دراسات في الشريعة
المشاركة في وسائل الإعلام بين المصالح والمفاسد
(1 ـ 2)
محمد بن عبد الله الدويش [*]
شأن وسائل الإعلام وأثرها في نقل الكلمة وإبلاغها لا يخفى على أحد؛ فهي
تصل إلى متلقيها في أي مكان على وجه الأرض، وتسهم في تشكيل مواقف الناس
وسلوكياتهم وقيمهم.
ولذا كان لا بد للدعاة إلى الله عز وجل من أن يتطلعوا إلى استثمار هذه
الوسائل في إبلاغ الدعوة وإيصالها للناس.
ولما كانت معظم وسائل الإعلام المؤثرة التي تصل رسالتها إلى فئات واسعة
من الناس ليست في يد الصالحين، ويغلب عليها الفساد والانحراف كانت المشاركة
في هذه الوسائل محل إشكال شرعي وتوقف كثير من الدعاة إلى الله عز وجل؛ فهل
يسوغ لهم أن يشاركوا فيها برغم ما تحويه من مخالفات شرعية وانحرافات؛ بل
هي تحمل لواء الفساد والترويج له ونشره في الأمة؟ أم أن هذا الفساد والانحراف
الذي يغلب عليها يمنع من المشاركة فيها والاستفادة منها؛ إذ الدعوة إلى الله تعالى
لا بد من أن تكون على بصيرة ومنهج شرعي، ومن ثَمَّ فالوسائل التي يسلكها الدعاة
إلى الله عز وجل في تبليغ دعوتهم للناس ينبغي أن تخلو من أي مخالفة شرعية؟
لذا كان لا بد من تحرير مسألة المشاركة في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة، وهل
يسوغ للدعاة أن يستخدموها في نشر دعوتهم أم لا؟
وحيث إن هذه المسألة من المسائل الحادثة ولم يكن فيها نص بخصوصها فلا
بد من بحثها من خلال القواعد الشرعية وبخاصة قواعد المصالح والمفاسد؛ إذ
أصل المشاركة في هذه الوسائل تحقق مصالح ويلزم منها مفاسد؛ فمن نظر إلى
المفاسد وغلَّبها رجَّح جانب الحظر والسلامة، ومن نظر إلى المصالح وغلَّبها رجَّح
جانب الإقدام والمشاركة.
وأحسب أن هذه المسألة لا تعدو الاجتهاد في الموازنة بين المصالح والمفاسد،
والعمل جارٍ على هذا عند العلماء والخاصة والعامة.
ولا يكاد يخلو أمر أو نهي في الشريعة، أو عمل من أعمال الناس الدينية
والدنيوية من مفاسد ومصالح: ففي الجهاد ذهاب الأنفس. وفي خروج المرأة
للصلاة وفي الحج والعمرة المستحبين للرجل والمرأة: فتنة وافتتان بين مقطوع به
أو مظنون. وفي خروج الرجل والمرأة لحاجتهما تعرُّض لفتن مظنونة أو مقطوعة.
وفي التجارة تعرض لمثل ذلك في سفر أو سوق. وفي الجهاد مع أئمة الجور
تثبيت لسلطانهم الجائر، ولكن لما اشتمل ذلك على حرب الكفار وبث الدعوة:
اغتفرت هذه المفسدة.
فالمصلحة الخالصة عزيزة الوجود كما قال ذلك العز بن عبد السلام [1] .
ومن ثم فبحثنا لهذه المسألة سينطلق من استعراض المفاسد والمصالح الناشئة
عن المشاركة وحصرها، والترجيح بينها بما نرى أنه أقرب إلى رعاية المصالح
الشرعية، مع ذكر الأدلة الشرعية المتعلقة بالموضوع منعاً أو جوازاً إن وجدت.
والورع في هذه المسائل ليس هو الترك والمفارقة على كل حال؛ بل إن
الورع هو في القيام بأمر الله تعالى واتباع ما كان الأشبه بأنه من مراده ورسوم دينه؛
سواء كان ذلك بالفعل أو الترك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما،
أو دفع شر الشرين وإن حصل أدناهما» [2] .
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: «إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن
تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه
وتعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن: 16) ، وإن تعذر الدرء
والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات
المصلحة. قال الله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] (البقرة: 219) حرمهما لأن مفسدتهما
أكثر من منفعتهما.. وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصَّلنا المصلحة مع
التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما، وقد يتوقف
فيهما» [3] .
* المصالح المترتبة على المشاركة في وسائل الإعلام:
في هذا المبحث سنتناول عرضاً للمصالح التي يراها القائلون بالمشاركة،
وجواب المانعين عنها:
المصلحة الأولى: تبليغ الدعوة:
وسائل الإعلام المعاصرة وسيلة لتبليغ الدعوة، وقد فرض الله تبارك وتعالى
تبليغ الدين والدعوة إليه، وهذا أمر واجب لا خيار فيه، ولئن كان النبي صلى الله
عليه وسلم اتَّبع الوسائل المتاحة في عصره؛ فالواجب على الدعاة اليوم أن يسعوا
لتبليغ الدعوة بالوسائل الأنجع، والأكثر مخاطبة لجماهير الناس؛ ووسائل الإعلام
المختلفة اليوم أقدر على إبلاغ الرسالة وإيصالها للناس [4] .
وأجيب عنها: بأن المطلوب تحقيق البلاغ المبين وإظهار دين الله تعالى على
سبيل العموم والشمول، ووسائل الإعلام تحرم ذلك؛ فيتعذر في قنواتها الحديث عن
الولاء والبراء، وجهاد أعداء الله تعالى، بل قد تمنع الحديث عن الربا وحقوق
الرعية ونحو ذلك؛ فلا يعرض من الإسلام إلا طائفة من العبادات والأخلاق ...
فيحصل من ذلك التشويه والتضليل، وقد ورد في الحديث: «إنه لا يقوم بدين الله
إلا من أحاطه من جميع جوانبه» [5] .
ويُرَدُّ على هذه الإجابة بأنه يتحقق في هذه الوسائل بعض البلاغ وإن لم يتحقق
البلاغ التام، وهذا أمر معهود في غيرها من الوسائل الدعوية، كترك المحاضرين
والكتاب والخطباء بيان بعض الحق حتى لا يؤدي ذلك إلى مفسدة عدم وصول
دعوتهم للناس؛ فلا يختص هذا بوسائل الإعلام.
ومن المعلوم أنه لا يُبلَّغ من الدين إلا ما يمكن علمه والعمل به: قال الإمام
ابن تيمية: «.. والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكُّن من العلم بما
أنزل الله، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن
العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن
بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل ببعضه كمن انقطع عن العلم
بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلاً؛ وهذه أوقات الفترات؛ فإذا حصل
من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول
شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بُعِثَ به شيئاً فشيئاً.
ومعلوم أن الرسول لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة
جملة؛ وكما يقال: إذا أردت أن تطاع فائمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه
والمحيي لسنته لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به؛ كما أن الداخل في الإسلام لا
يمكن حين دخوله أن يلقَّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب،
والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويُذكر له جميع
العلم فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم
يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي
بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول صلى الله عليه وسلم
عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر
بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء
هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع..» [6] .
المصلحة الثانية: شمول تأثيرها:
وهذا الشمول معلوم مشاهد لا يحتاج إلى وقفات. وأجيب عن هذه المصلحة
بأن هذا الشمول قد يتأتى عبر وسائل أخرى دون المشاركة في تلك الوسائل
الموبوءة.. كالخطبة والموعظة والدرس والكتاب والشريط السمعي والمرئي
والمطويات والهاتف.
والجواب عن هذا الإيراد بأن وسائل الإعلام أوسع في شمولها من الخطبة
والموعظة والشريط ونحوها، ومن ذلك:
أ - هناك طائفة ممن لم تبلغهم رسالة الإسلام أصلاً، ويموت كل يوم منهم
آلاف على الكفر، وهم لم يسمعوا بدعوة الإسلام، أو لم تبلغهم بطريق صحيح،
ومسؤولية هؤلاء تقع على عموم المسلمين، وكثير منهم لا يمكن الوصول إليه
ومخاطبته إلا من خلال وسائل الإعلام العامة.
ب - هناك طوائف كثيرة من المسلمين لا يستمعون للمواعظ والأشرطة، ولا
يقرؤون الكتاب الإسلامي، أو لا تصل إليهم هذه الوسائل، وهؤلاء يعيشون في
غفلة وإعراض عن الدين، فيحتاجون لموعظة تؤثر في قلوبهم، أو حديث عن
محاسن الإسلام، أو خطاب يحرك عواطفهم ومشاعرهم، وكثيراً ما رأينا من
المسلمين من أفاق بعد غفلة، واهتدى بعد ضلال وإعراض؛ لأنه استمع أو قرأ
لداعية أو واعظ. وليس من طريق لهؤلاء إلا وسائل الإعلام التي تخاطب عامة
الناس.
ج - هناك طوائف أمية لا تقرأ الكتاب والصحيفة، فليس من سبيل لهم إلا
عبر التلفاز أو المذياع [7] .
د - يجد معظم المسلمين حاجة ملحَّة إلى التفقه في الدين، والإجابة عن
أسئلتهم واستفتاءاتهم، وتخليصهم من كثير من البدع والخرافات التي يقعون فيها،
وليس كل منهم يتيسر له البحث أو يجد من يسأله ويستفتيه عن قرب، ومن ثم
فالاستفادة من هذه الوسائل في نشر الأحكام الشرعية وتعليم الناس بها جزء من
الواجب الشرعي في الدعوة ونشر العلم وتبليغه.
المصلحة الثالثة: قوة تأثيرها:
فهي تملك من التأثير ما لا تملكه غيرها؛ فمع أن جمهور المتعاملين معها أكثر
من جمهور سائر الوسائل، فهي تتفوق على كثير من الوسائل المتاحة في تأثيرها
على الناس وجذبها لهم؛ فالتلفاز يجمع بين الصورة والصوت والحركة، وأساليب
الإخراج التي تدفع المشاهد إلى الاستمرار والإقبال، والمذياع يستمع الناس إليه
وهم في سياراتهم، أو في متاجرهم وأعمالهم، والصحيفة يجدها الإنسان في أي
مكان، ويقرؤها في جميع أحواله [8] .
وأجيب على ذلك بأن عندنا من الوسائل ما هو أقوى تأثيراً من وسائل الإعلام
كخطبة الجمعة مثلاً؛ فلو أُحسِنَ اغتنامها والانتفاع بها لكان في ذلك خير كثير؛ فلا
يعني كثرة المتابعين لوسائل الإعلام أن ثمة تأثيراً متحققاً.
المصلحة الرابعة: توفير الجهود والطاقات:
فهي تختصر الجهود والأوقات، فتخاطب قطاعاً عريضاً من الناس بجهد
وتكلفة أقل. إننا حين نريد إيصال الرسالة إلى عدد معين من الناس فهذا يتطلب منا
عدداً من الدعاة، ووقتاً وجهداً وسفراً.. إلخ، وكثيراً ما تعوقنا الإمكانات وتقعد بنا
القدرات عن القيام بكثير من الواجبات الدعوية؛ لكن وسائل الإعلام تتيح لشخص
واحد أن يخاطب الآلاف والملايين بجهد محدود وهو في مكانه.
وليس الأمر ضناً بالجهود عن أن تبذل للدعوة للدين؛ لكن المطالب أكثر من
الإمكانات المتاحة حين نريد التعامل من خلال الوسائل الأخرى.
المصلحة الخامسة: أنها وسيلة لإنكار المنكرات:
فالمشاركة في وسائل الإعلام قد تكون وسيلة لإنكار المنكرات التي تظهر فيها؛
فكثيراً ما تنشر الصحف كتابات فيها من المنكرات والمخالفات الشرعية بل الكفر
والردة في أحيان كثيرة ما ينطلي على كثير من المسلمين، أو يشعرهم بالهزيمة
والضعف؛ فحين ينكر هذا المنكر من خلال المنبر والموعظة؛ فالخطاب في معظم
الأحوال يتجه إلى طائفة أخرى غير تلك الطائفة التي قرأت ما نشر وتأثرت به،
بل معظمهم لا يبلغه الإنكار حين يكون من خلال هذه الوسائل.
فليس من سبيل أنجع وأبلغ من الإنكار من خلال المنابر التي سمع الناس منها
المنكر؛ ففيه إبلاغ وإعذار، وفيه إشعار لأهل المنكر بأن للحق أنصاراً وأعواناً،
وفيه إعلاء لهمة الغيورين وإعلامهم بأنه لا يزال للحق ناصر.
والأمر لا يقف على مجرد منكر معين ورد في مقالة أو حلقة مسموعة أو
مرئية، بل قد يكون حديثاً حول منكر عام يتكرر بصورة وأخرى، كالسخرية
بالدين، والدعوة للاحتكام لغير الشريعة، والدعوة للسفور والاختلاط، ونحو ذلك.
وأجيب عنه بأن وسائل الإعلام المقروءة كثيراً ما تُعرِض عن نشر ذلك
الإنكار، وكثيراً ما تمتنع الصحف عن نشر بعض ما يبعثه أهل العلم إليها، وأما
الإنكار على الوسائل المرئية والمسموعة فهو أبعد كما هو واقع.
ويُردُّ على هذه الإجابة بأن الواقع أن الصحف كثيراً ما تنشر الرد والتعقيب
حين يكون بلغة هادئة، وحين تمتنع عن الرد فقد أدى المشارك ما عليه.
والوسائل المسموعة والمرئية يستطيع المشارك فيها إنكار كثير من المنكرات
التي تُعرَض فيها في الجملة؛ فكثيراً ما يتحدث أهل العلم عن تحريم الغناء
والمعازف والنظر الحرام مثلاً، وغير ذلك، ويعرض هذا الحديث في وسائل
الإعلام، والداعية الحصيف يستطيع أن يبلغ ما يريد للناس بالصورة التي تمكنه،
والأمر لا يتوقف على اللغة الصريحة والمباشرة والتعبير الحاد، أو التعيين لأحاد
الأشخاص والمؤسسات.
المصلحة السادسة: تعريف الناس بالدعاة وطلبة العلم:
فالمشاركة في وسائل الإعلام العامة وسيلة لتعريف الناس بالدعاة وطلبة العلم
وإبراز قيادات في المجتمع؛ فالقطاع العريض من الناس إنما يعرف من يسمع له أو
يقرأ له في وسائل الإعلام، وحين يبتعد الدعاة إلى الله وطلبة العلم عن المشاركة
في هذه الوسائل العامة، فستبقى فئات كبيرة من المجتمع لا تسمع بهم ولا تعرفهم،
وتنحصر دائرة تأثيرهم في محيط ضيق من الناس.
والتعريف بهم أمام الناس ليس بحثاً عن الظهور وسعياً وراء الشهرة بقدر ما
هو وسيلة لتوسيع دائرة تأثيرهم وانتشار دعوتهم.
وأجيب على ذلك بأن التعريف يتحقق بعدة وسائل لا محذور فيها.. وثمة
علماء ودعاة قد عرفوا واشتهروا وصار لهم ذكر حسن ولسان صدق مع اجتنابهم
هذه الوسائل.
ويرد على هذه الإجابة بأن تحقق التعريف لبعض الناس دون المشاركة في
وسائل الإعلام، لا يعني أنه يمكن أن يتحقق لغيرهم، فثمة عوامل تاريخية وعلمية
كان لها أثر في التعريف بهم، أما من بعدهم ومن دونهم فلا يزالون بحاجة لمزيد
من التعريف والتواصل مع طبقات واسعة من المجتمعات لن تعرفهم إلا من خلال
هذه الوسائل، ولو أن هؤلاء شاركوا في وسائل الإعلام لتحقق لهم قدر أكبر من
التعريف والانتشار.
المصلحة السابعة: تخفيف الشر والفساد:
فالمشاركة في وسائل الإعلام وسيلة لتخفيف الشر الذي يظهر فيها؛ فكل وقت
يشغل بالخير فهو على حساب فساد ومنكر كان يمكن أن يعرض فيها، والتخفيف
من الشر والفساد إذا لم يمكن أن يزال بالكلية مطلوب شرعاً.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل متولٍّ ولايات، ومُقطَع إقطاعات،
وعليها من الكُلَف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله،
ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره
وولى غيره فإن الظلم لا يُترَك منه شيء؛ بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف
تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا
يمكنه إسقاطه.. فأجاب الشيخ رحمه الله: «إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم
بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على
إقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء في الولاية
والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك؛ بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل
إذا تركه بما هو أفضل منه، وقد يكون ذلك عليه واجباً، إذا لم يقم به غيره قادراً
عليه» [9] .
المصلحة الثامنة: حماية الناس من المضلين وأهل الأهواء:
كثيرٌ من الوسائل الإعلامية تلتزم بنسبة من البرامج والزوايا الدينية لأغراض
ودوافع شتى؛ فحين يعتذر عنها الأخيار وطلبة العلم، فلن تزول المفسدة، بل
سيجد هؤلاء من يتصدى لتقديم البرامج الدينية من أهل البدع والأهواء، أو
أصحاب المطامع الدنيوية وغيرهم، وذلك له أثر في إضلال الناس وصدهم عن
الدين باسم الدين، وكثيراً ما كان هؤلاء فتنة للناس.
وقد يعترض على هذه المصلحة بأن أهل الفجور قد يتواطؤون في اختيار
الشيخ المناسب، وهؤلاء لا يرعون المنهج الصحيح، وفي هذا تفريط.
والجواب أن هذه مصلحة ضمن مصالح كثيرة، وليست هي المصلحة
الوحيدة، ثم إن الواقع أنه يمكن أن يشارك طائفة من أهل العلم والدعاة من غير
أهل الترخص أو الأهواء.
* المفاسد المترتبة على المشاركة:
إن هناك طائفة من المفاسد تترتب على المشاركة في وسائل الإعلام المعاصرة
بوضعها الحالي، وهذه المفاسد تتفاوت من حيث أصل وجودها؛ فما يوجد في
التلفاز قد لا يوجد في الصحف، وما يوجد في الصحف قد لا يوجد في الإذاعة.
كما أنها تتفاوت أيضاً في درجة وجودها؛ فالمفسدة التي توجد في صحيفة
معينة قد تكون أقل منها في أخرى، والتي توجد في قناة فضائية قد تكون أشدَّ منها
في قناة محلية، وهكذا.
ومن ثَمَّ فما نذكره هنا إنما هو محاولة لحصر المفاسد المتصور وقوعها،
وليس شرطاً أن تكون المفسدة المعينة موجودة في كل وسيلة من الوسائل، لكن كل
وسيلة لا تخلو من قدر من هذه المفاسد.
المفسدة الأولى: التصوير وغيره من المنكرات:
فالظهور فيها قد يؤدي إلى الوقوع في المنكر؛ فالتصوير ملازم لكل مشاركة
تكون من خلال التلفاز، وقد جاء الشرع بالنهي عن التصوير لذوات الأرواح
والتغليظ على من فعله.
«عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أخبرته أنها اشترت نُمْرُقة فيها
تصاوير؛ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله،
فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله
صلى الله عليه وسلم ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه
النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسَّدها، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذَّبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم.
وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» [10] .
عن سعيد بن أبي الحسن، قال: «كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ
أتاه رجل فقال: يا أبا عباس! إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني
أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول: من صوَّر صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها
الروح وليس بنافخ فيها أبداً. فرَبا الرجل ربوة شديدة واصفرَّ وجهه؛ فقال: ويحك!
إنْ أبَيْتَ إلا أن تصنعَ فعليك بهذا الشجر كل شيء ليس فيه روح» [11] .
والأحاديث في النهي عن التصوير كثيرة، وكل ما يحدث من أنواع تصوير
ذوات الأرواح فهو داخل في عموم النهي عن التصوير.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «ولا شك أن البروز في التلفاز مما قد يتحرج
منه بعض أهل العلم من أجل ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التشديد في
التصوير ولعن المصورين» .
ومما يحصل من المنكرات في المشاركة في هذه الوسائل: الاختلاط مع
العاملين والعاملات فيها ومعظم العاملين في هذه الوسائل ممن لا يلتزمون بحدود الله.
وأجيب عنه:
أولاً: بأن التصوير التلفزيوني فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه مباح وليس داخلاً في أحاديث النهي عن التصوير، وقد قال بذلك
بعض أهل العلم المعتبرين، فلا تعارض.
الثاني: أن التصوير إنما حُرِّم تحريم وسائل، وما كان كذلك فقد قرر بعض
أهل العلم بأنه يباح عند الحاجة.
قال ابن القيم: «وتحريم الحرير إنما كان سداً للذريعة؛ ولهذا أبيح للنساء
وللحاجة والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة: ما حرم لسد الذرائع فإنه يباح عند
الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حرم النظر سداً لذريعة الفعل وأبيح منه ما تدعو
إليه الحاجة والمصلحة الراجحة، وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سداً
لذريعة المشابهة الصورية بعُبَّاد الشمس وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حرم ربا
الفضل سداً لذريعة ربا النسيئة وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا» [12] .
وقال أيضاً: «وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة
الراجحة كما يباح النظر إلى الأَمَة المستامة والمخطوبة ومن شهد عليها أو يعاملها
أو يطبها» [13] .
الثالث: أنه داخل في عموم التصوير، ومحرم تحريم مقاصد؛ لأن فيه
مضاهاة لخلق الله، ولو سلَّم بذلك من يرى المشاركة فإنه يقول: إن هذا قد
عارضته مصلحة أرجح من مفسدة التصوير.
المفسدة الثانية: تزكيتها:
فالظهور في وسائل الإعلام والمشاركة يعده بعض الناس إقراراً لما يعرض
فيها وتزكية لها، أو تهويناً من مفاسدها؛ فمعظم ما يعرض فيها إنما هو من الباطل
والفساد، وما نزال نسمع كثيراً من الناس حينما ينصحون بالابتعاد عما يعرض في
هذه الأجهزة من فساد ومنكرات يحتجون بأن الدعاة وأهل العلم يشاركون فيها، وأنه
لو كان فيها مخالفة شرعية لما شارك هؤلاء، أو لأنكروا ما فيها من المنكرات.
وهذه المواقع التي تعرض البرامج الدينية قد تلحق بمساجد الضرار التي
ظاهرها الخير والإيمان، وباطنها ما ينافي ذلك؛ فالذين اتخذوا هذه المواقع الدينية
يريدون الشهرة والدعاية.
قال القرطبي: «قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة
فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه» [14] .
وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله باباً بعنوان: (لا يُذبَح لله في
مكان يُذبَح فيه لغير الله) واستدل بالآية: [لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً] (التوبة: 108)
على سبيل القياس، قال الشيخ سليمان بن عبد الله: «ووجه الدلالة من الآية على
الترجمة من جهة القياس؛ لأنه إذا منع الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن القيام لله
في هذا المسجد المؤسس على هذه المقاصد الخبيثة مع أنه لا يقوم فيه إلا لله، فكذلك
المواضع المعدة للذبح لغير الله لا يذبح فيها الموحد لله؛ لأنها قد أسست على
معصية الله والشرك به» [15] .
ولا ريب أن المواقع الإعلامية في الجملة أسست للصد عن سبيل الله تعالى،
ونشر الرذيلة وإشغال الأمة باللهو والمجون وسفاسف الأمور.
وأجيب عليه:
1- أن الواقع قلة من يحتج بمشاركة هؤلاء على تزكيتها، وكثير ممن يحتج
بذلك إنما يفعله تسويغاً لموقفه.
2- أنه ليس كل مشارك يعد الناس مشاركته تزكية لهذه الوسائل، فهذا إنما
يكون في الغالب بالنسبة للأئمة المقتدى بهم.
3- أن عامة الناس يعلمون أن هذا المتحدث لا يقر ما في هذه الوسائل فهو
ليس من القائمين عليها، ولا يطلع على معظم ما تقدمه، وهو إنما يستثمر هذه
الفرصة لتقديم ما عنده للناس.
والمحكَّم في ذلك هو واقع غالب الناس ولا عبرة بالنادر.
وأما إلحاقها بالذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله فهو غير صحيح لأمرين:
الأول: أن هذا الرجل يستطيع أن يذبح في أي مكان غير هذا المكان،
والدعاة إنما لجؤوا لهذه الوسائل لأن تبليغ الدين لفئة من المجتمع لا يصل إلا بهذه
الطريقة فلا يصح هذا الإلحاق.
الثاني: أن الذبح لغير الله شرك، والذبح لله عبادة؛ فالمسألة إذن من الأمور
التعبدية، ويخالف ما هاهنا بعدم وجود التعبد المحض.
ويلزم من الامتناع عن الدخول في كل مكان عُصِيَ الله فيه: أن تمنع أشياء
كثيرة كالتدريس في جامعة فيها منكرات، فالجامعات الآن فيها منكرات إما في
أنظمتها، أو مناهجها، ومع ذلك لم يترك العمل فيها كثير من الصالحين، ولم يعدَّ
غيرهم مثل هذا العمل تزكية لهذه الجامعة. أو طباعة كتاب في مطبعة يطبع فيها
كتب فساد وإضلال.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع فيها منكرات كأسواق الجاهلية
ومنتدياتها.
ورُدَّ على الاستدلال بذهاب النبي صلى الله عليه وسلم لأسواق الجاهلية، بأنه
كان يعلن فيها إنكاره لما هم عليهم، ويعيب آلهتهم ويسفه أحلامهم، وليس هذا
كحال المشاركين في وسائل الإعلام.
المفسدة الثالثة: أن المشاركة تجرئ بعض الناس على اقتنائها:
إن المشاركة في هذه الوسائل تجرئ طائفة ممن لا يقتنونها على اقتنائها بحجة
أنهم يريدون استماع ورؤية هذه البرامج الخيرة، أو قراءة الزوايا والأعمدة التي
يكتبها المصلحون والدعاة؛ لكن ذلك يقودهم ويدعوهم إلى الاسترسال في متابعة
غيرها مما تعرضه من المنكرات، وإن كان صاحبها حازماً مع نفسه فقد تقع في يد
أهل منزله ممن لا يحسنون استخدامها.
وتبدو هذه الصورة كثيراً في اقتناء أعداد بعض المجلات التي تظهر فيها
مقالات أو زوايا إسلامية، فما يلبث مقتنوها أو من يجدها من أهل بيته أن يسترسل
في متابعة سائرها.
وأجيب عليه: بأن عامة الناس لا يحتجون بذلك إلا في مقام المجادلة
والمكابرة، وهم يعلمون أن الداعية إنما يستثمر هذه الفرصة التي أتيحت له؛ فلا
بديل لديه سوى هذه الوسائل، والذين يقتنون هذه الوسائل لأجل مشاركة الدعاة قلة
بالنسبة لمن يتابعونها سواء أشارك فيها الدعاة أم لم يشاركوا، والعبرة بالأغلب؛
فلا ينبغي أن نهمل دعوة الملايين من الناس من أجل عدد يسير ممن يترخصون
ويتساهلون باقتناء هذه الأجهزة، وهذا الأمر متحقق في وسائل أخرى فخروج
رجال الحسبة لإنكار المنكرات في الأسواق قد يتسبب في فتنة بعضهم، والتدريس
في المدارس قد يؤدي إلى فتنة المعلم بالمردان، ومع ذلك فلغلبة المصلحة وندرة
المفسدة لم يُمنع ذلك.
وبأن نسبة أولئك لا تساوي شيئاً في مقابل الآخرين ممن يقتنونها سواء أَشارك
فيها الدعاة أم لم يشاركوا.
المفسدة الرابعة: وجود المناقضات لما يقرره الدعاة:
كثيراً ما يعقب البرامج الدينية ما يعارض ما طرح فيها ودعت إليه، أو
يعرض في الصفحة نفسها التي ينشر فيها الداعية مقاله ما يناقض ذلك، وذلك يشعر
الناس أن القضية ليست جادة، أو أن ما يقال لا يمكن تطبيقه، أو تسويغ تلك
المخالفات، أو الوقوع في الازدواجية، أو أن يقال بأن هذا الداعية ساذج ومغفل
يسخر به أمثال هؤلاء.
وبناء على ذلك تفقد هذه البرامج تأثيرها ومصالحها التي تراد من وراء
المشاركة فيها، أو تقل وتتضاءل.
ثم إن هذه الوسائل ينطبق عليها ما ورد من النهي عن الخوض في آيات الله،
ومجالسة أصحابه.
قال تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ] (الأنعام: 68) .
قال القرطبي: «فأدَّب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية؛
لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزئون بالقرآن؛ فأمره
الله أن يعرض عنهم إعراض منكِر. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر
منكراً، وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يُعرض عنه إعراض منكِر ولا يُقبِل عليه»
[16] .
ولا يخفى أن ما في برامج الإعلام من الفسق والفجور واللهو، ويقترن مع
شيء من البرامج الدينية لا ينفك أن يكون استخفافاً وعبثاً بآيات الله تعالى.
وقال الجصاص: «أمر الله نبيه بالإعراض عن الذين يخوضون في آيات
الله وهي القرآن بالتكذيب وإظهار الاستخفاف إعراضاً يقتضي الإنكار عليهم وإظهار
الكراهة لما يكون منهم إلا أن يتركوا ذلك ويخوضوا في حديث غيره. وهذا يدل
على أن علينا ترك مجالسة الملحدين وسائر الكفار عند إظهارهم الكفر والشرك وما
لا يجوز على الله تعالى إذا لم يمكنا إنكاره» [17] .
وقال سبحانه: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ]
(النساء: 140) .
قال القرطبي: «فدل على وجوب اجتناب أهل المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛
لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله تعالى: [إِنَّكُمْ
إِذاً مِّثْلُهُمْ] (النساء: 140) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم
يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا
بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه
الآية» [18] .
ولا ريب أن برامج الإعلام مشحونة بهذا الخوض في آيات الله تعالى،
والتوثب على شرعه، وإذا تقرر اجتنابهم والقيام عنهم؛ فكيف يسوغ اللحوق بهم
بدعوى المشاركة في الإصلاح؟ مع تعذر الإنكار عليهم من جهة، وتعذر التصرف
بالتعديل والتحوير في تلك المشاركات من جهة أخرى. والله المستعان.
وكما قال ابن العربي: «والخوض هو المشي فيما لا يتحصل حقيقة» [19] .
وهذا وصف ينطبق على برامج الإعلام.
قال الجصاص: «فإن قيل: فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد
عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه؟ قيل له: قد قيل في هذا إنه ينبغي له أن
يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه، من نحو ترك
الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي، وترك حضور
الجنازة لما معه من النواح، وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب، فإذا
لم يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أوْلى، وإذا كان هناك حق يقوم به لم
يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره
وكراهته» [20] .
ويجاب على ذلك: بأنه لا شك بأن هذا ليس في محل النزاع؛ فالحديث ليس
عن تسويغ ما تفعله وسائل الإعلام إنما في المشاركة فيها؛ حيث هي الوسيلة
المتاحة لتبليغ الدعوة لفئة من الناس لا يمكن تبليغهم إلا من خلالها.
وبأن ما يعرض فيها من منكر لا يعرض في الوقت نفسه الذي يقدم فيه
الداعية برنامجه وحديثه، وحتى حين يعقبه مباشرة، فهو غير مصاحب لبرنامجه
الذي يقدمه ويعتبره الناس مسؤولاً عما فيه.
قال الشيخ ابن عثيمين: «ثم هذا المنكر الذي يُعرَض كما يقول السائل لا
يعرض في الوقت الذي أنت تلقى فيه الخير، بل هو منفصل عنه، فيكون من أراد
استمع إليه وشاهده، وإذا جاء الوقت الذي فيه المنكر يغلق المذياع أو التلفاز وينتهي
منه» [21] .
وبأنه ينكر هذه المنكرات على سبيل العموم، والنهي إنما هو لمن لم ينكر.
المفسدة الخامسة: سيطرة أهواء المفسدين عليها:
فالذين يديرون هذه الأجهزة والمؤسسات الإعلامية هم في الأغلب ما بين مفسد
صاحب فكر هدام، أو صاحب هوى وشهوة لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، أو
دول لا تخدم إلا مصالحها، وهؤلاء هم أصحاب القرار في هذه المؤسسات
والأجهزة، ومن ثَمَّ فإنهم لن يسمحوا بالمشاركة إلا لفئة من الناس دون أخرى، ولن
يسمحوا بأن ينشر إلا ما لا يتعارض مع أهوائهم ومبادئهم.
وسيجد المشارك فيها أنه لا يستطيع أن يقول كل ما يريد، وأن هناك كثيراً
مما يجب أن يعرض للناس في هذه الوسائل تقف دونه شهوات هؤلاء وأهواؤهم،
فلو أنه لم يتحدث أمام الناس أصلاً لالتمسوا له العذر، أما وهم يرونه صباح مساء
على الشاشة، أو يقرؤون له على الصحيفة فسوف ينتظرون رأيه وفتواه في مسائل
كثيرة مما لا تسمح بها أهواء القائمين على هذه الأجهزة.
وأجيب عليها: بأن ما يقوله الداعية هو الحق الذي يستطيعه، وهو لا يكلَّف
إلا بما يستطيع؛ قال عز وجل: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن: 16) ،
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» [22] .
ومن القواعد الفقهية المقررة أن الميسور لا يسقط بالمعسور؛ فالقادر على
بعض السترة يستر بها القدر الممكن، ومن لا يحفظ إلا بعض الفاتحة يجب عليه أن
يأتي به. وهكذا فمن لا يستطيع إلا قول بعض الحق يجب عليه أن يقوله.
ثم إن قول الداعية لبعض الحق الذي يستطيعه وسكوته عما لا يستطيعه ليس
قاصراً على وسائل الإعلام وحدها؛ فالخطيب والمحاضر والمؤلف والأستاذ قد
يمتنعون عن قول بعض الحق مراعاة لمصلحة بقائهم ونشرهم كثيراً من الخير الذي
يستطيعون نشره.
المفسدة السادسة: عدم أمانة القائمين عليها:
إن القائمين على هذه المؤسسات والأجهزة الإعلامية ليسوا أهل ثقة وأمانة؛
فهم لا يُؤمَنون من التحريف والتغيير، والحذف والإضافة، وكثيراً ما يضعون
عناوين بالخط العريض أثناء المقابلات الشخصية، أو المقالات المنشورة، وهذه
العناوين ليست بالضرورة من نص ما قاله المتحدث، أو تكون مبتورة من سياقها
فيفهم منها الناس غير ما قصد صاحبها، خاصة أن كثيراً منهم يكتفي بقراءة
العناوين.
وأحياناً تسجل حلقة في ظرف أو وقت معين، ثم تذاع في غير الوقت الذي
سجلت فيه، إما في مناسبة بدعية أو وطنية، فيفهم منها الناس غير ما قال صاحبها،
وأحياناً يُعمَد إلى محاضرة أو مقالة طرحت في وقت ما فتعرض في وقت آخر.
ومن ذلك ما تفعله بعض المؤسسات الإعلامية من تسجيل حلقات عن مكانة
النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته، ثم تذيعها وتبثها وقت الاحتفال بالمولد.
وأجيب على ذلك: بأن الأغلب السلامة من الحذف والتغيير، وإذا حصل
حذف شيء مما قاله المتحدث أو الكاتب فسيبقى خير كثير، ثم المشارك في هذه
الوسائل يجتهد في صياغة ما يريد بقدر يوصل الحق للناس ويمكن عرضه في هذه
الوسائل، ومن حقه لو حصل تصرف في ما نشره أن يعقب على ذلك.
المفسدة السابعة: الإقرار بالواقع السيئ:
فالأنظمة الفاسدة اليوم هي التي ترعى أجهزة الإعلام وتسيطر عليها في
الغالب، وهذه الأجهزة تتحدث باسمها وتمارس الترويج لها وتسويغ واقعها السيئ،
والمشاركة في هذه الوسائل تعني الإقرار بواقع هذه الأنظمة وتلبيسها على الناس،
خاصة أنه قلما يخلو حديث يعرض من خلالها إلا ويدعو لها بالحفظ والبقاء
والتمكين، أو يدعو الناس لطاعتها والخضوع لها.
وأجيب عليه: بأن المشاركة لا تعني ولا تستلزم إضفاء الشرعية، وإلا لزم
منه الاقتناع عند استخدام كل مؤسسة نفيها هذه الأنظمة.
أما المديح فهو يعود إلى نوعية المشاركين، ولو شارك الأكفاء الجادون لما
برزت هذه الظاهرة.
ثم إن الواقع أن هناك من يشارك ولا يقع في هذا المحذور.
المفسدة الثامنة: إضعاف التطلع لإنشاء إعلام إسلامي:
ذلك أن الواجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يسعوا إلى إيجاد مؤسسات
إعلامية مستقلة تخلو من المنكرات التي تلازم الإعلام المعاصر، وتسلم من تسلط
أهل الفساد، فتقول الحق، وتبينه واضحاً للناس.
والمشاركة في الوسائل القائمة اليوم مما يضعف البحث عن هذا البديل،
والسعي في إقامة هذا الواجب الشرعي، وتوجيه الطاقات والإمكانات لإحيائه.
وأجيب عليه: بأن وجود القنوات والمؤسسات الإسلامية لا يكفي؛ فالمطلوب
مخاطبة فئات لا يتابعون هذه الوسائل، ولا يزال المتابعون للوسائل الإسلامية
شريحة محدودة من المجتمع.
المفسدة التاسعة: التساهل والترخص:
إن المشاركة فيها تؤدي إلى التساهل والترخص؛ وذلك واضح في حال كثير
ممن يشارك في هذه الوسائل؛ فهو يجامل الناس في فتاويه، ويجاري واقعهم في
كثير مما يقوله، ويتدرج الأمر لديه بين السكوت عن شيء من الحق، إلى تسويغ
الباطل والدفاع عنه، وإضفاء المشروعية عليه.
وأجيب على ذلك: إن المشاركة ممكنة دون الترخص، وقد حصلت
مشاركات من بعض الدعاة دون أن يقعوا في ذلك، ثم إن الترخص يحصل من
أصحابه في مواقف كثيرة وليس قاصراً على المشاركات الإعلامية، والتخلص من
هذا الداء لا يكون بترك المشاركة في الوسائل الإعلامية إنما يتحقق الورع وتقوى
الله في الفتيا ونشر العلم.
المفسدة العاشرة: فتنة المال والشرف:
المشاركة في هذه الوسائل مدعاة لوقوع المشارك في فتنة المال والشرف؛ فهو
يتلقى أجراً مادياً مقابل مشاركته، مما قد يدعوه إلى التعلق بالمال والسعي للمحافظة
على بقاء مشاركته في هذه الوسائل، ولو على حساب الحق.
وفتنة الشرف حاصلة في حق كثير ممن تتحقق شهرته بسبب هذه الوسائل؛
فهي تعطي المشارك شهرة واسعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لهما من حرص المرء على المال والشرف
لدينه» [23] .
وأجيب عليه: بأن هذه ليست قضية مختصة بوسائل الإعلام، بل هي واردة
في غيرها من المجالات كتولي المناصب التي يراد من ورائها نصرة الدين وخدمة
الدعوة، وهي واردة في كثير من المشاركات الدعوية، وها نحن نرى بعض الدعاة
اكتسبوا شهرتهم دون مشاركة في هذه الوسائل، وهذا يلزم منه أن نمنع كل مجال
دعوي يكون سبباً لاشتهار صاحبه.
أدلة أخرى للمانعين:
واستدل المانعون أيضاً ببعض القواعد الفقهية، ومنها: تغليب الحظر على
الإباحة، وأقل الأمر في ذلك أن يتورع المسلم عما يشك فيه ويستريب منه، وقد
قال صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع
في الشبهات وقع في الحرام، كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» [24] .
وأجيب على ذلك: بأن الورع المشروع إنما هو حين يكون التعارض بين
المبيح والحاظر، والأمر في هذه المسألة ليس كذلك؛ فالمعارض هنا مما يجب
القيام به في أصله، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين تحدث عمن
امتنع من قتال الكفار مع الإمام الجائر: «وصاحب هذا القول تورع فيما يظنه
ظلماً، فوقع في أضعاف ما تورع عنه بهذا الورع الفاسد، وأين ظلم بعض ولاة
الأمر من استيلاء الكفار، بل من استيلاء من هو أظلم منه؟ فالأقل ظلماً ينبغي أن
يعاون على الأكثر ظلماً؛ فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها،
وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين،
حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين» [25] .
__________
(*) عرضت هذه المادة على جمع من الأشياخ وطلبة العلم، وكان لهم دور كبير في التصحيح والإضافة والحذف، فأسأل الله لهم الأجر والمثوبة.
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/8) .
(2) الفتاوى، 30/193.
(3) قواعد الأحكام (1/ 74 - 75) .
(4) انظر: آراء في الإعلام الإسلامي، سيد محمد ساداتي الشنقيطي، دار عالم الكتب، ص 10.
(5) قال ابن كثير في البداية: (رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي) .
(6) مجموع الفتاوى (20/59) .
(7) انظر: برامج الأحاديث التلفازية: إعدادها، تقديمها، إخراجها (1409هـ) ، خالد علي حسن أبو الخير، دار المجتمع (17) .
(8) آراء في الإعلام الإسلامي، مصدر سابق ص 11.
(9) الفتاوى (30/ 356 357) .
(10) رواه البخاري (2105) ومسلم (2107) .
(11) رواه البخاري (2225) ومسلم (2110) .
(12) الطب النبوي (1 / 61-62) .
(13) زاد المعاد (2/242) .
(14) الجامع لأحكام القرآن (8/254) .
(15) تيسير العزيز الحميد (195) .
(16) الجامع لأحكام القرآن (7/12) .
(17) أحكام القرآن (3/2) .
(18) الجامع لأحكام القرآن (5/418) .
(19) أحكام القرآن (2/739) .
(20) أحكام القرآن (2/289) .
(21) الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات (179) .
(22) صحيح البخاري / كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث 7288.
(23) سنن الدارمي، الرقاق، حديث 2730.
(24) سنن الدارمي، البيوع، حديث 2531.
(25) منهاج السنة النبوية، 6/ 118.(183/14)
دراسات في الشريعة
السرف في الأموال والمتاع
إبراهيم محمد الحقيل
من طبيعة البشر التوسعُ في النفقات، والمبالغة في الاستهلاك، وهدرُ الأموال
عند أول شعور بالثراء واليسار، ولا يعرفون أي معنى لوفرة المال إذا لم يصاحبها
استهلاك أكثر، ورفاهية وتمتع بالكماليات أوسع.
وقد صرح القرآن بأن من طبيعة الإنسان السرف عند الجدة، وتجاوز حدود
القصد والاعتدال. قال الله تعالى: [كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى]
(العلق: 6-7) ، وقال تعالى: [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ
وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] (الشورى: 27) .
ولتهذيب الإنسان وتربيته أمر الله تعالى بالقصد في الأمور كلها حتى في أمور
العبادات كيلا يملها العبد. قال عليه الصلاة والسلام: «والقصدَ القصدَ تبلغوا»
أخرجه البخاري وبوَّب عليه بقوله: «باب القصد والمداومة على العمل» [1]
وضدُّ القصد السرف وهو منهي عنه كما في قوله تعالى: [وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
المُسْرِفِينَ] (الأعراف: 31) . قال عطاء رحمه الله تعالى: نُهوا عن الإسراف
في كل شيء [2] .
* أنواع السرف:
يُطلقُ الإسراف على الكفر؛ فمن أسرف على نفسه بالعصيان حتى وقع في
الكفر فهو مسرف على نفسه، كما كان فرعون من المسرفين قال تعالى: [وَإِنَّ
فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ] (يونس: 83) ، وعاقبة هذا
الصنف من الناس النار خالدين فيها إن لم يتوبوا ويؤمنوا قال تعالى: [وَكَذَلِكَ
نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى] (طه: 127) ،
وفي آية أخرى قال تعالى: [وَأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ] (غافر: 43) .
ويُطلق كلاهما على العصيان.
والعبد إذا أسرف على نفسه بالعصيان مأمور أن يتوب إلى الله تعالى فإنه
تعالى يقبل توبته مهما عظُم جرمه، وكثر إسرافه كما قال تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ
هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] (الزمر: 53) ، ومن دعاء عباد الله الصالحين: [رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا] (آل عمران: 147) .
والإسراف في شراء الأطعمة وأكلها أو رميها من مواطن النهي الجلي في
القرآن. قال تعالى: [كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] (الأنعام: 141) ، وكذا الإسراف في الملابس والمراكب
والأثاث وغيرها محرم كما قال تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] (الأعراف: 31) . وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخْيَلَة»
[3] ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التنعم ولو كان بالمباحات؛ لأنه مظنة
للسرف، وتضييع المال، فقال عليه الصلاة والسلام: «إياكم والتنعم؛ فإن عباد
الله ليسوا بالمتنعمين» [4] .
* لماذا ينهى عن السرف؟
هذا التشديد في النهي عن السرف ما كان إلا لأجل الحفاظ على الأموال
والموارد التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة؛ فهو يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ
أنفقه؟
والسرف يعارض حفظ المال، بل يتلفه ويؤدي إلى إفقار نفسه ومن ثم إفقار
أهل بيته وقرابته وأمته، والله تعالى كره لنا قيل وكثرة السؤال وإضاعة المال.
إن حفظ المال فيه حفظ الدين والعرض والشرف، والأمم التي لا تمتلك المال
لا يحترمها الآخرون، والشخص الذي ليس له قوة من مال أو جاه لا ينظر الناس
إليه ولا يأبهون به، ومن أجل ذلك قال الحكماء: من حفظ ماله فقد حفظ الأكرميْن:
الدين، والعرض [5] .
ولم تحرم الشريعة اكتساب الأموال ونماءها والتزود منها، بل حضت على
ذلك؛ ولكنها حرمت الطرق المحرمة في كسبها وإنفاقها. وإن من الطرق المحرمة
في إنفاقها: السرف فيها وإهدارها بغير حق، إما في سفر باذخ محرم، وإما في
حفلة زواج باهظة الثمن.
وإن ما ينفق من أموال على السفر إلى بلاد الكفر والفجور ليعدل ميزانيات
دول كاملة، وما ينفق على حفلات الأعراس التي يلقى فائض أطعمتها في النفايات
يساهم في إنقاذ الملايين ممن يموتون جوعاً، وفي كل عام يموت الآلاف من البشر
جوعاً؛ فهل من حفظ المال هدره بأي طريقة؟ وهل من شكر الله تعالى على نعمته
إنفاقه فيما يسخطه سبحانه وتعالى؟!
* حال السلف مع الأموال:
لم يكن من هدي السلف الصالح الإسراف وتضييع الأموال؛ بل كانوا
مقتصدين ينفقون أموالهم في الحق، ويحفظونها عن الإنفاق فيما لا فائدة فيه. قال
الحسن رحمه الله: «كانوا في الرحال مخاصيب، وفي الأثاث والثياب مجاديب»
[6] .
قال الزبيدي: «أي: ما كانوا يعتنون بالتوسعة في أثاث البيت من فرش
ووسائد وغيرها، وفي ثياب اللبس وما يجري مجراها كما يتوسعون في الإنفاق
على الأهل» [7] .
لقد كانوا رحمهم الله مع زهدهم وورعهم يعتنون بقليل المال ولا يحتقرون منه
شيئاً مع اقتصاد في المعيشة والنفقة؛ ولذا كان القليل من المال يكفيهم.
وقد أبصرت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها حبة رمان في الأرض
فأخذتها وقالت: «إن الله لا يحب الفساد» [8] .
وقال أحمد بن محمد البراثي: «قال لي بِشر بن الحارث لما بلغه ما أنفق من
تركة أبينا: قد غمني ما أُنفق عليكم من هذا المال؛ ألا فعليكم بالرفق والاقتصاد في
النفقة؛ فلأن تبيتوا جياعاً ولكم مال أعجبُ إليّ من أن تبيتوا شباعاً وليس لكم مال،
ثم قال له: اقرأ على والدتك السلام وقل لها: عليك بالرفق والاقتصاد في النفقة»
[9] .
والتقط أبو الدرداء رضي الله عنه حباً منثوراً في غرفة له، وقال: «إن من
فقه الرجل رفقه في معيشته» [10] .
وقال عمر رضي الله عنه: «الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من
العوز، لا يقلُّ شيء مع الإصلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد» [11] ، وأخبارهم
في ذلك كثيرة.
* السرف الجماعي المعاصر:
إن السرف في العصور المتأخرة تحوَّل من سلوك فردي لدى بعض التجار
والواجدين إلى ظاهرة عامة تجتاح الأمة كلها؛ فالواجد يسرف، والذي لا يجد
يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات وما لا يحتاجون
إليه، وهذا من إفرازات الرأسمالية العالمية التي أقنعت الناس بذلك عبر الدعاية
والإعلان في وسائل الإعلام المختلفة.
إن المذاهب الرأسمالية ترى أن المحرك الأساس للإنتاج هو الطلب؛ فحيثما
وجد الطلب وجد الإنتاج، ومن ثم فإن الإعلانات التجارية تتولى فتح شهية
المستهلك للاستهلاك، وتلقي في روعه أنه إذا لم يستهلك السلع المعلن عنها فسيكون
غير سعيد، وغير فعال، وسيظهر بمظهر غير لائق، وهذا كله جعل الناس
يلهثون خلف سلع كمالية، ويبكون عليها كما يبكي المولود في طلب الرضاعة [12] .
وأضحى رب الأسرة المستورة يستدين بالربا من البنوك لتلبية رغبة أسرته في
السفر للخارج، أو لإقامة حفلة زواج لابنه أو ابنته تليق بواقع الناس، وهكذا يقال
في العمران والأثاث والمراكب والملابس والمطاعم وغيرها. بينما منهج الإسلام
تربية الناس لا على الاستهلاك وإنما على الاستغناء عن الأشياء بدل الاستغناء بها
حتى لا تستعبدهم المادة كما هو حال كثير من الناس اليوم؛ إذ أصبحوا منساقين بلا
إرادة ولا تبصُّر إلى الإسراف وهدر الأموال فيما لا ينفع تقليداً للغير.
وبعدُ: أوَ كلما جاء صيف جديد يجيء معه هدر الأموال وإتلافها وفي
المسلمين مشردون محرومون لا يجدون ما يسد جوعتهم، ولا ما يكسو عورتهم:
في فلسطين والشيشان، وكشمير وغيرها من بلاد المسلمين المنكوبة؟ وهل من
معاني الأخوة في الدين أن تستمتع - أيها المسلم - بما أعطاك الله - تعالى - فيما
حُرِّم عليك وأنت ترى مآسي إخوانك المسلمين؟! ولو لم يوجد مسلم على وجه
الأرض يحتاج إلى جزء من مالك يسدُّ رمقه ويبقي على حياته لمَا حَسُن بك أن تهدر
مالك في غير نفع؛ فكيف والمسلمون في كل يوم يموت منهم العشرات بل المئات
من جراء التجويع والحصار والحرمان؟!
إن عدم الاهتمام بذلك قد يكون سبباً للعقوبة وزوال الأموال، وإفقار الناس؛
حتى يتمنوا ما كانوا يُلقون بالأمس في النفايات. عوذاً بالله. وكم يمر بالناس من
عبر في ذلك ولكن قلَّ من يعتبر؛ فكم من أسر افتقرت من بعد الغنى؟! وكم من
دول بطرت شعوبها وأسرفت على نفسها فابتلاها الله بالحروب والفتن التي عصفت
بها، فتمنى أفرادها بعض ما كانوا يملكون من قبل؟!
والتاريخ مليء بأحداث من هذا النوع؛ فالمعتمد بن عَبَّاد رحمه الله كان من
ملوك الأندلس، ويملك الأموال الطائلة، والقصور العظيمة، ولما اشتهت زوجته
وبعض بناته أن يتخوَّضن في الطين أمر بالعنبر والعود فوضع في ساحة قصره،
ورُشَّ عليه ماء الورد وأنواع من الطيب، وعُجِن حتى صار مثل الطين؛
فتخوَّضت فيه أسرته المترفة. وما ماتت تلك الأسرة المترفة حتى ذاقت طعم الفقر
وألم الجوع؛ إذ استولى يوسف بن تاشفين على مملكة ابن عباد، وكان النسوة
اللائي تخوَّضن في العود والعنبر لا يجدن ما يأكلن إلا من غزل الصوف بأيديهن
الذي لا يسد إلا بعض جوعهن.
وهذا أبو عبد الله الزغل من آخر ملوك غرناطة الأندلسية باع أملاكه فيها بعد
أن استولى عليها النصارى، وحمل مالاً عظيماً قُدِّر بخمسة ملايين من العملة
المعروفة آنذاك بـ (المراويد) ورحل إلى إفريقيا؛ فقبض عليه سلطان فاس
وصادر أمواله، وسمل عينيه، ورماه في السجن بسبب بيعه غرناطة للنصارى
وتخليه عنها، ولما خرج من السجن لم يجد من يطعمه ويؤويه، فأخذ يستعطي
الناس في الأسواق، ويطوف وعلى ثيابه رق غزال مكتوب عليه: (هذا سلطان
الأندلس العاثر المجد) لعل من يراه يرحمه ويعطيه بعض المال [13] .
فالتاريخ أبان لنا عاقبة المسرفين التي كانت ذلاً وخسراً؛ فواجب علينا أن لا
نطغى إذا أُعطينا؛ بل نشكر المنعم سبحانه بتسخير نعمه لطاعته والاقتصاد في
الإنفاق؛ فذلك خير لنا في الدنيا والآخرة، وهو سبب حفظ المال. والله حسبنا ونعم
الوكيل.
__________
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الرقاق، وهو جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (لن ينجي أحداً منكم عمله) (6463) .
(2) الأدب المفرد، للبخاري، (2/ 182) عن نضرة النعيم (9/3894) .
(3) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به، انظر الفتح (10/253) ، والنسائي في الزكاة باب الاختيال في الصدقة (5/78) وابن ماجة في اللباس باب: البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة (3605) وصححه الألباني في صحيح النسائي (2399) .
(4) أخرجه أحمد (5/244) قال المنذري: ورجاله ثقات (3/142) وذكره الألباني في الصحيحة (353) وحسنه في صحيح الجامع (2665) .
(5) عيون الأخبار، لابن قتيبة (1/351) .
(6) إحياء علوم الدين مع اتحاف السادة المتقين (6/160) .
(7) اتحاف السادة المتقين، للزبيدي (6/160) .
(8) الطبقات الكبرى، لابن سعد (8/110) .
(9) الحث على التجارة والصناعة والعمل، لأبي بكر الخلال (58 - 59) برقم (32) .
(10) المصدر السابق (42) ، والزهد، لوكيع (3/782) .
(11) المصدر السابق (41040) برقم (14) ، ومناقب عمر بن الخطاب، لابن الجوزي (196) .
(12) انظر: مدخل إلى التنمية المتكاملة، الدكتور عبد الكريم بكار (343) .
(13) انظر: خلاصة تاريخ الأندلس، لشكيب أرسلان (259) .(183/22)
دراسات في الشريعة
الجهاد
شرعة باقية
جماز بن عبد الرحمن الجماز
* حقيقة الجهاد في الإسلام:
الجهاد في اللغة: هو استفراغ الوسع في المدافعة بين طرفين ولو تقديراً.
والطرف الآخر هو ما يجاهده المسلم من نفس أو شيطان أو فاسق أو كافر.
واصطلاحاً: قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، والمعاونة على ذلك. وهذا
ملخص ما ذكره أئمة هذا الشأن [1] .
وذكر ابن رشد أن لفظ الجهاد إذا أطلق فالمراد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله
تعالى، ولا ينصرف إلى غير قتال الكفار إلا بقرينة تدل على المراد [2] .
وهكذا؛ كل الأحاديث التي تدل على فضائل الجهاد المراد بها الجهاد الحقيقي؛
وهو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، وكذلك تبويب أهل العلم في كتبهم للجهاد؛
المراد به جهاد الكفار لا مجاهدة النفس.
وبعض الباحثين يزعم اتفاق العلماء على أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر،
ويحتج بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم من
غزوة غزاها قال: «قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد
الأكبر، مجاهدة العبد هواه» ، وفي رواية «جهاد القلب» ، وبناء على هذا
الحديث يدعي أن قتال الكفار هو الجهاد الأصغر، والجهاد الأكبر هو جهاد النفس،
وبهذا يصرف الناس عن أهمية القتال والاستعداد له، بل في هذا الادعاء تثبيط
وتنويم لمشاعر المسلمين، ودعوة للرضا بالواقع الذي يعيشونه، وإذا حدث هذا
لبعض المسلمين يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز،
ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق» [3] .
والصواب في هذا - ولا شك -: أن وصف قتال الكفار بالجهاد الأصغر،
وجهاد النفس بالجهاد الأكبر؛ مغالطة لم يدل عليها دليل من كتاب ولا سنة [4] .
وابن القيم رحمه الله جعل جهاد النفس أصلاً لجهاد الكفار، وأراد بجهاد
النفس التزام شرع الله بكامله، والدعوة إليه؛ بما في ذلك تحقيق التوحيد والكفر
بالطاغوت، ولا شك أن جهاد الكفار بالسيف هو ثمرة تحقيق التوحيد، فالكفر
بالطاغوت هو اجتنابه وبغضه، ونهاية البغض المقاتلة والمحاربة.
وجهاد النفس يندرج تحته أنواع كثيرة، وذكر ابن القيم أن العبد ما لم يجاهد
نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد
عدوِّه في الخارج والانتصاف منه، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوِّه حتى يجاهد نفسه
على الخروج [5] . وأما حديث: «قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»
فهو منكر، وقال ابن تيمية: لا أصل له. وضعفه البيهقي والعراقي والسيوطي
والألباني [6] .
واختار الإسلام كلمة «الجهاد» للقتال، وجعلها مصطلحاً خاصاً به بدلاً من
الكلمات القديمة الشائعة بين الأمم كالحرب مثلاً؛ لما اشتملت عليه من معان سامية؛
من تحرير الإنسان في هذه الأرض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه
وشهواته إلى العبودية لخالقه ورازقه. والجهاد ليس له أي علاقة بحروب البشر
وأغراضها وأهدافها [7] .
* الجهاد.. هل هو تدخل في شؤون الآخرين؟
إن الغاية التي يتوقف عندها الجهاد: هي إسلام أهل الأرض كلهم واعتناقهم
عقيدة الإسلام، ولا يتوقف الجهاد الإسلامي مدى الحياة؛ لأن الشيطان مستمر في
إغواء بعض البشر، والصراع بين الحق والباطل سنة إلهية؛ لا تنتهي حتى ينتهي
وجود البشر في هذه الأرض.
وعن جبير بن نفير أن سلمة بن نفيل رضي الله عنه أخبرهم أنه أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: «إني سئمت الخيل، وألقيت السلاح، ووضعت
الحرب أوزارها؛ قلت: لا قتال. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن جاء
القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس، يرفع الله قلوب أقوام
فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك، ألا إن
عقر دار المؤمنين» رواه أحمد وهو صحيح [8] ، ورواه النسائي ولفظه: «كنت
جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله! أذال الناس
الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها. فأقبل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، وقال: كذبوا.. الآن الآن جاء القتال، ولا
يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم
حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم
القيامة، وهو يوحى إلي أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني أفناداً يضرب
بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام» [9] ، وحسنه البزار وصححه
الألباني [10] .
وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة»
رواه مسلم [11] .
وفي حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين
يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» رواه مسلم [12] .
والمعنى: ظاهرين على من عاداهم.
وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من
خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» رواه مسلم [13] .
وفي حديث عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم» رواه البخاري
[14] .
قال الحافظ ابن حجر: «وفيه بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛
لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون» [15] .
وبهذا يظهر لنا جلياً أن الجهاد مستمر إلى قيام الساعة، وأنه لا ينتهي جهاد
الكفار إلا إذا أسلموا، أو خضعوا لحكم الإسلام ودفعوا الجزية حالة كونهم متلبسين
بالذل والصغار [16] .
هذا، وقد أحسَّ العالم بخطأ فكرة «عدم التدخل في شؤون الآخرين» في
بعض الظروف في مجال العلاقات الدولية، فأباح التدخل من أجل إحقاق الحق،
وإبطال الباطل، ودفاعاً عن الإنسان في حالة اضطهاد دولة ما للأقليات من رعاياها.
ولكن يبقى أن الهوى في هذه الحال يَظلُّ يمارس دوره في ذلك التدخل من
أجل ما ذُكِر من الأغراض، كما أن الهوى يظلُّ يمارس دوره في حكم الآخرين
على ذلك التدخل؛ بين مؤيد له ومعارض، ما دام لا يستند إلى حكم صادر عن
جهة بريئة من الهوى والنزعات.
ومن هنا؛ فقد نقلت الإذاعة البريطانية صباح الجمعة 3/1/1990م عن
الصحف البريطانية قولها: «بوش الرئيس الأمريكي الأسبق لا يحظى بتأييد العالم
كله؛ لإعادة الديمقراطية إلى أي بلد في العالم» .
وذلك بصدد غزو القوات الأمريكية لبنما من أجل اعتقال حاكمها الجنرال
«نورييجا» ، والإتيان به إلى أمريكا لمحاكمته على جرائمه، وهذا ما حصل.
وما دامت أمريكا قد أعطت لنفسها الحق في أن تتدخل في شؤون الآخرين من
أجل تطبيق النظام الديمقراطي الذي تؤمن هي به عليهم، ويؤيدها في ذلك مؤيدون،
مع أن النظام الديمقراطي لا يدعي أحد حتى أصحابه أنه النظام الذي ارتضاه الله
لخلقه؛ فأي صفاقة غليظة إذن؛ تلك التي تعيب على المسلمين أن يتدخلوا في
شؤون الآخرين بتكليف من الله، ولو في تصور المسلمين فحسب؛ من أجل تطبيق
النظام الإسلامي على أولئك الآخرين، مع العلم أن هذا النظام يؤمن أكثر من ألف
مليون من البشر أنه النظام الذي ارتضاه الله لخلقه؟!
وإذا كان الآخرون ينكرون ذلك؛ فلِمَ لا يفسح المجال لتقديم النظام بعقيدته
للمناقشة، على المستوى الشعبي والرسمي العالمي عبر وسائل الإعلام الحديثة؛
ليدرك العالم بالبحث الحر مدى قرب هذه الدعوى أو بعدها عن الحقيقة؛ ما دام هذا
العالم هو المعنيُّ أولاً وأخيراً بهذه الدعوى؟!
وخلاصة القول: هل للمسلمين أن يتدخلوا باسم الجهاد في شؤون الآخرين؟
الجواب وبدون مواربة: نعم! ولله الحمد والمنة، من أجل الإنسانية التي
تدرك مصالحها الحقيقية؛ إذ ليس تدخل المسلمين في شؤون غيرهم كما تتدخل
الوحوش في شؤون الضعاف من خلق الله؛ من أجل إشباع نهمة الافتراس عندها.
وإنما هو كتدخل الآباء والأمهات في شؤون أبنائهم؛ من أجل إقرار الحق والعدل
بينهم، وزرع المحبة والود والرحمة في قلوبهم، ولو أنفق الآباء والأمهات من
جهدهم وراحتهم ومالهم الشيء الكثير في هذا السبيل [17] .
* هدف الجهاد في الإسلام:
إن الهدف الرئيس هو تعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد
إلى العبودية لرب العباد، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً، وإخلاء العالم
من الفساد؛ ذلك لأن خضوع البشر لبشر مثلهم وتقديم أنواع العبادة لهم من الدعاء
والنذر والذبح والتعظيم والتشريع والتحاكم؛ هو أساس فساد الأجيال المتعاقبة من
لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا، وهو انحراف بالفطرة السوية عما خلقها الله
عليه من التوحيد، كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن
أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نَحَلْتُه عبداً حلال، وإني خلقت
عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمتْ عليهم ما
أحللتُ لهم، وأَمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ... » رواه مسلم [18] .
والدليل على هذا قوله تعالى: [وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ
انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] (البقرة: 193) ، قال ابن كثير: «أمر
تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة؛ أي شرك ... [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] ؛ أي
يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان» [19] ، وقال الشوكاني: «فيه الأمر
بمقاتلة المشركين إلى غاية؛ هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله، وهو الدخول
في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن
الشرك لم يحل قتاله» [20] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله،
ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
بحق الإسلام، وحسابهم على الله» رواه البخاري [21] .
وعن جبير بن حيَّة قال: «ندبنا عمر، واستعمل علينا النعمان بن مقرن،
حتى إذا كنا بأرض العدو، وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان
فقال: ليكلمني رجل منكم. فقال المغيرة: سلْ عما شئتَ. قال: ما أنتم؟ قال:
نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمصّ الجلد والنوى من
الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينما نحن كذلك؛ إذ بعث
رب السموات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا،
نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى
تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة
ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك
رقابكم» رواه البخاري [22] .
وفي حوادث غزوة القادسية نجد قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه لما بعثه
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى رستم، «فدخل ربعي عليه، وقد زينوا
مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة،
والزينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على
سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة رثة وسيف وترس وفرس قصيرة،
ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك
الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع
سلاحك. فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا
وإلا رجعت. فقال: رستم: ائذنوا له. فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق
عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد
إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام،
فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن
أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة
لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي» ذكرها ابن كثير [23] .
وهذا الهدف السامي الرئيس موضع اتفاق بين علماء الإسلام، قال الشافعي:
«فدل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن فرض الجهاد إنما هو على أن
يقوم به مَنْ فيه كفاية للقيام به، حتى يجتمع أمران:
أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين مَنْ يمنعه.
الآخر: أن يجاهد من المسلمين مَنْ في جهاده كفاية، حتى يسلم أهل الأوثان،
أو يعطي أهل الكتاب الجزية» [24] ، وقال محمد بن الحسن: «فرضية القتال؛
المقصود منها: إعزاز الدين وقهر المشركين» [25] ، وقال ابن القيم:
«والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله
... فإن من كون الدين لله: إذلال الكفر وأهله وصغاره، وضرب الجزية على
رؤوس أهله، والرق على رقابهم، فهذا من دين الله، ولا يناقض هذا إلا ترك
الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون؛ بحيث تكون لديهم الشوكة والكلمة»
[26] .
وقال ابن عبد البر: «يُقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم، من
القبط، والترك، والحبشة، والفزارية، والصقالبة، والبربر، والمجوس،
وسائر الكفار من العرب والعجم، يُقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون» [27] .
وإن هذا الهدف السامي المتضمن لإعلاء كلمة الله وهي الإسلام، وإقامة
سلطان الله في الأرض، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وإخلاء العالم من الفساد
الأكبر الذي هو الشرك، وما ينتج عنه، وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين
الناس وبين الإسلام ويُعبِّدونهم لغير الله؛ هو ما يجب أن يسعى إليه المجاهدون في
كل مكان وزمان؛ لا تأخذهم في الله لومة لائم.
ومن الأهداف التي تتبع هذا الهدف الرئيس:
1 - رد اعتداء المعتدين على المسلمين، قال تعالى: [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (البقرة: 190) .
وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم
... وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ... وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل
بمن أطاعك من عصاك» رواه مسلم [28] .
قال النووي: « (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) ؛ معناه لأمتحنك بما يظهر
منك؛ من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق
جهاده» [29] .
2 - إزالة الفتنة عن الناس، وسواء ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب
والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم، أو الأوضاع والأنظمة الشركية، وما
ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة، أو فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن
استماع الحق وقبوله.
3 - حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار، وحقيقتها حماية العقيدة والمنهج،
وكلما امتد الإسلام إلى أرض وأزال عنها أنظمة الشرك صارت داخلة في الدولة
الإسلامية.
4 - قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم، كما قال تعالى: [فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ] (محمد: 4) ، وقال تعالى:
[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] (الأنفال: 12) وقال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه لما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر:
«والله! ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر
فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه
فيضرب عنقه؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء
صناديدهم وأئمتهم وقادتهم» [30] .
وقال تعالى: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ] (التوبة: 14-15) .
وقد قُتل أبو جهل على يدي شاب من الأنصار، ثم بعد ذلك وقف عليه عبد
الله بن مسعود - رضي الله عنه - ومسك بلحيته، وصعد على صدره حتى قال أبو
جهل: «لقد رقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم!» ، ثم حز عبد الله بن مسعود
رأسه واحتمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشفى الله به
قلوب المؤمنين، قال الحافظ ابن كثير: «كان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة، أو
أن يسقط عليه سقف منزله، أو يموت حتفه، والله أعلم» [31] .
5 - إرهاب الكفار، وإخزاؤهم، وإذلالهم، وإيهان كيدهم، وإغاظتهم، كما
قال تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60) ، وفي حديث أم مالك البهزية رضي الله عنها قالت:
«ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقرَّبها، قلت: يا رسول الله، من
خير الناس فيها؟ قال: رجل في ماشيته يؤدي حقها ويعبد ربه، ورجل آخذ برأس
فرسه يخيف العدو ويخوفونه» رواه الترمذي [32] ، ورواه الحاكم ولفظه:
«يخيفهم ويخيفونه» ، وصححه ووافقه الذهبي [33] ، وصححه الألباني [34] .
قال ابن القيم: «ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له.
وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه؛ أحدها قوله تعالى:
[وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة] (النساء:
100) ، سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً يراغم به عدو الله
وعدوه، والله يحب من وليه مراغمة عدوِّه وإغاظته، كما قال تعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ
وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ]
(التوبة: 120) ، فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة، فموافقته فيها من
كمال العبودية ... وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه
من هذه المراغمة، ولأجل هذه المراغمة حُمد التبختر بين الصفين» [35] .
* وهذه بعض الأهداف الأخرى:
للجهاد أهداف سامية، ومصالح كريمة، وفوائد عظيمة تتحقق للمسلمين في
ذوات أنفسهم متى مارسوا الجهاد، ومنها:
1 - كشف المنافقين: فإن المسلمين في حال الرخاء والسعة ينضاف إليهم
غيرهم؛ ممن يطمعون في تحقيق مكاسب مادية ولا يريدون رفع كلمة الله على كلمة
الكفر، وقد يتصنعون الإخلاص فيخفى أمرهم على كثير من المسلمين، وأكبر
كاشف لهم هو الجهاد؛ لأن العبد يبذل فيه أغلى ما يملك غير عقيدته وهو روحه،
والمنافق ما نافق إلا ليحفظ روحه، والله تعالى يقول: [فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ
وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ
المَوْتِ ... ] (محمد: 20) .
والمنافقون هم العدو الداخلي، وكثيراً ما يفوق العدو الخارجي، فإذا عُرفوا
مُنعوا من الغزو مع المسلمين، ولا يستمع المسلمون لما يعرضونه عليهم من
أراجيف وتثبيط، ومن أقاويل يلبسونها ثياب النصح والإصلاح. وواجب المؤمنين
حينئذ هو كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (التوبة: 73) .
2 - تمحيص المؤمنين من ذنوبهم: كما قال تعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 140-141) ، قال
ابن كثير: « [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ؛ أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كان
لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. وقوله: [وَيَمْحَقَ
الكَافِرِينَ] ؛ أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم
ومحقهم وفنائهم» [36] .
3 - تربية المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة وبذل النفس؛ إذ الركون
إلى الراحة والدعة، وعدم ممارسة الشدائد والصعاب؛ تورث العبد ذلاً وخمولاً
وتشبثاً بمتاع الحياة الدنيا.
وهكذا خوض المعارك، ومقارعة الأعداء، والتعرض لنيل رضا الله في
ساحات الوغى؛ يصقل النفوس ويهذبها، ويذكرها بمصيرها، ويوجب لها استعداداً
للرحيل؛ حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة لها تشتاق لها كما يشتاق الخاملون للقعود
والراحة. وكذلك تتربى نفس المجاهد على صفات محمودة كالشجاعة والنجدة
والصبر والأخوة والعفو، وتزول عنها الصفات المذمومة كالجبن والشح والهلع
والأنانية.. ونحو ذلك.
__________
(1) لسان العرب، لابن منظور، مادة جهد، القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مادة جهد، إرشاد الساري، للقسطلاني، ج 5، ص 30، 31، فتح الباري، لابن حجر، ج 6، ص 2، القاموس الفقهي، سعدي أبو حبيب، ص 71.
(2) مقدمات ابن رشد، ج 1، ص 369.
(3) رواه مسلم.
(4) أهمية الجهاد، للعلياني، ص 118، 123، صحيح مسلم شرح النووي، ج 13، ص 60 رقم 1910.
(5) زاد المعاد، لابن القيم، ج 3، ص 1026.
(6) السلسلة الضعيفة، للألباني، ج 5، ص 478، رقم (2460) .
(7) مبادئ الإسلام ومنهجه في قضايا السلم والحرب، الدكتور أبو بكر ميقا، ص 76، 78.
(8) مسند أحمد، ج 13، ص 214، رقم 16902، طبعة دار الحديث.
(9) سنن النسائي، ج 6، ص 214، رقم 3561، (أذال الناس الخيل) : امتهنوها بالعمل والحمل عليها.
(10) الصحيحة، للألباني، ج 4، ص 571، رقم 1935.
(11) شرح مسلم، للنووي، ج 13، ص 71، رقم 1922، طبعة دار القلم.
(12) المرجع السابق، ج 13، ص 72، رقم 1923، طبعة دار القلم.
(13) المرجع السابق، ج 13، ص 72، رقم 1924، طبعة دار القلم.
(14) (15) فتح الباري، لابن حجر، ج 6، ص 70، رقم 2852 (16) أهمية الجهاد، للعلياني، ص 185 186.
(17) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، لمحمد هيكل، ج 1، ص 818، 820.
(18) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 17، ص 202، رقم 2865.
(19) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ج 1، ص 329.
(20) فتح القدير، للشوكاني، ج 1، ص 220.
(21) فتح الباري، لابن حجر، ج 1، ص 102، رقم 25.
(22) فتح الباري، لابن حجر، ج 6، ص 309، رقم 3159.
(23) البداية والنهاية، لابن كثير، ج 7، ص 40.
(24) الأم، للشافعي، ج 4، ص 167.
(25) السير الكبير، للشيباني، ج 1، ص 188.
(26) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، ج 1، ص 18.
(27) الكافي، لابن عبد البر، ص 466.
(28) (29) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 17، ص 202 204، رقم 2865.
(30) البداية والنهاية، لابن كثير، ج3، ص 297.
(31) البداية والنهاية، لابن كثير، ج 3، ص 296.
(32) تحفة الأحوذي، ج 6، ص 401، أبواب الفتن، رقم 2268.
(33) المستدرك، ج 4، ص 510، رقم 8433.
(34) الصحيحة، للألباني، ج 2، ص 318، رقم 698.
(35) مدارج السالكين، لابن القيم، ج 1، ص 226.
(36) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ج 2، ص 107.(183/26)
قضايا دعوية
المكتبات الوقفية الإسلامية
ومتغيرات عصر المعلوماتية
محمد بن علي شماخ
M.shamak@maktoob.com
* المقدمة:
إن من أعظم ما يتميز به الدين الإسلامي نظرته لمنفعة المجتمع بشكل عام،
فقد تكون هذه المنفعة مقدمة من فرد واحد أو مجموعة أفراد؛ لذلك شجع الإسلام من
منطلق الصدقة الجارية إنشاء مؤسسات ذات نفع عام متعد، ويعتبر هذا العمل من
الطاعات التي تقرب إلى الله عز وجل، فـ «الطاعات ضربان: أحدهما: ما هو
مصلحة في الآخرة كالصوم، والصلاة، والنسك، والاعتكاف. والضرب الثاني:
ما هو مصلحة في الآخرة لباذله، وفي الدنيا لآخذيه كالزكاة، والصدقات،
والضحايا، والهدايا، والأوقاف، والصِّلات» [1] .
وكانت هذه المؤسسات تأخذ أشكالاً عدة؛ فمن خانات لإقامة المسافرين، إلى
المستشفيات لعلاج المرضى، إلى المكتبات للبحث والاطلاع، إلى حفر الآبار،
وبناء المساجد، إلى غير ذلك من أوجه البر والإحسان بما يفيد الأمة.
وقد شهدت القرون الأولى للهجرة قيام حركة علمية كبيرة نشأ عنها ظهور
الكثير من المؤلفات، واكتشاف العديد من العلوم لم تكن معروفة من قبل، ودعت
الحاجة الماسة إلى وجود مكان يحتوي هذه المؤلفات، ويجتمع فيه العلماء وطلبة
العلم للقراءة والبحث، فتم إنشاء دور العلم، وهو ما يطلق عليه في الوقت
المعاصر: (المكتبات العامة) ، ونظراً للحاجة لمثل هذا الدور قام الكثير من
الوزراء والعلماء والميسورين بإنشاء العديد من المكتبات التي أوقفوها لله عز وجل.
لقد برهن قيام العديد من دور العلم على (مدى إدراك الواقفين في ذلك العصر
لأهمية المكتبات، ولا سيما لطلبة العلم، في وقت لم تعرف فيه الطباعة الحديثة،
وكانت الوسيلة الوحيدة للحصول على نسخة من كتاب هي إعادة نسخه بخط اليد؛
مما جعل الكتاب نادر الوجود، وإذا وجد فإنه يكون باهظ الثمن، ومن هنا تبدو
أهمية الأوقاف في تيسير الحصول على الكتاب؛ سواء للاطلاع أو النسخ أو
المقابلة، وهذا ما يفسر أيضاً حرص الواقفين الشديد على هذه الكتب لضمان
استمرار منفعتها، فضلاً عن أن ريع الأوقاف كان هو المصدر الرئيس للصرف
على خزانات الكتب الملحقة بالمدارس وغيرها من المنشآت الدينية، وبذلك تكون
الأوقاف قد ساهمت مساهمة كاملة في خلق أجيال من العلماء « [2] ، ونظراً لعوامل
مختلفة أصابت الدولة الإسلامية، وخصوصاً منذ هجوم التتار على بغداد، شهدت
الحركة العلمية في العالم الإسلامي حالة من الضعف كانت تتسم بالتذبذب من مكان
إلى آخر، وقد انعكست هذه الحالة على الأوقاف بصفة عامة، ومكتبات الأوقاف
بصفة خاصة، فأهملت الكثير من المكتبات الوقفية؛ مما جعلها فريسة سهلة للضياع
والاندثار، ومع أنه قامت في فترات زمنية مختلفة الكثير من هذه المكتبات إلا أنها
تواجه الصعوبات نفسها.
وأمام حالة الضعف هذه التي تعيشها المكتبات تأتي رياح التغيير العاتية لعصر
المعلوماتية، فنجد الكثير من هذه المكتبات الوقفية تقف عاجزة عن اللحاق بركب
هذه المتغيرات، حتى رأى البعض أن هذه المكتبات أصبحت غير نافعة لمثل هذا
العصر.
* تعريف الوقف والمكتبة الوقفية:
روي في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال:» إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،
وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له « [3] ، ومن خلال هذا الحديث؛ سعى
المسلمون على مر العصور والأزمان إلى إقامة المشاريع الخدمية؛ سعياً وراء
الحصول على المثوبة والأجر من الله عز وجل؛ لذلك تم إنشاء العديد من الأوقاف
التي تحقق الفائدة للأمة، فتم إنشاء المدارس والبارمستانات والمكتبات والخانات،
وتم حفر الآبار وشق الطرق.. إلى غير ذلك من الخدمات التي تصب جميعها في
تيسير الخدمات على المسلمين.
ويعرِّف الفقهاء الوقف بأنه:» هو الحبس، وهما لفظان مترادفان يعبر بهما
الفقهاء عن مدلول واحد، وإن كان الرصاع يرى أن الوقف أقوى في التحبيس،
ويطلق على ما وقف فيقال: هذا وقف فلان؛ أي الذوات الموقوفة، فيكون فعلاً
بمعنى مفعول؛ كنسج بمعنى منسوج. ويطلق على المصدر وهو الإعطاء، وَحَدَّه
ابن عرفة بأنه: «إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو
تقديراً» ، وحدَّه ابن عبد السلام بأنه إعطاء منافع على سبيل التأبيد، وهو «جعل
منفعة مملوكة بأجرة، أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراها المحبس» وعند أبي
حنيفة: «حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدق بالمنفعة» وعند ابن
قدامة: «ومعناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة» [4] .
ومن خلال التعريف السابق يمكن الخلوص بتعريف للمكتبات الوقفية بأنها:
«دار تحتوي على مجموعة من أوعية المعلومات؛ تم تحبيسها لتقديم خدماتها
للمستفيدين الراغبين في الاطلاع والبحث؛ راجين في هذا العمل المثوبة والأجر من
الله عز وجل» .
* نبذة تاريخية عن المكتبات الوقفية:
أجمل ما يمكن أن نصف به ما تمثله المكتبات الوقفية في حياة الأمة الإسلامية
أنها كالعين التي تفيض بالماء، فهذه العين تفيض بماء الحياة من العلوم والمعارف،
تجري منه أودية الثقافة تسقي مختلف العقول، فينتج منها مختلف الثمار تؤتي أكلها
كل حين بإذن ربها، تكون هذه الصورة لحقل باهي الجمال، متناسق الأركان من
الحضارة الإسلامية، قطفت البشرية من ثمار هذه العين حضارة بلغت أوج عزها
ومنعتها، هذه العين مع مرور الزمان تقادمت أدوات الاستفادة من معينها فأصبحت
في حاجة ملحة إلى إدخال الوسائل الحديثة؛ حتى تعود إلى سابق عهدها، وتعيد
مجدها التليد.
فـ «بالنسبة للمكتبات في الإسلام، فهي نتاج طبيعي للحضارة العربية
الإسلامية، وانعكاس واضح لها، وقد ساهمت هذه المكتبات في توسيع نطاق هذه
الحضارة، وفي الحفاظ عليها ونقلها سليمة إلى الأجيال المسلمة المتعاقبة، وعندما
اتسع أفق المسلمين الثقافي وازدهرت حضارتهم، وتنوعت اهتماماتهم الفكرية
والعلمية؛ ازداد عدد المكتبات وتنوعت أغراضها حتى شملت جميع أنواع
المكتبات» [5] .
ولقد كان الهدف الذي يسعى إليه منشئ المكتبة هو «تسهيل سبل الدرس
والمطالعة والتأليف والترجمة لمن يرغب في ذلك، فقد كان يتعذر على الناس أن
يقفوا على الكتب العلمية النادرة، والتي ترجمت من اللغات المختلفة إلى اللغة
العربية، فذلل الخلفاء للناس سبل المطالعة والدرس في (بيت الحكمة) الذي أنشئ
لنشر العلوم والمعارف المنقولة عن الأمم الأخرى» [6] ، فتم إنشاء الكثير من
المكتبات في مختلف المدن الإسلامية، فقلما تجد مدينة إلا وفيها مكتبة يستفيد منها
أهلها والزائرون لها، وكانت تلك المكتبات ملحقة في الغالب بالمساجد التي كانت
أشبه بالجامعات في وقتنا المعاصر، فيتحقق لطلاب العلم الفائدة من وجود قاعات
الدرس، وأماكن للبحث والاطلاع والتصنيف.
ولقد مرت المكتبات الإسلامية بشكل عام، ومكتبات المساجد بشكل خاص؛
بأدوار أو مراحل مختلفة عبر تاريخها، تتلخص فيما يأتي:
أولاً: دَوْر الحضانة أو البداية (القرن الأول الهجري) ، وقد انصبَّ الاهتمام
في هذه المرحلة على تدوين القرآن الكريم والحديث الشريف؛ لذا تعد نسخ القرآن
الكريم والحديث الشريف النواة الأولى لمكتبات المساجد في الإسلام.
ثانياً: عصر النمو والتطور والازدهار (القرن الثاني وحتى بداية السابع
الهجري) ، وتبدأ هذه المرحلة بعد تأسيس الدولة العباسية بفترة وجيزة، وكان
أوجها في زمن المأمون الذي شجع العلم والعلماء، وفي هذه المرحلة كانت المكتبات
الإسلامية بشكل عام ومكتبات المساجد بشكل خاص مراكز إشعاع ثقافي.
ثالثاً: النهاية (القرن السابع الهجري حتى بداية العصر الحديث) ، وقد
تقهقرت المكتبات الإسلامية، وانتهت نتيجة عوامل داخلية تعرض لها العالم
الإسلامي، أو عوامل خارجية كالغزو المغولي الذي أحرق مكتبات بغداد، والغزو
الصليبي الذي دمر مكتبات بلاد الشام، وأما الإسبان فقد أحرقوا كثيراً من المكتبات
الإسلامية في الأندلس « [7] .
ويمكننا إضافة المرحلة الرابعة: وهي مرحلة إعادة البناء والنهوض على
قاعدة التنمية الشاملة للوقف الإسلامي من منطلق» أن هذه الصعوبات التي
تعترض وقف الكتب أو الوقف عليها؛ لا ترقى إلى أن تحول دون الاستمرار في
هذا النهج الحضاري المطلوب دائماً في سبيل نشر الكتاب بين مريديه والمستفيدين
منه؛ مما ينعكس إيجاباً على العلم والفكر والثقافة، ويثري الحركة الثقافية بالتأليف
والترجمة والنشر، ولا ينبغي النظر إليها إلا من منطلق أنها بحاجة إلى من ينظر
إليها نظرة جادة؛ تضعها في موقعها اللائق بها، فلا تهمل إهمالاً يضر بحركة
الوقف، ولا توضع على أنها عقبات كأداء تحد من الاستمرار في الدعوة إلى المزيد
من جهود الواقفين؛ ذلك أنه مع الصعوبات التي تعترض وقف الكتب والمكتبات،
يظل هذا الأسلوب الحضاري من أهم الموارد التي تعين على بناء المكتبات في
المجتمع المسلم « [8] .
* بداية الطريق:
لقد خلقت المتغيرات الحديثة ضرورة حتمية على المكتبات للقيام بتعديل
السياسات المعمول بها؛ بحيث تكون هذه السياسة متوافقة مع التقنيات الحديثة،
والكف عن الوسائل اليدوية التقليدية التي أصبحت عاجزة عن الحصول على رضا
المستفيدين،» وعادة ما تكون رؤية الموظف هي أن السماح بالتغيير يتطلب موارد
إضافية، وفي معظم الأحوال لا يتوفر وقت أو مال إضافيان، ويجب أن يكون
هناك قرار واع لتوفير الوقت والأموال اللازمة للتجديد، كما ينبغي أن يكون ماثلاً
في الذهن أن الأخطاء التي ترتكبها لن تكون أرخص مما هي عليه طالما أن النفقات
في ارتفاع مستمر « [9] .
إن العمل على توجيه السياسات المالية للمكتبة، والعمل على إدخال النظم
الحديثة من ضمن الأوليات؛ يحتم على المكتبة تخصيص بند في الميزانية العامة
للمكتبة لشراء الأجهزة والحواسيب للسنة الأولى، ولصيانة الأجهزة وتطوير
برامجها في السنوات التالية؛ كل ذلك بقدر ما سيكون مكلفاً في بداية الأمر، ولكنه
سينعكس إيجابياً في مستوى الخدمات، وتوفير الكثير من المخصصات الأخرى فيما
بعد؛ فالوسائل الحديثة سوف توفر الكثير من المخصصات الموجهة للاقتناء،
وتخفض الحيز المكاني وشراء الأرفف لوضع الكتب ومبنى المكتبة، كذلك فإن تلك
الوسائل لها أثر على السياسة العامة للتوظيف في المكتبة، وإجمالاً يمكننا مشاهدة
أثر هذه المتغيرات على المكتبات من خلال محاور عدة؛ منها:
1 - مقتنيات المكتبة:
إننا» في ظل تأثير التطورات التكنولوجية والإلكترونية على المكتبات؛ لم
تعد مجموعاتها تعرف بأنها تلك المقتناة بين جدرانها، ولكن المعلومات التي تستطيع
الوصول إليها عن طريق مراصد البيانات « [10] ؛ لذلك لا بد للمكتبات الوقفية من
مواكبة تطورات العصر والعمل على تحقيق نقلة نوعية؛ من مكتبة تحتوي على
الكتب إلى مركز للمعلومات يكون قادراً على أن يجعل» كل وثيقة في عالم الإنتاج
الفكري المتوافر، أو أية بيانات تشتمل عليها الوثائق في متناول أي عضو في
مجتمع المستفيدين، ويعني ذلك أن يكون عالم المصادر الوثائقية في متناول مجتمع
المستفيدين على درجات متفاوتة من السرعة واليسر، ونظراً لأنه لا يمكن لأي
مركز للمعلومات أن يقتني كل شيء؛ فإنه من المهم أن يقتني أنسب الوثائق
وأكثرها أهمية بالنسبة للمستفيدين من خدماته، ومن المهم أيضاً أن يكون مركز
المعلومات قادراً على أن يقتني بسرعة أي وثيقة أخرى تدعو الحاجة إليها في
مجتمع المستفيدين؛ سواء عن طريق الشراء أو التصوير الضوئي، أو تبادل
الإعارة بين المكتبات، هذا بالإضافة إلى حاجة ما تضمه مقتنيات المركز من
وثائق « [11] ؛ وعليه فلا بد للمكتبات من تعديل سياسة بناء المجموعات لديها؛ من
الاقتناء إلى الوصول إلى المعلومة.
ولذلك تعد قضية العمل بهذه الفكرة أمراً لا مفر منه، فيجب على الجهات
المشرفة على المكتبات الوقفية، ونظام الأوقاف أن تضع البرامج العملية لتحقيق
هذه النقلة النوعية؛ خصوصاً أنه ليس هناك ما يمنع ذلك من الناحية الشرعية؛ من
استثمار خدمات المكتبات وتثميرها، وذلك» أن تثمير الوقف أغبط للمنتفع،
وأنمى لأجر الواقف؛ لهذه الاعتبارات متضامنة، والتي تدور على محور المصلحة؛
نرى أنه لا حرج إن شاء الله في استثمار غلات الأوقاف التي نص الواقف على
صرفها على جهة، بعد تغطية حاجة الجهة المذكورة، وحتى قبل ذلك إن لم توجد
ضرورة شديدة تدعو إلى الإنفاق، ومع ذلك ينبغي أن تكون الأفضلية للاستثمار في
عقارات من جنس الوقف، بالإضافة إلى التوثيق الأكيد، ووضوح الجدوى، وعدم
المضاربة في حرام ولا في شبهة؛ لأن ذلك مخالف لقصد الوقف « [12] .
2 - العمليات الفنية في المكتبات:
ساهمت التقنية الحديثة في الوفرة المعلوماتية، بجانب سهولة الحصول على
هذه المعلومات، كل هذه العوامل ألقت بظلالها على رؤية المجتمع لهذه الوسائل،
وانعكس ذلك بدوره على الكثير من العمليات الفنية التي كانت تعمل بالوسائل اليدوية،
وتستنزف الكثير من الوقت والجهد والمخصصات المالية، فلا عجب» أن
التقنيات التي تؤدي إلى التحول الاجتماعي، ومن ثم تدفع منظمات خدمة المكتبات
والمعلومات إلى التغيير؛ تقدم كثيراً من أدوات هذا التغيير؛ فالحاسوب والفيديو
ووسائل الاتصال عن بُعد، والأجهزة الأخرى التي خلقت الحاجة إلى التغيير؛
توفر أيضاً أساليب للتأثير في ذلك التغيير، وقد استخدم الأدوات المتاحة، وأن
تتعلم كيفية العناية بها، ولم يحدث في وقت من الأوقات أن توفر لأصحاب مهنة
المكتبات والمعلومات مثل هذا التنوع في الأدوات المتاحة لإنجاز الأعمال « [13] ،
ومن هذه العمليات التي تم إدخال التقنيات الحديثة في إجراءاتها العملية ما يلي:
أ - إعداد الفهارس: يعد الفهرس هو المفتاح لأي مكتبة؛ فلا يستطيع أي
مستفيد الحصول على بغيته من المكتبة ما لم يستفد من إمكانيات فهرس المكتبة،
ولقد ظل الفهرس البطائقي فترة من الزمن من أكثر الأشكال استخداماً في الكثير من
المكتبات، وكانت تواجه الباحثين في استخدام الفهرس عدة عقبات؛ منها:
- أن الفهرس البطائقي لا يمكن لأكثر من مستفيد استخدامه في الوقت الواحد.
- لا يمكن استعمال الفهرس البطائقي إلا داخل المكتبة.
- يحتاج إلى بعض الوقت حتى يتم إضافة البطاقات الجديدة إليه.
- يكلف المستفيد بعض الوقت والجهد للحصول على المعلومة.
- يكون الفهرس البطائقي غالباً لشكل واحد من أوعية المعلومات وهو
الكتاب.
ومع ظهور الخدمات المتعددة لتقنية الحاسوب عمد المكتبيون إلى الاستفادة من
الخدمات الكبيرة المتوفرة في الحاسوب؛ في سبيل تحقيق أيسر الطرق لوصول
المستفيد إلى ما يحتاج إليه من محتويات المكتبة، ووجدوا» أن الوضع الأمثل
لإتاحة المعلومات يكون بتوفير إمكانات البحث للمستفيد في الموضوعات التي
يرغب فيها؛ من خلال الفهرس الآلي المباشر OPAC للمكتبة المحلية التي
يستخدمها؛ بحيث يمكنه استرجاع المعلومات بالأشكال المختلفة التي يرغب فيها؛
بما في ذلك الأشكال الإلكترونية أيضاً، والتي قد تتوافر على الأقراص المدمجة
CD-ROM أو قواعد للبيانات، أو شبكات للمعلومات مثل شبكة الإنترنت « [14] .
ب - عملية التزويد: تعتبر عملية التزويد من أكثر العمليات الداخلية بالمكتبة
مواكبة للتطورات؛ حيث إن الهدف الرئيس لعملية التزويد هو توفير كل ما هو
جديد وما يحتاج إليه المستفيد في المكتبة، ولقد مرت إجراءات التزويد بعدة مراحل
من خلال كل ما هو متاح من التقنية الحديثة؛ فلقد كانت عملية كتابة الطلب تتم
بواسطة اليد، وترسل بواسطة البريد المعتاد في عملية تتسم بالبطء الشديد،
ومتابعة سير العملية بواسطة الهاتف، ثم شهدت تغيراً ملحوظاً، وأصبحت كتابة
الطلب تتم بواسطة الآلة الكاتبة، وترسل بواسطة الفاكس.
وفي عصر الإنترنت تغيرت العملية بشكل كبير؛ فالكثير من دور النشر
تنشئ لها متاجر افتراضية على الشبكة التي تسوّق فيها منتوجاتها، ويقوم القائمون
بعملية التزويد بالمكتبة من خلال الاطلاع على المعروض، اختيار المناسب،
ومعرفة أسعار تلك المواد مباشرة، ووضع تلك المواد في سلة المشتريات،
وتسجيل عنوان المكتبة والبريد الإلكتروني، وتسديد الحساب، ومن ثم تقوم دار
النشر بإرسال المطلوب إلى المكتبة.
» ويلخص ريتشارد بوس الدوافع المحتملة لاستخدام الحاسب الإلكتروني في
أعمال التزويد على النحو التالي:
1 - تحقيق السرعة في إجراءات التزويد، ورفع معدلات إصدار أوامر
التوريد.
2 - خفض تكاليف التزويد.
3 - زيادة سرعة إعداد أوامر التوريد، وتلقِّي الأوعية المطلوبة.
4 - الارتفاع بمستوى إدارة الموارد المالية.
5 - تطوير النظام الآلي الخاص بقطاع معين ليصبح نظاماً متكاملاً.
6 - الارتفاع بمستوى المعلومات الإدارية.
7 - تحقيق التوافق مع الأقران في سياق تقاسم الموارد.
8 - تشجيع المكتبة على الاستفادة من التكنولوجيا المتطورة « [15] .
ت - القوائم الببليوغرافية: ساهمت تقنية الحاسوب في التعرف على كل
مقتنيات المكتبة من أوعية المعلومات، والتي بدورها تسهِّل الكثير من الأعمال
الخاصة بإعداد قوائم ببليوغرافية للمستفيدين عند الطلب، ومن ذلك:
1 - توفير الكثير من الوقت على الباحث في الوصول إلى مصادر المعلومات
المطلوبة.
2 - تمتاز بالدقة الكبيرة في الوصف الحقيقي لموضوع الوعاء المعلوماتي.
3 - تحقق نسبة عالية للمستفيد تجاه الخدمات التي تقدمها المكتبة.
4 - تكون هذه القوائم الببليوغرافية شاملة لأوعية المعلومات المختلفة.
فعلى سبيل المثال» يحتوي الإنترنت على العديد من قواعد البيانات
الببليوغرافية الخاصة بالعديد من المكتبات على مستوى العالم، والدخول إلى تلك
القواعد عملية من العمليات السهلة والتي لا تحتاج إلى تدريب، ويمكن لأي شخص
ليس لديه إلمام كاف بالحاسب أن يقوم بإجراء البحوث الخاصة به في تلك القواعد؛
إذ يكفي تتبع الأوامر والإشارات الخاصة بكل قائمة تظهر على الشاشة أمام المستفيد «
[16] .
ث - البث الانتقائي للمعلومات: تعمد المكتبة من خلال الحصول على
العناوين الخاصة بالمستفيدين الدائمين في المكتبة، وبالاستعانة بقائمة اهتمامات
المستفيدين من أخبار المستفيد، بل ما هو جديد في المكتبة في مجال اهتمامه، وتتم
عملية الاتصال هذه بواسطة الهاتف أو البريد أو الفاكس أو البريد الإلكتروني أو
غيرها من الوسائل التي تؤدي الغرض نفسه.
ج - خدمة الإحاطة الجارية: من المتعارف عليه أن المكتبة تخصص مكاناً
لعرض مقتنياتها الجديدة من مصادر المعلومات حتى يتمكن الزائر للمكتبة من معرفة
كل ما هو جديد في هذه المكتبة، ونظراً لقيام بعض المكتبات بتطوير خدماتها نحو
وصول المعلومة إلى المستفيد قبل المبادرة إلى البحث عنها، فإن المكتبة تقوم بعمل
الآتي:
1 - الاستفادة من موقع المكتبة على شبكة الإنترنت؛ بتخصيص حيز من
الموقع لتقديم هذه الخدمة؛ من خلال التعريف بالمقتنيات الجديدة في هذه المكتبة.
2 - من خلال معرفة العناوين الخاصة بالمستفيدين والباحثين الدائمين
بالمكتبة ترسل إليهم قائمة بالمقتنيات الجديدة فيها، وتتم عملية الاتصال هذه بواسطة
الهاتف أو البريد أو الفاكس، أو البريد الإلكتروني أو غيرها من الوسائل التي تؤدي
الغرض نفسه.
ح - خدمة الإعارة: في غالبية المكتبات العامة التي تقدم خدماتها للجمهور
يكون هناك قسم خاص لتقديم خدمة الإعارة؛ سواء كانت إعارة داخلية أو خارجية،
ويتميز سجل الإعارة في المكتبة بأنه السند القوي لما تمتلكه المكتبة مما استعاره
الجمهور، ولقد كان الدور الذي قام به سجل الإعارة دوراً عظيماً في حفظ ممتلكات
المكتبة، ولكن نظراً لكثرة المستعيرين ضعفت حالة الضبط لدى قسم الإعارة
بالمكتبة؛ فالكثير من الكتب تعار ويمر عليها فترة من الزمن بسبب أو آخر لدى
المستفيدين دون إعادتها للمكتبة، ومن دون متابعة من قسم الإعارة، وكم هي
المرات التي يأتي فيها مستفيد يبحث عن مرجع معين، فيتم البحث عنه فلا يتم
العثور عليه على أرفف المكتبة! فيدل ذلك على أنه قد تمت إعارته، فيطلب
المستفيد اسم الشخص الذي استعاره، وتبدأ عملية البحث الطويلة في سجلات
الإعارة! كل ذلك الوقت والمجهود قد تم اختصاره من خلال القيام بخدمات الإعارة
بواسطة الحاسوب.
لقد ساهمت تقنية الحاسوب في توفير الكثير من الوقت والطاقات، فيمكن
لقسم الإعارة تحديد مكان الكتاب المعار في دقائق، كذلك إعداد إحصائيات بيانية
لعمليات الإعارة خلال فترة معينة من الزمن، واتجاهات المستفيدين في عملية
الإعارة في دقائق معدودة.
3 - الفريق الوظيفي في المكتبة:
ساهمت التطورات التقنية في المكتبات في تغيير المفاهيم الخاصة بالقائمين
على المكتبات، وتحولت مكانة أمين مكتبة إلى مختص معلومات تكون مهمته
معرفة كيفية الوصول إلى المعلومة، ويتعامل مع أكثر الوسائل العلمية تطوراً.
هذه العوامل أدت إلى القيام بعمليات إعداد للقائمين على المكتبات بما يكفل
إجادة استخدامهم لهذه الوسائل؛ ذلك أن» وظيفة أمناء المكتبات تطرح إشكالية
التجديد في المهارات والتقنيات التدريبية؛ للتحكم في وتيرة المتطلبات الجماعية
للفئات الاجتماعية، وتتطلب الأوضاع الجديدة لقطاع المعلومات وسائل عملية؛
يكون بمقدورها التكيف مع مستجدات المجتمع المعلوماتي « [17] ؛ لذلك تسعى
المكتبة من خلال إقامة الدورات التدريبية، واستضافة الخبراء، وإقامة الندوات
والمؤتمرات العلمية لتحقيق هذا الهدف، ولا شك» أن دورة العمل تسمح للعاملين
باستيعاب مهارات جديدة لتوسع دائرة مهاراتهم بالعمل تبعاً لنظم مختلفة على أسس
مؤقتة، وتكون النتيجة أن يصير العاملون أكثر تعدداً في المهارات، إلى جانب
تقليل الملل، وتبسيط جدولة العمل من جراء مرونة العامل في مجالات العمل
المختلفة « [18] ، وتختلف الدورات الخاصة بالعاملين بالمكتبة من وظيفة إلى أخرى؛
فالعاملون ذوو الاتصال المباشر مع المستفيدين تقام لهم دورات خاصة بهم في
مجال تخصصهم، وكل ما هو جديد فيه، ويضاف إلى ذلك دورات خاصة
بالعلاقات العامة، وعلى المنوال نفسه بالنسبة للإدارة المكتبية، وأقسام الإجراءات
الفنية، مع إقامة هذه الدورات بشكل متواصل ومستمر، و» يشكل التعليم
والتدريب المتواصل للعاملين في قطاع المعلومات أحد الشروط الضامنة لنجاح
السياسة الاستراتيجية للمعلومات؛ لأن العنصر البشري يبقى ركيزة أساسية في
النظام المعلوماتي؛ مهما كانت درجة التطور، وتسهم البرامج التدريبة والتعليمية
في تجديد المعارف والمهارات والخبرات لأمناء وموظفي المراكز التوثيقية « [19] .
4 - مبنى المكتبة الوقفية:
لا شك أن التحول إلى استخدام التقنية الحديثة يسهم بشكل كبير في الحصول
على أعلى درجات الرضى لدى المستفيدين؛ ولذلك نجد» أن المكتبات لم تُقْدِم على
استخدام هذه التقنية بدون مسوِّغ، وإنما تلقتها عندما وجدت في إمكاناتها ما يدعم
خدماتها، ويحقق لها أعلى معدلات عائد التكلفة، بل ويحقق اقتناؤها أرباحاً ملموسة
إن لم تكن مؤكدة، وخاصة في العائد المباشر المتمثل في خفض نفقاتها المادية التي
كانت توجه إلى اقتناء مصادر المعلومات المطبوعة بكل أشكالها، وخاصة الدوريات
والمصادر المرجعية، هذا فضلاً عن خفض تكاليف إجراء عمليات البحث في
قواعد البيانات العاملة على الخط المباشر، إلى غير ذلك من جوانب الاستثمار
المباشر أو غير المباشر في خدمات المعلومات، وتلبية احتياجات المستفيدين،
وتوفير الحيز، وتعزيز المكانة الوظيفية بالمكتبات « [20] .
ويشكل مبنى المكتبة أهمية بالغة عند تأسيسها، ونظراً لصعوبة توفر المبنى
الذي يحتوي ذلك الكم الهائل من الكلمة المطبوعة، إضافة إلى ذلك ما تنتجه
المطابع كل يوم من مختلف الإنتاج الفكري؛ أدى ذلك إلى الحاجة الملحة لإيجاد
وسائط يمكنها أن تحتوي أكبر قدر ممكن من المطبوعات في أقل حيز ممكن من
المساحة؛ فكان لتطويع الوسائط المتعددة أثره البالغ في توفير المساحات الكبيرة
التي كانت مخصصة لحفظ الكتب فيها؛ فلقد» أسهمت التقنية الحديثة في نقل
المعلومات في مزاحمة الكتاب الموقوف، ولا سيما إذا تعرض هذا الكتاب للنسخ
الآلي، وأضحى قابلاً للاستفادة منه آلياً بإدخال المكتبة كلها في نظام الأقراص
المدمجة التي ربما استوعب الواحد منها المكتبة الموقوفة كلها، وربما هذا يصدق
على النسخ المنقولة من الورق إلى الأقراص المدمجة قبل أن يتم نقل الكتب
الموقوفة إلى المكتبة « [21] ، لقد كان للوسائط المتعددة والإنترنت أثرهما الواضح
والكبير في المساحات المخصصة للكتب والمراجع، فقد تم توفير ذلك على
المكتبات والذي بدوره يوفر على المكتبة الوقفية الكثير من المخصصات التي كانت
توضع لصالح شراء المقتنيات، وتوفير الفريق المتخصص للفهرسة والتصنيف؛
كذلك يوفر على المكتبة الحيز المكاني الذي تستهلكه أرفف الكتب والمراجع، ويتم
استثمار هذه المساحات في توفير قاعات إضافية للمطالعة يوجد بها أجهزة حاسوب
لاستخدام الإنترنت والوسائط المتعددة.
ومن خلال العرض السابق للمتغيرات المؤثرة على مبنى المكتبة الوقفية؛
يمكننا القول بأن المكتبة الوقفية المعاصرة تعمل على الاستفادة من المساحات الكبيرة
المخصصة للكتب، وتوجيهها لصالح قاعات المطالعة، والمخصصات المالية لشراء
أوعية المعلومات لصالح شراء أجهزة الحاسوب وغيرها، وصيانة هذه الأجهزة.
5 - شكل التنظيم الإداري للمكتبات الوقفية:
لا شك أن أي عمل مؤسسي ناجح يدل على وجود إدارة ناجحة، والمكتبات
الوقفية بصفة عامة بحاجة إلى جهات متخصصة تشرف على إدارتها، وتنظيم
الأنشطة والفاعليات التي تقوم بها في المجتمع، وجميع الأنشطة التي تقوم بها مع
الجهات والمكتبات الأخرى.
وكان الإشراف على المكتبات الوقفية فيما مضى من اختصاص نظار الوقف،
وكان بعضهم يتصرف بمال الأوقاف بطريقة أدت إلى حالات الهدر الكبيرة وتعطيل
المنافع، فكان لا بد من سن» أعراف وأنظمة مختلفة في كثير من الأقطار
الإسلامية تتعلق بالأوقاف، ومن أهم هذه الأنظمة إنشاء وزارات الأوقاف التي
أصبحت الجهة التي تمثل الإمام في رعاية شؤون الأوقاف العامة، أو الأوقاف
المجهولة المصرف، وتتمتع بصلاحيات واسعة، إلى جانب القضاء في تقديم
النظار وعزلهم، إلا أنها لا يمكن أن تحكم في الخصومات التي تنشأ في الأوقاف؛
سواء فيما يتعلق بإثبات وقفيتها أم تعيين المصرف « [22] ، وعلى المنوال نفسه
قامت الجمعيات الخيرية ومؤسسات النفع العام بتطبيق الفكرة نفسها؛ فقد خصص
بعضها إدارة مستقلة للإشراف على الأوقاف.
وزيادة في التخصص فقد تم إنشاء إدارة خاصة بالمكتبات، وهذه الجهات
المسؤولة عن مثل هذه المكتبات ما لم تكن متخصصة في علم المكتبات فلن تستطيع
الإمساك بزمام الأمر، وتحقيق رسالة المكتبة التي من أجلها أنشئت.
ونظراً لصعوبة قيام كل مكتبة منفردة بمواكبة مثل هذه المتغيرات السريعة مما
يجعلها تقف عاجزة أمام تقديم الخدمات التي تنال رضى جمهور المستفيدين؛ فإنه
يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء إدارة تكون قادرة على تحقيق التنسيق بين
المكتبات الوقفية، ومواكبة هذه المكتبات لمتغيرات العصر بما لا يخالف الأحكام
الشرعية وشروط الوقف. ويكون على عاتق إدارة المكتبات الوقفية عدة مهام؛ منها:
1 - الإشراف على عمليات الاقتناء للمكتبات: مما يجعل مقتنيات مجموعة
من المكتبات متوفرة لدى المستفيد، والتي بدورها توفر على المكتبات الكثير من
المخصصات المالية في عملية الاقتناء، فتقوم بوضع قائمة باحتياجات كل مكتبة من
أوعية المعلومات وعناوينها، ومن ثم اختيار المناسب على ضوء الميزانية المقررة،
وهذه العملية تساهم في الحد من تكرار العناوين في المكتبات.
2 - إصدار الفهرس البطائقي أو الآلي: ويتم تعميم هذا الفهرس على
المكتبات المنضوية تحت إشراف هذه الإدارة، كذلك يمكن وضع هذا الفهرس في
شبكة الإنترنت الدولية؛ مما يوحد جهود الفهرسة والتصنيف التي تبذلها كل مكتبة
وتنحصر في نطاق واحد.
3 - التنسيق لخدمة الإعارة التبادلية بين المكتبات: والإشراف على عمليات
الإعارة هذه.
4 - رفع المستوى العلمي للعاملين؛ من خلال القيام بدورات تدريبية للعاملين
تكون بصفة دورية، كذلك الدورات المتخصصة لكل موظف بحسب موقعه
الوظيفي.
5 - القيام بدورات تأهيلية للمستفيد في كيفية استخدام التقنيات الجديدة؛ حتى
يتسنى للمستفيد الحصول على المعلومات التي يريدها دون الاتكال على أمناء
المكتبات، وإصدار النشرات الإرشادية.
6 - تقييم الأعمال ومستوى الخدمات لكل مكتبة، ومعالجة جوانب القصور،
وتدعيم الجوانب الجيدة.
7 - العمل على تعزيز المكانة الاجتماعية للمكتبات الوقفية، وإزالة العراقيل
التي تحول دون تفاعل المجتمع مع أنشطة هذه المكتبات ودعمها، فـ» على الرغم
من المحاولات المكثفة التي تقوم بها المكتبات ومراكز المعلومات من أجل توظيف
فاعل ومُجْدٍ لهذه المادة؛ إلا أنها قد تواجه بعض التحديات المتعلقة بمواكبة
التطورات التكنولوجية السريعة، وملاحقة جميع المنتجات الفكرية، وتزداد هذه
التحديات حدة في البلدان النامية؛ لأن المكانة الاجتماعية اللائقة للمعلومات تكاد
تكون مفقودة، وأن تقادم التجهيزات المسخرة تصاب بالتقادم « [23] .
لقد أدى ضعف المكانة الاجتماعية للمعلومات في المجتمعات الإسلامية إلى
» إعراض الناس عن وقف الكتب والمكتبات على المستفيدين، وعن إلحاقها
بمكتبات حكومية أو أهلية قائمة؛ بحيث تكون متاحة للمستفيدين، بل إن بعض
العلماء والمثقفين الذين يكونون مكتبات جيدة في منازلهم يتركونها للورثة الذين
يضعونها في (الكراتين) أو أكياس الخيش، فتطول بها المدة، وربما تعرضت
للرطوبة والحرارة والأرضة التي تنخر فيها، وتنتهي الفائدة منها فترمى مأسوفاً
عليها، كل هذا بسبب إغفال صاحبها من أن يدرجها في وصيته « [24] .
8 - القيام بتحديد أماكن المعلومة المفيدة من شبكة الإنترنت، وتعريف
المستفيد بأماكن تواجدها، والهدف من هذه الفكرة توفير الوقت والجهد على الباحث
في معرفة مكان المعلومة التي تهمه، خصوصاً أنه يقف حائراً أمام هذا الكم الكبير
من المواقع على الشبكة الدولية. مثال ذلك ما قامت به بعض المكتبات العالمية من
عملية البحث والتنقيب نيابة عن المستفيد، فـ» تعد مكتبة جامعة كورنل
The man Library of cornell University من المكتبات التي طورت أنظمتها الخاصة محلياً؛ من أجل تحديد المعلومات التي تهمها على شبكة الإنترنت؛
حيث قامت إدارة تنمية المقتنيات في تلك المكتبة بتشكيل مجموعة خاصة لها باسم
(منقبو الإنترنت) Prospectors Internet، وهي مجموعة تقوم بإجراء
المسوحات على شبكة الإنترنت للبحث عن المعلومات المتوافرة على الشبكة، والتي
تقع ضمن المجالات الموضوعية للمكتبة، وتزيد في المعرفة العلمية بمختلف
الأدوات المستخدمة في البحث والاسترجاع في مصادر الإنترنت « [25] .
* مكتبة وقفية في الشبكة الدولية:
نظراً لعالمية الشبكة وتوفر الوسائل في وجود الكثير من التراث الفكري
الإسلامي على الشبكة الدولية؛ فإنه من الممكن الوصول إلى مكتبات وقفية يتم
تمويلها بواسطة وزارات الأوقاف في الدول الإسلامية، والجمعيات الخيرية، وأهل
البذل والعطاء من أبناء المسلمين من خلال إنشاء مكتبات وقفية في شبكة الإنترنت؛
بحسب الإمكانات المتاحة وقدرات أبناء المسلمين؛ فلو تم إعداد فرق عمل مختلفة
من مجموعة من العاملين مهمتهم إيجاد مكتبة وقفية للمخطوطات الإسلامية، فتقوم
بـ» نقل المخطوطات الإسلامية ووضعها في إنترنت، وإذا جاء اليوم الذي تصبح
أغلب الكتب الإسلامية مخطوطة ومطبوعة موجودة على الإنترنت؛ فإنه يمكن
للباحثين حينها أن يقوموا بجميع بحوثهم العلمية ودراساتهم الشرعية بدون أن
يغادروا بيوتهم أو يتجشموا عناء السفر بحثاً عن المخطوطات المنتشرة حول العالم «
[26] ، ومجموعة أخرى تكون مهمتها إعداد مكتبة متخصصة بالرسائل الجامعية،
وأخرى بالدوريات الإسلامية.... إلخ.
لقد تم إنشاء بعض المكتبات الإسلامية التي يمكن أن يطلق عليها صفة
(المكتبة الوقفية في شبكة الإنترنت) ، ويمكن أن تكون هذه الجهود ذات أثر كبير لو
تم القيام بتنسيق بين هذه المكتبات، وكذلك التنبه لعدم التكرار في وضع المؤلفات،
ونحن نشتكي من القلة في وفرة الكتب الإسلامية على الشبكة، والمسألة أصبحت
ميسرة في ظل الطفرة الكبيرة في البرمجيات العربية لكتب التراث الإسلامي، فكم
هو جميل أن نرى كتب التراث الإسلامي تزخر بها جنبات شبكة الإنترنت؛ في
نطاق مكتبات إسلامية وقفية إلكترونية، فإذا تحقق فكم من الخير ستحصل عليه
الأمة الإسلامية، وكم في تحققه من فوائد عظيمة؛ منها:
1 - حفظ التراث الإسلامي من مخطوطات وكتب وغيرها؛ في وسائل
حديثة لا يلحق بها الضرر من كثرة الاستعمال، ولها إمكانية الاستخدام لأكثر من
شخص في الوقت الواحد.
2 - التعريف بالإنتاج الفكري الإسلامي، وسهولة وصوله للقاصي والداني؛
دون أن يكلف ذلك الباحثين الكثير من المتاعب التي تواجههم حالياً بالوصول إلى
المعلومة التي يرغبون بها.
3 - الاستفادة من أوعية المعلومات الجديدة، والتي لم تكن مستخدمة من قبل
مثل: الأشرطة السمعية، والأشرطة السمع بصرية، والرسائل الجامعية،
والدوريات الإسلامية.
4 - يوفر ذلك على المكتبات الوقفية القائمة على أرض الواقع من الاستفادة
من مقتنيات المكتبات الوقفية على الفضاء الشبكي؛ مما يوفر الكثير من
المخصصات المالية للحصول على مقتنيات جديدة.
5 - إزالة الحواجز الزمانية والمكانية التي تقف عائقاً أمام الوصول إلى
الوعاء المعلوماتي الذي يرغب في اقتنائه المستفيد.
6 - تساهم في عملية الضبط الببليوغرافي وتوجيه حركة التأليف؛ بحيث
تساهم في معرفة آخر البحوث والدراسات، وعدم التكرار للموضوع الواحد.
__________
(1) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام، ص 18.
(2) محمد محمد أمين، الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر، دار النهضة العربية، ص 259.
(3) أخرجه مسلم.
(4) عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، أثر المصلحة في الوقف، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، عدد 47، ربيع الآخر جمادى الآخرة 1421هـ.
(5) عليان، ربحي مصطفى، مكتبات المساجد، مجلة الهداية، عدد 161 رجب 1411هـ، ص 74 - 75.
(6) سعيد الديوه جي، بيت الحكمة، مؤسسة دار الكتب العربية للطباعة والنشر، الموصل، ص 37 - 38.
(7) عليان، ربحي مصطفى، مكتبات المساجد، مجلة الهداية، عدد 161 رجب 1411هـ، ص 74 - 75.
(8) علي بن إبراهيم النملة، أوقاف الكتب والمكتبات، مدى استمرارها ومعوقات دوام الإفادة منها، (ندوة المكتبات الوقفية في المملكة، من 25 - 27 محرم 1420هـ) ص 11.
(9) كينث إي دوالين، المكتبة الإلكترونية، الآفاق المرتقبة ووقائع التطبيق، ترجمة: حسني الشيمي، وحمد عبد الله، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ص 98.
(10) أحمد بدر، المدخل إلى علم المعلومات والمكتبات، دار المريخ.
(11) فردرك ولفرد لانكستر - آمي ج وورنر، أساسيات استرجاع المعلومات، مكتبة الملك فهد الوطنية، الطبعة الثالثة 1418هـ.
(12) عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، أثر المصلحة في الوقف، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، عدد 47، ربيع الآخر جمادى الآخرة 1421هـ.
(13) كينث إي دوالين، المكتبة الإلكترونية، الآفاق المرتقبة ووقائع التطبيق، ترجمة: حسني الشيمي، وحمد عبد الله، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ص 101.
(14) محمد محمد آمان، ياسر يوسف عبد المعطي، النظم الآلية والتقنيات المتطورة للمكتبات ومراكز المعلومات، مكتبة الملك فهد، ص 190.
(15) حشمت قاسم، مصادر المعلومات الإلكترونية وتنمية مقتنيات المكتبة، مكتبة غريب، ص 303.
(16) زين الدين عبد الهادي، استخدام شبكة الإنترنت في المكتبات العربية، مجلة الاتجاهات الحديثة في المكتبات والمعلومات، عدد 3، 1995م، ص 139.
(17) الأخضر إيدروج، ذكاء الإعلام في عصر المعلوماتية، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1420هـ، ص 159.
(18) جريجوري أف كيشيل، باتريشيا جونتر كيشيل، كيف تبدأ مشروعاً وتديره وتحافظ عليه؟ ، مكتبة جرير، ص 173.
(19) الأخضر إيدروج، ذكاء الإعلام في عصر المعلوماتية، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1420هـ، ص 155.
(20) هاشم فرحات، قواعد البيانات المحملة على الأقراص المدمجة، مكتبة الملك فهد الوطنية، مج 6، عدد 2، رجب ذو الحجة 1421هـ، ص 160.
(21) علي بن إبراهيم النملة، مستقبل الكتاب المطبوع، عالم الكتب، مج 3، عدد 12، شوال 1402هـ / يوليو 1982م.
(22) عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، أثر المصلحة في الوقف، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، عدد 47، ربيع الآخر جمادى الآخرة، 1421هـ.
(23) الأخضر إيدروج، ذكاء الإعلام في عصر المعلوماتية، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1420هـ، ص 142.
(24) علي بن إبراهيم النملة، أوقاف الكتب والمكتبات؛ مدى استمرارها ومعوقات دوام الإفادة منها، (ندوة المكتبات الوقفية في المملكة، ج من 25 27 محرم 1420هـ) .
(25) محمد محمد آمان، ياسر يوسف عبد المعطي، النظم الآلية والتقنيات المتطورة للمكتبات ومراكز المعلومات، مكتبة الملك فهد، ص 190.
(26) عبد المنعم حسن النهدي، الإنترنت في خدمة الإسلام، دار المحمدي، جدة.(183/34)
قضايا دعوية
حوار مع أحد الأقطاب!
عبد البارئ أحمد العطار
بحكم انتمائي إلى أكثر من فصيل لأبناء الدعوة الإسلامية المعاصرة؛ فقد
كانت الحساسية على أشدها بيني وبين المتصوفة؛ لدرجة أنني كنت لا أطيق مجرد
سماع مصطلح «صوفي» أو «متصوف» أو «صوفية» ؛ من كثرة ما
كان يصل إلى مسامعي من كلامهم عن «الحب الإلهي» و «العلم اللدنِّي»
و «الفناء» و «الكشف» و «العشق والوجد» و «الإلهام» و «المشاهدة»
.. إلخ.
وعند التعمق في فهم مدلولات تلك المصطلحات عند القوم؛ تجد بالنظر الأول
وبادي الرأي ما يصطدم مع عقيدة أهل السنة والجماعة بشكل مباشر أو غير مباشر،
والمسألة ليست آراءً تُقبَل أو تُرَدّ، ولكنها عقيدة حاسمة وصارمة يعتقدها القوم
وينافحون عنها بكل ما أوتوا من قوة وعزم؛ سواء وافقت الدين الإسلامي أو خالفته؛
بحجة أنها «الحقيقة» التي لا يُشترط لها عندهم في ثبوتها موافقة الشريعة؛
فهي أي الحقيقة دين الخواص وأهل اليقين! أما الشريعة بعلومها الظاهرة وآلاتها؛
فهي دين العوام الذين لم يصلوا بعد إلى مراد الله من وضع الشريعة ابتداءً!
وشاء الله أن أكون واحداً منهم في فترة من حياتي، وكنت لا أجد تفسيراً لما
يرد في أورادهم من مبهمات ومشكلات غير مفهومة تشبه طلاسم السحرة وأحاجي
الدجالين، كالاعتماد على الحروف المقطعة في فواتح السور كسورة (مريم، وطه،
وق) في غالب أذكارهم، أو كوجود بعض الجمل الشركية كقولهم: «اللهم
انشلني من أوحال التوحيد» ، أو كطلب المدد والعون من المخلوق، وإهمال حق
الخالق في ذلك، نعوذ بالله من هذا كله وأمثاله وما يقرب إليه.
ثم شاء الله بعد هذا الزمن الطويل أن أتعرف على شيخ الطريقة الشاذلية في
بلدتي، وهو من الوجهاء الذين يشار إليهم بالبنان؛ فهو يحفظ القرآن وأوراد
الشاذلية وأحزابهم ك (حزب البحر، وحزب النصر، وحزب البر) وغيرها،
ويعرف الكثير عن حياة شيخه أبي الحسن علي الشاذلي، وقد اتفق معي في مقدمة
الحوار أن الصوفية هذه الأيام تخالف ما كان عليه أئمة التصوف في العصور
الماضية، ويسيئون إليهم بأفعال ليست من الدين في شيء، بل ويتجرؤون بنسبة
هذا إليهم زوراً وبهتاناً، ووجدتها فرصة مناسبة للعودة إلى موضوع التصوف بعد
ما تركتهم سنوات وسنوات، وقد وصلتُ حسب زعمي إلى مرحلة من النضج
الفكري والفهم النقي، والإلمام ببعض علوم الشريعة التي تؤهلني للفرقان بين الحق
والباطل.
ولتحليل ما عليه هؤلاء تحليلاً شرعياً يتفق مع مقررات العقول السليمة؛ قلت
لهذا الشيخ: هل يمكنني قراءة كتاب ولو مختصراً عن حياة أبي الحسن الشاذلي..
كيف تربى ونشأ وترعرع؟ وما هو منهجه في التعليم ووصاياه لأتباعه؟ فاستجاب
جزاه الله خيراً، ففي اليوم التالي مباشرة أحضر لي كتاباً بعنوان: «الشيخ أبو
الحسن الشاذلي.. نبذة من سيرته وأوراده» ، وأخذت في قراءة الكتاب لعلِّي أجد
فيه ما ينفع، وكنت قد قرأت قبل ذلك للرباني عبد القادر الجيلاني وهو من أئمة
التصوف في زمانه كتابَيْ: «الفتح الرباني» و «آداب السلوك» ، ونفعني الله
بهما كثيراً، وقد زكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، فاستراح قلبي لما كان عليه من
الحرص على الطاعة والبعد عن المعصية، والتطلع الدائم إلى تزكية النفس من
حظوظ الدنيا وشهواتها. وأخذت أقرأ في الكتاب الذي أعطانيه؛ فإذا بي أجد درراً
من الحكم الباهرة، وحثاً على اتباع السنة والتحذير من الانحراف عنها، يقول أبو
الحسن الشاذلي: «ما ثَمَّ كرامة أعظم من كرامة الإيمان ومتابعة السنة، فمن
أعطيها وجعل يشتاق إلى غيرها فهو عبد مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم
بالصواب، كمن أُكرم بشهود الملك فاشتاق إلى سياسة الدواب!» [1] .
ويقول رحمه الله: «إذا عارض كشفك الكتاب والسنة؛ فتمسك بالكتاب
والسنة واضرب بالكشف عُرض الحائط، وقل لنفسك: يا نفسي! إن الله تعالى قد
ضمن لكِ العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لكِ في جانب الكشف ولا
المشاهدة ولا الإلهام؛ لأنه لا ينبغي العمل بالكشف ولا المشاهدة ولا الإلهام إلا بعد
عرضها على الكتاب والسنة» [2] .
ويقول أيضاً رحمه الله موصياً أتباعه أو إخوانه: «لا تنقل قدميك إلا حيث
تأمن غالب معصيته تعالى، وحيث ترجو ثوابه تعالى، ولا تصحب إلا من تستعين
به على طاعة الله تعالى، ولا تصطفي لنفسك من الناس إلا من تزداد به يقيناً في
معرفة الله عز وجل» [3] .
وفي الصفحة نفسها يوضح المؤلف منهج الشيخ في علاج غفلة الناس، فينقل
عنه قوله: «إذا ثقل الذكر على لسانك، وكثر اللغو في حديثه، وانبسطت
الجوارح في شهواتك؛ فاعلم أنه من عظيم أوزارك، ولكون النفاق في قلبك،
وليس لك طريق إلا التوبة والصلاح والاعتصام والإخلاص في دين الله تعالى»
إلى أن يقول: «إذا رأيت رجلاً يدعي حالاً يخرجه عن أمر الشرع فلا تقربن
منه» .
وكان رحمه الله محباً للعلم مبغضاً للجهل، وكان «من طريقته أن لا يدخل
أحد في إخوانه إلا بعد تبحره في علوم الشريعة وآلاتها، وكان يعتبر الجهل والرضا
به من أكبر الكبائر، حتى كان يقول: لا كبيرة عندنا أكبر من اثنتين: حب الدنيا
بالإيثار، والمقام على الجهل بالرضا به» [4] .
ويقول المصنف بعد ذلك ناقلاً عن ابن مغيزل في المفاخر العلية: «كان
يحضر مجالس الشيخ أبي الحسن في مصر أساطين العلم وسلاطين العلماء من
أمثال العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وعبد العظيم المنذري، وابن
الصلاح، وابن الحاجب وغيرهم» [5] ، وبعد انتهائي من قراءة الكتاب شكرت
للشيخ الذي أعطانيه، وقلت له: الآن أدركت حجم الهوة بين صوفية الأمس وما
عليه أدعياء التصوف اليوم؛ إذ لا وجه معقولاً للمقارنة، فليس بينهم حتى مشابهة
في بعض الأحوال. ثم دخلت معه في مناقشة حول الكتاب، فقلت مبتدئاً الحديث:
إذا كان القرآن والسنة هما الدستور وطريق النجاة كما قرر الشيخ في تعاليمه؛
فلماذا تخالفون هذه التعاليم وأنتم تعتقدون إمامة الشيخ وصدق كلامه؟
قال: كيف؟
قلت: ألست معي في أن كل ما خالف الكتاب والسنة فهو من قبيل البدع
والزيادات التي يحاسب العبد عليها أمام ربه تعالى؟
قال: بلى!
قلت: في حلقات ذكركم ترقصون وقوفاً، وتتمايلون مع ألفاظ الشرك بشكل
يدفع إلى السخرية!
قال: وماذا تقصد بألفاظ الشرك؟
قلت: طلب المدد من غير الله مثلاً، وكذا الاستعانة بالمخلوق فيما لا يقدر
عليه إلا الله قولاً أو فعلاً.
فقال: عندي البراهين على صحة كل هذا.
قلت: هاتوا برهانكم.
قال: أما الذكر وقوفاً أو قياماً فقد أثنى الله تعالى على الذاكرين في كل
الأحوال، فقال عز وجل: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم] (آل
عمران: 191) ، وقال سبحانه عن أصحاب الكهف: [إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] (الكهف: 14) ، فهذا نص على القيام بالذكر في أكثر من
موضع في القرآن الكريم!
قلت مستغرباً: لي اعتراضان:
الأول: أن الرقص شيء والقيام شيء آخر؛ فهل معنى القيام في الآيات هو
الرقص والتطويح؟!
الثاني: وهل معنى الذكر في الآيات قائماً هو طلب المدد من غير الله تعالى،
أو الذكر المكرر بالمضمر كقولكم: يا هو يا هو ... إلخ؟! ألم يعلمنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأن كلمة الإخلاص هذه هي
أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله؟ ألم يعلمنا أن نربع على أنفسنا في الدعاء؛
فإننا لا ندعو أصم ولا غائباً بل ندعو سميعاً قريباً، وهو معنا أينما كنا، وأقرب
إلينا من حبل الوريد؟!
قال: قد يكون عندنا بعض المخالفات في الهيئة وأظنها لا تتجاوز الكراهة،
فالقصد هو الذكر ولا نقصد شركاً، والأعمال بالنيات.
قلت: يشترط شيخكم فيمن يريد أن يكون معه على الطريق أن يتبحر في
علوم الشريعة، وها أنتم تخالفون الشرط؛ إذ لو كنتم تعلمون بدهيات الشرع لعلمتم
أن النية وحدها لا تكفي؛ إذ لا يُقبل العمل عند الله إلا بالنية الصالحة مع المتابعة
للسنة، وهما شرطا قبول الأعمال، فالنية بلا متابعة بدعة، والمتابعة بغير نية
نفاق، ودليل الشرط الأول أنت ذكرته، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» [6] ، ودليل الشرط الثاني أنت قد أهملته،
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»
[7] ؛ أي مردود على صاحبه وغير مقبول؛ لأنه من البدع التي حث الشارع
على تركها والبراءة من أصحابها إن هم أصرُّوا عليها بعد العلم.
فابتسم قائلاً: هكذا أنتم معشر السُّنية - يقصد (أهل السنة والجماعة) - كل
شيء لا يعجبكم تقولون إنه بدعة، حتى إن كان مجهولاً بالنسبة لكم.
قلت: معاذ الله! هذا حكم جائر وقضاء ظالم، أسأل الله أن لا يؤاخذك بما
تقول، وعموماً بيني وبينك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ هل
ترتضيهما حَكَماً؟
قال: نعم.
قلت موضحاً للبدعة حتى يفهم: قال العلماء: إن سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم التي وصلت إلينا ويجب علينا العمل بها أقسام أربعة: قولية، عملية،
إقرارية، تركية.
1 - القولية: هي ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لنا وأمرنا به وجوباً أو
استحباباً.
2 - الفعلية: هي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لتأكيد الأمر في القول
أو لبيان الجواز.
3 - الإقرارية: هي ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أو عُرض عليه وأقره.
4 - التَّرْكية: هي ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وجوداً أو عدماً.
قال: ما معنى الوجود والعدم؟
قلت: الترك الوجودي هو ترك الشيء مع وجود المقتضي له، والترك
العدمي هو ترك الشيء لعدم وجود ما يقتضيه، ومن هنا كانت القاعدة الأصولية
«ترك العمل بالشيء في عهد النبوة مع وجود المقتضي له دليل على عدم
المشروعية» .
قال: وضِّح فإن الأمر قد أُغلق عليَّ والتبس ولا أستطيع فهمه؟
قلت: سأضرب لك مثالاً من الواقع الذي تعيشونه معشر الصوفية.
قال: تفضل.
قلت: لماذا تحتفلون بموالد المقبورين وإن كانوا جميعاً كما تزعمون من أولياء
الله الصالحين، وقد سلَّمنا لكم جدلاً بذلك؛ رغم أن الواقع كشف زيف هذه الدعوى
في كثير من الأضرحة في مصر؟
قال: محبة وتكريماً.
قلت: هل أنتم خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: كلا.
قلت: هل أولياؤكم خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: كلا.
قلت: لم يحتفل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمولده رغم وجود
المقتضي؛ وهو حبهم له حتى كانوا يتمنون فداءه بالأهل والمال، وليس بعد ذلك
تكريم، فأنت الآن أمام خيارات ثلاثة:
1 - أنتم أفضل من الصحابة.
2 - أولياؤكم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - أنتم على ضلالة.
أما الأول والثاني؛ فنعوذ بالله من اعتقاده، وأما الثالث فهو الأقرب إلى الحق
والعدل والصواب؛ إذ لو كان ما تصنعونه خيراً لسبقونا إليه، ولأرشدنا إليه خير
البشر صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيراً إلا ورغَّبنا فيه، وما ترك شراً إلا
ورهَّبنا منه، والعمل الذي تركه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود
مقتضاه وقدرتهم عليه والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليس مشروعاً في
حقنا؛ إذ هذا كالإجماع على بطلانه شرعاً وابتداع مَنْ فعله [8] ، ولا أظن أنكم أوفى
لأوليائكم من وفاء الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه
وسلم رمز التضحية والفداء.
قال: هذا شأنكم تكبِّرون الصغيرة وقد أوتيتم جدلاً.
قلت: أعوذ بالله أن نجادل إلا بالحق لندحض به الباطل، وقد أجازه لنا ربنا
عز وجل فقال: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) .
قال: ألا تريد أن تكون معنا؟ قلت: فرقتم الأمة إلى شيع وأحزاب، وخالفتم
الاعتصام والوحدة، وأسرعتم خلف ما تشتهون، ثم تريدونني معكم؟! ليتكم اتبعتم
مبادئ شيخكم؛ فلو اعتقدتموها لوجدتموني معكم دون أن تطلبوا ذلك، ولكنكم سرتم
في واد غير الذي سلكه إمامكم رحمه الله، فأنا معه ولست معكم.
وهنا تذكرت أئمة الصوفية كالإمام الجنيد، والإمام ابن القيم، وإبراهيم بن
أدهم، ومعروف الكرخي، والإمام ابن رجب، والجيلاني، والرفاعي، وكذا
الشاذلي، رضي الله عنهم أجمعين، ورحمهم الله رحمة واسعة، وألحقنا بهم في
الصالحين، فقد كانوا مدارس في الفقه والتوحيد والتزكية.
نسأل الله حسن الخاتمة، والوقاية من بدع المتأخرين، وهدايتهم جميعاً إلى ما
يحبه ويرضاه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) الشيخ أبو الحسن الشاذلي، لمحمد أنور المهتدي، ص 54، طبعة دار الصفوة.
(2) المصدر السابق، ص 46.
(3) المصدر السابق، ص 47.
(4) المصدر السابق، ص 46.
(5) المصدر السابق، ص 40.
(6) رواه البخاري، رقم (1) ، ومسلم، رقم (1907) ، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(7) البخاري، رقم (7277) ، ومسلم، رقم (1718) ، من حديث أُمِّنا عائشة رضي الله عنها.
(8) راجع كتاب المنتدى رقم 35 (حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال) ، من ص 151 - 161.(183/42)
دراسات تربوية
تدني المستوى الدراسي في العالم الإسلامي وأسبابه
د. محمد خليل جيجك [*]
يعاني عالمنا الإسلامي ضمن ما يعانيه من مشكلات ما هو ملموس من ضعف
حالة (التربية والتعليم) وهذه الحالة لها مظاهر كثيرة منها موضوع هذه المقالة.
* المشكلة باعتبارها ظاهرة اجتماعية:
إن العاملين في حقل التعليم والتدريس في العالم الثالث وخاصة العالم
الإسلامي؛ يلاحظون عن كثب ذلك التدهور البالغ والانحطاط المرعب في
مستويات الطلاب الدراسية؛ وخصوصاً منها الأخلاقية والتعلُّمية والفكرية
والتربوية؛ فحينما يفحص الأستاذ طلابه الجامعيين دراسياً ومعلوماتياً يتقابل مع
مشهد محزن مؤلم جداً؛ من قلة معلوماتهم، وتدني مستواهم، وضآلة ثقافتهم، وهذا
سيأتي فيما يؤول إليه الأمر في مستقبل الأيام بخسائر فادحة ونتائج مرهقة في جميع
الميادين العلمية والمعرفية والتفكيرية، وعامة مجالات الحياة الاجتماعية،
وخصوصاً منها الإدارية والسياسية والاقتصادية، إلى جانب ما يُهدر حالياً من
الطاقات الإنسانية البالغة على المؤسسات التعليمية، وما ينفق من الميزانيات
الضخمة الباهظة على المشاريع الدراسية والتربوية، ولكن بدون أن تعود على
الشعب والأمة بخير يُذكر أو نفع يُشكر، فيتوجب على جميع من يحس في قرارة
نفسه بمسؤولية واهتمام نحو قضايا الأمة أن يتدارك الأمر قبل فوات أوانه، وأن
يحزم قبل ضياع زمانه؛ وذلك بمزيد الاعتناء بالقضية، والتركيز التام عليها بشتى
الوسائل، ومنها اعتناء الجهات السياسية بها، وتحريض العلماء ورجال الفكر
والثقافة وعامة أرباب القلم عبر القنوات الإعلامية على التوجه نحو الموضوع،
وبيان أفكارهم، وإبداء آرائهم تجاه هذه القضية التي هي أمسُّ القضايا بمستقبل
الأمة، وأكبرها دوراً في رفع شأنها، وإعادة عزها ومجدها.
فعلى المسؤولين أن يكثفوا أولاً جهودهم على تعرف الأسباب التي أدت إلى
هذا الحدث المرعب؛ فإننا ما دمنا لم نعرف أسباب الحدث ولم نحددها؛ فلا
نستطيع أن نعالج القضية معالجة جذرية معمقة؛ بحيث تنفذ إلى جميع أبعادها
التكونية؛ لتكون مداواتنا مداواة صحيحة موفقة؛ فإن تشخيص المرض نصف
المداواة.
فعلى كل أرباب الرأي والفكر في العالم الإسلامي أن يُبدوا آراءهم في مخارج
القضية ومداخلها، وأسبابها ونتائجها المرهقة، وآثارها السيئة على المدى القريب
والبعيد.
علماً منا أن للتعليم المعاصر الذي يتغذى في معظم بلاد العالم الإسلامي من
النظم العلمانية إخفاقاً من ناحية أخرى هو أدهى وأمر؛ وهو الإخفاق الذريع في
تربية الأجيال تربية رشيدة على الفضائل العملية، والمحاسن الإنسانية، والمعاني
السامية، والكمالات البشرية، ولكن نحن هنا لا نتناول القضية من هذه الزاوية،
بل إنما نتناولها من ناحية تدني المستوى الدراسي فحسب.
فقضية (تدني المستوى الدراسي) صارت ظاهرة اجتماعية مزمنة في معظم
بلاد العالم الإسلامي؛ تنذر بخطر داهم، فإذا كان عدد الراسبين في بلد ما يفوق
عدد الناجحين أضعافاً مضاعفة؛ فمعناه أن جرس الخطر قد دق منذ أمد غير قليل.
نعم! إن لهذه القضية الداهمة أبعاداً كثيرة وأسباباً جمة؛ تتطلب صرف جهود
إنسانية كثيرة كما أشرنا سابقاً؛ حتى يتسنى لنا استقصاء هوية القضية بجميع
جوانبها؛ فيمكن معالجتها معالجة سليمة حكيمة، علماً منا أن أسبابها متنوعة مختلفة؛
منها سياسية، ومنها اقتصادية، ومنها عقلية، ومنها اجتماعية، ومنها
جيوسياسية، ومنها بيولوجية، ومنها ما تنزل إلى مستويات أدنى كفقد البنية التحتية
للدراسة الناجحة، ومنها فقدان ذهنية النقد الذاتي البنَّاء لدى غالبية أرباب القلم،
وعدم إمكانية تقبله لدى بعض الجهات الإدارية، ومنها فقدان العقلية التي تسوق
القادة والساسة إلى الاهتمام الذي يسبب التوجه الجماهيري نحو أهمية الموضوع.
فمثلاً ترى في عرض البلاد وطولها توجهاً جماهيرياً بالغاً نحو الأمور
الرياضية؛ لأن التوجه الرياضي يشكل جزءاً كبيراً في سياستها، فهنا وهناك،
وفي هذا البلد وذاك يوجد إقبال جماهيري جنوني نحو المباريات الرياضية؛ لأن
تلك السياسات الرياضية أو تبوؤ الرياضة المكانة العليا من سياسات البلد يعد من
المؤشرات القوية على تطور البلد وتقدمه وتنوره وتخلصه من العقلية المتخلفة
حسب مزاعمهم فحينما تهتم الجهات العالية بها تتوجه نحوها الجماهير الشعبية أيضاً؛
لأن الناس على دين ملوكهم.
وأما سياسات التعليم؛ فلا تستحق تلك المكانة الفضلى في كثير من تلك البلدان،
بل إنما يطبق بعض الأمور فيها كي تجد العادة محلها ليس إلا!!
وفي العدوة الأخرى تسمع في مجال التعليم الوطني في بعض من البلاد
الأخرى صخوباً تكاد تصم الآذان، فتنسق ندوات، وترتب محاضرات ومؤتمرات،
وتنظم اجتماعات واحتفالات، ولكن معظمها بدون جدوى، يذهب أدراج الرياح
سدى؛ فهذا مؤشر قوي على أن هناك في العقلية التعليمية، ومن ثم في الأنظمة
التعليمية هوَّات وفراغات لا يُتنبه لها؛ فلا تؤتي الجهود ثمارها الطيبة؛ لأنه لا
تؤتى البيوت من أبوابها.
وأرى أن من الأسباب الرئيسة التي لها الأثر البالغ في ظهور القضية؛ هي
قصر النظر وسطحيته عند كثير من القائمين على سياسات البلاد الإسلامية؛
وخصوصاً منها السياسات التعليمية، فبينما كان الآخرون يقسمون فيما بينهم
الفضاء، أو يخططون لحرب النجوم، أو يحاولون زرع الذاكرة الصناعية في
الدماغ أو.. أو.. ترى في معظم بلاد العالم الإسلامي أنه ما زال بعض الحكام
والسياسيين يتصارعون مع شعوبهم على أتفه الأمور وأقلها، ولا يهتمون بمصالحها
على المدى القريب والبعيد؛ اللهم إلا مصالح كراسيهم الوثيرة، فيظنون أن التلهي
بهذه الأمور، أو التشبع بزخرفة المناصب سيخلصهم من ريب الدهر وكيد الزمن..
ولكن أنى يكون ذلك؟!
