصلة هذا المسح حتى النهاية، وكذلك لدينا
معرض رسم ثابت عن الأوقاف والمقدسات، وبدأنا نعد سلسلة أفلام وثائقية عن كل
الأوقاف والمقدسات، وننظم صلوات جمعة في المساجد المهجورة منذ نكبة فلسطين
عام 1948م، كل ذلك بمبادرة مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية.
البيان: شكراً للشيخ الكريم ونسأل الله أن يمدكم بعونه ونصره.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في فلسطين.(188/22)
ملفات
التغيير القادم
في هذه الظروف العصيبة التي تتعرض فيها الأمة لأخطار الاحتلال،
وانتهاك السيادة، والتدخل في كل شيء؛ نرى محاولات دؤوبة لإعادة تشكيل الأمة
في جميع المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، بل
حتى الدينية.. حيث يُطلب من الأمة أن تطوع خطابها الديني ليتوافق مع مقتضيات
الأمركة ...
وإذا كان وعي الأمة - أي أمة - يُقاس بقدرتها على: الاستفادة من ماضيها،
واستيعاب حاضرها، واستشراف مستقبلها؛ فإن قياس أمتنا - والحال هكذا - لن
يكون مشرِّفاً؛ إذ نرى الأمة غارقة فيما حدث.. متخبطة فيما يحدث.. جاهلة ما
سيحدث ... وهو ما يدفعنا لطرح قضية «التغيير القادم» ، على نطاق واسع،
يصل الماضي بالحاضر، ويعرض في أثناء ذلك صورتين للمستقبل:
أولاهما: رُسمت بأيدي الأعداء في دهاليز المخابرات وأروقة الوزارات.
والثانية: وضعنا لمساتها الأولى، وفق رؤية إسلامية، نستمد معالمها من
كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، مع الإقرار بأن ما يعرض
للأمة في مرحلتها الآنية؛ يستدعي تضافر جهود صفوة علماء الأمة ومفكريها؛
للفرار من جحر الضب، والحذر من لدغة الأفعى، كما حثنا النبي عليه الصلاة
والسلام.
وقد حرصنا في هذه التغطية وستكون في هذا العدد والذي يليه إن شاء الله
تعالى على استيعاب أهم المجالات التي تتناوشها معاول الهدم والتخريب، مقرونة
بما يلزم لتفعيل المواجهة، وأسلمة التغيير..
__________
محتويات الملف:
- التغيير.. مطلب أم مذهب؟ - د. سعيد بن ناصر الغامدي.
- إعادة صياغة الشرق الأوسط في المنظور الأمريكي - لواء أح د. زكريا
حسين.
- بعد أن ابتعلت أمريكا العراق، هل تستطيع هضمه؟ - خالد أبو الفتوح.
- النظام العربي إلى أين؟! - رجب الباسل.
- هل سبب الحرب اقتصادي؟ - د. أحمد علي الغامدي.
- تغيير الخطط.. في مواجهة خطط التغيير - د. عبد العزيز كامل.
- جيوش الكنائس الصهيونية الصليبية الأمريكية تحط رحالها في العراق -
أبو إسلام أحمد عبد الله.
- تجديد الخطاب الديني - د. محمد يحيى.(188/27)
ملفات
التغيير القادم
التغيير.. مطلب أم مذهب؟
د. سعيد بن ناصر الغامدي
مصطلح «التغيير» من المصطلحات الشائعة والرائجة في كتب الإدارة،
والسلوك، وعلم النفس والسياسة وغيرها، وهو من المصطلحات المثقلة بالدلالات
المتنوعة والمختلفة بل والمتناقضة أحياناً، وذلك لأنه من جنس الألفاظ اللغوية ذات
الدلالات المتعددة المستويات والأبعاد، وليس من جنس اللغة الأيقونية الحرفية
واحدية المستوى والبعد.
ويصبح مصطلح التغيير هذا أكثر تشعباً عند تعلقه بالظواهر الإنسانية الفكرية
والعملية التطبيقية، وتزداد تشعباته ومخاطره عند تعلقه بالإنسان بوصفه مخلوقاً
مربوباً، متعدد الأبعاد، متجاوزاً النظام الطبيعي المادي المجرد؛ لأنه بهذا الوصف
المتفرد ينطوي على مقومات لا يمكن ردها إلى النظام المادي البحت.
وإن من أخطر ما في القضايا الراهنة المتداولة ثقافياً وإعلامياً عدم تمحيص
المصطلحات ودلالاتها ومضامينها وظلالها وأبعادها. وخاصة تلك المصطلحات
المحمَّلة بجملة من الأفكار والرؤى والأهداف والغايات؛ المتشابهة أحياناً والمتناقضة
أحياناً أخرى، والمتسعة اتساعاً مشوّشاً، والمركبة تركيباً «مربكاً» ؛ كما هو
حال مصطلح «التغيير» الذي تحول إلى قضية تبدأ يسيرة بوصفها مطلباً من
مطالب النهوض والتقدم والإصلاح، إلى أن تستحيل بعد طول إدمانها عند البعض
إلى مذهب معتنق وأيديولوجيا متبعة، ومن المفارقات الغريبة أن تجد من
(التغييريين) مَنْ يثبت على حال واحد سلوكياً وفكرياً وأخلاقياً، ويلتزم مسلكاً معيناً
لا يبارحه، فلا يطبق مذهب التغيير الذي يطالب به الآخرين على نفسه!!
والإنسان بفطرته يبحث عن اليقين، أو عن قدر معقول منه إذا عجز عن
الوصول إلى الحقيقة الخالصة، وأنّى له الوصول إلى الحقيقة النهائية؟ ولكنه
يسعى إلى اليقين مبتعداً عن شراك العدم المطلق، أو أي درجة من درجات العدمية.
ومصطلح التغيير بسبب الملابسات المذكورة آنفاً استُعمل جسراً ووسيلة
لتمرير أفكار معينة ورؤى محددة، وتحيزات فكرية وعملية معروفة، بل استُعمل
لفرض هذه الأفكار والتحيزات بشكل خفي أو جلي، كما أنه استُعمل بصورة إيجابية،
في بعض الأحيان.
ومن خلال دراسة التاريخ المعاصر؛ نجد أن مصطلح التغيير تواتر في
الخطابات السياسية والثقافية منذ غزو نابليون لمصر، وإن بدأ ضعيفاً خافتاً لكنه ما
لبث أن نما وتزايد ومُددت أطرافه وحواشيه في كل الاتجاهات، ويزداد حضوره
كلما ألمت بالأمة ملمة، أو نزلت بها نازلة، وها هو اليوم يُطرح بالفم الأمريكي
الملآن تحت ظلال البوارج والطائرات والدبابات، وعبر الآلة الإعلامية والسياسية
الأمريكية الهادرة، وعبر وكلاء توزيع لهم قوة ونفوذ نوعي.
وبالطبع؛ كانت الاستجابة لهذا التحدي مختلفة باختلاف العقائد والأفكار
والرؤى والانتماءات والأفهام والعلوم، وكل فرد أو طائفة يأخذ قضية التغيير
مستدعياً معها التاريخ والتراث والهوية للقبول أو للانتقاء أو للرفض؛ بحسب
المشرب والمعتقد الذي ينطوي عليه، والأفكار التي يؤمن بها.
ولعله من الممكن في هذه العجالة تصنيف مواقف الناس إزاء قضية التغيير
التي تروج لها أمريكا بعد أحداث 11/9/2001م إلى أربعة مواقف:
- الموقف الأول: موقف المتقبل لقضية التغيير بالطريقة الأمريكية (الغربية)
(الليبرالية) :
وهو الموقف العلماني بشقَّيه (العام الشمولي) أو (الجزئي الانتقالي) ، ومن
جميع التيارات العلمانية الفكرية منها والسياسية.
فهؤلاء وجدوا في الضغط الأمريكي فرصة كبيرة لا بد من اهتبالها لإيجاد
التغيير، وفق المنظومة المعيارية والرؤية الفكرية والخصائص النفسية الغربية
الحديثة، والتي تفترض وجود عقل مستقل تماماً، وإنسان حر هو إله نفسه، يضع
لها النظم والقوانين المناسبة له، والمحقِّقة لحريته المنفكة من جميع الصلات الدينية
والأخروية، سواء على مستوى النظم والعلاقات عند من يوصفون بالاعتدال من
العلمانيين، أو على جميع المستويات عند غلاة العلمانيين، وأصحاب هذا الاتجاه
يرون في الإنسان بوضعه وتركيبه المادي المرجعية النهائية الأولى والأخيرة. ومن
ثم من حقه وحده أن يرسم صورة (التغيير) الذي يريد؛ وفق عقد اجتماعي معين
هو في حد ذاته مرجعية نهائية مستقلة عن الدين والوحي.
ولعل من أهم تبديات هذه النزعة الإصرار على قضية (الصيرورة الدائمة) ،
والتي تعني أن الحياة والأحياء والنظم والأخلاق في تغير مستمر، وفكرة
الصيرورة هذه فكرة مرجعية ثابتة لدى التيار العلماني والحداثي، تظهر بشكل
واضح في بعض الكتابات الأدبية والنقدية والفكرية المتطرفة، ولكنها كامنة بشكل
دائم في معظم الأفكار والأطروحات العلمانية. وهي فكرة مبنية أصلاً على فرضية
دارون المسماة بالانتخاب الطبيعي.
والإيمان الحتمي بالصيرورة الدائمة صفة ملازمة للتيار العلماني، وهي تعني
بالضرورة - من ضمن ما تعني - الخروج مما يسمونه (عبء الهوية) ،
والتخلص من (الخصوصية) الثقافية والمكانية والزمانية؛ في محاولة قوية وجادة
لتنميط الواقع المحلي، وجعل مكوناته الثقافية والعلمية والعملية مكونات تشبه قطع
الغيار، حيث تتصف قطع الغيار أنها لا هوية لها، ولذلك يمكن بكل سهولة ويسر
إحلال قطعة غيار مكان أخرى، في الواقع الثقافي والأخلاقي والاجتماعي.
وينطلق فلاسفة هذا التيار من خلال محاولة تفسير العالم كله بتفسير مادي
موحّد رغم دعوى التنوع، ويجعل لذلك إطاراً أصولياً كامناً، لديه القدرة على
اختزال الإنسان ومناشطه وأعماله وطموحاته ونهضته في (الذرائعية) المصلحية،
والنسبية المطلقة للأخلاق، والحتمية المطلقة للصيرورة.
وبالتالي؛ فقضية التغيير سوف تكون وفق هذا النموذج ليست مجرد مطلب،
بل أصبحت (مذهباً) ينطوي على استيراد جاهز يُصبغ بصبغة محلية أو أقليمية
أو عربية؛ في عملية ممنهجة مكرسة ينتهي وصفها الإجمالي ويتلخص في أنها:
استعارة غريبة يسعى وكلاء الغرب إلى استنباتها في الواقع الإقليمي والمحلي بأي
شكل من الأشكال؛ طمعاً منهم في تحقيق الفردوس (التكنوقراطي) أو النعيم
(الليبرالي) ، أو جنة الخلد (الديمقراطية) .. ونحو ذلك مما يتم التعبير عنه في
الفلسفات والكنايات والتحليلات العلمانية بشكل أو بآخر.
- الموقف الثاني: موقف المتقبل لقضية التغيير، بل والمعتنق لمذهب (التغيير)
مع شيء من التحفظ:
وهو موقف العصرانيين من المسلمين، والذين يؤمنون بالإسلام ولكن بطريقة
عصرانية تأتي تحت مسميات وأوصاف مختلفة؛ (العقلانية الإسلامية) ، (المسلم
المعاصر) ، (الوسطية العصرانية) ، (المحايد العصراني) إلى آخر ما هنالك.
وإن صحت استعارة مصطلحات اليمين واليسار؛ فيمكن أن يعد هؤلاء من
يسار الاتجاه الإسلامي، مع التحفظ على بعض دلالات هذا التصنيف.
وهم على درجات مختلفة؛ فبعضهم يعيش على تخوم الأفكار العلمانية، فهو
متأثر بها بحكم (عدوى المجاورة) ، وبعضهم يبتعد موطنه العصراني عن حدود
العلمانية قليلاً أو كثيراً.
ومن سمات هؤلاء (السيولة العامة) في مقابل ما يسمونه (الصلابة) التي
يُظهرون التذمر منها، ويوجهون إليها سهام نقدهم، وهم يعيشون مرحلة تحولات
مربكة، فلديهم الانتماء للأمة ودينها وتاريخها على الجملة، فهم من هذه الجهة
متصلون بها، ولديهم انفصال عن بعض مقومات الأمة، ونفور عما يسمونه
الأصولية الحرفية، أو النصية، والتفسيرات التراثية للوحي، وقوانين النظر
والاستدلال، واليقينية، والأبوية، والنقل، والمبدأ الواحد، والفرقة الناجية،
والولاء والبراء.
ولديهم مشكلة كبيرة في (المعيارية) من أين تُستمد؟ أمن النص المعصوم،
أم من العقل، أم من الأسلاف أم من المادة؟
كما أن جملة من أصحاب هذا الموقف تأثر بحكم المخالطة الفكرية والثقافية
بفكرة (الصيرورة الدائمة) التي هي أصل من أصول التفكير العلماني والحداثي.
وبالجملة؛ فإن كثيراً من أصحاب هذا الاتجاه يتركون حيزاً واسعاً للقيم
الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية ما دامت لا ترى واحدية المنهج، أو
تعتقد الصفاء، أو نجاة طائفة معينة، ولديهم قابلية شديدة لدعوة التغيير التي يرون
فيها جسراً يقودهم إلى الضفة الأخرى، والتي يحلمون أن تكون فيها أدوات
التحضر والنهضة.
هناك قاسم مشترك بين هؤلاء والصنف الذي قبله، وهو شغفهم بالتغيير،
وانفتاحهم نحوه، واستهدافهم جميعاً «المنهج» ، غير أن الصنف الأول يستهدف
(المنهج العام) الإسلام بعمومه وشموله وكماله، والصنف الثاني يستهدف (المنهج
الخاص) منهج أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص.
كما أن هناك فارقاً جوهرياً بين الموقفين، وهو أن الأول منهما شمولي كلي
على الرغم من أن أصحابه يعلنون بصورة دائمة أنهم لا يؤمنون بأي مطلقات أو
كليات. أما الثاني (العصراني) فهو جزئي بالنسبة إلى موقفه من الإسلام، وكلي
في رغبة تغيير مفهومات منهج أهل السنة والجماعة وتطبيقاته.
ومن هنا يمكن معرفة موقف كلا الطائفتين من التغيير مصطلحاً وشعاراً
ومنهج عمل، مع الإشارة إلى أن الأفكار والأشخاص والمواقف والفئات لا يمكن
حصرها في حدية تصنيفية قاطعة، فهناك نتوءات وخروقات واستثناءات.
- الموقف الثالث: موقف الرافض لقضية التغيير أو المتحفظ إزاءها بشدة خوفاً
من تبعاته وآثاره، وحذراً من مخاطره وسلبياته:
وهو موقف فئة صادقة الانتماء للدين والأمة، حريصة على عزتها ومكانتها،
ولكنها بسبب الثبات المطلق تتشبث بالقديم حتى لمجرد قدمه أحياناً، وتنفر من
الجديد وخاصة في عالم الأفكار والرؤى، حتى لمجرد جدته أحياناً.
وتميل إلى التفسير الحرفي الظاهري للنصوص التي هي في حقيقتها حمَّالة
أوجه.
كما أن لديها كماً من الحذر الشديد مشفوعاً بالرفض أحياناً أمام كل وافد
وغريب، إضافة إلى انحصار المدلولات اللغوية والمعنوية للأمور الحادثة لديهم بين
قطبي الخير والشر والصحة والفساد. بحثاً عن يقين مطلق أو حكم جاهز، وهذا ما
يقتضي انحسار مساحة النسبية، وتقلص ميدان الأمور والقضايا ذات الطبيعة
التركيبية، وهذا ما سيقود بدوره إلى وضع قواعد عامة حاسمة للقبول والرفض؛
حتى في الأمور التي تحتاج إلى تفصيل وتفسير وقسمة.
- الموقف الرابع: موقف المتقبل لقضية التغيير بشروط وضوابط شرعية وعقلية
ومصلحية:
وهو موقف جمهور العلماء والدعاة، وخاصة علماء الصحوة، ورجالات
الثقافة والفكر والأدب وغيرهم من أصحاب التخصصات التي يستند أصحابها على
مبدأ الخصوصية العقدية والعبادية والفكرية والثقافية والمنهجية والتطبيقية العملية،
وهو المبدأ القائم على قاعدة: (الإسلام عقيدة وعبادة، وأعمال وأخلاق، وشعيرة
وشريعة، ودين ودولة، ومصحف وسيف، وأصالة وحضارة) .
وهم بحكم علمهم الشرعي الأصيل وثقافتهم العصرية المتسعة لديهم رؤية في
قضايا التغيير والتطوير والتحديث والمعاصرة تعتمد على مبدأ: (أخذ مقتضيات
العصر، ونبذ أهوائه وأمراضه) .
ولعل من الممكن في هذه العجالة ذكر أهم العناصر الرئيسة المستشفة من
أقوالهم وتصريحاتهم ومقالاتهم في قضية التغيير كما يلي:
1- التغيير بمفهومه القرآني يبدأ من الداخل: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) ، تغيير المعتقدات والأفكار الفاسدة التي تؤدي
إلى دين فاسد، أو دنيا فاجرة؛ بمعتقدات صحيحة قويمة سليمة، وتغيير المشاعر
والإرادات السلبية، وإحلال أخرى إيجابية مكانها، وتغيير المسالك والأعمال
الخاطئة (دينياً أو دنيوياً) ، وإيجاد البديل الصالح.
2- الدعوة إلى التغيير مطلوبة معقولة وذات مصلحة إذا صدرت من صادقي
الانتماء للأمة، ولكنها ستكون متهمة ومشكوك فيها إذا جاءت متناغمة ومتعاطفة مع
حملات الأعداء ووكلائهم.
3- التغيير عملية إصلاحية كبرى، ومع ذلك يجب ألا يتحول التغيير إلى
مذهب معتنق وعقيدة متبعة؛ لأن ذلك سيؤدي إلى التغييرات المطردة نوعاً وكماً،
في كل شيء، وهذا يعني العدمية وعدم الثبات، وإبطال القواعد والأصول
والكليات والثوابت، وهذا ما يسعى إليه الأعداء والمتأثرون بهم، أو العاملون
لصالحهم، فهناك فرق بين كون التغيير مطلباً يُستدعى عند الحاجة إليه؛ لتحقيق
مصلحة أو دفع مفسدة، وكونه مذهباً يستعمل في كل آن، ويستدعى في كل حين
ولكل قضية.
4- إن دعوات التغيير المصوبة نحو القضايا الثقافية والمناهج التعليمية
والدينية والمسائل الشرعية؛ أسهل تناولاً وأخف تبعة، فهي الجدار القصير الذي
يمكن لكل أحد أن يتسلقه، والملاحظ أن دعاة التغيير لا يذكرون شيئاً عن الأمور
الأكثر سخونة والأشد عمقاً، والأقوى تأثيراً، فمناهج التعليم تخرج الإنسان الصالح
والمؤمن التقي، والفاسد الشقي، كل حسب فهمه ومقدار أخذه وقناعته، ولكن
المظالم العامة والانتهاكات للحقوق، والطبقية المناطقية، والعنصرية القبلية،
والأسرية والفئوية، والرشوة والفساد، والواسطة وإضاعة الحقوق والمماطلة
والاحتكار، والطبقية المالية المتباينة، والربا وأشباهها لا يذكرها دعاة التغيير؛ مع
أنها هي التي تدمر البلاد وتفسد العباد، وتوجد البغض والشنآن بين الراعي
والرعية، وبين الرعية نفسها، وفي ذلك نصوص صريحة من كلام ربنا تعالى،
وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تجارب الأمم والشعوب والدول.
في حين أن المناهج (المستهدفة بالتغيير في بعض دول الخليج مثلاً) ، وهي
مناهج في جملتها مستندة إلى الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة؛ تعد من الضمانات
الكبرى للاتحاد والائتلاف.
5- إن كل صاحب رأي ثاقب وعلم واسع وإطلاع جيد على نصوص الكتاب
والسنة، والأخبار والحوادث التاريخية؛ يجد أن كل غاز يتخذ ما يشاء من ذرائع
للاحتلال والعدوان، فها هو العراق لم يكن لديه أسلحة دمار شامل، وها هي سوريا
لا توجد فيها مناهج تعليم ترتكز على قضايا الكفر والإيمان، وعقيدة الولاء والبراء
التي يسميها بعض الجاهلين الانفصال عن الآخر. وها هي إندونيسيا لا يوجد فيها
شيء من هذا، وها هو المغرب كذلك. بل كل هذه البلدان غيرت وجهة الثقافة
والتعليم من سيمائه الإسلامية ومعاقده الاعتقادية؛ ليكون أشبه بالتعليم الغربي،
وأخرجت المرأة من عرشها المصون، وحصنها المنيع ومكانتها الراقية؛ لتتشبه
بالغربية في العمل والاختلاط والسفر والسهر والرياضة واللعب، ومع ذلك احتُلت
العراق، وسوريا تحت مطرقة التهديد، وفصلت تيمور عن إندونيسيا، والصحراء
المغربية ما زالت شوكة في حلق أهل المغرب؛ إضافة إلى سبتة ومليلية.
6- التغيير الثقافي والفكري بالطريقة الأمريكية يستهدف إيجاد «غلام أحمد
ميرزا القادياني» ، ومفتي الهند في عهد الاستعمار «إسماعيل بن الوجيه المراد
أبادي» المشهور باللندني، نسبة إلى لندن التي عاش فيها وتزوج فيها، وكان يقال
له لماذا لا تحج فيقول: «أنا لا أعتقد في الجدران» ، فجعلوه مفتياً بدل عالم
السنة والحديث الشيخ «إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي» . وإيجاد أبي مازن
محمود عباس ميرزا البهائي، والذي رضيت عنه كل القوى اليهودية والأمريكية
والبريطانية ليكون المسؤول الأول في فلسطين هو أحد الأدلة الصارخة على نوعية
التغيير.
ويمكن النظر بعين البصيرة إلى موقف أمريكا من جامعة الإيمان في صنعاء،
حيث الحرب الموجهة ضدها والتأليب المستمر، سواء من أمريكا مباشرة أو من
خلال وكلائها في اليمن، ثم التأمل في الصور المعاكسة في الموقف من جامعة
الأحقاف، ودار المصطفى في تريم، والتي تدرس عدداً كبيراً من الطلاب يفوق
عدد طلاب جامعة الإيمان؛ فلماذا السكوت عن هذه، بل والتأييد لها والدعم،
والمحاربة لتلك، والتهديد، وتسفير الطلاب، وإلغاء المنح؟!
إنها الخطة القديمة الحديثة: كل ما يخدر الأمة بحفلات وأعياد، وغناء
ورقص، وينقض معاني النخوة فيها، ويجمد دماء الحمية الإيمانية في عروقها،
ويمرغها في أتربة المقابر وعتبات الأولياء، ويعلقها في السبح والعمائم والخرق
والتمائم، فهو مطلوب مرغوب محبوب؛ لأنه معتدل وعصري وسلمي ومتحضر
وعولمي ومفكر وعميق ومنفتح ومتفاهم؛ لأنه باختصار غير خطير على الأمريكان
والأنجليز!
أما من يقول لي حريتي وأصولي ومعتقداتي وشريعتي ونظام حياتي، ولي
جذوري الممتدة إلى عصر النبوة، ولي نصوص الوحي المعصوم، ومنهجي الاتباع
لا الابتداع، وطريقتي الدين بشموله وكماله وتمامه؛ فهو لا شك متطرف وأصولي،
ومتعصب وخطر على السلم العالمي!
7- التغيير بالصيغة الأمريكية والعلمانية عملية شاملة بل (مذهب) متبع،
ودعاة التغيير المتناغمون مع الطرح الأمريكي معروفون، ليس فيهم من يوثق بعلمه
الشرعي، ولا حميته الإيمانية، ولا الفهم الجيد ولا العلم الصحيح ولا الإدراك
المتكامل، بل فيهم من أهل الأهواء والأمراض الفكرية ما يستوجب الحَجْر عليه
حتى الشفاء من دائه، وإن شئت فراجع مقال «سليمان النقيدان» عن (وهم
الخصوصية الثقافية والمكانية) ، ومحاضرة «تركي الحمد» عن (خصوصيتنا
والعولمة) ، ونحو ذلك من أقوال ومواقف صادرة من طائفة مغموصة بالأهواء؛
مغموسة بالإشكالات الفكرية والعملية، منتسبة إلى البلدان الإسلامية اسماً ورسماً،
وللغرب حقيقة ومضموناً.
8- عملية التغيير التي تدعو إليها شرائح الاستعارة الفكرية، عملية خطيرة
ذات أبعاد شمولية متكاملة - وفق التصورات الأمريكية وليس وفق شروط محلية أو
وطنية ولا دينية - هذه العملية قد تتم - إلا أن يشاء الله - ربما بصورة متدرجة،
وسينال الوضع الديني والتعليمي والخيري والمرأة أكبر النصيب في البداية، ثم إن
تواصلت - في ظل سكوت أهل الحق والغيرة على الأمة ومصالحها ومقوماتها -
فستصل إلى التخوم الخطيرة، المستهدفة أصلاً، وسينتج عن ذلك من الصراع
الاجتماعي والثقافي وربما المادي ما لا يعلم مداه إلا الله، فهذه طبيعة التغييرات
العصرانية والعلمانية التي تمت في بلدان عديدة من بلاد المسلمين، وما زال الجميع
يكتوي بنيرانها إلى اليوم، بل أصبح من يدعو للتدين ولو بصيغه الوعظية، في
مقام المتهم والممنوع، ولا تخفى على الجميع قصة عمرو خالد في مصر، وحجاب
مروة في تركيا، والمداومة على الصلاة في المسجد في تونس، وهي أمثلة معدودة
من ديوان المأساة العلماني المليء بالمآسي والقهر والظلم والعدوان.
وبناءً على هذا يرى أهل العلم والإيمان أن الدخول في هذا المعترك الذي أقل
ما يقال فيه أنه ملتبس وغامض ينطوي على أمور مشبوهة في منطلقاتها ومآلاتها،
وهم يعارضون دعوات التغيير الأمريكي ومعهم حجج قوية، وشواهد صارخة،
وبراهين واضحة، ويمكن للمنصف حتى وإن خالفهم أن يتفهم موقفهم هذا وأن
يقدره، فهؤلاء الدعاة والعلماء والمثقفون المسلمون أصدق مواقف، وأكثر انتماءً
للأمة وفيهم علماء الشريعة، وأهل الفتوى، وأرباب الدعوة وأهل الصلاح، وهم
الأقدر على تقدير مصلحة الأمة من أولئك الذين قام بهم سوق المزايدة، وراجت بهم
بضاعة المناكدة، وغرقوا في الوهم واللبس والوهن والخور.
9- ومع ذلك فهذا الصنف لا يعارض التغيير الإيجابي النافع؛ لأنهم يرون
أنه لا يعارض (التغيير) الإصلاحي إلا جامد، ولا يقاومه إلا يابس أو يائس، أو
مستفيد من الأوضاع الفاسدة، أو خائف من نتائج الإصلاح الحقيقي، والمراد هنا
الإصلاح القائم على شروط الأمة وخصائصها ومقوماتها، والمتجه نحو مصالحها
الحقيقية حالاً ومآلاً، وليس (مذهب التغيير) الذي يملى علينا ليتم وفق المصلحة
الأمريكية، كما يمارسه الحاقدون على الثقافة الإسلامية وأدبياتها المسلكية
المعبرة عنها؛ كالأنشطة الإسلامية في المدارس، والتسجيلات الإسلامية، والمنابر
الدعوية، والمدرسين الدعاة، والأنشطة غير المنهجية في المدارس. والكارهون
لحجاب المرأة وعفتها وصيانتها ومكانتها.
10- أختم هنا بذكر نموذج التغيير التي تطلبه أمريكا وترغب فيه، بل وربما
تلزم به، وذلك ما جاء في تقرير لجنة أمريكية درست مناهج المدارس السعودية.
وفحصت 93 كتاباً، وكتبت عنه تقريراً مفصلاً للإدارة الأمريكية، ونشرت مجلة
المجلة مقتطفات منه في 5/1/1424هـ.
ومن هذه الفقرات:
(أن التعليم السعودي يقوم على الإسلام، والدراسات الإسلامية تشكل جزءاً
رئيساً في هذه المقررات حتى الكتب العلمية تشير إلى الإسلام) .
(السعوديون يقولون إن الإسلام هو أساس الدولة والمجتمع والقضاء والتعليم
والحياة اليومية) .
(يصفون المسيحيين واليهود بأنهم كفار وأنهم أعداء الإسلام) .
وينتقد التقرير بعض نصوص المناهج منها:
(الله أرسل التوراة إلى موسى - عليه السلام -، والمسيح ابن مريم هو
عيسى - عليه السلام -، ويُعرف بأمه؛ لأن الله خلقه ولا أب له) .
(التلميذ حاتم يتمنى أن يعطيه الله الشجاعة والإيمان ليكون مجاهداً في سبيل
الله؛ مثل سعد بن أبي وقاص) .
(المناهج المدرسية السعودية لا تعترف بأي حق لليهود في فلسطين وأرض
إسرائيل) .
(المناهج المدرسية السعودية تقدم قضية فلسطين بأنها احتلها اليهود
الأجانب) .