إن معظم القائمين على أمور التعليم والتعلم في العالم الثالث لا يُكلِّفون أنفسهم
عناء البحث والتنقيب التام عما يمكن أن يتحقق به مستقبل مشرق لشعبه وأمته،
إلى جانب غفلتهم التامة عن الحقيقة الكونية الثابتة: أن الرفع ديناً ودنياً إنما يمكن
بالتقدم في العلم والمعرفة، ولم تحقق دول الغرب وعلى رأسها أمريكا، ومن دول
الشرق اليابان، وما إليها من بعض الدول التي تسعى بخطوات حثيثة في سبيل
الرقي العلمي والمعرفي والحضاري لم تحقق منجزاتها المتنوعة في شتى الحقول
التقنية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية وغيرها إلا بالتقدم البالغ في
سبيل العلم والمعرفة.
* أسباب تدني المستوى الدراسي:
إننا لا نتناول الآن شرح جميع الأسباب المؤدية لتدني المستوى الدراسي في
عالمنا الإسلامي؛ فإن ذلك ليس بوسعنا في هذا المقال القصير، وإنما سنركز على
شرح ما نراه أهمها، وهي السبب النفسي، والسبب التربوي، والسبب الثقافي:
1 - السبب النفسي:
إن من أهم الأسباب لتدني المستوى الدراسي وأكثرها مفعولاً فيه: السبب
النفسي، وهو عدم الاستعداد النفسي لدى معظم الطلاب كي يكون طالب علم له
وظائفه ومسؤولياته وتكاليفه وواجباته؛ يعني أن الطالب رغماً من انخراطه في
الطلاب الجامعيين، حسب التسجيل في السجلات الجامعية، لكنه لم يحدد بعدُ
تصوُّرياً وفكرياً موقعه الاجتماعي، فلم يتقبل نفسياًَ أن موقعه في مجتمعه موقع
طالب علم عليه أداء بعض الواجبات العملية، والقيام ببعض المسؤوليات الدراسية،
ولم يدرك أن عليه من يوم أن انخرط في سلك الطلبة الجامعيين تنظيم حياته،
وتنسيق أموره، وترتيب شؤونه من جديد، وكذلك لم يدرك أن عليه التقليل من
علاقاته، والتحديد من زياراته، والتخفيف من صِلاته، وأن عليه الترتيب
لملابساته، والتصنيف لمناسباته، وأهم من الكل التنظيم الدقيق لأوقاته وفق ظروفه
الدراسية ومتطلبات حياته التعليمية.
وكما أن الطالب لا يفكر في هذا، كذلك لا يرشده أحد من أساتذته وأقاربه
وأبويه أيضاً إليه، فتمضي سنواته الدراسية واحدة تلو الأخرى بدون أن يفهم أن
موقعه في المجتمع هو موقع الطالب الذي ينبغي أن يكون منعزلاً عن وسطه الذي
يعيش فيه إلى درجة ما، وأن لا يهمه إلا دراسته، وأن يكون معظم ملابساته مع
نفسه وغيره متكوناً ودائراً في هذا المحور وحسب.
وينشأ عدم الاستعداد النفسي لدى الطالب فينا من خمسة أمور:
1 - قلة التوجه النفسي إلى العلم.
2 - قلة أو عدم اهتمام الطالب بخدمة شعبه وأمته (أي لم ينمُ فيه عزم كبار
الرجال منذ صغره) .
3 - ضعف الدافع العقدي لدى معظم الطلاب؛ حيث يضعف اعتقاده بما
للعلماء وطلبة العلم من المكانة المرموقة عند الله والأجر والمثوبة.
4 - فقدان العقلية الواعية لدور العلم والعلماء في تنشئة الأجيال، وعمارة
الأرض، وبناء الحضارات.
5 - التسامح البالغ لدى كثير من الإدارات التعليمية في رفع درجات الطلاب
أو إنجاحهم من غير استحقاق منهم لذلك.
ومعالجة هذه الظاهرة تتيسر باستعداد الطالب لما يقبل عليه من العلم نفسياً؛
من خلال توعيته التامة وإشعاره بآثار وفوائد العلم المشروع فيه من قنوات عديدة:
تركيز المدرسين على أهمية العلم ومكانته عند الله، ودوره البالغ في ترقية الأمم
وبناء الحضارات، وأن بالعلم شرف الدنيا والآخرة، إرشاد الأبوين له وتوجيهه
دائماً نحو أهمية طلب العلم، وتركيز الأساتذة أيضاً على واجبات الطالب عبر
حياته الدراسية، وأن لا نجاح له بدون القيام بها، والاهتمام الفردي من طرف
الأساتذة أو غيرهم (ولعل هذا من أكثرها تأثيراً وعطاء) بالموهوبين النبغاء.
(وربما يحتاج الأمر إلى تنسيق دورات لهم، أو لجميع الراغبين في دخول
الجامعات قبل انخراطهم في سلك الطلاب الجامعيين، وتنظيم ندوات ومؤتمرات لهم
في هذا الصدد) .
2 - السبب التربوي:
إن الدور العظيم للتربية في رفع وخفض مستوى الدراسة؛ مما أجمع عليه
أهل العلم قاطبة سلفاً وخلفاً؛ بمن فيهم مؤمنوهم وكافروهم، ويشير إلى ذلك الإمام
الشافعي في مقولته:
أخي لن تنالَ العلمَ إلا بستةٍ ... سأنبئك عن تفصيلها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبلغةٌ ... وإرشادُ أستاذٍ وطولُ زمانِ
فليس هناك نجاح وتقدم في الدراسات العلمية بدون تربية ناضجة عن كيفيات
التعليم والتعلم ومناهجهما وسلوكياتهما وممارساتهما؛ فمن دخل في الحياة العلمية
دون القدر الكافي من التربية العملية؛ كان كمن دخل بيتاً مظلماً كثير الغرف
والمداخل والمخارج بدون مصباح.
وأيضاً إن المنتشر في بلادنا الإسلامية هو نقل المعلومات وحفظها كما هي
بدون تفكر وتدبر، وبدون نقد وبحث وتمحيص، وهذا يسبب على المدى البعيد
سطحية في التفكير، وركوداً وجموداً في المعلومات، وتوقفاً عن الإبداع والاختراع،
ونأياً عن تحقيق الأهداف العظيمة القيمة وإنجازها، ومن ثمة بعداً عن الإنجازات
الجادة في الحقول الحضارية بتاتاً.
وعدم ترويض الطلاب فكرياً وعقلياً على التفكير، والأخذ والعطاء، والسؤال
والجواب، والقبول والرد عبر مشواره التعليمي؛ من أهم أسباب وفي الوقت نفسه
مظاهر تدني المستويات الدراسية، فمن المشاهَد الواقع أن كثيراً من الدول المتقدمة
يعلمون أولادهم التفكير من السنوات المبكرة، فمثلاً الإسبان يعلمون أولادهم تفكير
النقد بدءاً من السنة الثانية الابتدائية، بينما ترى أن معظم أساتذتنا الجامعيين لا
يعلمون ولا أبجدية التفكير، فدعك من الأطفال والطلاب، وأكبر العوامل في ذلك
هو عدم تضلعنا بالمسؤولية صغاراً وكباراً، وأيضاً فقدان البنية التحتية للتفكير،
وهي الاطلاع الواسع على المعلومات الجمة المتنوعة.
3 - السبب الثقافي:
إن المجتمعات الشرقية المسلمة لها خصائص وعادات وتقاليد تكونت من
مجموعها ثقافتها في طبيعتها الخاصة التي تخالف بها طبيعة ثقافة المجتمعات
الغربية، وتغاير أيضاً طبيعة ثقافة مجتمعات الشرق الأقصى غير المسلمة؛ ففي
المجتمعات الشرقية المسلمة نوعية العلاقات الثنائية والاجتماعية تختلف عن طبيعة
العلاقات عند الآخرين، ففي المجتمع الشرقي الإسلامي العلاقات كثيفة، عميقة،
دافئة، مستمرة، ومعظمها تطوعية لا تهدف إلى مكسب مادي أو ربح مالي، وكثير
منها تلقائية (أوتوماتيكة) بدون أن يكون لها سائق قوي، كما أن غالبيتها عمومية
تنبثق من الأخوة الإيمانية فحسب؛ بدون أن يكون لها داع آخر، فلا تنحصر في
حدود الأقارب أو الأسر أو الزمالة فحسب.
وهذه الطبيعة العلاقاتية التي تشكل سمة اجتماعية لثقافتنا وإن كانت لها
إيجابيات كثيرة وخصوصاً في نشر روح التساند والتحابب بين أفراد الأمة، وأيضاً
لها دور كبير في رص البناء الاجتماعي لدى الأمة، وإزاحة انعزالية الفرد من
المجتمع التي كثر ما يعاني منها الغربيون وغيرهم من الشعوب غير المسلمة،
وترسيخ روح الشعور بمساندة الآخرين؛ مما يأتي للفرد بثقة تامة على المدى البعيد،
إلى غيرها من الإيجابيات الجمة لكنها تسبب سلبيات، خصوصاً لطالب العلم؛
من أبرزها عدم تركيز الطالب في دراسته، وعدم وجود إمكانية توجهه التام
لدراساته.
وهذه الحصيلة الثقافية إذا انتشرت ولم تعالج معالجة حكيمة فوتت على جيل
الشباب فرصاً كثيرة عبر دراساتهم.
وهناك شيء آخر مركوز في ثقافة البلاد الثرية، وهو تلهي شباب الأثرياء
بمتع وزخارف الحياة، وانشغالهم بملذاتها وطيباتها عن الدراسة وتكاليفها ظناً منهم
أن الثراء يكفيهم عن كل شيء، فثقافة الثراء من أهم العراقيل والعقبات الكؤودة في
طريق الدراسة أيضاً؛ فقلما يخرج من بين أولاد الأثرياء طالب علم نابغ متفوق.
ومعالجة هذه الظاهرة الثقافية لدى الطلاب تتطلب جهوداً كثيرة منسقة،
ومساعي جمة موفقة؛ من المدرسين والأسر والجهات التعليمية سواء بسواء؛
تصرف تلك الجهود لإزاحة هذه العادة الثقافية واستئصالها تماماً من الطالب،
والإتيان بأحسن منها أو تخفيفها وتعليقها إلى حين الفراغ من دراسته.
فما دامت تلك الثقافة العلاقاتية لم تتبدل لدى الطالب؛ بتفرغه الكامل من
جميع تلك العلاقات لدراسته، وإقباله التام على دروسه ومحاضراته يصعب تحصيل
الأهداف المنشودة من الدراسة والتعليم؛ سواء على مستوى الفرد أم على مستوى
الأمة.
وما تأتي به هذه الثقافة العلاقاتية من تلك النتيجة السلبية ودورها السيئ في
الدراسة؛ لتفويتها الفرص الزمنية الكثيرة على الطالب موجود كذلك لدى الأساتذة
أيضاً؛ فلهذا يندر الإبداع والابتكار عند أساتذتنا الجامعيين، ويقل التحقيق والتدقيق
في بحوثنا العلمية، وتغلب البساطة والسطحية على معظم أعمالنا الأكاديمية، ولذلك
فإن دور الأساتذة في تدني مستوى الدراسة لا يقل تماماً عن دور الجهات التعليمية
الأخرى، وعن دور الطلاب، بل ربما يكون أهم الأسباب هو إخفاق الأساتذة؛ لأن
كثيراً من الأساتذة لا يجددون معلوماتهم أبداً، ولا ينكبُّون على الدراسة والقراءة،
بل يلوكون المعلومات القديمة فقط، ويكتفون باجترارها، وهو ما يزيد الطين بلة
والمرض علة.
حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
__________
(*) جامعة الإمام محمد بن سعود، كلية أصول الدين، بالرياض.(183/46)
دراسات تربوية
يا حبذا ريح الولد!
د. سليمان بن محمد الصغير
alsoqir@yahoo.com
بُنَيَّ.. وقد بلغتَ سن الرجولة، وأصبحتَ محلَّ الرجاء وموضع الأمل..
أكتبُ إليك هذه الرسالة.. بدأتها مع السَّحَر في ليلة غرة شهر رمضان المبارك،
ولن أخفي عليك أنني عندما بدأتُ بها تحرَّكَتْ عاطفتي، وخفق قلبي، وذرفت
عيناي.. وكدتُ أجهش بالبكاء وأضع قلمي لولا شعورٌ انتابني بأن أستمر.. لم
أعهدْ مثل هذه المشاعرِ حينما أبدأُ بكتابة موضوعٍ ما.. ولكني تذكرتُ والدي الذي
جاوز السبعين عاماً شفاه الله؛ تذكرتُه أيّامَ شبابه وكهولته وقوته وجَلَده وصبره،
تذكرت معاناتَه.. يا ربّ! .. كم أعطى من جهده ووقته ونفسه، وكم بذل في هذه
السنين من أجل ولده، بل كم يبذل الآن من أجل أولاده وهو الشيخ المقعد! .. اللهم
عافه واعفُ عنه، وأقرَّ عينَه في دنياه وأُخراه.
بُنَيَّ.. لقد سرحتُ في تذكر أيَّامٍ كنتُ فيها في مثل سنّك الآن.. إنني أشعر
بعاطفتين تتجاذباني وأعيش الآن شعورين: شعورَ الوالد نحو ولده، وشعور الولد
نحو أبيه.. إنها لحظاتٌ لا أستطيع وصفها.. ستدركها إن كان مكتوب في اللوح
فسحةً في العمر.. إن مشاعر الوالدين لا يمكن وصفها أو تصويرها؛ مهما كان
الإنسان بليغاً قولُه وفصيحاً لسانُه.. لكنها مشاعر ذات مشاهد تتفطر لها القلوب،
وتذوب وتَلين لها القساة فتذرفُ الدموع.. إليك واحداً منها متعلقاً بذهني منذ عزمت
على الكتابة لك: إن أعظم الناس بلاءً وأشدَّهم هُم الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، كما
ثبتَ عن نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك.. وكما هو الواقعُ لهم فيما ابتلاهم به الله
تعالى.. وإن من أشدّ أنواع البلاء إن لم يكن أشدَّها ما كان متعلقاً بالولد.. ابتُلِيَ
يعقوب عليه السلام بفقدان ولده يوسف ثم ببنيامين.. بلغ حزنه مبلغاً لا يطيقه
الرجال إلا الصفوة المختارة، وتناهت الشدة، وقال عندما أصيب ببنيامين: [يَا
أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْن] (يوسف: 84) ، والأسف أشد
الحزن، والمصيبة الآن بأخيه وليست بيوسف.. ذلك أن مصيبته بيوسف قاعدة
المصائب وإن تقادم عهدها؛ فقد أخذت بمجامع قلبه.. لن ينساه ولن يزول عن
فكره أبداً حتى يلقاه.. ولم تُنْسِني أوفى المصائب بعده ولكن نكاء القرح بالقرح
أوجع ابيضت عيناه من الحزن.. كُفّ بصره.. وما على الأرض يومئذ أكرم على
الله تعالى منه.. وإن كان منصب النبوة يقتضي معرفة الله تعالى التي تقتضي حبّه،
ومن أحبّه لم يتفرغ قلبه لحب من سواه سبحانه.. إلا أنه لا تتنافى حالة يعقوب
مع منصب النبوة.. إنه حب الوالد لولده تلك المحبة الطبيعية لا تأبى الاجتماع مع
حب الله تعالى! رُوي أن فراقه إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه يوماً
.. ولما كانت أشد المصائب فيما ينال الولد؛ كان ذلك مع إبراهيم وولده إسماعيل
عليهما السلام، وكان مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد بكى على موت ابنه
إبراهيم، ودمعت عيناه، وخشع قلبه، وحزن على إبراهيم ولم يقل إلا ما يرضي
ربه.. [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] (البقرة: 156) .
ويبلغ بك يا بُنَيَّ العَجَبُ من شدة تعلق الوالد بولده عندما تتأمل ما حصل
ليعقوبَ لما قَرُبت أيَّام الفرج.. لقد وجد ريحَ يوسف عندما دخل قميصُه بلدةَ يعقوب
مع العير القادمة.. قميصُه ليس شخصَه! [وَلَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أَبُوَهُمْ إِنِّي لأَجِدُ
رِيحَ يُوسُفَ] (يوسف: 94) .. ترى! كم كانت المسافة بين يعقوب وقميص
يوسف؟! أمّا حين ألقى البشيرُ القميصَ على وجهِ هذا الوالد الذي فقد بصرَه ارتدَّ
بصيراً في الحال.. بمجرد ملامسته للقميص! ثم هل من الممكن أن تستطيع
وصف مشاعر يعقوبَ عندما التقى يوسفَ وبنيامينَ حقيقة؟!
ووجود رائحة الولد بعد طول فراق وقعت في عهد عمر رضي الله عنه لأمية
بن الأسكر رحمه الله الذي قدم إلى المدينة آنذاك، وكان له ولد اسمه كلاب،
وكلاب كان باراً بوالديه، ذهب إلى الجهاد وترك والديه بعد أن أرضاهما؛ ولكنه
أبطأ، فاشتدَّ حزنُ أمية على ولده، ولمّا رأى حمامة تدعو فرخها بكى، فرأته أم
كلاب فبكت، فأنشأ قصيدة تغنّت بها الركبان إلى اليوم، ومنها قوله:
إذا هتفت حمامةُ بطنَ وجّ ...
على بيضاتها ذكرا كلابا [*]
ثم أصابه العمى فجاء إلى عمر يرجوه ردّ كلاب، فكتب عمرُ برده، ولمّا
وصل كلابُ سأله عمر عن برّه بأبيه. فقال كلاب: أُوثره وأَكفيه أمرَه، وكنت إن
أردتُّ أن أحلبَ له لبناً أجيء إلى أغزر ناقةٍ في إبلهِ، فأريحها وأتركها حتى تستقر،
ثم أغسل ضرعها حتى تبردَ، ثم أحلبُ له فأسقيه. فأمره عمر بأن يحلب ناقة كما
كان يفعل، وأخذ عمر الإناء، وقال لأبي كلاب: اشرب. فلما أخذه، قال: والله
يا أمير المؤمنين! إني لأشُم رائحة يدي كلاب. فبكى عمر، وقال: هذا كلاب.
فوثب الأب وضمه، وبكى عمر وبكى الحاضرون، وقالوا لكلاب: الزم أبويك
فجاهد فيهما ما بقيا.
بُنَيَّ: ألم تهتز مشاعرك لهذه المشاهد؟! بُنَيَّ.. إن لك رائحة لا يشمها إلا
والداك.. رائحة تزكي نفوسهما مهما كان مبعثها، وهذا أحد كبار التابعين
المشهورين الإمام الحسن البصري رحمه الله يلاعب ابنه ويرقِّصه ويقول:
يا حبذا أرواحُه ونَفَسُه ...
وحبذا نَفْسُه وملمسُه ...
واللهُ يبقيه لنا ويحرسُه ...
حتى يجرَّ ثوبَه ويلبسُه
وكانت أعرابية ترقِّص ولدها بكلمات صوّرت فيها قمة التعلق بالولد، حتى
شعرت بأن سعادتها بتعلقها بابنها مقصورة عليها من بين كل أمٍّ لها ولد:
يا حبذا ريحُ الولدْ ...
ريح الخرافي في البلدْ ...
أهكذا كلُّ ولدْ ...
أم لم يلدْ قبلي أحدْ ...
وملاعبة الولد الصغير سلوك فطري يدل على التعلق من الوالدين ومَنْ في
منزلتهما، فقد لاعبت الشيماء أختُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لاعبته عليه
الصلاة والسلام يوم طفولته وغنَّت له، كما لاعبه الزبير بن عبد المطلب، وكانت
فاطمة الزهراء ترقِّص الحسين وتقول:
بأبي شبه النبي ...
ليس شبيهاً بعلي ...
وعلي رضي الله عنه لما له من الفضل والمنزلة، إلا أنها تريد أن يكون
أفضل من علي.
هكذا والدك يندفع بالفطرة إلى رعايتك، يضحي بكل شيء حتى بذاته،
كالنبتةِ الخضراء حينما تَمْتَصُّ كلَّ غِذاء في الحبة فإذا هي فتات! هكذا أنت قد
مَصَصْت كل رحيق، وكل عافية، وكل جهد، وكل اهتمام من والديك؛ فإذا هما
شيخوخة فانية.. وهما مع ذلك سعيدان بك منذ وُلدتَ حتى تستقل، وكل ما يأتي به
الأب ويحمله إلى البيت فنصيبك نصيب الأسد منه إن لم يكن كله لك.
إنه حريص على ما يلائمك ولو كان غير محبوب لديه، انتصبَ لتربيتك
وجَلْبِ ما ينفعك، ودفع ما يضرُّك، همُّه رضاك، إن رآك حزيناً أو باكياً لم يترك
سبيلاً لصرف ما يحزنك ويبكيك لتطيبَ نفسك وتقَرَّ عينك، لا يستكره بولك، ولا
تتقزز نفسه أو تنفر من إماطة الأذى والمكروه عنك.. إن أنت غبتَ عن عينيه لم
يَغِبْ خيالُك عن قلبه.. وإن لم يسمع صوتَك جهرَ بذكرك.. لو تأخرت على غير
عادتك قَلِقَ وحَزَن.. لقد جبَّنته وبخَّلته.. إنه رجل شجاع قبل أن تُخْلق، وكريماً
لمَّا كان بدون كنية.. فلما جئتَ جَبُنَ خوفاً عليك، وبَخِل توفيراً لك، ولئن كان
شعورك يتطلع دائماً إلى المستقبل، ويتدفق حيوية وطموحاً نحو الجديد من سيارة
وزوجة وذريّة و …، وتجد دافعاً قوياً إلى ذلك بعامل الفطرة، فإن الإسلام لم
يوص الوالدين بالأولاد بمثل ما أوصى الأولاد بآبائهم؛ لأن ذلك أمر مركوز في
فطرة الإنسان، وشعور الإنسان الآنف الذكر ينسيه النظرَ إلى الوراء فلا يلتفت إليه،
ولا يعيرُه اهتماماً؛ ولذا كان التأكيدُ على تذكير الإنسان بنشأته وفضلِ والديه عليه
أمراً لا بدّ منه؛ حتى يكونَ على صلة وذكْرٍ لمن أفنيَا حياتهما سهراً عليه ورعاية له،
وأسدَيَا إليه من المعروف رحيق حياتهما، آثَرَاه على نفسيهما.
لقد جعل الله تعالى رضاه عنك من رضاهما، وسخطَه من سخطهما، وقَرَن
حقَّهما بالإحسان إليهما بعد حقه سبحانه وتعالى، وسما ببر الوالدين؛ حيث لم يفرق
في ذلك بين بَرٍّ وفاجر، فهو حق عام يجب أداؤه، ومعروف ينبغي الوفاء به ما لم
يترتب على ذلك معصيةٌ أو ضررٌ شرعي.. [وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً] (لقمان: 15) ؛ حتى
الأخ المشرك تنبغي صلتُه لما ثبت من فعل عمر رضي الله عنه، وأمرِ الرسول
صلى الله عليه وسلم أسماء بنت أبي بَكر بأن تصلَ أمها المشركة.
إنه لمن المؤسف حقاً أن نرى بعض الشباب، ممن تظهر عليهم سيما الصلاح
والاستقامة، لا يبرون آباءهم الذين يرتكبون بعض المنهيات أو ممن قد يوصفون
بالفسق، يتوهم هؤلاء الشباب أن البرَّ مقصور على الأب الصالح، وأما الفاجر
العاصي فلا يجب عليه بَرُّه، وبعضهم يصوّر لهم الشيطان أن البر بهذا الأب يعني
مشاركته بمعصية الله والرضى بها، وأن في عقوقه له سبيلاً لاستقامة الأب وتركَه
لما عليه من فجور وفسق ومعاصٍ؛ ليوقعه في أشد مما يرتكبه أبوه وأعظم وأخطر
.. والحق أن ذلك تصوُّرٌ باطل وتعليل فاسد.. وأن العكس هو الصحيح؛ فبر الولد
بوالده أقرب في دفع الأب إلى تصحيح مساره وسلوكِه.. وسواء كان ذا أو ذاك فبِره
واجب شرعاً، وعقوقه من كبائر الذنوب، بل يقود إلى الكفر «لا ترغبوا عن
آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر [1] » ، لا تعجب يا بُنَيَّ! فإن هذا الحديث متفق
عليه، يعني رواه البخاري ومسلم.
ومظاهر العقوق كثيرة ومتنوعة، وشؤمه على الولد متحقق في حياة كل عاق
وفي آخرته.. وإن صلى وصام وقرأ القرآن.
يقول مجاهد: «لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شدّ النظر
إلى والديه فلم يبرَّهما، ومن أدخل عليهما حزناً فقد عقَّهما» .. قف لحظة متأملاً ما
قاله هذا التابعي الجليل!
ومن مظاهر العقوق: فعلُ ما يؤذيهما من منكرات أو ترك مأمورات، بل كل
ما يؤذيهما حتى من الأمور المباحة والمعتادة.
ثم أقف معك يا بني هنا وقفة جادة مع ظاهرة انتشرت في زماننا هذا بين
الشباب الذين هم في سنك خاصة.. وقد اعتادها كثيرٌ منهم وأصبحت سلوكاً له..
ويعظُمُ خطرُها ويشتد شؤمُها عندما يرونها أمراً معتاداً.. إنها طريقة المعاملة
للأصحاب التي بُنيت على أسس ومفهومات تختلف جذرياً عن أسس طريقة معاملة
الأب ومفهوماتها.. وذلك أنك ترى الشاب بأخلاق وصفات وطبائعَ مختلفة قد لا
تصدق عندما تراه في الحالتين بأنه شخص واحد..! بشوشاً مرحاً صبوراً كريماً
حريصاً على بذل ما يستطيعه عندما يخرج من البيت ويلتقي أصحابه.. إنه بكامل
استعداده لأن يقوم بخدمتهم، ويبذل جهده في محاولة تحقيق رغباتهم، ويراعي
خواطرهم ومشاعرهم.. وبمجرد دخوله البيت انقلب عبوساً ضيِّقَ الخُلق، جزوعاً
بخيلاً بوقته وجهده.. ويعامل أبويه بأقبح ما يُعامِلُ به الظالمُ الغشومُ الخدم ... ويل
للأم المسكينة إن تأخرت في إعداد عشاء أصدقائه، أو نقصَ من كمالياته شيء ولو
كان يسيراً.. يعلو صوته، لا يطيق الانتظار لخمس دقائق حتى تستكملَ المسكينة
مطالبه، وهو يتبرم ويصرُخ هنا وهناك، وهكذا ديدنه.. وهي مع ذلك تدعو همساً
بهدايته.. سعيدة بخدمته! يا له من حظ عاثر لهذا الأخ الصغير الذي أقبل عليه
ليخبره بزميلٍ قد اتصل، مقبلاً إليه بكامل العفوية والبراءة؛ فقد تلقى صفعة قبل أن
يكمل الخبر! ويا له من أبٍ مسكين يأتي بعد كد ونصب ومشقة من عمله يتلهف
لرؤيته فيسأل عنه؛ فإذا هو مع أصحابه وينتظرُه حتى يعود، فإذا عاد وابتهجت
أسارير الوالد عاد بالوجه الذي خرج به.. يستثقل إلقاء السلام ولا يطيق الجلوس
مع هذا الأب، ولا يطيق نقاشاً، ولن يتقبل نصحاً أو توجيهاً، وإن عزم الأبُ على
شيء من ذلك أو أظهر عتاباً بدافع إحساسه بالمسؤولية وحنو الأبوة.. كانت النتيجة
القاسية.. ارتفع الشجار مرتفعاً ضغط الأب معه وعلا.. وتتأثر عاطفة هذه
المخلوقة المسكينة تخاطب عاطفة الأب الحاني بالإذن بالتدخل وسرعان ما تأتي
الموافقة.. ويجري الابن مزمجراً وناهراً ومهدداً وثائراً.. رامياً كل لوم على أبيه
وأمه وإخوته، أمَّا هو فيحرم لومه وكأنه ملك مقرّب أو نبي مرسل.. وما أن يبدأ
هدوء الأب وإذا بالمشهد يتكرر..
قل لي يا بُنَيَّ.. هل ترى عقوقاً أعظم من ذلك؟! إنه بهذه يقتل أبويه ولكن
لم يحسن القِتْلة! لن يهنأ له القتل إلا بعد استكمال أقسى وسائل التعذيب فيهما..
بنيّ.. لست أعني أن تسيء معاملتك لأصدقائك.. كلا فإن «ابتسامتك في وجه
أخيك صدقة» ، ولكن ابتسامتك في وجه أبيك أفضل صدقة، وأوثق صلة، وأعظم
بر، وأخلص امتثال، وهي إشارة وفاء، ودليل شكر، ورجاحة عقل، وقبس نور،
وتحقيق سرور، وأداء معروف، ورد جميل، وكسب ودٍّ.... ووصول إلى كل
خير.
ومن مظاهر العقوق: ازدراؤك لأبيك، ومن صوره: خجلُك من أن يراه
أصحابُك لأدنى توهم يعتريك في هيئة لباسه، أو طريقة كلامه.. أو نحو من ذلك.
ومن العقوق أيضاً: كثرة شجارك مع إخوتك وعلو صوتك.. تباطؤك في
تنفيذ ما يأمرك.. عدم استيقاظك عندما يوقظانك لشأنك أو شأن من شؤونهما..
تأخرك في أداء فروضك وواجباتك.. كل ما يثير غضبَ الوالد وسخطه؛ من تبرم
وعبوس وإظهار للضيق والملل.. حتى كلمة (أف) بنص القرآن.. كل ذلك من
العقوق الذي من شؤمه تعجيل العقوبة لصاحبه، ذكر الذهبي في الكبائر عن سعد
قوله: «إن الله ليُعَجِّل هلاك العبد إذا كان عاقاً لوالديه لِيُعَجَّل له العذاب» .
واعلم أن من أعظم العقوبة التي تصيب الإنسان إذا استمر وتمادى على
معصية؛ هي وصوله إلى مرحلة لا يستطيع الانفكاك منها حتى يموت، فالحذر
الحذر أن تصل إلى هذه المرحلة!
بنيّ: إنني أنشُدُ لك سعادة وطمأنينة وتوفيقاً وتيسيراً لأمورك في هذه الدنيا،
ورضواناً ونعيماً دائماً لا يمكن وصفه، ولذَّات لا تنقطع في الآخرة؛ وذلك بإحسانك
إلى والدك، والإحسان أعلى درجات العمل الصالح؛ لأنه يعني أداءَ الواجب مع
مراقبة الله تعالى فيه، وهو كلمة جامعة تقتضي بالنسبة إلى الوالدين برَّهما والإنفاقَ
عليهما إن كانا محتاجين، ورفع مستواهما إن كانت حالتهما دونك في المعيشة..
والكلمة الطيبة تبلغ في النفس ما لا يبلغه الإنفاق.. ويتميز الوالدان بالشعور
المرهف نحو الولد.. ويشتد هذا الشعور بعد الكبر.. حيث يشعر أنه بحاجة إلى
العون والرعاية.. وقد يزدري الإنسان حالتهما الضعيفة ويُحَقِّر من شأنها.. فالكلمة
الطيبة في مثل هذا تضمد الجراح، وتنزل بلسماً على الشيخوخة.. وحسن المعاملة
يبعث على الثقة، ويشيع في النفس روح البهجة.. ومهما فُقْتَ أباك بكثرة مالك
وعُلوِّ جاهك؛ فإن الله يفرضُ عليك أن تُلين جانبَك وتخفضه لوالديك في صغار
وذلة ورحمة بهما؛ إشفاقاً عليهما وعلى أحاسيسهما: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ] (الإسراء: 24) .
بُنيَّ: وقاك الله من كل مكروه.. لازم الدعاء لهما، والوفاء وصِلَة أهل
ودّهما فهو من أبر البر.. ناد أباك بما يحب.. لا تجلس قبله.. قابله ببشاشة..
انصحْه بلطف، وإن لم يقبل فلا تؤذه.. أجب دعوته دون تضجر أو ملل أو
كراهية، وبخاصة فيما لا يوافق رغبتك.. إياك والتبرم من حاجته وخدمته.. لا
تسبقه بالأكل، ادع له.. ألِحَّ له في الدعاء.. غضَّ عن أخطائه وزلاته.. وقّرْه..
قبّل رأسه دوماً.. بل يده. كُنْ عضواً فعالاً في المنزل.. قدِّر منزلك الذي أمَّنه لك
والدك بفضل الله، وتصوَّر أنك تعيش الآن بدون منزل.. ابدأ ذلك بأمرٍ لن يكلفك
شيئاً! ابدأ وسترى تأثيره العظيم على أبويك وأسرتك وعلى نفسك أيضاً.. ابدأ
بالتعبير عن حبك لأبيك وأمك ومن معك في المنزل، أخبره بأنك تحبه، قلها
صراحة بأي لفظ من الألفاظ وإن صَعُبَتْ عليك هذه المرة.. ولا تعتقد أن أيّ
شخص تحبه وبخاصة أبوك؛ لا يحتاج إلى سماع هذه الكلمة أو يريدها، أو أنه لن
يصدقها.. ولا يمنعك العناد أو الخجل عن تكرار ذلك.. إنها كلمة تشعر أباك
بالراحة، فهي تذكره بأنه ليس وحده، وبأنك تهتم به وتجعله يهتم بتقدير نفسه،
وتعطيك أنت شعوراً بالارتياح، فإذا أردت الخروج من المنزل قبّل رأسه.. قل
لأبيك، في أمان الله والله يحفظك.. لا شك أن جميع أفراد عائلتك يرتكبون
الأخطاء.. ومنهم أبوك وأمك وإخوتك وأنت.. فالتعبير عن الحب بين أفراد العائلة
يمنح الشعور بالأنس، ويقضي على الوحشة، ويبث الطمأنينة والراحة والحرية
والتعاون.. ويصحح الأخطاء.. والأوقات المناسبة للتعبير عن هذا الحب كثيرة..
ابدأ يومك هذا مع أبيك بدعاء يُشعره بحبك، واختمه بمثل ذلك.. كرّر ذلك بشعور
صادق.. إياك أن تخجل أو يمنعك مانع.. فهو بحاجة أيما حاجة له. لا تفكر فيما
لا تملك.. ولا يستطيع أبوك أن يملكه أو يوفره لك، أو تفكر بأمور لا يستطيعُها..
وإياك أن تتذمر من قلة المال، ولا تُرَدِّد لأبيك كلمات تؤلمه، مثل حصول صديقك
على كذا وكذا فتوجع قلبه وقلبك دون جدوى.. إنك بذلك توجد فجوة بين ما لديك
وما تريد، وهذه الفجوة من أعظم مصادر الغم.. يمكنك القضاء عليها بالقناعة..
ولا يعني ذلك أنك لا تستحق مزيداً من المال، كما لا يعني ترك المحاولة للحصول
على المزيد من المال..
والخلاصة (ليكن تفكيرك فيما تملك وبإمكانك فعله، واترك التفكير فيما لا
تملك أو فيما لا يستطيع أبوك تحقيقه أو فعله أو امتلاكه..) . إن طريقة التفكير
هذه ستحقق لك أولاً سعادة ستصيبك بالدهشة فعلاً، وتنأى بك بعداً عن العقوق،
وتسهل طريقاً يحقق لك كمالاً في برك بوالدك..
احذر أن تردد ألفاظاً أو تقوم بتصرفات توحي بأنك تقلل من شأن أبيك أو أي
فرد في أسرتك.. فهو من أقوى عوامل الهدم الأسري. وسرعان ما تتأثر العلاقات
بشكل عكسي.. ضع حداً لرغباتك.. لا تشعر دائماً بأنك على حق في تصرفاتك
تجاه أبيك فتكثر الجدل، بل رجّح العكس، وتيقن أن أباك أكثر خبرة وأحق منك،
واحرص على مصلحتك، وأن الرأي له فهو وليُّك وعليك قبول رأيه وتنفيذ أوامره
بنفس طيبة..
ولا تذهب إلى نومك وأبوك غاضب.. ولا تنم وأنت أيضاً غاضب.. لا تفكر
فيما يضايقك من تصرفات أحد في الأسرة؛ وخصوصاً إن كان أباك أو أمك أو أحد
إخوتك، فالتفكير السيئ يولد الشعور به.. فإن كان تفكيرك فيما يغضبك فستشعر
بالغضب، وإن أسرعت في التفكير وتَعَجَّلْتَ ستشعر بأن لا وقت لديك.. وهكذا.
إياك أن تصدر أحكاماً مسبقة.. غيّر هذه الطريقة مع والدك، ستعجب كيف
أصبحت مصدراً لإشاعة جو من الاحترام المتبادل.. ويا له من فرح كبير!
تكلم برقة وهدوء.. فإنه خير ما يبعث على الراحة ... كن مرحاً مداعباً
فعّالاً..
انظر إلى خدمتك لصغار إخوتك على أنها من أفضل أنواع البر بوالدك.. لا
تنظر إلى مدى استحقاقهم ذلك منك أو عدم استحقاقهم، ولا تنتظر شكراً أو جزاءً
منهم وإن كان سيتحقق بإذن الله. أما إخوتك الكبار فخدمتهم برٌّ لأبويك عظيم،
وصلة للرحم يصلك الله تعالى بوصلك لهم.
إنك بذلك ستحقق تحولاً تاريخياً في تاريخ أسرتك، سيعلو شأنك ولن تحدّه
السماء، وستُقَاد إلى كل خير.. وتذكر دائماً بأنك «أنت ومالك لأبيك» [2] ،
وتأكد يقيناً أنك لو فعلت ذلك كله لم تجزه حقه كاملاً.. أما أمك في تلك الحقوق التي
عصرها لك قلب أب مشفق؛ فهي أولى بالبر من أبيك. وأخيراً ستقول: «الله
يبقيه لنا ويحرسُه» تريد أباك هذه المرة.
اللهم إنّا نسألك صلاحنا، وصلاح شبابنا وأبنائنا، وتيسير سبل برِّنا وبرِّهم
بالوالدين كما ينبغي أن يكون البر.. اللهم أرضنا وأرضهم، وأرض آباءنا عنا
وآباءهم عنهم؛ فإن رضاك الغاية الكبرى لا تتحقق إلا برضاهم، كما أوحيته إلى
نبيك صلى الله عليه وسلم الذي نشهدك بتبليغه الرسالة، وأدائه الأمانة، ونصحه
للأمة، وجهاده فيك حق الجهاد، فصلّ اللهم عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً
كثيراً.
__________
(*) يعني نفسه وأم كلاب.
(1) أي جحود، وقد جاء في المسند من حديث عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح قال: (قد كنا نقرأ: ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم، أو إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم) .
(2) أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، رقم 2291، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم 1486.(183/50)
حوار
الأستاذ عبد الله جاب الله في حوار مع البيان
ممارسات التيار التغريبي في الجزائر أتت بنتائج عكسية..
ضمن اهتمام مجلة البيان بالحوار مع العلماء والدعاة والمفكرين المسلمين؛
يسرُّها أن تلتقي الأستاذ الداعية (عبد الله جاب الله) ، أحد رموز التيار الإسلامي
في الجزائر، فهو مؤسس حركة (النهضة الإسلامية) ورئيسها المنتخب، ثم هو
الآن رئيس لـ (حركة الإصلاح الوطني) التي يبذل جهداً كبيراً فيها لتكون على
مستوى مواجهة الواقع المعاش والمستجدات في الجزائر، بوصفها حركة إسلامية
في إطار سياسي، ولتكون أكثر تعبيراً عن الإسلام الشامل والالتزام بضوابطه.
وسيتحدث في محاور عدة عن الواقع الجزائري، وما يعانيه الواقع الإسلامي هناك
من تحديات.
البيان: نبدأ هذا الحوار بالعودة إلى عام 1992م؛ حيث مضى على
انقلاب الجيش الجزائري على العملية الديمقراطية ما يقرب من عشر سنوات حتى
الآن؛ فإلى أين وصلت الجزائر بعد هذه المرحلة؟
- بسم الله الرحمن الرحيم، الانقلاب على الإرادة الشعبية والاختيار الشعبي
الذي حصل سنة 1992م؛ أكد حقيقتين أساسيتين:
الأولى: أن أصحاب القرار لم يكونوا صادقين في التوجه الديمقراطي
التعددي، وليس عندهم أي استعداد للالتزام بمقتضياته، وما كان من تحول
ديمقراطي شهدته البلاد سنة 1989م إنما جاء تماشياً مع النظام العالمي الجديد الذي
من معالمه: الديمقراطية التعددية، كما جاء ليساعد الرأسمال الأجنبي على
امتصاص التراكمات المالية في بلاده؛ بالتحالف بين الرأسمال الأجنبي والرأسمال
المملوك أو الموجود لدى فئة أو فئات واسعة من الجزائريين الذين كانوا في السلطة
وأثرَوْا على حساب مصالح الشعب، ومقتضيات التنمية الاقتصادية في البلاد،
وكما جاء ثالثاً لامتصاص غضب الجماهير الذي ظهر جلياً في انتفاضة
أكتوبر 1988م.
والحقيقة الثانية: أن كثيراً من العاملين في الساحة السياسية في البلاد يومها
لم يكن مقدراً لتبعات التحول الديمقراطي التعددي؛ ولذلك صدرت منهم بعض
المواقف والتصريحات البريئة ربما من جهة، والغافلة عن حقيقة ما يكاد للبلاد من
جهة ثانية، وبعضهم الآخر أراد أن يستغل بيئة التحول الديمقراطي التعددي
لمصالح ذاتية بدرجة أولى، أو حزبية أو فئوية بدرجة ثانية؛ فجعل من العمل
السياسي سجلاً تجارياً (يبزنس به) كما يقال.
والبلاد بعد ذلك الانقلاب قدمت فاتورة ثقيلة جداً:
فعلى صعيد الأرواح: قدمت ولا تزال أكثر من 100 ألف قتيل؛ نسأل الله
أن يتقبلهم شهداء.
وعلى الصعيد الاقتصادي: قُدِّرت الخسائر المالية في مكافحة العمل المسلح،
وما ترتب على ذلك من تدمير كثير من المؤسسات، قدرت بأكثر من 22 مليار
دولار، إلى جانب أنها أخرت عجلة التنمية الاقتصادية كثيراً، بل شهدت البلاد
تقهقراً كبيراً فيها، وعلى الرغم من جميع المحاولات التي بذلت لاستجلاب
الرأسمال الأجنبي للاستثمار في البلاد؛ فقد باءت المحاولات كلها بالإخفاق الكبير.
وعلى الصعيد الاجتماعي: سُجِّل تقهقر كبير في الأوضاع الاجتماعية
للمواطنين، ويكفي أن أشير إلى أن الجزائر نظمت سنة 2000م ندوة حول الفقر،
واعترفوا أنه يوجد في الجزائر أكثر من 20 مليون وهو ما يمثل ثلثي السكان
يعيشون تحت الحد الأدنى المقدر من قِبَل صندوق النقد الدولي.
وعلى صعيد المعيشة؛ معيشة المواطنين في الجانب الاجتماعي أيضاً:
سُجِّلت زيادة مهولة في عدد العاطلين عن العمل، حيث وصلت نسبتهم إلى 30%
من السكان، ومعظم هؤلاء من الشباب المثقف من خريجي الجامعات في
تخصصات مختلفة.
وعلى صعيد قيمة العملة ومستوى المعيشة وغير ذلك، وهي ذات صلة أيضاً
في جوانب كثيرة منها بالحياة الاقتصادية: سُجِّل انبطاح أمام شروط صندوق النقد
الدولي؛ بصورة ربما تكون غير مسبوقة في تاريخ صندوق النقد الدولي، كما
أخبرني سفير أمريكا في حوار دار بيننا عندما حان موعد تجديد التعامل مع صندوق
النقد الدولي قال لي: «ليس هناك أي مسوِّغ ليجدد صندوق النقد الدولي للجزائر؛
لأنه في تاريخ صندوق النقد الدولي لم نسجل التزام دولة بشروط صندوق النقد
الدولي كما فعلت الجزائر!» ، مما أثر بشكل مهول على مستوى قيمة العملة؛
حيث تدهورت إلى درجة كبيرة جداً، وأثر ذلك أيضاً كما قلنا على مستوى معيشة
المواطنين، فالبلاد كانت تعيش في ظل نظام حكم اشتراكي كانت الدولة تتكفل فيه
بدعم البضائع المختلفة، فذهب كل ذلك بين عشية وضحاها، حتى إن الطبقة
الوسطى التي كانت تحافظ على الانسجام الاجتماعي في البلاد، وهي مشكَّلة في
الغالب من طبقة الأساتذة والمعلمين والموظفين الإداريين وما إلى ذلك، وجدت
نفسها من ضمن طبقة الفقراء، فأثر هذا كثيراً على حياة المواطنين، وعلى تعليم
الآباء لأبنائهم، وأثر على سلوكات كثير من الشباب إلى غير ذلك؛ أي فُتح باب
واسع أمام الجهل، وأمام الكثير من الآفات الاجتماعية كالسرقة، وتعاطي المخدرات
.. وما إلى ذلك من الانحرافات.
وعلى صعيد الحياة الإيمانية: سُجِّل تحطيم ما يترواح بين 2000 - 3000
مسجد؛ تحت ذريعة مكافحة الإرهاب؛ بزعم أن المساجد كانت أوكاراً للإرهاب
يتموقع فيها، وينطلق منها، ويخبئ فيها أسلحته.
وإضافة إلى ذلك أغلقوا جميع المصليات في المؤسسات المختلفة؛ في
المطارات في الإدارات في الثكنات.. في جميع المؤسسات، وسُلط هجوم سافر
على رموز الإسلام المختلفة، حتى إن الكثير من دعاة التيار التغريبي الفرنكوفوني
أصبح يجرؤ على نشر مقالات في حق رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي حق
زوجاته رضي الله تعالى عنهن، أسوأ مما نشره سلمان رشدي.
كما سُجِّل أيضاً اعتقال آلاف المواطنين بتهم مختلفة، وسجن الآلاف أيضاً
بتهم مختلفة، وفصل من الوظيفة الآلاف كذلك بدون تهم.
وفي الحياة الثقافية: أغلقت الجمعيات التابعة للتيار الإسلامي الممثل خصوصاً
لـ «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» التي قاموا بحلها، والممثل أيضاً لحركة
«النهضة الإسلامية» يومها.
وحدث تضييق غير مسبوق على بعض الجرائد التي كانت تنتمي أو تتبع
التيار الإسلامي أو التيار الوطني، حتى أصبحت الساحة الإعلامية في الجزائر
ولسنوات طويلة جداً خالية أو متروكة للتيار العلماني وجرائده، ذات مرة سألني
المستشار السياسي لسفيرة الولايات المتحدة الأمريكية قبل سنة ونصف أو سنتين؛
سألني متعجباً: «أنا لمَّا قدمت الجزائر ظننت أنني قادم إلى بلد عربي مسلم، فيه
صحوة إسلامية كبيرة وقوية، منذ أن جئت وأنا أطلع على الجرائد، وأقرؤها
وأدرسها، فإذا بي لم أجد أثراً للصحوة الإسلامية والتيار الإسلامي ضمن المجتمع
المدني والإعلامي، ما عدا جمعيات التيار العلماني وجرائده!» .
وعلى المستوى النفسي: سيطر هاجس الخوف والجوع على المواطنين.
وفي الواقع لو ذهبنا نعدد المصائب التي حلت بالجزائر ربما ما انتهينا، ولكن
مع هذا أقول إن المستفيد الأول مما حصل خلال هذه الأزمة إنما هو التيار التغريبي؛
ازداد تمكناً على مستوى مصادر القرار، ومراكز صناعة الرأي العام، ازداد
تنفذاً على مستوى المؤسسات المالية، والاقتصادية، ازداد تنفذاً على مستوى جهاز
الإدارة، ازداد تنفذاً عموماً في مختلف دواوين الدولة ومؤسساتها. ولذلك من غير
المستبعد أن يكون ما حصل أمراً مخططاً له، وإنما استُغلت خطابات بعض إخواننا
من قيادات «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ، والتي كانت تحمل نوعاً من التخويف
للنظام، كذريعة للسير في هذا الاتجاه والقيام بتلك الأعمال، ولتطبيق برنامج ربما
كان مسطراً من قبل.
وفي المرحلة الأخيرة أي منذ السنوات الثلاث الأخيرة بدأنا نشهد خطوة
متقدمة في التهجم على المقومات الشخصية للأمة؛ على هويتها، على دينها ولغتها
وتاريخها؛ تحت شعار تكسير الطابوهات، فربما تكون هذه صورة أخرى من
البرنامج المعد من طرف هؤلاء للتمكين لمشروعهم العلماني.
ومع هذا والحمد لله على فضله فالأمة ما زالت بخير، وقد أتت تلك
الممارسات بنتائج عكسية على مستوى الشارع الجزائري، فازداد تمسك الشباب
بدينه، على الرغم من خلو المساجد من الخطباء الأكفياء، والأئمة المثاليين،
وازداد إقبال المواطنين على المشروع الإسلامي، وظهر ذلك جلياً في الاستحقاقات
السياسية التي نُظِّمت مؤخراً؛ خاصة في الانتخابات التشريعية في مايو 2002م،
والانتخابات المحلية في أكتوبر 2002م.
البيان: مع كل هذه الخسائر والمصائب التي مرت بالشعب الجزائري
فإن الحكومة الحالية ماضية في هذا السبيل؛ فهل تتوقعون أن هذا الوضع سوف
يستمر، وأن هذا الطريق سوف يطول، أو أن لهذا الليل آخراً؟
- المستقبل فعل كسبي، [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم]
(الرعد: 11) ، فالله عز وجل وعدنا بنصره: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) ، وقد بين في مواطن عديدة في القرآن الكريم
السنن التي تحكم مسيرة الخلق، وما علينا إلا أن نبحث عن تلك السنن وأن نتفهمها
جيداً، وأن نحسن الالتزام بها، فالظلم لا بد له من نهاية، والظالم لا بد له من
نهاية، [وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (آل عمران: 86) ، [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ] (آل عمران: 57) ، [أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] (هود: 18) ،
وقد أشار القرآن الكريم - إن لم نكن مصدقين بهذه الحقيقة - إلى النظر في تاريخ
الأمم السابقة: [وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ
وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ
نَكِيرِ * فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ
وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج:
42-46) .
ولذلك فنحن متفائلون جداً بالمستقبل، وعاملون بإذن الله على تفعيل موازين
القوى المعنوية التي بحوزتنا، وحسن توظيف موازين القوى المادية على قلَّتها في
صراعنا مع قوى التغريب والعلمنة، وثقتنا في الله كبيرة في أنه سيكتب لمشروعنا
النجاح، ولا يهمنا بعد ذلك أن نشهد نحن هذا النجاح، أو يشهده الجيل القادم،
فالمهم أن نكون عاملين بصدق وبحق، ومجتهدين في تجميع شروط استحقاق نصر
الله عز وجل، ومخلصين في أعمالنا لله تبارك وتعالى، ثم نكل الأمر بعد ذلك لله
عز وجل.
وقد حدثنا رسولنا عليه الصلاة والسلام فقال: «عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت
النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد ... »
[1] ، والشاهد عندنا أن هناك أنبياء ورسلاً أدوا الواجب كما ينبغي، وعاشوا - ربما
- قروناً من الزمن.. من يدري؟ ، وأُرسلوا وحيدين، وظلوا كذلك، وماتوا وهم
كذلك، وما حط ذلك من قدرهم أو مكانتهم شيئاً، ولا نقص ذلك من أجرهم،
فالحديث ينص على أنهم يبعثون مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والحقيقة؛ أن تحرير القول في هذه المسألة ضروري ومهم جداً، والحمد لله
على فضله، ونحن كما قلت لك باختصار متفائلون، وعاملون إن شاء الله، ونسأل
الله التوفيق.
البيان: هناك غموض كبير فيمن يقف وراء المجازر وحمامات الدم
التي تظهر بين الحين والآخر في مختلف ولايات الجزائر؛ فهل هناك تفسير لمثل
هذه العمليات؟
- أولاً: نحن نرفض العنف بكل أشكاله وصوره ومن جميع مصادره،
نرفضه بوصفه وسيلة في الممارسة السياسية، ونرفضه وسيلة للوصول إلى
السلطة، ونرفضه وسيلة للبقاء في السلطة.
وثانياً: فيما يتعلق بالسؤال: ليس المسؤول - كما قال عليه الصلاة
والسلام - بأعلم من السائل. والحقيقة؛ أن هناك أكثر من جهة تمارس القتل في
الجزائر، هناك الجماعات المسلحة تمارس القتل في البلاد، وهناك أكثر من
جهة أخرى تمارس القتل، وبعضها ينتمي إلى الدوائر الرسمية؛ إلى الحرس
البلدي، أو إلى المجموعات المجندة من طرف النظام، أو مصالح الأمن.. أو غير
ذلك، وقد قُدّم الكثير من هؤلاء للمحاكمة؛ قدم شباب من الجماعات المسلحة،
كما قدم رجال بدرجة أقل طبعاً من الجهات الأخرى.
هناك إرادة من طرف التيار التغريبي لإلصاق المسؤولية في الجماعات
المسلحة فقط، ومن ثم اتهام الإسلام بذلك، وللأسف هذه الإرادة لا تزال قائمة
لديهم، ومن أسوأ ما أقدموا عليه على سبيل المثال لا الحصر أنهم نظموا في أيام
26، 27، 28 أكتوبر 2002م مؤتمراً حول الإرهاب، ودعوا إلى المؤتمر رموز
التيار العلماني في البلاد، ورجالاً من المفكرين الغربيين، وأقصوا أو استثنوا علماء
الأمة ومفكريها سواء من الجزائر أو من غير الجزائر، وكان هذا المؤتمر شبه
محاكمة للإسلام، ومحاكمة للجهاد، ومحاكمة للأحزاب الإسلامية وللتيار الإسلامي
بشكل عام، فهم يريدون إذن أن يلصقوا تهمة القتل، وتهمة ارتكاب المجازر
التي لا يقرها شرع الله تبارك وتعالى، ويرفضها قطعياً بنصوص كثيرة في كتاب الله
وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، يريدون إلصاقها بالتيار الإسلامي وحده.
وأؤكد أنه توجد أكثر من جهة تمارس القتل؛ منها النظام، منها السلطة،
ومنها الجماعات المسلحة، ومنها مجموعات من المافيا.. وما إلى ذلك في البلاد.
نحن نسجل أيضاً اليوم أن العمل المسلح قد ضعف كثيراً، لم يبق في الساحة
كما تصرح الدوائر الرسمية إلا مئات، كما نسجل تراجعاً لا بأس به في القتل،
ولكننا كما قلنا أكثر من مرة يؤسفنا أن يقع القتل ولو لشخص واحد، ولو قتل
شخص واحد بغير حق فكأنما قتلت الأمة كلها، [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] (المائدة: 32) .
البيان: بعد انقلاب الجيش على العملية الديمقراطية تباينت مواقف
الحركات الإسلامية في داخل الجزائر من السلطة، فهناك اتجاهات ما زالت تمد
الجسور وتضع يدها بيد السلطة، واتجاهات أخرى نأت بنفسها تماماً عن
الاتجاهات الرسمية، وتوسطت اتجاهات أخرى ووقفت موقف المُقْدم أحياناً
والمُحْجم أحياناً أخرى بشيء من الحذر؛ فكيف ترون الواقع في ظل هذه المواقف
المتباينة؟
- نعم.. كما تفضلتم؛ بعد الانقلاب سارت معظم الأحزاب مع السلطة،
وأيدت سياساتها، وانخرطت معها في الحكم، ورضيت بأن تكون أداة من أدوات
السلطة في تنفيذ سياستها؛ تحت شعار المحافظة على الدولة، حتى من بعض
الأحزاب الإسلامية، وهذا شيء واضح، فانخرطت بعض هذه الأحزاب في العمل
من خلال السلطة انخراطاً واضحاً، وتحملت مسؤوليتها كاملة مع السلطة،
فشاركت في المؤسسات الانتقالية التي أسستها السلطة، كالمجلس الانتقالي، ثم
شاركت في الحكومات المختلفة التي تعاقبت على البلاد منذ ذلك الوقت، ولا تزال،
وحجتها أنها تريد أن تسهم في المحافظة على الدولة حتى لا تسقط، ولها مواقف
معلومة ومكشوفة وصريحة، ومنشورة في الجرائد ومبثوثة في التلفزيون وما إلى
ذلك، فهذا أمر ليس خفياً حتى نكتمه أو نتحفظ عليه، هو معلوم ومنشور.
أما حركة «النهضة الإسلامية» فرفضت في الحقيقة الانخراط في سياسات
السلطة رغم كثرة المحاولات التي بذلها النظام معها، وآثرت أن تتخندق مع الشعب،
وأن تزاوج في نضالها بين أداء واجب النصرة للمظلومين، وبين أداء حقها في
الاجتهاد والعمل والتحرك؛ لأن الحياة لا تتوقف حقيقة بموت زيد أو عمرو من
الناس، أو بحل هذا الحزب أو ذاك.. لا بد من الاستمرارية.
ولذلك فقد دفعت حركة «النهضة» فاتورة بسبب مواقفها هذه؛ دفعت فاتورة
في الأرواح، ودفعت فاتورة في الإقالة من الوظائف، ودفعت فاتورة في المحاصرة
الإعلامية، والمحاصرة المالية الاقتصادية، وتعرض رئيسها أربع مرات لمحاولة
اغتيال، ولكن الحمد لله صبرنا وتوكلنا على الله، ثم دفعت فاتورة في شكل محاولة
شراء ذمم بعض الأفراد من قيادات حركة «النهضة الإسلامية» ؛ لدفعهم للانقلاب
على رؤوسهم، وإثارة كمٍّ من الإشاعات لتشويه رئيس الحركة، فكانت تُسيَّر قوافل
إلى المدن المختلفة تلتقي الناس؛ ليس لها موضوع إلا موضوع النيل من مصداقية
رئيس الحركة وتشويهه بكل الوسائل، ولكن - والحمد لله على فضله - صبرنا
واحتسبنا، وما تعاملنا بالمثل على الإطلاق، بل أدرنا الصراع بطريقة غير معهودة
بالنسبة لهم، فتركنا حركة «النهضة» وأقدمنا على تأسيس حركة «الإصلاح
الوطني» ، والحمد لله على فضله، وبارك الله في الخطوات.
نحن في الحقيقة نظرنا إلى الأمر - باختصار - مثلما نظر إليه علي رضي
الله عنه لما سئل عن الخوارج وعن معاوية فقال: «هؤلاء طلبوا الحق فأخطؤوه،
وهؤلاء طلبوا الباطل فأدركوه، وليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل
فأدركه» ، فأسقطنا هذه المقولة على الواقع، فإخواننا في «الجبهة الإسلامية
للإنقاذ» ومن صعدوا إلى الجبال هم قوم على الجملة يريدون حقاً؛ يريدون أن
يقيموا الدولة الإسلامية، لكنهم من وجهة نظرنا أخطؤوا الطريق.
أما الطرف الآخر فهم يريدون باطلاً؛ إذ الانقلاب على إرادة الشعب باطل،
والسياسات التي أقدموا عليها لاحقاً في التعاطي مع حقوق الأمة باطلة، والسياسات
التي أقدموا عليها في التعاطي مع الأمور المكونة لشخصية الأمة باطلة، لكنهم
أدركوا هذا الباطل بما يملكون من قوة، فجميع موازين القوة بأيديهم، فليس من
طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.
فالحقيقة أنه ليس من السهل أن تحافظ على توازنك في جو مثل الجو الذي
عشناه في الجزائر، فهذا أمر في منتهى الصعوبة ومنتهى الخطورة، مرت أيام
وهناك من أصبح ويظن أنه قد لا يمسي، ومن أمسى ويظن أنه قد لا يصبح، من
خرج من بيته ويظن أنه قد لا يعود إلى بيته، ومن دخل إلى بيته ويظن أنه قد لا
يصبح أيضاً، ولكن - والحمد لله على فضله - صبر الناس واحتسبوا، وعملوا
أيضاً واجتهدوا في وسط كل تلك الظلمات، وقادوا المسيرة بحكمة، وبارك الله في
الجهود، ونسأل الله الثبات والقبول.
البيان: ومع ذلك كله ما زالت بعض الحركات الإسلامية تؤمن بالعملية
الديمقراطية، وتدخل في الانتخابات البلدية والتشريعية، هل تعتقد بأن هذا أمر
منطقي مع استصحاب أحداث عام 1992م؟
- من خلال تجارب الأمم المختلفة لا يوجد أفضل للأمم من الحريات، لو
سألت علماء الأمم وعقلاءها الأكثر رسوخاً في الحريات والديمقراطية عن سبب ما
تتمتع به بلادهم من أمن مثلاً أو من تقدم وازدهار، أو من عدالة في معالجة حقوق
مواطنيهم، والتعاطي معها؟ لأجابوك بكلمة واحدة: أن السر في ذلك هو أن
نظامهم بني على أركان الحريات لا على أركان الاستبداد وحكم الفرد.
ولو عدت للقرآن الكريم وتصفحت آياته لوجدت أن القرآن الكريم حمل على
الاستبداد وعلى الظلم حملات لم يحمل بمثلها ربما على أي شيء آخر، هناك
المئات من الآيات في هذا الشأن، ويكفي أن أذكر قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا
الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ
* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ] (الفجر: 6-13) .
فالآيات جعلت الاستبداد والطغيان هو البوابة الكبيرة الواسعة لشيوع الفساد
وظهوره؛ الفساد السياسي، والفساد الاقتصادي، والفساد الاجتماعي، الفساد بكل
أشكاله، وبسبب هذا استحقوا عقاب الله سبحانه وتعالى.
أرسل الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام إلى فرعون، وقال: [إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْض] (القصص: 4) ؛ أي طغى وتجبر واستبد وظلم وغير
ذلك، [وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ
كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] (القصص: 4) ، ولذلك فنحن نقول: مهما كانت العراقيل
موضوعة الآن أمام المسار الديمقراطي ومسألة الحريات؛ يجب الصبر عليها
والعمل على تذليلها بكل الوسائل السلمية الممكنة، وإذا أخفقنا في معركة الحريات
أخفقنا في تحقيق أهدافنا المختلفة، وأعني الأهداف الكبرى طبعاً، قد تنجح في
تحقيق أهداف صغرى هنا وهناك لا شك في ذلك، لكننا بالتأكيد نخفق في تحقيق
أهدافنا الكبرى. ولهذا يظل أفضل منهج في تحقيق أهداف الإصلاح المختلفة،
وأهداف التغيير المختلفة هو المنهج السياسي السلمي الرسمي والعلني. هذا
باختصار طبعاً.
البيان: لكن المسار الديمقراطي تحت مظلة الديكتاتورية نتيجته أنه إن
بدأ يحقق نتائج ملموسة فسوف تُقطع جذوره كما قُطعت في المرحلة الأولى!
- هذا الأمر ليس أمراً أبدياً، وهم يحاولون أن يكونوا بالنسبة لنا كذلك؛
لأنهم حملة مشروع تغريبي وعلماني وإيديولوجية علمانية، ويعلمون أنه لا سبيل
أمامهم لفرض مشروعهم على الأمة إلا أن يظلوا في السلطة، فالسلطة بالنسبة لهم
أصبحت هدفاً ووسيلة وغاية وهدفاً استراتيجياً.. وما إلى ذلك، ولكن هذا الأمر
ليس أبدياً، هذا أمر مرهون بأن يظل القوي قوياً دائماً، وأن يظل الضعيف ضعيفاً،
وأن يظل المتيقظ متيقظاً، وأن يظل الغافل غافلاً، لكن إذا تغيرت هذه الحال
فضعف القوي، وقوي الضعيف مثلاً، وتيقظ وتنبه الغافل، وغفل المتيقظ، وهذه
من سنن الله سبحانه وتعالى في البشر؛ فإن الموازين ستتغير. ثم أيضاً لا تنس أن
من خصائص نظرية الحقوق في الفكر القانوني الوضعي أنها تأتي قيداً على سلطة
الحاكم، وأن الحاكم أمام ضغط الجماهير يوازن في كل مرة بين استمراره في عدم
الاستجابة لمطالب الجماهير، ومن ثم يوازن بين التعامل مع الجماهير بالقمع أو
القهر أو التحايل.. أو ما إلى ذلك، وما قد يترتب على هذا من ضرر، وبين
نزوله عند مطالب الجماهير، وأيضاً ما قد يقلل ويحد من سلطاته وصلاحياته، فإذا
ما تساوت أمامه المسائل، أو قدَّر أن استمراره بالضغط سيفقده كل شيء؛
فسيضطر عندئذ للتنازل عن مفهومه والاستجابة لحقوق الأمة ومطالبها.
ولذلك فإن من صميم الأعمال التي يتعين التفكير فيها باستمرار هو امتلاك قوة
الجماهير، وحسن تأطير الجماهير، وحسن قيادة الجماهير في مسيرة الضغط على
الحكام بالوسائل السلمية؛ من أجل دفع هؤلاء لاحترام إرادة الأمة وحقوقها،
واحترام حريتها.
ومثل هذا العمل لا تُوفره إلا ما يسمى بالنظم الديمقراطية التعددية، ثم لا تنس
أيضاً أن النظم الديمقراطية التعددية توفر آليات للمواطنين لا توفرها النظم الأخرى،
مثل آليات الرقابة على عمل السلطة، وآليات النقد، وعدم التدخل في الحريات؛
حرية الصحافة، الحريات الفردية.. إلى غير ذلك، وكل هذه من الجوانب المهمة
التي إذا أحسنت الأمة استغلالها استطاعت بتوفيق الله أن تحقق لنفسها الكثير من
الخير.
البيان: لكن ألا ترون أن هذه المؤسسة الديكتاتورية التي تنادي
بالديمقراطية الحالية في الجزائر هي التي ضحت بخيار الشعب، ولما واجهتها
الجماهير لم يكن عندها تردد في أن تقضي على أكثر من مائة ألف قتيل كما قيل،
وتزج بشباب الأمة في السجون، وتفعل هذه الأفاعيل، فهذه المؤسسة هي التي
تطرح الآن الخيار الديمقراطي!
- عفواً أخي الكريم أنت منطلق في مثل هذه الأسئلة فيما يبدو لي من أمرين
أساسيين:
الأمر الأول: من الرغبة في تحقيق الهدف من أول مرة، ومن القاعدة الذهبية
الديمقراطية التي تقول إن الأغلبية محكمة؛ بمعنى أن تقولوا لهم: أنتم قبلتم بقواعد
هذه اللعبة كما تقولون، فها نحن قد احتكمنا إلى الجماهير، والجماهير أعطتنا ثقتها،
فيجب أن تسلموا. مثل هذه المقولة فيها غفلة عن حقيقة الطرف الآخر من جهة،
وحقيقة الصعوبات التي تعترض المسيرة الديمقراطية من جهة ثانية. أنت لا
تتعاطى مع ملائكة، وإنما تتعاطى مع بشر يحملون مشروعاً يريدون أن ينفذوه،
وعليك أنت أن تحسن انتزاع حقوقك منهم بهوامش الحرية المتاحة لك.
ثانياً: وتنطلق أيضاً مما تشاهده من ممارسات خاطئة صدرت من القوى
السياسية المختلفة، وأنا أقرُّك، وأقول بهذا أيضاً إن ثمة أخطاء كبيرة وكثيرة في
الممارسة، ولكن أيضاً الحكم على الخيار بوصفه خياراً لا يكون بالنظر إلى
العراقيل التي يضعها ذاك المتنفذ، كما لا يكون بالنظر إلى الأخطاء التي يقع فيها
هذا المتحرك في إطار مظلة الديمقراطية التعددية، وإنما يكون بالنظر إلى طبيعة
النظام الديمقراطي، والآليات التي يوفرها، وهوامش الحرية التي يتيحها،
والحقوق التي يعطيها لك كإنسان، ثم إلى التجارب الناجحة هنا وهناك، وأن تعمل
على حسن استغلال تلك الهوامش كما قلنا؛ آخذاً بعين الاعتبار صعوبات التحول
الديمقراطي التعددي، وآخذ بالاعتبار طبيعة الحكام النافذين، وآخذاً بعين الاعتبار
كل هذه المعطيات. ثم ما هو البديل عن هذا؟ البديل عن هذا هو الاستسلام
للاستبداد والواحدية، وقد أشرت إلى أن القرآن الكريم حمل على الاستبداد وبين أن
الاستبداد هو طريق الفساد، وبعث الأنبياء والرسل لمحاربة الاستبداد والطغيان
والفساد، فحينما تجد نفسك في مفاضلة بين هذا وذاك، حتى إذا لم تقل إن
الديمقراطية هي الأفضل، لكن تقول إنها أقل سوءاً من ذلك الخيار، فينبغي أن
تأخذ الأقل سوءاً؛ لأن الإسلام جاء بتحقيق المصالح وتقريبها، ودفع المضار
والتقليل منها، كما جاء بتحقيق أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أكبر
المفسدتين باحتمال أدناهما.
البيان: لكن يمكن أن تكون المطالبة بالحريات ومواجهة الاستبداد
بوسائل مختلفة وطرق متعددة؛ ليس من بينها الدخول في العملية الديمقراطية
التي وضعها هذا النظام الاستبدادي، وإنما تكون بالجهر بما يؤمن به الإنسان من
مواجهة هذا الظلم؛ كالدعوة العامة للحرية، والدعوة العامة لانتزاع الحقوق!
- لا.. هذا الأمر يختلف باختلاف طبيعة النظام، فالنظم تختلف من بلد إلى
آخر؛ هناك نظم فاقدة للشرعية، وهناك نظم ناقصة للشرعية، في ظل النظم
الناقصة للشرعية يمكن أن يكون العمل من خلال ما تفضلتم - مثلاً - بالإشارة إليه؛
لأن أساس الشرعية الأول متوفر؛ وهو التزامها من حيث المبدأ بشرع الله
سبحانه وتعالى. ولكن في ظل النظم الفاقدة للشرعية غير الملتزمة بشرع الله، بل
المعتدية على شرع الله بالتعطيل والتحريف وما إلى ذلك، والمعتدية أيضاً على
حقوق الأمة، في مثل هذه الحالة يترتب واجب مقدس على الأمة كلها مجتمعة أو
متفرقة؛ وهو القيام بتغيير ذلك النظام بالوسائل المتاحة، ولا يتعطل هذا الواجب
إلا في حالة واحدة؛ وهو أن يكون كيان الدولة مهدداً من قِبَل عدو خارجي.
فالحالة التي عليها النظام في الجزائر هي هذه الحالة، ولذلك فإن القيام
لإصلاح الأحوال واجب، وبالوسائل السلمية أيضاً وبحكمة، وما لا يدرك كله لا
يترك جله، ليس من الضروري أن تنتقل فوراً إلى الحكم أو إلى المشاركة فيه، أو
أن تنتزع الحكم عن طريق الصندوق.. أو ما إلى ذلك، وأحسب أنه يمكنك أن
تستغل الديمقراطية التعددية وما توفره من حريات لتحقيق مقاصد أخرى، تجدول
اهتماماتك وتجعل مسألة الحكم تأتي في مرتبة لاحقة، وتستغل الحريات لتحقيق
أهداف أخرى ذات طابع اجتماعي، أو طابع فكري أو ثقافي، أو طابع اقتصادي،
فهذا أيضاً من الوسائل المتاحة.
البيان: لننتقل إلى محور آخر، بعض قيادات الجيش الجزائري اعترف
بأن الاستخبارات الجزائرية استطاعت خلال الفترة الماضية أن تخترق كثيراً من
الحركات الإسلامية وتحتويها وتوجه مسارها؛ فهل هذا صحيح ابتداء، وما حجم
هذا الاختراق؟
- هذا شيء ليس بدعاً في الجزائر بل هو موجود في جميع النظم، فتلك
النظم تسهر على اختراق التنظيمات المختلفة الموجودة في ساحتها الوطنية، بل
استطاعت أن تخترق حتى التنظيمات الموجودة في الساحات الأخرى، أو ساحات
الدول المجاورة، أو ساحات الدول المؤثرة، فهذا أمر تفعله جميع النظم، ويبقى
على كل تنظيم مسؤولية وواجب تحصين نفسه من الاختراق، والناجح من يستطيع
تحصين نفسه من الاختراق المؤثر تأثيراً عميقاً وتأثيراً جوهرياً، مثل الاختراق
الذي يجعل القرار ليس بيد مؤسساته.
البيان: لكن هل هذا يعني أن حركة «الإصلاح الوطني» انشقت عن
حركة «النهضة» لهذا السبب، أو أن هناك أسباباً أخرى؟
- هذا القول ليس صحيحاً؛ فأنا مؤسس حركة «النهضة الإسلامية»
ورئيسها، والفضل لله من قبل ومن بعد، والذي كتب كل أدبياتها ونظَّم لمسارها،
وأنا رئيسها المنتخب أيضاً؛ المنتخب من قِبَل مؤتمراتها؛ سواء من مؤتمراتها
السابقة في مرحلة السرية، أو مؤتمراتها في مرحلة الانتشار العلني، كمؤتمر
1994م، ومؤتمر 1998م.
فالشرعية نحن من يمثلها وليس غيرنا، ونحن في الحركة ما فعلنا إلا أن
تركنا الاسم؛ لأن الحزب في نظرنا ليس اسماً، والقول بأن الحزب اسم وتمسكوا
بالاسم؛ هو نوع من التعصب المذموم الذي ينقل العمل الحزبي من دائرة الحمد أو
الجواز إلى دائرة الذم، وهو المحذور الذي وقعت فيه للأسف بعض الأطراف،
ودفعت بذلك فاتورة ثقيلة وثقيلة جداً.
الحزب في نظرنا برنامج ومشروع وخط سياسي، ورموز يعرفون كيف
يحولون ذلك البرنامج إلى سياسات ومواقف عملية، وكل هذا باق والحمد لله.
وحركة «الإصلاح الوطني» جاءت أولاً لكي تلبي رغبة راودت الكثيرين
من العاملين في الحقل الإسلامي منذ سنة 1994م؛ حيث كان هناك حوار بين
بعض رموز الصحوة من القيادات التي كانت في تنظيمات مختلفة، بعضها كان في
«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ، وبعضها كان في حركة «مجتمع السلم» ،
وبعضها طبعاً في حركة «النهضة» ، وكانت هناك قناعة بضرورة إيجاد إطار
سياسي إسلامي آخر يقوى على استيعاب الطاقات الإسلامية غير المستوعبة من
طرف التنظيمات الإسلامية الموجودة، وهي الأكثرية، وعلى خط سياسي يكون
أكثر تعبيراً روحياً عن الإسلام وانضباطاً بقواعده، ويضم المناضلين الأكثر صدقاً
في نضالهم وجهادهم في خدمة الإسلام وفي خدمة الأمة، وقد اختمرت الفكرة مع
الزمن، وتأكدت مع الزمن ضرورتها، إلى أن جاءت عوامل أخرى أزالت
الحواجز النفسية التي كانت تقف دون إخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود، فكانت
الأجواء التي عاشتها «النهضة» هي الفرصة التي حطمت الحواجز النفسية
وفتحت الباب لتجسيد هذه الفكرة على أرض الواقع، ثم جاءت بعد ذلك حركة
«الإصلاح الوطني» من إطارات معظمها كان في «النهضة» ؛ يعني يحملون
اسم «النهضة» بالتدقيق، ومن إطارات كانوا في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ،
ومن إطارات كانوا في حركة «مجتمع السلم» ، ومن إطارات كانوا في حركة
«التحرير الوطني» لكن يحملون توجهاً إسلامياً.
والحمد لله؛ قدَّرت الأمة جدية هذا المسعى وأهميته، وأنه الأقدر على تجسيد
آمالها وتطلعاتها، فالتفت حوله من أول يوم، وظهر ذلك جلياً في نتائج الانتخابات
التشريعية والمحلية.
البيان: كان هناك احتواء من الجيش الفرنسي للجيش الجزائري، ثم
بعد ذلك بدأت تظهر معالم الصراع بين الولايات المتحدة وفرنسا في التسابق على
اقتسام هذه المنطقة؛ فما آثار هذا الانقسام على الواقع الحالي في الجزائر؟
- نعم هناك نوع من هذا الصراع؛ لأن النظام الدولي الجديد هو في مضمونه
إعادة توزيع لمناطق نفوذ الدول الكبرى على العالم، ولا سيما العالم العربي
والإسلامي؛ مما يجعل تلك الدول صاحبة الامتياز الأول في اقتصاديات العالم
وتجاراته، ومما يجعل أمريكا أكبر الدول في هذه الاقتصاديات والتجارات،
ومتفردة بالسيطرة والهيمنة العسكرية، في هذا الإطار تزاحم أمريكا مناطق النفوذ
الفرنسي، وقد زاحمتها بالفعل، فهناك حضور قوي الآن لأمريكا في منطقة الآبار
البترولية، أو في الاستثمارات البترولية والغازية، كما لها حضور قوي في الكثير
من دول إفريقيا كالسنغال وغيرها.
ولكن مع هذا ما زال النفوذ الأكبر لفرنسا لوجود النخب النافذة ذات الثقافة
الفرنسية والميول الفرنكوفونية بشكل قوي، وخاصة أن منهم من يسيطر على
قضايا الاستثمار.. وما إلى ذلك، ويضعون العراقيل أمام المستثمرين العرب
بدرجة أولى، وغير الفرنسيين بدرجة أقل، ويحاولون ما استطاعوا إعطاء الامتياز
للمستثمرين الفرنسيين، مع كما قلت، وكما ورد في سؤالكم ما تعلق بأمريكا.
نحن في الحقيقة نرى الوجود الفرنسي شراً كما أن الوجود الأمريكي كذلك شر،
نحن ضد التبعية المهينة لهذا أو لذاك، وهذا أحد أهم أسباب محاربة العلمانيين لنا؛
يحاربوننا لأننا نعمل على تحرير الأمة من مظاهر التبعية المختلفة، وإعادة
الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للأمة؛ حتى يجتمع الاستقلال الاقتصادي
والاجتماعي والثقافي مع الاستقلال السياسي؛ فيكون ذلك السبب الرئيس في سير
الأمة نحو التقدم والازدهار.
وأنت تعلم بأن هذا الأمر يرفضه الغرب، ويرفضه عملاء الغرب،
ويحاربون أصحابه ويضعون أمامهم العراقيل يجب أن يكون مشروعنا رافضاً رفضاً
قطعياً لكل أشكال الهيمنة، وهذا لا يتعارض مع التعامل الاقتصادي أو التعاون
الاقتصادي بين الدول وبين الشعوب، تلك سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في
الخلق وفي الاجتماع، ولكن هناك فرق بين أن نتعاون اقتصادياً وبين أن تسيطر
علي وأن تستعبدني وأن تستغلني، وأن تجعلني كأنني خمّاس لديك!
البيان: أشرتم قبل قليل إلى أن من وسائل مواجهة التدين في الساحة
الجزائرية فتح أبواب التغريب والإفساد، وخاصة فيما يتعلق بالأسرة والمجتمع؛
ماذا قدمت الحركة الإسلامية بشكل عام لدعوة المرأة المسلمة؟
- الحركة الإسلامية قدمت في السبعينيات والثمانينيات شيئاً كثيراً للمرأة
المسلمة، وأصبح الشارع الجزائري في عمومه في القطاع النسائي متحجباً، كنت
إذا دخلت المدارس الثانوية مثلاً سُررت كثيراً لقلة المتبرجات، وإذا دخلت
الجامعات كذلك، وإذا تحركت في الشوارع كذلك، وأشير هنا إلى أن المجموعات
التغريبية التي كانت تنادي بسفور المرأة، ومراجعة قانون الأسرة وما إلى ذلك لمَّا
تجرؤوا وتفوهوا بمثل هذا في سنة 1989م قمنا نحن التيار الإسلامي نستظل يومها
بمظلة رابطة الدعوة الإسلامية، وهي مشروع حضاري واع حرصنا على تأسيسه،
لكننا لم نوفق على كل حال لأسباب يطول شرحها، في ذلك الوقت كانت الرابطة
موجودة ومتحركة، فدعونا لتجمع نسوي أمام البرلمان؛ فإذا بالنساء يأتوننا من كل
مكان بأعداد فاقت المليون أو المليون ونصف، غطت كل الشوارع والساحات
المختلفة التي تحيط بالبرلمان وهي شوارع كبيرة؛ مما أسكت الجميع وأقبر ذلك
المشروع لسنوات.
إلا أن المحنة التي عشناها خلال العشرية الحمراء التي أشرنا إليها في الإجابة
عن السؤال الأول أثرت كثيراً في موضوع الحجاب وموضوع المرأة، وفتحت أفقاً
أمام التيارات العلمانية لتعيث في الأرض فساداً، فتراجع الحجاب نسبياً في
المؤسسات التعليمية، وتراجع في الجامعات، وتراجع كذلك في الشارع، ولكنه إن
شاء الله تعالى هو تراجع مؤقت، سيتغير مع تغير الزمن إن شاء الله.
البيان: ننتقل إلى محور آخر، وهو الورقة الأمازيغية، هذه الورقة
تصاعدت في الآونة الأخيرة، وبدأت تتضخم بشكل ينذر بالخطر؛ فما هي خلفيات
هذه القضية، وما هي أبعادها على الساحة الجزائرية؟
- الأمازيغية بذرة زرعتها فرنسا في الجزائر، وتعهدتها بالمال والرجال،
وأوجدت لها أكاديمية بربرية في فرنسا، وأنشأت لها قناة فضائية، وأمدت رجالها
بالمال، ولا يزال معظم هؤلاء الذين ينضالون من أجل الأمازيغية لديهم الجنسية
المزدوجة، لديهم الجنسية الجزائرية، ولديهم الجنسية الفرنسية، ولهم حضور
كذلك في الشارع الفرنسي من خلال انخراطهم في جمعيات وأحزاب فرنسية، وكل
هذا يوفر لهم أيضاً حماية قوية داخل البلاد.
كما أن النظام الجزائري ساعد هذا التوجه؛ ربما لأنه لم يقدِّر خطورته
وتبعاته وما قد ينجم عنه من مخاطر، ساعدهم لما ترك المجال أمامهم واسعاً للنشاط
والتحرك في منطقة القبائل، وبالمقابل أغلق الباب في وجه دعاة الإسلام، وفي
وجه دعاة الوطنية؛ وهم إطارات تنتمي إلى الاتجاه الوطني ولها قبول قوي
- حقيقة - على هوية الأمة، وغيرة على هويتها والدفاع عنها، فخلا الجو
لهؤلاء لسنوات طويلة، استطاعوا فيها أن يستميلوا إليهم عواطف المواطنين في
منطقة القبائل؛ لأن - بين قوسين (البربر طوائف شتى وعديدة) - هناك
القبائل، وهناك الشاوية، وهناك الطوارق، وهناك الشنويين وغيرهم.. هناك
أكثر من عشر طوائف. ولكن التركيز كان على طائفة القبائل الموجودة أساساً في
منطقة «تيزي أوزو» ، ومنطقة «الجاية» .
قلت: استطاع هؤلاء المنصرون من سكان هذه المنطقة أن يقوموا برفع
مشكلة اللغة وطرحها بقوة؛ بدعوى أن الأمازيغية لغة، ويجب أن تُحترم، ويجب
أن تُرسَّم، ويجب أن تدرس. وليس هدفهم هذا، إنما هدفهم فقط استمالة العواطف
للتأييد الشعبي وتأييد سكان تلك المنطقة.. ليس إلا؛ من أجل تحقيق مقاصدهم
الأخرى بعد ذلك في نشر التغريب والعلمنة، وإشاعة الفساد داخل سكان تلك
المنطقة، وقد نجحوا في هذا إلى حد بعيد؛ استطاعوا فعلاً أن يستميلوا سكان تلك
المنطقة، واستطاعوا أن يجدوا موضعاً للتنصير فيها، حتى إن الكثير من شباب
تلك المنطقة تركوا الإسلام ودخلوا في النصرانية، واستطاعوا أن ينشروا الفساد؛
كشرب الخمر وأكل الخنزير.. وما إلى ذلك، واستطاعوا أيضاً أن يعززوا مواقعهم
بالتغلغل في الكثير من مؤسسات الدولة؛ حتى قويت شوكتهم وقوي عددهم فخرجوا
بعد ذلك وطرحوا مطالبهم الضارة بالهوية الوطنية، والضارة بالإسلام وباللغة
العربية، والضارة بالوحدة الوطنية. وتتمثل تلك المطالب في المطالبة بالاستقلال
الذاتي، واعتبار العرب غزاة، والرفض القطعي للغة العربية في مناطقهم.
وقد أقدموا على تفجير الوضع في إبريل 2001م، ولا يزال متفجراً إلى اليوم،
ورفعوا شعارات ومطالب اجتماعية واقتصادية، وشعارات متعلقة بالحريات
ليستميلوا بقية مناطق الوطن، فسيَّروا مسيرات ومظاهرات، وقاموا بعمليات
تحطيم وتكسير في مناطقهم، ولكن بقية المناطق لم تتجاوب معهم؛ لأن الناس
أدركوا خطرهم والأهداف الكامنة وراء هذه المطالب، وتيقنوا أن غاية هؤلاء من
وراء رفع المطالب الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ليس إلا تحريك بقية المناطق
ليحققوا أهدافهم الأخرى المتعلقة بالهوية، ولذلك لم يتجاوبوا معهم.
أما السلطة فإنها لم تحسن إدارة الصراع مع هؤلاء، حتى بعد انفجارهم
الكبير، ظنت أن المشكلة مشكلة لغوية فعملت على احتوائها دستورياً، وكنا من
الذين وافقوا على ذلك، في حين أن الأحزاب المحسوبة على التيار البربري قاطعت
جلسات التصويت على (دسترة الأمازيغية) ، فإذا بالواقع يؤكد أنهم مرة أخرى لا
يهدفون إلى موضوع (دسترة الأمازيغية) ، وأن المشكلة ليست مشكلة لغوية ولكن
لها أبعاد أخرى.
وقد انتقدنا طريقة السلطة في التعاطي مع هذا الملف، فدعونا السلطة لكي
تفتح حواراً شاملاً وواسعاً، على أساس أن موضوع الأمازيغية لا يهم أبناء هذه
المنطقة فقط بل يهم الجميع، وعلى أساس أن الآثار المترتبة عليه لا تنحصر في
تلك المنطقة بل تعم الجميع، وعلى أساس أن المطالب المرفوعة ليست فقط مطالب
ذات طابع لغوي، بل هناك مطالب اجتماعية واقتصادية.. وما إلى ذلك، وهذه
المطالب تهم الجميع، فقلنا لهم: عمموا الحوار.. أشركوا أطرافاً كثيرة في الحوار،
وتأتي السلطة بوصفها حكماً بدلاً من أن تأتي طرفاً، عندئذ عندما تتقابل الأطراف
المختلفة المتحركة في الساحة لتتحاور وتتناقش، فإذا طرحوا طرحاً متطرفاً فسيقابل
بطرح أيضاً متطرف، وتأتي السلطة في مثل هذه الحالة حكماً تفصل فيما ينشأ من
خلاف، ولكن السلطة تعامت عن هذا الخيار ولم تسر فيه، بل حصرت القضية
وكأنها ثنائية بينها وبين هذه الفئة.
قلنا لهم أيضاً: سكان المنطقة ليسوا كلهم من هذا القبيل؛ هناك في المنطقة
والحمد لله من هو غيور على دينه ولغته، هناك علماء وهناك دعاة وهناك رجال،
وهناك أناس وطنيون؛ فأشركوا هؤلاء في الحوار على الأقل، إذا لم تشركوا
هؤلاء في الأحزاب الأخرى فأشركوهم في الحوار، وهم من أبناء قومهم ليتصدوا
لطروحاتهم الخطيرة التي تهدد الوحدة الوطنية، لكنهم للأسف لم يفعلوا، ولا تزال
المشكلة عالقة إلى اليوم، ونسأل الله التوفيق والسلامة.
البيان: لكن كيف تقوِّمون أثر الحركة الإسلامية في منطقة القبائل على
وجه التحديد؟
- الأثر ضعيف جداً، وهذا يعود لعدة أسباب؛ منها:
أولاً: أن معظم الدعاة الأكفياء من أبناء تلك المنطقة تركوا المنطقة واستقروا
في الجزائر العاصمة، وكانوا يترددون على تلك المنطقة من آن لآخر فقط.
ثانياً: أن المحنة التي ألمت بالبلاد بعد 1992م؛ أتت على القليل المتبقي من
دعاة الإسلام في تلك المنطقة، بعضهم سجن، وبعضهم قتل، وبعضهم شرد،
وبعضهم أيضاً ترك المنطقة وعاد إلى الجزائر العاصمة، فلم يبق إلا القليل ينافح
عن دينه وعن لغته، ولكن نحن نثق في عقيدة عموم الشعب، وما أصاب الكثير
من عقول هؤلاء أو قلوبهم إنما هي طبقة رقيقة من الغبار لو وجد في المستقبل دعاة
أكفياء، وتتاح هوامش لحرية التحرك في تلك المنطقة؛ ستزول هذه الغشاوة بإذن
الله وعونه؛ لأن الفساد في تلك المنطقة مس نخبة منها فقط، أما باقي سكان
المنطقة فقد استمالوهم بالمشكلة اللغوية من جهة، وبالمطالب الاجتماعية
والاقتصادية من جهة ثانية.
البيان: لكن النخبة هي المؤثرة!
- طبعاً النخبة هي الفئة المؤثرة؛ لأنها هي النخبة الوحيدة التي يتاح لها
التحرك في المنطقة.
البيان: أشرتم قبل قليل إلى وجود بعض الحركات التنصيرية في منطقة
القبائل، ووقفنا حقيقة على تقارير مذهلة في هذا المجال؛ فما حجم العمل
التنصيري هناك؟
- هناك في الواقع تركيز كبير من طرف فرنسا على تلك المنطقة، وهي
تعتمد مختلف الوسائل التي تبقي تلك المنطقة شوكة في جنب الجسم الجزائري،
ومن الوسائل وسيلة التنصير، مع ملاحظة أن التنصير لا يوجد فقط في تلك
المنطقة بل يوجد كذلك في بعض المناطق في الغرب الجزائري، وفي بعض
المناطق في الصحراء الجزائرية، لكن أثره محدود ونسبي جداً، وأثره الأكبر كان
في منطقة القبائل للأسباب التي أشرت إليها من قبل، ومع هذا أيضاً يبدو أن ما
سمعت من تقارير لا تخلو من المبالغة والتهويل.
البيان: أكد الفريق محمد العماري قائد أركان الجيش الجزائري عشية
الاحتفال بذكرى استقلال الجزائر أن الشيخين مدني وعلي بلحاج سيطلق
سراحهما بعد انتهاء المدة الرسمية لاعتقالهما، ويقدر ذلك في يونيو عام
2003م؛ فهل تتوقع أن السلطة الجزائرية سوف تفي بهذا الأمر، أو أن
السلطة سوف تتلاعب في هذه القضية أيضاً؟
- من الناحية القانونية؛ فإن الشيخين مدني وعلي بلحاج قد أنهوا عقوبتهما،
وما داموا قد أنهوا عقوبتهما فلا يوجد أي مسوِّغ لإبقائهما في السجن، وإبقاؤهما كل
هذه المدة فيه ظلم؛ لأن العادة في سجون الجزائر أن المسجون لا يقضي كل العقوبة،
قد يقضي ثلث العقوبة أو نصفها، ثم يطلق سراحه مهما كان الجرم الذي ارتكبه،
ولكن في شأن أخوينا فقد أبقوهما كل هذه المدة، وأكملوا عقوبتهما.
والمتوقع أن الشيخ عباسي مدني ترفع عنه الإقامة الجبرية المضروبة عليه،
والشيخ علي بلحاج يعاد إلى بيته ولكن قد يوضع في نوع من الإقامة الجبرية، قد
تكون مخففة، ولكن لا يتصور أنه سيُترك بحالة يتمتع فيها بكامل حقوقه.
طبعاً نحن نتمنى أن يترك لحاله، وسنعمل على أن يتحقق ذلك بإذن الله؛ لأن
ذلك حقه وواجبنا أيضاً.
ولكن نعرف أن التيار التغريبي النافذ لا يهدأ له بال إلا أن يراه مسجوناً أو في
إقامة جبرية، وقد بدأت أصواتهم تتعالى هنا وهناك تنادي بتنظيم محاكمة أخرى
لعلي بلحاج على تصريحات أدلى بها، أو كتابة رسائل بعث بها إلى جهة معينة.
نسأل الله ألا يتمكنوا من هذا، وأن يطلق سراح أخوينا، وأن يعودا إلى
أهلهما وإخوانهما وشعبهما عاملين ومجتهدين في الإصلاح كما كانا من قبل،
فالساحة تحتاج إليهما وإلى أمثالهما.
البيان: أخيراً: التجربة كانت تجربة مريرة، وأنتم سميتم العشرية
الماضية عشرية حمراء؛ فما هي توصيتكم للحركات الإسلامية خارج الجزائر
للاستفادة من هذه التجربة؟
- لا شك أن التجربة الجزائرية تجربة مريرة وتجربة ثرية في الوقت نفسه؛
هي ثرية سواء في ميدان العمل السياسي، كما هي ثرية في ميدان العمل المسلح،
وكما هي ثرية في ميدان العمل الحركي قبل ذلك، وفي مجال العمل التبليغي
والدعوي والعمل الخيري، هي تجربة ثرية حقيقة في جميع الميادين؛ لأن كل هذه
الميادين خاضت فيها الحركة الإسلامية والتيار الإسلامي في الجزائر وصارت لها
بذلك تجارب كبيرة ومؤثرة، ومن خلال كل التجارب الماضية بت مقتنعاً مثلما
أشرت في صلب الحوار بأن أهم معركة يتعين الاجتهاد في حسن إدارتها إنما هي
الاجتهاد في معركة الحريات؛ إذا نجحنا في إدارة معركة الحريات وكسبنا المعركة
كسبنا كل شيء بإذن الله تعالى.
كما أتمنى أن ندرك جميعاً أن الدعوة دين ولا تؤدى إلا بالطاعة، فالبحث عن
صور الطاعة المختلفة في الدعوة والعمل في سبيل الله عز وجل واجب من أقدس
الواجبات، وعلينا أن نتسلح بسلاح الصدق والإخلاص والأمل في النجاح، ونجمِّل
كل ذلك بجمال التضحية. ونسأل الله التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 5705، ومسلم، رقم 220، واللفظ له.(183/56)
الإسلام لعصرنا
الحرية والعبودية
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
jaafaridris@hotmail.com
الفكر الغربي الشائع اليوم فكر إلحادي؛ لأنه كان في أصله رد فعل على
الكنيسة ثم على الدين؛ فكان لذلك محاولة لإيجاد أسس فلسفية غير دينية يستند إليها
الفكر العلمي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي وغير ذلك. وكونه كذلك
لا يعني أن كل ما فيه من تفاصيل باطلة، لكنه يعني أنه يستند في مجمله على
أساس واهٍ.
لكننا كثيراً ما نأخذ هذا الفكر معزولاً عن بيئته تلك الفكرية الإلحادية، فنعده
فكراً إنسانياً صالحاً لكل زمان ومكان، بل كثيراً ما ندعي لذلك أن ديننا يقول به أو
أنه على الأقل لا يعارضه، وويل لمن يقول غير ذلك من أمثالي. أضرب في هذا
المقال مثلاً بمفهوم واحد هو مفهوم الحرية الذي يكاد أن يكون أمراً مسلَّماً به عند
جيمع الناس في عصرنا، فأقول:
إن الحر حرية كاملة هو الذي لا قيود على تصرفه ألبتة هو الذي يفعل كل ما
يريد. لكن الفعل يحتاج إلى علم وإلى إرادة وقدرة. فالحر حرية كاملة يجب أن
يكون ذا علم كامل وقدرة كاملة وإرادة نافذة. ولا يمكن أن يكون للفاعل علم كامل
وقدرة كاملة وإرادة نافذة إلا إذا كان مستغنياً عن غيره استغناء كاملاً لا يحتاج إلى
أن يتعلم منه شيئاً، ولا أن يكتسب منه مقدرة؛ لأن الحاجة إلى علم الغير أو
مقدرته قد يتنافى مع كمال الحرية.
فما يقوله المدافعون عن الديمقراطية من أن الإنسان لا يكون حراً إذا هو أطاع
قانوناً ليس من صنعه كلام صحيح. لكنهم معترفون بأن الإنسان لا بد له من أن
يعيش في جماعة، وأن العيش في الجماعة يتطلب وجود سلطة تأمر وتنهى وتعاقب،
وأن القوانين التي بمقتضاها تفعل هذا لا يمكن أن تكون كلها من صنع كل الأفراد
الذين يكوِّنون المجتمع، وأن مشاركة الأفراد وإن كانت في النظام الديمقراطي أكثر
منها في غيره، إلا أن صنع القوانين حتى في هذا النظام هو في النهاية من صنع
قلة من أفراد المجتمع متمثلة في أعضاء المجالس التشريعية. وعليه فإذا كانت
المشاركة في وضع القوانين هي معيار الحرية؛ فإن الناس ليسوا أحراراً إلا بقدر
يسير حتى في الديمقراطية. بل نقول إنه حتى صنع القوانين ليس ضماناً للحرية
حتى لو كان الفرد يتصرف كيف شاء. لماذا؟ لأنه قد يُتبِع نفسه هواها، فيفعل كل
ما تأمره وتريده شهواته من إسراف في الأكل، وشرب للخمر، وتعاط للمخدرات،
وارتكاب للفواحش، وهكذا. مثل هذا الإنسان ومثله اليوم كثير في الغرب ليس
حراً. نعم إنه ليس عبداً لبشر مثله! ولكنه عبد لهواه.
ما المخرج إذن من هذه العبودية؟
لا أمل للإنسان في حرية مثل تلك التي تريدها الفلسفات الغربية؛ وذلك أن
كل الناس بما فيهم منكرو وجود الخالق سبحانه مقرون بأن الإنسان ليس هو الذي
أوجد نفسه، ولا هو الذي يبقيها، وأن علمه مكتسب، وهو علم ناقص، وأنه يعتمد
في استمرار حياته على ظروف لا قِبَل له بالسيطرة عليها. فالضياء يأتيه من
الشمس، والماء من المطر، والزرع من الأرض، وهكذا. فأنى يكون حراً؟ وأنى
يكون مستقلاً بقراره؟
والمؤمنون بوجود الخالق مقرُّون بأن الله هو وحده ذو العلم الكامل، والقدرة
الكاملة، والاستغناء الكامل، فهو وحده الفعال لما يريد. أما الإنسان فهو مخلوق،
وبما أنه مخلوق فهو مملوك لخالقه، والمملوك عبد. فالصفة التي تدل على حقيقة
الإنسان هي كونه عبداً لا حراً، لكنه عبد لخالقه لا لمخلوقات مثله. وعبوديته
لخالقه تتمثل في كونه شاء أم أبى محكوماً في كل تصرفاته بمشيئة خالقه. نعم إن
للإنسان مشيئة! ونعم إن له قدرة! لكن خالقه هو الذي شاء ان يجعله شائياً، وهو
الذي شاء أن يجعل له قدرة. فمشيئته ليست مطلقة، بل هي مقيدة بمشيئة خالقه.
فإذا كان الخالق فعالاً لما يريد، فإن الإنسان يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد.
لكن الخالق الذي جعل لخلقه قوانين كونية قهرية لا اختيار لهم في طاعتها، قد جعل
للبشر قوانين شرعية لا تتم سعادتهم الدنيوية والأخروية إلا بها، لكنه جعلها قوانين
اختيارية من شاء منهم أن يلتزم بها فعل، ومن لم يشأ لم يفعل. إذا فعل كان عبداً
لله باختياره كما هو عبد له باضطراره. وإذا لم يفعل كان عبداً لهوى نفسه أو هوى
غيره من البشر. فالوسيلة الوحيدة لتحقيق ما يريده دعاة الديمقراطية أعني التحرر
من العبودية للبشر لا تكون كما رأينا بأن يسن كل فرد لنفسه ما شاء من قوانين.
إنها لا تكون إلا بإخلاص العبودية لله بطاعة ما شرع في كل مجالات الحياة. لا
مجال إذن للتخلص من العبودية للبشر إلا بالعبودية لخالق البشر. فالإنسان ليس
إذن مخيراً بأن يكون حراً أو يكون عبداً، بل هو مخير بين عبوديتين.
ولهذا كانت الدعوة إلى أن تكون للإنسان حرية التشريع مرتبطة دائماً بالدعوة
إلى التمرد على شرع الله؛ لأنها في حقيقتها دعوة إلى أن يكون المخلوق العبد
المملوك فرداً أو جماعة إلهاً مشرعاً لنفسه أو لغيره. وكان الرد الإلهي دائماً أن
الإنسان المخلوق ليس من حقه أن يضع من القوانين ما شاء فيحل ويحرم ويأمر
وينهى، حتى لو كانت القوانين خاصة بشخصه، وأن الخالق هو الذي من حقه حقاً
لا ينازعه فيه غيره أن يشرع وأن يطاع.
المتخذون دون الله آلهة من الأهواء يقولون: [أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ] (هود: 87) . [مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا
أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] (غافر: 29) . لكن الرب الخالق يقول:
[وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ] (الأنعام:
91) . [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى] (القيامة: 36) (يترك سدى أي
يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يحاسب) . ويقول: [قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ
اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ]
(يونس: 59) .
ولكن بما أن للإنسان إرادة مهما كانت محدودة، وبما أن له قدرة مهما كانت
أيضاً محدودة، فإن له حرية في حدود قدرته وإرادته. لكنه قد يفقد قدراً من هذه
الحرية العادية المحدودة حين يُسترَقُّ فيكون عبداً يملكه ويبيعه ويشتريه بشر مثله.
فإذا ما أُعتق قلنا إنه قد صار حراً، أي رجع إلى الحرية المعتادة التي وهبها الله
تعالى لكل الناس. وقد يحبس ويعتقل فتحد من حريته؛ فإذا ما خرج من الحبس
قلنا إنه قد أطلق سراحه. وقد تتسلط أمة على أمة أخرى فتحكمها، فإذا ما تخلصت
منها قلنا إنها قد نالت حريتها، وقد يتسلط حاكم ظالم على أمة فيفرض عليها أحكاماً
بهواه كما كان فرعون يقول لشعبه: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل
الرشاد. وقد يمنعهم من بعض ما أباح الله أو أوجب من الكلام والحركة والاجتماع،
فإذا ما تخلصوا منه قلنا إنهم صاروا أحراراً. لكن أسوأ أنواع العبودية أن يكون
الإنسان باختياره عبداً لمخلوق مثله، عبداً له يدعوه ويرجوه ويتوكل عليه ويستغيث
به، أو يرضى له بحق التشريع والطاعة فيجعله في مقام المولى سبحانه. ولا فرق
في هذا بين أن يكون الحكم دكتاتورية أو وصائية أو ديمقراطية ما دام حكمَ بشر
مخالفاً لحكم الله تعالى. بل إن الإنسان ليكون عبداً حتى لو كان هو المشرع لنفسه؛
لأنه يكون حينئذ متبعاً لهواه متخذاً إياه إلها [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ] (الجاثية:
23) ، وذلك أنه إما أن يكون الإنسان عبداً لله أو عبداً لهواه ولا واسطة بين
الأمرين [فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ] (القصص: 50) .
وعليه فلا سبيل إلى التحرر من العبودية للبشر إلا بإخلاص العبودية لخالق البشر.
فالقول بأن الإنسان حر أو أنه ينبغي أن يكون حراً بالمعنى الغربي الشائع
كلام يكذبه الواقع، ثم إنه مخالف للإيمان بأن الإنسان عبد لله يأتمر بأوامره، وقد
أدرك هذا بعض الكتاب النصارى، منهم كاتبهم الإنجليزي المشهور لويس الذي قال
كلاماً فحواه: إنني لم أولد لأكون حراً، وإنما ولدت لأسمع وأطيع.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(183/66)
البيان الأدبي
رشفات من اللغة
المحرر الأدبي
* المفاعيل الخمسة:
المفاعيل (جمع مفعول) في علم النحو خمسة، وكلها في الأصل قيود
للفعل، وهي:
1- المفعول به، وهو جواب: ما الذي وقع الفعل عليه؟
2- والمفعول فيه، وهو جواب: ما الذي وقع الفعل في زمانه (ويسمى
ظرف زمان) ، أو مكانه (ويسمى ظرف مكان) ؟
3- والمفعول (لأجله - من أجله) ، وهو جواب: ما الذي وقع الفعل من
أجله؟
4- والمفعول معه، وهو جواب: ما الذي وقع الفعل معه (بمصاحبته) ؟
5- والمفعول المطلق، وهو المصدر بعد فعله.
نحو: حَفِظَ محمدٌ والمصباحَ الدرسَ حفظاً جيداً اليوم أمامَ البيتِ استعداداً
للاختبار.
1- فالمفعول به هو (الدرسَ) ؛ لأن الحفظ وقع عليه.
2- والمفعول فيه هو (اليومَ) ؛ لأن الحفظ وقع في زمانه، ويسمى ظرف
زمان. و (أمامَ) ؛ لأن الحفظ وقع في مكانه، ويسمى ظرف مكان.
3- والمفعول لأجله هو (استعداداً) ؛ لأن الحفظ وقع من أجله.
4- والمفعول معه هو (المصباحَ) ؛ لأن الحفظ وقع بمصاحبته.
5- والمفعول المطلق هو (حفظاً) ؛ لأنه مصدر بعد فعله.
س - طبق ذلك على:
... ... ... -[وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] (النساء: 164) .
... ... ... - سافرتُ وكتبي ليلاً خوفاً عليها.
* المترادفات:
من الفصاحة والتفنن في التعبير استعمال الكلمات المترادفة؛ لتأكيد الكلام
وتجديده، ومنها:
- رَجَع فلان من سفره (أو عن قوله) ، وآب، وعاد، وقَفَل.
- كَتَم فلان السِّرَّ، وسَتَره، وطواه، وأخفاه، وأبطنه.
- أخذ الشيءَ بأجْمعه، وبحذافيره، وبرُمَّته، وبأَسْره.
- أَصْل الشر، ومَنْبَع الضلالة، ومَرْسى الفتنة، ووَكْر الباطل.
* أخطاء شائعة:
- هَوِيَّة: هُوِيَّة؛ لأن الكلمة منسوبة إلى (هُوَ) .
- مَبْرُوك (للتهنئة) : مُبارَك؛ لأن فعله (بارَك) لا (بَرَك) .
- سَوِيّاً (بمعنى معاً) : معاً؛ لأن معنى (سَوِيّاً) معتدل.
- ضرب به عَرْضََ الحائط: عُرْض؛ أي جانب، وأما العَرْض فخلاف
الطول، وليس هو المراد.
- تَعَوَّدْتُ على الخبر أو اعتدت عليه: تعودته واعتدته؛ لأن الفعلين متعديان.
* الصيف والشتاء:
- الصَّيْف جمعه: أَصْياف، وصُيُوف، والنسبة إليها: صَيْفي، والشِّتاء
(ويقال الشَّتْوة والشَّاتاة) جمعه: أَشْتِية وشُتِيّ، والنسبة إليه: شَتْوي وشَتَوي وشِتائي
وشِتاوي.
- ويقال: صاف بالمكان واصطاف: إذا أقام فيه صيفاً؛ فالمكان مَصِيْف،
ومُصْطاف، وشَتا بالمكان وشَتَّى وتَشَتَّى: إذا أقام فيه شتاءً، فالمكان مَشْتى.
- ويقال: أَصْفَيْنا وأَشْتَيْنا: إذا دخلنا في زمن الصيف والشتاء.
* قلب الألفاظ:
قد يعمد بعض المتكلمين إلى قلب اللفظ بالإتيان به على وزن كلمة أخرى من
باب التلاعب والمزاح، وقد جاء نحو ذلك عند العرب لا قصداً، ولكن بسبب شدة
الفرح أو الخوف، فقد روى الكسائي أن أعرابياً فزع من الأسد، فجعل يلوذ والأسد
من وراء عَوْسَجَة (شجرة شوك) ، فجعل يقول: يُعْسِجُني بالخَوْتَلة، يُبْصِرُني لا
أُحْسِبُهُ، يريد: يَخْتِلني بالعَوْسَجَة، يَحْسِبُني لا أُبْصُره.
* عامي فصيح:
- سقط فلان من عيني = طرحته وأعرضت عنه.
- هو آخر العنقود = أصغر أولاد أبيه.
- هو على الحديدة = شديد الفقر.
- عاوِز = محتاج.
- تَوَرَّط = وقع في وَرْطَة.
* من فصاحة الأعراب:
- مدح أعرابي قوماً فقال: أقبلوا كالفُحول، يمشون مَشْيَ الوعول، فلما
تصافحوا بالسيوف، فَغَرَت المنايا أفواهها.
- ومدح أعرابي قوماًَ فقال: كلام الناس أشجار، وكلامهم ثمار.
- وقال أعرابي: القَبْر يُقَلِّمُ أظفار الخطوب.
__________
* تنبيه:
نشكر الإخوة الأدباء واللغويين على حرصهم وتجاوبهم، ونأمل أن يراعي
المشاركون ما يأتي:
1- أن تكون المشاركة بالعربية الفصحى.
2- ألا تزيد القصيدة على 20 - 25 بيتاً.
3- ألا تزيد القصة على 1 - 1.5 صفحة.
4- ذكر اسم صاحب المشاركة، وعنوانه وهاتفه.
5- تنوع المشاركات ما بين قصيدة، وقصة، ومقامة، ومقالة، ودراسة ونقد.(183/68)
قصة قصيرة
انسلاخ
السيد علي
تهاوت ظلمات الليل تترى.. وادلهمَّت خطوب الآهات صمتاً.. وتشرذمت
المعاني فرقاً.. وبت أنعى وحشة المكان.. ألتمس النهار.. أتحسس الفجر..
انشقاق الصبح.. لكن الخيوط الصماء السوداء تكالبت وتجمعت واستأسدت عليّ..
لتتركني قطعاً متناثرة..
ينادي اللسان بقية الأعضاء ليأتلفوا، لكن اليد اليمنى انشقت.. حالفتها القدم
اليسرى.. وصارت القدم اليمنى مع اليد اليسرى في حال سبيلهما..
وهكذا تناثرت الأعضاء واختلفت، وبات القلب يئن.. ينزف.. يستغيث..
يستصرخهم ليتماسكوا قبل الانهيار.. لكن غالبية الأعضاء أبت إلا النفور..
ألا تمثلون جسداً واحداً.. لماذا تتمزقون، إذا تفرقتم إرباً.. إرباً؛ فمن
سيحملني لأحيا؟! ألا تصل العروق الممتلئة بالدماء بينكم.. ألا تتدفق في أركانكم؟!
الحزن والألم.. السعادة والفرح.. الراحة والتعب.. الهدوء والغضب.. ألا
تشعرون بهم سوياً..؟!
الفراق يقتلعكم من جذوركم.. اقتربوا لا تبتعدوا.. نبضاتي كادت تتوقف..
ولم أعد أملك سوى أنفاس الاستغاثة هذه!!
واسترخى القلب بعد هذه الصرخات ينتظر الموت.. وأثناء ذلك أنصت
لسماسرة (تجارة الأعضاء) يتقاسمون جسده الممدد.. القابع بلا حراك..
لقد نهبوا خيرات هذا الجسد من قبل.. صادروا ممتلكاته.. وابتلعوا
استحقاقاته..
وجاء اليوم الذي يقتسمون فيه أعضاءه.. إذن فلتصمتوا أيها المتصايحون..
فالدور آت لا محالة على ألسنتكم.. ولتتوقفي يا نبضات القلب.. فإن نبضك لم يعد
يجدي نفعاً.. وصرخاتك ذهبت أدراج الرياح.. وهانت على الأعضاء أنفسهم،
فهانوا كذلك على سالخيهم..!!
وتعمقت جروح القلب الدامي.. وتراخت عضلاته أكثر وأكثر في انتظار
الموت الذي لا يأتي.. أبداً لا يأتي..
إن الموت لا يخطئ طريقه.. فماذا حدث له هذه المرة؟! ألا يريد أن ينهي
عذاب هذه الأعضاء التي انسلخت وتشرذمت وسال دمها أنهاراً حمراء.. ينجرف
في طريقها كل كائن يريد أن يحيا فوق بساط الحرية؟! والكرامة التي بعثرت مع
تبعثر الأعضاء، واندثرت في ثنايا الآهات حين مزقت هذا القلب المنفطر.. وكان
انفطاره حزناً على الأرواح التي تركت أجسادها.. وارتحلت (لا بل رحل الافتراق
بها) .. فماذا تبقى بعدئذ للأنفاس كي تستنشق مرة أخرى الهواء، وتزفره..؟!
يا لها من أهوال تتراءى أمام هذا القلب المكلوم.. الممدد لا يستطيع حراكاً..
ولا طاقة له ليدافع عن بنيه (الأعضاء) التي تتهاوى لحظة بعد أخرى..
أجل إنها لحظات.. ليست ساعات ولا أياماً ولا شهوراً، فقط لحظات ودقائق
سوف تختطف ما تبقى من هذه (البنية) التي كانت يوماً ما قوة.. جبارة.. هائلة
.. مخيفة، يتعجب لفتوتها أقوى الأقوياء..
ورغم أن بقية الأعضاء لم تصمت.. بل أدانت التفرقة، وشجبت الاختلاف،
واستنكرت الاندثار، واستهجنت التشرذم والانسلاخ..! وأعلنت بكل صرامة
وصراحة ووضوح: أنها مع التآلف والتآخي والاتحاد، والتحام والتئام.. الجراح!!
ولا رجعة عن ذلك ولا استسلام!!
وبعد أن استجمع القلب الجريح خيوط هذه الحقائق، وتجلت ملحمة استبسال
الأعضاء هذه أمامه، اطمأن..، واستراح.. واسترخى..!! وتوقف.. لم يعد
يئن أو ينزف أو يستغيث أو يستصرخ.. وصمد.. وصمت.. ثم انتظر..
وانتظر..(183/69)
نص شعري
إصرار
صالح بن محمد الصملة
abualkattab@hotmail.com
أنا سائر رغم الأسى.. رغم البكا.. رغم الدماء
أنا مستمد قوتي من خالقي رب السماء
هذا طريقي فيه مجدي فيه عزي والإباء
قد سار فيه المرسلون
بذلوا له كل الولاء
ثم اقتفى الآثار كل المخلصين الصادقين الأصفياء
من أجله باعوا النفوس رخيصة
ولأجله سكبوا الدماء
هذا طريقي.. لن أذل ولن أهون
لا.. لن تحطم همتي تلك القيود أو السجون
أنا قد صحوت اليوم.. لن أرضى الهوان
أنا قد عشقت الموت من أجل الجنان
أنا سائر وبكفي القرآن أحمله
وفي الأخرى سنان
أنا لم أعد أعبأ بهاتيك السجون أو القيود
إني أراها في طريقي كالأزاهر كالورود
أنا في سبيل الله دربي لم أعد أخشى المنون
أنا قد صحوت محطماً تلك السلاسل والحديد
ومهدماً تلك السجون
أنا قد سموت اليوم عن دنيا العبيد(183/70)
نص شعري
دم الشهداء
عاطف عكاشة السيد
...
دَمُ الشُّهَداءِ يَدْعوني: تَعالا ... وَدَعْ عَنْكَ التَّشَدُّقَ وَالْجِدالا
فَإِنِّي ما شَكوتُ إلَيكَ هَمِّي ... لِتَمْلأَ مِسْمَعي قِيلاً وَقالا
أُريدُ جُيوشَكُمْ تَأْتي لِنَصْري ... وَتَمْنَحُني الْمَهابَةَ وَالْجَلالا
فَلا تَقُلِ الطَّريقُ إليك وَعْرٌ ... وَتَنْتَحِلِ الْمَعاذيرَ انْتِحالا
فَبادِرْ بِالْمَجيءِ فَإِنَّ جُرْحي ... جَحيمُ عَذابِهِ فاقَ الْخَيالا
سَتَلْقاني مُراقاً فَوقَ أَرْضي ... وَقَدْ صالَ الْعَدُوُّ بِها وَجالا
عَلى الْجُدْرانِ أَصْرُخُ في جُنونٍ: ... لِماذا أُمَّتي تَأْبى النِّزالا؟
أَلَيسَ بِأُمَّةِ التَّوحِيدِ جُنْدٌ ... يَصُدُّونَ السَّفَاهَةَ وَالضَّلالا؟
أَلَيسَ الْمَسْجِدُ الأَقْصى لَدَينا ... جَديراً أَنْ نَشُدَّ لَهُ الرِّحالا؟
وَنَمْلأَ حَولَهُ الدُّنْيا عَتاداً ... وَتَنْتَقِلَ الْجُيوشُ لَهُ انْتِقالا؟
خَلاصُ الْمَسْجِدِ الأَقْصى مَحالٌ ... بِلا لَهَبِ الْقَذَائِفِ أَنْ يُنالا
فَهَيَّا يا أَخي انْصُرْني بِفِعْلٍ ... وَدَعْ عَنْكَ التَّخاذُلَ وَالْمِطالا
وَلا تَجْلِسْ لِتَمْشِيَ تَحْتَ نَعْشي ... وَتُنْشِدَني مَراثِيَك الطِّوالا
لَقِيتُ مِنَ الْيَهودِ أَشَدَّ سَفْكٍ ... وَأَلْقى مِنْ تَقاعُسِكَ الْخَبالا
مُسالَمَةُ الْيَهودِ غَدَتْ مَحالاً ... فَهَلْ دَرْبُ الْجِهادِ غَدا مَحالا؟!(183/70)
نص شعري
ستعود حطين
محمد الحسناوي
...
يا هارِبِينَ إلى هوى (رابينِ) ... هل تذكرونَ مرارةَ السِكّينِ؟
إن كانتِ الثاراتُ تَنسى لونَها ... فالهُونُ لا يُنسى ولونُ الهونِ
كم حرّة جاعت ولم تأكل بثد ... ييها وسال لعاب كل بطينِ
يا آكلينَ، بِخُبزةٍ، أقداسَهم ... ما ينفعُ التسويفُ للمَغبونِ
شهداؤكمْ خطبوا السماءَ وأنتمُ ... تتلمظونَ على فُتاتِ الطِينِ
ما كانَ (بيريزٌ) أخا ثِقَةٍ ولا ... كانَ الوفاءُ العذبُ في (شارونِ)
سلبوا الضِياءَ من الشموسِ، وأبَّدوا ... أسلابَهم بالسيفِ والتَّوطِينِ
أَفنمنحُ الذؤبانَ صكَّ براءةٍ ... أو نُسلِمُ الأطفالَ للتِنّينِ؟
أوطانُكمْ أعراضُكم. هل يَسلمُ الشـ ... ـرفُ الرفيعُ من الأَذى.. بالدُّونِ؟
أوطانكمْ أقداسُكمْ. من ذا يُبا ... دِلُ مسجداً وممالكاً.. بِظُنونِ؟
أوطانكمْ أوطانُ أجدادٍ سَقَو ... ها حُرَّ أَفئدةٍ ونورَ عُيونِ
أوطانُ أجيالٍ تُفدِّيها، تُفـ ... دّي رَمْلَةً منها بِكلِّ ثَمينِ
يا هارِبِينَ من القضاءِ إلى القَضاءِ ... نَسيتمُ الميعادَ في (حِطّينِ)
المجدُ مجبولٌ بِتُربتِها، وملءُ شِعا ... بِها الغازي (صلاحُ الدِّين)
ستعودُ (حِطّينُ) الفخارِ، ويَرجِ ... عُ المحزونُ من زَهوِي ومن زَيتوني
ما زالَ (عِزُ الدينِ) و (الياسينُ) في ... أَحداقِها في نَبْضِها المَكنونِ
أُصغُوا إلى همسِ النَسيمِ بِبوحِها ... وإِلى لُغاتِ الشَوقِ في اللَّيمونِ
شَدْوُ الحَمامِ أنينُها، وصَهيلُها ... سَيلٌ تَحدَّرَ من ذُرا (حَرْمُونِ)
شُمّوا إذا شِئتمْ ذَرِير عُشَيْبَةٍ ... بَرّيةٍ أزرتْ على النِسرِينِ
مِزمارُ (داودٍ) على غُدرانِها ... يَحكي عَنِ الفِردوسِ سكبَ لُحونِ
وصلاةُ (أحمدَ) في معارِجِ طُهرِها ... نورٌ على نورٍ وعَرفُ جَبِينِ
يا هاربينَ إلى سَرابِ وُعودِهمْ ... سَمُّ الخِياطِ يَضيقُ في التَطمينِ
من ذا يَخيط قُلامةً في أُظفرٍ ... أو يُلحِمُ المجذوذَ بِالإسفينِ؟
الروح باقِيةٌ، وعَزَّتْ أن تُنا ... لَ بإصبعٍ أو عَظْمةٍ عُرجونِ
الروحُ باقِيةٌ، وتَأبى أن تُقطَّـ ... ـعَ بينَ (صهيونٍ) وبينَ خَؤونِ
الروحُ صنعُ اللهِ تمضي جُملةً ... وتعودُ واحِدَةً بِلا تَقنينِ
كتبَ الإلهُ لَتَغلِبنَّ جُنودُه ... وجنودُ (عبدِ اللاتِ) في سِجّينِ
في كلِّ خَلْقٍ سُنّةٌ مقدورةٌ ... تأتي على ما رِيشَ من تَدجِينِ
الليلُ ليلٌ، والنَّهارُ مَسيحُهُ ... والنصرُ سيفُ الله في التَكوينِ(183/71)
المسلمون والعالم
مشاهد سياسية: المستضعفون الأقوياء!
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
مخطئٌ من يظن أن المسلمين الصادقين أصبحوا لقمة سائغة في أيدي أعدائهم..
ومغرورٌ من يمني نفسه بسهولة المعركة الطويلة معهم.. وواهمٌ أو مغفلٌ من
يعتقد أن تلك المعركة ستنتهي بإنهائهم، أو احتوائهم، أو إلجائهم إلى التخلي عن
رسالتهم الموكولة من الله إليهم بأن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ويملؤوا
الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً.
فهؤلاء المسلمون رغم استضعافهم أداة إلهية قدرية؛ سيُجري الله تعالى بها
سننه، ويحقق بها وعده بانتشار نوره وانتصار دينه، وانكسار أعدائه، [هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]
(التوبة: 33) .
صحيحٌ أن المسلمين الآن ضعفاء في تفرقهم، مشتتون بجراحهم، ضائعون
بفقدان القيادة العالمية الواحدة الراشدة، وصحيحٌ أن ظلالاً من الذل لا تزال تخيِّم
على رؤوس الأمة، بعد طول مخاصمة لمعقد العز والتمكين المتمثل في ذروة سنام
الدين.. ولكن هذه كلها أعراض لأمراض سرعان ما تزول بزوال أسبابها.. والأيام
تثبت هذا، فلا تزال العودة إلى الله تعود بالمسلمين رويداً رويداً إلى آفاق رحبة من
رحمة الله، فنرى ونسمع عن مستجدات ما كان أحد يحلم بها قبل بضع سنوات؛
حيث أصبح الإسلام وأهل الإسلام عصب المادة الإخبارية التي تجذب اهتمام العالم،
وتثير خوف المجرمين، وتستلفت انتباه التائهين الضالين، والذين ربما يقبل
الكثير منهم على السؤال عن هذا الدين، ومنهاجه، وجوهر دعوته. وفي هذا ما
فيه من بلاغ لكلمة الله للعالمين، والتي ما كان أحد يستطيع جلب انتباه العالم لها
بمثل هذه القوة وهذا التركيز؛ لولا مكر الكفار الذي ينقلب عليهم، [وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (الأنفال: 30) ، فالكفار مكروا بالمسلمين في
فلسطين، ويمكرون بهم في أفغانستان، والشيشان، وفي كشمير، والعراق،
والسودان، وهم يواصلون المكر الآن في قائمة إضافية تضم ستين دولة، كما قال
(كبير الأوباش) قبل عام.
فماذا أثمرت حملات أعداء المسلمين إلى الآن؟ وما هي ملامح المرحلة
الجديدة من الحرب المفتوحة على الإسلام باسم الحرب على الإرهاب؟ .. لنتجول
مع تلك المشاهد لنرى: كيف يسوق الله تعالى لنا البشريات بقبول دعوات
الصالحين بنصرة إخوانهم المستضعفين وتحويل استضعافهم إلى قوة؛ حتى يصبح
الأمر كما قال سبحانه: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ] (القصص: 5-6) ، وتلك
المنة لا نشك بأنها ستُكلل بانتشار عام لكلمة الإسلام كما أخبر سيد الأولين والآخرين
صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها،
وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها» [1] .
* فلسطين: عطاء بلا غطاء
بالرغم من المعاناة والشدة والتضييق الذي عانى ويعاني منه الشعب الفلسطيني
بعد اندلاع الانتفاضة الثانية؛ فإن ما يعانيه الطرف اليهودي في المقابل يتزايد مع
الأيام، وهذه سنة الله مع الصادقين إذا انحازوا إلى طريق الجهاد بوصفه حلاً أخيراً،
بل وحيداً لكسر شوكة العناد لدى الأعداء، [إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] (النساء: 104) ،
وبرغم ما يعيشه المجاهدون الفلسطينيون من حصار وأذىً متعدد الأشكال؛ فإنهم
يبرهنون كل يوم أن في مقدور الفئة القليلة أن تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله،
واليهود اليوم هم الفئة الكثيرة بما معها من كثرة السلاح، وحملة السلاح، ونوعية
السلاح المتفوق في البر والبحر والجو، ومع هذا؛ يشاء الله تعالى أن يجري على
أيدي الفئة القليلة المستضعفة العزلاء من الفلسطينيين ألواناً من الإذلال والرعب
والإهلاك لليهود، يتضاعف على جميع ما قدمته الأنظمة «الثورية» والحركات
«النضالية» ، وما أنجزته الحكومات بحروبها ومشاريعها السلمية الرسمية وغير
الرسمية، يعبر عن هذا الكاتب الأمريكي اليهودي الشهير: «توماس فريدمان»
بقوله: «لقد أدت العمليات والتفجيرات التي قام بها الفلسطينيون خلال شهرين إلى
قلب البلد رأساً على عقب، وأفقدت (إسرائيل) أكثر مما فقدته مع أي جيش عربي
خلال السنوات الخمسين الأخيرة، وأصبحت (إسرائيل) اليوم مستعدة أكثر من أي
وقت مضى للبحث بجدية في موضوع الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي
احتلتها عام 1967م» .
ما الذي جعل ذلك اليهودي يصرح بهذه الحقيقة؟ .. إنه في ذلك لا يعبر إلا
عن واقع ملموس محسوس، بل ومُحصىً في قوائم أصبحت مذاعة؛ فإجمالي عدد
العمليات التي قام بها المجاهدون في فلسطين من الفصائل كافة بلغ (317) عملية،
يعلم الجميع أن كل عملية منها تبث الذعر في قلوب ملايين اليهود في العالم لا في
داخل فلسطين فقط، فإذا أسفرت عملية منها عن قتلى، ورأى اليهود منظر الدماء
على الشاشات في النشرات؛ فإن هذا يُطَيِّر النوم من عيون أحرص الناس على
حياة.
العدد المذكور من العمليات أسفر عن مصرع (437) يهودياً، كان كل واحد
منهم يُشَيَّع إلى لعنة الله في الخفاء، دون هتافات أو مظاهرات كتلك التي يُشَيِّع بها
الفلسطينيون شهداءهم، والسبب في ذلك: خوف اليهود من المزيد من القتلى، أما
عدد الجرحى من مجموع تلك العمليات فقد بلغ (2683) جريحاً، والجريح هنا قد
يكون بصيراً تحول إلى أعمى أو أعور، أو سليماً تحول إلى قعيد أو كسير أو
مريض، وكل واحد من هؤلاء يظل قابعاً داخل إطار في لوحة كئيبة رعيبة
يشاهدها أهله وأصدقاؤه ومعارفه كل يوم؛ مما يزيد من تمكن الرهبة في قلوب
اليهود، وصدق من قال: [لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ
يَفْقَهُونَ] (الحشر: 13) ، إن الميت قد يُنسى بعد حين، أما المصاب فإنه تذكار
لتجديد الوساوس والأفكار عند كل يهودي كي يولي الأدبار، أو يسعى للهجرة نجاة
بجلده.. (انج سعد فقد هلك سعيد) !
وما لا تذكره الإحصاءات من ضحايا العمليات الجهادية غير القتلى والجرحى
هو عدد من يسقطون صرعى الجنون، والأزمات النفسية المزمنة، والكوابيس
المخيفة، وأفلام الرعب في أحلام المنام واليقظة، وصدق الله: [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] (الأنفال:
12) ، فليس من سبيل لإلقاء هذا الرعب إلا بضرب الأعناق ونثر الأشلاء،
وليس من سبيل لإكراه العدو على كف شره إلا هذا الرعب، وهذا ما يقوم به أُسُود
فلسطين، ثبَّت الله أقدامهم!
إن هذا الرعب المبثوث هو أقوى ورقات التفاوض، وأنجح وسائل الضغط،
وأسرع رسائل المطالبة؛ فهو أدعى لقبول الخصم لمبدأ الجلوس للوصول إلى حلول
غير ظالمة. وقد جرب الفلسطينيون على المستوى الرسمي كل وسائل الملاطفة
والمجاملة والتذللات والتنازلات؛ فلم يُجْد ذلك ولن يُجْدي مع اليهود نفعاً، بل
سيزيدهم ذلك إصراراً على التهام ما تبقى من حقوق الفلسطينيين.
صحيح أنهم يزدادون شراسة في الانتقام لضحاياهم، ولكن ذلك لا بد أن يكون
له سقف ونهاية، فلا بد أن ينكسر اليهود في النهاية تحت وطأة هذا الحوار الساخن
الجاد الذي لا يستطيع اليهود أن يفهموا حواراً غيره.
كلما صرخ اليهود من وقع ضربات المجاهدين على أم رؤوسهم؛ انبرى
العلمانيون الفلسطينيون في التباكي على عملية السلام، والاعتراض على استمرار
الانتفاضة، أو الدعوة إلى عدم عسكرتها، بل إن منهم من لم يمنعه الحياء من أن
يطالب أطفال الانتفاضة بالكف عن رجم جنود اليهود بالحجارة!! تلك الحجارة التي
يلتقطها الصبية والشباب من أطلال البيوت المهدمة، والمنشآت المدمرة!!
يقول هؤلاء المطالبون: لا نريد أن نعطي لليهود ذريعة للاستمرار في
العدوان..! هؤلاء لم يفهموا بعد من هم اليهود ... أو يفهمون ولكنهم يتغابون؛
فمتى كف اليهود عن العدوان؟ وهل كانوا في حاجة إلى ذرائع عندما نفذوا سلسلة
المذابح التاريخية السابقة واللاحقة ضد الفلسطينيين العزل؟! هل كان في عام
1948م من يقذفونهم بالحجارة؟! وهل نشأت حرب 1967م بعد عمليات استشهادية
ضد مدنيين أو عسكريين إسرائيليين؟!
ما نستطيع أن نقوله: إن استمرار أعمال الجهاد هي السبيل الوحيد لإيقاف
اليهود وغيرهم عند حدهم، فهذا مفهوم السيرة والتاريخ، ومنطوق القرآن والسنة:
[فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] (النساء: 84) ، فَكَفُّ بأس الكفار في
فلسطين وغيرها مرهون بإقامة شرعة القتال التي فرطت فيها الأمة عقوداً طويلة.
أما (بدعة) التفريق بين المدنيين والعسكريين؛ فنحن لا نعرف في شرع الله إلا
محاربين ومسالمين، فليثبت المعترضون على قتل من يسمون بالمدنيين
الإسرائيليين أنهم مسالمون، ثم ليثبتوا بعد ذلك أن العسكريين منهم لم يستهدفوا
مدنيين مسلمين! فإذا كانت عساكرهم تستهدف مدنيينا فعلينا أن نعمل بقول الله
تعالى: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ] (النحل: 126) ، وقوله:
[وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا] (الشورى: 40) ، وقوله: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] (البقرة: 194) .
بل إنني أريد التنبيه - من وجهة نظر شخصية - على (بدعة) أخرى،
وهي بدعة (التفريق بين يهود الداخل ويهود الخارج) ، وأقول «بدعة» على
اعتبار عصمة الدم، فاليهود في عصرنا كلهم محاربون إلا من أثبتت الدلائل أنهم
بخلاف ذلك، وعلى ذلك؛ فما لم تترتب مضرة راجحة من استهدافهم خارج
فلسطين، كما استهدفوا هم عشرات القيادات والرموز خارج فلسطين، إذا لم توجد
مضرة راجحة في ذلك فهم هدف مشروع، ومن هنا؛ فلا مُسَوِّغ للتبرؤ من
العمليات التي تستهدف المصالح اليهودية خارج فلسطين إذا كان من يقومون بها
يُعفون المجاهدين في الداخل من تبعة المسؤولية عنها. لقد رأينا مدى الرعب والقلق
والانزعاج لدى اليهود في (إسرائيل) عندما استُهدفت مصالحهم خارج فلسطين،
وعلى أيدي غير الفلسطينيين في عمليتي (مومباسا) ، فقد فرضت هاتان العمليتان
منذ لحظة تنفيذهما على كل أجهزة الأمن الإسرائيلي وعلى رأسها (الموساد)
تبعات أضخم وأعظم من إمكاناتها؛ لرصد الأنشطة المعادية لليهود في أطراف الدنيا
الأربعة ومتابعتها، وهم الذين اعتادوا أن ينفذوا عملياتهم في كل أنحاء العالم في
أمان؛ دون أن يجدوا حتى من يحاول التحقق من نسبة الجريمة لهم.
فلماذا يبيح العالم لليهود أن يحولوا الكرة الأرضية ساحة للنشاط الإجرامي لهم،
ويريد بعضنا أن يُحصر العمل ضد اليهود في قلعتهم المحصنة داخل فلسطين فقط،
بل إن هناك من يريد حصر القضية ضد اليهود على الفلسطينيين كما يفعل عرفات
عندما طالب غير الفلسطينيين بأن يكفوا عن (المزايدة) باسم فلسطين، وما علم
ذلك الـ (مخذول) بأن القضية الفلسطينية ما أضيرت من أحد بمثل ما أضيرت
من أمثاله؛ رغم أنه يمثل الرمز (الرسمي) للفلسطينيين!
عمليتا (مومباسا) اللتان نُفذتا ضد «فندق إسرائيلي» و «طائرة إسرائيلية»
في وقت واحد؛ فتحتا صفحة جديدة من الصراع مع اليهود لها ما بعدها، فنعتقد
أن (ذراع إسرائيل الطويلة) التي طالما تغنى الإسرائيليون بعدم قدرة حكومات
العالم كله على تحديها؛ قد وجدت من الآن ذراعاً أطول تستطيع أن تبترها أو تشلها،
أو تلويها على رقاب من استطالوا بها على الإسلام وأهله.
لقد عبَّر عن رعب الإسرائيليين وهلعهم من هذه العملية المعلق الإسرائيلي
«إينان هار» ؛ عندما كتب في صحيفة يديعوت أحرونوت في (92/11/2002م)
مخاطباً المسؤولين الإسرائيليين: «كُفُّوا عن الحديث عن دحر الإرهاب، وذراع
إسرائيل الطويلة القادرة على قطع أذرع أعداء (إسرائيل) ، وأَقْبِلُوا على التفكير
السياسي السليم لمحاولة إيجاد حل سياسي ... الحقيقة الآن هي أنه ليس بمقدور
عشرة شارونات، ولا مئة موفاز، ولا ألف نتنياهو دحر الإرهاب بوسائل عسكرية
فقط!» . وكتب معلق آخر هو «بن كسبيت» في صحيفة (ها آرتس) بُعيد
الحادث واصفاً حال اليهود بعد عمليتي (مومباسا) في كينيا، وعملية (بيسان)
قرب الأردن في اليوم نفسه؛ فقال: «نشعر أننا وصلنا إلى طريق مسدود ...
حتى السفر بهدوء إلى الخارج لم يعد آمناً (يشير إلى محاولة إسقاط الطائرة
الإسرائيلية) ، لم يبق لنا الآن إلا رائحة الخوف نشمها في كل مكان!» . وعلقت
صحيفة (معاريف) على عملية (مومباسا) بمقال تحت عنوان (ليس من نصير)
قالت فيه: «إن الخطر بات في كل مكان.. في كل ردهة من فندق، وفي كل
مدرج إقلاع ... وفي كل مطعم أو ملهى.. ليس أمامنا مكان نهرب إليه، حتى
الأمن خارج البلاد سلبوه منا!» .
ونحن نقول للإسرائيليين: لقد مضى عهد «تنت» و «نتن» و «شارون»
و «شيمون» و «أهارون» ، كما قد ولى عهد (سلام الشجعان) وجاء زمان
جند الإسلام، داخل فلسطين وخارجها، هؤلاء الذين يعملون في العراء بلا غطاء
من حكومات أو جيوش أو منظمات أو هيئات تناصرهم وتدعمهم؛ فماذا لو بُذل لهم
الدعم، ووُفِّرت الإمكانات؟! ... اللهم كن لهم عوناً ونصيراً!
* أفغانستان: طالبان وغلام الأخدود
عندما سقطت دولة طالبان الصغيرة الفقيرة على أيدي الأمريكان الظالمين
الغاشمين؛ كنت أقول ولا أزال: لو كان ثمن سقوط دولة طالبان اليوم هو سقوط
إمبراطورية الظلم الأمريكية غداً؛ فإن طالبان لم تسقط.. ولم تُهزم، بل ولم تمت؛
فهي كالشهيد الحي الذي يريق دمه ليحقن دماء غيره، وكالشمعة المشعة التي تحترق
لتضيء طريق الظلام. كنت أقول هذا على افتراض السقوط النهائي لها، وهو ما
لم يحدث، وكنت أستلهم في ذلك دروس قصة غلام الأخدود الذي صوَّب الملك
الجبار سهم الجريمة لإسكات قلبه الصغير؛ ليحي الله بذلك قلوب الملأ الكبير ...
ولهذا فإن الغلام عندما سقط مدرجاً في دمائه؛ أَسقَط َفي الوقت نفسه كيان الجبروت،
وكشف زيفه، وعرَّى باطله، وأظهر للناس أن هناك إلهاً واحداً عدلاً لهذا الكون
يقول للشيء كن فيكون، وأن مشيئته نافذة في الجبارين ولو بعد حين؛ فمن الذي
انتصر إذن: الغلام أم الملك الجبار؟! كلنا يعرف الإجابة عن هذا السؤال.
أما السؤال الثاني وهو: من الذي انتصر في حرب أفغانستان: أمريكا أم
طالبان؟! فهذا سؤال ستُعرف إجابته الواضحة عندما يتضح مصير الحرب العالمية
الثالثة التي انطلقت من أفغانستان ضد حزب الرحمن في شتى أنحاء العالم، ولكن
الانتظار لن يطول؛ ففضائح أمريكا تتكشف يوماً بعد يوم، والتقارير التي تتوافد
عن حالة المعركة القائمة الآن بين المجاهدين في أفغانستان وبين القوات المشتركة
المشركة تحت زعامة الولايات المتحدة؛ تقول الكثير عن عناصر الجواب عن
السؤال السابق.
والمفاجأة الكبرى التي توردها وتقررها هذه التقارير أن الغلام لم يمت، وأن
مشروعه للشهادة أمام الملأ قد تأجل ليتحول إلى مشروع إحياء عام للروح التي
فقدتها هذه الأمة، ففقدت بفقدها الدنيا والدين والتمكين، وهي روح الجهاد الأكبر
لإعلاء كلمة التوحيد.
خسائر الولايات المتحدة على أيدي المجاهدين حقيقية وكبيرة، وهي مرشحة
للزيادة في ظل تقارير متواترة عن نجاح المجاهدين في إعادة تنظيم صفوفهم، بل
وإعادة فتح بعض المعسكرات. وقد نشرت جريدة (نيوزويك) تقريراً يقول بأن
90% من قيادات المجاهدين في أفغانستان ما زالوا أحياء طلقاء! هذا عن القيادات
.. وفي داخل أفغانستان؛ فماذا عن الأتباع، وعن الخلايا النائمة والمتناومة في
شتى أرجاء العالم؟!
إحدى العمليات داخل أفغانستان سقط فيها باعتراف أمريكا (40) قتيلاً،
وأصيب (345) ، والحكومة الأفغانية العميلة نفسها تعترف بسقوط (110)
أمريكيين، ولكن المخابرات الروسية والهندية تكذبها وتقول: إن خسائر أمريكا في
أفغانستان بلغت حتى الآن (400) قتيل، وهناك أطراف أخرى ربما تكون ذات
اطلاع واسع على مجريات الأحداث في الداخل الأفغاني تذكر أرقاماً أخرى، فالقائد
السابق حكمتيار يقول إن الخسائر البشرية الأمريكية في أفغانستان لا تقل عن
(650) قتيلاً، أما مصادر طالبان- الأكثر اطلاعاً - فتوصِّل عدد من قُتلوا بأيدي
المجاهدين إلى (1200) جندي أمريكي، وتقول إن جثثهم تُنقل إلى أمريكا عن
طريق باكستان عبر بعض دول الخليج بأعداد متزايدة.
هذا المعدل في الخسائر البشرية كبير بالمقاييس المعتادة، ومرعب بالمقاييس
الأمريكية التي تزن الجندي الأمريكي بألف من البشر أو يزيد، والقادة العسكريون
الأمريكيون الذين يخرجون كل حين لإذاعة أنباء عن النجاح في مطاردة (فلول)
المجاهدين؛ تزعجهم هذه الإفاقة السريعة للجهاد في أفغانستان بعد مصيبة الغزو
الذي تسبب فيه وأعان عليه المنافقون، فالأمريكيون بين شرَّيْن: إما البقاء الدامي
في أفغانستان، وإما الانسحاب الذليل كما حدث في الصومال بعد مقتل مئتين من
جنود المارينز هناك، وكذلك الانسحاب الصامت من الفلبين مؤخراً، وإذا حدث هذا
في أفغانستان واضطرت أمريكا كما اضطرت أستراليا بعد بالي إلى سحب قواتها
من أفغانستان؛ فإنها ستكون فضيحة الدهر لأمريكا، وسيكون هذا سقوطاً مدوياً لهذه
القوة الشريرة التي لم تتمكن إلى الآن من تحقيق هدف واحد من أهداف حملتها على
أفغانستان؛ سوى إحلال الخوف محل الأمن، والفجور محل الاستقامة، والفساد
محل الإصلاح في طول البلاد وعرضها.
أفغانستان بعد عام من غزوها:
والنتائج الأولية للأوضاع في أفغانستان بعد عام من اضطرار طالبان لترك
المدن؛ توحي بأن الشعب الأفغاني يوشك أن يجتمع مرة أخرى على زعامة طالبان
في الجهاد، فالأسباب التي دعت هذا الشعب للجهاد الأول وهي الاحتلال والغزو
الأجنبي تتكرر اليوم، والأسباب التي دعته للالتفاف حول طالبان وهي انتشار
الفساد والجرائم تتكرر أيضاً بشكل أفظع؛ حيث أشارت مثلاً تقارير الأمم المتحدة
مؤخراً إلى ثبوت بلاغات عن حدوث (240) حالة اغتصاب في العاصمة
الأفغانية وحدها، هذا عن المُبلَّغ عنه؛ فماذا عن الذي لم يُبلَّغ عنه وسط شعب
يفضل الموت على العار؟! ... مصادر طالبان تؤكد أن عدد حالات الاغتصاب -
فضلاً عن السرقة، وقطع الطرق، وسلب الإتاوات.. وغيرها - وصل إلى
(730) حالة، مع أن المثبت في دواوين تلك الحركة عن جرائم الاغتصاب خلال
سنوات حكمها الخمس؛ لا يزيد عن ثلاث حالات اغتصاب أقيم الحد فيها على
المجرمين.
والمسلمون في العالم سيكتشفون أيضاً مع الوقت أن العار الأكبر الذي ظل
العالم يعيِّر به حكومة طالبان ظلماً - وهو الاتجار بالمخدرات - قد عاد الآن بعد
طالبان على يد الحكومة (الإصلاحية) التي تدَّعي أنها إسلامية؛ لتصبح أفغانستان
الدولة الأولى في العالم في تصدير المخدرات، فهي تصدر الآن ما قيمته (70%)
من إنتاج العالم للأفيون. ومعروف أن الأمم المتحدة وعلى لسان مسؤولها في
أفغانستان (الأخضر الإبراهيمي) كانت قد أعلنت عام 1999م خُلُوّ أفغانستان من
حقول الأفيون في ظل حكومة طالبان، كل هذه الأسباب وغيرها ستدفع الصادقين
من شعب أفغانستان للالتفاف مرة أخرى حول المجاهدين الصادقين من أبناء الشعب
الأفغاني وما أكثرهم! .
لم أرد بتناولي للشأن الأفغاني أن أسرد إحصاءات، فربما تتوافر هذه
الإحصاءات بشكل أوسع في مصادر أخرى، ولكن الذي أردت لفت النظر إليه؛ أن
فرص انتعاش الحركة الجهادية في أفغانستان تتزايد يوماً بعد يوم، وهذا يعني ما
يلي:
- أن مخططات أمريكا في منطقة آسيا الوسطى، والتي عرقلتها طالبان أثناء
مدة حكمها، يتوجه إليها التهديد من جديد بسبب طالبان وهي خارج الحكم،
والمؤشرات كلها تدل على عدم قدرة حكومة كرزاي (الذي سُرقت سيارته من
القصر) على توفير الأمن والاستقرار، فهي عاجزة عن الخروج بسلطتها عن
حدود كابل، بل عن حدود القصر الجمهوري الذي تحميه فرق المرتزقة
المستوردين من أمريكا بالأجرة.
- أن رقعة الجهاد الإسلامي في آسيا الوسطى ستتوسع وتزداد في البلدان
المحيطة بأفغانستان؛ إذا اضطرت أمريكا للانسحاب من هناك تحت وقع الخسائر
البشرية المتزايدة، والتي لن تصبر على المزيد منها الجرذان الأمريكية البيضاء.
- أن فضيحة تحالف الشمال الذي أقسم بعض قادته على عدم السماح
لـ (ذبابة) بأن تطأ أرض أفغانستان، وظهور حجم الكارثة التي جلبها هؤلاء
إلى بلادهم باستدعاء الأمريكان وتمكينهم من أرض أفغانستان؛ سيعمق الفجوة
بينهم وبين الشعب الأفغاني مع الزمن، وسيزيد من الشروخ بينهم وبين مناوئيهم
في السلطة، وهو ما سيعود بمزيد من التفكك والضعف على السلطة المركزية
التي يخوض وزير الدفاع فيها صراعاً مسلحاً مع (نائبه) دوستم؛ في أضحوكة
من أضاحيك الزمان التي تستثير الاستهجان!
- إن صدقت توقعاتنا بتحول أفغانستان إلى ساحة صراع بين أمريكا
وغرمائها الآخرين من غير المجاهدين؛ فإن الولايات المتحدة سوف تجد نفسها على
أرض أفغانستان في مواجهة عداء مستحكم من كل من الصين وروسيا وإيران
وباكستان، فكل تلك الدول متضررة بشكل أو بآخر من عزم أمريكا على نصب
خيمتها الدائمة في أفغانستان، ولا أزال أعتقد بأن الروس وبرغم كل مظاهر النفاق
للأمريكان لن يضيعوا فرصة توريط أمريكا في أفغانستان كما ورطتهم أمريكا فيها
بدعمها السابق للجهاد الأفغاني؛ حيث زودت المجاهدين بصواريخ «ستالينجر»
ليقاتلوا الروس نيابة عنها، وليتولى المسلمون الأفغان بدمائهم ودماء أطفالهم
ونسائهم وشيوخهم؛ إنهاء الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا لصالح الأمريكان؛
كي يتحقق ما تحدث عنه نيكسون في كتابه (نصر بلا حرب) !
- وأخيراً؛ نستخلص من قصة الغزو الأمريكي لأفغانستان منذ بدأ وحتى الآن:
أن العائق الوحيد دون قدرة طالبان على العودة للحكم، وعدم قدرتها قبل ذلك على
الاستمرار فيه؛ يرجع إلى السيطرة الجوية الأمريكية التي لا يملك المجاهدون
وسائل مواجهتها وكسر تفوقها، ولكننا لا نستبعد في ظل حرص القوى المحيطة
بأفغانستان على توريط أمريكا هناك أن تلجأ تلك القوى إلى دعم المجاهدين نكاية في
الأمريكيين، وإذا صحت الأنباء التي تحدثت عن عثور القوات الأمريكية على
صواريخ صينية حديثة الصنع في حوزة المجاهدين بعد بعض عملياتهم؛ فإن ذلك
سيكون عامل ضغط هائل على الأمريكان؛ يجعلهم يستيقنون أنهم قد وقعوا بالفعل
في الورطة الكبرى عندما قرروا غزو أفغانستان.
* الشيشان: دور كبير لشعب صغير
لا يتعدى شعب الشيشان كله، برجاله ونسائه وشيوخه وأطفاله عدد سكان
محافظة نائية من محافظات مصر مثلاً، فعددهم لا يزيد عن المليونين، ومع هذا؛
فإن ذلك الشعب الأبي المجاهد كان ولا يزال يُصَدِّر للدنيا كلها أسمى معاني الصبر
والفداء، ولا يضير شعب الشيشان أننا كنا لا نسمع به قبل أن يُبرز الإعلام قضيته
إبان الغزو الروسي الأخير لبلادهم، إنهم جزء من بلاد القوقاز التي تعد شعوبها من
أسبق الشعوب النائية عن جزيرة العرب دخولاً في الإسلام، فقد أرسل إليهم الخليفة
الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العام الثامن عشر للهجرة؛ كلاً من
الصحابيين الجليلين حذيفة بن اليمان، وعياض بن غنم رضي الله عنهما ليبلغوهم
دعوة التوحيد، فاستجاب الكثيرون منهم، ولم يكد يمر من الزمن ست سنوات حتى
خضعت بلدان جنوب القوقاز كلها لحكم الإسلام، ولم تأت عهود الخلافة الأموية
والعباسية إلا وشعوب القوقاز ومنهم الشيشان يمثلون جزءاً فعالاً من كيان الأمة
الإسلامية، وكانت روسيا آنذاك إمارة مغمورة كريهة السمعة، فبلدهم (موسكوفيا)
كان يقطنها وثنيون همج، وصفهم المؤرخون بأنهم من شر خلق الله طبعاً،
وأقذرهم سلوكاً، وأكثرهم فساداً وإفساداً؛ فهم لا يعرفون حلالاً ولا حراماً، ولا
يغتسلون من جنابة، ولا يتطهرون من نجس، ولا يفيقون من شرب الخمر. إلا أن
أولئك الرعاع انتقلوا خلال قرون تالية من وثنية الأصنام إلى وثنية الصلبان،
وتقوَّت روسيا بجيرانها من البيزنطيين النصارى، وبدأت تستأسد على المسلمين
حولها في بلاد القوقاز عن طريق أعمال القرصنة التي كانت تقوم بها قبائل
النورمان الذين تشكلت منها روسيا، ولكن المسلمين أخضعوهم لحكم الإسلام في
القرن السادس الهجري، وجعلوهم يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون، وحتى
أواخر القرن الخامس عشر الميلادي كان الروس يؤدون الجزية للحكام المسلمين في
القوقاز، ولكن الأمر تغير بعد سقوط الأندلس عام (898 هـ / 1492م) ؛ إذ
تكالبت الأمم على المسلمين، وكان الروس من شر المتكالبين، فراحوا يبادئون
المسلمين بالعدوان في بلاد القوقاز وغيرها، ويلحقون بهم أعظم الأذى، حتى
بلغت ذروة ذلك على يد رمز الإجرام الروسي «إيفان الرهيب» ؛ ذلك السفاح
الذي استباح مدينة (قازان) عاصمة القوقاز وقتها، وأمر بقتل جميع سكانها؛ في
أبشع مجازر التاريخ عام (959هـ/ 1552م) .
واستمر شعب القوقاز في معاناة طويلة من بطش الروس؛ في ظل انشغال
الممالك الإسلامية في مصر وإيران وغيرها بالصراعات الداخلية والخارجية، ولكن
الخلفاء العثمانيين تنبهوا فيما بعد لمأساة بلاد القوقاز مع الروس، فخاض العثمانيون
مع الداغستانيين ومن أسلم من التتار؛ حروباً طاحنة ضد الروس، ثأروا فيها
لإخوانهم القوقازيين، وظلت الأمور بين المسلمين والروس بين مد وجزر، حتى
جاء القرن الثامن عشر فجرد الروس حملة بقيادة زعيمهم المسمى «بطرس الكبير»
فاستولى على بلاد الشيشان وداغستان وأخضعها كلياً لحكم النصارى، وفرض
الروس النصرانية على المسلمين في عهد الملكة «كاثرين» ، فاضطر الثابتون
منهم إلى الإسرار والاستتار بدينهم في ظل قهر الكنيسة التي عمَّدتهم بالإكراه، وأتم
الروس حلقات السيطرة على كثير من الشعوب الإسلامية بنهاية القرن الثامن عشر
للميلاد، وفي القرن الذي يليه بدأت بقايا الشعوب القوقازية ومنها الشيشان في
التمرد على الإكراه في الدين الذي يمارسه النصارى عليهم، وبدأت حركات جهاد
ضد الروس، وتزعمهم في ذلك القائد الشيشاني «الشيخ منصور» ؛ حيث نجح
في تنظيم جهاد المسلمين ضد الروس بدعم من العثمانيين، وتمكن ذلك المجاهد من
إذلال الروس وإلحاق الهزائم بهم في معارك عديدة، ولكن هذا الشيخ أُسر بعد ذلك،
وخلفه الإمام «مولا» الداغستاني، ثم جاء بعده الزعيم الشيشاني الشهير «الإمام
شامل» ، وكان شامل الأمس كشامل اليوم حفظه الله مجاهداً عنيداً صلباً، لا تكسره
الابتلاءات، ولا تضعفه الهزات.. على مدى خمسة وثلاثين عاماً متواصلة من
الجهاد ضد الروس، ولم يتمكن الروس من القضاء على حركته العسكرية إلا بعد
أن حشدوا له ثلت الجيش الروسي، فتصدت قوات مكونة من مئتي ألف مقاتل
روسي لمهمة القضاء على الإمام شامل.
لم تخمد جذوة الجهاد على أرض القوقاز على الرغم مما واجهها من أهوال
على يد حكم القياصرة في روسيا، ولما قامت الثورة الشيوعية الروسية عام 1917م
كان أهل القوقاز مستعدين لإعلان (جمهورية الجبل المستقلة) ، ولكن الإلحاد
الروسي الشيوعي الذي خلف الإجرام النصراني أبى أن يترك المسلمين وشأنهم،
بل ازداد الروس عتواً وإجراماً بعد تحولهم عن النصرانية إلى الإلحاد المطلق، وقام
سفاح روسيا المعاصر «ستالين» بأبشع الجرائم ضد الشعوب في هذا العصر،
فقتل من الشعب الشيشاني الصغير نصف مليون نسمة، وكان هذا العدد في وقته
يوازي نصف الشعب الشيشاني، وأرغم «ستالين» الباقين على الهجرة إلى
مجاهل سيبيريا بعد الحرب العالمية الثانية؛ ليتأكد بشكل نهائي من التخلص من ذلك
الشعب العنيد في جهاده وصموده، لكن الله تعالى شاء أن تنتهي إمبراطورية
«ستالين» ، وأن يبقى شعب الشيشان شوكة في حلوق الروس.
ولما سقط اتحاد الإلحاد السابق؛ تكرمت روسيا كارهة بمنح الاستقلال للعديد
من الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي، إلا أنها أبت أن تمنح الشعب
الشيشاني استقلاله منذ أوائل التسعينيات وحتى اليوم. وكانت قد اجتاحت قبل ذلك
أرض الشيشان إلى أن اضطرت للانسحاب منها عام 1996م؛ تحت ضغط الجهاد
الشيشاني، ثم عادت واجتاحت العاصمة جروزني في أواخر عام 1999م في عهد
السكران أبداً «يلتسن» . ولما جاء «بوتين» ؛ اعتمد في دعايته الانتخابية على
وعد الشعب الروسي بحسم القضية الشيشانية لصالح الروس، ومعنى ذلك ألا يسمح
لهم أبداً بالاستقلال، واستمر الشيشانيون في جهادهم حتى يومنا هذا.
مغزى الجهاد الشيشاني ضد الروس:
في ضوء تلك الملابسات التاريخية، وفي سياقها الطويل والثقيل الذي
عرضناه باختصار؛ لا بد أن نتفهم إقبال المجاهدين المستضعفين في الشيشان على
خطوة نقل عملياتهم الجهادية إلى داخل روسيا؛ بدءاً من عملية احتجاز رهائن في
أحد المسارح بالعاصمة موسكو مؤخراً، لا بد للمسلمين في العالم أن يتفهموا أبعاد
تلك الخطوة الأخيرة، وهي نقل الصراع إلى العمق الروسي، فالشعب الشيشاني
الذي سئم صمت العالم كله نعم كله، بما فيه العالم الإسلامي والعربي أصبح يشك
في تواطؤ هذا العالم مع الروس ضده؛ حيث لم تُقدم أي دولة في العالم على إدانة
جرائم روسيا المتواصلة ضد شعب الشيشان الذي ينزف على مسمع ومرأى من
الجميع. أراد المجاهدون الشيشانيون أن يستلفتوا أنظار هذا العالم النائم إلى ما
يحدث لشعبهم، فقرروا الخروج بعملياتهم من داخل الحدود الشيشانية إلى داخل
الحدود الروسية؛ لعل ذلك يكون بلاغاً للعالم أن هناك شعباً يتعرض للفناء دون أن
يأبه به أحد. ليست هذه الرسالة فقط هي ما يريد المجاهدون المستضعفون الأقوياء
في الشيشان أن يوصلوه إلى المسلمين وغير المسلمين في العالم، ولكن الواضح
أنهم أرادوا من وراء ذلك التحول الجذري في عملياتهم الجهادية أن يحققوا الأهداف
الآتية:
- تخفيف الضغط على المجاهدين والمدنيين في الداخل الشيشاني بنقل
المعركة إلى داخل العمق الروسي؛ حيث سيتسبب التوتر الأمني الناشئ عن ذلك
في تشتيت التركيز الروسي على ضرب المجاهدين داخل الشيشان، وسينشأ عن
هذا توزع جزء كبير من المجهود العسكري والأمني الروسي إلى حماية المنشآت
والمصالح الحيوية للروس داخل العاصمة وغيرها من المدن الروسية.
- الاستنفار الأمني داخل حدود روسيا سيضاعف من المشاكل التي يعاني منها
الاقتصاد الروسي المتداعي، ومن شأن الضائقة الاقتصادية أن تضغط على الشعب
الروسي؛ فيضغط بدوره على حكومته لتراجع سياستها الخرقاء في الشيشان،
وحيث يستهلك الإنفاق العسكري بوجه عام ثلث الميزانية الروسية الحكومية للتنمية؛
فإن الأمر لم يعد يحتمل في نظر الجماهير (الكادحة) المزيد من شد الأحزمة.
- من شأن هذه العمليات داخل روسيا أن تضاعف الشروخ وتعمق الخلافات
بين الزعامات الروسية شيباً وشباباً، سياسيين وعسكريين؛ إذ إن المشكلة
الشيشانية من أشد عوامل الاختلاف والتنازع داخل القيادة الروسية، وهذه الخلافات
ستكبِّر مع الوقت علامة الاستفهام المتسائلة بحساب الربح والخسارة عن جدوى
البقاء العسكري في الشيشان؟
- نقل المعركة إلى داخل روسيا سينشئ رعباً شعبياً روسياً يشبه ما حدث في
أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، ومن شأن هذا الرعب أن يدفع المواطن الروسي
كما يدفع الآن المواطن الأمريكي لكي يتساءل: لماذا نفقد أرواحنا وندفع أبناءنا إلى
المجهول وراء الحدود؛ في حروب لا تدر علينا سمناً ولا عسلاً، بل تدور دوائرها
على اقتصادنا بالكساد، وأمننا بالفراغ، ومواقفنا السياسية والعسكرية بالانشغال
الزائد؟! يضاف إلى ذلك أن في روسيا عائلات وأقارب لـ (130) ألف جندي
ممن يوصفون بـ «الأبطال الوحوش» ، سيظل الشعب الروسي يتساءل عن
الحكمة في استمرار عودة العشرات منهم كل حين في النعوش!
- إذا تكررت مثل هذه العمليات واستمرت وهذا ما يصرح به قادة المجاهدين
فإن شعبية الرئيس الروسي ستتداعى، وسيتحول في نظر شعبه من درجة رجل
السياسة الرفيع، إلى دركة الطائش الرقيع الذي فعل أسوأ مما فعله الدب الأحمق مع
صاحبه؛ عندما ألقى على رأسه حجراً كبيراً ليقتل الذبابة التي وقفت على أنفه.
وقد بدأت هذه النظرة إلى «بوتين» تتبلور بعدما تسبب في قتل معظم الرهائن
الذين كان يريد إنقاذهم؛ بسبب قراره الغبي باستعمال الغاز السام (المجهول) الذي
أودى بحياة العشرات.
- إضافة إلى كل ما سبق؛ فإن المجاهدين يريدون بمثل تلك العمليات أن
يرسلوا إلى الروس رسالة يقولون فيها: إن شعبكم لن يبقى في مدنه وقراه آمناً ما
دام شعبنا لا يبقى في مدنه وقراه آمناً، وإن المدنيين منكم ليست دماؤهم أقدس من
دماء المدنيين عندنا، ولا أطفالكم أعز من أطفالنا، ولا نساؤكم أولى بالأمان
والسلامة من نسائنا، ومسارح اللهو عندكم ليست أولى بالبقاء من مصانعنا
ومزارعنا ومتاجرنا التي تحترق كل يوم، وليست أرواح بضع عشرات منكم بأثمن
من أرواح ثمانين ألفاً من الشيشان قُتلوا خلال تلك الحرب الإجرامية الظالمة.
أعجب ما في الأمر أن تلك الرسالة البليغة جاءت إلى روسيا، بل إلى العالم
أجمع منقوشة على أرواح رهط من الفتيات اللواتي جئن إلى عاصمة الطغيان
التاريخي لمشاركة الرجال في الجهاد، متلفعات بمروط الموت والشهادة؛ ليقلن لكل
رجال المسلمين وغير المسلمين: إن في أمة الإسلام نساء يُوزنَّ بآلاف الرجال.
* أكراد العراق.. ووميض أمل في الآفاق
مع تزايد سرعة العد التنازلي لبدء الهجوم الأمريكي على العراق؛ يتساءل
المرء في حيرة: ما العمل.. وما الأمل؟ .. هل أصبح التهام الثعبان الأمريكي
للعراق قدراً مقدوراً؟ وهل أصبح طريق اليهود إلى الفرات ممهداً ريثما يتمهد
الطريق إلى النيل؟ .. يحز في النفس أن من أفاعيل صدام الآثمة أنه كاد أن يفرغ
العراق من الأحرار الأبطال الذين كان يمكننا أن نعقد الأمل بعد الله على جهادهم
وفدائهم، وتصديهم للغزو القادم.
و «البعث العراقي» الذي لم يقدم شيئاً حقيقياً في (أم المعارك) يوم أن كان
في عز قوته وعناده وكامل سلاحه وعتاده، هذا «البعث» لا نظن أن يصمد
طويلاً هذه المرة، إلا إذا أحيا الله من بين مواته من يُخلص العودة، ويغير الراية،
ويصحح المنهج. ولا يمكن أيضاً انتظار خير من «رافضة العراق» إلا إذا كان
عملاً خالصاً لصالحهم ومدخراً في رصيدهم؛ فالعراق عراقهم إن كان شيعياً، وهو
عدوهم إن كان سُنِّياً. أما بقية الأمة العراقية فقد استخفهم صدام فأطاعوه إلا من
رحم الله! ولكن هذه الأمة ولاَّدة، وهي كالغيث الذي لا يُدرى الخير في أوله أم في
آخره، ولن يعدم شعب من شعوب المسلمين أن يُخرج رجالاً أبطالاً في أي وقت
من الأوقات، وبخاصة في أوقات المحن وأزمنة الشدائد.
الاستباحة الأمريكية القادمة للعراق ستفرض بإذن الله نشوء حركات جهادية
صادقة، ولئن كنا لا نسمع عن كيان واضح لأهل السنة العراقيين في بغداد وما
حولها اليوم؛ فإن الأخبار المتواردة من خارج بغداد - خصوصاً في كردستان
العراق - تشير إلى انبعاث روح إسلامية سنية جهادية؛ نحسبها صادقة في لهجتها،
وسليمة في منهجها.
أكراد العراق - وعلى عكس ما يظن الكثيرون - مخزون هائل، وطاقة
جبارة ذات رصيد تاريخي عظيم يمكن أن يشيع روحاً جديدة في العراق، وهذه
الروح قد أطلت بالفعل على مناطق من كردستان العراق، استطاع المجاهدون
الأكراد أن يحرروها من سيطرة الأحزاب العلمانية الضالة، ويقيموا فيها حياة
إسلامية مستقلة. وهي تجربة قابلة للاتساع في ظل الشعور بالقهر الذي يعاني منه
الأكراد في العراق وغير العراق، فالعالم كله يتنكر لهذا الشعب، ولا يعترف بحقه
في أن تكون له دولته وكيانه المستقل؛ مع أن الأكراد يزيدون عن خمسة وعشرين
مليوناً في كل من العراق وسوريا وإيران وتركيا، فحتى في عصر القوميات
الذي كانت القومية الواحدة لشعب فيه تكفي سبباً لسماح العالم لأهلها بأن يقيموا دولة؛
لم يُسمح للأكراد بإقامة دولة.
نحتاج إلى إلمامة سريعة بتاريخ الأكراد؛ حتى نصل الخيوط بين ما كان وما
هو كائن الآن، وبين ما نتوقع أن يكون من شأنٍ لأهل السنة من أكراد العراق،
والذين نعتقد أن على أهل السنة من العرب أن يمتزجوا معهم في وحدة اعتقادية؛
تنفي خبث الروابط الجاهلية القائمة على غير الدين؛ سواء كانت عرقية أو حزبية
أو مذهبية.
الشعب الكردي - كما يُذكر في أدبياته - شعب عريق، كانت أرضه مهداً
ثانياً للبشرية بعد الطوفان، فسفينة نوح عليه السلام استوت على «الجودي» كما
نص القرآن و «الجودي» اسم للجبل الذي يقع في أرض كردستان على الحدود
العراقية التركية اليوم، وقد كان للأكراد دولة تسمى بهذا الاسم «جودي» أو
«كودي» قبل الإسلام، وكانت لهم كذلك مملكة «ميديا» المذكورة في
التوراة، والتي قضى عليها قورش الإخميني الفارسي (المعتقد بأنه ذو القرنين)
عام 550 قبل الميلاد.
بعدما جاء الإسلام؛ أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العام السابع
عشر للهجرة صحابيين جليلين إلى بلاد الكُرد، وهما: القعقاع بن عمرو،
وعياض بن غنم رضي الله عنهما، وعُرض الإسلام على أهل هذه البلاد بعد فتحها،
فاعتنق أكثر الأكراد الإسلام طوعاً، ووجدوا فيه ملجأً وملاذاً من مظالم الفرس.
وأصبحت كردستان جزءاً من نسيج الأمة، وفي عهد العباسيين أصبحت كردستان
ولاية إسلامية مستقلة تمثل البوابة الشرقية للخلافة، واعتمد العثمانيون على شجاعة
الأكراد في معاركهم، وكوَّنوا منهم ما كان يعرف بـ (فرق الانكشارية) لصد
هجمات الدول الصليبية التي كانت تتناوب التكالب على أطراف الدولة العثمانية،
ولعل هذا كان أحد الأسباب في حرص النصارى الإنجليز والفرنسيين على تشريد
الشعب التركي في اتفاقيات «سايكس بيكو» بعد الحرب العالمية الأولى التي
انتهت بسقوط الخلافة العثمانية آن ذاك.
عُرف الأكراد طيلة التاريخ الإسلامي بالبسالة والشجاعة الفائقة، وأكثر ما
اشتهر عنهم في ذلك كان على يد القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي الكردي،
والذي فتح الله عليه فتحين، كل فتح منهما أعظم من الآخر؛ الأول هو: تحرير
بيت المقدس من الصليبيين عام 583هـ، والثاني: تحرير مصر من العُبيديين
الفاطميين الملحدين قبل تحرير فلسطين وبيت المقدس.
ولأن المناطق التي يقطنها الأكراد ذات طبيعة جبلية فقد أثر ذلك على طبيعة
هذا الشعب؛ من حيث الجسارة والصبر والتعود على الشدائد، ففي أرض كردستان
الحاوية لأطراف من العراق وتركيا وسوريا وإيران؛ تقع أشهر سلاسل الجبال في
الشرق الأوسط، وهي سلسلة (زاجروس) ، وأرض الأكراد غنية بموارد عظيمة
وعلى رأسها النفط، وبخاصة في كركوك العراق التي يسيل لها الآن لعاب قوى
الاستعمار الجديد.
تاريخ الأكراد ليس جهاداً وفداءً فقط، بل هناك الكثير من أعلام العلم والهدى
هم من الأكراد، ومنهم: ابن الصلاح، وابن الحاجب، والآمدي، وابن خلكان،
والآلوسي، والزهاوي.. وعَلَم آخر عظيم، ومجدد في العلم والدين هو الإمام
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني أو (الحوراني) ، ف (حوران) من أرض
كردستان.
لهذا فلن نعجب إن أخرج الله من بين أكراد العراق اليوم مثل هؤلاء العظماء،
ولا نقول هذا إحياء لعصبية أو عنصرية، بل إيماءً إلى المعنى العظيم الذي أشار
إليه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن معادن الناس فقال: «خيارهم في
الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» [2] ، وخيار معادن المسلمين عُرف منهم:
صهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي.. وغيرهم.
ما أريد أن أقوله: إن الجميع الآن يترقب ما سوف يحدث على أرض العراق
إذا غزاها الأمريكيون وحلفاؤهم ثم تسلل إليها اليهود وأشياعهم ... ماذا يمكن أن
تكون عليه الحال هناك لو نُصبت خيمة عسكرية أمريكية جديدة في العالم الإسلامي
يراد لها أن تدوم؟!
توقعاتي بأن العراق سيكون بؤرة جهادية جديدة للمستضعفين الأقوياء؛
سيتحيز إليها المجاهدون من كل حدب وصوب، وستكون أرض كردستان والله أعلم
المنطلق في ذلك، أو أحد المنطلقات المهمة في ذلك؛ ففي كردستان الآن أراض
خالصة للمجاهدين، يقيمون فيها شرع الله، ويتولون إدارتها باستقلال تام، وهو ما
دفع قوات «جلال الطالباني» إلى أن يتفانى في القضاء عليهم، ولكن الله تعالى
مكن للمجاهدين في كردستان وفي مدينة (حلبجة) خاصة؛ فهم يوقعون خسائر
فادحة بقوات طالباني، أحد الكرزايات المنتظرين في عهد ما بعد صدام؛
فالمجاهدون من جماعة (أنصار الإسلام) [3] أحبطوا هجمات لتلك القوات في آخر
يوم من رمضان الماضي، قضوا فيها على عنصر من عناصر «جلال الطالباني» ،
والذين نفذوا تلك العملية كانوا أربعة من المجاهدين فقط.
المعركة في العراق ستطول، ولن تكون كما يتمنى بوش (في أسرع وقت،
وبأقل خسائر، وبأدنى التكاليف!) .. لن تكون كذلك؛ لأن بوش سبق أن تمنى
هذا في أفغانستان، وأمنياته الآن في خبر كان، فالعراق ليس هو صدام، وشعب
العراق ليس هو البعث، فلئن سقط صدام وسقط بعثه؛ فإن عاصمة الخلافة
العباسية (بغداد) ستكون بإذن الله إحدى قلاع الجهاد المظفر على أطراف جزيرة
الإسلام.
* الفلبين: أول الغيث قطرة
بعد ستة أشهر من إرسال بوش قوة عسكرية إلى الفلبين لـ (دحر) ما سماه
بالإرهاب هناك؛ اضطرت تلك القوات أن تعود من حيث جاءت في أواخر ديسمبر
2002م؛ بعدما اكتشف الأمريكيون كما جاء على لسان الجنرال «دونالد
وورستران» «أن القضاء على الإرهابيين ليس مهمة سهلة» معتبراً أن «من
المبكر الحديث عن نهاية الإرهابيين في الفلبين» !
ووصف الجنرال «دونالد» الإرهاب الذي أصبح ندَّ أمريكا المعاصر بقوله:
«عدونا متحرك، لا يملك بنية تحتية ثابتة، ويتنقل بمجموعات صغيرة، ولديه
شبكة معلومات جيدة، وهذا ما يجعل مهمتنا ليست سهلة» .
إنهم يعدون كل محاولة للمسلمين للخروج عن سيطرة الكفار إرهاباً!!
الإرهاب هو إرهاب النصارى في الفلبين وغيرها؛ ففي الفلبين أعدت الحكومة
النسوية هناك قوة قوامها مئتا ألف جندي مسلح بشكل كامل لمواجهة المجاهدين
الفلبينيين، هذا إلى جانب «المتطوعين» من الميليشيات الشعبية النصرانية
المسماة (بيجي لانتي) ، والبالغ قوامها عشرون ألف مقاتل، والتي فوضتها
الحكومة في نشاطات هدم المنازل، وإتلاف المزارع، وقتل المدنيين، وحرق
المساجد، حتى لا تُحرج أمام الرأي العمي العالمي! هذه الميلشيات لا تكتفي في
إجرامها ضد المسلمين باستعمال الرصاص والقنابل، بل تتفنن في استعمال السيوف
والخناجر لزيادة الإرهاب للمدنيين المسلمين.
وهذه الجماعة (الدينية) المتطرفة التي لم يدرجها بوش في قوائم الإرهاب؛
يؤجج أحقادها القسس الرسميون، وقد كان إقدام أحد هؤلاء القساوسة على إلقاء
محاضرة تحريضية ضد المسلمين في مدينة (جامبونجا) الجنوبية سبباً في نشوء
جماعة «أبو سياف» ؛ ففي عام 1991م عقد ذلك القس تلك المحاضرة، وأثار
حماس النصارى لمواجهة المسلمين، فكان من بين الحضور: (عبد الرزاق
جنجلاني) المكنَّى بـ (أبي سياف) ، ولم يكن معروفاً في ذلك الوقت، فلم يتمالك
نفسه بعد المحاضرة إلا أن تربص بالقس فقتله وهرب، فأُعجب به بعض الشباب
وانضموا إليه، وتكونت بذلك جماعة «أبو سياف» التي رأت أن ما يفعله
النصارى بالمسلمين كافٍ لإسقاط كل حرمة لهم.
قبل جماعة «أبو سياف» ؛ كانت هناك الجماعة الأخرى الأكبر والأقدم،
وهي: «جبهة تحرير مورو» بزعامة «سلامات هاشم» ، وهذه الجماعة تعتمد
الجهاد أيضاً في الفلبين ولكن بأسلوب يختلف عن طريقة (الجهاد المطلق) التي
تمارسها جماعة «أبو سياف» ، فهم يركزون على العسكريين، وفي داخل
المناطق المحتلة فقط، وهي على كل حال من المنظمات المدرجة في قائمة
(الإرهاب) الأمريكية، وتسيطر «جبهة تحرير مورو» على ما مساحته 90% من
أرض جزيرة (مينداناو) في الجنوب، بينما يسيطر الجيش الفلبيني على النسبة
الباقية، وتسعى الجبهة إلى نزع اعتراف من الحكومة الفلبينية باستقلال ذلك الإقليم
الذي تقطنه غالبية من المسلمين، إلا أن الحكومة الفلبينية، وبتأييد من العالم
النصراني ترفض هذا المطلب العادل وغير المتعارض (نظرياً) مع شريعة الغاب
المسماة بـ (الشرعية الدولية) .
المجاهدون الفلبينيون يشرفون على عدد كبير من المعسكرات في أرضهم
الخاصة بهم، تبلغ (46 قاعدة) ، يتدرب فيها حسب مصادر الجبهة 120 ألف
مجاهد، معظمهم مسلح بأسلحة خفيفة، ومع هذا فهم يواجهون جيش دولة كامل بكل
ما لديه من أسلحة جوية وبرية وبحرية! ويجيء بوش.. ويشفق على «المساكين»
في الفلبين، فيرسل قواته المغوارة لحسم الأمر.. فيُحسم الأمر بعد نصف عام
بفضيحة مدوية لكنها مخفية، فتسحب أمريكا بهدوء الجنود الألف الذين أرسلتهم بعد
فشل الحملة.
وكما قلت: فأول الغيث قطرة؛ فاليوم الفلبين، وغداً أفغانستان، وبعد غد
... و ... و ... [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف:
21) ، نعم أكثر الناس لا يعلمون!
__________
(1) أخرجه مسلم، رقم 2889.
(2) أخرجه البخاري، رقم 3353.
(3) هذه الجماعة لها موقعها على الإنترنت باسمها، تعرض فيه منهجها وأخبارها، وقد سبق للبيان أن نشرت مقالين حولها بعنوان (أنصار الإسلام في تورا بورا العراقية) للأستاذ أحمد فهمي، فراجعه.(183/74)
المسلمون والعالم
التنافس الدولي في القارة الإفريقية
راوية توفيق [*]
كانت القارة الأفريقية محلاً للمنافسة بين القوى الدولية الكبرى لعهود طويلة،
فقد بدأ الاحتكاك الأوروبي بأفريقيا عن طريق المستكشفين والتجار والبعثات
التبشيرية منذ القرن الخامس عشر حيث أبحرت السفن البرتغالية إلى سواحل غرب
أفريقيا، وأنشأ البرتغاليون عدداً من الحصون الساحلية مارسوا من خلالها تجارة
مربحة في الذهب والعاج والعبيد.
وقد ازدهرت حركة تجارة العبيد في تلك الفترة، وشارك فيها تجار هولنديون
وبريطانيون وفرنسيون إلى جانب البرتغاليين فيما أطلق عليه: «مثلث
الأطلنطي للتجارة» حيث كان التجار الأوروبيون ينقلون العبيد الأفارقة عبر
المحيط الأطلسي للعمل كمزارعين في الأراضي الأمريكية، ثم تنقل المحاصيل
الزراعية إلى أوروبا لبيعها.
وفي أواخر القرن التاسع عشر تدافعت القوى الأوروبية للسيطرة على القارة
الأفريقية فيما أطلق عليه: «التكالب الاستعماري على أفريقيا» والذي كرسه
مؤتمر برلين 1884م بوضع القواعد العامة لتأسيس مناطق الهيمنة للقوى الأوروبية
الرئيسية (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، ألمانيا) في القارة الأفريقية.
وقد صورت هذه القوى الأوروبية مهمتها على أنها تهدف إلى نشر الحضارة
والمدنية في كافة مناطق العالم المتخلف ومنها أفريقيا، إلا أن هذا الاستعمار كان
السبب الحقيقي لتخلف القارة؛ حيث استنزف مواردها الطبيعية ووجهها لخدمة
الاقتصاد الأوروبي [1] .
وفي أواخر خمسينيات وستينيات القرن العشرين بدأت الدول الأفريقية تحصل
على استقلالها تباعاً. ورغم تراجع أهمية ومكانة القوى الأوروبية التقليدية التي
كانت تسيطر على أفريقيا إلا أن التنافس الدولي في القارة استمر مع تغير الفاعلين
الرئيسيين.
ففي ظل نظام القطبية الثنائية الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية حلت
الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق محل القوى الأوروبية التقليدية مع
اعتراف الولايات المتحدة بمصالح تلك القوى التقليدية في القارة الأفريقية؛ فقد
انتقل الصراع بين القطبين في مرحلة الحرب الباردة إلى الساحة الأفريقية، ولكن
اهتمام القطبين بالقارة في تلك الفترة تركز على محاولة استقطاب الدول الأفريقية
بهدف العمل على زيادة كل طرف لنفوذه واحتواء الطرف المضاد.
ومع نهاية الحرب الباردة ظهرت عدة مؤشرات ودلائل على تراجع الأهمية
الاستراتيجية للقارة الأفريقية، وظهر اتجاه بارز في أدبيات العلاقات الدولية يؤكد
أن القارة الأفريقية لم تعد تحتل أهمية كبيرة للدول الكبرى الأوروبية أو للولايات
المتحدة الأمريكية مستنداً في ذلك إلى تناقص معدلات المعونات والقروض الموجهة
من تلك القوى إلى القارة الأفريقية، أو الربط بين تقديم المعونات وبين مدى التزام
الدول الأفريقية بالتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان فيما أصبح يعرف باسم:
«المشروطية السياسية» . وفي الوقت نفسه أدى بروز دول أوروبا الشرقية
واتباعها نهج الإصلاح الاقتصادي إلى لفت انتباه القوى الكبرى إلى هذه الدول،
وتخصيص قدر متزايد من المعونات والقروض إليها على حساب المعونات
والقروض الموجهة إلى الدول الأفريقية.
وبذلك فإن القارة الأفريقية تضاءلت أهميتها على المستوى الجيوبوليتيكي؛
حيث تراجعت أهميتها الاستراتيجية كمسرح للصراع بين المعسكرين الشرقي
والغربي. كما تراجعت أهميتها تنموياً؛ حيث عاد مركز الثقل إلى دول وسط
وشرق أوروبا باعتبارها تمتلك بنية أساسية اقتصادية مناسبة إلى حد بعيد لعمليات
التحول نحو الليبرالية واقتصاد السوق. ولكن مع منتصف التسعينيات بدأ اتجاه
تهميش القارة الأفريقية في التراجع؛ حيث برز التنافس الاقتصادي بين القوى
الكبرى (خاصة الولايات المتحدة وفرنسا) في القارة. فإذا كانت الأهمية السياسية
والعسكرية للقارة قد تراجعت بعد انتهاء الحرب الباردة إلا أن القوى الكبرى عاودت
الاهتمام بالقارة اقتصادياً منذ منتصف التسعينيات. ومن ثم كان انتهاء الحرب
الباردة دافعاً لتغير صور ومظاهر الاهتمام بالقارة مع دخول عناصر جديدة اهتمت
بالتواجد الاقتصادي في القارة (الصين، واليابان، وغيرهما) [2] .
ويقتضي التعرف على أبعاد ومظاهر التنافس الدولي في أفريقيا في فترة ما
بعد الحرب الباردة تحليل أهداف ومصالح وأدوات القوى الكبرى الأساسية الفاعلة
على الساحة الأفريقية، وهو ما يحاول المقال إلقاء الضوء عليه بشيء من التفصيل.
* السياسة الأمريكية في أفريقيا:
في فترة الحرب الباردة لم تكن الدبلوماسية الأمريكية جادة في التدخل في
القضايا الأفريقية بشكل مباشر، وكانت تركز في سياستها تجاه أفريقيا على تحقيق
أربعة أهداف رئيسية هي: احتواء المد الشيوعي، حماية خطوط التجارة البحرية،
الوصول إلى مناطق التعدين والمواد الخام، ودعم ونشر القيم الليبرالية الخاصة
بالديمقراطية وحقوق الإنسان. إلا أن المتغيرات الدولية الجديدة وقيادة النظام أحادي
القطبية أدى إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية نحو أفريقيا، وإعادة ترتيب
أولوياتها وأهدافها [3] .
* الأهداف والمصالح الأمريكية في القارة الأفريقية:
ترتبط السياسة الأمريكية في أفريقيا بعدة مصالح. فمن الناحية الاقتصادية
تهدف الولايات المتحدة إلى فتح أسواق جديدة في مناطق مختلفة من العالم ومن
أبرزها القارة الأفريقية التي تتسم بوجود فرص هائلة للاستثمار وأسواق مفتوحة
للمنتجات الأمريكية يؤيدها في ذلك الشركات الأمريكية الهادفة إلى توسيع نطاق
الاستثمارات الخارجية، وفتح الأسواق الأفريقية الواسعة أمام السلع الأمريكية [4] .
ويمكن تلمُّس أهداف التحرك الاقتصادي الأمريكي في أفريقيا من خلال
التقرير الذي صدر عن مجلس العلاقات الخارجية في منتصف عام 1997م بعنوان:
«تعزيز العلاقات الاقتصادية للولايات المتحدة مع أفريقيا» والذي أوصى بأن
تكون الولايات المتحدة في مقدمة الدول الصناعية الكبرى التي تستفيد من الفرص
الجديدة في أفريقيا.
واستناداً إلى ذلك عملت الإدارة الأمريكية السابقة للرئيس كلينتون على تطوير
التجارة الأفريقية وبرامج التنمية الاقتصادية، وهو ما اتضح من خلال عدة
مؤشرات أهمها زيارة الرئيس كلينتون إلى القارة الأفريقية عام 1998م؛ حيث
أطلق خلال زيارته مبدأ أو شعار: «التجارة لا المساعدات» كسبيل إلى ازدهار
القارة. وقد جاء إعلان هذا الشعار في إطار سعي إدارة الرئيس الأمريكي السابق
إلى تأسيس شراكة أمريكية أفريقية جديدة تكرست فيها مع الإدارة الأمريكية الجديدة
بعد موافقة الكونجرس على قانون النمو والفرص في أفريقيا الذي يقوم على دعم
الدول الأفريقية بالمساعدات الاقتصادية، وفتح الأسواق الأمريكية أمام سلع
ومنتجات دول القارة بشرط نجاح هذه الدول في تحقيق بعض الشروط المتعلقة
بالديمقراطية والتحرر الاقتصادي [5] .
ولا شك أن تحقيق الأهداف الاقتصادية الأمريكية في القارة الأفريقية يتطلب
تنافساً حاداً مع الدول الأوروبية التي سيطرت على الثروات والموارد الطبيعية
للقارة لعهود طويلة؛ وخاصة أن الولايات المتحدة تسعى إلى تغيير نسب التبادل
التجاري بين أفريقيا والعالم الخارجي لصالحها وهي النسب التي تحتل فيها الدول
الأوروبية النصيب الأكبر.
ومن الناحية السياسية ترفع الولايات المتحدة مبدأي: الديمقراطية، وحقوق
الإنسان كركيزتين أساسيتين للسياسة الخارجية الأفريقية؛ إلا أن هذه المبادئ مجرد
أداة تستغلها السياسة الأمريكية لتحقيق مصالحها وليست هدفاً تسعى إلى تحقيقه.
فالمصالح الأمريكية تتجه في بُعدها السياسي إلى تطوير العلاقات مع دول القارة
الأفريقية بما يخدم ويعزز المصالح الأمريكية الحيوية في القارة، وتتعامل مع هدف
تشجيع الديمقراطية لدى النظم الأفريقية الحاكمة بمبدأ النسبية؛ حيث ترتبط بمدى
الاهتمام الأمريكي بحالة كل نظام سياسي على حدة تبعاً لطبيعة المصالح التي قد
تختلف من دولة إلى أخرى. كما تهدف الولايات المتحدة بالأساس في علاقتها مع
أفريقيا إلى الحد من النفوذ الأوروبي، والانفراد بالنفوذ في القارة من أجل الحفاظ
على الزعامة العالمية.
وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف السياسية تعمل الولايات المتحدة على تشكيل
نخب جديدة في أفريقيا موالية للغرب عموماً وللولايات المتحدة بشكل خاص، وهم
من تسميهم الولايات المتحدة بالقادة الجدد في أفريقيا أمثال ميليس زيناوي في أثيوبيا،
وأسياسي أفورقى في إرتريا، ويوري موسيفيني في أوغندا [6] .
ومن الناحية العسكرية والأمنية تسعى الولايات المتحدة إلى تحسين قدرة القارة
على التعامل مع المشكلات الأمنية المؤثرة على الأمن العالمي بصفة عامة وعلى
الأمن الأمريكي بصفة خاصة وأهمها الإرهاب. كما تسعى إلى دعم الحلول السلمية
للنزاعات المسلحة في القارة في مناطق البحيرات العظمى والقرن الأفريقي
وجنوب السودان بشكل يحقق مصالحها. وفي هذا الإطار بادرت الولايات المتحدة
بتشكيل قوة تدخل أفريقية لمواجهة الأزمات استناداً إلى المبادرة الخاصة بمواجهة
الأزمات الأفريقية. بالإضافة إلى ذلك تركيز الولايات المتحدة على قضايا الإسلام
السياسي في القارة؛ وخاصة بعد تفجير سفارتيها في كينيا وتنزانيا [7] .
* دوائر حركة السياسة الأمريكية في أفريقيا:
تهتم السياسة الأمريكية بصفة عامة بتدعيم علاقتها بالقوى الرئيسية في القارة،
فتهتم في هذا الإطار بتدعيم علاقتها مع نيجيريا التي تمثل أكبر شريك تجاري
للولايات المتحدة في أفريقيا وثالث مصدر للنفط للولايات المتحدة. وتسعى السياسة
الأمريكية إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في غرب أفريقيا من خلال
إعادة تقويم سياستها مع نيجيريا بما يحقق عودة الحكم المدني إليها. وفي هذه
الإطار أيضاً تنظر الولايات المتحدة إلى جنوب أفريقيا باعتبارها حليفاً استراتيجياً؛
إذ تمثل ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في أفريقيا، وتعتمد عليها في
تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في منطقة الجنوب الأفريقي.
بالإضافة إلى ذلك تركز الولايات المتحدة على بعض المحاور الإقليمية ذات
الأهمية الاستراتيجية لتحقيق مصالحها في القارة الأفريقية، ومن أهم هذه المحاور:
1 - منطقة البحيرات العظمى: تغير الموقف الأمريكي من الأنظمة الحاكمة
في المنطقة مع أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات؛ حيث سعت الولايات المتحدة
إلى تحقيق هدفين أساسيين في المنطقة هما: إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية في
وسط أفريقيا، ومحاولة عزل نظام حكم الجبهة الإسلامية في السودان. ولذلك
عملت الولايات المتحدة على تدعيم وتعزيز روابطها العسكرية والاقتصادية مع
أوغندا بزعامة رئيسها موسيفيني التي اعترفت لها الولايات المتحدة بدور إقليمي
متميز، وساعدتها على لعب دور أكبر بكثير من إمكانياتها، ورواندا تحت حكم
الجبهة الوطنية التي تمثل الأقلية من التوتسي. وقد شملت هذه الروابط تقديم
مساعدات عسكرية للبلدين من خلال برنامج المبيعات العسكرية الخارجية التي
يديرها البنتاجون، وبرنامج المبيعات التجارية الخاصة، وبرنامج التعليم والتدريب
العسكري الدولي.
ومن جهة أخرى دعمت الولايات المتحدة موقف الحكومتين الرواندية
والأوغندية الداعم لتحالف قوى المعارضة في الكونغو الديمقراطية بقيادة لوران
كابيلا حتى استطاع كابيلا إسقاط نظام موبوتو عام 1997م، وشجعت التدخل
الأجنبي في شؤون الكونغو بحجة دعم حركة التحول الديمقراطي بها. وعندما
تراجع كابيلا عقب توليه السلطة عن وعوده للولايات المتحدة شجعت تمرداً عليه
تدعمه رواندا وأوغندا بهدف الإطاحة به؛ إلا أنه استطاع أن يحصل على مساندة
دول أخرى مثل زيمبابوي وأنجولا وناميبيا وهو ما وسع نطاق الصراع في منطقة
البحيرات العظمى بتحويل الحرب الأهلية في الكونغو إلى حرب إقليمية واسعة.
2 - القرن الأفريقي: أفضت التطورات التي شهدتها منطقة القرن الأفريقي
في أوائل التسعينيات إلى ظهور ترتيبات وأوضاع إقليمية جديدة؛ حيث انهار نظام
منجستو في أثيوبيا، ونظام سياد برى في الصومال، واستقلت إريتريا مما ساهم
في إعادة ترتيب ميزان القوى بين السودان وجاراتها. وقد حرصت الولايات
المتحدة في هذا الإطار على الاحتفاظ بعلاقات وطيدة مع النظم المجاورة للنظام
السوداني، وتأمين وجودها في المنطقة. فجاء التدخل الأمريكي في الصومال
والزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لتفقد أوضاع القوات
الأمريكية المرابطة في الصومال عام 1992م، وهو التدخل الذي أعطى للولايات
المتحدة خبرة سيئة أثرت على تدخلها العسكري المباشر في النزاعات الأفريقية فيما
بعد.
ومن ناحية أخرى تحتفظ الولايات المتحدة بعلاقات خاصة مع أثيوبيا وهي
علاقات لها بُعد تاريخي قديم ومعروف منذ العهد الإمبراطوري. ويأتي الاهتمام
الأمريكي بأثيوبيا في إطار النظر إلى قضية المياه كورقة ضغط يمكن إثارتها في
مواجهة الدبلوماسية المصرية، أو الترويج لمقولات حرب المياه في القارة الأفريقية.
كما يأتي هذا التحالف الأمريكي الأثيوبي في إطار استراتيجية حلف المحيط التي
تتبعها الولايات المتحدة والتي تهدف إلى إقامة تحالفات مع الدول والجماعات الإثنية
والدينية المعادية للعرب، ومحاصرة الأمن القومي العربي خاصة في امتداده
المصري والسوداني، وإحكام الطوق على المنطقة العربية واختراقها من خلال
محور أثيوبيا - إسرائيل - تركيا. وبذلك كان يبدو مع بداية التسعينيات أن
الولايات المتحدة تعدُّ أثيوبيا لدور إقليمي مركزي حتى تكون مرتكزاً لها في منطقة
البحر الأحمر [8] .
3 - الدور الأمريكي في الأزمة السودانية [9] : منذ وصول نظام الإنقاذ إلى
الحكم عام 1989م انتهجت الولايات المتحدة ضده سياسة المواجهة، وأعلنت إدانتها
لنظام الخرطوم لانقلابه على سلطة ديمقراطية منتخبة، واتهامه بانتهاك حقوق
الإنسان ومساندة الإرهاب، والمسؤولية عن استمرار الحرب الأهلية في الجنوب،
وإعاقة جهود الإغاثة الدولية في مناطق القتال. وقد استمرت هذه السياسة طوال
عهد كلينتون فوضعت الولايات المتحدة السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب
عام 1993م بعد ضغوط شديدة من الكونجرس، وعملت على خلق إطار إقليمي
معاد لحكومة الخرطوم شمل أوغندا وإريتريا وأثيوبيا، وقدمت دعمها السياسي
للتجمع الوطني المعارض الذي مثل الواجهة الأساسية للمعارضة وللجيش الشعبي
لتحرير السودان في الجنوب بزعامة جون جارانج.
ومن ناحية أخرى سعت الولايات المتحدة إلى تدويل القضية السودانية،
وأيدت علناً خطة الإيغاد (الهيئة الحكومية للتنمية في الشرق الأفريقي) التي تنص
على تأكيد حق أهل الجنوب في تقرير مصيرهم عبر استفتاء شعبي في حالة رفض
النظام السوداني إقامة دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية. كما رفضت الولايات
المتحدة على لسان وزيرة خارجيتها السابقة مادلين أولبرايت المبادرة المصرية
الليبية التي تقوم على التأكيد على وحدة السودان.
ومع وصول الإدارة الأمريكية الجديدة في الولايات المتحدة إلى السلطة سعت
الولايات المتحدة إلى تحسين علاقاتها بالسودان، وبدأت السودان تبدي حرصها على
التعاون الأمني مع الولايات المتحدة حتى قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد
ظهرت عدة مؤشرات تبرز التحول في السياسة الأمريكية تجاه السودان؛ فقد أصدر
مجلس الأمن برفع العقوبات التي فرضها على السودان منذ عام 1996م. وامتنعت
الولايات المتحدة عن التصويت وهو ما اعتبره البعض تعبيراً عن تقدير الولايات
المتحدة للتعاون الأمني مع الحكومة السودانية. كما عطلت الإدارة الأمريكية تشريعاً
أقره مجلس النواب بحظر تسجيل الشركات الأمريكية في البورصة الأمريكية إذا
شاركت في التنقيب عن النفط في السودان.
وأهم الخطوات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية الجديدة حيال السودان تمثل في
تعيين السيناتور السابق جون دانفورث كمبعوث رئاسي إلى السودان، وهو الذي
تمكنت الولايات المتحدة من خلاله في فترة قصيرة أن تؤثر في عدة تطورات على
الساحة السودانية بداية من توقيع اتفاق جبال النوبة، ودعم جهود مكافحة عمليات
الرق، وحتى الاتفاق الإطاري الأخير الذي وقعته الحكومة السودانية مع الحركة
الشعبية في كينيا (يوليو 2002م) والقائم أساساً على وثيقة أمريكية تعطي الجنوب
الحق في تقرير المصير بعد ست سنوات كفترة انتقالية.
وبذلك يمكن إجمال السياسة الأمريكية في القارة الأفريقية في عدة توجهات
رئيسية من أهمها التركيز على مناطق إقليمية معينة، واختيار دولة أو أكثر
لممارسة دور القيادة فيها، طرح قضايا معينة ووضعها على أجندة السياسة الأفريقية
للولايات المتحدة وعلى رأسها الإرهاب والجريمة الدولية، العمل على محاصرة
النظم غير الموالية والتي تدعم التطرف والإرهاب من وجهة النظر الأمريكية،
وتأمين وتعزيز فرص الاستثمار والتجارة في المنطقة؛ ولكن في ظل إطار من
المشروطية الاقتصادية والسياسية يسعى إلى فرض النمط الغربي للتنمية على الدول
الأفريقية.
* القوى الأوروبية وأفريقيا:
يرجع الارتباط الأوروبي بالقارة الأفريقية إلى عهود طويلة؛ فقد تمكنت
القوى الأوروبية من احتلال القارة وتقسيمها بعد مرحلة طويلة من الكشوف
الجغرافية، والمحاولات الفردية من قبل بعض الدول الأوروبية. وقد استطاعت
القوى الأوروبية أن تحافظ على مصالحها في القارة؛ فحتى في ظل نظام القطبية
الثنائية الذي تراجعت فيه أهمية ومكانة القوى الأوروبية التقليدية التي كانت تسيطر
على أفريقيا راعت الولايات المتحدة مصالح حلفائها الأوروبيين في مناطق نفوذهم
التقليدية في القارة، وسمحت لهم بالقيام بأدوار متزايدة في المواقف والأزمات
المختلفة، بل إن الدبلوماسية الأمريكية في تلك الفترة قامت على اعتبار القارة
الأفريقية مسؤولية خاصة للأوروبيين مقابل اعتراف الدول الأوروبية بمسؤولية
الولايات المتحدة الخاصة في أمريكا اللاتينية.
وفي ظل النظام العالمي الجديد في التسعينيات نشأت بيئة جديدة أثرت على
الطرفين الأوروبي والأفريقي، ومن ثم على شكل ومضمون العلاقات فيما بينهما؛
فقد وجدت الدول الأوروبية التي طالما احتفظت بمكانتها المتميزة في القارة الأفريقية
أنها أصبحت في مواجهة تحديات ومخاطر جديدة أهمها الهيمنة الأمريكية والمنافسة
الشديدة من جانب القوى الاقتصادية الجديدة مثل اليابان والصين وغيرهما. ولذلك
عملت الدول الأوروبية على تدعيم علاقاتها بالقارة الأفريقية على عدة مستويات
وفي عدة أبعاد؛ ففي إطار التعاون الجماعي يوجد عدة أطر للتعاون في الأبعاد
الاقتصادية والأمنية. فمن الناحية الاقتصادية تتعدد أطر التعاون، ومن أهمها:
- إطار اتفاقية لومي: وهو أحد أهم قنوات العلاقات متعددة الأطراف التي
تربط دول الاتحاد الأوروبي مع الدول الأفريقية جنوب الصحراء ودول المحيط
الهادي والكاريبي. وقد وُقِّع في إطارها أربع اتفاقيات بدأت الأولى عام 1975م
وضمت 46 دولة من دول أفريقيا والمحيط الهادي والكاريبي، وتوسعت العضوية
حتى ضمت حوالي 69 دولة في اتفاقية لومي الرابعة التي طبقت في الفترة من
1995-2000م.
وقد حرصت دول الاتحاد الأوروبي على تجديد الاتفاقية بعد انتهائها؛ حيث
صاغت اتفاقية جديدة هي اتفاقية كوتونو في يونيو 2000م.
واتفاقيات لومي هي أساساً اتفاقيات تنموية استطاعت الدول الأفريقية الاستفادة
منها سواء في النظام التجاري المعمول به، أو المعونات المالية الممنوحة لأغراض
التنمية. إلا أن الحوار بين دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول الأفريقية ودول
المحيط الهادي والكاريبي في الفترة التي سبقت إعلان اتفاقية كوتونو الأخيرة كشف
عن إدخال عناصر جديدة إلى اتفاقية التعاون بين الجانبين؛ حيث طرحت قضايا
الحوار السياسي والحكم الجيد وحل الصراعات كمبادئ أساسية للاتفاق الجديد،
وهي المبادئ التي أشارت إليها اتفاقية لومي الرابعة.
ومن الجدير بالذكر أن طرح الولايات المتحدة لقانون النمو والفرص في
أفريقيا السابق الإشارة إليه كان الغرض منه منافسة إطار اتفاقيات لومي مما يعد
مظهراً من مظاهر التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية في
أفريقيا.
- إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية: يلاحظ أن الدول الأوروبية في
تعاملها مع القارة الأفريقية عملت على فصل الشمال الأفريقي عن الجنوب الأفريقي؛
فإذا كان إطار اتفاقيات لومي قد تعامل مع دول أفريقيا جنوب الصحراء فإنها
شكلت إطاراً جديداً للتعامل مع دول الشمال الأفريقي؛ من خلال مشروع الشراكة
الأورومتوسطية.
وقد أسس مؤتمر برشلونة 1995م هذا الإطار تعبيراً عن وضع أساس جديد
للعلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط بما فيها دول شمال
أفريقيا. ويقوم هذا الأساس على شراكة اقتصادية وأمنية وسياسية. ففي المجال
الأمني أورد إعلان برشلونة خمسة مبادئ أساسية هي: حل المنازعات بالطرق
السلمية، الالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، نزع أسلحة الدمار الشامل،
مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، احترام مبدأ المساواة في السيادة وعدم التدخل
في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وفي المجال الاقتصادي أكد الإعلان على
أهمية تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة ومستدامة، وإقامة منطقة تجارة
حرة بشكل تدريجي حتى عام 2010م، والحوار بين الطرفين في قضايا الديون
والمساعدات.
ويعد هذا المشروع بدوره مثله كمثل الإطار الأول معبراً عن التنافس
الأوروبي الأمريكي في القارة. فتأييد الاتحاد الأوروبي لمشروع الشراكة الأوروبية
المتوسطية يصطدم مع تأييد الولايات المتحدة للمشروع الشرق أوسطي. كما أن
منطقة الشمال الأفريقي هي منطقة تنافس أمريكي فرنسي؛ حيث طرحت الولايات
المتحدة في يونيو 1998م مشروع شراكة اقتصادية أمريكية مغاربية مع دول
المغرب العربي الثلاث تمهيداً لإقامة منطقة للتجارة الحرة تتنافس بها مع العلاقات
الخاصة التي تربط الدول الأوروبية بهذه الدول [10] .
أما عن التعاون الجماعي على المستوى الأمني فقد سعت الدول الأوروبية بعد
مذابح رواندا إلى دعم الدبلوماسية الوقائية، وبحث إمكانية تشكيل قوات أفريقية
لحفظ السلام في إطار الدور الأساسي الذي يمكن أن تلعبه منظمة الوحدة الأفريقية.
وقد حاولت دول الاتحاد الأوروبي منع نشوب الصراعات في القارة الأفريقية
من خلال مشاركتها في عمليات الإنذار المبكر، والمشاركة في الدبلوماسية الوقائية،
والمشاركة في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام.
ومن أمثلة النزاعات التي حاولت دول الاتحاد الأوروبي التدخل لحلها الحرب
الأثيوبية الإريترية؛ حيث أرسل الاتحاد الأوروبي وفداً ثلاثياً يضم ممثلين عن
ألمانيا والنمسا وفنلندا إلى أديس أبابا في مهمة وساطة لمحاولة تهدئة الصراع بين
البلدين [11] .
وفي إطار العلاقات الخاصة التي تربط بين بعض الدول الأوروبية وأفريقيا
تجدر الإشارة بشيء من التفصيل إلى العلاقات الفرنسية الأفريقية وسياسة فرنسا في
أفريقيا.
* السياسة الفرنسية في أفريقيا [12] :
تعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على
الحركة والفعل في الساحة الأفريقية؛ حتى قيل إن أفريقيا تمثل أحد عوامل ثلاثة
لمكانة فرنسا الدولية بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن والقدرة النووية.
وقد حافظت فرنسا على علاقاتها بالدول الأفريقية التي استقلت عنها نتيجة
لسياسة تعاونية محكمة ودقيقة طبقتها مع هذه الدول في المجالات العسكرية
والاقتصادية والثقافية. ومنذ انتهاء الحرب الباردة تأثر النفوذ الفرنسي في أفريقيا
نتيجة عدة اعتبارات أهمها: انخفاض الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا لدى القوى
الغربية بصفة عامة، والنشاط الأمريكي المتزايد المنافس لفرنسا في القارة.
* المصالح الفرنسية في القارة الأفريقية:
تتشعب المصالح الفرنسية في القارة ما بين مصالح اقتصادية وسياسية
واستراتيجية أمنية. فمن الناحية الاقتصادية تتركز المصالح الفرنسية في القارة في
البحث عن أسواق لتصريف المنتجات والسلع الفرنسية المصنعة والحصول على
مواد أولية لتنمية الصناعات الفرنسية؛ خاصة أن فرنسا تعاني نقصاً في هذه المواد
داخل أراضيها.
وقد استطاعت فرنسا تدعيم وجودها الاقتصادي في القارة الأفريقية من خلال
العديد من الآليات ومن أهمها التجارة البينية؛ فما زالت فرنسا المستورد الأول
للمواد الخام والمصدر الأول للسلع المصنعة في بعض الدول الفرانكفونية،
والاستثمارات التي تعتبر من أهم الاستثمارات الأجنبية في بعض الدول الفرانكفونية
(كوت ديفوار والجابون) ، وإنشاء شبكة مواصلات واسعة تربط بين الأجزاء
المختلفة للقارة الأفريقية وبين هذه الأجزاء وفرنسا، بالإضافة إلى منطقة الفرنك
الفرنسي التي ترتبط بها ست عشرة دولة من غرب ووسط أفريقيا، وتتيح لمواطني
هذه الدول التعامل بالعملة الفرنسية.
وكانت فرنسا في فترة الحرب الباردة تركز على تحقيق هذا الهدف؛ إذ
أدركت أن المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سيكون مجالها الرئيسي
أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، ومن ثم يصبح المجال الدولي الوحيد الذي يمكن
أن يظل مفتوحاً أمام النفوذ الفرنسي بعيداً عن المنافسة مع الدولتين العظميين هو
القارة الأفريقية. إلا أنه مع انتهاء الحرب الباردة تراجعت الأهمية الاقتصادية
لأفريقيا لدى فرنسا، ولم تعد أفريقيا تمثل اهتماماً اقتصادياً أولياً حتى أصبحت
أفريقيا تعتمد على أقل من 5% من نسبة التجارة الفرنسية؛ كما لم تعد تستقبل سوى
أقل من 20% من حجم الاستثمارات الفرنسية المباشرة في العالم.
ومن الناحية السياسية تهدف فرنسا إلى تحويل الفرانكفونية من تجمع ثقافي
إلى حركة سياسية لإنشاء تجمع سياسي فرانكفوني في أفريقيا له صوت سياسي
يؤخذ به في الساحة الدولية، وهو ما يعني إنشاء تيار سياسي مناهض للتيار
الأنجلوسكسوني- الأمريكي تجتمع تحت مظلته جميع الدول الهادفة إلى الحد من
الهيمنة الأمريكية. كما تسعى فرنسا في هذا الإطار إلى الحفاظ على استقرار
الأنظمة الأفريقية.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف السياسي توظف فرنسا أدوات اقتصادية وثقافية؛
فهي تسعى إلى إنشاء شبكات للتعاون والتبادل الاقتصادي والتكنولوجي لدعم التنمية
في الدول الفرانكفونية. كما تتميز فرنسا مقارنة بالدول الغربية الأخرى في استخدام
الأداة الثقافية معتمدة في ذلك على اللغة المشتركة؛ فاللغة الفرنسية هي السائدة في
دول غرب ووسط القارة، والمؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية المنتشرة في
الأرجاء المختلفة للقارة بالإضافة إلى إطار المنظمة الفرانكفونية التي تضم كافة
الدول الناطقة بالفرنسية ومنها الدول الأفريقية والتي توسعت لتضم دولاً غير
فرانكفونية.
ومن الناحية العسكرية والأمنية كانت فرنسا في فترة الحرب الباردة تهدف إلى
منع انتشار النفوذ السوفييتي في القارة أو الحد من انتشاره. وبعد انتهاء الحرب
الباردة أصبح الخطر الرئيسي الذي يتهدد المصالح الفرنسية في أفريقيا هو الولايات
المتحدة التي تحاول ان تدعم تواجدها بالقارة، والإسلام السياسي الذي أخذ يتزايد
في التسعينيات في القارة الأفريقية على أطراف الصحراء وفي القرن الأفريقي
وخاصة أن نسبة المسلمين في بعض الدول الفرانكفونية نسبة مرتفعة. كما تسعى
فرنسا إلى السيطرة على المواقع الاستراتيجية في بعض الدول الأفريقية. فقد
اهتمت على سبيل المثال بإنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي لمراقبة المدخل الجنوبي
للبحر الأحمر.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف تعتمد فرنسا على عدة آليات أهمها القواعد
العسكرية التي أنشأتها في ست دول أفريقية [13] ، قوة التدخل السريع التي أنشأتها
فرنسا وفقاً لخطة عسكرية جديدة اعتمدتها عام 1993م، وتوجد هذه الآلية في
جنوب غرب فرنسا وتستطيع أن تتدخل في وقت قصير في كل أنحاء القارة، وعقد
اتفاقيات الدفاع العسكري المشترك مع عدة دول (منها الكاميرون، أفريقيا الوسطى،
جيبوتي، كوت ديفوار، وغيرها) ، واتفاقيات التعاون والمعونة الفنية مع عدة
دول (منها بنين، بوركينافاسو، بوروندي، الكونغو، غينيا، السنغال، توجو،
وغيرها) . كما أنشأت فرنسا عام 1997م برنامجاً لدعم المؤسسات والتجمعات
الإقليمية لمساعدتها على حفاظ الأمن في القارة.
ومن أمثلة الحالات التي شهدت تدخلاً عسكرياً فرنسياً في القارة التدخل
الفرنسي في رواندا عقب مذابح 1994م لصالح حكومة الهوتو، ومساندة الرئيس
التشادي إدريس ديبي بقوات خاصة ضد المظاهرات الشعبية التي اندلعت عام
1996م. كما نظمت فرنسا عام 1998م في إطار برنامج التعاون مع المنظمات
الإقليمية في أفريقيا مناورات عسكرية بالسنغال بالتعاون مع الجماعة الاقتصادية
لدول الغرب الأفريقي، وأخرى في الجابون بالتعاون مع الجماعة الاقتصادية لدول
الوسط الأفريقي.
* دوائر حركة السياسة الفرنسية في أفريقيا:
تسعى فرنسا في استراتيجيتها الجديدة في القارة إلى توسيع شبكة علاقاتها
بحيث تتخطى مناطق نفوذها التقليدية إلى دول أفريقية جديدة كانت تابعة للنفوذ
البريطاني والبرتغالي والبلجيكي. وبصفة عامة فإن فرنسا تهتم بوجودها في نفس
مناطق الاهتمام الأمريكي؛ ولذلك تحتدم المنافسة بين البلدين في مناطق البحيرات
العظمى والقرن الأفريقي والغرب الأفريقي.
ففي منطقة البحيرات العظمى ساندت فرنسا نظام الرئيس موبوتو سيسي سيكو
في زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) في مواجهة كابيلا الذي دعمته الولايات
المتحدة. وكان انهيار نظام موبوتو دافعاً لظهور العديد من الاتجاهات التي أكدت
قرب نهاية النفوذ الفرنسي في أفريقيا، وتدخلت عسكرياً في رواندا عقب المذابح
الإثنية عام 1994م لصالح حكومة الهوتو.
وفي السودان نشأت المنافسة الفرنسية للولايات المتحدة الأمريكية من خلال
مساندة فرنسا لنظام البشير في السودان، والذي كان العدو الأول للولايات المتحدة
في المنطقة. وقد ساندت فرنسا النظام الإسلامي في السودان لعدة أسباب أهمها
الرغبة في إيجاد مرتكز لها في منطقة البحيرات العظمى بعد أن تراجع نفوذها في
هذه المنطقة، واستخدام فرنسا لحكومة الإنقاذ - خاصة في فترة وجود حسن
الترابي في الحكم في الوساطة بين الجماعات الإسلامية في الجزائر وفرنسا التي
كانت تسبب لفرنسا الكثير من المشكلات الأمنية والاجتماعية في الداخل بالإضافة
إلى تدفق البترول في بحر الغزال واحتمالات وجوده في الشمال أيضاً.
وقد استطاعت فرنسا بمساندتها لحكومة الإنقاذ أن تؤجل نسبياً تطبيق الخطة
الأمريكية؛ إلا أن الوجود الأمريكي في السودان في الفترة الماضية أصبح مكثفاً مع
تراجع الدور الفرنسي الذي اقتصر في تصريحات دبلوماسية بشجب الحرب وتأييد
مبادرة الإيغاد.
وفي منطقة القرن الأفريقي تتنافس فرنسا مع الولايات المتحدة من خلال
نفوذها في جيبوتي، وهي أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في أفريقيا، بالإضافة إلى
العلاقات الطيبة التي تربطها بنظام أسياسي أفورقي في إريتريا؛ حيث تدعمها
فرنسا باستثمارات ومساعدات فنية ومالية. كما كان لها موقف إيجابي مع جبهة
التحرير الإريترية منذ عام 1982م. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن فرنسا
عضو في نادي أصدقاء الإيغاد.
وفي منطقة الغرب الأفريقي يوجد احتكار فرنسي للأسواق في دول غرب
أفريقيا الفرانكفونية تحاول الولايات المتحدة منافسته. كما يوجد تنافس أمريكي
فرنسي في منطقة الجنوب الأفريقي. وعندما تحفظت جنوب أفريقيا على مبدأ
«التبادل التجاري وليس المعونات» الذي أيدته الولايات المتحدة استغلت فرنسا
هذا الموقف ولوحت باستعدادها لتقديم برامج للتعاون الفرنسي الأفريقي تعتمد في
جانب منها على المساعدات الاقتصادية والمالية.
* الخاتمة:
يتضح من العرض السابق أنه مع منتصف التسعينيات ساد التنافس على القارة
الأفريقية بين الأقطاب المتعددة للنظام الاقتصادي الدولي نتيجة تزايد فرص استغلال
القارة استثمارياً وتجارياً. ورغم احتدام التنافس بين الولايات المتحدة والقوى
الأوروبية (خاصة فرنسا) على الساحة الأفريقية كما اتضح من خلال سياستهما
وردود أفعالهما تجاه أحداث القارة، فإن هناك من المحللين السياسيين من يتحفظ
على هذا التنافس بعدة اعتبارات منها أن القوى الأوروبية والولايات المتحدة حلفاء،
ولن يتصارع بعضهم مع بعض بشأن طموحات كل منهما على الساحة الأفريقية،
كما يشير البعض إلى إحياء النمط القديم في السياسة الأمريكية الذي يؤكد على أن
تكون للولايات المتحدة سياستها الخاصة في أفريقيا، ولكن في إطار التنسيق
والتعاون مع القوى الأوروبية ذات الميراث الاستعماري والخبرة الطويلة.
ولكن التنافس الدولي لا يقتصر على القوى الأوروبية والأمريكية فقط؛ فهناك
قوى جديدة صاعدة في أفريقيا من أهمها اليابان والصين. وقد تطورت سياسات تلك
الدول تماشياً مع الأوضاع الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة. فاليابان انحصر
دورها في البداية على تقديم المساعدات إلا أنها مع أواخر الثمانينيات أعلنت سياسة
جديدة تقوم على محاور ثلاثة: المساعدات، والتبادل الثقافي، وحفظ السلام.
وعملت اليابان على دعم التنمية في القارة الأفريقية وإثارة انتباه المجتمع الدولي
تجاه أفريقيا بعد الاتجاه إلى تهميشها؛ وذلك بدعوتها لعقد مؤتمر طوكيو الدولي
الأول لتنمية أفريقيا - المعروف باسم تيكاد - عام 1993م ثم عقد المؤتمر الثاني
عام 1998م. وبصفة عامة تركز اليابان في علاقتها مع أفريقيا على الجانب
الاقتصادي مستخدمة في ذلك عدة أدوات أهمها المساعدات والاستثمارات والعلاقات
التجارية. وتعد اليابان الدولة الأولى المانحة للمساعدات في أفريقيا منذ بداية
التسعينيات.
أما بالنسبة للصين فقد تحول اهتمامها بالقارة من دعم حركات التحرير في
أفريقيا في الخمسينيات إلى تبني سياسة ترتكز على المصالح العامة والاستراتيجية
بعيدة المدى لكلا الطرفين. كما تطورت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين من
الاعتماد على قناة واحدة في صورة مساعدات صينية حكومية إلى تعاون متبادل في
صورة مشروعات مشتركة، وقروض بفائدة منخفضة بالإضافة إلى تطور العلاقات
في مجالات الثقافة والتعليم.
ويعد هذا التنافس الذي تعددت أقطابه دليلاً على عودة الاهتمام بالقارة
الأفريقية؛ وهو ما تجسد في الفترة الأخيرة في دعم الدول الصناعية الكبرى
لمشروع الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا (المعروف باسم نيباد) ولكن لا يزال
السؤال مطروحاً: هل مشروع التنمية الجديد يعبر بالفعل عن شراكة جديدة، أم أنه
مجرد مؤشر جديد على التنافس الدولي في أفريقيا، ومحاولة لفرض النموذج
الغربي للتنمية على الدول الأفريقية؟
__________
(*) معيدة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(1) حمدي عبد الرحمن، قضايا في النظم السياسية الأفريقية، (القاهرة: مركز دراسات المستقبل الأفريقي، 1998م) ، ص 51 - 55.
(2) انظر في تفصيل ذلك: نيفين حليم، (التنافس الدولي لكسب النفوذ في أفريقيا) ، في: صلاح سالم (محرر) ، العرب وأفريقيا فيما بعد الحرب الباردة، (جامعة القاهرة: مركز دراسات وبحوث الدول النامية، 2000م) ، ص 49 - 53، وانظر في تفصيل سياسات المشروطية: راوية توفيق، المشروطية السياسية والتحول الديمقراطي في أفريقيا، (جامعة القاهرة: برنامج الدراسات المصرية الأفريقية، سلسلة دراسات مصرية أفريقية، العدد 6، مارس 2002م) .
(3) حمدي عبد الرحمن، السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا من العزلة إلى الشراكة، السياسة الدولية، العدد 144، يناير 2001م، ص 192 - 193.
(4) نيفين حليم، مرجع سابق، ص 54 - 55.
(5) تم التصديق على هذا القانون في مايو 2001م ولم ينطبق حتى الآن سوى على خمس دول من مجموع خمس وثلاثين دولة يخاطبهم هذا القانون، انظر في تفصيل ذلك:
Charles Cobb, " Bush unveils new US initiative to boost investment " , http://allafrica.com, stories , 3/11/2001.
(6) راوية توفيق، مرجع سابق، ص 13.
(7) حمدي عبد الرحمن، السياسة الأمريكية، مرجع سابق، ص 194.
(8) انظر في تفصيل ذلك: حمدي عبد الرحمن، المرجع السابق، ص 195، ونيفين حليم، مرجع سابق، ص 75 - 77.
(9) انظر في تفصيل ذلك: هاني رسلان، أبعاد التغير في السياسة الأمريكية تجاه السودان، السياسة الدولية، العدد 149، يوليو 2002م، ص 132 - 135، وحمدي عبد الرحمن، السودان ومستقبل التوازن الإقليمي في القرن الأفريقي، السياسة الدولية، العدد 147، يناير 2001م، ص 111 - 113.
(10) انظر في تفصيل العلاقات الأفريقية الأوروبية: محمود أبو العينين، العلاقات الأوروبية الأفريقية بعد انتهاء الحرب الباردة، السياسة الدولية، العدد 140، إبريل 2000م، ص 8 - 32.
(11) انظر: نيفين حليم، مرجع سابق، ص 78 - 79.
(12) انظر في تفصيل السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا: إجلال رأفت، السياسة الفرنسية في أفريقيا جنوب الصحراء، السياسة الدولية، العدد 145، يوليو 2001 م، ص 8 - 23.
(13) كان عدد هذه القواعد حوالي مائة قاعدة عام 1960م، وقد تم تخفيضها نتيجة ارتفاع التكلفة، وتقتصر حالياً على ست قواعد في السنغال، كوت ديفوار، الجابون، تشاد، جيبوتي، الكاميرون.(183/84)
المسلمون والعالم
ملف العلاقات الجزائرية الفرنسية
بيننا وبين فرنسا جبال من الجماجم
يحيى أبو زكريا [*]
عندما قام الرئيس الجزائري الأسبق (هواري بومدين) بتأميم المحروقات
قاطعت فرنسا البترول الجزائري وأسمته: (البترول الأحمر) عندها قال بومدين
لدى سؤاله عن العلاقات الجزائرية الفرنسية: «بيننا وبين فرنسا أنهار من الدماء
وجبال من الجماجم» . وساعتها كان عبد العزيز بوتفليقة وزيراً للخارجية، وكان
مقتنعاً بنظرية بومدين بشأن الطلاق الأبدي مع عدوة الأمس فرنسا. واليوم وعندما
أصبح عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للدولة الجزائرية تخلى عن نظرية جبال الجماجم
وأنهار الدماء، وتبنى نظرية المصالحة التاريخية مع من قتل مليوني جزائري في
ظرف سبع سنوات. ألا يدل ذلك على مدى التغيرات التي عرفتها الجزائر التي ما
زالت تبحث عن ذاتها ودورها؟ وإذا كانت المصالحة الوطنية في الداخل الجزائري
ما زالت معلقة فكيف يبحث عنها بوتفليقة في باريس؟
لا يمكن على الإطلاق وصف العلاقات الجزائرية الفرنسية بالطبيعية؛ إذ منذ
استقلال الجزائر في الخامس من يوليو تموز 1962م، والعلاقات بين البلدين تمر
بحالة انسداد تارة وانفتاح تارة أخرى؛ والمفارقة أنّه رغم هذا التوتر في العلاقات
الثنائية فقد ظلت باريس سيدة الموقف اقتصادياً وثقافياً وأحياناً سياسياً في الجزائر.
ويُجمِع المراقبون كما يجمع المؤرخون أن فرنسا هي وراء هذا التوتر؛ لأنّه لا
يمكن بأي حال من الأحوال نسيان الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر منذ
[1830م وإلى 1962م] حيث مارست فرنسا خلالها كل أنواع المسخ والتقتيل
والتعذيب وطمس الهوية وسلب خيرات هذا البلد المسلم، وكل هذه الصور وغيرها
لم يكن في وسع الجزائريين نسيانها؛ ففرنسا في نظرهم هي الدولة التي عطّلت
دورهم الحضاري على مدى 132 سنة. وبعد استقلال الجزائر ظلّت فرنسا تنظر
إلى الجزائر على أنها ولاية فرنسية، ولم تعترف حتى بالحرب الجزائرية الفرنسية؛
إذ إن ذلك أي هذا الاعتراف جرى في مقر الجمعية العمومية البرلمان في بداية
سنة 2000م، وبهذا المنطق الاستعماري نفسه تعاملت فرنسا مع الجزائر الفتية
المستقلة؛ فقد واصلت احتكارها لصناعة الطاقة - الغاز والنفط - تنقيباً واستخراجاً
وتوزيعاً وتسويقاً، كما كانت توفر الحماية للغتها التي كانت نافذة في الإدارة
والمدرسة والجامعة، وفوق هذا وذاك كانت تفرض على الإدارة الجزائرية
(تكنوقراطيين) جزائريين درسوا في المعاهد والجامعات الفرنسية وشكلوا فيما بعد
نواة ما يعرف بحزب فرنسا في الجزائر المتغلغل بقوة في الإدارة والمؤسسة
العسكرية. وإذا كانت علاقة الجزائريين بفرنسا أثناء احتلال هذه الأخيرة للجزائر
علاقة حرب ونضال بين قوة غاشمة ومستضعفين يسعون إلى الحرية؛ فإن
العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ 1962م وإلى الآن هي أشبه بفسيفساء كثيرة
الألوان والالتواءات.
فمنذ 1962م تاريخ استقلال الجزائر توالى على الحكم في الجزائر سبع
رؤساء هم على التوالي: (أحمد بن بلة) 1962 - 1965م، (هواري بومدين)
1965 - 1979م، (الشاذلي بن جديد) 1979 - 1992م، (محمد بوضياف)
جانفي 1992م جوان 1992م، (علي كافي) 1992 - 1994م، (اليامين
زروال) 1994 - 1999م، (عبد العزيز بوتفليقة) 1999م، إلى يومنا هذا.
وكان الحكم في فرنسا بدوره موزعاً بين اليمين واليسار، وكانت لفرنسا سياسات
متنوعة تجاه الجزائر وحسب الرؤساء الذين تناوبوا على الحكم في الجزائر.
* عهد بن بلة ومحاولة التمرد:
في عهد (بن بلة) حاولت فرنسا التمكين لمصالحها الاقتصادية والثقافية
والسياسية، وحاول (بن بلة) بدوره سحب هذه الأوراق من يد فرنسا؛ وذلك من
خلال التحضير لوضع قانون للتعريب جرت مناقشته في مجلس الشعب، ولكن
للأسف تمكنت القوى الموالية لثقافة المستعمر من تعطيل المشروع الذي استمرّ
معطّلاً إلى أواخر التسعينيات، وطلب (أحمد بن بلة) من وزير دفاعه هواري
بومدين أن يُقيل من الجيش الجزائري كل الضبّاط الجزائريين الذين كانوا في
الجيش الفرنسي وانضموا قبل الاستقلال وبعده بقليل إلى الجيش الجزائري، لكن
هذا لم يتحقق، وكانت حجة بومدين أنّه في حاجة إلى خبراتهم. وأطيح بـ (أحمد
بن بلة) ونعمة الطاقة ترفل فيها فرنسا دون غيرها.
* عهد بومدين والتأميم:
وعندما استلم (هواري بومدين) الحكم بدأت العلاقات الجزائرية الفرنسية
تدخل مرحلة الخطوط الحمراء وخصوصاً عندما أقدم (هواري بومدين) على تأميم
قطاع المحروقات، وخرجت فرنسا صفر اليدين من نعمة الطاقة الجزائرية،
وساعتها لجأت فرنسا إلى مقاطعة شراء النفط الجزائري الذي كانت تسميه:
(البترول الأحمر) وحضّت حلفاءها في الغرب على عدم شراء هذا البترول
الأحمر، وتصاعد الموقف الأمني بين الدولتين حيث كان (محمد بوديا)
المناضل الجزائري السابق والمقيم في باريس يقوم مع (كارلوس) المشهور عالمياً
بملاحقة أهداف عبرية في العواصم الغربية وعلى الأرض الفرنسية على وجه
التحديد، وهو الأمر الذي فهمت منه باريس بأنه حرب جزائرية على أرضها،
فقامت أجهزتها الأمنية بأشياء مماثلة على الأرض الجزائرية؛ حيث قام رجال
مخابرات فرنسيون بتفجير مبنى جريدة المجاهد الأسبوعي التابعة للحزب الحاكم
آنذاك (حزب جبهة التحرير الوطني) ، وشهدت العلاقات الثنائية بين البلدين
تراجعاً وخصوصاً بعد توقيع عقد لبيع النفط الجزائري لشركة البازو الأمريكية ولمدة
25 سنة، وربما هذا ما دفع (هواري بومدين) إلى القول لدى سؤاله عن العلاقات
الجزائرية الفرنسية: إنّه بيننا وبين فرنسا أنهار من الدماء وجبال من الجماجم.
* عهد بن جديد وسر مكالمة ميتران:
عندما وصل الشاذلي بن جديد إلى السلطة كانت موازين القوة في دوائر الحكم
قد رجحت كلية لصالح التيار الفرانكفوني الذي عمل أول ما عمل على إعادة
تصحيح العلاقة مع باريس، وكانت النتيجة أن قام الشاذلي بن جديد بزيارة باريس
ولأول مرة في تاريخ الجزائر المعاصرة؛ حيث كان ينص العرف السياسي
الجزائري غير المكتوب أن لا يقوم الرئيس الجزائري بأي زيارة إلى فرنسا العدوة
التقليدية للجزائر. وكان رضا مالك - أحد كبار المسؤولين والفرانكفونيين في آن
واحد الذي اصطحبه معه عبد العزيز بوتفليقة في زيارته إلى باريس رغم أنه لا
يتمتع بأي منصب سياسي رسمي - قد كتب يدعو إلى ضرورة طي صفحة الماضي
وقلب الظهر للثورة الجزائرية. وهذا التألق في العلاقات الجزائرية الفرنسية الذي
استمر على امتداد الحقبة الشاذلية سرعان ما خفت بعد إقالة الشاذلي بن جديد الذي
طلب منه فرنسوا ميتيران شخصياً وعبر مكالمة هاتفية إلغاء الانتخابات التي فازت
بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وكان له ما أراد، وهذا ما كشف عنه مؤخراً وزير
الدفاع السابق خالد نزار.
* عهد بوضياف والتسلل الأمريكي:
بعد تولي محمد بوضياف الحكم كانت الجزائر قد دخلت مرحلة الفتنة الكبرى،
واستمر وضعها الأمني مضطرباً في عهد علي كافي واليامين زروال، وكانت
باريس آنذاك تراقب الموقف وتشاهد بانزعاج التسلل الأمريكي إلى ملعبها القديم،
وانتقلت الفتنة الجزائرية إلى أراضيها؛ حيث تكهنت الصحف الفرنسية بأن هذه
الأعمال الأمنية هي من وحي المخابرات الجزائرية والغرض منها جرّ فرنسا إلى
الحرب الدائرة في الجزائر ودعم الحكم الجزائري.
والمفارقة أنه رغم مشهد التوتر في العلاقات الجزائرية الفرنسية فإن فرنسا
حافظت على قوة نفوذها الاقتصادي والثقافي والسياسي؛ وذلك من خلال الفئة
الفرانكفونية التي قدمت لفرنسا أعظم الخدمات، ولعلها الفئة التي أشار اليها الجنرال
شارل ديغول بقوله وهو يغادر الجزائر أثناء استقلال الجزائر أنه ترك في الجزائر
بذوراً ستينع بعد حين، وفي موضع آخر قال: سأعمل على أن تنتهي الجزائر
بالضربة القاضية بعد ثلاثين سنة، وبالفعل بعد ثلاثين سنة من عام 1962م دخلت
الجزائر مرحلة السقوط بالضربة القاضية.
* عهد بوتفليقة والمرحلة الجديدة:
وبوصول عبد العزيز بوتفليقة إلى سدّة صناعة القرار السياسي كانت الجزائر
قد دخلت مرحلة جديدة يحاول بوتفليقة من خلالها الانفتاح على عواصم القرار في
الغرب لمساعدته في المجال الاقتصادي وفي المجال السياسي والأمني.
وقد لجأ بوتفليقة إلى خطة ذكية لتدشين التقارب الفرنسي الجزائري؛ فقد ألمح
إلى أن الجزائر قد تخرج من تحت العباءة الفرنسية بتكثيف الزيارات الرسمية
للمسؤولين الأمريكيين إلى الجزائر، وإجراء مناورات عسكرية بين القوات
الجزائرية والأمريكية وهو ما أقلق باريس وجعلها تعيد حساباتها في علاقاتها مع
الجزائر صيانة لمصالحها الاستراتيجية والسياسية والثقافية والاقتصادية.
ويبقى القول إن الزيارة التاريخية لعبد العزيز بوتفليقة إلى باريس وزيارة
الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى الجزائر لن تلغي بين عشية وضحاها كل الغيوم
المتراكمة في سماء العلاقات الثنائية بين البلدين، وما زالت هناك أشواط قبل تحقُّق
ما اسماه بوتفليقة بالمصالحة التاريخية بين الجزائر وفرنسا.
ورغم أنّ بوتفليقة حمل لواء المصالحة إلا أنّ باريس ما زالت تشن حملة على
الجزائر مثيرة ورقة الجيش تارة ودوره في المجازر كل المجازر التي عرفتها
الجزائر، وتارة أخرى تثير الورقة القبائلية، وتطالب بتمكين منطقة القبائل من
حكم ذاتي وتمزيق الجغرافيا الجزائرية التي وحدتها دماء مليونين من شهداء
الجزائر.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(183/94)
المسلمون والعالم
تحضير عملية تغيير الهوية
بعد التفكيك السياسي في الصومال
إبراهيم عبد الله محمد [*]
تكاثرت التصريحات الأمريكية حول اتهام الصومال باحتضان أعضاء من
القاعدة وإيوائهم؛ حتى ملأت دنيا القرن الإفريقي صخباً إعلامياً متواصلاً، وخاصة
أنها تصدر من مختلف المسؤولين في الإدارات السياسية والإعلامية والعسكرية
الأمريكية، وكأن الصومال شارك عملياً ومباشرة في الزلزال الذي هز مدينتي
واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وذلك في سياق نبش
كل الملفات التاريخية ذات العلاقة بالاشتباكات الدامية التي جرت بين القوات
الأمريكية وسكان (مقديشو) بقيادة الجنرال (محمد فارح عيديد) عام 1993م،
وقراءة المعلومات والمعطيات الميدانية ذات التوثيق المشبوه والمزعوم من قِبَل ما
يسمى (بالمعارضة الصومالية) .
ويرى المراقبون في الصومال أن التصعيد الأميركي ضد الصومال بحجة
محاربة الإرهاب؛ يرمي إلى تحقيق أهداف أهمها إرادة الانتقام لجنودها الذين
سقطوا في مقديشو، والاطلاع على حجم التيار الأصولي في الصومال، ومن ثم
فقد رتبت الحكومة الصومالية بمهارة أفكارها وأوراقها في ثلاثة مسارات متناسقة
ومتكاملة ذات دلالات مفحمة:
أولاً: بدأت باستضافة الوفد الأمريكي الذي كان من بين أعضائه المسؤول
عن الملف الصومالي في السفارة الأمريكية في (نيروبي) .
ثانياً: إتاحة الفرصة للأسطول الأمريكي لمتابعة ومراقبة حركة السفن الداخلة
والخارجة في المياه الإقليمية والموانئ الصومالية، كتأكيد واضح بأن الصومال يقف
في صدارة القوى الدولية التي شجبت واستنكرت الهجمات في نيويورك وواشنطن،
وباعتبار الصومال البلد الإفريقي الأول الذي يواجه منذ 10 سنوات أعمال إرهاب
أمنية، وإفقار اقتصادي، وانقسام سياسي داخلياً وإقليمياً.
ثم ثالثاً: إفهام الأمريكيين - انطباعاً لا تلقيناً - أن الأصولية الإسلامية التي
يتردد ذكرها في إعلام ما يسمى (المعارضة الصومالية) - والمدفوعة من
الخارج - في سبيل التشهير والتسويق لفكرة وجود قواعد إرهابية في
(مقديشو، وبوصاصو) ؛ إنما هي جزء من الإرث الوطني والأصالة الصومالية
التي لها عمقها التاريخي في الآباء والأجداد، وسيبقى لها جذورها في الأبناء والأحفاد
كباقي الأصوليات في الأديان المختلفة؛ بما فيها النصرانية واليهودية والهندوسية
والبوذية؛ إذ لم يعد مقبولاً ولا مسلَّماً في العالمين العربي والإسلامي تحميل نعوت
التطرف والإرهاب على الأصولية الإسلامية فقط وتبرئة ساحات بقية الأصوليات
الأخرى؛ إضافة إلى أن نتائج الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية والفكرية
والعسكرية، والتي تهدف إلى تهميش دور العالم الثالث وتطويق حضور كفاياته في
الأصعدة المذكورة؛ تعادل وتماثل أضرار التطرف والإرهاب من حيث إلغاء حقوق
هذا العالم النامي وكرامته وسيادته.
وفي إطار جهود الحكومة الانتقالية الصومالية لإقناع الحكومة الأمريكية
بالصدق في خلو الصومال من رجال القاعدة؛ أصبح الصومال حريصاً على رؤية
دور أمريكي إيجابي في المنطقة ينضم إلى دور الدول المعترفة بالحكومة الانتقالية،
ويقيم معها علاقات الصداقة والتعاون، ويفسح المجال أمام عودة سفراء الدول التي
كانت لها علاقات دبلوماسية مع الصومال قبل الانهيار، وذلك في سبيل عودة جميع
أقاليم الصومال إلى الالتئام تحت الحكومة الانتقالية اجتثاثاً لجذور البؤس والانشقاق،
وإنهاءً لدواعي العنف والحروب والتشرذم السياسي باسم المعارضة التي تمارس
لعبة (الإرهاب والغزاة) ؛ من حيث إرعاب الصوماليين في أمنهم وسيادتهم وإثارة
القلاقل في الحدود الإقليمية، ولكن على الرغم من هذه الجهود يظل الموقف
الأمريكي يرفع وتيرة التصعيد والتهديد؛ تتجاذبه المخاوف والشكوك والتردد بين
القراءة الإثيوبية للوضع الصومالي، والتي ترسم واقعاً إسلامياً مخيفاً ذا علاقة
بالإرهاب المزعوم، وبين الصورة الحقيقية لهذه القوة التي لا تزيد عن كونها وجود
هوية وثقافة وعقيدة وتاريخ، وليس وجوداً حزبياً ولا ثورياً ولا سياسياً؛ عقب أن
تخلى الاتحاد عن حمل السلاح منذ منتصف التسعينيات؛ لتأكيد اتجاهه نحو
الإصلاح الاجتماعي، والمساهمة في حل مشكلات الإنسان الصومالي، وابتعاده
عن مظان الاتهام بالتطرف.
وقد اعترف المسؤول الأمريكي عن شؤون القارة الإفريقية في تصريح له في
7/2/2002م بوجود هذا الاتجاه الإصلاحي، وأن شباب الاتحاد الإسلامي في
الصومال انتشر انتشاراً اجتماعياً مهنياً وثقافياً، ولكنه على الرغم من ذلك رأى في
مجرد وجود هذه القوة الوطنية الإسلامية في الصومال واتجاهها الجديد تفريخاً
للعناصر التي سماها بالإرهابية وتهديداً لأمريكا، ومن ثم دعا إلى القضاء عليها؛
مما لم يدع مجالاً للشك في أن الولايات المتحدة تتبنى الغزو الإثيوبي للصومال،
وتتحين الفرص لإعلان الحرب الدينية على العرب والمسلمين؛ لا لأنها تخاف من
أفراد إسلاميين فقراء يعيشون في مجاهل قرى الصومال، ولا مقدرة لهم على
تغطية هموهم الاجتماعية والزراعية والصحية، وإصلاح شؤونهم التعليمية
والاقتصادية والأمنية؛ بل لأنها تؤمن بأن تنحية الإسلام بوصفه عقيدة وهوية
وطاقة قادرة على التحدي عن مراكز القيادة والريادة للحضارة العالمية؛ يزيد من
تعزيز وتثبيت مشروعها لجعل القرن الحالي مادياً وفكرياً وسياسياً قرناً أمريكياً
بدون منازع استراتيجياً وعالمياً، ولأنها تريد تصفية النهضة العربية في الصومال
بوصفها انتماء وثقافة ونضالاً مرحلياً وإقليمياً.
من هنا نرى أن تصريحات المسؤول الأمريكي عن شؤون القارة الإفريقية
جاءت خالية من أي مشاعر إنسانية أو حضارية تتعاطف مع الوضع الصومالي،
وتتضامن مع الجهد الدولي الساعي إلى إكمال عملية المصالحة في الصومال؛
لتكريس قيم العدل والحياد والوساطة والتسوية بين الصومال وإثيوبيا للقضاء على
بواعث الإرهاب؛ مما يعطي انطباعاً بأن الموقف الإثيوبي المتراجع عن معطيات
الاعتراف والمساندة للمصالحة الصومالية التي تجسدت بحضور رئيس وزراء
إثيوبيا حفل اختتام المصالحة في جيبوتي عام 2000م، والمتحول إلى انتهاز أي
مسلك سياسي وعسكري ودبلوماسي وإعلامي يؤدي إلى احتواء نتائج مؤتمر
جيبوتي؛ هو موقف يستند إلى الموقف الأمريكي السلبي نحو الاعتراف بالحكومة
الصومالية، ويستأنس بهذا الموقف كغطاء سياسي واقتصادي أمريكي قائم تحت
شعار مواجهة الإرهاب؛ الأمر الذي بات يرفع معنويات النظام الإثيوبي، ويزيد من
عزمه عندما يسمع أو يطلع على تصريحات ذلك المسؤول الداعي إلى حماية
دول جوار الصومال من الإرهاب الإسلامي؛ مع أن (لغة الحماية) التي تطرب
وتسعد إثيوبيا تظل منطقاً معكوساً ومغرقاً في الإيعاز والإيحاء بتنشيط النفوذ
الإثيوبي في الشأن الصومالي؛ لأن الطرف المحتاج للحماية والحصانة حقيقة من
الاعتداء والإرهاب هو الطرف الصومالي لا الإثيوبي!
قلق إثيوبي من الدور الكيني في المصالحة الصومالية:
بعد أن نجحت الجمهورية الصومالية في إعادة تعزيز علاقاتها مع الجمهورية
الكينية استثماراً لمكانة الرئيس (أرب موي) السياسية والتاريخية إفريقياً وإقليمياً،
وبمعطيات مناخ الأداء الديمقراطي نسبياً للسياسة الكينية المعارِضَة للتعاطي
الإثيوبي في الشأن الصومالي، وبوجود شخصيات سياسية بارزة من أصول
صومالية في مواقع مؤثرة في الرياسة والخارجية الكينيتين، وعقب قرار القمة
(لمنظمة الإيجات) التي انعقدت في 1/2002م في الخرطوم، والقاضي بتكليف
كينيا تولي إدارة ملف المصالحة الصومالية، وإثر الاعتراض الانعزالي الإثيوبي
على اتفاق بقية أعضاء المنظمة على الاقتراح الإريتري لجعل اللغة العربية لغة
رسمية للمنظمة بجانب الإنجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى الانقسامات الجارية في
صفوف ما يسمى بـ (المعارضة الصومالية) في أديس أبابا؛ استمع العالم إلى
دعوة رئيس وزراء إثيوبيا للولايات المتحدة بأن تعتبر إثيوبيا شريكاً رئيسياً لها في
مكافحة الإرهاب، معلناً بأن القرن الإفريقي لن يشهد الاستقرار ما لم تتخذ أمريكا
سياسة عملية تجاه الإرهاب، وأن إثيوبيا لن تنعم بالسلام ما دام الصومال يشهد
الفوضى المستمرة، ولكنه لم يمتلك مقومات الصراحة والشجاعة لكي يعترف بأن
مصدر المشكلات الأمنية والسياسية في الصومال هو من أديس أبابا.
وقد فهم المراقبون في الصومال أن خطاب رئيس وزراء إثيوبيا أمام برلمان
بلاده كان تعبيراً عن القلق والانزعاج من ابتعاد ملف المصالحة الصومالية عن
السيطرة الإثيوبية وانتقاله إلى جيبوتي ثم إلى كينيا، وإخفاق ما يسمى بالمعارضة
الصومالية المسلحة التي تشكلت في إثيوبيا في مارس عام 2001م في إيقاف تمدد
نفوذ الحكومة الصومالية وتناميها داخلياً وخارجياً؛ لذا كان من الطبيعي - حسب
قراءتنا لذهنية القادة الإثيوبيين - أن يتم تحويل نزاعاتهم مع الصوماليين والبحث
عن حلٍّ لها إلى حلفائهم في الخارج، وهنا أراد رئيس وزراء إثيوبيا أن يبالغ في
تضخيم وسيلة الاستقطاب لعطف الولايات المتحدة فأسرع في اغتنام الفرصة وحوَّل
أزماته التي يفتعلها مع الصومال إلى موجة محاربة الإرهاب، وهو النهج نفسه
الذي تمارسه إسرائيل مع الشعب الفلسطيني المناضل، والمسلك نفسه الذي تسلكه
الطائرات الأمريكية والبريطانية ضد أمن العراق وسيادته؛ حيث إن الجانب الذي
يرتكب جرائم الاعتداء والإرهاب هو الذي يشكو ويتظلم؛ لأنه حريص على تنفيذ
استراتيجيته لإخضاع العرب في ظل غياب طموحات مماثلة لها من العالم العربي
تستجيب لهذه التحديات.
في المقابلة التي أجرتها الإذاعة البريطانية (القسم الصومالي) مع رئيس
الوزراء (حسن أبشر) أدان منطق إثيوبيا العدواني؛ مؤكداً أن النظام الإثيوبي
مُصِرٌّ على تنفيذ سياسة القضاء على الدولة الصومالية كلياً، وحينما سأله المذيع عن
كيفية القضاء على الدولة؟ أجاب السيد حسن أبشر بأن النظام الإثيوبي منهمك جداً
في عملية التفكيك الجغرافي والسياسي للصومال باستعمال القوة العسكرية، وعن
طريق ترويج أسماء الكنتونات الإقليمية مثل (صومال لاند، وبونت لاند، وباي
لاند، وجود لاند) التي صنعتها، وتوسيع هذه العملية لتشمل بقية الجغرافية
الصومالية، ولم ينس السيد حسن أبشر أن يذكِّر الزعامة الإثيوبية المعروف والدعم
الذي قدمه الصومال للمناضل الإثيوبي، وأشار رئيس وزراء الصومال إلى أن
الورقة الإثيوبية المقدمة إلى مؤتمر المصالحة الصومالية في نيروبي تدعو إلى
تجاوز رئاسة الرئيس عبد القاسم صلاد؛ إمعاناً في الرغبة في إعادة الأوضاع إلى
ما كانت عليه قبل انعقاد مؤتمر جيبوتي.
والمحللون الصوماليون الذين لم تستوقفهم كثيراً تصريحات (حسين عيديد)
للقسم الصومالي في الإذاعة البريطانية في الأيام نفسها، والتي يقترح فيها ضم 6
ملايين صومالي يعيشون في (الأوجادين) وفي منطقة (انفدي) في كينيا لقيام
الصومال الكبرى؛ ما ترددوا في فهم مغزى تصريحات (حسين عيديد) في أنه
ينفذ مخططاً إثيوبياً؛ وخاصة عندما تطوع (حسين عيديد) نفسه وادعى أن
تصريحاته جاءت في إطار قيام اتحاد فيدرالي موسع لجميع دول القرن الإفريقي
وشعوبه يلغي عروبة الصومال، حسب أقواله المنشورة في مجلة (المجلة) بتاريخ
3/3/2002م.
وهذا مؤشر إضافي يوضح مدى الاختراق السياسي والأخلاقي الذي سجله
النظام الإثيوبي في الفكر السياسي لدعاة المعارضة؛ لكي يسهموا في دعم مؤامرة
إلغاء عقيدة الصومال وعروبته؛ لقاء وعود كاذبة يعدهم بها النظام الإثيوبي
لإيصالهم إلى كرسي الرئاسة.
وحينما يوظف النظام الإثيوبي طاقاته العسكرية والسياسية والإعلامية في
سبيل تسريع عملية التفكيك السياسي والجغرافي في الصومال؛ فإنه لا يهدف إلى
مواجهة خطر إرهابي قادم من الصومال يهدد الأمن الداخلي الإثيوبي، وإنما يهدف
إلى بعد استراتيجي أبعد مدى وأوثق ارتباطاً بقضية الصراع الحضاري المصيرية،
وأقوى مداعبة في عقول ضباطه؛ إذ يتذكر الصوماليون تصريحات الكولونيل
(تسفاي) الموجود في مدينة (بيداوا) ، والذي عبر عن نيات إثيوبيا الدفينة حينما
شدد في تصريحه في 4/2001م على أن النظام الإثيوبي لن يسمح بقيام دولة عربية
إسلامية في الصومال.
وفي الحديث الصحفي الذي أدلى به رئيس إثيوبيا (زيناوي) لوكالة رويتر
في 19/2/2002م أشار إلى وجود أدلة عنده تثبت علاقة الحكومة الصومالية بـ
«الاتحاد الإسلامي» ، كما أن من بين ثلاثة خبراء شكَّلهم مجلس الشيوخ الأمريكي
لدراسة الوضع الصومالي، وتقديم المقترحات والآراء حول كيفية التعامل مع هذا
الوضع - لم يتبن وجهة النظر الإثيوبية إلا السفير السابق لأمريكا في أديس أبابا
(ديفيد شين) اليهودي الأصل، والذي ذكر في مقترحاته أن «الاتحاد الإسلامي
الصومالي» يسعى إلى تحقيق هدفين هما: إقامة دولة إسلامية في الصومال،
وتحرير أوجادين من إثيوبيا، والملاحظ أنه لم يأت بجديد؛ لأن كلا الأمرين لا
يزالان مطلبين قوميين تاريخيين لعموم الصوماليين وليسا بفكر سياسي خاص بفئة
صومالية معينة، كما أن رجال الدين في كل من إثيوبيا وأمريكا يعملون لتقوية
أنظمتهم السياسية الوطنية مع توحيد كلمة الدولة النصرانية؛ لمواجهة التحديات التي
من شأنها أن تهدد رسالة الكنائس العالمية!
وعلى صعيد آخر؛ فإن النظام الإثيوبي يريد أن يتجاهل أن جذور الأزمة
الصومالية الإثيوبية تنبع من الغزو الصليبي، والذي توسع على حساب الوطن
الصومالي في نهاية القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين لإقامة الدولة
المسيحية الكبرى في القرن الإفريقي؛ وذلك بمؤازرة الدول النصرانية الاستعمارية
ومساعدتها في ذلك الزمن، مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وبناءً عليه فلا يمكن
أن يعتبر تاريخ «الاتحاد الإسلامي الوطني الصومالي» الذي يعمل في خندق
الدفاع عن حقوقه الدينية والقومية السياسية قوة إرهابية بمجرد أنه يحمل عنواناً
إسلامياً، ويُبرَّأ في الوقت نفسه التاريخ والأعمال والأفكار الاستعمارية الإرهابية
التي خربت الديار الصومالية، ولا تزال تسعى إلى تفتيت الوحدة الصومالية.
ثم أين الإثم والانحراف إذا أقامت الحكومة الصومالية علاقات مع قوة إسلامية
وطنية صومالية، في حين تعتز الزعامة الإثيوبية بعقيدتها النصرانية وترفض في
طول تاريخها ظهور صورة مسجد في قنواتها التلفزيوينة تأكيداً لدور الكنيسة،
وتعتبر الزعامة الإثيوبية أيضاً تراب مدينة (أكسيوم) أرضاً مقدسة لا يدخلها
المسلم حسب المعلومات الشائعة المتوفرة لدى القوميات الإثيوبية؟! وهل هناك
إرهاب وإهانة وإذلال أقوى وأخطر من حرمان القوميات الإسلامية من الحياة
الكريمة، وتركهم يواجهون المجاعات المزمنة المهلكة نتيجة غياب وسائل التطور
العلمي والزراعي والصحي عن أقاليمهم؟!
إن كثرة الصراخ الإعلامي، وكلمات الخداع الإثيوبية للرأي العام العالمي
التي تعطي صورة مفزعة لقوة وجود التيار الأصولي في الصومال تعكس حقيقة
واحدة؛ هي أن النظام الإثيوبي اكتشف أن التحدي الإسلامي والوطني في كل من
(بوصاصو، ومقديشو) والجنوب لن يسمح لهذا النظام بتنفيذ استراتيجيته الرامية
إلى تغيير هوية الصومال، وتحويله إلى محمية تابعة له لا هوية لها ولا عقيدة ولا
عروبة ولا حضارة ولا كرامة.
إن الفاصل في المعادلة بين إثيوبيا الهادفة إلى تأمين أطراف خريطة
الإمبراطورية، وبين الصومال الباحث عن تعزيز سيادته وتكملة أجزاء أقاليمه؛
هو الحياد الإيجابي لموقف أمريكي متوازن في علاقاته مع مقديشو وأديس أبابا يتفهم
وضع المجتمع الصومالي، ويدعم الجهود العربية الإفريقية لإنقاذ هذا المجتمع
وانتشاله من مخلفات ركام الحروب الأهلية، كما تفعله الولايات المتحدة مع إثيوبيا
التي تحصل على المنح المالية والهبات والمعونات الاقتصادية، والدعم العسكري
والسياسي والإعلامي؛ حتى يطمئن الصوماليون ويتأكدوا من عدم وجود انحياز
أمريكي لإثيوبيا من منطلق ديني متعصب بناءً على ادعائها بأنها - أي أمريكا -
تؤمن بالديمقراطية؛ وتحترم الشرعية الدولية، وتطبق النزاهة في نظام علاقاتها
الدبلوماسية والسياسية مع العالم.
وفي هذا السياق؛ فإن ما ورد في آراء ومقترحات الخبيرين (روبرت
ماكفرسون، والدكتور كين مانج هوس) في 20/2/2002م في شهادتهما للحكومة
الأمريكية بأن الصومال ليس كأفغانستان، وليس فيه مخدرات، وبأن المطلوب هو
إقناع الناس في الصومال برعاية مصالحهم، ومساعدة الوسائل الإعلامية، وتنشيط
الحياة التجارية، والتعامل مع تجار الحيوانات لتوسيع تجارتهم، وأنه تنبغي
ملاحظة أن هناك صراعاً عربياً إثيوبياً على الصومال - حسب شهادتهما -؛
بمعنى أن إثيوبيا تسعى إلى إبعاد العرب عن الصومال؛ ما ورد في شهادة هذين
الخبيرين حول التعامل مع الصومال كان اتجاهاً إيجابياً يتناقض تماماً مع دعوات
إثيوبيا ومن يؤيدها من الأمريكيين لضرب الصومال، والتي ينطلق فيها الإثيوبيون
من اعتقادهم أن النكسات السياسية التي هددت مقومات الإنسان الصومالي منذ الحكم
الماركسي، وما تلاها من حروب أهلية ومجاعات مدمرة ومواجهات مع القوات
الأمريكية عام 1993م؛ لم تؤد إلى تفريغ الإنسان الصومالي من مضمونه الإسلامي،
ولا تقليص ثوابته التاريخية في وجدانه؛ الأمر الذي بات يشكل مصدر إحباط
وإزعاج للنظام الإثيوبي؛ حسب تصريحات لكل من رئيس وزراء إثيوبيا،
وعبد المجيد حسين لوكالة الأنباء (رويتر) في نهاية فبراير 2002م.
والإصرار الإثيوبي على استعداء أمريكا على الصومال لتغيير هويته يوحي
بأن الزعامة الإثيوبية بحاجة إلى من يذكرها ويحاسبها لتراجع محطات صراعها مع
الصوماليين، ولتعلم أن الإثيوبيين هم الذين أرهبوا الصوماليين وعملوا على تجزئة
الخريطة الصومالية وتقسيم سكان الصومال.
إن قراءتنا للمنظور الاستراتيجي الإثيوبي الموجه إلى الصومال والسودان
وجيبوتي تعطينا انطباعاً بأن النظام الإثيوبي يرى أن المسافة الفاصلة بينه وبين
تحوُّله إلى قوة إقليمية تخيف البلدان العربية المذكورة، ولا تهاب من مصر ولا من
ليبيا؛ أخذت في التقلص والانكماش ما دامت دول (منظمة الإيجات) قد اعتمدت
على مشروعية تقرير مصير الجنوب؛ ليفسح له المجال أمام الانفصال سلماً أو
عنوة لطي البعد الجغرافي الإفريقي للخريطة السوادنية، مع اقتناص كل فرصة
لإضعاف الصومال وإثارة كل ذريعة لإخراجه من هويته العربية الإسلامية؛ مما
يجعل الهم الأول للصوماليين اليوم هو إسقاط الاستراتيجية الإثيوبية والصمود للدفاع
عن هويته العربية الإسلامية؛ إذ إن انبعاث النهضة العربية الإسلامية وانتشار
معطياتها بين الشباب يظل أمضى الأسلحة الطبيعية القادرة على كسر الهجمة
الإثيوبية الظالمة ضد الصومال، فليس هناك إرهاب أخطر من إرهاب احتلال
الأرض الصومالية، واستباحة السيادة الوطنية، واستهداف الهوية الحضارية.
وما نسمعه من صرخات تحذير وتخويف إثيوبية لأمريكا من بروز أصولية
صومالية في القرن الإفريقي؛ هي أساليب تبين أن النظام الإثيوبي الذي اعتاد القدح
في كفاية الحكومة الانتقالية الصومالية، والتقليل من أهمية سلطتها في مقديشو؛
تنتابه نوبات من القلق وتساوره نظرات التشاؤم إزاء تصاعد نضال قوميتي
(الأوجادين، والأرومو) اللتين يتحرك أفرادهما بكل حرية وتحد في مساحات
واسعة في كل من الريف والطرق والقرى، في الوقت نفسه الذي تتنامى فيه
معارضة شعب «العفار» العربي المسلم للنظام الإثيوبي رغم اختفاء (سلطان علي
مرح) في أحضان النظام؛ مما يؤكد أن نظام الأقلية «التجراوية» الذي يحكم
القوميات الإثيوبية بقوة السلاح سيواجه في المستقبل غير البعيد تحدياً عسكرياً قوياً
من هذه الشعوب الثلاثة التي تحمل لواء التحرير والتعريب في القرن الإفريقي؛
لتصبح بحق القوة المرشحة لتقرير مصير القرن الإفريقي [1] .
__________
(*) رئيس المركز الإقليمي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية في القرن الإفريقي.
(1) تحدثنا عن هذا الموضوع في الفصل الخامس عشر من كتابنا (تحفة الأوفياء لمسيرة التحرير والتعريب في القرن الإفريقي) الذي يقع في (17) فصلاً ومقدمة.(183/98)
المسلمون والعالم
لضمان مسلسل التبعية
الاستحواذ على العقول.. أخطر من احتلال الأرض
شعبان عبد الرحمن [*]
Shaban1212@hotmail.com
«لكي نكسب الحرب ضد الإرهاب؛ فإن ذلك يتطلب منا أكثر من مجرد
قوتنا العسكرية.. يتطلب منا اجتذاب شعوب العالم الإسلامي إلى قيمنا ومجتمعنا؛
إن كان لنا أن ننجح في تحقيق التفاهم والتوعية والاحترام المتبادل، وهو ما
سيشكل الأسس لعلاقات سلمية مثمرة، وإن التبادلات (الطلابية) التي يقرها
مشروعكم هي أقل السبل كلفة عند أخذ المردود بعين الاعتبار لتشجيع العلاقات
الشخصية والمؤسساتية التي من شأنها تعزيز أمننا القومي على المدى البعيد ...
ينبغي للولايات المتحدة أن ترد على الخطر الإرهابي على مستويات عدة، فنحن
بحاجة لأن نضمن أن دفاعاتنا قوية وحدودنا آمنة» .
هذه فقرات من الشهادة المطولة التي سجلها «كنتن كيث» مدير «الاتحاد
من أجل تبادل ثقافي وتعليمي دولي» ، وهو اتحاد يضم خمساً وستين منظمة، وله
فروع في جميع الولايات الأمريكية.
الشهادة جاءت دعماً لمشروع القانون الذي تقدم به السيناتور «تيد كيندي»
لمجلس الشيوخ الأمريكي في 10/5/2002م نيابة عن عشرة آخرين من أعضاء
المجلس، ويهدف إلى تحقيق المزيد من الاحتواء الثقافي لشباب العالم الإسلامي؛
لصناعة قادة المستقبل في العالم الإسلامي داخل المؤسسات الثقافية الأمريكية وبين
العائلات الأمريكية؛ ضماناً لاستمرار مسلسل التبعية.
المشروع يحمل اسم «الجسور الثقافية لعام 2002م» ، وتشرف عليه وزارة
الخارجية صاحبة الباع الطويل في برامج التبادل الطلابي والتعليمي، ويطلب
تخصيص خمسة وسبعين مليون دولار إضافية لميزانية برامج وزارة الخارجية
التعليمية والثقافية الحالية في العالم الإسلامي، في الفترة من عام 2003م حتى نهاية
السنة المالية 2007م، ويقترح تخصيص عشرين مليون دولار لإنشاء برنامج
تبادل جديد لطلاب المرحلة الثانوية؛ لإفساح المجال أمام عينة خاصة من طلاب
العالم الإسلامي المتفوقين للدراسة في مدارس حكومية أمريكية.
ويشترط المشروع المقترح أن يكون اختيار الطلاب من دول العالم الإسلامي
بشكل تنافسي يثبت جدارتهم، وأن يراعى في الاختيار التنوع الجغرافي، والجنسي،
وتنوع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية التي ينتمون إليها في المجتمع، وأن
تتعاون وزارة الخارجية كما تفعل في برامج مماثلة مع المنظمات الأمريكية غير
الحكومية ذات الخبرة في هذا الحقل عند انتقاء وتعيين المدارس والعائلات للطلبة
(الوافدين) ، وتبقى على اتصال وثيق مع المدارس الثانوية المختارة، والعائلات
الأمريكية المضيفة، والمنظمات غير الحكومية؛ أثناء تواجد الطلاب في الولايات
المتحدة.
ولم يفت مقدمي المشروع وضع بند مراقبة صارم للطلبة المختارين،
فـ «التشريع سيعزز قدرتنا على غربلة الطلبة الأجانب ومراقبتهم، عبر اشتراط
مزيد من الاتصال والتعاون بين وزارة الخارجية، ودائرة الهجرة والتجنس،
والمعاهد العلمية التي يلتحق بها الطلبة الأجانب، وعبر سد الثغرات في برنامج
مراقبة الطلبة الأجانب المعتمد حالياً» .
فقد أثبتت - وفق مقدمي المشروع - برامج التبادل الثقافي والتعليمي مع دول
العالم التي يسافر بموجبها خمسة آلاف أمريكي إلى الخارج، ويفد إلى الولايات
المتحدة عن طريقها عشرون ألف أجنبي أثبتت نجاحاً باهراً في الترويج للقيم
الأمريكية.
هذا المشروع بقانون جاء انعكاساً لاهتمام البيت الأبيض نفسه، وكذلك اهتمام
أركان الإدارة الأمريكية، كما جاء انعكاساً لاهتمام مراكز البحث التي تجد فيه
ضرورة قومية لحماية الأمن القومي الأمريكي على المدى البعيد ضد ما يسمونه
بالإرهاب (الصحوة الإسلامية) .
الرئيس بوش الابن أشار أكثر من مرة إلى ضرورة مد يد الصداقة إلى
الأطفال وخصوصاً في العالم الإسلامي، ففي كلمة له في أكتوبر 2001م أمام طلبة
مدرسة «ثورغود مارشال» الابتدائية قال بوش: «إن أمريكا عازمة على إقامة
علاقات ثقة وصداقة مع الشعوب في جميع أنحاء العالم، وخاصة مع أطفال العالم
الإسلامي وشعوبه» .
وفي هذا الصدد يقول مقدمو المشروع: «إن تشريعنا، ولتسهيل تحقيق
هدف الرئيس في الوصول إلى الأطفال والتأثير فيهم، ينص على إنشاء برنامج
جديد لطلاب المرحلة الثانوية، فلا يوجد في الوقت الحاضر أي برنامج فيدرالي
لتيسير مثل هذا التبادل الطلابي بأعداد تتزايد على الدوام مع العالم الإسلامي..
وهناك فوائد كثيرة تتأتى من التواصل مع الطلبة أثناء مرحلة شبابهم وانفتاحهم
لتشجيع الفهم الثقافي المتبادل، وعدم التعصب، والتسامح، فطلبة المرحلة الثانوية
اليوم هم قادة الغد، وعلينا أن نبدأ العمل معهم اليوم لنصوغ مواقفهم من بلادنا» .
وفي خطاب ألقاه «بول وولفوفتر» وكيل وزارة الدفاع في 3/5/2002م
أمام مجلس الشؤون العالمية في كاليفورنيا أشار إلى الحاجة إلى التواصل مع
الأصوات المنادية بالاعتدال في العالم الإسلامي، وإلى تشجيع هذه الأصوات ومد
الجسور معها لتجاوز ما أسماه بالهوة الخطيرة بين الغرب والعالم الإسلامي. وقال:
«إنه ينبغي على أمريكا أن تبدأ الآن.. فالهوة واسعة ولا تحتمل التأجيل» .
بيانات مؤسسة «جالوب» الأمريكية الشهيرة لاستطلاع الرأي عضدت
أيضاً المشروع، فقد أجرت المؤسسة استطلاعاً واسعاً للرأي في تسع دول غالبيتها
من المسلمين؛ عن مواقف الجماهير حيال السياسة الأمريكية، وكانت النتيجة هي
رصد مشاعر عداء متصاعدة بين شعوب هذه الدول ضد الولايات المتحدة.. وهنا
يؤكد السيناتور كيندي: «إننا سنعرض أنفسنا للخطر إن نحن تجاهلنا هذه المشاعر.
أما إن حاولنا علاج المشكلة عبر تعليم القيم الأمريكية لطلبة العالم الإسلامي؛
فستكون أمامنا فرصة على المدى البعيد لتغيير المواقف السلبية، وهذه عملية طويلة،
لقد علَّمنا الحادي عشر من سبتمبر أن علينا أن نبدأها الآن» !
وقد كانت الشهادة التي أدلى بها طالب مصري حائز على منحة «فولبرايت»
للتعليم بالولايات المتحدة على خطورة ما يجري في الجامعات المصرية ضمن
دفاعات مقدمي المشروع للمطالبة بالموافقة على مشروعهم.
فقد أفاد الطالب المصري في مقال نشرته له الواشنطن بوست في 20/1/
2002م بأن جامعته المصرية أرض خصبة للباحثين عن أعضاء جدد يضمونهم إلى
المنظمات الإرهابية أو المتطرفة!!
ولذا يشدد كيندي قائلاً: «التحدي الذي يواجهنا هو منح الطلاب فرصة
للتعرف على جميع أوجه الحياة العائلية الأمريكية، وفهم قيمنا قبل أن يصلوا إلى
تلك الدرجة» (الانضمام إلى الجماعات الإرهابية.. في زعمهم!) .
أما وزارة الخارجية صاحبة الخبرة الطويلة في الإشراف على مثل هذه
المشاريع فهي أشد حماساً له، وزير الخارجية كولن باول كان واضحاً في ذلك؛
ففي بيان ألقاه في أغسطس من عام 2001م حول «أسبوع التعليم» قال: «لا
أستطيع التفكير بشيء أنفع لبلدنا من صداقة زعماء العالم المستقبليين (القادمين)
الذين تلقوا دراساتهم هنا» .
وتدير وزارة الخارجية حالياً العديد من برامج التبادل الثقافي والطلابي
الناجحة لطلاب الجامعات والمرحلة الثانوية، مثل برنامج «تبادل قادة المستقبل»
أو «فيلكس» ، وهو البرنامج الذي يتم بمقتضاه سنوياً إحضار حوالي ألف طالب
تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة من الدول حديثة الاستقلال عن
الاتحاد السوفييتي المنفك، إلى الولايات المتحدة للدراسة في مدرسة ثانوية لمدة عام،
والإقامة مع عائلة أمريكية خلال ذلك العام، ومن بين هذه الدول ست دول
غالبيتها العظمى من المسلمين، وهي: أذربيجان - كازاخستان - قيرغيزستان -
طاجيكستان - تركمانستان - أوزبكستان.
تقول نتائج هذا البرنامج إنه بالغ التأثير في صياغة مواقف الطلبة الذين وقع
عليهم الاختيار.
وتشير دراسة أجرتها الحكومة الأمريكية عام 1998م، قارنت فيها بين
الطلبة الذين اشتركوا في البرنامج وغيرهم من زملائهم الذين لم يشتركوا، قائلة:
«إن الشبان الذين اشتركوا أكثر انفتاحاً وتقبلاً للقيم الغربية والمثل الديمقراطية،
كما أن هناك احتمالاً أكبر في أنهم يتطلعون إلى ممارسة دور قيادي في مجتمعهم» .
وبناءً على النجاح الذي يحققه مشروع «فيلكس» يؤكد مقدمو المشروع
الجديد أنهم صاغوا مشروعهم على نهجه.
وقد حصل مقدمو المشروع على دعم العديد من المؤسسات المعنية المهمة
وموافقتها داخل الولايات المتحدة، وفي مقدمتها: رابطة التبادل الطلابي والثقافي
الدولية، وأكاديمية التنمية التعليمية، والمجالس الأمريكية للتعليم الدولي، والمعهد
الأمريكي للدراسة في الخارج، والمجلس القومي للزوار الدوليين، ومؤسسات
المدن الشقيقة الدولية، والتعليم العالمي، ومجموعة الدراسة العالمية.
ولم يكتف السيناتور كيندي وهو يقدم مشروعه بهذا التأييد غير المسبوق في
الداخل، وإنما لفت الانتباه لتأييد آخر في العالم الإسلامي يمكن أن يسهم بقوة في
نجاح المشروع، فقد أشار إلى تأييد كثير من الدول الإسلامية للولايات المتحدة في
حربها ضد ما تسميه بالإرهاب، وذكّر أعضاء المجلس بالآية القرآنية الكريمة:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا]
(الحجرات: 13) ، ولم يكمل الآية: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم] (الحجرات:
13) ، وانطلق من الكلمات التي ذكرها من الآية إلى اعتبارها مدخلاً جيداً لتسويق
مشروعه دون مشاكل داخل العالم الإسلامي، فالآية في رأيه تدعو إلى التعارف ومد
الجسور، والمشروع كذلك: «من شأنه بناء جسور توعية وتفاهم وتسامح بين
الثقافات، ويساعد في جعل الشعب الأمريكي وشعوب العالم الإسلامي يفهم كل منهم
الآخر حقاً..» .
وهناك نقطة جديرة بالتسجيل هنا؛ وهي أن البيانات السالفة الذكر لم أطلع
عليها في مطبوعة معارضة للسياسات الأمريكية مثلاً، وإنما مصدرها هو مصدر
أمريكي رسمي، فقد وردت معظمها في «نشرة واشنطن العربية» (إصدار يوم
15/5/2002م) التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية بصورة شبه يومية!
وهكذا.. بدأت الولايات المتحدة التحرك للإجابة عن السؤال الكبير المطروح
منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر: لماذا يكرهنا العالم؟ أو بالأحرى: لماذا
يكرهنا المسلمون؟ الإجابة بالطبع لم تتحرك في اتجاه تغيير السياسات الأمريكية
المجحفة بحق العالم الإسلامي وقضايا المسلمين، وإنما تتحرك كما نرى لسرقة
عقول أجيالنا القادمة لتكون أمريكية!!
__________
(*) كاتب صحفي، وسكرتير تحرير مجلة المجتمع الكويتية.(183/104)
مرصد الأحداث
يرصدها: وائل عبد الغني
قاعدة معلومات لمكافحة الإرهاب
قالت تقارير صحفية موثوقة مصدرها واشنطن إن وزارة الدفاع الأمريكية
باشرت وسط تكتم إعداد برنامج معلوماتي مبتكر يقوم على دمج مليارات العمليات
الإلكترونية؛ بهدف اقتفاء أثر المجموعات الإرهابية في أدنى تحركاتها السرية،
وبدأ البرنامج الذي أطلق عليه اسم «توتال إنفورميشن أويرنس» (برنامج التيقظ
التام) يثير استنكار عدد من جمعيات الدفاع عن الحريات المدنية؛ حيث تتهمه
بالتدخل في الحياة الخاصة للأفراد، وتحذر من حصول تجاوزات.
[المشاهد السياسي، العدد 350]
انفتاح إرتيري.. لكن إلى أين؟!
ذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية أن الرئيس الإرتيري أسياسي
أفورقي طلب من شنودة الثالث بطريرك الإسكندرية تأسيس كلية لعلوم اللاهوت
الدينية في «أسمرة» تحت إشراف الكنيسة القبطية.
وقال مصدر مطلع في المكتب البابوي لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية
إن شنودة تلقى مؤخراً رسالة بهذا المضمون من الرئيس أفورقي؛ حملها إليه مدير
الكنيسة الإرتيرية الذي زار القاهرة مؤخراً.
[جريدة الفرقان الكويتية، العدد 221]
تعاون وثيق
نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن مواطناً إيرانياً يدير شركة يمتلكها
شخص مقرب من الرئيس الإيراني محمد خاتمي قام بزيارة سرية إلى إسرائيل في
محاولة لفحص إمكانية تجديد عمل خط النفط (إيلات - أشكلون) ، والذي تعود
ملكيته إلى الحكومتين الإيرانية والإسرائيلية.
وخلال الزيارة غير الرسمية التقى رجلُ الأعمال الإيراني صاحبَ رؤوس
أموال إسرائيلي في فندق إنتركونتننتال في مدينة إيلات، وطرحت خلال اللقاء
إمكانية التعاون مع الشركة الإيرانية بتحميل النفط على ناقلات النفط، ونقله إلى
ميناء إيلات الواقع في جنوب إسرائيل [فلسطين المحتلة] ، ومن ثم سيُنقل عبر
الأنبوب إلى مدينة أشكلون؛ حيث سيُسوَّق من هناك إلى الدول الأوروبية.
[موقع يديعوت أحرونوت باللغة العربية www.Arabynet.com]
وإخوانهم يمدونهم في الغي
منذ عام 1973م كبدت إسرائيل الولايات المتحدة قرابة 1.6 تريليون دولار
أميركي، ولو تمت قسمته على عدد سكان اليوم فستكون حصة الفرد 5700 دولار.
هذا التقرير وضعه «توماس ستوفر» الخبير الاقتصادي في واشنطن،
والذي جعلت منه تحليلاته المتخصصة في شؤون منطقة الشرق الأوسط على مدى
العقود الماضية؛ مصدر إزعاج للجماعات المؤيدة لإسرائيل. وللمرة الأولى منذ
عدة سنوات يتحدث عن التكلفة الإجمالية لدعم الولايات المتحدة لإسرائيل وحتى
الآن.
يشير التقرير إلى أن تلك النفقات تعادل ضعف تكلفة حرب فيتنام، ومع ذلك
ها هي إسرائيل ترغب في المزيد؛ إذ تقدمت بطلب للحصول على دعم عسكري
إضافي بقيمة أربعة مليارات دولار؛ لمواجهة النفقات المتصاعدة للتعامل مع
الانتفاضة والعمليات التفجيرية، كما طلبوا أيضاً ما يزيد على 8 مليارات دولار
كضمانات لدعم اقتصاد الدولة المتجه نحو الكساد.
وبتأمله في مشكلات إسرائيل الاقتصادية العميقة؛ يثير «ستوفر» الشكوك
حول إمكانية سداد إسرائيل للضمانات على الإطلاق، إذ إن هذه الضمانات قد
تصمم بطريقة تعفيها من الفوائد حتى موعد استحقاقها.
وإذا ما صحت توقعات «ستوفر» فقد ينتهي المطاف بالولايات المتحدة إلى
دفع أصل الدين وفوائده، ربما بعد انقضاء عشرة أعوام على موعده.
وهذا الطلب قد يأتي ضمن مشروع قانون إنفاق إضافي من الراجح أن يتم
إقراره في الكونجرس الأميركي خلال أوائل العام المقبل، وقد يتم إدراجه ضمن
نفقات الحرب ضد العراق.
وتعد إسرائيل المستفيد الأكبر من مساعدات الولايات المتحدة الخارجية، وقد
حان وقت تلقيها مبلغ 2.04 مليار دولار على هيئة دعم عسكري، إضافة إلى
720 مليون دولار من الدعم الاقتصادي خلال السنة المالية 2003م، ومنذ سنوات
وإسرائيل تتلقى دعماً سنوياً مقداره 3 مليارات دولار تقريباً.
[الشرق الأوسط، العدد 8779]
من ثمارهم تعرفهم
كلَّف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي مسؤولاً رفيع المستوى للإشراف
على رصد ما وصف بممارسة الاستغلال الجنسي للأطفال من قبل بعض المشرفين
على الكنائس، والعمل على مقاومة ذلك.
وقالت «كاثلين مكنزي» التي اختيرت لتولي هذه المهمة إنها ستنتهج
إجراءات صارمة لوضع حد لهذه الممارسات غير الأخلاقية.
وستتولى «مكنزي» رئاسة مكتب حماية الأطفال والقاصرين في مقر
المؤتمر الأسقفي الأمريكي في واشنطن؛ للمساعدة في تنفيذ القرارات التي تبناها
المؤتمر في يونيو 2002م، وتتضمن الوقاية من الجريمة وليس مراقبتها فقط،
ومساعدة الأسقفيات الكاثوليكية على تنفيذ «برامج بيئية آمنة» ! وإعداد تقرير
سنوي بهذا الشأن.
وتترنح الكنيسة الكاثولوكية الأمريكية منذ مطلع العام الحالي تحت وطأة
فضائح ارتكاب كهنة اعتداءات جنسية على أطفال وقصّر؛ مما حمل المؤتمر
الأسقفي الأمريكي على إقرار تدابير سلوكية حيال الكهنة المتهمين.
ويواجه نحو (ثلاثة آلاف) من القساوسة اتهامات التحرش الجنسي بالأطفال،
وقد استقال أو فصل 250 قساً على الأقل.
[المجتمع، العدد 1530]
رأفة التماسيح!
لجأت وزراة الدفاع الأميريكية (البنتاجون) إلى مؤرخين قادرين على إعداد
خرائط تفصيلية دقيقة لبلاد ما بين النهرين؛ بهدف تجنب إصابة المواقع الأثرية،
والحذر من تدمير أور مهد الحضارات، أو دفن مدينة «نينوى» الآشورية؛ في
حال توجيه ضربة للعراق، وتبدو مهمة العسكريين الأميريكيين الذين يفترض أن
يتجنبوا أيضاً التسبب في خسائر بين المدنيين؛ مهمة حساسة، خصوصاً بسبب
كثرة المواقع الأثرية التي تُقدر بنحو (عشرة آلاف موقع) معظمها لم يشهد عمليات
تنقيب واسعة بعد.
وقد يؤدي قصف هذه المواقع القديمة لحضارات وديانات يعود أقدمها إلى
الألف الخامس قبل الميلاد؛ إلى إزالة آثار تعود إلى عصر السومريين الذي شهد
اختراع (الكتابة، والعجلة) ، وتعادل في أهميتها اللوحة التي حفر عليها قانون
حمورابي.
واتخذ مسؤولون في البنتاجون وموظفون في وزارة الخارجية ودبلوماسيون
متقاعدون مبادرة عقد اجتماع لفريق من المستشرقين وعلماء الآثار. وقال
البروفيسور «تشارلز باتروورث» من جامعة مريلاند: «اتصلوا بنا لأنهم
يعرفون مجال اختصاصنا» . وأضاف أن «الأمريكيين لا يريدون خصوصاً أن
تتم مقارنتهم بحركة طالبان التي دمرت تمثالي بوذا العملاقين في باميان» .
[الحياة، (واشنطن - أف ب -) ، العدد 14521]
تحالف استراتيجي: آفاق العلاقات الأمريكية الهندية
لم يعد هنالك مجال للشك في أن أمريكا لا تعدل كفة الهند بكفة باكستان،
وصداقة الأولى للثانية أعمق من المحيط، وأكثر شموخاً وارتفاعاً من الجبال
الراسيات، ولذلك صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت في
إحدى زياراتها للمنطقة: «إننا نعتذر إلى الهند للبرودة التي شهدتها العلاقات
الثنائية بين البلدين خلال السنوات الماضية» ، وبعد عدة أيام من هذا التصريح أكد
«كار لاندرفرت» المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: «لن نعمق علاقتنا مع
دول المنطقة على حساب الهند، إن علاقاتنا مع الهند ستظل تتعمق بمرور الأيام» ،
وكان «رتشارد هاس» مدير معهد السياسة الخارجية، ونائب رئيس معهد
بروكنكز قد أشار على كلنتون خلال فترة حكمه بأنه «يجب أن تعطي الهند أهمية
قصوى بعد انتهاء الحرب الباردة، ولا مانع من المساومة على قضية كشمير أو
التفاعل عنها نزولاً عند رغبة الهند، وفي الوقت نفسه يجب التصدي بكل قوة
للإرهاب الإسلامي، ويجب شن حرب لا هوادة فيها ضد الحركات الإسلامية
الراديكالية، وخاصة تلك التي توجد على أرض باكستان وتمارس أنشطتها عليها» ،
وأضاف «رتشارد هاس» : «إنني أشير على الحكومة الأمريكية أن تخاطب
الشعب الباكستاني بشكل مباشر عبر شاشات التلفاز» ، وفعلاً استجاب كلنتون
لمشورته، وخاطب الشعب الباكستاني في عهد إدارته للبيت الأبيض، ونقلت
القنوات الفضائية خطابه حياً وعلى الهواء مباشرة. وكان كلنتون قد صرح ذات
مرة أنه «في القرن الحادي والعشرين سوف يكون هناك تحالف استراتيجي بين
أمريكا والهند، وسنعمل معاً من أجل إحلال السلام في آسيا الجنوبية وآسيا
الوسطى» .. كما أن مادلين أولبرايت ذكرت في مقال لها نشرته جريدة «واشنطن
بوست» بتاريخ 15/10/2002م أن «الهند دولة ديمقراطية بمعنى الكلمة، وفي
بنغلاديش الأوضاع تسير نحو الأحسن، أما في باكستان فإن الديمقراطية فيها في
خطر» .
[مجلة سياحة الأمة، العدد (58) ]
من ثمرات الانتفاضة
إذا حسبنا مدى نجاح المقاومة بعدد الخسائر من الشهداء والمصابين في
صفوفنا وصفوفهم سنجد أن المقاومة ثمنها باهظ، وإن كان هذا الثمن أقل من الثمن
الذي دفعته الثورة الجزائرية من أجل التحرير (شهيدان جزائريان لكل قتيل
فرنسي) ، وهو رقم مشابه تقريباً لما حدث في فيتنام، وفي دول أخرى كانت
النسبة 16 شهيداً مقارنة بواحد في فلسطين، وتكاد تكون النسبة الآن أربعة شهداء
مقابل كل قتيل إسرائيلي.
كذلك فقد نجحت المقاومة في ضرب أركان الكيان الصهيوني؛ ضربت ركيزة
الأمن والمؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، كما ضربت أيضاً ركيزة الرفاهية
التي يحاول جعلها وسيلة لجذب المهاجرين الجدد له؛ حيث اعترف شارون في
الكنيست أن المشكلات الاقتصادية في إسرائيل الآن لها سببان: الأول الركود
الاقتصادي العالمي، والثاني: هو المقاومة الفلسطينية. كما أن الركيزة الثالثة التي
تقوم عليها إسرائيل وهي اعتراف دول العالم بها قد تأثرت، فبعد انطلاق عملية
التسوية في ظل مؤتمر مدريد انتعشت آمال إسرائيل بإقامة علاقات مع الدول
العربية، وبدأ قادة إسرائيل بالفعل يتجولون في العواصم العربية، ولكن المقاومة
أغلقت هذا الباب وأعادت عزلة إسرائيل بالمنطقة.
[من تصريحات لأسامة حمدان ممثل حماس في لبنان
لمجلة الأهرام العربي، العدد 296، ص25]
اختلاقات بوش
إن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش يلجأ إلى الخيال في بعض تصريحاته،
كما يمكن القول إنه كثيراً ما يكذب ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالعراق؛ إذ
يستشهد بتقارير غير موجودة، ويوجه تحذيرات لشعبه ليس لها ما يسوغها،
وينسب لصدام حسين قدرة عسكرية مفرطة، حتى إنه يؤكد أشياء لا تعدو كونها
مجرد افتراضات. أحد الأمثلة على ذلك كان تأكيده أن بغداد يمكنها تصنيع سلاح
نووي خلال ستة أشهر؛ معتمداً في كلماته على تقرير صادر من الوكالة الدولية
للطاقة الذرية، ولكن هذه الوكالة لم تحدد تلك المدة.
نشرت مؤخراً صحيفة «الواشنطن بوست» التي تعد من أكبر الصحف
الأمريكية؛ بياناً على صفحتها الأولى بالاختلاقات التي ارتكبها بوش مؤخراً،
ورغم اعتدال النص إلا أنه كان شديد الانتقاد، فعلى سبيل المثال أشار بوش إلى
قوة صدام النووية المفترضة في السابع من سبتمبر، وذلك عندما اجتمع برئيس
الوزراء البريطاني «توني بلير» في كامب ديفيد لبحث الطريقة التي يقنعان بها
العالم بضرورة شن الحرب ضد العراق، وقد علق حينئذ قائلاً: «أذكركم بأن
المفتشين عندما ذهبوا للعراق ومُنعوا من الدخول، أصدرت الوكالة الدولية للطاقة
الذرية تقريراً تقول فيه إن العراق يمكنها تطوير سلاح نووي خلال ستة أشهر، لا
أدري أي دليل آخر نحتاج إليه» .
لقد نشرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريراً في عام 1998م فعلاً، ولكن
ما ورد فيه كان العكس تماماً من ذلك، وهو أنه لا توجد أية دلائل على أن العراق
لديها القدرة على الشروع في برنامج نووي، ولقد قيل حقيقة إن العراق يمكنه
تصنيع قنبلة ذرية خلال ستة أشهر أو عام، ولكن كان ذلك في عام 1990م قبل
حرب الخليج. وفي هذا الصدد قال «آري فلايشر» المتحدث الرسمي باسم البيت
الأبيض: «إن بوش كان فقط» غير دقيق «، وإن المعلومات التي أشار إليها لم
تصدر عن وكالة الطاقة الذرية، وإنما مصدرها أجهزة المخابرات» .
[جريدة الجرائد العالمية، العدد (807) ، نقلاً عن صحيفة (الباييس) الإسبانية]
الفرصة التاريخية
إن خوفي أن يتكرر ما حصل في عام 1948م حين انتظر ديفيد بن جريون
فرصة تاريخية مثل الحرب لكي ينفذ مشروعه، وأن ينتظر أشخاص مثل أرييل
شارون وشاؤول موفاز وبنيامين نتنياهو حرباً مثل الحرب الوشيكة على العراق
يشتد فيها التوتر؛ لينفذوا مشاريع حربية خطيرة تجول في عقولهم ويسعون إلى
تحقيقها. فقد أعلن شارون بشكل واضح أنه ينتظر فرصة تاريخية لحل المشكلة
الفلسطينية مرة وإلى الأبد. وطبعاً لا يقصد بهذا إقامة دولة فلسطينية بل استخدام
«الترانسفير» . والأمر المقلق في هذا المجال هو الجدار الفاصل الذي تبنيه
إسرائيل لفصل مناطق من الضفة عن إسرائيل، وهذا الجدار سيقسم الضفة
الغربية إلى قسمين، وسيكون هناك 2500 كيلو متراً في الجانب الفلسطيني،
و2500 كيلو متراً في الجانب الإسرائيلي. والتخوف من أن المرحلة القادمة من
مشروع الجدار هي طرد المواطنين الفلسطينيين من القسم الذي ستضمه إسرائيل
لنفسها إلى الجانب الفلسطيني؛ بما في ذلك مواطنو القدس المحتلة.
[إيلان بابي، أستاذ السياسة في جامعة حيفا، مجلة المجلة (1191) ]
عقدة أوروبا!