(ترفض المناهج إلغاء الجهاد كما يدعو لذلك بعض المسلمين مثل الطريقة
القادرية) .
(المناهج التعليمية تعارض الديمقراطية الغربية) .
(في المناهج السعودية تركيز على فصل النساء عن الرجال وحجاب
المرأة) ، (هناك آيات قرآنية كثيرة عن حجاب المرأة وأهمية الالتزام به، وما
تقوم به بعض النساء من كشف أجسامهن لرجال غرباء هو ذنب كبير) .
(حديث نبوي أثار كثيراً من النقاش عن اليهود، ويقول: لن يأتي يوم
القيامة حتى يقاتل المسلمون اليهود ... حتى يختفي وراء شجرة أو حجر) .
هذه بعض معالم التغيير (الأمريكي) المنهجي والشرعي والتعليمي
والاجتماعي الذي يصب لصالح اليهود أولاً وأخيراً، ولن يكون هو نهاية المطالب،
ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك، فحتى لو أُعطوا ما يطلبون فلن يرضوا ولن
يقبلوا؛ لأنه لا حد للجشع اليهودي ولا سقف للمطالب الصليبية، وصدق العليم
الخبير: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ
هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ
نَصِيرٍ] (البقرة: 120) ، ولكن مما يؤسف له أن عدداً من النخب الثقافية
والإدارية لديها الاستعداد خوفاً أو طمعاً لقبول خطة التغيير كاملة أو مجزأة، وهناك
من يطالب بالإسراع في ذلك تحت حجة أن لنا في اليابان وألمانيا بعد الحرب
العالمية قدوة، وهؤلاء هم التفسير الواقعي لقول الله تعالى: [فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ] (المائدة:
52) .
ومع ذلك فلن تزيد هذه المطالب الأمة إلا قوة في دينها، ومعرفة أكثر بعدوِّها،
ويقيناً بوعد الله لها، [لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ
يُنصَرُونَ] (آل عمران: 111) .
[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل
عمران: 186) .(188/28)
ملفات
التغيير القادم
إعادة صياغة الشرق الأوسط في المنظور الأمريكي
لواء أح. دكتور / زكريا حسين [*]
طُرحت فكرة تأمين منابع النفط في الخليج العربي باستخدام القوات المسلحة
الأمريكية؛ في أعقاب الاستخدام السياسي للنفط في حرب أكتوبر 1973م.. حيث
كان من الطبيعي أن تُتخذ الإجراءات المضادة لمنع تكرار هذه الاستراتيجية، حتى
أودى الأمر إلى استخدام القوة المسلحة الأمريكية لغزو منابع النفط، وقد تبلور ذلك
الاتجاه من خلال دراسة أعدتها لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي
في 5/8/1975م، والتي بحثت ولأول مرة احتمال القيام بعمل عسكري ضد دول
منتجة للنفط عند محاولتها فرض حظر نفطي..
وقد طرحت هذه الدراسة، والتي أعدتها هذه اللجنة التي شُكّلت برئاسة
(توماس مرجان) ، العديد من الخيارات المتاحة أمام السياسة الأمريكية في حالة
نشوب مثل هذه الأزمة.. وقد تمحور الهدف الاستراتيجي لاستخدام القوة المسلحة
الأمريكية بعد دراسة العديد من الاختيارات ليكون (القيام بعملية عسكرية للاستيلاء
على منطقة حقول النفط الرئيسية الواقعة بالمنطقة الشرقية الممتدة بمحاذاة الخليج
الفارسي، وتأمين تدفق أهم حقول النفط في الخليج والتسهيلات المصاحبة لها،
والاحتفاظ بها أو السيطرة غير المباشرة عليها) .
وعلى ضوء ذلك؛ فقد تمحورت المهام العسكرية التي يمكن أن تُكلف بها
قوات الغزو لتأمين مصادر النفط بالاستيلاء على عدد كافٍ من الحقول والمنشئات
النفطية في حالة سليمة تماماً، مع الاستعداد لتأمينها لفترة طويلة نسبيّاً، وأن تكون
مجهزة بعناصر الإصلاح المتخصصة، والمعدات اللازمة لإصلاح الموجودات
والممتلكات التي تكون قد تعرضت للدمار بسرعة كبيرة.. مع قيامها باتخاذ
الإجراءات اللازمة لتشغيل المنشئات النفطية التي قد تتعرض للدمار دون مساعدة
من «دول أوروبية» ، مع قيامها بتنظيم المرور الآمن للإمدادات والمنتجات
النفطية فيما وراء البحار.
وفي 23/1/1980م أعلن الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» في خطاب له
أمام الكونجرس الأمريكي عن نظرية أمن صريحة لمنطقة الخليج، عُرفت «بمبدأ
كارتر» ، والذي انطوى على شقين:
أحدهما: شق سياسي، وقال فيه: (إن أي محاولة من جانب أي قوى
للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج؛ سوف تعتبر في نظر الولايات
المتحدة هجوماً على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما
فيها القوة المسلحة) .
أما الشق الثاني في نظرية الأمن الأمريكية في الخليج: فهي تكملة للإعلان
السياسي، وقد تمثلت في إنشاء (قوة الانتشار السريع) ؛ من خلال تقرير قدمته
وزارة الدفاع الأمريكية عام 1988م إلى لجنة القوات المسلحة في الكونجرس،
والذي على أساسه اُعْتُمِدت ميزانية هذه القوة لتلك السنة. وقد تضمن القرار
الأمريكي بإنشاء قوة تدخل سريع أمريكية تتمركز في الولايات المتحدة، وتكون
جاهزة لكي تُحْمَل جواً وبحراً إلى منطقة الخليج عند ذي طارئ، وقد أُطلق على
هذه القوة «قيادة المنطقة المركزية» ، وقد تم التخطيط الاستراتيجي لاستخدامها
لتأمين منابع النفط في الخليج، كما تولى قيادتها الجنرال «شوارسكوف» الذي
كُلف بقيادة قوات التحالف الأمريكي عند قيام العراق بغزو دولة الكويت،
وهو الغزو الذي أعطى الدوافع والمسوِّغات اللازمة لتحرك هذه القوات، وتنفيذ
مهامها المخططة في الخليج.
وهكذا استقرت القوات الأمريكية في منطقة الخليج تنفيذاً لمخططاتها التي
كانت تحلم بتنفيذها منذ يناير 1975م، وجاءت إلى الخليج لمواجهة طموحات
ونزوات الرئيس العراقي «صدام حسين» ، وبمباركة ومساندة معظم دول العالم،
وبدأت سلسلة التداعيات العربية كلها؛ من إهدار الثروات والقدرات اقتصادية منها
وعسكرية، إلى حالة من التفكك والتمزق لم تشهد لها المنطقة العربية مثيلاً في
تاريخها المعاصر.
* إدارة مجموعة «المحافظون الجدد» والتغيير القادم:
لقد قلبت مجموعة «المحافظون الجدد» من الحزب الجمهوري أو التي
تسمى «مجموعة الصقور» منذ عام 1992م ما أطلق عليه «دليل التخطيط
الاستراتيجي» للولايات المتحدة، والذي انتهى إلى صياغة مجموعة مبادئ:
أولها: ضمانات عدم قيام قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيها: أن تمتلك الولايات المتحدة الوسائل اللازمة لمنع أي دولة منافسة من
التطلع إلى دور دولي أو إقليمي، مع اعتبار أن الصين وروسيا تمثلان الخطر
المحتمل.
وثالثها: منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في دول مثل العراق، وكوريا
الشمالية، وإيران؛ حتى لو أدى الأمر إلى استخدام القوة المسلحة لمواجهة ذلك
الخطر.
وقد نشرت مجلة «ليمبس» الإيطالية ربع السنوية المتخصصة في
الدراسات الاستراتيجية والسياسات الدولية عدة تقارير حول الحرب الأمريكية على
العراق، والسيناريوهات والنتائج المحتملة التي ستعود على المنطقة العربية
والقضية الفلسطينية فيما بعد نهاية هذه الحرب، وقد ألقى التقرير الضوء على
المتغيرات التي حدثت في السياسة الأمريكية بعد أحداث 11/9/2001م؛ وفقاً
لمذهب الأمن القومي الجديد الذي يؤكد «أن الولايات المتحدة تحتل موقعاً غير
مسبوق للقوة العسكرية، وتتمتع بنفوذ اقتصادي وسياسي كبير.. ومن ثم فإن أمن
الولايات المتحدة يكفله عالم أفضل مكوَّن من ولايات متحدة كثيرة، جميعها صغيرة
وغير قوية، ولكنها مُشَكَّلة على الطراز الأمريكي أيضاً.. وهو ما يعني أنه من
الممكن صنع» عالم جديد «من خلال الحرب العالمية المعلنة ضد الإرهاب،
والتي ليست لها مدة محددة، وبدونها لن تنفع فكرة إقامة» إمبراطورية الخير «
التي تقوم على تصدير القيم الأمريكية» الحرية، والديمقراطية، والسوق الحرة «،
وتطبيقها على القارات الخمس.
وعن التغيير القادم في الشرق الأوسط جاء في تقرير آخر:» إن الولايات
المتحدة كانت توافق وتساير عدم النظام في منطقة الشرق الأوسط، وكان اهتمامها
الأول والأخير ينصبُّ على النفط وأمن إسرائيل فقط.. على اعتبار أن الصراع
الإسرائيلي الفلسطيني لم يكن يهدد التوازنات الاستراتيجية، بل إن عدم الاستقرار
كان يخدم الولايات المتحدة لتجعل الجميع تحت سطوتها؛ في منطقة من أجدب
مناطق العالم التي يتعذر حكمها والسيطرة عليها، إلى أن فوجئت الولايات المتحدة
بهجوم «تنظيم القاعدة» ، وظهر تهديد المصالح الأمريكية الذي جسده «أسامة بن
لادن» ومن معه من الذين شاركوا في عمليات مركز التجارة والبنتاجون؛ الأمر
الذي جعل الولايات تقتنع بأنها لا يمكن أن تتساهل مع الشرق الأوسط الذي يتنامى
في مشاعر شعوبه معاداة الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن التهديدات التي
تحدق بإسرائيل ومنابع النفط، والذي ليس للولايات المتحدة فيه - باستثناء
إسرائيل - أي حليف مؤتمن، بل ومن المحتمل أن ينطلق منه في المستقبل هجوم
بأسلحة غير تقليدية ضد الولايات المتحدة «.
هذا وقد قرر الرئيس الأمريكي» جورج دبليو بوش «أن تبدأ إعادة تشكيل
الشرق الأوسط بغزو جمهورية العراق وإزاحة حكم الرئيس» صدام حسين «؛
باعتبار أن رحيله لن يمكّنه من الحصول على مزيد من أسلحة الدمار الشامل وعلى
رأسها القنبلة النووية!! كما يضمن عدم تمكنه من السيطرة على منابع النفط، بل
وأيضاً لكي يصبح نقطة الانطلاق للحملة التي تستهدف ما أُطلق عليه (إدخال
الديمقراطية إلى الشرق الأوسط من البحر الأحمر حتى الخليج) ؛ أي عملية ضم
المسلمين إلى إمبراطورية الخير التي ستبدأ من العراق.
ولم تعنّ حتى الآن رؤية استراتيجية واضحة المعالم للخريطة القادمة؛ حيث
ما زال المشروع الجيواستراتيجي قيد التطوير وخاصةً أن القوة العسكرية لن تكفي
لإقامتها، وعلى الأرجح فإن الإدارة الأمريكية قد عزمت أمرها على تنفيذ مشروعها
على مراحل، تكون مرحلته الأولى هي الإطاحة بنظام الرئيس (صدام حسين) ،
ثم نزع أسلحته وإقامة حكومة صديقة في بغداد، وهو ما تم وجاري تنفيذه في
المنظور القريب، ثم يأتي بعد ذلك دور الأنظمة غير الموثوق بها والمارقة بعد ذلك
واحداً تلو الآخر، ولعل ما نشهده من تهديدات ولغة تحذير حاسمة لكل من سوريا
ولبنان من جهة والجمهورية الإيرانية في جهة أخرى؛ تشير إلى جدية تنفيذ
المراحل التالية من المشروع الواسع للتغيير القادم في منطقة الشرق الأوسط.
ومن هنا، وطبقاً للتقديرات الأمريكية، فإن الغزو العسكري الأمريكي للعراق
يتصدر أهدافه: خلخلة المنطقة وإعادة رسم خريطتها السياسية الإقليمية بما يخدم
الهدف الإسرائيلي؛ بتسوية الأرض عسكريّاً وسياسيّاً ونفسيّاً للتهيئة لواقع عربي
مخلخل يسهل تقبله للضغوط؛ من أجل حمل النزاع العربي الإسرائيلي وفقاً للرؤية
الإسرائيلية، كما أن غزو العراق يُعد هدفاً سهلاً وهشاً سياسيّاً ينطلق منه باقي
مراحل المشروع الأمريكي لهز المنطقة كلها بإقامة نظام حكم مختلف.
* اتجاهات التغيير القادم:
لعل قراءة الهدف الحقيقي» وغير المعلن «من عملية الغزو الأمريكي
للعراق؛ تقودنا إلى اتجاهات التغيير القادم، والذي يعني» الأهمية المطلقة لإزاحة
النظام العراقي باعتباره الخطوة الأولى على طريق إحداث تغيير شامل في الشرق
الأوسط؛ مما يعني إسقاط حكومات، وتقسيم دول، وتغيير ملامح الخريطة
السياسية في المنطقة لفرض نظام شرق أوسطي جديد خاضع للإدارة الأمريكية من
جهة، وتؤدي فيه إسرائيل وتركيا دوراً محوريّاً من جهة أخرى «.
هذا وتسير اتجاهات التغيير في إطار هذا الهدف في عدة اتجاهات:
لعل أولها: سرعة تحويل العراق إلى (مستعمرة أمريكية) ، حيث إن
السيطرة الأمريكية على إمدادات النفط وأسعاره، وإعادة نظام إدارته دوليّاً تعدُّ من
أهم أبعاد استراتيجية (عراق ما بعد صدام حسين) ؛ حيث إن ذلك يوفر للولايات
المتحدة الأمريكية التحكم في تطلع الصين لأن تكون المنافس الاقتصادي لها؛ بعد
أن قفزت معدلات التنمية فيها إلى معدلات التنمية الاقتصادية العالمية بالقدر الذي
يرشحها لأن تكون إحدى القوى المنافسة فوق قمة العالم سياسيّاً.. وأن معدل
استمرار التنمية في الصين بمعدلها الحالي قد يجعل منها القوة الاقتصادية الثانية
على العالم بعد عشر سنوات قادمة، ومن ثم يكون لها القدرة على أن تكون منافساً
للولايات المتحدة خاصة في المجال الحيوي الإقليمي لها في آسيا، وإحدى ضمانات
ذلك التفوق المتنامي هو اعتمادها على نفط الخليج الذي يعطي 80% من احتياجاتها،
ومن ثم فإن سيطرة الولايات المتحدة عليه تعدُّ الضمان الوحيد لعدم استمرار
التنمية بنفس معدلاتها.
من هنا، ومن خلال تأييد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة المعلنة، والتي
تضع على قمة أولوياتها عدم السماح لأي قوة دولية بأن تكون منافسة للولايات
المتحدة.. ولما كانت الصين التي طُرحت أكثر من مرة بوصفها عدواً محتملاً تندفع
بقوة اقتصادية إلى وضع منافس للولايات المتحدة معتمدة على طاقة انطلاقها على
نفط الخليج؛ فإن إعادة تشكيل خريطة النظام النفطي يمكن أن يضع في يد الولايات
المتحدة قوة ضغط على الصين لم تكن في يدها من قبل.. ومن منطلق أن المنطقة
العربية بما تملكه من ثروات نفطية ميدان لتحريك تيار التقييد الإقليمي في العالم،
وبصفة خاصة (خريطة النظام النفطي) .
وقد طرحت الإدارة الأمريكية مخططاتها لإدارة النفط العراقي في مرحلة ما
بعد (صدام حسين) ؛ حيث أعد مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي بالتعاون مع
مؤسسة» جيمس بيكر «وزير الخارجية الأمريكي السابق في جامعة رايز؛ دراسة
لحساب الإدارة الأمريكية حول كيفية التعامل مع النفط العراقي بعد الحرب، وتدعو
هذه الدارسة التي تبنتها إدارة الرئيس بوش إلى إقامة حكومة محلية تحل محل
الحكومة العراقية التي تمت إزاحتها بالقوة عن السلطة، وأن تقوم هذه الحكومة
الجديدة بإلغاء جميع العقود النفطية السابق إبرامها مع كل من فرنسا والصين
وروسيا، وأن تبدأ استثمارات جديدة مع الولايات المتحدة وبريطانيا.. وقد قدرت
الإدارة الأمريكية أن عراق ما بعد» صدام حسين «يلزم إعادة بنيته التحتية
اقتصاديّاً واجتماعيّاً؛ وتسديد ديون بنحو» مائة مليار دولار «إلى جانب صرف
تعويضات حرب كل من إيران والكويت؛ مما يعني بالضرورة زيادة كميات إنتاجه
النفطي من 2.5 مليون برميل يوميّاً إلى ستة ملايين برميل يوميّاً، ومن ثم فإن
الزيادة المتوقعة والناتجة عن الإدارة الأمريكية للنفط تعني تجاوز السقف الحالي
الذي حددته» منظمة الأوبك «، كما تعني إغراق السوق العالمية للنفط؛ مما قد
يهبط بسعره إلى مستويات لا سابق لها، وما ينتج عن ذلك من انفراط عقد (منظمة
الأوبك) ، وتراجع عائدات الدول المنتجة للنفط؛ إلى حد تعرضها للعجز المالي
الشديد. كما ينتظر أن تتحول العراق إلى محطة وقود أمريكية، حيث تستهلك
الولايات المتحدة 20 مليون برميل يوميّاً من النفط؛ لا تنتج فيه سوى ثمانية ملايين
برميل فقط!!
ولعل قراءة مشروع القرار الأمريكي المقترح تقديمه لمجلس الأمن، والتي
طالبت فيه برفع جميع العقوبات المفروضة ضد العراق بعد غزوه للكويت عام
1990م - باستثناء حظر توريد السلاح -، مع منح الأمم المتحدة دوراً رمزيّاً
وإشرافيّاً في العراق استجابة لمطالب المجتمع الدولي - لعل قراءة مسودة هذا
المشروع توضح سعي الولايات المتحدة إلى السيطرة على عائدات النفط العراقي
لمدة 20 شهراً؛ تُمدد آليّاً (ما لم يقرر مجلس الأمن غير ذلك) ، حيث تتولى
الولايات المتحدة وبريطانيا بوصفهما» سلطة الحكم «توزيع حصيلة مبيعات النفط
العراقي على أوجه الاتفاق المقترحة بالتشاور مع الحكومة المؤقتة في العراق، وإلى
أن يتم تشكيل حكومة عراقية!!
أما ثاني اتجاهات التغيير: فهو ينطلق من اعتبار أن العالم العربي هو الميدان
الذي اختارته الولايات المتحدة لتحقيقها نصراً سريعاً فيه من خلال غزو سهل
للعراق الذي أنهكته العقوبات الاقتصادية والعسكرية على مدى اثني عشر عاماً،
ولوجود (صدام حسين) على رأس النظام به، وهو لا يحظى بقبول عالمي واسع
النطاق خاصة على مستوى الرأي العام الأمريكي، إضافة إلى معاونة العديد من
دول المنطقة العربية في العمليات العسكرية؛ الأمر الذي أدى إلى سرعة انهيار،
ليس فقط النظام العراقي، ولكن جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والأمنية به؛
مما أدى إلى فوضى وتفش شامل لعمليات النهب والسرقة نتيجة الفراغ الذي حدث
بصورة مفاجئة للسلطة!!
وتستهدف الولايات المتحدة من خلال غزوها الناجح للعراق؛ أن يقوم العراق
الجديد بدورين أساسيين في وقت واحد:
أولهما: دور القوة المهيمنة التابعة للولايات المتحدة في الخليج لعزل القوة
الإيرانية عن تفاعلات الشرق الأوسط..
وثانيهما: دور القوة الموحدة لإقليم» الهلال الخصيب «المُشَكَّلَة في العراق
وسوريا ولبنان والأردن، وذلك لتأسيس مثلث تحالف استراتيجي يحكم الشرق
الأوسط، يقوده العراق الجديد (قيادة الهلال الخصيب) وإسرائيل وتركيا.. وذلك
بعد تصفية الوضع السوري واللبناني، وبذلك يمكن حسم مسألة الوحدة العربية،
وعزل مصر عن الخليج والشرق العربي.
هذا، ويتجه التغيير الثالث إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال
التوافق التام بين حكومة» إرييل شارون «وإدارة الرئيس» جورج دبليو بوش «
في مجال الحرب على الإرهاب من ناحية، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل
في الشرق الأوسط من ناحية أخرى، وذلك من خلال قيام الولايات المتحدة
باعتبارها أحد أهم أعضاء اللجنة الأربعة، والتي تضم إلى جانبها روسيا والاتحاد
الأوروبي والمنظمة الدولية، بعد التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية بوضع الأمة
العربية أمام أحد خيارين:
إما خيار السلام.. وله ثلاثة متطلبات رئيسة:
أولها: نبذ العنف وإيقاف الانتفاضة الفلسطينية، وإدانة العمليات الاستشهادية
الموجهة ضد المدنيين بجميع أشكالها.
وثانيها: تغيير القيادات الفلسطينية، خاصة شخص» ياسر عرفات «،
وانتخاب قيادة جديدة قادرة على صياغة السلام ومتطلباته من وجهة النظر الأمريكية.
وثالثها: القبول بقوة أمنية تحل محل الشرطة الفلسطينية التي أخفقت
من وجهة النظر (الأمريكية - الإسرائيلية) في فرض الأمن، وإيقاف أعمال
المقاومة للأجنحة العسكرية والنشطاء من المنظمات الفلسطينية خاصة» حماس،
والجهاد «.
وإما خيار المقاومة: وهذا يعني أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها بكل
الوسائل بما فيها استخدام القوة العسكرية، واجتياح أراضي الضفة الغربية وغزة..
ولها الحق في مطاردة واعتقال المشتبه فيهم والنشطاء من أفراد الشعب
الفلسطيني.. بل وأيضاً تأمين حدودها المشتركة بين الضفة الغربية وقطاع غزة،
وكل من مصر والأردن.
هذا، ويسير طريق السلام وفق المنظور الأمريكي الإسرائيلي نحو إقامة دولة
فلسطينية منقوصة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة؛ في مقابل التنازل عن
حق العودة للاجئين الفلسطينيين، مع وجوب استضافة الدول العربية لهم، وأن
تعمل على إدماجهم في مجتمعاتها، ومنحهم جواز سفر مزدوج» محلي
وفلسطيني «، مع تيسير حصولهم على فرص عمل؛ حتى تكون للدول الناشئة
عائدات كبيرة من مواطنيها المقيمين في الخارج.
تلك هي أبرز اتجاهات التغيير القادم في منطقة الشرق الأوسط، والتي قد
تمتد لتشمل إعادة ترتيب منطقة القرن الإفريقي بفصل الجنوب عن الشمال
السوداني، وتعميق الخلافات بين إثيوبيا والسودان، وبين إثيوبيا وإريتريا، وبين
الفصائل المتصارعة الصومالية من جانب آخر، مع تكثيف الوجود العسكري
الأمريكي الإسرائيلي في مدخل البحر الأحمر في إطار المخطط الشامل للتغيير
المنتظر!!
وفي النهاية أقول: إنه إذا كان هذا العرض للتغيير القادم قد حمل الكثير من
التشاؤم والرؤية المستقبلية القاتمة.. فإن ما دفعني لذلك هو تجسيم حقيقة الأخطار
التي تُخطط للأمة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، سواء على المدى القريب أو
البعيد، وكلها تُعَبِّر عن أحلام وأطماع لاستنزاف الثروات، وتحقيق الهيمنة،
وفرض الإرادة على الأمة، وإعادة صياغتها بالصورة التي تحقق تلك الأوهام
والمصالح.
ومهما كان ما يحمله ذلك التغيير من صدق في النيات، أو كان بهدف الردع
والتخويف؛ فإن علينا أن نأخذ ذلك مأخذ الجد، وأن نعد أنفسنا للمواجهة، فقد
ضاعت فلسطين عام 1948م، وضاعت جمهورية العراق عام 2003م، وأصبح
التغيير القادم لغة يتداولها كبار المسؤولين والحكام، وتتناولها أجهزة البحث العلمي
بالتحليل والدراسة والتفسير!!
إنَّ إدراكنا لهذه المخططات وهذه الأهداف؛ يؤكد الأهمية المطلقة لإعادة تقييم
ما انتهى إليه حال الأمة العربية والإسلامية، وأن يكون الهدف المشترك هو:
(كيف يمكن درء الأخطار، وحماية أمننا القومي مما يُخطط له؟) ، والبداية
الحقيقية هي البحث عن الأسباب التي أدت إلى إهدار مصادر قوتنا، والعمل على
استنفار هذه المصادر الكثيرة والمتعددة، السياسية منها والاقتصادية والعقائدية،
وحتى العسكرية، وتوجيهها توجيهاً مخططاً ومنسقاً في إطار استراتيجية مشتركة
تنفذ على مراحل، تبدأ في إطار الممكن وليس المستحيل، وتُبنى على واقعنا
المعاصر بكل ما فيه من نقاط ضعف، وتسعى إلى تعظيم نقاط القوة وكل عناصر
القدرة المتاحة للإعداد لمواجهة حقيقية وفاعلة وعملية لكل ما يُخطط لنا.
ذلك هو الطريق الوحيد الذي يقف في وجه هذه الأحلام والأطماع!! وخاصة
أن ما تتمتع به أمتنا من أوجه قوة وقدرة يرتعد منها هؤلاء الحالمون، وإدراكهم
لعدم قدرتنا على حشد هذه القوى لمواجهتهم؛ هي التي دفعتهم إلى الإعلان عن تلك
المخططات باسم» التغيير القادم «، والذي أخذ ويأخذ شعارات براقة باسم
» الحرية، والديمقراطية «!!
إن الحقيقة المؤكدة تشير إلى أن هناك تهديداً وأخطاراً قادمة تستهدف أمننا
القومي، وأن الوقت قد حان لاتخاذ كل الخطوات الفاعلة لمواجهتها قبل فوات
الأوان.
__________
(*) المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا، مستشار رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا.(188/34)
ملفات
التغيير القادم
بعد أن ابتعلت أمريكا العراق، هل تستطيع هضمه؟
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
* أضف إلى معلوماتك:
- دخول جيوش وصفت مهمتها بأنها حملة صليبية إلى كابل يعني: تحرير
أفغانستان.
- اقتحام قوات أجنبية لأرض العراق وتوغلها فيه ورفع العلم الأمريكي في
سمائه، يعني: تحرير الشعب العراقي.
ليست هذه هي المعلومات الوحيدة التي أضافتها لنا حملات الفرنجة المعاصرة
على عالمنا الإسلامي؛ فقد اكتشفنا في غمرة الأحداث أن أمريكا التي كنا نظنها أكبر
دولة أقيمت على البراجماتية (النفعية) وأكبر قوة إمبريالية في التاريخ المعاصر،
تلك الدولة التي علمتنا دوماً أن العلاقات بين الدول ينبغي أن تقوم على المصالح لا
المبادئ، اكتشفنا أن هذه (الأمريكا) تنطوي على طاقة هائلة من الشهامة والنبل
والرقة، حتى إنها بدافع هذه المثل ودفع هذه الطاقة تضطر إلى إرسال نحو ربع
مليون جندي من أبنائها إلى أرض تبعد عن وطنهم أكثر من عشرة آلاف كيلو متراً،
وتعريضهم لمخاطر الحروب وويلاتها، وإنفاق ثمانين مليار دولار دفعة أولى
لتكاليف الحرب.. كل ذلك بدافع (الجنتلة) والشهامة لتحرير الشعب العراقي
العزيز على قلب كل أمريكي من طغيان نظام صدام الشمولي المتسلط وقهره،
ولحفظ بترول العراق لصالح رخاء ورفاهية هذا الشعب الحبيب..
* يا لقَهري!!
رجل الشارع - بل رجل الحارة - يعلم أن نظام صدام لم يكن وحده النظام
الشمولي القمعي في العالم ولا في المنطقة: فعلى مرمى حجر من شواطئ أمريكا
الجنوبية يقع في كوبا (نظام كاسترو) الذي لا ينافسه على كأس الشمولية والتسلط
عالمياً إلا نظام (الرئيس المحبوب) - رغم أنف كل كوري شمالي - كيم جونغ
إيل، ولم تحرك أمريكا ساكناً تجاه هذا النظام أو ذاك رغم الاستفزازات العلنية
لأمريكا التي مارسها نظام بيونج يانج في الفترة الأخيرة.
نظام صدام حسين وصل إلى الحكم بطريقة (غير ديمقراطية) ، ولكنه ليس
وحده المنعوت بهذه الصفة في المنطقة؛ فمعظم أنظمة المنطقة وصلت إلى الحكم إما
بانقلابات (عسكرية أو أسرية) وإما بانتخابات لا يضاهيها في هشاشتها والتشكك
في نتائجها إلا الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، ومعظم هذه الأنظمة مستمرة
ومستقرة في الحكم بمعادلات الحديد والنار ونظريات العصا والجزرة ... ولو ضلت
بعض البوارج الحربية طريقها إلى رأس خليج البترول ورست عشوائياً في أحد
موانئ ساحل الشمال الأفريقي المارة عليها لما كان هناك كبير فرق بين وجهتها وما
رست عليه.