إن مخاوف أوروبا من تركيا مخاوف حقيقية، فهي دولة كبيرة وفقيرة أيضاً،
ولكن البرتغال كانت هي الأخرى فقيرة حين انضمت إلى المجموعة الأوروبية، بل
إن ناتجها القومي الإجمالي للشخص الواحد في ذلك الوقت كان يعادل ما هو عليه
ناتج تركيا الآن.
إضافة إلى ذلك؛ فإن لا أحد يقول إن تركيا ستنضم إلى الاتحاد اليوم، فقد
استغرق أمر انضمام إسبانيا إلى المجموعة الأوروبية ثماني سنوات، وقد يستغرق
هذا وقتاً أطول بالنسبة إلى تركيا، ولكن هذه العملية ستضع تركيا بصورة لا رجعة
فيها على طريق الازدهار والديمقراطية الناضجة.
إن حجم تركيا يجعل دولاً مثل فرنسا وألمانيا تشعر بالقلق من إمكانية فقدان
النفوذ الأكبر في أوروبا، ولكن هذه العملية قد بدأت على الرغم من ذلك؛ ففي عام
2004م ستصبح 10 دول (تضم 74 مليون شخص) أعضاء في الاتحاد الأوروبي،
وإذا لم تكن تركيا ديمقراطية كاملة؛ فإن دولاً أخرى كانت قبل سنوات قليلة فقط
من انضمامها إلى أوروبا - مثل إسبانيا والبرتغال واليونان - دولاً دكتاتورية.
[الكاتب فريد زكريا: نيوزويك - 26 نوفمبر]
تصاعد الكراهية
ذكرت منظمة مراقبة حقوق الإنسان «هيومان رايتس ووتش» ، وهي
منظمة حقوقية عالمية، في تقرير جديد لها أن جرائم الكراهية المرتكبة ضد
المسلمين تصاعدت في الولايات المتحدة بنسة 1700 في المائة خلال عام 2001م.
ويستند التقرير الذي يقع في 41 صفحة، والصادر تحت عنوان: «نحن
لسنا العدو» ، إلى نتائج أبحاث وتحريات أجريت مع الشرطة ووكلاء النيابة
وناشطي المجتمع المحلي، وضحايا جرائم الكراهية في ست مدن كبرى؛ بهدف
استعراض الخطوات التي اتخذها المسؤولون الحكوميون للحيلولة دون وقوع جرائم
الكراهية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وواشنطن
العاصمة، وإحالة مرتكبيها إلى القضاء.
كما يفحص التقرير مدى جرائم الكراهية ونطاقها، وتضمن التقرير أيضاً
أنواع جرائم الكراهية التي شملت: القتل العمد، والاعتداء، والإحراق،
والتخريب المتعمد للمباني والممتلكات.
وقد تزايدت أعمال العنف ضد العرب والمسلمين بصورة مفاجئة في أعقاب
الحادي عشر من سبتمبر؛ حيث ذكرت الحكومة الفيدرالية أن جرائم الكراهية ضد
المسلمين تزايدت بمقدار 17 ضعفاً، من (28) في عام 2000م إلى (481) في
عام 2001م. وتلقت المنظمات الإسلامية والعربية أكثر من 2000 بلاغ عن
المضايقة والعنف وغيرهما من الأفعال التي تنطوي على التحيز، والمتعلقة بالحادي
عشر من سبتمبر.
وخلال عام 2001م شهدت مدينة شيكاغو ومقاطعة لوس أنجيليس زيادة قدرها
15 ضعفاً من جرائم الكراهية ضد العرب.
[جريدة التجديد المغربية، العدد (532) ]
وما تخفي صدورهم أكبر
أسقف نمساوي معروف بمواقفه المثيرة للجدل جدَّد هجومه على الدين
الإسلامي وتحذيراته الصارخة من المسلمين، فأسقف أبرشية «سانت بولتن»
بالنمسا «كورت كرين» ؛ عاد مجدداً لإطلاق تصريحات مسيئة للإسلام
والمسلمين للمرة الثالثة منذ خريف العام الماضي، فقد هاجم الأسقف الكاثوليكي
«كورت كرين» الإسلام مباشرة ونعته بالتعصب، وتحدث بلهجة تحفها القلق
عن أنّ الديانة المسيحية الكاثوليكية في تنافس مع الإسلام، كما قال لمجلة
«بروفيل» النمساوية في نهاية أكتوبر. وذهب «كرين» إلى حد القول بأنّ
«الإسلام ليس أقوى، وإنما أكثر تعصباً، وهو ليس على أية حال الدين الحق،
نعرف أننا الدين الصحيح، ونحن نتناول الخلاف مع الإسلام وفقاً لهذه القناعة» .
ويأتي ذلك بعد أسابيع من قيام الأسقف «كرين» في مقابلة أجرتها معه
صحيفة «أوبر أوسترايخيشن روندشاو» بشن هجوم حاد على الإسلام واصفاً
إياه بأنه «دين عدواني» ، وقال آنذاك: «لقد كان هناك حصاران تركيان،
والآن لدينا الحصار الثالث» ، ولكنه يجري «بطريقة مختلفة» ، وذلك في
إشارة من الأسقف إلى الحصار العثماني الأول لفيينا عام 1529م، والحصار
الثاني لها عام 1699م، وهو ما يعدّ تحذيراً من وجود المسلمين في النمسا
وخاصة الأتراك منهم.
[مجلة الأوروبية، العدد (31) ](183/108)
الباب المفتوح
هل يعيد التاريخ نفسه؟!
«ما أشبه الليلة بالبارحة!»
رأفت صلاح
التاريخ ليس سرداً للأحداث ولا تسجيلاً للوقائع، ولكنه عرض لذلك كله مع
التفسير والتحليل، واستخراج للعبر والدروس من هذه الأحداث، هكذا ينبغي علينا
أن نفهم التاريخ كما فهمه أسلافنا؛ فملكوا الدنيا وخضعت لهم العرب والعجم.
يُعرّف ابن خلدون التاريخ فيقول: «.. فإن التاريخ من الفنون التي تتداولها
الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال. وهو في ظاهره لا يزيد عن أخبار
عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل
للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة
عريق» [1] .
بين أيدينا الآن قصة وقعت أحداثها في بدايات القرن العاشر من الهجرة؛ ولها
صلة وثيقة بما يحدث من أحداث في واقعنا المعاصر، هذه القصة ذكرها الأستاذ
«محمود شاكر» صاحب «موسوعة التاريخ الإسلامي» في كتابه
«المغالطات» ، طبعة المكتب الإسلامي، وسوف نقف معها ونذكرها مثالاً
لأحداث التاريخ الإسلامي، وكيف تُستخرج منها الدروس والعبر؟
يقول الأستاذ محمود شاكر - باختصار -:
«عندما احتل البرتغاليون (عدن) عام 919 هـ رفض أهل هذا البلد
الاحتلال، وقاوموه بما يملكون، ولكن استطاع البرتغاليون أن يقهروا السكان بما
يحوزون من أسلحة نارية حديثة، واضطر القسم الأكبر من العدنيين إلى ترك
موطنهم واللجوء إلى الأراضي المجاورة؛ حيث عُرفوا هناك باسم» اللاجئون «،
وأُجبر القسم الأكبر من العدنيين على الخنوع والبقاء في ديارهم تحت عصا الذل
وسيف الإرهاب، وحرصت الدول المجاورة، كمصر التي يحكمها المماليك، أن
تقاتل البرتغاليين ولكنها هُزمت.
- نجحت البرتغال في أن تمد قنوات بينها وبين حكام الدول المجاورة عن
طريق المال والمصالح والسلاح، وكان التعاون بينهم في سرية بعيداً عن أعين
السكان؛ حيث كانت الشعوب ترفض هذا التعاون رفضاً تاماً، فأظهر الحكام أنهم
يعادون البرتغال وهم يلتقونهم سراً ويجتمعون معهم.
- البرتغاليون أنفسهم - من باب المغالطة - يهاجمون هذه الدول علناً؛ حتى
يلبسوا على الناس أمرها.
- لم يجرؤ أحد على الدعوة إلى الرضا بالأمر الواقع أو الدعوة إلى السلام.
- كان المخطط الصليبي يقضي بأن يتقدم كل حاكم خطوة، ولكن طالت المدة
وزادت على خمسة عشر عاماً.
- فهنا برزت فكرة جديدة؛ وهي أن يتولى حل المشكلة أحد أبناء عدن، ولا
سيما من الذين يعيشون خارج مدينة عدن؛ ليكون بعيداً عن البرتغاليين، ولتكون له
الحرية، فوقع الاختيار على شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره يُدعى» عبد
الرؤوف أفندي «، فعرض عليه أحد السلاطين العملاء أن يختار معه شباباً يثق بهم؛
ليقوموا بتأسيس منظمة تعمل على طرد البرتغاليين المغتصبين، وتقوم السلطات
بدعم هذه المنظمة ومدّها بما تحتاج إليه. وتعهد السلاطين بحمايتها ومد يد العون
لها، ودعوة أعوانهم للانضمام إليها؛ (فتبني أهل البلد مهمة العمل أفضل،
وخاصة أمام المحافل الدولية) ، ومُنح» عبد الرؤوف «وعد بأنه سيكون له شأن
كبير وإمكانات مادية عالية، هذا بجانب السلطة العسكرية وإصدار الأوامر.
- وافق» عبد الرؤوف «، وحَلَّتْ منظمته محل حركة مفتي عدن،
واشترطوا عليه ألا يخرج عن رأي السلاطين.. وهكذا كان.
- بدأ» عبد الرؤوف «اللعبة وأصبح اسمه» ياسين «، وادعى النسب
الحسيني، وأسس منظمته، وأنشأ فصائل للقتال، وانخرط في صفوفها كثير من
العدنيين المشردين، وبدأت تخوض المعارك، وتدخل إلى الأرض المحتلة وتقوم
ببعض العمليات الناجحة، فارتفعت أسهمه، وأصبح في مصاف القادة ورواد الأمل
في العودة لدى المشردين.
- نادى» ياسين «بحمل السلاح بوصفه الحل الوحيد لإنهاء المشكلة،
واللغة الوحيدة التي يفهمها العدو، وصار لا يقبل المهادنة ولا المساومة، وبالمقابل
شن عليه الأعداء حملة شعواء واتهموه ومنظمته بالتخريب و ... ، وتدفقت عليه
أموال التبرعات والمعونات، وأصبح على مستوى السلاطين.
- شن البرتغاليون غارات على مخيمات اللاجئين، وقاموا بعدد من المذابح
الرهيبة؛ وذلك لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع.
- ضغطت الدول الأوروبية على السلاطين لإنهاء المشكلة، فعقدوا اجتماعاً
وقرروا الاعتراف بالوضع البرتغالي في عدن؛ على أن يتولى إعلان ذلك الزعيم
العدني» ياسين «.
- وانتفض العدنيون المقيمون في موطنهم؛ مما دعا الأوروبيين إلى عقد
مؤتمر عالمي لإحلال السلام في المنطقة وإنهاء المشكلة.
- أنيطت القضية بالزعيم» ياسين «الذي أعلن أنه مستعد لحضور المؤتمر
العالمي، وأنه يتحدى البرتغال أن تحضر! - وهي التي تتمناه -، فتمنعت تمنع
الراغب لإتمام اللعبة وإخفائها عن الشعب، وتقوية موقف» ياسين «وإبرازه على
أنه هو الذي يدعو وهي التي ترفض؛ أي أن الممتنع هو الموافق، والراضي هو
الرافض!
- أعلن أحد السلاطين أنه تخلى عن عدن، وأن أهلها أحرار يحلون أمورهم
بأنفسهم! - وهو الذي كان يعدُّ عدن جزءاً من أرضه -، فأصبحت عدن وحدها
أمام البرتغاليين.
- أعلن» ياسين «أن لأهل عدن حكومة خاصة، وأنه على استعداد
للاعتراف بالكيان البرتغالي، وبذلك أصبحت هناك حكومتان؛ إحداهما لأهل عدن
المشردين، والأخرى للبرتغاليين ولهم الجزء الأكبر من عدن!!
- استمر هذا الوضع حتى جاء العثمانيون عام 945 هـ وطردوا البرتغاليين
من المنطقة.
- وقف أهل عدن يفكرون بالدور الذي مارسه» ياسين «عليهم؛ منهم من
قال بقي» ياسين «يغالط علينا حتى وصل بنا إلى ما كنا نخشاه، ووافق على كل
هذه الحلول التي كنا نرفضها، أعطيناه القيادة ليبيع قضيتنا، ليبيع أرضنا، ليبيعنا.
بعدها بدؤوا يبحثون عن أصله ولكن.. فات الأوان.
- أما أعوانه فيقولون: إن الطرق كلها مسدودة، والحلول التي طُرحت قد
أجهضت أو أخفقت، وليس أمامنا سوى ما تم. ما أشبه الليلة بالبارحة!!» [2] .
بعد عرض أحداث هذه القصة نورد هذه التعليقات المهمة:
1- تشبه هذه القصة بأحداثها ما يحدث في واقعنا المعاصر؛ مما يدل على
تشابه مخططات أعداء الإسلام عبر التاريخ في محاربة هذه الأمة، وصناعة
العملاء الذين يكون لهم الدور الأهم في هذا العداء.
كما تبين القصة استمرارية هذا الصراع، وأنه لا يهدأ أبداً وإن اختلفت
صوره؛ فإنهم كما قال - تعالى -: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ
إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) .
2- بيان حال المسلمين عند بعدهم عن دينهم الذي هو مصدر عزتهم؛ إذ
يصيبهم الضعف والوهن، ويتمكن أعداؤهم منهم؛ مما يؤدي إلى تشتتهم في البلاد
لاجئين، أو وقوعهم تحت عصا الذل وسيف الإرهاب في بلادهم على يد أعدائهم،
هذا كله بسبب تنكبهم لطريق الهداية في كل زمان.
3- بيان حال حكام المسلمين الذين هم إما صنيعة الأعداء أو عملاء مخلصون
لأسيادهم؛ بسبب عبوديتهم للمال والسلطة والمصلحة، فهم لا يهمهم مصلحة
أوطانهم، ولا حماية ديار المسلمين، ولا الذود عن الإسلام؛ المهم عندهم هو
كراسيهم وعروشهم حتى لو تعاونوا مع أعدائهم. وهذه صورة لما يحدث في كل
زمان على يد بعض هؤلاء الحكام العملاء.
4- مدى السذاجة التي تتصف بها بعض الشعوب المسلمة؛ سواء مع حكامهم
أو مع أعدائهم؛ حيث يكونون مغيبين لا وعي عندهم ولا دور لهم في الأحداث،
هذا سببه في المقام الأول هو البعد عن مصدر العزة الأساسي ألا وهو الإسلام،
فالمسلمون عند تمسكهم بدينهم يكون لديهم استعداد للجهر بالحق، ولا يكون للكافرين
عليهم سبيلاً، أما عند بعدهم عن دينهم فهم أذل الخلق وأهونهم؛ لا يهمهم إلا إتيان
الشهوات، يتلاعب بهم أعداؤهم وهم لا وعي عندهم بما يجري من أحداث.
5- لا يستطيع الزعماء والحكام والسلاطين العملاء أن يتحكموا في رقاب
الناس إلا بخداعهم وغشهم، وتغييب وعي الناس عن طريق وسائل إعلامهم في كل
عصر، فمن مَدْحٍ للزعيم وتضخيم لدوره، إلى شتم للأعداء أحياناً، إلى دعوة
للسلام.. هذا كله لتغييب الشعوب وخداعها.
6- صناعة الزعماء: وهذا أهم هذه التعليقات، فهذه القصة توضح بجلاء
كيفية صناعة الزعماء، وهذا ديدن أعداء الإسلام في كل زمان، فهم يختارون
شخصية نفعية لا تحب إلا مصلحتها وتعشق السلطة والمال، ثم يحاولون صناعته
عن طريق إبراز دوره وتضخيم أعماله، فيحدث التلميع لهذه الشخصيات حتى
تصير زعماء، وهذا هو الدور الخطير الذي تمارسه وسائل الإعلام، وهكذا تم
صناعة ياسين وغيره قديماً.
وحديثاً: عندما رحل الاحتلال عن بلاد المسلمين ترك خلفه صنائع هي من
صنع يديه، وحتى يُمَكِّن لها قام بتلميعها وتضخيم دورها حتى تكون هي الزعامة..
وفقط، فهذا «الزعيم الملهم» ، وذلك «القائد» ، وذلك «الغازي» ، وذلك
«الرئيس المؤمن» .. هكذا صنعوا أتاتورك، وسعد زغلول، وجمال عبد
الناصر، وياسر عرفات.. وغيرهم ممن تحكموا ويتحكمون في رقاب المسلمين،
هكذا استطاع أعداء الإسلام إنتاج صنائع لهم وعملاء ووكلاء يؤدون ما يُطلب منهم؛
في جميع المجالات وليس في السياسة فقط.
وهذه القصة صورة مصغرة لطريقة تكوين الزعماء والأبطال والفاتحين
المزورين؛ فكم من مرة حولوا الجهاد لصالحهم، وسرقوا الثورات والانتصارات؟!
وكم من مرة تاجروا بقضايا المسلمين؟!
إن ما يحدث الآن في القضية الفلسطينية والدور الذي يقوم به الآن «ياسر»
هو الدور نفسه الذي كان يقوم به «ياسين» ، فكم من «ياسين» صنعوه، وكم
من نصر سرقوه؟!
حقاً.. ما أشبه الليلة بالبارحة!
__________
(1) عن كتاب: أيعيد التاريخ نفسه؟! محمد العبدة، المنتدى الإسلامي، الغلاف.
(2) المغالطات، باختصار، ص 79 - 86.(183/112)
المنتدى
من ثمرات المنتدى الإسلامي
ها نحن نجدد اللقاء معكم لتشاركنا قطف ثمار إنجازاتنا خلال أشهر (شعبان
- رمضان - شوال) لعام 1423هـ، لتمتد انطلاقتنا متواصلة بفضل الله تعالى
منذ عام 1406هـ.
أخي الحبيب: لم يكن المنتدى ليستطيع تحقيق هذه الثمار لولا دعم أصحاب
الأيادي البيضاء من أهل الخير- بعد فضل الله عز وجل -، وها هم الآن
يشاركوننا في قطف ثمار بذلهم وسخائهم.
وإننا لندعو الله عز وجل أن يتقبل من كل من أسهم معنا في بناء هذا الخير
واستمراره ونشره، وندعوه عز وجل أن يستمر العطاء ليزداد النماء.
قطرات من الماء تبهج آلاف الفقراء
الماء عصب الحياة وقوامها، ولا غنى عنه للأحياء من البشر والدواب،
والتصدق بسقي الماء من أعظم الصدقات؛ حيث سئل (صلى الله عليه وسلم) :
«أي الصدقات أفضل؟ قال: الماء» رواه الحاكم وأبو داود.
من هذا المطلق حرص المنتدى على تتبع مواقع حاجة الفقراء المسلمين إلى
الماء ليعظم الأجر ويزيد الفضل؛ ولذا فقد حفر المنتدى الإسلامي (64) بئرًا في
كل من: (السودان، تشاد، كينيا، نيجيريا) ، ليصل عدد الآبار التي حفرها
المنتدى حتى الآن إلى 814 بئرًا، والحمد لله.
مشروع تفطير الصائمين
إيمانًا منَّا بأجر تفطير الصائم الذي جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: «من
فطر صائمًا كان له مثل أجره؛ غير أنه لا ينقص من أجره شيئا» رواه أحمد
والترمذي.
وبفضل من الله تعالى تم مشروع تفطير الصائمين لعام 1423هـ في (34)
دولة في قارتي إفريقيا وآسيا؛ بمبلغ (4.184.750) ريالاً، وقد استفاد منه
(2.141.684) صائمًا.
وأقيم خلال المشروع عدد من الدورات العلمية، والدروس الشرعية، والبرامج
الدعوية المكثفة، كان من نتائجها: إسلام أكثر من (52) شخصًا، والحمد لله.
(900) شخص ينطقون بالشهادة
لا يكتفي دعاة المنتدى الإسلامي بالدعوة في أماكن وجودهم فقط , بل ينتقلون
من مكان إلى مكان لنشر دين الله تعالى، وتعريف الناس به.
وقد سيَّر المنتدى الإسلامي (8) قوافل دعوية في كل من: (تشاد، بنين،
توجو) ، كان من أهم نتائجها بعد فضل الله تعالى إسلام (900) شخص، ولا
شك بأن هذه نعمة كبيرة، ولكنها في الوقت نفسه مسؤولية عظيمة؛ توجب على
الدعاة رعاية هؤلاء وتعليمهم وتربيتهم؛ حتى يعبدوا الله على بصيرة.
(11) مسجداً في (8) دول
استمرارًا لمسيرة المنتدى الإسلامي، وحرصًا منه على نشر دعوة الإسلام
وتعليم المسلمين أمور دينهم؛ فقد حرص المنتدى على بناء المساجد وتهيئتها لتكون
أماكن للعبادة والدعوة وتعلم أحكام الإسلام، وقد أنشأ المنتدى الإسلامي (493)
مسجدًا، كان آخرها (11) مسجدًا في (8) دول هي (بنين، توجو، غانا،
إندونيسيا، الهند، السودان، اليمن، مالي) .
معاً لنخرجهم من الظلمات إلى النور
في ظل الهجمة الشرسة على الإسلام في كل مكان يتوجب على المسلمين
مضاعفة العمل للتعريف به؛ لذا فقد كان لمكتبنا في لندن جهود في ذلك؛ حيث عُقد
لقاء تعريفي عن الإسلام؛ استهدف العديد من المسؤولين في المجلس البلدي،
والشرطة، والبرلمان، وعددًا من الأطباء غير المسلمين، بالإضافة إلى عدد من
الشخصيات الإسلامية، ولقد كان لحضورهم مشروع التفطير الذي يقيمه المكتب
الأثر الكبير في نفوسهم.
إسلام سلطان قبائل «قولاي»
الذي يتبعه أكثر من (70.000) نسمة
يعيش آلاف بل الملايين من البشر في أنحاء العالم المحرومين من نعمة
الهداية، بعيدين عن الصواب، ومن هؤلاء قبائل (قولاي) في محافظة (دونا
منجه) في دولة تشاد، وبفضل الله تعالى: أعلن سلطان هذه القبائل إسلامه في
شهر رمضان المبارك، ويتبع هذا السلطان أكثر من (70.000) نسمة، وهو
أول رجل في قبائل (قولاي) يدخل الإسلام.
الجدير بالذكر أن هذا السلطان واسمه (موسنقار) غير اسمه إلى محمد، كما
أسلم معه مساعده (مونقلو نقار) وسمى نفسه موسى، وأسلم بعدهما الرجل الثالث
(نادي جينقار) وسمى نفسه يوسف، ونسأل الله تعالى أن يفتح قلوب أتباعهم
للهداية، ويبصرهم بالدين، ويثبتهم عليه.
أثر الطاولات الدعوية يتجاوز حدودها
ساهمت إحدى الأخوات التي أسلمت إثر إحدى الطاولات الدعوية في لندن؛
في إسلام (3) نساء أخريات. كما أشهر أربعة أشخاص إسلامهم في مكتبنا في
لندن.
ستون مسلمًا يعتكفون ولسنة الهادي يُحيون
إحياءً لسنة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في الاعتكاف في شهر
رمضان؛ فقد ساهم المنتدى الإسلامي في تشجيع 60 شاباً على الاعتكاف في العشر
الأواخر في مسجد المركز الرئيس للمنتدى الإسلامي في لندن، واستثمرت هذه
الأيام المباركة في جوانب متعددة من العبادة والعلم والتربية، ولله الحمد والمنة.(183/116)
المنتدى
ردود
تتوالى الرسائل من جمهور القراء بين مشاركات وتعقيبات وتصويبات
واقتراحات. ونحاول الرد عليها قدر المستطاع لا سيما أن المجلة شهرية وليس من
السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء لأسباب عملية وفنية.
- منذ نعومة أظفاري وأنا أتتبع هذه المجلة، بل كنت أنتظرها بفارغ الصبر
لأجدد أفكاري....
نعم إن قلمي لن يستطيع أن يبث ما في الفؤاد، ولكن لا يسعني إلا قول:
(جزاكم الله عنَّا كل خير) .
أتقدم في الختام باقتراح ولربما قد لا أكون الأول الذي يصرح به ولكن من
باب المشاركة:
أرى إخراج مجلة رديفة ولو نصف فصلية تخاطب الشاب الملتزم وما يلاقيه
من تيارات منحرفة لا سيما في هذا العصر الذي يصعب أن تجد من تثق بعلمه
وأمانته وتتنور بمنهجه وطريقته، أو أنه مما يصعب الوصول إليهم.. بحيث تناقش
القضايا الفكرية، والقضايا الشبابية، والقضايا المنهجية.. إلى غيرها مما هو مهم؛
مع أني أرى ضرورة وضع لجنة تقوم بدراسة مثل هذه الفكرة مع مناقشة ما
يناسب طرحه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم ماجد بن سعود آل عوشن
المدرس بمتوسطة عبد الله بن وهب
... ... ... ... ... ... ... ... ... مدير إدارة التسويق بتنمية الموارد
- وردنا تنبيه من القارئ الكريم (سلطان السحيباني) حول ما لاحظه من
ذكر كلمة (دولة إسرائيل) وأنه لزم عدم ذكر ذلك؛ لأنه يوحي بالاعتراف بها،
ويمكن أن يكون البديل (دولة الصهاينة) ، (دولة اليهود) ، ونحن نقدر للأخ
الكريم بصحة نظره ونفيده بأننا نؤيد ما ذكره؛ لكننا أحيانًا ننقل عن (غيرنا)
ونحرص في الوقت نفسه على أن نضعها بين قوسين وهذا يعني موقفنا الرافض لها.
- القارئ الكريم أحمد بن صالح الرشد يرى أهمية مناقشة (واقع القنوات
الفضائية الإسلامية) ومدى مناسبة المشاركة فيها في خضم الأخذ والرد القائم حول
الموضوع، ولا شك أن هذا موضوع حيوي، وسيرى القراء الكرام في هذا العدد
دراسة تأصيلية لحكم المشاركة في وسائل الإعلام، ويسعدنا مشاركة المتخصصين
بتعليقاتهم.
- القارئ الكريم أمين علي الهندي في رسالة مطولة أثنى فيها على مجلة
البيان بعد قراءته لبعض أعدادها، ويطالب باستكتاب عدد من العلماء المشهورين
والحوار معهم، وأهمية استحداث باب بعنوان: (يوميات مجاهد من أرض الجهاد)
ووضع مسابقة شهرية تكون جوائزها دروساً علمية للعلماء، وتكون المسابقة كتابة
أبحاث عن واقع أمتنا وسبل النهوض بها. وضرورة فتح المجال للشباب وتشجيعهم
على الكتابة، وأهمية اختيار خطبة أو محاضرة شهرية مكتوبة، وإرفاق شريط مع
العدد هدية للقراء، وأهمية كتابة مراسلي المجلة لواقع مجتمعاتهم وما فيه من أخبار،
ونحن نشكر الأخ الكريم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتواصين بالحق.
- الأخ الكريم (رجب الباسل) : ستصلك رسالة خاصة حول مشاركتك
المرسلة عبر بريدك الإلكتروني.
- الإخوان: عبد الرحمن بن إبراهيم، محمد الثاني بن عمر بن موسى.
نرجو التكرم بإفادة المجلة بعناوين مراسلة لكما، وجزاكما الله خيرا.
__________
تنبيه
يسعد أسرة التحرير أن ترحب بمشاركات الكتاب والقراء أجمل ترحيب،
ونرجو من أحبتنا الذين يرسلون رسائلهم بريديًّا أو عبر الناسوخ أو عن طريق
البريد الإلكتروني - لو تكرموا - ملاحظة ما يلي:
1- أن تكون الرسائل والمقالات مطبوعة أو مكتوبة بخط واضح.
2- أن تكون الكتابة على وجه واحد من الورقة.
3- أن يذكر المرسل اسمه وعنوانه الذي يمكن مراسلته عليه.
4- أن يتأكد عند إرسال الرسالة عبر الناسوخ من وصولها سليمة؛ لأننا
نعاني كثيرًا من وصول بعض الرسائل غير الواضحة أو الناقصة.
5- أن تخرَّج الآيات والأحاديث.
6- توثيق النقول من مصادرها العلمية.
7- المقالات التي ترد ويُعتذر عن نشرها لأسباب تراها أسرة التحرير لا
يعني عدم صلاحيتها، وربما تجد لها مجالاً في موقع آخر.
8- تاريخ النشر يخضع لخطة التحرير نصف السنوية.(183/119)
بأقلامهن
فلسفة التطور وأثرها في قضايا المرأة
د. رقية طه جابر العلواني
drruqaia@yahoo.com
تُعَدُّ نظرية التطور الدارونية من أخطر الفلسفات التي سادت الفكر الغربي
خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وتبرز خطورة هذه النظرية من خلال محاولة
عدد من علماء مقارنة الأديان سحب وتطبيق هذه الفلسفة في مجال الدين، فأصبح
الدين في فكر هؤلاء خاضعاً للتطور؛ شأنه في ذلك شأن مختلف الكائنات التي
تطورت من الأدنى إلى الأعلى.
لقد ساق التأثر بنظرية التطور في الفكر الغربي؛ إلى ظهور اتجاه يرى أن
الأحكام الشرعية الثابتة بالوحي - على وجه العموم - ما هي إلا أحكام ذات قيمة
تاريخية نسبية خاضعة للتطور والتغير المستمر.
ويمثل هذا الاتجاه في اليهودية «الحركة الإصلاحية أو التنويرية» التي
نشأت في ألمانيا عام 1845م، وأصدرت فلسفتها الأولى القائمة على اعتبار أن
اليهودية ديانة تطورية بشكل دائم؛ موافق لمتطلبات الزمان والمكان، واحتياجات
العصر وتغيراته.
«judaism had always been a developed religion that
conformed to the demands of the times..» . [1]
وسارت «الحركة الإصلاحية البروتستانتية» في النصرانية على نهج
مقارب؛ إذ تبنت تأويلات جديدة لنصوص الإنجيل تساير مفهومات فلسفة التطور
ودلالتها، فأنكرت أن يكون الإنجيل وحياً إلهياً، وركزت على تاريخية نصوصه،
واستعاضت عن الأحكام الثابتة بتلك النصوص بالتركيز على السلوك الأخلاقي
كأساس للحياة النصرانية.
«These Protestants attempted to find new interpretations
of religious experience and an understanding of history
that could accommodate the implications of the theory of
evolution..To a large extent they denied literal inspiration
of the Bible and the historicity of the Jesus Christ of the
Gospels. They stressed ethical and moral behvior rather
than adherence to formal creeds as essential to Christian
life» . [2]
وقد نجم عن تطبيق نظرية التطور في الفكر الغربي (في علم مقارنة الأديان
على وجه الخصوص) كذلك؛ نظريات «الإسقاط» عند «أوجست كونت»
وغيره ممن ذهب إلى أن الدين والفلسفة قد مرّا بمراحل بائدة منقرضة، وأن ليس
ثمة تفسير للوجود العام والخاص إلا العلم المادي الوضعي، فالدين عند الوضعيين
إسقاطات وتراكمات تاريخية.
وهكذا انتقل الدين في الوعي الغربي من مصدر للمعرفة والحقيقة إلى تراكم
تاريخي صدى لزمان وواقع ينبغي تجاوزه [3] .
وانعكست تلك الفلسفة على قضية المرأة في الفكر الغربي؛ عندما دعت
«الحركة الإصلاحية» في اليهودية في عام 1846م إلى مؤتمر تمّ فيه إلغاء
كل أحكام التوراة والتلمود وإسقاطها، واعتبارها صدى لأوضاع تاريخية
بادت وانقرضت، ولا بد من تغييرها وإسقاطها لتواكب روح العصر ومتطلباته.
كما تمّ فيه إقرار حقوق المساواة بين الجنسين في جميع النواحي الدينية والاجتماعية،
ودعا المؤتمر إلى تحرير المرأة اليهودية [4] .
وقد وصلت رياح تلك الفلسفة إلى عدد من دعاة المساواة في المجتمعات
المسلمة، فالدين بمختلف أحكامه المتعلقة بالمرأة - على وجه الخصوص - قابل
للتطور والتدرج وفق متطلبات الحياة الاجتماعية؛ حيث إن تلك التغيرات كافية
لإحداث مثل هذا التطور في الدين وأحكامه التشريعية.
وبناءً عليه ذهب عدد من أصحاب هذا الاتجاه إلى المطالبة بمساواة المرأة
للرجل في جميع الحقوق، والقول بأن التشريعات الثابتة بنصوص القرآن الكريم أو
السنة النبوية؛ لا ينبغي أن تُفهم إلا ضمن إطارها التاريخي، ومن خلال الأعراف
القبلية السائدة حين نزولها!
ولم يفرّق هؤلاء بين الدين من حيث كونه تشريعاً ثابتاً بنصوص القرآن
الكريم والسنة، غير قابل للتغير والتطور من جهة، وبين اجتهادات العلماء
وتأويلاتهم لتلك النصوص المرهونة بظرفيتها التاريخية والاجتماعية، والقابلة
للتغيير باعتبار نسبيتها من جهة أخرى. فكل الأحكام الشرعية - في نظرهم -،
سواء منها ما كان ثابتاً بنصوص القرآن والسنة، أو ما ثبت عن طريق الاجتهاد
الفقهي، قابلة للتغير والتبدل تبعاً لتغير الزمن وحركة التاريخ المستمرة.
ونصوص القرآن الكريم والسنة الصحيحة بما حوته من مبادئ قانونية وأحكام
تشريعية كانت عندهم واردة ضمن سياق ثقافي واجتماعي واقتصادي محدد، أما وقد
تغير السياق وتبدلت تلك الظروف الاجتماعية والثقافية وتطورت؛ فهذه الأحكام
قابلة بدورها كذلك للتغير والتطور!!
والأحكام المتعلقة بالمرأة نزلت في مجتمع لم يكن ليعطي للمرأة أي حق من
الحقوق، وقد تغير هذا المجتمع وتطورت المفهومات المتعلقة بالمرأة وحقوقها، فلا
بد لديهم من تطور تلك الأحكام كذلك من خلال الحكم عليها بالتاريخية والظرفية!
لقد كان العديد من تلك الاتجاهات في المجتمعات المسلمة صدى لأفكار رواد
فلسفة التطور في الفكر الغربي، بل إن فحوى هذا الاتجاه ورد على لسان
Franz Rosenzweig «» (1886 - 1929م) الذي أكد أن الأحكام
الشرعية الثابتة بالنص - في اليهودية - لا يجوز النظر إليها كمُثل أفلاطونية خالدة؛
بل لا بد من اعتبارها مفهومات متحركة نامية تخضع للتغير والتجدد في كل
عصر وزمان [5] .
إن القول بتاريخية النصوص الشرعية، ومحاولة تأويل الأحكام الثابتة بها
وفق السياق الثقافي أو الاجتماعي الذي نزلت فيه، والنظر في تغيير تلك الأحكام
وتطويرها وفقاً لتطور العصر والمجتمعات؛ يمكن أن يسوق إلى إلغاء الأحكام
الشرعية بأسرها من خلال الحكم عليها بالتاريخية والظرفية.
ولا تخفى خطورة هذا القول في محاصرة الأحكام الثابتة بالنصوص الشرعية،
ومن ثمّ الحكم على الإسلام بالإقليمية والنسبية، وتقويض عالمية رسالته
وصلاحيتها لتجاوز الظرفية الزمانية والمكانية، والتي هي من أبرز سمات هذا
الدين الخاتم.
__________
(1) Britanica Encyclopedia, 1999, Inc CD-ROM, Judaism.
(2) Encarta CD, Modernism and Protestantism.
(3) Encarta Encyclopedia, 1997, CD-ROM, Genesis.
(4) Danise Lardner Carmody, Women & World religions, Prenice Hall Inc, New Jersey, 2 ed, 1989, p 152.
(5) Jacob Neusner, Judaism in Modern Times, Blackwell Publishers, USA, 1995, p 116.(183/120)
في دائرة الضوء
مآلات الحضارة
د. مصلح عبد الحي النجار
قال الإمام القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) :
«أخبر الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل؛ لا لأنه
يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، ولا خلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية
مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى؛ أَمَرَ مترفيها بالفسق والظلم فيها، فحق عليها
القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها
إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى» .
يظن بعض الباحثين أن حضارة أي أمة عبارة عن علومها، وآدابها، وفنونها،
وصناعاتها، وبدائعها، وأطوارها في الحياة المدنية والاجتماعية، وأسلوبها في
الحياة السياسية، ولكن الحقيقة أن كل هذه الأمور ليست هي الحضارة نفسها، وإنما
هي نتاج الحضارة ومظاهرها، وما هي بأصل الحضارة، وإنما هي أوراق شجرة
الحضارة وثمارها.
إذا صح هذا؛ فلا يجوز أن نحدد وزن حضارة وقدرها وقيمتها على أساس ما
لها من هذه الصور الظاهرة والسمات العارضة، وإنما علينا أن نتوصل إلى روحها،
ونتحسس أصولها؛ صارفين النظر عن كل هذه الصور الظاهرة والسمات
العارضة.
والواقع أن للحضارة مآلات كثيرة ومتشابكة؛ يؤثر بعضها في بعضها الآخر،
وإن أول ما يكون من توابع الحضارة هو الميل إلى الترف الذي يؤدي إلى
ازدهار الصناعات وتشكل فنونها، ولكن ازدهار الصناعات لا يلبث أن يجعل
البشر يتمادون في الترف والشهوات بالتدريج إلى أقصى الحدود، ولكن لصالح
بعضهم فقط، وعلى حساب بعضهم الآخر، وحينئذ تفسد الأخلاق وتنهار، ويكون
ذلك مؤذناً بانهيار الدول والحضارات ذاتها؛ وبيان ذلك على النحو الآتي:
أ - الميل إلى الترف:
إن الميل إلى الترف هو نتيجة لحصول الرئاسة؛ حيث إن أمور الحضارة من
توابع الترف، والترف من توابع الثروة والنعيم، والثروة والنعيم من توابع الرئاسة،
والرئاسة هي دور انتقالي من خشونة البداوة إلى رقة الحضارة، وهذا الانتقال لا
يكون إلا بالسعي إلى تحصيل الكمالي بعد حصول الضروري، والسبب في ذلك أن
الحضارة هي أحوال معتادة زائدة على الضروري من أحوال العمران؛ زيادة
تتفاوت بتفاوت الرفاهة، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتاً غير منحصر.
ب - ازدهار الصناعات:
الميل إلى الترف، والانغماس في الشهوات والملذات، والترفه في الحاجات
الكمالية من شأنه أن يؤدي إلى الزيادة في إنتاج تلك الحاجات الكمالية، وأن يشجع
الصُّنَّاع الذين يصنعونها على الإكثار منها، والتفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون
بمنزلة الصناعات، ويحتاج كل صنف منها إلى القَوَمة عليه والمهرة فيه، وبقدر ما
يزداد من أصنافها يزداد أهل صناعتها ويتلون ذلك الجيل بها، ومتى اتصلت الأيام
وتعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصُّنَّاع في صناعاتهم، ومهروا في معرفتها،
والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكاماً ورسوخاً.
ج - ازدياد الترف وانتشار الفقر:
فالترف يولِّد الترف، والصناعات التي كانت وليدة الحاجة إلى الترف؛
تصبح عاملاً في المبالغة فيه درجة درجة، إلى أن يصل إلى غايته، وإذا بلغ
التأنق في الأحوال المنزلية وغيرها الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من
تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها؛ أما دينها
فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها. وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات
التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها. بيد أن نزعة التأنق هذه التي
هي وليدة الميل إلى الرفاهية لا تلبث أن تأخذ مجراها في مجاري الحياة الاجتماعية،
فتخضع عندئذ لمنطلقها القسري، فيتساقط التجار واحداً بعد واحد في هوة الفقر.
ويصف لنا ابن خلدون الآلية التي يخضع لها الميل إلى الترف في المجتمع
فيقول: «وبيانه أن المِصْر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله، والحضارة
تتفاوت بتفاوت العمران؛ فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل، فالمِصْر
الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجته، ثم تزيدها المكوس غلاء؛
لأن الحضارة إنما تكون عند انتهاء الدولة في استفحالها، وهو زمن وضع
المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ، والمكوس تعود على البياعات بالغلاء؛ لأن
السوقة والتجار كلهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في
مؤونة أنفسهم، فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها، فتعظم نفقات
أهل الحضارة وتخرج عن القصد إلى الإسراف، ولا يجدون وليجة عن ذلك لما
ملكهم من أثر العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في
الإملاق والخصاصة ويغلب عليهم الفقر..» .
د - فساد الأخلاق:
وإذا وصلت حال الحضارة في العمران إلى هذا الحد؛ تبع ذلك فساد الأخلاق،
وانتشار الشرور، ويكون ذلك في بداءة الأمر في طريق تحصيل المعاش.
يقول ابن خلدون: «وأما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص،
فمن الكد والتعب في حاجات العوائد، والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود
على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها، فلذلك يكثر
منهم الفسق والشر والسفسفة، والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير
وجهه، وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له،
فتجدهم أجرياء على الكذب، والمقامرة، والغش، والخلابة المخادعة، والسرقة،
والفجور في الأيمان، والربا في البياعات، ثم تجدهم أبصر بطرق الفسق ومذاهبه
والمجاهرة به وبدواعيه، وإطراح الحشمة في الخوض فيه، وتجدهم أيضاً أبصر
بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب
على تلك القبائح، حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم إلا من عصمه الله» [1] .
وهكذا تنتهي الحضارة إلى فساد الأخلاق، كما انتهت إلى فساد وجوه المعاش
ووقوع الناس في هوة الفقر، بل إن فساد الأخلاق ليس إلا نتيجة لفساد وجوه
المعاش ولانتشار الفقر.
ولا تكون الحضارة قد بلغت هذا المبلغ حتى تكون قد أشرفت على نهايتها،
وحملت عناصر الخراب المودية بها.. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله
بخرابها وانقراضها، وهو معنى قوله تعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) ،
ووجهه حينئذ أن مكاسبهم لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها، فلا
تستقيم أحوالهم، وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة
وخربت.. فافهم ذلك واعتبر به!
__________
(1) للاستزادة ينظر: مقدمة ابن خلدون (3/871 - 879) .(183/122)
الورقة الأخيرة
الشعور بالخصوصية: حاجة أم توهم
سليمان بن سعد بن خضير
يخص الله من يشاء من عباده بما يشاء من نعمه، وأعظم منَّة منه - جل
وعلا - على عباده قاطبة: الهداية لدينه الذي ارتضاه، فيشرح لذلك صدر عبده
وينجيه من ضائقات الدنيا والآخرة؛ [فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ
وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] (الأنعام:
125) .
وهو - سبحانه - يخص من بين المهديين لدينه عباداً يوفقهم للمسابقة في
الخيرات والمبادرة إلى الطاعات، ويهبهم الفتوحات الربانية، فيضرب فئامٌ منهم
بسهم في الصدق والإخبات والورع، وآخرون بسهم في الصدقة والإخاء والمعروف،
وآخرون بسهم في الجهاد والعلم ونوافل العبادة.. وقد تنوعت عبارات علماء
السلف في وصف أهل العلم والعبادة، كل بحسب ما ظهر منه أو عرف عنه.
هذه الخصوصية الدينية بمنازلها المشرقة الوضيئة، ودرجاتها المشرفة العالية
هي نوع من الاصطفاء الذي ذكره - سبحانه - في قوله: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ] (البقرة: 132) أي واصطفاكم له، وفي
قوله: [يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ] (آل
عمران: 42) ، وفي قوله: [قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ
وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] (البقرة: 247) .
وأكثر ما ورد ذكر الاصطفاء في مقام المنة بالرسالة كما في قوله: [اللَّهُ
يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس] (الحج: 75) ، وقوله: [وَإِنَّهُمْ عِندَنَا
لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ] (ص: 47) ، كما وصف - سبحانه - هذا النوع
الراقي من الاصطفاء بأنه خصوصية الرحمة، فقال - تعالى -: [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (البقرة: 105) .
فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا أعظم الناس اصطفاء وأكملهم
خصوصية بالاستسلام لله رب العالمين، وكل من اقتفى أثرهم واتبع سنتهم قبس من
ذلك الاصطفاء بقدر متابعتهم ومشابهته إياهم في تألههم لربهم.. على أنه - في ذلك
كله - لن يصل إلى مقام الرسالة أو كمال أصحابها صلوات الله وسلامه عليهم.
إن شعور المسلم بهذه الخصوصية - وهو يسرح طرفه ما بين المشرق
والمغرب - يمنح قلبه إجلالاً وتعظيماً لربه الذي اصطفاه من بين جموع غفيرة قُدِّر
ألا تهتدي إلى صراطه المستقيم ... ويمده بروح منه وعون ألا يستبدل الذي هو
أدنى بالذي هو خير؛ فكل دين سوى الإسلام كفر.. وكل مذهب خلاف هدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداع؛ فما يزال انتماؤه لدينه الذي يؤمن أنه فخره
ورأس ماله، بل يوقن أنه حياته ومماته.. [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ] (الأنعام: 162-163) .
وشعوره بهذه الخصوصية - وهو يكابد تكاليف الحياة - يضفي عليه اطمئناناً
برعاية الله إياه ورجاء توفيقه لخير الخيرين.. اطمئناناًَ ورجاءً لا يعكر عليه فيهما
إلا تخوُّفه أن تزل به قدمه فيحرم نعمة الهداية، فيزداد توكله على ربه حين تتعلق
نفوس بأسباب الحياة، ويأنس بمولاه حين تكون المخاوف.. [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ]
(آل عمران: 173) .
وشعوره بهذه الخصوصية - وهو يعاني مغالبة أهوائه وتقلبات نفسه عليه -
يلقي في روعه الحياء من ربه وتصور مراقبته وعتابه؛ إذ كيف خصصتك من بين
عبادي فتفرِّط في نعمتي وتنقض غزلك من بعد قوته؟ [قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] (يوسف: 23) .
وليس هذا الشعور مجرد شعور طارئ، أو حالة نفسية قلقة، بل شعور يقيني
يبعث على الاطمئنان بالله والثقة به والإخبات له، وهو شعور قلبي راسخ يورث
دوام المراقبة، وهو شعور متدفق يذكِّر بالمسؤولية الذاتية، ويساهم - بنحو أساس
- في الثبات على دين الله.
هذا الشعور بأي من درجاته يفترض زيادته بقدر زيادة المسلم في الخير،
وبحسب استقامته وتدينه ليدفعه إلى تذكُّر ربه فيطمئن إلى ذكره ويتوكل عليه
سبحانه، ويسعى لمطالعة إحسانه ومعرفة شريعته وأسرار كتابه، ويحدوه لمراقبته
في سائر أعماله، فيستشعر خصوصية تملي عليه أن يكون حذراً أن يخدش
استقامتَه رغبةٌ جامحة أو عادة مستحكمة أو شهوة أو حظ نفس ما وجد إلى ذلك
سبيلاً.
ومتى تحولت مشاعر الخصوصية إلى نوع من الأعذار للإسراف في المباح،
أو تأشيرة مرور لممارسة ممنوع أو تراخٍ في واجب، أو قناع لمخادعة النفس من
أجل الرضى بمستوى تدين فاتر.. متى ما كان ذلك أشبه الشعور بالخصوصية
حينئذ مقام أولياء المتصوفة الذين رأوا أنهم تجاوزوا قنطرة العمل، وولجوا قصر
الوصاية وجنات خاصة الخاصة!!
الشعور بالتدين لا يبيح أن يقارف المسلم إثماً بالليل ينهى الناس عنه في
النهار بحجة أنه من ذوي الخصوصية. ولا يسوِّغ له - باسم الخصوصية - أن
يغض الطرف عن ممارسات خطيرة في وسط أسرته التي أكثرت عليه من أنهم
(غير الناس) وما أعجل ما اقتنع.
والشعور بالخصوصية لا يعني أن يفرط المسلم في أعماله ويتوانى في أدائها،
افتياتاً على ثقة الناس بتدينه، ولا يبيح أن يرد الحق - إذا جاء به أحد كائناً من
كان - بزعم أنه يعرف الحق، ومن نحو المحال أن يواقعه..
الشعور بالتدين يدفعنا لإنكار المنكر بدلاً من أن يقف دورنا عند حدود عملية
مراقبة مجردة تحت مسوغات متعددة.. الشعور بالتدين حين يكون سبباً في الازدياد
من العبادة والعلم أو حائلاً عن التواني في الطاعة والخير أو معيناً على الثبات..
هو حاجة ملحّة، وكثيرة هي مواقف السلف في تذكير بعضهم بعضاً بأحوال
الخصوصية، وأشهرها عند الاحتضار؛ لتحقيق حسن الظن بالله وابتعاث محبة
لقائه والشوق إليه.
وحين يتحول هذا الشعور إلى وأد روح العمل في سبيل الله، وإمداد النفس
بشيء من أهوائها التي حرمت منها حيناً من الدهر، وجسراً للتخلي عن أعباء
المسؤوليات المضنية؛ فهو أشبه ما يكون بالوهم أو التوهم؛ فالعبرة بالحقائق
والأفعال لا بالأماني والأشكال، وقد يصبح ذلك الشعور - أحياناً - نوعاً من انتحال
الصفات وتقمُّص الشخصيات الوارد نحوه في قوله صلى الله عليه وسلم:
«المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور» [1] وهو مرض نفس خطر.
مقارفة الذنوب والتفريط في الواجبات خطايا تستوجب الاستغفار، لكنها
- عندما تكون عن تسويغ بالشعور بالتدين - تصبح معضلة؛ فإن مشاعر التدين التي
أباحت فعل الذنب وترك الواجب تكون - في البداية - توهمات مفتعلة، ثم تبدأ شيئاً
فشيئاً في التخلُّق في الذهن، ومن ثم تتخلق في ما يسمى بـ (اللاشعور) فتتشكل
- تلك الذنوب - عنده أفعالاً لا إرادية ينطمس معها التفكير فيها وفي
صحتها، ويعز إيقاظ الفكر فيها، إلا بتنبيه قاس أو صدمة مزعجة.
__________
(1) رواه البخاري (4818) ومسلم (3972) وغيرهما.(183/124)
ذو الحجة - 1423هـ
فبراير - 2003م
(السنة: 17)(184/)
كلمة صغيرة
أكاذيب سياسية
جاء في ديباجة ميثاق هيئة الأمم المتحدة: (نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد
آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، والتي في خلال جيل
واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد
إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد وقَدْره، وبما للرجال والنساء،
والأمم كبيرها وصغيرها؛ من حقوق متساوية، وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن
نعيش معاً في سلام وحسن جوار) .
فهل حقاً مارس مجلس الأمن هذا الدور؟! وهل حفظت هيئة الأمم كرامة
الإنسان وحقوقه؟!
الحقيقة أنَّ أفضل وصف لهذا الميثاق أنه: «ميثاق سخيف» ، كما وصفه
«أرنولد توينبي» صاحب كتاب (مختصر تاريخ الحضارة) ؛ لأنه يضمن حق
النقض (الفيتو) للدول الكبرى، وهذا يعني: أن مصالح الدول الكبرى فوق كل
اعتبار، أما الضعفاء فليس لهم قيمة في هذه المنظومة الدولية!!
وازداد سخف هذا الميثاق بعد التفرد الأمريكي، والممارسات الديكتاتورية
التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على دول العالم؛ ولهذا لم يتردد ممثل
الصين في مجلس الأمن الدولي في وصف الضغوط الأمريكية بقوله: «إن أمريكا
تتعامل مع مجلس الأمن بالحذاء!» .
هذا الواقع يؤكد أن منطق العدل، وحقوق الإنسان.. وغيرها من الشعارات
والقيم التي يتشدق بها الساسة الأمريكيون؛ إنما هي جزء من الأكاذيب السياسية،
فالإدارة الأمريكية تقود العالم بمنطق القوة والجبروت، وهذا واضح وضوح الشمس
في رابعة النهار في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع القضية العراقية، فهي
تجرّ العالم كله وراءها للتصديق بأكاذيبها، وتفرض عليهم موقفاً لا يرغبونه،
ولكنهم يجب أن يصفِّقوا له!!
ونحسب أنَّ هذا الاستعلاء لن يدوم طويلاً؛ فالشعوب المستضعفة سوف
تُحييها هذه الممارسات الاستبدادية، وصدق المولى جل وعلا: [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ]
(البروج: 17-20) .(184/3)
الافتتاحية
منطلق الحجيج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين.. وبعد: فإنَّ
الحج ركن عظيم من أركان الإسلام، ومشهد جليل من مشاهد هذه الأمة، يجتمع
فيه المسلمون من أقطار المعمورة عرباً وعجماً، شيباً وشباباً، رجالاً ونساءً.
والناظر في أحوال الحجيج يقف على صورة شاملة تحكي واقع الأمة الإسلامية
بحلوه ومره، خيره وشره.
ومن المعالم المهمة التي تستحق أن نقف عندها كثيراً: الواقع العقدي الذي
يعيشه كثير من أبناء المسلمين؛ حيث انتشر الجهل واندرست كثير من معالم
التوحيد الخالص، حينما كدرته شوائب الضلالة والهوى؛ فأضحت العقيدة عند
بعضهم مجرد فلسفات كلامية، أو تصورات جدلية، أو تأويلات باطنية، فانفرط
عقد الأمَّة الإسلامية، وتفرقت بها السبل، وتجارت بها الأهواء، حتى أصبحت
السنَّة مهجورة، ورفعت البدعة أعلامها، وذرَّ قرن الفتنة في كثير من المحافل
والمجتمعات الإسلامية، وتصدَّر الرويبضة من المبتدعة وأهل الأهواء زمام الريادة
والتأثير، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
وزاد من بلاء الأمة افتتان كثير من أبنائها بالتفوق الحضاري للغرب الذي
أجلب بخيله ورجله علينا، فاستباح الحرمات وزيَّن الأباطيل. ولم يكتف الغرب
بانتهاك حقوق الشعوب الإسلامية، وانتهاب خيراتها، كما لم يكتف بإفساد الأخلاق
وتدمير المجتمعات في أوحال الرذيلة، بل تجاوز ذلك إلى اختراق العقول، ونشر
العقائد الإلحادية والمبادئ المادية التي تُعرِض عن هدايات الوحي الإلهي.
وعندما بدأت الحرب الغربية الأخيرة على ما يسمونه بـ (الإرهاب
الإسلامي) كشفت الأيام بجلاء عن حجم التردي العقدي الذي ينخر في جسم الأمَّة،
ويحوطها بالضعف والتقهقر والانهزام؛ فرأينا كثيراً من آيات هشاشة الإيمان
وضعف اليقين بنصر الله تعالى وتأييده، ورأينا ضعف التوكل والاستعانة به
سبحانه، كما رأينا تصدع أركان الولاء للمؤمنين، وسقوط كثير من المسلمين في
أحضان الكافرين..!!
ونجزم جزماً أكيداً بأن مدار صلاح الأمة وعزتها ونهضتها على صفاء العقيدة
وسلامتها؛ فإذا رسخ الإيمان في النفوس، وحفظ الله تعالى الأمَّة من البدع
والضلالات قديمها وحديثها؛ استقام أمرها وقويت شوكتها، وسلكت الطريق
الصحيح للبناء والتمكين. وإن هي فسدت ونخرتها الأهواء، واستحكمت فيها
الانحرافات، تردت وسقطت في مستنقع الهزيمة والتبعية.
إن العقيدة التي نعني: ليست مجرد أسس وقواعد نظرية، لا، بل إنها:
معرفة الله جل وعز حق معرفته، بتفرده بالربوبية والقهر والعظمة والتدبير،
واتصافه بجليل الصفات وجميلها وأحسن الأسماء وأكملها.. معرفة تملأ على العبد
فؤاده وعقله، فتدفعه بلا تردد أو تأخر إلى القيام بحق المولى الكبير سبحانه محبة
وخوفاً ورجاء، يبرهن عليها بإفراد خالقه بالطاعة والانقياد كما شرع له على لسان
النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، في كل مجالات الحياة، مع تمام القبول
والرضى، ثم الانهماك في أداء العبادات والأنساك على وجهها.
تلك هي حقيقة الإسلام التي تقتضي الاستسلام لله جل وعلا، وذلك هو معنى
الإيمان الذي هو: ما وقر في القلب وصدقه العمل، وهذا هو طريق العبودية الحقة
لرب العالمين التي هي بداية الانطلاق ورمز الحرية، ودرب السعادة حين يحقق
العباد ما خلقوا لأجله.
ما أروع شأن الحجيج حين يعبرون عن عبوديتهم واستسلامهم بالتزامهم ما
أنزله الله تعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم: زماناً ومكاناً ونوعاً وصفة
وعدداً وكيفية! وما أجلَّ تعبيرهم عن الإيمان بتكبد المشاق وأداء النسك على وجهه!
وما أصدق متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم حيث أخذوا عنه مناسكهم! وما
أجمل شعارهم حين يُلبُّون لله بالتوحيد!
إنَّ الحج من أعظم المواقف التي يتجلى فيها شأن التوحيد من بداية الدخول في
النسك، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في
سياق وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم
لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» [1] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بها صوته لتكون شعاراً لكل أصحابه
رضي الله عنهم؛ فقد ثبت عنه أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن
آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية» [2] .
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى أيام مناسك
الحج في تقرير التوحيد، وبناء العقيدة، وما تبع ذلك من الدعوة إلى الاعتصام
بالكتاب العزيز، وتعظيم شعائر الله عز وجل والحث على حسن التأسي والاهتداء
بهديه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
إن تجديد العقيدة في نفوس المسلمين من أولى الأولويات الدعوية التي دلت
عليها النصوص الشرعية، ولهذا لمَّا بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل
رضي الله عنه إلى اليمن، أمره أن يبدأ ببيان التوحيد، فقال: «إنك ستأتي قوماً
أهل كتاب؛ فإذا جئتهم فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في
كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من
أغنيائهم فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق
دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» [3] فجعل النبي صلى الله عليه
وسلم بداية الانطلاق في بيان التوحيد وتقريره.
وصلاح التوحيد سبب بعون الله تعالى لكل صلاح. قال شيخ الإسلام ابن
تيمية: «ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض سببه توحيد الله
وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط
وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى
غير الله» [4] .
ونحسب أن نفوس الحجيج من حيث الجملة مقبلة على الطاعة والتقرب إلى
الله تعالى متجردة من العصبية، بعيدة عن الصوارف الدنيوية التي تطغيها وتجعلها
تُعرِض عن الحق؛ ولذا كان هذا المقام العظيم من أعظم المقامات التي يتأكد فيها
حرص العلماء والدعاة على بيان حق الله تعالى على عباده الذي بيَّنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم في سؤاله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما قال له: «هل
تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟» فقال معاذ: الله ورسوله
أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن حق الله على عباده: أن يعبدوه
ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن لا يُعذب من لا يشرك به شيئاً»
[5] .
نسأل الله تعالى أن يبصِّرنا بالحق، وأن يستعملنا في طاعته.
__________
(1) صحيح مسلم، رقم (1218) .
(2) أخرجه أحمد في المسند، رقم (8314) ، والبيهقي في الكبرى، (5/42) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (1384) .
(3) صحيح البخاري، رقم (4347) ، ومسلم، رقم (29) .
(4) التفسير الكبير، (4/309) .
(5) صحيح البخاري، رقم (7378) ، ومسلم، رقم (2804) .(184/4)
دراسات في الشريعة
لو تكلمت المشاعر
محمد مصطفى المقرئ
almoqre-a@maktoob.com
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
أريد ليسمع المسلم منها ما ينبغي أن يقرأه بين أكنافها، وما يستشعره في
أجوائها، وما يحسه من موجات مترددة مبثوثة بينه وبينها.. بل أريد ليدرك
المسلم ما أودعه الله في المشاعر من معان وأسرار، وما أفاضه عليها من مؤثرات
تجلو النفس كما يجلو الليلَ النهارُ.
أريد لتقف على ما لو أُذن لها أن تتكلم لتكلمت به، بل أريد لأشنِّف آذانك
بمقالاتها فيَّ وفيك، وفي الأمة، وفيما يلفنا من نوازل الحال..
أريد بل أرجو أن أبلغك ذلك أيها القارئ الكريم ولو لم تتكلم المشاعر بكلمة
واحدة؛ فكيف إذا استنطقتها لك، وأسمعتك ما عساها قائلته؟!
ولعلك تعجب وتتساءل: ولكن هل تتكلم الجمادات؟ ألها منطق وبيان؟
أتفصح عن معان قائمة بها أو في غيرها؟ وهل يكون لإفصاحها دلالات مفهومة
معقولة؟ ثم هل يمكن أن يدرك بنو آدم هذه الدلالات، ويستفيدوا من تلكم المعاني؟
أمَّا كونها تتكلم أو لا.. فذلك في علم الله جل وعلا، وإن كان أصل تكلمها
غيرَ ممتنع عليه، لقوله - عز وجل - فيما حكاه عن أشباه الجمادات: [وَقَالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] (فصلت: 21) .
قال الحافظ ابن كثير: «أي فهو لا يُخالف ولا يُمانع وإليه ترجعون» [1] .
وقال الطاهر بن عاشور: «وقولهم (الذي أنطق كل شيء) تمجيد لله تعالى،
ولا علاقة له بالاعتذار، والمعنى: الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان،
واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها، فعموم آية [كُلَّ شَيْءٍ] مخصوص
بالعرف» [2] .
وقال فخر الدين الرازي: «ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة
الأولى حالما كنتم في الدنيا، ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية، وهي حال
القيامة والبعث؛ كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟» [3] .
فالله - تعالى - قادر على أن يُنطِق كلَّ شيءٍ (من الجماد وغيره) ، ولا
وجه لاستحالة ذلك وامتناعه، ولا سيما مع ثبوت وقوعه من بعضها.
وليس إمكان تكلم المشاعر من عدمه يهمنا هنا في شيء، وإنما المقصود
إثبات أن لها منطقاً وبياناً يتمثل في المعاني القائمة بها، وهي إشارات وأمارات
تَقُومُ بكل شيء، «وتلك الأمارات تسمى شهادات، كما يقال: يشهد هذا العالم
بتغيرات أحواله على حدوثه» [4] .
وقد ثبت تكلم بعض الجمادات، بل وصدور أفعال عنها تدل على عقلانيتها،
وأنها ذات مشاعر وأحاسيس، كتسليم الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وسعي الشجرة إليه ومثولها بين يديه، وحنين الجذع إليه، وقد خاطب النبي صلى
الله عليه وسلم جبل أحد فقال: «اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي، وصدّيق،
وشهيدان» [5] .
فلو أُذن للمشاعر المقدسة أن تتكلم؛ لوافتنا بكثير من تلكم المعاني القائمة بها،
بل والقائمة بغيرها، وهي معان تتضمن كثيراً من حِكم الشعائر المرتبطة بتلك
المشاعر.
وإن الوقوف على تلكم الحِكَم وهن غايات نافعات غاليات لهو مقصود رئيس
لما أُمرنا به من تعبد ونسك، وما نُدبنا إليه من خشوع وتفكر، وخاصة عند
المشاعر المحرمات، وحول المقدسات المباركات.
فلولا تدبرنا هذه الإشارات النافعات، وهاتيك اللطائف المرققات.. [ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ] (الحج: 32) .
فيا أمة الإسلام..! لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟ إخال الكعبة
(بيت الله الحرام) تهتف بجموع الطائفين والقائمين حولها، الراكعين الساجدين في
حرمها.. تقول: أيها المسلمون الآتون من كل فج عميق! .. هذه قبلتكم قبلة واحدة،
وإن هذه أمتكم أمة واحدة؛ فبأي مقتضى شرعي تنازعتم؟ وبأي موجب علمي
تخالفتم؟ وبأي منطق عقلي تفرقتم، وأنتم هنا حولي تجتمعون، بل وحيثما كنتم
فإليَّ تتوجهون، وشطري تيمِّمون؟!
أما علمتم أن في مخالفتكم ما أمرتم به من الاعتصام بحبل الله جميعاً ذهابَ
ريحكم؟ وقد قال تعالى: [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 46) .
وأن فيها ضياع هيبتكم، وتسلط عدوكم عليكم، ولا يسلط الله عليكم عدواً
حتى تكونوا أنتم المتسلطين على أنفسكم.. فإن هذه الأمة المرحومة قد خصها الله
أن لا ينتصر عليها عدوٌ من غيرها، ولكن يهلك بعضهم بعضاً ويظلم بعضهم بعضاً،
ففي الحديث الصحيح الذي يرويه ثوبان رضي الله عنه أن الرسول صلى الله
عليه وسلم قال: «وإني سألتُ ربي لأمتي أنْ لا يهلكَها بسَنَةٍ عامة، وأن لا يُسلِّط
عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيحَ بيضتهم، وإنَّ ربي قال: يا محمدُ، إني إذا
قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرد، وإنِّي أعطيتك لأمتك أن لا أهلكَهم بسَنة عامة، وأن لا
أسلِّطَ عليهم عدواً من سوى أنفسِهِمْ يستبيح بيضتهم، ولو اجتمعَ عليهم مَنْ بأقطارها
أو قال: مَنْ بين أقطارها، حتى يكون بعضُهم يُهلك بعضاً، ويسبي بعضُهم بعضاً»
[6] .
وواضح من الحديث: أن هذه الأمة المختارة لا تزال في عصمة من غلبة
عدوها عليها ما بقيت متحدة مجتمعة، حتى إذا صار بأسها بينها، يقتل بعضها
بعضاً؛ سُلط عليها عدوٌ من غيرها فاستباح حرماتِها!!
أيها الماثلون بين يدي الله، الميمِّمون شطري:
لقد آن لكم أن تتحركوا كأمة.. أن تتفاعلوا مع قضاياكم كأمة.. أن تواجهوا
عدوكم كأمة … كما أنكم تجتمعون عندي كأمة، وتتوجهون إليَّ كأمة، واعلموا أنه
ليس لتحرككم أحزاباً من جدوى تستنقذكم مما هو نازل بكم.. [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ] (الصف: 4) .
أيها المسلمون المقدِّسون لحرمتي:
أما إن حرمتي عند الله لعظيمة، وإن حرمة دم المسلم أعظم عند الله من
حرمتي، وإنكم إن حرَّمتموني حقاً؛ حَرَّمتم دم المسلم وصنتم حرمته، ولتترستم
بقلوبكم وأرواحكم وفلذات أكبادكم دون أن يُخلص إليها أو تهلكون.. فكيف إذا كان
منكم من يستبيحها، أو يعين عليها ولو بشطر كلمة؟!
وأَرْدَفَتْ: أما إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا،
في شهركم هذا، في بلدكم هذا.
فكأني بها تردد أصداء نداء النبي صلى الله عليه وسلم (في حجة الوداع) ،
تُرَجِّعه اليوم من وراء أربعة عشر قرناً أو يزيد.
ثم بصوت متهجد جعل يرتفع شيئاً فشيئاً، مدوياً يلف أركان الوادي المبارك،
تُأوِّبه جبالُ مكة وشعابها، تصرخ الكعبة بالجموع وكأنها منذر جيش: أيها
المُحْرِمونَ المُحَرِّمونَ لأكنافي: ألستم تُسألون عن أكناف شقيقي الأقصى بالوادي
المقدس؟! إن أكنافه تستباح هناك.. فأزيلوا عنه دنس المعتدين ورجس الغاصبين
.. أجل يا أتباع الخليل - عليه السلام -، وهو الذي استجاب لربه إذ قال له:
[وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] (الحج: 26) ، وإن تحريم
الحرمات لا يتجزأ.. [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ]
(الحج: 30) .
ويزداد صوت الكعبة تهجداً وارتفاعاً؛ بينما يتعالى نحيب الجموع وبكاؤها،
وتنهمر دموعهم تفيض بها مآقيهم فتسيل أودية بقدرها، وتسري في الأبدان
قشعريرة خشوع خاصة نادرة، ويغمر الأجواءَ عبق من الإيمان والجلال، وفي هذه
اللحظات تمطر السماء من رحماتها، فيتعانق البكاءان في مشهد جنائزي حزين،
وفي خلفية المشهد تبرز صورة الأقصى تتوسط صفحة الأفق، وقد أقبل مضرجاً
في دمه، وحوله يظهر مستشهدون يلتفون به، وهم يبسطون أيديهم بأرواحهم على
أكفهم، يتلقون عنه سهام العدوان والغدر معاً، وبصدور عارية وأيد خاوية، فيكتمل
المشهد وقد توسطه المسجدان (الحرام والأقصى) دموع منهمرة هنا، ودماء
منسكبة هناك.. وشتان شتان.
لكني أريت جموعاً انطلقت تجأر إلى ربها، مختنقة بالبكاء، تكاد تغص
بدموعها، وقد بدوا في ملابس إحرامهم وكأنهم متلفعون بأكفانهم تهيئاً للقاء الموت،
يقولون: لبيك اللهم لبيك.. ثم لبيك فلسطين لبيك.. لبيك كلَّ موضع لنا فيه حرمة
لبيك.
وأضافت الكعبة: و «إنما الحج جهاد كل ضعيف» كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم [7] .
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
هُيئ إليَّ الحجرُ الأسود يهمس في آذان مستلميه ومُقبِّليه، يقول: أما إني
سفير الجنة إليكم أهل الأرض لو تعلمون، أتعجبون؟! فارجعوا إلى ما ثبت عن
نبي الإسلام العظيم عليه صلوات وتسليمات الرحيم الكريم: «الحجر الأسود من
الجنة» [8] .
أجل أنا مجرد حجر من أحجارها، وهناك فيها أصل موطني.. فيا مستلمي
ومقبلي! ألا تحب أن تقطن في موطني؟!
فحيّ عَلى جناتِ عَدنٍ فإنها ... منازلُك الأُولى وفيها المخيمُ
ولكننا سبيُ العدوِّ فهلْ ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلمُ؟
وأيُّ اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحتْ الأعداء فينا تحكمُ؟
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشَطَّتْ به أوطانه.. ليس يَنعمُ
فمِنْ أجل ذا لا يَنعمُ العبد ساعة ... مِنَ العمر، إلا بعد ما يتألمُ [9]
وأردف الحجر: يا عبد الله!
أتدري أنك باستلامي تبايع على طاعة الله - جل وعلا -؟! [إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة] (التوبة: 111) .. فلا
ألفينك أيها المبايع من [الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] (البقرة: 27) ،
وكن من [الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ] (الرعد: 20) .
ثم جعل يرتل وبصوت ملائكي مجلجل: [فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (الفتح: 10) .
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
هُيئ إليَّ الملتزم كذلك يُسِر إلى كل ملتصق به ضام له، يقول: أهو طلب
القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت؟ فإن يكن ذا فإن للحب برهاناً قطعياً، ودليلاً
ساطعاً جلياً.. { [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران: 31) .
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
* * *
فحيهلا - إن كنت ذا همة - فقد ... حدا بك حادي الشوق فاطْوِ المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... إذا ما دعا: لبيك ألفاً كواملا
ذلك بينما الجموع تردد: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
كأني بمقام إبراهيم - عليه السلام - وقف في القائمين حوله واعظاً والناس
ينصتون في خشوع: يا أيها الناس! اعبدوا الله ولا تشركوا به أحداً.. أسلموا له
وحده، وانقادوا إليه وحده، وتحاكموا إليه وحده، واركنوا إليه وحده، وتوكلوا
عليه وحده.. [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ
هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] (الحج: 78) .
واعلموا أن الولاء والبراء هو معقد الإيمان الأكبر، فالزموا مقام الخليل ولاء
وبراء، كما لزمتموه شعيرة ونسكاً: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ
مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ
لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ]
(الممتحنة: 4) .. [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ] (الممتحنة: 6) .
واستطرد قائلاً: ألا إن قيامكم مقام إبراهيم برهان منكم بذلتموه، فهو حُجة
لكم أو عليكم، ألا فتخيروا لأنفسكم.. ملة أبيكم إبراهيم، أو ملل المتألهين الطاغين،
كالنمرود في عصره، وكأشباهه في عصركم، فإن شئتم أن تستبينوا أي السبيلين
تسلكون؛ فانظروا في أي المعسكرين أنتم، وفي أي الخندقين تخندقتم!!
ألا وإن الكلمة، مجرد الكلمة، تقولونها نصرة للأمة أو لأعدائها؛ فيصل في
اختياركم، فليحذر امرؤ على نفسه، وليدَعْ قول الزور والعمل به؛ فإن الله قد قرن
النهي عنه بالنهي عن رجس الأوثان (وخاصة في حقكم أيها الحجيج) .. فقال
- جل وعلا -: [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ
مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ
فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ] (الحج: 30-31) .
ثم بدا لي «المقام» وكأنه يردد نداء الخليل - عليه السلام - امتثالاً لأمر
ربه - جل وعلا -: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجّ] (الحج: 27) ، قال: ربّ!
وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن وعليَّ البلاغ [10] ، فأردف المقام: فأَذِّنوا أيها الناس
في الناس بالحج، بل أذِّنوا بشرائع الإسلام كافة، أذِّنوا في الناس بنصرة الدين،
وبمعاداة المشركين.. خذوا بأسباب الغلبة والتمكين، وإن لم تكافئ أسباب المعتدين،
عليكم المستطاع، وعلى الله ما لا يُستطاع.
ثم طفق المقام يردد: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز
جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين
ولو كره الكافرون.. وضجت الجموع تستغيث ربها.. وامتدت الأكف ضارعة إلى
بارئها: اللهم منزلَ الكتاب، مجريَ السحاب، هازمَ الأحزاب.. اهزمهم وانصرنا
عليهم.
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
خِلْتُ جبلَي الصفا والمروة يتناوبان الوعظ والتذكير يخطبان في الساعين
بينهما:
يقول الصفا:
ألا فتذكروا أن التي أنشأت أصل هذا السعي هاجر - عليها السلام -؛ ذلك
حينما أخذتها الشفقة برضيعها وهو يصرخ جوعاً وعطشاً، وأرادت أن ترد عنه
الهلاك الذي يحدق به.... فتوجهت إلى الله ربها ورب كل شيء، موقنة أنه - جل
وعلا - لا يضيعها، وهو ما أكدته لإبراهيم عليه السلام؛ ذلك حين أجابها أن نعم؛
إذ سألته: آلله أمرك بهذا؟ أي بتركي هنا وحدي ورضيعي، وقد أزمع أن يهاجر
استجابة لأمر الله.
قال المروة:
ففيما سعيكم - أيها الناس - إن لم يقابله سعي في إغاثة أطفال المسلمين الذين
يتضورون جوعاً، ويتوجعون مرضاً، ويعانون عرياً وبرداً وتشريداً وضياعاً،
وتسحق عظامهم الدبابات والصواريخ، وتُطمر جثثهم تحت الهدم والتدمير، ومن
ينج منهم من ذلك كله؛ يعش مهدداً مستضعفاً مذعوراً.. يخاف أن يتخطفه الناس
.. ويتمدد موضع السعي فيما بين الجبلين، حتى يضما بين كنفيهما خريطة الوطن
الإسلامي كله، فإذا هي المذابح والمظالم والأهوال، وأمة جسدها ممدد تكاد الدماء
تغطيه؛ بينما عدوها يتهيأ للإجهاز عليها، فاللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا
تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا!
قال الصفا:
وأنتنَّ إماءَ الله نساءَ المسلمين: أما لكُنَّ في هاجر مثلٌ وقدوة، وأنتنَّ تتمثلن
فعلها في سعيكن بيني وبين المروة؟ فكيف يستقيم أن تكون إحداكن حائلاً دون
زوجها وإجابة أمر ربها، ومهما يكن من أمر تعتذرن به؛ فإنه لن يكون أعظم من
الحال التي تُركت عليها هاجرُ ورضيعُها.
أيتها المقتديات بهاجر عليها السلام: ألا فانظرن كيف لو كانت هاجر بينكنّ،
في زمانكنّ.. كيف يكون شأنها في توفية حق ربها، وحق أمَّتها، وحق زوجها،
وحق ولدها، وحق نفسها؟ كيف يكون اعتزازها بدينها، واحترامها لذاتيتها،
والتزامها بهويتها، وتمسكها بعقيدتها؟ .. كيف يكون اعتدادها بانتمائها.. في
همومها، واهتماماتها، وهيئتها، وأنماط حياتها؟ كنّ يرحمكن الله كما لو كانت
هاجر بينكنّ؛ فإنها أولى بكنَّ وأنتنَّ بها أولى.
قال المروة وقد توجه بحديثه إلى العموم:
وإن سعيكم هذا أيها الناس غير مغن لكم عن سعيٍ هناك.. حيث الذب عن
الأعراض، وحماية المقدسات، وصون دين الأمة وقد استُهدفت منابعه، وحفظ
عقيدتها وقد اتُخذت غرضاً.. فلا إخالكم أيها المسلمون إلا متزودين من هنا لهناك؛
وإلا فما أفادكم السعيُ شيئاً، اللهم إلا إبراء ذممكم من نسككم هذا، ولكنها والذي
نفسي بيده تبقى مشغولة بما هو أولى وأوجب، قال تعالى: [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ
وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ
عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (التوبة: 19) .
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
أريت بصيرتي ترمق الجمار الثلاث، تردد: ارموا عباد الله.. ارجموا
مواضع إبليس حين ظهر لأبيكم إبراهيم - عليه السلام - يريد أن يفتنه.. ارجموه
وأكدوا عداوتكم له ولحزبه.. ارجموه لتستحضروا أنكم لا تزالون أبداً في معركة
معه. ارموا عباد الله.. ارجموا عدوكم لينكص ويخسأ، فإنه لم يزل يقطع عليكم
كل خير، وقد توعدكم أن يقعد لكم طريقكم إلى الله، كما حكى الله - تعالى -
مقولته لعنه الله: [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ] (الأعراف:
16) .
قلت: قال ابن جرير: «يقول: لأجلسن لبني آدم صراطك المستقيم؛ يعني:
طريقك القويم، وذلك دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه. وإنما معنى الكلام:
لأصدن بني آدم عن عبادتك وطاعتك، ولأغوينهم كما أغويتني، ولأضلنهم كما
أضللتني» [11] .
فأردفت الجمرات:
واعلموا أنه لعنه الله كما قعد بالصراط كله؛ قعد بكل باب من الخير مترصداً
يتربص بكم، وقد نصب لكم شباكه على كل طريق يحسبكم سالكيها، وفي الحديث:
«إن الشيطان قعد لابن آدم بأطراقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم
وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال:
أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول، فعصاه
وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل،
فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد» [12] .
ألا فارجموه طرداً له.. وقطعاً لأمله.. وإرغاماً لأنفه.. وقصماً لظهره ...
وذلك كله مرهون بمخالفتكم لأمره، وكفركم بوحيه، ورفضكم لوسواسه، تحصنكم
من أزِّه، واعتصامكم بالله من نزغه.
وأضافت الجمرات:
ارموا عباد الله.. ولا يفتننكم الشيطان أنكم قضيتم مناسككم؛ فإن من عباد الله
من يرمي ما لعله أكثر قبولاً عند الله من حصياتكم، ولعل حجراً واحداً في يد طفل
يرمي به يهود: أثقل عند الله تعالى من أحجاركم كلها، وأوجع لحزب إبليس من
حصياتكم جميعها!!
ارموا عباد الله.. ارموا؛ فإن القوة الرمي.. «ألا إن القوة الرمي، ألا إن
القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» [13] ، وإلا فلن تفهموا هذه حتى تصنعوا تلك!!
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
تمثلت عرفة (جبل الرحمة) وقد بدا كعرصات القيامة!! والناس فوقه في
ازدحام منشغلون، وهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم واقفون موقفاً واحداً
.. إنهم ساعتئذ - رغم الضراعة والابتهال.. رغم الاستغاثة والدعاء.. رغم البكاء
والنحيب.. رغم الاستغفار والندم - وجلون خائفون مترددون بين الرد والقبول!!
وإنهم عما قليل ينصرفون، وقد انفض الموقف العظيم، وتفرق الناس زمراً وأفراداً،
والله أعلم بمنازلهم، غير أن التوبة معروضة بعد، مفتوح بابها أمام المستدركين
.. وليس ذلك يكون يوم الحشر الأعظم، فأدرك يا عبد الله اليوم ما لا سعة لك فيه
غداً.
ألا إن الفقيه كل الفقه لمن يفقه هذا المعنى فيتمثله بكل جوارحه، ويستغرق
فيه بكل كيانه، وتتلبس به مشاعره وأحاسيسه، فإذا هو راغب عن كل مبهج في
الحياة، مقبل على عبادة ربه لا مطلب له سواه، وفي الحديث الصحيح يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحاجُّ: الأشعثُ التَّفِلُ» [14] . وهو الذي قد
فرغ قلبه مستغرقاً في عبادة ربه.. حتى ليكاد يقال له: (ولا تنس نصيبك من
الدنيا) ، بينما يحتاج غيره أن يقال له: ولا تنس نصيبك من الآخرة!!
وبدا عرفة لي وكأنه لا يريد أن يُفَوِّت فرصة كهذه، وقد لحظ خشوعاً وإخباتاً
يلف المكان ومن فيه، ولمس رقة في القلوب تحكيها العيون الدامعة المغرورقة يقول:
أيها الناس: عما قليل تضعون عنكم ثياب إحرامكم، ثم ما منكم أحد إلا
وستوضع عليه أكفان تضاهيها، غير أنه لا يَلبسُها بل يُلبسَها، ولا يملك أبداً أن
يضعها.. وليؤتين بكل مُكَفَّنٍ إلى المسجد محمولاً مجبوراً، وقد كان يأتيه أو لا
يأتيه طوعاً مختاراً، [إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً]
(مريم: 93) .. وكلٌّ مفض إلى ما قدم.. غير أنه لا حج لمن لا صلاة له!!
أيها الماثلون في الموقف العظيم فوقي:
أتدرون أن جبالاً دوني لا نصيب لها من قداستي، ولا ارتباط لها بشعيرة أو
نسك مثلي.. أتدرون أن فوقها الآن متنسكين عابدين، ربما لا تبلغ أجورُكم
أجورَهم؛ ذلك أنكم تتنسكون آمنين، وهم يخافون أن يتخطفهم الناس.. وأنكم
تتعبدون متنعمين، وتراهم على الجمر قابضين.. وأنكم ترابطون لياليَ وأياماً
راغدين، وهم يقضون حياتهم مرابطين.
فيا حجيج بيت الله الحرام:
أفقهتم بما سبقكم هؤلاء؟ ولمَ كان وقوفهم بجبالهم ربما يفوق موقفكم هذا؟
[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ
مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] (التوبة: 120) .
أيها الحجيج الملبُّون رغباً ورهباً:
بشراكم اليوم وأنتم تودعونني.. بشراكم فلن تغادروا إلا وقد أجيب دعاؤكم،
وأعطيتم سؤلكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحُجَّاج والعُمَّار وفْدُ
الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم» [15] ، وكان حقاً على الكريم أن يكرم
زائره؛ فكيف بضيف دُعيَ فأجاب؟
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
سيق الهدي فكأني به يمتد امتداد التاريخ، ليغوص بالخاطر في أعماقه آلاف
السنين، ومضحون لا يُحصون عدداً يسوقونه فداءً وتضحية.. كلهم يقتدي بأبي
الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -. أتحسبون أن حكمة الأضحية تقف عند اللحم
والدم؟ [لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ] (الحج: 37) .. إنما هي حسن
النية، وسداد التوجه، وصدق العزيمة.. وما اللحم والدم إلا لتجديد روح الفداء في
نفوس المؤمنين، ولتنشيط حب التضحية في قلوب السالكين، وكذلك كان درس
الخليل إبراهيم - عليه السلام -، فإنه لما استسلم وإسماعيل - عليهما السلام -
لأمر الله - جل وعلا -: [فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ] (الصافات: 103) ،
وعلم الله صدق توجههما للتضحية على جسامتها [وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ] (الصافات:
104-106) ، وهو اختبار كبير نجح فيه النبيان الكريمان وبكل جدارة، فعافاهما
الله تعالى من الذبح، ونقلهما إلى سنة الهَدي [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] (الصافات:
107) ، ليبقى ذلك خطاً واصلاً بين أتباع الحنيفية، وبين التضحية في أسمى
معانيها وأبلغها، وليكون هذا الخط سبيلاً يمدهم بمزيد من جرعات إكسير روح
الفداء؛ لأنه لا عزة لهم بدونها..
إن أمة نضبت بها روح الفداء ... ماتت وما يغني هشيم أو غثاء
فالأرض قفر إن حبست مياهها ... ويموت حق لا تروِّيه الدماء
أيها السائقون الهَدي:
ترى كم يقع ترتيبكم في «طابور» المضحِّين؟ وكم من مسافة بينكم وبين
عجوز تتقدمكم بالملايين؛ ذلك حين تجلس تنصت إلى وليدها يتلو عليها وصيته
الأخيرة، قبل أن يغادرها بلحظات، تعرف أنها لن تراه ثانية في هذه الحياة،
ويصبح فؤادها فارغاً؟! وكم من مسافة بينكم وبين عروس تتجهز لليلة عمرها،
فإذا بها تتحول عن سعادة الدهر لتتجهز للحظة استشهادها؟! وكم من مسافة بينكم
وبين طفل يواجه دبابة بحجر، ويتصدى لمجنزرة بنبل صغير؟! وكم من مسافة
بينكم وبين شيخ فان، يعرض عليه الغاصبون أموالاً طائلة ليترك بيته وأرضه في
فلسطين، فيجيب بحكمة بليغة تختزل البراهين كلها في كلمات.. يقول: يمكنني
أن أعطيكم البيت لو جئتموني بأمر يسير: وثيقة تنازل عنه، وقد وقَّع عليها
المسلمون جميعاً، ليس في هذا الجيل وحسب، بل في كل أجيال المسلمين إلى يوم
القيامة؟! ويبقى الشيخ وأمثاله من الصادقين الصابرين رغم الهدم والحصار!!
وبعد..
أيها المسلمون حجيج بيت الله الحرام:
ألا ناشدتكم الله! أن تكونوا طليعة الأمة إلى تغيير ما بنا.. عودوا إلينا كما
ولدتكم أمهاتكم. وفي الحديث الصحيح: «من حج لله، فلم يرفث، ولم يفسق،
رجع كيوم ولدته أمه» [16] ، وقد أمركم الله جل وعلا أن تجمعوا إلى الحج
استغفاراً وتوبة، فقال: [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (البقرة: 198-199) ؛ أي لتستقبلوا
أيامكم بصفحة جديدة بيضاء، نزع منها كل ما أسلفتم، حتى عدتم كيوم وُلدتم.
عباد الله:
ناشدتكم الله! أن لا تنسوا الأمة من دعائكم.. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة
.. ادعوا الله.. فإن الدعاء والبلاء بين السماء والأرض يعتلجان؛ لعل الله يرفع
بدعائكم البلاء قبل أن ينزل.. ادعوا للأمة من أقصاها إلى أقصاها؛ فإن الأمة كلها
في شدة وبلاء، نعم.. وخصوا المستضعفين من أصحاب النوازل الكبار بمزيد من
الدعاء.. في فلسطين، وفي العراق، وفي الشيشان، وفي أفغانستان، وفي
جوجارات بالهند، وفي كشمير.. وفي كل مكان، وما من مكان إلا ولنا فيه
مستضعفون يتلمسون عندكم الدعاء.
عباد الله:
ناشدتكم الله! وقد منَّ عليكم بما عدتم به كيوم وُلدتم أن لا تسوِّدوا صفحاتكم
فيما تستقبلون بمساخط الله، ألا فأقلِعوا عن كل مُحرَّم، وذَرُوا كل مخالفة،
والتصقوا بكل فضيلة.. فإنه بمجموع مخالفاتنا، وبمجمل تهاوننا نزل بالأمة ما
نزل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا
محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: (4/66) .
(2) التحرير والتنوير: (11/268) .
(3) التفسير الكبير: (14/118) .
(4) التفسير الكبير: (14/117) .
(5) أخرجه البخاري، رقم 3675.
(6) رواه مسلم في صحيحه، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، (2/ 2215) ، حديث رقم: (2889) ، والمراد بالبيضة: جماعتهم وأصلهم، والبيضة أيضاً: العز والملك.
(7) حسن: رواه ابن ماجه، عن أم سلمة، وانظر الضعيفة: (3519) ، وصحيح الجامع: (3171) .
(8) صحيح: رواه الإمام أحمد عن أنس، والنسائي عن ابن عباس، وانظر: صحيح الجامع: (3174) .
(9) مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية، والأبيات له: (3/210) .
(10) الأثر رواه ابن جرير في جامع البيان: (10/ 6162) برقم: (18935) ، وهو عند الحاكم في المستدرك: (2/ 388، 389) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(11) جامع البيان: (5/ 3648) .
(12) رواه أحمد: (3/ 483) ، والنسائي: (6/ 21، 22) ، وابن حبان: (4593 الإحسان) ، والطبراني في (الكبير) : (7 / 138) برقم (6558) من حديث سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه.
(13) صحيح رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وانظر (فقه السيرة) بتحقيق الألباني: (224) ، والإرواء: (1500) ، ومختصر مسلم: (1101) ، وصحيح الجامع: (1219) .
(14) حسن: رواه الترمذي عن ابن عمر، وانظر: المشكاة: (2527) ، وصحيح الجامع: (3167) .
(15) حسن: رواه البزار عن جابر، وانظر: الصحيحة: (1820) ، وصحيح الجامع: (3173) .
(16) رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه، وانظر: المشكاة: (2507) ، وصحيح الجامع: (6197) .(184/6)
دراسات في الشريعة
عقد التأمين..
نظرة فقهية موجزة لأبرز مسائله
هاني بن عبد الله بن جبير
H- j-30@maktoob.com
الحمد لله وحده، والصَّلاةُ والسَّلامُ على من لا نبي بعده، وبعد: فإن من
نوازل هذا العصر وقضاياه المستجدة عقد التأمين الذي نشأ وانتشر بفعل القوانين
التجارية والمدنية التي جعلته واقعاً في كثير من التشريعات.
وحيث إنه سبق أن بُحِث في عدد من اللقاءات والندوات، وصدرت حوله
كثير من المؤلفات والأبحاث والرسائل، وحيث حصل مؤخراً في هذا العقد
مناقشات ومداولات فقد أحببت أن أكتب مختصراً عن هذا العقد ورأي الباحثين فيه
في هذه الأكتوبة الموجزة؛ وذلك من خلال أربع نقاط:
أولاً: تعريف التأمين وحقيقته:
التأمين في اللغة مصدر أمَّن يؤمَّن، مأخوذة من الاطمئنان الذي هو ضد
الخوف، ومن الأمانة التي هي ضد الخيانة. يقال: أمَّنهُ تأميناً وائتمنه واستأمنه [1] .
وعند الفقهاء: التأمين قول آمين. وصار يُستخدم التأمين للدلالة على عقد خاص
تقوم به شركات التأمين تدفع بموجبه مبلغاً في حال وقوع حادث معين لشخص يدفع
لها قسطاً من المال [2] .
لا بد للناظر للتأمين أن يتنبه إلى الفرق بين تناول التأمين كفكرة ونظريَّة،
وبين تنظيمه في عقد. فالتأمين كنظرية ونظام مقبول؛ إذ إنه تعاون بين مجموعة
من الناس لدفع أخطار تحدق بهم؛ بحيث إذا أصابت بعضهم تعاونوا على تفتيتها
مقابل مبلغ ضئيل يقدمونه [3] . ولا شك أن هذه الفكرة فكرة مقبولة تقوم عليها كثير
من أحكام الشريعة مثل الزكاة والنفقة على الأقارب، وتحميل العاقلة للدية. إلى
أمثلة كثيرة تدعو إلى التعاون على البر والإحسان والتقوى والتكافل والتضامن. هذه
فكرة التأمين، وهي فكرة تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها، وليس في
هذا إشكال بحمد الله، وإنما الإشكال في صياغة هذه الفكرة في عقد معاوضة، أي
في كونه علاقة بين المؤمن من جهة والمستأمن من جهة أخرى. وسيكون هذا هو
محل البحث في هذه الأوراق.
نشأة التأمين التجاري:
كان أول ظهور التأمين التجاري تأميناً للمخاطر التي تتعرض لها السفن
المحملة بالبضائع؛ وذلك في شمال إيطاليا في القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث
كان صاحب البضاعة يدفع قسطاً معيناً على أنه في حال تلف البضاعة يقبض مبلغاً
من المال. ثم بدأ التأمين التجاري بالرواج؛ ولكنه لم ينتقل إلى الدول العربية إلا
في القرن التاسع عشر؛ بدليل أن فقهاء المسلمين حتى القرن الثالث عشر الهجري
لم يبحثوه مع أنهم بحثوا كل ما هو محيط بهم في شؤون حياتهم العامَّة؛ فتناوله
العلاَّمة محمد أمين بن عابدين (1252هـ) في كتابه رد المحتار [4] على الدر
المختار وسماه: سوكرة [5] . وقد تزايد التعامل به بعد ذلك حتى دخل كثيراً من
المجالات الاقتصادية وغيرها [6] .
ويرى بعض الباحثين أن التأمين التجاري يتجه إلى الانكماش فالزوال؛ وذلك
أن دول العالم الغربي تتجه إلى الأخذ بالتأمين التعاوني، وأن أكبر المنظمات
التأمينية في سويسرا هي منظمات تعاونية.
كما أن إحصائيات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1972م تذكر
أن التأمين التعاوني أصبح يغطي أكثر من 70% من نشاط التأمين فيها [7] .
تعريف عقد التأمين التجاري:
تنوعت تعريفات هذا العقد في القوانين المدنية ولدى الباحثين المهتمين،
ويمكن منها أن يستخلص تعريف له بأنه: عقد معاوضة يلتزم أحد طرفيه وهو
المؤمِّن أن يؤدي إلى الطرف الآخر وهو المؤمَّن له أو من يعينه عوضاً مالياً يتفق
عليه يدفع عند وقوع الخطر أو تحقق الخسارة المبينة في العقد، وذلك نظير رسم
يسمى (قسط التأمين) يدفعه المؤمَّن له بالقدر والأجل والكيفيَّة التي ينص عليها
العقد المبرم بينهما [8] .
ومن خلال هذا التعريف وما ذكره القانونيون نجد أن من أبرز خصائص [9]
عقد التأمين:
1 - أنه عقد ملزم لطرفيه، فيلتزم المؤمَّن له بدفع الأقساط حسب الاتفاق،
ويلتزم المؤمِّن بدفع التأمين عند حصول حادث محتمل.
2 - كما أنه عقد معاوضة؛ لأن كلا المتعاقدين يأخذ مقابلاً لما أعطى،
فالمؤمِّن يعطي قسط التأمين، والمؤمَّن له يعطي مبلغ التأمين عند تحقق ما يوجبه.
وليست المعاوضة مقابل أمان محض يحصل عليه المؤمن.
3 - كما أنه عقد احتمالي؛ لأن كل طرف لا يعرف كم سيدفع وكم سيعطى
على وجه التحديد؛ لأن ذلك يتوقف على وقوع الخطر أو عدم وقوعه.
4 - أنه عقد تجاري يهدف المؤمِّن منه إلى الربح والفائدة من خلال الأقساط
المتجمعة لديه.
ثانياً: حكم عقد التأمين التجاري:
لم يكن هذا العقد معروفاً عند السلف، فلم يرد فيه نص شرعي، ولم يوجد
من الصحابة والأئمة المجتهدين من تعرَّض لحكمه. ولمَّا انتشر في هذا العصر
درسه الباحثون، واختلفوا في حكمه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التأمين التجاري عقد غير جائز: قال به ابن عابدين الحنفي
[10] ، ومحمد بخيت المطيعي [11] ، (1354هـ) مفتي الديار المصريَّة، والشيخ
محمد رشيد رضا [12] ، ومحمد أبو زهرة [13] ، وعبد الله القلقيلي مفتي الأردن
[14] ، ومحمد أبو اليسر عابدين مفتي سوريا [15] ، والدكتور صديق الضرير [16] ،
وشيخ الأزهر الشيخ جاد الحق [17] ، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ [18] ،
وجماعة كثيرون.
كما أنه الرأي الذي أفتت به عدة هيئات كهيئة كبار العلماء في المملكة العربيَّة
السعودية [19] ، والمجمع الفقهي الإسلامي [20] التابع لرابطة العالم الإسلامي،
ومجمع الفقه الدولي بجدة [21] التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمؤتمر العالمي
للاقتصاد الإسلامي [22] ، وهيئة رقابة بنك فيصل الإسلامي [23] ، إلى غيرها من
الجهات العلميَّة.
القول الثاني: أن التأمين التجاري عقد جائز: وقال به مصطفى الزرقا [24] ،
وعلي الخفيف [25] ، ومحمد يوسف موسى [26] ، وعبد الوهاب خلاف [27] ،
وصدر به قرار الهيئة الشرعيّة لشركة الراجحي المصرفيّة [28] .
القول الثالث: وهو التفصيل بجواز أنواع من التأمين وتحريم أنواع: فمنهم
من أجاز التأمين على الأموال دون التأمين على الحياة وهو قول محمد الحسن
الحجوي [29] ، ومنهم من أجاز التأمين من الخطر الذي من أفعال العباد كالسرقة
وحرّم التأمين من الخطر الذي سببه آفة سماوية وهو قول نجم الدين الواعظ مفتي
العراق [30] ، ومنهم من أباح التأمين على حوادث السيارات والطائرات والسفن
والمصانع وحرّم ما عداه وهو قول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود [31] .
أدلّة أصحاب القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بجملة أدلّة منها:
الدليل الأول:
أن عقد التأمين عقد معاوضة وهو مع ذلك مشتمل على غرر، والغرر يفسد
عقود المعاوضات.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع الغرر [32] ، والنهي يقتضي الفساد. والغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات،
أو ما طُوِيت معرفته وجُهلت عينه [33] . فكل عقد بني على أمر محتمل مشكوك
فيه فهو غرر. والغرر المؤثر هو ما كان في عقود المعاوضات المالية وكان غالباً
على العقد حتى يصح وصف العقد كله بأنه غرر. ولا شك أنَّ عقد التأمين مشتمل
على الغرر في أكثر من موضع منه: فالجهالة حاصلة في صفة محل التعاقد؛
فالعوض لا يُعْرف مقداره حتى يقع الخطر المؤمن عليه. كما أنها حاصلة في أجل
العوض الذي لا يعرف متى يحل. كما أن حصول العوض نفسه مجهول مشكوك
فيه، فلا يعرف المتعاقدان ذلك لتوقفه على وقوع الخطر أو عدم وقوعه. فالغرر
في الحصول وصفته وأجله وهي أمور مقصودة عند التعاقد، وهذا يفسد العقد. وقد
نوقش هذا الدليل بأمرين:
الأوَّل: أنه لا يوجد غرر في عقد التأمين؛ لأن غايته حصول الأمان وقد
حصل بمجرد العقد سواء وقع الخطر أو لا.
والثاني: أنّه على فرض حصوله فهو غرر يسير لا يؤثر في العقد [34] .
والجواب: أن النظر الشرعي في عقود المعاوضات إنما يكون لمحلها لا إلى
غاياتها؛ فإن الغاية أمر غير منضبط، ولكلٍّ أن يجعل غاية عقده بما يراه. فيصح
لنا أن نقول: إن غاية عقد التأمين أكل المال بالباطل. ويمكن لمن يبيح الفوائد
الربويّة أن يتذرع بأن غايتها تحريك المال وتنميته واستثماره. وعليه فلا يتعلق
توصيف الأحكام بالمقاصد والحكم منها دون النظر لمحلها. ومحل عقد التأمين هو
قسط التأمين وعوضه، وهذا العِوَض مجهول الحصول والمقدار والأجل.
وخروجاً من هذا اضطر بعض الباحثين إلى القول بأن محل عقد التأمين هو
نفس ضمان الأمن والأمان. وقرر أن الأمن والأمان حق معنوي متفق مع الحقوق
المحسوسة في اعتباره محل معاوضة ومحلاً لتداول الأيدي على تملكه؛ ولذا فلا
مانع من أن يكون الأمان هو محل المعاوضة في عقد التأمين [35] .
ويناقش هذا القول بما يلي:
1 - أن الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً [36] . (والحق
المعنوي سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره أو نشاطه) . والأمان
ليس اختصاصاً، بل هو شعور داخلي وطمأنينة نفسيَّة كالحب والبغض لا يمكن
تداوله ولا المعاوضة عليه.
2 - أن عقد التأمين لا يحقق للشخص الذي يرغب في توقي نتائج الخطر
أماناً حقيقياً؛ لأنه مهدد بإعسار المتعاقد معه.
3 - أن جعل الأمان محلاً لعقد التأمين مخالف للنظرة القانونية التي نشأ هذا
العقد في ظلالها ومخالف للنظر الفقهي حتى لدى من أجاز عقد التأمين كالشيخ
مصطفى الزرقا [37] .
4 - أن الأمان إذا كان هو محل عقد التأمين فإنه ينبغي أن يكون منحه
للمستأمن كافياً عن بذل عوض التأمين. وإذا قيل إن الأمان لا يحصل إلا ببذل
عوض التأمين علمنا أن محل العقد هو المال، وأن الأمان هو الباعث عليه أو
الغاية منه.
5 - ثم إن الأمان المجعول محلاً لعقد التأمين مجهول المقدار غير معلوم
الصفة تحديداً وهذا غرر أيضاً.
الدليل الثاني:
أن عقد التأمين يتضمن الميسر والقمار، وقد حَرَّم الله الميسر بقوله - تعالى -:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (المائدة: 90) والميسر كما قال شيخ الإسلام
ابن تيمية: (أخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة: هل يحصل له عوض، أو لا
يحصل؟) [38] .
وهذا الوصف متحقق في عقد التأمين باعتراف رجال القانون؛ وذلك لأن
الشخص الذي يأخذ على عاتقه ضمان الخطر يراهن على تحقق الخطر؛ فإذا لم
يتحقق كسب المبلغ الذي دُفع له، وإذا تحقق دَفع مبلغاً يزيد كثيراً عما قبضه،
وهذا هو الرهان [39] .
وقد نوقش هذا الدليل بأن التأمين جد والقمار لعب، وأن المؤمَّن إنما دفع ماله
لمن يدفع عنه ضرراً كما يدفع التاجر لمن يحرس القافلة مبلغاً لحفظها من الخطر
[40] .
الجواب: أن عقد التأمين يدخل تحت تعريف الميسر وتوجد فيه خصائصه.
وأما الخفارة التي تُدفع لمن يحرس القافلة ونحوها فهذا المبلغ إنما يُدفع أجرةً
للحارس مقابل تسليمه نفسه وقت العقد ليقوم بمقتضاه، ولم يأخذ المبلغ دون تسليمه
نفسه. ثم إنه لا يضمن ما سرق أو تلف إذا لم يفرط في واجبه.
الدليل الثالث:
أن عقد التأمين يتضمن الربا، بل هو أصيل فيه، والربا محرم مفسد للعقد
المشتمل عليه؛ وذلك أن التأمين كما عَرَّفه القانون: عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن
يؤدي إلى المؤمَّن له مبلغاً من المال ... في نظير مقابل نقدي ... فهو معاوضة مال
بمال دون تقابض ولا تماثل وهذا هو الربا.
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بأقيسةٍ مختلفةٍ من أبرزها ما يلي:
الأول: القياس على العاقلة: فإنَّ العاقلة تتحمَّل شرعاً دية قتل الخطأ عن
القاتل وتتقاسمها بين أفرادها لأجل تفتيت أثر المصيبة عن الجاني. وكذلك الحال
في شركات التأمين فإنها تعمل على ترميم الأخطار، وتخفيف المصاب [41] .
ويناقش هذا القياس بأمور:
1 - أن العاقلة تتحمل الدية لما بينها وبين القاتل من قرابة ورحم التي تدعو
للتعاون ولو دون مقابل؛ وعقود التأمين تجارية تقوم على المعاوضة الماليَّة المحضة
لا إلى عاطفة الإحسان؛ فهذا قياس مع الفارق.
2 - أن ما تتحمله العاقلة يختلف باختلاف أحوالهم من غنى وفقر، أما
أعضاء شركات التأمين فيتحملون على السواء، ولا يُنظر إلى ثروتهم الخاصة في
تقدير ما يتحمله كل فرد.
الثاني: تخريج عقد التأمين على مسألة ضمان خطر الطريق: وقد نَصَّ
الحنفيَّة على جوازها، وصورتها أن يقول رجل لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنّه
آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن؛ فإذا سلكه فأخذه اللصوص ضمن القائل.
وعقد التأمين يشبه هذه المسألة من حيث التزام الضمان؛ فالشركة التزمت الضمان؛
كما أنَّ القائل التزم الضمان [42] .
ونوقش بوجود الفارق بين المسألتين من وجوه:
1 - ففي مسألة الضمان كان الالتزام من طرف واحد؛ في حين أن الالتزام
في عقد التأمين من الطرفين [43] .
2 - ولأن الضمان من عقود التبرعات التي يراد بها المعروف، والتأمين عقد
معاوضة مالية فلا يصح القياس بينهما.
3 - ثم إن مسألة ضمان خطر الطريق مبعثها تغريره للسالك وإخباره بأنه
آمن لا لمجرد الضمان، أما شركات التأمين فهي تقرر التضمين مطلقاً [44] .
4 - كما أن للضامن أن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وليس الحال
كذلك في التأمين لكونه معاوضة لا ضماناً.
الثالث: قياس عقد التأمين على نظام التقاعد وأشباهه: وذلك أن نظام التقاعد
عقد معاوضة يقوم على اقتطاع جزء ضئيل من مرتب الموظف شهرياً ليُصرف له
تعويض في نهاية خدمته، وهذا يشبه أقساط التأمين وعوضه وفي كليهما لا يدري
الشخص كم يستمر دفعه ولا كم يبلغ مجموعه، ثم قد يستلم ما يزيد كثيراً على
مجموع الأقساط، وقد لا يستلم شيئاً؛ فإذا جاز نظام التقاعد فليكن الحكم مثله
للتأمين [45] .
ونوقش: بأن التقاعد ليس عوضاً عما اقتطع من الموظف شهرياً وإلا لوجب
توزيعه على سنن الميراث ولم يجز أن يحرم منه الموظف ولا ورثته بعده؛ وإنما
التقاعد مكافأة التزم بها ولي الأمر باعتباره مسؤولاً عن رعيته وراعى في احتسابها
ما قام به الموظف من خدمة ومصلحة أقرب الناس إليه ومظنّة الحاجة فيهم؛ فليس
التقاعد معاوضة بين الدولة وموظفيها، ولا يقوم على أساس التجارة وتحصيل
الأرباح.
هذا وقد استدل أصحاب هذا القول بأقيسة أخرى تشترك جميعها في أنها لا
يصح التخريج عليها لعدم توافر شروط القياس وأهمها أن يكون المقيس عليه متفقاً
عليه لألاَّ يمنع المخالف حكم الأصل، وهذا ممكن في جميع الأقيسة.
كما أنه يوجد الفارق بين عقد التأمين وبين المقيس عليه، وأما القول الثالث
فاستدل على ما منع بأدلة المانعين وعلى ما أباح بأدلة المبيحين وقد سبق ذلك.
القول الراجح:
القول الراجح مما سبق بعد تأمل الأدلة هو القول بتحريم هذا العقد لكون أدلتهم
أقوى استنباطاً وأتم دلالة؛ فمن أباح التأمين اعتمد على أقيسة مأخوذة من
استنتاجات الفقهاء؛ بينما المحرِّم له استند إلى نصوص شرعيَّة وقواعد أساسيَّةٍ
أجمع المجتهدون على الأخذ بها. كما أن التأمين لا يتضمن مصلحة غالبة، وسبق
أن نشر تفسير ذلك جلياً [46] .
وليس فيه مصلحة للمجتمع في النهاية، بل كل ما يترتب عليه هو نقل عبء
الخطر برمته من عاتق شخص إلى عَاتِق شخص آخر، وهذا ليس فيه أيَّة فائدة
للمجتمع [47] ، وله خطورة على اقتصاد الدولة من حيث سيطرة شركات التأمين
ممثلة في أفراد قلائل على مدخرات المواطنين وتوجيهها وفق هواها ومصالحها
الخاصة مما اضطر بعض الدول إلى تأميم شركات التأمين [48] .
ثالثاً: البديل الشرعي لعقد التأمين التجاري:
لا شك أن التعاون في تفتيت الأخطار ومواجهة الظروف والتكافل في حلها
مما يدعو إليه الإسلام وقرره في تشريعات مختلفة كالزكاة التي هي مظلة التأمين
الكبرى لجميع المواطنين في المجتمع الإسلامي، وكواجب الإنفاق على القرابة
والضيف، وكواجب بيت المال في تأمين حد الكفاية لكل فرد في المجتمع الإسلامي.
ومن وسائل التعاون التي أفتت المجامع الفقهية المعاصرة بجوازها ما يسمى
بالتأمين التعاوني [49] . والمراد به في ضوء القرارات المشار إليها: قيام جماعة
يتفق أفرادها على تعويض الأضرار التي قد تنزل بأحدهم نتيجة خطر معين؛ وذلك
من مجموع الاشتراكات التي يتعهد كل فرد منهم بدفعها.
فهذا عقد تبرع يقصد به التعاون ولا يستهدف تجارة ولا ربحاً؛ كما أنه يخلو
من الربا، ولا يضر جهل المساهمين فيه بما يعود إليهم من النفع؛ لأنهم متبرعون؛
فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة.
وأبسط تصوير لهذا التأمين هو أن تكوِّن أسرة أو جماعة صندوقاً، ويدفعوا
مبالغ يؤدى من مجموعها تعويض لأي فرد منهم يقع عليه الخطر، فإن لم تفِ
المبالغ التي دفعوها سَدَّدوا الفرق المطلوب، وإن زاد شيء بعد التعويضات أُعيد
إليهم أو جُعل رصيداً للمستقبل.
ويمكن أن يوسَّع هذا التصور المبسط ليطور هذا الصندوق ليكون هيئة أو
مؤسسة يتفرغ لها بعض العاملين لتحصيل المبالغ وحفظها وصرف التعويضات،
ويكون لها مجلس إدارة يقرر خطط العمل؛ وكل ذلك بمقابل أجر معين أو تبرعاً
منهم؛ بشرط أن يكون مبناه التبرع، ولا يقصد منه تحصيل الأرباح، وغاية جميع
أطرافه التعاون [50] .
تطبيقات التأمين التعاوني:
طرح عدد من المهتمين بالاقتصاد الإسلامي عدة نماذج وتصورات للتأمين
الإسلامي، وتبنت جهات مالية إنشاء شركات تقوم بالتأمين من منظور إسلامي
سُمّي أكثرها بالتعاوني؛ وذلك في عدد من البلاد الإسلاميّة استفيد أكثرها من فكرة
التأمين التعاوني لدى الغرب [51] ، إلا أن واقع هذه المؤسّسات ليس بالضرورة
مطابقاً لمقصود المجامع العلميّة التي أفتت بإباحة التأمين التعاوني وإنما هو تطبيق
لنظريته لدى الهيئة الشرعيّة المؤسّسة له. فقد يكون منها ما هو فكرة مطورة
للتأمين التعاوني، ومنه ما يكون تأميناً تجاريّاً بضوابط معينة أو حتى بصورته
المعروفة [52] .
ولذا صدر البيان المعروف من اللجنة الدائمة للبحوث العلميَّة والإفتاء بالمملكة
العربية السعوديَّة حيال بعض المؤسسات والشركات المتسمية بالتأمين التعاوني بأنها
لا تمثل التأمين التعاوني الذي أباحته هيئة كبار العلماء، وإنما هو تأمين تجاري؛
وتغيير اسمه لا يغير حقيقته [53] .
والحقيقة أن المؤسسات القائمة بالتأمين والساعية لتصحيح وضعها ومطابقته
للبديل الإسلامي تواجه أموراً صعبة من أبرزها إعادة التأمين [54] ، وهو أن تدفع
شركة التأمين جزءاً من أقساط التأمين التي تحصل عليها من جمهور المستأمنين
لشركة إعادة تأمين تضمن لها في مقابل ذلك جزءاً من الخسائر.
فإذا وقع الخطر المؤمَّن ضده لجأ المستأمن إلى شركة التأمين التي تدفع له،
ثم تطالب شركة إعادة التأمين بدفع جزء من التعويض حسب الاتفاق المبرم بينهما.
فتكون شركة التأمين المباشر كوسيط بين المستأمن وشركة إعادة التأمين،
وتعترف شركات التأمين الإسلامية بأنه لا قيام لها ولا ازدهار لصناعتها إلا
بترتيبات إعادة التأمين [55] . وشركات إعادة التأمين الضخمة جميعها تجارية، وقد
بدأت الآن شركات إعادة تأمين تتبنى المنهج الإسلامي فيه [56] .
رابعاً: الإلزام بالتأمين:
من جملة ما طرح من أفكار في موضوع التأمين ما رآه الأستاذ محمد البهي؛
حيث قرر حِلَّ التأمين بجميع أنواعه، ورأى أنه يجب على الدولة الإلزام به لما فيه
من مصلحة. أمَّا الدكتور محمد شوقي الفنجري فإنه بعد أن قرر معارضته للتأمين
التجاري وعدم شرعيته، وأن التأمين التعاوني هو بديله المثالي قال: (ونرى
لضمان نجاح التأمين التعاوني، في مثل ظروف المجتمعات العربيَّة والتي تعاني
من عدم كفاية الوعي التأميني مع ترامي مساحاتها الشاسعة وارتفاع إمكانياتها الماليَّة
أن يكون التأمين إلزامياً في الأصل، واختيارياً في الحالات التي يقررها. وهو
يكون إلزامياً بالنسبة للفئات التي يكثر لديها وقوع الخطر كأصحاب السيارات
وأصحاب المصانع، وبالنسبة للحالات المؤكد وقوعها كالمرض والشيخوخة
والوفاة..) [57] .
ولي مع هذا الرأي وقفات:
1 - عقد التأمين عقد رضائي، والعقود في الشريعة الإسلامية أساسها
التراضي بين طرفي العقد.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ
تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] (النساء: 29) .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطب الناس في حجة الوداع فقال: «لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه
من طيب نفس» [58] .
وقد اتفق جمهور أهل العلم على أن من أُكره على قول أو عقد لم يترتب عليه
حكم من الأحكام، وكان لغواً [59] . وإذا أُلزم أحد بعقد فات شرط التراضي انعدمت
الصِّحَة فيه. والتأمين التعاوني أساسه التبرع ولا يُتَصَوَّر تبرع من مُكْرَه. مع أنه
قد يصح تخريج ذلك بالنسبة للتأمين التجاري عند القائل به على نزع ملكية
العقارات للصالح العام، والتسعير، وإلزام المحتكر بالبيع بسعر المثل، وإلزام
أرباب المهن بالعمل بأجرة المثل إذا امتنعوا عن العمل إلا بأُجور فاحشة والناس
بحاجة إلى منافعهم.
إلا أن القول بهذا يحتاج إلى إثبات أن الحاجة إلى هذا النوع من التعاقد
ضرورة عامة يصح أن تكون سبباً لإلغاء أساس العقود الذي هو الرضا من طرفيه.
وأن هذا العقد فعلاً سبب لرفع هذه الضرورة.
ثم إن صح هذا في التأمين التجاري، وقد تقدم بيان حكمه، فلا يصح في
التعاوني الذي تقدَّم أن أساسه التبرع والمسامحة، ولا يتصور تبرع إلا برضا البَاذِل.
2 - إن في الإلزام بأمر هو محل خلاف بين أهل العلم نظراً واضحاً. وقد
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عمّن ولي أمراً من أمور المسلمين
ومذهبه لا يجوِّز شركة الأبدان؛ فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: (ليس له منع
الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع
نَصٌّ من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك؛ لا سيما وأكثر
العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامَّة المسلمين في عامَّة الأمصار.
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا
للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد
مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرّقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من
العلم ما بلغهم. وصَنَّف رجلٌ كتاباً في الاختلاف؛ فقال أحمد: لا تسمّه: (كتاب
الاختلاف) ولكن سمّه: (كتاب السُّنة) .
ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجَّةٌ قاطعة، واختلافهم رحمة
واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرّني أن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً.
وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك
قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من
أصحاب الشافعي وغيره: (إن مثل هذه المسائل الاجتهاديّة لا تنكر باليد، وليس
لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلميَّة؛ فمن تبين له
صحّة أحد القولين تبعه، ومن قَلّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه؛ ونظائر هذه
المسائل كثيرة) [60] .
وليس هذا من الحكم الذي يرفع الخلاف؛ فإن ذلك في الأمور المعينة
والمسائل الخاصّة بموطنها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأمور المشتركة بين
الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحدٍ أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير
ولا شيخ.. وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور
الكليّة..) [61] .
وبناء على هذين الأمرين؛ فإنه لا يظهر لي وجاهة ما قرره الأستاذان
الفاضلان. والله الموفق.
وبعدُ: فهذا آخر ما تهم معرفته عن حكم هذا العقد. أسأل الله - تعالى - أن
يوفق للصواب لا إله إلا هو.
__________
(1) مختار الصحاح (ص 26) مادة (أم ن) ، المنجد الأبجدي ص333.
(2) المعجم الوسيط (1/28) مادة (أمن) ، ورمز له مج، وهو اللفظ الذي أقرّه مجمع اللغة العربيّة.
(3) الوسيط في شرح القانون المدني، للسنهوري (7 / 1080) ، نظام التأمين، مصطفى الزرقا (ص 33) .
(4) حاشية ابن عابدين (4 / 170) .
(5) لفظ (سوكرة) لفظ شائع بمعنى عقد التأمين وهو مأخوذ من اللفظ الفرنسي (سيكورتيه) ومعناه الأمان والاطمئنان، نظام التأمين للزرقا (ص 23) .
(6) انظر في النشأة التاريخية للتأمين، بحث هيئة كبار العلماء بالسعودية له (ص 38) ، المعاملات المالية المعاصرة د / محمد شبير (97) ، التأمين في الشريعة والقانون، د / غريب الجمال (ص 11) .
(7) الإسلام والتأمين، د / محمد شوقي الفنجري (ص46، 47) ، الاقتصاد الإسلامي مذهباً ونظاماً، د / إبراهيم الطحاوي (1/445) .
(8) معجم المصطلحات الاقتصادية، نزيه حماد (ص 106) ، وانظر القوانين العربيّة المعرفة للتأمين وهي 747، القانون المصري، و713 سوري، و 950 لبناني، و983 عراقي، و920 أردني، والوسيط للسنهوري (7 / 1079) .
(9) انظر الوسيط، للسنهوري (7 / 1136) ، بحث عقود التأمين، الدكتور محمد الفرفور، لمجلة مجمع الفقه الإسلامي (2 / 577) ، دراسة شرعية لأهم العقود المالية المستحدثة، د / محمد مصطفى (2 / 470) .
(10) مجموعة رسائل ابن عابدين (2 / 175) .
(11) له في ذلك رسالة مستقلة باسم أحكام السوكرتاه.
(12) فتاوى المنابر (4 / 164) ، (3/964) .
(13) بواسطة نظام التأمين للزرقا (ص 67) .
(14) عقد التأمين ضمن أعمال مهرجان ابن تيمية (ص 420) .
(15) أعمال المؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي (ص 553) .
(16) الغرر وأثره في العقود (ص 650) .
(17) بواسطة رؤية شرعية في التأمين للشيخ عبد الله المنيع.
(18) فتوى رقم 570 / 2 في 18/8/1388هـ.
(19) القرار رقم (5 / 10) في 4/4/1397هـ.
(20) في 4/4/1399هـ.
(21) في 16/4/1406هـ.
(22) في عام 1396هـ.
(23) انظر: التأمين التجاري والبديل الإسلامي، د / غريب الجمال.
(24) نظام التأمين (ص 57) .
(25) بواسطة الغرر، للفرير (ص 656) .
(26) الإسلام ومشكلاتنا المعاصرة (ص 64) .
(27) التأمين، د / غريب الجمال (ص 202) .
(28) في 1411هـ.
(29) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/504) .
(30) دراسة شرعية لأهم العقود (2/499) .
(31) التأمين وإعادة التأمين مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/618) العدد الثاني.
(32) صحيح مسلم 1513.
(33) زاد المعاد (5/822) .
(34) نظام التأمين 165.
(35) رؤية شرعية في التأمين للشيخ عبد الله المنيع.
(36) المدخل الفقهي العام (3/10) .
(37) نظام التأمين 166.
(38) مجموع الفتاوى (28/76) .
(39) التأمين وفقاً للقانون الكويتي، د / جلال إبراهيم (ص 30) وانظر: الوسيط، للسنهوري (7 / 1086) .
(40) نظام التأمين (ص47) ، التأمين جائز، مقال للشيخ عبد المحسن العبيكان، جريدة الرياض عدد 12567 في 15/9/1423هـ.
(41) نظام التأمين (ص 62) .
(42) نظام التأمين للزرقا (ص 58) .
(43) المعاملات المالية المعاصرة، محمد شبير (ص 118) .
(44) التأمين، بحث أعدّته اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية (ص 294) .
(45) التأمين نظرة شرعية، للشيخ عبد الله المنيع.
(46) بمجلة البيان بعنوان حقيقة شركات التأمين، د / سليمان الثنيان.
(47) انظر: شرح القانون المدني الجديد، د / محمد علي عرفة (ص 67) .
(48) الإسلام والتأمين، د / محمد الفنجري (ص 70) .
(49) المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة عام 1385هـ، وقرار هيئة كبار العلماء رقم 51 في 4/4/1397هـ، وقرار المجمع الفقهي الإسلامي في 10/8/1398هـ وغيرها.
(50) المعاملات المالية المعاصرة (ص 135) .
(51) حيث نشأت الفكرة في ألمانيا في ظل حكم بسمارك، انظر التأمين، د / غريب الجمال (ص 276) .
(52) ومن أسباب ذلك أن جملة من الشركات المالية وبيوت التمويل الإسلامية تمادت في تقليد النظام الربوي، بل واستعارت هياكله التنظيمية، فأفرغت العمل المالي الإسلامي من مضامينه الحيوية وأهدافه الاستثماريّة، وقد أشار كثير إلى هذا، وأبان سببه الشيخ صالح الحصين في بحثه: الهيئات الشرعيَّة / الواقع وطريق التحول لمستقبلٍ أفضل.
(53) مجلة البحوث الإسلامية، العدد 50، ص 359.
(54) التأمين وإعادة التأمين د / وهبة الزحيلي، بمجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني (2/ 553) ، وبنفس المجلة التأمين في الفقه الإسلامي، د / محمد الفرفور (2/602) .
(55) انظر مثلاً: مجموعة فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني، أعمال الندوة الفقهيّة لبيت التمويل الكويتي (ص201) ، التأمين التجاري د / غريب الجمال 340.
(56) انظر التأمين على الحياة، د / علي محيي الدين القره داغي، ضمن بحوثه في فقه المعاملات (ص 263) .
(57) الإسلام والتأمين (ص 92) .
(58) السنن الكبرى للبيهقي (6/100) بإسنادٍ حسن، وروي عن أنس وعمر بن يثربي وأبي حميد، انظر إرواء الغليل، للألباني (5/ 279) ، مجمع الزوائد (4/ 171) .
(59) زاد المعاد (5/205) ، جامع العلوم والحكم (ص 376) ، وفرق فقهاء المذهب الحنفي بين ما يحتمل الفسخ وما لا يحتمله، فانظره في تكملة فتح القدير (8/166) .
(60) مجموع الفتاوى (30/ 79، 80) وانظر أيضاً مجموع الفتاوى (35/ 387، 388) مهم.
(61) بواسطة طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن بن سعدي ص 309.(184/12)
دراسات في الشريعة
الحوار الإسلامي النصراني
أو الحوار بين مسلمين ونصارى
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي [*]
qadisa@yahoo.com
بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على
الدين كله، وأمره بالدعوة إليه، فعمَّ وخصَّ، فقال سبحانه: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ] (الأعراف: 158) ، وقال: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ
اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) .
وحذَّره ربُّه أن يجنح إلى شيء من محاولات الذين كفروا من أهل الكتاب
والمشركين لاستزلاله عما بُعث به، فعمَّ وخصَّ، فقال: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] (الكافرون: 1-6) ، وقال في خاصة
أهل الكتاب: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَق] (المائدة:
48) ، إلى أن قال: [وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْك]
(المائدة: 49) .
فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فدعا عشيرته الأقربين، وثنى
بسائر العالمين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن نبي الله صلى الله عليه
وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار؛ يدعوهم
إلى الله تعالى. وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم» [1] .
وكان نص كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ما يلي: «بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من
اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك
إثم اليريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله،
ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله؛ فإن تولوا فقولوا
اشهدوا بأنا مسلمون» [2] .
وعلى هذا الصراط المستقيم سار صحابته الكرام، والتابعون لهم بإحسان،
وهم يفتحون القلوب قبل الحصون، ويُدخلون الناس في دين الله أفواجاً، وعلى
خطاهم سار الموفقون من سلف هذه الأمة عبر القرون المتطاولة، لا يعرفون غير
الدعوة إلى الله بالحجة والبيان، فإن لم؛ فبالسيف والسنان، [حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] (الأنفال: 39) ، لا يعرفون شيئاً من الطرائق المحدثة من
تقريب أو تلفيق أو توفيق.
فلما استدار الزمان، وتحلحلت عرى الإيمان، وآل حال أهل الإسلام إلى
ضرب من الضعة والانكسار في القرون الأخيرة؛ طمع فيهم عدوهم، واستهوى
رقاق الدين منهم إلى مدارج من الفتنة والاستزلال والتي حذر الله نبيه صلى الله
عليه وسلم منها والمؤمنين فاستشرفوها فاستشرفتهم، فلم يزل أمرهم في سفال، فلا
هم أرضوا ربهم، ولا هم نالوا من مخالفهم بعض ما منَّاهم به.
فمن ذلك: فتنة (التقارب الإسلامي المسيحي) ، كما كانت تسمى قبل ثلاثة
عقود، ثم لطِّفت فسُمّيت: (الحوار الإسلامي المسيحي) ، ثم وُسِّعت بين يدي
«اتفاقية أوسلو» للتطبيع مع اليهود، فصارت: (حوار الأديان) ، وربما:
(حوار الأديان الإبراهيمية) ، ثم لم تزل تتسع في ظل الدعوة إلى العولمة
لتصبح: (حوار الحضارات) فتشمل الهندوسية، والبوذية، وسائر الملل الوثنية،
في زخرف من القول، وبهرج من العمل.
وقد كانت الجبهة العريضة تاريخياً وجغرافياً تجاه العالم الإسلامي هي الغرب
النصراني، ولا يزال، وسيظل كذلك إلى قيام الساعة، كما في حديث المستورد
القرشي - رضي الله عنه - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم
الساعة والروم أكثر الناس) [3] .
وأحاديث الفتن والملاحم في الصحاح والسنن والمسانيد متوافرة على أنهم
خصوم المستقبل، كما أنهم خصوم الحاضر والماضي، وهم اليوم يملكون الآلة
العسكرية، والقوة الاقتصادية، والهيمنة الإعلامية، ومع ذلك تنطلق من مراجعهم
الدينية والسياسية الدعوة إلى التقارب والحوار.. فما سر ذلك؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي أن نلم بجانب وصفي معاصر لنشأة
ظاهرة (الحوار الإسلامي النصراني) أو (الحوار بين مسلمين ونصارى) على
وجه الدقة؛ حتى لا نضفي على بعض الممارسات الخاطئة الصفة الإسلامية، بل
ننسبها إلى أفراد أو هيئات من المسلمين خاضوا فيها بحسن نية وجهل حيناً،
وتساهل وتجاهل أحياناً.
* وقائع معاصرة:
- في عام (1301هـ / 1883م) أسس الشيخ محمد عبده، والقس الإنجليزي
«إسحاق تيلور» ، وجمال رامز بك (قاضي بيروت) ، ونفر من الإيرانيين
جمعية سرية للتقريب بين الأديان في بيروت.
- في عام 1935م انعقد مؤتمر (تاريخ الأديان الدولي) في بروكسل، وأوفد
شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي كلاً من الأستاذين: مصطفى عبد الرازق،
وأمين الخولي.
- في عام 1936م انعقد (المؤتمر العالمي للأديان) في لندن، وانتدب الشيخ
المراغي أخاه عبد العزيز لإلقاء كلمة نيابة عنه.
- في عام 1937م انعقد (المؤتمر العالمي للأديان) في جامعة السربون،
وانتدب الشيخ المراغي الشيخ عبد الله دراز نيابة عنه.
- في عام 1941م أسس المستشرق الكاثوليكي الفرنسي «لويس
ماسينيون» ، والأب الكاثوليكي المصري «جورج قنواتي» (جمعية الإخاء
الديني) ، وضمت في عضويتها بعض علماء الأزهر.
- في عام 1948م (عام إعلان قيام دولة إسرائيل) أسس اليهودي الأمريكي
«المير برجر» (جمعية الأصدقاء الأميركان للشرق الأوسط) ، واستدرج
لمنصب نائب رئيسها الشيخ محمد بهجة البيطار رحمه الله، ثم تبين له لاحقاً خلاف
ما كان يؤمل. وكان من نشاطها:
- في عام 1954م انعقد مؤتمر (القيم الروحية للديانتين المسيحية والإسلامية)
في (بحمدون) في لبنان، ثم مؤتمر (لجنة العمل للتعاون الإسلامي المسيحي)
في الإسكندرية عام 1955م، ثم مؤتمر (لجنة مواصلة العمل للتعاون الإسلامي
المسيحي) في (بحمدون) عام 1956م. ثم انطفأت تلك الجمعية المشبوهة أمام
رياح الريبة من الدوافع اليهودية والأمريكية وراءها.
- في عام 1962م - 1965م انعقد المجمع الفاتيكاني الثاني، لأساقفة الكنيسة
الكاثوليكية في حاضرة الفاتيكان؛ ليزيح عن النصارى عقيدة (لا خلاص خارج
الكنيسة) ، ويوسع مفهوم (الخلاص) ليشمل المسلمين، وينظر إليهم بتقدير،
ويحرضهم على نسيان الماضي، والعمل باجتهاد صادق في سبيل التفاهم، عن
طريق الحوار والتعاون، كما جاء في دساتير المجمع وبياناته، فكان ذلك إيذاناً
بانفتاح باب الحوار على مصراعيه، وانطلاق فعاليات التقارب من مؤتمرات،
وندوات، وتبادل زيارات، وافتتاح سفارات، على أوسع نطاق.
- في عام 1964م أنشأ البابا «بولس السادس» (أمانة السر للعلاقات بغير
المسيحيين) ، تطورت في عام 1989م إلى (المجمع البابوي للحوار بين الأديان) .
- في عام 1969م حذا مجلس الكنائس العالمي حذو الكنيسة الكاثوليكية؛ إثر
مؤتمر (كرتينيه) قرب جنيف، ودعا إلى الحوار مع المسلمين على أصعدة متعددة.
- في عام 1971م أسس مجلس الكنائس العالمي (الوحدة الفرعية للحوار مع
معتنقي المعتقدات الحية والإيديولوجيات) ، ثم عقد العديد من المؤتمرات في آسيا
وإفريقيا والعالم العربي؛ في عقد السبعينيات الميلادية.
- في عام 1968م انطلقت في الفلبين سلسلة من المؤتمرات في مناطق
المسلمين، رعتها جهات أكاديمية حتى منتصف السبعينيات، ثم تولتها الحكومة
الفلبينية بعد ذلك.
- في عام 1969م شرع الشيخ حسن خالد (مفتي لبنان) في عقد مؤتمرات
(إسلامية مسيحية) محلية متتابعة، لكن أوقفتها الحرب الأهلية اللبنانية عام
1975م.
- في عام 1970م بدأت سلسلة من اللقاءات بين المجلس الأعلى للشؤون
الإسلامية في القاهرة، وأمانة السر الفاتيكانية للعلاقات بغير المسيحيين.
- في عام 1971م شرعت وزارة الشؤون الدينية في إندونيسيا بعقد مؤتمرات
متتابعة في أرجاء الجزر الإندونيسية، بلغت ثلاثة وعشرين مؤتمراً محلياً خلال
ست سنوات، روجت لفكرة وحدة الأديان إلى حد بناء مجمع للمعابد الدينية للأديان
المعترف بها في الحديقة الوطنية.
- في عام 1974م بدأت في الهند لقاءات بين مسلمين ونصارى؛ بتنسيق من
مجلس أساقفة الهند الكاثوليك، ومعاهد تنصيرية، وأفراد من المسلمين، واستمرت
حتى التسعينيات.
- في عام 1974م شرعت (جمعية الصداقة الإسلامية المسيحية في إسبانيا)
في عقد مؤتمراتها في قرطبة؛ حتى احتفلت عام 1986م بمرور اثني عشر قرناً
على تأسيس الجامع الأموي.
- في عام 1974م أقامت جماعة صوفية مؤلفة من أوروبيين ومغاربة،
تُسمى (فرقة الأبحاث الإسلامية المسيحية) ، وتنتمي إلى (دير سيننكا) في فرنسا
العديد من اللقاءات الروحية في عواصم أوروبية ومغربية.
- في عام 1974م قام وفد مكون من تسعة علماء من المملكة العربية السعودية،
على رأسه وزير العدل الشيخ محمد بن علي الحركان بزيارة للفاتيكان، وبالتقاء
البابا «بولس السادس» ، وعقد ندوة عن حقوق الإنسان في الإسلام، سبقتها ندوة
في باريس، وتلتها ثلاث ندوات في كل من جنيف، وباريس ثانيةً، وستراسبورج،
وكان لها صدى واسعاً.
- في عام 1976م انعقدت (ندوة الحوار الإسلامي المسيحي) في طرابلس
بليبيا؛ بتنظيم من الفاتيكان والحكومة الليبية، وبحضور كبير وتمثيل واسع من
مختلف الطوائف والشخصيات، وقد فاجأ الرئيس معمر القذافي شركاءه النصارى
بإلزامهم بالاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار بتحريف كتبهم،
وإدانة إسرائيل؛ مما أدى إلى ولادة متعسرة للبيان الختامي، وقيام الكنيسة
الكاثوليكية بإعادة تقويم مسيرة الحوار.
- في حقبة السبعينيات الميلادية نشطت مؤتمرات الحوار الإسلامي النصراني
في أوروبا الغربية؛ برعاية كنسية، وصبغة صوفية. وفي عقد الثمانينيات اتخذت
منحى اجتماعياً؛ بفعل الهجرة المتزايدة لأوروبا من البلاد الإسلامية، ورعتها
مؤسسات اجتماعية وأكاديمية، ومع تنامي الوجود الإسلامي في أوروبا وتنظيمه في
التسعينيات؛ بادرت حكومات غربية إلى احتضان الحوار وتوجيهه، وكذلك الحال
في أمريكا الشمالية.
- في عام 1979م سعى الرئيس المصري الراحل أنور السادات إثر اتفاقيات
(كامب ديفيد) مع اليهود إلى بناء (مجمع للأديان) في (وادي الراحة) في
صحراء سيناء، يضم (مسجداً، وكنيسة، وكنيساً) ، وإلى طباعة القرآن الكريم،
والتوراة، والإنجيل، في غلاف واحد.
- في عام 1986م دعا البابا «يوحنا بولس الثاني» إلى صلاة مشتركة بين
أتباع مختلف الأديان في بلدة (إسيزي) الإيطالية، مسقط رأس القديس
«فرانسيس الإسيزي» ، وأمّهم البابا في دعاء جماعي، وقد أخذت جمعية
(سانت إيجيديو) التنصيرية الإيطالية على عاتقها تكرار هذه المناسبة، ولا تزال
إلى يومنا هذا.
- في عام 1987م دعا المفكر الفرنسي «روجيه جارودي» المنسوب إلى
الإسلام إلى (الملتقى الإبراهيمي) في قرطبة، واتخذ من (القلعة الحرة) مقراً
لمؤسسته ومتحفه.
- نشأ في بعض البلدان العربية ذات التعددية الدينية كلبنان، والأردن،
وفلسطين، وتونس، والسودان جمعيات متخصصة، ومراكز للحوار الإسلامي
النصراني، أسسها جماعة من النصارى العرب، ومدت الجسور مع نظيراتها في
العالم الغربي، وعُنيت بنشر ثقافة التقريب، وعقد المؤتمرات، وإصدار
المطبوعات.
هذا غيض من فيض من حركة دائبة، واسعة الانتشار، متنوعة المناشط،
تجاوزت مؤتمراتها ثلاثمائة مؤتمر خلال أربعة عقود، تُعنى بها أكثر من مائة
جمعية ومركز في أركان الأرض الأربعة.
* بواعث الحوار:
ثمَّ بواعث متعددة تكمن خلف المبادرة النصرانية للدعوة إلى الحوار مع
المسلمين؛ منها:
أولاً: باعث الصد عن سبيل الله:
قال تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا
عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] (آل عمران: 99) ، وقال:
[وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (آل عمران: 72) .
لقد راع الكنائس الغربية في العصر الحديث انفتاح شعوبها على الإسلام،
واعتناق ألوف منهم إياه؛ بعدما أتيح لهم سماع كلمة الحق بشكل أفضل من ذي قبل
حين كانت الكنيسة تغذي رعاياها بمعلومات مغلوطة منفرة عن الإسلام، ونبيه
صلى الله عليه وسلم، وكتابه، وتاريخه، فحين انفتح الناس بعضهم على بعض؛
خطف بريق الإسلام أبصار الغربيين الذين تحرروا من هيمنة الكنيسة، واعتمدوا
التفكير المنطقي الحر، فرأت المراجع الكنسية أن لا جدوى من المجابهة؛ فهي
أضعف من أن تقف أمام متانة العقيدة الإسلامية، وإحكام شريعتها، بل إن التحدي
سيُكسب الإسلام مزيداً من الأنصار، ومن ثم تفتقت عقولهم عن فكرة (التقريب
والحوار) للظهور أمام مواطنيهم بمظهر التآلف لا الندّية، والوفاق لا المجابهة،
والحوار لا القطيعة؛ وبذلك يطفؤون روح التشوّف لدى رعاياهم، ويقرون في
قلوبهم أن الفروق بين الأديان فروق شكلية، وكلها تؤدي إلى الله، فلا حاجة إلى
تجشم عناء التغيير.
وقد أفصح عن هذا الباعث الخفي القس «أريا راجا» حين قال: «تواجه
الكنيسة اليوم واقعاً يتسم بالجدة؛ ففي الماضي كانت العلاقة بالأديان الأخرى تساعد
الكنيسة على إغناء ذاتها وتطوير إيمانها ... أما اليوم فقد تبدلت الأوضاع تماماً،
ومن المهم أن نشير إلى بعض خصائص هذه الحقبة من تاريخ البشرية:
أولاً: لقد تحررت الأديان الأخرى من وطأة الاستعمار، وهي تطرح نفسها
اليوم كبديل عن الإيمان المسيحي له شموليته، ولقد حدث في تلك الأديان ما يشبه
النهضة خلال السنوات الأخيرة، فظهرت فيه حيوية جديدة ...
ثانياً: لقد توغلت تلك الديانات إلى حد بعيد، حتى في الغرب المسيحي؛ مما
جعل من التعددية الدينية واقعاً في كل المجتمعات تقريباً، فعدد المسلمين في فرنسا
يفوق عدد المسيحيين المصلحين، ومسلمو بريطانيا أكثر من الميتوديين فيها ...
ثالثاً: وربما كان هذا هو الأهم، هناك وعي متزايد لغنى الأديان الأخرى ...
كان المسلمون في الماضي يُحسبون منافسين، أما اليوم فنشهد اهتماماً متزايداً في
مفهوم الإسلام للجماعة وللصلاة ... وبعبارة أخرى: فإنه لا العدائية اللاهوتية، ولا
اللامبالاة تجاه الأديان الأخرى مسموح بهما بعد اليوم، فالطرق التي انتهجها
المسيحيون قديماً في تعاملهم مع الأديان الأخرى لم تعد تكفي» [4] .
ثانياً: الباعث التنصيري:
قال تعالى: [وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً
وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] (البقرة: 135) ، لا ريب أن التنصير أو (البشارة)
كما يسمونه يحتل موقعاً مميزاً في الديانة النصرانية، وحين تبنى النصارى خيار
الحوار؛ لم يكن ذلك تخلياً منهم عن وظيفتهم العتيقة، ففي الدستور الرعوي
(الكنيسة في عالم اليوم) الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني؛ جاء ما يلي: (تبدو
الكنيسة رمز هذه الإخوة التي تنتج الحوار الصادق وتشجعه، وذلك بفعل رسالتها
التي تهدف إلى إنارة المسكونة كلها بنور البشارة الإنجيلية) [5] .
ولما رأى بعض النصارى في الحوار خيانة للبشارة، أصدرت الكنيسة
الكاثوليكية وثيقة بعنوان (حوار وبشارة) عام 1991م، جاء فيها: (إن المسيحين
وهم يعتمدون الحوار بروح منفتح مع أتباع التقاليد الدينية الأخرى؛ يستطيعون أن
يحثوهم سلمياً على التفكير في محتوى معتقدهم ... نظراً إلى هذا الهدف أي قيام
الجميع بارتداد أعمق إلى الله يكون للحوار بين الأديان قيمته الخاصة، وفي أثناء
هذا الارتداد قد يولد القرار بالتخلي عن موقف روحي أو ديني سابق لاعتناق آخر)
[6] .
أما «مجلس الكنائس العالمي» فقد صرح في كتاب (توجيهات للحوار)
بالقول: (يمكننا بكل صدق أن نحسب الحوار كإحدى الوسائل التي من خلالها تتم
الشهادة ليسوع المسيح في أيامنا) [7] .
ومن بين أربعين بحثاً قُدّمت في مؤتمر المنصرين البروتستانت لتنصير
المسلمين عام 1978م؛ كان هناك بحث بعنوان: (الحوار بين النصارى
والمسلمين وصلته الوثيقة بالتنصير) ، ناقش «دانيل آر بروستر» فيه هذه
المسألة، وخلص إلى القول: (إذا شعرنا بأن شكلاً ما من أشكال الحوار يمكن أن
يكون مفيداً لكسب المسلمين؛ فعندئذ يكون مهماً أن نبدأ الآن في تخطيط كيفية القيام
بذلك) [8] .
ثالثاً: الباعث السياسي:
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً
وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ
وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا
وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] (آل عمران:
118-120) .
كان من أكبر الدوافع التي صاحبت انطلاق التقارب الإسلامي النصراني في
عقد الستينيات؛ طغيان المد الشيوعي الملحد على العالم، وتهاوي معاقل النصرانية
أمام الفكر المادي الكاسح، فرأى المعسكر الرأسمالي الغربي أن يدعم جبهة المتدينين،
ويوحد صفوفهم لكبح جماح الشيوعية.
لقد وُلدت الدعوة إلى التقارب وولدت معها تهمة (الباعث السياسي) ، فقد
قال مدير الأبحاث والنشر في (جمعية الأصدقاء الأميركان للشرق الأوسط)
«إريك ولدمار» بين يدي مؤتمر (القيم الروحية للديانتين المسيحية والإسلامية)
المنعقد في (بحمدون) في لبنان عام 1954م: «إن غاية المؤتمر واضحة جلية،
وهي محاربة الإلحاد، والعمل على التقارب بين المسيحيين والمسلمين، وتوحيد
القوى ضد التيارات التي تحاول النيل من عقائد هاتين الديانتين» [9] .