أضف إلى ذلك: أن صدام حسين لم يُعط الفرصة المناسبة حتى يحقق لشعبه
الديمقراطية التي تطلبها أمريكا الآن من أنظمة المنطقة، فهو لم يمكث في السلطة
إلا ما يزيد بقليل عن نقطتين زمنيتين (باعتبار أن الوحدة الزمنية التي ارتضتها
أمريكا لمكوث زعماء هذه المنطقة تحتسب بالعقد وليس بالسنة) وهي مدة غير
كافية لتهيئة مثل هذه الشعوب لتقبل مثل هذه (المخترعات الحديثة) .
وإذا كان نظام صدام البعثي العشائري المتسلط.... سبق له أن قمع بعض
شعبه الثائر أو المتمرد عليه بالكيماوي (الأمريكي) ، فإن بجواره نظاماً بعثياً
طائفياً متسلطاً آخر دك بعض شعبه بالطائرات المقاتلة والمدفعية الثقيلة في حماة
سنة 1982م، فقتل منهم ما شاء الله لا قوة إلا بالله من عشرين ألف إلى أربعين
ألف مسلم، ناهيك عن (مذبحة تل الزعتر) بالتعاون مع المليشيات الصليبية
اللبنانية عام 1976م التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف مسلم فلسطيني
ولبناني، و (مذبحة حلب 1981م) ؛ و (مذبحة طرابلس 1983م) .. ومع ذلك
فإن الرقة والشهامة الأمريكية في سبات عميق؛ لأنها لم تكن تريد سورية وقتها،
ولعلها تستيقظ (وتتذكر) هذه المآسي عندما يحين وقت تأجج المشاعر الأمريكية
الفياضة تجاه الشعب السوري الذي سوف يكون وقتها عزيزاً!
العراق لم يعتد على أي من طرفي التحالف، كما أنه لم يكن يمثل أي تهديد
مباشر لأراضيهما؛ فمن المعلوم أن العراق بعد هزيمته في (أم المعارك) حظر
عليه امتلاك أي صواريخ يتعدى مداها 150 كيلو متراً، وهذا يعني أن العراق إذا
أراد أن يطلق أقوى صواريخه على أمريكا مثلاً فإن هذا الصاروخ بحاجة إلى
التوقف (ترانزيت) في أكثر من ثلاثين محطة ليسقط في مياه الشواطئ الشرقية
للمحيط الأطلنطي (بعيداً عن الجزيرة البريطانية) ، وعند حدوث ذلك يمكن
لأمريكا الصراخ بأن صدام عكَّر عليها المياه التي سوف تصل إلى سواحلها بعد
مسيرة 4500 كيلو متراً.
وحتى إذا أخذنا في الاعتبار حرص أمريكا على ربيبتها المدللة (إسرائيل)
فإن أقرب نقطة بين الحدود العراقية الغربية وحدود فلسطين الشرقية تعادل ضعف
مدى أبعد صاروخ مسموح للعراق بامتلاكه، كما أنه من الثابت تاريخياً أن بوصلة
هذا النظام كانت دائماً مصابة بانحراف حاد، جعلت طريقه إلى القدس يمر بطهران
أو الكويت أو أي اتجاه آخر خلاف جهة الغرب!
أما ما قيل عن أسلحة دمار شامل، فإن هذه الأقاويل تبقى مزاعم نفتها تقارير
لجنة التفتيش الدولية برئاسة (هانز بليكس) و (محمد البرادعي) مقابل إثباتها
لتلفيق تقارير أمريكية مزورة تدعي سعي العراق لامتلاك أسلحة دمار شامل..
وحتى كتابة هذه السطور لم يستطع الحليفان تدبير أدلة أكثر حبكة وغير مستبعد ولا
مستصعب أن تلجأ إلى التدبير إذا لم تجد شيئاً لإثبات هذه المزاعم وإضفاء بعض
المصداقية على مزاعمها ومسوغاتها لشن الحرب.
ومن جهة أخرى فإن أمريكا إذا كان يؤرق ضميرها ومشاعرها وجود أسلحة
دمار في المنطقة فإنه معلوم للجميع أن (إسرائيل) تعد مباءة لأسلحة الدمار الشامل
بجميع أنواعها الذرية والكيماوية والبيولوجية، وهي كيان عدواني من أصحاب
السوابق؛ حيث اعتدى بالاحتلال أو الإغارة على خمس دول على الأقل، كما أنه
ما يزال يحتل أراضي غيره باعتراف الأمم المتحدة، فضلاً عن ممارساته العدوانية
اليومية الهمجية ضد شعب محتل أعزل..
فلماذا إذن لم تستثر نوازع الشهامة والنبل والرقة إلا تجاه الشعب العراقي
لتخليصه وحده دون سائر الشعوب المقهورة من طغيان نظام صدام حسين الجائر؟!
* مخطط قديم:
إن أي متابع لتحركات أمريكا وأهدافها في المنطقة يدرك بوضوح أن التفكير
في غزو أمريكي عسكري والتمركز في هذه المنطقة لم يكن وليد اللحظة التي
نعيشها، وأنه لا علاقة له بتسلط صدام حسين ونظامه ولا حتى بوصول بوش الابن
إلى سدة الرئاسة الأمريكية، صحيح أن وجودهما ساعدا على إخراج هذا السيناريو
بهذه الصورة وفي هذا الظرف، ولكنهما لم يكونا السببين الحقيقيين في الرغبة
الأمريكية في التمركز في المنطقة بهذا الشكل المباشر؛ فهناك مصالح أمريكية
استراتيجية، واتجاه توسعي إمبريالي أنبت هذا المخطط في أركان البيت الأبيض
بغض النظر عمن يجلس فيه وعن الصورة التي كان سينفذ بها هذا المخطط.
وإذا تحدثنا عن هذا المخطط من منظور الدوافع الاقتصادية وخاصة النفطية
مع عدم تقليلنا من أهمية الدوافع الأخرى لهذا الاستهداف، فإنه يتضح أن هناك
ثلاث محطات رئيسية في هذا المخطط قبل أن يصل إلى هذا المشهد الذي نعيشه:
المحطة الأولى، إبان حرب 1973م: وذلك حين اجتمع وزراء البترول
العرب في دولة الكويت في 17/10/1973م بعد بداية الحرب مع (إسرائيل) ،
وتم الاتفاق بينهم على تخفيض الإنتاج الكلي للبترول العربي بنسبة 5% فوراً، مع
زيادة التخفيض بنسبة 5% شهريّاً حتى تنسحب (إسرائيل) إلى خطوط ما قبل 4
يونيو 1967م.
هذا إضافة إلى قرار ست دول بترولية برفع سعرها بنسبة 70%، كما
قررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول كلية إلى الدول التي يثبت تأييدها
لإسرائيل بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد كان هذا القرار بمثابة الإنذار الأول بأن في استطاعة العرب والمسلمين
(خنق) أمريكا وأوروبا وهدم اقتصادها ونمط الحياة فيها متى أرادوا ذلك.. وعلى
الفور انتبهت أمريكا إلى ذلك، ويذكر اللواء الدكتور زكريا حسين أستاذ الدراسات
الاستراتيجية المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا [*] ، أن دراسات
ووثائق أعدتها مكتبة الكونجرس الأمريكي، إضافة إلى تقارير أعدتها وزارة الدفاع
الأمريكية عن المحاولات الأمريكية السابقة لغزو الخليج العربي، نشرها الدكتور
«أنتوني كوردسمان» كاملة في كتابه «الخليج والغرب» الذي صدر في لندن
مع مطلع الألفية الجديدة.. كان منها دراسة قام بها «توماس مورجان» الذي
عُيِّن على رأس لجنة فرعية لدراسة احتمال القيام بعمل عسكري ضد دول منتجة
للنفط في حالة فرضها حظراً نفطيّاً، وتقييم الخيارات المتاحة أمام السياسة الأمريكية
في حال نشوب مثل هذه الأزمة، وقد قدمت الدراسة إلى لجنة العلاقات الدولية
في مجلس النواب الأمريكي في 5/8/1975م.
ومن أهم ما يثير الدهشة عند استقراء هذه الوثائق لمكتبة الكونجرس، أن
رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية قد ساهموا بحماس شديد في وضع هذه
الاستراتيجية موضع التنفيذ؛ فقد قام الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» بوضع
نواة وهيكل بناء قوة الانتشار السريع الأمريكية اللازمة لوضع هذه الاستراتيجية
موضع التنفيذ، وساهم الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» بالجزء الأكبر من
بنائها والتخطيط لاستخدامها، ثم قام الرئيس «جورج بوش» الأب بالاستخدام
الاستراتيجي المخطط لها في عمليات الحشد العسكري في الخليج.
ولعل نشر التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأمريكية عن السنة المالية 1976م
والذي قدمه «جيمس شليزنجر» وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الوقت يُعَدُّ من
أخطر الوثائق التي توضح تفصيلاً الاستراتيجية العسكرية الأمريكية لتأمين منابع
النفط الخليجية.
وفى دراسة نشرتها مجلة «فورتشون» الأمريكية في مايو 1979م بعنوان
(التدخل العسكري في منابع النفط) جاء فيها: «لقد أوضح كل من براون (وزير
الدفاع) وبريجنسكي (مساعد الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي) مؤخراً أن
الولايات المتحدة ستتخذ خطوات بينها استخدام القوات العسكرية الأمريكية لحماية
مصالحنا في (الخليج) » .
وذكرت مجلة «شؤون فلسطينية» العدد 112، مارس 1981م عن الدراسة
نفسها أنه جاء فيها أنه من بداية السبعينيات وبخاصة بعد حرب رمضان «بدأت
المصادر العسكرية الأمريكية تتحدث بوضوح عن أنه إذا تعاظم اعتمادنا على النفط
الخارجي أو تدهورت سيطرتنا في السياسة الخارجية والنفوذ الدولي فإن البديل قد
يكون إرسال حملة عسكرية إلى الشرق الأوسط تجعل فيتنام تبدو بالمقارنة كنزهة» .
ويقول الرئيس نيكسون في مذكراته التي كتبها سنة 1983م: «أصبحت
الآن مسألة من يسيطر على ما في الخليج العربي والشرق الأوسط تشكل مفتاحاً
للسيطرة على ما في العالم» ، ويقول في موضع آخر: «.. وينبغي علينا أن
نكون على استعداد وراغبين في اتخاذ أي إجراءات بما في ذلك الوجود العسكري
من شأنها أن تحمي مصالحنا» .
وفي هذا السياق يذكر أيضاً أنه عقب الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه
زادت المخاوف الأمريكية من التهديد الإيراني (للخليج) ، الأمر الذي دفع الرئيس
الأمريكي جيمي كارتر للإعلان في 23/1/1980م في خطاب له أمام الكونجرس
الأمريكي عن نظرية أمن صريحة بالنسبة لمنطقة الخليج تضع كافة الدراسات
والوثائق والمناقشات التي تمت سواء في لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب
الأمريكي، أو في جلسات الاستماع للجنة الفرعية للسياسة الاقتصادية الخارجية
التابعة للجنة الشؤون الخارجية بنفس المجلس موضع التنفيذ؛ وهو ما عرف بمبدأ
كارتر، الذي ينطوي على شقين:
أحدهما: شق سياسي، أعلنه الرئيس كارتر رسميّاً؛ فقال: «إن أي محاولة
من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف تعتبر في
نظر الولايات المتحدة هجوماً على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده
بكل الوسائل بما فيه القوة المسلحة» .
أما الشق الثاني: فهو تكملة عسكرية للإعلان السياسي، وقد تمثل في إنشاء
ما يسمى «قوة الانتشار السريع» من خلال تقرير قدمته وزارة الدفاع عام 1988م
إلى لجنة القوات المسلحة في الكونجرس، أعدت على أساسه ميزانية هذه القوات
لتلك السنة؛ وقد وقف الجنرال كولن باول رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة
للقوات المسلحة الأمريكية (وزير الخارجية الحالي) يدافع عنها أمام لجنة العلاقات
الخارجية في 1/3/1990م، حيث قال: «يجب أن ننظر إلى التاريخ وإلى
الحوادث الجارية وعيوننا على المستقبل، ومهما كانت الظروف فإن هدفنا لا يمكن
أن يصبح حلّ أو تفكيك القوة الأمريكية، إنني تولّيت منصبي كرئيس لهيئة الأركان
في الحرب آملاً أن أساعد في تشكيل القوة الأمريكية لمواجهة تحديات المستقبل،
وليس لأقوم بتسريح الجيش الأمريكي، وأُضعف موقف الولايات المتحدة في
العالم» .
وقد كان قرار إنشاء قوة «التدخل السريع» يقضي بأن تتمركز هذه القوة في
الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، على أن تكون جاهزة لكي تحمل جوّاً وبحراً إلى
منطقة الخليج عند أي طارئ، وبذلك تكون الولايات المتحدة مستعدة، وتكون قواتها
مخصصة لحماية الخليج على أراضيها، وقد أطلق على قيادة هذه القوات قيادة
المنطقة المركزية، وشكلت من 291.600 فرد.
وفي منحى استهداف العراق تحديداً يذكر الخبير الاستراتيجي أحمد السيد
النجار أن وزير الطاقة الأمريكي الأسبق «جون هارنجتون» كان قد أعلن في عام
1987م أن العراق يعوم على بحيرة من النفط وأن احتياطياته ربما تفوق
الاحتياطيات السعودية الضخمة التي تبلغ نحو ربع الاحتياطيات العالمية المؤكدة من
النفط، ويواصل الخبير قوله: وفي هذه الحالة إذا استطاعت الولايات المتحدة
السيطرة على العراق ونفطه من خلال الغزو ووضع حكومة عميلة هناك، فإنها
يمكن أن تتحكم في حجم الإنتاج العالمي من النفط من خلال مضاعفة حجم الإنتاج
العراقي، ويمكنها بذلك أن تعمل على خفض أسعاره بشكل كبير بما يحقق مصالحها
كأكبر دولة مستهلكة ومستوردة للنفط في العالم، حتى لو أدى ذلك إلى تدهور
اقتصادي يصل إلى حد الكارثة بالنسبة للدول المصدرة الرئيسية للنفط.
ولكن مع ذلك لم تجد أمريكا حتى تلك اللحظة الذريعة المناسبة التي تبدأ بها
تنفيذ هذا المخطط حتى قدمها لها العراق نفسه، أو بالأحرى صدام حسين ونظامه.
المحطة الثانية، غزو الكويت سنة 1990م: في نهاية الثمانينيات حدثت
أزمة نفطية عانت فيها شركات النفط الأمريكية من شبح الإفلاس، وفي شهر مارس
1990م قبل غزو الكويت بأربعة أشهر وأيام نشرت جريدة الحياة اللندنية جانباً من
تقرير أمريكي بعنوان: (التقرير الأمني السنوي لمجلس الأمن القومي الأمريكي)
جاء فيه: «إن المصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الوسط المتمثلة أساساً في
مصادر الطاقة والعلاقات الأمريكية القوية مع بعض دول المنطقة تستحق وجوداً
أميركياً مستمراً وربما معززاً في المنطقة» ، وجاء فيه كذلك: «.. وإن الولايات
المتحدة ستحافظ على وجود بحري لها في شرق البحر المتوسط وفي منطقة الخليج
والمحيط الهندي ... وستسعى إلى دعم أفضل للأسطول من الدول المحيطة وإلى
خزن معدات سلفاً في مختلف أنحاء المنطقة!» .
فرغم أن المشروع السابق ذكره وضع في أواخر السبعينيات، إلا أن أمريكا
لم تجد الذريعة المناسبة لأن يكون لها موطئ قدم في الخليج، حتى كان لها ذلك في
2/8/1990م عندما غزا نظام صدام حسين الكويت، فأوجد المسوغ المطلوب لزرع
القوات الأمريكية في المنطقة، ليس فقط لتأمين منابع النفط، بل لحماية المصالح
الأمريكية بشكل عام في منطقة الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك: فإن صدام حين احتل الكويت زاد مخزونه النفطي تلقائياً
زهاء 200 مليار برميل، ثم رفض اقتراح «أوبك» بتسعير البرميل بـ 18
دولاراً وفرض عليها 23 دولاراً للبرميل الواحد، فأثبت أنه قادر على الضغط
والتحكّم بسعر البترول، أي: التحكّم بالشركات الكبرى وبالاقتصاد العالمي المرتبط
بالبترول، وبذلك أعطى للإدارة الأمريكية مزيداً من البراهين على المخاوف التي
دعتها إلى وضع المخطط المشار إليه ودعاها أكثر إلى الجدية والإلحاح في تنفيذه.
وفي شهر سبتمبر 1990م أي بعد احتلال العراق للكويت بقليل نشرت
صحيفة لوس أنجلوس تايمز مقالة للسفير الأمريكي السابق في الرياض جيمس إكنز
بعنوان: (الآن ومع وجود القوات الأمريكية حول حقول النفط هل ندع الفرصة
تفوتنا؟) ، جاء فيها: «إن الذين عملوا والذين يعملون حالياً في الحكومة
الأمريكية ومن ضمنهم كيسنجر الذي كان جادّاً في موضوع احتلال آبار النفط في
عام 1975م لا بد أنهم يرون الآن عدم ترك هذه المصادر غير العادية بعد أن
أصبحت تحت سيطرتنا» .
وبعد انتهاء الحرب قدم «بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الأمريكي
الآن) عام 1993م إلى البنتاجون وثيقة تحت عنوان «الاستراتيجية الأمريكية
الشاملة» ، وقد تم تنقيح هذه الوثيقة وتعميقها فيما بعد، قبل نشرها عام 1997م
بما عُرف في الصحافة العالمية بـ «وثيقة البنتاجون» ، وهي وثيقة سرية للجناح
اليميني من الحزب الجمهوري الأمريكي محتواها هو خطط الهيمنة على نفط الشرق
الأوسط.
وقد أعادت هذه الوثيقة تعريف التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة وسبل
مواجهتها لكي تبقى قوة عظمى منفردة لمدة قرن كامل من الزمن، وتضمنت
ضوابط شديدة لمنع أي قوة إقليمية من أن تتحول إلى قوة كبرى، حتى على مستوى
إقليمها، من ناحية أخرى: فقد طرحت الوثيقة ضرورة بناء خرائط جديدة للشرق
الأوسط بمفهومه الواسع.
وفي شأن آخر ذي صلة بالموضوع قدم جون ماريا نائب رئيس مؤسسة
يونوكل النفطية للعلاقات الدولية في 12/2/1998م شهادة إلى لجنة الكونجرس
الأمريكي يبين فيها أهمية وجود حكم ملائم لأمريكا ومستقر في أفغانستان من أجل
استثمار مشاريع النفط والغاز في المنطقة.
وانطلاقاً من «وثيقة البنتاجون» المشار إليها سابقاً أعد الجناح اليميني في
الحزب الجمهوري خطّة لشن الحرب على العراق في سبتمبر 2000م أي قبل
استلام بوش الابن لمقاليد الرئاسة وقد صاغ هذه الخطة «ديك تشيني» (نائب
الرئيس الأمريكي الآن) ، و «دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع الآن) ،
و «بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الآن) ، و «جيب بوش» (أخو
الرئيس جورج بوش الحالي) ، و «لويس ليبي» (رئيس هيئة الأركان على
عهد «تشيني» ) ، وتكشف هذه الخطة هدف أمريكا الحقيقي من وراء احتلال
العراق، حيث تشير إلى أن «الولايات المتحدة سعت على مدى عقود للعب دور
دائم في حفظ الأمن الإقليمي في الخليج. ورغم أن النزاع غير المحلول في
الخليج يوفر المسوغ المباشر [لضرب العراق] ، فإن الحاجة إلى وجود عسكري
أمريكي مكثف في المنطقة تتجاوز قضية نظام صدام حسين» ، وبمعنى آخر،
إذا لم يكن «صدام» هناك، فإن على الولايات المتحدة إيجاد مسوِّغ آخر لاحتلال
العراق لإحكام سيطرتها على ثرواته النفطية!
المحطة الثالثة، أحداث سبتمبر 2001م: يمكن القول إنه بعد أحداث
سبتمبر التي أعلن فيها عن نجاح تنظيم القاعدة بهدم برجي التجارة العالميين في
نيويورك والهجوم على مبنى البنتاجون في واشنطن إن صح ذلك اختلطت المطامع
بالمخاوف وتأكدت الرغبة ووجد المسوغ الذي يمكن إعلانه في وجود دائم للقوات
الأمريكية فيما يسمى منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن القدرة على ضرب أمريكا في
عمق أراضيها وفي رموزها الحيوية يعني تلقائيّاً القدرة على تهديد مصالحها في
مناطق أخرى لا تخضع لسيطرتها، وعزز ذلك ما أعلن من بيانات زعيم تنظيم
القاعدة بعزمه على إخراج أمريكا من (جزيرة العرب) وتهديد مصالحها في تلك
المنطقة (الخليج) ..
وهكذا أصبحت الفرصة مواتية لأمريكا لضرب سرب من العصافير بحجر
واحد كما تصورت تلك الإدارة رغم أن معلومات كانت تسربت من قبل تلك
الأحداث تؤكد أن واشنطن أعدت خطة عسكرية لغزو أفغانستان منذ سنوات طويلة
للسيطرة على نفط المنطقة وخاصة بحر قزوين، وكانت تنتظر الذريعة المناسبة
لهذا التدخل، فجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر على طبق من ذهب لتسرع
من عملية تنفيذ المخطط الأمريكي للسيطرة على نفط العالم مباشرة وليس بالوساطة..
فكان غزو أفغانستان بمثابة وضع أمريكا لمحور ارتكازها الأول في الطرف
الشرقي من قوس النفط العظيم، ثم كان لا بد من إكمال المخطط وارتكازها في
الطرف الغربي من هذا القوس، وهكذا وجدنا أن الإشارات تتكثف والتطورات
تتسارع في هذا المنحى.
فلقد جاء ضمن نصوص استراتيجية الأمن القومي الأمريكي المنشورة في
20/9/2002م (أي بعد غزو أفغانستان وقبل الحرب على العراق) ما يلي:
«لقد طورت الولايات المتحدة استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز التجارة
الحرة: ...
9 - تعزيز أمن الطاقة، سوف نقوي أمن طاقتنا والازدهار المتشارك
للاقتصاد العالمي، وذلك من خلال العمل مع حلفائنا، وشركائنا التجاريين،
ومنتجي الطاقة؛ لتوسيع مصادر وأنواع الطاقة العالمية المزودة، وبالأخص في
النصف الغربي من الكرة الأرضية، وإفريقيا، وآسيا الوسطى، ومنطقة بحر
قزوين، سوف نستمر في العمل أيضاً مع شركائنا لتطوير تكنولوجيات لطاقة أكثر
نظافة وفعالية» ، وجاء فيها أيضاً:
«علينا أن نكون مستعدين لوضع حد للدول المارقة وعملائها من الإرهابيين
قبل أن يتمكنوا من تهديدنا أو استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة
وحلفائنا وأصدقائنا، وردنا يجب أن يستفيد كلياً من التحالفات المعززة، ومن إقامة
شراكات جديدة مع أعداء سابقين، ومن ابتكار أساليب متجددة في استخدام القوة
العسكرية والتكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك تطوير نظام دفاعي صاروخي فعال،
وزيادة التركيز على جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها» .
«لقد استغرقنا الأمر عقداً من الزمن تقريباً لاستيعاب الطبيعة الحقيقية لهذا
التهديد الجديد. وانطلاقاً من أهداف الدول المارقة والإرهابيين، لن تستطيع
الولايات المتحدة بعد الآن أن تعتمد فقط على سياسة رد الفعل كما فعلنا في الماضي؛
فعدم القدرة على ردع معتد محتمل، والطبيعة الملحّة للتهديدات اليوم، وحجم
الضرر المحتمل الذي قد يتسبب به اختيار العدو للأسلحة، لا يسمح لنا بذلك الخيار،
لا يمكننا السماح للأعداء بأن يضربوا أولاً» .
ولا نستطيع أن نفصل تلك الإشارات في وثيقة استراتيجية الأمن القومي عام
2002م، عن إعلان أميركي آخر صدر في أوائل الثمانينيات يؤكد على أن حدود
الأمن القومي هي آخر قطرة نفط في آبار منطقة الخليج العربي.
ثم توالت الإشارات في اتجاه استهداف العراق عسكريّاً، حيث أعلن المسؤول
في وزارة الخارجية الأمريكية «ستيف مان» خلال مؤتمر في نيويورك عقد في
شهر 11/2002م أن «احتياطيات النفط في بحر قزوين ليست بالقدر الكافي
لتشكل منافساً لنفط دول الخليج» .
وبعد ذلك صرح وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في 22 يناير الماضي
بأن احتلالاً عسكرياً سيتم للعراق وأن البترول هو أمانة للشعب العراقي وستتم
حماية حقول النفط، وفي اليوم التالي لتصريحات باول نقلت صحيفة (الغارديان)
البريطانية عن مصادر قولها: إن اجتماعاً مهماً عقد في أكتوبر الماضي بين
مسؤولين كبار في مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني وشركات نفطية مهمة
هي «إكسون موبايل» و «شيفرون تكساكو» و «كوكوفيليبس»
و «هاليبورتون» لدرس آفاق الصناعة النفطية في العالم بما في ذلك الوضع
العراقي.
ثم توالت بعد ذلك الخطوات والتصريحات والأحداث التي يعرفها جميع
المتابعين عن خطوات أمريكا (لتحرير الشعب العراقي من نير نظام صدام) .
وبعد سقوط بغداد جاء في الأخبار: «كشفت صحيفة نيويورك تايمز
الأمريكية عن خطط لعقد اتفاقات عسكرية أمريكية طويلة الأمد مع الحكومة الجديدة
في العراق، وذلك وصولاً إلى إقامة قواعد عسكرية أمريكية في الأراضي العراقية،
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين أن واشنطن تنوي الاحتفاظ بأربع قواعد
عسكرية في العراق لاستخدامها في المستقبل: الأولى في مطار بغداد الدولي،
والثانية في تليل قرب الناصرية، والثالثة في مكان معزول في صحراء غرب
العراق تسمى H-1 بمحاذاة خط أنابيب النفط بين العراق والأردن، والرابعة في
باشور شمال العراق، وأن القوات الأمريكية تستخدم بالفعل هذه القواعد حالياً،
وتخطط للبقاء فيها لاستخدامها في أي أزمات قد تحدث في المستقبل.
وكانت الولايات المتحدة قد كشفت للمرة الأولى عن خططها لوجود طويل
الأمد في العراق، وقال بول وولفويتز، مساعد وزير الدفاع الأمريكي دونالد
رامسفيلد والرجل الثاني في البنتاجون: إنه يرى إمكانية إنشاء قواعد عسكرية في
العراق الذي سيصبح بلداً خليجياً صديقاً جديداً لأمريكا، وأوضح قائلاً:» الحقيقة
الأساسية هي أن إزاحة هذا النظام ستمنح الولايات المتحدة حرية أكثر للحركة في
الخليج «، وبالطبع لسنا بحاجة لمعرفة دوافع وزير الحرب رامسفيلد الذي نفى
صحة الخبر فيما بعد؛ فالأمر قد أوضحوه سابقاً.
* ماذا يعني احتلال أمريكا للعراق؟
نذكر أولاً أن حديثنا الآتي عن الأبعاد والاحتمالات المتوقعة لا يعني حتمية
وقوعها، كما لا يعني وقوعها كلها لو وقعت في الزمن القريب.. فماذا يكون إذا
استقر الأمر لأمريكا وحققت ما ترنو إليه في المنطقة؟
هناك عدة أبعاد يمكن النظر إليها وأخذها في الاعتبار بهذا الخصوص، منها:
- أن أي قوة إمبريالية توسعية يهمها السيطرة على طرق المواصلات - بما
فيها الممرات والمضايق - التي تربط بين أماكن مصالحها الحيوية والوطن الأم،
وهذا ما فعلته بريطانيا عندما كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وكانت
مصالحها الحيوية تتركز في الهند ومصر وشرق البحر الأبيض المتوسط، فنجد
أنها سيطرت على مضيق باب المندب عبر احتلالها لعدن، وقناة السويس في
مصر باحتلال مصر، ومضيق جبل طارق عبر إقامتها قاعدة عسكرية في جبل
طارق (6.5 كم2) بموجب معاهدة» أوتريشت «سنة 1713م ثم استعماره سنة
1830م، بينما لم تلتفت كثيراً لمضيق هرمز بالخليج العربي مع عدم إهماله أيضاً
لأنه لم يكن له أهمية كبرى حينها؛ لأن البترول لم يكن له الأهمية نفسها الآن ولم
يكتشف بكميات كبيرة في المنطقة حينها.. والأمر نفسه تقوم به أمريكا الآن
بخصوص الممرات والمضايق وطرق المواصلات التي تهمها؛ فمع سيطرتها على
مضيق هرمز (يمر به 15.5 مليون برميل يومياً، بحسب تقديرات عام 1998م)
تسيطر أمريكا أيضاً على مضيق باب المندب (3.3 ملايين برميل يومياً) عبر
قواعدها في جيبوتي وإريتريا، ولا يبتعد عن ذلك محاولتها التدخل في الصومال
وجنوب السودان، وعلى قناة بنما التي سيطرت عليها سيطرة عسكرية مباشرة لمدة
85 عاماً (حتى 31/12/1999م) ، وبسبب أهميتها الاستراتيجية أبقت فيها
حوالي 60 ألف جندي خلال الحرب العالمية الثانية وعشرات الآلاف خلال فترة
الحرب الباردة، وبعد تسليمها حرصت على وجود نظام موال لها دائماً فيها، كما
أنها تحاصر قناة السويس (3.1 ملايين برميل يومياً) بدعوى مراقبة الحظر الذي
كان مفروضاً على نظام العراق السابق إضافة إلى قرب وجود أقرب حلفائها في
المنطقة (إسرائيل) منها، أما مضيق جبل طارق (يمر منه سدس التجارة البحرية
العالمية وثلث التجارة النفطية) فهو يخضع للسيطرة البريطانية والإسبانية وكلاهما
حليفان لواشنطن وعضوان في حلف الأطلسي، ولأمريكا قواعد في روتا ومورون
الإسبانيتين على بعد 4 كيلو مترات من الجبل، إضافة إلى أنها تستخدم القاعدة
البريطانية في صخرة الجبل، ولا يتبقى من المضايق والممرات المائية العالمية
سوى خليج البوسفور في تركيا ومضيق ملقا بين ماليزيا وإندونيسيا وهما لا
يمثلان أهمية حيوية لأمريكا ومع ذلك هما تحت حماية دول حليفة أو صديقة
لأمريكا..