وأفصح أحد أعضاء المؤتمر بجلاء عن الباعث الحقيقي خلف تلك التظاهرة،
فقال: «إن العالم الحر اليوم أكثر من أي زمن آخر يحسب الحساب للتطورات
العالمية، وازدياد خطر الشيوعية، وإن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر بعين
القلق إلى التطورات والأحداث الجارية في الشرق الأوسط، وترى من واجبها أن
تقوم بكل ما في وسعها، كقائدة للدول الخارجة عن الستار الحديدي الشيوعي،
للقضاء على الشيوعية التي أخذت تتفشى في الشرق الأوسط بشكل مريع» [10] .
ومن العجب أن المعسكر الشيوعي المقابل شهر الأداة نفسها في وجه خصمه
الرأسمالي، فقد رعى الاتحاد السوفييتي وبقية دول المنظومة الشيوعية مؤتمرات
مُسيَّسة للحوار الإسلامي النصراني؛ لمناقشة قضايا التسلح النووي، والاستعمار،
والتنديد بالسياسات الأمريكية، كان عرّابها بطريرك موسكو وسائر روسيا
الأرثوذكسي «بيمن» ، ومن الجانب الإسلامي مفتي سوريا الشيخ أحمد كفتارو.
كما أن الحكومات الغربية في عقد التسعينيات تبنت قضايا الحوار الإسلامي
النصراني لتتمكن من دمج المهاجرين المسلمين في بنية المجتمعات الغربية،
واتخاذهم ورقة ضغط على الحكومات الإسلامية لتقديم تسهيلات مماثلة؛ لتعزيز
نفوذ الأقليات النصرانية في البلدان الإسلامية، ومهاجمة مشروع الدول الإسلامية،
وتطبيق الشريعة.
* اتجاهات الحوار:
ثمَّ ثلاثة اتجاهات يجري الحوار الإسلامي النصراني المعاصر في مضمارها،
تنتظم هذا الكم من المؤتمرات والمنتديات، وتفصح عنها أدبيات ذلك الحوار
وبياناته الختامية؛ وهي:
أولاً: اتجاه التقريب:
وهو الاتجاه السائد، والمستمد من مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني، ويمثل
معظم المحاولات العالمية والإقليمية والمحلية التي يتواضع عليها المتحاورون.
وأبرز معالمه ما يلي:
1 - اعتقاد (إيمان) الطرف الآخر، وتسويغه، وإن لم يبلغ الإيمان التام
الذي يعتقده هو.
2 - الاعتراف بقيم الآخر، واحترام عقائده وشعائره، وعدم تخطئته أو
تضليله أو تكفيره.
3- تجنب البحث في المسائل العقدية الفاصلة؛ للحفاظ على استمرارية
الحوار.
4- الدعوة إلى معرفة الآخر كما يريد أن يُعرف، ورفع الأحكام المسبقة.
5- نبذ (التلفيقية) و (التوفيقية) ، واحتفاظ كل طرف بخصائصه.
6 - تجنب دعوة الآخر، ومحاولة اجتذابه، وحسبان ذلك خيانة لأدب الحوار.
7 - إبراز أوجه التشابه والاتفاق، وإقصاء أوجه التباين والافتراق.
8 - الدعوة إلى نسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه،
والتخلص من آثاره.
9 - التعاون على تحقيق القيم المشتركة.
10 - تبادل التهاني والزيارات والمجاملات في المناسبات الدينية المختلفة.
ثانياً: اتجاه التوحيد:
وهو اتجاه يستصحب معظم الخصائص السابقة لدى دعاة التقريب، ويزيد
عليها ما يلي:
1 - اعتقاد صحة جميع المعتقدات، وصواب جميع صور العبادات.
2- الاشتراك في صلوات وممارسات وطقوس مشتركة.
ويمثل هذا الاتجاه غلاة الصوفية قديماً، كابن عربي، وابن الفارض،
والحلاج، وحديثاً بعض المتمسلمين الأوروبيين مثل (روجيه جارودي) ،
و «فرقة الأبحاث الإسلامية المسيحية» ، المنبثقة عن دير سيننكا في فرنسا،
ومجمع «سوبود» في إندونيسيا، وفروعه في ثمانين دولة.
ثالثاً: اتجاه التلفيق:
وهو اتجاه يهدف إلى تشكيل دين جديد ملفق من أديان وملل شتى، ودعوة
الآخرين للانخلاع من أوضاعهم السابقة، واعتناق دين مهجن، ويمثل هذا الاتجاه
قديماً (البهائية) ، وحديثاً (المونية) التي يعتنقها أكثر من ثلاثة ملايين شخص في
العالم، وتعقد مؤتمرات للحوار باسم (المجلس العالمي للأديان) .
* الحوار المشروع:
لفظ (الحوار) مصطلح حادث، لا يحمل حقيقة شرعية يمكن الإحالة عليها،
بل ولا يحمل دلالة قانونية مستقرة تكشف عن أبعاد استعمالاته، يقول د / عبد
العزيز التويجري: (مفهوم الحوار في الفكر السياسي والثقافي المعاصر؛ من
المفاهيم الجديدة، حديثة العهد بالتداول، ولعل مما يدل على جدة هذا المفهوم
وحداثته أن جميع المواثيق والعهود الدولية التي صدرت في الخمسين سنة الأخيرة،
بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة، تخلو من الإشارة إلى لفظ الحوار) [11] .
ولهذا لم يبق سوى الدلالة اللغوية، فالحوار مادته (حور) و (الحور:
الرجوع عن الشيء إلى شيء ... والمحاورة: المجاوبة. والتحاور: التجاوب)
[12] ، قال الراغب: (والمحاورة والحوار: المرادة في الكلام، ومنه التحاور،
قال تعالى: [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا] (المجادلة: 1)) [13] .
ولعل هذا هو السر في تحبيذ المشتغلين بالحوار لهذا اللفظ، وهو أنه لا يحمل
هدفاً مبيتاً، أو التزاماً مسبقاً بشيء يحرج الداعين إليه، والمنخرطين فيه.
وحيث (لا مشاحة في الاصطلاح) ؛ فلا بد من البيان الذي يرفع الإبهام،
والإيضاح الذي يزيل الالتباس، فنقول: إن الحوار الشرعي نوعان:
الأول: حوار الدعوة: وهو وظيفة المرسلين، وخلفائهم من العلماء الربانيين،
والدعاة الناصحين، وهو مشروع الأمة الإسلامية، وعنوان خيريتها على سائر
الأمم. ومضمون هذا الحوار هي (الكلمة السواء) التي دل عليها قوله تعالى:
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ
بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) ، وأسلوبه هو ما دل عليه عموم قوله تعالى:
[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن]
(النحل: 125) ، وخصوص قوله: [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ
وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (العنكبوت: 46) ، وترجمته العملية سيرته صلى الله
عليه وسلم في دعوة أهل الكتاب؛ من يهود المدينة، ونصارى نجران،
ومكاتباته لملوك الأرض، ثم طريقة السابقين الأولين من الصحابة والتابعين
والسلف الصالح، كمحاورة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه للنجاشي
وبطارقته، وهدي الصحابة رضوان الله عليهم في معاملة أهل البلاد المفتوحة،
وأسلوب العلماء الراسخين في مخاطبة أهل الكتاب، ككتاب شيخ الإسلام ابن تيمية
إلى سرجوان (ملك قبرص) .
وأبرز خصائص هذا الحوار ما يلي:
1 - مبادأة أهل الكتاب بالدعوة الصريحة إلى الإسلام، وعدم الاشتغال بأمور
أخرى تصرف عن ذلك، أو توهنه، أو تؤجله.
2 - مجادلتهم بالتي هي أحسن في القضايا العقدية الفاصلة، ومحاجتهم،
ومناظرتهم، لدحض شبهاتهم، ونقض حججهم، بأسلوب علمي رفيع، ثم مباهلتهم
إن لزم الأمر.
3 - أخذ زمام المبادرة في دعوتهم، كما يدل عليه قوله: [تَعَالَوْا] (آل
عمران: 64) ؛ باستضافتهم في دار المسلمين، واستقبال وفودهم، والكتابة إليهم،
وغشيانهم في محافلهم وبيوتهم لدعوتهم، وكل ذلك ثابت من هدي النبي صلى الله
عليه وسلم.
4 - تألفهم بالقول الحسن، كمناداتهم بم يليق بهم من ألقاب حق، وتحيتهم
تحية مناسبة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إلى هرقل عظيم الروم، سلام على
من اتبع الهدى» ، وبالفعل الحسن، كعيادة مريضهم، وتمكينهم من الصلاة في
المسجد لعارض، وإكرام وفدهم، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: حوار السياسة الشرعية: وهو ما تفرضه حركة الأمة الإسلامية،
وتمليه طبيعة التعايش بين البشر؛ بحكم الجوار والمصالح المتبادلة.
وهذا النوع من الحوار والمفاوضات والمعاهدات يوكل إلى أولي الأمر، وأهل
الحل والعقد، وتضبطه القواعد العامة في الشريعة، وتقدير المصالح والمفاسد.
وقد رافق هذا اللون من (حوار التعايش) نشأة الدولة الإسلامية في المدينة،
حيث عقد النبي صلى الله عليه وسلم عهوداً مع يهود المدينة، وأبرم صلح الحديبية
مع كفار قريش، كما زخر الفقه الإسلامي المؤسس على فقه الكتاب والسنة بتراث
ضخم في مجال العلاقات الدولية بأهل الكتاب؛ ذميين كانوا، أو معاهدين، أو
مستأمنين، أو حربيين.
أما الحوار البدعي؛ فهو حوار المداهنة، والابتذال، والخضوع بالقول،
وكتم الحق، والسكوت عن الباطل، والموادة، والموالاة لغير المؤمنين؛ مما يقع
فيه كثير من محترفي الحوار المذموم اليوم.
ولا ريب أن في ديننا فسحة وسعة تنافي التقوقع والانكماش، وتمكن دعاة
الإسلام مستفيدين من التسهيلات الإعلامية الحديثة من التقدم إلى العالم أجمع
بخطاب متين يتضمن دعوة المرسلين إلى توحيد رب العالمين، [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف:
9) .
__________
(*) أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم، من مؤلفاته كتاب: ... (دعوة التقريب بين الأديان دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية) في أربع مجلدات.
(1) رواه مسلم، رقم (1774) .
(2) رواه البخاري، رقم (7) ، ومسلم، رقم (1773) .
(3) رواه مسلم، رقم (2898) .
(4) الكتاب المقدس ومؤمنو الأديان الأخرى، ص: 81 - 82.
(5) المجمع الفاتيكاني الثاني، ص: 312.
(6) حوار وبشارة، ص: 25، 30.
(7) نقلاً عن: الكتاب المقدس ومؤمنو الأديان الأخرى، ص: 70.
(8) الإنجيل والإسلام، المترجم إلى العربية بعنوان: التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي، ص 777.
(9) نقلاً عن: هرطقات فريسية، جورج حنا، ص: 8.
(10) المرجع السابق، ص: 9.
(11) الحوار والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي، ص 7.
(12) لسان العرب، (3/383) .
(13) مفردات القرآن، (135) .(184/20)
دراسات في الشريعة
المشاركة في وسائل الإعلام بين المصالح والمفاسد
(2 ـ 2)
محمد بن عبد الله الدويش [*]
* قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد:
من العرض السابق يلاحظ كثرة المفاسد والمصالح في المشاركة في وسائل
الإعلام، وكثرتها أيضاً في الامتناع عن المشاركة، وهذا يستوجب توخي الحذر في
الحكم بجواز المشاركة أو الحكم بمنعها؛ فالورع مُسْتَصْحَب في الحالين، وليس كما
شاع عند كثيرين أنه إنما يكون في الترك لا في الفعل.
ومما ينبغي التنبه له أن التعارض بين المصالح نفسها وبين المفاسد نفسها، أو
بين المصالح والمفاسد إنما يتصور إذا كان بين مصلحتين لا يمكن الجمع بينهما؛
فتُفوَّت الصغرى لتحصيل الكبرى، أو بين مفسدتين لا يمكن تلافي كل منهما؛
فترتكب الصغرى لتفويت الكبرى، أو بين مصلحة ومفسدة لا يمكن التفريق بينهما؛
بل فعل المصلحة مستلزم لوقوع المفسدة، وترك المفسدة مستلزم لترك المصلحة،
فيرجح الأرجح من المفسدة أو المصلحة. أما عند عدم التعارض في شيء من ذلك
فلا ترجيح أصلاً.
ويتوجب النظر في هذه التعارضات بمعيار مهم في الموازنة بين المصالح
والمفاسد لا يمكن أن تُجرى الموازنة إلا بإعماله؛ وذلك من خلال زوايا أربع:
1 - تقويم ذات المصلحة أو المفسدة، وبيان ترتيبها في مقاصد الشريعة في
حفظ الدين والنفس والعقل والعرض أو النسل والمال. هذا في الموازنة بين
المقاصد، فيقدم المقدم، ويؤخر المؤخر على هذا الترتيب.
فإذا تزاحم الوقت على إنسان فإما أن ينقذ مسلماً من الهلاك المحقق، أو ينقذ
امرأة من الاغتصاب، وكِلا الأمرين في مقدوره: وجب عليه أن ينقذ النفس،
وهكذا.
وإذا تعارض كشف العورة للطبيب مع الخوف على فوات النفس أو ما دونها
من الأعضاء: ارتكبت مفسدة كشف العورة لمصلحة حفظ النفس أو العضو، وذلك
لكون كشف العورة من حفظ العرض، وعلاج المرض المذهب للنفس من مقصد
حفظ النفس وهو مقدم على حفظ العرض.
وفي وسائل الإعلام مثلاً مفسدة الاختلاط العارض مع النساء في الممرات، أو
عند تسجيل الحلقة مفسدة في حق شخص واحد وهو الشيخ المقدم؛ ولكن يستفيد منه
خلق لا يُحصَوْن في قيام الحجة وتبليغ الدين؛ فتبليغ العلم لأعداد كبيرة في
الضروريات، أو الاستفادة العامة والوعظ والتذكير، ولكن مفسدة الاختلاط على
شخص واحد في مقصد متأخر عن حفظ الدين وهو حفظ العرض، وليس في ذات
العرض، أو الفاحشة ولكنه في ذرائعها.
2 - ثم يلحقه نظر آخر في تقديم كل مقصد؛ ففي كل واحد منهما ما هو
ضروري أو حاجي أو تكميلي، وهي على هذا الترتيب أيضاً في المقصد الواحد
وبين المقاصد أيضاً: فيقدم الضروري لحفظ المال على الحاجي لحفظ الدين، ويقدم
الحاجي لحفظ العقل على التحسيني لحفظ الدين.
وذلك كشرب قليل المسكر الذي لا يسكر مثله لحفظ مال كثير يوشك على
التلف؛ فحفظ المال هنا واقع في الضروريات، وترك شرب ما لا يسكر واقع في
الحاجيات التي شرع الله أحكامها حفظاً للضروريات وهي باب سد الذرائع.
وإذا تعارض تبليغ الدين الضروري الذي لا يقوم دين المرء إلا بمعرفته ولا
سبيل إلى ذلك إلا بالنظر إلى النساء مثلاً وجب تبليغ الدين وارتكاب مفسدة النظر؛
لكون معرفة مثل هذه الأحكام الضرورية واقعة في مقصد ضروري من الدين،
وتلك في حاجي لحفظ العرض.
3 - درجة الشمول؛ فقد يتحرر للمجتهد والمستدل نظر آخر في درجة شمول
وأثر المصالح والمفاسد المتعارضة قد يقدم به حاجياً ذا مقصد مؤخر على ضروري
ذي مقصد مقدم؛ كفوات مقصد ضروري لحفظ نفس مسلم واحد على فوات مقصد
حاجي لحفظ مال أمة؛ كشخص قد يتعرض للقتل يعارضه ضياع مصدر اقتصادي
رئيس للملايين من الناس.
4 - مراعاة درجات القطعية أو غلبة الظن أو الشك من عدم ذلك في التعامل
مع هذه المتعارضات.
فإذا كانت المفسدة متيقنة أو يغلب على الظن وقوعها والمصلحة مشكوك في
تحصيلها: لم يجز أن ترتكب المفسدة لأجل هذه المصلحة.
والعكس صحيح أيضاً؛ فإذا كانت المفسدة مشكوكاً في وقوعها، والمصلحة
متيقنة لم يجز ترك المصلحة لأجل المفسدة: كمن تعارضت في نظره مصلحة
المشاركة في عمود صحفي في مطبوعة سيارة، أو في الإجابة على أسئلة القراء
ومفسدة تزكية المطبوعة، وكانت المصلحة مقطوعاً بها أو مظنونة، والمفسدة
مشكوكاً فيها فيعمل هنا بمقتضى المصلحة. ولو كان الشك في المصلحة والقطع في
المفسدة لم تجز المشاركة وهكذا.
ومن مجالات النظر والترجيح في هذه المسائل:
* رعاية قواعد الشريعة:
ومن ذلك:
1 - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فتبليغ الدين، وتعليم العلم الشرعي
الواجب، وإنكار المنكرات أمر يجب على طلبة العلم والدعاة إلى الله عز وجل،
وحين يتوقف تحقيق ذلك على وسيلة معينة تصبح هذه الوسيلة واجبة.
2 - ما حرم سداً للذريعة يباح للمصلحة الراجحة.
3 - لا عبرة بالتوهم، فالمصلحة المتوهمة فاسدة.
4 - أن «جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأن
جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على
أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك
الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات» [1] .
5 - حقيقة الورع المشروع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «.. وكذلك» الورع «المشروع هو الورع
عما قد تخاف عاقبته وهو ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه
مفسدة أعظم من فعله - مثل محرم معين - مثل من يترك أخذ الشبهة ورعاً مع
حاجته إليها، ويأخذ بدل ذلك محرما بيِّناً تحريمه، أو يترك واجباً تركه أعظم فساداً
من فعله مع الشبهة، كمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها، وليس له
وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة. وكذلك من
» الورع «الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه وتمام» الورع «
أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على
تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في
الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل
محرمات، ويرى ذلك من الورع؛ كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك
ورعاً، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك
من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من
بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع،
وكذلك» الزهد والرغبة «: من لم يراع ما يحبه الله ورسوله من الرغبة والزهد
وما يكرهه من ذلك، وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج
إليه من الأكل أو أكل الدسم حتى يفسد عقله، أو تضعف قوته عما يجب عليه من
حقوق الله تعالى، أو حقوق عباده أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والجهاد في سبيل الله لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم حتى
يستولي الكفار والفجار على الصالحين الأبرار، فلا ينظر المصلحة الراجحة في
ذلك. وهؤلاء الذين زهدوا في» الإرادات «حتى فيما يحبه الله ورسوله من
الإرادات بإزائهم» طائفتان «: طائفة رغبت فيما كره الله ورسوله والرغبة فيه
من الكفر والفسوق والعصيان، وطائفة رغبت فيما أمر الله ورسوله لكن لهوى
أنفسهم لا لعبادة الله تعالى..» [2] .
وقال أيضاً: «.. والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها،
وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان،
ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان: [وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا
عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] (الأحقاف: 19) . وأكثر المتكلمين
يردون باطلاً بباطل وبدعة ببدعة؛ لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل
الكتاب بباطل المسلمين فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد
البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة؛ وقد ذكرنا
فيما تقدم أصناف البدع. ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج»
[3] .
* كلام بعض أهل العلم في أمثال هذه المسألة:
مخاطبة أهل البدع بلغتهم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «فإن كان الكلام في المعاني
المجردة من غير تقييد بلفظ، كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء
الله وصفاته بالشرائع.. فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً،
وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم؛ فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم
أوْلى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع
شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار
يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب» [4] .
ترك مخالفة الكفار في الهدي الظاهر لمصلحة:
وقال أيضاً: «ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير
حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر؛
بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان
في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم،
لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد
الصالحة» [5] .
وقال أيضاً: «وقال أبو الحسن الآمدي: فأما ما يبيعون في الأسواق في
أعيادهم فلا بأس بحضوره؛ نص عليه أحمد في رواية مهنا، وقال: إنما يمنعون
أن يدخلوا عليهم بِيَعَهم وكنائسهم، وأما ما يباع في الأسواق من المأكل فلا، وإن
قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم؛ فهذا الكلام محتمل لأن يكون أجاز شهود
السوق مطلقاً بائعاً أو مشترياً؛ لأنه قال: إذا لم يدخلوا عليهم كنائسهم وإنما يشهدون
السوق فلا بأس؛ هذا يعم البائع والمشتري لا سيما إن كان الضمير في قوله
(يجلبون) عائداً إلى المسلمين؛ فيكون قد نص على جواز كونهم جالبين إلى
الأسواق، ويحتمل وهو أقوى أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط، ورخص في
الشراء منهم ولم يتعرض للبيع منهم؛ لأن السائل إنما سأله عن شهود السوق التي
تقيمها الكفار لعيدهم، وقال في آخر مسألته: يشترون ولا يدخلون عليهم بِيَعَهم؛
وذلك لأن السائل مهنا بن يحيى الشامي وهو فقيه عالم وكأنه والله أعلم قد سمع ما
جاء في النهي عن شهود أعيادهم، فسأل أحمد: هل شهود أسواقهم بمنزلة شهود
أعيادهم؟ فأجاب أحمد بالرخصة في شهود السوق، ولم يسأل عن بيع المسلم لهم
إما لظهور الحكم عنده، وإما لعدم الحاجة إليه إذ ذاك. وكلام الآمدي أيضاً محتمل
للوجهين؛ لكن الأظهر فيه الرخصة في البيع أيضاً لقوله: (إنما يمنعون أن يدخلوا
عليهم بِيَعَهم وكنائسهم) وقوله: (وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم) فما
أجاب به أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء منها من غير دخول الكنيسة،
فيجوز لأن ذلك ليس فيه منكر ولا إعانة على معصية؛ لأن نفس الابتياع منهم
جائز ولا إعانة فيه على المعصية بل فيه صرف لما لعلهم يبتاعونه لعيدهم عنهم
الذي يظهر أنه إعانة لهم وتكثير لسوادهم، فيكون فيه تقليل الشر. وقد كانت
أسواق في الجاهلية كان المسلمون يشهدونها، وشهد بعضها النبي - عليه السلام -،
ومن هذه الأسواق ما كان يكون في مواسم الحج، ومنها ما كان يكون لأعياد
باطلة؛ وأيضاً فإن أكثر ما في السوق أن يباع فيها ما يستعان به على المعصية؛
فهو كما لو حضر الرجل سوقاً يباع فيها السلاح لمن يقتل به معصوماً أو العصير
لمن يخمِّره فحضرها الرجل يشتري منها، بل هو أجود؛ لأن البائع في هذا السوق
ذمي، وقد أقروا على هذه المبايعة. ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري
منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وحديث عمر
رضي الله عنه، وأحاديث أخر بسطت القول فيها في غير هذا الموضع؛ مع أنه لا
بد أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يستعان به على المعصية. فأما بيع المسلم لهم في
أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك أو
إهداء ذلك لهم فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم، وهو مبني على أصل
وهو أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنباً أو عصيراً يتخذونه خمراً، وكذلك لا يجوز
بيعهم سلاحاً يقاتلون به مسلماً، وقد دل حديث عمر رضي الله عنه في إهداء الحلة
السيراء إلى أخ له بمكة مشرك على جواز بيعهم الحرير؛ لكن الحرير مباح في
الجملة وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين؛ ولهذا جاز التداوي به في أصح
الروايتين ولم يجز بالخمر بحال، وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه؛ فهذا
الأصل فيه اشتباه؛ فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد جُوِّزَ ذلك. وعن أحمد
في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان» [6] .
عدم ترك الواجب حذراً من رؤية المنكر:
في فتاوى العز بن عبد السلام: «وسئل عمن له أخ في الله في غير بلده أو
شيخ يرجو بركة زيارته ورؤيته وفي تلك البلدة المقصودة منكرات كثيرة منها ما
يراه عياناً، ومنها ما يعلم بوجوده؛ وفي حال سفره أيضاً لا يسلم من شيء يشاهده؛
فهل يُكرَه لمثل هذا السفر أم ما حكمه؟ وهل كذلك الخروج لصلاة الجماعة إذا
ظن أنه لا يسلم من رؤية المنكر لكثرته؟ فأجاب: أما الزيارة والخروج لصلاة
الجماعة فلا يتركان لما يشاهد من المناكر؛ إذ لا يترك الحق لأجل الباطل؛ فإن
قدر على إنكار شيء من ذلك في خروجه بيده أو لسانه فعل وحصل له على ذلك
أجر زائد على أجر الصلاة والزيارة، وإن عجز عن ذلك كان مأجوراً على كراهية
ذلك بقلبه، وكذلك الغزو مع الفجرة إن قدر على إنكار فجورهم أنكره وحصل على
ثواب الإنكار، وإن عجز عنه كرهه بقلبه وأثيب على كراهته لذلك؛ لأنه إنما
يكرهه تعظيماً لحرمات الله عز وجل، ولو ترك الحق لأجل الباطل لترك الناس
كثيراً من أديانهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل الحرم وفيه ثمانية وستون
صنماً وكانت داخل الكعبة، وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة، فتحرج
بعض الصحابة من السعي بينهما لأجلهما، فنزل قوله تعالى: [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن
يَطَّوَّفَ بِهِمَا] (البقرة: 158) ؛ كي لا يترك حق لأجل الباطل، والله أعلم» [7] .
تولى الولاية المستلزمة لبعض الظلم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «.. إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض
فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك - إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك
محرماته ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصداً وقدرة: جازت له الولاية، وربما
وجبت؛ وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من
جهاد العدو، وقَسْم الفيء، وإقامة الحدود، وأمن السبيل: كان فعلها واجباً؛ فإذا
كان ذلك مستلزماً لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء
بعض من لا ينبغي ولا يمكنه ترك ذلك: صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو
المستحب إلا به، فيكون واجباً أو مستحباً إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك
الواجب أو المستحب، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم،
ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها. ودفع
أكثره باحتمال أيسره: كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة
بنية دفع ما هو أشد منها جيداً. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد؛ فمن
طلب منه ظالم قادر وألزمه مالاً فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم،
وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسناً،
ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئاً. وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية
والعمل: أما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك
الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح. ثم الولاية وإن كانت جائزة
أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب، فيقدم
حينئذ خير الخيرين وجوباً تارة، واستحباباً أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف
الصدِّيق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن
الأرض، وكان هو وقومه كفاراً كما قال - تعالى -: [وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِه] (غافر: 34) . وقال تعالى عنه: [يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ
أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم] (يوسف: 39 - 40) ، ومعلوم أنه مع كفرهم لا
بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته
وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف
يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله؛ فإن القوم لم يستجيبوا له لكن
فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته
ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن: 16) . فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقُدِّم أوكدهما لم
يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوْكد تاركَ واجبٍٍ في
الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن
فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي
هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر
وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم؛ وهذا كما
يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. هذا
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:» من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا
ذكرها؛ فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك «. وهذا باب التعارض باب واسع جداً
لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه
المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل. ووجود ذلك من
أسباب الفتنة بين الأمة فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛
فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة،
وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة،
والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة
والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات؛ لكون
الأهواء قارنت الآراء؛ ولهذا جاء في الحديث:» إن الله يحب البَصِر النافذ عند
ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات « [8] . فينبغي للعالم أن
يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها - كما بينته فيما تقدم -:
العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء؛ لا التحليل والإسقاط. مثل أن يكون في
أمره بطاعة فعلاً لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعاً لوقوع تلك المعصية مثل
أن ترفع مذنباً إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضرراً
من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف هو أعظم
منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به
ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم تارة يأمر وتارة
ينهى، وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح
الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح. وعند التعارض
يرجح الراجح - كما تقدم بحسب الإمكان؛ فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد
بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح
الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت
كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا
الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى
وقت التمكن كما أخر الله - سبحانه - إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها» [9] .
وفي مجموع الفتاوى: «.. وسئل الشيخ - قدس الله روحه - عن رجل
متولٍّ ولايات ومقطع إقطاعات وعليها من الكُلَف السلطانية ما جرت به العادة وهو
يختار أن يسقط الظلم كله ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن
ترك ذلك وأقطعها غيره وولى غيره فإن الظلم لا يترك منه شيء، بل ربما يزداد
وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه فيسقط النصف، والنصف
الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه؛ فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها
وهو عاجز عن ذلك لا يمكنه ردها. فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعِه؟
وقد عُرِفت نيته واجتهاده وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه؟ أم عليه أن يرفع يده
عن هذه الولاية والإقطاع؟ وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم بل يبقى ويزداد. فهل
يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل؟ أم لا؟
وإذا لم يكن عليه إثم؛ فهل يطالب على ذلك؟ أم لا؟ وأي الأمرين خير له: أن
يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله، أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة؟ وإذا
كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به ورفع ما رفعه من الظلم؛
فهل الأوْلى له أن يوافق الرعية؟ أم يرفع يده؛ والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم
يبقى ويزداد برفع يده؟ فأجاب: الحمد لله. نعم! إذا كان مجتهداً في العدل، ورفع
الظلم بحسب إمكانه وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على
الإقطاع خير من استيلاء غيره كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء على الولاية
والإقطاع ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا
تركه بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك عليه واجباً إذا لم يقم به غيره قادراً عليه.
فنشر العدل - بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان - فرض على الكفاية يقوم
كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة
هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم. وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه
رفعها لا يطالب بها، وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالاً لا يمكن دفعها إلا بإقرار
بعض تلك الوظائف، وإذا لم يدفع إليهم أعطوا تلك الإقطاعات والولاية لمن يقرر
الظلم أو يزيده ولا يخففه كان أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم خيراً للمسلمين من
إقرارها كلها، ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره، ومن
تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان من غيره، والمُقْطَع الذي يفعل هذا
الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما
يطلب منهم؛ فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم يثاب ولا إثم
عليه فيما يأخذه على ما ذكره، ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا
والآخرة إذا كان مجتهداً في العدل والإحسان بحسب الإمكان. وهذا كوصي اليتيم
وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره
بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم
للقادر الظالم: فإنه محسن في ذلك غير مسيء؛ وذلك مثل ما يعطي هؤلاء
المكَّاسين وغيرهم في الطرقات والأشوال والأموال التي اؤتمنوا، كما يعطونه من
الوظائف المرتبة على العقار، والوظائف المرتبة على ما يباع ويشترى؛ فإن كل
من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلا بد أن يؤدي
هذه الوظائف؛ فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد
العباد وفوات مصالحهم. والذي ينهى عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه
تضاعف الظلم والفساد عليهم فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع
الطريق فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم. فمن قال لتلك القافلة:
لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئاً من الأموال التي معكم للناس فإنه يقصد بهذا
حفظ ذلك القليل الذي ينهى عن دفعه، ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل
والكثير وسلبوا مع ذلك؛ فهذا مما لا يشير به عاقل فضلاً أن تأتي به الشرائع؛ فإن
الله تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب
الإمكان. فهذا المتولي المُقْطَع = الذي يدفع - بما يوجد من الوظائف، ويصرف
إلى من نسبه مستقراً على ولايته وإقطاعه - ظلماً وشراً كثيراً عن المسلمين أعظم
من ذلك ولا يمكنه دفعه إلا بذلك إذا رفع يده تولى من يقره ولا ينقص منه شيئاً
هو مثاب على ذلك ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة. وهذا بمنزلة
وصي اليتيم وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من
المظالم السلطانية إذا رفع يده تولى من يجور ويريد الظلم؛ فولايته جائزة ولا إثم
عليه فيما يدفعه، بل قد تجب عليه هذه الولاية. وكذلك الجندي المقطع الذي يخفف
الوظائف عن بلاده ولا يمكنه دفعها كلها؛ لأنه يُطلَب منه خيل وسلاح ونفقة لا
يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف؛ وهذا مع هذا ينفع المسلمين في
الجهاد فإذا قيل له: لا يحل لك أن تأخذ شيئاً من هذا، بل ارفع يدك عن هذا
الإقطاع فتركه وأخذه من يريد الظلم ولا ينفع المسلمين: كان هذا القائل مخطئاً
جاهلاً بحقائق الدين، بل بقاء الخيل من الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم
وأنفع للمسلمين وأقرب للعدل على إقطاعهم مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان خير
للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعاً وأكثر ظلماً. والمجتهد من
هؤلاء المُقْطَعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان يجزيه الله على ما فعل
من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن
إلا ذلك [و] كان ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه. والله أعلم» [10] .
* تعارض المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال ابن تيمية: «.. وجماع ذلك داخل في» القاعدة العامة «: فيما إذا
تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح
الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن
الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض
له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به،
بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح
والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل
عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر؛ وقلَّ أن تُعوز النصوص من يكون
خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين
بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو
يتركوهما جميعاً: لم يجز أن يؤمَروا بمعروف ولا أن يُنهَوْا عن منكر، ينظر: فإن
كان المعروف أكثر أُمِرَ به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر. ولم يُنه عن منكر
يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل
الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات. وإن كان
المنكر أغلب نُهِيَ عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف. ويكون الأمر
بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله
ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمَر بهما، ولم يُنه عنهما.
فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان
المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة..» [11] .
* من كلام بعض العلماء المعاصرين في هذه المسألة:
حيث إن وسائل الإعلام المعاصرة نازلة من النوازل فقد كان ينبغي لأهل العلم
والفقه أن يبحثوها ويحرروها؛ ومعظم كلام المعاصرين حول وسائل الإعلام يكاد
ينحصر في الحديث عن أثرها، وضرورة استخدامها، أو عن التحذير من اقتناء
وسائل الإعلام السيئة ومتابعتها، دون الحديث عن حكم المشاركة فيها، وفيما يلي
نورد بعض ما وقفنا عليه من الفتاوى في ذلك.
فتوى الشيخ ابن باز، رحمه الله: سئل: «دعوتم إلى الاستفادة من وسائل
الإعلام في مجال الدعوة والتوجيه، ومنها تلك التي فيها التصوير، لكن بعض
الدعاة إلى الله لا يزالون يتحرجون من تلكم الصورة. ماذا تقولون في ذلك؟
فأجاب: لا شك أن استغلال وسائل الإعلام في الدعوة إلى الحق ونشر أحكام
الشريعة وبيان الشرك ووسائله والتحذير من ذلك ومن سائر ما نهى الله عنه من
أعظم المهمات، بل من أوجب الواجبات، وهي من نعم الله العظيمة في حق من
استغلها في الخير، وفي حق من استفاد منها ما ينقصه في دينه ويبصره بحق الله
عليه. ولا شك أن البروز في التلفاز مما قد يتحرج منه بعض أهل العلم من أجل ما
ورد من الأحاديث الصحيحة في التشديد في التصوير ولعن المصورين؛ ولكن
بعض أهل العلم رأى أنه لا حرج في ذلك إذا كان البروز فيه للدعوة إلى الحق
ونشر أحكام الإسلام والرد على دعاة الباطل عملاً بالقاعدة الشرعية وهي: ارتكاب
أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما إذا لم يتيسر السلامة منهما جميعاً، وتحصيل أعلى
المصلحتين ولو بتفويت الدنيا منهما إذا لم يتيسر تحصيلهما جميعاً. وهكذا يقال في
المفاسد الكثيرة والمصالح الكثيرة.. يجب على ولاة الأمور وعلى العلماء إذا لم
تتيسر السلامة من المفاسد كلها أن يجتهدوا في السلامة من أخطرها وأكبرها إثماً.
وهكذا المصالح يجب عليهم أن يحققوا ما أمكن منها الكبرى فالكبرى إذا لم يتيسر
تحصيلها كلها، ولذلك أمثلة كثيرة وأدلة متنوعة من الكتاب والسنة منها قوله
- تعالى -: [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ]
(الأنعام: 108) ، ومنها الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة
رضي الله عنها:» لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأقمتها على
قواعد إبراهيم «الحديث متفق عليه.
وبهذا يُعلَم أن الكلام في الظهور في التلفاز للدعوة إلى الله سبحانه، ونشر
الحق يختلف بحسب ما أعطى الله الناس من العلم والإدراك والبصيرة والنظر في
العواقب. فمن شرح الله صدره واتسع علمه ورأى أن يظهر في التلفاز لنشر وتبليغ
رسالات الله فلا حرج عليه في ذلك وله أجره وثوابه عند الله، ومن اشتبه عليه
الأمر ولم ينشرح صدره لذلك فنرجو أن يكون معذوراً لقول النبي صلى الله عليه
وسلم:» دع ما يريبك إلى ما لا يريبك «وقوله صلى الله عليه وسلم:» البر ما
اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ... «الحديث.
ولا شك أن ظهور أهل الحق في التلفاز من أعظم الأسباب في نشر دين الله
والرد على أهل الباطل؛ لأنه يشاهده غالب الناس من الرجال والنساء والمسلمين
والكفار، ويطمئن أهل الحق إذا رأوا صورة من يعرفونه بالحق وينتفعون بما
يصدر منه، وفي ذلك أيضاً محاربة لأهل الباطل وتضييق المجال عليهم، وقد قال
الله - عز وجل -: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ]
(العنكبوت: 69) ، وقال - عز وجل -: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] (النحل: 125) ، وقال: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) . وقال النبي صلى
الله عليه وسلم:» من دل على خير فله مثل أجر فاعله «، وقال - عليه الصلاة
والسلام -:» من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تتبعه لا ينقص
ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا
ينقص ذلك من آثامهم شيئاً «0 أخرجهما مسلم في صحيحه. وقال صلى الله عليه
وسلم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما بعثه إلى اليهود في
خيبر:» ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه؛
فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم «متفق على صحته.
وهذه الآيات والأحاديث الصحيحة كلها تعم الدعوة إلى الله سبحانه من طريق
وسائل الإعلام المعاصرة، ومن جميع الطرق الأخرى كالخطابة والتأليف والرسائل
والمكالمات الهاتفية وغير ذلك من أنواع التبليغ لمن أصلح الله نيته ورزقه العلم
النافع والعمل به. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى «متفق على صحته. وقال عليه الصلاة
والسلام:» إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم «أخرجه مسلم في الصحيح. وأسأل الله عز وجل أن يوفق علماء
المسلمين وولاة أمرهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه»
[12] .
وللشيخ رحمه الله فتوى أخرى جاء فيها: «هل علماؤنا أدوا واجبهم
الإعلامي نحو مواطنيهم؟ ولماذا لم يساهم كثير منهم في وسائل الإعلام المرئي
والمسموع؟ وهل الكسب في العمل به مكروه أو محرم؟
فأجاب: هذا تختلف فيه آراء أهل العلم: منهم من يرى جواز الدخول فيه،
ومنهم من يتوقف عن ذلك من أجل الصور؛ فلهذا كثر من يتوقف عن ذلك، فهو
محل اجتهاد ومحل اختلاف بين أهل العلم في جواز الدخول في ذلك والبروز في
الشاشة لإلقاء الكلمات والتوجيه، ومنهم من فعل ذلك ورأى أن هذا فيه مصلحة،
وأنه يُغتفَر في جنبه ما يتعلق بالتصوير، ومنهم من توقف في ذلك. ولهذا
المساهمون في الوسائل المسموعة والمقروءة أكثر من المساهمين في المرئية من
أجل هذا الأمر الذي سمعت وهو مسألة التصوير» [13] .
فتوى الشيخ ابن عثيمين: سئل: «وسائل الإعلام تؤدي دوراً مؤثراً في
عصرنا؛ فهل ترون أنه يجب استعمالها - مثل التلفاز - في نشر كثير من الوسائل
التي قد لا تنتشر عن طريق غيره مثل ما تنتشر عن طريق التلفاز؟ وما رأيكم
فيمن يقول: إنه لا يجوز المشاركة في وسائل الإعلام بوضعها الراهن؛ لأنها تنشر
المنكرات والمشاركة فيها هو إقرار لهذه المنكرات؟
فأجاب رحمه الله: أرى أنه يجب استخدام وسائل الإعلام في الدعوة إلى الله
عز وجل؟ لأن ذلك مما تقوم به الحجة، وأرى أن وسائل الإعلام تستخدم في
الدعوة إلى الله - عز وجل - على وجوه شتى بمعنى: أن نجعل ركناً في الدعوة
إلى التوحيد.. وركناً في الدعوة إلى العقيدة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته.. وركناً
في الدعوة إلى إخلاص العبادة لله عز وجل؛ بحيث لا يقصد الإنسان التذلل إلى
حاكم أو إلى من هو أكبر منه، وما أشبه ذلك.. وركناً في الفقه مثل العبادات
وغيرها.. وركناً في المعاملات مثل الأنكحة وغيرها؛ يعني ذلك أن تكون الدعوة
واسعة عامة. وأن لا تجعل هذه الأمور أو الموضوعات مكثفة بحيث يمل منها
القارئ أو المشاهد، بل يقتصر على ما لا يكون فيه ملل للناس وإتعاب لهم، حتى
ينتفع الناس بذلك أكثر، على شرط أن لا يحل محلها ما فيه إضلال الخلق لأخلاقهم،
أو ما أشبه ذلك. ولكن أرى أنه إذا كان هجر هذه الوسائل وعدم المشاركة فيها
سبباً في ترك المنكر، فإنه يجب مقاطعتها ومهاجرتها حتى تترك هذا المنكر لما هو
خير. أما إذا كان هذا الأمر لا يفيد وربما يزيد الطين بلة؛ بحيث تفرغ لنشر شر
أكبر وأكثر، فأرى أنه يجب استغلال هذه الفرصة، ونشر الدعوة إلى الله تعالى من
خلال هذه الوسائل. ثم هذا المنكر الذي يعرض - كما يقول السائل - لا يعرض
في الوقت الذي أنت تلقى فيه الخير، بل هو منفصل عنه، فيكون من أراد استمع
إليه وشاهده، وإذا جاء الوقت الذي فيه المنكر يغلق المذياع أو التلفاز وينتهي منه»
[14] .
* الخلاصة:
مما استعرضناه من قواعد المصالح والمفاسد في الشريعة وقواعد الترجيح
بينها، ومن القواعد الشرعية ورعايتها، ومما نقلناه من أقوال أهل العلم المعتبرين
قديماً وحديثاً، يمكن أن نستخلص جملة من النتائج:
1 - أن مسألة المشاركة في الوسائل الإعلامية بصورتها الراهنة من النوازل
وموارد الاجتهاد؛ فلا نعلم نصاً في الشريعة يقضي بمنع المشاركة أو جوازها.
2 - أن الشريعة قد عللت بعض أحكامها برعاية المصلحة والمفسدة والترجيح
بينهما؛ كالذي ذكره الله - تعالى - عن الخمر والميسر.
3 - أن المتأمل في أحكام الشريعة الأخرى يلحظ رعايتها لهذا الجانب، وأنه
ما من شيء شرعته إلا ومصلحته خالصة أو راجحة، وما من شيء منعته إلا
ومفسدته خالصة أو راجحة.
4 - لم يقل أحد من العلماء المعتبرين إن كل مصلحة مهما بلغت في عظمها
فهي مهدرة عند وجود أي مفسدة مهما بلغت في صغرها؛ بل أقاويلهم واضحة في
تقرير اعتبار الترجيح بين المصالح والمفاسد [15] .
5 - أن بعض الناظرين في هذه المسألة وقع في إفراط أو تفريط؛ فمنهم من
جعل النظر العقلي المجرد ومصالح هذه الحياة الدنيا نصب عينيه عند الترجيح بين
المصالح والمفاسد؛ فخرج بالعجيب من الاختيارات والفتاوى، وفي مقابل هؤلاء
من أهدر كل مصلحة خوفاً على الناس من ارتكاب ما يصاحبها من مخالفة؛ فهدموا
القواعد وألغوا الأصول والقياس الواضح من أجل منع الناس من المعصية.
6 - وسائل الإعلام أنواع، منها:
أ - وسائل سليمة في غاياتها ووسائلها، كالمجلات والجرائد والإذاعات التي
لا تشتمل على مخالفات شرعية.
ب - وسائل لها غايات سليمة لكنها تقع في بعض المخالفات الشرعية تساهلاً.
ج - وسائل فيها الخليط من الخير والشر؛ نظراً لأن غاياتها الربح والشهرة
في الغالب.
د - وسائل فاسدة مفسدة في غاياتها وفي وسائلها.
7 - المشاركون في وسائل الإعلام أقسام:
أ - من تكون مشاركته تزكية لهذه الوسيلة؛ نظراً لكونه عَلَماً بارزاً وله شهرة
في الدعوة، ويقتدي به قطاع عريض من الناس.
ب - من لا تكون مشاركته مشتملة على تزكية لهذه الوسيلة، إما لكونه يبين
ما فيها من مخالفات - ولو عَرَضاً في كلامه وفتاويه - أو لكونه قد عرفت أقواله
ومواقفه.
ج - صنف آخر دون هؤلاء يمكن أن يبينوا الحق أو يردوا على بعض البدع
والمنكرات، أو يدلوا بآرائهم في كثير من المسائل والقضايا خاصة إذا كانت مبنية
على علم صحيح، أو استشاروا فيما يقولون طلبة العلم الموثوقين.
8 - أنواع المشاركة:
المشاركات أنواع منها:
أ - الدعوة إلى الله تعالى، وتبليغ دينه، والنصح للناس.
ب - الدفاع عن الإسلام ومزاحمة أهل الباطل.
ج - الرد على المنكرات في تلك الوسيلة أو في غيرها.
د - معالجة القضايا - الاجتماعية ونحوها - من خلال نظرة واقعية صادقة،
ومنهج شرعي مؤصل.
هـ - المشاركة في القضايا العلمية النافعة للناس في أمور دنياهم، كالنواحي
الطبية أو الزراعية ونحوها.
وبناء على ما سبق من:
1 - عرض للمصالح والمفاسد المترتبة على استخدام وسائل الإعلام
والمشاركة فيها.
2 - وعرض بعض القواعد الشرعية والفقهية المتعلقة بهذا الموضوع.
3 - أهمية وسائل الإعلام وقوة تأثيرها سلباً وإيجاباً.
4 - عرض لأنواع وسائل الإعلام وأنواع المشاركين فيها وأنواع المشارَكَة.
يتبين ما يلي:
أولاً: أن الحكم في المشاركة في وسائل الإعلام ليس حكماً واحداً مطلقاً بحيث
يقال إنه يجوز أو لا يجوز، بل الأمر فيه تفصيل مشتمل على أحوال مختلفة.
ثانياً: أن المسألة لا تنحصر في بيان جواز أو عدم جواز المشاركة فيها،
وإنما في وجوبها في بعض الأحيان - على تفصيل يأتي بعد قليل - وعليه فإن على
العلماء والدعاة إلى الله - تبارك وتعالى - أن يدركوا عِظَم المسؤولية تجاه هذا
الباب الواسع العظيم الذي عم أثره في هذا العصر المسمى عصر الإعلام
والاتصالات.
ثالثاً: تفاوت الحكم واختلافه بحسب نوع المشاركة والمشاركين، والوسيلة
المشارك فيها، وتغير ذلك بحسب الزمان والمكان والأحوال؛ فمثلاً عصر
الفضائيات والإنترنت يختلف عما سبقه قبل انتشار هذه الوسائل واتساع تأثيرها.
ونتيجة لذلك يمكن تفصيل حكم المشاركة فيما يأتي:
1 - حاجة الأمة اليوم إلى تبليغ دين الله والدعوة إلى الله وإنكار المنكرات
تقتضي وجوب السعي لإنشاء وسائل إعلام سليمة ولو لازمها وجود بعض المفاسد
المرجوحة، مع الحرص على مدافعة المفاسد قدر الإمكان.
2 - تكون المشاركة في وسائل الإعلام القائمة واجبة في الأحوال الآتية:
أ - إذا كانت الوسيلة غير مشتملة على محرم أو مكروه، وكان إنكار المنكر
أو بيان الحق لأناس أو في بلد لا يتم إلا بذلك. وهذه درجة عالية من الوجوب؛
نظراً لاجتماع مشروعية الوسيلة، وتعيَّن الوجوب في المسألة المتحدث عنها
والقضية الواقعة.
ب - قد تكون الوسيلة مشتملة على محرمات، لكن إنكار المنكر أو بيان الحق
لا يتم إلا بهذه الوسيلة، مع غلبة الظن بأن المصلحة أكبر من المفسدة التي قد توجد
من المشاركة؛ فهذه الحالة لا بد من القيام بالواجب الكفائي فيها لبيان الحق أو رد
المنكر ولو في هذه الوسائل.
3 - هناك حالات تكون المشاركة فيها محرمة، ومن ذلك:
أ - المشاركة في البرامج الموجهة للثناء على أهل الباطل وأعداء الدعوة من
الأنظمة والأفكار والأحزاب لما في ذلك من تلبيس على الناس.
ب - المشاركة في بعض الوسائل والبرامج التي يتولاها ويشرف عليها أهل
البدع والانحراف، حين تكون هذه المشاركة سبباً في تزكيتهم وترويج برامجهم
ومطبوعاتهم، وأُمكن مخاطبة معظم المتابعين لهذه الوسائل ودعوتهم من خلال
وسائل أخرى.
ج - المشاركة في المناسبات البدعية، ولو لم يتضمن ذلك النص على جواز
الاحتفال والمشاركة في هذه البدع؛ إذ فيه تلبيس على الناس وإيهام لهم.
د - مباشرة فقرات تشتمل على أمر محرم في ذاته.
هـ - تصدي من ليس لديه العلم الشرعي الكافي للفتيا والحديث في القضايا
الشرعية المهمة، أو مناظرة أهل الأهواء ونحوهم.
أما المداخلات الهاتفية في البرامج المفتوحة المباشرة كالحوارات، فيتصدى
لذلك فئة ممن يملكون القدرة.
وأما المشاركة في البرامج الحوارية المفتوحة في القنوات التي تُعنى بمثل هذه
البرامج فينبغي أن يتصدى لها من تكون لديه القدرة العلمية وقوة الحجة والبيان.
4 - ما سوى هذه الحالات تكون المشاركة فيها جائزة، ما لم يترتب عليها
مفسدة أكبر من مصلحة المشاركة، ومنها:
أ - نشر العلم الذي لا يجب تعلمه على آحاد الناس وتناول ما يحتاجه الناس
من مسائل اجتماعية وتربوية ونحوها.
ب - مشاركة بعض الصالحين من أصحاب التخصصات غير الشرعية في
قضايا تتعلق بتخصصهم، إذا كان ذلك يترتب عليه تعريف الناس بهؤلاء الأخيار،
والاستفادة الدعوية من ذلك. وربما كان الأمر في بعض الصور السابقة مستحباً،
حسب ترجُّح المصلحة.
5 - هناك أحوال من المشاركة تحتاج إلى أن يُجتهد فيها الرأي.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: «.. لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد
هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها؛ وإلا
اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها
وبدلالتها على الأحكام..» .
ومن الوسائل التي تعين على اتخاذ الموقف في القضايا المعينة:
- ما تقدم بحثه من رعاية مقاصد الشريعة، ورتبة هذه المقاصد ودرجة
الشمول، ودرجة القطعية والظنية.
- ومن طرق معرفة الأشباه والنظائر الدراسة العميقة للتاريخ القديم
والمعاصر، والوقائع في ظروف مماثلة.
- ومن طرقها أن تعرف أحوال الناس؛ لأن كثيراً من المفاسد إنما هي مبنية
على تصورات الناس ونظرتهم؛ وذلك مثل تزكية هذه الوسائل أو القائمين عليها،
وهذا الأمر لا يختص به الباحثون الشرعيون؛ بل هو راجع إلى نظرة عامة الناس،
وهذا يرجع فيه إلى أهل الخبرة بأحوالهم.
- الاستشارة والمناقشة مع طلبة العلم والدعاة؛ فإنها تفتح للمرء أبواباً لم تكن
لتبدو له بالنظر الفردي المجرد.
والوقائع المشكلة قليلة بالنسبة لغيرها؛ فلو تناولت خمسين حالة مختلفة
كعينات للدراسة تختلف فيها الظروف والأحوال والأشخاص لوجدت أن النظر
واضح في الجملة في نسبة كبيرة منها قد تصل إلى الأربعين حالة من هذه الخمسين،
وهذا هو المطلوب، ولا ينبغي لطالب العلم أن يؤخر النظر فيما يحتاج إليه أكثر
الناس من أجل قضايا قليلة نادرة، ومهما حاولت أن تضع ضوابط تضيِّق دوائر
المشكلات فلا بد أن تبقى صور لم تشملها هذه الضوابط، وقد كانت فتاوى العلماء
السابقين والمعاصرين إنما تعرض لمسائل الكثرة والحاجة.
إنه مهما قيل وكتب في مثل هذا المسائل فلن يُحسم الخلاف بشكل نهائي،
وسيبقى كثير منها محل خلاف وأخذ ورد.
فلا بد أن تتسع صدرونا للخلاف فيما يسوغ الخلاف فيه، ويعذر بعضنا
بعضاً في مواطن النزاع، ولنا أسوة حسنة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وأهل العلم من سلف هذه الأمة «كاجتهاد الصحابة في قطع اللِّينة وتركها،
واجتهادهم في صلاة العصر لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة
وأمرهم أن لا يصلُّوا العصر إلا في بني قريظة، فصلى قوم في الطريق في الوقت
وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة، وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها
بعد الوقت تمسكاً بظاهر لفظ العموم؛ فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة
من الطائفتين» وقال صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،
وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر «.
وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها، على إقرار كل فريق للفريق
الآخر على العمل باجتهادهم كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء
والسياسة وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك وفي
العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما
قضينا وهذه على ما نقضي؛ وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون
على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم. وتنازعوا في
مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية
محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة» [16] .
وعذر المخالف لا يمنع من الحوار، ومن أن يبين كل حجته ودليله، لكن
المحذور البغي والظلم والاتهام.
* نصيحة للمشاركين:
ونصيحتي لأولئك الذين رأوا جواز هذا العمل أن يتقوا الله تعالى فيما يأتون،
وأن يعلموا أن مجرد تقريرهم لصحة موقفهم لا يقتضي التحلل من كل قيد أو ضابط،
ومما يتأكد عليهم في ذلك ما يلي:
1- الورع والحذر من التساهل والترخص؛ فجواز الأصل لا يستلزم منه
جواز كل ما تعلق به.
2- الحذر من الشهرة والسعي لها؛ إذ المشاركة في وسائل الإعلام سبب لأن
يُعرف المشارك بين الناس ويشتهر أمره.
3- الحذر من التعلق بالدنيا ومتاعها، أو أن تكون هي الباعث على المشاركة،
أو على المهادنة خوفاً من انقطاعها.
4- الاجتهاد في إنكار المنكر بقدر الإمكان.
5- ألاَّ تدفعهم الرغبة في الدفاع عن موقفهم إلى تزكية الوسائل السيئة
والمفسدة، وأن يبينوا للناس أن مشاركتهم لا تقتضي رضاهم عن كل ما يبث فيها.
6- أن يعذروا إخوانهم الذين أدى بهم الاجتهاد إلى أن يمتنعوا عن هذه
المشاركة، فكل على خير وبر.
* نصيحتي للممتنعين:
ونصيحتي للذين رأوا أن المشاركة غير سائغة أن يستصحبوا الورع في
التعامل مع من خالفهم كما استصحبوه في الامتناع عن المشاركة في هذه الوسائل،
ومما يتأكد عليهم في ذلك:
1- أن يتذكروا أن موقفهم هو نتيجة اجتهاد خالفه فيه غيرهم من أهل العلم،
وليس حقاً مقطوعاً به يوصف من خالفه باتباع الباطل والقول به.
2- أن يعذروا من خالفهم في الرأي، وأن يتورعوا عن وصفهم برقة الديانة
أو التساهل والترخص ومجاراة العصر؛ فيكفي أن طائفة ممن ترجع الأمة لفتاواهم
ومواقفهم في هذا العصر قد أفتوا بجواز هذا الأمر.
3- الاجتهاد في تبليغ دين الله لعامة الناس الذين يحتاجون إليه، والسعي
لإيجاد بدائل تخاطب عموم الأمة وتصل إليهم.
وعلى المسلم عموماً أن يحذر من القول على الله بغير علم، وحين يصل به
اجتهاده إلى تقرير قول، أو اتباع إمام من الأمة فلا يعني ذلك أن يجزم بأن هذا
شرع الله وحكم الله. والله الموفق وعليه التكلان.
__________
(*) عرضت هذه المادة على جمع من الأشياخ وطلبة العلم، وكان لهم دور كبير في التصحيح والإضافة والحذف، فأسأل الله لهم الأجر والمثوبة.
(1) مجموع الفتاوى (20/85) .
(2) مجموع الفتاوى (10/511) .
(3) مجموع الفتاوى (13/96) .
(4) درء تعارض العقل والنقل 1/231.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم (176-177) تحقيق الفقي.
(6) اقتضاء الصراط ج 1، ص 228.
(7) فتاوى العز بن عبد السلام (445، 449، 450) .
(8) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب: 2/251، رقم 1080، 1081، وفيه عمر بن حفص العبدي وهو متروك، نقلاً عن: تخريج أحاديث مجموع فتاوى ابن تيمية، إعداد مروان كجك، السفر الخامس، ص 155، نشر وتوزيع دار ابن حزم - بيروت.
(9) مجموع الفتاوى (20/48) .
(10) مجموع الفتاوى (30/256) .
(11) مجموع الفتاوى (28/127) .
(12) مجموع فتاوى ومقالات منوعة 5/393 - 395.
(13) فتوى مسجلة للشيخ - رحمه الله - ضمن فتاوى الجامع الكبير.
(14) الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات (178-917) .
(15) يذكر بعض المانعين نماذج من حالات فردية على وقوع المفاسد، وهذه الحالات لو سُلِّم أن مصدرها مشاركة الدعاة فينبغي ألا ننظر إليها وحدها، بل نقارن ذلك بالملايين الذين ينتفعون بما يشاهدون ويلزم من هذا منع رجال الحسبة من الإنكار في الأسواق؛ لأنه قد وجدت حالات تعرض فيها بعضهم للفتنة، ومنع تدريس المعلمين للطلاب الصغار لوجود حالات شاذة من الافتتان بحسان
الوجوه.
(16) مجموع الفتاوى، 19/122 - 123.(184/26)
حوار
حوار مع فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور / ناصر بن سليمان العمر
مناهج الرخاء لا تخرج قادة الأزمات
فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر، من أعلام العلماء
المعاصرين، أستاذ في قسم القرآن وعلومه في كلية أصول الدين، بجامعة الإمام
محمد بن سعود الإسلامية - سابقاً -.
تخرج في كلية الشريعة، وحصل على درجة الأستاذية في القرآن وعلومه،
وله العديد من المؤلفات؛ منها: (الوسطية في القرآن الكريم) ، و (سورة
الحجرات: دراسة تحليلية وموضوعية) ، و (العهد والميثاق في القرآن الكريم) ،
وله العديد من الرسائل؛ من آخرها: (رؤية استراتيجية في القضية الفلسطينية) ،
ويعكف منذ مدة طويلة على تعليق فوائد على صحيح الإمام مسلم. كما أن له دروساً
علمية من أشهرها شرح (منار السبيل) ، وفضيلته هو المشرف العام على موقع
(المسلم) على شبكة الإنترنت، والذي سيبدأ انطلاقته بمشيئة الله تعالى في مطلع
العام الهجري الجديد.
ويسعدنا في مجلة البيان أن نلتقي فضيلته؛ لنتحدث في بعض القضايا الدعوية،
والمستجدات السياسية.
البيان: كان لأحداث (11 سبتمبر) آثار عميقة في جسم الصحوة
الإسلامية، وظهرت اتجاهات عديدة لتجاوز هذه الأزمة؛ منها اتجاهان متباينان؛
أحدهما: يحاول جاهداً تطويع الإسلام للواقع؛ حتى لو أدى ذلك إلى تأويل
النصوص الشرعية وتعطيلها. والآخر: يتجاوز الواقع ويتعامل مع الأحداث
بسطحية شديدة غير مدرك لكثير من جوانب الكيد والمكر؛ فما رأي فضيلتكم في
ذلك؟
- الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه. وبعد، فإني أشكر للإخوة القائمين على مجلة البيان حسن ظنهم بي،
وإتاحتهم لي هذا المجال، في هذه المجلة المتميزة بطرحها حتى غدت مرجعاً لكثير
من الدعاة في العالم الإسلامي في زمن تميز فيه الغثاء، وراج فيه الغث إلا قليلاً.
ثم أقول جواباً عن السؤال: تكمن المشكلة في عدم تحديد حجم الأزمة؛ حيث
إن اختيار أي طريق لمعالجتها نابع من تصور الفريق المعالج لحجم المشكلة،
والذي أراه بغض النظر عن الحدث والحكم الذي ينطبق عليه - أن باطن الحدث
(11 سبتمبر) فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فالأذى نتيجة طبيعية للحدث
في المنظور القريب، أما على المدى البعيد وآمل أن يكون قريباً فسوف تتحقق
انتصارات ضخمة على جميع المستويات بإذن الله وهذا مرتبط بكثير من العوامل
والأسباب التي إن أخذنا بها تحقق ذلك الفتح المبين.
والمشكلة التي تعاني منها الأمة عند الأزمات؛ هي أنها لا تفكر إلا بأسلوب
الخروج من الأزمة، بينما الأحرى بها أن ترتفع في مستوى تفكيرها من البحث عن
سبيل الخروج من الأزمة إلى استثمارها واعتبارها منطلقاً لعز الأمة ومجدها،
فتتجاوز ظاهر الحدث إلى الغوص في باطنه والبحث في أعماقه؛ فإن كل محنة
تنطوي على منح عظيمة، فلا يصرفنا مظهر المحنة عن حقيقة المنحة؛ فإن الله
سبحانه لم يخلق شراً محضاً.
أما بالنسبة للاتجاهات المتباينة التي أشرتم إليها؛ فإن العبرة بمقدار حجم كل
اتجاه ومدى تأثيره ونفوذه، أما مجرد الاختلاف فهو سنة كونية وطبيعة بشرية
[وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] (هود: 118-119) ،
ومن هنا؛ فإننا بعد أن نحدد الاتجاه المؤثر والفاعل في الساحة؛ يجب أن ننظر في
مدى قربه أو بعده عن الحق، ومن ثم يكون مدار البحث في أسباب نمو هذا الاتجاه،
والعوامل المؤثرة في بقائه، والأسباب التي أدت إلى بروزه، وبعدها يأتي العلاج
المناسب.
وتباين الاتجاهات المذكورة في سؤالكم هو إفراز طبيعي للمناهج الدعوية
السائدة، ومن المعروف أن مناهج الرخاء لا تخرّج قادة الأزمات..
فكيف يُنال المجد والجسم وادعٌ ... وكيف يُحاز الحمد والوفْر وافِرُ؟
فأي فضل يحصل مع غير مشقة؟ وأي مجد لم تبعد بطالبه الشقة؟!
لولا المشقة ساد الناس كلهُمُ ... الجود يُفقِر والإقدام قَتّالُ
وليس المهم حديثنا عن مناهج الآخرين، وإنما العبرة في قدرتنا على صياغة
المنهج الحق، والأسلوب الأمثل الذي يقود الأمة في أزماتها، ويستثمر مواطن القوة
فيها، وعندها لن تكون للمناهج الخاطئة تأثيرات يُخشى منها.
البيان: كان علماء السلف الصالح نماذج متميزة في الجمع بين التخصص
الشرعي، والاهتمام بمصالح الأمة، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر؛ فكيف نعيد سيرة علمائنا إلى الواقع؛ مثل شيخ الإسلام ابن
تيمية، والعز بن عبد السلام ... وغيرهما؟
- تميز النتيجة خاضع لتميز الوسيلة والهدف.
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسامُ
وإخراج قادة للأمة هدف عظيم وأمنية سامية؛ منطلقها وجماع أمرها قوله
تعالى: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ]
(السجدة: 24) ، ومما يساهم في تحقيق تلك الغاية، وإبراز مثل تلك النماذج
مراعاة ما يلي:
1 - إعادة النظر في مناهجنا الدعوية والتربوية والعلمية؛ حيث إنها غالباً
تتسم بالتجزئة بدعوى التخصص؛ فيكون المولود خداجاً، أو تصاغ بشمول ينقصه
الطموح، ويرضى بالأمر الواقع؛ فتخرّج أنصاف متعلمين.
2 - إيجاد مدارس خاصة لإعداد قادة الأمة وتربية المجددين.
3 - الجدية والواقعية، وعدم الركون إلى الدنيا، والبعد عن المماطلة
والتسويف، والإفراط أو التفريط.
4 - عمق التأصيل، وتجاوز المحلية، وعدم الاستغراق في اللحظة الحاضرة،
مع استشراف ما وراء الأفق.
5 - تحويل العالم النصوص التي تلقاها إلى واقع ماثل، وذلك بتفاعله مع
الأمة، ومعايشة قضاياها، ومشاركتها في شؤونها وشجونها، مع عدم الانعزال عن
المجتمع، والعيش في برج عاجي، بل لا بد من النزول إلى أرض الواقع، وصنع
المبادرات والمواقف المنهجية التي يحتسب بها على الباطل وأهله، وفي الوقت
نفسه تُقاد بها الجماهير، وتُضبط بها انفعالاتهم.
6 - علو الهمة، والصدق مع الله، والاستعداد للتضحية، وأن يصوغ العالم
حياته وفق النص القرآني: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] (الأنعام: 162-163) .
7 - تجاوز عقلية البطل المنتظر، وأن يهيِّئ كل واحد من أفراد الأمة نفسه
ليساهم في صنع بطولة الإسلام؛ فما أضر وأضل كفار قريش إلا عقيدتهم [لَوْلا
أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَك] (الأنعام: 8) ، ومن مظاهر انحراف الرافضة استكانتهم عبر
القرون لكذبة الغائب المنتظر، ومن جملة ضلال النصارى عقيدتهم في مخلص
البشر!
البيان: الجهاد رأس سنام الإسلام، وفي خضم الواقع المؤلم لأمتنا
الإسلامية؛ هناك محاولات جادة من بعض المنتسبين للإسلام، ومن أعداء
الإسلام للدعوة إلى إلغاء هذه الشعيرة؛ حتى من المناهج الدراسية، وذلك
بدعاوى باطلة؛ فماذا تقول لهؤلاء؟
- مشكلة هؤلاء عبر التاريخ هو الغباء المتذاكي! وتكمن مأساتهم في عدم
فهمهم وإدراكهم لطبيعة هذا الدين وسر الجهاد فيه، ولنا أن نسألهم وعليهم أن
يجيبوا: هل الجهاد في أفغانستان منبعه المناهج الدراسية؟ وقل مثل ذلك في البلقان،
وفي فلسطين، وفي غيرها من مواطن الجهاد.
وليعلموا أن الجهاد ليس سلعة تجارية تُحجب بقرار من هيئة الأمم، أو نظرية
هندسية تحتاج إلى كتاب ومعلم وطالب، وإنما هو سنة ربانية، وضرورة بشرية،
وحاجة فطرية؛ متى ما وُجدت بواعثه انطلق كالسيل العرم لا يوقفه شيء، سره
وعظمته أنه يُخضع الآخرين ولا يخضع لهم، وغايته تطويع الأرض لله،
وإخضاعها لشرعه وأمره ونهيه.
وإذا كانوا جادّين في إيقاف الجهاد وأنّى لهم ذلك فليتجهوا صوب أسبابه
وبواعثه من الظلم الذي تمارسه جبابرة القرون؛ من فرض إرادة البشر على البشر،
ومنعهم من أن يختاروا الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وإلا فَهُم كما قال الله عن
أسلافهم: [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ
كَرِهَ الكَافِرُونَ] (التوبة: 32) .
ومن العجب أن من خصائص هذا الجهاد أنه ينمو ويقوى كلما حاول أعداؤه
النيل منه، والحد من انطلاقته ومسيرته، وبيننا وبينهم: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ] (التوبة: 29) ، وجواز المرور إليهم: [أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] (الحج: 39) ، وغاية الأماني: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] (آل عمران: 169) .
وحقيقة هؤلاء أنهم: [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا
أُوْلِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2) ، ونقول للمسارعين فيهم: [فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ] (المائدة: 52) .
البيان: التقلب والاضطراب في المواقف والمبادىء آفة يزداد ظهورها في
الأزمات والشدائد؛ فما السبيل للثبات على الحق والصبر على الأذى فيه؟
- هذه آفة راسخة في عمق التاريخ، فقد أشار إليها القرآن في أكثر من
موضع؛ حيث ذكر الله عن بني إسرائيل أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم:
[أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ]
(الحديد: 16) .
وذكر الله قصة الذي آتاه آياته فانسلخ منها: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ
آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ] (الأعراف: 175) .
وعاتب الله صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وحذرهم من التقلب بعد نبيهم
صلى الله عليه وسلم فقال: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن
مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران: 144) .
أما في العصر الحاضر؛ فقد أصبح الاضطراب سمة من سمات هذا الزمن
بسبب الابتلاءات والمحن، ومن هنا؛ فإن هذه القضية لا يمكن استيعابها من خلال
إجابة عن سؤال في عدة أسطر، وإنما تحتاج إلى بسط وتفصيل وبيان، وقد شغلني
هذا الموضوع طويلاً، ومن ثم قمت بكتابة مفصلة تبين أسباب الاضطراب وآثاره،
وركزت فيه على موضوع الاطراد في المنهج، وبيان ثمار الاطراد وكيف يتحقق،
وسينشر الموضوع قريباً بإذن الله؛ سائلاً الله التوفيق والسداد، والثبات على دينه
في الشدّة والرخاء، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]
(الأحزاب: 23) .
البيان: المحن التي تصيب الأمة يرى فيها بعض الناس كل أبواب التشاؤم
والإحباط، ويرى فيها آخرون طريق الفلاح والتمكين؛ فما رؤية فضيلتكم في ذلك؟
- المحن هي الجامعة الكبرى التي تُخرّج القادة والمجددين والمصلحين؛
حيث لا يتحقق التمكين إلا بعد الابتلاء، وقد سئل الشافعي - رحمه الله -: أيهما
أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى [1] . قال ابن القيم:
«سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين،
ثم تلا قوله تعالى: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) » [2] .
وقديماً قال ورقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ليتني فيها جذعاً
أكون حياً حين يخرجك قومك!» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَ
مخرجيَّ هم؟» فقال ورقة: «نعم! لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي،
وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» [3] .
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن دخول الجنة مرهون بتجاوز المحن والبأساء
والضراء، كما قال سبحانه: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) .
ولذلك قال أحد الدعاة المعاصرين عندما سئل عما أصابه من بلاء ومحنة: ألم
تصدك هذه المحن عن الطريق إلى الله أو توهن من عزيمتك؟ فقال: لولا هذه
المحن والابتلاءات لشككنا في طريقنا. وقرأ: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] (العنكبوت: 2) ، ومن هنا؛ فإن هذه المحن التي تصيب
الأمة هي علامات الطريق للوصول إلى العز والكرامة والسؤدد؛ فإن أشد الناس
بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل [4] .
وقد يكون البلاء عقوبة على ذنب وقع من الأفراد أو الأمة، ومع ذلك فلا
يخلو من خير إن تاب الناس وأنابوا، أما إذا تمادوا في ظلمهم فربما كانت القاصمة:
[وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا
إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ
حَصِيداً خَامِدِينَ] (الأنبياء: 11-15) .
البيان: من المحن التي تمر بنا هذه الأيام الحملة الأمريكية على العراق؛
فما أبعاد هذه الحملة؟
- الحملة الأمريكية على العراق حلقة من سلسلة الحملة الصليبية على الأمة
الإسلامية، والتي ابتدأها الغرب النصراني بقيادة أمريكا في أفغانستان، ضمن
مخطط مرسوم أعلنوا بدايته ولم يحددوا نهايته، لكنهم حددوا أهدافهم وغاياتهم
مصداقاً لقوله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ
مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة: 120) .
وما يجري هو لون جديد من ألوان الاستعمار الصليبي؛ وذلك أن الغرب بعد
فترة الاستعمار العسكري بدأ في مشروعات استعمارية مثل الانقلابات العسكرية، ثم
إنشاء منظمات دولية تخضع في النهاية لإرادة الغرب، وكذلك التحالفات بين دول
الغرب وحكومات العالم الإسلامي؛ سواء التحالفات الفردية أو الجماعية، ثم جاء
النظام العالمي الجديد.
ومع ما لعبته هذه المشروعات والصيغ الاستعمارية من دور مهم ومؤثر في
تاريخ المنطقة؛ فلم يحقق ما ترجوه هذه الدول الاستعمارية، وحدثت أمور كثيرة
على مستوى الدول والشعوب اعتبرتها الدول الغربية تجاوزات لا يجوز السكوت
عنها، وتزامن هذا مع ضعف المنظمات الدولية وتأثيرها، ونشوء تكتلات جديدة،
وقوى مؤثرة كالصين والكوريتين واليابان وغيرها؛ مما ينازع الغرب هيمنته
وسلطته، وبخاصة بعد تنامي المدّ الجهادي في العالم الإسلامي، وسقوط المعسكر
الشرقي بعد خروجه من أفغانستان خاسراً، بالإضافة لما أحدثته الانتفاضة في
فلسطين من هزة عنيفة تجاه المخططات اليهودية خصوصاً والغربية عموماً، مما
جعل الغرب بقيادة أمريكا يأخذ بزمام المبادرة؛ وذلك بإعادة الاستعمار العسكري
القديم بثوب جديد لا يختلف عن سابقه إلا في المظهر والشكل، والحقيقة واحدة.
وما أعلنوه ليس إلا جزءاً يسيراً مما تخفي صدورهم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران:
118) ، وحقيقة لم أستغرب أن ينهج الغرب هذا النهج، أو يسلك هذا الطريق؛
لأن هذا من بدهيات معرفة حقيقة اليهود والنصارى، كما بين الله سبحانه وتعالى
في كتابه، وقد قيل:
تلك العصا من هذه العصية ... هل تلد الحية إلاّ الحية؟
وإنما مكمن الاستغراب أن يتجاوز بعض أفراد الأمة الغفلة عن هذه الحقيقة
إلى الدفاع عن أولئك، وإنكار أهدافهم ومراميهم! وهل أُتينا إلا من داخلنا، وممن
هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا؟!
البيان: ولكن كيف يرى فضيلتكم الدور الذي يجب أن يقوم به العلماء
والدعاة في مواجهة هذه الأزمة؟
- قناعتي أن المشكلة ليست في تحديد هذا الدور، ولا في بيان الطريق وسبل
النجاة، فهي أوضح من الشمس في رابعة النهار، كما قال صلى الله عليه وسلم:
«قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك..» [5] .
وإنما تكمن المشكلة في السؤال الكبير: هل لدينا الاستعداد لمواجهة تلك المحنة؟
وهل الأمة على قدر المسؤولية؟ وهل نحن على استعداد للتخلي عن الدنيا وزخرفها،
والتضحية بذلك في سبيل عقيدتنا ومبادئنا؛ لاستعادة مجدنا وعزتنا وسؤددنا؟
لقد سئمت الأمة من التنظير واجترار الكلمات، وآن الأوان أن نقبل التحدي
بصدق ويقين وتفاؤل؛ فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد ذم الله
القائلين ما لا يفعلون: [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ] (الصف:
3) ، وبيت القصيد ونقطة البداية والنهاية في الآية التي تليها: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ] (الصف: 4) .
ونبراسنا الذي يضيء معالم طريقنا قوله تعالى: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا
وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) ، وإلا فهو الذل والصغار،
و (على نفسها جنت براقش) .. «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر،
ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى
دينكم» [6] . وأقول بكل ثقة ويقين: إن المعركة مع الغرب محسومة لصالح الأمة
بإذن الله والعدو يحفر قبره بيديه، [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ
مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ
فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2) ، ولكن الأمر يحتاج
إلى خطة استراتيجية كبرى؛ نعي فيها أن في المعركة صولات وجولات، وكر
وفر، قد تصاب الأمة بجروح وقروح في أولها، ثم يكون الانتصار العظيم في
نهايتها؛ إذا صدقنا مع الله، وأخذنا بالأسباب الشرعية لذلك، [إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ
مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ]
(آل عمران: 140-141) .
البيان: يسعى بعض الكتاب والمفكرين إلى الاصطياد في الماء العكر، حيث
يدفع في اتجاه التخويف من المناهج التعليمية، والكليات الشرعية، والمؤسسات
الخيرية ... ونحوها؛ فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ وهل من سبيل للمحافظة على
هذه المكتسبات؟
- دون تقليل أو استهانة بما يفعله هؤلاء؛ لماذا نحصر أنفسنا بالأزمات؟
ولماذا ندع لخصمنا تحديد بداية المعركة ومكانها ومدتها؟ ولماذا لا نغزوهم في
دورهم ومؤسساتهم؟ ومع أهمية تلك المرافق الحيوية وتأثيرها الضخم في حياة
الأمة؛ فإنه يجب أن لا تنحصر جهودنا فيما يحدده لنا أعداؤنا.
إننا بحاجة إلى تغيير عقليتنا ومنهجنا واستراتيجيتنا في مواجهة تلك الأزمات،
فَلِمَ لا نغزوهم قبل أن نُغزى؟ فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولماذا لا
نشغلهم قبل أن نُشغل؟ يؤسفني أن كثيراً منا يقفون دائماً موقف المدافع، والسنة
الكونية أن كل شيء متحرك.. إما أن يتقدم وإما أن يتقهقر، فمن لم يكن متقدماً فهو
يقيناً في تأخر، ومن لم يربح فهو حتماً يحقق الخسائر الواحدة تلو الأخرى.
لقد أدرك عدونا سر ضعفنا ومكمن الداء فينا؛ فأشغلنا قبل أن نشغله،
وهاجمنا قبل أن نهاجمه، وغدا ينقلنا من مصيبة إلى أخرى، ومن بلية إلى كارثة؛
دون أن نعي كيف نخرج من تلك الحلقات المفرغة، مسلِّمين بنقاط ضعفنا؛ مع أننا
لم نبرز جوانب القوة فينا، ضخّمنا دور عدونا دون أن نعي أن الذل لا يفارق
جباههم؛ وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فنصرناهم على أنفسنا
بقذفنا الرعب في قلوبنا، فشتان شتان بين أسلافنا الذين نُصروا بالرعب، وبين مَنْ
قُذف في قلوبهم الوهن، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.. ومن
يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر إن من أعظم الخطط
والاستراتيجيات في المعارك هو إيجاد البدائل تحسباً لأي طارئ؛ ولذا فإنني
أتساءل: ألم نكن ندرك أن عدونا يتربص بتلك المؤسسات الرائدة ويحيك لها
المؤامرات؟! فإن كانت الإجابة بالنفي فيا لها من مصيبة! وإن كان الجواب
بالإيجاب فالمصيبة أعظم؛ فلِمَ لم نعدّ البدائل، ونقم المؤسسات التي تحمي أجيالنا
وأمتنا؟ لماذا نضع البيض في سلة واحدة ثم نتحسر إذا تكسر؟ لماذا نبني حياتنا
على ردود الأفعال في عالم يبني استراتيجيته الكبرى على المكر، وأخذ المؤمنين
على حين غرة؟ فهل نفيق من سباتنا؟
البيان: كان بعض المحللين يرى أن الصحوة الإسلامية سوف تتراجع
وتنحسر كثيراً بعد الحملة الأمريكية على الإرهاب، وتشاءم كثير من الصالحين
بسبب الضغوطات الكثيرة، ومع ذلك فانتصارات التيارات الإسلامية في الباكستان
والمغرب وتركيا قلبت الموازين؛ فما تفسيركم لهذه الظاهرة؟ وهل من أمل
يلوح في الأفق؟
- مَنْ هؤلاء المحللون؟ وما مستوى ثقافتهم؟ وإلى أي بلد ينتمون؟ ولحساب
أي جهة يعملون؟ إنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد أصبحنا ننظر إلى
كثير من الآراء التي تصدر من غير المتخصصين بنظرة الريبة والشك، والخطورة
في تصديق بعض أصحاب الشأن لمثل تلك التحليلات التي لا تُبْنى على علم ويقين،
وإنما هي مجرد ظن وحدس وتخمين. ومأساة أصحابها أنهم لا يفقهون حقيقة هذا
الدين، وقد يكونون من المرتزقة المأجورين، وإلاّ فقد أثبت التاريخ أن الضربات
التي تُوجَّه إلى الأمة لا تزيدها إلاّ صموداً وثباتاً، وهي وإن ترنحت أمام تلك المحن
ساعات معدودة، ولأيام وشهور محدودة؛ فإنها سرعان ما تثبت على قدميها،
مفاجئة أقرب الناظرين إليها، وهي وإن غابت عن الساحة لحظات؛ فإنما هي
استراحة المحارب، وغفوة المجاهد.. [إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم
مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ
بِهِ الأَقْدَامَ] (الأنفال: 11) ، تتلو ذلك صولات وجولات تحقق أعظم
الانتصارات، ولو كانت هذه الصحوة تخضع للظنون والتحليلات لكبَّرنا عليها منذ
زمن أربع تكبيرات، ثم ووريت التراب منذ سنوات، ولكن [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] (الصف: 8) .
البيان: الواقع الدعوي وتشققه حتى في الاتجاه الواحد؛ إلى ماذا يعزوه
فضيلتكم؟
- عندما لا يكون المصدر الوحيد لصهر النفوس البشرية وإخضاعها المطلق
هو الكتاب والسنة؛ فحينئذ يكون للمؤثرات الأخرى نصيبها في بناء التوجه وتحديد
المسيرة، فيكون للبيئة الاجتماعية سلطانها الذي لا ينكر، وللتربية الأسرية تأثيرها
الذي لا ينازع فيه، وللمؤثرات البشرية الأخرى من سلطة أو جماعة أو مدرسة
نصيبها في بناء الفرد وتكوين شخصيته، ويزداد الأمر سوءاً عندما تُكوِّن النفس
البشرية ذاتها بذاتها، فتكون نفس الإنسان هي مربيته ومعلمته وقائدته؛ فيسير في
دروب الانحراف وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.
ومن هنا؛ فبمقدار تأثير أي عامل من هذه العوامل تكون صياغة الإنسان،
وتبرز ملامح طريقه وأهدافه، ولذلك عندما خضع الجيل الأول الذي تربى على يد
المصطفى صلى الله عليه وسلم خضوعاً مطلقاً للوحي، وأسلموا قيادهم لمحمد صلى
الله عليه وسلم دون منازعة أو حظوظ نفس، أو تأثير بيئة أو قبيلة أو مجتمع، كان
ذلك الجيل الرائع الذي لم ولن يأتي مثله على مر التاريخ، وعبر السنوات والقرون.
وما أشرت إليه في سؤالك هو نتيجة طبيعية لتلك المؤثرات التي تُنازع الوحي
سلطته وهيمنته؛ فمنهم مستقل ومستكثر.. [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً]
(النساء: 65) .
البيان: هناك بعض طلاب العلم الذين همُّهم التنقيب عن عثرات العلماء
وتكبيرها، والاشتغال بها عن العلم الحقيقي، بل يصل بهم الأمر إلى تجريح
المخالفين ومحاولة إسقاطهم من أعين الناس؛ فهل من سبيل لعلاج هذه الظاهرة
والتقليل من آثارها؟
- أخي الكريم! إنني أخالفك؛ فلا أعد هؤلاء طلاب علم إذا كان همهم
التنقيب عن عثرات العلماء وتكبيرها كما ذكرت! بل يزداد عجبي من وصفك لهم
بهذا الوصف (طلاب علم) ، ثم تقول: وهم منشغلون بهذه العثرات عن العلم
الحقيقي! فأي علم يُحسبون عليه، أو يتشرفون بالانتماء إليه؟ وسؤالك يحمل
السؤال والجواب معاً؛ فلو كانوا طلاب علم حقاً لما انشغلوا ببُنيَّات الطريق، وأكاد
أجزم أن هؤلاء شغلتهم حظوظ النفس والهوى عن الانشغال بميراث النبوة وفهم
الكتاب والسنة.
وهذه من أعظم البلايا التي ابتليت بها الأمة في قرونها المتأخرة؛ فعاقت
مسيرتها، وشغلتها عن تحقيق أهدافها، ومما زاد الأمر سوءاً استمرار المعركة بين
رادٍّ ومردود عليه؛ الأمر الذي جعل الناس في متاهة؛ لا يدرون أين يكمن الحق
وأين يكون الباطل؟ ولن نستطيع أن نتخلص من هذه المحنة إلاّ بالتجرد المطلق،
والصدق مع الله، والابتعاد عن حظوظ النفس، وإقامة ميزان العدل والقسط على
النفس أولاً قبل أن ندعي إقامته على خصومنا ومخالفينا؛ التزاماً بقوله تعالى: [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] (النساء: 135) .
ومما يحز في نفوس المؤمنين عدم وصولنا في العدل والقسط مع من خالفنا
الرأي، إلى ما أمر الله به من عدل مع المشركين الذين أخرجوا النبي صلى الله
عليه وسلم من مكة وصدوه عن المسجد الحرام، فقال سبحانه: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (المائدة: 2) .
وقال أيضاً: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ] (المائدة: 8) .
ولنكن صرحاء مع أنفسنا: هل عدلنا مع من يخالفنا من إخواننا كما أمرنا الله
بالعدل مع أعدائنا؟ أين الرحمة بالمخالف والدعاء له، وإظهار الشفقة عليه؟ مأساة
بعضنا أنهم يشكون الظلم وهم يمارسونه صباح مساء، ثم يدّعون أنهم البرآء براءة
الذئب من دم يوسف - عليه السلام -، فخير لهم أن يراجعوا أنفسهم، [فَلَوْ
صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ] (محمد: 21) ، خيراً لنا أن نصحح ما بأنفسنا قبل
يوم الفصل [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ] (الطارق: 9) ، ويُحصّل ما في الصدور.
من السهل اتهام الآخرين وقد يكونون أهلاً لذلك، ولكن من الصعب الاعتراف
بالحقيقة والتجرد عن الهوى إذا كان الأمر يتعلق بأنفسنا وذواتنا.
البيان: تشهد الصحوة الإسلامية انتشاراً محموداً ولله الحمد والمنة، ولكن
ألا يرى فضيلتكم أن هناك قصوراً ظاهراً في توظيف الطاقات واستيعابها لخدمة
الأمة؟
- نعم! هناك قصور واضح وظاهر في استخدام المكاسب التي حققتها الأمة
في سنواتها الأخيرة متمثلة في هذه الصحوة المباركة، ولولا ذلك لكنَّا قاب قوسين
أو أدنى من قيادة الأمم، ومع ذلك؛ فلا أرى أن نضيع الأوقات في البكاء على
الأطلال، والنياحة على ما مضى وفات؛ فإن ذلك لن يزيدنا إلا تقهقراً وتأخراً،
وإنما أدعو إلى سرعة المبادرة واغتنام الفرصة، واستخدام ذلك التفريط قوة دافعة
إلى الأمام؛ فإن المؤمن لا يُلدغ من جحر واحد مرتين، وليست العبرة كيف كنا؟
وإنما المهم كيف نكون؟ وكم أتمنى أن نستفيد من بعض ما لدى أعدائنا من نقاط
القوة والتمكن، فقد استطاعوا أن يسيطروا على أماكن كثيرة من المعمورة، مع أنهم
أصحاب أهداف دنيوية، وما ذاك إلاّ لأخذهم بالأسباب التي حققت لهم ما يصبون
إليه وما يريدون، ونحن أصحاب دين ودنيا حري بنا أن نأخذ بأسباب النجاة
والسؤدد.. [وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ] (البقرة:
201-202) .
البيان: الواقع الدعوي يشهد منذ زمن تشققاً حزبياً وصراعاً مؤلماً في وقت
تحالف فيه العدو لمواجهتنا؛ فهل من سبيل لإصلاح ذات البين؟ أو على أدنى
الأحوال لكف الأذى بين العاملين في الحقل الدعوي؟
- مرت الأمة في تاريخها بمراحل من التعصب والتحزب، فبعد القرون
المفضلة نشأت الفرق البدعية، كالمعتزلة والخوارج والجهمية وغيرها من الفرق
المعروفة التي أحدثت شرخاً في جسم الأمة، ثم بعد ذلك نشأت مرحلة أخرى؛
وهي مرحلة التعصب المذهبي واستمرت قروناً عديدة، وكان لها من الآثار السلبية
ما لا يخفى، ثم في هذا العصر بدأت الجماعات والتنظيمات الدعوية، والتي لا
تُنكر جهودها في مقاومة الاستعمار، والمحافظة على دين الأمة وتربية أجيالها،
ولكنها للأسف وقع كثير منها في التعصب المقيت الذي فرَّق الأمة شيعاً وأحزاباً،
ثم بدأ في السنوات الأخيرة التعصب للأفراد، وضعف تأثير الجماعات؛ فكانت
المصيبة أشدّ وأنكى، وهذا وإن كان قدراً كونياً، كما أخبر الصادق المصدوق صلى
الله عليه وسلم في حديث الافتراق؛ فإن الواجب على الأمة أن تتعامل مع هذا القَدَر
الكوني بالقَدَر الشرعي؛ وهو وجوب جمع شمل الأمة وتوحيد كلمتها امتثالاً لقوله
تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم
مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (آل عمران: 103) ، مع التحذير
من التفرق والتشتت نظراً لما يؤدي إليه التنازع والخلاف، قال تعالى: [وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]
(الأنفال: 46) .
وأنبه هنا إلى أن الاختلاف الذي أشرت إليه في سؤالك على نوعين:
النوع الأول: من قبيل اختلاف التضاد، وذلك عندما يكون الاختلاف في
المنهج، وهو موطن الخطورة الذي يُخشى على أصحابه من أن يكونوا داخلين فيما
حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق، وهذه مسألة يغفل عنها
كثير من أصحاب التنظيمات والجماعات.
النوع الثاني: وهو ما يكون من اختلاف التنوع، وذلك عندما يكون الاختلاف
في وسائل مشروعة لا في المنهج، أو من باب اختلاف ما يناسب الأماكن والبلدان؛
فهذا الاختلاف لا تثريب على أهله، ولكن الخطورة نشأت فيما دخل على تلك
الجماعات من أمور غير مشروعة؛ كالتعصب، والتحزب، والتنابز، وافتعال
العداوات، وجَعْل مسائل الاجتهاد ميداناً للولاء والبراء.
ومع أهمية التعامل مع كل تلك الجماعات والأحزاب بنوعيها وفق منهج أهل
السنة والجماعة في التعامل مع المخالف والموافق، وإنزال كل واحد منزلته مع
البعد عن البغي والظلم والعدوان؛ فإنني أتطلّع إلى مرحلة جديدة تتجاوز فيها الأمة
هذا الواقع المرير؛ وذلك بأن يقوم العمل الدعوي على طرح المنهج الحق والدعوة
إلى العلم بدلاً من الجماعات والأحزاب؛ مع التنبيه إلى أن الخلل ليس في الاجتماع
والترتيب والانتماء؛ فهذه أمور مشروعة إذا تخلصت من بدعيات التجمعات
المحدثة، وهناك فرق بين الأمرين. وإنما الخلل فيما يفعله بعض ممن يخلطون
بينهما لنقص فقههم وعلمهم؛ فتجدهم يحملون على أصحاب التجمعات والتنظيمات
لمجرد التجمع والتنظيم والانتماء، فوقعوا في شر مما حذروا منه؛ إذ أنشؤوا
مجموعات وتكتلات حزبية متعصبة نسبوها إلى السلف ظلماً وزوراً.
والخروج من هذا المأزق الذي وقعت فيه الأمة يحتاج إلى تجرد وصدق، مع
التضلع في العلم، وصدق الانتماء لمنهج أهل السنة والجماعة، مع البعد عن الظلم
والهوى والكيل بمكيالين، فكثير ممن حذر من تلك الظاهرة وقع في شر مما حذر
منه كما أشرت آنفاً، وأُذكّر الجميع بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] (التوبة: 119) .
البيان: من أبرز جوانب الصراع مع الغرب في المرحلة القادمة: مسألة
الحرب على الأسرة والأخلاق الفاضلة، وتغريب المرأة المسلمة ... أليس كذلك؟
فكيف يُقَوِّم فضيلتكم دورنا في الدعوة النسائية؟ وهل هو مواز لمقدار التحدي؟
- لقد قصَّر الدعاة وطلاب العلم والمؤسسات الدعوية كثيراً فيما يتعلق
بالواجب تجاه المرأة المسلمة، ومواجهة الحملة الشرسة من الغرب والشرق عليها،
ولكن الذي يخفف من المعاناة ويزيد من التفاؤل؛ هو هذه الالتفاتة الظاهرة من
الدعاة إلى المرأة تعليماً وتربيةً وإعداداً، مع تلك الاستجابة الواضحة في صفوف
النساء؛ مما جعلني أقول في أكثر من مناسبة: إن كانت الصحوة في العقود
الماضية في صفوف الرجال؛ فقد أصبحت في السنوات الأخيرة «صحوة النساء» ؛
وذلك لما أراه من إقبال كبير من الفتيات على الحجاب، واعتزازهن بقيم
الفضيلة، ولما أراه من إقبال عظيم من المرأة على كتاب الله تعلماً وتعليماً، عبر
مؤسسات متعددة، كالدور والجمعيات النسائية الإسلامية، وجماعات تحفيظ القرآن،
بالإضافة للنشاط الظاهر في إقامة الدورات المتخصصة في الدعوة والتربية
والتعليم، وإلقاء المحاضرات الخاصة للنساء، وكثير منها تُلقيها داعيات معروفات،
وطالبات علم موفقات، مع أن الأمر بالنسبة للنساء لا يزال في أوله.
ولذا؛ فإنه لا بد من عناية فائقة، واهتمام خاص بهذا المرفق الدعوي المهم؛
لأن المرأة إذا ربيت تربية صالحة كانت سداً منيعاً تجاه الضربات التي توجه نحو
الأمة عموماً ونحو الأسرة خصوصاً، كما أن المرأة الواعية تحمل عن زوجها وعن
ولي أمرها أعباء كثيرة من العمل الجاد في الصفوف الخلفية، بل وفي الأمامية
أحياناً، «ومن خلف غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا» [7] ، كما أخبر الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ونظراً لحداثة العمل «في الجانب النسوي» ؛ فربما عرضت أخطاء أو
حدثت ثغرات، وربما نقص جانب من الجوانب التي يحتاج إليها في قيام البناء،
وحتى يتم ذلك على وجهه الشرعي الأكمل؛ فلا بد من حسن التوجيه، وسلامة
المنهج، مع التركيز على الجوانب التي تتعلق بطبيعة المرأة ومهمتها، والحذر مما
وقع في بعض البلاد الإسلامية من إقحام المرأة فيما لا يعنيها، وتكليفها بما لم تُخلق
له.
ومن بدهيات ذلك: إشراف العلماء وأهل الورع والديانة إشرافاً مباشراً على
كل ما يتعلق بشؤون المرأة ومؤسساتها؛ التزاماً بقوله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) .
كما أننا بحاجة إلى يقظة تامة في التعامل مع المرأة؛ حتى لا تزل قدم بعد
ثبوتها، أو نسيء من حيث أردنا الإحسان.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الهجمة العلمانية التي يشنها الغرب وحلفاؤه على
المرأة المسلمة؛ تتعدى أهدافها إلى تقويض المجتمع المسلم؛ وذلك بحرب الفضيلة،
وإشاعة الرذيلة، وإغراق الأمة في الشهوات، وصرفها عن الجادة والأخذ بمعالي
الأمور، وإخراج أجيال جل عنايتها وغاية مقصدها إشباع غرائزها والانهماك في
ملذاتها وشهواتها؛ غافلة عن المعركة الدائرة بين الحق والباطل، مشغولة
بالسفاسف عن مواجهة أعداء الله والدفاع عن دينها وحرماتها ومقدساتها؛ فيسهل
على العدو إشعال الفتنة داخل صفوفها، ويتيسر له زمام قيادها.
وبمثل هذا ضاعت الأندلس، ودخل اليهود والنصارى إلى كثير من بلاد
المسلمين، وما حرب يونيو 1967م عنّا ببعيدة، فقد ضُربت الجيوش العربية
وطائراتها الحربية وهي جاثمة في مطاراتها، ولا عجب فقد كان قادتها يتابعون
أغنيات كوكب الشرق، ويسهرون في المسارح والحانات، فكانت تلك الكارثة التي
سودت تاريخ الأمة ولم تتخلص من آثارها. وآمل أن لا يعيد التاريخ نفسه.
البيان: مع استمرار الانتفاضة المباركة في أرض الإسراء، وارتفاع حدتها؛
هناك العديد من الأسئلة التي تفرض نفسها؛ لعل من أهمها: التساؤل حول
قدرة الأمة على مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة، وخاصة في
ظل تعالي أصوات المطبعين على شتى المستويات السياسية والفكرية
والاقتصادية، وهل هناك رؤية لمواجهة التطبيع؟
- نعم نحن قادرون بعون الله على مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي
وغيره من مشاريع الكفر، وبوادر هذا اليقين أصبحت أمراً واقعاً.. والحمد لله؛
فدولة إسرائيل لا تملك مقومات الدولة المستقرة الآمنة، وإنما تعتمد على الدعم
الخارجي غير المحدود عسكرياً واقتصادياً وسياسياً من الشرق والغرب.
وإدراكاً لهذا الواقع من قبل إسرائيل وحلفائها؛ طرحت عدة مشاريع
استراتيجية لحماية إسرائيل وترسيخ أقدامها؛ أهمها:
1 - إسرائيل الكبرى.
2 - تفتيت المنطقة.
3 - مرحلة السلام.
4 - الـ (شرق أوسطية) .
النظرية الأولى ثبت عدم نجاحها واستحالتها؛ وذلك أن إسرائيل لم تستطع أن
تحافظ على أمنها واستقرارها في نسبة صغيرة من الأرض؛ فكيف تحافظ على
أضعاف ذلك؟!
وأما الثانية؛ فمع ما تحقق فيها من نجاح محدود فقد أدرك الجميع صعوبة
الاعتماد عليها؛ وخاصة بعد حرب لبنان.
أما مرحلة السلام فتحتاج إلى حديث خاص؛ أما مرحلة الـ (شرق أوسطية) ؛
فهي نظرية سياسية حديثة جاءت من قبل حلفاء إسرائيل عندما أدركوا صعوبة
نجاح الاستراتيجيات الأخرى، وقد تزعمها شمعون بيريز، وقد بدأت هذه النظرية
قبل عدة سنوات، وكان من أبرز ميادينها المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في المغرب
والقاهرة والدوحة، وهي تقوم على أن تندمج دول المنطقة في استراتيجية
اقتصادية وسياسية لا ترتكز على القومية أو الدين؛ بل على رقعة جغرافية محدودة
(الشرق الأوسط) ، وهذه النظرية ترعاها أمريكا وتدعمها دول الغرب، ويصعب
الجزم بمستقبلها.
لكن من أجل مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي، وتحرير فلسطين،
وعودة بيت المقدس؛ لا بد من توافر عوامل عدة أخذاً بالأسباب الشرعية،
وانسجاماً مع السنن الكونية؛ فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وما ضاع في
عشرات السنين لا يسترد بأيام وشهور، ولذلك لا بد من تضافر الجهود، والأخذ
بأسباب النصر، والتوكل على الله. ومن المعالم المهمة في ذلك:
1 - العودة الصادقة إلى الله.
2 - تربية الأمة على الإسلام.
3 - الإيمان المطلق بأن الإسلام هو المنطلق الوحيد لتعاملنا مع قضية فلسطين.
4 - توعية الأمة بأن الجهاد هو الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين.
5 - وحدة الكلمة واجتماع الصفوف.
6 - وجود خطة محكمة واستراتيجية واضحة تراعى فيها الظروف والإمكانات،
وتدرس فيها العوائق.
أما التطبيع؛ فإنني على ثقة بإذن الله من أنه لن يتحقق كما أراد له مخططوه،
وأنى للزيت أن يمازج الماء، عقيدة اليهود تأبى، بل عقيدة المسلمين تأنف،
والضدان لا يجتمعان، وفي تجارب بعض الدول القريبة أقوى دليل وأظهر برهان
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
البيان: نشكر فضيلتكم، ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وصلى الله
وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
__________
(1) زاد المعاد: 3/14.
(2) انظر: مدارج السالكين: 2/154.
(3) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه البخاري في التعبير: 6/2561، ومسلم في الإيمان: 1/141.
(4) وقد بسط الشيخ الكلام حول ذلك في محاضرته: (الآمال محاضن الآلام) .
(5) رواه الإمام أحمد في مسنده: 4/126، وابن ماجه في السنن: 1/16، والطبراني في الكبير: 18 / 247، والحاكم في المستدرك على الصحيحين: 1/175، وغيرهم.
(6) رواه أبو داود في السنن: 3/274، والبيهقي في الكبرى: 5/316، وله شواهد عند أحمد في المسند: 2/42، 2/84، والخطيب في تاريخ بغداد: 4/307.
(7) جزء من حديث زيد بن خالد الجهني، رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد والسير: 3/1045، ورواه غيره.(184/36)
الإسلام لعصرنا
هل نداوي بالتي كانت هي الداء؟
أ. د. جعفر شيخ إدريس
jaafaridris@hotmail.com
في خطابه الأخير عن مشروع العلاقات الجديدة بين الولايات المتحدة والعالم
العربي ذكر وزير الخارجية الأمريكي حقائق عن وضع العالم العربي الاقتصادي
والتقني كان كثير من المثقفين العرب يعرفونها، ويندى جبينهم لها حين يسمعونها.
فنقول: إذن إن معظم ما ذكره وزير الخارجية في هذا الجانب هو حقائق
نحن معترفون بها، ولا مجال لإنكارها.
ونقول ثانياً: إنه مهما كانت لهذا التخلف المزري من أسباب خارجية فإننا
نحن المسؤولون أولاً عن أسبابه الداخلية.
لكننا نقول ثالثاً: إن علاجها ليس في ما اقترحه علينا باول، بل إن في ما
اقترحه ما يزيد طينتنا بلَّة، بل هو نذير شؤم يذكِّرنا بالمنطق الذي استعملته
الحضارة الغربية لاستعمار بلدان العالم. لقد كانوا يسوِّغون غزوهم واحتلالهم
وتسخيرهم للشعوب بأنه إنقاذ لها من وهدة التخلف وسوقهم قسراً إلى يفاع التحضر.
أليس هذا هو الذي تعنيه كلمة الاستعمار في أصلها اللغوي؟
لقد ظل الغربيون كُتَّاباً وساسة يدندنون حول فكرة سخيفة باطلة هي أنه لن
تتقدم أمة تقدمهم المادي إلا إذا سلكت طريقهم الراهن حذو القُذة بالقُذة. أي إلا إذا
صار نظامها السياسي مثل نظامهم، وموقفها من دينها مثل موقفهم من دينهم
يحرفونه كما شاؤوا، ويخضعونه لأهواء عصرهم، ويفصلون بينه وبين دولتهم،
وإلا إذا صارت حياتهم الجنسية مثل حياتهم اختلاطاً بغير ضابط بين الرجال
والنساء، وإباحة لكل علاقة جنسية بين كل بالغين متراضيين رجلين كانا أو
امرأتين أو رجل وامرأة، بل إلا إذا كانوا مع ذلك موالين للغرب خاضعين له
خادمين لمصالحه.
ونحن نعلم من كتاب ربنا ومن تجارب عصرنا والعصور التي سبقتنا أن كل
هذه أباطيل لا علاقة لها بالتقدم المادي.
الديمقراطية مهما كان فيها من حسنات ليست بشرط ضروري للتقدم
الاقتصادي والعلمي والتقني. فهذا الاتحاد السوفييتي كان قد تقدم مثل هذا التقدم،
بل كان سابقاً للغرب الديمقراطي في بعض المجالات رغم شنيع دكتاتوريته، وها
هي الصين، وها هي كوريا الشمالية تتقدمان في هذه المجالات تقدماً يزعج الغرب
أيما إزعاج.
وحياة الإباحية التي نُدعَى إليها الآن ليست من أسباب تقدم الأمم بل من أسباب
هلاكها. لقد كانت الحضارة الإسلامية حضارة العصر حتى بداية القرن السادس
عشر الميلادي، وكانت سابقة في كل مجال من مجالات العلم والتقنية كما يعترف
بذلك الغربيون ولم تكن تبيح ما نُدعى الآن إلى إباحته. والحضارة الغربية نفسها لم
تكن في بداية تقدمها المادي والعلمي تبيح ما تبيحه الآن؛ فلم تكن هذه الإباحية من
أسباب تقدمها، بل هي من علامات تدهورها كما يعترف بذلك كثير من عقلائها.
وفصل الدين عن الدولة ليس شرطاً في هذا التقدم كما يشهد بذلك تاريخ الحضارة
الإسلامية التي كان الدين جوهرها وكان السبب الأساس لقوتها.
نعم! إن الدين يكون عائقاً حين يكون ديناً يحول دون الأخذ بالأسباب
الموضوعية للتقدم المادي. وكما يكون الدين عائقاً يمكن أن يكون غيره من الأفكار
والمعتقدات عائقاً أيضاً.
ولكن إذا لم يكن الدين الحق عائقاً فهو أيضاً ليس شرطاً ضرورياً للتقدم
المادي! ولو كان الأمر كذلك لما تقدمت مثل هذا التقدم دولة كافرة. لكننا نشاهد في
واقعنا، ونعرف من تاريخ عالمنا، ونقرأ في كتاب ربنا ما يدلنا على غير ذلك.
[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ] (الفجر: 6-
10) .
بل إن العدل ليس شرطاً في مثل هذا التقدم؛ فالحضارة الفرعونية ازدهرت
بتسخيرها لبني إسرائيل حتى أنقذهم منها نبي الله موسى - عليه السلام -.
[فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيل] (طه: 47) .
والدول الأوربية استعانت على تقدمها المادي باستعمار الشعوب واستغلال
خيراتها، والولايات المتحدة استعانت على ذلك باصطياد البشر من أفريقيا
واستعبادهم وتسخيرهم.
وما يقال عن الديمقراطية يقال عن حرية التعبير، وإنصاف المرأة. إن كل
هذه وغيرها أمور حسنة في نفسها ومساعدة على الحياة الطيبة لكنها ليست شرطاً
في الازدهار المادي كما يشهد بذلك تاريخ الدول الغربية نفسها. لقد بدأت ثورتها
الصناعية ولم تكن تعطي المرأة ما تعدُّه الآن من حقوق لها لازمة للتقدم وللحداثة؛
فلم يكن لها حتى حق الانتخاب.
إن للتقدم المادي - كما لكل أمر حسي - أسباباً من أخذ بها آتته أُكُلَها براً كان
أو فاجراً، عادلاً كان أم ظالماً. فمن أكل الطعام المناسب شبع حتى لو كان طعامه
مسروقاً، ومن جامع امرأة قد ينجب حتى لو كان جماعاً سفاحاً، ومن زرع فقد
يحصد حتى لو كان في أرض مغصوبة. إن الله تعالى لم يجعل الاستقامة شرطاً في
التمتع بخيرات الدنيا: [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى
عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (البقرة: 126) . أراد إبراهيم - عليه السلام - أن
يحصر الرزق بثمرات البلد الحرام في المؤمنين؛ لكن الله تعالى أخبره أنه ينعم بها
حتى على الكافرين؛ ثم يذيقهم العذاب الأليم. ويؤكد هذا قوله تعالى: [قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: 32) .
فالطيبات من الرزق هي للمؤمن والكافر في هذه الحياة الدنيا، ولا تكون خالصة
ممحضة للمؤمنين إلا في الدار الآخرة.
قلت: إن للتقدم المادي أسباباً، وأقول: إن من أول ما يذكر من هذه الأسباب
الاستقرار السياسي؛ فإذا لم تكن الأمة مجتمعة، ولم تكن مستقرة فأنى لها أن تنجح
في إقامة مشروعات تعليمية واقتصادية طويلة المدى؟ والعالم العربي لم يذق طعم
الاستقرار السياسي إلا في فترات متباعدة هنا وهناك. وكان من أهم أسباب ذلك أن
كثيراً من أبناء الطبقة المثقفة المؤهلة للحكم فيه كانت طبقة قد ابتعدت عن دينها
وتقمصت قيم الحضارة الغربية، وظنت كما ظن أصحاب تلك الحضارة أن التقدم لا
يكون إلا بتقليد الغرب، فراحوا يقلدونه بل ويفرضون على الأمة تقليده في فكره
العلماني، وفي عاداته وتقاليده الاجتماعية، وجعلوا هذا وما يزالون يجعلونه
رسالتهم الكبرى التي يصالحون عليها ويعادون. وكان ممن عادوا إخوانهم
المستمسكين بدينهم الذين يرون على العكس منهم أن نهضتنا لا تكون إلا على أساس
من ديننا. بهذا انقسم المجتمع وفقد الاستقرار السياسي اللازم للتطور المادي.
فالعلمانيون كانوا إذن هم سبب تمزق العالم العربي، ومن ثم سبب تخلفه المادي.
وكان الغرب وراءهم وعوناً لهم بدعايته وماله وقوته في كل ما يدعون إليه. واليوم
تريد أمريكا أن تعاد المعركة بين الفريقين، وبشكل أشرس؛ إذ المطلوب من
العلمانيين هذه المرة ليس فصل الإسلام عن الدولة فحسب، بل إعادة تفسيره بحيث
يكون متناسباً مع الفكر الغربي، والمصالح الغربية. أليس هذا علاجاً بالتي كانت
هي الداء؟
وإذا كان الاستقرار السياسي شرطاً ضرورياً لنيل القوة المادية فإنه ليس
بالشرط الكافي، بل لا بد أن تتحقق معه شروط أخرى. لا بد للأمة التي تريد أن
تخطو في طريق هذا التقدم المادي أن تعرف معالم هذا الطريق فلا تؤفك عنه
بمظاهر كاذبة لا علاقة لها به. وقد كان من أسباب تقدم الاتحاد السوفييتي إدراكه
لهذه الحقيقة. عرف في ضوء معتقداته ماذا يأخذ من الغرب الرأسمالي وماذا يدع.
كان يركز على ترجمة العلوم، وعلى تبادل التقنيات، وكان يبتعد كل البعد عن
آداب الغرب الرأسمالي وفلسفاته ونظرياته السياسية والاقتصادية وفنونه وأفلامه
ومسارحه وموسيقاه وأنواع رقصه. أذكر أننا زرنا دولة تشيكوسلوفاكيا ونحن
طلاب بجامعة الخرطوم فوجدنا بعض الناس هنالك مستعدين لأن يعطوك ما شئت
من مبالغ مقابل أسطوانة فيها موسيقى الروك آند رول التي كانت ذائعة الصيت
آنذاك. لكن كل هذا الذي كان ممنوعاً في البلاد الشيوعية كان متوفراً في بلادنا ولم
يساعد على تقدمنا.
قلت: إن الدين ليس بشرط في التقدم المادي، لكنني أبادر فأقول: إنه وإن لم
يكن شرطاً ضرورياً إلا أنه بلا ريب شرط كاف. أعني أن الأمة قد تكون قوية وإن
لم تكن على دين صحيح، لكنها تكون حتماً قوية ومنتصرة إذا كانت على دين
صحيح. [وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن
فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم] (المائدة: 66) . [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] (الأعراف: 96) . [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل
لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً] (نوح: 10-12) .
وأبادر فأقول ثانياً: إن الدين إذا لم يكن شرطاً ضرورياً في نيل القوة المادية
فإنه شرط ضروري لبقائها ودوامها. فالنعمة لا تدوم على مجتمع كافر إذا هو لم
يرجع إلى الحق. فإرمُ لم ينفعها عمادها، وثمودُ لم ينفعها جوبها الصخر بالواد،
وفرعون لم تنفعه أوتاده حين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، بل صب عليهم
ربك سوط عذاب، وهو سبحانه صاببه على كل أمة ترتكب ما ارتكبوا.
والنعمة لا تدوم حتى لمجتمع مسلم إذا هو استحدث نوعاً من الجحود، بل إن
سلبها منه يكون بقدر جحوده. وهذا يعني أن الله تعالى قد يعطي مجتمعاً كافراً لم
يمتحن من أسباب القوة المادية ما لا يعطي مجتمعاً مسلماً امتُحن فسقط سقوطاً كاملاً
بالنكوص إلى الكفر، أو سقوطاً جزئياً بترك بعض ما يعلم أن الله افترض عليه.
ولكن حتى حين يعطي الله تعالى المجتمع الكافر بل والفرد الكافر من النعم
المادية ما يعطيه، فإنه يحرمه من كمال الاستمتاع بها؛ لأن كمال الاستمتاع بها لا
يتأتى إلا مع شكر المنعم بها. وأما بغير هذا الشكر فهي قمينة بأن تصاحبها
منغصات لا يطيب العيش معها.
وعليه: فإذا أردنا أن نحقق لمجتمعاتنا تقدماً اقتصادياً وعلمياً وتقنياً، فلنكن
صفاً واحداً يجمعه الاستمساك بالدين الحق، ثم بكل ما في تراثنا وتجاربنا وتجارب
غيرنا من حق. وإذا كنا صفاً واحداً متماسكاً فلن يعجزنا التواصي على نظام
سياسي يحقق لنا الاستقرار؛ وإذا ما تحقق الاستقرار، فآنذاك نبدأ في الأخذ
بالأسباب التي تحقق القوة والأسباب التي تديمها. لا بد من الأمرين معاً. إن التقدم
الحق لا يقوم إلا على هذين الجناحين.
وما أقوله ليس دعوة إلى البداية من الصفر؛ فقد سارت كثير من دولنا رغم
العقبات في هذا الطريق؛ فنحن إنما نؤكد هنا ضرورة السير في الطريق الصحيح،
وندعم السائرين فيه، وندعو غيرهم إلى سلوك طريقهم.(184/44)
البيان الأدبي
رشفات من اللغة
سليمان بن عبد العزيز العيوني
الحج لغةً:
- يقال: حَجَّ الشيءَ يَحُجُّهُ حَجّاً، وحَجَّ إليه واحْتَجَّه: قَصَدَه.
- وأكثر استعماله في المقصود بكثرة، ثم تُعورف على استعماله في قصد مكة
للنُّسُك.
- وفاعله: حاجٌّ، وجمعه: حُجَّاجٌ وحَجِيجٌ وحُجٌّ. والمرأة: حاجَّةٌ،
وجمعها: حَوَاجُّ.
- وذو الحِجَّة بكسر الحاء: شهر الحَجِّ، وجمعه: ذوات الحِجَّة.
- وورد الحج في القرآن الكريم 12 مرة، بألفاظ (حَجَّ الحَجّ حِجّ الحاجّ) .
* في معنى (التباس الأمر) :
من سعة العربية التعبير عن المعنى الواحد بعدة ألفاظ، كالتعبير عن (التباس
الأمر) بقولهم: التبسَ الأمر، وأشكلَ، واشتبهَ، واختلطَ، واستعجمَ، واستبهمَ،
واستغلقَ، وغُمَّ، وأعضلَ، والتوى، والتاثَ، والتبكَ.
* الظروف والمظاريف:
يخلط بعضٌ بينهما، فيقولون: افتح المظروف، أو: اليوم فتح المظاريف،
والصواب: الظرف والظروف؛ لأن «الظرف» الذي يحتوي على غيره، وما
بداخله هو «المظروف» ، وعلى ذلك يسمى ما توضع فيه الرسائل والأوراق
ظرفاً، وجمعه: ظروف، وما بداخله من رسائل يسمى: مظروفاً، وجمعه:
مظاريف.
* بدائل عربية:
- لِفْت، أصانصير. والصواب: مِصْعَد.
- ألبوم. والصواب: سِجِلّ.
- بجامة. والصواب: مَنامة.
- رادار. والصواب: راصِد.
- وِنْش. والصواب: رافعة.
- بَرْضُهْ. والصواب: أيضاً.
* عامي فصيح:
- عَيْنُهُ فِيْه = لما تتطلع إليه نفسه.
- فلان ناشِف = كثير الجد، غير المطاوع.
- بَسْ = حَسْب، يكفي.
- الجادَّة = الطريق.
- خَرَّاط = كذّاب.
* لا تقل وقل:
- صح. والصواب: صحيح.
- بَرَّرَ، مُبَرِّر. والصواب: سَوَّغَ، مُسَوِّغ.
- بدل فاقِد. والصواب: بدل مَفْقُود.
- سِيدي. والصواب: سَيِّدي.
- مُسَيْلَمَة الكذاب. والصواب: مُسَيْلِمَة الكذاب.
* ابن تيمية لغوياً ونحوياً:
شيخ الإسلام ابن تيمية بحر متلاطم في عدة علوم؛ منها اللغة والنحو، وقد
خرجت قريباً دراستان توضحان جهوده اللغوية والنحوية، الأولى باسم (الدراسات
اللغوية والنحوية في مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وأثرها في استنباط الأحكام
الشرعية) ، وهي أطروحةُ عاليةٍ (دكتوراه) في كلية الآداب في جامعة بغداد، من
إعداد: هادي أحمد فرحان الشجيري، طبعتها دار البشائر الإسلامية في بيروت،
في (568) صفحة، والدراسة الأخرى باسم (اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية
وتقريراته في النحو والصرف) ، من إعداد: ناصر بن حمد الفهد، طبعتها مكتبة
أضواء السلف في الرياض، في (359) صفحة.
* من نوادر الأعراب:
- مدح أعرابي قوماً فقال: «صدورُهم قُبورُ الأسرارِ، وسيوفُهم آفاتُ
الأعمار» .
- ولي أعرابي البحرين، فجمع اليهود، فقال لهم: ما تقولون في عيسى؟
فقالوا: قتلناه وصلبناه. فقال: لن تخرجوا من السِّجْن حتى تُؤدُّوا دِيَتَه.
__________
* تنبيه:
نشكر الإخوة الأدباء واللغويين على حرصهم وتجاوبهم، ونأمل أن يراعي
المشاركون ما يأتي:
1 - أن تكون المشاركة بالعربية الفصحى.
2 - ألا تزيد القصيدة على 20 - 25 بيتاً.
3 - ألا تزيد القصة على 1 - 1.5 صفحة.
4 - ذكر اسم صاحب المشاركة، وعنوانه وهاتفه.
5 - تنوع المشاركات ما بين قصيدة، وقصة، ومقامة، ومقالة، ودراسة ونقد.(184/48)
قصة قصيرة
الميتتان
د. وليد قصَّاب
تفوح من حوله رائحة الموت والدماء، وعفونة الجثث المبعثرة هنا وهناك..
كان كامناً في حفرة عميقة خلف تل بعيد؛ يحتمي فيها من نيران الموت التي تحاول
أن تحصد كل شيء في المكان حصداً لا رحمة فيه.
يلتفت إلى اليمين ليرى جثة عبد الحميد وقد تشوّهت معالمها، وضاعت
آثارها، وينظر إلى اليسار ليرى عشرات من جثث أصدقائه الذين كانوا معه في
خندق واحد: عادل، ومحمود، وياسين، وأبو الحسن.
ولكن عبد الحميد هو الصورة المحفورة التي لا تُنسى؛ كان دائب الحلم، دائم
التطلع، يحلم بالعودة، وكانت صورة خطيبته عائشة التي عقد عليها قبل أن يأتي
إلى هنا بأيام لا تفارقه أبداً. كان يحفظ مقاطع من رسائلها عن ظهر قلب، وكانت
عائشة شاعرة، وكان عبد الحميد يحفظ معظم شعرها، وكم قرأ على أصحابه من
أشعارها ما يجعل الحماسة تفيض في جوانحهم كنهر متدفق غزير، ويُلهب في
أعماقهم جذوةً من إيمان حارٍّ؛ يضرب جذوره في أعمق أعماق الفؤاد:
أنتم لنا أملٌ عميق
أملٌ وحيدٌ بعدما اختنق البريق
قد غبتمُ
لكنكم في القلب نبراسُ الطريق
عادت الطائرات مرة أخرى تقصف المكان بلا رحمة، فغاص في حفرته،
وانهالت أطنان القنابل تزرع الموت والدمار في كل مكان، وتشاغل عن ذلك
باستحضار عبد الحميد إلى خواطره؛ كم ضمّهما خندق واحد! وكم عربدت
الطائرات فوق الرؤوس مجنونة لا تهدأ! ولكنّ كلاً منهما كان يحسّ بالأمان وهو
في صحبة الآخر، كانا ينسيان وقتذاك أنهما في قلب الموت، ويحسبان أنهما في
نزهة ممتعة، كان عبد الحميد شعلة إيمان ويقين، لم يشعر بالخوف مرة واحدة،
ولم يختلج في جسده عضو لتخيُّل الموت داهماً قريباً في كلّ لحظة، وكان دعاؤه
الحارّ الذي لا ينقطع: «اللهم إنه خروج في سبيلك.. فارزقني إحدى الحسنيين..
النصر أو الشهادة» ، وتفيض عيناه بدمع صادق وهو يدعو.
وكان على جدية الموقف وحرارته يداعبه: «وعائشة؟!» ، فتختلج شفتا
عبد الحميد، ولكنه لا يكفّ عن الدعاء.
وقد حاول أن يقتدي به كثيراً، وأن يردّد مثل دعائه، وخاصة في أعقاب
الصلوات، ولكنه لم يكن يملك ذلك، لم يكن يخاف الموت، ولكنه لم يكن يريده.
ترتسم أمام عينيه أحلامٌ بعيدة؛ فينحبس في شفتيه تمني الشهادة، ويدعو متمنياً
النصر.
تسلَّق الحفرة قليلاً، وألقى نظرة على جثة عبد الحميد الغارقة في بحر من
الدماء، وفي هذه اللحظة سقطت قذيفة على بعد أمتار منه، فغاص سريعاً في
الحفرة وقد دوّى المكان دويّاً رهيباً.
كانوا مكلفين بحماية التل، وقد طُلِب منهم ألاّ يتزحزحوا؛ لأن القصف مقدمة
لهجوم يهودي يستهدف احتلال الموقع كله.
كفّت الطائرات عن القصف، ولكنَّ عدداً من طائرات الاستكشاف حلَّقت فوق
الموقع.. تحرّك في حفرته، ثم تسلَّق نحو الأعلى يستطلع معالم المكان.. تحول
كل شيء إلى أنقاض، وما هي إلا دقائق حتى سمع هدير آليات ثقيلة تتجه نحو
الموقع، لقد كان القصف مقدمة إذن كما قال لهم القائد، وها هم آتون، إن احتلال
هذا الموقع هو هدفهم، والمعارك الطاحنة تدور فوق أرضه منذ عشرين يوماً.. لقد
أبدى الرجال بما يملكون من عُدّة قليلة بسالةً منقطعة النظير.
حضرته مرة أخرى صورة عبد الحميد، ما يزال كلامه في أذنيه: «إن لم
نمت شهداء وقعنا بأيديهم فمتنا كالكلاب» .
أحسّ بالرعشة تسري في كيانه لأول مرة، واستيقظ كأنما كان غافلاً يستشعر
الخطر الزاحف.. إنهم آتون بأثقل عتاد، وسوف يمسحون المكان مسحاً، ولن
تفلت من قبضتهم ذبابة.
الآليات تهدر هديراً يَصُمُّ الآذان، وهي تقترب من المكان حثيثاً، تفقَّد سلاحه
.. رشاشه.. والقنابل التي في حزامه، ثم مدّ رأسه من حفرته يتطلع يميناً وشمالاً،
وعاد يتساءل مرة أخرى: أين أفراد الفرقة؟ أماتوا جميعاً؟ اعتصرته الحيرة، ثم
دهمه خوف مفاجئ.. شعر بالضياع والوحدة والإحباط، وفي لحظة خاطفة عبرت
خواطره صورٌ وأحداثٌ وشخصياتٌ: والده والدته المنتظران، وشقيقته هيفاء،
وخطيبته التي أحبها، ومستقبل عريض كان والده لا يفتأ يتحدث عنه، ثم طغى
على ذلك كله صور رفاقه الذين كانوا معه بالأمس: عادل، ومحمود، وياسين،
وأبو الحسن.. وعبد الحميد، آه.. وقصائد خطيبته عائشة..
وراحت الصور تتلاحق أمام عينيه قاتمة كئيبة، والآليات تتقدم في زحف
مجنون دون أن تعترضها نسمة، ثم انقطعت الصور عندما دوّت في المكان فجأة
طلقات الأسلحة الرشاشة والقنابل اليدوية، أحسّ أنه يُبعث إلى الحياة، وشعر
بفرحة طاغية لا تحدّ، ما يزال بعض من أفراد فرقته أحياء إذن، لم يموتوا جميعاً،
كانوا متربّصين مثله يتحيّنون اللحظة، وينتظرون الالتحام، وها هي ساعة
الصفر!
جهّز سلاحه، وراح يسدد، أخذ كل شيء يتلاشى من ذاكرته رويداً رويداً،
لم يبقَ شاخصاً أمامه إلا صورة عبد الحميد يردد دعاءه الحار العميق، وعبارته
المأثورة: «إن لم نمت شهداء وقعنا بأيديهم فمتنا كالكلاب» .
أحس بإيمان حار يضرب جذوره في أعمق أعماق فؤاده، فامتلأ بقوة عجيبة
خارقة، ثم تراءت له الدنيا كلها تافهة هينة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وفي
لحظة خاطفة ارتسمت أمامه المِيتَتَان: ميتة الشهداء، وميتة الكلاب؛ فراح يطلق
النار وهو يدعو بخشوع وصدق وإيمان: «اللهم! إنه خروج في سبيلك..
فارزقني مِيتَة الشهداء» .(184/49)
نص شعري
القدس تصرخ
أ. د. أبو فراس محمد النطافي
رُدَّ العدوَّ عن الشطَّيْن يا ولَدي ... بنو اللّقيطة داسوا حرمةَ البلدِ
صَبّوا عليه اللظى من كلِّ ناحيةٍ ... وفرَّقوا فيه بين الأم والولدِ
أَنّى نظرتَ فدفقٌ من دمٍ عطِر ... ومضغةٌ من حنايا القلب والكبدِ
وأضلعٌ شرقَت بالموت طائرةً ... من صدر مُعْتَقَلٍ، أو ظَهْرِ مُفْتَقَدِ
بنتُ العروبةِ والإسلامِ عاريةٌ ... بين الجواسيس والشذاذ والعُبُدِ
قصّوا جدائلَها السمراءَ واتَّشحوا ... بهنَّ في العيد يومَ السبت والأحدِ
أبناؤها الصيدُ خاضوا كلَّ معمعةٍ ... حمراءَ لم يبخلوا بالروح والجسدِ
أسراهمُ في سجون البغي ما عرفوا ... لونَ الحياةِ، وقتلاهم بلا قوَدِ
شعبٌ تشتَّت في الآفاق تسحقهُ ... يد النوى بين مأسورٍ ومُضْطَهَدِ
وأنتَ تنظرُ للعدوان يا ولدي ... على بلادكَ، لم تنظر ليوم غدِ
فإن بقيت على ما أنتَ من وهَنٍ ... ضاعت فلسطينُ والأقصى إلى الأبدِ
واستفحل اليأسُ في أبناء أمَّتنا ... وماتت العزّة القعساءُ من كمدِ(184/50)
نص شعري
ف ل س ط ي ن
موسى بن عمر الحسن الطارقي
فاءٌ.. ولام
سينٌ مسكَّنة.. وطاء
ياءٌ.. ونون
هذي حروفٌ.. قد تراقص فوقها شبح المنون
هذي حروفٌ.. للتصبر لا السكون
هذي حروف.. قد طوت حقب الزمان مع القتال
هذي حروفٌ.. قد جنت للأمة الثكلى رجالاً كالجبال
هذي حروفُ العز في زمن الوبال
هذي فلسطين الحزينة يا رجال!
أَوَ تنظرون إلى يهود
يذبِّحون.. يقتِّلون ويعبثون
وكما يشاء الجند في أرض المعزة يفعلون
هذا صبي قد تضرّج بالدماء
وأبٌ كسير أدركته بقيةٌ من طلقة فَهَوَتْ به نحو العناء
أمٌ تكفكف دمعها
أختٌ تحشرج صدرها
وأخٌ يخوض معاركاً.. والقلب ينبض بالدعاء
يا ربِّ! أهلكنا اليهود
فاءٌ.. فؤاد قد تمزق من قهر
لامٌ.. لهيب الحزن مقرونٌ بأشباح الضجر
سينٌ.. سيوف الهون قد خارت وينتفض الحجر
طاءٌ.. طلائع فجرنا يحدو مراكبه القمر
ياءٌ.. يهود الحقد لا ...
ليس يوقفهم سلامٌ.. إنهم قومٌ غُدر
نونٌ.. نسيم القدس يحيينا ويمحو
عنَّا في الدنا صفة الخَوَر(184/50)
المسلمون والعالم
خط الزمن
في الأزمة العراقية الحالية
خالد محمد حامد
في غمرة الأحداث قد تغيب بعض الجزئيات الضرورية لفهم هذا الحدث،
ومع اعتقادي أن الاستغراق في الجزئيات قد يكون سببًا من أسباب النظرة الخاطئة
والتحليل غير الشامل، إلا أنني أعتقد أيضاً أن أي محلل لا يستغني عن استعراض
الأحداث بصورة كلية وهو الأمر الذي يقوده إلى الإلمام بفكرة شاملة عن مسار هذا
الحدث، وهو ما يعينه على التحليل الدقيق، ثم يبقى بعد ذلك (النظرة) التي يرى
من خلالها هذه الأحداث و (الأسس النظريات والقواعد) التي يحلل هذه الأحداث
في ضوئها.
ولاعتقادي أن كثيرًا من القراء يملك حسًا نقديًا ومقدرة تحليلية قد لا تقل عن
كثير من الكتاب، ولكن ينقصهم الجرأة والصقل والتوجيه و ... مصادر جيدة
للمعلومات، برزت فكرة هذا المقال الذي يهدف إلى تنشيط ذاكرة القارئ لاستحضار
بعض جزئيات الأحداث الماضية في الأزمة العراقية الراهنة مع الولايات المتحدة
والأمم غير المتحدة.
ولكن قبل أن أخوض في سرد هذه الجزئيات تاركًا القارئ ليقارن ويستكمل
ويربط ويتابع ويحلل.. أود أن ألفت النظر إلى عدة أمور تؤخذ على هذا السرد،
قد لا تغيب على القارئ الفطن، وما أظن قارئنا إلا فطنًا:
الأول: أنه يصعب تقديم سرد كامل لأحداث هذه الأزمة في مقال مثل هذا،
وعليه فإن هذا المقال لا يقدم صورة كاملة لخط الزمن في الأزمة، وإنما يقدم رسمًا
لطرفي الخط في مرحلته المتأخرة: أول 45 يومًا بعد أحداث سبتمبر وآخر ثلاثين
يومًا قبل كتابة هذا المقال، وعلى القارئ أن يلحظ ببصره وبصيرته ما نقص من
هذا الخط.
الثاني: أن الأخبار الواردة في هذا السرد هي أخبار مجردة خالية من الرؤى
والتحليلات والتقارير لأي جهة، اللهم إلا احتمال التوجيه من خلال حشد وذكر
الأخبار نفسها أو تهميش وإهمال أخبار أخرى، وهذا ما لم أتعمده أنا شخصيًّا.
الثالث: أن مصادر الأحداث المذكورة هنا اقتصرت على المصادر المتداولة
والمألوفة التي يستطيع أي قارئ حتى في أي بلد مصاب بأرتكاريا المعرفة الوصول
إليها والحصول عليها بسهولة، كجريدة البيان الإماراتية والحياة والشرق الأوسط
اللندنيتين وموقع الجزيرة نت وموقع الـ BBC العربي.. وغيرها مما في
استطاعة أي قارئ قادر على فك الخط!!
الرابع: وهو بديهي، وهو أن هذه الأخبار وتلك التصريحات هي مما
(يظهر) ومما يكتب بهدف اطلاع (الجمهور) عليه، أما بواطن الأمور فهذا ما لا
علم لنا به، وقد يجتهد بعض المجتهدين لقراءة ما بين السطور للوصول إلى هذه
البواطن، فهذا وشأنه، وهو وحده يتحمل مسؤولية التفكير بعد إصابته بالأرتكاريا
المعروفة؛ فالتفكير مسؤولية كل مفكر، ووزارة الصحة والمالية والتعليم والإعلام
و ... تحذرك من أضرار التفكير!! .
الخامس: أن التواريخ المذكورة هي تواريخ النشر، وهي غالبًا متأخرة عن
وقوع الحدث أو صدور التصريح الإعلامي بيوم واحد تقريبًا، يزيد أو ينقص.
هذا وقد قسمت تتبع هذا الخط إلى محاور موضوعية ليسهل على القارئ
تشكيل صورة ذهنية قريبة عن كل نقطة بحث، وهو ما تجدونه في السرد الآتي:
* استهداف العراق أمريكيًّا:
15/9/2001م: حمل وزير الخارجية الأمريكي كولن باول على الرئيس
العراقي صدام حسين معتبراً أن رفضه إدانة الاعتداءات الإرهابية في نيويورك
وواشنطن له دلالته.
18/9/2001م: شكك المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية
(سي. آي. إيه) في الدور المزعوم لأسامة بن لادن في هجمات الثلاثاء الماضي.
ودفع بأن هذه الهجمات الإرهابية غير المسبوقة ليست سوى مؤامرة انتقامية
مدروسة بعناية فائقة من تدبير الزعيم العراقي صدام حسين.
19/9/2001م: قال مصدر حكومي أمريكي أمس الثلاثاء إن محمد عطا
المشتبه في أنه أحد الخاطفين الذين كانوا على متن الطائرة الأولى التي ضربت
مركز التجارة العالمي اجتمع في وقت سابق من العام الحالي مع مسؤول بالمخابرات
العراقية في أوروبا.
20/9/2001: صرح مسؤول بإحدى وكالات الإغاثة طلب عدم ذكر اسمه
لفرانس برس أمس «تلقينا تعليمات سرية من مكاتبنا في نيويورك من أجل البدء
باتخاذ تحضيرات في إطار خططنا الطارئة تحسباً لمواجهة آثار ضربة أمريكية
محتملة ضد العراق» .
21/9/2001م: ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أمس أن بعض كبار
مسؤولي الإدارة الأمريكية وعلى رأسهم بول فولفوفيتس نائب وزير الدفاع ولويس
ليبي رئيس موظفي نائب الرئيس ديك تشينى يسعون إلى إدراج العراق في القائمة
بهدف التخلص من الرئيس العراقي صدام حسين، وهي خطوة طالما دافع عنها
المحافظون الذين يؤيدون الرئيس بوش منذ أمد بعيد. وأشارت الصحيفة إلى أن
عددا من المحافظين تداولوا رسالة جديدة تدعو الرئيس الأمريكي إلى بذل جهد أكيد
للإطاحة بالرئيس العراقي حتى إذا لم يثبت وجود صلة بينه وبين الهجمات
الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة.
24/9/2001م: قال السناتور الأمريكي جيسي هيلمز أمس الأول أن الجيش
الأمريكي قد يستهدف العراق والرئيس صدام حسين عندما يشن ضربات انتقامية
رداً على هجمات 11 سبتمبر الانتحارية على نيويورك وواشنطن.
25/9/2001م: أعرب وزير الدفاع الأمريكي عن قلقه لاحتمال تعرض بلاده
لهجوم كيماوي أو بيولوجي من قبل «جماعات إرهابية» مرتبطة على حد قوله
بدول كالعراق وسوريا وكوريا الشمالية.
25/9/2001م: قال كولن باول وزير الخارجية الأمريكي: ليست لدينا
أية أوهام إزاء صدام حسين؛ لأنه لا يكنُّ لنا أو للمنطقة خيراً، وهو حاول
تطوير أسلحة الدمار الشامل مضيفاً: لقد أبقيناه تحت السيطرة لمدة 10 سنوات
وسنستمر بإبقائه تحت السيطرة، وكما تعرفون لدينا القدرة دائما على الضرب
في حال استدعت الضرورة ذلك.
9/10/2001م: ذكرت مجلة «نيوزويك» الأمريكية أمس أن الرئيس
الأمريكي استبعد حالياً ضرب العراق، وعلى كل حال ليس قبل انتهاء «المرحلة
الأولى» من حربه ضد الإرهاب والقضاء على القواعد الإرهابية في أفغانستان.
وقالت المجلة: إن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني طلب من الرجل الثاني في
وزارة الدفاع بول ولفويتز تخفيف لهجته ضد الرئيس العراقي صدام حسين.
13/10/2001م: تحاشى الرئيس الأمريكي بوش الإجابة عن سؤال حول
توسيع الحرب لتشمل دولاً مثل سوريا والعراق، لكنه قال: إن الولايات المتحدة
تراقب العراق «باهتمام بالغ» . وحث الرئيس العراقي صدام حسين على السماح
بعودة مفتشي الأسلحة الدوليين.
19/10/2001م: حذر الجنرال جان بول رانين رئيس مجموعة الاتصال
الفرنسية لدى القيادة المركزية للعمليات الأمريكية في أفغانستان من أن القيادات
العسكرية الأمريكية تسعى لتوسيع الضربات لتشمل العراق وسوريا أيضًا.
22/10/2001م: رد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية ريتشارد
مايرز على سؤال لمحطة التلفزة «إيه. بي. سي» عما إذا كان بدأ الإعداد
لضرب العراق فقال: «هذه حرب عالمية على الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.
أفغانستان مجرد جزء صغير.. ولذلك فنحن طبعاً نفكر بشكل أوسع.. يمكنني
القول إننا منذ الحرب العالمية الثانية لم نفكر بهذه الشمولية» .
25/10/2001م: قال وزير الخارجية الأمريكي كولن باول «سنولي
اهتمامنا في الوقت المناسب لمصادر أخرى للإرهاب تزعزع استقرار العالم،
وسنراقب العراق عن كثب خلال هذه العملية» .
27/10/2001م: اعترف رئيسا لجنتي المخابرات في مجلس الشيوخ
والنواب «الكونجرس» الأمريكي بعدم وجود أدلة واضحة على اتهام العراق
بالتورط في هجمات 11 سبتمبر وحالات الإصابة بالجمرة الخبيثة، رغم كثرة
التكهنات على وجود صلة لبغداد.
30/10/2001م: قال وزير الدفاع الأمريكي إنه لا يستطيع استبعاد حدوث
عمل حربي ضد العراق في إطار حملة الولايات المتحدة على الإرهاب الدولي.
وجاءت تعليقات الوزير في أعقاب تصريحات أدلى بها نائب رئيس الوزراء
العراقي طارق عزيز لصحيفة بريطانية أعرب فيها عن اعتقاده بان واشنطن تخطط
لضرب 300 هدف عراقي بنحو ألف صاروخ.
12/10/2002م: كشفت مصادر استخبارية ونيابية أميركية النقاب عن
الضغوط التي يمارسها عدد من كبار مسؤولي إدارة الرئيس جورج بوش على
محللي المعلومات في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) من أجل جعل
تقييمهم للتهديد العراقي يدعم موقف الإدارة ضد العراق.
24/11/2002م: كشفت مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت»
الأمريكية عن خطة تعدها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش لحكم العراق بعد
الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين.
وذكرت المجلة في عددها الذي صدر بتاريخ 2/12/2002م أن الخطة
تتكون من 3 مراحل أساسية، وأنها تلقى إجماعاً بين القيادة الأمريكية التي تواصل
استعداداتها على قدم وساق لشن الحرب.
1/1/2003م: أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش أنه لا يعلم إذا ما كان
الرئيس العراقي صدام حسين يمتلك حالياً أسلحة نووية أم لا، وذلك خلافاً لتأكيدات
واشنطن ولندن السابقة بحيازة العراق لهذه الأسلحة.
وقال في تصريحات للصحفيين قرب مزرعته بكروفورد في ولاية تكساس:
إن العراق اقترب كثيراً في الماضي من تطوير أسلحة نووية.
وأعرب بوش عن أمله في أن يتم التمكن من حل الوضع المتعلق بالعراق
بشكل سلمي، مشيراً إلى أن الرئيس العراقي يتحدى العالم والمجتمع الدولي. شدد
على ضرورة أن تتخلص بغداد من أسلحة الدمار الشامل.
3/1/2003م: تفقد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش قوات أمريكية يوم
الجمعة مؤكداً أمامها أن حرباً على العراق لن تكون بهدف غزوه وإنما تحريره،
وقال بوش لآلاف الجنود في قاعدة فورت هود في كيلين بولاية تكساس إنه «إذا
تطلب الأمر استخدام القوة لنزع أسلحة الدمار الشامل من العراق، ولتأمين بلادنا
وحفظ السلام فستتصرف أميركا بتأن وعلى نحو حاسم، وستنتصر؛ لأننا لدينا
أفضل جيش في العالم» .
9/1/2003م: أعلن وزير الخارجية الأميركي كولن باول في حديث نشر
اليوم أن الولايات المتحدة بدأت تسليم الأمم المتحدة معلومات عن برامج تسلح
عراقية لكنها تتحفظ على كشف بعض المعلومات التي حصلت عليها من مصادر
سرية جداً. وقال باول لصحيفة واشنطن بوست: إن معلومات مهمة تم تسليمها منذ
أيام ليتاح للمفتشين الموجودين في العراق القيام بعملهم بطريقة أكثر جرأة وشمولية.
11/1/2003م: قال ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي إن الحرب التي
تخوضها بلاده على الإرهاب لن تتكلل بالنصر إلا إذا تم تجريد العراق من أسلحة
الدمار الشامل التي يمتلكها. وفي كلمة له أمس الجمعة أمام غرفة التجارة الأميركية
في واشنطن، قال تشيني إن إدارة الرئيس بوش تخشى من أن تقرر بغداد تزويد
القاعدة ومنظمات إرهابية أخرى بأسلحة دمار شامل لاستخدامها ضد الولايات
المتحدة.
18/1/2003م: يقول مسؤولون أميركيون إن إدارة الرئيس جورج بوش
توشك على الانتهاء من خطة تحدد سبل إدارة العراق في مرحلة ما بعد الإطاحة
بالرئيس صدام حسين. وتقضي بأن يقوم الجنرال ديفيد ماكيرنان، قائد القوات
البرية الأميركية بتشكيل إدارة عسكرية «مؤقتة» ، في حين سيتاح لقيادات
المعارضة أن تلعب دوراً استشارياً يتزايد مع تزايد التقدم الذي يتحقق في إقامة
مؤسسات سياسية مدنية. ولكنهم لن يتمكنوا من الفوز بسيطرة كاملة على بلادهم
لعدة سنوات أو أكثر.
وقال ريتشارد بيرل مدير مجلس السياسات التابع لوزارة الدفاع الأمريكية إنه
ليس أمام المفتشين أي فرصة بالعثور على أسلحة الدمار الشامل التي يخفيها العراق.
* الموقف العراقي الرسمي:
12/9/2001م: أعلن وزير النفط العراقي عامر محمد رشيد أن العراق
يحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث الاحتياطي النفطي عند إضافة الاحتياطي
المحتمل إلى الاحتياطي المؤكد، وقال: «إن العراق هو الدولة الوحيدة في العالم
التي تمتلك احتياطياً نفطياً محتملاً هو ضعف الاحتياطي المؤكد» مضيفاً أن
الاحتياطي المؤكد في حدود 113 مليار برميل والمحتمل 220 مليار برميل.
12/9/2001م: انتقدت صحيفة «بابل» العراقية أمس رئيس مفتشي الأمم
المتحدة لنزع أسلحة العراق هانس بليكس، مؤكدة من جديد رفضها أي مهمة جديدة
لهؤلاء المفتشين الذين اتهمتهم بالقيام بـ «مهام تجسسية» .
15/9/2001م: حذر الرئيس العراقي صدام حسين الدول العربية التي
تستمر في دعم الولايات المتحدة من أنها قد تلاقي المصير نفسه الذي لاقاه حلفاء
الاتحاد السوفييتي السابق، بينما دعت صحيفة عراقية واشنطن إلى الاستفادة من
درس الاعتداءات القاسي وتغيير سياستها الخارجية.
16/9/2001م: قال وزير التجارة العراقي مهدي صالح في ختام لقائه وزير
الخارجية المصري أحمد ماهر في القاهرة أمس إنه لا علاقة لبلاده بالاعتداءات التي
استهدفت الولايات المتحدة الثلاثاء الماضي.
19/9/2001م: عبر نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز في رسالة
وجهها إلى منظمة «أصوات البرية» الأمريكية المناهضة للحظر المفروض على
العراق عن «تعازيه الحارة» في ضحايا الاعتداءات التي استهدفت الولايات
المتحدة.
12/9/2001م: نفى ناطق باسم وزارة الخارجية العراقية أمس الاتهامات
الإسرائيلية بأن العراق يقف وراء الاعتداءات التي ضربت نيويورك وواشنطن في
11سبتمبر في وقت حذرت بغداد من حرب عالمية جديدة.
25/9/2001م: جددت الحكومة العراقية رفضها للسماح لمفتشي الأسلحة
الدوليين بدخول أراضيها حتى لو ترتب على ذلك قيام أمريكا بمهاجمة العراق،
وقال طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي في مقابلة مع راديو لندن أمس
الأول إنه عندما يرغب الأمريكيون في مهاجمة العراق سيهاجمونه طبقاً لجدولهم
الخاص وليس لأن العراق فعل هذا أو لم يفعل ذلك.
4/10/2001م: اتهم نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز أمس
الولايات المتحدة بالإعداد لشن هجوم على العراق تحت ذريعة مكافحة الإرهاب،
مؤكدًا أن بلاده ستبقى صامدة في وجه العدوان والحصار.
10/10/2001م: رجح وزير الخارجية العراقي ناجي صبري استخدام
الولايات المتحدة ذريعة مكافحة الإرهاب لضرب العراق وتصفية حساباتها مع بغداد،
فيما تواصل الصحف العراقية تنديدها بالضربات العسكرية لأفغانستان بوصفها
عملاً إجرامياً.
17/10/2001م: قال وزير الخارجية العراقي ناجي صبري أمس إن بلاده
قد رفضت رسالة أمريكية وجهت إليها عن طريق طرف ثالث، ولكنه لم يكشف
النقاب عن مضمونها.
23/10/2001م: نقل تلفزيون «الشباب» العراقي عن وزير الخارجية
العراقي ناجي صبري قوله في اتصال هاتفي أمس الأول: «في الحقيقة هناك في
الولايات المتحدة توجه يتولاه الصهاينة في الإدارة الأمريكية وعناصر أخرى في
هذه الإدارة تدفع الإدارة الأمريكية باتجاه توجيه العدوان على دول عربية أخرى
ومنها العراق» . وأضاف أن «الإنجليز أيضاً يلعبون دوراً في توسيع نطاق
العدوان لكي يشمل دولاً عربية وإسلامية أخرى من خلال تحريض صحفهم» .
29/10/2001م: أعلن نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز أمس أن
الولايات المتحدة وبريطانيا قررتا إطلاق ألف صاروخ على 300 هدف في العراق
من أجل الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين تحت ستار محاربة الإرهاب،
ووصف اتهام بغداد بأنها وراء موجة رسائل الجمرة الخبيثة بأنه «سخيف» ولا
أساس له.
13/12/2002م: قالت شركة النفط الروسية لوكويل العملاقة إنها تلقت
رسالة من وزارة النفط العراقية يلغي فيها العراق اتفاقاً مع الشركة لتحديث منشآته
النفطية بقيمة 3.7 مليار دولار، وكان يعتقد على نطاق واسع أن المصالح
الروسية في العراق هي السبب الرئيسي وراء مقاومة روسيا للخطط الأمريكية
الرامية إلى ضرب العراق، وكان العراق يعتمد على حماية موسكو له.
19/12/2002م: قال مسؤول بارز في حزب البعث الحاكم في بغداد رفض
الكشف عن اسمه إن المسؤولين الأميركيين حريصون باستمرار على التلويح
بالحرب على العراق لشن حرب نفسية عليه، لكنه أضاف أن العراقيين لن
يستسلموا، وسيقاومون الضغوط عليهم، فهم «يعيشون في دولة تكبدت عناء
الحرب لأكثر من 20 عاما» .
9/1/2003م: أعلن الفريق عامر السعدي المستشار في ديوان الرئاسة
العراقية أن العراق سيبلِّغ كبير المفتشين الدوليين هانز بليكس في زيارته المقبلة إلى
بغداد عما سماه تصرفات غير مسوَّغة يقوم بها خبراء الأمم المتحدة. وقال مراسل
الجزيرة في بغداد إن المسؤولين العراقيين عبروا عن ارتياحهم عند بدء عمليات
التفتيش بالمهنية التي كان يتسم بها عمل المفتشين، غير أنهم بدؤوا في وقت لاحق
يشكون مما سموه تدخل المفتشين في قضايا لا علاقة لها بأسلحة الدمار الشامل.
وأضاف أن بعض المسؤولين العراقيين وصفوا هذا التدخل بالعمل الاستخباري،
كما أن مدير أحد المواقع العراقية ذهب إلى تشبيه هذا العمل باللصوصية.
10/1/2003م: وجه العراق مناشدة مباشرة إلى أفريقيا لتقديم المزيد من
العون للحيلولة دون وقوع حرب مع الولايات المتحدة. وجاءت الدعوة خلال مؤتمر
برلماني أفرو عربي يعقد حالياً في أديس أبابا، أثيوبيا، وقال رئيس المجلس
الوطني العراقي، سعدون حمادي إن بلاده تعتقد بأن الدول الأفريقية قادرة على
عمل أكثر مما قامت به لحد الآن لممارسة ضغط على الولايات المتحدة.
17/1/2003م: قالت مجلة دير شبيجل الألمانية إن الحكومة العراقية تسعى
للحصول على ضمانات تسمح للرئيس العراقي صدام حسين والقيادات العراقية
الأخرى بالخروج إلى المنفى كحل لإنهاء الأزمة الراهنة. لكن خافيير سولانا
مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي أعلن يوم الجمعة أن لا علم له بأي
مبادرة من هذا النوع.
* موقف حلفاء أمريكا:
حلف الأطلسي:
28/9/2001م: كشف نائب قائد قوات حلف الناتو في أوروبا الجنرال
الأمريكي كارلتون فولفورد عن احتمالات وجود صلة للعراق مع أسامة بن لادن
ومع الأحداث التي تعرضت لها الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر
الحالي..
12/10/2001م: أعلن جورج روبرتسون أمين عام حلف الأطلسي الذي
التقى بوش عن استعداد الحلف لدعم الولايات المتحدة في استهداف العراق حال
ثبوت تورطه بهجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة.
15/1/2003م: قال مسؤول في حلف الأطلسي إن الولايات المتحدة طلبت
رسمياً من حلفائها في حلف الأطلسي يوم الأربعاء المساعدة والدعم في حالة نشوب
حرب ضد العراق.
بريطانيا:
1/10/2001م: ذكر تقرير صحفي بريطاني أمس أن الرئيس العراقي صدام
حسين أصدر توجيهات لكبار علمائه بقصر جهودهم على العمل في توسيع ترسانة
أسلحته الكيماوية والبيولوجية.. وقال التقرير الذي نشرته صحيفة صنداي تليجراف
إن واحداً من علماء النظام العراقي البارزين السابقين أبلغ الصحيفة بأن صدام أمر
بتجميد برنامج الأسلحة النووية لكونه باهظ التكاليف.
4/10/2001م: لمح وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية بين برادشو
أن المرحلة التالية من الحملة الدولية لمحاربة الإرهاب ستسلط الضوء على النظام
العراقي بسبب سوء سجله بحق شعبه إلى جانب الدول التي تدعم الإرهاب.
11/2/2001م: قال مسؤول بالحكومة البريطانية يرافق رئيس الوزراء
توني بلير في زيارته لسلطنة عمان إن أي بلد آخر لن يتعرض للهجوم دون «دليل
دامغ» على رعايته للإرهاب ودون أوسع تأييد دولي للعمل العسكري، وقال
المسؤول للصحفيين: «ليس لدينا دليل يربط النظام العراقي بأحداث 11 سبتمبر» .
15/10/2001م: صرح رئيس الوزراء البريطاني بأنه لا توجد أي نية لشن
حرب موسعة ضد العراق قائلاً: إن الحاجة تستدعي التعامل مع معاناة الشعب
العراقي دون تمكين الرئيس العراقي صدام حسين من الحصول على أموال لشراء
الأسلحة.
18/10/2001م: حول احتمالات توجيه ضربة ضد العراق أو أي دولة
عربية أخرى في إطار الحملة ضد ما يسمى بالإرهاب قال براد شو وزير الدولة
البريطاني لشؤون الشرق الأوسط بوزارة الخارجية البريطانية: إن التحالف الدولي
واضح في هذا الشان وهو التركيز على المسئولين عن هجمات الحادي عشر من
سبتمبر والقبض عليهم وتقديمهم إلى المحاكمة مشيراً إلى أن هناك قرارات للأمم
المتحدة باتخاذ إجراءات محددة لمحاربة الإرهاب. وأوضح أنه لا توجد أي أدلة
على ضلوع العراق أو أي دولة عربية أخرى في هجمات 11 سبتمبر معتبراً أنه
سيكون من الخطر التكهن بأي شيء في هذا الموضوع.
19/10/2001م: قال وزير الخارجية البريطاني جاك سترو في تصريح له
في أنقرة أمس أنه لا يوجد حتى الآن ما يشير لصلة العراق مع تنظيم القاعدة،
ويمكن بحث المسألة من جديد إذا تبين عكس ذلك.. واستطرد قائلاً إنه في ضوء
الوضع الحالي فليس مطروحاً على الأجندة القيام بعمليات عسكرية ضد العراق.
13/10/2001م: سعى وزير الدفاع البريطاني جيف هون إلى التقليل من
شأن تكهنات بأن للعراق صلة بالهجمات على الولايات المتحدة. ومضى قائلاً:
«ليس هناك دليل يربط العراق بأحداث 11 سبتمبر. ليس هناك دليل كذلك حتى
الآن يربط بين العراق وهجمات الجمرة الخبيثة في الولايات المتحدة. أعتقد أن من
المهم أن نؤكد على هذه الأمور» .
19/12/2002م: أعلن وزير الخارجية البريطاني جاك سترو أن القوات
البريطانية لن تشارك في حرب على العراق ما لم يصدر قرار ثان من الأمم المتحدة
بهذا الخصوص. ويرى مراقبون أن تصريحات سترو تمثل تراجعاً في الموقف
البريطاني السابق.
14/1/2001م: أيد جوردون براون، وزير المالية البريطاني، الذي يعتبر
الشخص الثاني في الحكومة البريطانية، التهديد الذي أطلقه رئيس الوزراء توني
بلير من أن الحرب على العراق قد تُعلن حتى وإن لم تفوض الأمم المتحدة ذلك.
دول أخرى:
17/10/2001م: أكد رئيس الوزراء الروسي السابق والبرلماني الروسي
البارز يفجيني بريماكوف أنه لا يمكن لروسيا أن تقدم دعماً ولا أن توافق أصلاً على
ضرب العراق كجزء من الحملة الأمريكية الحالية في أفغانستان، مشيراً إلى أن
موسكو قد حذرت واشنطن رسمياً بهذا الخصوص.
17/10/2001م: نفى رئيس وزراء كندا جان كريتيان أن تكون هناك خطط
عسكرية لمهاجمة العراق، مؤكداً أن مشاركة بلاده في التحالف تقتصر على
أفغانستان.
28/11/2002م: اعتبرت وزيرة التعاون الألمانية هايد ماري فيتسوريك
زويل أمس الأربعاء موقف الولايات المتحدة حيال حلفائها فيما يتعلق بالموقف من
العراق وقحاً. وأضافت الوزيرة أن المباحثات حول مخططات الحرب في العراق
تنفرها، لا سيما كلفة النزاع المحتمل التي تصل - على حد قولها - إلى أربعة
أضعاف النفقات العالمية للمساعدات من أجل التنمية.
25/12/2002م: من دون ذكر العراق بالاسم، خاطب يوحنا بولس الثاني،
بابا الفاتيكان، الجموع التي حجت إلى ميدان القديس بطرس في الفاتيكان، قائلاً:
إنه إذا تضافرت جهود الجميع فإنه بالإمكان إخماد «النيران المتقدة لأحد النزاعات
الوشيكة» .
30/12/2002م: أعلنت الصين وألمانيا أنهما ستعملان معاً على إيجاد حل
سياسي للأزمة العراقية.
31/12/2002م: خفف المستشار الألماني جيرهارد شرويدر في رسالته
بمناسبة العام الجديد من معارضته للقيام بعمليات عسكرية ضد العراق قائلاً: إن
القوة تصبح ضرورية في بعض الأحيان.
5/1/2003م: انتقد كبير الأساقفة في جنوب إفريقيا دزموند توتو موقف
رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الداعم للحرب المحتمل أن تقودها الولايات
المتحدة ضد العراق.
16/1/2003م: صرح ألكسندر سلطانوف نائب وزير الخارجية الروسي
لدى وصوله إلى العراق بأن بلاده تهدف إلى الوصول إلى حل سياسي دبلوماسي
للأزمة ومنع أي صراع عسكري. ويرافق سلطانوف في زيارته نائب وزير الطاقة
الروسي إيفان ملتاشوف ورئيس شركة النفط الروسية العملاقة لوكويل.
18/1/2003م: وقعت بغداد وموسكو أمس على عدد من الاتفاقيات النفطية
لتطوير واستكشاف حقول نفطية عراقية، حسب ما أفاد مسؤولون من كلا البلدين.
من جهتها أعلنت شركة «لوك أويل» النفطية الروسية أنها استعادت حقوقها في
حقل القرنة الغربي - 2 الذي ألغت بغداد الشهر الماضي عقداً معها لتطويره.
الأمم المتحدة:
30/12/2002م: أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً يوسع فيه قائمة السلع
المدنية التي لا يستطيع العراق إستيرادها دون موافقة مسبقة. وكانت الولايات
المتحدة قد دعت إلى القرار الذي يضيف سلعاً جديدة إلى قائمة السلع التي يمكن أن
يكون لها استعمال عسكري.
12/1/2003م: يقول متحدث باسم الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن الوكالة
تحتاج إلى عام واحد على الأقل للتحقق مما إذا كان العراق قد فكك برنامجه النووي.
وقال لبي بي سي: إن هذا هو رأي محمد البرادعي المدير العام للوكالة وهانز
بليكس رئيس فرق التفتيش الدولية عن الأسلحة العراقية.
17/1/2003م: كشفت تقارير أمريكية عن أن إدارة الرئيس بوش أطلعت
هانز بليكس ومحمد البرادعي المسؤولين عن عمليات التفتيش الدولي في العراق
على معلومات استخباراتية تفيد أن المسؤولين العراقيين حفروا مئات الكيلو مترات
من الأنفاق تحت الأرض في مناطق مختلفة وأنهم يستخدمون هذه الأنفاق لإخفاء
أسلحة دمار شامل كيميائية وجرثومية ومواد ومعدات ومكونات لها علاقة بإنتاج
أسلحة الدمار المحظورة بما في ذلك احتمال إنتاج السلاح النووي وصواريخ
أرض - أرض متوسطة وبعيدة المدى قادرة على نقل هذه الأسلحة.
15/1/2003م: شدد الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان على أهمية أن
يتخذ مجلس الأمن قراراً ثانياً ليحدد ماهية العواقب الوخيمة التي سيواجهها العراق
في حالة انتهاكه قرار مجلس الأمن 1441.
16/1/2003م: أعلن هانز بليكس، كبير مفتشي الأسلحة بالأمم المتحدة،
الخميس أن العراق انتهك الحظر الدولي باستيراد مواد عسكرية، مشيراً إلى أن
الموقف «خطير جداً» .
* موقف تركيا وإيران وإسرائيل:
إسرائيل:
12/9/2001م: ذكر موقع «جاينز سكيوريتي» المتخصص في شؤون
الدفاع على شبكة إنترنت أن جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي (امان)
يشتبه في أن العراق يقف وراء الاعتداءات التي ضربت نيويورك وواشنطن في
11 سبتمبر.
24/9/2001م: قال رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية الميجر جنرال
أموس مالكا إنه ليست هناك إشارات على تورط العراق في الهجمات.
10/10/2001م: أعلن وزير الحربية الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر أمس
أن إسرائيل مستعدة للمواجهة في حال توسعت الضربات الأمريكية لتشمل العراق.
11/10/2001م: أعلنت نائبة وزير الحربية الإسرائيلي داليا رابين
فيلوزوف أمس أن الولايات المتحدة ستبلغ إسرائيل مسبقاً باحتمال شن هجوم على
العراق الذي اعتبر بين الأهداف المحتملة للأمريكيين، وأضافت «ليس هناك من
شك بأن العراق هو بين أهداف الولايات المتحدة عاجلاً أم آجلاً» .
26/10/2001م: نقلت صحيفة «بيلد» الألمانية عن مصادر للمخابرات
الإسرائيلية لم تذكر اسمها قولها إن عطا المشتبه بقيادته طائرة صدمت مبنى مركز
التجارة العالمي حصل على بكتيريا الجمرة الخبيثة من عملاء عراقيين خلال
زيارتين لجمهورية التشيك.
31/10/2001م: أعرب وزير الخارجية الإسرائيلي بيريز في حوار أجرته
معه مجلة «نيوزويك» الأمريكية تنشره بعددها الصادر في 5 نوفمبر المقبل عن
اعتقاده بأن العراق مدرج على قائمة الأهداف التي ستطالها الضربات.. لكنه
أوضح أن قرار القتال على جبهتين من عدمه قرار عسكري بحت. ونصح الإدارة
الأمريكية بالتخلص من طالبان أولاً.. مشيراً إلى أن العراق وسوريا على القائمة
لكن الأفضل التركيز على جبهة واحدة. فالعراق في رأيه بلد مرعب وسيأتي دوره
على حد قوله.
إيران:
11/10/2002م: أكدت مصادر إيرانية مطلعة أن وزير الخارجية البريطاني
جاك سترو طمأن المسؤولين الإيرانيين الذين التقاهم في طهران إلى أن الحرب ضد
العراق، إذا نشبت، «فلن تتجاوز حدود العراق» ، وإن التغيير في نظام الحكم
في العراق «لن يكون موجهاً ضد إيران أو أي بلد آخر» مجاور للعراق. وقالت
المصادر التي كانت تتحدث إلى «الشرق الأوسط» أمس إن سترو أكد للرئيس
محمد خاتمي ووزير خارجيته كمال خرازي وسكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني
حسن روحاني أن «محور الشر» بالمفهوم البريطاني والأميركي «يبدأ في
العراق وينتهي في العراق» ولم تعد إيران وكوريا الشمالية ضلعين له.
16/11/2002م: نقلت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية عن
دبلوماسي غربي في طهران قوله: إن هناك افتراضًا أساسيًا مفاده أن الإيرانيين
راغبون بالتعاون مع الولايات المتحدة ليس لأنهم يكرهون صدام حسين ولكنهم لا
يريدون أن يُتركوا على الهامش، وأضاف الدبلوماسي الغربي قائلاً: لديهم تأثير
قوي على شيعة العراق، ولماذا لا يكون هذا التأثير إيجابيًا بدلاً من أن يكون سلبيًا؟
15/1/2003م: أعرب مسؤولون إيرانيون بارزون عن اعتقادهم بأن
الولايات المتحدة لن تهاجم العراق في فترة ما قبل موسم الحج، وأكدوا في الوقت
نفسه على حياد بلادهم في أي حرب قد تشنها واشنطن على بغداد.
تركيا:
11/10/2001م: حذرت تركيا أمس من دوامة الدم والنار التي ستهب في
حال وسَّعت الولايات المتحدة نزاعها ضد الإرهاب إلى دول أخرى في المنطقة في
إشارة إلى العراق جارتها في الجنوب.
16/10/2001م: أعلن نائب رئيس الوزراء التركي مسعود يلماظ أمس أن
تركيا لا تستبعد أن تتسع العملية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، لتمتد إلى العراق،
وهو احتمال ستحاول تفاديه.
17/10/2001م: اعتبر رئيس الوزراء التركي بولنت أجاويد أنه ليس من
الصحيح أن يمتد نطاق العملية العسكرية الأمريكية الحالية في أفغانستان ليشمل
العراق، مؤكداً أن تركيا لن تقبل ذلك وأنها أوضحت منذ اللحظة الأولى رغبتها في
أن تقتصر العملية على نطاق أفغانستان وألا تستغرق فترة زمنية طويلة.
18/10/2001م: بعد الحملة الإعلامية والسياسية التي شنتها أوساط تركية
على رأسها رئيس الوزراء بولند أجاويد ضد مساعي أكراد العراق للحصول على
فيديرالية كردية في شمال العراق، بدأت أنقرة تعيش تحولاً تدريجياً ومهماً باتجاه
قبول الحل الفيديرالي في العراق مستقبلاً، بدأت إشاراته الأولى تظهر في أهم
الصحف التركية وعلى ألسنة مسؤولي وزارة الخارجية.
27/12/2002م: قال رجب طيب أردوغان زعيم الحزب الحاكم في تركيا
إن بلاده لن تحسم موقفها إزاء أي هجوم على العراق حتى يتخذ مجلس الأمن
الدولي موقفاً واضحاً في هذا الشأن.
3/1/2003م: فيما تواصل الولايات المتحدة حشد قواتها في منطقة الخليج،
قال وزير الخارجية التركي إن حكومة بلاده أيدت الضغوط الأمريكية على العراق
لكن الشعب التركي يعارض تمركز القوات الأمريكية في بلاده.
6/1/2003م: أشار رئيس الوزراء التركي عبد الله غل إلى أن تركيا قد
تسمح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها العسكرية في حال شن حرب على العراق.
وأكد في تصريح من القاهرة لشبكة التلفزة الأميركية «سي. إن. إن» أن
القرار يعود إلى البرلمان التركي، كما أعلن عبد الله غل أمس رفض بلاده لأي
محاولة لتقسيم العراق. وقال عقب محادثاته مع الرئيس المصري حسني مبارك في
شرم الشيخ إن تركيا تعمل بكل جدية لتجنب شن حرب على العراق، مشيراً إلى أن
قيام الحرب سيلحق ضرراً كبيراً بكل دول المنطقة.
13/1/2003م: كشف غل الذي التقى السبت مسؤولين سعوديين، أن إيران
وتركيا والسعودية قد تقترح مسعى مشتركاً لتفادي الحرب. وقال إنه كلف الوزير
التركي المكلف شؤون التجارة الخارجية تسليم رسالة إلى الرئيس العراقي صدام
حسين سيكشف مضمونها في الأيام المقبلة.
18/1/2003م: قالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إن الجنرال
ريتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان المشتركة سيجري محادثات مع مسؤولين
عسكريين وحكوميين في تركيا ابتداء من بعد غد. وأضافت الوزارة في بيان أن
مايرز سيصل إلى تركيا بعد أن يتوقف في بلجيكا وإيطاليا. كما يصل إلى أنقرة
الأسبوع المقبل وفد من الكونغرس الأميركي برئاسة السيناتور جون وورنر، ليؤكد
للجانب التركي نية الكونغرس في المصادقة على تشريع ربما يساعد تركيا في
امتصاص أية صدمات اقتصادية بتقديم ائتمانات تصل إلى حوالي 14 مليار دولار.
ومع مواصلة الولايات المتحدة حشد قواتها لحرب محتملة على العراق فإن تركيا لم
تمنح واشنطن حتى الآن إذناً لشن هجوم على العراق من أراضيها مخافة أن تمتد
الحرب إلى حدودها وتثير اضطرابات اقتصادية واجتماعية.
الموقف العربي الرسمي:
1/10/2001م: أكد العاهل الأردني عبد الله الثاني أن الرئيس الأميركي
جورج بوش تعهد أثناء محادثاته معه الجمعة الماضية بأنه لن يكون هناك ضربة
للعراق ولا لأي دولة عربية في إطار حملة واشنطن ضد ما تسميه الإرهاب.
وجاءت تصريحات العاهل الأردني أثناء زيارته لإحدى كتائب الجيش الأردني.
5/10/2001م: قال أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري:
موقف مصر واضح من موضوع مكافحة الإرهاب، مشيراً إلى أن بلاده مطمئنة
إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن تدين بلداً عربياً بتنفيذ الاعتداءات
الإرهابية الأخيرة، ومؤكداً أن العراق لم يقم بأي شيء؛ فكيف يُضرب إذن؟
15/10/2001م: ذكرت أمس صحيفة «ميلليت» التركية أن العاهل
الأردني الملك عبد الله حذر من أنه إذا ما استهدفت واشنطن العراق فسيفتح ذلك
الطريق لحدوث هزة في العالم العربي، مشيرة إلى أن الرئيس التركي سيزر وعبد
الله اتفقا على ضرورة أن يتعاون العراق وبخاصة في هذه الفترة الحرجة مع الأمم
المتحدة والتصرف بأكبر قدر من المسؤولية في هذا الخصوص وأنهما سيوصيان
العراق للسير في هذا الاتجاه.
24/10/2001م: صرح وزير الخارجية المصري أحمد ماهر أن «بعض
الشخصيات الأمريكية تطالب بضرب العراق (بعد أفغانستان) . في حال حصل
هذا الأمر فسوف ترون ليس فقط شعوباً في حالة غضب ولكن حكومات في حالة
غضب» .
13/10/2001م: أعلن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أن الإدارة
الأمريكية أكدت له خلال زيارته الأخيرة لواشنطن بأن العراق ليس مستهدفاً في
إطار الحرب على الإرهاب.
13/10/2002م: أعلن وزير الخارجية البريطاني جاك سترو أمس أن مصر
والأردن وإيران والكويت يمكن أن تعتبر العمل العسكري ضد العراق
«مشروعًا» بشرط أن يكون «مسموحًا به أمام القانون الدولي» وأن لا يتم
إلا «كخيار أخير» .
29/12/2002م: نفى وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الأنباء
التي ذكرت الأحد أن السعودية سمحت للقوات الأمريكية باستخدام قواعدها الجوية
ومنشآتها العسكرية في حال قررت واشنطن شن هجوم على العراق.
29/12/2002م: حذرت هيئة قناة السويس المصرية اليوم الأحد من أن شن
حرب أمريكية على العراق سيؤدي إلى انخفاض نسبته 10% في عائدات القناة التي
تعتبر ثاني أكبر مصدر للدخل القومي في مصر بعد السياحة.
4/1/2003م: قال السيناتور الأميركي أرلين سبكتر عقب لقائه اليوم في
القاهرة الرئيس المصري حسني مبارك إن بلاده قد تزيد حجم المساعدات
المخصصة لمصر في حال حصول حرب على العراق، وأوضح سبكتر للصحفيين
أن الولايات المتحدة تعتبر مصر «صديقاً جيداً جداً وحليفاً جيداً جداً» ، وأن
موضوع زيادة هذه المساعدات سيكون موضع اعتبار إذا فرضت الأوضاع ذلك.
7/1/2003م: أكد سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي أنه لا
يجوز أن تدخل الولايات المتحدة في صراع ضد العراق بدون تفاهم دولي واسع.
وقال في حديث لمجلة «نيوزويك» الأمريكية: «نأمل أن يكون أي قرار حول
الحرب موضع تفاهم» . وأشاد بمواقف الرئيس الأمريكي جورج بوش وإدارته
حول العراق، وخاصة ما أعلن أخيراً «أن الحرب ستكون الخيار الأخير من أجل
تسوية المسألة العراقية» .
13/1/2003م: أعرب ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز
عن اعتقاده بأن العراق لن يتعرض لهجوم عسكري رغم الحشود الأمريكية
والبريطانية التي ترجح احتمال شن حرب على بغداد بقرار من مجلس الأمن الدولي
أو بدونه.
13/1/2003م: حذر العاهل الأردني الملك عبد الله من أن نشوب حرب في
العراق سيعمل على ازدياد الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين سوءاً وقد يتسبب
في المعاناة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وكرر الملك عبد الله تأكيد موقف
الأردن من أنه لن يقدم أي تسهيلات للقوات الأمريكية في أي حرب مع العراق.
التحركات العسكرية:
21/9/2001م: أعلن متحدث عسكري عراقي أن القوة الصاروخية
والمقاومات الأرضية أصابت أمس طائرتين «معاديتين» كانتا تقومان بشن
غارات على منشآت مدنية فوق جنوب البلاد.
12/10/2001م: أكد القائد العسكري العراقي اللواء منذر عبد الرحمن
إبراهيم أن بلاده تحولت من مسؤولية التصدي للطائرات الأمريكية والبريطانية التي
تنتهك أجواءها إلى مهمة إسقاطها على حد تعبيره مشيرا إلى أن العراق مستمر في
تطوير قدرات دفاعه الجوي وتعزيز فعاليته القتالية.
24/11/2002م: أكدت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية الأحد 24/11/
2002م أن الحرب ضد العراق قد بدأت بالفعل، وأنه في الوقت الذي تُجرى فيه
الاستعدادات العلنية للغزو تواصل المقاتلات البريطانية والأمريكية تدمير الدفاعات
الجوية العراقية، بينما تقوم وحدات خاصة متمركزة بالفعل داخل الأراضي العراقية
بتدريب الأكراد وتكديس المعدات الحربية استعداداً لساعة الصفر.
18/12/2002م: صعّدت الولايات المتحدة من حربها النفسية ضد الرئيس
صدام حسين بتوجيه رسائل إذاعية إلى الجيش والمدنيين في العراق. وتوجه هذه
الرسائل طائرات أمريكية تحلق فوق العراق. وتحث الرسائل العراقيين على رفض
الرئيس صدام حسين، متهمة إياه بشراء أسلحة بدل الطعام بالأموال التي يحصل
عليها من مبيعات النفط. وأسقطت الطائرات الأمريكية والبريطانية أكثر من 500
ألف منشور لتحذير القوات العراقية من إصلاح منشآت الاتصالات.
22/12/2002م: أعلنت القيادة المركزية الأميركية أن طائرات تابعة
للولايات المتحدة وحلفائها ألقت منشورات فوق جنوب العراق أمس السبت لتعلن
عن الترددات الإذاعية التي تحمل نداءات للجنود العراقيين للتخلي عن الرئيس
صدام حسين. وهذه ثامن عملية من نوعها لإلقاء منشورات عن طريق الجو خلال
الأشهر الثلاثة الماضية.
22/12/2002م: كشف مسؤولون إسرائيليون عن أن الولايات المتحدة
وإسرائيل ستجريان مناورات عسكرية مشتركة لدمج أنظمتهما الصاروخية وذلك
كجزء من استعدادات إسرائيل لأي هجوم عراقي في حال شنت الولايات المتحدة
حرباً على العراق.
28/12/2002م: كشفت تقارير عبرية أمس عن تقييمات استخبارية
إسرائيلية تناقض السيناريوهات والتصورات الأميركية للحرب على العراق،
وتعتبرها في منتهى السذاجة وترجح غرق القوات الأميركية في مستنقع فوضى في
العراق والمنطقة ككل قد يستمر لسنوات طويلة وينتهي بإخفاق المخططات الأميركية
ومراميها وراء هذه الحرب.
4/1/2003م: قال مسؤولون في البحرية الأميركية إن ثلاث سفن حربية
إضافية ستبحر من مقرها في سان دييغو بالولايات المتحدة الأسبوع القادم في مهمة
إلى منطقة الخليج. وقال اللفتنانت تشارلي براون إن المهمة ستستغرق ستة أشهر
وتشمل مجموعة تاراوا البرمائية المكونة من ثلاث سفن ووحدة مشاة البحرية
الخامسة عشرة في الجيش الأميركي. وكانت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)
قد أصدرت في وقت سابق أمس أوامر مماثلة لقوات متمركزة في ألمانيا وأخرى في
كاليفورنيا إضافة إلى وحدات دفاع جوية صاروخية في تكساس للتحرك إلى منطقة
الخليج. وفي لندن قالت صحيفة ديلي تلغراف اليوم السبت إن بريطانيا سترسل
قوات قوامها أكثر من 20 ألف فرد إلى منطقة الخليج وستحشد نحو سبعة آلاف من
الاحتياط الأسبوع القادم في إطار الاستعدادات لحرب محتملة ضد العراق. وتعليقاً
على تقرير الصحيفة قال متحدث باسم وزارة الدفاع «نعد العدة ليكون أمامنا
خيارات متاحة إذا لزم الأمر وسنفعل المزيد على الأرجح» .
11/1/2003م: قالت مصادر بالبنتاغون إن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أمر
خمسة وثلاثين ألف جندي إضافي بالتوجه إلى الخليج، في إطار الاستعداد لشن
حرب على العراق. وتضم الدفعة الجديدة وحدات من مختلف القوات التي ينتظر
أن يصل تعدادها في منطقة الخليج خلال الأسابيع القادمة إلى مائة وعشرين ألف
جندي، ضمن ما وصف بأضخم حشد عسكري أميركي لمواجهة العراق.
12/1/2003م: أبحرت حاملة الطائرات البريطانية آرك رويال في اتجاه
الخليج تحسباً لاحتمال اندلاع حرب ضد العراق، لتكون على رأس أكبر قوة بحرية
بريطانية يجري نشرها منذ حرب فوكلاند عام 1982م، وجرى ترتيب سطح
الحاملة بإزالة المقاتلات لكي يتسع لطائرات الهليكوبتر القادرة على حمل القوات،
حتى تقوم بنقل مشاة البحرية. وتنقل آرك رويال خمسة آلاف بحار وثلاثة آلاف
من مشاة البحرية أولاً إلى البحر المتوسط ثم إلى قناة السويس. ومن المقرر أن
يقوموا بزيارة الموانئ في الخليج في أبريل / نيسان المقبل , إلا أنه يمكن نشرهم
هناك قبل ذلك إذا لزم الأمر.
12/1/2003م: في إطار الحرب النفسية التي تشنها إدارة العمليات الخاصة
الأميركية، قالت مصادر عسكرية إن الجيش الأميركي بدأ حملة توجيه رسائل
بالبريد الإلكتروني يدعو فيها أفراد القيادة المدنية والعسكرية بالعراق للابتعاد عن
الرئيس صدام حسين.
13/1/2003م: قالت مصادر عسكرية في فلوريدا إن الطائرات الأمريكية
والبريطانية قصفت منصات انطلاق صواريخ مضادة للسفن بالقرب من مدينة
البصرة في جنوب العراق. وقال المصدر إن القصف يندرج في إطار عمليات
الدفاع عن النفس في منطقة حظر الطيران لأن تلك الأهداف خطر على القوات
الغربية في الخليج.
التحركات الشعبية:
1/12/2002م: تجمع نحو خمسة آلاف متظاهر في إسطنبول مطالبين
الحكومة التركية بعدم المشاركة في أي عمل عسكري بقيادة الولايات المتحدة ضد
العراق. وحث المتظاهرون، الذين كانوا يحملون لافتات تحمل شعارات تنادي
بالسلام، الحكومة على عدم استخدام واشنطن للقواعد العسكرية التركية في أي
عملية يتم القيام بها في المستقبل.
11/12/2002م: احتشد المئات من معارضي الحرب في واشنطن الثلاثاء
في بداية يوم من الاحتجاجات المنسقة في شتى أنحاء الولايات المتحدة احتجاجاً على
الحرب المحتملة ضد العراق. وقال منظمون إن المسيرات والتجمعات ستنظم في
نحو 100 بلدة ومدينة لتتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان. وسار المتظاهرون
وسط برد قارس، رافعين لافتات مناهضة لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش
تقول إحداها: «لا لهذه الحرب النفطية» .
13/12/2002م: أعلن منظمو تظاهرة للتضامن مع العراق كان يفترض أن
تجري اليوم في العاصمة التونسية أن السلطات هناك منعت المسيرة لأسباب وصفت
بأنها أمنية، وكان من المقرر أن تنطلق المسيرة ظهر اليوم في وسط تونس
العاصمة. واحتج المنظمون في بيان على هذا القرار وأعربوا عن «إدانتهم لموقف
السلطات» .
19/12/2002م: نظم نحو 2000 شخص يمثلون مختلف التيارات السياسية
في القاهرة مؤتمراً شعبياً حاشداً لإعلان رفضهم لأي عمل عسكري أميركي محتمل
ضد العراق. وقد أعلن المشاركون في المؤتمر الذي شاركت فيه شخصيات عربية
ودولية بارزة، عن بدء حملة شعبية لرفض ما وصفوه العدوان الأميركي على
العراق، ووجهوا انتقادات حادة للسياسة الأميركية تجاه العالم العربي، كما طالت
انتقاداتهم المواقف الرسمية العربية تجاه ما يجرى ووصفوها بالسلبية.
2/1/2003م: نظم ائتلاف مؤيد للعراق يضم مجموعات سياسية ونقابية
مغربية اليوم الخميس مظاهرة أمام مقر السفارة القطرية بالمغرب، شارك فيها نحو
خمسين شخصاً لإدانة ما أسموه تحالف دولة قطر مع الولايات المتحدة وبريطانيا
بهدف «شن عدوان» على العراق. وقال المتحدث باسم منظمي المظاهرة
المحامي خالد سفياني إن الدوحة «أصبحت أشبه بحاملة طائرات أميركية» .
4/1/2003م: ندد آلاف الباكستانيين بالولايات المتحدة وأحرقوا دمى تمثل
الرئيس الأميركي جورج بوش، وهددوا أثناء المظاهرات التي عمت مدن باكستان
الكبرى بمهاجمة الأميركيين الموجودين في باكستان في حال شن حرب على العراق.
وقال زعيم ائتلاف «مجلس العمل المتحد» الإسلامي المولوي سميع الحق
في مظاهرة ضمت المئات من أنصاره في إسلام أباد إنه إذا هاجمت الولايات
المتحدة العراق فإن ذلك سيفتح الطريق أمام حرب في باكستان، وقال «لن
يكون أي أميركي آمنا هنا» . وأضاف أن «الأميركيين تجاوزوا كل الحدود في
باكستان، إنهم يتدخلون في شؤوننا ويهاجمون بيوتنا ويوقفون المسلمين الأبرياء بما
في ذلك القادة الدينيين، ويقصفون أراضينا دون أن يشعروا بالخجل» ، واصفاً هذه
الأفعال بأنها غير مقبولة.
4/1/2003م: أكد مثقفون وسياسيون مصريون أن الولايات المتحدة تستهدف
اقتلاع الشعوب والثقافة العربية وتحويل المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية بحيث
تكون إسرائيل هي القوة الأعظم بين هذه الدويلات. وقال مجدي حسين أمين عام
حزب العمل المجمد ومقرر لجنة الحريات بنقابة الصحفيين إن العالم الإسلامي
يواجه حالياً حملة استعمارية تقليدية لاحتلال الأرض وفرض السلطان والاستيلاء
الكامل على الثروات والأسواق. وشن في ندوة نظمتها لجنة الحريات بنقابة
الصحفيين مساء أمس الأول هجوماً شديداً على الإعلام الرسمي المصري.
12/1/2003م: تظاهر قرابة خمسة آلاف شخص في لوس أنجلوس بولاية
كاليفورنيا احتجاجاً على شن حرب باسم الأميركيين على العراق، ومن المقرر أن
تنطلق تظاهرة أخرى في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا نهاية الأسبوع.
وفي لندن تجمع مئات من مناهضي الحرب في قاعة بلندن للإعراب عن
معارضتهم لأي إجراء عسكري في الخليج وللتخطيط لتنظيم احتجاجات في
المستقبل.
وفي سيدني تظاهر مئات الأطباء الأستراليين خارج منزل رئيس الوزراء
جون هوارد تعبيراً عن رفضهم للتدخل العسكري في العراق.
وسلم وفد يمثل 700 عضو في المنظمة الطبية للوقاية من الحرب مذكرة
لرئيس الحكومة تتضمن وصفة للسلام لحث هوارد على عدم إرسال أي قوات
أسترالية للمشاركة في الحرب على العراق. وحث الوفد الحكومة على التعاون مع
الأمم المتحدة لحل المسألة سلمياً في العراق كما تفعل أستراليا في موضوع كوريا
الشمالية.
12/1/2003م: تظاهر أمس الأحد نحو خمسة آلاف شخص في العاصمة
المغربية الرباط ضد الحرب المحتملة على العراق. وأدان المتظاهرون مواقف
الدول العربية في مواجهة سياسات الولايات المتحدة، وطالب المنظمون بإلغاء اتفاق
وقع عام 1982م يسمح للولايات المتحدة باستعمال قواعد عسكرية في المغرب.
وأكدوا أن هذه المظاهرة ستعقبها حركات احتجاج أخرى في كل أنحاء المغرب ثم
تتوج بمظاهرة وطنية كبرى.
17/1/2003م: تظاهر نحو ألف شخص في البحرين يوم الجمعة وهم
يهتفون (تسقط أمريكا) و (لا للحرب من أجل النفط) ضد حرب محتملة تشنها
الولايات المتحدة ضد العراق. وقال شهود عيان إن رؤساء الجمعيات الرئيسية في
البحرين كانوا في مقدمة المسيرة التي انطلقت إلى مكاتب الأمم المتحدة في العاصمة
البحرينية المنامة قرب القاعدة الأمريكية.
18/1/2003م: (غضب عربي وعالمي ضد الحرب الأميركية على
العراق) : شهد العديد من مدن العالم مظاهرات عارمة للتنديد بالحرب التي تعد
الولايات المتحدة لشنها على العراق في مقدمتها العاصمة الأميركية. فقد بدأت في
واشنطن مظاهرات حاشدة بمبادرة من دعاة السلام في الولايات المتحدة:
ففي أمريكا نفسها: حيث بدأت في واشنطن مظاهرات حاشدة بمبادرة من دعاة
السلام في الولايات المتحدة يشارك فيها حوالي 200 ألف شخص من مختلف المدن
الأميركية ويمثلون جهات عديدة.. وقد طالب المتظاهرون بعدم شن حرب على
العراق مطالبين البيت الأبيض بالتراجع عن أي خطط والسماح لمفتشي الأسلحة
التابعين للأمم المتحدة بمواصلة أعمالهم.
وفي أوروبا: تجمع آلاف المتظاهرين في لندن للتنديد بالحرب المحتملة، في
حين شارك المئات في تظاهرة سلمية قرب مطار شانون في أيرلندا احتجاجاً على
استخدامه لتزويد الطائرات العسكرية الأميركية بالوقود.
وفي فرنسا تظاهر آلاف الأشخاص في باريس رفضاً للحرب الأميركية على
العراق بناء على دعوة من نحو 40 منظمة تضم حركات سلمية وأحزاباً سياسية
يسارية ونقابات طلابية وجمعيات محاربين قدامى وحركات نسائية. ويفترض أن
تشهد نحو 40 مدينة وبلدة فرنسية تجمعات مماثلة.
ونظمت تظاهرات في ألمانيا شارك فيها آلاف الأشخاص احتجاجاً على حرب
محتملة على العراق. وتظاهر في شوارع مدينة روستوك شمالي شرقي البلاد نحو
خمسة آلاف شخص في حين شارك نحو ألف شخص في مسيرة بمدينة توبينغن
جنوبي غربي ألمانيا. ومن المتوقع أن تسير في برلين تظاهرة ضخمة في منتصف
الشهر المقبل احتجاجاً على الحرب في العراق.
وفي السويد تظاهر نحو ستة آلاف شخص في غوتبرغ جنوبي غربي البلاد
للتنديد بالحرب الأميركية المقبلة على العراق.
وقد اجتاح عدداً من العواصم العربية اليوم غضب شعبي عارم مناهض
للحرب على العراق. وشهدت العاصمة السورية دمشق كبرى تلك التظاهرات حيث
شارك فيها أكثر من 15 ألف شخص وشارك فيها فلسطينيون.
وفي بيروت تظاهر نحو ثمانية آلاف لبناني وفلسطيني للتنديد بالحرب المقبلة
على العراق في أكبر تظاهرة تنظم في العاصمة اللبنانية منذ بدء الأزمة العراقية.
وفي مصر انطلقت مسيرة من ميدان السيدة زينب وسط القاهرة، تضامناً مع
الشعبين العراقي والفلسطيني في مواجهة التهديدات الأميركية والتصعيد الإسرائيلي.
وشارك في المظاهرة التي جرت وسط إجراءات أمنية مشددة، لمنعها من الخروج
إلى الشوارع الفرعية أكثر من ألف شخص يمثلون مختلف القوى السياسية
المصرية.
وفي الأردن شارك مئات الأشخاص في مظاهرات نظمها التيار الإسلامي في
عمان للتنديد بالحرب المحتملة على العراق أحرق خلالها المتظاهرون العلمين
الأميركي والإسرائيلي، ورددوا هتافات معادية لواشنطن ومتضامنة مع العراق.
وسلم متظاهرون في المغرب رسالة إلى السفارة الأميركية في الرباط موجهة
إلى الرئيس جورج بوش طالبوه فيها بوقف تنفيذ ما أسموها مخططات إرهابية
سرية وعلنية للعدوان على العراق.
وفي آسيا: شهدت عدد من المدن الآسيوية مظاهرات مناوئة للحرب على
العراق: ففي طوكيو تظاهر خمسة آلاف شخص في وسط المدينة احتجاجاً على
الحرب.
وفي باكستان عبر آلاف الأشخاص اليوم عن معارضتهم للحرب المحتملة على
العراق في تظاهرات شهدتها المدن الكبرى، رفع خلالها المتظاهرون لافتات تندد
بالولايات المتحدة وتطالب بالسلام. وقد منعت قوات الأمن المتظاهرين من التوجه
إلى قنصلية الولايات المتحدة لتسليم مذكرة ضد شن عملية مسلحة على العراق.(184/52)
المسلمون والعالم
البعث.. ما هو الدور الجديد؟!!
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
لقد عاش المشرق العربي حالة من الضياع وعدم الاتزان بعد هزيمة الدولة
العثمانية في الحرب العالمية الأولى ومن ثم سقوط الخلافة الإسلامية؛ فقد انسحبت
القوات العثمانية من العراق والشام متراجعة أمام قوات الإنجليز والثوار العرب،
ومفسحة المجال لبريطانيا وفرنسا لتنفيذ اتفاقية سايكس بيكو السرية لتقاسم أراضي
الدولة العثمانية؛ بحيث تكون الشام من نصيب فرنسا لإنشاء كيان نصراني في
لبنان، وتكون فلسطين وشرق الأردن والعراق من نصيب الإنجليز الذين كان همهم
الأساس هو إقامة كيان يهودي في فلسطين.
ويلاحظ أن الجهد الأساسي في هذه المنطقة قامت به بريطانيا وبدون مشاركة
فرنسية، حيث تم الاتفاق مع الشريف حسين وأولاده على الثورة والمشاركة في
العمليات العسكرية في بلاد الشام والحجاز الذي شاركت فيه قوات الإنجليز مع
قوات المستعمرات من أستراليا وجنوب أفريقيا، أما بخصوص الحملة على العراق
فقد شاركت فيها قوات إنجليزية وهندية. وقد حاولت بريطانيا نتيجة لذلك حكم
معظم بلاد الشام عن طريق تنصيب فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا وأخيه عبد
الله أميراً على شرق الأردن، وفرض حكم مباشر على فلسطين والعراق.
وقد تعرقل المشروع بسبب الثورات العراقية المتتالية ضد الإنجليز، وبسبب
التدخل العسكري الفرنسي لأخذ نصيبهم من المنطقة وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو.
لقد تعرضت قوات الإنجليز في العراق للعديد من الثورات، ولاقت الإدارة
البريطانية في العراق صعوبات جمة في السيطرة على العراق وخصوصاً بعد ثورة
آب 1920م والتي أجبرت الحكومة البريطانية على تغيير سياستها بالتحول من
استعمار مباشر إلى حكومة إدارة وطنية تحت الانتداب، وكان الملك فيصل بن
الحسين، الذي طردته القوات الفرنسية من الحكم في سوريا بعد هزيمة القوات
السورية في معركة ميسلون هو أقوى المرشحين لمنصب ملك العراق، وأخيراً توج
ملكاً على العراق في يوم 23/8/1921م بعد استفتاء أجري من قِبَل الإدارة
الإنجليزية، وهكذا تم نقل خدماته من دمشق إلى بغداد آخذاً معه دعاة القومية
العربية الذين التفوا حوله في سوريا ومن أشهرهم ساطع الحصري الذي تولى حقيبة
التربية والتعليم في العراق.
لقد تميزت فترة الانتداب بقيام نظام جمهوري برلماني في سوريا، وملكية
دستورية في العراق والسماح بمظاهر ديمقراطية؛ ولكن نقطة الضعف الأساسية هو
عدم وضوح الهوية؛ فقد نجح الاحتلال في إسقاط فكرة الجامعة الإسلامية، وحاول
جاهداً تشجيع كل راية جاهلية مما أوجد حالة من الصراع العنيف بين اتجاهات
كثيرة لسد الفراغ، وكانت الشعارات غير الإسلامية، تتفاوت بين الفينيقية
والآشورية والقومية الوطنية والشيوعية.
ومن جانب آخر ظهرت في المنطقة شعارات مشكَّلة من خليط مما سبق؛
فمثلاً تيار الناصرية يعتمد على الفكر القومي الوطني مع اشتراكية اقتصادية؛ أما
التيار البعثي فهو يشبهه ولكن يتميز عنه ببروز البعد اللاديني؛ لأن قادته
التاريخيين هم في الأساس من غير المسلمين، وقد سيطر على المنطقة حالة صراع
دامٍ وعنيف بين هذين الاتجاهين؛ ولما كان الاتجاه البعثي هو الأقدم وأيضاً هو
الموجود على الساحة بصفته التنظيمية فإنني في هذه العجالة سأقدم للقارئ الكريم
فكرة مبسطة عن التيار البعثي تعينه في فهم الأحداث الحالية.
لقد ظهرت فكرة الحزب في أواسط الثلاثينيات الميلادية، وأُشهِر رسمياً في
أواخر الأربعينيات في سوريا، وشارك في الحكم في كل من سوريا والعراق ابتداءً
من 1958م، وانفرد بحكم كل من سوريا والعراق في أواخر الستينيات إلى الوقت
الحاضر:
- في سنة 1932م عاد من باريس قادماً إلى دمشق كل من ميشيل عفلق
(نصراني ينتمي إلى الكنيسة الشرقية) وصلاح البيطار (سني) وذلك بعد دراستهم
العالية محملين بأفكار قومية وثقافة أجنبية.
- أصدر التجمع الذي أنشأه عفلق والبيطار مجلة الطليعة مع الماركسيين سنة
1934م، وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم: (جماعة الإحياء العربي) .
- في نيسان 1947م تم تأسيس الحزب تحت اسم: (حزب البعث العربي) ،
وقد كان من المؤسسين: ميشيل عفلق، صلاح البيطار، جلال السيد، زكي
الأرسوزي، كما قرروا إصدار مجلة باسم البعث.
- كان لهم دور في حكومة شكري القوتلي الذي حكم مرتين ووقع اتفاقية
الوحدة مع مصر سنة 1958م.
- أيدوا الوحدة مع مصر، واشتركوا في حكومتها برئاسة جمال عبد الناصر:
1958 - 1961م.
- وقفوا بقوة مع الانفصال عن مصر: وقد دام الانفصال من 28/9/1961م
وحتى 8/3/1963م. وقد قاد حركة الانفصال عبد الكريم النحلاوي.
- منذ 8/3/1963م وإلى اليوم فقد سيطر البعثيون على الحكم في سوريا عن
طريق عدة حكومات برز فيها الصراع الطائفي بين النصارى والدروز
والإسماعيليين والنصيريين، واستقر الحكم للنصيريين مع واجهات سنية في
كل مرحلة مثل صلاح البيطار وأمين الحافظ (1963م - 1966م) ونور
الدين الأتاسي (1966م - 1970م) ومصطفى طلاس وعبد الحليم خدام،
وغيرهم.
- أما عن الجناح العراقي من حزب البعث فقد استولى على السلطة في
العراق بعد أحداث دامية سارت على النحو التالي:
استيلاء حزب البعث على ناصية الحكم في العراق:
- في الرابع عشر من شهر يوليو عام 1958م دخل أحد أولوية الجيش بقيادة
عبد السلام عارف إلى بغداد واستولى على محطة الإذاعة، وأعلن الثورة على
النظام الملكي، وقتل الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله ونوري السعيد
رئيس وزرائه، وأعوانه، وأسقط النظام الملكي؛ وبذلك انتهى عهد الملك فيصل،
ودخل العراق دوامة الانقلابات العسكرية. وقامت حكومة يُمَثَّل فيها حزب البعث
فقط بشخص أمينه العام فؤاد الركابي مما يدل على المشاركة البعثية المحدودة.
- وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر يوليو عام 1958م أي بعد عشرة أيام
من نشوب الثورة وصل ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث وزعيمه إلى بغداد
وحاول إقناع أركان النظام الجديد بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة (سوريا
ومصر) وذلك حتى يمكنهم الوقوف في وجه زعامة عبد الناصر في ذلك الوقت؛
ومن ثم السيطرة على مقاليد الحكم؛ ولكن الحزب الشيوعي العراقي أحبط مساعيه
ونادى بعبد الكريم قاسم زعيماً أوحد للعراق.
- وفي اليوم الثامن من شهر فبراير لعام سنة 1963م قام حزب البعث
بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم، وقد شهد هذا الانقلاب قتالاً شرساً دار في
شوارع بغداد، وبعد نجاح هذا الانقلاب تشكلت أول حكومة بعثية، وسرعان ما
نشب خلاف بين الجناح المعتدل والجناح المتطرف من حزب البعث فاغتنم عبد
السلام عارف هذه الفرصة وأسقط أول حكومة بعثية في تاريخ العراق في 18/11/
1963م، وعين عبد السلام عارف أحمد حسن البكر أحد الضباط البعثيين المعتدلين
نائباً لرئيس الجمهورية، ثم لم يلبث أن أبعد عن النيابة إلى العمل كسفير في وزارة
الخارجية في سنة (1384هـ - 1964م) . ثم تعرض للاعتقال والإقامة الجبرية
في منزله، ثم أطلق سراحه بعد ذلك، وبدأ في العودة إلى نشاطه السياسي.
- في شهر فبراير سنة 1964م أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين
عضواً في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي.
- وفاة عبد السلام عارف في حادث طائرة سنة (1385هـ - 1966م)
وتولي أخيه عبد الرحمن عارف الحكم في العراق.
- قام حزب البعث العراقي بالتحالف مع ضباط غير بعثيين بانقلاب ناجح
أسقط نظام عبد الرحمن عارف في (20/4/1388هـ - 17/7/1968م) ،
وأعلن أحمد حسن البكر رئيساً.
- وفي اليوم الثلاثين من شهر يوليو عام 1968م طرد حزب البعث كافة من
تعاونوا معه في انقلابه الناجح على عبد الرحمن عارف، وعين أحمد حسن البكر
رئيساً لمجلس قيادة الثورة ورئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للجيش، وأصبح صدام
حسين نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة ومسؤولاً عن الأمن الداخلي.
- وفي 8 يوليو سنة 1973م جرى إعدام ناظم كزار رئيس الحكومة وجهاز
الأمن الداخلي وخمسة وثلاثين شخصاً من أنصاره؛ وذلك في أعقاب إخفاق
الانقلاب الذي حاولوا القيام به بالتنسيق مع البعث السوري.
- وفي شهر يونيو عام 1979م أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية العراقية
بعد إعفاء البكر من جميع مناصبه وفرض الإقامة الجبرية عليه في منزله.
- في يوليو سنة 1979م قام صدام حسين بحملة إعدامات واسعة طالت ثلث
أعضاء مجلس قيادة الثورة، ولم يبق على قد الحياة من الذين شاركوا في انقلاب
عام 1968م سوى عزت إبراهيم الدوري، وطه ياسين رمضان، وطارق حنا
عزيز.
وعند استعراض تاريخ البعث نتوقف عند بعض القضايا الأساسية في نظري
وهي:
1 - أن الحزب وُجِدَ في فترة صراع سياسي أثناء فترة الحرب الباردة بين
المعسكرين الغربي والشرقي.
2 - كانت الأنظمة الدستورية الموالية للغرب ضحية لهذا الصراع.
3 - يلاحظ أن البديل كان أنظمة عسكرية سواء كانت ذات خلفية حزبية مثل
البعث، أو ليس لها خلفية حزبية مثل نظام حسني الزعيم وجمال عبد الناصر الذي
حاول تشكيل إطار تنظيمي لنظامه (الاتحاد الاشتراكي) .
4 - كانت سياسة الحزب تقوم على أساس التحالف مع الأقوياء والتقوي بهم
ثم الانقلاب عليهم؛ وعلى هذا يُفهَم تحالفهم مع عبد الناصر وعبد الكريم قاسم وعبد
السلام عارف.
5 - أن الشعارات الاشتراكية للأنظمة الجديدة لم يمنعها من استبعاد
الشيوعيين عن المشاركة في الحكم بل وتصفية الأحزاب الشيوعية أو تطويعها،
وأيضاً لم يمنعها من علاقات وثيقة مع الغرب في الجانب السياسي.
6 - هناك شكوك كبيرة حول الدور الأمريكي في الانقلابات العسكرية الأولى
في مصر وسوريا.
7 - دخول أمريكا بوضوح في دوامة الانقلابات المتتالية التي دمرت الجيوش
العربية، وأفرزت أنظمة متسلطة.
8 - اتهام أمريكا أن لها دوراً في مساعدة البعثيين في الإطاحة بعبد الكريم
قاسم الذي اضطر للاعتماد على الشيوعيين في صراعه من أجل البقاء في الحكم بعد
رفضه العرض البعثي للانضمام للاتحاد السوري المصري. فقد قال الملك حسين:
(إنني أعلم بكل تأكيد بأن ما حدث في العراق يوم 8/2/1963م كان بدعم
المخابرات الأمريكية A.I.C لقد عقدت عدة لقاءات بين حزب البعث والمخابرات
الأمريكية، ومنها اجتماعات عقدت في الكويت) ، وكان علي صالح السعدي أحد
رموز الانقلاب يصرح أمام الصحافة اللبنانية بعد اختلافه مع الرفاق: (لقد جئنا
إلى السلطة بقطار أمريكي) .
وكشفت وثائق وزارة الخارجية البريطانية عن التوجه الغربي لدعم انقلاب
بعث العراق؛ ففي برقية سرية مرسلة من السفارة البريطانية في بغداد إلى لندن
مؤرخة في 28/1/1963م، أي قبل عشرة أيام من الانقلاب، أن روي ملبورن
القائم بأعمال الولايات المتحدة قال للسفير البريطاني: (إن وزارة الخارجية
[الأمريكية] تفكر أنه حان الوقت لترد على تهجم قاسم المستمر.. وأن الوقت قد
حان للبدء في بناء رصيد مع معارضي قاسم، من أجل اليوم الذي سيحدث فيه
تغيير في الحكومة في بغداد) .
وتكشف برقية من السفارة البريطانية في واشنطن إلى وزارة الخارجية يوم
8 /2/1963م أن مدير قسم الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية السيد
سترونغ قال: (إن إنقلاب 8 شباط لو أنتج نظاماً ذا طبيعة بعثية فإن سياساته
سوف تكون مقبولة على الأرجح من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية) .
إن استعراض بعض الأحداث يؤكد على أن حزب البعث لم يكن يوماً ما ضد
المصالح العليا للغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية؛ فمثلاً لم يشارك العراق
في حظر النفط أثناء حرب رمضان 1393هـ، وبروز التحالف الغربي مع العراق
في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، واعتبار أمريكا للعراق السد المنيع ضد المد
الشيعي في المنطقة؛ وكان ذلك سبباً في حصول العراق على قدرات تسليحية
وتقنية لم يكن مسموحاً بها في الظروف العادية وكان تسليم بعض هذه الأسلحة يتم
بإشراف رسمي.
ومن الغريب أن الذين يحكمون في أمريكا الآن مثل رامسفيلد هم الذين يمثلون
قناة الاتصال الشخصي مع الرئيس صدام حسين، وقد كشف عن زيارات لرامسفيلد
لبغداد تتزامن مع استخدام الأسلحة الكيميائية ضد الأكراد والإيرانيين.
إن التركيز الأمريكي على شخص صدام وتجاهل الحزب الحاكم الذي يمثل
ذراع البطش الطويلة داخلياً وتركيزه على إضعاف الجيش العراقي وشله ومحاولة
تفريغ العراق من الطاقات العلمية بتصفية أو شراء العلماء كما حدث للعلماء الألمان
بعد الحرب العالمية الثانية يؤكد أن الهدف هو البلد بثروته وطاقاته المتميزة علمياً،
أما الطاقات الأمنية والحزبية الفاعلة في ترويض الشعب فسيتم الاستفادة منها في
مستقبل الأيام إذا تمكنت أمريكا من إزاحة رأس النظام وإقامة نظام موالٍ مجرد من
أسباب القوة والبقاء الذاتي.
إن حزب البعث بصورته الحالية يعتبر من بقايا أدوات الصراع أيام الحرب
الباردة؛ وحيث الحاجة إليه قد قلَّت أو انتهت فيجب أن يتأقلم مع الأوضاع الجديدة
ويحاول تلمس أسباب البقاء.
وإذا كان القذافي يحاول التشبث بقشة قدرته على محاربة المتطرفين والبعث
السوري قنع أخيراً بوظيفة المبعوث الرسمي للغرب لدى إيران؛ فما هي المهمة
اللائقة ببعث العراق الذي يبدو حائراْ بين جحود الأصدقاء القدامى (الأمريكان)
وبين عدم ثقة الإسلاميين باللافتات الإسلامية التي يحاول استغلالها في تغيير العَلَم
العراقي والسماح للمظاهر الإسلامية بالظهور بعد طول غياب، بل وتشجيع تعليم
القرآن وبعض العلوم الشرعية وفرضها على أعضاء الحزب؛ فهل هي توبة
متأخرة أم هي اكتشاف حقيقة أن القوة الوحيدة القادرة على حماية الأمة هي العقيدة
المنبثقة من ذاتها، وأن كل من يحارب الأمة في عقيدتها وشعائرها وأخلاقها سيدفع
ثمن ذلك ولو بعد حين؟
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود بالرياض.(184/62)
المسلمون والعالم
ملف المعارضة العراقية بين الماضي والمستقبل
محمد صادق أمين [*]
شهدنا مؤخراً مؤتمراً موسعاً لفصائل وأحزاب شتى من المعارضة العراقية
المقيمة خارج العراق. عقد الاجتماع في العاصمة البريطانية لندن بمباركة وحضور
أمريكي، والغرض المعلن مناقشة مرحلة ما بعد نظام صدام حسين، والذي من
المفترض أن يسقط قريباً بضربة أمريكية موعودة حُشِدت لها جيوش جرارة غطت
البر والبحر والجو والفضاء العربي، هذه الأحزاب وصل تعدادها إلى أكثر من
خمسين حزباً وجماعة تتنازع الكعكة العراقية قبل أوان تقسيمها، والسؤال الذي
يُطرح في هذا الخضم هو: هل يمثل هؤلاء المؤتمرون الشعب العراقي تمثيلاً
حقيقياً؟ وهل تملك كل تلك الأحزاب ثقلاً على الساحة العراقية يؤهلها لتكون وريثاً
لنظام موعود بالسقوط؟
إن وجود خمسين أو ستين حزباً وجماعة سياسية في ساحة توقف العمل
الحزبي فيها منذ أكثر من ثلاثة عقود أمر يستدعي منا أن نقف وقفة تدقيق وتمحيص
للوصول إلى الحقيقة.
لقد تزايد عدد المجموعات المعارضة للنظام العراقي بعد حرب الخليج الثانية،
وأسهم في ذلك الدعم الأميركي المعلن والاحتضان الأوروبي، وفتح أبواب واشنطن
والحواضر الأوروبية أمامها، فأصبحت بالعشرات، وتعددت انتماءاتها ما بين دينية
وإثنية عرقية ووطنية متعددة الأطياف والألوان، فلا يجمع بينها سوى الخلاص من
النظام الحاكم والحصول على موقع سياسي أساسي في النظام الجديد والمرحلة
المقبلة.
تتراوح أحزاب المعارضة ما بين مجموعات صغيرة وأحزاب متوسطة الحجم
وتجمُّع أحزاب، وأكثرها خارج العراق، والإدارة الأميركية تعترف رسمياً بست
منظمات معارضة، هي: (المؤتمر الوطني العراقي، والاتحاد الوطني
الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والمجلس الأعلى للثورة
الإسلامية، وحركة الوفاق الوطني، والحركة الوطنية الدستورية) وقد سمح بوش
بتوسيع المنظمات المعارضة عبر إدخال مجموعات تتألف من ضباط سابقين
آخرين، وكذلك أقليات تركمانية وآشورية ومسيحية.
سنحاول هنا أن نبحث في موضوع المعارضة العراقية ونرد القضية إلى
أصولها لعلنا نصل إلى الصورة الكاملة التي تمنحنا رؤية مستبصرة.
* تمهيد:
شهد العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية موجة حريات واسعة اجتاحت
العالم بأسره، وهو أمر عادة ما يرافق انتهاء الحروب الكبيرة، والعراق من الدول
التي كانت تحت الاستعمار البريطاني، وكان من الطبيعي أن تصل تأثيرات موجة
الحريات العالمية إلى الساحة العراقية، فسن قانون الأحزاب الذي يبيح التعددية
السياسية ويقنن لها في العهد الملكي سنة 1946م، وحدثت حرية سياسية وحزبية
إلى أبعد مدى تشكل على إثرها عدد من الأحزاب تمثل اتجاهات وأفكاراً سياسية
مختلفة وهي:
1 - الحزب الشيوعي:
وهو حزب يستهدي ويسترشد بالشيوعية السوفييتية ونظامها الاشتراكي الذي
راجت أفكاره في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، ويكاد يكون هو الحزب
الأقوى في تلك الحقبة من تاريخ العراق بسبب رواج الأفكار الشيوعية في أوساط
الشباب، هذا الحزب انقسم على نفسه فيما بعد وشكل مجموعتين: الأولى يتزعمها
(يوسف سلمان) والثانية انشقت عن الأولى يتزعمها (كامل قزانجي) .
2 - حزب الأمة:
وهو حزب شكله الشيعة ليمثل طائفتهم المذهبية برئاسة (صالح جبر) ومعه
ثلة من علماء ومشايخ الشيعة.
3 - حزب الاتحاد الدستوري:
يترأسه (نوري السعيد) ويضم طبقة البرجوازيين، وانضم إليه فيما بعد
النازيون القدماء ومنهم (خليل كنة) الذي أصبح وزيراً للمعارف فيما بعد.
4 - حزب الاستقلال:
وهو حزب ذو توجهات قومية يضم الشيعة والسنة يترأسه (محمد مهدي كبة)
ومن أبرز قياداته السنية (إسماعيل الغانم) .
5 - الحزب الديمقراطي:
حزب علماني صارم متوسط بين الشيوعية والاشتراكية يترأسه (كامل
الجادرجي) ومعه عدد من السياسيين اللامعين منهم (صديق شنشل) و (حسين
جميل) و (محمد حديد) .
6 - الإخوان المسلمون:
لم يتمكن الحزب من الحصول على إجازة رسمية كباقي الأحزاب لتشكله
متأخراً عن باقي الأحزاب؛ لكن الشيخ محمد الصواف حصل على إجازة عمل
لجمعية باسم (الأخوة الإسلامية) عام 1952 لتكون المظلة التي يعمل تحتها
الإخوان المسلمون في العراق الذين لعبوا دوراً بارزاً في تاريخ العراق السياسي فيما
بعد.
يذكر أن الحزب لم يقتصر في عمله على السنة بل كان يضم عدداً كبيراً من
الشيعة.
7 - الأكراد:
الأكراد مكوِّن مهم من مكوِّنات المجتمع العراقي، بل ومن مكونات دول
أخرى في الشرق الأوسط وفي آسيا، يقدر عددهم بخمسة وعشرين مليوناً يتوزعون
بين خمس دول: 46% منهم في تركيا، و 31% في إيران، و 5% في أرمينيا
وسوريا، و 18% في العراق.
تسود بين الأكراد 18 لهجة كردية مختلفة، وكردستان العراق التي يسكنها
ثلاثة ملايين و800 ألف كردي عبارة عن جبال وهضاب ومجموعات بشرية تعيش
وفق نظام قبلي صارم تروج فيه مفاهيم الإباء والشجاعة والفروسية، ويقوم على
نشاط اقتصادي معتمد على الرعي والزراعة.
يمكن اعتبار هذه الأحزاب الأساس الذي يشكل الساحة السياسية العراقية بكل
أطيافها وألوانها وتعدداتها القومية والمذهبية والفكرية والسياسية، وعلى أساسها
تطورت ساحة العمل السياسي في العراق بحسب تطور وتغير الأحداث؛ فالحزب
الشيوعي العراقي على سبيل المثال شهد انقسامات وانشقاقات، وتراجعت شعبيته
على الساحة بحسب ما طرأ على الساحة العراقية والدولية من تغيرات، والإخوان
المسلمون ظهروا تحت مسمى جديد هو الحزب الإسلامي العراقي وعنهم انشقت
مجموعة شكلت حزب التحرير الذي ما لبث أن اضمحل وانتهى دوره واندرس اسمه
إلى يومنا هذا، والشيعة تعددت بهم الاجتهادات والرؤى فتشكلت منهم أحزاب تتباين
في طروحاتها بحسب تباين الشيعة في الموقف من الثورة الإيرانية وحكم ولاية
الفقيه، والقوميون تطورت طروحاتهم وتعددت أحزابهم تبعاً لتطور فكرة القومية
وإفرازاتها على الساحة والذي تجسد في تأسيس حزب البعث، والساحة الكردية
شهدت تطورات، وأصبح فيها عدة فصائل وجماعات متنافسة وعدد كبير من
الأحزاب الصغيرة تتفاوت في انتماءاتها الأيديولوجية بين القومية والشيوعية
والإسلامية.
* تطور الأحداث السياسية على الساحة العراقية:
لم يكن الشعب العراقي راضياً عن الأداء السياسي للنظام الملكي الهاشمي في
العراق؛ فالهيمنة البريطانية تلعب دوراً أساسياً في سياسة البلاد وحكمه، بل وفي
إقامة الحكومات وإسقاطها، وعقد المعاهدات والتحالفات وإبرامها بما يتوافق مع
المصالح البريطانية، وفي عام 1945م أصدر رئيس الوزراء (نوري السعيد)
قانوناً يقضي بحل جميع الأحزاب والجمعيات السياسية، فشهدت ساحة العمل
السياسي توقفاً أدى إلى تشكيل حركة الضباط الأحرار داخل الجيش العراقي ليكون
بعد ذلك الجيش لاعباً أساسياً في تاريخ العراق السياسي.
يتشكل الضباط الأحرار من ثلاث مجاميع هي:
1 - مجموعة من الشيوعيين وفيهم (عبد الكريم قاسم) .
2 - مجموعة من القوميين والبعثيين وفيهم (عبد السلام عارف) .
3 - مجموعة مستقلة لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وهم أصل الضباط
الأحرار على رأسهم (رفعة الحاج سري) و (ناظم الطبقجلي) .
عرف العراق في 14/7/1958م انقلاباً على الملكية بقيادة عبد السلام عارف
وعبد الكريم قاسم اللذين أعلنا الثورة على النظام الملكي، وتم قتل الملك فيصل
الثاني وولي عهده عبد الإله، ونوري السعيد رئيس الوزراء وغيرهم، فانتهى عهد
الملكية، ودخل العراق دوامة الانقلابات العسكرية التي استمرت عقداً من الزمن
(من 1958م إلى 1968م) .
وكان الحزب الشيوعي العراقي صاحب الكلمة العليا في انقلاب 1958م،
وأصبح عبد الكريم قاسم زعيماً أوحد للعراق بعد إقصاء عبد السلام عارف وسجنه،
وقد نجح ضباط بعثيون في انقلاب دموي ضد الرئيس عبد الكريم قاسم في
8/2/1963م، وتحالفوا مع ضباط ناصريين وأنشؤوا حكومة ائتلاف تحت رئاسة
عبد السلام عارف بعد تحريره من السجن.
ثم عرفت حكومة الانقلاب صراعاً بين جناحين داخلها من حزب البعث:
معتدل، ومتشدد؛ فقام عبد السلام عارف رجل الانقلاب القوي بإبعاد البعثيين
المتشددين، وعين في 18/11/1963م أحمد حسن البكر أحد الضباط البعثيين
المعتدلين نائباً لرئيس الجمهورية، وقد أسقط البعثيون نظام عارف في سبتمبر
1966م، كما قام حزب البعث العراقي بإقصاء كل من تعاون معه من غير
العناصر البعثية في الانقلاب على عارف في 30/7/1968م وتم تعيين أحمد حسن
البكر رئيساً لمجلس قيادة الثورة ورئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للجيش، وأصبح
صدام حسين نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة ومسؤولاً عن الأمن الداخلي.
وفي يونيو 1979م أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية العراقية بعد إقصاء
وإعفاء البكر من جميع مناصبه. فبدأت بعد ذلك حقبة جديدة من تاريخ العراق
المعاصر شهدت حكماً فردياً مطلقاً يعتمد التصفية والإقصاء آلية لتثبيت دعائم الحكم،
ولم تنجح أي محاولة انقلابية بعد ذلك ضد الحكم الجديد بسبب القبضة الحديدية
التي تمت على كافة مرافق وأجهزة الدولة، ودخل العراق دوامة الحروب الداخلية
مع الأكراد والخارجية مع الجيران، وآخر فصول تلك الحروب هي المواجهة
الجارية اليوم مع الإدارة الأمريكية التي أخرجت النظام الحالي من قائمة الحلفاء
وأودعته في القائمة السوداء.
ومع خروج النظام العراقي من حظيرة المرضي عنهم ودخوله القائمة السوداء
بعد غزو الكويت دبت الحياة في فرائص العديد من الفصائل العراقية المعارضة
والتي لم يتبق من بعضها سوى رموز وأشخاص، وبدأت حقبة العمل السياسي من
خارج العراق لتغيير النظام، وبرز بناء على ذلك خلاف حول جواز التعاون مع
القوى الخارجية لتغيير النظام داخل العراق، فتعددت المواقف تبعاً للانتماءات
الفكرية والسياسية والمذهبية من هذه القضية.
* أبرز الفصائل المعارضة للنظام العراقي حالياً:
1 - الشيعة:
يتوزع شيعة العراق إلى طوائف سياسية من أبرزها:
أ - المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق:
تشكل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عام 1982م في إيران،
ويهدف إلى أن يكون إطاراً يضم كل الفصائل الشيعية العاملة في الحقل السياسي.
يوجد مقر المجلس في طهران، ويتزعمه (محمد باقر الحكيم) الذي ترك
العراق منذ 1979م وأقام في إيران، والغالب على أعضاء المجلس الأعلى أنهم
عراقيون فروا إلى إيران خلال حرب الخليج الأولى.
تمثل شخصية محمد باقر الحكيم دوراً محورياً في تحديد مواقف الحزب
ونشاطه السياسي؛ لذلك يلاحظ بعض المراقبين أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية
في العراق تنظيم شيعي باسم شخص أكثر مما هو حركة شعبية لها توجهها السياسي.
العلاقة مع إيران:
يحاول المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق أن يحافظ على مسافة بينه
وبين إيران، وأن يعطي للمراقب صورة أنه ليس تنظيماً شيعياً يسير في فلك
طهران بل هو - كما يريد لنفسه أن يكون - تنظيم سياسي عراقي بحت، والحقيقة
أنه تنظيم شيعي عراقي نشأ بدعم وتمويل إيراني من الناحية اللوجستية، أما عقائدياً
فهو يدين لإيران بالولاء المطلق على أساس إيمانه بولاية الفقيه.
الجناح العسكري:
ومن ضمن مكونات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية جناح عسكري يعرف
باسم (لواء بدر) مقره إيران، يضم آلافاً من الجنود معظمهم من الشيعة، ويقوم
بتدريبهم ضباط من السنة، وكان لهذا اللواء دور مهم في انتفاضة شيعة العراق في
مارس 1991م حين قامت عناصره بتصفية أجهزة حزب البعث بالجنوب.
العلاقة مع الولايات المتحدة:
ينفي المجلس الأعلى إعلامياً أي صلة له بالولايات المتحدة، ويعلن عن
رفضه تلقي أي مساعدات مالية منها رغم رصد الكونغرس الأميركي 97 مليون
دولار لدعم هذه المعارضة.
ب - حزب الدعوة:
حزب الدعوة من أقدم الأحزاب الشيعية العراقية، أسسه رجل الدين العراقي
آية الله باقر الصدر سنة 1968م، ويضم هذا الحزب مجموعات متعددة منها ما هو
في الخليج، ومنها ما هو في لبنان.
يميل حزب الدعوة إلى استخدام أساليب العنف، وقد ظهرت في داخله مؤخراً
بعض العناصر التي تدعو إلى انتهاج سياسة ليبرالية توفق بين الإسلام
والديمقراطية، وتؤكد عدم وجود تعارض بينهما، وخلافاً للمجلس الأعلى للثورة
الإسلامية في العراق فإن حزب الدعوة لا يقبل بالضرورة النموذج الإيراني للزعامة
الدينية، بل يرى أن دور رجال الدين ينحصر في تفسير الأمور الدينية على أن يتولى
المسلمون من غير رجال الدين الأمور السياسية.
ج - منظمة العمل الإسلامي في العراق:
أعلنت المنظمة رسمياً عن نفسها عام 1979م، وكان المرجع الديني آية الله
الشيرازي يعد مرشداً روحياً للمنظمة حيث تهتدي وتسترشد منظمة العمل بأفكاره
ونظرياته، وكذلك آية الله محمد تقي المدرسي الذي يعد المؤسس والراسم للمعالم
الفكرية والثقافية للمنظمة.
إضافة إلى هذه الأحزاب الثلاثة داخل الساحة السياسية الشيعية في العراق
يوجد اتجاه آخر يغلب عليه التوجه العلماني، ويصبو إلى تمثل القيم الديمقراطية
الغربية، ويرى أن الإطار الديمقراطي العلماني خير منهج لحكم العراق، ومن أبرز
شخصيات هذا التوجه: ليث كبة، وأحمد الجلبي المقيمان خارج العراق.
2 - الحزب الإسلامي العراقي:
يكاد يكون هو الحزب الوحيد الذي يمثل السنة في تشكيلة المعارضة العراقية،
وهو يمثل الامتداد الطبيعي لحركة الإخوان المسلمين في العراق التي أسس لها
الشيخ الصواف.
تأسس الحزب في عام 1961م عندما أتاح عبد الكريم قاسم الفرصة للأحزاب
كي تتشكل، فأجيز من قبل وزارة الداخلية وترأسه (نعمان السامرائي) .
نشر الحزب مذكرة فيها انتقادات لسياسات عبد الكريم قاسم وللمذابح التي
ارتكبت في عهده في الموصل وكركوك في جريدة (الفيحاء) فتم على أثر ذلك
تصفية الحزب، وعاد إلى العمل السري.
واجه الإخوان المسلمون في العراق محناً عديدة وشديدة في العهود المختلفة،
وتعرضوا للتصفية عدة مرات غير أن المحن تلك زادتهم قوة وصلابة.
الأهداف:
يتخذ الحزب من العمل السياسي السلمي منهاجاً للتغيير في العراق، ويعتمد
على الإصلاح التدريجي في إطار آليات الديمقراطية التي لا تتعارض مع الشورى
في الإسلام، ويرفع شعار: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا
بالله) ، وللحزب جذور عميقة في المجتمع العراقي تصل إلى جميع أنحاء العراق.
3 - الأكراد:
تموج الساحة الكردية في العراق بالعديد من التشكيلات السياسية المختلفة من
أبرزها:
أ - الحزب الديمقراطي الكردستاني:
أسس هذا الحزب عام 1946م، ويتزعمه الآن مسعود البرزاني ابن الملا
مصطفي البرزاني.
تغلب النزعة القومية الكردية على الحزب الديمقراطي الكردستاني، ويعتمد
إلى حد كبير على العشيرة البرزانية، ويكثر أتباعه في منطقة بهدينان شمالي
العراق.
ب - الاتحاد الوطني الكردستاني:
انشق الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني عام 1975م
عن الحزب الديمقراطي الكردستاني.
يتبنى الحزب اتجاهات قومية كردية، ويوجد لدى العديد من أفراده ميول
ليبرالية، وتوجد قواعد الحزب بكثرة في النصف الجنوبي من كردستان العراق.
ج - حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني:
يمثل حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني فكر الإخوان المسلمين، وقد أسس
عام 1994م بقيادة الأستاذ صلاح الدين محمد بهاء الدين، وهذا الحزب ذو توجه
إصلاحي لا يعتمد على المواجهة المسلحة؛ إذ هو الحزب الوحيد غير المسلح على
الساحة الكردية، وهو مشارك في حكومة أربيل التي يتزعمها مسعود البرزاني
بوزير واحد (وزير العدل) ، ولحزب الاتحاد الإسلامي علاقات طيبة مع جميع
الأطراف الكردية والعراقية على اختلاف توجهاتها، وقد ظهر في الانتخابات
الطلابية والمهنية والبلدية التي أجريت في إدارتي الإقليم على أنه الحزب الثاني بعد
الحزبين الكبيرين الحاكمين.
د - الحركة الإسلامية:
هو حزب سياسي مسلح لديه قوة عسكرية تتمركز في بعض مدن وقصبات
الإقليم، وقد تشكلت الحركة عام 1987م على أثر تصعيد العنف العسكري ضد
الأكراد في عمليات القصف الكيماوي والأنفال سيئة الصيت بدعم إيراني، ويعتبر
منصب المرشد العام أعلى منصب في حركة الوحدة الإسلامية، وقد شغله الشيخ
عثمان عبد العزيز حتى وفاته عام 1999م وهو أحد علماء الكرد البارزين ويحظى
بمكانة كبيرة في الأوساط الشعبية وفي العالم الإسلامي؛ خلفه بعد ذلك أخوه الشيخ
علي عبد العزيز وفي عهده اندمجت الحركة الإسلامية مع حركة النهضة الإسلامية
وشكلتا حركة الوحدة الإسلامية التي ما لبثت طويلاً حتى انشقت على نفسها وشكلت
مجاميع مسلحة عديدة.
هـ - الجماعة الإسلامية في كردستان العراق:
بتاريخ 31/5/2001م أعلنت مجموعة من حركة الوحدة الإسلامية المسلحة
انشقاقاً عن الحركة بزعامة القيادي فيها الشيخ علي بابير، وأطلقت على نفسها:
(الجماعة الإسلامية في كردستان العراق) ، وللجماعة منصبان يعتبر أحدهما منصباً
روحياً وهو إمام الجماعة ويشغله الشيخ محمد البرزنجي، وهو عالم من علماء
الكرد ورجل من رجال الصحوة الإسلامية، والثاني منصب إداري وهو أمير
الجماعة ويشغله الشيخ علي بابير وهو قيادي شاب ممن تربوا في ربوع الحركة
الإسلامية المسلحة بعد تأسيسها في الثمانينيات.
و حزب كادحي كردستان:
حزب يساري يتزعمه قادر عزيز، وتربطه علاقات قوية بالحزب الوطني
الكردستاني، فتحالفا في الانتخابات التي تمت بمحافظة السليمانية سنة 1992م،
كما وقف بجانب الحزب الوطني الكردستاني يوم 31/8/1996م حينما دخل الجيش
العراقي السليمانية.
هذا بالإضافة إلى أحزاب صغيرة يصل تعدادها إلى 39 حزباً.
4 - الأحزاب العلمانية:
أ - المؤتمر الوطني العراقي:
الذي يرأسه أحمد جلبي، وهو في الحقيقة تجمع لعدد من الأحزاب كما يعرف
بنفسه، ويلقى رعاية أميركية خاصة.
وتوقع بعض المراقبين أن يكون المصرفي السابق أحمد الجلبي المرشح
المحتمل لرئاسة الحكومة العراقية في المنفى باعتباره مؤسس المؤتمر الوطني
العراقي عام 1992م.
والمعروف أنه يتشكل من عدد من الفصائل العراقية المعارضة تتجمع فيما
يسمى: (المؤتمر الوطني العراقي) ومن بينها الحزبان الكرديان، والمجلس
الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وحركة الوفاق الوطني، وضباط عراقيون
سابقون بالجيش، ورجال أعمال ومفكرون.
لكن علاقة المؤتمر بالأحزاب الإسلامية يسودها الاضطراب، ويدعو برنامج
المؤتمر الوطني العراقي الذي صيغ في مؤتمر حضره 350 عضواً معارضاً عقد
في مدينة صلاح الدين عام 1991م، إلى تشكيل حكومة انتقالية تتولى السلطة في
حالة سقوط صدام ووضع دستور فدرالي يتم إقراره في استفتاء عام.
ب - حركة الوفاق الوطني:
وهي منظمة تشكلت من مجموعة من الضباط والمسؤولين السابقين الفارين
من قبضة النظام العراقي وأكثرهم من الشيعة.
ج - حزب الملكية الدستورية:
التيار الملكي الهاشمي يحظى بنفوذ واسع داخل المؤتمر لا سيما أن الشريف
علي بن الحسين زعيم حزب الملكية الدستورية وسليل العائلة الهاشمية الملكية في
العراق هو الناطق باسم المؤتمر، ولعب دوراً رئيسياً في الإفراج عن المساعدات
الأميركية له؛ فالشريف علي بن الحسين أمه بديعة بنت علي خالة الملك فيصل
الثاني، وبهذا الاعتبار هو أقرب أفراد العائلة المالكة إلى الملك فيصل الثاني،
وينشط على أساس أنه الوريث الشرعي للملكية العراقية إذا ما عادت إلى الحكم في
العراق مجدداً ليعيد وصل ما انقطع منها.
وكان الدكتور نبيل الجنابي المقرب من الملكية العراقية قد أعلن أن تنظيماً
جديداً بدأ يظهر ويحمل اسم: (التحالف الملكي الديمقراطي) وأنه يحظى بموافقة
الدول العربية ما عدا مصر، وأن هذا التحالف سيضم تحت جناحيه جميع أطراف
المعارضة، وأنه لن يعلن عنه إلا بعد ضرب العراق.
5 - تنظيمات ذات طابع عسكري:
حركة الضباط الأحرار:
ويترأسها العميد الركن نجيب الصالحي، وأصدرت في25/7/2002م بياناً
تحالفياً مع حركة سياسية مدنية هي (حركة الديمقراطيين الأحرار) ، في خطوة
تشير إلى طموحها للعب دور سياسي فضلاً عن الدور العسكري.
أما اجتماع أكثر من 70 ضابطاً من عراقيي الخارج في لندن بحضور
مندوبين عن الحكومة الأميركية والبريطانية وتكوينهم مجلساً عسكرياً من 15
عسكرياً، فقد أثار هواجس عسكرة العراق بعد حكم صدام حسين، برغم أن هؤلاء
العسكريين قد حرصوا على دعوة جميع الأطراف السياسية لحضور الاجتماع،
وتعهدوا بميثاق شرف بأن الجيش سيعود لثكناته بعد الإطاحة بصدام، وأن
اجتماعهم لا أحد وراءه وإنما قاموا به من تلقاء أنفسهم فقط.
6 - الأقليات:
1 - الآشوريون - الذين يتركزون في مناطق الحكم الذاتي الكردي ويمثلهم:
أ - حركة بيت المهرين.
ب - الحركة الديمقراطية الآشورية.
ج - حزب الوطن الآشوري.
2 - التركمان - الذين يتركز وجودهم في كركوك ويمثلهم:
أ - الجبهة التركمانية (الحزب الوطني التركماني، حزب تركمن إيلي،
حركة المستقلين التركمان) .
ب - حزب الإخاء التركماني.
ج - الحزب الديمقراطي التركماني.
د - حزب الشعب التركماني.
هـ - الاتحاد الإسلامي التركماني.
و النادي الثقافي التركماني.
* موقف الأحزاب المعارضة من المؤتمر:
لقد ذكرنا أن تعداد الأحزاب التي حضرت المؤتمر الموسع للمعارضة العراقية
تجاوز الخمسين، وعدم تعداد هذه الأحزاب في الفقرة السابقة ليس إغفالاً لها، بل
الحقيقة أن هذه الأحزاب ليس لها أي قاعدة جماهيرية أو نشاط سياسي وإعلامي،
والبعض منها لا يتجاوز تعداد منتسبيه بضع عشرات، بل إن بعض السياسيين ممن
حضروا المؤتمر لا يعرفون أي شيء عن بعض تلك الأحزاب، وهذا لا ينفي أن
يكون للبعض من تلك الأحزاب دور ربما في مستقبل العراق؛ فعالم السياسة شبيه
بعالم الكرة مليء بالمفاجآت.
وقد تباينت مواقف الأحزاب والشخصيات العراقية المعارضة من مسألة عقد
المؤتمر الجامع للمعارضة في بريطانيا تبعاً للمواقف الأيديولوجية والمصالح
الحزبية، وتبعاً للقرب والبعد من صانع القرار الأمريكي الذي يصطفي من يشاء
ويقربه ويطلعه على أجندته الخفية ليقرر الأخير موقفه من القضية برمتها، ويعود
سبب هذا التباين لأسباب عديدة أهمها:
1 - إن عقد المؤتمر وتوحيد موقف المعارضة مطلب أمريكي ملح في هذه
المرحلة، والتعاون مع الأجنبي تهمة قاسية وقاصمة لأي حزب على الساحة
السياسية العراقية، وقد تسقط هذه الأحزاب أمام الجماهير ولا تجد ما تدافع به عن
نفسها فيما بعد؛ لذا فإن حضور المؤتمر والقبول بالأجندة الأمريكية قرار مصيري
وحاسم خصوصاً للأحزاب التي لها جماهير وقواعد داخل العراق، وبناء على ما
تقدم فقد شهدنا خلال المؤتمر صدور بيان عن بعض أجنحة المجلس الأعلى
يستنكرون فيه على قيادتهم التعاون مع أمريكا، وكذلك شهدنا انسحاب الحزب
الإسلامي العراقي من المشاركة بعدما تبين أن هناك أجنده أمريكية مفروضة على
المشاركين كما سنبين ذلك لاحقاً بالتفصيل.
2 - يأتي عقد المؤتمر متوافقاً مع تجييش الجيوش الأمريكية والبريطانية على
حدود العراق لغرض الغزو العسكري بذريعة إسقاط النظام؛ هذه الجيوش لن
تضرب العراق بالورود بل بأسلحة متطورة ربما ستستخدم أرض العراق حقلاً
لتجارب على أسلحة غير مجربة من قبل كما كان في حرب تحرير الكويت، وهذه
الأسلحة لن تستأصل النظام إلا بعد أن تدمر البنية التحتية للعراق كما حدث ذلك من
قبل، كما أن أطناناً من القنابل والمتفجرات والصواريخ ستضل طريقها وتتجه إلى
المساجد والكنائس والمدارس والأعراس؛ وما عرس أفغانستان عنا ببعيد، حينها
لن يصفح التاريخ ولا الجماهير العربية والعراقية عن من وفروا الغطاء للضربة؛
لذلك شهدنا المؤتمرين على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم وألوانهم وأطيافهم حتى
أولئك الذين اجتمعوا سراً بالمنظمات الصهيونية في أمريكا يرددون: لا لضرب
العراق، ولا لغزو العراق؛ ونعم لإسقاط النظام! وكأن عدوى النظام الرسمي
العربي انتقلت لتلك المعارضات فباتت تقول للجماهير شيئاً وتبيِّت مع الأمريكان
شيئاً، ومعروف أن أمريكا لا تستنكر على حلفائها المهاترات الإعلامية ما دام أصل
الأمر هو التحالف على ما يخدم المصلحة الأمريكية؛ لأجل ذلك شهدنا مقاطعة
أحزاب ذات قواعد جماهيرية على الساحة مثل حزب الدعوة الشيعي، والحزب
الشيوعي، والحزب الإسلامي العراقي.
3 - وجود قوى وجهات فئوية تحاول السيطرة والهيمنة على المعارضة
العراقية ومقرراتها من خلال بناء التحالفات الحزبية، وممارسة الضغوط الإقليمية
للحصول على حصة الأسد من الكعكة العراقية؛ ولذا شهدنا انسحاب (الجبهة
الوطنية الإسلامية) من أروقة المؤتمر بناء على هذه الخلفية.
4 - وجود بعض الشخصيات السياسية والعسكرية ممن كانوا يعدون في
الماضي من رموز وأركان النظام العراقي الحالي، وقد تغيرت ولاءاتهم تبعاً لتغير
الرياح الدولية، وتتهم بعض الجهات بعضاً منهم بممارسة الإجرام في حق الشعب
العراقي، وتعتبر وجودهم عائقاً أمام مشاركتها في المؤتمر.
ويمكننا أن نقرأ موقف الأحزاب المشاركة في المؤتمر على النحو التالي:
الأكراد: بعد عقود طويلة من تهميش الكرد وكردستان في تشكيلة الساحة
السياسة العراقية لأسباب معروفة، أصبح الأكراد اللاعب الأساسي والرئيسي في
مستقبل العراق، بحكم الواقع الجغرافي القائم، والذي أدى إلى قيام كيان كردي
مستقل نسبياً عن الحكومة المركزية في بغداد بدعم وحماية أمريكية، والأحزاب
الكردية هي أقرب الجهات للأمريكان بعد أحمد الجلبي وتحالفه؛ ونظراً لهذا القرب
ولهذه العلاقة الوثيقة تعلم القيادات الكردية عن النوايا الأمريكية ما لا يعلمه أحد،
وبناء على ذلك تحرص الأحزاب الكردية على أن تكون مشاركاً فاعلاً ومؤسساً في
مؤتمر المعارضة لتحقيق أكبر المكاسب الممكنة للقضية الكردية من خلال ذلك، وقد
نجحت بالفعل في ذلك من خلال إقرار الفدرالية بالإجماع لحل القضية الكردية،
وهو المطلب الكردي الملح في هذه المرحلة، وبناء على ذلك يمكننا أن نفسر
التغيير في موقف الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني مؤخراً؛
فسياسة الحزب قائمة منذ الانتفاضة الكردية على مبدأ عدم استفزاز الحكومة
المركزية في بغداد، وهو ما تغير مؤخراً؛ فقد شهدنا تصريحات مهمة للطالباني في
الولايات المتحدة وتركيا وإيران كان آخرها ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية من
ترحيب جلال الطالباني بالقوات الأمريكية خلال تصريح أدلى به في تركيا مؤخراً.
المؤتمر الوطني العراقي: يعتبر المؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد
الجلبي المحرك والمنظم الرئيسي لاجتماع المعارضة؛ ويسعى المؤتمر الوطني
العراقي إلى لعب دور فاعل ومؤثر في مستقبل العراق؛ وذلك من خلال التقرب
للولايات المتحدة وللوبيات الضغط فيها؛ وهذا ما أشارت إليه وكالة الأنباء اليهودية
الدولية (جيوش تلجراف آجانسي) والتي تتخذ من ولاية نيويورك الأمريكية مقراً
لها في مقال للكاتب (ماثو برجر) يتحدث فيه عن تنامي العلاقات بين المنظمات
اليهودية الأمريكية وبعض جماعات المعارضة العراقية في واشنطن خلال الفترة
الأخيرة؛ إذ زاد عدد المنظمات اليهودية الأمريكية المهتمة بالتواصل مع جماعات
المعارضة العراقية في واشنطن، كما تحولت العلاقة إلى العلانية بشكل واضح بعد
أن ظلت تحت السطح لفترة طويلة خوفاً من أن تتسبب العلانية في الإضرار
بمصالح المنظمات اليهودية وجماعات المعارضة العراقية، وذكرت المقالة أن
منظمات يهودية أمريكية معروفة مثل (لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية)
إيباك (والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي) قد قامتا برعاية مناقشات مع
أعضاء في منظمة المؤتمر الوطني العراقي وهي إحدى أكبر جماعات المعارضة
العراقية المدعومة مالياً من قِبَل الولايات المتحدة، وقالت المقالة إن أحمد جلبي
رئيس المؤتمر الوطني العراقي قد دعي للقاء نظمه المعهد اليهودي لشؤون الأمن
القومي في التاسع من أكتوبر، كما تحدث مدير مكتب المؤتمر الوطني العراقي في
واشنطن في مؤتمر الإيباك الذي عقد في أطلانطا بولاية جورجيا في 7 أكتوبر،
وعن أسباب العلاقة المتنامية بين الطرفين، تقول المقالة: إن الطرفين يدفعهما مبدأ
(عدو عدوي هو صديقي) وأن التحالف بين الطرفين زاد مع إصرار إدارة جورج
دبليو بوش على تغيير النظام العراقي.
كما يسعى المؤتمر الوطني العراقي إلى استخدام النفوذ اليهودي في واشنطن
وإسرائيل لحشد التأييد لأهدافه، كما يرى مدير مكتب المؤتمر الوطني العراقي في
واشنطن أن تقرب منظمته من الجماعات اليهودية الأمريكية هو لكونها أفضل طريق
للوصول إلى الحكومة الإسرائيلية، والتي ينبغي عليها - في وجهة نظره - أن
تنشط في التقرب من جماعات المعارضة العراقية ولعب دور أكثر نشاطاً في تشكيل
التغيير السياسي في العراق.
المجلس الأعلى للثورة الإسلامية: يعتبر موقف المجلس الأعلى من العمل
تحت المظلة الأمريكية مستغرباً من قِبَل المراقبين؛ خصوصاً أن أحزاباً شيعية
فاعلة على الساحة رفضت التعامل مع المشروع الأمريكي مثل حزب الدعوة، ومن
المعلوم أن المجلس الأعلى مرتبط بالسياسات الإيرانية على الرغم من تأكيد المجلس
على استقلاليته، ويرى المراقبون أن السبب يعود إلى تيقن المجلس وإيران من أن
التغيير على يد الأمريكان أمر واقع لا محالة؛ لذا فإن الواقع يتطلب الوقوف في
خندق الأقوى والتحالف مع الشيطان الأكبر في سبيل الحصول على أكبر المكاسب
عملاً بمبدأ: (الغاية تسوِّغ الوسيلة) .
أما قراءة موقف الأحزاب التي رفضت المشاركة وقاطعت المؤتمر فيكون
على الشكل التالي:
الحزب الإسلامي العراقي: يعتبر الحزب الإسلامي العراقي أبرز المقاطعين
لمؤتمر المعارضة لكونه الممثل الوحيد للسنة في تشكيلة المعارضة العراقية؛ وقد
سوَّغ الدكتور إياد السامرائي رئيس المكتب السياسي للحزب سبب المقاطعة في بيان
له جاء في نصه: (منذ أن تجاوبنا مع الدعوة التي وجهت إلينا للمشاركة في مؤتمر
المعارضة العراقية، على أساس أنه مؤتمر يعقده العراقيون من أجل الاتفاق على
تصورات الوضع المستقبلي وتنسيق الجهود للتخلص من النظام الدكتاتوري القائم
في العراق وتجنيب البلد والشعب الفتن خلال الأشهر الصعبة القادمة، ونحن لم
نتوقف عن إشعار القائمين عليه بأهمية قيامه على أسس سليمة تحقق له النجاح؛ إلا
أن جهودنا تلك باءت بالإخفاق.
وبعد أسابيع من الحوارات والمذكرات المرفوعة إلى الأطراف القائمة عليه
نجد أنفسنا غير قادرين على المضي في مشروع يفتقد الحد الأدنى من مقومات
النجاح على مستوى آمال وتطلعات شعبنا العراقي، وهذا يجعلنا في موقف صعب
أمام مبادئنا التي نعمل من أجلها وأمام أبناء شعبنا الذين وضعوا ثقتهم بنا؛ لذلك
نعلن اعتذارنا عن المشاركة في هذا المؤتمر، وبروح أخوية نحذر المخلصين الذين
ساقهم اجتهادهم إلى المشاركة فيه، على الرغم من كل السلبيات التي شخصوها من
المزالق الخطيرة التي يراد انجرارهم إليها، ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نثمن
موقف الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على كل ما
بذلاه من جهد في دعم موقفنا، ونؤكد لهم موقفنا الثابت في العمل المشترك من أجل
عراق دستوري تعددي حر ومستقل وموحد يتمتع فيه شعبنا الكردي بوضع فدرالي) .
وحول الدور الأمريكي أوضح (إياد السامرائي) أن (الحديث عن المؤتمر
في البداية كان يدور حول مؤتمر عراقي من حيث الأجندة والتمويل والترتيب
والدعوة، ولكن فوجئنا بتدخل أمريكي وسيطرة كاملة على المؤتمر في كافة هذه
القضايا انتهى بمذكرة من عشر نقاط تحمل وجهة النظر الأمريكية المقررة لمسيرة
المؤتمر وأهدافه ونتائجه) .
حزب الدعوة الشيعي: تعتبر مقاطعة حزب الدعوة للمؤتمر بالغة الأهمية؛
لأنه حزب له قواعد وجماهير عريضة بين جماهير الشيعة.
وحول سبب المقاطعة قال إبراهيم الجعفري الناطق الرسمي لحزب الدعوة
الإسلامية بأن رفض حزبه المشاركة في مؤتمر لندن يعود إلى عدم توفر المؤتمر
على أهم مفردات نجاحه، منها استقلالية القرار السياسي العراقي، ومدى تمثيل
المؤتمر لأوسع القطاعات الجماهيرية.
الجبهة الوطنية الإسلامية: وهي تجمُّع لأربعة أحزاب شيعية صغيرة. وقد
أعلنت بياناً مشتركاً لها نشر في صحيفة الشرق الأوسط وضحت فيه سبب مقاطعتها
للمؤتمر.
حركة الجهاد المسلح في الأهوار وهي حركة شيعية: اتهمت اللجنة التحضيرية
لمؤتمر المعارضة بتغليب المصالح الخاصة على مصالح الشعب العراقي وأهدافه؛
جاء ذلك في بيان لها نشرته جريدة الزمان.
الإسلاميون المستقلون التركمان: انتقدت هذه الجماعة التي تتخذ من ألمانيا
مقراً لها (تغييب التركمان) عن مؤتمر المعارضة العراقية.
حركة الإصلاح الوطني: نشرت صحيفة الشرق الأوسط رسالة وجهها رئيس
الحركة سامي عزارة المعجون إلى اللجنة التحضيرية للمؤتمر ينتقد فيها المؤتمرين،
ويعتذر عن المشاركة معهم.
تحالف على هامش المؤتمر: أعلن الناطق الرسمي باسم جماعة العلماء
العراقيين الشيخ (محمد باقر الناصري) أن 13 فصيلاً وطنيًا عراقيًا قاطعت
مؤتمر المعارضة العراقية المنعقد في لندن، وقال إن الفصائل الـ 13 اتفقت فيما
بينها على 3 قضايا جوهرية هي:
أولاً: أنها تهدف - كما تهدف المعارضة العراقية بمجملها - إلى الإطاحة
بنظام الرئيس العراقي الحالي صدام حسين.
ثانياً: أنها لا ترفض من حيث المبدأ وجود دعم دولي نزيه يساعد الشعب
العراقي على إقامة حكم ديمقراطي يقوم على أسس جديدة تحترم حقوق الإنسان
والتعددية السياسية.
ثالثاً: أن يكون التغيير بيد العراقيين أنفسهم، وألا تكون الكلمة الأخيرة في
هذا التغيير القادم لقوى أجنبية. تختلط مصالحها الخاصة بالحالة العراقية التي تنشد
تغيير النظام. وأوضح الناصري «أنه لا يشك مطلقًا في وطنية القوى المشاركة في
المؤتمر» لكنه أضاف: «بعضهم لم يقدروا المصلحة الوطنية حق تقديرها،
وانساقوا وراء دعاوى وأجندة أمريكية تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها، مستخدمة
في ذلك القوى العراقية التي حضرت المؤتمر» . وأشار «الناصري» إلى أن
التحالف الوطني الإسلامي العراقي - الذي انبثق منذ 4 أشهر عن التحالف الوطني،
ويضم 4 فصائل إسلامية، بينها جماعة العلماء، وحزب الدعوة الإسلامي،
والحزب الإسلامي، والاتحاد الإسلامي الكردستاني - قد انضم إلى عدد من القوى
الاشتراكية الوطنية - وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي (الجناح المضاد
للسلطة) ، والحزب الشيوعي العراقي، بالإضافة للتيار الوطني الديمقراطي وقوى
يسارية أخرى - وشكلت هذه القوى في مجملها الاتحاد الوطني المعارض لجبهة
المعارضة التي تسير في فلك السياسة الأمريكية.
وأكد «الناصري» أن هذه الفصائل جميعها تتفق في الخط العام بشأن
ضرورة تغيير النظام؛ بشرط أن يتم ذلك بأيدٍ عراقية، وألا يتم بالآلية التي يجري
التخطيط لها عبر مؤتمر لندن.
* نتائج المؤتمر:
في فندق الهيلتون بلندن جرت فصول المؤتمر الذي ناقش عراق (ما بعد
صدام حسين) بحضور أمريكي تمثل بالسفير الأمريكي منسق شؤون المعارضة
العراقية (زلماي خليل زادة) ورئيس قسم شمال الخليج في وزارة الخارجية
البريطانية (ديفيد بيرس) وفريق عمل أمريكي يضم (هنري مان) ، (إيفان
كولبرج) ، (سامنسا رافيدج) ، (روبرت رايلي وتوم وارك) من وزارتي
الخارجية والدفاع الأمريكيتين ومكتب نائب الرئيس الأمريكي، وفي الطابق الرابع
عشر محل إقامة سفير الرئيس الأمريكي فوق العادة كانت تدور كواليس المؤتمر؛
بينما اقتصر الطابق الثالث على أنشطة المؤتمرين واجتماعاتهم وخطاباتهم؛ فقد
تحول الطابق إلى مركز اتصالات خلفي حيث توافد أغلب الأعضاء المشاركين في
المؤتمر، وعقدوا لقاءات منفردة مع زادة وبيرس والفريق الأمريكي، وهدف زادة
من هذه اللقاءات هو رغبته باختيار قيادة للمعارضة تتكون من أكاديميين وكفاءات
عراقية من غير السياسيين يعرضها على مجموعة الستة لإعلانها في ختام المؤتمر
كقيادة للمعارضة، بينما عرضت مجموعة الستة أن تتكون القيادة من ممثلين عنها،
وهو الأمر الذي أدى إلى انقسام المؤتمر على نفسه بعد أن هدد أكثر من 120 من
المشاركين المنتمين إلى التيارات القومية والليبرالية واليسارية إضافة إلى العسكريين
بالانسحاب من المؤتمر، وجاهروا بمقاطعتهم لأعماله، ووجهوا اتهامات باستثناء
أطراف معينة من العمل الوطني وإقصاء أطياف أخرى، مما أفرغ المؤتمر من
زخم تمتع به قبل انعقاده، بينما أبلغ السفير الأمريكي منسق شؤون المعارضة
مشاركين في المؤتمر التقاهم داخل مكتبه في فندق هيلتون أن الطاقم التقليدي الذي
ترأس الجلسة الافتتاحية ستنتهي مهمته بتغيير النظام الحالي، ويتحول إلى لجنة من
الحكماء، وستعتمد الولايات المتحدة في حكم العراق على أسماء من الداخل
وشخصيات عراقية من جيل الشباب لم يشارك عدد منهم في المؤتمر الحالي، وكان
زادة قد اضطر للتدخل بعد أن قاطع عدد كبير من المشاركين الاجتماعات، وقام
بعقد لقاءات منفردة مع بعض الشخصيات التي هددت بالانسحاب، واستمع إلى
وجهات نظرهم، وقال الشخصية المستقلة (ليث كبة) المقرب من الإدارة
الأمريكية: (إن سبب التهافت على الانضمام لهذه اللجنة هو وجود اعتقاد خاطئ
بأنها ستكون بمثابة وزارة عراقية بعد التغيير) وقد بينت الجماعات والشخصيات
التي قاطعت المؤتمر ضرورة (المراجعة النقدية) الكفيلة بردم الفجوة، معربين
عن أسفهم لغياب جماعات وشخصيات بارزة، واتفقوا على أن هذا المؤتمر يمثل
نصف المعارضة في أحسن الأحوال مشيرين إلى أن التمثيل الكردي هو التمثيل
الوحيد الذي كان كاملاً وصحيحاً، إلى جانب التمثيل التركماني الذي عكس جميع
التيارات السائدة في الوسط السياسي التركماني.
أما التمثيل العربي فقد كان جزئياً ولا يكاد يمثل نصف التيارات الناشطة،
وقال بعض المشاركين في المؤتمر إن قرارات المؤتمر اتخذت قبل انعقاده،
وأشاروا إلى أن المبعوث الأميركي (زلماي خليل زاده) حسم الخلافات في لقاء
بجناحه في فندق الهيلتون ميتروبوليتان مع أبرز قادة المعارضة؛ فبينما كانت أبرز
شخصيات المؤتمر وهم مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني،
وجلال الطالباني زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والشريف علي بن
الحسين راعي الحركة الدستورية الملكية، وإياد علاوي رئيس حركة الوفاق
الوطني، وأحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي، وعبد العزيز الحكيم
ممثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية تدير الاجتماعات الحقيقية مع خليل زاده،
انشغل بقية أعضاء المؤتمر بحضور اجتماعات في الطابق الثالث من الفندق
والاستماع إلى الخطب وحضور مناقشة أوراق المؤتمر التي تتعلق بمستقبل العراق،
والمرحلة الانتقالية، وعندما تسربت أنباء نقاشات اجتماعات «الطوابق العليا»
إلى رواد «الطابق الثالث» حدث سجال ساخن، وهددت بعض الأحزاب
بالانسحاب قائلة إنها تجد نفسها مجرد «ديكور» لتجميل صورة المؤتمر، على
حين كادت مبادرة السفير الأمريكي نفسه أن تنسف المؤتمر بأكمله حين قال إنه
سيختار قيادة تتكون من 10 أشخاص لإدارة لجنة المتابعة على أن تقدم قيادة المؤتمر
لائحة من 40 شخصاً تتفق عليها، حيث هددت الأحزاب الستة بالانسحاب من
المؤتمر إذا مضى السفير في هذا المقترح.
* التمثيل:
تعتبر مسألة التمثيل من أصعب وأعقد القضايا التي تواجه المعارضة العراقية؛
لأن هذه المعارضة قائمة على أساس التنوع الإثني والقومي والمذهبي والديني،
وهذه المرجعيات تحمل في ثناياها الكثير من التناقضات والحساسيات التاريخية
والفكرية والإيديولوجية، وقد تم الاتفاق على تشكيل لجنة متابعة وتنسيق من 65
عضواً ثلثهم تقريباً من الشيعة للإعداد لمرحلة (ما بعد صدام حسين) وقد تم توزيع
المقاعد على الشكل التالي: 40% للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، و 25%
للأكراد، و 6% للتركمان، و 3% للآشوريين، والـ 26% الباقية لقوى السنة
والليبراليين والقوميين الممثلين في المؤتمر، ونلاحظ أن المجلس الأعلى قد هيمن
على أكثر من ثلث المقاعد، وأن السنة مهمشون في هذا الأطار، وهذا الأمر
أغضب جميع الأطراف بما فيهم الشيعة أنفسهم، واعتمدت هذه النتيجة إثر ضغوط
أميركية مكثفة على المشاركين أدت إلى انتزاع توافق بينهم، وكانت الخلافات حول
نسب تمثيل فصائل المعارضة المختلفة داخل لجنة المتابعة والتنسيق التي يعتقد
المعارضون أنها ستعكس نسب التمثيل في أي حكومة انتقالية في حال سقوط نظام
الرئيس العراقي صدام حسين أدت إلى تمديد أعمال المؤتمر لمدة 24 ساعة.
وأفاد مشاركون في المؤتمر أن (زلماي خليل) زاده سفير الولايات المتحدة
فوق العادة هدد بأن تلجأ الولايات المتحدة إلى «خيارات أخرى بما فيها خيار تعيين
حاكم عسكري في العراق (بعد سقوط النظام الحالي) إذا لم ينته هذا المؤتمر إلى
اتفاق، وقد اعتمد المشاركون في المؤتمر نسب التمثيل التي سبق أن تم الاتفاق
عليها في مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد عام 1992م في مصيف صلاح الدين
الواقع شمال محافظة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، وهي 66 بالمئة للعرب
(السنة والشيعة) 25% للأكراد، 6% للتركمان، 3% للآشوريين.
وأقر المؤتمر وثيقتين الأولى من صفحتين بعنوان: (مشروع المرحلة
الانتقالية) والثانية من عشر صفحات بعنوان: (البيان السياسي لمؤتمر المعارضة
العراقية) دمجت فيهما وثيقة ثالثة بعنوان: (مسودة تصور حول مستقبل العراق)
كانت موضع خلاف، وتنص الوثيقة الأولى على إجراء استفتاء عام حول ما
سيكون عليه شكل الحكم في العراق: هل هو ملكي أم دستوري؟ وتقضي بتولي
حكومة انتقالية إدارة شؤون البلاد لفترة انتقالية أقصاها عامان على أن يشكل
(مجلس سيادي من ثلاثة من القادة من ذوي الماضي النضالي المشرف والمشهود لهم
بالنزاهة) لتولي مهام رئاسة الدولة، ولكن الوثيقة لا توضح بالتفصيل صلاحيات
هذا المجلس، ولا كيفية اختيار أعضائه الثلاثة. وتنص الوثيقة الثانية على حل
مشكلة الأكراد من خلال إقامه نظام (فدرالي ديموقراطي تعددي) في العراق،
وعلى ضرورة رفع الاضطهاد عن (الغالبية الشيعية) . وتؤكد الوثيقتان أن الإسلام
دين الدولة، وأن الشريعة الإسلامية (من مصادر التشريع الأساسية) . وكانت
الوثيقة الثالثة التي ألغيت تنص على إجراء إحصاء سكاني وعلى (إقامة برلمان
وطني في إطار الدستور الذي يحدد عدد النواب على أساس النسب الواقعية لكل
المكونات القومية والمذهبية للشعب العراقي) لكن هذه الفقرة أسقطت تماماً من
الوثيقتين اللتين تم إقرارهما من المؤتمر.
وقد أعلن الشيخ جمال الوكيل الأمين العام لحركة الوفاق الإسلامي انسحاب
حركته وكل من حركة تيار الإمام الصدر ورابطة علماء الدين في العراق والحركة
الإسلامية لتركمان العراق والحركة الإسلامية في كردستان العراق من مؤتمر
المعارضة العراقية المنعقد في لندن احتجاجاً على ما وصفه بتجاوز بعض الأطراف
مبدأ التعددية والديمقراطية، وذكر الوكيل بالاسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية
في العراق، وقال إن الحركات المنسحبة الخمس ترفض هيمنة المجلس الأعلى
على التيار الإسلامي، واتهم أطرافاً خارجية أخرى بالوقوف وراء المجلس، وهو
الأمر الذي أثار اعتراضات من جانب المسلمين العرب السنة الذين اشتكوا من عدم
منحهم تمثيلاً يعكس ثقل طائفتهم في العراق، وفي هذا الإطار قال السيد مسعود
البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني إنه لا يجوز اعتبار مؤتمر لندن
ممثلاً لكل فصائل المعارضة العراقية؛ حيث لا يزال هناك قوى وشخصيات
وأحزاب لم تحضره، وعبر بارزاني عن قناعته بوجوب الاستمرار في الاتصال
بهذه الحركات.
* المعارضة العراقية ومستقبل العراق:
بعد أن أصبح ضرب العراق وتغيير النظام فيه من قبل الأمريكان أمراً حتمياً
ومسلَّماً به بحسب ما تشير إلى ذلك الأحداث والوقائع والتحركات العسكرية
الأمريكية، بات من الضروري أن نطرح التساؤل عن مستقبل العراق في ظل
المتغيرات الدولية والإقليمية، وفي ظل الخلافات والنزاعات التي برزت فصولها
في مؤتمر المعارضة العراقية، حيث سعت فصائل وطوائف للهيمنة على قرار
المعارضة وفرض وقائع جديدة قد تكون مقدمة لتشكيل واقع عراقي جديد إذا ما سقط
النظام الحالي، وإذا كانت سياسة الهيمنة والإقصاء معتمدة من جلسات المنافي فإن
العودة إلى الوطن تنذر بمزيد من التصعيد والعنف بما يحقق تكهنات لطالما ترددت
أصداؤها هنا وهناك حول مشروع لبننة العراق وتقسيمه توطئة لمشروع سايكس -
بيكو جديد يلوح في الأفق، خصوصاً أن بعض دول الإقليم قد تدفع إلى مثل هذا
الخيار من خلال دعم فصائل معينة لاعتبارات أيديولوجية واستراتيجية وتاريخية،
ويمكننا على ضوء ذلك أن نفسر سبب التوافق بين الأمريكان وبعض الفصائل
المعارضة التي تعتبر خلافها مع الأمريكان خلافاً عقائدباً، فحين تلتقي الغايات
تنسى الخلافات، والمراقب للسياسة الأمريكية في العالم يدرك أن الأمريكان لا
يعملون على حل الأزمات وفك الخصومات والنزاعات بل يعملون على إدارة
الأزمات، ونشوب حرب أهليه في العراق يتناغم مع المصالح الأمريكية وحلفائها
في المنطقة مرحلياً؛ فالجيش الأمريكي سيحتل منابع النفط بحجة حمايتها، والعالم
الغربي سيبارك الخطوة على أساس حماية مصالحه التي تستوجب المحافظة على
تدفق البترول بأسعار مناسبة، وإذا كانت الحروب المتعاقبة على العراق كفلت
تدمير المقدرات المادية التي يمكنها أن تستخدم لنهوض البلد فإن الحرب الأهلية
ستتكفل بهجرة العقول العراقية التي اكتسبت الخبرة وتمرست على فن صناعة
المستحيل وهو الأمر الذي يقلق الأمريكان وحلفاءهم في المنطقة، ومن هنا تجد
التركيز على قضية العلماء العراقيين وتسفيرهم للخارج تأخذ أولويتها في أجندة
المفتشين الدوليين على السلاح العراقي.
لا يمكن لأحد أن يدعي القدرة على قراءة ما يخبئ المستقبل للعراق في الأيام
القادمة نظراً لغموض الأهداف الأمريكية وخططها في المنطقة، وهي بلا جدال
اللاعب الأساسي فيها نظراً لحالة الضعف والوهن العربي على كل الصعد، ولتفرُّد
الولايات المتحدة بقيادة العالم بلا منازع.
يبقى التعويل على وعي أصحاب الشأن للواقع بكل معطياته، ولعدم الانجرار
وراء نزعات ونزوات شخصية وفئوية قد تكون فيما بعد الأرضية التي تمهد لتنفيذ
المخططات المبيته للمنطقة.
__________
(*) باحث عراقي - كردستان.(184/66)
المسلمون والعالم
أهل السنة في العراق
والتحديات الجديدة
د. سلمان الظفيري [*]
salman@ntlworld.com
العراق بلد مسلم، تم فتحه وتمصير الأمصار فيه في عهد الخليفة الراشد أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو بلد دخله الصحابة وأقاموا به،
وهو موطن أبي حنيفة وأحمد وابن الجوزي وابن رجب، وهو عاصمة
الراشدين في أيام أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، وهو مركز خلافة
المنصور والرشيد والمأمون والمتوكل، وهو بلد الحنفية والحنابلة، وبعد
انكسار بغداد وضمور أمر العباسيين كانت بغداد سُنّية في العهود العثمانية، بل
الجنوب العراقي قبائله سُنّية، وحب الصحابة كان لواؤه عظيماً فيهم، لكن بعد
نجاح الصفويين ونشاط دعاة الرافضة في «المحمرة» و «عبادان» فشا الرفض
في الجنوب. فالداء حديث والبلاد سُنّية.
* الوجود السُّنّي الحالي في العراق:
توجد في العراق الآن عدة محافظات سُنِّية؛ منها ثلاث هي: (الموصل
وصلاح الدين «تكريت» والرمادي «الأنبار» ) ، وأربع محافظات كردية سُنيَّة،
وهي: (دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك) ، وحسب مؤتمر المعارضة
الأخير؛ فإن عدد الأكراد في العراق يمثل 25% من نفوس العراق، وهو ما
يساوي 6 ملايين نسمة، وحسب التعداد العراقي الرسمي؛ فإن محافظة الرمادي
يبلغ تعداد سكانها مليون نسمة، والموصل مليونين ونصف، وتكريت مليونين،
وأما بغداد فالمشهور أن السُّنَّة فيها لا يقلِّون عن النصف، والتعداد الرسمي يقول إن
بغداد 6 ملايين نسمة، فهذه 3 ملايين سُنِّي في بغداد، ويوجد تجمع سُنِّي كبير في
محافظة ديالى، وهي إلى الشرق، وهكذا يوجد تجمع سُنِّي في محافظة بابل
(الحلة) ، ويوجد تجمع سُنِّي ثالث كبير في محافظة البصرة، ولا يقل التجمع
السُّنِّي في هذه المحافظات الثلاث عن المليون.
التركمان في العراق حسب مؤتمر المعارضة الأخير 6%، وهم في العراق
على النحو التالي:
1 - منطقة كركوك، وأكثرهم في هذه المنطقة، والشيعة قلة في كركوك.
2 - منطقة تلعفر، وهم قلة شيعية.
3 - منطقة خانقين، والتركمان قلة في هذه المنطقة، والظاهر أن أكثرهم سُنَّة.
ولو قلنا إن نصف التركمان سُنَّة؛ فلا ينزل العدد عن مليون.
وبناء على هذا التقسيم التقريبي القريب من الحقيقة؛ فإن عدد السُّنَّة يبلغ 16
مليون نسمة.
وبالنظر إلى الجدول الآتي الذي اتفق عليه المجتمعون من المعارضة في لندن،
وهو:
1 - العرب: 66% (من السُّنَّة والشيعة) .
2 - الأكراد: 25%.
3 - التركمان: 6%.
4 - الآشوريون: 3%.
يظهر لنا أن 16 مليوناً من السُّنَّة يتكونون من 6 ملايين كردي، ومليون
تركماني، فيكون عدد العرب السُّنَّة 9 ملايين، ويكون عدد الشيعة العرب 6 ملايين،
ويبقى المليون الأخير من عدد سكان العراق البالغ 23 مليوناً هو للآشوريين وهم
نصارى العراق.
ولا يعترض معترض هنا فيقول هذا كله تخمين، فالجواب كيف تقدر
الولايات المتحدة الأمريكية عدد الشيعة بـ 60% - 67% [1] ؟
وكيف يزعم الشيعة أنهم يساوون 70% من سكان العراق؟ أليس هذا إجحافاً
من غير حياء، وكذباً بلا قرون؟! ثم إن العراق لا يوجد بها إحصاء رسمي للسُّنَّة
أو الشيعة، وفرق بين تخمين قائم على أصول علمية، وتخمين قائم على هوى
وعنصرية.
* التحديات الجديدة:
لقد كان التحدي الدائم لأهل السُّنَّة هو الانفصام النكد بين دوائر صنع القرار
وعلماء السُّنَّة، فبعد أن كان لعلماء السُّنَّة في العهود العثمانية في العراق الكلمة
والذكر؛ انطمست كلمة العلماء في العهود العلمانية، لكن ظل للعلماء قدر لا بأس
به من الحركة والدعوة، وتولي بعض مناصب القضاء والإفتاء والتدريس، وقد
برزت في العهود العلمانية أسماء لامعة في العلم والدعوة، كالشيخ الآلوسي،
والشيخ يوسف عطا، والشيخ قاسم القيسي، والشيخ أمجد الزهاوي، والشيخ نجم
الدين الواعظ، والشيخ محمود الصواف.. وغيرهم، إلا أن الوضع الجديد الحالي
يجعل أهل السُّنَّة أمام تحديات كبيرة وعظيمة تهدد الكيان السُّنِّي من جراء الغارات
العنصرية والطائفية التي يراد لها حصة في إدارة البلاد بعد الوضع الحالي.
وهنا ملاحظات جديرة بالانتباه؛ وهي:
1 - تم التحضير لمؤتمر لندن للمعارضة باجتماع في طهران بين الشيعة
برئاسة الحكيم، والبرزاني، والدكتور أحمد الجلبي علماني شيعي، وقد استبعد
أهل السنة من هذا الاجتماع!
2 - خلال اجتماع المعارضة في لندن تم انتخاب 65 عضواً في لجنة المتابعة،
وهي الهيئة التي ستقوم بالإشراف على سير الحكومة الجديدة، فلم يُنتخب أحد من
علماء السُّنَّة في هذه اللجنة؛ علماً بأن عدد الشيعة المعممين كان كثيراً في عضوية
اللجنة!
3 - ظهر في المؤتمر أن هناك اتجاهاً أمريكياً شيعياً يسعى إلى العمل سوياً؛
مما دعا الحزب الإسلامي العراقي الإخوان المسلمون إلى الانسحاب من المؤتمر،
وتهديد الأمين العام للحزب بأن الورقة الشيعية التي لوح بها مندوب «الحكيم»
نقابلها بأن هناك جموعاً كبيرة من الشيعة لا يحملون الجنسية العراقية [2] ، ثم
انسحب فصيل شيعي آخر متذمراً من أن جماعة «الحكيم» قد أكلوا الكتف كله،
وانسحب من السُّنَّة الحركة الإسلامية لكردستان العراق.
4 - التقارير الصحفية تشير إلى اتفاق سري بين أمريكا وإيران على أن
تعطي أمريكا لجماعة «الحكيم» حصة في مستقبل العراق السياسي، مقابل تفهم
إيران للوضع الجديد [3] .
5 - موقع (BBC العربية) سلط الضوء على الدكتور أحمد الجلبي،
ووصفه بأنه حاكم العراق القادم!
6 - طالب بعض العلمانيين العراقيين أن تكون حرية المرأة على النمط
الغربي، وحرية الشاذين جنسياً مضمونة في الدستور الجديد، وكان علماء الشيعة
حاضرين في المؤتمر؛ فلم تنقل جهات المؤتمر الصحفية أي اعتراض صدر منهم!
فالتحدي الذي يخيف هو هذه الجهود الكبيرة التي يبذلها الشيعة والعلمانيون،
في حين أن أهل السُّنَّة للأسف ليس لهم رابطة؛ اللهم إلا الحزب الإسلامي العراقي،
وحركة كردستان الإسلامية، والمطلوب في هذه الظروف أن يكون لأهل السُّنَّة
رابطة أكبر، وتجمع أوسع؛ يعي الظروف الحالية والمؤامرات التي تحاك في السر
بين واشنطن وطهران، ويمارس فيها «الحكيم» و «الجلبي» دور أدوات
التنفيذ والحماية لذلك المشروع السري، وإذا بقي أهل السُّنَّة ولا سيما العلماء
كالمتفرجين في أعلى المدرج؛ فإن الدائرة على أهل السنة تكون - والعياذ بالله -
كما حدث في إيران الخميني بعد انتصاره.
ومن الواضح في الملاحظات السابقة أن هناك تجاذباً وحرارة بين الشيعة
والغرب، وخاصة أن رئيس المجلس الشيعي العراقي «الحكيم» تمت دعوته إلى
أمريكا للتفاهم معه، كما تم تحت سمع أمريكا والغرب التحضير لمؤتمر المعارضة
الذي انعقد في لندن في طهران، وقد حضر هذه الاجتماعات مهدي كروبي رئيس
البرلمان الإيراني، وتم إعداد الطبخة هناك، والتي كانت هي الزبدة بعد ذلك في
مؤتمر لندن.
فأهل السُّنَّة في العراق يواجههم تحد عظيم، هو هذا الطوق الشيعي العلماني،
والشيعة ليس عندهم مانع للتعامل مع العلمانيين ضد أهل السُّنَّة، وهذا واضح في
مذكرات التفاهم بين الأحزاب الكردية العلمانية والشيعية، وكذلك التفاهم بين
«الجلبي» رئيس المؤتمر الوطني العراقي وهو أكبر جهة في المعارضة مع إيران،
وجماعة «الحكيم» .
وقد كان المتحدث في المؤتمر الصحفي الذي عقد في آخر مؤتمر المعارضة
هو مندوب «الحكيم» و «الجلبي» و «الطالباني» ، وهي إشارة واضحة إلى
إقصاء أهل السُّنَّة، وأن كعكة العراق ستكون وقفاً على الرافضة والعلمانية،
ومستقبل العراق إذا كان يجري على هذا النسق؛ فإن أنوار الحرية لن تكون كما
يقولون سوف تشرق على جميع البلاد وأحراره، بل سوف تكون معوقات الحياة
أصعب وأكثر مما هي عليه الآن.
ويظهر لي أن التعاون بين الغرب والشيعة في العراق هو جزء من مخطط
تلميع الشيعة في المنطقة؛ بوصفهم طرفاً يمكن التفاهم معه، وغطاء إسلامياً للغرب
في المنطقة، وما احتواء الشيعة في البحرين، و «حزب الله» في لبنان إلا
خطوات مبكرة في هذا الاتجاه، فقد لُمِّع «حزب الله» وأُعطي هالة إعلامية أكبر
من حجمه، وهكذا شيعة البحرين أُعطوا هالة إعلامية، وصار الحديث عنهم وعن
دورهم حديث الصحافة وجمعيات الحقوق المدنية والإنسانية، ويأتي الاهتمام
بجماعة «الحكيم» الآن كحلقة مكملة لهذا المسار المتآمر على أهل السُّنَّة.
__________
(*) أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا.
(1) كما جاء في خطاب الرئيس بوش الذي أذيع في محطة (ABS) خلال انعقاد مؤتمر المعارضة، وكذلك موقع (ياهو) نقل عن تقارير أمريكية النسبة نفسها.
(2) وقد جاء ذلك في لقاء (الجزيرة نت) مع الأمين العام للحزب الإسلامي العراقي.
(3) نشرت ذلك مجلة العصر الإلكترونية.(184/76)
المسلمون والعالم
الخطط الأمريكية تجاه العراق قبل الحرب وبعدها
كمال حبيب
بالطبع؛ يفضل الأمريكيون أن يحققوا أهدافهم تجاه العراق بالسيطرة عليه
بأقل التكاليف المادية والعسكرية، وهم يستعدّون للحرب بتحريك القوات اللازمة لها
إلى مسرح العمليات في الخليج وتركيا بشكل أساسي؛ ليقولوا للنظام في العراق إن
قرار الحرب قد اتُخذ، لكن توقيتها هو الذي لا يزال موضع النظر في إطار
الملائمة السياسية والدبلوماسية والعسكرية.
وتواجه أمريكا في تقديرنا مشكلة جوهرية فيما يتصل بقرار شن الحرب على
العراق؛ تتمثل بشكل رئيس في تقديم الغطاء الشرعي والأخلاقي للحرب وفق
القواعد الاستراتيجية التي وضعتها أمريكا نفسها بعد الحادي عشر من سبتمبر،
فالعراق ليس له صلة بما تطلق عليه أمريكا «الحرب الدولية الجديدة على
الإرهاب» ، وأخفقت الاستخبارات الأمريكية والصهيونية في تقديم أدلة لوجود
علاقة بين النظام العراقي وبين تنظيم القاعدة، كما أن عمل المفتشين الدوليين
حتى اليوم، والذي استمر بضراوة لشهرين كاملين، تمت فيهما زيارة ما يقرب من
300 موقع عراقي؛ لم يقدم دليلاً واحداً على امتلاك العراق لأي أسلحة غير تقليدية
بيولوجية أو كيماوية أو جرثومية أو نووية، ولا ينتظر حتى كتابة هذا المقال أن
يكشف تقرير المفتشين الذي سيقدم إلى الأمم المتحدة يوم 27 يناير الجاري أي جديد
في هذا الصدد.
وتعتقد أمريكا أن المواقع الحقيقية للأسلحة غير التقليدية لا يمكن الوصول
إليها إلا عن طريق إزاحة نظام صدّام حسين؛ لذا فهي تروِّج الآن وحتى شن
الحرب إلى ضرورة أن يرحل صدّام عن العراق تفادياً لوقوع كارثة مدمرة؛ لذا
جرت مداولات من بعض دول المنطقة في إطار إقناع الرئيس العراقي بالرحيل
تفادياً لكارثة الحرب، والتي وصفها الرئيس المصري بأنها «ستبيد العراق» .
وتواجه أمريكا مشكلة فيما يتصل بوجود معلومات مخابراتية عن أماكن أسلحة
الدمار الشامل العراقية، والتي تزعم أنها السهم الأخير في جعبتها؛ حيث ستقوم
بتقديم هذه المعلومات إلى الأمم المتحدة والعالم عقب تقديم التقرير الرسمي للمفتشين،
وقد طالبت الوكالة الدولية للطاقة، ولجان التفتيش والمراقبة (إنموفيك) أمريكا
تقديم معلوماتها الاستخباراتية في هذا السياق، بل طالب النظام العراقي نفسه بذلك،
وتشير معلومات غير متداولة إلى قيام ممثلين للمخابرات المركزية الأمريكية
بالتفتيش عن هذه الأسلحة بموافقة النظام العراقي.
وأمريكا تعتقد بوجود أسلحة [1] ، كما تعتقد أن المفتشين لن يمكنهم الوصول
إليها؛ حيث تشير المعلومات إلى قدرة النظام العراقي الهائلة على إخفاء هذه
الأسلحة، كما أن النظم الشمولية السابقة في شرق أوروبا بعد سقوطها كشفت عن
وجود أسلحة مخبأة في مناطق سرية بباطن الأرض، كانت الحركة العامة تمضي
فوقها دون أن تشير إلى وجود عالم سري من الأسلحة تحتها.
وتراهن أمريكا باستقطاب العلماء العراقيين العاملين في البرنامج العراقي؛
على أن يكون لديهم معلومات في هذا السبيل تنقذ أمريكا بتقديم مسوِّغ للحرب ضد
النظام العراقي؛ خاصة أن المؤسسات الأمنية الأمريكية تراهن على أدلة دامغة
واضحة، كالصور التي جرى تقديمها للأسلحة النووية الروسية في الأزمة الكورية
عام 1961م.
وفي هذا السياق قدمت أمريكا للمفتشين قائمة بأسماء حوالي 100 عالم عراقي؛
من المحتمل وفقاً لرؤيتها أن يكون لديهم معلومات حاسمة بشأن البرنامج العراقي،
وتسعى أمريكا لتأمين هؤلاء العلماء وأُسَرهم؛ لذا فقد طالبت الأمم المتحدة
باستجوابهم في قبرص، وطلبت من «هانز بليكس» كبير مفتشي الأمم المتحدة
عمل ما أطلق عليه «وكالة للمفتشين» ؛ تقوم بتأمينهم وأُسَرهم؛ بما في ذلك
منحهم حق اللجوء السياسي، لكن الأمم المتحدة أوضحت أن هذا ليس من
اختصاصها، وحاولت أمريكا الضغط على الدول الأوروبية لقبول العلماء العراقيين،
لكن بريطانيا فقط هي التي أبدت استعدادها لاستقبال بعض المهندسين والعلماء،
وهو ما دفع مجلس الأمن القومي الأمريكي إلى التعهد بمنح اللجوء السياسي للعلماء
العراقيين الذين سيقدِّمون معلومات استخباراتية وأمنية عن برنامج التسلح العراقي،
وتشير المعلومات إلى أن المجلس تعهد بتوطين أسر 500 عالم عراقي في أمريكا
[2] من بين 20 ألفاً يعملون في مجال برنامج التسليح يُعتقد أن لديهم معلومات
حاسمة تسوّغ شن الحرب على العراق.
وفي السياق نفسه تراجعت إدارة الهجرة الأمريكية عن برنامج استقبال
اللاجئين العراقيين الذين حصلوا على تراخيص أمنية تسمح لهم بطلب اللجوء
السياسي لأمريكا [3] ، وفي كل الأحوال؛ فإن أمريكا ماضية إلى الحرب، لكنها
تسعى إلى تهيئة مناخها بكل السبل والوسائل؛ بما في ذلك الحديث عن احتمالات
عدم حتميتها إذا تنحى صدَّام عن السلطة.
ويتحدث بعض المراقبين عن أن رأس النظام العراقي هي المطلوبة لأمريكا
وليس برنامج تسلحه، وتربط أمريكا بين بقاء النظام بشكله الحالي واستمرار تهديده
للأمن الأمريكي والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، ومن ثم فإن مغادرة صدّام هي
البديل لتجنب الحرب، وعلى الدول المرعوبة من نتائج الحرب أن تقوم بدورها.
الخطير الآن في المشهد الذي فرضته أمريكا على العالم وخاصة العالم العربي
هو انتظار الحرب الأمريكية على العراق دون القدرة على التحرك لدفعها أو منعها،
وأصبح مسلّماً في تصريحات أكبر المسؤولين العرب أن «الحرب قرارها بيد
أمريكا وحدها، ولا يمكن منعها إلا بالخضوع للإملاءات الأمريكية» ، فالذعر يملأ
جوانح الأنظمة في العالم العربي، والحملة النفسية التي شنتها أمريكا أورثت
الأنظمة بعداً قدرياً جعلهم يعتقدون بأنه لا يمكن دفع القادم الأمريكي بمخاطره، وأن
طول الانتظار والقلق يدفعهم لتلمس لحظة النهاية وشن الحرب.. لمعرفة ما
سيحدث بعد.
لكن على الجانب الأمريكي؛ فإن الأمر لا يقتصر فقط على محاولة إقناع
الرأي العام الأمريكي والعالمي بالحرب، وإنما يتضمن أيضاً إقناع الدول دائمة
العضوية في مجلس الأمن بأن العراق منتهك للقرارات الأممية، وآخرها القرار
(1441) ؛ وذلك بعدم كشفه عن أسلحته عبر ما يُطلق عليه «البرادعي» رئيس
الوكالة الدولية للطاقة الذرية: «التعاطي الإيجابي وليس السلبي» ؛ أي إعلان
النظام العراقي نفسه عما لديه؛ فإذا لم يعلن فهو منتهك للقرارات الأممية والدولية،
وعليه يتم استصدار قرار جديد من مجلس الأمن بشن الحرب.
أما التصريحات الفرنسية بأن «الحرب ليس من الضروري أن تكون
حتمية» ؛ فهي إعلان عن عدم استبعاد الحرب، وعلى الجانب الروسي جرى
التفاوض معه حول حفظ مصالحه النفطية للموافقة على شن الحرب، والصين لن
تقف في وجه أمريكا من أجل النظام العراقي، ويرجِّح مراقبون أن يكون
التخفيف من الحديث عن الحرب باعتبارها البديل الوحيد هو جزء من الشعور
الأمريكي بأن الاستعدادات العسكرية ليست كافية بالقدر المتيقن منه، والذي
يحقق نصراً من وجهة النظر الأمريكية لا تنازعه أي تهديدات أو مفاجآت.
* الخطط العسكرية الأمريكية:
هناك في الواقع عدة سيناريوهات من جانب العسكرية الأمريكية للتعامل مع
المسألة العراقية، وكان «سيناريو ميلوسوفيتش» الذي يستند إلى هجمات جوية
ضارية أحد هذه السيناريوهات، كما أن منها السيناريو الأفغاني الذي يقوم على
محاولة بناء تحالف شمالي من القبائل الكردية، والقبائل الشيعية في الجنوب،
وخاصة أن البنية القبلية في العراق قوية، ولم يفلح الفكر البعثي أو الدولة القومية
الحديثة في القضاء عليها.
وتشير المعلومات إلى أن البعد القبلي في التكوين الاجتماعي للعراق لم يكن
في ذهن الأمريكان، لكن متخصصين في الشؤون العراقية [4] كشفوا لهم عن هذا
الجانب، وهو ما جعلهم يضعونه في الحسبان، وتشير المعلومات إلى أن جحافل
من المخابرات الأمريكية والمتعاونين معها حاولت شراء القبائل العراقية، ودفعت ما
يوازي 200 مليون دولار تقريباً لهم، لكن القبيلة العراقية مختلفة عن القبيلة في
أفغانستان، وهو ما جعل الرهان على القبائل العراقية يبدو ضعيفاً قبل الحرب
وإبَّانها، وكان ذلك أحد العوامل الرئيسة في تأخير موعد شن الحرب، كما كان
سبباً في القرار الأمريكي بالاعتماد كلياً على الجيش الأمريكي [5] .
وفي إطار السيناريوهات الفنية كان «رامسفيلد» يتصور أنه بالإمكان
الاعتماد على الحرب الجوية بمساندة القوات الخاصة الأمريكية، والتي تقتحم
القصور الرئاسية في عمليات جراحية خاصة لقتل صدام أو أَسْره هو وأسرته، لكن
«فرانكس» رئيس الأركان الأمريكية المشتركة والذي سيقود الجيوش الأمريكية
حين الحرب إذا وقعت استبعد هذا الخيار، وأكد أن العراق ليست أفغانستان، وأن
السيناريو المناسب للعراق هو الاستخدام الكثيف للقوات التقليدية، باعتبار أن
المعركة البرية ستكون حاسمة في السيطرة على العراق؛ ولذا بدأت عملية اندفاع
نقل القوات إلى منطقة العمليات، ويفترض «فرانكس» أن 200 - 250 ألف
جندي عدد كاف لحسم معركة العراق، ويرجِّح العسكريون الأمريكيون أن تكون
القوة التقليدية البرية كبيرة بما يحقق تشوشياً معنوياً للقوات العراقية، ويبدي
الأمريكيون عزماً على أن لا تطول معركة العراق؛ حتى لا يحدث تحول في الرأي
العام ضد الحرب، ويقدِّرون وفق تصوراتهم أن المعركة تكون في إطار ثلاثة
أسابيع إلى الشهر، كما يسعى الأمريكيون إلى أن تكون القوة الأمريكية الساحقة أداة
في ضمان نجاح الخطط الأمريكية العسكرية دون مواجهة مشكلات تؤثر على
المجرى الرئيس لها، والخطة الأمريكية كما تشير المعلومات التي حصلنا عليها إلى
أن إنزال النورماندي عام 1944م في الحرب الثانية هو أكثر النماذج المشابهة
للسيناريو المرجح في العراق، وتقوم هذه الخطة على الاعتماد بشكل واسع على
الدبابات، والمدفعية الثقيلة، وسلاح المشاة، بالإضافة إلى القوات الخاصة،
والمخابرات التي ستكون أدوات مساعدة.
وهناك محاور ثلاثة يتوقع الخبراء العسكريون أن تكون مراكز للهجوم
الأمريكي:
- تركيا في الشمال.
- والكويت من الجنوب.
- والأردن من الغرب.
ويتحدث الأمريكيون عن هجمات جوية تتراوح بين 500 - 1000 طلعة
جوية في اليوم، كما تشير المعلومات إلى تفوق عسكري أمريكي جوي يزيد بعشر
مرات عما كان عليه الأمر في حرب الخليج الثانية.
وإزاء إلحاح العسكرية الأمريكية التقليدية على ضرورة استكمال قوة أمريكية
حاشدة لا تقل عن ربع مليون؛ فإن بوش منح المفتشين فترة أطول لاستكمال عملهم
في العراق، وتشير المعلومات إلى أن هذه القوة ستحتاج إلى وقت يمتد إلى نهاية
شهر فبراير لتكون كاملة ومستعدة لشن الحرب على العراق.
هذه هي تصورات الأمريكان وخططهم، ولا توجد خطط واضحة على
الجانب الآخر (العرب) ، ومن المفترض أن الجيش العراقي يمثل قلبه الحرس
الجمهوري (80 ألفاً، و 15 ألفاً من الحرس الخاص) ، بالإضافة إلى 300 ألف
جندي من القوات التقليدية، بالإضافة إلى ميلشيات شعبية تعرف بـ «فدائي
صدام» ، وتشير المعلومات إلى أن حالة الجيش العراقي أسوأ مما كان عليه
الأمر في حرب الخليج الثانية، لكن معلومات استخباراتية صهيونية من قلب
العراق أفادت أن الوضع في العراق يحمل تعقيداً قد يؤدي إلى حرب مقاومة
شعبية؛ تقودها القبائل والمليشيات العربية السُّنِّية في المنطقة الوسطى؛ حول
بغداد والقطاعات والضواحي المحيطة بها، وهو ما جعل «داج فايت» أحد
مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية يسرع بلقاء المسؤولين الصهاينة ليوم واحد؛ لمناقشة
هذه المعلومات التي أفادت احتمال تكرار السيناريو الفيتنامي في العراق.