وإضافة إلى محاولات أمريكا للسيطرة على الممرات وطرق المواصلات
العالمية عبر قوات (حراسة) لها تضمن عدم حدوث أي تقلبات أو اضطرابات
تؤثر على أدائها، فإنها تحرص على تنصيب حكومات مرتبطة بها حول تلك
الطرق والممرات.
وبخطوة احتلال العراق تكون أمريكا قد رسخت وجودها في منطقة
استراتيجية تطل منها على عدة مناطق مهمة في القارات الثلاث، وتلتقي فيها أو
تقترب منها طرق وممرات دولية بقدر التقاء مصالح أطراف دولية أيضاً؛ فالقوى
التي ستسيطر على هذه المنطقة سيكون لها ضمان أمنها الاقتصادي الاستراتيجي
إضافة إلى القدرة مستقبلاً على تسيير دفة الاقتصاد العالمي طبقاً لمصالحها الخاصة،
ومن هنا نستطيع فهم تحركات أمريكا في آسيا الوسطى وأفغانستان وأخيراً الخليج
والعراق؛ فموقع العراق الملاصق للخليج العربي والقريب من منطقة بحر قزوين،
والطرق التي سيعبر منها النفط المستخرج منها، سواء شرقاً عبر باكستان
وأفغانستان أو غرباً عبر تركيا، ووجود القوات البحرية والجوية التي ستتمركز في
هذه المنطقة.. سيضمن السيطرة الأمريكية على كل ما يسمى بالشرق الأوسط
الكبير، وإذا حدث ذلك فإن هذه السيطرة الأمريكية منفردة على تلك المنطقة الحيوية
سوف يهدد مصالح أطراف دولية أخرى يهمها أن يكون لها أيضاً وجود فاعل ومؤثر
في هذه المنطقة التي تلتقي فيها مصالح أطراف عدة.
- يضاف إلى ذلك البعد: الحديث عن أهمية ثروة العراق النفطية؛ فرغم أنه
لا يمكن إنكار تزايد حاجة الولايات المتحدة نفسها للنفط، وضآلة الاحتياطي
الأمريكي المؤكد وهو ما سبق ذكره إلا أنه من المعروف أيضاً أن اعتماد أوروبا
وآسيا على نفط منطقة الخليج أكثر بكثير من الاعتماد الأمريكي عليه (يصل
الاعتماد الياباني على منطقة الخليج إلى 85% من مجمل استهلاكها) ، كما أن
بعض القوى الأخرى ذات النمو السريع التي قد تكون مناوئة مثل الصين يتزايد
اعتمادها أكثر فأكثر على استيراد النفط، خاصة مع تزايد معدلات نموها الصناعي
التي تتجاوز 12% سنوياً.
ومن المعروف أن ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط تشمل المنطقة العربية التي
تملك 60% من احتياطي النفط العالمي، مضافاً إليها احتياطي النفط الإيراني
واحتياطي نفط منطقة بحر قزوين، وهذا يعني أنه باحتلال أمريكا للعراق
وسيطرتها على نفطه إضافة إلى السيطرة الأمريكية المطلقة على كل حقول النفط
من كازاخستان في الشمال وحتى الخليج إذا تحقق لها ما تريد.. تكون قد سيطرت
على أكثر من 90% من احتياطي النفط العالمي، وعندما تسيطر أمريكا على هذا
الاحتياطي فمعنى ذلك أنها تحكمت بمصادر الطاقة العالمية العصب الوحيد الآن
للصناعة والتنمية، أي إنها وضعت يدها على أصل استراتيجي كبير في مواجهة
منافسيها وخصومها المحتملين في العالم وخاصة في أوروبا وآسيا.
أما عن مكانة منظمة أوبك حينئذ، فحسب جريدة (الفاينانشال تايمز) :
» إنه بوصول الشركات الأمريكية واعتماداتها المالية الجبارة إلى العراق،
سيتمكن البلد من مضاعفة قدراته الإنتاجية للنفط الخام لتصل إلى 7 ملايين برميل
في اليوم، وهذا سوف يدق ناقوس الخطر حيال السقف الإنتاجي المتفق عليه في
منظمة الأوبك ويؤذن بزوالها؛ فمن شأن مثل هذا الاحتلال بالقوة للنفط العراقي أن
يغرق السوق النفطية العالمية بكميات هائلة من النفط بأسعار رخيصة مما سينسف
سياسة الحصص التي تفرضها هذه المنظمة الدولية للمحافظة على استقرار
الأسعار في السوق النفطية العالمية، وبالنتيجة ستستفيد الولايات المتحدة
الأمريكية من هذا التدفق الهائل للنفط العراقي الرخيص إلى الأسواق لانتشال
الاقتصاد الأمريكي المنهار من السقوط، وهذا هدف تريد الولايات المتحدة
الأمريكية تحقيقه بكافة السبل وبأي ثمن كان « (د. جواد بشارة - الزمان اللندنية
- 2/10/2002م) ، وهذا يعني عمليّاً تحطيم أوبك أو على الأقل تهميش دورها
وشل قدرتها إلى أبعد حد.
وعندما تستطيع الولايات المتحدة فعل ذلك تستطيع الهيمنة على سوق النفط،
ومن ثم امتلاك زمام المبادرة في تحديد سعره وكيفية توزيعه، وهذا ما يمكّنها من
جعل الدول الأخرى المعتمدة على البترول تحت رحمتها في أي وقت، بل يمكن أن
تقود أمريكا هذه الدول إلى الإفلاس متى شاءت، وقد أشارت مجلة» فورين
ريبورت «في عدد أخير لها أن» الولايات المتحدة في استراتيجيتها الجديدة تريد
أن تسيطر بصورة كاملة غير منقوصة على النفط وأنظمته بطريقة تسمح لها
باستخدامه سلاحاً في صراعها السياسي الاقتصادي مع القوى الرأسمالية المنافسة
الأخرى ... «.
وذلك مما سيضع حداً للحلم الأوروبي في منافسة القوة الاقتصادية والسياسية
الأمريكية؛ فالذي يسيطر على النفط يسيطر على الاقتصاد، وكل ذلك مما سيؤثر
على اقتصاديات هذه الدول ويؤثر على الخريطة الاقتصادية الدولية.
- وهناك أطراف دولية كان لها مصالحها الخاصة في عراق ما قبل الاحتلال
وجدت نفسها ومصالحها في مهب الريح بعد احتلال أمريكا للعراق، وعلى رأس
هذه الدول تقف روسيا وفرنسا؛ فمعظم تسليح الجيش العراقي كان من هاتين
الدولتين وخاصة من روسيا، كما أن هاتين الدولتين استطاعتا الحصول في عهد
صدام حسين على عقود نفطية كبيرة ومنافسة.
وإذا استعرضنا خسائر روسيا الاقتصادية على سبيل المثال جراء الاحتلال ثم
السيطرة الأمريكية على العراق، فتكفي الإشارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين
موسكو وبغداد بلغ مليارين ونصف مليار دولار عام 2001م، معظمها صادرات
روسية للعراق أتاحت تشغيل كثير من المصانع التي كانت متوقفة في روسيا، كما
أن الديون العراقية لموسكو تبلغ نحو عشرة مليارات دولار، كان سدادها متوقفاً
على إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على بغداد، وأيضاً فإن العقود المبدئية
العراقية مع الشركات الروسية في مجال إعادة الإعمار والتنقيب عن النفط والغاز
تبلغ قيمتها نحو أربعين مليار دولار، وهي عقود كان يتوقف تنفيذها على إنهاء
العقوبات الاقتصادية كذلك، ويشير الخبراء إلى أن شركات النفط الروسية كانت
تتوقع تحقيق أرباح تبلغ قيمتها نحو عشرين مليار دولار من تنفيذ عقود استثمار
حقول النفط والغاز في منطقة غرب القرنة العراقية وحدها.
وهكذا نجد أن رفع الحصار عن عراق العهد السابق كان سيؤمن فرصة رد
الديون العراقية لروسيا، وأن احتفاظ أسعار النفط بمستواها السابق أو رفعها كان
سيدعم الدخل القومي الروسي باعتبار روسيا من الدول المصدرة للنفط، أما الآن
بعد الاحتلال الأمريكي وتغيير الأوضاع في العراق، فإن الديون الروسية على
العراق مجهولة المصير، وإذا ما أعيد ضخ النفط العراقي بكثافة بدعوى المساهمة
في تكاليف إعادة الإعمار بما يؤدي إلى خفض سعر البرميل عن حدود 22 - 25
دولار فإن الاقتصاد الروسي سيشهد تراجعاً كبيراً، وهكذا نجد أنه إضافة إلى
الضغط الأمريكي لتنازل الدول الدائنة للعراق وعلى رأسها روسيا عن ديونها، فإنه
من شبه المؤكد ضياع جزء مهم آخر من دخل الميزانية الروسية الساعي إلى تدعيم
الروبل العملة المحلية.
وكما يقول الدكتور جواد بشارة: فإنه بعد وضع فريق قيادي موال لأمريكا
بدلاً من نظام صدام حسين في العراق فسوف يشكل ذلك» نعمة سماوية للشركات
النفطية الأمريكية الغائبة نسبياً عن السوق النفطية العراقية التي تحتلها الشركات
الروسية والأوروبية وخاصة الفرنسية منها.
والأوروبيون يدركون هذه الخطورة جيداً ويعلمون أن الانتصار العسكري
الأمريكي سوف يفتح طريق بغداد أمام المجموعات الصناعية الأمريكية ومن بينها
الشركات النفطية العملاقة لقطع الطريق على منافستها الأوروبية الموجودة في
العراق؛ فالأولوية ستكون بالطبع للشركات الأمريكية، وقد أوضح جيمس ولسلي
المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) لصحيفة
(الواشنطن بوست) أن الأمر في غاية السهولة وبعيد عن التعقيد: (لدى روسيا
وفرنسا شركات نفطية عاملة في العراق ولديهما مصالح مهمة في هذا البلد،
وعليهما أن يعرفا منذ الآن أنه إذا ما جاء إلى السلطة في العراق نظام بديل لصدام
حسين فإننا سوف نعمل ما في وسعنا لجعل هذه الحكومة الجديدة تعمل بصورة وثيقة
ومتينة مع شركاتنا النفطية حصراً، وإذا تعاونت الدولتان معنا في إسقاط صدام
حسين فسوف ننظر في مصالحهما وديونهما ونحث الفريق الحاكم الجديد في العراق
على أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار وإلاّ فسوف لن نضمن لهما شيئاً) .. [وقد كان ولم
يتعاونا في ذلك] .
وقد صرح رئيس المؤتمر الوطني العراقي المعارض لنظام صدام حسين
والذي تسانده وتدعمه الولايات المتحدة الأمريكية بما معناه أنه: بعد تغيير النظام
القائم علينا تشكيل اتحاد صناعي نفطي (كونسورتيوم) تقوده أمريكا ليأخذ بيده
عمليات استغلال النفط في العراق، وستكون للولايات المتحدة الأمريكية الأولوية
بالطبع (حسب ما نقلته الصحيفة الأمريكية، وهذا يعني تراجع مريع لبقية
الشركات النفطية العالمية الكبرى العاملة في هذه السوق النفطية الاستراتيجية الآن،
وكانت صحيفة (البايس) الإسبانية قد أشارت إلى أن «هناك شركات روسية هي
لوك أويل وسلافينيفت، وشركات فرنسية هي توتال وفينا ألف، وشركات هندية
وصينية وإيطالية وجزائرية وفيتنامية، قد وقّعت اتفاقيات وعقود استثمار واستغلال
للنفط العراقي كان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ بمجرد رفع الحظر النفطي
المفروض على العراق منذ عام 1990م) » ، وغني عن الذكر أن الاحتلال
الأمريكي للعراق يجعل كل هذه المصالح والاتفاقيات تحت الأنقاض!
بل إنه ظهر أيضاً على السطح بعد السيطرة الأمريكية على الكعكة العراقية
تنافس بين الشركات الأمريكية والبريطانية حول اقتسام هذه الكعكة؛ فقد ذكر موقع
الجزيرة نت (12/3/2003م) نقلاً عن مصادر صحفية: أن شركتي النفط
البريطانيتين بريتش بتروليوم وشل أجرتا مناقشات مع الحكومة البريطانية بشأن
نصيبهما من عقود النفط العراقية بعد أن بدأت نظيراتها الأمريكية في التخطيط
لتقاسم المكاسب الضخمة المتوقع أن تظفر بها في عراق ما بعد الحرب ...
ونسبت صحيفة فاينانشال تايمز إلى مسؤولين حكوميين لم تسمهم قولهم إن
الشركتين العملاقتين ناقشتا القضية في اجتماع موسع مع جيفري نوريس كبير
المستشارين السياسيين لرئيس الوزراء توني بلير، وحثت الحكومة خلاله على
ضرورة ألا يسمح للشركات الأمريكية بالاستحواذ على المشاريع النفطية العراقية
المغرية، وأضافت الصحيفة أن الحكومة أبدت تعاطفاً وتفهماً للقضية.
- أما عن الأبعاد الإقليمية: فوجود قوات أمريكية في المنطقة يعني أن
الضغوط ستكون شديدة على دول المنطقة؛ بل يمكن التهديد بالاستغناء عن بعض
الأنظمة باستبدالها أو تقليص دورها إلى أبعد حد؛ لعدم الحاجة إلى (وكلاء) غير
كاملي الطاعة والاستجابة في وجود الموكل نفسه في المنطقة، مما قد يدفع هؤلاء
الوكلاء إلى التفاني والتسابق في تقديم أقصى ما يمكن من تنازلات بالنظر إلى
محافظتهم على معادلة التوازن الداخلي أيضاً لإثبات أنهم قادرون على لعب دور مهم
ولا يمكن الاستغناء عنه في المنطقة، ولا شك أن ذلك سيكون له أثره الكبير على
الحركات الإسلامية وعلى قضايا الأمة المصيرية.
كما أن من المخاطر الفادحة المحتملة: تعويق مشاريع التنمية في الدول
العربية المحيطة أو المرتبطة بالعراق بعد تخفيض أسعار النفط وإضعاف الاقتصاد
فيها نتيجة الظروف الجديدة، ومن المخاطر أيضاً: ما يتهدد الدول النفطية في
المنطقة من أن تلجأ الولايات المتحدة من خلال ضغوط سياسية أو عسكرية إلى
فرض توجهات خصخصة شركات النفط الوطنية، وتصفية امتلاك الدول لها،
ليتسنى للشركات الأمريكية الاستغلال المباشر لنفط تلك البلدان، كما كانت الأمور
تسير في الماضي.
ومن الأبعاد الإقليمية: أن وجود أمريكا بقواتها في المنطقة يعني تلقائيّاً وقوع
إيران وسوريا مع لبنان تحت الحصار الأمريكي الصهيوني: إيران يحاصرها
الوجود العسكري الأمريكي من الشرق (في باكستان وأفغانستان) ومن الشمال
(تركيا) ومن سواحلها الغربية (مياه الخليج) والجنوبية (بحر العرب والمحيط
الهندي) والآن من العراق على حدودها البرية الغربية، أما سورية ولبنان فإن
الوجود العسكري الأمريكي والصهيوني يحاصرهما من الشمال (تركيا) ومن
الغرب (البحر المتوسط) ومن الجنوب (إسرائيل) والآن اكتملت الحلقة من
الشرق (العراق) . وهذا الحصار لكلتا الدولتين له أبعاده المهمة، فإيران ترقد على
90 مليار برميل من النفط يمثل 8.5% من الاحتياطي العالمي (خامس أكبر
احتياطي في العالم) ، كما أنها الدولة التي تفصل بين المنطقة العربية ومنطقة آسيا
الوسطى، أي إنها تمثل الحلقة الناقصة أمريكياً في استكمال الهيمنة على (قوس
النفط الكبير) ، أما سورية ولبنان فإنهما يمثلان الحلقة الناقصة ولو رسميّاً في تأمين
المجال الحيوي لـ (إسرائيل) إضافة إلى أنهما يعدان قلب النجمة الثلاثية للحلف
الأمريكي المرتقب (تركيا - إسرائيل - العراق) ، مما يرشح تلك الدول ليكون
الدور عليها في الاستهداف الأمريكي ومحاولة إخضاعها بكل السبل.
ومن الأبعاد الإقليمية أيضاً: بروز فرصة تاريخية نادرة لإنهاء القضية
الفلسطينية وانتهاز الأوضاع الإقليمية الراهنة وأهمها: الهزيمة النفسية والشعور
بالعجز في الوعي الجمعي للعرب والفلسطينيين خاصة لتركيع العرب والمسلمين
بعد إقامة (نظام شرق أوسطي جديد) يقبل الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة،
ويمكن القول: إن هناك ثلاث مخاطر رئيسية تهدد القضية الفلسطينية يمكن لليهود
التجاسر على ولوجها مجتمعة أو متفرقة:
الخطر الأول: إنجاز مشروع إقامة الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى
بأي صورة وأي صيغة، وكان قائد لواء القدس المحتلة في شرطة الاحتلال
الإسرائيلي اللواء ميكي ليفي صرح قبل الحرب بأنه سيكون بإمكان اليهود تأدية
الصلاة في جبل الهيكل (المسجد الأقصى) بعد الحرب في العراق.
الخطر الثاني: القيام بعمليات ترحيل قسري (ترانسفير) للفلسطينيين لتفريغ
فلسطين من أهلها وإعادة تشكيل التوازن الديموغرافي في البلا؛ وخاصة بعد ضعف
أو توقف الهجرة اليهودية إليها؛ وفي هذا الصدد فإن العراق مرشح بقوة لاستقبال
أعداد كثيرة من هؤلاء المرحلين بدعوى المساعدة على إعادة إعمار العراق، وفي
الوقت ذاته سيعملون على إنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين في الخارج بإلغاء حق
عودتهم إلى فلسطين.
الخطر الثالث: افتعال أزمة مع إحدى دول الجوار ومحاولة التوسع باحتلال
أراضي الغير.
وفي إطار هذه المخاطر يأتي العمل على إعادة (شحن) ودفع تيار الداعين
للتطبيع مع (إسرائيل) من المثقفين والسياسيين بدعوى الواقعية والاعتراف
بمحدودية إمكانات الأمة وقدراتها، وعلى رأس ذلك يجيء تعيين أبو مازن تحديداً
رئيساً للوزراء بضغوط أمريكية وإسرائيلية وأوروبية وعربية وهو المعروف
بعلاقاته الخاصة مع الأمريكان والإسرائيليين وبمعارضته لعسكرة الانتفاضة
وجهوده الحثيثة للتوصل إلى سلام دائم مع (إسرائيل) ليشير إلى أن حركات
المقاومة في الداخل ستشهد مطاردة وضغطاً عنيفاً لتهيئة الساحة لقبول التنازلات
والأحداث المأساوية المتوقعة في ظل هذه المخاطر، وليشير أيضاً إلى اتجاه
التطورات والتنازلات المتوقعة في إطار ما يسمى بخريطة الطريق الأمريكية، وقد
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون صراحة: إن هناك فرصة للتوصل
إلى اتفاق مع الفلسطينيين «بشكل أسرع» بعد الحرب على العراق، مشيراً إلى
أن تلك الحرب سببت «هزة في الشرق الأوسط» .
ويدل على الشره الصهيوني للتوسع والهيمنة والعمل على فرض واقع جديد
في المنطقة بعد احتلال العراق بقوات أمريكية: ما جاء في الأنباء من أن الحكم
الأمريكي المرتقب في العراق سيتخذ قراراً بالاعتراف بالكيان الصهيوني وإقامة
تمثيل دبلوماسي بين «تل أبيب» وبغداد، وأن شركات الكيان الصهيوني
ستشارك في عمليات إعادة الإعمار، مما يعني التطبيع بكل ما يحمله من معان
ومخاطر، وكانت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية كشفت أن أحمد
الجلبي زعيم المؤتمر الوطني العراقي الذي تضعه قوات الاحتلال الأمريكية على
رأس مرشحيها لحكم العراق، زار الكيان الصهيوني سراً مؤخراً، والتقى
شخصيات صهيونية رسمية وغير رسمية، وبحث معهم إقامة علاقات دبلوماسية
بين العراق والكيان الصهيوني، كما أن هناك أنباء عن إعادة تشغيل أنبوب النفط
بين الموصل وحيفا عبر الأردن الذي كان متوقفاً منذ إقامة الكيان الصهيوني عام
1948م، وقد أعلن وزير البنى التحتية «يوسف باريتسكي» أن تشغيل هذا
الأنبوب قد يخفض أسعار الوقود في (إسرائيل) بنحو 25%، إضافة إلى توفيره
فرص عمل لآلاف العاطلين عن العمل، إلى جانب مد خزانة الدولة بمداخيل
إضافية، مؤكداً حصوله على معطيات تفيد بأن الحرب الأمريكية البريطانية في
العراق ستؤثر بشكل حاسم على مجال الطاقة في (إسرائيل) .
ومما له دلالة في هذا الخصوص: ما أعلنته القناة العاشرة في التلفزيون
الإسرائيلي أن ما يتراوح بين 1500 و2000 جندي يدينون باليهودية كانوا بين
العسكريين الأمريكيين الذين قصفوا المدن العراقية، وأن بعضهم احتفل بعيد الفصح
اليهودي (يوم 15 إبريل) في القصر الجمهوري في بغداد.. وما أعلن من أن
عدداً من الحاخامات اليهود في (إسرائيل) قد نشروا مؤخراً فتوى دينية تنص على
أن العراق هو جزء من أرض إسرائيل الكبرى، وطلبت هذه الفتوى من الجنود
اليهود في القوات الأمريكية والبريطانية التي تقاتل في العراق أن يؤدوا الصلاة
الخاصة عندما يقيمون كل خيمة أو بناء في أرض غربي نهر الفرات.
وعموماً فإن المنطقة بكاملها ستكون مقبلة على تحولات كبرى ستكون منعطفاً
تاريخيّاً في مسيرة الأمة.. ولكن هل بالفعل ستسير الأمور كما هو مخطط
ومرغوب؟ وهل سيستقر الوضع للأمريكان في المنطقة ليحققوا أهدافهم؟ أم أن
الرياح قد تأتي بما لا يشتهيه القراصنة؟
إن الناظر إلى المعطيات السابقة وإلى اتجاهات المستقبل يرى أن الوضع
شديد التعقيد والتشابك؛ حيث تتداخل الأوضاع الداخلية العراقية مع الأوضاع
الإقليمية مع الأوضاع الدولية. فالمقاومة الشرسة التي أبداها العراقيون في أم قصر
والبصرة والناصرية ومناطق أخرى لا يستبعد تكرارها بشكل أو بآخر بعد الإفاقة
من صدمة سقوط بغداد بهذه الصورة غير المتوقعة، ولا يعرف أحد كيف سيكون
رد الشعب العراقي على الاحتلال الأجنبي وفرض حكومة عميلة، كما لا يستطيع
أحد تقدير حجم التفاعل العربي والإسلامي مع الداخل العراقي ولا كيفيته، فهناك
تيارات جهادية وقومية ووطنية محضة بل هناك قطاعات لا تنتمي إلى شريحة
فكرية أو عقائدية من المتوقع أن تسعى إلى مقاومة المحتلين الغزاة بما يجعل العراق
بعيداً عن الاستقرار، وإذا انخرطت شريحة واسعة من الشعب العراقي في حركة
المقاومة، فإن هذا يمكن أن يؤثر على نشاطات (إعادة بناء العراق) ويشكل
مصدر تهديد لمصالح أمريكا وتعويق لمخططاتها.
كما أن القوى والرموز التي تعول عليها أمريكا في تحقيق استقرار في العراق
إما أنها ليس لها قبول شعبي في الداخل كالمؤتمر الوطني العراقي وأحمد الجلبي
(صاحب سوابق ومحكوم عليه قضائياً بالسجن 22 عاماً والغرامة في قضايا اختلاس
وإساءة الأمانة والاحتيال) ، أو بينها تنافس وتناحر لم يخمد إلا بالضغط الأمريكي
كالحزبين الكرديين في الشمال، أو بينها وبين فصائل المعارضة الأخرى، وإما أن
لها منافساً أقوى منها كالرموز الشيعية العلمانية أو المعلمنة في الجنوب.
وإيران تعرف المخاطر التي تحيق بها، إضافة إلى أنها قد ترى في تطور
الأحداث فرصة لإنجاز خطوة نحو تحقيق حلمها باتصال الهلال الشيعي الكبير
الممتد من إيران عبر العراق والخليج حتى لبنان، وليس بمستبعد أن تسعى
لزعزعة الأوضاع في العراق وتحقيق مكاسب لها على أرضه، وهي لا تعوزها
القدرة على القيام بذلك، فهي تملك نفوذاً قوياً داخل فصائل المعارضة والقاعدة
الشيعية في الجنوب، وتملك اتصالاً جغرافياً ومذهبياً بينها وبين جنوب العراق.
وبالتأكيد فإن أمريكا وبريطانيا يعيان هذه المطامع ويعيان أيضاً حجم هذا
النفوذ، وإذا كانت إيران مكنت لأمريكا في السابق وباعت دماء المسلمين من أهل
السنة في أفغانستان بل وفي العراق، فإن هذا لن يشفع لها لتتساهل أمريكا معها في
مطامعها ومخاطرها في المنطقة، فالمتوقع أن يؤدي تضارب المصالح والمطامع
بينهما في النهاية إلى التصادم والمواجهة، ولكن قد يختلف أسلوب المواجهة وأدواته
خاصة أن أمريكا لم تستنفد جهودها بعدُ في محاولة تغيير النظام الإيراني من الداخل.
أما المواجهة داخل العراق فالمتوقع أن تعمل أمريكا مع معلمتها الاستعمارية
(بريطانيا) على اتباع أسلوب (فرق تسد) ومن غير المستبعد في هذا الإطار إثارة
التنافس بقوة على المرجعية الشيعية العالمية بين قم والنجف، واستعمال بعض
المرجعيات الدينية بوعي منهم أو بغير وعي في ذلك.
وهناك أيضاً تركيا التي لها الأقلية التركمانية في شمال العراق وتريد أن يكون
لها نصيب من الكعكة العراقية، كما أنها لن ترضى باقتراب الأكراد من تحقيق
أحلامهم في الشمال قرب حدودها، ولا بد أنه سيكون لها دور في الداخل العراقي
أيضاً.
وإزاء هذه المعطيات فإنه ليس أمام أمريكا إلا تطبيق نموذج كرزاي أفغانستان
معدل في العراق، حيث ستفرض إدارة موالية لها بأسلوب ديمقراطي صوري،
ولأنه يصعب أن يكون له قبول شعبي فلا مناص من تثبيت هذا الحكم بأسلوب
صدام حسين وحزب البعث وحراسته بالقوة العسكرية.
وإذا أخذنا في الاعتبار هذه الأبعاد الداخلية والإقليمية، إضافة إلى تضارب
المصالح والتنافس بين القوى الدولية المشار إليه سابقاً فإن هذه الأوضاع كلها تنبئ
بأن منطقة (الشرق الأوسط الكبير) الممتدة من آسيا الوسطى وبحر قزوين حتى
بحر العرب جنوباً، والأناضول والبحر المتوسط غرباً، والصين شرقاً، والاتحاد
الروسي شمالاً وفي قلبها العراق سترتدي طابعاً دولياً في شكل مباشر، وستكون
مجالاً للمنافسة أو لنزاع دولي شديد التعقيد، ولا يستبعد في مثل هذه الحالة نشوء
نوع من الحرب الباردة بين أمريكا ومنافسيها الرئيسيين في العالم وخاصة كتلة
أصحاب المصالح من المعارضة الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا وروسيا وألمانيا
بسبب ذلك، مع توقع وجود حالة من عدم الاستقرار والاضطراب في المنطقة.
وفي النهاية فإنه يحق لأي مراقب ومحلل أن يتساءل: بعد أن ابتلعت أمريكا
العراق: هل تستطيع هضمه؟ .. هذا ما ستوضحه الأيام القادمة..
__________
(*) المستشار العسكري والاستراتيجي، لقناة المجد الفضائية حالياً.(188/38)
ملفات
التغيير القادم
النظام العربي إلى أين؟!