* الخطط الأمريكية لما بعد الحرب:
في وقت مبكر من بداية شن الحملة الأمريكية على العراق تسربت معلومات
عن ما يطلق عليه «aftar Marning» ؛ أي اليوم التالي للحرب.
أما ماذا سيفعل الأمريكيون بعد بدء اليوم الأول من الحرب؟ المعلومات
المتوافرة أن الحملة الجوية لن تهدف إلى ضرب البنية التحتية العراقية، وإنما
سوف تستهدف القصور الرئاسية، والمواقع العسكرية، والمواقع التي يتوقع أن
تكون بها أسلحة للدمار الشامل.
ولكن كيف سيدار العراق أثناء الحرب وبعدها؟
بعض السيناريوهات رشحت الجنرال القومي «فرانكس» ليكون القيصر
الأمريكي الجديد في العراق، ولكن وجود حاكم عسكري أمريكي قد يشوه صورة
الوجود الأمريكي عند العرب، وهو ما جعل هذا السيناريو يتراجع، لكنه لا يزال
مطروحاً على الأقل في فترة الحرب وعقبها مباشرة؛ حتى يمكن الوصول إلى
حكومة انتقالية ترتب أوضاع البلاد بعد الحرب، ومن المرجح أن تكون الغلبة في
تلك الحكومة للأقليات الشيعية والكردية والتركمانية؛ بينما ستتراجع المكانة العربية،
كما سيتراجع السنة؛ باعتبارهم القاعدة الاجتماعية والقبلية التي كان يتأسس عليها
النظام، وهم الذين يقطنون حزام الوسط العراقي في بغداد وما حواليها.
وتفيد التصريحات الأمريكية أن العراق سيبقى موحداً، ولكن في إطار
فيدرالي، وليس مستبعداً أن يكون هناك نظام ملكي برلماني على شاكلة النظام
البريطاني، وقد يبقى النظام جمهورياً رئاسياً، ولكن مع تعددية وديمقراطية
ومؤسسات برلمانية وغيرها، ولكن التقديرات الأمريكية تتحدث على وجه التأكيد
عن وجود عسكري أمريكي لمدة قد تصل إلى سنتين لإنجاز مهام التخلص من النظام
السابق؛ فيما يتصل بتدمير الأسلحة التي تقول أمريكا بوجودها، ولإعادة إعمار ما
دمرته الحرب الأمريكية، وتتحدث التصورات عن الاعتماد على البترول العراقي
في ضخ تكاليف إعادة الإعمار، ويبحث المسؤولون الأمريكيون على نطاق واسع
نماذج سابقة جرى فيها احتلال بلدان شبيهة ثم أعيد ترتيب أوضاعها بعد نهاية
الحرب، والنماذج التي تدرسها أمريكا على نطاق واسع هي: اليابان بعد الحرب
الثانية، وألمانيا بعد النازية، والفلبين عقب احتلال أمريكا لها بعد الإسبان.
ويرى المسؤولون الأمريكيون أن إعادة ترتيب أوضاع العراق بعد الحرب
ستُعد أكبر عملية دولية يقوم بها الأمريكان منذ الحرب الثانية، وهم يتحسبون
لذلك تحسباً خاصاً، ويستبعد الأمريكيون تأسيس حكومة منفى في الخارج؛ لأن
معارضي الخارج كما يتصورون ليس لهم شعبية في الداخل.
ويسعى الأمريكيون إلى تسويق صورتهم في العالم العربي لا بوصفهم قوة
احتلال؛ وإنما بوصفهم قوة تجديد وتحرير، لكن السيناريوهات الأمريكية لإعادة
بناء الجغرافيا السياسية للمنطقة بما في ذلك إعادة بناء نظمها السياسية والاجتماعية
والتربوية مرهونة بما سيحدث في العراق، وفي كل الأحوال؛ فإن الترتيبات
الأمريكية الجديدة ستفتتح حقبة جديدة في العالم العربي؛ يمكن وصفها بـ «الحقبة
الأمريكية» ، وهي حقبة «احتلال أمريكي» جديد للمنطقة؛ فهل ستكون فاتحة
لعصر الاحتلال أم المقاومة؟
نحن نعتقد أن الاحتلال يفرض المقاومة، وربما سيكون هناك خط صِدَام
حضاري جديد بين الإسلام والغرب في بغداد، لكنه بالقطع سيكون صِدَاماً دموياً.
__________
(1) تستند أمريكا في اعتقادها هذا إلى قيام وزير الدفاع الأمريكي الحالي (رامسفيلد) بتزويد العراق بالأسلحة غير التقليدية، التي قام العراق باستخدامها فعلا على نطاق واسع في حربه مع إيران، حيث كانت أمريكا فزعة من احتمالات وصول موجات المقاتلين الإيرانيين إلى البصرة وتهديد أمن الخليج.
(2) القرار الحالي لقبول اللجوء السياسي منح 100 عالم من أي جنسية حق اللجوء السياسي؛ حيث يمنح العالم هذا الحق إذا أعطى معلومات أمنية وسياسية.
(3) يوجد مليونا عراقي فار من نظام صدام، في تركيا، والأردن، ومناطق الأكراد في الشمال.
(4) يقال إن (الشريف علي) - أحد أعضاء الأسرة الحاكمة في العراق قبل النظام الجمهوري - هو الذي نبه الأمريكيين لهذا.
(5) تشير المعلومات إلى أن 15 مليونا من الشعب العراقي - أي حوالي ثلثيه ينتمون إلى القبائل التي تبلغ 200 - 300 قبيلة تقريبا، وتصل إلى أكثر من ألف فخذ، ومن ثم فالأساس القبلي عميق وقوي في العراق.(184/80)
المسلمون والعالم
«هل» الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد؟!
أمير سعيد
amirsaid@hotmil.com
«الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد» ، لم يكن وزير خارجية الولايات
المتحدة الأمريكية الأسبق، ومنظّر استراتيجياتها الفريد «كيسنجر» ؛ متجملاً
بعبارات بلاغية براقة حين أطلق عبارته السابقة، فالوقت لم يعد فسيحاً لإلقاء
الخطب، وإطلاق التصريحات الرنانة؛ وإنما الوقت وقت تنفيذ استراتيجيات تعب
في وضعها العشرات من الباحثين البارزين من قادة اليمين «النصراني
الصهيوني» ، في العديد من مراكز صنع القرار الأمريكي لسنوات خلت.
ونحن كذلك؛ لم يعد لدينا وقت لنخطب أو حتى لنذرف الدمع، فلقد بلغت
السكِّين حد العنق، ولم نعد نملك سوى البوح بما يعتمل في نفوسنا السقيمة.. لا
نريد أن نستحضر ألماً؛ وإنما نريد أن نرسم صورة في خطوطها الأولى وحدودها
البدائية لما تنوي القوة الرئيسة الكبرى أن تفعله في منطقتنا العربية المسلمة؛ غير
غافلين عن أن الولايات المتحدة الأمريكية وقد جاءت بقضِّها وقضيضها،
وبأساطيلها وطائراتها وصواريخها ومدرعاتها ليست قدرنا المحتوم الذي لا يُردّ،
ولا تستطيع حاملات طائراتها العملاقة أن تستنقذ ذرة سلبتها ذبابة وقفت على أنف
رئيسها المغرور.
ماذا تخطط الولايات المتحدة للمنطقة العربية بعد إنهاء عدوانها على العراق؟
أو بعبارة أكثر دقة: ما هي تداعيات الضربة العدوانية على العراق؟
سؤال أصبح طرحه الآن ضرورة حتمية تفرضها تطورات أزمة الخليج،
وزحف اليمين «النصراني الصهيوني» على أعتاب مدائننا، ليس فقط على
الشعوب العربية المسلمة المقهورة؛ وإنما كذلك على الرؤساء والملوك والحكومات،
فقبل مئات السنين ظن الخليفة المغرور «المستعصم» آخر خلفاء بني العباس أن
الزحف التتري الرهيب لن يصل إلى مدينته؛ مرتكناً إلى تصوره الذي عبر عنه
بقوله: «سيتركون لي بغداد» !! وغني عن البيان أن الخليفة الذي استند إلى
طمأنة وزيره الشيعي «ابن العلقمي» قد قُتل مغدوراً، ودُمرت عاصمة خلافته،
في واحدة من أكبر المجازر التي عرفها التاريخ.
والحاصل أن الإدارات العربية ترتكن إلى الظن عينه؛ حينما اطمأنت إلى أن
الولايات المتحدة الأمريكية ستدع لها عواصمها؛ مسقطة بذلك حقائق التاريخ،
وحتمية السنن، وخصائص الأمم.
فالولايات المتحدة الأمريكية ورثت خصائص عديدة من الدولة الرومانية
القديمة؛ لعل من أبرزها أنها تؤمن بالنظرية نفسها التي آمن بها الرومان، والتي
تنبني على الإطاحة بالأعداء قبل أن تقوم لهم قائمة، وهذا المنطق الروماني هو
نفسه ما نصت عليه استراتيجية الأمن القومي الأمريكي المعروفة باسم «الدفاع
الوقائي» أو «الدفاع الاستباقي» ، وهو ما عبر عنه بوضوح «زيجينيو
بريجينسكي» المستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي في كتابه (ساحة الشطرنج
الكبرى) ، فقال: «إن الهدف قصير المدى للاستراتيجية الأمريكية هو تكريس
النفوذ الأمريكي؛ بهدف منع ظهور أي تحالف معاد يمكن أن يتحدى الزعامة
الأمريكية» .
ولكن لنتجنب الربط بين الإمبراطوريتين الرومانية والأمريكية وما يستتبعه
من سبر أغوار التاريخ، ولنعبر إلى حدود المستقبل حيث ترنو الولايات المتحدة
الأمريكية إلى تدجين دول المنطقة قيادة وشعوباً؛ وفق رؤية أمريكية شاملة تستند
إلى محاور محددة تتلخص فيما يأتي:
1 - المحور السياسي:
«حانت لحظة استعمارية جديدة» هذا عنوان المقال الذي كتبه منذ شهور
«سبستيان مالابي» في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، بهذه
الكلمات الأربع اختزل الكاتب البارز المحور السياسي للتخطيط الأمريكي في
المنطقة العربية، فقبل 86 عاماً عندما وضع الفرنسي «بيكو» والبريطاني
«سايكس» خريطتهما للمنطقة العربية؛ لم يكن يدور بخلدهم أن تخطيطهم بالقلم
«الرصاص» سيدوم كل هذه المدة الطويلة، وأن حدود الاحتلال المصطنعة
سيذب عنها أصحاب البلاد العربية الأصليون أكثر من صُنَّاعها؛ والحق أن الحدود
التاريخية، وإن غابت عن مخيلاتنا نحن؛ فإنها لم تغب يوماً عن أذهان صُنَّاع
السياسة الغربية في المنطقة العربية، وليس يدعو إلى الدهشة أن تجد حديث
المفكرين الغربيين يتناول الشام ككتلة واحدة، أو الجزيرة العربية ككيان واحد،
أو أن يبحث في الفروق بين الحجازيين والنجديين، أو أن يرصد القواسم المشتركة
بين شيعة إيران والعراق والسعودية والبحرين.
الغرب نفسه لم ينظر إلى المنطقة إلا ككتلة واحدة جرى تفتيتها وفق
«اجتهاد» (سايكس - بيكو) ؛ حينما كانت بريطانيا وفرنسا هما الدولتين
الاحتلاليتين العظميين في العالم؛ ليتم إدارة المنطقة بشكل جيد يحد من القلاقل
وييسر استنزافها.
وحين أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة الفاعلة في العالم الآن؛
أصبح معها «اجتهاد» (سايكس - بيكو) جزءاً من التاريخ، وأضحى التفكير في
«اجتهاد» آخر يضع مصالح اليمين «النصراني الصهيوني» فوق سلم أولوياته
له رواج كبير لدى مراكز صنع القرار الصهيو أمريكي.
والقصة قديمة، بدأت حينما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب
العالمية الثانية قوة عظمى، فغدت تشجع الثورات «الاستقلالية» في المنطقة،
وتمد نفوذها الاقتصادي عبر احتكاراتها النفطية في المنطقة العربية، لكنها تبلورت
بصورة واضحة حين تراءى للولايات المتحدة الأمريكية أنها أصبحت القوة العظمى
الوحيدة في العالم؛ حيث عمل واضعو استراتيجياتها على رسم ملامح مرحلة
(سايكس - بيكو) الثانية، ولعل أبرز ما رشح إلينا من ملامح تلك المرحلة؛ هو
خريطة الشرق الأوسط الجديدة التي تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية فرضها على
المنطقة، والتي تتضمن تقسيماً جديداً للمنطقة العربية يأخذ بالاعتبار ضرورة إنقاذ
الكيان الصهيوني في فلسطين من مأزقه الحالي، وإخضاع كامل الدول العربية؛
سواء بتقسيمها، أو خلخلة بنائها من الداخل لتهيئ المجال لتدجينها أمريكياً ... هذه
الخريطة صنعها يهوديان بارزان في الإدارة الأمريكية هما «بول وولفتز» نائب
وزير الدفاع الأمريكي، و «ريتشارد بيرل» رئيس مجلس السياسة الدفاعية،
وهما من صقور تيار اليمين «النصراني الصهيوني» المهيمن على الإدارة
الأمريكية الحالية.
وهذا الأخير «ريتشارد بيرل» قدم في عام 1996م تقريراً أصدره مركز
يشرف عليه معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة [1] ؛ طرح فيها تقسيماً
جديداً للمنطقة على غرار اتفاقية (سايكس بيكو) 1916م، و «بيرل» مع هذا
يعد الآن مسؤولاً مباشراً عن تنفيذ ما نظَّر له مسبقاً من خلال نفوذه في حملة
الولايات المتحدة الأمريكية العدوانية على شعب العراق المسلم، ومسؤولاً كذلك عن
«تبشيرها» بشرق أوسط ديمقراطي جديد.
الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت على لسان وزير خارجيتها «كولن باول»
عن مبادرة سياسية جديدة لترسيخ النظام الديمقراطي في المنطقة العربية؛ فهل تعني
بذلك نوعاً من التحرير من أَسْر الديكتاتوريات التي تحكمها؟ أكثر الناس تفاؤلاً،
وأقربهم التصاقاً بالمنظومة الغربية، وولاءً لزعيمتها الأمريكية؛ لن يملك الزعم
بأنها ترمي من خلال هذه المبادرة إلى إحداث ثورة ديمقراطية تطلق الحريات
الأساسية في الدول العربية، إن مغزى التخطيط الأمريكي خلاف ذلك، فهي حين
أطلقت مبادرتها الديمقراطية في ألمانيا الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية
كانت تقصد من ورائها تدجين ألمانيا، وقصقصة ريشها واستعداداتها المستقبلية
لمواجهة الولايات المتحدة. وقد يطرح منظورها نمطاً مشابهاً للحالة الألمانية في
الدول العربية، ويروجون لبضاعتهم تلك برغبة الولايات المتحدة في أن تبدل بحالة
الإحباط والقهر والذل والفقر السائدة في الدول العربية والتي أفرزت تلك الجماعات
والأحزاب الإسلامية «المتطرفة» و «الإرهابية» التي عجزت عن التغيير
السلمي الهادئ في ظل الديكتاتوريات العربية، فلجأت إلى «العنف والإرهاب»
أن تبدل بها حالة رفاهية وحرية لا تنتج نماذج كهؤلاء التسعة عشر الذين دمروا
برجي مركز التجارة والبنتاجون؛ بعد أن أنتجتهم «فلسفة القمع العربية» على
حد الافتراض الأمريكي.
هم الآن يروجون لهذه الأطروحة من خلال مبادرة (الشراكة من أجل
الديمقراطية والتنمية) لـ «كولن باول» ، ومن خلال العديد من توصيات المعاهد
البحثية الأمريكية، وعشرات المقالات في كبريات الصحف الأمريكية،
وتصريحات مفكري السياسة الأمريكية.
ولنلتقط من ذلك أنموذجين هنا:
الأنموذج الأول: يطرحه د. «بي دبليو سينجر» في تقرير أصدره
«مركز بروكينجز للدراسات المستقبلية» ، يقول فيه: «إن إخفاق (الدولة)
في العالم الإسلامي ساهم بشكل كبير في تدعيم شعور بالسخط العام تجاه
الولايات المتحدة الأمريكية، فالكثير من المسلمين يرون أن الإدارة الأمريكية
تحافظ على الوضع الراهن» المخزي «الموجود حاليّاً في البلدان الإسلامية؛ وأنها
تؤيد حالة» انعدام الكرامة «و» الذل «التي تشهدها الشعوب الإسلامية كل
يوم؛ نتيجة لتصرفات حكوماتها التي لا تتأخر عن استغلال سلطتها في جميع
المجالات، والقضية الفلسطينية خير مثال على ذلك. باختصار؛ الإدارة الأمريكية
يُنظر إليها على كونها الراعي للنظام الظالم، وممثلاً أساسيّاً لازدواج المعايير. إن
الشعور العام بالاغتراب في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى فقدان التقدم
السياسي والاقتصادي؛ قد ساهما في خلق المناخ الذي أفرز هجمات الحادي عشر من
سبتمبر وتمهيده، وما تبعها من ردود أفعال كثيرة في العالم الإسلامي. وحتى لو
استطاعت الإدارة الأمريكية اللحاق بزعماء القاعدة والقبض عليهم؛ فإن العاملَيْن
اللذين سبق أن ذكرناهما في أول الفقرة سيزالان موجودَيْن، ومن ثم يصير
» الإصلاح «السياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي من أولويات
الاستراتيجية الأمريكية، وهذا» الإصلاح «يمكن بالطبع أن يحقق أعظم المنافع
للحكومات الإسلامية نفسها؛ خاصة إذا أرادت الأخيرة الاحتفاظ بنظامها ... إن
التحدي الذي يسيطر على أذهان صانعي القرار الأمريكي اليوم؛ يتمثل حقيقة في
كيفية كسر تلك الحلقة التي يسير في فلكها السلطوية والفقر والإحباط والإرهاب مع
الاحتفاظ في الوقت نفسه بالمصالح الأمريكية.
إذا كان غياب الحرية والشفافية يمثل الجذر الأساسي للمشكلة؛ فإن
» الدمقرطة «يمكن أن تكون الطريق الأوحد للمساهمة في التخلص من حالة
الاغتراب التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية.
إن» الدمقرطة «يمكن أن تساهم في إيجاد حلول لمشكلات كثيرة في العالم
الإسلامي؛ منها: ضعف الحكومات النابع من الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة،
والعنف النابع من الصراعات الدائرة مع إسرائيل والهند وغيرها، وتأييد
المتطرفين من قبل العامة التي يتم استبعادها من المشاركة السياسية.
» الدمقرطة «ليست بالمهمة السهلة؛ فهي تستلزم جهوداً مكثفة من قبل
الإدارة الأمريكية.. تستلزم وضع أجندة أمريكية جديدة تجاه العالم الإسلامي..
تستلزم» دوراناً للخلف «، وإعادة النظر في العقود الماضية للسياسة الأمريكية،
فسياسة» الاستثناء «التي كانت تطبقها الإدارة الأمريكية سابقاً حيال الحكومات
الإسلامية المتحالفة لن يكون لها مجال في السياسة الخارجية الأمريكية؛ وإنما
سيجيء بدلاً منها سياسات أخرى تحض على حقوق الإنسان، وتحض على مبادئ
الشفافية والإصلاح، ليس هذا فقط؛ بل ستكون هذه السياسات شرطاً أساسيّاً لتقديم
برامج المعونات الأمريكية.
والمعضلة في هذا الأمر بالنسبة للإدارة الأمريكية هي أنها في الوقت الذي
ستقوم بالضغط فيه على تلك الحكومات الإسلامية؛ ستكون في أشد وفي أمس
الحاجة إلى تلك الحكومات؛ إذ إن الأخيرة تعد فاعلاً أساسيّاً تعتمد عليه واشنطن في
اقتلاع جذور الجماعات الإرهابية، ولنا في النظام السوري الذي يعد بعيداً كل البعد
عن النظام النيابي خير مثال.
أما المعضلة الثانية؛ فتتمثل في كون عملية» الدمقرطة «عملية غير
مضمونة، فالتاريخ يشهد على أنها عملية مؤلمة وبطيئة للغاية، فضلاً عن تضمنها
مخاطر عديدة تهدد باندلاع أعمال عنف من جانب الجماعات المتطرفة.
والسؤال أو الـ dilemma الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف تدفع الإدارة
الأمريكية نحو» الدمقرطة «بدون التعرض لمخاطر اندلاع العنف الذي يشنه
الإسلاميون الراديكاليون؟ فمن خلال» الدمقرطة «يمكن للإسلاميين الراديكاليين
وللجماعات المعارضة بوجه عام أن يَنْفُذُوا من» ثغرة الحرية «ليستولوا على
الحكم، كما حدث في الجزائر؛ الأمر الذي لا يصب نهائيّاً في المصلحة الأمريكية.
وأخيراً؛ تكمن المعضلة الثالثة في كيفية التعامل الأمريكي مع الأحزاب
الإسلامية، والتي ستتألق مع هبوب رياح» الدمقرطة «! ومن المنطقي أن تبدأ
الإدارة الأمريكية في فتح علاقات جديدة وإيجابية مع هذه الأحزاب؛ راغبة من
وراء ذلك في» تحسين «و» تعديل «رؤيتها للولايات المتحدة الأمريكية.
والحق يُقال؛ إن التفوق العسكري الهائل لدى الولايات المتحدة الذي ظهر
جلياً في أفغانستان، والذي سيظهر في العراق لم يقابله للأسف الشديد تفوق مماثل
في النطاق السياسي؛ فحتى الآن لم تستطع الإدارة الأمريكية بلورة خطة محكمة
عن كيفية التعامل مع الواقع السياسي في الدول الإسلامية، وتعد أفغانستان مثلاً حيّاً
لذلك.
خلاصة الأمر: أن الإدارة الأمريكية ملزمة إلزاماً شديداً بإيجاد سبيل لتدعيم
وتشجيع» الأصوات المعتدلة «التي تؤيد الإصلاح والتسامح؛ وذلك من خلال
امتصاص كل مصادر الضيق التي تغذي ظهور الراديكاليين، والذكاء هنا أن يتم
كل ذلك دون المساس بالمصالح الأمريكية في العالم الإسلامي» .
الأنموذج الثاني: هو ما طرحه المفكر الأمريكي «هاس» في محاضرة له
بمجلس العلاقات الخارجية، جاء فيها: «قد يتساءل الناس عن توقيت حديثنا عن
الديمقراطية، وبالطبع عن الدوافع لإثارة هذه القضية في هذا الوقت خصوصاً؟
وقد يشير بعض إلى أن حديثي هذا المساء يأتي وسط جهود دولية مضاعفة لجعل
العراق ينصاع لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقد يرى آخرون في
كلامي حول الديمقراطية إما محاولة لإخفاء مصلحتنا في تغيير النظام في العراق،
وإما كإشارة لعدائنا تجاه شعوب العالم الإسلامي، وبالطبع سوف يذهب بعض إلى
حد القول إن الحديث الأميركي حول الديمقراطية يهدف إلى قلب الأنظمة في الشرق
الأوسط، أو سوف يُستخدم كعملية تأديبية ضد الذين ينظر اليهم كأعداء لأميركا.
اسمحوا لي أن أتناول بعض هذه المخاوف:
أولأً: ليس هناك برنامج عمل مخفي، إن الأساس المنطقي الأميركي في
تشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي هو في الوقت نفسه لمصلحتنا ولمصلحة
غيرنا، فالمزيد من الديمقراطية في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية هو أمر جيد
بالنسبة للشعوب التي تعيش هناك، لكنه أيضاً جيد بالنسبة للولايات المتحدة،
فالبلدان المبتلاة بالجمود الاقتصادي والافتقار إلى فرص العمل، وبالأنظمة السياسية
المغلقة، وبالسكان المتكاثرين بسرعة؛ تغذي العداوة لدى مواطنيها، ويمكن أن
تكون تلك المجتمعات كما تعلمنا من التجربة القاسية أرضاً خصبة لتربية المتطرفين
والإرهابيين الذين يستهدفون الولايات المتحدة بحجة دعمها للأنظمة التي يعيشون في
ظلها.
الأمر الآخر الذي له أهمية معادلة؛ هو أن الهوة المتزايدة بين العديد من
الأنظمة الإسلامية ومواطنيها قد تُعطّل قدرة تلك الحكومات في التعاون حول قضايا
ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة، هذه الضغوطات الداخلية سوف تحدّ
كثيراً من قدرة العديد من أنظمة العالم الإسلامي على توفير العون، أو حتى الموافقة
على الجهود الأميركية الرامية إلى مكافحة الإرهاب، أو التعامل مع انتشار أسلحة
الدمار الشامل. ( ... )
قد يقول بعض إن الولايات المتحدة على استعداد فقط لمساندة النتائج الانتخابية
التي ترضيها. ليس الأمر كذلك؛ الولايات المتحدة سوف تساند العمليات
الديمقراطية حتى إذا كان الذين مُنحوا السلطة لا يختارون سياسات نحبذها، لكن
دعوني أوضح هذه النقطة؛ علاقات الولايات المتحدة مع الحكومات حتى لو
انتُخبت بنزاهة سوف تتوقف على كيفية معاملة هذه الحكومات لشعوبها، وكيف
تتصرف على المسرح الدولي بالنسبة لقضايا تبدأ من الإرهاب مروراً بالتجارة
وعدم انتشار المخدرات.
نحن ندرك تماماً عندما نشجع الديمقراطية؛ أن التحرك المفاجئ نحو
الانتخابات الحرة في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية
إلى الحكم، لكن السبب لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان
الساحقة، بل لأنها في الغالب المعارضة المنظمة الوحيدة للحالة الراهنة التي تجدها
أعداد متزايدة من الناس غير مقبولة.
بعد الذي قلته؛ دعونا لا نترك مجالاً لسوء الفهم: الولايات المتحدة لا
تعارض الأحزاب الإسلامية تماماً، كما لا تعارض الأحزاب المسيحية أو اليهودية
أو الهندوسية في الديمقراطيات ذات الأسس العريضة، إن طريقة استقبالنا لنتائج
انتخابات الشهر الماضي في تركيا تبرهن بوضوح على هذه النقطة، لقد عبّر عن
ذلك رئيس وزراء تركيا عبد الله جول، على أحسن ما يرام؛ عندما قال بعد إدلاء
القَسَم قبيل تسلمه منصبه:» نريد أن نثبت أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون
ديمقراطية، ويمكن أن تكون شفافة، ويمكن أن تتماشى مع العالم المعاصر «.
والأميركيون على ثقة بأن الشعب التركي قادر على إثبات كل هذا، ونريد أن
نساعدهم في ذلك» .
تعليق:
نلاحظ في النموذجين محاولة الترويج للولايات المتحدة الأمريكية التي تعد
أكبر دولة داعمة للدكتاتوريات العربية؛ بأنها الآن قد تابت عن «غيها» بعد أن
امتد وبال الديكتاتورية إليها! وأنها الآن بصدد «تحرير» الدول العربية من ربقة
القمع والقهر! وكذلك نلاحظ التقليل من خشية الولايات المتحدة من وصول أعدائها
من الإسلاميين إلى سدة الحكم عبر صناديق الانتخابات، وهو ما تدرك الولايات
المتحدة أنه مجاف للحقيقة وللواقع؛ إذ لم تقبل الولايات المتحدة بحال هذا السبيل،
والذي ربما يروج له ضغطاً على الحكومات غير الديمقراطية في المنطقة لدفعها
لتقديم آخر تنازلاتها للدولة العظمى، أو تحذيراً لشعوب المنطقة التي تجاوزت
كراهيتها للنظام العالمي والذي تقوده الولايات المتحدة مداها المقبول لدى طغاة
واشنطن.
وبالإجمال: فإن ما يتوقع للمنطقة العربية في ظل ما سبق أن تتغير الخريطة
السياسية للدول العربية استناداً إلى رؤية تقضي تماماً على الأنظمة المارقة،
وتستبدل بها أنظمة تامة الولاء لها، وتقليم أظافر الدول الصديقة التي تسعى إلى
نوع من الدور المحوري بين الدول العربية، وفرض المزيد من التبعية السياسية
على الدول «الصديقة» ، وتدجين الجميع داخل الحظيرة الأمريكية وفق أنظمة
سياسية جديدة قد تستدعي تقسيم بعض الدول الكبيرة؛ بما يجعلها أكثر طواعية في
المستقبل، وقطع الطريق على الإسلاميين في استقطاب الآلاف من الناقمين على
الولايات المتحدة الأمريكية وأنظمة حكمهم.
2 - المحور الأمني:
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تكريس النفوذ الأمني في المنطقة كقوة
احتلالية؛ سواء في بعض البلدان أو على تخومها، وهو ما يعني الإذعان الكامل
من جانب الدول العربية لكل التنازلات المطلوبة منه، والتي يأتي على رأسها
التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، وضمان سيطرته وقيادته للمنطقة؛ في ظل
وجود قوات أمريكية مقاتلة في دول الخليج والأردن واليمن وجيبوتي، بالإضافة
لأساطيل الولايات المتحدة في الخليج والبحر المتوسط وبحر العرب، وهو ما
يجعل الدول العربية واقعة بالفعل تحت حصار أمريكي محكم.
بعد ضرب العراق تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد قضت على أقوى قوة
عسكرية عربية كانت تخشى أن تهدد الكيان الصهيوني، وتكون كل العواصم
العربية في مدى صواريخ كروز وتوماهوك، وعلى مرمى حجر من قواعدها
المنتشرة هنا وهناك.
ولعل السؤال المطروح بقوة هذه الأيام في ظل ذعر حكومي وشعبي عربي:
هل ستكتفي الولايات المتحدة بضرب العراق أم سيمتد عدوانها إلى عدد من الدول
العربية، والتي من أبرزها سوريا ومصر؟
والإجابة عن هذا السؤال تستدعي سؤالاً مغايراً: وهل تبدي هذه الدول أي
عداوة للولايات المتحدة، أو تُحْجم عن تقديم تنازلات؟ هذان السؤالان يذهبان بنا
إلى الغرض العسكري من ضرب العراق وتفكيك قواه العسكرية، والذي يميط اللثام
عنه الاسم الكودي المبتكر للضربة والذي اتخذه الأمريكان شعاراً لها:
«بولوستب» ؛ أي ضربة لعبة الـ «بولو» ، وهو يعني فيما يعنيه تسديد
ضربة قوية ومكثفة لمركز الثقل في العراق المناوئ للولايات المتحدة الأمريكية،
وبالتبعية ستسقط إثر ذلك كل الدول العربية الأقل قوة بالتداعي المعروف في اللعبة
الشهيرة.
بادئ ذي بدء؛ ينبغي أن نقر بأن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية تعتمد
بصورة أساسية على تقليل الخسائر ما أمكن في صفوف قواتها، وأن سقوط الآلاف
من قواتها في العراق أو في أي مكان آخر هو خط أحمر يعمل البنتاجون على عدم
الاقتراب منه، فهو يعمل كما هو معروف على الاعتماد شبه التام على القصف
الجوي والصاروخي لأهداف «العدو» الاستراتيجية، وهذا يجرنا إلى التساؤل:
لماذا هذا الحشد العسكري الضخم إذن، والذي يكاد يبلغ أكثر من 150 ألف جندي
أمريكي وبريطاني؟ غالب الظن أنه ووفق معطيات متناغمة أن هذا الحشد
الأمريكي ليس مقصوداً به ضرب العراق وتغيير نظام حكمه فحسب؛ بل المقصود
هو البقاء فيه لفترة طويلة تبدأ أقل تقديراتها من ثلاث سنوات، من دون تحديد للحد
الأقصى لبقائها هناك، ومن ثم نقل مركز ثقل الوجود الأمريكي في المنطقة العربية
من دول مجلس التعاون الخليجي إلى العراق.
وهذا الوضع الذي اختارته الولايات المتحدة يتوقع أن يؤدي إلى ما يأتي:
1 - تهديد جميع الدول العربية ودول المنطقة المحيطة بالعراق من خلال
الوجود الأمريكي الكثيف في العراق.
2 - تحكم الولايات المتحدة الأمريكية في أسعار النفط، وكميات ضخ منظمة
«أوبك» ، ومن ثم فرض مزيد من الضغط السياسي على الدول المحيطة.
3 - سحب البساط من تحت أرجل الدول المؤثرة إقليمياً لصالح دول أخرى
موالية كلية للولايات المتحدة؛ مما سيؤدي لاختلال توازنات قوى المنطقة، فالكبير
في المنطقة يصبح صغيراً، والصغير كبيراً بفعل ارتمائه في أحضان الولايات
المتحدة.
4 - النأي بقوات الاحتلال الأمريكية عن التمركز في أماكن تثير المسلمين
ضدها [2] .
5 - تشجيع الولايات المتحدة على المضي قدماً في تقسيم الدول العربية؛
حيث لا تجد في الوقت الراهن ما يمنعها من تقسيم العراق بعد احتلاله.
6 - هزيمة العراق من شأنها إثارة القلاقل الشعبية في دول المنطقة،
واهتزاز «شرعية» تلك النظم، وهو ما يدفعها أكثر إلى تشجيع قوات الاحتلال
الأمريكية على دعمها، ومن ثم الارتماء في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية
أكثر من أي وقت مضى.
7 - سيؤدي الوجود الكثيف والمزمن إلى حد ما إلى تشجيع تنامي التيارات
التي تؤمن بالتغيير ومواجهة قوات الاحتلال الأمريكية في المنطقة عبر السلاح؛
حيث ستجد تربة خصبة في وجود تلك القوات في الدول العربية والإسلامية لتجنيد
أنصار جدد، ولن تفلح أي محاولات لاستيعاب المتعاطفين مع هذا التيار ضمن
منظومة ديمقراطية على النمط الأوروبي؛ أولاً: لأن هذه الديمقراطية لن تحل
مشكلة الاحتلال، وثانياً: لاستحالة وجود مثل هذه النظم الديمقراطية من الأساس
في الدول العربية للحؤول دون ازدياد نفوذ التيار الإسلامي السلمي. ومن ثم فإن
من المرجح أن يجعل ذلك من المنطقة مسرحاً للصراع «العسكري» بين قوت
الاحتلال الأمريكية وقوى إسلامية؛ تستلهم خطى تجربة «حماس» و «الجهاد
الإسلامي الفلسطينية» في مقاومة الاحتلال.
3 - المحور الثقافي والاجتماعي:
الوضع في الجانب الثقافي والاجتماعي في المنطقة سيكون صعباً ومعقداً
وقاسياً للغاية ما لم تحدث مفاجآت محض قدرية، فالولايات المتحدة عازمة على
تغيير البيئة التي تزعم أن «الإرهاب» يُستنبت في تربتها.
في أعقاب حرب الخليج الثانية خرجت تظاهرة نسائية في إحدى الدول
العربية تطالب بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وبغضِّ النظر عن مناقشة هذه القضية
من الناحية الشرعية؛ من حيث كون الخلاف فيها سائغاً أو غير سائغ (إذ الفتاوى
تتغير بتغير الأحوال، كما هو معلوم في علم الأصول) ؛ فإن المراقبين رأوا فيها
نوعاً من ممارسة الضغط الأمريكي على تلك الدولة، والسعي لتوطئة أنماط سلوك
شعبها لتقبل «تعديلها» بما يتواءم مع نمط السلوك الغربي؛ من خلال الهياكل
النسوية المرتبطة بمنظمات حكومية وغير حكومية في الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الحادثة التي جاءت عقب انتصار الولايات المتحدة في حرب الخليج
الثانية ونجاحها في «تحرير» الكويت؛ تمثل إرهاصاً لما تنتظره المنطقة من
زلزلة اجتماعية وثقافية تفرضها السيطرة شبة التامة للولايات المتحدة على المنطقة
العربية.
ويتمثل ذلك فيما يأتي:
- إعادة بلورة أنظمة التعليم والإعلام في العالم العربي بما يخدم أهداف اليمين
«النصراني الصهيوني» ، فالولايات المتحدة تريد من العرب حذف كل تاريخ من
شأنه رفض الصهيونية، ووفق تقرير نشرته جريدة الأسبوع المصرية (12/1/
2003م) ؛ فإن معلومات أشارت إلى أنه قد جرى بالفعل تشكيل لجنة داخل
الخارجية الأمريكية أطلق عليها «لجنة تطوير الخطاب الديني في الدول العربية
والإسلامية» ؛ تحمل على عاتقها تحقيق أمور لاحظنا أنه قد شُرع في تنفيذها
بالفعل، ومن المنتظر أن ترتفع معدلات تطبيقها فيما بعد العدوان على العراق.
من هذه الأمور على سبيل المثال:
1 - رأت اللجنة أن لفظة «الجهاد» يجب أن يتم قصر معناها على جهاد
النفس فقط من دون القتال أو التحريض عليه.
2 - فسرت تلك اللجنة لفظة «اليهود» في القرآن والسنة على أنه يعني
مجموعة من البدو المتنقلين الذين عاشوا في الماضي السحيق، وأنهم اختلفوا مع
النبي صلى الله عليه وسلم على أمور مجهولة، والمقصود بلفظة: «اليهود» هم
أولئك القوم من دون يهود العصر والصهاينة!!
3 - تقترح الخطة أن يتم إلغاء مقررات التربية الدينية (باعتبارها مغذية
للإرهاب) ، وأن تخصص المدارس يوماً كاملاً للقيم الأخلاقية بديلاً عنها؛ حيث
يقوم التلاميذ في هذا اليوم ببعض الأعمال الصالحة للمجتمع، وإقامة محاضرات
عن التسامح ونبذ الإرهاب.
4 - العمل على تنشئة جيل قادم لا يرى أن دينه يحتكر الحق والصواب،
وأن عليه تقبل الآخرين باعتبارهم أصحاب ديانات صحيحة.
5 - جعل المسجد نادياً اجتماعياً (شبيهاً بالوضع الكنسي) ؛ للمرأة فيه دور
ريادي كما للرجل.
- وضع الأقليات غير المسلمة في وضع مساو لوضع المسلمين في العالم
العربي، ففي مقال نشره «آلان وودز» منذ عدة أسابيع وهو مفكر غربي تلقى
أفكاره رواجاً لدى النخبة الأمريكية قال فيه: «إن الشرق الأوسط لن يستقر إلا إذا
أصبحت أقلياته من يهود وأقباط وأكراد وغيرهم متساوين في الحقوق مع الأغلبية
الساحقة من العرب والمسلمين» ، هذا الكلام ونظائره تضعه الإدارة اليمينية
الأمريكية في صدر أولوياتها لترتيباتها القادمة للمنطقة لمرحلة ما بعد رحيل صدام
حسين.
- تفعيل دور المرأة والمنظمات النسائية المشبوهة في العالم العربي بما يخدم
أهداف الصهيونية العالمية.
4 - المحور الاقتصادي:
- تبني الولايات المتحدة الأمريكية جل استراتيجيتها الاقتصادية في المنطقة
العربية على بسط سيطرتها على آبار النفط الغنية في الخليج، واستنزاف آخر لتر
من نفط العرب؛ إذ توقن الولايات المتحدة الأمريكية بأن خروجها والاقتصاد
العالمي من حالة الركود التي يعيشها الآن مرهون بوضع يديها على احتياطي النفط
العراقي الضخم الذي يتجاوز بكثير الـ 12 مليار برميل المعلنة رسمياً في العراق،
ويعد أكبر احتياطي نفطي في العالم، ومنع أسعار النفط من أن تتجاوز حداً معيناً؛
هو أقصى حدود السعر الأمثل للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تستفيد من
انخفاضه من جهة، كما تستفيد شركاتها النفطية العملاقة من ارتفاعه من جهة أخرى.
- على الرغم من التكلفة الباهظة المتوقعة لحرب الخليج الثالثة فإن من
المتوقع أن يدفع فاتورة الحرب كما جرت على ذلك السنن التاريخية الطرف
المهزوم، وليس هذا الطرف هو العراق وحده، بل جميع الدول العربية تشاركه
الهزيمة، والتي تقع جميعها في براثن الطرف الأقوى المنتصر [3] .
- قضية اللاجئين المتوقعة للحرب والذين يتوقع أن يبلغوا نحو 900 ألف
عراقي يتوقع لجوؤهم للدول المجاورة للعراق وفقاً لتقديرات منظمة الأمم المتحدة؛
مما سيشكل عبأ اقتصادياً إضافياً على كاهل الدول المجاورة للعراق.
- قضية الآثار الصحية والبيئية للحرب في حال استخدمت الولايات المتحدة
«اليورانيوم المخصب» بكثافة أعلى من الحرب السابقة، أو أقدم الرئيس العراقي
على حرق بعض آبار النفط لديه يتم اعتبارها أيضاً كلفة إضافية للحرب.
إذن التحكم في أسعار النفط وهبوطها المتوقع، ودفع فاتورة الحرب، وقضية
اللاجئين، والآثار الصحية والبيئية للحرب، بالإضافة إلى تأثر دخول الدول
العربية من السياحة؛ كلها تعد من الآثار السلبية للعدوان على العراق واحتلاله،
وتظل أكبر الآثار الاقتصادية السلبية هو ما يتعلق بالنفط، فبعملية حسابية بسيطة
نشير هنا إلى أن انخفاض سعر النفط دولاراً واحداً يؤدي إلى خسارة الدول العربية
المصدرة للنفط 6 مليارات دولار في السنة، بل إن السعودية وحدها تخسر من
جراء ذلك نحو 27 مليار دولار سنوياً، هذا إذا انخفض سعر البرميل دولاراً واحداً؛
فماذا إذا وصل سعره إلى 15 دولاراً للبرميل على سبيل المثال؛ عندها ستكون
الخسارة نحو 78 مليار دولار سنوياً، ومعروف أن الموازنات العامة في بلدان
الخليج ترتبط بإيرادات صادراتها من النفط، ومن ثم فإنه إذا استمر إنفاقها على
مستواه الحالي والعالي سيكون هناك عجز هائل في هذه الموازنات، ومن هنا لا بد
أن تستعد الدول العربية النفطية من الآن ببرنامج للتقشف، كما أنه ما دام أن إنتاج
وصادرات النفط هي الدخل الرئيس للدول الخليجية؛ فإن هذا الدخل سيتراجع ومعه
نصيب الفرد منه، ولذلك لا بد من تهيئة المجتمعات الخليجية لما هو قادم،
والاستعداد لحالة طويلة الأجل من التقشف والاعتماد على الذات في سوق العمل؛
بمعنى أن قدرة المواطنين الخليجيين على الاستمرار في مظاهر الرفاهية،
والاعتماد على العمالة الأجنبية في أداء كل شيء نيابة عنهم ستتراجع.
في المقابل؛ فإن ارتفاع أسعار النفط بمقدار دولار واحد للبرميل يزيد
المدفوعات الأميركية من الواردات النفطية بمقدار 4 مليارات دولار سنوياً، فارتفاع
أسعار النفط من 12.3 دولاراً للبرميل عام 1998م إلى حوالي 17.8 دولاراً
عام 1999م، وصولاً إلى 27.6 دولاراً عام 2000م، واستمرار السعر عند
مستوى مرتفع في عام 2001م؛ أثر بشدة في الاقتصاد الأميركي، لقد كان النفط
عنصراً رئيساً في تدهور الوزن النسبي لهذا الاقتصاد على المستوى العالمي،
فالولايات المتحدة كانت تحقق فائضاً في التجارة النفطية بلغ 27 مليار دولار سنوياً
في المتوسط خلال الفترة ما بين عامي 1974م و1983م، تحولت الآن إلى تحقيق
عجز قدره 46 مليار دولار سنوياً، وكانت نتيجة ذلك تحقيق عجز إجمالي قدره 19
مليار دولار في الميزان التجاري الأميركي؛ أي أن ارتفاع أسعار النفط ساهم في
تحويل الميزان التجاري من تحقيق الفوائض إلى العجز.
ومعروف أن العراق كان دائماً في موقع متقدم بالنسبة لصقور منظمة
«أوبك» ؛ سواء في مناداته بتأميم البترول أو السعي إلى رفع أسعاره، واتخاذ
الإجراءات اللازمة لذلك، أو حتى اتفاقيات التنقيب، وشروط التعامل مع
الشركات العالمية العاملة في هذا المجال، ومن هنا كان العراق يمثل عقبة كبيرة
أمام الأميركان في هذا المجال، وكان لا بد من إزالة هذه العقبة بأية صورة
ممكنة.
* دول المنطقة الأكثر تأثراً بالعدوان على العراق:
غني عن البيان أن دولاً كثيرة دولية وإقليمية ستتأثر بشكل أو بآخر بالعدوان
على العراق؛ منها على سبيل المثال الولايات المتحدة نفسها، وروسيا، والصين،
وفرنسا، وربما كوريا الشمالية أيضاً، لكننا سنقتصر على دول المنطقة المحيطة
بالعراق؛ مضمنين الولايات المتحدة ضمن الدول الأخرى، وهي:
1 - فلسطين [4] :
الذي كان يعنيه هنري كسينجر في عبارته الشهيرة «الطريق إلى القدس يمر
عبر بغداد» هو أن إنقاذ الكيان الصهيوني من ورطته السياسية والأمنية
والديموجرافية؛ لا بد أن يتم من خلال تحطيم أكبر قوة عسكرية عربية قريبة من
الكيان الصهيوني، وأن أي محاولة لتفتيت الدول العربية لتصبح متقاربة مع الكيان
الصهيوني من حيث عدد السكان لا بد أن تتم عبر تدجين العراق.
وإذ ظل تدمير القوة العراقية حلماً يراود صقور الكيان اليهودي في فلسطين؛
فلا يمكن فصل ذلك عن انطلاقه من واقع عقدي يميني «نصراني صهيوني»
يؤمن بأن تدمير مملكة بابل «الملعونة» هو السبيل الوحيد لضمان عدم زوال
«إسرائيل» [5] .
ولا يفوتنا أن كثيراً من التقارير المخابراتية التي سُربت عمداً تتحدث عن
خطة «ترانسفير» فلسطينية جديدة؛ تستهدف ترحيل ملايين اللاجئين الفلسطينيين
لتوطينهم إلى الأبد في العراق في أحسن الأحوال، أو ترحيل مئات الآلاف من
الفلسطينيين المقيمين في فلسطين في أسوأ الأحوال.
في سياق الورطة الصهيونية نفسه يظل سلاح الاستشهاد الإسلامي في
فلسطين هو أمضى أسلحة الردع التي يحسب لها اليمين «النصراني الصهيوني»
ألف حساب؛ برغم التفوق الهائل للآلة العسكرية الأمريكية [6] ؛ مما حدا به إلى
التحرك عسكرياً لرفع غائلة الاستشهاد عن أعناق يهود، وهو ما عبر عنه
«جيمس جلاند» الكاتب البارز بصحيفة «واشنطن بوست» وهو أحد
مناصري اليمين «النصراني» في يوليو الماضي، حين دعا إلى استخدام التفوق
العسكري الأمريكي لإعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط؛ لئلا يتحول
إلى منبر للفوضى، وحماية لـ «إسرائيل» .
2 - مصر:
تبدو القاهرة غير مستعدة لمناطحة القوة العظمى الوحيدة في العالم؛ لذا فمن
المستبعد أن تتعاطى معها واشنطن بالشكل نفسه الذي تتعاطى به مع بغداد.
فالقاهرة تفهم تلقائياً من ضرب العراق أنها تفقد كيانها كدولة عربية رائدة،
وتفهم تلقائياً أنها تخضع للابتزاز الأمني من خلال اتفاقية (ماشاكوس) السودانية
التي تمس الأمن القومي المصري في الصميم، وتفهم تلقائياً أن عليها تلميع
شخصية «البابا شنودة الثالث» بطريرك الكرازة المرقسية المصرية، والاحتفاء
به أينما حل أو ارتحل على نحو لا يحظى به شيخ الأزهر نفسه، ومنح الأقباط
مزيداً من التنازلات والمزايا؛ برغم تهديد الولايات المتحدة المبطن لها عبر تشجيع
الأقباط على الاستقلال بدولة ممسوخة، وتفهم تلقائياً أن عليها تغيير مناهجها
التعليمية وخططها الإعلامية؛ بما يحد من العداء للصهيونية، وبما يميع تربية
الجيل الناشئ، وتفهم تلقائياً أن عليها لجم الإسلاميين بكل تشكيلاتهم؛ و «ترشيد»
الدعوة الإسلامية في المساجد ووسائل الإعلام.
وتفهم في المقابل أنها بصدد تصاعد العداء الشعبي للصهيونية والأمريكان،
وأنها ربما تشهد صحوة لتيارات المعارضة، وتفهم أنها ستتضرر ضرراً اقتصادياً
بالغاً من تدهور قطاع السياحة؛ بعد أن أوشكت أن تسترد «عافيتها» ... تفهم
القاهرة كل ذلك، لكنها اختطت لذاتها خطاً «غير تصعيدي» لا يتقاطع مع
ترتيبات الولايات المتحدة للمنطقة؛ بحيث لا تستعدي الولايات المتحدة عليها.
3 - إيران:
«ما أشيع عن اتصالات جماعات المعارضة العراقية (الشيعية) بالولايات
المتحدة لقلب نظام الحكم في العراق، يُتفهم في إطار أن لهذه الجماعات مواقفها
وقراراتها المستقلة تماماً» حميد رضا آصفي، المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية
الإيرانية (صحيفة إطلاعات 2/7/2002م) .
هذا الموقف الباطني الإيراني الذي لا يستبعد معه المحللون أن يتحالف
الإيرانيون مع «الشيطان الأكبر» لخلق توازن إقليمي، مثلما هو الحال مع تركيا
«العلمانية» التي لا تجد هي ولا إيران غضاضة في التحالف لمنع استقلال
الأكراد في أي من بلديهما أو العراق، فالولايات المتحدة قد توفر للشيعة وضعاً
أفضل في عراق ما بعد الحرب، وهو ما يسيل له لعاب الإيرانيين بالطموح نحو
دولة عراقية شيعية على غرار نظام الملالي في إيران، لكن هذا المشهد ليس وردياً
هكذا على الدوام؛ فإيران تعلم أنها حال احتلال العراق تكون قد وقعت بين كفي
الكماشة الأمريكية في العراق وأفغانستان، فإذا أضفنا لذلك تحديد الولايات المتحدة
الأمريكية اسم «إيران» ضمن «محور الشر» ، والعبء الذي سينوء به كاهل
الإيرانيين الشيعة إذا وقعت «العتبات المقدسة» في أيدي جنود «الشيطان
الأكبر» ؛ فإن وضع إيران سيكون أسوأ حالاً بعد الحرب منها قبلها.
4 - تركيا:
يؤثر غزو العراق كثيراً في الاقتصاد التركي العليل، فالخبراء الاقتصاديون
يقدرون الخسارة التركية من جراء عملية عسكرية في العراق بنحو 150 مليار
دولار، وهو رقم هائل، وإذا أضفنا إلى ذلك أن خسارة تركيا منذ حرب الخليج
الثانية قدرت بنحو 100 مليار دولار لم تستطع تركيا إلى اليوم التعافي منها؛ فإن
المشكلة تصبح حينئذ مضاعفة.
كما أن تشجيعاً من قبل الولايات المتحدة للأكراد على الاستقلال في الشمال
العراقي (3.8 ملايين كردي) سيدفع أكراد تركيا (12 مليون كردي) إلى
التطلع نحو الاستقلال أيضاً؛ لذا فليس غريباً إذن أن يصوت 83% من الأتراك
حسب استفتاء أجرته شبكة التلفزة التركية (TGRT) برفض المساعدة أو مشاركة
قواتهم في الحرب؛ مؤكدين التساؤل عما يمنع الولايات المتحدة من ضرب تركيا
غداً؟
وقد صُوّر الغزو الأمريكي للعراق في تركيا على أنه «كابوس من صنع
صديق» ، هذا الكابوس لا شك أنه يؤرق أيضاً حكومة الإسلاميين في تركيا،
والتي تقف عاجزة عن منع تحقيقه أو على الأقل منع استخدام الولايات المتحدة
لقواعدها في ضرب العراق؛ لذا فقد تحرك رئيس وزراء تركيا عبد الله جول في
جولة حكيمة، قصد منها رفع اللائمة الشعبية من على حكومته؛ لإخفاقها في منع
الجريمة التي تنفذها الولايات المتحدة على شعب العراق المسلم؛ محاولاً إظهار
تباين الرؤى بين الحكومة والعسكر أمام الشعب التركي.
5 - سوريا:
يدفع الغزو سوريا بنظرها إلى «التعاون الأمني» أكثر مما هو عليه الآن،
والتسليم للولايات المتحدة والكيان الصهيوني بتصفية وجود حركات المقاومة؛
وخصوصاً حركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي» السُّنِّيتين الفلسطينيتين،
والحركة الشعبية لتحرير فلسطين العلمانية، وحزب الله الشيعي الجعفري،
ويتوقع ألا تنتظر سوريا لتفكر طويلاً في المطلوب أمريكياً منها، فهي أيضاً تقع
بين شقي رحى العراق «الأمريكي» والكيان الصهيوني.
6 - الأردن:
يتوقع له أن يزداد وضعه الاقتصادي بؤساً؛ إذ كان يحظى بوضع تجاري
استثنائي خاص مع العراق، وفي أسعار النفط تحديداً، ولا ينتظر أن يتحسن
وضعه إلا إذا صعد هاشمي على سدة الحكم في العراق.
* كلمة أخيرة:
قد لا يكون في كثير مما تضمنته السطور السابقة ما يدعو إلى التفاؤل،
فالسكين كما قلت بلغت حد العنق.. لكن أليس ثمة أمل؟ نعم إن الدول تزدهر
وتضمحل، وتنضج وتذبل، وتشب وتهرم؛ تماماً مثلما وصف العلامة ابن خلدون
في مقدمته الرائعة.. وما نرى الولايات المتحدة إلا بسبيل الهرم، وإن من مبادئ
الاستراتيجية أن الدولة التي تبعثر جيشها هنا وهناك يصيبها ويصيبه الوهن، وأن
أعباء التوسع تنوء بحملها الإمبراطوريات فتنكسر عواتقها، وهذا كله يدعو للتفاؤل؛
بيد أنه لا يصح أن يكون هو المعول عليه ابتداء؛ إذ إن هذه الأمة العظيمة تليدة
الحضارة لا يصح أن ينهض بدورها أحد غيرها، وغُبنٌ لها أن نخالها لن تنهض،
والولايات المتحدة لم تبلغ بعد حد «يأجوج ومأجوج» الذين يقف الرجال أمامهم
ساكنين بانتظار الدواب تنخر أنوفهم ... هذه الأمة ستنهض، وسيطل بدرها الزاهر
من جديد.. هذا هو قدر الله لها؛ فمنذ سقوط الخلافة العثمانية لم تُر هذه الأمة وهي
يحدوها شعور بالحاجة إلى الاتحاد وإن لم يجاوز إلى الآن حده العاطفي مثلما نراها
اليوم. حاربها الفرس والرومان فطويت حقبتهم، وكاد لها الإنجليز والفرنسيون
فزالت دولتهم.. ولقد مضوا ومضى غيرهم ... مضى الصليبيون، ومضى التتار
لا بل ذاب التتار فيهم فأسلموا مضوا جميعاً.. وبقي الإسلام كما هو شامخاً في
خلوده ... [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(1) المركز له فرعان في كل من القدس وواشنطن.
(2) تشير بعض التقارير الأمريكية إلى أن وجود قوات أمريكية في أماكن لها حساسية خاصة بالنسبة للمسلمين؛ من شأنه أن يشجع (قوى الإرهاب) ضدها، وينمي تيارات العنف في المنطقة.
(3) ربحت الولايات المتحدة الأمريكية 6 مليارات دولار على الأقل كفارق بين تسديد العرب لأكثر من قيمة فاتورة حرب الخليج الثانية المبالغ فيها أصلا.
(4) لم نقرن بين كلمتي (فلسطين) و (المحتلة) ؛ لما يبدو أنها حالة عامة تحياها الدول العربية اليوم! .
(5) هذا الواقع العقدي للصراع لا يستلزم ضرورة إيماننا بكون الرئيس العراقي هو السفياني الذي ورد ذكره في بعض الأحاديث التي أوردها نعيم بن حماد، وضعف سندها كثير من العلماء؛ منهم الشيخ عبد العزيز الطريفي، والتي يروج لها الشيعة الجعفرية في مصنفاتهم ومواقع الويب، لكن عدم إيماننا بهذا لا يعني أن عدونا لا يؤمن بنصوصه الخاصة ببابل، والتي يحاول تطبيقها على أرض الحقيقة بتدمير بابل؛ حفظا للكيان الصهيوني من أن ينهار تحت وطأة الانتفاضة التي يقودها الربانيون في الأرض المباركة.
(6) يكشف تقرير أمريكي أن ميزانية البنتاجون تكافئ ميزانيات وزارات دفاع الـ 25 دولة التالية للولايات المتحدة الأمريكية؛ من حيث الميزانيات العسكرية.(184/84)
المسلمون والعالم
استراتيجية فرض الهيمنة
مبادرة الشراكة الأمريكية الـ «شرق أوسطية»
د. سامي محمد صالح الدلال
* مدخل:
عندما دلفت الولايات المتحدة باب الغطرسة، وتربعت على كرسي التجبر،
واستلت سيف القهر؛ حسبت أنها إله العالم، ولسان حالها يردد مقولة فرعون
[فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] (النازعات: 24) ، [مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ
سَبِيلَ الرَّشَادِ] (غافر: 29) ، وراح ساستها وكتابها وإعلامها يعزفون على وتر
العجرفة والكبرياء؛ حتى مجّت الشعوب مجرد سماع اسم تلك الدولة المتسلطة
المستعلية.
ومن المضحكات حقاً: أن يتساءل رئيسها بعد ذلك فيقول: لماذا يكرهوننا؟!
إنهم يكرهونكم لأنكم تطحنونهم طحناً ثم تطلبون منهم أن يبجلوكم قسراً!!
* البسوا رداءنا:
في مثل هذا الجو المفعم بالانفعالات الأمريكية الضاغطة، وبردود الفعل
الإسلامية الرافضة؛ أطل علينا وزير الخارجية الأمريكي «كولن باول» ليعلن
المشروع الأمريكي المفصل تماماً على قد العالم الإسلامي، والعربي منه على
الأخص؛ ليجعل منه رداءً باطنه فيه الشقاء وظاهره من قبله العذاب!! وطلب من
كل فرد مسلم أن يرتديه وينعم بدفئه القاتل!! وأسمى مشروعه: «مبادرة من أجل
شراكة أمريكية شرق أوسطية في التنمية والديمقراطية» .
* مواصفات الشريك الأمريكي:
هذا «البعبع» الأمريكي الذي يخيف العالم ويريدنا أن ندخل معه في
«شراكة» ؛ ما هي مواصفاته التي يريد أن يكوينا بها؟
لعلنا نعدد بعضها على الوجه التالي:
1 - وجه صليبي، وانبعاث أصولي نصراني صهيوني.
2 - دعم مطلق وشامل للكيان اليهودي المغتصب لأرض فلسطين، وذلك
على جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والثقافية
والتربوية والاجتماعية وغيرها. وهو شريك قوي وفعلي في جميع الأعمال
الوحشية والجرائم الهمجية التي يمارسها ذلك الكيان على مدار الأيام والسنين ضد
الشعب الفلسطيني الأعزل، كما أنه يوفر له الدعم المعنوي والمادي على جميع
الأصعدة الدولية، وخاصة الأمم المتحدة؛ بما في ذلك استعمال حق النقض (الفيتو)
في مجلس الأمن لإجهاض أي قرار إدانة ضد ذلك الإجرام المذكور.
3 - التدخل في الشؤون الداخلية لمختلف دول العالم؛ بما يجعلها تركع للقرار
الأمريكي في تلك الشؤون.
4 - رسم السياسات الخارجية لمختلف دول العالم بما يحقق مصالح الولايات
المتحدة. إن الدول الكبرى تعاني من هذا الصلف الأمريكي؛ بما في ذلك روسيا
والصين واليابان ودول الاتحاد الأوروبي؛ فما ظنك بالدول الأخرى مثل كوريا
وإندونيسيا وتركيا وإيران وباقي دول العالم الإسلامي؟!
5 - الهيمنة على المصادر الحيوية للطاقة.
6 - توزيع القوات العسكرية الأمريكية البحرية والبرية والجوية على مختلف
القواعد العسكرية والمحيطات والأجواء؛ لتكون تحت الجاهزية التامة لتحقيق
الأهداف الأمريكية بالقوة المسلحة؛ تلك الأهداف التي من أهمها تطويق العالم
الإسلامي ومصادرة قدراته ومقدراته، والقضاء على الصحوة الإسلامية، وإعادة
صبغته بالصبغة الأمريكية، ولا ينفك إعلامها عن ترديد: تأمركوا وإلا..!! إلا
ماذا؟! وإلا أمركناكم بالقوة!!
7 - تقوم الولايات المتحدة بدعم الأنظمة الدكتاتورية في العالم ما دامت سائرة
في الفلك الأمريكي؛ بغض النظر عما تقوم به تلك الأنظمة من قمع لشعوبها،
ومصادرة لحرية الرأي فيها، وإهمال لخدماتها العلمية والعملية وابتزاز لثرواتها.
فإذا ما خرجت تلك الأنظمة قيد أنملة عن ذلك الصلف الأمريكي انفتحت لها الحدقة
الأمريكية الحمراء كي تعيدها إلى صوابها، وإلا اتهمتها بالدكتاتورية والتسلطية..
وهلمَّ جرّاً من الأوصاف المعروفة!!
8 - لا تتقبل الولايات المتحدة قيام أي نظام إسلامي جديد في أي منطقة من
العالم، وضربت لمن يفكر في مثل ذلك مثلاً له في أفغانستان.
9 - إذا أخفق أي نظام حكم في أي بلد إسلامي في تحقيق الغايات القصوى
التي تطلبها الولايات المتحدة منه؛ فإنها لا تتردد في محاولة إسقاطه وإن كان
علمانياً، والعراق مثال شاخص لذلك.
10 - تريد الولايات المتحدة الاستخفاء بالرداء الديمقراطي لتحقيق أهدافها،
على الرغم من أنها قد انقلبت على الديمقراطية في بلادها، وصارت تمارس جميع
أنواع التمييز العنصري والاجتماعي والثقافي والعرقي في داخل حدودها وخارجها.
11 - ضربت الولايات المتحدة بحقوق الإنسان عُرض الحائط، وأصبح
انتهاكها لتلك الحقوق عرفاً دولياً؛ إلى درجة أنها انسحبت من اللجنة الدولية لحقوق
الإنسان، وأصرت على موقفها المعلن في دعمها لانتهاكات تلك الحقوق في فلسطين.
وما قامت هي به بالفعل في أفغانستان، ومن قبل في فيتنام والصومال وغيرها
من الدول.. خير دليل على ذلك.
تلك هي بعض مواصفات «الرامبو» الأمريكي الذي يريدنا أن ندخل معه
في «شراكة أمريكية شرق أوسطية» !
* تمويه وتدليس:
«التمويه» و «التدليس» ، كلاهما وردا في عنوان المشروع المذكور،
فأما «التمويه» فقد ورد في استعمال لفظ «الشراكة» وليس ثمة شراكة في
المشروع، بل هي فرض الرأي الأمريكي على المنضوين فيه، وسيتضح ذلك جلياً
عند عرضنا له.
وأما «التدليس» فهو في استعمال مصطلح الـ «شرق أوسطية» ، وهذا
التركيب يشمل دول الشرق الأوسط، ومن بينها دولة الكيان اليهودي، في حين أنها
لم تكن مشمولة في المشروع بالكلية إلا من إشارة تعزز موقف ذلك الكيان على
حساب الفلسطينيين، بل إن المشروع شمل دولاً في المغرب العربي، وهي بالتأكيد
ليست شرق أوسطية.
والواقع أن المشروع شامل للدول العربية فقط؛ ولذا فالعنوان الحقيقي لهذا
المشروع هو «مبادرة من أجل فرض الرأي الأمريكي على الدول العربية» ، أو
إن شئت اختصاره قلت: «مبادرة فرض الأمركة على العرب» ؛ أي: أيها
العرب، نأمركم أن تتأمركوا!!
* «هاس» مؤصل المبادرة:
إن كان «كولن باول» قد أعطى تفاصيل المبادرة؛ فإن الذي أصل قواعدها
هو «ريتشارد هاس» مدير إدارة التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية، وذلك
في خطابه أمام مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في واشنطن بتاريخ 4/12/
2002م.
وقد تضمن خطابه ثلاث نقاط رئيسة هي:
- شرح مسهب للديمقراطية.
- الممارسات المضادة للديمقراطية في البلاد العربية.
- الخطوط العريضة للاستراتيجية الأمريكية لترويج الديمقراطية.
ومن المفارقات أن «هاس» قرر في محاضرته أن «مساندة رقعة
الديمقراطية وتوسيعها كانت دائماً مسألة مركزية بالنسبة للسياسة الخارجية
الأمريكية، فمنذ ظهور نقاط الرئيس» وودر ويلسون «الأربع عشرة إلى
مشروع» مارشال «؛ رأينا في توسيع الحرية والديمقراطية مصلحة قومية
أساسية» .
يعقِّب الباحث السيد ياسين على ذلك بقوله: «والواقع أن هذا الحكم العام
الذي يسوقه» ريتشارد هاس «بكل بساطة وبراءة في مفتتح محاضرته؛ يتناقض
مع الوقائع التاريخية الثابتة التي تؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية عبر تاريخها
كثيراً ما مارست التدخل العسكري ضد نظم ديمقراطية، وكثيراً ما ساندت -
وخصوصاً في أمريكا اللاتينية - بلاداً تحكمها نظم ديكتاتورية صريحة؛ تحقيقاً
لمصالحها الاستراتيجية.
ويؤكد ذلك الكاتب الأمريكي الشهير» جورفيدال «في كتابه المهم الذي
أصدره عقب أحداث 11 سبتمبر، ورفضت مؤسسات النشر الأمريكية نشره،
وعنوانه: (حرب دائمة من أجل سلام دائم) !! فقد تضمن جدولاً حصر فيه
حالات تعتدي فيها الولايات المتحدة على القيم الديمقراطية، وبعضها مخالفة بشكل
واضح لقواعد الشرعية الدولية» [1] .
* وثيقة «كونداليزا رايس» التمهيدية:
قبل أن يقدم «باول» مبادرته عرضت الإدارة الأمريكية على الدول العربية
«وثيقة خاصة» تتضمن «شروطاً» ، وقد صدرت تلك الوثيقة من مكتب
مستشارة الأمن القومي «كونداليزا رايس» ، وقد تضمنت ما يلي:
«1 - ضرورة امتداد الديمقراطية إلى المؤسسات السياسية والدستورية،
وأن تعبر هذه المؤسسات عن كل الاتجاهات القائمة في المجتمع.
2 - اشتراط تقديم المنح والمساعدات للدول ذات النظام الحزبي القوي (أي
التعددية الحزبية) ، والذي لا يترك لحزب واحد احتكار السلطة وإبعاد الأحزاب
الأخرى.
3 - الفصل بين منصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء؛ أي كالنظام القائم في
» إسرائيل «؛ إذ هو الأمثل.
4 - التأكيد لأهمية وجود معايير لحماية حقوق الإنسان، وكفالة تطبيقها،
ومراقبة احترامها، وتسجيل أوجه الانتهاكات لحقوق الإنسان ومعاقبة مرتكبيها»
[2] !
* فريق عمل:
بينما كان «ريتشارد هاس» غارقاً في إعداد القواعد التأصيلية، وبينما
كانت «كونداليزا رايس» منشغلة في ترتيب بنود الوثيقة الأمريكية؛ كان «باول»
منهمكاً في إعداد المعلومات الواقعية التي تتشكل منها خريطة الساحة التنفيذية،
فقام بتكليف عدد من سفراء الولايات المتحدة الحاليين والسابقين، وخبراء أمريكيين
آخرين، من المعنيين بمتابعة تطورات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والثقافية في الدول العربية؛ بوضع تقرير حول كيفية تنفيذ الإصلاحات الديمقراطية
والاقتصادية والتربوية في البلاد العربية.
وقد بلغ عدد فريق العمل حوالي 30 خبيراً؛ بينهم اثنان من أعضاء
الكونجرس الأمريكي، وقد تم كل ذلك بقرار مباشر من الرئيس الأمريكي «جورج
بوش» .
* مبادرة «باول» :
في 12/12/2002م أعلن «باول» مبادرة الشراكة في خطاب ألقاه أمام
مؤسسة التراث في واشنطن، ضمَّنه الخلفية التي انطلقت منها المبادرة، وتشمل
النقاط التالية:
1 - أن 65% من العرب أميون، و 50% من النساء العربيات جاهلات
ويعانين الفقر والمرض!!
2 - تعاني أغلب الدول العربية من استشراء الفساد والرشوة والمحسوبية
والتخلف.
3 - أن نسبة المنتجات التي تصدرها دول الشرق الأوسط لا تتجاوز 1% من
إجمالي الصادرات العالمية باستثناء البترول، وقد أدى ذلك إلى إضعاف اقتصاديات
تلك الدول، وشيوع الإحباط بين مواطنيها.
4 - إن شعوب المنطقة بحاجة إلى نظم انتخابية تساعد على تداول السلطة،
وتسد افتقارها إلى صوت سياسي قوي، فالمبادرة تهدف إلى تعزيز المشاركة
السياسية لدى الشعوب العربية، ويتضمن ذلك إنشاء مدارس تدريبية للسياسيين
ورجال الأعمال.
5 - ضرورة المساهمة الفعلية للولايات المتحدة في تحسين مستوى التعليم
والثقافة لدى البنات، وتقوية النظم التعليمية.
6 - تخصيص مبلغ قدره 29 مليون دولار كرصيد افتتاحي للبدء بتنفيذ
المشروع.
لا شك أن المتمعن في محتوى هذه المبادرة وفحواها سيتبين له أن معظمها
حق أريد به باطل؛ ذلك أن الأسباب التي ولَّدت هذا الواقع المهين وأضفت على
البلاد العربية ذلك اللون الباهت، وجعلت منه جداراً منخفضاً يتسلق عليه «باول»
وأمثاله؛ لم تتعرض لها المبادرة، وبناء عليه؛ لا بد لنا أن نذكرها باختصار،
على الوجه التالي:
1 - إقرار مبدأ فصل الدين عن الدولة في إطار «الحكم الجبري» ، أو ما
يطلق عليه حالياً «الحكم الديكتاتوري» ، وقد ترتب على ذلك عزل الإسلام
بوصفه منهج حياة، كتاباً وسنة عن واقع المسلمين.
2 - صبغ المجتمع الإسلامي بالصبغة العلمانية الغربية، وذلك عن طريق
إخضاعه قانونياً إلى أحكام دساتير بشرية وضعية استُوردت من الغرب والشرق.
3 - تطبيق مناهج دراسية ذات طابع دخيل على الأمة؛ يستظهر تقديم
المعلومات المعرفية، ويستبطن عزل الناشئة المثقفة عن أصول دينها ومنابع
حضارتها.
4 - فتح بوابات تدفق الإعلام العلماني على مصاريعها؛ لتدلف منها أمواجُ
الفساد في الثقافات والأفكار والمبادئ والمناهج والأخلاق، الغربية منها والشرقية؛
لتعشش في عقول المسلمين وقلوبهم وسلوكهم، فتبث فيهم الشبهات والشعوذات
وفاسد الممارسات، وتؤجج فيهم نار الأهواء وأنواع الشبهات.
5 - عزل الأمة الإسلامية عن تاريخها المجيد؛ لتبقى في الحضيض،
وتنسى أيام عزها، وعلو كلمتها، وامتداد رقعتها، وبث الرعب في نفوس أعدائها.
6 - تكريس حالة الذل والهوان التي ألمت بالأمة الإسلامية، وذلك من خلال
محاربة الجهاد أو ما يؤدي إليه.
7 - محاربة الدعوة الإسلامية دون هوادة، وذلك من خلال اضطهاد علمائها،
والتضيق على أنصارها، ومصادرة ممتلكاتها، وتجفيف منابعها (العلمية
والعملية) ، والتشكيك في مبادئها، واعتقال رموزها، وبث الفرقة والخلاف بين
منتسبيها، وجمع العالم على محاربتها، وإخضاعها للإرهاب والعنف والتهديد،
ومعاملتها بالشدة والنار والحديد.
8 - الابتزاز الدولي المتمثل بمصادرة ثروات هذه الأمة، ومحاولة حرمانها
من خيرات بلادها؛ مما جعل معظم أفراد شعوبها يعانون الفقر والمرض والجهل.
9 - إعادة إحياء أسلوب الاستعمار القديم، والمتمثل في الحضور المباشر
للقوات الغازية إلى بلادنا الإسلامية.
10 - استجماع العالم من خلال مجلس الأمن لتمرير قرارات التدخل المباشر
في خصوصيات الدول الإسلامية.
11 - زرع الكيان اليهودي في قلب الأمة الإسلامية لتكون طليعة تنفيذ كل ما
ذكرناه، وعامل ضغط دائم لأجل ذلك.
هذه أهم الأسباب التي أفضت بالعالم الإسلامي إلى أن يؤول إلى ما آل إليه،
وكلها مجموعة في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان رضي الله عنه:
«يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن
قلة نحن يؤمئذ؟ قال: بل أنتم يؤمئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن
الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل:
يا رسول الله! وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت» [3] .
* المذكرة التنفيذية لمبادرة «باول» :
لا نستطيع استقراء تفاصيل ما خلف سطور مبادرة «باول» إلا إذا استطلعنا
ما جاء في المذكرة التنفيذية لتلك المبادرة التي خطتها يد «الحليف اللدود!!» [4] .
لأجل التيسير على القارئ سنجتهد في وضع عناوين رئيسة لفقرات المذكرة،
وسنعرضها (أي المذكرة) على النسق الآتي:
أولاً: هدف المبادرة وأد الإرهاب:
ترى المذكرة «أن أهمية هذا البرنامج - المبادرة - تأتي من كونه يمثل
الدعامة الأولى لوأد الإرهاب في الشرق الأوسط؛ عبر إجراء إصلاحات سياسية
واقتصادية عاجلة، تمكن الساخطين والمارقين على شرعية نظم الحكم من الاندماج
والائتلاف معها من جانب، ومع السياسة الأمريكية والدولية من جانب آخر؛ حيث
إن مشكلة النظم العربية تكمن في كونها أصبحت منذ حقبة الثمانينيات هي المصدر
الرئيس للإرهاب في العالم، وأن أكثر من 82% من الإرهابيين ينتمون إلى الدول
العربية، وأنهم نشؤوا وعاشوا في هذه الدول، واكتسبوا قيمهم ومهاراتهم الأساسية
في تلك البيئة» .
لا شك أن هذا النص من المذكرة تضمن كثيراً من قلب الحقائق؛ من أهم ذلك:
1 - اتهام الشرق الأوسط أنه منبع الإرهاب، وهذا افتئات واضح، إلا إذا
كان المقصود به الإرهاب اليهودي، ولكنه ليس المقصود طبعاً، وفيه أيضاً أي
النص صرف النظر عن منابع الإرهاب الكثيرة في العالم.
ونحن نقول إن أخطر أنواع الإرهاب هو «إرهاب الولايات المتحدة»
باعتباره إرهاب دولة ذات إمكانيات خرافية وليس إرهاب أفراد أو منظمات.
2 - تزعم المذكرة إن معالجة الإرهاب تتم من خلال إصلاحات سياسية
واقتصادية.
ونحن نقول إن هذا مجرد تسطيح للقضية؛ إذ إنها لم تتطرق لأصل المشكلة،
وهي مصادرة حقوق الاحتكام إلى الإسلام لدى الشعوب الإسلامية.
ثانياً: مشاكل البيئة العربية:
تقول المذكرة: «إن البرنامج الأمريكي على قناعة بأنه لا يجب غض
البصر عن هذه البيئة أو تجاوزها لمجرد الصداقة والتعاون مع بعض الأنظمة
العربية هنا أو هناك، وأن البيئة العربية تعاني منذ أوائل حقبة الثمانينيات من أربع
مشكلات أساسية؛ هي:
1 - جمود العمل الاقتصادي الذي لازمه غياب الإجراءات والمعايير
الديمقراطية التي تساعد في تحسينه، إضافة إلى انتشار ظواهر المحسوبية والفساد.
2 - الزيادة السكانية غير المبرمجة؛ مما أدى إلى زيادة حدة المشكلات
الاقتصادية الداخلية، خاصة مع عدم وجود رعاية اقتصادية أو اجتماعية مكافئة لهذه
الزيادات السكانية؛ مما ترتب عليه انخراطهم بقوة في التيارات الإرهابية.
3 - غياب فرص العمل وانتشار البطالة؛ مما ساعد على نمو هذه التيارات
الإرهابية بسرعة شديدة.
4 - إن معظم الإرهابيين العرب تلقوا تعليماً جامعياً عالياً، ونسبة غير قليلة
منهم تلقت تعليماً متوسطاً، وأقلية محدودة لم تتلق تعليماً، وهذا يعني أن المناهج
التعليمية، وسوء إدارة المرافق التعليمية، وغياب الوعي التعليمي؛ مارست دوراً
كبيراً في زيادة حدة مخاطر الجماعات والتيارات الإرهابية» .
وتمضي المذكرة قائلة: «وقد لوحظ أن الأنظمة العربية على اختلاف
أنواعها لم تبد أي اهتمام بما آل إليه الأمر من تصدير المشكلات الإرهابية الموجودة
في داخل أوطانها إلى العالم الغربي، بل عندما قرر الإرهابيون الرحيل عنها
اعتبروا أنفسهم قد نجحوا في القضاء على الإرهاب» .
نلاحظ أن خلاصة المشكلات تتعلق بأمرين: الاقتصاد، والتعليم (حسب
رأي المذكرة) .
ونحن نرى أن مشكلات البيئة العربية متعددة؛ حيث تتناول جوانب عقدية،
وسياسية، واقتصادية، وتربوية، وثقافية، وتعليمية، واجتماعية، وإدارية،
وصحية، وإنسانية، وتقنية وصناعية، وزراعية، وغيرها. وأن هذه الجوانب
متداخلة، وبعضها أوفر حظاً في البروز من الآخر بحسب كل دولة عربية أو
إسلامية، وأنها تسير عموماً نحو التعمق والتجذر مع الأيام؛ بسبب ضعف الجهود
الرسمية والشعبية للحد من ذلك.
ولا شك أن التدخل الأمريكي في هذه المشكلات سيعقد حتى مجرد طريقة
التفكير في كيفية حلها، فضلاً عن حلها بالفعل، لكن هذه المشكلات ليست وليدة
الانبعاث الذاتي غير المسبب، كما أن بعضها لا ينفصل عن بعض؛ فهي في
العموم وليدة ضعف الشعور بهوية الانتماء العقدي، وهو الإسلام؛ مما قطع حبل
اتصالها بمنابع القوة والعزة، ونأى بها عن مسالك منهجية الممارسة وفق الشريعة
التي ارتضاها ربها لها.
ثالثاً: خطوط عريضة في برنامج الإصلاحات:
تحدد المذكرة الخطوط العريضة لبرنامج الإصلاحات كما يأتي:
1 - وضع برامج تنفيذية.
2 - لها أهداف معينة.
3 - ذات جداول زمنية محددة.
4 - تتسم بالمرونة؛ بحيث تستجيب لكل الظروف السياسية في المنطقة.
رابعاً: المسائل الأساسية المشترطة لتنفيذ الشراكة:
تحدد المذكرة المسائل الأساسية التي يجب أن تعنى بها جميع الأنظمة بلا
استثناء؛ على سبيل الإلزام وليس الاختيار. وهي أربع مسائل رئيسة:
- المسألة الأولى: التعليم:
ويتضمن حسب نص المذكرة:
1 - إنشاء مدارس أمريكية في مختلف البلدان العربية لكل مراحل التعليم
الأساسي الابتدائي والإعدادي والثانوي تؤهل طلابها للالتحاق بالجامعات الأمريكية.
2 - يجب أن يلقى المشروع دعماً مالياً كبيراً من الإدارة الأمريكية، وخاصة
أن بعض الدول ستحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير.
3 - في المراحل الأولى سيتم الاعتماد على الخبراء والأكاديميين الأمريكيين
لإدارة تلك المدارس، مع تطعيمها بأكبر عدد ممكن من خبراء التعليم في الدول
العربية.
4 - عقد عدد كبير من الدورات التأهيلية للتدريس في هذه المدارس لعدد كبير
من المدرسين، والمدرسات، والموظفين؛ من أبناء هذه الدول؛ لمشاركتنا في
تحمل مسؤوليات هذه المدارس.
5 - خفض رسوم الالتحاق بهذه المدارس، مع تخفيض أسعار المناهج
الأمريكية التي ستدرس؛ لتشجيع أكبر عدد ممكن من التلاميذ العرب للانتظام فيها.
6 - إن المناهج التعليمية الأمريكية لن تقتصر على محتوى المناهج المعتادة
فقط، وإنما جزء كبير منها سيتم تكريسه لتشجيع المشاركة السياسية والديمقراطية،
وأسلوب اتخاذ القرارات السليمة، بالإضافة إلى أهم محتوى فيها؛ وهو الخاص
بالعملية الانتخابية من حيث إدارتها والمشاركة فيها.
7 - سيتم إنشاء نواد في هذه المدارس يطلق عليها «نوادي الحرية
الأمريكية» ؛ حيث ستوفر محضناً لممارسة التطبيقات الديمقراطية وأسلوب
الحياة الأمثل بعيداً عن العنف والإرهاب، كما أنها ستوفر فرصاً لنشر ثقافات
تتعلق بقيود الآخرين، وتشجيع البنات على ممارسة السياسة، واتخاذ قراراتها
بعيداً عن التعصب الديني، أو المفهومات الخاطئة المنتشرة في دول المنطقة.
أهداف الخطة التعليمية:
إن أهداف مشروع الخطة التعليمية كما حددتها المذكرة هي:
1 - إن الفائدة الأساسية لهذه المؤسسات أنها ستضمن إيجاد فرص عمل
لخريجي هذه المدارس والجامعات الأمريكية برواتب مغرية؛ مما يؤدي إلى زيادة
الإقبال عليها، وبذلك يتحقق غرض ثقافي مهم؛ وهو ربط أبناء الدول العربية
بأنماط الثقافات الأمريكية.
2 - إن هؤلاء الذين سيتلقون تعليماً عالياً متميزاً لا بد أن يدخلوا في دائرة
الضوء والمناصب السياسية في بلادهم؛ وبذلك سنضمن ارتباطهم العاطفي،
وترتيب أفكارهم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وسيمثل هؤلاء في المستقبل
دعامات أساسية لتأييد السياسات الأمريكية، وتلافي خطر الإرهاب ونتائجه.
3 - إن هذا المشروع يحتاج إلى قدر كبير من الموازنات المالية المستقلة
والقادرة على تطوير هذه المدارس في المستقبل؛ لذا فإنه من المهم أن تدعم إقامتها
سلسلة من المصالح والمشروعات والمؤسسات الاقتصادية الأمريكية التي ينبغي
إنشاؤها في داخل هذه الدول، وهذا سيحقق فائدة كبرى لتوسع الاقتصاد الأمريكي.
المراحل الزمنية لتنفيذ المشروع:
تحدد المذكرة التنفيذية مراحل تنفيذ المشروع على الوجه الآتي:
1 - البدء في طرح المشروع أول عام 2003م.
2 - تستمر خطوات التنفيذ والإعداد والإنشاء حتى عام 2005م، ويتضمن
ذلك أيضاً البدء في الإعداد للدراسات التدريبية، والبرامج المشتركة، والتأهيل مع
حكومات دول المنطقة.
3 - الدراسات الفعلية تبدأ من عام 2005م.
وقفات مع المسألة التعليمية:
نسجل الوقفات السريعة التالية مع المسألة التعليمية بحسب ما جاء في المذكرة
التنفيذية:
1 - لاحظ الخبراء الأمريكيون أن من يسيطر على التعليم؛ فإنه يضمن
السيطرة على باقي الدوائر حاضراً وفي المستقبل، وهذا صحيح.
2 - هذا الهجوم التعليمي الأمريكي يفرض على المسلمين جميعاً، وهم يد
واحدة، النفور إلى هذه الساحة متدرعين بجميع الوسائل الرسمية والشعبية؛ لرد
هذه الهجمة الضروس.
3 - تمهد هذه الهجمة التعليمية الأمريكية لإدخال المجتمع العربي كله دفعة
واحدة في بوتقة التغريب الفكري والسلوكي على النمط الأمريكي؛ لذا فإن الرد
عليها لا ينبغي أن يتوقف عند حدود المدارس والجامعات، بل يجب أن يشمل جميع
المرافق التي لها تأثير على الرأي العام الداخلة في إطار الصياغة الثقافية والسلوكية
له، كالإعلام وغيره. ولا بد من عقد الندوات والدعوة إلى المؤتمرات التي تفند هذا
التوجه وتفضح أهدافه وتجلي آفاقه؛ ليكون المسلمون على بينة من أمرهم، ومما
يراد بهم وبدينهم.
4 - إن هذه المدارس الأمريكية سيكون لها دور خطير في المستقبل، على
الرغم من أن عددها مهما كثر؛ فإنه لن يشكل إلا نسبة بسيطة من أعداد المدارس
في البلاد العربية، والتي تقدر بعشرات الآلاف، لكن خطورتها تكمن في أن
المتخرجين منها سيحظون بالدعم المادي والمعنوي؛ ليشكلوا مستقبلاً طبقة النخبة
التي يراد لها الهيمنة على جميع مرافق توجيه المجتمعات الإسلامية، وعلى أعلى
المستويات.
- المسألة الثانية: التدريب:
تدعو المذكرة إلى عقد دورات تدريبية مشتركة؛ سواء تمت في البلاد العربية
أو في أمريكا، وتقول: «أمامنا برامج عمل متخصصة لهذه الدورات؛ في العلوم
السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية؛ بما يؤكد الصورة الأمريكية المثلى
في الديمقراطية ونظم الحكم» .
وأما بخصوص الجانب العملي فتدعو المذكرة «إلى اعتماد برنامج منفصل
لترجمة مئات الكتب الأمريكية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية
والتربوية إلى اللغة العربية، وتوزيع هذه الترجمات على المؤسسات الدستورية في
البلدان العربية، وخاصة البرلمانات، وما يتعلق بالحكم المحلي والجامعات
والوزارات والهيئات الاقتصادية الكبرى، والعديد من المؤسسات الاقتصادية
الخاصة، إضافة إلى برنامج خاص بالترجمة يهدف إلى ترجمة كتب أمريكية ميسرة
حول الأنماط المثلى للحياة الأمريكية في جوانبها المختلفة، وقصص رمزية توجه
النظر إلى أغراض وأهداف معينة؛ سيتم توزيعها على طلبة المدارس التعليمية،
وإدخالها في صلب المناهج التعليمية للمدارس الحكومية في هذه البلدان، ويجب أن
تتم الترجمات تحت إشراف وزارة الخارجية الأمريكية، والتي ستقوم بتعيين عدد
من الخبراء والمختصين على صلة مباشرة بكبار المسؤولين المعنيين بتنفيذ
البرنامج» .
وتعليقنا على ذلك متصل بتعليقنا على المسألة التعليمية، ولكن أضيف إليه:
ضرورة اهتمام الأوساط الإسلامية بعملية التحصين العقدي لأبناء المسلمين، الرجال
والنساء، وعلى المستويات كافة، وفي المنشآت التعليمية وخارجها، وأن يتضمن
ذلك إضافة لما ذكرنا إيلاء موضوع التدريب وما يتعلق به من دورات ومناهج
ومتابعات الاهتمام المناسب.
وأما ترجمة الفكر الغربي وتراثه، فليس ذلك بجديد على الساحة الإسلامية؛
فإن دور النشر في كثير من البلاد العربية وخاصة في البلاد التي خرج منها الإنكليز
والفرنسيون لم تأل جهداً في ترجمة كل ما يتعلق بالتراث الغربي؛ سواء ما تعلق
منه بالأدب أو السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة العامة أو غير ذلك،
وأغرقت بتلك المترجمات المكتبات العربية، وعلى الرغم من ذلك خرج من بين
ذلك الركام وتلك الأنقاض صحوة إسلامية عظيمة لا تزال أمواج مدها تتعاظم،
ومساحات امتداداتها تتكاثر.
- المسألة الثالثة: المجالس التشريعية وهي البرلمانات العربية:
تدعو المذكرة إلى اعتماد أسلوب الانتخاب، «وأن يتم التعامل مع البرلمانات
المعينة كمجالس استشارية، ولا يجوز أن يطلق عليها مجالس تشريعية أو برلمانات
تجاوزاً!! ... وفي حال الدول التي تصر على إبقاء» مجالس معينة «فإنه يجب
ألا يعتد بها في شكل صورة قرارات برلمانية، وأنه يلزمها تقديم تقاريرها
ومذكراتها إلى رأس الدولة وليس إلى المجلس الآخر المنتخب؛ لأنه لا علاقة بين
المجلسين» .
وتطالب المذكرة «بضرورة التأكد تماماً من استقلالية دور المجالس المنتخبة
إزاء السلطة التنفيذية، مع دعم لدورها الرقابي؛ لتتمكن من السيطرة على الحالات
الفاسدة الناشئة من الأخطار الحكومية» .
التصور الأمريكي للمجالس التشريعية:
طالبت المذكرة بإحالة الموضوع إلى خبراء الكونجرس الأمريكي؛ لإعداد
تصور وبرنامج تفصيلي حول كيفية تأهيل المجالس التشريعية العربية؛ لممارسة
الدور المنوط بها في ظل أجواء ديمقراطية سليمة.
المدة المقررة لإعداد الدراسة:
أعطت المذكرة خبراء الكونجرس الأمريكي مدة ثلاثة أشهر لتقديم الدراسة
المطلوبة، وسيتم الاتفاق على فعاليات التنفيذ مع الحكومات العربية المعنية خلال
النصف الثاني مع عام 2003م.
وقفات مع هذه المسألة:
لنا مع هذه المسألة الوقفات التالية:
1 - تريد حكومة الولايات المتحدة أمركة النظم السياسية في البلاد العربية
بطريقة الأستاذ والتلميذ.
2 - إن إلغاء المجالس المعينة أو الحد من صلاحياتها سيترك الساحة فارغة
للمجلس المنتخب، وهو مجلس يضم الغث والسمين والضار والنافع، والمعارض
الذي ليده بالموافقة رافع!!
3 - إن هذه المجالس تلغي تماماً استقلالية الدين الإسلامي بالتشريع، وتجعل
من الآراء البشرية المستند الأساس والأول للتشريعات، وهذا شرك واضح بالله
تعالى في مسألة الحكم.
4 - تريد الولايات المتحدة إضفاء أوضاع قانونية من خلال مجالس تشريعية
على جميع مخططاتها التي تريد تنفيذها في البلاد العربية.
5 - ينبغي على جميع المسلمين التنبه إلى خطورة هذه المجالس من حيث
الأصل، وأن يزداد تنبههم لذلك بعد أن تنقل هذه المجالس من كونها تحت هيمنة
الأنظمة العربية الحاكمة إلى أن تكون ألعوبة في يد الإدارة الأمريكية.
- المسألة الرابعة: المرأة العربية المسلمة:
دعت المذكرة إلى:
1 - تشجيع المرأة العربية على ممارسة دور مباشر في الحياة السياسية
والاقتصادية، وأن يكون لها حضور قوي في البرلمانات العربية، وأن تشكل في
داخلها لجان معينة بتولي شؤون المرأة والنهوض بتنميتها.
2 - إزالة الصور الكريهة - هكذا! - التي تحرم المرأة من تلك المشاركة،
ومن توليها أعلى المناصب؛ لذا يحق لتلك اللجان مخاطبة الجهات الدولية، خاصة
الأمريكية، في حال استمرار العوائق التي تعرقل دورها.
3 - أن تكون برامج دعم المرأة العربية ذات محتوى حقيقي؛ من حيث البدء
في برامج تتعلق بحقوقها في المجالات المختلفة، وكذلك واجباتها تجاه المجتمع.
4 - تشكيل مجالس عليا للمرأة لتنفيذ بعض السياسات العاجلة.
5 - توفير موارد منفصلة لضمان تنفيذ اللجان لدورها.
6 - إن الخطة الأمريكية لتحقيق ما ذكر جاهزة، وسيبدأ تنفيذها ابتداء من
أوائل عام 2003م.
ملاحظاتنا على هذه المسألة هي:
1 - قضية المرأة وموضوع حقوقها ليست وليدة الساعة، إن «أصل
المخطط» المتعلق بصرف المرأة المسلمة عن قيامها بواجباتها المتعلقة بتربية
الأجيال، والمتعلقة بحفاظها على حجابها، وأدائها لرسالتها حسب ما قرره لها
الإسلام؛ كان قد بدأ به الغرب والمتربون من أبناء المسلمين على منهجه، منذ
أواخر القرن التاسع عشر، ولا تزال محاولاتهم دؤوبة ومستمرة، وما طُرح في
هذه المذكرة ينظر إليه في هذا الإطار.
2 - الجديد في المسألة هو الاستعانة المباشرة بالولايات المتحدة؛ لتقوم هي
بفرض تحقيق المشاركات السياسية والاقتصادية وغيرها للمرأة على حكومات الدول
العربية على سبيل الإلزام.
3 - والجديد أيضاً هو الدعم المالي المعلن لتحقيق تلك الأغراض، مع وضع
جداول زمنية تتعلق بالتنفيذ.
4 - هذه الخطة الخطيرة التي ستشرف على تنفيذها الولايات المتحدة؛
تفرض على جميع الجهات الإسلامية أن تتصدى لها عبر جميع الوسائل المشروعة؛
لأن أمريكا لا تريد حقيقة خدمة قضية المرأة المسلمة، بل تريد أن تمتطي صهوة
«موضوع المرأة» للوصول إلى تحقيق مآربها في تفكيك اللحمة الاجتماعية في
المجتمع المسلم، وتفتيت لبنته الأساسية وهي الأسرة.
- خامساً: آليات التنفيذ:
تضمنت آليات التنفيذ ما يلي:
التقسيم إلى مجموعات:
قسمت المذكرة الدول العربية إلى أربع مجموعات:
المجموعة الأولى: تضم الأنظمة العربية التي ستعمل على تنفيذ برنامج
الإصلاحات السياسية والتنموية من تلقاء نفسها. تقول (المذكرة) :
- «إن الجانب الأمريكي سيظل مترقباً للنتائج التي ستتمخض عن حركة هذه
الأنظمة، وبعد تقييم النتائج سيكون هناك تشاور أمريكي معها من أجل دعم
الإصلاحات جزئياً أو كلياً، أو إضافة بنود جديدة، أو العمل على الإسراع من
وتيرة تنفيذ هذه الإصلاحات» .
- «إن البرامج لن تكون مطلقة تماماً، فلا بد من تدخل تلك الأنظمة في
البرامج المطروحة من الجانب الأمريكي، لكن في حال عدم قبولها فعلى تلك الدول
تقديم البديل المناسب من تلقاء نفسها، وسيخضع هذا البديل للتقييم والمشاورات مع
الجانب الأمريكي، من حيث قدرته على تحقيق الأغراض والأهداف التي يسعى
البرنامج الأصلي المطروح إلى تحقيقها» .
- «إن الولايات المتحدة لديها رغبة أكيدة في استقرار نظام الحكم في دول
الشرق الأوسط، وهي ليست على استعداد لتقبل فكرة التغييرات المفاجئة فيها» .
- «على الحكومات تقديم ورقة عمل بصورة فردية، وكذلك دليل عمل حول
برنامج الإصلاحات السياسية والاقتصادية والتعليمية، وأن يكون هذا البرنامج قابلاً
للتنفيذ في عام 2003م، وأن تنتهي مرحلته الأولى في عام 2006م، وسنحترم
بالتأكيد رغبتهم في أن يعبر هذا البرنامج عن ثقافتهم وتقاليدهم، ولكن بالقدر الذي
يدعم الديمقراطية» .
- «أما تلك التقاليد والممارسات التي ستتعارض مع هذا التوجه الديمقراطي
والإصلاحات السياسية المطلوبة؛ فإننا سنطلب وبمنتهى الصراحة أن تبدأ
الحكومات من تلقاء نفسها في إزالة هذه الممارسات، حتى لو كان ذلك في إطار
خطة تدريجية؛ حتى لا يؤثر ذلك على استقرار وتوازن المجتمعات الداخلية» .
- «نرى أن خطوات البرامج الإصلاحية تبدأ بعدة خطوات؛ أبرزها:
1 - دعم المؤسسات القائمة حالياً من خلال إدخال تعديلات تستهدف تحقيق
المتطلب الديمقراطي، وإنشاء مؤسسات جديدة لهذا الغرض.
2 - إدخال أفكار جديدة للمتطلب الديمقراطي في أنظمة الحكم وهياكله
المتعددة، وإزالة أفكار قديمة تتعارض مع هذا المتطلب، وتشكل عائقاً أساسياً أمام
الإصلاحات السياسية والديمقراطية.
3 - توسيع نطاق المشاركة السياسية للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني في
قرارات الدولة المعبرة عن المتطلب الديمقراطي.
4 - زيادة الوعي السياسي من خلال الإعلام والتعليم بأهمية المتطلب
الديمقراطي بوصفه نموذجاً أساسياً لطبيعة التفاعلات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية في داخل المجتمع.
5 - تحديد خصائص التحول الديمقراطي للريف، والمناطق النائية،
والمناطق المختلفة داخل الدولة.
6 - دعم المتطلب الديمقراطي في إطار برامج توعية منفصلة في مجالات
سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وتربوية.
7 - وضع جداول زمنية لتنفيذ جميع البرامج السابقة» .
- «على الرغم من أن الجداول الزمنية التي ستضعها هذه الحكومات ستكون
ملزمة لها؛ فإننا سنقبل بخطوات المرونة اللازمة في تنفيذ هذه الإصلاحات، كما
أننا لن نتدخل في سرعة التطبيق الديمقراطي في هذه الدول إلا بالقدر الذي ستقف
فيه هذه الإجراءات دون تطوير يذكر أو تغيير ملموس لمدة لا تقل عن 5 سنوات،
ففي هذه الحالة سنكون ملزمين بالتدخل لإجبار هاتين الدولتين على الاستمرار في
تنفيذ برامجهما الإصلاحية» .
المجموعة الثانية: تضم أنظمة عربية وإسلامية يتم فيها إجراء الإصلاحات
السياسية والديمقراطية بالقوة، وهذه المنظومة تضم أربع دول، هي العراق وليبيا
وسوريا وإيران.
فأما ليبيا فستتعرض لعمل عسكري بعد العراق، وذلك في أواخر عام 2003م
أو أوائل عام 2004م؛ حيث إن ذلك النظام كما تقول المذكرة لا توجد فيه بارقة
أمل واحدة للتفاهم معه على إجراء أية إصلاحات سياسية أو ديمقراطية.
أما سوريا فسوف تعطى فرصة أخيرة؛ ذلك أنه «على الرغم من التطورات
الاجتماعية والاقتصادية الهائلة في داخلها؛ فإن النظام لم يبد استجابة لهذه
التطورات بما يتلاءم مع تحقيق قدر أكبر من الديمقراطية والإصلاحات السياسية
المطلوبة، وفي حال الإصرار على الاستمرار في انتهاج بعض السياسات المعادية
للمصالح الأمريكية والغربية بصفة عامة؛ فإنه لن يكون هناك خيار سوى اللجوء
إلى القوة العسكرية لتغيير النظام الحالي. وإذا رفض النظام الحاكم هذا التصنيف
فعليه أن يقدم رؤيته من خلال وثائق رسمية حول الأشكال الملائمة بالنسبة لهم في
إطار خطة الإصلاحات، وكذلك عليهم بيان الآليات التي سيستخدمونها في تحقيق
هذا التغيير وأنماطه؛ فإن عجزوا فستقدم لهم خطة عمل يجبرون على الالتزام بها
قبل تنفيذ الخيار العسكري» .
أما إيران فقط سكتت المذكرة عن التفاصيل الخاصة بها.
المجموعة الثالثة: وتضم الدول التي بدأت فعلياً في تطبيق بعض الإجراءات
على طريق الديمقراطية والإصلاحات. هذه الدول هي البحرين والكويت والمغرب.
وقد حددت المذكرة الإجراءات التالية للتعامل معها:
1 - تعميق البرامج المشتركة مع هذه الدول في تقوية البرلمانات وتعميق
دورها؛ بحيث تكون هي القاطرة الحقيقية لقيادة بقية البرلمانات في الدول العربية
نحو الوفاء بالمتطلب الديمقراطي.
2 - زيادة مساحات الدورات التدريبية لرعايا هذه الدول في الأراضي
الأمريكية، والمتعلقة بالمتطلب الديمقراطي.
3 - تفعيل وإنشاء مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية؛
لتكون لها القدرة على التعبير الكامل عن المشكلات التي تعانيها مجتمعات الدول
الثلاث.
4 - تنظيم برامج بالاشتراك مع الجامعات والمؤسسات في هذه الدول؛ سواء
الحكومية أو غير الحكومية، حول الوعي السياسي والمشاركة في الحملات
الانتخابية.
5 - تدعيم دور اللامركزية السياسية في هذه البلدان وتقويتها؛ بحيث يصبح
مبدأ اللامركزية حقيقة واقعة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، ويتطلب ذلك دعم برامج الحكم المحلي، وخاصة في مجالات التعليم؛
مما يساعد على الوفاء بالمتطلب الديمقراطي.
المجموعة الرابعة: وتضم الدول التي في حالة شراكة مع الولايات المتحدة،
مثل أنظمة قطر والأردن واليمن.
إن الإطار العام للتعامل مع هذه الدول يتم من خلال ما يلي:
- أن تقبل ببرامج أمريكية محددة للإصلاحات السياسية والاجتماعية
سيتم عرضها في أوقات مناسبة، وسيتولى الجانب الأمريكي تطبيق هذه البرامج
وتنفيذها.
- على أنظمة هذه الدول أن تبدي كل تعاون مع الولايات المتحدة من أجل
إنجاح التحول الديمقراطي.
- لا يحق لهذه الأنظمة الاحتجاج على المفهومات المنتشرة في المنطقة حول
السيادة الوطنية والشؤون الداخلية لتتهرب من تطبيق البرامج الأمريكية؛ لأن
الهدف من الارتباط الأمريكي بهذه النظم هو بناء حالة مثلى من نظم الحكم القادرة
على مواجهة كل التحديات بيسر وسهولة.
وستكون النظم الديمقراطية والإصلاحات التي ستنتشر في هذه الدول مقدمة
لزيادة المد الديمقراطي في كل أرجاء المنطقة.
عموميات تخص المجموعات [5] :
أوضحت المذكرة عدداً من العموميات الخاصة بما ذكر؛ وهي:
- إن النظام الجديد للمعونات سيربط بين الحصول عليها وبين إنفاقها الجزء
الأكبر منها في أغراض الإصلاحات السياسية والديمقراطية.
- إن مبلغ الـ 29 مليون دولار يعتبر تخصيصاً عاماً، أما البرامج
التفصيلية الأخرى التي سبق ذكرها فسيتم تخصيص موازنات مالية مستقلة لها،
وذلك من خلال برامج المساعدات والمعونات الخارجية.
- إن مستقبل الحداثة في الشرق الأوسط سيمثل الحلقة الأساسية في تطوير
الديمقراطية.
- إن إحداث التغيير والإصلاح سيتطلب وقتاً، إلا أن هذا الوقت يجب أن
يأتي بأمل كبير؛ لأن تطور النظم في أوروبا الشرقية كان أيضاً صعباً، ولكنه
أصبح حقيقة واقعة بسرعة.
- في المرحلة الحاضرة ينبغي أن يكون برنامج العمل محققاً أغراض
المصالح الاستراتيجية الثابتة، أما المصالح المتغيرة فإنها ستخضع لطبيعة الظروف
السياسية في المنطقة.
وقفات مع نظام المجموعات:
بعد أن عرضنا نظام المجموعات الذي وضعته الإدارة الأمريكية لا بد أن
نسجل الوقفات التالية:
1 - إن طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الدول العربية لا يمت بصلة إلى
اعتبار أن هذه الدول هي دول مستقلة ذات سيادة وطنية، بل هي أقرب ما تكون
إلى تعامل المدير مع موظفيه أو ناظر المدرسة مع مدرسيه، وهي فضلاً عن
اتسامها بروح التعالي والاستكبار؛ فإنها أيضاً مفعمة بروح الاحتقار والاستصغار
للدول العربية!!
2 - إن الإدارة الأمريكية انطلقت في مذكرتها تلك من عدة اعتبارات؛ من
أهمها:
- عدم تمكين الإسلام من الاضطلاع بأي دور سياسي في أنظمة الحكم في
الدول العربية، وذلك من خلال مصادرته تماماً لصالح الديمقراطية الأمريكية.
- مصادرة الهوية الإسلامية لشعوب الدول العربية على كل المستويات العقدية
والسياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية، وسائر المقومات الأساسية للبناء
المجتمعي.
- تدجين الدول العربية، أنظمة وشعوباً؛ لتكون كلها في النهاية أدوات
تستخدمها الولايات المتحدة للوصول إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
3 - إن استعمال القوة لتنفيذ هذا المخطط الخطير يأتي في سياق مبدأ
«الحرب الاستباقية» الذي أعلنه الرئيس الأمريكي بوش.
4 - إن هذا المخطط هو في حقيقته تعبير عن تجسيد الحقد الصليبي اليهودي،
وصياغته في خطط وبرامج مبنية على دراسات مستفيضة، وتوفر له جميع
الإمكانات لتحقيقه؛ بما في ذلك الموازنات المالية المفتوحة.
5 - لا شك أن القوى اليهودية المهيمنة حالياً على الإدارة الأمريكية لها دور
بارز، أو قل أساسي، في وضع هذه المبادرة ومذكرتها التنفيذية وصياغتها،
وبالتالي فإن الذين وضعوها أخذوا بعين الاعتبار الخدمة العظيمة التي سيتحصلون
عليها من تطبيقها في تثبيت وتقوية أركان الكيان اليهودي، ولسحب البساط من
تحت أقدام الانتفاضة، وخاصة أن من أهداف الحرب على العراق أو ليبيا أو
غيرها من الدول العربية توفير محضن مناسب لاستقبال الفلسطينيين الذين يريد
شارون أو من يخلفه تشريدهم من الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك لاستقبال
اللاجئين الفلسطينيين المفرقين حالياً في أراضي الشتات.
6 - إن نجاح هذا المخطط يعني سقوط المنطقة العربية في براثن استعمار
طويل المدى.
7 - إن المتمعن في هذا المشروع - المبادرة - لن تنقصه الفطنة في تحديد
مواضع الضعف الكثيرة التي يحتويها، ويظهر تماماً أن الجهات الخبراء التي
وضعته تنقصها كثير من المعلومات والخلفيات الحضارية الإسلامية لهذه الأمة،
ودليل ذلك مقارنتهم لها بدول أوروبا الشرقية التي كانت شعوبها تحت الأنظمة
الشيوعية المتسلطة على رقابها، فنبذتها وقضت عليها عندما توفرت لها أول فرصة.
أما الشعوب الإسلامية فإنها متشبثة بدينها، عاضة عليه بالنواجذ، وهو يعيش في
أعماق قلوبها، ومتجذر في أصول نفوسها، وإن حالة الضعف والوهن التي تمر بها
هذه الشعوب حالياً لا تدل على تنكرها لدينها ورفضها لإسلامها، وإن هذه الشعوب
تفرق تماماً بين إسلامها الذي تنتمي إليه، وبين ما هو مفروض عليها من أنظمة
فاسدة ومستوردة.
8 - إن أقرب ما يمكن قوله بشأن هذه المبادرة: إن واضعيها قد سيطر على
عقولهم مفهوم (صراع الحضارات) الذي كتبه «هنتنجتون» ، و (نهاية التاريخ)
الذي كتبه «فوكوياما» .
9 - إن هذه المبادرة تتضمن بين أسطرها معنى خفياً يتعلق بأن الغرب هو
صاحب النصر النهائي في هذه المواجهة؛ وذلك من خلال تصوره أنه بذلك
سيفرض منهاج نظرته للحياة والإنسان على المسلمين.
10 - ونحن نقول إن هذا التصور سراب خادع؛ لأن انتصار الإسلام في
نهاية مطاف الصراع هو قدر كوني وحقيقة شرعية، قال الله تعالى: [يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف:
8-9) . غير أن الوصول إلى تحقيق هذا الموعود يمر عبر الأخذ بالأسباب المادية
والمعنوية بجميع أنواعها؛ لتتمكن الأمة من الوقوف مرة أخرى على قدميها ورد كيد
أعدائها.
* كلمة أخيرة:
إن على جميع المسلمين أن يأخذوا مأخذ الجد ما يحيكه لهم عدوهم من
مؤامرات، وما يعده لهم من مكائد، وإن نصر الله تعالى لهم مرهون بعودتهم إلى
التمسك بأحكام إسلامهم وشريعة ربهم، و [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأعل كلمة دينك،
وأذل أعدائك، واجعلنا من صفوة خلقك.
__________
(1) انظر: محاربة الإرهاب، والدعوة الأمريكية للديموقراطية، بقلم السيد ياسين، القبس الكويتية، 2/1/2003م.
(2) الفرقان 26/10/1423هـ، 30/12/2002م.
(3) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار، رقم 21891، وأبو داود، الملاحم، رقم 4297، واللفظ له.
(4) يمكن الحصول على المذكرة من خلال موقع: www.elosboa.com
(5) تابع لآليات التنفيذ.(184/94)
مرصد الأحداث
يرصدها: وائل عبد الغني
مرصد الأخبار:
إسلام أمريكي!
كشف النقاب عن تفصيلات خطة تطوير الخطاب الديني في مصر المطروحة
من قِبَل الولايات المتحدة والتي سيجري تنفيذها من خلال عدة محاور من بينها
دورات تدريبية مكثفة، تعقد بين القاهرة وواشنطن ويلتحق بها من 500 - 600
من الشيوخ والقساوسة المصريين، ومدة كل دورة تدريبية ستكون ستة أشهر،
يمكثون منها ثلاثة أشهر في واشنطن وبقية المدن الأمريكية، وثلاثة أخرى في
القاهرة.
ويتركز الانتقاء على الرموز الدينية التي لديها استعدادات لخدمة التوجهات
المطلوبة والتي من بينها محاربة الإرهاب وتقديم تفسير عقلاني للدين، وذلك
ليكونوا محاضرين رئيسيين في هذه الدورات التدريبية، كما يحصل رجال الدين
هؤلاء أيضاً على دورات تدريبية مدتها شهر واحد في واشنطن تتضمن كيفية إلقاء
المحاضرات والتركيز على الجوانب المعنية من هذه الخطة.. كما تشمل الخطة
التركيز على مفردات هذا الخطاب وليس موضوعاته فقط، بصورة يمكن بها خدمة
التوجهات الأمريكية.
[الأسبوع، القاهرية، العدد: (306) ]
أسرانا ولا أسرى لهم!
أوضح هشام عبد الرازق وزير شؤون الأسرى في السلطة الوطنية الفلسطينية
أن عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية تضاعف خلال
فترة الانتفاضة الحالية ليصل إلى حوالي ثمانية آلاف أسير. وقال إن الأسرى ومن
بينهم خمسون سيدة ومائة وثمانون طفلاً موزعون على ثلاثة عشر معتقلاً داخل
فلسطين المحتلة عام 1948م وثلاثة معتقلات عسكرية أخرى تحت سلطة الجيش
الإسرائيلي في الضفة الغربية. وأضاف إن هناك ألفاً وثمانمائة معتقل من الموقوفين
الإداريين بدون أي تهمة بأمر الحاكم العسكري الإسرائيلي الذي يقضي باعتقالهم لمدة
ستة أشهر تتجدد بأمر هذا الحاكم العسكري.
[الزمان، اللندنية، العدد: (1045) ]
بيان من المغرب
استنكر بيان لرابطة علماء المغرب ما تعتزم جماعة تسمي نفسها: «الشاذون
بالمغرب» القيام به من اتخاذ إجراءات إدارية للظهور علنياً وجعل يوم 17/2/
2003م، يوماً خاصاً لإعلان «وجودها بالمغرب» مع التهييء لعقد مؤتمر
«الشواذ جنسياً» بمدينة مراكش في مارس المقبل.
واعتبر بيان الأمانة العامة للرابطة الخبر إن صح نشراً للفاحشة وترويجاً
للفساد من جماعات «شيطانية تعمل على تحويل المجتمع المغربي المسلم إلى سوق
للفحشاء والمنكر والشذوذ الجنسي، ومن ثَمَّ فهي لا تستحق أي تشجيع أو إقرار
لأمرهم، أو اعتراف بهم، بل يجب استنكار هذا العمل ورفضه رفضاً باتاً» .
[التجديد، المغربية، العدد: (556) ]
عزة كورية!!
قال الممثل الدائم لكوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة إن حكومته لا يمكن أن
تواصل الالتزام بالمعاهدة طالما يؤدي ذلك إلى الانتقاص من أمن وكرامة البلاد.
وهاجم السفير الكوري الولايات المتحدة معتبراً أن طريقتها في معالجة
الموضوع قد أغلقت آخر أبواب الحل السياسي للأزمة، كما انتقد كيل الإنذار الذي
وجهته الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى بلاده، وتهديدها بعرض الموضوع على
مجلس الأمن بغرض فرض عقوبات على كوريا إذا لم تستجب لهذا الإنذار،
وأضاف السفير الكوري: «إن هذا الموقف يثبت بجلاء أن الوكالة الدولية للطاقة
الذرية هي مجرد خادم للولايات المتحدة ومتحدث باسمها، كما أنها أداة لتنفيذ
سياسات واشنطن العدوانية تجاه جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية، والتي
تهدف إلى نزع سلاحها، وتغيير نظامها بالقوة» وقد أعلنت كوريا عن انسحابها
من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة الذرية فور إعلان الولايات المتحدة عن تهديدات
مقنعة لكوريا.
[راديو الأمم المتحدة، 10/1/2003م]
طعنة جديدة للأقصى!
قامت الجرافات الصهيونية بتسوية مساحة واسعة من الأراضي الفلسطينية
وبهدم سور ملعب كرة السلة التابع لنادي سلوان الرياضي وبتجريف الملعب وتحطيم
الإنارة الليلية تمهيداً لضمه للبناء الاستيطاني الذي بني في عهد نتنياهو في حي
رأس العامود المطل على المسجد الأسير (على بعد 100 متر فقط منه) ، وقد
تمت الجريمة على مرأى ومسمع الشرطة الصهيونية.
يذكر أن هذه الجريمة ليست الأولى كما أنها لن تكون الأخيرة لقطعان
المستوطنين في القدس المحتلة، لكنها تشكل خطورة متميزة كون مستوطنة رأس
العامود مقامة وسط حيّ عربي كثيف الأبنية والسكان، ولا شك أنه سوف يكون
لوجود المستوطنين في هذه المنطقة بالذات عواقب وخيمة ونقطة احتكاك يومية؛ إذ
تعتبر منطقة رأس العامود المتنفس الوحيد للمقدسيين والرابط الجغرافي الوحيد بين
القدس والقرى الفلسطينية الواقعة شمال شرق المدينة.
[التجديد، المغربية، العدد: (546) ]
«ترئيس» ابن فليس قادم!
تتحدث أنباء من العاصمة الجزائر عن زج مؤسسة الجيش برئيس الحكومة
علي بن فليس الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني للمنافسة في الانتخابات
الرئاسية القادمة في مواجهة بوتفليقة.
وقد تمت عدة لقاءات بين علي بن فليس والجنرال محمد العماري بغرض
ترشيحه للرئاسيات 2004م، ويتم تلميع بن فليس من قِبَل قيادة الجيش الجزائري
وتقديمه على أنه (أربعيني العمر، بربري الأصول، متحالف مع السلطة التي
يقودها الآن الرئيس بوتفليقة الذي لا يروق أداؤه الرئاسي للجنرالات كثيراً فهو
إصلاحي ومتفتح كثيراً) .
ويتولى توجيه هذا الأمر الجنرال العماري المدعوم من أمريكا والذي الحاكم
من وراء الستار.
[الزمان، العدد: (1405) ]
اقترب الوعد!
أعرب أفيغدور يتزاكى مدير مكتب إرييل شارون عن توصله لاتفاق مبدئى
يقضي بالبدء في عمليات ترحيل مجموعة جديدة من اليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى
فلسطين عبر دولة ثالثة، بالتنسيق مع الوكالة اليهودية المسؤولة عن استقدام يهود
الفلاشا إلى فلسطين المحتلة.
وأبدى مصدر إسرائيلي رسمي تشاؤمه قائلاً: «في مثل هذا الوضع، ليس
واضحاً ما إذا كانت الهجرة إلى إسرائيل مجدية وما إذا كان من المفيد لإسرائيل أن
تواصل الاستثمار بها» .
وقدر عدد المهاجرين الذين وصلوا من أنحاء العالم بين سنوات 1989 -
2001م بمليون و 70 ألف مهاجر، بينما غادر إسرائيل أكثر من 90 الفاً.
[البيان، الإمارتية، العدد: (8245) ]
مجمع الفقه يستنكر إباحة «الفوائد»
استنكر مجلس مجمع الفقه الإسلامي فتوى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر
التي أباحت فوائد البنوك، واعتبرها مخالفة لكل القرارات الفقهية التي صدرت عن
المجامع الفقهية في الدول الإسلامية، واستعرض المجمع نص محضر اجتماع
مجمع البحوث الإسلامية الذي أجاز فيه فوائد البنوك، وفتوى مجمع الفقه الإسلامي
بشأن تحريم التعامل المصرفي بالفوائد، وقرر المجمع مراجعة شيخ الأزهر في
القضية، جاء ذلك في ختام الدورة الرابعة عشرة للمجمع التابع لمنظمة المؤتمر
الإسلامي والذي يعد أعلى مرجعية فقهية في الدول الإسلامية ويضم صفوة علماء
المسلمين، وتعتبر قراراته وتوصياته حجة ومرجعاً لباقي المجامع الفرعية المحلية
في الدول الإسلامية.
[الوطن، القطرية، عدد: 16/1/2003م]
أقوال غير عابرة:
- العراق قاطرة أمريكا لحكم العالم.
[المشاهد السياسي، العدد (357) ]
- إن وقف إطلاق النار من جانب المقاومة الفلسطينية في الوقت الراهن بات
من المستحيلات؛ لأن ذلك الوقف إن كان بالمجان فهو يفقد المقاومة شرعيتها ويغدو
بمثابة انتحار لها. وإن كان بمقابل إسرائيلي فهو إقرار بالإخفاق أو الهزيمة. وليس
هناك عاقل بين قيادات المقاومة من يقبل بالانتحار الطوعي، كما أن غرور الغلاة
المستكبرين في حكومة تل أبيب لن يسمح لهم بالاعتراف بإخفاق الحل العسكري.
[الكاتب المصري فهمي هويدي، الأهرام، العدد: (42400) ]
- «تركيا لن تلعب دور كلب الحراسة للقوى الإمبريالية» .
[الأمين العام للجمعية التركية لحقوق الإنسان في أنقرة معترضاً على دور
لتركيا في الحملة الصليبية على العراق، الراية القطرية، عدد 12/1/2003م]
- إن أعمال أميركا تمثل إرهاباً متزايداً أدت إلى الانتقام من الأميركيين
بالخارج وتنفيذ حكم الإعدام فيهم فقط لأنهم أميركيون، إنه بدون وقف إرسال
القوات الأميركية وسحب معظمها من المنطقة، وسحب جميع البعثات التبشيرية
الأميركية المسيحية من الشرق الأوسط لن يتوقف العنف والتطرف.
[الدكتورة كيكي كنيدي من جامعة كنتاكي الأميركية، الاتحاد الإماراتية، العدد: (10054) ]
- ينبغي علينا عدم الضحك على أنفسنا، ثمة مسلك كنسي للتقليل من تأثير
العالم الإسلامي على الحياة الفكرية في أوروبا لفترة طويلة.
[يورج هايدر زعيم اليمين النمساوي، البيان، الإماراتية العدد: (8245) ]
- إن جلب نظام حكم صديق إلى بغداد سيبلور صلات أمنية عراقية -
إسرائيلية وطيدة، وسيكون بمقدور (إسرائيل) نشر قوات عسكرية لها على الحدود
الإقليمية للعراق مع سوريا والسعودية وإيران، إن ضمان وجود حكم صديق في
بغداد سيجعل الإسلاميين في فلسطين والأردن في متناول قوة ردع عسكرية
إسرائيلية عراقية مشتركة.
[أرييه جينجر، رجل أعمال إسرائيلي ويمثل قناة سرية للاتصال بين إرئيل شارون والرئيس الأمريكي جورج بوش، السبيل الأردنية، العدد: (469) ]
- أمريكا تسعى لإقامة أكبر وجود عسكري في المنطقة ولزمن طويل لمواجهة
توقعات بقيام أنظمة حكم إسلامية في العالم العربي بحلول عام 2008م.
[مصدر عربي مهم، السبيل الأردنية، العدد: (469) ]
- السلطة التونسية تقوم بمحاربة ظاهرة الرجوع إلى الحجاب بالقوة لكي
تخفي حجم إخفاقها في عملية تجفيف منابع التدين.
[د. منصف المرزوقي، رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية،
التجديد المغربية، العدد: (560) ]
- الأسرى والمعتقلون في سجون الاحتلال ينتظرون منا أن نقوم بأسر
الإسرائيليين، ونعمل على تبادل الأسرى بيننا؛ فأنا خرجت مرتين من السجن في
تبادل أسرى.
[الشيخ أحمد ياسين، الشرق الأوسط، العدد: (8812) ]
- ثقافة المجتمع الحالية عائق أساسي أمام تطوير التعليم!
[وزير التعليم المصري حسين كامل بهاء الدين، الجيل المصرية، العدد: (36) ]
مرصد الأرقام:
- في استطلاع للرأي في بريطانيا قال 58% من المصوتين إن صدام لا
يشكل تهديداً يسوِّغ الحرب ضده.
[الزمان، اللندنية، العدد: (1405) ]
- في استطلاع رسمي أجرته وزارة الصحة الإسرائيلية: فإن واحداً من بين
كل خمسة إسرائيليين غالباً ما يعاني من التوتر.
[يديعوت أحرونوت، عدد: 14/1/2003م]
- تقدر أنقرة الخسائر التي تكبدها اقتصادها بسبب الحصار الدولي المفروض
على العراق بحوالى 40 مليار دولار.
[الراية، القطرية، عدد12/1/2003م]
- 80% من الأسلحة التي يمكن أن تستخدمها أميركا في حالة الحرب على
العراق تعمل بتوجيه من الأقمار الصناعية.
[البيان، الإماراتية، العدد: (8244) ]
- يبلغ عدد المتضررين من موجة الجفاف الحالية التي تضرب أثيوبيا 14
مليون شخص في مختلف أنحاء البلاد.
[الحياة، اللندنية، العدد: (14539) ]
- بلغ إجمالي النفقات التي تتكلفها المستشفيات الأمريكية سنوياً جراء معالجة
مرضى الإصابات بعيارات نارية 802 مليون دولار.
[نيوزويك، عدد: 14/1/2003م]
- وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فإن نحو 10 ملايين شخص سيكونون في
حاجة ملحة إلى مساعدات في حالة نشوب حرب في العراق.
[البيان، الإماراتية، العدد: (8239) ]
- أكثر من 200 مليون دولار هي قيمة الهدايا التي قدمتها المخابرات
الأمريكية للقبائل العراقية لكسب ودها خلال الحرب، وتشير بعض التقديرات إلى
أن ثلثي الشعب العراقي (أكثر من 20 مليون نسمة) هم أبناء قبيلة واحدة من
القبائل الـ 150 في البلاد والتي تنقسم إلى 2000 عشيرة.
[مجلة الوسط، اللندنية، العدد: (572) ]
- بلغت نسبة الإشغال العسكري في الفنادق الكويتية نحو 90% من إجمالي
نسبة الإشغال.. أشارت مصادر مختصة في الفنادق الكويتية أن النسبة الأكبر من
إشغال الفنادق الكويتية أوائل شهر يناير تعود لعسكريين أميركيين ولممثلي
شركات الأسلحة.
[البيان، العدد: (8238) ]
- كشف مسؤول مغربي رفيع المستوى النقاب عن أن عدد اليهود
المغاربة تراجع كثيراً وبات ينحصر حالياً ما بين 4000 و5000 يهودي، يقيم
معظمهم في الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للبلاد.
[الشرق الأوسط، العدد: (8809) ]
- يعيش نحو 20 ألف فلسطيني في محافظة سيناء الشمالية القريبة من خط
الحدود الدولية في ظروف صعبة منهم نحو ثلاثة آلاف فرد مشردين في خيام من
الخيش في مناطق جبلية وعرة بلا تعليم أو إشراف صحي أو حتى عمل يذكر.
إن الفلسطينيين الموجودين بشمال سيناء وصلوا إلى مصر في موجات بين
حربي 1948م و 1956م وحصلوا على إقامات دائمة من الحكومة المصرية
وارتبطوا بعلاقات نسب ومصاهرة مع المصريين الموجودين في هذه المنطقة.
[الشرق الأوسط، العدد: (8807) ]
- هيئة المعونة الأميركية مولت منحاً قدمتها لألفي شخص ممن يعتبرونهم
قياديين في الحياة الاجتماعية المصرية، منهم 291 شاباً من 17 محافظة مصرية
إضافة إلى 1200 آخرين من المجتمعات الريفية، وأن 58% من المنح السابقة
حصلت عليها النساء المصريات وأخرى لتدريب بعض المشايخ والقساوسة الذين
وصل عددهم إلى 610 ما بين مسلم ونصراني.
[الشرق الأوسط، العدد: (8815) ]
أخبار سريعة:
- الشارع اليمني بات على قناعة أن قوى وأطرافاً داخلية وخارجية تعمل
على زعزعة الاستقرار وبث القلاقل وإثارة الفتن والصراعات الدموية في الساحة
اليمنية، ربما لإشغال اليمنيين ببعضهم البعض وحتى يغفلوا القضايا القومية في
فلسطين والعراق خلف ظهورهم، وربما لشق أحزاب المعارضة اليمنية وزرع
الشقاق بينها وإشغالها بنفسها بعيداً عن الاستعداد لخوض الانتخابات البرلمانية في
إبريل القادم.
[السبيل، الأردنية، العدد: (469) ]
- أعلنت وزارة الداخلية الهندية أنها ستبدأ في تنفيذ خطة هذا العام التي تهدف
إلى ترحيل أكثر من 20 مليون مهاجر غير شرعي من بنغلادش؛ لأنهم باتوا
يشكلون تهديداً أمنياً خطيراً على حد تعبيرها.
[السفير، اللبنانية، عدد 8/1/2003م]
- شكك شاعر البلاط البريطاني أندرو موشن في الدوافع وراء الحرب
المحتملة على العراق في قصيدة جديدة نشرت مؤخراً. وتقول قصيدة «سبب
الحرب» :.. «إنهم يقرؤون الكتب الجيدة ويقتبسون منها لكنهم لا يتعلمون لغة
سوى لغة انطلاق الصواريخ ... كلامنا الصحيح ... الانتخابات والمال
والإمبراطورية والنفط والـ..
[الرياض، العدد: (12621) ]
- وقعت مجموعة من الأكاديميين الأميركيين على عريضة وقعها أكثر من
30 ألف أستاذ جامعي أميركي ورفعوها إلى الرئيس الأميركي لإدانة التهديدات
بالحرب بدلاً من اعتماد الوسائل الدبلوماسية لحل الأزمة.
[السفير، اللبنانية عدد: 14/1/2003م]
- قال رئيس الوزراء التركي عبد الله غول اليوم الجمعة إنه منح الجيش
الأمريكي إذناً بتفتيش الموانئ والقواعد الجوية التركية في إطار الاستعدادات لشن
حرب محتملة ضد العراق. وهو ما يعد خطوة أولى نحو وجود عسكري أمريكي
في تركيا عضو حلف شمال الأطلسي المجاورة للعراق، والتي لا ترغب في مساندة
أي عمليات عسكرية ضد جارتها.
[هيئة الإذاعة البريطانية في: 10/1/2003م]
- قدمت الحكومة الألمانية صفقة صواريخ باتريوت متطورة بقيمة 350
مليون يورو.. هدية للكيان الصهيوني.. المتحدث الرسمي لكتلة الحزب المسيحي
الديمقراطي علق قائلاً: أتفهم النقد القائم تجاه إرساليات السلاح إلى» إسرائيل «
ولا شك أن الحكومة كان يمكن أن تتخذ الإجراءات المطلوبة لوقف التصدير لولا أن
» إسرائيل «حالة خاصة!
[المجتمع، الكويتية، العدد: (1531) ]
- شهدت أوائل الشهر الماضي كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا
عمليات مداهمة واعتقالات استهدفت الجالية الإسلامية ضمن عملية منسقة بين تلك
الدول، ويعتقد أنها ستأخذ إطاراً أوسع في سباق مع التحضيرات لشن حرب على
العراق، وقد أجمعت قيادات الجاليتين العربية والإسلامية في بريطانيا على أن
هدف تصعيد الاتهامات بالإرهاب لأبناء الجاليتين تهيئة الأجواء لضرب العراق.
[الزمان، اللندنية، العدد: (1045) ]
- سادت حالة من القلق بين الأوساط العميلة في أفغانستان بعد أن بدأت إذاعة
» صوت المقاومة الأفغانية «المتنقلة بثها لمدة ساعتين يومياً على موجة
» إف إم «، ويبلغ مدى بثها أكثر من 100 كيلو متر ويقع مركزها في الشرق
الأفغاني، وتتوقع بعض المصادر الأفغانية أن الإذاعة تصدر عن حكمتيار والتي
يتوقع أن تنجح في إثارة الأغلبية الرافضة للوجود الأجنبي، خصوصاً في حال
تعرض العراق لضربة أميركية.
[الحياة، اللندنية، العدد: (14540) ](184/104)
الورقة الأخيرة
إن كنا نريد الخير.. فلنترك رموز الضلال
حمد الماجد
hamajed@hotmail.com
قرأت كتاباً بدا لي أن الذي ألفه غيور من أهل السنة تلبَّس شخصية تنتمي إلى
فرقة مشهورة من فرق المبتدعة؛ فقد ذكر أو بعبارة أدق: افتعل في كتابه قصصاً
من الفضائح (المفبركة) عن أحد الزعماء المشهورين لهذه الفرقة ليس أسوأها أن
هذا الشيخ الزعيم في أحد أسفاره بقرية يعرف فيها صديقاً له، وأنه حين تسامر مع
صاحب البيت لمح طفلة في حدود سبع سنين من عمرها فعشقها، فطلب يدها تلك
الليلة فوافق والدها طمعاً في بركة الشيخ فبات ليلته معها ولم يقطع عليهم سكون تلك
الليلة إلا تأوهات الطفلة وآلامها!! وواضح أن المؤلف أو (المفبرك) أراد والله
أعلم بنيته أن ينفِّر أتباع تلك الفرقة من مذهبهم، ويردهم إلى المنهج الصحيح من
خلال الطعن في أحد رموزه انطلاقاً من قاعدة: وشاهد شاهد من أهلها، أو تشويه
شخصيته حتى لا يفتن أهل السنة بها.
وفي تصوري أن أسلوب هذا الكاتب في الدعوة والتغيير على فرض صحة
نسبته إلى أحد الدعاة من أهل السنة وهو الذي ترجح لي يمثل عينة لعدد من
الأساليب الخاطئة في التعامل مع المخالفين من أهل القبلة، ولولا أن الموضوع
يتعلق بهم لقلت: وحتى غيرهم من أتباع الملل والعقائد الأخرى.
موطن الخلل هنا أننا في كثير من الأحيان ننشغل بمحاربة الشعار أو الرمز
الذي يرفعه أتباع كثير من الملل والنحل، والواقع أن هذه الرموز تعتبر عند بعض
الأمم جزءاً من تراثها الذي تحافظ عليه؛ فمهما كنتَ جدلياً ومقنعاً أو أردتَ أن
تلصق بهذه الرموز التهم الصحيحة أو المكذوبة فإن نظرة أفراد هذه الأمم تنصبُّ
عند البحث والمناظرة على المحافظة على تراثها ورعاية منظومتها الاجتماعية،
وقد نبه إلى خطر هذا العائق إبراهيم - عليه السلام -: [وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن
دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُم بَعْضاً] (العنكبوت: 25) «فدلالة هذه الآية واضحة في أن بعض
المتمسكين بعقائدهم إنما يجعلون عقيدتهم رمزاً لتعاونهم وائتلافهم وبقاء مودتهم،
وليست العقيدة عندهم مقصودة في ذاتها على الدوام.
هذا النوع من الوعي يساعد على اختيار الأسلوب الأمثل في مخاطبة
المخالفين والتحاور معهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن. فإذا كان الإسلام قد أوصى
بأن نجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فإن هذا النوع من المجادلة مطلوب من
باب أوْلى مع المسلمين من أهل القبلة مهما اختلفت عقائدهم أو تباينت توجهاتهم،
خفَّت بدعتهم أو غلظت.
وحتى في نطاق أهل السنة تُخدَش العقائد، وتعظَّم بعض الرموز ويمارس
باسم الإصلاح نفس الخطأ بالحط من قدر هؤلاء الرموز، فهناك الأضرحة
والمزارات التي يقصدها مئات الألوف من المسلمين وأغلبهم من العوام، ونتيجة
للجهل فقد يلاحظ بعض التصرفات التي تمس أصول التوحيد وركائز الإيمان مثل
الاعتقاد بأن هؤلاء الأولياء المتبرَّك بهم وهم رموز يجلبون نفعاً أو يدفعون ضراً؛
فليس من المناسب لمن يريد أن يصلح مثل هذه المزالق العقدية أن يتعرض للرموز
بسوء، مثل الذي يظن أن التشكيك أصلاً في صلاح هؤلاء الأولياء أو الطعن في
سيرهم هو الأسلوب الأمثل والأسرع في إقناع مريديهم. أحدهم ذكر، في معرض
إقناعهم بعدم جدوى التعلق بهذه الأضرحة، بأن أحد هؤلاء» الأولياء «شوهد
يوماً وهو يدخل المسجد يوم الجمعة فبال فيه، ثم خرج ولم يؤد الصلاة مع
المسلمين!! وآخر نسب إلى أحد هذه الرموز المقدسة عدداً من» الانتهاكات
الأخلاقية «!! وهذه الاتهامات - صحت أو لم تصح - فهي على كل الأحوال
أسلوب استفزازي من شأنه أن يحملهم على التشبث بطريقتهم بل والغلو فيها،
ناهيك عن أن هذا الأسلوب قد يحمل المخالفين على الأخذ بنفس الأسلوب فيقع
المحظور الذي نهى عنه القرآن: [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا
اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] (الأنعام: 108) .
إن سرعة المواصلات وثورة الاتصالات وخاصة الإنترنت والفضائيات
جعلت احتكاك المسلمين من شتى الفرق والمذاهب ببعضهم أمراً متكرراً، فكان
لزاماً على العلماء والدعاة والمفكرين التوعية بالأسلوب الأمثل والطريقة الأنجع في
الحوار الذي يقوم على الإقناع بعيداً عن السب والقذف والتجريح، بل وضرورة
التأكيد على أن المقصود ليس ذوات الأشخاص التي يقدسها الناس ولا سيرتهم سواء
كانت من أعطر السير أو أسوئها، وإنما المقصود إصلاح القلوب التي تعلقت
وفتنت بها.(184/108)
المحرم - 1424هـ
مارس - 2003م
(السنة: 18)(185/)
كلمة صغيرة
إما الحرب.. وإما الحرب
نشرت صحيفة نيويورك تايمز في (27/1/2003م) بياناً بعنوان: (ليس
باسمنا) وقعه 45 ألف أمريكي ينددون بالحرب المحتملة ضد العراق، وطالب
الموقعون الشعب الأمريكي بمقاومة الحرب والسياسات التي تتبناها الحكومة
الأمريكية منذ 11 سبتمبر 2001م، التي وصفوها بأنها غير قانونية أو أخلاقية أو
عادلة..!
ثم تصاعدت الأصوات والمظاهرات المناهضة للحرب حتى شملت أكثر من
600 مدينة داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، حتى عُدت هذه المظاهرات
أكبر مظاهرات يشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن صحيفة النيويورك
تايمز في (16/1/2003م) تؤكد أن: (العسكرية الأمريكية ستظل هي اللاعب
المركزي في إدارة شؤون البلد!) .
لقد وضعت الإدارة الأمريكية أمام المجتمع الدولي خيارين لا ثالث لهما:
(فإما الحرب.. وإما الحرب!!) ، ومنذ أن صدر قرار الأمم المتحدة رقم
(1441) القاضي بإرسال لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق
(أنموفيك) برئاسة (هانز بليكس) ، والحشود العسكرية الأمريكية الهائلة تسبق
باستعدادتها فرق التفتيش، وتفرض أجواء الحرب في المحافل الدولية والوسائل
الإعلامية، وعندما سئل (رامسفيلد) وزير الدفاع الأمريكي عن احتمالية اعتراض
بعض الدول في مجلس الأمن الدولي أو الاتحاد الأوروبي قال بكل تجبر: إن
الإدارة الأمريكية هي وحدها المخوَّلة باتخاذ قرار الحرب! وعلقت (كونداليزا
رايس) مستشارة الأمن القومي على المظاهرات المنددة بالحرب قائلة بكل
استخفاف: إن هذه المظاهرات لن تثنينا عن المضي في الطريق الذي اخترناه
لتحقيق مصالحنا! وكما أدار الإعلام الأمريكي حرب أفغانستان بلغة تعتمد على
التهويل والتضليل وتزييف الحقائق، فإنه يدير حرب العراق مستنداً إلى اللغة نفسها.
ولئن تساءلت أمريكا في بداية أزمة 11 سبتمبر: لماذا يكرهوننا؟! ولم
يجب ساستها وكثير من مفكريها بصدق عن هذا السؤال، فإن حدة الكراهية
تضاعفت كثيراً خلال هذه الأشهر القلائل، وهي مرشحة لمزيد من الاتساع
والتصاعد، وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مجلة تايم الأمريكية بموقعها الأوروبي
على شبكة الإنترنت أن 83.4% يرون أن أمريكا تشكل الخطر الأكبر على السلم
العالمي، بينما اعتبرت نسبة تقل عن 9% فقط أن العراق هو الذي يشكل هذا
الخطر!
ونحسب أن هذا الصلف والطغيان الأمريكي لن يستمر كثيراً؛ فقد كتب الله
تعالى نهاية سريعة للظالمين.
وإن من أوجب الواجبات على الأمة في هذه المرحلة الحرجة: استثمار هذا
الواقع في إحياء عقيدة البراءة من الكافرين فكراً وثقافة وسلوكاً، وإبراز الهوية
الإسلامية القائمة على الاعتزاز بالدين، وتعظيم كتاب رب العالمين، والتمسك بسنة
سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .(185/3)
الافتتاحية
عام جديد.. حزن وهموم أم فرح وسرور؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..
وبعد: فإن الأيام والسنين تمر، والأحداث والخطوب تتوالى، وما تزال جراح
أمتنا تنزف ومآسيها تتوالى وظلمتها تشتد، فلا يخفى على ذي بصر تكالب أعدائها
عليها واستشراء الوهن بين أكثر أفرادها؛ حتى وصل طمع الأعداء واستهدافهم إلى
خطوط حمراء بادية لجميع الناظرين أو هكذا يفترض؛ فكيف يا ترى سيكون عامنا
الجديد؟ هل ستتواصل الهموم وتتوالى الأحزان، أم سيشهد عامنا هذا بشريات فرح
وسرور، فتقر أعين المؤمنين وتسر نفوسهم؟
ولكن: هل ما مضى كان بالفعل مدعاة حزن وهموم، أم أن هناك نظرة
أخرى يمكن إلقاؤها على ما مضى من أحداث، ومن ثم: يمكن استصحابها للنظر
إلى العام الجديد؟ ولإيضاح ذلك يمكننا التذكير بعدة حقائق قد لا تكون مجهولة لكثير
من القراء، ولكن قد يغيبها تحت الركام توالي الأحداث وتسارعها وتعاظمها، فيغفل
عنها بعض العارفين بها والمؤمنين بصحتها:
فأولى هذه الحقائق: أن الحزن والفرح كالخوف والرجاء، والحب والكره
شعوران إنسانيان طبيعيان لا ينتقصان من إيمان المسلم ما داما في حدودهما
الطبيعية، أي ما دام الحزن لم يتحول إلى جزع أو يأس أو تسخُّط، ولم يتحول
الفرح إلى بطر أو خيلاء أو كبر، لا سيما إن كان هذا الحزن أو الفرح لله وفي الله
وعلى محارم الله أو محابه؛ فأنبياء الله ورسله وعباده الصالحون عَرَضَ عليهم
هذان الشعوران مثلهم مثل عامة البشر، من غير أن ينتقص ذلك من منزلتهم
ودرجتهم؛ ففي الفرح قال الله تعالى: [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ
عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا] (الشورى: 48) ،
وقال سبحانه: [وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ] (الروم: 36) ، وقال: [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس: 58) ، وقال: [فِي بِضْعِ سِنِينَ لله
الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ] (الروم: 4) .
وفي الحزن قال الله تعالى عن خليله المصطفى صلى الله عليه وسلم: [قَدْ
نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ] (الأنعام: 33) ، وقال: [إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ
تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] (التوبة: 40) ، وقال عن بعض خيار الصحابة: [تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ] (التوبة: 92) ، وقال عن
نبيه يعقوب عليه السلام: [قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ
وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ] (يوسف: 13) ، وقال أيضًا: [وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ] (يوسف: 84) ، وفي
الصحاح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل ابنه إبراهيم بعد وفاته وشمه
وزرف عليه الدموع؛ فلما استغرب منه بعض الصحابة ذلك، قال: «إن العين
تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم
لمحزونون» ... والشواهد في ذلك كثيرة، إنما نكتفي بما يدل على المقصود حتى
لا يتشكك ولا يتزعزع بعض متأججي العواطف ومرهفي الحس.
وثانيها: أن الفرح والحزن باعتبارهما شعورين إنسانيين ليسا متلازمين
للخير والشر باعتبار علم الله سبحانه وقدره فقد يفرح الإنسان لأمر ويكون شرّاً له،
وقد يحزن على أمر ويكون مآله خيراً له، فهذا نبي الله يعقوب عليه السلام حزن
لفقدان ابنه يوسف عليه السلام وكان مآل هذا الفقدان خيراً ليوسف وجميع بني
يعقوب، وهذه أم موسى عليه السلام حزنت لذهاب ولدها لولا أن ربط الله على
قلبها، وكان مآل ذلك خير موسى عليه السلام ورفعته، وإنقاذ بني إسرائيل من
فرعون وبطشه.
وهذا قارون فرح بما آتاه الله من مال وكنوز فكان مآله عندما طغى وتكبر أن
خسف الله به وبداره الأرض.
ولكن القاعدة أن المسلم متى استقام على أمر الله سبحانه فإن أمره كله يكون
خيرًا، وهذا ما نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث
الصحيح: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛
إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» ،
ولكن (ليس ذاك لأحد إلا للمؤمن) .