رجب الباسل
أثار البعض مؤخراً اصطلاح (نهاية النظام العربي) تعقيباً على الفشل
العربي في التعاطي إيجابياً مع الأزمة العراقية، واتخاذ موقف واضح ومحدد
ورافض للعدوان الأمريكي البريطاني على العراق، ثم احتلاله أو حتى عقد قمة
عربية طارئة تعلن رفض العدوان والوقوف بجانب العراق الذي تعرض لعدوان
جائر دون أي سند شرعي دولي ترتب عليه فقدان العراق لاستقلاله، وليصبح أول
دولة عربية يتم احتلالها في القرن الجديد؛ بل الأغرب أن هناك دولاً عربية وقفت
مع العدوان صراحة، والبعض كما قال الأمين العام للجامعة أيد في صمت،
والبعض الآخر قدم تسهيلات علنية أو سرية للعدوان.
* نشأة ضعيفة:
تعد الجامعة العربية من أقدم المنظمات الإقليمية والعالمية نشأة؛ فقد أنشئت
رسمياً قبل منظمة الأمم المتحدة بحوالي ستة أشهر، حيث تم توقيع ميثاق الجامعة
في مارس 1945م، بينما تم توقيع ميثاق المنظمة في سبتمبر من نفس العام.
وهناك آراء كثيرة حول أسباب نشأة الجامعة العربية وأهدافها؛ فهناك من
ربطها بالدور البريطاني حينئذ في تشجيع إنشاء الجامعة، سواء لمواجهة المد
الإسلامي ونداءات عودة الخلافة الإسلامية، أو حتى لتعطيل الوحدة العربية ذاتها،
بحصرها في كيان ضعيف لا ينص ميثاقه على الوحدة العربية التامة كهدف للإنشاء،
إلا أنه بعيداً عن الاتهامات أو التأييدات التي وجهت للجامعة، إلا أن هناك العديد
من المؤشرات التي تؤكد النشأة الضعيفة لها، والتي لم تكن يراد للجامعة أن تنشأ
قوية تحقق طموحات الشعوب العربية، ومنها:
1 - إن أول أمين عام للجامعة العربية رغم مكانته كان بدرجة وزير مفوض
للشؤون العربية بوزارة الخارجية المصرية، مما يعني عدم الاهتمام حينئذ باختيار
شخصية ذات مكانة رسمية عالية لتولي هذا المنصب رئيس وزراء سابق أو رئيس
دولة مثلاً.
2 - إن ميثاق الجامعة الذي وقعت عليه سبع دول عربية في البداية استجاب
في تحديده لأهداف الجامعة، وطبيعة الدول الموقعة عليه لمطالب أضعف الدول،
أو الحكومات العربية انتماء في ذلك الوقت للعروبة، وهي الحكومة اللبنانية
المسيحية المارونية حينئذ، والتي تعارض الاندماج في العالم العربي؛ ففي حين
طالبت العراق بأن تكون سلطات الجامعة أعلى من الدول المنظمة بحيث يكون من
الممكن لها أن تتحول إلى مؤسسة إدارة الدولة العربية الموحدة في المستقبل، إلا أنه
تم الأخذ بالاقتراح المصري - اللبناني الذي حافظ للدول الأعضاء على سيادتها،
فجعل منها منظمة تقليدية ترتبط قراراتها بشكل كامل بإرادة الدول الأعضاء ذات
السيادة، والتي لم تقبل بالتخلي عن أي جزء من سيادتها لهذه المنظمة الإقليمية.
وطبقاً لميثاق الجامعة فهي تتألف من الدولة العربية المستقلة (مادة 1) ،
والغرض من إنشائها توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها
السياسية تحقيقاً للتعاون بينها، وصيانة استقلالها وسيادتها (مادة 2) .
والمادة الوحيدة الوحدوية كانت اختيارية وليست على المستوي العربي
الشامل، بل الثنائي أو التعددي؛ فالمادة التاسعة تنص على أنه لدول الجامعة
العربية الراغبة فيما بينها في تعاون أوثق، وروابط أقوى مما نص عليه الميثاق
أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض (مادة 9) .
3 - ضعف مؤسسات الجامعة وآلياتها: فمجلس الجامعة في البدء كان على
مستوى وزراء الخارجية (التطور الأخير أصبح على مستوى الرؤساء والملوك
والأمراء العرب) ، والذي يجتمع مرتين في العام في دورتين عاديتين (مارس -
سبتمبر) ، وله عند الاقتضاء أن يجتمع في دورة غير عادية، وفق أحكام الميثاق،
وقد يعقد على مستوى الرؤساء والملوك (قمة) ، ولكن الآن أصبحت القمة دورية
بقرار قمة القاهرة الطارئة أكتوبر 2000م، وعقدت أول قمة عادية في عمان
مارس 2001م.
أي أن الجامعة تمتلك على المستوى الفعلي جهاز الجمعية العمومية فقط (على
مستوى المندوبين أو وزراء الخارجية) ، ولكل دولة صوت واحد. بينما لا تمتلك
الجامعة فعلياً جهازاً أمنياً، ورغم توقيع معاهدة الدفاع المشترك بعد ذلك في 13/5/
1950م، والذي نصت مادته السادسة على تأسيس مجلس للدفاع المشترك تحت
إشراف مجلس الجامعة، ويختص بجميع الشؤون المتعلقة بالاعتداءات المسلحة التي
تقع على أية دولة عربية، والتشاور في الأمور المتعلقة بأمن البلاد، ودعم الدول
العربية لمقوماتها العسكرية، وتعزيزها، والمشاركة في تهيئة وسائلها الدفاعية
الخاصة والجماعية لمقاومة أي اعتداء مسلح. كما لم ينص الميثاق على إنشاء
مجلس اقتصادي واجتماعي، ولكن تم إنشاؤه بناء على المادة الثامنة من معاهدة
الدفاع المشترك، والتعاون الاقتصادي.
وتفتقد الجامعة فعلياً كذلك لمحكمة عدل عربية لفض المنازعات بين الدول
الأعضاء بالطرق القانونية رغم أن الميثاق في مادته التاسعة عشرة قد نص على
إنشائها، ولم يتم تنفيذها حتى الآن.
كما أن هناك 18 منظمة متخصصة تابعة للجامعة العربية كالمنظمة العربية
للتربية والثقافة والعلوم، واتحاد إذاعات الدول العربية، وغيرها من المنظمات،
إضافة للمجالس الوزارية المتخصصة، كمجلس وزراء الإعلام العرب، والداخلية،
والنقل ... إلخ، لم تنجح هذه المنظمات، والمجالس حتى الآن في تفعيل التعاون
العربي المشترك للوصول إلى التنسيق والتعاون الكامل بينها في المجالات المتعددة.
* أهداف غير واضحة:
ورغم أن أية منظمة إقليمية أو دولية تحدد الأسباب الدافعة لنشأتها، وأهدافها
المرحلية والاستراتيجية إلا أن الجامعة لم تحدد في ميثاقها أهداف إنشائها صراحة،
ولكن من خلال نصوص الميثاق يمكن استكشاف هذه الأهداف، وهي تدور في
مجملها حول التعاون والتنسيق والتكامل في شتي المجالات ...
* إنجازات وإخفاقات:
وكما أن الأهداف لم تكن واضحة لم تحدد آليات وخطط لتنفيذها، إلا أن هناك
مجالين أساسيين يمكن تحليل مدى إنجاز وإخفاق الجامعة فيهما وهما:
- المجال الأمني.
- المجال الاقتصادي.
أولاً: المجال الأمني:
فالجامعة حددت مفهوم الأمن القومي العربي في المقام الأول بمقومات الوجود
العربي، وفي مقدمتها الأرض والهوية، وتطوير هذه المقومات، وصولاً إلى
تحقيق الغايات القومية الكبرى، وذلك في مواجهة الأخطار الخارجية والداخلية
القائمة والمحتملة.
وقد حددت دراسة أعدتها الأمانة العامة للجامعة في عام 1993م ثلاثة أنواع
من التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي، وهي تحديات داخلية وإقليمية
ودولية. وأبرمت الدول العربية في هذا الشأن معاهدة الدفاع المشترك، والتعاون
الاقتصادي التي صادق عليها مجلس الجامعة في 13/4/1950م.
وكان للجامعة دور في عدد من التهديدات التي تعرض لها الأمن القومي
العربي، كالعدوان الثلاثي 1956م (القمة العربية ببيروت 13 - 14/11/
1956م) ، ومخططات إسرائيل لتحويل مياه نهر الأردن (مؤتمر القمة العربي
1964م) ، والذي اعتبر وجود إسرائيل خطراً يهدد الأمة، كما اعتبر قيامها
بتحويل مياه نهر الأردن يضاعف من خطرها على الوجود العربي. وهزيمة يونيو
1967م (مؤتمر القمة بالخرطوم) ، وحرب العاشر من رمضان أكتوبر 1973م؛
حيث قرر وزراء البترول العربي في 17/10/1973م، استخدام سلاح البترول
لمساندة الحق العربي، وغيرها من مؤتمرات القمة التي عقدت لمواجهة أزمات تهدد
الأمن القومي العربي، إلا أن هناك قضايا محددة أظهرت ضعف الجامعة في
هذا المجال ومنها:
1 - قضية الغزو العراقي للكويت عام 1990م وحل الأزمة في إطار دولي،
وبقيادة أمريكية غربية وليست عربية مما جعل أمريكا حينئذ تفرض أجندتها الخاصة
بالمنطقة والتي تقوم بالأساس على حماية مصالحها في الشرق الأوسط وأهمها النفط،
وحفظ أمن الكيان الصهيوني.
2 - قضية الصراع العربي الإسرائيلي التي تأثرت كثيراً بالواقع الدولي
والعربي؛ فالجامعة التي بدأت بإرسال المتطوعين إلى فلسطين في حرب 1948م،
ثم إنشاء جيش فلسطين في الدول العربية، وقرارات القمة العربية في الخرطوم
1967م بعد هزيمة يونيو، والتي رفعت بالإجماع اللاءات الأربعة: لا تفاوض، لا
صلح، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا تصرف بالقضية الفلسطينية بغير موافقة الشعب
الفلسطيني.
سرعان ما تأثرت تلك القرارات الصادرة من الجامعة بدءاً من عام 1982م
بالدعوة إلى الاعتراف بإسرائيل، وحل قضية فلسطين على أساس قراري 242
و338، بدءاً من قمة فاس 1982م، ثم قرار مجلس الجامعة العربية في دورة
انعقاده العادية السادسة والتسعين في سبتمبر 1991م (تمهيداً لمؤتمر مدريد أكتوبر
1991م) ، وقرارها رقم 5092 الذي يرحب بالمساعي الرامية لإقامة سلام عادل
وشامل في الشرق الأوسط على أساس قراري مجلس الأمن رقمي 242 و338،
ومبادلة الأرض بالسلام.
ولم يكن للجامعة موقف ثابت مميز عن باقي أعضائها، ولكن وضح من هذه
القرارات تأثرها بمواقف أعضائها، خاصة الأطراف القوية فيها؛ فقمة بغداد
1978م التي فرضت المقاطعة العربية على مصر بسبب توقيعها معاهدة كامب ديفيد
(تأثراً بالأطراف المتشددة حينئذ خاصة العراق) ، تبعها قمة فاس والدار البيضاء،
واجتماعات مجلس الجامعة المؤيدة لمفاوضات السلام.
3 - مصادر التهديد المباشر للأمن القومي العربي: فرغم أن أخطرها على
الإطلاق هو الكيان الصهيوني طبقاً لدراسات الجامعة والخبرة التاريخية، وآراء
المتخصصين، إلا أن الواقع العربي يشهد نزوعاً، خاصة في عقد التسعينيات من
القرن العشرين نحو التعاون مع الكيان الصهيوني؛ فهناك ثلاث دول عربية تقيم
علاقات سياسية ودبلوماسية كاملة مع الكيان، وهي بالترتيب: (مصر - الأردن -
موريتانيا) ، إضافة للتعاون التجاري (مكاتب التمثيل التجاري المتبادلة مع تونس
وقطر وعُمان) ، والعلاقات التاريخية المغربية مع الكيان، إضافة لبوادر علاقات
جزائرية صهيونية، ولم يعطل تطور تلك العلاقات الصهيونية العربية، إلا
انتفاضة الأقصى، والضغوط الشعبية الداخلية الرافضة لتطبيع العلاقات مع الكيان
الصهيوني، إلا أنه رغم ذلك فهناك دلائل على التباطؤ الرسمي في مواجهة الكيان
الصهيوني منها:
1 - التخاذل في دعم انتفاضة الأقصى حتى على المستوى المالي.
2 - إخفاق اجتماع لجان المقاطعة التابعة للجامعة العربية، وأول مرة يجتمع
العدد اللازم لانعقادها على مستوى الخبراء في دمشق يوليو 2001م، وليس
المندوبين الممثلين رسمياً لدولهم بحضور 13 دولة وغياب دول أخرى كلها ترتبط
بعلاقات مباشرة أو غير مباشرة بالكيان الصهيوني.
3 - توقيع 12 دولة عربية على معاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية،
والتصديق عليها عدا: الأردن، الجزائر، البحرين، الكويت، موريتانيا،
والمغرب، وعمان، وقطر، والسعودية، وتونس، والإمارات، واليمن، رغم
عدم توقيع إسرائيل حتى الآن على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي وقعت
عليها الدول العربية، وهو الأمر الذي يوضح الفجوة بين تعريف الجامعة للأمن
العربي من ناحية، والاهتمامات الفعلية للدول العربية من ناحية ثانية.
4 - حتى المناورات العسكرية العربية المشتركة تكون محدودة العدد والعتاد،
وأكبرها دائماً تكون بمشاركة أجنبية خاصة الأمريكية، كمناورات النجم الساطع
بمشاركة: (مصر، والإمارات، والكويت، والأردن) ، إضافة للولايات المتحدة،
ومناورات مرجان: (مصر، والسعودية) ، وفيصل (مصر، والسعودية) ،
وكلها حديثة العهد ومحدودة الأسلحة.
ثانياً: المجال الاقتصادي:
رغم أن الجامعة العربية قد تكون أولى المنظمات الإقليمية التي وقعت على
معاهدة للتعاون الاقتصادي (معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي
1950م) ، إلا أن الواقع العربي الآن يؤكد أن أضعف الروابط الاقتصادية الإقليمية
هي المنطقة العربية.
وقد تشكلت العديد من الهيئات التابعة للجامعة، وتم التوقيع على كثير من
المعاهدات الخاصة بهذا الشأن، ومنها اتفاقية الوحدة الاقتصادية 3/6/1957م،
والتي نصت في مادتها الأولى على أن «تقوم بين دول الجامعة العربية وحدة
اقتصادية كاملة تضمن بصورة خاصة لتلك الدول ولرعاياها على قدم المساواة حرية
انتقال الأموال والأشخاص، وتبادل البضائع والمنتجات، وحرية الإقامة، والعمل،
والنقل، والتملك، والوصية، والميراث» .
وفي 13/8/1964م وافق مجلس الوحدة الاقتصادية على قيام السوق العربية
المشتركة التي وقعت على اتفاقيتها 4 دول: الأردن، وسورية، والعراق،
ومصر، ثم انضمت إليها: ليبيا وموريتانيا واليمن بإجمالي 120 مليون نسمة في
الدول السبع عام 1995، وتم وضع جدول أو خطة لتخفيض الرسوم الجمركية بين
دول الاتفاقية، وبعد خمس سنوات تبدأ عام 1970م تنتهي بتوحيد الرسوم الجمركية
تجاه الدول الأعضاء على خمس مراحل.
ومع عدم تنفيذ اتفاقية السوق ولمحدودية عدد الدول المنضمة إليها، وقرارات
عدد من القمم العربية وأهمها قمة عمان 1980 التي وضعت استراتيجية للعمل
الاقتصادي العربي المشترك؛ إلا أنها تعثرت في التطبيق كذلك، وتم التوصل عام
1997 الاتفاق على إقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى على أن يبدأ تنفيذها
من يناير 1998م لمواجهة تطورات التجارة العالمية في ظل اتفاقية الجات، إضافة
لتزامن ذلك الإعلان مع تطبيق معظم الدول العربية لبرامج الإصلاح الاقتصادية
والهيكلية باتجاه تحرير هياكل الأسعار، والعمل بآلية السوق، وفي ضوء ذلك
أصدرت القمة العربية بالقاهرة 1996م تكليفاً للمجلس الاجتماعي والاقتصادي
بالإسراع في إقامة منطقة التجارة الحرة العربية خلال عشر سنوات يتم خلالها
خفض الجمارك البينية بنسبة 10% كل عام للوصول لمنطقة التجارة العربية الحرة
الكبرى عام 2007م، إلا أنه ومع مرور 4 أعوام على بدء تنفيذ الإعلان، واجهتها
معوقات بطء إجراءات التنفيذ والبيروقراطية، والسياسات الاقتصادية التي تحكمها
النظرة المالية الجزئية، وسلسلة الحواجز الجمركية، وغير الجمركية التي ما زالت
يحتمي خلفها عديد من القطاعات الاقتصادية، إضافة إلى انخفاض مستوى الخدمات
المصاحبة للتجارة العربية البينية كالنقل البري، والجوي، والبحري، والخدمات
المالية، والمصرفية، والاتصالات، والمعلومات، وتعقيدات الإجراءات الحدودية،
والجمركية والترانزيت. ومن ثم فلم يصل الخفض في الجمارك إلى 40% خلال
عام 2000م، كما هو مفترض، وذلك بسبب القيود السابقة السالف ذكرها.
* هل يمكن التطوير؟
تم طرح العديد من الأفكار في الماضي لتطوير عمل الجامعة العربية قد يكون
أبرزها اتفاقية الدفاع المشترك، والتعاون الاقتصادي الموقعة عام 1950م، والتي
اعتبرها البعض بمثابة تعديل أو تطوير لميثاق الجامعة، إلا أن كل جهود الجامعة
لتطوير وتفعيل دورها في العمل العربي المشترك سواء السياسي، أو الاقتصادي،
أو الأمني يتوقف على عوامل ثلاثة:
العامل الأول: ميثاق الجامعة ذاته:
حيث يقيد الميثاق قدرات الجامعة على التحرك، ويصر على استقلالية الدول
المنضمة، واتخاذ القرارات بالإجماع قبل قمة القاهرة 2000م التي عدلت الميثاق
لاتخاذ القرارات بالتوافق العام، وهي حد من قدرة الأمين العام على الحركة
والتدخل دون طلب مسبق في الأزمات العربية - العربية المشتركة، والتي يقتصر
دوره غالباً على الوساطة.
العامل الثاني: هو الواقع العربي ذاته:
فكلما سيطرت الطبيعة التعاونية على الواقع والنظام العربي خاصة في ظل
وجود تهديد خارجي قوي تكون قدرة الجامعة أكبر على التحرك، واتخاذ القرارات
التي تنطق، وأهمها حرب 1973م، والتي نفذت معظم قرارات الجامعة بشأنها
ومنها: استخدام سلاح البترول ضد الدول المؤيدة للكيان الصهيوني، كذلك في قمة
بغداد 1977م بتجميد عضوية مصر لدخولها مفاوضات سلام، وتوقيع اتفاقية سلام
مشتركة مع الكيان الصهيوني.
كما أنه عندما يغلب الطابع الصراعي على العمل العربي المشترك يتم شل
حركة الجامعة، ومحاولة التأثير على قراراتها لصالح أحد أطراف النزاع أو
مجموعة دول معينة. وبدأ ذلك مع الغزو العراقي للكويت عام 1990م، ثم مؤتمر
مدريد 1991م، والذي أنهى رسمياً فكرة الحرب في الصراع العربي - الصهيوني،
وتم إجراء كل مفاوضات التسوية المتعددة أو الثنائية خارج إطار الجامعة. إلا أنه
مع اندلاع انتفاضة الأقصي، وتزايد الخطر الصهيوني مرة أخرى على الأمن
العربي، خاصة مع قدوم أرييل شارون - رئيساً للحكومة الصهيونية - في مارس
2001م بدأ التعافي يعود للجامعة مرة أخرى مع قرارات قمة القاهرة أكتوبر
2000، التي أقرت آلية انعقاد القمة العربية سنوياً، وقمة عمان مارس 2001م،
التي فوضت الأمين العام في وضع خطة التطوير للجامعة ثم قمة بيروت مارس
2002م، ثم قمة شرم الشيخ مارس 2003م.
العامل الثالث: طبيعة شخصية الأمين العام:
والتي غالباً لا تخرج عن أحد طابعين: فإما أن يعمل في إطار الميثاق، أو
يعمل في إطار أقل منه، ويغلب عليه الخمول في العمل، خاصة إذا كان المحيط
العربي مثبطاً (أكبر مثال الفترة من 1991 - 2001م) ، أما الطبيعة الثانية فهي
الطبيعة الحركية، والتي تعمل على تفعيل الميثاق والحركة خارجه، ومحاولة
تطويره ليزيد من قدرة الأمين العام، بل الحركة خاصة إذا كان المحيط العربي
مشجعاً؛ وأبرز مثال على ذلك هما:
الأمين العام الأول للجامعة العربية عبد الرحمن عزام (1945 - 1952م) ،
الذي كان على درجة وزير مفوض، إلا أن جهوده امتدت حتى الدول الإسلامية
ذاتها؛ وذلك بقرار الجامعة الشهير حينئذ بتبني قضية حرية واستقلال إندونيسيا،
ودعا إلى استقلالها، وطرح هذا الأمر أمام الجامعة التي كانت أول منظمة دولية
تعترف باستقلال إندونيسيا، فضلاً عن تولي عزام لهذه القضية أمام الأمم المتحدة.
أما النموذج الثاني فهو الأمين العام الحالي السيد عمرو موسى الذي تولى
الأمانة العامة في 16/5/2001م في ظل ظروف عربية مواتية لدور أكبر للجامعة،
إضافة لطبيعته الحركية والدؤوبة، والذي وضع خطة للنهوض بالجامعة، وتفعيل
دورها استناداً لتفويض قمة عمان له في ذلك.
* واقع جديد:
إلا أن التطورات العربية الأخيرة والتي تمثلت في الاحتلال الأمريكي
البريطاني للعراق، وانتقاد بعض الدول العربية لأداء الجامعة العربية وأمينها العام
أثناء الأزمة؛ حيث اتهمها البعض ممثلة في شخص أمينها العام بالانحياز للعراق
(الموقف الكويتي خاصة) بينما اتهمها البعض الآخر بالشلل أمام الأزمات العربية
الكبرى (بعض المراقبين إضافة لدول مثل ليبيا) طرحت مرة أخرى قضية تطوير
الجامعة العربية على المستوى العربي مرة أخرى، وهنا تم إثارة عدد من مشاريع
التطوير منها مشروع الأمين العام عمرو موسي الذي طرحه منذ تولى الأمانة العامة
للجامعة، ومشروع مصري في إطار البلورة، إضافة لأطروحات سعودية وسودانية
وقطرية وليبية للتطوير لم تحدد معالمها بعد.
* رؤية مستقبلية:
التطورات المتلاحقة أخيراً في العراق والواقع العربي عامة طرحت بقوة
مستقبل الجامعة العربية والنظام العربي بصفة عامة والتي تتمثل في عدد من
الاحتمالات أهمها:
1 - بقاء الوضع على ما هو عليه باستمرار الجامعة على وضعها الحالي
وطبقاً للميثاق الذي يحكم عملها ومرور (الزوبعة) الحالية عن مستقبل الجامعة مثل
سابقاتها منذ حرب الخليج الثانية عام 1991م.
2 - احتمال إيجابي بأن يتم الشروع في تنفيذ أي من مشاريع التطوير
المطروحة سواء المصرية أو تلك التي طرحها موسى وشرع في تنفيذها منذ توليه
الأمانة العامة منذ عامين، مع أهمية الإقرار بأن مشروعات التطوير نفسها تعمل في
ظل أطر ومسلَّمات هي من صلب ميثاق الجامعة وتمثل في حد ذاتها عائقاً لا يمكن
تجاوزه لتحقيق مستوى إيجابي من التعاون العربي، أضف إلى ذلك المعطيات
الواقعية والتي لن تجعل لمشاريع التطوير أثراً حقيقياً.
3 - استمرار الوضع الحالي للجامعة مع نشأة بدائل إقليمية جديدة تحقق
المطالب الأمريكية على وجه الخصوص.
وهنا تبرز أزمة شرعية النظام العراقي الجديد تحت الاحتلال ومدى إمكانية
تمثيله في الجامعة مما يضع الجامعة في مأزق إذا قبلت الحكومة الجديدة أو رفضتها؛
ففي حالة القبول سيتم تأصيل مبدأ عربي جديد بقبول الأنظمة غير الشرعية
والمفروضة من قوى أجنبية، أما إذا تم الرفض فسيكون المأزق في مواجهة القوى
الدولية الكبرى خاصة الولايات المتحدة، ويزيد الوضع سوءاً إذا اعترفت الأمم
المتحدة بالنظام الجديد. وهو الأمر الذي جعل موسى يؤكد في رده على سؤال أحد
الصحفيين أثناء وجوده في الدوحة هذا الشهر حول مستقبل النظام العربي قائلاً:
«النظام العربي مهدد بالفعل بشكل كبير، وعلينا أن نفعل كل ما نستطيع لإنقاذه،
وفي الوقت نفسه العمل على تطويره» .
ويمكن أن يكون الوضع المتوقع بمحاولة أمريكية لتطبيق النموذج الأوروبي
على المنطقة العربية؛ وذلك بالسماح للدول العربية بتطوير علاقاتها الاقتصادية؛
لأن ذلك يخدم المصالح الأمريكية؛ مع انفراد الولايات المتحدة بوضع الخريطة
الأمنية للمنطقة بما يحقق مصالحها الأمنية في المنطقة وهي بالأساس:
- استمرار احتلالها للعراق.
- استمرار وجودها العسكري في الخليج قريباً من منابع النفط.
- حماية أمن الكيان الصهيوني وردع أي دولة تهدده بالوجود القوي والقريب
للقوات الأمريكية في المنطقة العربية.
ويمكن تطوير ذلك بإنشاء حلف عسكري (أمريكي - صهيوني - تركي -
عراقي) في المنطقة يتم فيه ضم الدول الصديقة، واستبعاد وتهديد الدول
والمنظمات المعادية للوجود الامريكي - الصهيوني في المنطقة على غرار حلف
بغداد في خمسينيات القرن العشرين الميلادي أو نموذج الاتحاد الأوروبي
(اقتصادياً) وهيمنة أمريكية (عسكرية) على أوروبا في الوقت ذاته من خلال
حلف شمال الأطلنطي.
4 - الاحتمال الرابع والأكثر تشاؤماً وهو إلغاء الجامعة العربية مقابل مزيد
من التفتيت للنظام العربي أو للدول العربية، وتطبيق خطة سايكس - بيكو أمريكية
جديدة للمنطقة العربية تقوم على مزيد من التفتيت والإضعاف مقابل مزيد من
الهيمنة والقوة والسيطرة الأمريكية الصهيونية عليها؛ خاصة في ظل توقف وتهديد
بعض الدول عن دفع حصتها المالية في ميزانية الجامعة، وتهديد البعض الآخر
بالانسحاب من العضوية بين الفينة والأخرى (أهمها ليبيا) ، وخلافات بعض الدول
المتزايدة مع الجامعة بالخلط المقصود أو غير المقصود بين الخلاف مع أمين عام
الجامعة عمرو موسى وبين الجامعة كمؤسسة أو منظمة كمسوغ للتهديد بالانسحاب
أو تجميد العضوية أو وقف دفع الحصة المالية في ميزانية الجامعة إضافة لتزايد
مشاكل عضوية بعض الدول لمشاكل واضطرابات داخلية (جزر القمر - الصومال)
أو لفرض حكومات أو إدارات غير شرعية من قِبَل الاحتلال المباشر الأمريكي -
في العراق - والصهيوني - في فلسطين -.
* دلالات هامة:
ما يتعرض له النظام العربي حالياً الذي هو جزء من نظام إسلامي أكبر من
محاولات أمريكية دؤوبة مباشرة أو بالوكالة لتفتيته وإضعافه تثير عدداً من الدلالات
الهامة منها:
1 - أننا في إطار حديثنا عن النشأة الضعيفة والأهداف التاريخية التي وصفها
البعض بالمشبوهة لإنشاء الجامعة العربية يجب التفرقة بين القومية كمبدأ علماني
مرفوض والانتماء والتعاون العربي المنشود كجزء من انتماء وهدف منشود أكبر
وهو الوحدة الإسلامية.
2 - إن هذا الفشل المتوالي والمتراكم بإرادتنا أو بالضغط علينا للنظام العربي
تؤكد إخفاق القومية كأساس للانتماء مقابل أهمية الإسلام كأساس للانتماء والتعاون
والتعاضد؛ خاصة في مقابل حرب مفروضة علينا تحت شعارات ورؤى دينية
نصرانية أو يهودية، وهذا يؤكد على أن كل الأطروحات القائمة على منطلقات
قومية علمانية لن تقدم للأمة سوى مزيد من الخذلان والتراجع، ويكفي أن التيار
الغالب في الإدارة الأميركية الحالية يدفع بالمنطلقات الدينية إلى الواجهة، وبدون
مواربة.(188/48)
ملفات
التغيير القادم
هل سبب الحرب اقتصادي؟
وما الآثار المترتبة على دول المنطقة؟
د. أحمد علي الغامدي
* مقدمة لا بد منها:
نقل عبد الوهاب بدرخان في عدد الحياة بتاريخ 24/4/2003م كاريكاتيراً عن
جريدة «هيرالد تربيون» التي تصدر في شيكاغو بالولايات المتحدة، وفي هذا
الكاريكاتير يظهر رجل أمريكي يحدّث نفسه قائلاً: العراق ثم سوريا نزولاً إلى
الأردن ثم السعودية ومنها إلى إيران، وعودة إلى أفغانستان إحياءً للزمن السابق،
فتنظيف باكستان والهند ثم الصين ومنها إلى كوريا الشمالية، عودة إلى روسيا
ومنها مباشرة إلى أوروبا القديمة.
ويأتي سؤال من خارج الصورة: ماذا عن خريطة الطريق؟ ويأتي الجواب:
هذا ما كنت أبحث عنه!!
الكاريكاتير يرمز إلى السياسة الخارجية الأمريكية، ويرسم صورة لمبادئها
الاستراتيجية، ومعلوم أن فن الكاريكاتير يركز على عناصر محددة من رسالته
ويضخمها، وعليه فقد يقول قائل: هذا ضرب من الخيال. وقد يكون كذلك، ولكنه
بالتأكيد يعطي طرفاً من الصورة كما سوف يتضح لاحقاً.
هناك تطور آخر دقيق في السياسة الخارجية الأمريكية بدأ بالظهور في أواخر
التسعينيات، وتبلور في ظل الإدارة الأمريكية الحالية. ويتلخص هذا التبلور في
عدم رضا المحافظين الجدد عن السياسة القائمة على بناء تحالفات مع قوى إقليمية
مختلفة، والاستناد عليها في تحقيق المصالح والأهداف المختلفة، ورغبتهم في
تجاوز ذلك إلى مباشرة تحقيق المصالح والأهداف بالآلة الأمريكية. وقد نشر المعهد
الدولي للدراسات الاستراتيجية في نشرته رقم (1) يناير 2003م كلاماً صريحاً بهذا
الخصوص لـ «بول ولففيتز، وكونداليزا رايس» وغيرهم من كبار المحافظين
الجدد.
وليس غريباً أن يأتي في هذا السياق اختيار بول بريمر ليكون رئيساً للإدارة
المدنية للعراق، وبريمر هو المنظِّر الرئيسي لفلسفة الضربات الاستباقية، وقد
شغل وظائف عدة عالية في ميدان مواجهة الإرهاب، وخاصة من هذا المنظور؛
على الرغم مما يكتنفه مفهوم الإرهاب من عدم التحديد للمدلول.
ونقطة أخيرة في هذه الاستراتيجية الجديدة والتي تؤكدها الإدارة الأمريكية
الحالية، وإن كانت قد بدأت أثناء الإدارة السابقة، وهي سعي الإدارات الأمريكية
المتعاقبة إلى حماية المصالح الأمريكية على المستوى العالمي بالطرق المختلفة،
ومن هذه الطرق:
- منع تطور أي أنظمة تستند إلى أسس عقائدية، وخاصة في الشرق عموماً،
والشرق الأوسط خصوصاً.
- ومن ذلك تصدي الولايات المتحدة لقيام تحالفات بين الصين وبعض الدول
الإسلامية، وغير ذلك مما لا يخفى. (وقد كتب نعمان الرياني تقريراً مفصلاً في
الأهرام الاقتصادي الأسبوع الأخير من أبريل 2003م، فيمكن الرجوع إليه) .
هذه مجرد لمحة عن بعض العناصر المهمة للسياسة الخارجية الأمريكية في
الوقت الحاضر؛ لا بد من استحضارها في الذهن عند الحديث عن الحرب على
العراق.
* الأسباب:
1 - مهما حاولت أن تتهرب من إدراك تأثير البعد الاستراتيجي والسعي إلى
الهيمنة في ظل أحادية القوة في الحرب؛ فلن تفلح، فالتأثير أساسي وجوهري،
ولكنه عامل مشترك في هذا الموضوع وفي موضوعات أخرى، ولعله يكفي ما
ذكرنا في المقدمة عن هذا الشأن؛ رعايةً للمساحة المخصصة للموضوع، وأستثني
من ذلك مقالة طريفة كتبها «نورمان ميللر» في جريدة الفاينانشال تايمز اللندنية
المرموقة، وترجمتها جريدة البيان الإماراتية في عددها الصادر في 6/5/2003م،
وتتلخص في أن القلاع الأمريكية الثلاث الكبيرة، وهي (قطاع الشركات، ومكتب
التحقيقات الفيدرالي، والكنيسة) ؛ قد منيت بفضائح منفصلة كبيرة شوهت سمعتها،
ولأن الإدارة الأمريكية لن تستطيع حل أي من هذه المشكلات؛ فكان لا بد من
مغامرة كبيرة تعيد شيئاً من كبرياء «الذكر الأمريكي الأبيض (ضد الأنثى) »
التي سقطت، ولذا كان المخْرَج هو الحرب، وحيث إن «الذكور البيض»
يسيطرون على القوات المسلحة؛ فانتصارهم سيعيد هذا الكبرياء إلى «الذكر
الأبيض» ويحقق هيمنة جديدة، ومن ثم فالسؤال عن «سبب الحرب» جوابه:
لأننا بحاجة إلى ذلك؛ حيث إن الأسباب المعلنة كلها تسقط عند أي محاولة جادة
لفحصها.
2 - مع الأخذ في الحسبان السبب السابق وعدِّه سبباً عاماً؛ فالسبب الخاص
والمباشر هو (النفط) .
والحديث عن النفط ذو شجون، ولكن يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
هناك تحليلان رئيسان للتأثير النفطي:
أ - الأول: مارست الأوبك دوراً فاعلاً في السوق النفطية في السنوات
المتأخرة، فعند انهيار أسعار النفط في آخر التسعينيات واجهت الدول المنتجة للنفط
مصاعب اقتصادية بالغة الصعوبة، وانعكس ذلك على برامجها التنموية، وما
يصاحب ذلك من تداعيات اجتماعية وأمنية وربما حتى سياسية، وواجهت الدول
المعتدلة، والتي كانت تتبع سياسة المحافظة على سعر معتدل، معضلة كبيرة؛ فإما
أن تظل تساهم في الحفاظ على السعر المنخفض، وظروفها الاقتصادية لا تسمح لها
بذلك. وإما أن تسعى إلى دعم السعر؛ مما قد يثير حفيظة الدول المستهلكة الرئيسة.
ونجحت مساعي الأوبك في وضع مجال سعري معقول للدول المنتجة والمستهلكة،
ونجحت أيضاً في دعم هذا المجال السعري والمحافظة عليه، سواء بخفض
الإنتاج إذا انخفض السعر عن الحد الأدنى، أو بزيادة المعروض النفطي إذا زاد
السعر عن الحد الأقصى. ولكن هذا النجاح لم يرق للمستهلك الرئيسي، وخاصة
الأمريكي الذي راقه أن يكون السعر عند 13 - 14 دولاراً للبرميل، وبالتالي ساءه
أن يكون السعر عند 25 - 26 دولاراً.
وفي ظل هذه الظروف، مروراً بالملابسات التاريخية والأحداث التي عاشها
العراق خلال العقد الماضي، كان النفط العراقي يشكل بريقاً شديداً يثير شهوة
المستهلك الأمريكي.
إن وقوع النفط العراقي تحت السيطرة الأمريكية قد يؤدي إلى خروج العراق
من الأوبك؛ مما سيشكل شرخاً كبيراً في الأوبك ويضعف فاعليتها في التأثير في
سعر النفط في السوق العالمية. وحتى لو لم تخرج العراق من الأوبك؛ فإنها
ستضغط بكل الوسائل لزيادة إنتاجها حتى لو لم يرق ذلك لأعضاء الأوبك، وستزيد
كمية النفط المعروض بشكل ملحوظ، وستنخفض الأسعار إلى مستويات تاريخية،
ويتخلص المستهلكون الرئيسيون من إزعاج الأوبك السعري أو من جزء كبير منه.
ب - التحليل الثاني: أنه في فترة الحصار الطويل على العراق وعدم إقدام
كثير من الدول الغربية على الاستثمار في مشاريع أساسية في العراق؛ فقد قام
النظام العراقي بتقديم امتيازات وإغراءات نفطية كبيرة للشركات الفرنسية والصينية
والروسية التي كانت تعمل في الاقتصاد العراقي، وقد كانت هذه الامتيازات جذابة،
ولم تنل منها الشركات الأمريكية أو البريطانية شيئاً بحكم الحصار المفروض على
العراق، وفي ظل جاذبية النفط العراقي كما سيرد لاحقاً وظل الشهوة المتفاقمة
للسيطرة على مصادر الطاقة، وظل الملابسات التاريخية والاستراتيجية المذكورة
أعلاه؛ تتضح أهمية موقع النفط في دائرة الحرب.
فالنفط العراقي جذاب لأن:
1 - المخزون الثابت للنفط العراقي يزيد عن 112 مليار برميل، وغير
الثابت أكثر من ذلك بكثير، وقد ساهم الحصار في عدم زيادته، وعندما ينتهي
الحصار وتستأنف أعمال البحث والتنقيب بجدية؛ فقد تزيد كمية الثابت بنسبة كبيرة.
2 - أن نفط العراق من أرخص نفط العالم؛ إذ تبلغ تكلفته بين (1 إلى 1)
دولار للبرميل الواحد، وتبرز أهمية هذا العامل إذا عُلم أن انخفاض سعر البترول
إلى قريب من عشرة دولارات؛ يُخرج كثيراً من المنتجين الأمريكيين وبعض
الأوروبيين من السوق؛ لأن إنتاجهم حينئذ يكون غير مُجْد.
3 - أن كل دولار يتغير به سعر النفط ينعكس بما يعادل 4 مليارات دولار
على الاقتصاد الأمريكي.
4 - أن أمريكا لم تعد في مقدمة الدول ذات المخزون النفطي المرتفع، وإنما
أصبحت في ذيل القائمة.
5 - أن عدداً من الدول المصدرة والمؤثرة حالياً في سوق النفط ستتحول
قريباً إلى دول مستهلكة للنفظ، ومنها بريطانيا، والنرويج، وفنزويلا، وليبيا.
6 - تشير دراسات دقيقة إلى أنه بالإمكان أن يبلغ إنتاج العراق قرابة ثلاثة
ملايين برميل يومياً بنهاية العام الحالي، كما تشير إلى أن الإمكانات الطبيعية
للإنتاج تتراوح بين 10 - 15 مليون برميل يومياً، ولكن ذلك يحتاج إلى
استثمارات ضخمة، وإلى عدة سنوات من العمل الدؤوب في التجهيز الميداني لذلك.
وأخيراً؛ فإذا تصورنا الموقع الجغرافي للنفط العراقي الذي يقع شمال بترول
الخليج الذي تحتفظ أمريكا بعلاقات مميزة مع دوله، ويقع جنوب نفط بحر قزوين
الذي ما زالت أمريكا تسعى لتحصل منه على حصة الأسد، وقد تحقق لها ذلك..
وما زال الجهد مستمراً، إذا تصورنا هذا الموقع الجغرافي؛ تبين لنا ازدياد أهمية
النفط العراقي الذي يقع في قلب مركز الاحتياط النفطي الرئيس في العالم.
وإذا وضعنا في تقديرنا حجم الاستهلاك المتزايد للطاقة، وأهمية ذلك للاقتصاد
العالمي والأمريكي بوجه خاص نظراً لضخامة الكميات المستهلكة، وما يستتبع ذلك
من النمو والاستقرار في العالم، وإذا وضعنا في تقديرنا أن البدائل الأخرى للطاقة
عوضاً عن النفط ما زالت تتدهور يوماً بعد يوم، فالطاقة النووية باهظة التكاليف،
معقدة التقنية، وبالغة الخطورة، ويتضح ذلك جلياً في تراجع هذا الخيار بعد
حادثتي «تشيرنوبل» و «ثري مايل أيلاند» ، والطاقة المستخرجة من الفحم
على الرغم من توفرها في أماكن من العالم لكن آثارها البيئية أفقدتها كثيراً من
أهميتها؛ مما أدى إلى تراجع التقدم التقني في هذا الميدان، أما الطاقة الشمسية فما
زالت في البدايات.
من كل هذه المتغيرات مجتمعة؛ تظهر أهمية النفط بصورة جلية، وأهمية
النفط العراقي في دائرة الحرب.
* الآثار:
أي حرب لا بد أن تترك آثاراً في الأطراف المباشرة لها، وقد تترك آثاراً في
الأطراف غير المباشرة، وفي إطار حديثنا السابق؛ فسوف نتطرق للآثار
الاقتصادية فقط، والآثار الواقعة على الدول المجاورة من الناحية الجغرافية لمسرح
الحرب؛ إذ إن الآثار الاقتصادية تنصب في مجملها على تلك البقعة الجغرافية التي
تشمل العراق بطبيعة الحال باعتبارها مسرح الحرب، ودول الخليج باعتبارها
ملاصقة لمسرح الحدث ولا بد أن تطولها الآثار، وكذلك كل من سوريا ولبنان
والأردن وكذلك مصر، أما الدول العربية الأبعد عن مسرح الحرب؛ فآثار الحرب
المباشرة عليها قد لا تكون جوهرية.
وأما إيران فعلى الرغم من مجاورتها ولكن علاقاتها الاقتصادية مع العراق قبل
الحرب كانت محدودة، ولذلك آثرنا عدم الخوض في الحديث عنها، ولشح
المعلومات المتوفرة في هذا الشأن من جهة أخرى.
1 - العراق:
آثار الحرب الاقتصادية على العراق لا يكاد يخلو منها ميدان من ميادين
الاقتصاد، فقد طالت مجال الصناعة والزراعة والتجارة والاستثمار والبطالة
واستقرار العملة وغير ذلك، ولكن في إطار حديثنا المقتضب هنا بما يتناسب مع
المطبوعة، فسنقصر الحديث على الجوانب العريضة جداً ذات العلاقة.
أ - مع الأسف فالعراق من الدول المرهقة جداً بالديون:
إذ يتجاوز حجم الدين العراقي مائتي مليار دولار، وهذه المبالغ ليست نتيجة
الحرب، بل للوضع الاقتصادي الذي كانت تعيشه العراق قبل الحرب؛ مما سيفاقم
الآثار المترتبة على الحرب كما سيظهر لاحقاً.
ب - الخسائر المباشرة:
وهي المترتبة على التجهيزات العسكرية، والبنى التحتية الاقتصادية من
كهرباء واتصالات ومرافق وغيرها، ومئات الألوف الذين فقدوا عملهم الذي قد لا
يعود إليهم. والخسائر في هذه المجالات لا يوجد لها أي إحصاءات، ولكنها
بالتأكيد قد تتجاوز عشرات المليارات إلى مئاتها، وهنا يضيف عبئاً آخر ثقيلاً على
عبء الدين الوارد في الفقرة السابقة.
ج - تكاليف الإعمار سوف تكون باهظة جداً لأنها:
1 - تغطي تكاليف إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وهذا بمفرده يحتاج إلى
ميزانيات ضخمة.
2 - تغطي تكاليف إعادة إعمار البنى التحتية المهترئة التي أفنتها سنوات
الحصار الطويلة.
3 - تغطي تكاليف البرامج التنموية الضرورية لانطلاق مستوى معقول من
الحياة الإنسانية.
4 - تغطي تكاليف أو على الأقل بعض تكاليف الإدارة الأمريكية أو الدولية
التي تدير شؤون العراق إلى أن تنتهي مهمة هذه الإدارة، وهذا البند بمفرده يحتاج
إلى عشرات المليارات من الدولارات.
د - تجدر الإشارة هنا إلى أن الإدارة الأمريكية كانت واضحة وصريحة في
حصرها حق العمل في إعادة الإعمار على الشركات الأمريكية فقط، وعلى
الشركات البريطانية على استحياء:
وقد حاولت فرنسا وألمانيا وروسيا الضغط على أن تكون مهمة الإعمار من
شأن الأمم المتحدة، وباءت كل تلك المحاولات بالإخفاق؛ إذ ما زالت الإدارة
الأمريكية في العراق تصر بشدة على أن دور الأمم المتحدة سوف يقتصر على
الجانب الإنساني فقط، ولن تسمح لأولئك الذين عارضوها في مجلس الأمن
بالمشاركة الاقتصادية، بل لقد سدت الباب عليهم وعلى غيرهم، وقد بدأت الإدارة
الأمريكية في العراق في تنفيذ ذلك الموقف فقامت بترسية أول عقودها على شركة
«بكتل» الأمريكية بمبلغ ستمائة وخمسين مليون دولار لأول أعمال إعادة الإعمار،
وتدور أحاديث كثيرة عن حصول شركة «هالبيرتون» التي رأسها ديك تشيني
خلال المدة 1995 - 2000م على عقد ضخم لإنتاج وتوزيع النفط العراقي محلياً،
وكذلك إطفاء حرائق النفط وإعادة إعمار منشآته.
وتشير التكهنات إلى أن قيمة هذا العقد قد تصل إلى سبعة مليارات دولار
(انظر التفاصيل في جريدة الوطن السعودية عدد 951) ، أما عقود الكهرباء
والاتصالات وإعادة بناء المطارات وغيرها فما زالت في الطريق، والحريص
على معرفة مصير هذه العقود فعليه متابعة الصحافة العالمية التي تتابع أخبارها أولاً
بأول، والتي لا يتوقع أن تتاح لغير الشركات الأمريكية حسب التوجه الصريح المعلن
بهذا الخصوص.
أما نفقات الحرب التي تكبدتها الخزانتان الأمريكية والبريطانية وهي ليست
بيسيرة، فحتى إن تحملتها الدولتان فلا يعتقد أنها سوف تتحمل نفقات بقاء هذه
القوات إلى أن تنتهي المهمة التي رسمتها لها حكومتها. وهذه النفقات يقدرها المعهد
الدولي للدراسات الاستراتيجية بمبلغ يتراوح بين 20 - 50 مليار دولار في السنة،
وهذه التقديرات مبنية على تجارب سابقة للقوات الأمريكية في البوسنة والهرسك
واليابان وكوريا، وعليه فيتوقع أن تكون تكاليف الإدارة الأمريكية للشأن العراقي في
المدى القصير بين 100 - 150 مليار دولار، ترى هل يعقل أن يتم تحميل دافع
الضرائب الأمريكي هذا المبلغ؟!
هـ - في ضوء هذه التكاليف المتنوعة لتغطية آثار الحرب؛ فمهما بلغ إنتاج
النفط العراقي، ومهما بلغت عائداته وتم إنفاقها بأسلوب أمثل؛ فإن هذه التكاليف
ستستهلك مدة تتراوح بين 10 - 15 سنة قادمة:
لذلك فإن الرخاء الاقتصادي حتى الجزئي ما زال بعيد المنال، ولكن مع ذلك
يجب أن نشير إلى جزئية أخرى هنا، وهي أن أعمال إعادة الإعمار ورفع الحصار،
وبالتالي فتح باب التبادل التجاري مع الخارج ستوجد ورشة عمل ضخمة في
السوق العراقي، يتوقع أن ينعكس أثرها إيجاباً على فرص العمل للأفراد
والمؤسسات في الاقتصاد العراقي، وكذلك الآثار المتوالية لذلك لزيادة الدخل
وانعكاسها على الطلب المحلي والعالمي، وعليه فيتوقع أن يخرج وجه إيجابي جديد
للاقتصاد العراقي، ولكن هذا الوجه لن يكون فاتناً كثيراً لشدة الإجهاد الذي يجب
علاجه قبل أن تظهر تلك الفتنة، والتي لا يتوقع أن تظهر قبل مدة تقل عن عشر
سنوات، هذا إن سارت الأمور على ما يرام.
ونقطة أخيرة في هذا الباب، وهي أن العراق باعتباره دولة نفطية فلا يتوقع
أن هناك مساعدات دولية لإعادة إعماره لا من الدول الغربية ولا من غيرها: وإن
وجدت تلك المساعدات فستكون محدودة، ولكن الإدارة الأمريكية دعت الدول الدائنة
لإسقاط ديونها عن العراق، ودعت حلفاءها إلى الاستثمار في العراق، وقد
عرضت اليابان المتخمة بالثروة المالية والتي تبحث عن قنوات استثمار؛ بعد أن
سجلت أسعار الفائدة أرقاماً تاريخية في الانخفاض تقديم استثمارات أو قروض في
بعض مجالات الاقتصاد العراقي.
2 - دول الخليج:
إذا استثنينا الكويت فدول الخليج لم تشارك في هذه الحرب، ومن ثم فلم
يترتب عليها تكاليف مباشرة للحرب باستثناء التكاليف الروتينية لجعل قواتها في
حالة تأهب، أو لتغطية تكاليف قوات درع الجزيرة التي رابطت في الكويت، ولم
تورد وسائل الإعلام أنها شاركت في الحرب مباشرة.
لكن اقتصاديات دول الخليج تأثرت تأثيراً كبيراً بسبب قربها من الناحية
الجغرافية من مسرح الأحداث، وهذا التأثر طال مجالات كثيرة منها مجال النقل
الجوي الذي تأثر بشكل واضح، وكذلك النقل البحري، والتأمين، والسياحة،
وكذلك القطاع المصرفي، وجاذبية الاستثمار في وجه خاص، وقد تأثر أيضاً أداء
القطاع التجاري بشكل خاص، وكان هناك هبوط حاد في المبيعات في قطاعات
تجارة الجملة والتجزئة، ولا يكاد يستثنى من ذلك سوق قطاع المواد الغذائية الذي
نشط نسبياً تخوفاً من المستهلكين من طول زمن الحرب وتأثر الأسعار بذلك، وهذا
القطاع قد يتأثر سلباً بعد أن انتهت الحرب؛ لأن كثيراً من المستهلكين قد قاموا
بتخزين كميات من المواد الاستهلاكية.
وقد أوردت جريدة الجزيرة السعودية في عددها الصادر في 4/4/2003م
مقابلة مع الأمين العام لاتحاد المستثمرين العرب، ناقش فيها هذا الموضوع، وذكر
أن خسائر دول الخليج حتى ذلك التاريخ تُقدر بنحو ستين مليار دولار، والمؤسف
أن الخسائر المتعلقة بالسياحة والاستثمار الأجنبي والقطاع المصرفي غالباً ما تستمر
فترة أطول، وذلك فالخسائر بعد ذلك لا بد أن تكون قد زادت.
ولكون دول الخليج في الجملة ذات مداخيل مرتفعة، لذلك فيتوقع أن تتجاوز
هذه الخسائر في وقت غير طويل، وهذا كله إذا لم تساهم دول الخليج في فاتورة
الحرب، أما إذا حدث ذلك فالصورة قد تختلف جذرياً.
3 - مصر:
قامت الحرب والاقتصاد المصري في وضع لا يُحسد عليه، فسعر الصرف
الأجنبي وصل إلى درجة لم يشهدها السوق المصري منذ زمن، وفقد الجنيه
المصري جزءاً كبيراً من قيمته مقابل الدولار، ومعلوم انعكاس ذلك على مستوى
الأسعار بصورة عامة وما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية، وأيضاً سوق المال
بصورة عامة وجاذبية الاستثمار الأجنبي بصورة خاصة؛ لم تكن في أحسن أحوالها،
بل شهد هذان القطاعان حالات نزول حاد، وفي خضم الجهود التي كانت تبذلها
السلطات المصرية لمواجهة هذه المعضلات في ظل دين عام يتجاوز ما يعادل
90% من الناتج المحلي، في ظل كل ذلك قامت الحرب فزادت الطين بلة بل
غمرته بالماء، فإيرادات قناة السويس التي تعدُّ مورداً رئيساً للاقتصاد المصري
تراجعت بشكل ملحوظ نتيجة تراجع الملاحة لظروف الحرب، أما السياحة التي
تكاد تكون المصدر الأهم للدخل من النقد الأجنبي؛ فلم تكن أحسن حالاً بل
شهدت تراجعاً كبيراً، وترافق مع ذلك تراجع حركة النقل الجوي وما يتبعها.
الاستثمار الأجنبي الذي شهد تطوراً ملحوظاً في العقدين الماضيين؛ مر
بظروف صعبة حتى قبل أن تبدأ الحرب، وجاءت الحرب لتمحق ما تبقى من
شجاعة لدى المستثمرين الأجانب الراغبين في دخول السوق المصرية، ولم تكتف
الحرب بذلك في إنهاكها للاقتصاد المصري؛ بل أضافت على ذلك عودة عشرات
الألوف من العمالة المصرية التي كانت تعمل في العراق أو في المواقع القريبة من
العراق حيث دول الخليج المجاورة، ويتوقع أن يحتاج الاقتصاد المصري إلى وقت
غير يسير ليتعافى إلا إذا كان محظوظاً بتدفقات مالية استثنائية من مصادر خارجية.
4 - الأردن:
الاقتصاد الأردني قد يكون الأكثر تضرراً من قيام الحرب، فاحتياجات الأردن
البترولية كانت تأتي من العراق، بعضها على شكل منحة من الحكومة العراقية،
وبعضها الآخر بسعر تفضيلي واضح وبطريقة رسمية أو غير رسمية، وحتى عبر
طرق النقل التقليدية جداً (الصهاريج) ، وما أن بدأت الحرب حتى ضاع هذا
الأسلوب لسد حاجة الاقتصاد الأردني من المواد البترولية، وإن كانت الحكومة
الأردنية قد بذلت جهوداً كبيرة لتعويض ذلك النقص، وقد نجحت في توفير الكميات
المطلوبة باتفاق مع الحكومة السعودية والحكومة الكويتية، ولكن قد يكون ذلك
بتكلفة مختلفة، فما كانت تحصل عليه من العراق قد يصعب مجاراته من أي أحد،
وأيضاً فإن مشتريات برنامج النفط مقابل الغذاء للعراق كانت في غالبها أو حتى
كاملها تأتي عبر السوق الأردنية وبعضها منه، وهذا قد حقق تشغيلاً لقطاعات
اقتصادية كثيرة، سواء منها القطاع الزراعي، أو تجارة الجملة والتجزئة، أو النقل،
أو التأمين، أو قطاع الرسوم (رسوم العبور والجمارك والضرائب والصرف
الأجنبي وغيرها) ، وما أن قامت الحرب حتى توقف كل ذلك، ومعلوم انعكاس
ذلك على الاقتصاد بجميع قطاعاته، وعلى البطالة بشكل خاص، ولا يتوقع مع
الأسف وجود حلول بديلة لهذا الحال، وحتى بعد انتهاء الحرب فلا يتوقع أن يعود
الحال إلى ما كان عليه، ولا حتى إلى بعض ما كان عليه، فلم يعد الأردن هو
المعبر الرئيس إلى العراق، بل قد يصبح آخر المعابر، فالنقل الجوي والبحري
عن طريق الخليج، وعن طريق دول الخليج والمعابر التركية؛ كلها قد تكون أيسر
وأكثر جدوى من المعبر الأردني، وعليه فخسارة الأردن قد تكون صعبة التعويض،
وعلى الرغم من تلقي الأردن مساعدة أمريكية معلنة في بداية الحرب بنحو
سبعمائة مليون دولار، لكنها ضيئلة إلى درجة أن فاتورة النفط الأردنية فقط لسنة
واحدة قد تزيد على ذلك المبلغ.
5 - لبنان:
على الرغم من صغر الاقتصاد اللبناني وبُعده النسبي عن العراق، ولكنه لم
يسلم من التأثر الواضح، فقد كان جزء كبير من الصادرات اللبنانية يتجه إلى
السوق العراقي من خلال المعابر السورية والأردنية، ومن ثم فإن هذه القنوات
التصديرية قد تختفي إلى الأبد، وإذا بقي بعضها فسيكون في تنافس كبير مع
صادرات دول أخرى قوية لم تكن منافسة في المرحلة الماضية.
وهناك نقطة أخرى؛ وهي ارتباك المستثمرين خلال فترة الحرب، وتوقف
كثير من الأمور لترقب انتهاء الأزمة، وإن كانت هذه النقطة ليست خاصة
بالاقتصاد اللبناني بل تصدق على الدول الأخرى المذكورة آنفاً.
وقد يختلف الاقتصاد اللبناني عن كل الدول المجاورة في أنه قد يستفيد من هذه
الأوضاع، فقد احتمال فقط تُغَيِّر بعض الاستثمارات المالية وجهتها من بعض دول
الخليج إلى لبنان؛ مما قد ينعكس إيجاباً على الاقتصاد اللبناني، ولكن هذا قد لا
يكون جوهرياً ولا لمدة طويلة.
6 - سوريا:
الاقتصاد السوري تأثر مرتين:
المرة الأولى: نتيجة الضغوط السياسية العنيفة التي مورست على السلطات
السورية خلال الحرب؛ مما انعكس على توتر مناخ الاستثمار، سواء من
المستثمرين المحليين أو الخارجيين، وكذلك على أداء الاقتصاد بصورة عامة نتيجة
الترقب والحذر لأي تغيرات متوقعة؛ مما أربك الأداء الاقتصادي بشكل واضح.
والمرة الثانية: بالأسلوب نفسه الذي تأثرت به الدول المجاورة، وعلى الرغم
من أن علاقات النشاط التجاري مع العراق لم تزدهر إلا في الفترة الأخيرة التي
سبقت الحرب ولكنها بلغت مرحلة جيدة.
وقيام الحرب ترك آثاراً بليغة في هذا الأمر، بل قد تكون الحدود السورية
أُغلقت تماماً؛ مما أدى إلى توقف تدفق الصادرات السورية أو العابرة كلياً، وأثر
ذلك واضح في نشاطات النقل، والتأمين، وتجارة التجزئة، والجملة، وإيرادات
الرسوم، والصرف الأجنبي.. وغير ذلك.
كان هناك خط نقل البترول العراقي إلى بانياس، وهذا قد يتوقف ولا يُعلم
شيء عن مصيره المستقبلي، فقد يتوقف مؤقتاً ويعود في وقت لاحق، وقد يتوقف
كلياً وهذا هو الأقرب؛ لوجود حلول بديلة قد تفضلها الإدارة العراقية الجديدة،
ومعلوم تأثير ذلك في الرسوم المحصلة من هذه العملية والأعمال المرافقة لتشغيل
هذا الخط، بالإضافة إلى بعض كميات النفط التي كان يمكن توفيرها من خلاله.
كذلك؛ فإن الأوضاع التي عاشتها دول الخليج في فترة الحرب، وستعيشها
بعدها سيكون لها تأثير في الدعم الخليجي المقدم لسوريا، وقد يكون له أثر واضح
في السياحة الخليجية في سوريا التي كانت مورداً مهماً للاقتصاد السوري في
السنوات الأخيرة.
أما جاذبية الاستثمار الأجنبي إلى السوق السورية؛ فقد تكون هي الأسوأ في
دول المنطقة، وقد تستمر معاناتها في هذا الجانب إلى فترة غير محدودة، وكذلك
الأمر بالنسبة للسياحة، ولكن بصورة أقل حدة، (وقد نشرت جريدة الحياة في
عددها (14626) الصادر في 10/4/2003م مقالاً مفصلاً في هذا الشأن لسمير
صبح، يمكن الرجوع إليه لمن يرغب في الاستزادة) .(188/54)
ملفات
التغيير القادم
تغيير الخطط.. في مواجهة خطط التغيير (1)
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
- واقع جديد تماماً يواجه الأمة الإسلامية بعامة، وخلاصتها من الإسلاميين
خاصة، وخاصة خلاصتها من العلماء والدعاة على وجه أخص، واقع جديد بعد
هزيمة جديدة منيت بها الأمة على أرض العراق، شاركت في صنعها أحزاب النفاق
بفروعها الإقليمية، ومنظمات التمثيل العربي والإسلامي برموزها السلبية،
وجماهير الشعوب العاجزة حيناً والمتعاجزة أحياناً، مع أكثر قياداتها الفكرية
والعلمية والدعوية المغلوبة على أمرها حيناً، والمغلبة للسلامة أحياناً أخرى.
- واقع جديد تتضاعف فيه نذر الخطر المتصاعد من بين دخان جائحة العراق،
التي لم يتداع لها سائر جسد الأمة بالسهر والحمى كما ينبغي.
- واقع جديد، وجد المسلمون فيه أنفسهم في ظل نظام عالمي جديد، بدأ
يتشكل تحت قصف القنابل وهدير المدافع وأزيز الطائرات، دون أن يعلموا موقعهم
فيه، ومكانهم تحت سقفه المتغير والمغيِّر.
- واقع جديد انهار فيه النظام العربي الرسمي بفعالية منظماته ومؤسساته،
ومصداقية قياداته وشعاراته، ومستقبل أطروحاته ومشروعاته.
- واقع أصبحت فيه صرخات فلسطين مهددة بالضياع في صحراء التيه
العربي، وغدت حسرات بغداد تتحشرج في حلقها من خيانات وجنايات (العرب
الأمجاد) الذين شاركوا في العدوان عليها بحجة «تحريرها» من الطغيان، ثم
خرسوا عند وقوعها تحت الاحتلال العسكري المباشر للتحالف بين الصليب وبين
النجمة السداسية.
- واقع أصبح فيه التهديد والوعيد، هو لغة الحوار من العالم (الحر) ، فيما
بدا تجاوزاً لأساليب التفاوض والتفاهم والتعايش بين الشعوب التي كان عليها العمل
في ظل (الشرعية الدولية) الراحلة إلى ذمة التاريخ بمؤسساتها وقوانينها ولوائحها.
- واقع نرى فيه ونسمع عن مرحلة جديدة من التحرش الشرس، تبدو
ملامحها في تهديد سوريا، ولبنان، وتهييج تركيا، وإيران، وتوريط مصر
والسودان، وتكبيل باكستان، وعزل أفغانستان، ووأد الأمل في الشيشان، وقتل
الإرادة أو شل الفعالية في غيرها من البلدان.
- واقع جديد، تتعرض فيه الجزيرة العربية لخطر داهم لأول مرة في
تاريخها، بما فيها من مقدسات وحرمات؛ حيث أصبح خطر اليهود والنصارى
يهدد مكة والمدينة (صان الله أرضهما) بعد أن تربع ذلك الخطر على أرضَي
القدس وبغداد (فك الله أسرهما) .
- واقع جديد، أصبح اليهود فيه قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ مؤامرة العصر
وكل العصور وهي هدم المسجد الأقصى لبناء المعبد اليهودي مكانه، استكمالاً
لمعالم (مملكة إسرائيل) أو (إسرائيل الكبرى) التي قفزوا بسرعة إلى حدها
الشرقي في الفرات، ريثما يستكملون الوصول إلى حدها الغربي في بلاد النيل.
- واقع جديد، أصبحت فيه ثروات الأمة في أكثر البلدان مهددة بالخروج كلية
من تحت تصرفها، لتنتقل من أيدي السفهاء الذين آتتهم الأمة أموالها التي جعلها الله
لها قياماً، إلى أيدي الأعداء الذين يبغون عليها بأموالها، حرباً وسلاماً.
- واقع جديد أصبح فيه تغيير مناهج التعليم سيفاً مسلطاً على الأجيال
الحاضرة والقادمة لتضييعها، بعد أن ساهمت المناهج الحالية في مسخها وتمييعها.
- واقع جديد أصبح فيه العمل الإسلامي مكشوفاً بكل حركاته ومؤسساته،
وبجميع برامجه وإنجازاته ليوضع في مرمى الاستهداف اليهودي والنصراني
والوثني والعلماني في جميع أنحاء العالم.
هذه كلها أخطار، أو عناوين عريضة لأخطار تكفي لأن تكتب في بعضها
عشرات المقالات، وتوضع في شأنها العديد من الكتب والمؤلفات، وتعقد لأجلها
الندوات والمؤتمرات؛ ولكن هذا ليس هو المقصود تفصيله، وإنما أريد هنا أن
أتحدث عن أمر آخر وقضية أخرى أراها أخطر من كل تلك الأخطار؛ لأنها سبب
مهم في كل تلك الأخطار.
* أم المخاطر:
وأعني بها: ذلك الشغور المخيف والفراغ المروع في موقع القيادة الجماعية
لأمتنا الإسلامية في تلك الظروف المصيرية؛ حيث تواجه كل تلك التحديات
والمؤامرات الممتدة منذ عقود طويلة بلا خطط للتصدي، ولا برامج للمواجهة، ولا
استراتيجية بعيدة ولا متوسطة ولا قريبة المدى؛ تستطيع بها أن تدافع عن حصونها
من الداخل فضلاً عن حمايتها من الخارج.
عندما أتحدث عن ذلك الشغور المخيف والفراغ المروِّع في موقع القيادة؛
فإنني لا أقصد تلك القيادات السياسية المتنافسة إقليمياً ومحلياً، أو الزعامات
المتنازعة في الجماعات ظاهراً وباطناً، ولا أقصد أيضاً أصحاب المناصب العلمية،
والوظائف الرسمية في المؤسسات الإسلامية.. ولكن أقصد تلك الولاية الشرعية
العلمية العامة التي استرعاها الله أمانة قيادة الأمة كلها، وتَعَبَّدَ تلك الأمة بالاجتماع
حولها والصدور عن رأيها وتوحيد الكلمة خلفها؛ إذا وقعت النوازل وانتشرت الفتن
وكثر الاختلاف، إنها تلك القيادة التي أمر الله بالرد إليها بعد الرد إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا
بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ]
(النساء: 83) . إنهم كما قال المفسرون: أهل الرأي والحكمة، وكما قال ابن
عباس رضي الله عنهما: «الفقهاء والعلماء الذين يُعلِّمون الناس معالم دينهم» [1] .
الأمة اليوم تتخبط في مواطن الخوف، وتخوض في مواضع الخطر، ولكنها
مع ذلك تسبح في الموج المتلاطم بلا رُبَّان، بل بلا سفينة! لا على المستوى
السياسي العام للأمة، ولا على المستوى العلمي العام لها، بل السائد والمحصلة أننا
أمة بلا قيادة موحدة منذ زمن طويل؛ فكيف يكون هذا حال أمة أمرها الله بعد
طاعته وطاعة رسوله بطاعة ولاة يلون أمرها كلها؛ وذلك في قوله تعالى: [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء: 59) ؟!
إن ولاة الأمر المقصودين هنا كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هم أهل
الفقه والدين» [2] ، وكذا قال مجاهد وعطاء، والحسن البصري وأبو العالية.
كان أهل العلم والحكم في مبدأ الإسلام غير منفصلين، أو كانوا على الأقل
متكاملين؛ فالعلماء يُبيِّنون، والأمراء يبنون على بيان العلماء، أما إذا ابتُلي الناس
بعلماء لا يُبينون، وحكام لا يمتثلون؛ فهنا تضيع الأمة، وتقع نهباً لمكايد الشياطين،
[وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء: 83) .
لقد أخذ الله على العلماء عهداً أن يبينوا للناس ما يأمر به دينهم؛ وبخاصة
عندما تلتبس الأمور وتتفاقم الفتن: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]
(آل عمران: 187) ، وأخذ الله تعالى أيضاً على الحكام أن يحكموا بمقتضى
الشريعة التي يبيّنها العلماء، وينتهوا عن اتباع الأهواء، فقال سبحانه: [يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ] (ص: 26) .
ولأجل هذين العهدين جُعلت (ولاية الأمر) شرعة من الشرائع، تحفظ بقية
الشرائع بتضافر أهل العلم وأهل الحكم. قال ابن العربي: «الصحيح عندي أنهم
الأمراء والعلماء جميعاً؛ أما الأمراء فلأنهم أهل الأمر، والحكم إليهم. وأما العلماء
فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، والتزام فتواهم واجب» ،
ثم زاد الإمام ابن العربي الأمر توضيحاً، عندما بيَّن أن ولاية الأمراء تؤول في
النهاية إلى ولاية العلماء، وبخاصة إذا اختلف حال الأمراء عن حالهم في عصور
قوة المسلمين من حيث الجمع بين العلم بالدنيا والفقه في الدين. وأورد ابن العربي
عن الإمام مالك قصة تدل على أنه كان يرى أن الولاية كلها رجعت إلى العلماء
بضعف الأمراء، فقال: «قال مطرف وابن مسلمة: سمعنا مالكاً يقول: هم
العلماء. وقال خالد بن نزار: وقفت على مالك فقلت: يا أبا عبد الله! ما ترى في
قوله تعالى: [وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم] (النساء: 59) ؟ قال: وكان محتبياً فحل
حبوته، وكان عنده أصحاب الحديث، ففتح عينيه في وجهي، وعلمت ما أراد،
وإنما عنى أهل العلم» ، ثم علق ابن العربي على تلك القصة بقوله: «والأمر كله
يرجع إلى العلماء؛ لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال، وتعين عليهم سؤال العلماء،
ولذلك نظر مالك إلى خالد بن نزار نظرة منكرة؛ كأنه يشير بها إلى أن الأمر قد
وقف من ذلك على العلماء، وزال عن غيرهم لجهلهم واعتدائهم، والعادل منهم
مفتقر إلى العالم كافتقار الجاهل» [3] .
لا أقصد هنا تفصيل القول في الراجح من هذه المسألة، ولكن أريد الإلماح
إلى ما ألمح إليه الإمام مالك من تنقل الأدوار بحسب اختلاف الظروف والأطوار،
بما يضمن ألا يوسد الأمر لغير أهله.
إن العلماء لن يتحولوا بداهة إلى رجال حكم وسياسة، ولكن المقصود هنا أن
يؤول إليهم ضبط الحكم وتوجيه السياسة، انطلاقاً من ثوابت هذا الدين الذي تستمد
منه لا من غيره شرعية أهل الحكم والسياسة.
لقد كانت أمتنا عبر عقود طويلة، في صراع دام ودائم في معظم أقطار العالم
الإسلامي بين أهل السلطان وأهل القرآن، حتى حسم الطغاة في الأزمنة الأخيرة
المعركة لصالح سلطان بلا قرآن، ونصبت العلمانية خيامها الثقيلة الغليظة على جُل
ربوع المسلمين، تحادّ الدين في بلاده، وتحارب التوحيد في مواطنه، وتنفرد
بالقيادة والريادة دون أهل العلم والعدل والعبادة، وأصبحت ديكتاتورية لُكع ابن لُكع،
أو ديمقراطية الرويبضات التوافه؛ هي صاحبة الحل والعقد واليد الطولى في
التخطيط المتخبط، والتصدي المرتجل المرتجف في مواجهة التحديات.
لا أريد الإطالة في مظاهر الفوضى التي عمت شؤون الأمة الإسلامية
والعربية بسبب شغور موقع القيادة العامة على مستواها؛ لأن هذا أصبح أمراً معاشاً
وحياة مفروضة، ومأساة نقاسيها، لا يعلم إلا الله متى ترتفع غمتها وتنزاح أيامها!
إننا لو تأملنا عناصر القوة في هذه الأمة؛ لوجدناها كلها تُفَرَّغ من مضمونها بذلك
الفراغ القاتل في القيادة العلمية الموحِّدة لكلمتها، والموجِّهة لسياستها، والمنظِّمة
لعلاقتها، والدافِعة لقوتها في الدفاع أو الهجوم؛ بحسب الضوابط المستمدة من
شريعة الله.
إن غياب القيادة القائمة بهذه الشريعة على مستوى الأمة قد أبطل أثر هذه
الشريعة في الارتفاع بأمتنا إلى العزة والتمكين، فصارت الشريعة لا تحكم إلا بعض
مظاهر الحياة الفردية للناس؛ تماماً كما أرادت العلمانية بزعاماتها المزعومة.
لا أريد أيضاً أن أُكثر في الكلام على أهمية اجتماع الكلمة وراء مَنْ ولاَّهم الله
أمر هذه الأمة من أهل العلم والأمانة والدعوة؛ فذلك أمر بدهي عند كل مسلم غيور.
ولكني أريد أن نتجاوز مرحلة التأطير والتنظير إلى محطة ولو صغيرة من التحرك
والتفعيل؛ انطلاقاً من رؤى موضوعية لا تجافي الواقع، ولا تروم المستحيل،
ولكن تهدف إلى معالجة شرعية لتلك القضية التي طال حومنا حولها دون دخولنا في
حلها.
* البداية البدهية:
عندما تكون النوازل عامة، والمشكلات ملمة؛ فإن المبادرات الفردية،
والحلول الجزئية لا تزيد الأمر إلا تفاقماً، وهنا تبرز الحاجة إلى رأي صادر عن
قيادة جماعية، أو جماعة قيادية، تستنزل البركة باجتماع الكلمة، وتستجلب
الصواب بالتماس الأسباب؛ أسباب التوفيق والتسديد والمقاربة.
أوضح هذا فأقول: إن غياب الرأي الجماعي المبني في الإسلام على العلم
والشورى والتجرد؛ يعد تفريطاً في فريضة بل فرائض شرعية محكمة. وحرمان
أمة يبلغ تعدادها اليوم ملياراً وثلث المليار من البشر من آراء حكمائها وعلمائها
وأهل النصح فيها، مع ما تواجهه من خطوب وعظائم تستهدف إذلالها أو إزالتها؛
هذا الغياب وذلك الحرمان يعد إجراماً في حق هذه الأمة، خاصة أنها ليست كأي
أمة؛ إنها خير الأمم، وصاحبة خير الرسالات، والمسؤولة عن أعظم الأمانات:
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً]
(البقرة: 143) ، [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران: 110) .
فإذا آل أمر هذه الأمة إلى أن تصبح بلا قيادة، بعد أن أصبحت بلا ريادة ولا
سيادة؛ فإن المسؤولين عن ذلك سيُسألون أمام الرب جل وعلا عما فرطوا فيه
وأحجموا عنه.
وهنا يبرز السؤال المهم: ما الذي يمنع هذه الأمة من أن تكون لها قيادتها
العالمية، ومرجعيتها الاعتبارية في مثل تلك الظروف الخطرة والأجواء الاستثنائية؛
مثلما لليهود قياداتهم العالمية (المؤتمر اليهودي العالمي) ، وللنصارى زعامتهم
الكونية (المجلس العالمي للكنائس) ، بل ولبقية المبتدعة من هذه الأمة مؤسساتهم
القيادية ومرجعياتهم الدينية؟!
ويأتي الجواب الصعب: لا مانع؛ إلا أن لهؤلاء صفوفهم المتراصة وراء
أهدافهم الموضوعة، ولنا صفوفنا الممزقة خلف خلافاتنا المصنوعة!
ثم يأتي سؤال أهم يحتاج لجواب أصعب، وهو: ما الذي يمنع صفوفنا من
التراص، ومواقفنا من الاجتماع على كلمة سواء، مع أن الله تعالى تعبَّدنا مع
التوحيد بالتوحُّد، ومع الصلاة والزكاة والصيام، بالاجتماع والاعتصام؟
لا جواب على ذلك إلا أن قيادتنا الاعتبارية العامة مفقودة، ومرجعيتنا العلمية
الموحدة غير موجودة، أو موجودة ولكنها غير مجموعة؛ ولهذا كانت غير مسموعة.
بديهيات العقول تقول: لا سفينة بلا ربان ... ولا معركة بغير قيادة، ولا
نصر بلا اعتصام؛ ولا عزة مع الفُرقة ففيم الإصرار على خطأ عُرف خطره، ولِمَ
الإقامة على منكر عُلِمَ إثمه؟!
لقد بلغ أمر تنفير القرآن من الفُرقة، أن جعلها من شعار الكفار، فقال الله عز
وجل: [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ] (آل عمران: 105) ، وجعل التنازع قرين الفشل فقال: [وَلاَ
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال: 46) .
إنك لو سألت أي مهتم بأمر المسلمين: هل يجوز لجماعة من جماعات
المسلمين أو كيان من كياناتهم أو شعب من شعوبهم، أن يمضي بلا رأي ولا راية
ولا ولاية؟ لبادرك بالقول: هذا لا يصلح في صحيح العقول؛ فكيف يصح في
مقاصد النقول؟!
للأسف الشديد؛ فإن هذه حال الأمة في مرحلتها الراهنة، بعد سقوط المراهنة
على الزعامات «الملهمة» ، والقيادات «الحكيمة» ، والزعامات «التاريخية» !
إن مما يحز في النفس أن نرى أن الأنظمة العلمانية كلها أصبحت آيلة للسقوط،
أو في حكم السقوط، إلا أن البديل الإسلامي وللأسف الشديد غير جاهز، بل غير
موجود!! فهل أسرفنا في الحديث عن (الصحوة) حتى صحونا على واقع يقول:
إن صحوتنا لم تبلغ بعد سن الرشد، بل سن البلوغ الذي يؤهلها لاستلام دفة
المسؤولية في تلك المرحلة البالغة الخطورة؟!
أعرف أن هذا ليس وقت التأسف والأسى، وليس زمن التشكي والتباكي،
ولهذا أعرِض رأياً، وأُسهِم بقول، وأُدلي بنصيحة فالدين النصيحة غير زاعم فيها
سبقاً، ولا محتكر فيها صواباً.
* دعوة لأهل الدعوة:
أُثْبِتُ ابتداءً أن كثيراً من الفضلاء والعقلاء والعلماء دعوا منذ وقت طويل إلى
صيغ جديدة لإنشاء قيادة علمية عالمية، تمثل مرجعية دينية وقت النوازل لعموم
المسلمين، وقد بدأ بعضها متواضعاً، وتعثر بعضها متسارعاً، وسار بعضها الثالث
بثبات، ولكن في طريق تتناوشه الأخطاء والأخطار.
وفي رأيي المتواضع أن هناك ثلاثة من تلك الأخطاء والأخطار تتهدد جُل تلك
المشروعات الإصلاحية الطموح، تتركز حول ثلاث مفردات ضارة؛ طالما
ضارت جهود المصلحين وأضلت سعي الكثيرين، وهي: الحزبية، والرسمية،
والإقليمية؛ ذلك الثالوث المدمر المسؤول عن عرقلة أكثر خطط التغيير الإسلامي
الصادق، وتعطيل أكثر مشاريعه البنائية والإصلاحية.
لقد طُرحت ولا تزال تطرح مشاريع لتشكيل هيئة عالمية من العلماء
تتخصص في بحث نوازل الأمة، وتمسك بزمام المبادرة في التوجيه والترشيد، إن
لم يكن في التخطيط والترتيب، وهي مشروعات لا نرى أنها صدرت إلا عن قلوب
سليمة، وآراء ناصحة، وعقول ناضجة، ولهذا فسوف ينفع الله تعالى بها أصحابها
والأمة كلها في يوم من الأيام، ولكن في الوقت نفسه؛ أرى أن هناك من العوائق
والعراقيل ما يمكن أن يطيل أمد تحقيق هذا الأمل؛ فالتركيز على أن تكون هذه
الهيئة، أو تلك المؤسسة أو الجمعية، في إطار معين من العلماء فقط، أو من اتجاه
بعينه فقط، أو في مستوى شكلي أو رسمي أو إقليمي فقط؛ سيضعف ذلك الكيان،
وسيضاعف من العقبات الموضوعة في طريقه، ويزيد من المدة الكافية لنضوجه
ونهوضه للقيام بالمهام العظام الموكل بها، إن لم يعطلها كلياً عن الوصول.
أرى وبصراحة تامة أن حالة العلماء الراهنة في العالم الإسلامي؛ تحتاج إلى
جهد جبار لإخراجها من حيز السلبية إلى فضاء الإيجابية، ليس لسوء ظن فيهم،
ولكن فيمن يحاصرونهم ويخادعونهم ويعطلونهم عن أداء مهمتهم الربانية في قيادة
الأمة منذ دهور طويلة وعلى امتداد العالم الإسلامي، لا أجدني في حاجة إلى
التفصيل في هذا الأمر المعروف التفاصيل.
لهذا أقترح أن يُبدأ في إقامة هذا الواجب الكفائي العظيم بداية مرحلية تمهد
للمرحلة النهائية، وتتميز عنها بسهولة الآلية، ويسر الحركة، وسرعة الإنجاز.
* رابطة الدعاة.. نواة لرابطة العلماء:
العالم الإسلامي يشكل كتلة مترامية الأطراف، متعددة المشكلات، متفاقمة
الأخطار، ولكنه في الوقت نفسه ثري بالخبرات، غني بالمواهب الدنيوية والدينية،
ومن المواهب الربانية لهذا العالم الإسلامي أن فيه آلافاً مؤلفة من الرجال
المتميزين الصادقين الذين تعاهدوا على البذل في خدمة هذا الدين؛ دون مطمح
دنيوي، أو هدف حزبي، أو غاية إقليمية أو عنصرية أو مذهبية، وهؤلاء هم
جمهور المصلحين من أهل العلم والدعوة، وهؤلاء موزعون الآن بين جميع فصائل
العاملين للإسلام من طائفة أهل السنة والجماعة، تلك الطائفة التي تسلمت منذ
وُجدت أمانة حمل الحق وحمايته والدعوة إليه، والتي تتضاعف مسؤولياتها كلما
استولى على المسلمين زمان الغربة أو دهمتهم أجواء الفتن: «لا تزال طائفة من
أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم
ظاهرون على الناس» [4] .
لا أشك في أن كل اتجاه من اتجاهات العمل الإسلامي، وكل جماعة أو جمعية
أو هيئة أو منظمة؛ تضم في صفوفها الكثير والكثير من العقلاء والشرفاء والأمناء
الذين يقدمون الانتماء إلى الأمة على الانتماء إلى الجماعة، والولاء للمسلمين على
الولاء للحزب، ويقدمون الشريعة على الشعارات، وأخوة العقيدة على خُلة
الجماعات والتنظيمات.
هؤلاء الأجلاء أينما كانوا وكيفما كانوا في أنحاء بلاد المسلمين هم خلاصة
الأمة، وهم عدتها وعتادها، هم معدنها وجوهرها، ليسوا كلهم علماء، ولكنهم
يعرفون قدر العلم والعلماء، قد يكونون ضعفاء، ولكنهم في ميزان الحق أقوياء
أعزاء، بعضهم بل أكثرهم معوزون فقراء، ولكن غنى النفس يجعلهم في مصاف
الأثرياء.. فيهم الفقهاء والعباد والمجاهدون، فيهم الأطباء والمهندسون والمدرسون،
فيهم علماء الذرة، ومنهم أدباء الكلمة ... فيهم المهرة المنظرون والمخططون،
وفيهم النشطاء المنفذون، رجالاً ونساءً، ولا عجب من تنوع وتفاضل أصنافهم؛
فأهل الجنة أصناف وأصناف، تزيد على أهل الدنيا أضعاف أضعاف: [انظُرْ
كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً] (الإسراء:
21) ، هؤلاء العقلاء في كل اتجاه إسلامي هم بضاعتنا المطلوبة، وغايتنا
المقصودة، الأمة في حاجة إليهم اليوم؛ لتتكون منهم على اختلاف تخصصاتهم
رابطة إسلامية دعوية عامة، لا حزبية ولا إقليمية ولا رسمية؛ بل رابطة أخوية
عالمية احتسابية، لا يُطلب من أفرادها أن يتركوا مواقعهم، أو يتخلوا عن أدوارهم
فيما هم بصدده، ولكن المطلوب منهم أن يضيفوا إلى همومهم الدعوية الخاصة هماً
عاماً يخص الأمة كلها، وانتماء عاماً لا يتعارض مع الانتماء الخاص إن وُجد وإنما
يوجد له دور جديد في الرابطة العامة التي تفرضها الضرورة.
- إن تلك الرابطة ليست حزبية، ولكنها لا تنعى على الجماعات إلا التحزب
الضار، أما التحزب على الحق وللحق؛ فشأن شرعي مطلوب؛ فأهل الحق حزب
هو حزب الرحمن: [أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] (المجادلة: 22) ، ولهذا
فإن الرابطة المزمعة لا تأخذ من الحزبية إلا هذا المعنى المتجرد المشروع.
- وهي ليست رسمية، ولكنها لا تنكر أن قسماً كبيراً من الجهود الدعوية
الرسمية لها أثرها ومفعولها، وهذا من عظمة هذا الدين الذي يثمر غرسه في أي
أرض إذا سُقي من معين الإخلاص.
- وهي ليست إقليمية؛ لأن الإقليمية قد تكون قرينة العنصرية التي ليست من
دين الله. ولكن رابطة الدعاة مع ذلك لا تنكر ما لبعض البيئات الإقليمية من
خصوصيات مكانية؛ قد تفرض عليها بعض أشكال الاجتهادات والاختيارات التي
قد لا تصلح لغيرها.
إن رابطة إسلامية متحررة من آثار الانتماء الحزبي الضيق، والالتزام
الرسمي المتقيد، والارتباط الإقليمي المحدود، تملك قدرة عظيمة على اختراق
الحواجز والسدود التي طالما أعاقت العمل الإسلامي فيما مضى من مراحل.
ومع تحرر تلك الرابطة من تلك القيود الثلاثة، إلا أنها ستضم حتماً بإذن الله
أصلح العناصر الرسمية، وأعقل الموجودين في الجماعات الحزبية، وأخلص
المنتمين لتجمعات إقليمية، لا لتقطعهم عن أدوارهم أو تفصلهم عن جهاتهم، لكن
لتضيف إلى مهامهم الجزئية بُعداً كلياً عاماً لخدمة الأمة كلها، لا شريحة واحدة منها.
- إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى؛ هي التي يمكن أن تفرز رابطة حرة
محتسبة من العلماء غير الحزبيين، ولا الإقليميين، ولا المحصورين في الرسميات
الشكلية علماء يُشهد لهم بالعلم والعمل.
- إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى: هي التي يمكن أن تنشئ جيلاً من الدعاة
غير المصنِّفين، أو المصنَّفين، الذين يُعَدّون دعاة من كل الأمة لكل الأمة،
فيكونون بذلك أقدر على إيجاد رأي عام إسلامي فاعل؛ لاحترام الجميع لهم،
وصدور الجميع عنهم.
- إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى: هي التي يمكن أن تمهد لوجود تيار
إسلامي عام يجعل الانتماء للإسلام فوق الانتماء للافتات واليافطات والجماعات
والأمكنة، وينهي بشكل طبيعي مرحلة التجمعات الجزئية التي استنفد الكثير منها
الغرضَ من إنشائها.
- إن (رابطة الدعاة) بهذا المعنى: هي التي يمكن أن تخاطب بلا قيود ولا
حساسيات الشريحة الأكبر من قطاع المتدينين، وهي شريحة غير المنتمين.
- إنها بهذا المعنى: يمكن أن تخرج أجيالاً من طلبة العلم الشرعي غير
الموجَّه حزبياً، أو المأسور رسمياً، أو المحصور إقليمياً؛ ومن ثم فهي قادرة بإذن
الله أن تخرِّج منهم علماء أكفاء، علماء ملة، لا علماء دولة، يخاطبون الناس
بلسان الإسلام العام، ويخاطبون أهل الإسلام بلسان أهل السنة ويخاطبون أهل
السنة بلسان الانقياد والحياد ... الانقياد في الاتباع، والحياد في مسائل الاجتهاد.
- وهذه الرابطة بهذا المعنى أنسب المحاضن لتنشئة قادة غير متعصبين،
ومجاهدين منضبطين، ودعاة متجردين.
- وهي بهذا المعنى ستشكل شخصية اعتبارية لقيادة الأمة، تتوزع في كل
أقطارها؛ بحيث تخاطب البناء التحتي، والنخب الفوقية، بل هي قادرة في كل
موطن على أن تخاطب أهل السلطان بلسان الأمة؛ لأنها تحوي جميع عناصر
المسلمين في الأمة، ولأنها لن تترك مجالاً لأحد أن يصنفها تمهيداً لعزلها، أو
يشوهها تمهيداً لضربها، إلا إذا أصر المغرضون على أن يصنفوها تحت وصف
أهل الدين في مقابل اللادينيين اللاأخلاقيين، وهذا يزيدها مصداقية.
- وإن (رابطة للدعاة) بهذا المعنى: ستملك حرية في التحرك، ومرونة في
التصور، وقدرة على النزول إلى ساحات الأمة لمعرفة نبضها، ومداواة جروحها،
ووضع التصورات لحل المشكلات؛ بعد أن ينظر فيها أصحاب الشأن وأهل
التخصصات.
- إنها مع كونها (رابطة للدعاة) ؛ فسيظل قادتها وبركتها هم العلماء؛
فالعلماء هم خاصةُ الدعاة؛ لأن كل عالم داعية، وإن كان كل داعية ليس بالضرورة
عالماً، ومع هذا؛ فتلك الرابطة كما سبق البيان مرحلة تمهيدية لإنشاء الولاية
العلمية والمرجعية الدينية.
- بل إنني قد أتجاسر وأقول: إذا خلصت النيات، وتضافرت الجهود، وساد
التجرد والأريحية وإنكار الذات؛ فقد نصل إلى صيغة في وقت ما تمهد لقيادة واحدة
للأمة الواحدة كما أراد الله وشرع وأمر.
تخيل معي رابطة دعوية علمية فكرية علنية، تضم خلاصة أصحاب الخبرة
والتجربة من الإخوانيين، وزبدة أصحاب القدرة على البحث والتأصيل من السلفيين
وصفوة الحكماء العقلاء من التبليغيين والجهاديين والحركيين، والنخبة من
المفكرين والإعلاميين، ومن تحتاج إليهم الدعوة من الفنيين والمهنيين
والمتخصصين، والمخلصين من الرسميين، وهي مع ذلك لا تستبعد إضافات
العائدين إلى الحق ممن كانوا قوميين أو ليبراليين. ولماذا لا؟! .. ألم يقل الله تعالى:
[وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] (المؤمنون: 52) ، فلنتق الله
ونبذل أسباب فريضة الاعتصام بحبل الله، كما أمر الله: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) . نعم.. [جَمِيعًا] . معاً.. [جَمِيعًا] .
* تساؤلات مبكرة ... وإضافات منتظرة:
- أعرف أن الكثيرين سيرون هذا الطرح حالماً، وقد يُصدرون فيه قبل
الإيضاح والاستيضاح حكماً متسرعاً أو ظالماً، ولكن أقول: رويدك مهلاً! .. دعنا
نتفق أولاً على المبدأ.. فإذا اتفقنا ولا أظننا إلا متفقين على وجوب إيجاد قيادة للأمة
فإن كل التفاصيل.. كل العقابيل، كل الخطوات الإجرائية، والمحطات المرحلية،
كلها تُدَبَّر وكلها تهون، ويمكن أن تُخضع للحوار والنقاش أياماً وشهوراً؛ فقد
صبرنا على الخلل والفراغ عقوداً ودهوراً.
إننا في مرحلة أصبح لزاماً علينا أن ننظر في تغيير الخطط لمواجهة خطط
التغيير، فخطط التغيير التي تواجه الأمة اليوم، لم يعد يصلح لها كل ما صيغ منذ
عقود أو ما سطر من قرون؛ فالأوضاع مغايرة، والأجواء مختلفة والتحديات بالغة
الصعوبة ولا بد من بداية جديدة.
إن تغيير الخطط للأمة لا يصلح له إلا طائفة على مستوى الأمة ومن جميع
الأمة.
- سيتساءل كثيرون عن الآليات والمسؤوليات، وكيفية تجاوز العقبات
والحساسيات، والموازنة بين الممكنات والمستحيلات، والحقائق والتخيلات في كل
ما يتعلق بذلك المقترح، وسيسارع كثيرون بإبداء مشاعر الشفقة أن تُولَد بعض
الأفكار خِداجاً ناقصة، أو يجيء بعضها مختزَلاً سريعاً، أو تغلب على الآخر روح
العاطفة أو الحماسة الزائدة أو الظن الحسن في غير محله!
وأقول: كل هذا وارد وقابل للأخذ والرد، ولهذا سوف تكون لنا عودة بإذن
الله للكلام عن هذه الموضوعات مما يسمح به المقام، وإلى أن يحين أوان ذلك؛
سأتقبل منك رأيك، وأعدِّل قولي بقولك، وأكمل ما نقص من علمي بما كمل من
خبرتك، وما زاغ عنه فهمي بما بلغته حكمتك، فلا شك أن هناك العديد من
الفراغات والنقاط التي تحتاج إلى تلاقح في الأفكار وتناصح في الدين.
وفي انتظار تعقيب أو تصويب، أو تعديل وتقريب؛ من خلال بريد البيان أو
على صفحاتها.
[رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً] (الكهف: 10) .
__________
(1) تفسير البغوي، (2/ 239) .
(2) تفسير ابن كثير، (1/ 568) ، طبعة الندوة العالمية.
(3) تفسير أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 472) .
(4) رواه مسلم، رقم 5348.(188/60)
ملفات
التغيير القادم
جيوش الكنائس الصهيونية الصليبية الأمريكية
تحط رحالها في العراق
أبو إسلام أحمد عبد الله
في خبر صحفي تناقلته وكالات الأنباء عن صحيفة (لوموند) الفرنسية،
وبثته شبكة (islamonline) يوم 28/3/2003م، ونشرته مجلة الأهرام العربي
بالقاهرة، في عددها الصادر يوم السبت 12/4/2003م، عن هجوم تنصيري
مرتقب وصل بالفعل إلى الحدود العراقية الأردنية؛ استعداداً لحمل العون المادي
(والروحي) لسكان العراق، عندما يتحررون من نظام الرئيس صدام حسين.
وأوضح الخبر الصحفي أن (المؤتمر المعمداني للجنوب) ، وهو أكبر تجمع
بروتستانتي يضم الكنائس القليلة في الولايات المتحدة التي أيدت الحرب على
العراق، وهيئة أخرى يديرها القس (فرانكلين جراهام) ابن الواعظ العالمي
الشهير (بيلي جراهام) ، وهي من أكبر التنظيمات الإنجيلية في العالم؛ قد دفعا
بمجموعات من المبشرين إلى الحدود الأردنية العراقية تمهيداً لدخول العراق وإقامة
مراكز في الجنوب؛ بينها بعثة تنصيرية معمدانية.
وأشارت صحيفة (لوموند) إلى أن مهمة المنصِّرين المعمدانيين والإنجيليين
الذين يستعدون لدخول العراق؛ تثير انتقادات غاضبة في الأوساط التي ترى فيها
تأكيداً للمخاوف من حملة صليبية ضد الإسلام، خاصة أن القس (فرانكلين جراهام)
لا يكف منذ أحداث 11 سبتمبر عن التهجم البذيء على الإسلام والمسلمين في
العالم.
وقالت مجلة (الأهرام العربي) نقلاً عن (اللوموند) أن كنائس هاتين
الحركتين لها نشاط تنصيري في دول عربية عديدة وخاصة الإفريقية منها، تحت
شعار تقديم المعونات الغذائية والطبية، ويتركز نشاطها في السودان والصومال،
وتستعد حالياً للوصول إلى العراق. وهذه الكنائس تعمل بمعزل تام عن الكنائس
الشرقية التي تحاربها وترفض الأنشطة التي تقوم بها، وتحاول تنبيه الحكومات
العربية إليها، وخاصة أن عمليات التنصير التي تقوم بها للدعوة إلى مذهبها لا
تستهدف المسلمين فقط، ولكن النصارى الشرقيين أيضاً.
ومن ناحية أخرى فقد أعلنت المنظمتان في تصريح لشبكتي (believe
net) و (new hous) الألكترونيتين؛ أن أعضاءهما موجدون حالياً (28/3/
2003م) على الحدود العراقية الأردنية؛ في انتظار استقرار الأوضاع الأمنية
للدخول إلى الأراضي العراقية.
* المهام البروتستانتية والإنجيلية في العراق:
وقالت (islamonline) على لسان ما أسمته (مترجم حر) : إن مع
المنظمتين فريقاً من المترجمين، للقيام بترجمة كتب ومنشورات المنظمتين، من
اللغة الإنجليزية إلى العربية. وإنه (المترجم) اطلع على مقتطفات من هذه
المنشورات، ولاحظ أنها ذات طبيعة تنصيرية، وأنها تستهدف ثلاث دول عربية:
هي العراق، والكويت، والسعودية.
ومن طرفهما أعلنت المنظمتان أن من أوليات عملهما تقديم الطعام للعراقيين
المتضررين من الحرب، ونشر الديانة النصرانية بين العراقيين الذين تبلغ نسبة
المسلمين بينهم 98%.
وكان (فرانكلين جراهام) الذي تحمل إحدي المنظمتين اسمه قد أدلى
بتصريح خاص لموقع (net believe) يوم الثلاثاء 25/3/2003م، قال فيه إن
أعضاء منظمته توجهوا إلى العراق لتولي مهمة التنصير، وإنه يفعل ذلك باسم
المسيح، بالتنسيق الكامل مع وكالات الإدارة الأمريكية في العاصمة الأردنية عمان،
لكنه لا يعمل لحساب هذه الإدارات.
ويذكر أن (فرانكلين جراهام) ، كان قد صرح في وقت سابق لشبكة
(NBC) التلفازية الأمريكية عقب أحداث سبتمبر 2001م بشهرين تقريباً؛ قائلاً:
«إن الإسلام والقرآن يُعلِّمان العنف ولا يَعرفان السلام» .
ومن ناحيته أعلن (سام بورتر) مدير إغاثة الكوارث في منظمة المؤتمر العام
المعمداني بمدينة أوكلاهوما الأمريكية؛ أن المنظمة تستعد أيضاً للقيام بما أطلق
عليه: نشر (محبة الرب) على حد وصفه.
وعن أسلوب التنصير الذي سوف تتبعه المنظمات؛ قال (مارك كيلي)
المتحدث باسم مجلس البعثات الدولي التابع للمؤتمر المعمداني: «إن الحديث حول
الاحتياجات الروحية سينتج عن أسئلة المواطنين العراقيين عن ديننا» .
* صليبية بوش تابعة لصليبية جراهام:
وجدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) على علاقة روحية
حميمة بمنظمة (المؤتمر المعمداني الجنوبي) التي تعد أكبر مؤسسة دينية موالية
لبوش، كما أنه على علاقة قوية بالقس الإنجيلي (فرانكلين جراهام) الذي أدى
صلاة خاصة في حفل تنصيب بوش؛ ممثلاً للكنائس اليمينية التي برزت بقوة في
الولايات المتحدة منذ مطلع الثمانينيات، لتقود حركة أصولية صليبية ينتمي إليها
حوالي 40 مليون أمريكي؛ منهم شخصيات عديدة تتولى مراكز قيادية دبلوماسية
وسياسية وعسكرية؛ منهم الرئيس الأمريكي جورج بوش وأعضاء إدارته.
وتؤمن هذه الحركة بأن العودة الثانية للسيد المسيح تسبقها عدة نبوءات،
تحقق منها حتى الآن بحسب زعمهم: قيام دولة إسرائيل، واحتلال القدس من
المسلمين، وبقيت النبوءة الثالثة المنتظرة وهي بناء هيكل سليمان.
فطبقاً لنبوءات هذه الحركة؛ فإن العالم كله سوف يتمركز حول الشرق العربي
الإسلامي، وكل أمم الأرض سوف تضطرب وسوف تتورط في ما يجري في هذا
الشرق.
* طنطاوي وشنودة لا يرونها صليبية:
وفي تصريح خاص قال (إبراهيم هوبر) المتحدث باسم مجلس العلاقات
الإسلامية الأمريكية (CAIR) : إن (جراهام) يعتقد بوضوح أن الحرب على
العراق هي حرب على الإسلام وأهله وأرضه، يباركها الرب.
وأوضح (إبراهيم هوبر) أن (CAIR) رفضت مشاركة فرانكلين في
الجهود الإنسانية العاملة في العراق؛ مشيراً إلى تصريحات متكررة لجراهام قال
فيها: «إن الإسلام دين شرير، ... وإنني أريد التوجه بنفسي إلى العراق لإعادتها
إلى حظيرة النصرانية» .
وفي رد من (إبراهيم هوبر) على جدوى مساعدات هذه المنظمات لأبناء
العراق قال: «لن يأتي خير أبداً للمسلمين من (جراهام) وأمثاله» .
بينما رفضت متحدثة باسم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية؛ التعليق على
الموضوع كله.
وفي تعليق لشبكة (islamonline) قالت: ويعتقد مراقبون أن حرب
أمريكا على العراق زادت قناعة قطاع كبير من الرأي العام في العالمين العربي
والإسلامي؛ بأنها حرب صليبية، على الرغم من رفض مثقفين آخرين بارزين
بينهم شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، والأنبا شنودة اعتبارها كذلك.
* الخطة والانتشار:
وعلى ما يبدو أنه نوع من أنواع الصراع الكنسي على العراق، والتنافس
على الكعكة كما يقولون، أصدر مركز (unit Mission Global) التنصيري
العالمي تقريراً أول أبريل الماضي بعد نشر تصريحات (فرانكلين جراهام) حول
بعثته التنصيرية إلى العراق، جاء فيه: (إن فريقاً تابعاً له يقيم في العراق منذ عدة
سنوات، يضم خمسة قسس وعائلاتهم وبعض معاونيهم، وهم: بوب، بلن، بل
كوبس، روث تيسدال، تيريزا شلينجر، تيري بوس. وقد نجح هذا الفريق على
مدى سنوات أن يفتتح له عدة مراكز لنشر الدعوة النصرانية، وأنشأ ثلاث مكتبات
ضخمة واحدة في مدينة دهوك، وأخرى في مدينة أربيل، والثالثة في كردستان،
لتوزيع الكتب المجانية، والنشرات، وكتاب الإنجيل، وشرائط الكاسيت، والفيديو.
وقد حققوا قبولاً واسعاً هناك) .
وأفاد التقرير الذي بثه أيضاً الباحث نواف العباسي، في رسالة إلكترونية أن
عمل هذا المركز يأخذ صبغة شبه رسمية، وينشط في مجالات الخدمات الاجتماعية
والإنسانية، وفق اتفاقية مع عدة منظمات أخرى:
- منظمات تابعة لهيئة الأمم المتحدة.
- منظمات تابعة لبعض الحكومات الغربية.
- منظمات تنصيرية من مختلف الطرائف الكبرى.
وتخضع كلها إلى هيئة تنسيقية عليا، باسم (مكتب تنسيق إغاثة العراق)
(IRCO) .
وعن الأنشطة التي حققها مركز (Global) قال التقرير:
1 - توزيع مئات من كتاب الإنجيل باللغة الكردية التي يتحدث بها أبناء
(أربيل، ودهوك) وبطبعات أنيقة للغاية.
2 - طبع وتوزيع كتاب باللغتين الكردية والإنجليزية بعنوان (الأكراد في
الكتب المقدسة) .
3 - التنسيق مع منظمة الكنائس العالمية في استقبال الأكراد الذين يرغبون
في السفر إلى أوروبا، بعد تحولهم إلى النصرانية، وتهيئة الظروف الملائمة
للاستفادة من إمكاناتهم العلمية والمهنية.
4 - تنظيم سلسلة دائمة من المحاضرات التنصيرية للمهتمين والمتميزين من
شباب الأكراد.
5 - إقامة مركز كبير للدراسات الحرة لتعليم اللغة الإنجليزية والكمبيوتر
والتمثيل والغناء والموسيقى والرقص.
6 - تشجيع استعمال الحروف الإنجليزية في كتابة اللغة الكردية؛ بدلاً من
الحروف العربية.
7 - دعم المنظمات والجمعيات الخيرية والنسائية، بمعونات شهرية، لتغطية
نفقات أنشطتها.
* الأمم المتحدة تشرف على تنصير العراقيين بأموال العراق:
وفى تقرير (Globle) أضافت المعلومات أن الكنائس العاملة في العراق،
خاصة مناطق الشمال، كان لها النصيب الأوفر من مساعدات هيئة الأمم المتحدة،
والتي أسند للكنائس العالمية الكبرى أمر توزيعها والإشراف عليها وتحديد
المستفيدين منها.
وأشار التقرير إلى عدة منظمات كنسية أخرى، أضاف إليها الباحث نواف
العباسي كثيراً من التفاصيل الدقيقة والمهمة للغاية، من هذه المنظمات:
1 - جمعية الكتاب المقدس: ولها مكتب في مدينة أربيل (ص. ب 940) ،
وتطبع كل نشراتها بمطبعة الثقافة التابعة لوزارة الثقافة العراقية في أربيل.
2 - منظمة تطوير خدمات الشرق الأوسط التنصيرية البريطانية: ومركزها
الرئيس في القاهرة، ولها ثلاثة مكاتب رئيسة بالعراق؛ في أربيل ودهوك
والسليمانية، وتقوم على أنشطتها مجموعة كاملة موفدة من المكتب الرئيس للمنظمة
في مصر، تحت رئاسة (د. إلكسندر رسل) البريطاني الأصل، والذي يعمل
أستاذاً لتدريس اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة صلاح الدين في أربيل،
ويساعده كل من (د. كريستين) زوجة إلكسندر وزميلته بنفس الكلية، وتدير
مركز المصباح (Lamp) لمحو الأمية، وخالد (اسم مستعار) النمساوي
الأصل، وطارق (اسم مستعار) الإنجليزي الأصل، ومسعد المصري الأصل،
وناجي المصري الأصل، والذي كان يعمل سابقاً في مكتب وزارة الخارجية
المصرية بمدينة الرياض السعودية. وجميعهم يتحدث الإنجليزية والعربية بطلاقة،
إضافة إلى اللغة الكردية.
3 - منظمة (ينبوع الحياة) الأمريكية: ومركزها في مدينة (شقلاوة)
القريبة من أربيل؛ بدعم مباشر من مكتب مساعدة الكوارث الخارجية
(A.D.F.O) التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، تحت ستار حفر الآبار وتوفير
مياه الشرب النقية.
4 - منظمة القوافل الطبية الدولية (International Medical Teams) : ومركزها الرئيس مدينة (بورتلاند) الأمريكية، جاءت إلى العراق
برفقة الجيش الأمريكي في حرب الخليج الثانية، وتعمل بدعم مباشر من مكتب
(A.D.F.O) وتحت إشراف مكتب التنسيق العسكري الأمريكي (c.c.M) ،
ولها أربعة مكاتب في (السليمانية، أربيل، وزاخو، ودهوك) ، يديرها فريق
منظمة (Global) ، وجميع مقار هذه المكاتب كان منحة إجبارية من الحكومة
العراقية استجابة لشروط دعم الأمم المتحدة من خلال مشروعها (النفط مقابل
الحياة) .
5 - الكنيسة الكلدانية الأمريكية: وهي واحدة من أعرق الكنائس في
العراق، والتي تنتسب إلى الكنيسة في قرونها الأولى، وتنتسب إليها جميع
الكنائس الكلدانية في العالم.
وتلقى هذه الكنيسة رعاية خاصة من النظام العراقي، خاصة في عهد صدام
حسين، والتي أفصح عن جزء منها الخوري العراقي (يعقوب يسَّو) الذي يشرف
على كنيسة القلب المقدس الكلدانية التي أسسها في مدينة ديترويت الأمريكية عام
1970م، حيث يقطن أكثر من (100) ألف كلداني عراقي، بحسب تصريح
الخوري يعقوب إلى صحيفة الشرق الأوسط، والذي أدلى به هاتفياً قبل احتلال
القوات الأمريكية للعاصمة بغداد بأيام قليلة.
قال الخوري إنه تلقى مساعدات ضخمة من الرئيس العراقي صدام حسين،
يذكر منها (250) ألف دولار لكنيسته، ثم مثلها إلى كل واحدة من خمس كنائس
كلدانية أخرى، كما تبرع بنفس هذه القيمة في مناسبة أخرى إلى إدارة الشؤون
الثقافية التابعة لبلدية مدينة ديترويت الأمريكية؛ مما حدا برئيس البلدية أن يمنح
الرئيس العراقي المفتاح الذهبي للمدينة.
وأضاف الخوري يعقوب؛ أن دفعات أخرى تلقتها الكنيسة الكلدانية من
الرئيس صدام حسين، كان آخرها (200) ألف دولار لكنيسته، وضعفه موزعاً
على كنيستين في شيكاغو، ثم مليون دولار في دفعة خاصة لبناء مدرسة خاصة
لأطفال العراق في ديترويت.
6 - منظمة (المصادر) بريطانية الجنسية: وتعمل في مجال تدريس
الكمبيوتر واللغة الإنجليزية، ولها عدة مكاتب فرعية، ومكتب رئيس في مدينة
شقلاوة وضواحيها.
وفي ضوء هذه الجهود المستمرة للكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية في
العراق؛ فإن الكنيسة الأرثوذكسية قد استطاعت أن تؤدي دوراً كبيراً في تمهيد سبل
النشاط والحركة، وجمع المعلومات الجغرافية والبيئية حول مناطق الشمال خاصة،
وتقديمها إلى الكنائس التي أطلق عليها التقرير وصف (المغتربة) .
7 - منظمة كاريتاس: وعلى محور مستقل، أعلنت نشرة (النيابة الرسولية
الكاثوليكية) التي تصدر بالقاهرة، في عددها رقم 46، الصادر في نهاية مارس
الماضي؛ أن منظمة (كاريتاس) الكاثوليكية العالمية، بالتعاون مع مكاتبها داخل
العراق والتي لم تحدد مواقعها وبتنسيق مع فروعها في تركيا وسوريا ولبنان
والقدس، قد أعدت كمية ضخمة من المساعدات الإنسانية تسد احتياجات ما يقرب
من نصف مليون عراقي.
وقال مصدر مسؤول بالنشرة البابوية إن (كاريتاس) تلقت للغرض نفسه
(600) ألف يورو من فرعها في ألمانيا للخدمات الروحية (التنصيرية) .
وفي تصريح خاص لمسؤول مكتب كريتاس للتنصير الذي يقع أول شارع
عبد الحميد حسن بوسط القاهرة رفض ذكر اسمه: أن كريتاس تعمل في العراق منذ
أكثر من عشرين عاماً، لكنها ضاعفت من نشاطها بعد حرب الخليج الثانية، خاصة
في منطقة شمال العراق التي تعدُّ أرضاً خصبة لأنشطة المنظمات الكنسية بمختلف
طوائفها.
وقد اتفقت هذه الكنائس مجتمعة على دعم انتشار اللغة الكردية القومية كبديل
للغة العربية، وصناعة مجموعات سياسية وفكرية وثقافية تتبنى دعوة الاستقلال
التام عن الأمة العربية، وإنشاء وطن مستقل للأكراد في شمال العراق، ويضم
أكراد العراق وسوريا وتركيا وإيران وروسيا.
وبرغم معرفة هذه الكنائس أن هذا (الوطن الحلم) غير قابل للإنشاء؛ بسبب
الاختلافات العرقية والثقافية والعنصرية والدينية التي استطاعوا أن يجعلوها عقائد
لأبناء العراق في المناطق الخمسة، وأنها لا تزيد عن كونها مناطق (بؤر) لإثارة
القلاقل وعدم الاستقرار عندما يحتاج الأمر إلى ذلك.
8 - الكنيسة الآشورية: أما آخر طابور العقائد، فكانت لكنيسة تدعى
(الآشورية) ، بدأت نشاطها مؤخراً بعد موات دام أكثر من (90) عاماً، ويقول
أصحابها إنهم أصل النصرانية في العراق، والذين استقبلوا دعوتها منذ القرن الأول
الميلادي، وكانوا يعرفون باسم (النصارى السريان) ، نسبة إلى الكلمة اليونانية
(Assyrion) المحرفة لكلمة (آشورى) .
وتتفق كل الدراسات لتاريخ النصرانية في العراق على أن هذه الكنيسة لاقت
بطشاً مستمراً من الكنائس الغربية طوال تاريخها، وأنه بسبب خيانات بعض
النصارى العراقيين لدولة الخلافة الإسلامية وموالاتهم للجيوش الغربية؛ كان يعطى
المسوِّغ دائماً لدولة الخلافة أن تمنح حق الرعاية على غير المسلمين للحكومات
الغربية المشابهة لهم دينياً؛ مما ساعد على استبداد الكنائس الغربية كثيراً بالكنائس
الوطنية والضعيفة.
وتقول الباحثة النصرانية (نينب أمرايا) في دراسة لها غير منشورة: «إن
الدولة العثمانية بهذا القرار؛ مهدت السبيل أمام الإرساليات التنصرية الغربية
ليجعلوا من نصارى العراق السريان غنيمة تنهب منها كل كنيسة غربية على قدر ما
تستطيع عن طريق شراء الذمم، مستغلة الحصانات الدبلوماسية، وممارسة
الاضطهادات، والحصار الاقتصادي لنصارى العراق الأصليين، لإجبارهم على
الاحتماء بهذه الإرساليات حفاظاً لحياتهم؛ لقاء اتباع مذهب الكنيسة التي ستتولى
الحماية، فكان الثمن المدفوع خلال القرن التاسع عشر وحده، دماء أكثر من ثلاثة
ملايين سرياني في مجازر صليبية غربية عنيفة، تحت عين وبصر دولة الخلافة،
كان أشدها عنفاً ما حدث عام 1914 - 1915م؛ مما أجبر عشرات الألوف على
الهجرة إلى روسيا وسوريا والأردن وتركيا وأمريكا وأوروبا وأستراليا» .
وتقول الباحثة نينب أمرايا: وهكذا استطاعت تلك الإرساليات الصليبية
الغربية أن تمزق أبناء شعبنا إلى مذاهب دينية جديدة هي:
1 - سريان كاثوليك.
2 - سريان أرثوذكس.
3 - سريان إنجيليين.
أما الذين حاولوا الحفاظ على هويتهم العراقية باسم (الكنيسة السريانية
الشرقية القديمة) ؛ فقد استطاعت الفتنة شقهم إلى ثلاث طوائف:
1 - الكلدان الكاثوليك.
2 - الكلدان الإنجيليين.
3 - أتباع الكنيسة الكلدانية الشرقية القديمة الذين ظلوا على عقيدتهم الأولى.
وتضيف دراسة (نينب أمرايا) التي بثتها الكنيسة الآشورية على شبكة
الإنترنت مع أول يوم للاحتلال الأمريكي؛ قائلة: «مع كل هذه الأجواء المشحونة
والملتهبة؛ تأتي مجموعة كبيرة من رواد النهضة القومية، متخذين من الصحافة
والعلم والسلام نهجاً ثابتاً لنشر رسالة أمتهم القومية، مؤكدين (وحدة الشعب
الآشوري) بكل مذاهبه الكنسية الطائفية، وحق أمتهم في الوجود، وممارسة حقوقه
المشروعة في أرض آبائه وأجداده» .
وتجاوز البيان الآشوري في أحلامه؛ مشيراً إلى تاريخ الكفاح من أجل عودة
العراق كله إلى الكنيسة الآشورية القديمة، جاء فيه: (لقد وقف ممثلو الشعب
الآشوري عام 1919م في مؤتمر الصلح في باريس مدافعين عن حق الوجود القومي
الآشوري، ومن ثم معاهدة «سيفر» التي أبرمت في فرنسا عام 1920م،
ومعاهدة «لوزان» بسويسرا عام 1924م، والتي نصت صراحة على الحق
القومي للشعب الآشوري في أرض وطنه بالتعاون مع الحكومات الوطنية، ثم تلتها
اللجنة الهنجارية البلجيكية عام 1925م التي اقترحت ضم الموصل في الجنوب إلى
العراق، وضم (هكاري) في الشمال إلى تركيا، مع المحافظة على الحقوق
التاريخية القديمة التي كان يملكها الآشوريون، وحق المهاجرين منهم في العودة إلى
ديارهم في (هكاري) ، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل تفاقمت الأمور إلى حد
ارتكاب واحدة من أبشع المذابح في العام 1933 في منطقة (سميل) ، التي أودت
بحياة أربعة آلاف آشوري من مختلف الأعمار التي حيكت مؤامرتها من قبل
الكنيسة الإنجليزية وحكومتها، بالتعاون مع الحكومة الملكية العراقية الموالية لها
حينذاك) .
ولأننا لا نملك حق المشاركة في القرار، وقد سفكت صواريخ وقنابل أمريكا
دماء آلاف ممن كان لهم حق المشاركة في الرأي، وأحكمت بعتادها العسكري
السيطرة على مقدرات البقية الباقية، كما أن سجون الحكومات العربية أصبحت
مسكناً لمن حاولوا أو يحاولون ممارسة حق الفكر أو الفهم بشأن العراق والمسلمين؛
فإن السكوت أصبح هو خير ملاذات العصر، ويكفينا سعادة وحبوراً أننا لم نحرم
من المشاركة في المشاهدة، وتطبيع المشاعر مع صورة الدماء الفضائية النازفة من
أجساد المسلمين في كل أرض، في انتظار نتائج هجمة التنصير الجديدة على
العراق المسلم.(188/66)