وثالثها: أن كل ذلك مرتبط بحقيقة العبودية لله عز وجل وبحكمة الابتلاء؛
فالمسلم مستسلم لأمر الله الشرعي راضٍ بأمره القدري، مؤمن بأنه لا يكون أمر في
الكون إلا بعلم الله وقدره، وأن هذا الكون وما يجري فيه لم يخلق عبثًا، بل لحكمة
عَلِمَها من عَلِمَها وجَهِلَها من جَهِلَها.
وقد تحدث بعض العلماء عن بعض الأسرار والحكم التي وراء الابتلاءات،
وأَصَّلوا لذلك أصولاً، فكان مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله عن بعض حِكَم
ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم وكسره لهم أحيانًا:
* استخراج عبودية المؤمنين وذلهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤاله
نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا،
ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصورًا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة.
* أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي
حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم؛ فلله سبحانه على العباد في
كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها ولا يستقيم القلب بدونها،
فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه
ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
* أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم كما قال تعالى
في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد: [إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ
قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] (آل عمران: 140) ، فابتلاء المؤمن كالدواء له
يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه لأهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته،
فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة؛
ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه.
* أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم
الرضا فمعولهم على الصبر وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته؛
فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء، والكفار لا رضا
عندهم ولا احتساب وإن صبروا فكصبر البهائم.
* أن المؤمنين لو كانوا دائماً منصورين غالبين قاهرين لدخل معهم من ليس
قصده الدين ومتابعة الرسول؛ فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا
مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم
الدولة تارة وعليهم تارة؛ فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد
إلا الدنيا والجاه.
* أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما
يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان وإن كان في الظاهر
بخلافه؛ فقد أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
ورابعها: في ضوء ما سبق يمكن النظر إلى الأحداث القريبة الماضية
والجارية بمنظور مختلف، فنجد أن هذه الأحداث:
* أفاقت كثيرًا من المسلمين وردتهم إلى ربهم بعد طول غفلة.
* بعثت في الأمة من جديد روحًا كانت قد خبت أو كادت منذ زمن، روح
العزة والكرامة والتحدي رغم الصعاب والاستضعاف، كما استخرجت منها بعض
طاقاتها وإمكاناتها المعطلة.
* استحثت في الأمة تيقظها واستفزت انتباهها إلى الإحساس بخطورة
مخططات الأعداء في مجالات لم تعطها حقها من الاهتمام رغم أهميتها ورغم
استهداف الأعداء لها كمناهج التعليم والمرأة والأسرة ...
* أظهرت أن بإمكان المستضعفين في أي مكان مواجهة قوى التجبر والطغيان
متى كانوا صادقين في إيمانهم بقضيتهم مستعدين للبذل والتضحية من أجلها، مما
كشف دعاوى المنهزمين والمخذلين.
* نزعت عن الأعداء وجه الزيف الذي كانوا يتقنعون به، وكشفت وجههم
الحقيقي: وجه عداء سافر، واستهداف لرموز الدين ومشخصاته ولقيم الأمة
وخصائصها، ورغبة عارمة في نهب ثرواتها ومحاصرتها واحتلالها بشتى الأشكال،
كما بينت حقيقة القيم التي كانوا يتشدقون بها، فظهر جليًا أنها قيم انتقائية ودعائية
وزائفة لا تصمد أمام التحديات والمحكَّات الحقيقية.
* وهذا ما جعل كثيرًا من مخدوعي بني جلدتنا بالغرب وحضارته يراجعون
أنفسهم، ويتحول إعجابهم بالغرب وحضارته إلى صدمة وفجيعة.
* أظهرت هذه الأحداث خبايا المنافقين وما كانوا يضمرونه للأمة ودينها،
وكشفتهم على حقيقتهم، وأبانت عمالتهم وخيانتهم لكل ذي بصيرة.
وخامس هذه الحقائق: أن من هدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
الاستبشار بالجديد القادم والاحتفاء به والدعاء ببركته: ففي دعاء رؤية هلال الشهر
الجديد: «هلال خير ورشد» ، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال:
«أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لِمَ صنعت
هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه تعالى» ، وعن أبي هريرة قال: «كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالباكورة بأول الثمرة قال: اللهم بارك لنا في
مدينتنا وفي ثمرتنا وفي مُدِّنا وفي صاعنا، بركة مع بركة، ثم يعطيه أصغر من
يحضره من الولدان» .
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أيضًا أنه إذا أقدم على مجهول زمان أو مكان
سأل الله عز وجل خيره واستعاذ به من شره: ففي دعاء رؤية هلال الشهر أيضًا:
«اللهم إني أسألك من خير هذا ثلاثاً اللهم إني أسألك من خير هذا الشهر وخير
القدر وأعوذ بك من شره - ثلاث مرات -» . وفي أذكار اليوم والليلة: «اللهم
إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها
اللهم» ، ولم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرية يريد دخولها إلا قال حين
يراها: «اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن،
ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية
وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها» .. وفي أذكار دخول
السوق ونزول المسافر والمرتحل وادياً أو منزلاً، وهبوب الريح والاقتران بالزوجة
الجديدة والدابة الجديدة.. ما يفيد المعنى المقصود نفسه.
فارتباط المسلم بربه، ويقينه بأن كل قادم مجهول لا يخرج عن قدرته سبحانه
وقدره، وأنه لا بد له عز وجل فيه حكمة بالغة، وثقة المسلم بوعد الله تعالى لعباده
المؤمنين: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]
(غافر: 51) ، [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] (الروم: 47) ، [فَاصْبِرْ إِنَّ
العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ] (هود: 49) ، [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا
قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ]
(الرعد: 31) ، [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] (النور: 55) ... كل ذلك
يجعل المؤمن مستبشرًا بعامه الجديد مطمئنًا إلى مستقبله، متوكلاً على ربه، راضيًا
بقدره، شاحذًا همته، مستبعدًا شبح اليأس والتثبيط، [إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ
إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف: 87) .
سادسًا: أن كل ما سبق لا يعني عدم الاستعداد وبذل الجهد والأخذ بالأسباب
ودفع كيد الأعداء ومواجهتهم؛ فالتوكل على الله عبودية القلب، والأخذ بالأسباب
عبودية الجوارح، ومن أخل بأحدهما فقد قصر في مأمور به، بل إن استقامة
المسلم على أمر ربه تلزمه أن يجتهد ويبذل ما في استطاعته لإقامة دين الله ورفعته
ودفع فساد المفسدين في الأرض أيًّا كانوا وأينما كانوا.. إبراءً لذمته وإعذارًا إلى
ربه: [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا
مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (الأعراف: 164) ، [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
كما أن ذلك يدعونا إلى تحقيق أهلية العمل لنصر الله، وتحصيل شروط
التمكين، والصبر على تكاليف أداء رسالة الحق والاستقامة عليه ...
جعلنا الله وإياكم من خاصته المخلصين المستقيمين على أمره الذابِّين عن
دينه ...(185/4)
دراسات في الشريعة
تأثير إلغاء سعر الفائدة في المجتمع
(1 ـ 2)
عدنان بن جمعان الزهراني
adnanzhrani@hotmail.com
* تمهيد:
لقد شهد الفقه الإسلامي شيئاً من التراجع، ليس لعدم مقدرة أصوله على تنزيل
الحكم الشرعي على الواقع، وكذلك ليس لقلة عدد المنتسبين إلى الفقه على نقص
المحققين فيهم، بل لقلة إدراك كثير من فقهائنا للّغة التي يحسن بهم إتباعها في
توجيه أمتهم؛ لأن الفقه ليس مجرد أحكام تلقى هكذا دون نظر إلى تأثر الناس بها،
وتلقيهم لها بالقبول، وهو أمر وإن كنا في غنى عنه في مرحلة سابقة؛ فإنه اليوم
في غاية الأهمية، وليس ذلك لأن الناس لم يكونوا بحاجة إلى تلقي الأحكام بالقبول
لتطبيقها في حياتهم في تلك المراحل السابقة، بل لأنهم كانوا أقل عرضة للموانع.
أما نحن اليوم فأمامنا موانع كثيرة، وشواغل أكثر، فغدا التشويق لازماً للغة
الفقه اليوم [1] ، مع السهولة التي يظهرها المثال الواقعي؛ مما يمسه الناس في
معاشهم، دون الاكتفاء بالعرض مع المثال الذي إنما خوطب به المرء قبل سنين
عديدة، وهذا ما وجدت كثيراً من الفقهاء في عزوف عن إدراكه، فضلاً عن
التعاطي الكَيِّس معه.
انظر إلى قضية الحجاب في كتابات المنفلوطي، بل وغيرها، ومثله الرافعي،
وغيرهم رغم قلتهم بل ندرتهم، وانظر إلى عمق تأثُّر الناس بها، وهم ليسوا في
عرضهم لتلك القضايا سوى أدباء متأثرين بالفقهاء، وقد صاغوا الفقه في قالب من
الأدب؛ يجعل الممتثل للشرع الحنيف فارساً ركب الجادة كي يصل إلى مراقي
الفلاح، وهم جعلوا المُعرض كحمار يحمل أسفاراً، ضمن سياق تصويري بديع،
وأقول جازماً لقد فعلوا بصنيعهم فوق ما صنعته الفتاوى على كثرتها هذا ما أحسبه،
ولهذا لاح لي أن أعرض شيئاً من قضايانا والتي جدَّ الحديث عنها وهو خَلِقٌ في
ثوب جديد، قال الرافعي في وحي القلم: «ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى -
كالإيمان، الجمال، والحب، والخير، والحق - ستبقى محتاجةً في كل عصر إلى
كتابة جديدة من أذهان جديدة» [2] .
وحديثنا هنا عن أمر قد تكلموا عنه عبر فضائيات قد كنا قبلها في غنى عن
التنزل في الحوار، وفي غنى عن كثير من القول المستند إلى دليل العقل الذي يجد
مصداقيته من المعادلة الرياضية؛ ليزداد الذين آمنوا إيماناً، وتذهب الريبة عن
غيرهم، فصرنا في حاجة لنعرض بعض فقهنا من خلال قصة، غير مقصرين في
كل ما يتطلبه قرع الحجة بأختها، مع الإعراض عن كل ما لا حاجة إليه؛ ليدرك
الناس سر الشريعة [3] ، ضمن سياقها الذي وردت خلاله، لا باعتبار الحكم جزءاً
لا صلة له بالكل، حيث يظن الرائي أنه أمام يد فُصلت عن جسد، أو أمام رقعة
قُطعت من ثوب.
لأننا عندما نتحدث عن حكم شرعي لا نملك أن نفهمه على نحو صائب إلا
عندما ننظر إلى المنظومة الإسلامية في شمول وتكامل، فليس تحريم الربا في
معزل عن حكمته علته، ولا ما هو مؤد إلى ما من أجله حرم الله تعالى الربا خارجاً
عن حكمه، وإلا فالشريعة ليست من عند الله تعالى، أو الحكم المظنون ليس هو
الشرع الحنيف، ولا شيء سوى هذين الاحتمالين، ولا يملك مؤمن سوى القول بأن
ما حسبناه من الشرع ليس منه؛ لأن الله تعالى لا يشك به عاقل، سبحانه.
والآن أعرض لذكر وقائع جلسة من مجالس الشورى التي تصورها الكاتب في
ذهنه، وهي جلسة عقدت لاتخاذ قرار بشأن ما يسمى بسعر الفائدة، وهي طريقة
لعلها جديدة في رد فتوى مجمع البحوث المصري، والتي تتعلق بالاستثمار لدى
البنوك مع ضمان نسبة من الربح، وهو ما سيجده القارئ بإذنه تعالى، والآن إلى
ذكر تلك الوقائع من محاضر ذلك المجلس.
- محضر الجلسة الخاصة بمناقشة مشروع إلغاء سعر الفائدة:
لقد انعقد مجلس الشورى في جلسة طارئة بتاريخ 14/10/1423هـ،
الموافق 18/12/2002م، وذلك لمناقشة المشروع المقدم من قبل اللجنة العليا
لدراسة أفضل السبل لرفع الفقر، وتحقيق رفاهية المواطن، وإقرارها.
عنوان المشروع: إلغاء سعر الفائدة.
أثره: رفع الفقر، وتحقيق رفاهية المواطن [4] .
مقدم المشروع: عدنان بن جمعان الزهراني.
أولاً: مسوّغات تقديم المشروع.
- محاولة جادة لتوفير فرص عمل جديدة لأبناء المجتمع؛ بمعنى الحد من؛
بل مجابهة البطالة.
- تشجيع الاستثمار على اختلاف مجالاته.
- الحد من الغلاء المستمر المعبر عنه بـ (التضخم الحاد) .
- ومن ثم المحافظة على القوة الشرائية للعملة، وتحقيق الاستقرار في
الأسواق.
وقبل كل ذلك رفع المقت الإلهي؛ من خلال إغلاق باب كبير من أبواب
الحرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يوضح من خلال النظر
الاقتصادي المجرد مدى ما للشرع الإلهي من إعجاز يزيد من إيمان المؤمنين،
ويزيل الريبة عند غيرهم؛ ليعلم الجميع أن التشريع الإسلامي لا يمكن أن يكون قد
جاء من قِبَل البشر، وذلك من خلال ما سنرى في هذا المشروع.
ثانياً: عرض المشروع.
أصحاب المعالي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليس خافياً عليكم ما نتحمل من مسؤولية تجاه أبناء شعبنا؛ لأننا سنُسأل يوم لا
ينفع مال ولا بنون عن كل قول قلناه، وعن كل فعل فعلناه تحت مظلة هذا المجلس.
نحن لا نجتمع هنا لمناسبة خاصة، أو لمجرد أداء عمل تقليدي، إننا نخط
بأيدينا مستقبل أبنائنا، وما سنقوله ونقرره يدخل إلى كل بيت، ويتأثر به كل
شخص، فالله الله! في كل من ولانا الله أمرهم، فليس من جائع إلا وسنُسأل عنه:
لِم لَم نطعمه؟ ولا من عارٍ إلا وسنُسأل عنه: لِم لَم نكسه؟
لسنا نُسأل عمن أكل، ومن لبس، فضلاً عمن نقص ربحه، كسؤالنا عن
محتاج لِمَ احتاج ونحن نملك أن نرفع حاجته؟ أصحاب المعالي: ليس من غايات
اقتصادنا الإسلامي الحد من ثروة الأغنياء، ولكنه يجعل المال الذي بأيديهم دائراً؛
لينتفع منه جميع الناس على اختلاف طبقاتهم، وهو يحارب الثراء الذي يكون على
حساب الفقراء ونحوهم من أبناء المجتمع، واقتصادنا لا يقبل أن يفقد المال مسوّغ
وجوده؛ لأنه ليس غاية في نفسه، بل هو وسيلة لتمضي حياة المرء في يسر
وسهولة، وليكون ذلك المال عوناً على طاعة الله تعالى.
أصحاب المعالي:
النقود في اقتصادنا واسطة قد رضي بها الجميع لتبادل المنافع، ولا يقبل ديننا
أن يكون النقد (المعين) واسطة للنقد (نفسه) مع وجود فرق [5] ؛ سواء كانت
المبادلة حالّة [6] ، أو مؤجلة [7] ؛ لأنه عندها يفقد صفة الوسيط الأمين المعبر عن
صحة العملية التبادلية وسلامتها؛ لأنه ليس من المعقول ولا من المصدق حتى لو
تقبلته عقول بعض الناس؛ أن يكون النقد وسيطاً أميناً حالتئذ، بل لقد صار غاية
في نفسه؛ مما أفقده شيئاً من قيمته، وبالتالي فَقَد الإنسان شيئاً من قيمة عمله وجهده؛
مما يوغر صدره، ويهدر كرامته؛ لأن النقد أهم ما يعبر عن جهد الإنسان في
باب المعاملات (وهو الوسيط بين جهد الإنسان وباقي المنافع) ، فحين يتم
التغاضي عن شيء منه في عملية تبادلية (أي قبول مبدأ النقص أو الزيادة في أحد
العوضين حين يكونان من العملة نفسها، أو حتى عندما يكونان من عملة أخرى
شرط وجود الأجل) ؛ فإننا نتغاضى عن شيء من جهد الإنسان نفسه، وهو ما
يعني عدم الاكتراث للإنسان، وجعل النقد فوقه، وسيتحول الإنسان بعد ذلك من
الإنسانية إلى اعتبار الإنسان شيئاً من المادة نفسها، والتي لا روح لها بل ولا عقل.
أصحاب المعالي:
هناك فئة ترغب في زيادة النقود بيدها دون منفعة حقيقية يستفيدها المجتمع
من ذلك النقد؛ يعني زيادة دون عمل، نعم! هم تلك الفئة التي تدفع النقد ليكون هو
بنفسه سبباً لزيادته؛ بحيث لا يكون واسطة للتبادل، بل حتى حين يعلمون بوجود
تبادل وذلك لدى دخولهم فيما يسمونه استثماراً لا يبالون بنقص غيرهم ما داموا هم
في زيادة، ويضمن الآخرون لهم ولا شأن لهم بالمجتمع، ويغنمون حتى حين يغرم
الآخرون، فلا تبادل على وجه الحقيقة مع وجود زيادة ترجع إليهم.
يا لها من خدعة سنرى أثرها على المجتمع فيما بعد!
أصحاب المعالي:
هنا سؤالان أنتظر إجابتهما منكم، وهي التي ستكون مفيدة لنتحدث بوضوح
أكثر عن مشروعنا بشيء من التفصيل. وهما:
- هل سيكون من الأفضل عند صاحب رأس المال وليكن 000,000,100
ريال وضع ماله لدى بنك مقابل نسبة محددة مسبقاً، ولتكن 5% ربحاً سنوياً، أو
استثمار ما لديه من مال في مشروع قد يحقق ربحاً يصل إلى 10%، أو أكثر
سنوياً، مع احتمال خسارة قد تصل إلى النسبة نفسها للربح المتوقع، أو أكثر، أو
قد تجتاح المال كله؟
- البنك حين يستلم ذلك المبلغ؛ كيف سيستغله كي يضمن تسديده لتلك النسبة؛
لأنه قد ضمنها لذلك المودع أو المقرض، أو المستثمر! من قبل؟
أصحاب المعالي:
أريد جواباً يتفق مع رغبة غالبية أصحاب رأس المال، والذين وصفهم كبار
الاقتصاديين بعبارتهم المشهورة (رأس المال جبان) ، كما أرغب في جواب لا
يأخذ الاعتبارات الشرعية بالحسبان على أهميتها، بل لا أهمية لغيرها، إلا أنني
أريد ما نستطيع به مجادلة أصحاب الرأي الآخر بأسلوب لعله يكون أجدى نعم
سيكون الاختيار الأنسب هو الحصول على الربح المضمون ولو قلّ؛ لأنهم
سيجدون أنفسهم أكثر اطمئناناً.
وبعد ذلك سيقوم البنك بالأمر نفسه، وسيلجأ إلى وضع المبلغ لدى جهة أخرى
بنك، وهو المفضل هنا، أو غيره تقوم بدفع نسبة أعلى؛ ليصبح الفرق ربحاً
لصالح البنك الأول، وهكذا.
ولا بد تقودنا هذه السلسلة في النهاية إلى مستثمر يقبل تحمل عبء مغامرة
يدخلها مع احتمال الخسارة والربح، غير أنه مدين لتلك الجهة المقرضة بمبلغ تزيد
نسبته حسب حظه، ومدى طول السلسلة التي وصلت بالمبلغ إليه.
مع العلم بأن تلك الجهة المقرضة مضطرة للتساهل مع ذلك المستثمر من حيث
الضمانات، نظراً لرغبتها الشديدة في تحويل العبء عنها، خصوصاً حين لا تجد
من الجهات الاقتصادية البنوك من يعطيها هامشاً مناسباً للربح، فيكون ذلك
المستثمر وبشروط سهلة هو ملاذها، وهو من سيقبل دفع تلك النسبة بهامش مفيد،
ولنقُل بلغ ما سيدفعه المستثمر 9% سنوياً [8] .
أصحاب المعالي:
رجل يملك 100.000.000 ريال، سيضمن 5% ربحاً سنوياً من ذلك البنك،
والبنك سيعطيها بنكاً آخر بنسة 7% سنوياً، وهذا سيعطيها مستثمراً بنسبة 9%
سنوياً، والمستثمر في أحسن الأحوال [9] سيقوم بتأسيس صناعة في مجال من
المجالات، ولنفترض هنا أنه قام بعمل مصنع متكامل للسجاد نسأل الله تعالى له
التوفيق.
والسؤال الآن: كيف سيكون سعر تلك السلع التي يقوم المستثمر ببيعها؟
للإجابة نفرض أن تكلفة التصنيع تبلغ 10 ريالات للمتر، ونجعل 35%
مصاريف عمومية وإدارية، حين يقر مجلس الإدارة تلك النسبة؛ أي ستصبح تكلفة
المتر 13.5 ريالاً، وهامش الربح الذي قرره مجلس الإدارة 50% من سعر التكلفة؛
أي سيكون البيع بـ 6.75 + 13.5 = 20.25 ريالاً، هذا هو المقرر، ولكن
المستثمر تواجهه مشكلة خدمات الدين، وهي ما نسبته 9%، ولهذا سيتم وضعها
ضمن هامش الربح أو ضمن تكلفة المتر النهائية، وهو ما سيكون 1.2 ريال تقريباً
قبل وضع هامش الربح؛ ولذا سيزيد سعر المتر بالمقدار نفسه ليصبح 21.5 ريالاً
تقريباً.
هذا سعر البيع المناسب للمستثمر؛ فهل هو السعر الذي سينزل إلى السوق؟
الجواب: لا؛ لأن المستشار الاقتصادي للشركة قد أخذ بمبدأ الاحتياط من
وجود كساد ونحوه من الطوارئ، وهو ما جعل سعر المتر 60 ريالاً.
لماذا؟
لأنه سيكون مضطراً لتحميل كل متر سيتأخر بيعه عن عام ما نسبته 9%
على الأقل، وهي خدمات ذلك الدين، وعند وجود تأخير في بيع شيء من بضاعته
لن يتقبلها السوق إلا بعد وضع تخفيض (خصم) جيد عليها باعتبارها بضاعة
قديمة، وهكذا في كل متر يتأخر بيعه، بينما سعر تكلفته يزيد على الأقل 9%؛
فكيف سيكون التخفيض (الخصم) على شيء ستزيد كلفته مع الأيام، فكان
المخرج هو جعل سعر البيع للمتر الجديد 60 ريالاً؛ ليصبح التخفيض (الخصم)
على البضاعة القديمة لعامٍ 50%؛ أي 30 ريالاً، ولعامين 60% مثلاً؛ أي 24
ريالاً للمتر، وهكذا تقل آثار تراكم خدمات الدين [10] .
والملاحظ هنا أن المتضرر من الغلاء الشديد هو المستهلك.
كما لا بد من ملاحظة أن بعض المستثمرين سيلجأ إلى أمر آخر، وذلك عندما
لا يحبذون النزول إلى السوق بسعر عال منذ البداية، ذلك عندما توجد منافسة في
المجال نفسه، فعندها سيكون سعر البيع مماثلاً لما ينبغي أن يكون عليه الأمر،
وهو في مثالنا 21.5 ريالاً، ولكنه سيضطر إلى رفع مستمر للسعر آخذاً بالحسبان
خدمات الدين للبضاعة التي لم يتم بيعها [11] ؛ ليصير عبئاً تتحمله البضاعة الجديدة،
وهو ما نراه في معظم الحالات اليوم، وهو ما يعد شيئاً يسيراً ولكنه لا يلبث أن
يتفاقم ويضر بالمجتمع، وهو ما يعني وجود تضخم مستمر [12] قد لا تظهر آثاره
قريباً، ولكن عند وجود أقل طارئ يجد الناس أنفسهم أمام أموال عظيمة مهدرة
[13] ؛ لأنه بحَسْب المستثمرين سداد خدمات ديونهم، أما الديون نفسها فهم لا
يقدرون على سدادها في غالب الحالات.
ولو أرادوا فلن يكون إلا على حساب إغلاق أبواب كثير من الشركات، ولهذا
وقعت النمور الآسيوية في شر عظيم، عندما طلب بعض المقرضين [14] الحصول
على أموالهم، وإلا فهم سيعلنون أن الاقتصاد هناك لا يوثق به [15] ، فقامت البنوك
بطلب سداد الديون من المستثمرين، وهو ما لم يحدث، فرفعت قضايا حقوقية
قضائية في هذا الخصوص، وتم بيع شركات كبيرة بأبخس الأثمان [16] ، بعد
إعلان إفلاس كثير منها، وتم تسريح ألوف من الناس من أعمالهم؛ لأن الآلية التي
تعمل بها تلك الشركات لم تكن لتستطيع المنافسة لو وضعت في خطتها سداد الدين،
فلم يكن عند معظمها سوى آلية لسداد خدمات الدين، فعندما اضطرت البنوك لسداد
مبالغ كبيرة لبعض المستثمرين أغلقت أبوابها، وسرحت موظفيها، ومثلها كثير من
الشركات، لتظهر بسبب ذلك مأساة البطالة مع ما تجلبه من ويلات وفساد، فكم من
إنسان خسر عمله بسبب ما يسمى بسعر الفائدة؟! فهو كما ظهرت مسؤوليته عن
التضخم وهو ليس ينفي وجود عوامل أخرى إلا أنني أجادل في جعل هذا من أهم
عوامل التضخم - تظهر الآن مسؤوليته عن خسارة كثيرين لأعمالهم، بل عدم
وجود أعمال أصلاً - وكذلك هنا أقول: ليس هذا ينفي وجود عوامل أخرى، إلا
أنني أجادل في جعل هذا من أهم عوامل البطالة -، وهو ما يعني مزيداً من الفقر
والجوع، ومن ثم الجريمة والفساد [17] .
أصحاب المعالي:
كيف ستُعالج مأساة البطالة؟
هناك جواب على طرف لسان كل اقتصادي يحدده قولهم: (على الدولة
خفض سعر الفائدة) ، حتى لقد لجأ البنك المركزي الأمريكي إلى جعلها 25,1%
فقط [18] ، في أوائل شهر نوفمبر عام 2002م؛ لمواجهة البطالة التي ارتفعت
نسبتها كثيراً لديهم [19] ، وبعض الدول جعلتها أقل من ذلك، والسؤال هو: لماذا لا
يتم إلغاؤها ما دام وجودها يسبب البطالة، وعلاج البطالة في تخفيضها؟
هناك أجوبة للاقتصاديين لست بصدد تفنيدها [20] ، غير أنه من المناسب فهم
العلاقة بين سعر الفائدة والبطالة، فهو أمر يوضح عاملاً من أهم العوامل المسؤولة
عن وجود تلك الظاهرة.
أصحاب المعالي:
تصوروا أنه قد تم إلغاء سعر الفائدة تماماً.
ما الذي سيفعله أصحاب رؤوس الأموال، وفي مثالنا صاحب 100.000.000
ريال؟
سيقول بعضهم: لن يستثمر، بل سيفضل الاحتفاظ بالمال لديه.
أقول له: لا بأس؛ لكن عليه دفع 2.5% سنوياً للزكاة، يعني 25% خلال
10 سنوات.
وهذا لن نجد من يقبل به مهما قلنا عن جبن رأس المال.
ولذلك سنجده صاحب ذلك المصنع للسجاد، وسيكفيه البيع بـ 21.5 ريالاً
للمتر، والبضاعة التي تتأخر لن يتحمل بسببها عبئاً جديداً سوى التخزين، وهو
أمر يكاد ألا يذكر في مثل هذه الحالة، وسيكون ممكناً له أن ينافس في كلا الحالتين،
في الوقت الذي نجد العامل أكثر أماناً بسبب استقرار الوضع المالي لصاحب
الشركة، ومن ثم سيكون المجتمع أكثر استقراراً، ولن يكون ارتفاع الأسعار أمراً
لا مفر منه، وسنجد الاستثمار في كل زاوية، وسيبدع أصحاب رؤوس الأموال في
ابتكار أساليب لتثمير أموالهم [21] ، وسيكونون دائماً في حاجة ليد عاملة، وهو ما
يقضي على البطالة أو يحد منها على الأقل، وسيكون المجتمع في نمو مستمر
واستقرار.
أصحاب المعالي:
أهم ما يقوله بعض الاقتصاديين: إن نقص سعر الفائدة فضلاً عن إلغائه يؤدي
إلى النقص في سعر العملة؛ مما سيؤدي إلى التضخم (غلاء السلع) ، وذلك بسبب
كثرة المعروض من النقد [22] .
ولا نجادل أن ذلك سيؤدي إلى تنشيط الاستثمار، ويسهم في تقليل نسب
البطالة، إلا أنه يزيد في رغبة السوق في رفع الأسعار.
وأقول: لا بأس؛ لأن الغلاء حين يكون معقولاً يكون أقل سوءاً من البطالة،
لكن الحديث عن هذا الأمر كما لو كان مسلّماً به غير صحيح؛ لأننا نستطيع
مواجهة الغلاء من خلال الجهات التي تحمي المستهلك، وتعمل على استقرار
الأسواق [23] ، والسلاح الأهم هو توعية الناس وتوجيههم للنفقة في أوجه البر، لا
المبالغة في الرفاهية، والأخذ بالكماليات، وعلينا أن ندرك بأن حماية أمتنا في
اقتصادها ليس يكمن في إلغاء سعر الفائدة فقط على أهميته، بل من خلال فهم شامل
للإسلام ونظرته إلى الحياة، ونحو ذلك مما سبقت الإشارة إليه.
أصحاب المعالي:
إننا نستطيع أن ندير 1000.000.000 ريال (مليار) من خلال 10
أشخاص فقط، ليحركوها كيف شاؤوا، ولكن لو أراد صاحبه النزول إلى السوق
مباشرة والاستثمار فيه، فهو يحتاج لتشغيله إلى ما لا يقل عن 1000 رجل،
يزيدون أو ينقصون، وهم إلى الزيادة أقرب؛ لأننا في الحالة الأولى يمكن جعلها
في ديون أخرى أو نحو ذلك، مع وجود عبء على المبلغ [24] ، لكن عند النزول
المباشر سيتركز النشاط ضمن حدود ما يرغب المستثمر بذاته، مع عدم وجود
عبء سوى ما لا بد منه ليتحرك المال في تلك العملية الاستثمارية.
أصحاب المعالي:
الذي ذكرته من قبل لم أتعرض فيه إلى الجانب النفسي الذي يعكسه سعر
الفائدة، ويطبع به كثيرين من أبناء مجتمعنا، نعم! ودون مزيد من الشرح؛ إنه
يوجد تلك الشخصية التي تنعدم لديها روح المغامرة الشرعية، وهو الأمر الذي
تبعث عليه الزكاة؛ لأن رأس المال سيقرر الدخول في مغامرة شرعية (استثمار) ؛
لأنه إذا لم يفعل سيدفع 5,2% سنوياً لصالح الفقراء، وسيجد نفسه أمام طريقين؛
إما الاستثمار مع ما فيه من مخاطرة شرعية أو تقبل نقص 5,2%، وهي نسبة
الزكاة.
وكثيرون سيقررون الدخول في الطريق الأول؛ لأن الإنسان يحب الزيادة
بطبعه.
الغريب هنا أننا سنرى صاحب المال في الطريق الأول (الاستثمار) يفيد
المجتمع فوق تلك الفائدة التي تجلبها الزكاة حين يقرر سلوك الطريق الثاني، وهذا
سر بديع للتشريع الإلهي؛ فطبيعة حب الزيادة (وسمها لو شئت طمعاً) ، وهي في
نفسها سوء ومقت، هي التي حملت المرء على طريق يظنه يحقق ما تمليه عليه
تلك الطبيعة، إلا أنه سار عكسها تماماً وهو لا يشعر، فأخذ منه المجتمع أكثر
بكثير مما تأخذه الصدقة، لقد أخذت تلك الطبيعة 100% من رأس المال ليصبح
كله في يد المجتمع، من خلال ذلك الاستثمار، فاتضح بذلك سر بديع للتشريع
الإلهي، إنها طبيعة سيئة حركها الشرع ليرى الناس منها خيراً كثيراً من حيث لا
تشعر.
أصحاب المعالي:
أرجئ الحديث عن أمور أخرى لعلها لا تتصل بما نحن بصدده اتصالاً وثيقاً،
ولها عود بإذنه تعالى، والآن أتقدم بالشكر الجزيل لكم على حسن استماعكم، تاركاً
لكم حرية اتخاذ القرار بهذا الشأن، وفّق الله الجميع إلى كل خير.
__________
(1) لست أريد بذلك تتبع أبواب الفقه كلها، بل غاية ما أنشده أن نجد بعض المسائل ذات الصلة بواقع الناس معروضة بتلك الطريقة؛ بحيث تكتسب مزيداً من القوة لتبلغ مزيداً من الأثر، والله تعالى ولي التوفيق.
(2) وحي القلم (1/ 16) ، وكمثال على ما قلته انظر: وحي القلم (3 / 148) ، حيث ذكر المنفلوطي قصة قصيرة بعنوان (القلب المسكين) تتمة، قال على لسان محامية تدفع عن راقصة جرمها: «المحامية: آه،،، دائماً الراقصة، من هي هذه المسكينة الأسيرة في أيدي الجوع، والحاجة، والاضطرار؟ أليست مجموعة فضائل مقهورة؟ أليست هي الجائعة التي لا تجد من الفاجرين إلا لحم الميتة؟ نعم إنها زلّت، إنها سقطت، ولكن بماذا؟ بالفقر لا غير، فقر الضمير والذمة في رجل فاسد خدعها وتركها، وفقر العدل والرحمة في مجتمع فاسد خذلها وأهملها،،،، تقولون: يجب، ولا يجب، ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شاءت؛ فتجعل ما لا ينبغي هو الذي ينبغي،،،، فإذا ضاع من يَضِيع في هذا الاختلاط قلتم له: شأنُك بنفسك، ونفضتم أيديَكم منه فأضعتموه مرة أخرى،،، وَيْحَكُم يا قوم! غيِّروا اتجاه الأسباب في هذا الاجتماع الفاسد لتخرج لكم مسببات أخرى غير فاسدة،،،» أهـ، والرافعي هنا يقرر أهمية قاعدة سد الذرائع وعلاقتها بالعدالة الاجتماعية، وعلى هذا المنوال يسير، في روائع لا تكاد تجد من يحسن مثلها من كتابنا، غير أنه لا بد من محاولة لعلها تبلغ شيئاً مما بلغه في موضوع كموضوعنا هنا (الربا) ، لمناسبة لا تخفى، وهي تجدد الحديث على نطاق واسع عن الاستثمار لدى البنوك الربوية، خلال مجموعة من الفضائيات.
(3) وعلى كل ليس البحث العلمي بمعناه الدقيق من غرضي هنا؛ لأن له قوالبه التي لا بد أن يراعيها الباحث لدى الكتابة؛ بيد أن غايتي الآن أن يصل المرء بعد قراءته لهذه الدراسة إلى التيقن بأن ما أقرره هو مما على المسلم امتثاله والأخذ به، بل والحذر والتحذير، ليس غير.
(4) خلفية عن المجلس لا بد منها:
أولاً: هو مجلس تم تأسيسه من قِبَل سكان مدينة تصورها الكاتب في خياله وسمّاها: (ندى) ، واقترح أن يكون عدد سكانها: (313000) نسمة،
ثانياً: عدد الأعضاء: 313 عضواً، منهم 63 امرأة؛ أي أن مستشاراً واحداً يمثل (10000) شخص،
ثالثاً: مؤهلاتهم:
- الاستقامة؛ بحيث لا يوجد غبار يكتنف سيرة أي شخص منهم، ولم تلوث يده بأخذ شيء لا يحل له، ومن المشهود لهم بالانضباط الإداري، ومحاربته لجميع ألوان الفساد والبيروقراطية،،
- ومشهود لكثير منهم بطول النفس والمثابرة في البحث والدراسة، كل في تخصصه،،
- أكثرهم أصحاب تخصصات شتى، وبأعلى الدرجات العلمية، مع إلمام مناسب بباقي الجوانب المفيدة لرجل في مثل ذلك الموقع،،
- بعضهم ليس متخصصاً في أي من العلوم لكنه ذو كفاءة عالية؛ من حيث الفهم، وحسن التقدير، ومقدرة فائقة في التعامل مع الجمهور، وصاحب غيرة على مصالح العامة،،
رابعاً: تكوين المجلس:
تم تكوينه من مجموعة اختارها الناس بالانتخاب المباشر، بعد تجاوز العضو لشروط الترشيح،،
خامساً: من حق كل عضو تقديم أي مشروع لدراسته، واتخاذ القرار المناسب بشأنه، باعتبار كل رجل منهم مؤهلاً للحديث عن مصالح وطنه.
(5) إلا عندما يكون الفرق قد جاء لا من قبيل الحتم والإلزام أي غير مشروط، فعندها يقبله الشرع ويقره، ويعده من مكارم الأخلاق.
(6) إلا عندما يكون من جنسين مختلفين، لاختلاف أثر كل منهما، فيصير ما يُطلب من مميزات في العِوضين لدى المتقابضين مسوِّغاً لوجود ذلك الفرق، وهو معقول لظهوره.
(7) وهنا عدم الجواز حتى عندما يكون النقد من جنسين مختلفين؛ لأنه ليس من المؤكد حصول تلك المميزات في العِوضين؛ لأنها قد تختلف مع مرور الزمن، ولو يسيراً، وهذا لم يكن مفهوماً على نحو دقيق من قبل؛ لوجود قدر من الثبات في النقود القديمة، ولكنه ظهر جلياً اليوم، فلقد رأينا أن اختلاف سعر العملة الورقية خلال دقائق، بل ثوان حاصل، كما هو واقع الأرجنتين بل وغيرها من الدول؛ حيث يدخل المرء إلى (السوبر ماركت) وهو يسأل عن ثمن السلعة، فيدور ليأخذ شيئاً آخر فلا يعود إلا وقد تغير ثمن السلعة الأولى، ففهمنا حكمة الشرع في قوله صلى الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ؛ مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (3 / 1211) .
(8) في كثير من الحالات نجد الدول في ذلك الموقع البائس، فمثلاً قبلت تركيا الاقتراض من البنوك المحلية لديها، بل والخارجية، بنسبة مضمونة قدرها 70%! ! ، والسؤال هنا: من سيتولى الدفع؟ ومن المستفيد من هذا الدين أصلاً؟ ثم لو لم تقدر الدولة على دفع خدمات الدين؛ فما مصير حقوق الدائن الأول، ومن سيعطيه حقه أي رأس المال ولو بدون تلك النسبة؟ وما أثر ذلك على رؤوس الأموال بصفة عامة؟ وما هي الضغوط التي ستمارس على الدولة كي تلتزم على الأقل بدفع خدمات الدين؟ ومن الذي سيدفع فاتورة تلك الضغوط؟ إن التبعة بكل ثقلها سيتحملها صغار أصحاب رأس المال، وسائر ذوي الدخول المحدودة، بل وذوي من لا دخل لهم أصلاً، على صورة ضرائب لا نهاية لها، وبصور شتى تكاد ألا تصدق؛ مما ينشر الرشوة للتهرب من الضرائب، ولإسقاط كل ما يمكن التحايل لإسقاطه من تلك الإتاوات، وسيزداد الفقير فقراً، وسيعم البلاء، ويقع الناس في يأس شديد، وستضعف العملة وتقل قوتها الشرائية، وستزداد الأثمان زيادة لا يتحملها الناس، والنتيجة ثورة على كل شيء، وهنا تتدخل الدول الكبرى والبنك الدولي للمزيد من القروض، وللمزيد من البلاء، وهو حل ليس أكثر من مسكِّن، ولا صلة له بعلاج الداء، لا يلبث الألم بعد قليل أن يعود، وستتدخل تلك الجهات، ليس لأنهم يقدرون الموقف ويرحمون الفقراء، لا هذا ليس مهماً، بل تدخلهم من أجل عدم انهيار النظام؛ كي يستمر التدفق للسداد ولو بأقل مما كان متوقعاً؛ لأن الاستمرار خير من الانقطاع، وسيعمدون إلى حيلة أخرى يسمونها (إعادة جدولة الديون) ، وهذا ما يفسر تدخل البنك الدولي قبل انهيار كثير من النظم، إلا عندما يضمن قيام نظم أخرى أكثر تقبلاً لشروط البنك الدولي، ولسنا بعيدين عن أزمة الحكومة الإندونيسية التي أطاحت بسوهارتو، ثم جاءت بحكومة تقبلت وصفة البنك الدولي؛ مما لم يجعل الأمور تقل سوءاً بل تزداد، ولسنا نبعد عن الأزمة التي وقعت فيها الحكومة الأرجنتينية سوى أقل من شهرين لهذا العام 2002م، ولقد رفض البنك الدولي تقديم القروض؛ لأن الحكومة قررت عدم الاستمرار في دفع خدمات الدين وهو قرار صائب 100% وفضلت الحكومة الاحتفاظ بما لديها من عملة قوية لضمان حد أدنى من الكرامة للمجتمع؛ لأن كثيرين قد فهموا ما يرمي إليه ذلك البنك، بل وغيره من الجهات المقرضة، قال «مهاتير محمد» في كتابه (خطة جديدة لآسيا) ص 40: «لم يعد سراً اليوم إذا عرفنا أن صافي الأموال التي تتدفق من الدول المانحة إلى الدول النامية هي في المحصلة النهائية لا شيء،،، لأن الثروة التي تخرج من الدول النامية أكثر بكثير من تلك التي تدخل إليها، وأكثر من ذلك؛ فإن الدول المانحة تتوقع من الدول المستفيدة أن تدين لها بالولاء والطاعة؛ إذ إن المستفيد من الدعم غير مسموح له بالكلام، أو توجيه النقد،،، ومع كثرة القروض التي حصلت عليها (الدول في إفريقيا) من الغرب؛ فإن الفوائد على هذه القروض تأخذ الجزء الأكبر من ميزانيات تلك الدول، ورغم أن الهدف المعلن هو جعل هذه الدول تنعم بالثراء؛ فإن غالبيتها أصبحت أكثر فقراً» أهـ، وأقول هنا: لتطمئن الدول المدينة؛ لأنها مهما بلغت من الفساد، ومن الفوضى؛ لن يتمكن المجتمع من تغييرها بالقوة؛ لأن رأس المال وراء استمرارهم في الحكم كي يستمر التدفق في السداد باعتبار الدول أفضل مستدين؛ لأن الفاتورة تسجل على الجميع، وليس الجميع مسؤولاً عن توقيعها، إن المسؤول عن توقيعها هم أولئك القلة التي تعبث بالوطن وأهله، وفي النهاية ليسوا من سيدفع، حتى إن تم تغييرهم بطرق ثورية، أو حتى ديمقراطية!! .
(9) هذا أضربه مثالاً، وإلا فأغلب المستثمرين يلجؤون إلى تجارة العملة، قال «مهاتير محمد» في كتابه الرائع (خطة جديدة لآسيا) ص183: «فتجارة العملة كما يقال: هي أكبر عشرين مرة من ناحية النقود من تجارة السلع، والخدمات، ولكن ما هي المزايا والفوائد التي نحصل عليها منها؟ بخلاف عدد قليل من الأشخاص الذين يكسبون مبالغ مالية ضخمة؛ فإنها لم تحدث أية زيادة في معدلات التوظيف، أو نمو في النشاط التجاري، أو في ثروات الأمم والشعوب» أهـ.
(10) وفي الواقع ليس الأمر على هذا النحو تماماً إلا أنه تقريب لا بأس به، يسهل فهم تلك التعاملات.
(11) تجدر الإشارة هنا إلى أن الشركات تقوم بعمل حساباتها لتسديد خدمات الدين فقط، وليس من برنامجها سداده قط هذا غالباً، ولذلك عندما توجد أزمات يحتاج فيها الناس لاسترداد نقودهم فهم لن يجدوها.
(12) انظر بحثاً قيماً لهذه المسألة في رسالة الدكتوراه المقدمة من الدكتور «أحمد حوَّا» بعنوان:
(صور التحايل على الربا، وحكمها في الشريعة الإسلامية) ، قال ص 57: «إن الفائدة سبب رئيس في ارتفاع الأسعار؛ حيث تدخل في عمق كل شيء يشترى، وذلك أن هذه الفائدة كلما ارتفعت أدى ذلك إلى زيادة تكلفة الاقتراض، وبالتالي تكلفة الإنتاج،،، يقول العبَّار: من أهم عيوب النظام النقدي المعاصر في الاقتصاديات الربوية،،، وجود خلل بين كمية النقود وكمية السلع والخدمات، وهذا يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، والذي يقود إلى ارتفاع سعر الفائدة، كمحاولة من الحكومة لامتصاص النقود من السوق، ولكن ارتفاع سعر الفائدة يؤدي بدوره إلى ارتفاع تكاليف السلع والخدمات؛ مما يؤدي إلى ارتفاع آخر في الأسعار، وهكذا تدور الدورة وتسبب مضاعفاتها» أهـ.
(13) قال الدكتور «محسن س خان» في بحث رائع نشر في مجلة الاقتصاد الإسلامي، المجلد التاسع، وعنوانه: (النظام المصرفي الإسلامي الخالي من الفائدة: تحليل نظري) : «ويبين البحث أن النظام المصرفي الإسلامي قد يكون أكثر ملاءمة من حيث قدرته على التكيف مع الصدمات التي تنجم عن الأزمات المصرفية، واختلال عمل جهاز المدفوعات بالدولة، ويرجع السبب في ذلك إلى أن النظام الذي يقوم على الاشتراك في الملكية، والذي يستبعد أسعار الفائدة المحددة مسبقاً، ولا يضمن القيمة الاسمية للودائع، هذا النظام حين يواجه ظاهرة حدوث صدمات لأوضاع الأصول؛ يسمح بامتصاص هذه الصدمات فوراً عن طريق التغيرات في قيم الأسهم (الودائع) في حوزة الجمهور لدى البنك، ولهذا فإن القيم الحقيقية لأصول وخصوم البنوك في مثل هذا النظام ستكون متساوية عند كل النقاط الزمنية، أما في النظام المصرفي الأقرب إلى الطابع التقليدي؛ فإننا نجد أن القيمة الاسمية للودائع ثابتة؛ لذا فإن مثل هذه الصدمات يمكن أن تؤدي إلى تباعد بين الأصول الحقيقية من جهة والخصوم الحقيقية من الجهة الأخرى، وليس من الواضح، مسبقاً، كيف سيجري تصحيح مثل هذا الاختلال؟ وكم من الوقت ستستغرقه عملية التصحيح؟ وبعبارة أخرى؛ فإن هناك جموداً في النظام المصرفي التقليدي يمنع التكيف الفوري، وهذا الجمود يمكن أن يؤدي إلى احتمالات عدم الاستقرار» أهـ، ولقد بين خلال تلك الدراسة التي نشرها تفسيراً كافياً لكلامه الذي نقلته هنا، إلا أنني أوضحه بأسلوب آخر من خلال المثال الآتي: قام رجل بوضع مبلغ وصلت قيمته الاسمية إلى 100.000 ريال، ونسبة الفائدة عليه 5%، ثم مرت الدولة أو البنك بأزمة لطارئ من الطوارئ حرب، أو أعاصير، أو نحو ذلك مما سبب الانهيار لكثير من المصانع المنتجة، وغيرها؛ مما أدى إلى عدم قدرة المستثمرين على الوفاء لتلك البنوك بسداد خدمات الدين فضلاً عن الدين نفسه، السؤال هنا: كم سيكون نصيب ذلك الرجل لدى ذلك البنك بعد مرور عام؟ سيكون 105000 ريال، هذا حسب النظام التقليدي الربوي، في حين خسر البنك شيئاً كثيراً من أصوله، وسيكون مطالباً بسداد تلك المبالغ لمن وضعوا أموالهم لديه، وهو لا يستطيع ذلك؛ مما يؤدي إلى تدخل الدولة باعتبارها الضامن لتلك البنوك، أو تتدخل شركات التأمين المتخصصة في تأمين القروض البنكية، ولكن نظراً لكبر الأزمة وشدتها، عجزت الدولة عن الوفاء بتلك الأموال، وهو ما واجه شركات التأمين أيضاً، في حين بقيت القيمة الاسمية للدين 105000 ريال، وهو مبلغ يطالب به ذلك الرجل تحسباً للظروف، وهو عازم على استرجاعه من البنك، ولكن البنك لا يستطيع؛ لأنه كما هو الواقع يوجد ألوف من المودعين ينتظرون استرجاع أموالهم، لوجود موجة من الهلع، وإقبال على سحب الأموال من البنوك، والبنوك لا تفعل شيئاً حيال ذلك، وهناك مودعون كبار من بنوك أجنبية، ورجال أعمال فوق العادة يطالبون بحقوقهم، والبنوك مكانك راوح، وما الحل عندها؟! قد يلجأ المسؤولون إلى تخفيض قيمة العملة إن لم يكن انهيارها هناك فلسفة ليس هذا محل شرحها تبين سبب اللجوء إلى تخفيض قيمة العملة في هذه الحالة، والمفيد هنا أنه حل تتحايل من خلاله الجهات المسؤولة عن الاقتصاد في البلد لتقليل القيمة الاسمية للمبالغ المطلوبة مقابل الاحتياطي من العملة الأجنبية وقد يلجأ المسؤولون إلى فرض الضرائب الباهظة، ويقللون النفقات والمعونات، وهو ما يؤدي إلى غلاء شديد؛ مما يزيد الأمر سوءاً، وهذا كله سنكون في غنى عنه في ظل الاقتصاد الإسلامي، كيف؟ لقد كتب الدكتور
«محسن خان» بحثه السابق ليثبت ذلك بطريقة رياضية؛ مستخدماً في ذلك الطريقة الحديثة، وهو متخصص في هذا الشأن، ويعمل مستشاراً في قسم البحوث لدى صندوق النقد الدولي، وملخص قوله: إنه في الاقتصاد الإسلامي لا يسمح بما يسمى سعر الفائدة؛ ولذا سيكون مَنْ وضع ماله لدى البنك أحد رجلين؛ إما شريك في البنك، شأنه شأن باقي المساهمين في البنك، وبالتالي له ربح حين يحقق البنك ربحاً، وبالتالي لديه مبالغ تعادل قيمتها الاسمية الأصول لدى البنك، وينقص نصيبه في تلك القيمة الاسمية على قدر النقص الذي عرض للبنك جراء تلك الطوارئ؛ لأنه شريك في الربح والخسارة، وعندها لن يطالب البنك بشيء يفوق ما يملكه البنك من أصول؛ لأن الأصول والخصوم هنا تقفان عند نقطة التعادل، وهي حين يكون الفرق بينهما (صفراً) ، والرجل الآخر هو رجل لا يريد الدخول كشريك مع البنك، ولكنه يريد أن يعمل البنك كأمين يحفظ أمواله، وعندها يحق للبنك أخذ نسبة كأجرة حفظ، وهو ما يتفق مع مبادئ الاقتصاد الإسلامي؛ شرط أن تبقى نسبة الاحتياطي النقدي في هذه المعاملة وقد سماها د «محسن» في بحثه نافذة بنسبة 100%، وهو أمر قد أخذ به وأقره بعض كبار الاقتصاديين النقديين في أمريكا مثل: فيشر (Fisher-1945) ، وسايمونز (Simons-1948) ، وفريدمان (Friedman-1969) ، وقريباً منهم كندلبرجر (Kindleberger-1985) ، وكاريكن (Kareken-1985) ، وجولمبي ومنجو (Golembe & Mingo (1985)) ، على تفاوت بينهم في تفسيرهم لتلك المقترحات، إلا أنهم يضعونها، وهي تكاد تتفق مع نظرة الاقتصاد الإسلامي في هذا الصدد، ويحدوهم الأمل أن تحقق تلك المقترحات فرصة حقيقية لمواجهة أزمات اقتصادية عصفت بأواسط القرن الماضي وأواخره، حيث وجدوا في إلغاء سعر الفائدة، وفتح نافذتين للودائع البنكية؛ إحداهما للحفظ يكون الاحتياطي فيها بنسبة 100% مقابل أجرة حفظ، والأخرى مساهمة مع البنك بنظام المشاركة في حصص الملكية، الملاذ المناسب لمواجهة تلك الأزمات، قال الدكتور «محسن» في صدد هذه الجزئية نقلاً عن بعض من سبقت الإشارة إليهم، قال: «أثارت الأبحاث التي قدمها كندلبرجر Kindleberger - 1985، وكاريكن Kareken - 1985، وجولمبي ومنجو Golembe & Mingo - 1985 في مؤتمر نظمه بنك الاحتياطي الفيدرالي لسان فرانسيسكو، مرة أخرى، قضية احتمالات عدم الاستقرار في النظام المالي نتيجة لوجود جهاز مصرفي يعتمد على احتياطي جزئي، مع وجود تأمين رسمي على الودائع، وأشار كاريكن (1985م) وجولمبي ومنجو (1985م) إلى أن السبب وراء إسباغ أهمية خاصة على ظاهرة إخفاق البنوك (إذ تختلف عموماً عن حالة إفلاس شركة من الشركات) هو أثر ذلك على جهاز المدفوعات في الاقتصاد ككل، وبالتالي فإن ما ينبغي حمايته هو كفاءة عمل جهاز المدفوعات، ولا يشمل ذلك بالضرورة جميع عمليات الإقراض والاقتراض التي تقوم بها البنوك، ولذا يرى هؤلاء الكتَّاب أن تقوم الحكومة بفصل عملية تقديم خدمات المدفوعات عن خدمات الإقراض، وهو ما يعني في جوهره إنشاء النمطين المستقلين من البنوك اللذين تحدث عنهما سايمونز (1948م) ، وسيكون جانب المدفوعات لدى البنوك أي أرصدة المعاملات مدعوماً بنسبة 100% بواسطة نوع ما من الأوراق المالية المأمونة؛ مثل أذونات الخزانة الأمريكية، بينما تترك الأنشطة الخاصة بالمحفظة الاستثمارية للبنك دون قيود، ولا تختلف أي من هذه المقترحات، كما لا يختلف ما اقترحه سايمونز، بشكل جوهري عن الأنظمة الإسلامية التي تُنفَّذ الآن في عدد من البلدان، على الأقل في جانب الإيداع، غير أنه ينبغي التأكيد في الوقت نفسه على أن الجهاز المصرفي الإسلامي يتطلب أكثر من ذلك، فهو يشترط أن تكون القروض والسُّلَف التي تقدمها البنوك أيضاً على أساس المشاركة في حصص الملكية» أهـ.
(14) ليست المعاملة هنا قرضاً على الرغم من أن أغلب من يتحدث عنها يعدها كذلك، غير أني أصنف المعاملة على نحو مختلف سيطلع عليه القارئ بعد قليل، وهنا إنما استخدم ذلك التعبير من قبيل المجاراة حتى يأتي التحقيق في هذا لاحقاً.
(15) قال «مهاتير محمد» في كتابه (خطة جديدة لآسيا) ص 87: «لقد وجهت انتقادات للمليونير والمستثمر الأمريكي» جورج سورس «في مناسبات عديدة؛ لدوره في انخفاض قيمة العملات الآسيوية، ولم يكن ذلك يقصد به قط الهجوم على» سورس «كشخص، ولكن» سورس «كان واحداً من تجار العملة المعروفين بالصراحة، وربما أكثرهم نفوذاً على نطاق العالم، والتجار مثله لديهم مسؤولية عظيمة؛ حيث إن الكلمة تخرج منهم يمكن أن يطال أثرها ملايين الناس، وللأسف؛ فإن هذه المسؤولية لم يتم الاعتراف بها فحسب، بل إن الأشخاص الذين يتجرؤون على الكلام ويتساءلون عن نفوذ تجار العملة يُدمغون بالهرطقة والخروج عن المسار المألوف» أهـ.
(16) وهو ما صرح به «مهاتير محمد» في الكتاب آنف الذكر، قال ص 89: «ومع استمرار الانهيار في أسعار البورصة، والعملات؛ فإن المستثمرين الأجانب أخذوا يتحركون ويدخلون المنطقة لجني الأرباح، ويجري شراء الشركات التي هي في حاجة ماسة إلى السيولة في كوريا الجنوبية، وإندونيسيا، والعديد من دول شرق آسيا؛ بأبخس الأسعار» أهـ.
(17) المزيد من الطلاق؛ لأن الحالة الاجتماعية تتأثر بالحالة الاقتصادية، فكم من بيت انهار بسبب عدم وجود عمل لمعيله، وكم من فتاة زلت لعدم وجود عمل؟ وكم من شاب واقع الزنا لأنه لا يجد عملاً، أو يجد ما لا يمكنه من فتح بيت، فتصير الفاحشة ملاذاً له؟ وكم،،، وكم،،،؟ ومن هنا نجد معنى آخر للحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده (5/225) من رواية عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلاَئِكَةِ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «دِرْهَمُ رِباً يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً» ، وهو حديث قابل للتحسين.
(18) وهو أقل ما تم تسجيله منذ 41 عاماً، انظر:
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/business/newsid_2414000/2414007.stm
(19) حيث وصلت إلى 7,5، وهي مرشحة لتصل إلى 4,6، انظر: موقع جريدة الوطن:
http://www.alwatan.com/graphics/2002/10oct/18.10/heads/et6.htm
لمقال كتبه «جاي هانكوك» ، كاتب عمود في الشؤون المالية في صحيفة الصن خدمة (لوس أنجلوس تايمز - واشنطن بوست) ، لكنني لست متأكداً من صحة هذا التقدير الذي قدمه الكاتب، كما أنه أقر بوجود خلل في الإحصاءات المعلنة من قبل الحكومة الأمريكية، ويزداد الشك لدى قراءة تقرير عن عدد من يعيشون تحد خط الفقر في أمريكا؛ حيث قدر بـ 33 مليون شخص، انظر:
http://arabic.peopledaily.com.cn/200209/26/ara20020926_57887.html
وهو يعادل 13% من عدد السكان، فهل يصح تصور أن 7,5% هي النسبة الفعلية للبطالة مع وجود هذه النسبة العالية من الفقر؟! .
(20) يقولون: إن وجود سعر الفائدة يساعد على وجود آلية تتحكم في التضخم، وآلية يستفاد منها في تنشيط الاستثمار أو الحد منه؛ من خلال تحديد مستوى قوة العملة، كما يساعد على وجود معدلات مناسبة من البطالة لمواجهة الإضرابات العمالية، كما له فوائد أخرى، إلا أننا في الواقع نجادل في صحة كل ما يقال عن فوائد وجود سعر الفائدة، ونجزم بوجود آليات أخرى أكثر ملاءمة تحقق الانضباط المطلوب في جميع تلك الحالات، خصوصاً مع ما شهده مفهوم الدولة من تبدل؛ حيث صارت الدولة يعبر عنها بـ (دولة الرعاية) ، وليس مجرد (دولة الحماية) كما كان وضعها من قبل، ولذلك ليس كافياً الحديث عن إلغاء سعر الفائدة دون الاهتمام البالغ بمفهوم شامل لتصور الشرع الحنيف للاقتصاد الإسلامي، فهو منظومة متكاملة من خلالها يتحقق الإصلاح الاقتصادي، قال «محسن خان» في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه: «وبشكل عام؛ فإن اصطلاح (الاقتصاد الإسلامي) يعني نظاماً كاملاً يحدد أنماطاً محددة من السلوك الاجتماعي والاقتصادي لكل الأفراد، فهو يتناول مجموعة واسعة النطاق من القضايا، مثل: حقوق الملكية، ونظام الحوافز، وتخصيص الموارد، وأنماط الحرية الاقتصادية، ونظام اتخاذ القرار الاقتصادي، والدور الملائم للحكومة، والهدف الأعلى للنظام هو العدالة الاجتماعية، وتحقيق أنماط محددة لتوزيع الدخل والثروة، وبالتالي فإن السياسات الاقتصادية ينبغي أن توضع لتحقيق هذه الغايات، وبالإضافة إلى قضية سعر الفائدة؛ فإن الاقتصاد الإسلامي يوفر أيضاً مبادئ توجيهية دقيقة حول بعض القضايا الأخرى، مثل: السياسة الضريبية، وتوجه النفقات الحكومية، ويتوقع من المصارف الإسلامية أن تشارك بشكل إيجابي في تحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي، وبالتالي ينبغي أن يكون عمل البنوك الإسلامية متسقاً مع المعتقدات والقيم الإسلامية» أهـ.
(21) وهو ما ستفعله البنوك حالتئذ، وهو ما يشير إليه الدكتور «محسن خان» في دراسته التي سبقت الإشارة إليها، ستصبح البنوك شريكاً مضارباً له حق الإشراف المباشر على مشاريع المستثمرين، وستقوم بدورها الكبير في تشجيع الاستثمار؛ لأنها كما أريد لها أن تكون مستودع الثروة، بل سوف تمارس الاستثمار بنفسها، وستجتهد في توسيع دائرة الاستثمار قدر طاقتها.
(22) لأنك عندما لا تستفيد منه لدى بقائه في البنك فستنزل به إلى السوق؛ مما يوفر النقد بأيدي الناس، والعرض إذا لم يقابله طلب مناسب أنقص من قيمة المعروض.
(23) والخدعة التي يسمونها باقتصاد السوق؛ ليست سوى بضاعة نفقت عندنا، وهم يواجهون غلواءها بكل حيلة يستطيعونها، فانظر إلى أحزاب اليسار ويسار الوسط عندهم وهي تلك الأحزاب التي تقف في مواجهة رأس المال، وتبحث عن أفضل السبل لحماية الطبقات العمالية ونحوها نعم، ترى تلك الأحزاب تؤثر في قرارات الحكومات المحافظة وهي في الغالب يمينية رأسمالية؛ مما يعني حماية المستهلك، وسائر الطبقات في المجتمع، بل نجد تلك الأحزاب اليسارية تسيطر على دفة الحكم في كثير من تلك البلاد، حتى صارت أحزاب اليمين تنزع إلى اليسار، والعكس في أحزاب اليسار حيث صارت تنزع إلى اليمين، وهي محاولات منهم لاستقطاب الأصوات لصالحهم؛ حتى لقد يصح تصنيف بعض أحزاب اليسار من يمين الوسط، وكذلك بعض أحزاب اليمين من يسار الوسط، ضمن سياق أسميه الأحزاب الاشتراسمالية، مثل حزب العمال البريطاني، فهو حزب يساري تخلى عن كثير من يساريته لصالح رأس المال، ولكن ليس في غياب لحقوق الطبقات الأخرى، قال د / «منير الحمش» في قراءة مميزة (للجوانب الاجتماعية للإصلاح الاقتصادي) ، وهي محاضرة ألقاها ضمن فعاليات جمعية العلوم الاقتصادية السورية، قال: «وربما يكون من المفيد أن نمر على عجل، بمنطلقات ما دُعي» الطريق الثالث «الذي وصفه» توني بلير « (رئيس الوزراء البريطاني) بأنه» ديمقراطية اجتماعية حديثة «؛ مشيراً إلى أنه ليس حلاً وسطاً بين اليسار واليمين، فهو يسعى إلى تبني» قيم أساسية للوسط، والوسط اليساري «، ويعتقد» أنطوني جيدنز «، وهو المنظر البريطاني للطريق الثالث، ويعتبر بمثابة المرشد الروحي لـ» توني بلير «أن» الديمقراطية الاجتماعية تستطيع، ليس فقط أن تعيش، ولكن أيضاً أن تزدهر على المستوى الإيديولوجي، وكذلك على المستوى العملي «، وهو إذ يرى» موت الاشتراكية «، وبأنه لم يعد هناك بدائل للرأسمالية؛ فإنه يرى بأن» ينبغي أن نسيطر على الرأسمالية وننظمها «، ويرى هنا أنه يقع على عاتق الديمقراطيين الاجتماعيين اتخاذ رؤية جديدة في صلب المجال السياسي، ويدعو إلى أخذ فكرة» الوسط النشط «أو» الوسط التقدمي «على نحو جدي، وتجديد الديمقراطية الاجتماعية، والتي تظل العدالة الاجتماعية وسياسة الانعتاق في صلبها؛ لذا فهو يركز على المشاركة في الجماعة الاجتماعية الأوسع» أهـ.
(24) وهذا صحيح؛ لأنهم سيأخذون المبلغ على أساس سعر للفائدة متفق عليه، وسيجمد الاحتياطي النظامي للمبلغ، وهو على الأقل ما يعادل 20% من المبلغ، وسيقومون بدفع المتبقي كقرض لطرف ثالث يعطيهم هامش ربح مناسب كما سبقت الإشارة، ولكنه سيحتفظ بمبلغ 20% كاحتياط، وهو ما يعني 38% تقريباً من أصل المبلغ، وهو ما كان مدخراً كاحتياطي نظامي للمعاملتين، وتصور لو ذهب إلى طرف رابع، فهذا يعني مزيداً من الاحتياط، فلعلنا نصل في النهاية إلى مجرد 100.000.000 ريال مستثمرة فعلاً، ونراها قد نزلت إلى السوق، وهو ما يعبر عن 10% من أصل المبلغ (مليار) ؛ ما السبب؟ إنه سعر الفائدة، ورغبة كل مقترض أن يحصل على الفائدة بالقدر نفسه من الضمان، والله المستعان، لقد حرم الناس من المنافع الكثيرة التي كان من الممكن الحصول عليها من هذا المال بسبب سعر الفائدة،،
ملاحظة: إنما أردت هنا تحديد المبلغ الفعلي والسيولة الحقيقية التي يتسنى الانتفاع بها من النقد في السوق لدى وجود أي طارئ، وإلا فحين ننظر إلى ما يطلق عليه الاقتصاديون (الودائع المشتقة) فالأمر مختلف؛ إذ وجود 1000 ريال مثلاً يعني نزول 4161 ريالاً إلى السوق خلال ثماني عمليات من الإقراض، ولكنها ليست أكثر من قيود دفترية لا تصمد أمام مطالبة ذلك العدد من المقترضين؛ مما يسرع في سريان الانهيار للاقتصاد كله لأقل هزة؛ لأن الاحتياطي القانوني لن يتمكن من مواجهة هذا الطلب الوهمي؛ لأنه لن يحقق تغطية مناسبة لتشمل (الودائع المشتقة) ولو بضمان أعلى نسبة لعلها تصل إلى 20%، كما هو الافتراض هنا، والله المستعان، وحديثي كان منصباً على تحديد المبلغ الفعلي الذي سيتمكن الناس من تسييله ضمن السياق الذي سبق شرحه في عملية استثمارية حقيقية.(185/8)
دراسات في الشريعة
الفهم الجزئي للقواعد الشرعية
وأثره السلبي في إبطاء إقامة الحجة الرسالية
قاعدة الهجر أنموذجاً
د. جمال أحمد بادي [*]
jmbadi@hotmail.com
يهدف هذا المقال إلى بيان أن الفهم الجزئي لموضوع الهجر من قِبَل بعض
الدعاة باعتبار بعض النصوص الواردة فيه، وإهمال بعضها الآخر، مع إغفال
القواعد الشرعية التي أصَّلها العلماء من أئمة الهدى للتعامل مع المجتمعات عند غلبة
الشر أو اختلاطه بالخير للموازنة بين المصالح اجتلاباً وتكميلاً، والمفاسد درءاً
وتقليلاً، كان سبباً في إبطاء إقامة الحجة على المدعوين وإيصال رسالة الإسلام
إليهم بل استمرار كثير منهم في الإقامة على ما هم عليه من الخطأ بسبب آثار تلك
النظرة الجزئية.
كما يحاول المقال تلمس أسباب هذه الظاهرة، ثم يبين الأثر السلبي العملي
المترتب على إعمال تلك النظرة الجزئية الانتقائية على كلا الطرفين من الدعاة
والمدعوِّين.
* التعريف بالهجر وبيان ارتباطه بالمقاصد الشرعية:
يدخل الهجر تحت قاعدة (الولاء والبراء) ، ومفهوم هذه القاعدة الشريفة لدى
أهل السنة والجماعة هو: الحب في الله والبغض في الله؛ فهم يوالون أولياء
الرحمن، ويعادون أولياء الشيطان، وكل بحسب ما فيه من الخير والشر [1] .
وقد دل على هذه القاعدة قوله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] (الأنعام: 68) .
وقوله تعالى: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ
جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً] (النساء: 140) .
وقوله تعالى: [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ
اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ] (هود: 113) .
وقوله تعالى: [لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] (المجادلة:
22) .
ومن السنة النبوية المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:
«ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما
سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن
يقذف في النار» [2] .
ومنها حديث أبي أمامة: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله،
فقد استكمل الإيمان» رواه أبو داود.
ومن مفردات الهجر التي نص عليها العلماء: عدم مجالسة المهجور،
والابتعاد عن مجاورته، وترك توقيره، وترك مكالمته، وترك السلام عليه، وترك
التسمية له، وعدم بسط الوجه له مع عدم هجر السلام والكلام، وعدم سماع كلامه
وقراءته، وعدم مشاورته [3] .
وقد بين العلماء الأجلاء أن الهجر مرتبط بمقصد شرعي وهو رد المخطئ عن
خطئه عموماً سواء أكان الخطأ معصية أم بدعة أو غير ذلك من المخالفات الشرعية،
فإن لم يتحقق هذا المقصد أو ترتب على القيام بالهجر مفسدة راجحة وهو أمر
يحتاج إلى حسن تقدير المآلات قبل القيام بالفعل أصلاً أصبح الهجر في حكم الملغي
وتصبح المؤالفة هي الأصل.
وقد يكون الفعل الواقع من مستحق الهجر عملاً شركياً أو كفرياً في أزمنة
وأمكنة انتشار الجهل بالدين وقلة أو عدم وجود من يبصرهم أو يقيم الحجة عليهم لا
سيما مع وجود الشبهات والتأول فيصبر على صاحبه ويؤالف مع الحرص على
بيان الحق له وإقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة عنه.
والهجر بهذا الاعتبار يمكن النظر إليه على أنه وسيلة إصلاح وليس مجرد
عقوبة شرعية، وهو البعد الذي يرمي هذا المقال إلى توضيحه وبيانه.
والنظر إليه على أنه وسيلة إصلاح لا يلغي النظرة الأخرى على أنه عقوبة
شرعية، ولا يتعارض معها، ولكنه زاوية نظر أخرى صحيحة تفتح الباب نحو
آفاق دعوية آنية ومستقبلية أرحب في باب إقامة الحجة الرسالية وإبلاغ دين الله عز
وجل للخلق.
وهذه الزاوية من النظر مبنية على تأصيلات الإمام الشاطبي في الموضوع؛
حيث اعتبر أعلى وأول وأشد وأهم حد (أي عقوبة) للمبتدعة هو تعليمهم
وإرشادهم.
وقال قريباً من قوله هذا الإمام ابن تيمية في نهاية رسالته (الحموية) ما نصه:
(وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القدر، والحيرة مستولية عليهم، والشيطان
مستحوذ عليهم رحمتهم، وترفقت بهم) [4] .
لأجل ذلك كله اشترط العلماء ضوابط محددة لإعمال الهجر الشرعي منها [5] :
1 - مراعاة المقصود الشرعي للهجر.
2 - مراعاة شرطي قبول الأعمال وهما الإخلاص والمتابعة، والحذر من
متابعة هوى النفس.
3 - التأكد والتثبت، قبل الإقدام على الهجر من أن الأمر مما دلت النصوص
والقواعد الشرعية على أنه مخالفة، ثبوته عن الشخص وعدم أخذ الناس بالتخرص
والظن، خلو صاحبه من الموانع والأعذار كالجهل والتأول ونحوهما.
4 - مراعاة المصلحة والمفسدة المترتبة على الهجر، ومراعاة قواعد الترجيح
عند تعارض المصالح والمفاسد، بتحقيق أكمل المصلحتين، وتفويت أعظم
المفسدتين.
5 - مراعاة اختلاف مراتب المعاصي والبدع وسائر المخالفات.
6 - مراعاة اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها المخالفة، وحال أهلها من
حيث ما هو الأفضل في حقهم: الهجر أم المؤالفة؟ وحال الدعاة أنفسهم قوة وضعفاً
أو قلة وكثرة.
* أسباب ظاهرة الفهم الجزئي لموضوع الهجر:
لا شك أن هذه الظاهرة لم تأت من فراغ، ولم تكن آنية الوقوع، وإنما
حصلت لأسباب مختلفة فيما يلي بعضها:
1 - قراءة كتب العلماء السابقين التي ألفت في زمن أقيمت فيه الحجة،
وغلب عليه الخير والصلاح، وتمايز فيه الخير من الشر، ثم تطبيق تلك الأحكام
على الواقع المعاصر الذي اختلفت واختلطت فيه الأمور، واختلت الموازين،
وتلبس فيه الخير بالشر.
2 - قراءة كتب السلف عموماً دون الرجوع إلى آراء الجهابذة من العلماء
المعاصرين المشهود لهم بالعلم والتقى الذين نص بعضهم على اعتبار زماننا هذا في
الجملة ليس زمان هجر وإنما زمان مؤالفة وصبر [6] .
3 - البحث عن سبل نصرة (المواقف الدعوية الخاصة) المبنية على ردود
الفعل.
4 - الإخفاق في جمع كافة النصوص الواردة في الموضوع الناتج عن عدم
الدقة وقلة التحري، أو الخطأ في منهج النظر وتفسير النصوص أصلاً.
قد يتعمد صاحب النظر الجزئي إهمال بعض النصوص قصداً ودونما شعور
أحياناً بسبب اختلاف النظرة إلى الموقف لا سيما إذا كانت مخالفة للصورة الذهنية
المتشكلة بسبب خلفية الأحداث والمستجدات، أو تأويل تلك النصوص بما يتوافق
مع الصورة الذهنية المتشكلة تأويلاً لا تسوِّغه قواعد تفسير النصوص وفق منهج
أهل السنة والجماعة.
5 - وجود خلاف في مسائل علمية دقيقة وخفية من مسائل الاجتهاد قد لا
تتضح لكل أحد من الناس بسبب اختلاف قدرات الفهم والإدراك، وقد يكون فيها
أكثر من رأي للسلف مع تكافؤ الأدلة بين تلك الآراء بحيث لا يسهل ترجيح رأي
على آخر، وقد تكون مبنية على آثار مختلف في صحتها وثبوتها عن قائليها
فيعاملها الداعية معاملة المسائل الجلية والواضحة والمتفق عليها بين السلف.
6 - ارتباط إعمال قاعدة الهجر بالتحزب للشيخ أو الطائفة أو الجماعة أو
المذهب، وغالباً ما يقع هذا الأمر بسبب التأول؛ وذلك بتصور من يقع منهم الهجر
أنهم وشيخهم أو طائفتهم أو جماعتهم هي المتبعة للحق والسنة وما كان عليه
السابقون، وأن من أوقعوا عليهم الهجر من المخالفين لهم في مسألة ما أو مجموعة
مسائل وإن كان الحكم عليهم من باب الخطأ هم مبتدعة ضالون يجب هجرانهم.
ووقوع الفهم الجزئي في هذه الحال من حيث تنزيل القاعدة على الواقع.
وقد كان هذا السبب ولا يزال عاملاً مباشراً وراء تفرقة وتشتت الدعاة أفراداً
وجماعات في شتى بقاع العالم الإسلامي ويتجدد ضحاياه كلما تجددت مقتضياته.
وهو قد لا يخلو من حظ للنفس أحيانا كما أنه مبني في الغالب والأعم على الظن
والتوهم في الحكم على الآخرين وتصنيفهم.
ويا للعجب كيف تصبح هذه القاعدة - أي الهجر، والتي هي مقصودة لردع
وزجر العصاة ومحاولة لردهم لصف المجتمع المتماسك الذي نشزوا عنه بأفعالهم
ومخالفاتهم سبباً في تفريق كلمة المؤمنين وتصدع صفهم وتشتت كلمتهم في المجتمع
المسلم الواحد، وتعارض بذلك إعمال قاعدة أرسخ وآكد ألا وهي قاعدة التآلف
والاجتماع والوحدة التي هي الأساس والأصل والتي لا قيام لكيان الأمة إلا بها ولا
استقرار لمجتمع مسلم إلا على تشييد معالمها ورصف لبناتها.
وتصبح قاعدة الهجر هنا سلاحاً في يد مجموعة أو طائفة ما يشهر في وجه
كل مخالف خارج إطار تلك الطائفة.
وهو من آثار التربية الحزبية بأنواعها المتعددة المذكورة آنفاً. وهو مما يستدعي أن
يضعه المربون في حسبانهم لإيجاد المخرج العلمي والإيماني المناسب له حين يقع،
ووضع السبل الكفيلة بمنع وقوعه أصلاً؛ إذ لا ضرر ولا ضرار كما هو متقرر في
قواعد الشريعة الغراء.
وكم من محارب للحزبية وهو مغرق فيها ولا يدري ولا يشعر. وهذا الحال
يدخل فيه جانب نفسي مبني وقائم على جانب إدراكي حسي لا يمكن التخلص من
مؤثراته السلوكية السلبية إلا بالتخلص من أسر العوائق الحسية الإدراكية المسيطرة
وهو مما يؤدي بدوره إلى تقويم التصور والذي يقود إلى تقويم السلوك.
* أثر النظرة الجزئية على المدعوين والدعوة:
1 - سوء التعامل مع الأقارب بما فيهم الوالدان والأهل، مما ولد أحياناً عقوقاً
مسوَّغاً أو قطيعة رحم أو تسبب فيها. من ذلك سوء طريقة التعامل مع الوالد أو
الوالدة إذا كان أحدهما مقارفاً لمعصية مثلاً، وقلة احترامهما والتأدب معهما بحجة
مخالفتهما واستحقاقهما للهجر، وقد يترتب على ذلك طرد الوالدين لولدهما من البيت
إبعاداً وتخلصاً، وفي بعض الأحيان يختار الداعية ترك بيت والديه والابتعاد عنهما
تديناً وقربة في زعمه، والنتيجة حصول العقوق من طرف الابن والذي يعتبر
مفسدة أكبر وأعظم من المعصية أو المخالفة التي تسببت فيها، وبقاء الوالدين أو
أحدهما على المخالفة قد يمتد لزمن يطول أو يقصر. ولا يستدل هنا ببعض حالات
الأعيان التي أدى الهجر فيها إلى نتيجة إيجابية؛ فإن القواعد الشرعية لا تعارَض
بالوقائع وحالات الأعيان، وإنما بقاعدة شرعية أرجح.
2 - سوء التعامل مع الأصدقاء وعموم الناس والمجتمع باعتبارهم مخالفين
تجب عزلتهم وعدم مخالطتهم، وينشأ عن ذلك العبوس والتجهم في وجوههم وقابلية
الاستفزاز من أقل تصرف خاطئ يصدر منهم والإغلاظ عليهم في القول واختيار
العبارات الجارحة والقاسية في توجيههم والتي تولد لديهم مزيداً من العناد والتحدي
وقلة الاستجابة للموعظة والذكرى. ولاعجب أن يأمر القرآن المؤمنين باللين في
القول عند الأمر والنهي: [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] (طه: 44) ،
وقوله تعالى: [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً] (البقرة: 83) ، وقوله تعالى: [وَقُل
لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ] (الإسراء: 53) .
3 - الخطأ في الموقف قولاً أو فعلاً واتخاذ القرار غير المناسب الذي لا
يراعي مآلات الأفعال. فقصور التصور يؤدي إلى الخطأ في الحكم والذي يؤدي
بدوره إلى الخطأ في اتخاذ القرار. ومن ذلك الشدة مع الجاهل الذي لم يجد من
يعلمه، وحديث العهد بالإسلام الذي لم تتسنَ له فرصة دراسته والتمكن فيه،
وصاحب الشبهة الذي لم تقم عليه الحجة بعد.
4 - ويتبين مما ذكر آنفاً استمرار بقاء المنكر على حاله دون تغيير أو إزالة
وذلك في الغالب الأعم بل ازدياده في بعض الأحيان عما كان عليه من ذي قبل وهو
خلاف مقصد الشارع في الأمر والنهي، كما أنه خلاف مقصد الشارع فيما شرع
الهجر له.
* أثره السلبي على الدعاة أنفسهم وعلى أسلوبهم في الدعوة:
1 - التعصب والتحزب نتيجة التقوقع الناتج عن تكرار المواقف الخاطئة
والانعزال عن الناس والمجتمع ويترتب عليه انحسار مساحة تأثير الدعاة على كافة
الأصعدة وبين شتى أصناف الناس.
2 - حصر الدعاة أنفسهم في دائرة ضيقة للدعوة واطمئنانهم لذلك، وهو
مدخل للشيطان لصرف الداعية عن الخير والأمر به، واكتفائه بما قد قام به من
عمل ظاناً حصول الإعذار بذلك.
3 - قلة الصبر وسرعة نفاده، ودوره سلباً على أهم مقومات الدعوة وأركانها،
بل وفقدانه تماماً في بعض المواقف أحوج ما يكون الداعية إليه مخالفاً بذلك ما أمر
به وحث عليه.
يقول تعالى: [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل عمران:
186) ، ويقول عز وجل: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ]
(لقمان: 17) ، ويقول سبحانه: [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ
تَسْتَعْجِل لَّهُمْ] (الأحقاف: 35) ، ويقول عز من قائل: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (وَالعصر: 3) .
4 - ارتفاع حدة الخطاب ونبرته مع المخالف وسرعة التأثر والغضب مع
العصاة وعموم المخالفين.
يقول تعالى في هذا الشأن لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: [وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ
غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِك] (آل عمران: 159) ، ويقول النبي صلى الله
عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه» [7] .
5 - الغلو في «البغض» والمعاداة للمخالفين وإن صح سببه ومقتضاه، عن
الحد الشرعي القائم على الاعتدال والتوسط وقد جعل الله تعالى لكل شيء قدراً.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أحبب حبيبك هَوْناً
ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هَوْناً ما عسى أن يكون حبيبك
يوماً ما» [8] .
وجاء في نصيحة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد أبنائه: «لا
يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً» .
6 - التباس الأمور على صغار طلبة العلم والدعاة الذين هم في بداية الطريق،
ووقوعهم في الحيرة نتيجة المواقف والتطبيقات الخاطئة المبنية على الفهم الجزئي
لقاعدة الهجر، وقد يقع بعضهم في التقليد الأعمى لأصحاب تلك المواقف، ويتحمس
لها، بل وقد يبالغ بعض أولئك المبتدئين في الأمر أكثر من متبوعيهم في تطبيق
القاعدة وإعمالها، وعند زفِّه خبرَ ما قام به إلى من اقتدى به عاجله ذلك المتبوع
بالثناء والمديح والإطراء والدعاء له بالصبر على الطريق الذي قلَّ سالكوه وعز
طالبوه، فيزداد إصراراً على مواصلة المشوار الخاطئ وهو يعتقد سلامته وصحته.
وقد تؤدي تلك الحيرة ببعض أصحابها من صغار طلبة العلم والدعاة إلى كثرة
التنقل بين الآراء والتوجهات، كما قد تؤدي بالبعض الآخر إلى الفتور والزهد في
الدعوة والأمر بالمعروف والانعزال عن المجتمع والتاثير فيه.
7 - السعي في إيذاء المخالف باعتباره مخالفاً زعماً وتأولاً وإلحاق الضرر به
بأي صورة كانت من باب أنه مستحق للعقوبة، ومن ذلك الوشاية والسعي به عند
القاضي أو الحاكم أو غيرهم من أصحاب السلطة والقرار في المجتمع، ومنها
استعداء الناس عليه وإعطاء صورة غير مرضية عنه للآخرين والتي غالباً ما يكون
فيها حظ للنفس وانتصار لها على الغير وإن أدى ذلك إلى المبالغة وأنواع من
التأويل، ومنها السعي في حرمان المهجور من الخير وتولي الوظائف بحجة عدم
استحقاقه لذلك واتباعاً لسيرة السابقين الأولين مع مخالفيهم من أهل البدع والضلال.
ويبقى الحديث عن سبل علاج هذه الظاهرة السلبية ومحاولة التقليل منها في
صفوف الدعاة. ومن ذلك تقوى الله فيما يفعل الداعية أو يذر، ومحاسبة النفس
ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، والحرص على سلامة منهج الدعوة وتحري
التنزيل السليم للقواعد على الواقع، وطلب العلم النافع وفق منهج سديد، ولا سيما
قبل الإقدام على عمل الطاعات حتى تتحقق متابعة الشرع مع حسن النية والقصد،
وحسن التخلص من رغبات النفوس وحظوظها.
إن من أعظم الخطأ اعتبار الدعاة أنفسهم قد جاوزوا القنطرة وعدم اعتبار
أنفسهم أنهم في الوقت الذي يكونون فيه دعاة لا يمنع أن يكونوا مدعوين، فيحاور
بعضهم بعضاً، ويستمع بعضهم لنصح بعض؛ هدفهم تحقيق مقاصد الشريعة،
وغايتهم إرضاء الله رب العالمين.
__________
(*) دكتوراه في أصول الدين من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أستاذ مساعد في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.
(1) بكر بن عبد الله أبو زيد، هجر المبتدع، الطبعة الأولى، ص 18.
(2) البخاري، كتاب الإيمان، حديث 16.
(3) هجر المبتدع، ص 17.
(4) مجموع الفتاوى، 5/ 119.
(5) انظر: المراجع التالية حول هذا الموضوع: الاعتصام، للشاطبي، 1/ 167، 174، مجموع فتاوى ابن تيمية، الآداب الشرعية، لابن مفلح، 1/ 240، هجر المبتدع، للشيخ بكر أبو زيد، المجموع الثمين، للشيخ ابن عثيمين، 1/ 31، 32.
(6) ليس المقصود بالمؤالفة هنا مجرد المخالطة بل لا بد مع ذلك من بذل الجهد في النصح والدلالة على الخير والهدى.
(7) مسلم، كتاب البر والصلة والأداب، حديث 2594.
(8) سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، حديث 1997.(185/16)
دراسات تربوية
أخي.. احذر موارد الهلاك!
سليمان بن عبد الله الطريم
جعل الله سبحانه وتعالى بحكمته الدنيا الغرارة العاجلة، الدنية الفانية دار
ابتلاء وامتحان ليتميز بها من عباده الأحسن عملاً، والأكثر خيراً، والأرفع درجة
ومنزلاً، والأفضل طاعة ونسكاً.
قال تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ
وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ]
(فاطر: 32) . وقال تعالى: [الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً] (الملك: 2) .
قال ابن كثير رحمه الله: «ليبلوكم أي: يختبركم أيكم أحسن عملاً، ولم يقل
أكثر عملاً بل أحسن عملاً، ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله عز وجل
على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم» [1] .
وهي دار ابتلاء وفتنة بالمنحة والمحنة. قال تعالى: [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً] (الأنبياء: 35) .
وقال ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: «أي نختبركم بالمصائب تارة،
وبالنعم أخرى، فننظر: من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط؛ كما قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ونبلوكم أي نبتليكم: بالشر
والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام،
والطاعة والمعصية، والهدى والضلال» [2] .
ومن أسباب الفتنة عداوة الشيطان، ووسوسته للإنسان، وهي عداوة بينة
ظاهرة، قديمة مستمرة، حذر الله منها، وأمر بالتوقي من شرها، وأوجب معاداته
بصدق الإيمان، ومخالفته بطاعة الرحمن.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ
يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] (فاطر: 5-6) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أي لا يفتنكم الشيطان ويصرفنكم عن
اتباع رسل الله، وتصديق كلماته؛ فإنه غرارٌ كذاب أفاك» [3] .
قال مطرف بن عبد الله الشخير: «وجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين،
ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة» [4] .
وهذه العداوة الإبليسية أبدية حسدية خطيرة لا ينتهي عداؤها إلا بمضي
الأعمار، وقيام الأشهاد، أو بفساد الأعمال وموافقة الشيطان، وحسدية لا تنفك
عُقدها بمصانعة بمال يدفع، أو مصيبة ببدن تقع، أو بفترة عن الاجتهاد في العمل
الصالح تعرض، أو بمرحلة من العمر تمر وتنقضي بل وسوسة وحسد أبدي حتى
عند الموت وسكراته، وفي خلوات المرء وجلواته، وفي يقظته ونومه وغفلاته،
والله وحده هو المستعان عليه، وبالله تعالى وحده المعتصم، وإليه سبحانه الملجأ
والمستعاذ.
وهي عداوة - أعاذنا الله منها - خطيرة متنوعة السلاح، قوية الفتك، شديدة
الأثر، متعددة الأساليب، مختلفة الوسائل.
قال تعالى واصفاً حال عداوته: [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف: 16-17) .
وقال تعالى في التحذير من الشيطان بعد طرده ولعنه وأنه عدوٌ مضل مبين،
وأنه يورد موارد الردى ويضل عن طريق الهدى، وعن نور الحق إلى ظلام الكفر
والبدعة والمعصية بالأماني الغرورة، والوعود المكذوبة والأوامر المخالفة للفطر.
يقول سبحانه وتعالى: [إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً
مَّرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ
وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ
مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً]
(النساء: 117-120) .
وقد حذر الله عباده من عداوة الشيطان والركون إلى إغوائه وإضلاله، والبُعد
عن اتباع خُطواته؛ فإن عاقبتها الفاحشة والمنكر، ومآلها الخسران المبين.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ] (النور: 21) .
قال ابن كثير رحمه الله: «وهذا تنفير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها
وأوجزها وأحسنها، وخطوات الشيطان طرائقه ومسالكه، وقال ابن عباس رضي
الله عنهما: عمله، وقال عكرمة: نزغاته، وقال قتادة: كل معصية فهي من
خُطوات الشيطان» [5] .
وخُطوات الشيطان هي خطى متلاحقة، ودركات متتابعة، وصور متنوعة:
إفراطٌ وتفريط، وشهوات وشبهات، وسخرية واستهزاء، ومعصية لله ومعاداة
للرسول صلى الله عليه وسلم، ونبذٌ لكتاب الله، وتحكيم للهوى.
والشيطان يجمل الفعل القبيح، ويزين الأمر المشين، ويحسن عمل السوء،
ويغوي ويغري بالمال والمنصب والجاه ومتعة الحياة، ويجري من ابن آدم مجرى
الدم، ويفتح باب الأمل والتسويف، ويستدرج بالحيلة والكذب.
وقال تعالى: [وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 43) ،
وقال تعالى: [أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً] (فاطر: 8) ، وقال تعالى:
[وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ] (الزخرف: 37) .
فالشيطان وجنده وجميع حزبه لا يأمرون إلا بالشر ولا ينهون إلا عن الخير
يأمرون بالكفر لا بالإيمان وبالشرك لا بالتوحيد، وبالبدعة لا بالسنة، وبالمعصية لا
بالطاعة، وبالمنكر لا بالمعروف، وبالتفرق لا بالاجتماع، ويأمرون بتغيير خلق
الله لا باتباع شرائع الإسلام وسنن الفطرة.
قال ابن كثير رحمه الله في التحذير من عداوة الشيطان وكيده لبني آدم: «إن
الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل
إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل
مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم
من قبل» [6] .
ومن عداوة الشيطان الشديدة أنه قعد لابن آدم في كل طريق خير يخذِّل عنه،
وقعد له في كل طريق شر يدعو إليه ويحثه عليه.
وفي الحديث: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام
فقال: تُسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ ! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة،
فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل؟!
فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد؛ فهو جهد النفس والمال
فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال. فعصاه فجاهد. فمن فعل ذلك كان حقاً
على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق
كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقع من على دابته كان على الله أن يدخله
الجنة» [7] .
ولما كان هذا العدو بهذه القوة والشراسة فيحتاج العبد الضعيف إلى ركن شديد
وسلاح واق، وحماية صلبة، وقوة ضاربة؛ ترد العدو على عقبه خاسئاً حسيراً،
وتصده عن مقاصده مدحوراً، ولا أشد منعة، وأقوى حماية، وأعظم تحصيناً يجده
العبد من الإيمان بالله عز وجل، والاعتصام بكتابه، ومتابعة رسوله صلى الله عليه
وسلم، واتخاذ منهاج السلف الصالح منهاجاً، وطريق أهل السنة والجماعة طريقاً،
معرضاً عن مقالات أهل الأهواء والمبتدعين، وشبهات المضلين، وأقوال الجاهلين
من الذين يجادلون في آيات الله عز وجل بغير علم، ويخوضون في آيات الله بغير
حجة ولا برهان.
وهذا الإيمان والتوحيد بأصوله الاعتقادية والقولية والعملية هو النجاة يوم
القيامة، والفلاح في الدنيا والآخرة.
ويزكي المرء نفسه، ويزيد إيمانه، ويقوي يقينه، ويطرد شيطانه بكثرة
الإخبات والطاعة، والتزلف بالعبادة بأداء الواجبات، وترك المنهيات، والتقرب
إلى الله بالنوافل والمندوبات.
ومن حصون الإيمان الشامخة الراسخة حصن العلم النافع الذي يؤخذ من أهله،
ويتلقى من مظانه على المنهاج السديد، والدين القويم، والصراط المستقيم،
والعلم الشرعي مأرز [*] للمؤمن من شبهات الشيطان، ونور له في معرفة أحكام الله
وحكمه في الشريعة، وأسراره في الكون.
والعلماء ورثة الأنبياء في بيان الدين، وكشف الشبهات، ودلالة الخلق على
حق الخالق، وأثر علمهم النافع على الشيطان وحزبه شديد؛ فهو يهدم صروحهم،
ويخرب حصونهم، ويفرق صفوفهم، ويكسر شوكتهم، ويحل ما عقدوا، ويفتح ما
أغلقوه، ويغلق ما فتحوه، ويرد إلى الحق من حرفوه، وكما يهدون بإذن الله من
أضلوه، وينصرون بالحق من خاصموه؛ ففضلهم على الحق ظاهر، وخيرهم إلى
الناس واصل، ونفعهم بإذن الله إلى العباد سابغ.
ومن أسباب النجاة من نزغات الشيطان وكيده الاستعاذة بالله وحده، والالتجاء
إليه سبحانه من شر وسواسه، وشر أتباعه؛ فهو الملاذ سبحانه وبه المعتصم؛ ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
قال تعالى: [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ] (فصلت: 36) .
وقد أنزل الله تعالى سورة في حفظ عباده المؤمنين حيث قال: بسم الله
الرحمن الرحيم [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ
الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ]
(الناس: 1-6) .
وأمر سبحانه وتعالى بالاستعاذة من كيد جنده، وشر حزبه الذين يفسدون في
الأرض ولا يصلحون، يسعون فيها فساداً، ويعيثون فيها خراباً فينشرون الرذيلة،
ويحجبون الفضيلة، ويجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان.
قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (غافر:
56) .
وأمر سبحانه عباده المؤمنين بالإعراض عن مجالس خوضهم، ومقاعد جدالهم
التي لا يقصدون فيها حقاً، ولا يريدون خيراً، ويظهرون فيها استهزاء وسخرية
وشراً.
قال تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ
الظَّالِمِينَ] (الأنعام: 68) .
ومن عواصم نزغات الشيطان، ونفثاته المسمومة، ونفخه المحموم،
الاعتصام بذكر الله بالعشي والإبكار، وعند أطراف الليل والنهار فهو حرز مكين،
وحصن حصين، قال تعالى: [قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ
عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ] (الأنبياء: 42) .
وحث سبحانه على دوام ذكره، وكثرة استغفاره، والصبر على طاعته؛ فهي
زاد في طريق دعوته ونشر رسالته، وعون على القيام بحقوق عبوديته، وفيها
انشراح الصدر وسروره، وطمأنينة القلب ونوره، وراحة البال وحبوره، ورضى
النفس وسعادتها، قال تعالى: [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] (الرعد: 28) ،
وقال تعالى: [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالإِبْكَارِ] (غافر: 55) ، وقال تعالى: [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ
تَرْضَى] (طه: 130) .
ومن موانع تأثير الشيطان على العباد، ومنعه من تحقيق الفساد، ورد كيده
وكيد الفجار والكفار قوة التعلق بالله، ولزوم التعوذ بالله، والالتجاء إلى الله، وقد
جعل الله سبحانه وتعالى لعباده أذكاراً عاصمة، وأوراداً حافظة، وأسباباً واقية إذا
اعتصم بها العبد عُصم، وإذا حفظها العبد حُفظ، وإذا تسربل بها وقي؛ وذلك حين
يتلقاها بقلب موقن خاشع، وفؤاد بصير شاكر، وعمل صالح راشد فتحفظ المسلم
قياماً وقعوداً، ودخولاً وخروجاً، وغياباً وحضوراً، وراحة ونوماً وإقامة ومكثاً،
وسعياً في الحياة وضرباً في الأرض؛ فحاله حال الذاكر الشاكر الذي رطب لسانه
بذكر ربه ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، وتضرعاً وخفية.
قال تعالى: [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (الأعراف:
55) .
وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده، وتربيته ومنهاجه بيان الأوراد
المندوبة المشروعة، والأذكار المسنونة المرغوبة التي كثرت حسناتها، وعظمت
درجاتها، ودل فضلها وأثرها في حفظ المرء من الشيطان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا
خرج الرجل من باب بيته أو من باب داره كان معه ملكان موكلان به؛ فإذا قال:
بسم الله، قالا: هديت، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالا: وقيت، وإذا
قال: توكلت على الله، قالا: كفيت، فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل
قد هدي وكفي ووقي؟» [8] ، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه يقال له:
«كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان» .
ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه عليها في سلامة
فطرتها، وطهارة نفوسها وصلاح قلوبها، وبركة عيشها، وإحرازها وذريتها من
الشيطان وذريته علم أمته ونصحها في بيان الأدعية والأوراد والآداب في كل
الأحوال والأزمان والمواضع من الأقوال والأفعال عند الطعام والشراب، وعند
دخول وخروج الخلاء، وعند وقوع المصيبة وحصول البلاء، وعند النوم والجماع.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: «لو أن
أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما
رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً» [9] .
وعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل
الرجل بيته فذكر عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء،
وإذا دخل فلم يذكر عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند
طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء» ، وفي رواية: «وإن لم يذكر اسم الله عند
طعامه، وإن لم يذكر اسم الله عند دخوله» [10] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة
عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة،
فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس
كسلان» [11] .
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ذكر الله عز وجل لتكون هذه
الأذكار حرزاً مانعاً منه، وحجاباً ساتراً عنه.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة وأخرجه الإمام البخاري:
«من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل
شيء قدير في يوم مائة مرة كان له عدل ذلك عشر رقاب، وكتبت له مائة
حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى
يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك» [12] ،
وللحديث روايات أخر.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله
العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه، من الشيطان الرجيم قال: أقط [13] ، قلت:
نعم، قال: فإذا قال ذلك حُفظ مني سائر اليوم» [14] .
ووجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى الاستعاذة من الشيطان وشركه إذا
أصبحوا، وإذا أمسوا، وإذا ناموا بوصيته العظيمة لصاحبه الصديق رضي الله عنه
فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق قال: «قل اللهم فاطر
السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا
أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، قال: قلها إذا أصبحت، وإذا
أمسيت، وإذا أخذت مضجعك» [15] .
والعلاج حين يلبِّس الشيطان على العبد صلاته فيما رواه عثمان بن أبي
العاص أنه: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد
حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبِّسها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك
ثلاثاً. قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني» [16] .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن طريق الوقاية من الشيطان وكيده هو
العلم بمداخله ومخارجه ووساوسه وخواطره، ومعرفة عسكره وجنده، وأنصاره
وحزبه، وكذلك معرفة منهجه الضال الفاسد في إغراء الشهوات، وإيراد الشبهات،
واتخاذ الحياة الدنيا مستقراً ومقاماً، ونهاية ومآلاً، وما الحياة الدنيا إلا ممر ومعبر
إلى الدار الآخرة، وحياة قصيرة فانية، قليلة زائلة.
قال تعالى: [اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ
فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ
حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ
الغُرُورِ] (الحديد: 20) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «إن الله سبحانه بحكمته سلط على العبد
عدواً عالماً بطرق هلاكه، وأسباب الشر الذي يلقيه فيه، متفنناً فيها، خبيراً بها،
حريصاً عليها لا يفتر يقظة ولا مناماً ... أحدها: وهي غاية مراده منه أن يحول
بينه وبين العلم والإيمان، فيلقيه في الكفر؛ فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح ...
فإن فاتته هذه وهُدي للإسلام حرص على ما يتلو الكفر وهي البدعة، وهي أحب
إليه من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها؛ لأن صاحبها
يرى أنه على هدى، وفي بعض الآثار يقول إبليس: أهلكت بني آدم بالذنوب
وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء؛ فهم
يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ... فإن ظفر منه بهذا
صيره من رعاته وأمرائه، فإن أعجزه شغله بالعمل المفضول عن ما هو أفضل منه،
فإن أعجزه ذلك صار إلى تسليط حزبه يؤذونه ويشتمونه ويبهتونه ويرمونه
بالعظائم ليحزنه، ويشغل قلبه عن العلم والإرادة وسائر أعماله.
فكيف يمكن أن يحترز منه من لا علم له بهذه الأمور؟ ولا بعدوه؟ ولا بما
يحصن منه؟ فإنه لا ينجو من عدوه إلا من عرفه، وعرف طريقه الذي يأتيه منه،
وجيشه الذي يستعين به عليه، وعرف مداخله ومخارجه، وكيفية محاربته، وبأي
شيء يحاربه، وبماذا يداوي جراحه، وبأي شيء يستمد القوة لقتاله ودفعه. وهذا
كله لا يحصل إلا بالعلم؛ فالجاهل في غفلة وعمى عن هذا الأمر العظيم» [17] .
ووحي الشيطان وإيحاؤه مصدر تلقي لحياة شركية، أو خصال جاهلية بما
يزينه من كفر وشرك، وفتن وبدع، وضلال وفساد؛ فهو الآمر لهم، الناهي فيهم،
المطاع بينهم، قد اتخذوه إلهاً ومعبوداً، ومصدقاً ومحبوباً، وقد حذر الله عباده
المؤمنين من طاعته وعبوديته والتلقي عنه، قال تعالى: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي
آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] (يس: 60) .
والإلقاء بخواطر شيطانية، ووساوس إبليسية بزخرف من القول، وغرور
من الأماني هو سبيل إبليس لإضلال بني آدم، وحقيقته وعدٌ مكذوب، وعهد
منقوض، وشرٌ محتوم، وأمرٌ مشؤوم، يوردهم فيه إلى النار وبئس الورد المورود.
والمسلم الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، فيستيقظ من غفلته
وينهض من رقدته، ولا يدع الشيطان يصيب مقاتله بسهامه المسمومة، ويهتك ستر
عرينه بجنوده، ولا يمكنه من خلال وساوسه وخُطواته إلى خدش أصول عقيدته،
ومباني ديانته، ومعالم شريعته، فيعتصم بالله وحده ليعصمه، ويستعيذ بالله وحده
ليعيذه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 438.
(2) تفسير ابن كثير، ج 3، ص 179.
(3) تفسير ابن كثير.
(4) تفسير الطبري، ج 24، ص 46.
(5) تفسير ابن كثير.
(6) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 14.
(7) أخرجه أحمد بن حنبل، والنسائي عن سبرة بن أبي فاكه، صحيح الجامع للألباني، رقم 1652.
(*) مأرز: ملجأ.
(8) سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، رقم الحديث: 3876.
(9) صحيح البخاري كتاب الدعوات، رقم الحديث: 5909.
(10) صحيح مسلم، كتاب الأشربة، رقم الحديث: 3763.
(11) صحيح البخاري، كتاب الجمعة، رقم الحديث: 1074.
(12) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث: 3050.
(13) أي فقط وحسب.
(14) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، رقم الحديث: 394.
(15) سنن أبي داود، كتاب الآداب، رقم الحديث:.
(16) صحيح مسلم، كتاب الإسلام، رقم الحديث: 4083.
(17) مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 112.(185/20)
قضايا دعوية
دور تحفيظ القرآن الكريم..
تطلعات وآمال
سارة الزامل
قبل عشرين عاماً مضت كان الهجر والجفاء لكتاب الله الكريم من قِبَل كثير
من المسلمين والمسلمات هجراً ظاهراً ملموساً في كثير من البلدان.
كان الواحد منهم يبيت الليالي الطوال؛ بل الشهر والشهرين، إن لم تكن
أشهر الحول كلها، وهو لا يُمس ولا يُفتح المصحف إلا لحاجة عارضة - دراسة
رسمية، مسابقة رمضانية وغير ذلك - دون التلاوة التعبدية ودون الحفظ والفهم
والامتثال لأمره.. حتى إذا ما حل الشهر الكريم، وكان لبعض الناس معه وقفات
وجلسات متقطعة، فإنه لا يلبث أن يرتحل عنه مع ارتحال ذلك الموسم الكريم.
في السنين الماضية لم نكن نسمع عن حافظات لكتاب الله في صفوف نسائنا
وبنياتنا، بل كانت الكثيرات منهن يتداعين على ألوان إعلامية هابطة رديئة،
والهمم مصروفة لحفظ كل سافل ورديء من شعر وغناء، بينما الصدور تكاد تكون
خالية من آيات الذكر الحكيم، حتى آيات الكفاية في خاتمة البقرة، وآيات العصمة
من فتنة المسيح الدجال من أوائل سورة الكهف لم يَكُنَّ يعرفن عنها شيئاً، فضلاً عن
حفظها أو فهمها أو تدبرها.
وأما من كانت على نور من ربها، وعلى صلة بكتابه العزيز، فتجدها حين
تريد الجلوس بين يدي كتاب الله تعالى لتتلو أو تحفظ منه شيئاً، تجدها تتوارى عن
الأعين، لا بعداً عن السمعة والرياء، إنما بعداً عن التندر بها، وبالطريق الذي
هديت إليه؛ إذ إن الاتصال بكتاب الله إشارة بأن هذه خطوة في طريق العودة إلى
صراطه المستقيم، وقد كانت الندرة - إذ ذاك - في أهل الخير والمعينين عليه.
والله المستعان.
وأما اليوم فهذه جموع من نساء المؤمنين يُفِقْن ويَعُدْنَ إلى كتاب ربهن عَوْداً
حميداً جميلاً صادقاً، متوجاً بتاج العزة والثقة به وبخبره، كلٌّ منهن ترجو وعده
وتخاف وعيده، وتقف عند نهيه، وتستجيب لأمره - كل واحدة على قدرها وطاقتها.
وها هي الأموال الزكية الطاهرة، والأيادي العاملة الصادقة، تشيد البناء،
وترص اللبنات.. وتدير حلقات القرآن في كل مكان حتى بلغت مدارس تحفيظ
القرآن المئات، يرتادها عشرات الألوف من النساء؛ فلله الحمد والمنة.
وها هي حافلات دور القرآن تشق شوارع المدن لتعلن على الملأ أن الأمة
عادت لربها.. ونهضت.. والتفتت إلى مصدر عزها ونورها، ومصدر مجدها
وسؤددها، ولتعلن أن الأمة وإن طالت بها رقدة فإن اليقظة نهاية كل ضياع.
وهذه براعم الدور وهن يرتلن الآيات العزيزة مجودةً تجويداً يأخذ بالألباب.
وها هو القرآن حياً كاملاً.. ينبض في صدور فتيات الإسلام، وهن بعدُ لم يتخطين
ما يسمى مرحلة مراهقة حتمية التجاوزات الطويلة العريضة الـ.. الـ..، والتي
يقال لا بد منها ولا بد من غض الطرف عنها، ريثما تنتهي ويعود صاحبها متى ما
شاء أن يعود إلى الصواب.
ولكبيرات السن وللأمهات بل وللجدات، عودة موفقة والتفافة حميمة على
مائدة وحي السماء، والاسترواح في ظلاله ورياضه.. وبعد أن كان الكثير منهن لا
تُحسن قراءة أمِّ الكتاب، ولا تدرك معنى ونفع وِرْد الصباح والمساء، وكل ما
تحمله دعوات وتعويذات ورثتها عن الآباء والأجداد، ولا يخلو بعضها من مآخذ
شرعية، ولكنها اليوم وعلى مقاعد الدور أصبحت ترتل الآيات.. وتحفظ منها،
وتتدبرها.. والكثير.. الكثير منهن حفظن الزهراوين، وحفظن أذكار اليوم والليلة،
بل ومنهن من حفظت الأربعين النووية فلله الحمد والمنة.
وبالجملة فإنّ هذا الكتاب الكريم شغل وقت فئات من النساء.. شغلهن بتلاوته
وحفظه، وتدبر معانيه وتفهمها، وبالذهاب إلى دوره والإياب منها، وارتقى بهن
عن كثير من سفاسف الأمور وتوافهها، وعلى عتبة الدور عقدن وأقمن روابط
أخوية ودية إيمانية، نتج عنها صور وألوان من الطاعات، والقربات، ما كان من
طريق إليها لولا هذه البيوت المضيئة - والحمد والفضل لله أولاً وآخراً -.
ولا يسع المؤمن المحب لله وكتابه وهو يرى هذا كله، إلا أن يستبشر ويُبشر
به، لا سيما ونحن في زمن يتسابق ويتسارع فيه أئمة الباطل، ودعاة الرذيلة إلى
تغريب نساء الأمة وصدهن على سبيل ربها.. فاللهم لك الحمد ملء السموات وملء
الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد. ثم
الدعاء الصادق الحار لكل مساهم ومشارك في تأسيس هذه الصروح الدعوية
النسائية، وفي متابعتها، ودعمها، وحمل همها، والوقوف مع أهلها، وكيف هي
مشاعر أولئك الجُند لو رأوا أمهات الدور - كبيرات السن الصوّامات القوّامات -
وهن يرفعن أكف الضراعة بين يدي الجواد الكريم وفي ساعات فاضلة يسألنه لكم
التوفيق والثبات، وأن يبارك لكم وفيكم، ويحفظكم وأهليكم، ويرفع درجتكم،
ويغفر خطيئتكم، نظير ما قدمتم - وتقدمون - من جهود لأهل الله وخاصته.
* احتياجات ومطالب الدور:
بعد هذه الإضاءات التي فرضت نفسها ننتقل إلى الاتجاه الآخر المعني بأمر
هذه الرسالة وهو «احتياجات ومطالب الدور» . وكما أننا نسعى لتكميل وتحسين
بيوتنا وتشييدها، بل وتزيينها ونستشير بذلك كثيراً، ونفرح بمن يمدنا برأي أو
مشورة، فمن هذا المنطلق أرجو أن تُعامل هذه الدور.
وقبل البدء في ذكر المتطلبات أشير إلى نقاط:
أ - وإن كانت هذه رسالة عامة لكل من يهمه أمر القرآن ودوره إلا أنها تعني
بالدرجة الأولى كل من وفقه الله وشرفه بالقيام عليها، من الدعاة وطلبة العلم.
ب - ما سيذكر من ملاحظات ومتطلبات لا يعني وجودها في كل دار.
ج - هناك مطالب لم يتطرق إليها مع أهميتها؛ ذلك أن التطرق كان للأمور
التي يمكن تحصيلها وتكميلها.
د - هذه الأسطر لا تعدو أن تكون تطلعات ورؤى شخصية قابلة للأخذ والرد
والنقاش، وإني لأرجو أن تثمر تجاوباً من قِبَل الأخوات الفاضلات منسوبات الدور
ليدلين بإضافات أخرى أو تعقيب على ما سيذكر.
- أُولى المتطلبات:
المورد المالي: المادة وكما يقال عصب الحياة، وعنصر بقائها وتجديدها
وتطويرها، وكم هي الدعوات الباطلة، والمؤسسات التدميرية ما كان لها أن تقوم
وتعيش وتؤثر في غيرها لولا وفرة المال وسيولته الداعمة، وإن كان الحق ممثلاً
بمنهجه وأهله ومؤسساته لا يحتاج إلى كثير مال كالذي تحتاجه تلك المؤسسات، إلا
أنه لن يكتب له التقدم والتسيد ما لم يولَ هذا الأمر حقه من الاهتمام والبحث والسعي
في تحصيله وتنميته، ولفت النظر دوماً لضرورته في عملية الدعوة والإصلاح
والتأثير والتمكين.. فكم هي المشاريع الإصلاحية والتربوية التي تتأخر، وتتعثر،
وتضعف، بل وبعضها يموت مع ميلاده لفقد المدد المالي.
لذا ودور القرآن وهي محضن ومركز دعوي وتربوي، يلتحق فيه شرائح
نسائية متباينة عمراً وتعليماً وثقافة وثراء والتزاماً يحتاج إلى توفر المال أيما حاجة،
ويفترض فيمن يهمه أمر نساء المؤمنين ودعوتهن، وتزكية نفوسهن، والسمو بها
عما لا يليق بأهل العفاف والنبل والإيمان، أن يشمروا عن سواعد الجد وينهضوا
عملياً لا نظرياً برسم خطط مدروسة لتأمين هذا العنصر الحيوي الهام ولو كمثال
جمع رأس مال ضخم ليستثمر وينمى من قِبَل أمناء أقوياء، يملكون قدراً من المهارة
والدراية في هذه الصنعة.. حتى إذا قام المشروع واستوى على سوقه، يتولى من
ثم الصرف على الدور وتغذيتها بالمواد اللازمة لحياتها وعطائها، وبهذا ستنتعش
وتنشط وتتقدم في جوانب كثيرة، وقبل ذلك تحفظ لها ماء وجهها الذي أريق كثيراً..
كثيراً على خطابات الاستجداء والتسول التي ما برحت ومنذ قيامها وكحال الكثير
من المؤسسات الخيرية لا تبني ولا تعطي إلا من جيب محسن أو مجامل [1] !
وثمة وقفات بين يدي هذا المطلب:
أ - يقترح أن تكون هناك لجان مالية تابعة للدور - كأن تكون لجنة لكل عشر
دور متجاورة - مهمتها تنمية الموارد المالية والإشراف على الصادر والوارد،
ومتابعة احتياجات الدور عن قرب، ولتنشئ حالة من التوازن بين الإمكانيات
والاحتياجات، وكذلك توكل إليها بعض المهام.. كشراء ما يُحتاج إليه من جوائز
الدراسة والمتسابقات، وأيضاً توفير متطلبات المكتبة والمقصف.. وما شابه ذلك،
ففي هذه الخطوة كسب كبير؛ منه:
- توحيد الصندوق المالي لعدد من الدور؛ وهذا فيه من الفوائد الشيء الكثير.
- توحيد عملية الشراء وتوفير المواد واختيارها وتحديدها كماً وكيفاً في آن
واحد، وهذا يحفظ للدور جهداً مالياً وآخر بشرياً.
- أيضاً من إيجابيات هذه الخطوة وهو مهم أن يوفر ويحفظ وقت وجهد
مديرات الدور ومعلماتها، من أن يستنزف ويهدر في كثرة الخروج والتسوق وطول
الوقوف والتردد على أبواب المكتبات، والتنقل من الأسواق الشعبية إلى المتاجر
الصغيرة والبسطات الأرضية، هذه الخطوة ستحفظ وتوفر لهن الجهد والوقت
ليصرفنه فيما يناسب طبيعتهن وقدراتهن، سواء في بيوت القرآن أو في بيوتهن
الأسرية.
ب - الحد والتقليل من صرف الجوائز.. كان للجوائز والحوافز ضرورة لشد
وجذب نفوس الصغار والكبار إلى حلقات القرآن؛ هذا يوم أن كانت الدور مستحدثة
وطارئة في المجتمع.. أما وهي قد بلغت هذا العدد، وحوت وجذبت الأعداد الكبيرة،
والإقبال عليها في تزايد ملحوظ، فلا شك أن الحاجة إليها أقل من ذي قبل [*] .
لذا لو أُعيد النظر في هذا الأمر الذي أثقل كواهل الدور، والذي أيضاً لا
يساوي شيئاً في نظر بعض الدارسات؛ إما لتكرار ما تحوز عليه، وإما لبساطتها
ورداءة صنعتها، وإما لغير ذلك.
وربما أن هناك أساسيات تفتقدها مكتبة الدار توفيرها أنفع وأجدى للدارسة من
هذه الجوائز، بل مما يجب التنبيه عليه حول هذه النقطة وحتى لا تختلط الوسائل
بالغايات عند جيل القرآن، لا بد من صياغة جديدة تُفعَّل فيها الأهداف والمقاصد -
لا الوسائل والحوافز - كما تقول النظرية التربوية الحديثة: «وضوح الأهداف
والغايات أمام التلاميذ ومدى اهتمامهم بتحقيقها يشكل الدافع الأساس للتعلم» . لذا
يفترض أن نقف قليلاً ونراجع وسائلنا وإلى أي شيء بلغت، وماذا حققت؟
يفترض في هذه الفترة النشطة من حياة الدور، والتي يقابلها نشاط أكثر وحركة
أسرع في الاتجاه الآخر - الانفتاح الثقافي / الفكري / الإعلامي اللامحدود
واللامضبوط - تحفيز النفوس، وشدها، وجذبها إلى حِلَق العلم بأمر آخر غير طقم
الصحون وطقم القدور وما شابه ذلك، وأن تربى الدارسة على حب الله وعلى حب
كتابه العزيز، وليُزرع ويغرس في عقلها، وقلبها، وفكرها أن هذا الكتاب الذي
يُجتمع ويُتفرق عليه، إنما هو منهج الفلاح والنجاة من الفتن والأهواء، ومنهج
للحياة الطيبة الرحبة، وأنها مُطالبة بإقامة حدوده لا حروفه فحسب، وأن التفاضل
في تعظيمها والاستجابة لها، وأيضاً تُنبه إلى السنن الإلهية حين تُعرِض الأمة عنه
وتجعل أمره وراء ظهرها، فلن يكون إلا الذل والهون.
تعزز هذه المفاهيم والمحاذير لطالبة الدار بالوقوف مع الآيات وأسرارها
وبدائعها، وما يظهر في تشريعها من حِكَم ولطائف، وما تحمله من كشف للشبهات
والادعاءات التي تنسج وتصاغ لاغتيال فضيلة المرأة بل وعقيدتها معاً، وإذا نجحنا
في توصيل هذه الرسالة إلى قلبها فهذا أقوى رابط يربطها بالدار وبالقرآن.
- المطلب الثاني:
توفير العنصر البشري المتأهل الفعال والمال، وهذان العنصران - كما هو
معلوم - متلازمان لا ينفكان، بل هما للعمل والإنتاج كالجناحين للطائر.
وإن كانت بعض الدور لا تخلو من نخب فعالة تبذل وتعطي، على بصيرة
من أمرها، إلا أن الحاجة أكبر، والأعداد الموجودة لا تفي ولا تكفي؛ لذلك
ولتحقيق قدر من هذا المطلب يُقترح أمور منها:
أ - الاعتناء والاهتمام بالطالبات المتميزات - تديناً وخلقاً وأدوات القدرة على
التلقي والمهارة - وحثهن على الاستمرار ومواصلة الطلب، ومساعدتهن في التغلب
على ما قد يجدنه في طريقهن من معوقات أسرية وغير ذلك، ثم تنمية مهاراتهن
وتطوير قدراتهن، ووضع البرامج العلمية والتثقيفية والتربوية لتهيئتهن تهيئة
مستقبلية ليتأهلنَ للقيام بمهام إدارية وتعليمية في دور القرآن.
ب - إقامة مركز أو معهد تدريبي ترعاه مؤسسة تعليمية أو خيرية شكلاً
ومضموناً يستقطب له المؤهلات من طالبات العلم، والمتخصصات في التربية
والدعوة والاجتماع؛ ليقمن ويشرفن عليه ويعلمن فيه؛ والغاية منه هي مساعدة
وتقوية الفئات الضعيفة التي تعمل في الهيئات الإدارية والتعليمية داخل الدور.
وحتى لا تتعطل الدراسة أو تتأخر يمكن أن تفرغ العاملات على طريقة
الدفعات؛ كأن تُنتدب للدراسة من كل دار ثلاث معلمات وإدارية.
ولأجل تحقيق نتيجة جيدة فعالة من هذا المركز، ولضمان أن الدارسة أخذت
قسطاً كافياً من المواد العلمية والتربوية، يفترض ألا تقل مدة كل دورة عن ستة
أشهر، أو عام دراسي كامل تمنح بعدها شهادة تشهد لها بمستواها وعطائها وتعاملها
وتجاوبها مع برامجه ودروسه، ثم يعدن إلى دورهن، لتلتحق دفعة أخرى في
الدورة التالية.. ثم دفعة ثالثة.. ثم بعد ذلك ها هي دور القرآن وقد حظيت بقدوات
حسنة، وبنخب وخامات طيبة فعالة صنعت لها صنعاً وستدفن حينئذ ذكريات
الماضي.. من حالات النقص والتقصير وسوء التدبير والتخطيط الناتجة ومظاهر
الضعف في التأهيل والإعداد.
ت - دأبت كثير من الدور على تسطير وتنظيم خطابات للأغنياء والمحسنين
لأجل الوقوف معها ودعمها مادياً، لكن هل قامت بالعمل نفسه وصاغت خطابات
الدعوة والحث على الوقوف معها وقوفاً علمياً وتربوياً؟! أظن أن هذا لم يكن مع
ضرورته وأهميته وإيجابيته؛ ذلك أن هناك طائفة من النساء الخيرات؛ الدور
بحاجة إلى عطائهن، وحيث إن النفس بدون التذكير والتنبيه قد تفتر ولا تبادر من
ذاتها، وربما ترى أن في عرضها شيئاً ما - كالتزكية والاكتساب - تراها لا تقدم
من نفسها؛ لذا حري بالدور أن تبحث وتتقصى عنهن وتكاتبهن، بل وتكاتب
أولياءهن وتحثهم على ذلك وتشكر لهم وقفتهم.
ث - وحتى لا تفقد الدور بعض منسوباتها النشطات يجب أن تعنى بهن،
وتنظر وتقدر أحوالهن الخاصة والعامة، ويفتح المجال لهن ليبدين ما يجدنه من
أمور وملاحظات هي في صالح الدور ومنهجها - ويشجعن على ذلك.
كذلك تذلل لهن الطريق وتزال عقباته ما أمكن. أيضاً من العناية بهن
مناصحتهن وتقويمهن عند التجاوزات البشرية التي لا يسلم منها أحد برفق ولين،
بدلاً من إنهاء التعامل عند حدوث شيء منها.
- المطلب الثالث:
إعداد منهج دراسي متميز لدارسات الدور، يشمل جميع المواد التي تحتاجها
طالبة الدار من القرآن الكريم، التفسير، العقيدة، الفقه، الحديث، وجملة مختارة
منتقاة من كتب السير والأخلاق والتربية والتوعية. ثم يقسم على مستويات الأعمار
والتحصيل العلمي، وتلزم كل طالبة بدراسته وتفهمه، وتمنع أن تنتقل من مستوى
إلى مستوى آخر قبل تجاوزها إياه ونجاحها فيه.
فكثيراً ما نرى الدارسة تقضي سنوات عديدة وحصيلتها دون المطلوب،
وتراها اليوم تحفظ من أول القرآن وغداً من آخره وبعد غد نسيت أوله وآخره، وها
هي تحفظ من جديد وتعيد وهكذا.
كذلك تعاني بعض طالبات الدور من تكرار ونمطية وسلبية في مجال الدروس
العلمية، والتركيز على جانب دون الآخر، وتعبر إحدى الدارسات عن ذلك بقولها:
ردَّدنا أحكام النون الساكنة والتنوين دورات عديدة، حتى حفظناها كحفظنا
لأسمائنا، وبالمقابل كثيراً ما نخطئ في التفريق بين واجبات الصلاة وسننها بل
وأركانها، ولا زلنا نلتمس من يبين لنا أبسط الإشكاليات الفقهية الخاصة بنا معشر
الفتيات.
أيضاً صورة أخرى لعدم توازن العطاء العلمي حين نجد طالبة متميزة في
حفظها لكتاب الله وإتقانها وإقامتها لحروفه بشكل جيد، بينما الفجوة بينها وبين
حدوده وتعاليمه فجوة ظاهرة، وما ذاك إلا نتيجة تغليب جانب على آخر، وربما أن
هذا الآخر هو أهم وأنجى وأنفع للطالبة.
- المطلب الرابع:
إزالة العقبات التي تؤثر على عطاء بعض المعلمات والإداريات والتي قد
تضعف من فاعليتهن، ومن أبرزها والتي يتفق علهين الكثير من الأخوات ما يلي:
أ - كثرة عدد الطالبات في الفصل، ومعه التفاوت في مستويات الحفظ
والمراجعة؛ فكل يحفظ ويراجع حسب ما وصل إليه، وقد ينقسم الفصل إلى خمس
مجموعات أو أكثر؛ وهذا يشكل على المعلمة عبئاً من حيث المتابعة، والتعليم،
كذلك تقل الفائدة من عملية التلقين، ويصعب معه تقويم وتقدير عطاء المعلمة،
وأيضاً يصعب معه تقدير استجابة المتعلمة.
ب - المواصلات: هذه عقبة تذكرها كثير من العاملات، وربما حالت دون
استمراريتها في عملها؛ فحين لا تجد المواصلات الخاصة تضطر إلى الالتحاق مع
حافلة الدار.. وهنا تكمن المشكلة؛ فمواعيد حضور وانصراف الحافلات متعبة
وغير مناسبة لكثير من الأخوات اللاتي لديهن التزامات بيتية، وربما التزامات
أخرى كعمل صباحي وغيره؛ فالحافلة تجيء الساعة الثالثة قبل أذان العصر،
وتعود بها السابعة بعد المغرب، وشتاء توافق أذان العشاء وما بعده، فهذه أربع
ساعات تصرفها كل مساء خارج بيتها، وبعيدة عن أطفالها أو أسرتها ومهامها
الخاصة، علماً أن وقت درسها داخل الحلقة ساعة ونصف، وإن طال فلا يزيد عن
الساعتين.
وللتغلب على هذه المشكلة أو لتخفيفها، يُقترح أمور ثلاثة:
أولها: أن ينظر في أمر تعيين وقبول المعلمات؛ بحيث تكون الأولوية - في
حال التكافؤ وتوافر الشروط - لمن هي أقرب موقعاً من الدار؛ ذلك أن هناك من
المعلمات من تمر على عدد من الدور في ذهابها وإيابها من وإلى عملها؛ فلو نقلت
إلى أيها أقرب لبيتها لكان خيراً لها. ولندع بعض المجاملات وبعض الأهواء
الشخصية [2] جانباً؛ فتقديم المصلحة العامة أوْلى.
الأمر الثاني: أن نملك نظرة مستقبلية، حين نهتم بالطالبات المتميزات،
واللاتي يسكُنَّ جوار الدار، وربما لا يحتجن - أصلاً - إلى مواصلات لقرب
السكن، هؤلاء يفترض العناية بهن عناية خاصة وإعدادهن وتأهيلهن للقيام بالتعليم
أو العمل الإداري في الدار ليشغلن أماكن الأخوات اللاتي يبعدن عن المقر.
ثالثاً: أن توفر حافلة صغيرة خاصة للعاملات - فقط - بحيث تنطلق بهن
حال انتهاء الدوام، ومن لها أعمال أخرى لم تنته منها كالمناوبة وغيرها، فهذه يدبر
أمرها، بحيث لا تعطل أو تؤخر جميع أخواتها الموظفات.
ث - سجل المتابعة [3] : - لا زال الكلام عن العقبات - هذا السجل ينبغي
للمعلمة أن تكتب فيه بيانات دقيقة عن الطالبة وعن حفظها، ومراجعتها،
وحضورها، وغيابها، وتقويم مستواها بشكل يومي، ثم تقوم في نهاية كل أسبوع
برصد الدرجات - لجميع الدارسات - ثم ترصدها مرة أخرى في نهاية الشهر، ثم
تقسمها على عدد الأسابيع، ثم.. وثم.. إلى آخر متطلبات هذا السجل، بمعنى أنها
تعبئ كل يوم عشرة حقول لكل طالبة كما هو في النموذج التالي:
__________
اليوم | التاريخ | حفظ/السورة | من آية | إلى آية | الدرجة | مراجعة/السورة | من آية | إلى آية | الدرجة | مجموع الدرجات
__________
__________
ولو وقفنا وقفة حسابية زمنية لظهر ما يلي:
إذا كان عدد الدارسات «25» فالنتيجة: 25 × 10 = 250 حقل تسجل
فيها المعلمة يومياً، مع التسميع لكل واحدة منهن مقطعين من القرآن - حفظاً
ومراجعة - هنا ستستهلك كل دارسة ما لا يقل عن «7» دقائق من زمن الحلقة.
والسؤال: هل الوقت سيغطي ذلك؟
ننظر: 25 × 7 = 175 دقيقة!! ووقت الحلقة إن طال فلا يتجاوز
«120» دقيقة، وقليلاً ما يكون ذلك، مع أن هناك مواد أخرى تحتاج إلى وقت:
التجويد، التلقين، الفوائد.. فماذا تفعل المعلمة للتغلب على ذلك؟ ستضطر إلى
الاستعانة ببعض الطالبات للتسميع فيما بينهن، وهذا يخلق أزمة أخرى: كيف
للمعلمة تدوين درجة الطالبة التي لم تسمع قراءتها؟ وهل تعتمد على تقدير الطالبات
بعضهن لبعض؟ ومعلوم أن درجة التقدير تختلف من شخص لآخر، لا محالة
ستلجأ لهذه الوسيلة، وستلجأ إلى تدوين بيانات الطالبات على ورقة خارجية تكتب
فيها بصورة سريعة، وعند عودتها إلى بيتها، فهناك دوام آخر بين يدي السجل
تنقل إليه ما كتبت في الورقة من درجات وترقيم آيات و.. و.. لترصها في حقوله،
علماً أن هناك حقولاً أخرى لم تظهر في النموذج، وقد رصدت إحدى المعلمات
الساعات التي تقضيها مع السجل خارج الحلقة ومع رصد الدرجات وتقسيمها فإذا
بها «25» ساعة في الشهر!!
وهنا تساؤل: ألا يظن أنه لو صرفت المعلمة هذا الوقت، في تطوير قدراتها،
وتوسيع مداركها من خلال القراءة والاطلاع والتفكير، وكذلك التزود من الباقيات
الصالحات، القولية والفعلية [4] أن في هذا زكاة لنفسها، ورفعة ورقَّة في خلقها،
وإبداعاً في عطائها؟ وهذا الذي تحتاج إليه، وهذا الذي ينعكس على طالباتنا، فثمة
رسائل شفافة بين الأرواح تتأثر وتؤثر.. وتأثيرها أبلغ من رسائل اللسان وإن علا
وإن أفصح! لذا نتمنى لو أعيد النظر في هذا السجل وكيفيته، وتحويله إلى صورة
أبسط وأسهل يؤدي الغرض دون تكلف ودون مشقة.
ج - الدار وكأي مبنى عام.. يحتاج إلى متابعة جيدة مستمرة.. تجديد وتنجيد
أثاث.. صيانة.. سباكة.. استدعاء شركة نظافة وأخرى لمكافحة الحشرات وما
شابه ذلك، هذا أمر حقيقة يصعب على النساء القيام به وتوفيره بالشكل المفترض
أن يكون عليه، وأصعب منه أن تظهر صورة للدار تدل على الإهمال والتقصير
واللامبالاة بمشاعر واحتياجات من يردنها - دارسات، مدرسات، زائرات - وقد
تضطر الإدارة إلى سؤال الآخرين ليعينوها على تحقيق بعضه، والبعض الآخر
يبقى في وجهها، تحمل همه ولا تملك له حلاً. وعندما يكون المبنى مستعاراً من
مدرسة رسمية صباحية وهذا هو الغالب فستكون هناك إشكالية أكبر؛ فالمسؤولية
تأكيداً على الإدارة الصباحية، لكن يبقى جزء من المحافظة والمساعدة يفترض أن
تقوم به الإدارة المسائية، وربما يحدث بل وحدث قيل وقال بين الإدارتين [5] .
د - هذه العقبة وإن كان قد تقدم الحديث عنها في بداية الموضوع إلا أنه
ينبغي ذكرها في سياق سرد العقبات، تلك هي مشتريات الدار ومتطلبات المقصف
والمكتبة، وكل ما يدعو إلى الخروج للأسواق والأماكن العامة، فإن هذا يسبب
حرجاً لكثير من موظفات الدور ويتعرضن بسببه إلى كثير سؤال ومؤاخذة من
أسرهن، وقد تجدها بعض الأسر ذريعة لمنع بناتها من البقاء في الدور.
هـ - متابعة الحافلات ورسم خط سيرها، والتوفيق بينها وبين ركابها،
وحصر الأعداد لكل حافلة وما شابه ذلك، هذه لا تجيدها كثير من النساء، وينتج
عنها تقسيم عشوائي لخطة السير، ومن ثم تحدث صور فوضوية في الحضور
والانصراف مما يزعج السائقين أو أولياء الأمور؛ ولا عجب فحين يكون التخطيط
من رأس لا يجيد معالم الطرق والأحياء وشوارعها ولا يستوعبها جيداً وهذا حالنا
معشر النساء فالنتيجة كما تقدم.
وقد تبدو هذه العقبة تافهة عند البعض، لكن لو رأى هذا المعمعة التي تعيشها
الإدارة وهي تقضي الأسبوع الأول والثاني وأحياناً الأسبوع الثالث، في تمرير هذه
العقبة لاقتنع: فتارة هي في جدل مع أولياء الأمور، وأخرى مع السائقين، وحيناً
تجدها قابعة في أقصى الحافلة تحاول ضبط العدد وتنظيم السير.. إلخ، وتتكرر
هذه المعمعة مع كل دفعة تسجيل جديدة، وقبول التسجيل - في كثير من الدور -
مفتوح على مصراعيه إلى منتصف الدورة وأحياناً أكثر.
وفي حال عدم توفر النقل مع بدء الدورة، فهذه مشكلة أخرى: مشكلة البحث
عنه وتوفيره، فتراها تنتقل وعبر الهاتف من شركة إلى شركة، ومن مدرسة أهلية
إلى أخرى لتستأجر عدداً من الحافلات وهلمَّ جراً.
هذه العقبات الثلاث الأخيرة إن عُلِّقت على رقبة الإدارة ألا يكون هذا تحميلاً
للنفس ما لا تطيق، ولا تحسن أيضاً؟! ثم كيف تتفرغ الإدارة لمهامها الأساسية:
متابعة خطة التعليم وسير الحِلَق، ومشاكل الدارسات والمعلمات، واستقبال
المستجدات والتقصي عن أحوال المنسحبات والمنقطعات، وكذلك تنظيم جدول
الأنشطة والمسابقات، والاتصال بالداعيات والتنسيق معهن و ... إلى آخر المهام،
وهذا ما حدا ببعض الطيبات إلى ترك العمل الإداري، لعدم قدرتها التوفيق بين تلك
المسؤوليات أو - لعلمها بالحال - لم توافق ابتداءً عليه.
ختاماً:
فثمة أمور أخرى تحتاج إلى وقفات ومراجعة من الصعب تفصيلها، وأمور
تحتاج إلى تطوير وتحسين وتفعيل ك: مكتبة الدار، الدرس الأسبوعي، العلاقات
الأخوية، العلاقات بأسر الطالبات، الأنشطة الثقافية، المقصف.. السوق.. الطبق
الخيري، الحفل الختامي؛ ولا شك أن توفر الركائز الأساسية التي ذكرت -
العنصر المادي، الطاقات البشرية المؤهلة، المنهج الدراسي الموحد، مع إزالة
العقبات المبينة - سيحقق ويفعِّل بعضاً مما نريد وربما أكثره؛ فالمسلم المؤمن إذا
سخَّر عقله وجهده وماله ووقته في سبيل دعوته فالله معينه ومسدده بإذنه جل جلاله.
__________
(1) ولا يقتصر على التبرعات فقط، إنما تتعدد مصادره لكسب الوقت ولتحصيل أكبر؛ حتى إن مديري إحدى الشركات التجارية قال متذمراً يصلنا في العام الواحد عشرات الخطابات من مدارس القرآن تريد مساعدة! .
(*) مع الإقرار بزيادة أعداد الدارسات الملتحقات بالحِلَق والدور النسائية إلا أن نسبة أعدادهن مقارنة بأعداد فتيات المجتمع المفترض التحاقهن بها ما تزال ضئيلة، ولذا فإن الاستمرار في تحفيز الطالبات في بادئ التحاقهن، وصغيرات السن ومن هي ضعيفة التعلق بكتاب الله في غاية الأهمية، ولا يتعارض مع ما تذكره الأخت الفاضلة من ضرورة ربط الدراسات بكتاب الله تعالى وتربيتها على تلقيه للفهم فالعمل، وكأنها جزاها الله خيراً ناقدة لظاهرة تقصير الكثير من الحلق والدور في القيام بهذا الدور الذي لا بد من القيام به.
(2) أقصد بالأهواء الأمزجة؛ إذ توافق بعضها مع بعض، كأن تتعلق الإدارة ببعض المعلمات والعكس كذلك، ويرين هذا مسوغاً لتعليق الأزمة، وهن كثيراً ما يتذمرن منها، وتترك أثرها على حضور المعلمة وغيابها.
(3) هذا السجل أعد من قبل الجماعة الخيرية، وتم توزيعه على الدور، ثم تبعه سجل آخر؛ حقول اليومية التي تعبئها المعلمة [7] بدل عشرة، إلا أن الدرجة اليومية أصبحت رمزية جيد، ممتاز إلخ وهذه الرمزية أصعب من حيث إخراج التقدير الشهري، وهناك من الدور من لا زالت تتعامل مع السجل الأول.
(4) يتم هذا ويكمل بمساعدة الإدارة لها، حين ترسم جدولاً وبرنامجاً علمياً تربوياً روحياً لمعلماتها.
(5) ولو كنا نملك هماً كافياً للإصلاح والتأثير، وقدراً من كسب القلوب والمواقف، لأقمنا بيننا وبينهم جسوراً من الود والنصح والتعاون، ولفتحنا معهم قنوات للحوار والدعوة، وإنها لفرصة كبيرة لو اغتنمها أهل القرآن، لكن أين هو الهم؟! .(185/26)
تأملات دعوية
شبابنا وثقافة الإنترنت
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
يندر أن تجد من يخالفك اليوم في أن كثيراً مما يتداول في الشبكة العنكبوتية
وخاصة في بعض ساحات الحوار يبرز مرضاً فكرياً نعاني منه.
وليس المجال مجال الحديث عن الشبكة وما يدور فيها فله ميدان آخر، إنما
الذي يعنينا هنا دلالته على التفكير السائد لدى أولئك.
والقاسم المشترك لدى شريحة واسعة منهم: السطحية والسذاجة الفكرية، أو
السب والشتم المقذع، أو الخروج عن أدب الحوار والجدال، أو القول في الدين
بغير علم.... إلى آخر تلك المآسي التي تبدو لمن يتصفح هذه المواقع.
وأجزم أن هؤلاء لا يمثلون مجتمع الصحوة تمثيلاً صادقاً، لكنهم بالتأكيد
شريحة وفئة ليست قليلة.
إن هذه الظاهرة تدعو الغيورين على هذا الجيل الذي يفكر بهذه العقلية إلى
التأمل والمراجعة؛ فهي إفراز لبعض جوانب الخلل والإخفاق في الواقع التربوي.
ونتساءل هاهنا: إلى أي حد نتوقع من هذا الجيل الذي يفكر بهذه العقلية أن
يسهم في مشروع الإصلاح والبناء المناط بهذه الصحوة؟ وهل مثل هؤلاء على
مستوى التحديات التي تواجه الأمة اليوم؟
إن المربين والمصلحين بحاجة إلى أن يضعوا ضمن برنامج عملهم الارتقاء
بهذا الجيل، وأن يوظفوا مثل هذه المشكلات في فهم الثغرات التربوية لدى الشباب.
ومن الوسائل التي ينبغي أن يعنى بها في التعامل مع هذه المشكلة:
1 - تحقيق المزيد من التواصل مع الشباب، وفتح الصدور والقلوب لهم،
والصبر على ما قد يبدو من بعضهم من أخطاء؛ فهذا مدعاة لأن يقتربوا من
المصلحين والمربين.
2 - توسعة المحاضن والمجالات التربوية التي يمكن أن تستوعب هؤلاء
الشباب؛ فالنماذج المتاحة لا تتلاءم مع الحاجة المتزايدة، وإمكاناتها العددية لا
تستوعب كثيراً من الشباب، كما أن النمط السائد فيها لا يلائم كافة الشرائح، فلا
بد من تعدد الأنماط واتساع أفق المربين لاستيعاب مجالات عمل متنوعة تستوعب
كافة الفئات.
3 - الاعتناء بالبناء العلمي والفكري، وإثراء الساحة بالمزيد مما يسهم في
الارتقاء بالشباب، بدلاً من التركيز على الخطاب العاطفي وحده؛ فالساحة الدعوية
اليوم يسيطر عليها الخطاب العاطفي والحماسي، ومع أهميته وتأثيره إلا أن المبالغة
فيه تؤدي إلى إيجاد جيل يندفع مع العواطف ويقنعه هذا اللون أكثر من الخطاب
المنطقي العقلي.
4 - الاعتناء بتيسير المادة الفكرية والعلمية التي تستهدف الشباب؛ فكثير مما
يقدم لا يتلاءم مع مستوياتهم فلا يحظى بالقبول لديهم.
5 - مراجعة الأهداف التربوية، وتحقيق مزيد من الاهتمام بتنمية الجوانب
العقلية، والارتقاء بمهارات التفكير لدى الشباب، والتخفيف من التركيز على تقديم
المادة العلمية والثقافية من خلال خط اتصالي وحيد الاتجاه.
6 - توسيع دائرة الحوار المباشر والتدريب على مهاراته داخل البرامج
واللقاءات التي تقدم للشباب.
7 - تهيئة مجالات وفرص عمل دعوية واسعة على شبكة الإنترنت لتكون
بديلاً لهؤلاء الشباب يصرفون فيها جزءاً من أوقاتهم التي يصرفونها على الشبكة.(185/32)
البيان الأدبي
رشفات من اللغة
المحرر الأدبي
* شهر المحرَّم لغةً:
- هو أول شهور السنة، وسمته العرب بذلك؛ لأنهم كانوا يحرِّمون فيه القتال.
- ويجمع على محرَّمات ومحارم ومحاريم.
- وكانت العرب القديمة تسميه المُؤْتَمِر.
- وجاء في الحديث الصحيح تسميته بشهر الله، وإضافته إلى الله تدل على
شرفه وفضله.
- ويقال: حَرَمْنا وأَحْرَمْنا: إذا دخلنا في الشهر الحرام.
* الوَفَيَات والوَفِيَّات:
يخلط بعض المتكلمين بينهما، فيظنون (وَفِيَّات) جمع (وفاة) ، فيقولون:
صفحة الوَفِيّات، أو كتاب وَفِيّات الأعيان، والصواب أن (وَفِيّات) جمع (وَفِيّة)
من الوفاء، أما (وفاة) فجمعها (وَفَيَات) .
* كتاب أدب الكاتب:
(أدب الكاتب) أو (أدب الكُتَّاب) كتاب لابن قتيبة عبد الله بن مسلم
(ت 276 هـ) ، قسمه أربعة كتب: الأول كتاب المعرفة، وفيه تكلم على
المعاني الدقيقة لأوصاف الناس والحيوان واللباس والطعام ... والفروق اللغوية
بين المتشابهات، والباب الثاني تقويم اليد، وفيه تكلم على قواعد الإملاء والنحو،
والباب الثالث تقويم اللسان، وفيه تكلم على الكلمات المتقاربة في النطق المختلفة في
المعنى، وذكر ما تخطئ به العامة من ذلك، والكتاب الرابع الأبنية، وفيه أبنية الأسماء والأفعال ومعانيها والفروق بينها.
* أسماء الحُسْن:
من دقة العربية أن جعلت لبعض المعاني ألفاظاً عامة وخاصة؛ فالحسن لفظ
عام لكل حسن، ومن ألفاظه الخاصة أن الحسن في الأنف جمال، وفي العينين
حلاوة، وفي الوجه صَباحة، وفي الفم مَلاحة، وفي اللسان ظَرف، وفي القدّ
رَشاقة، وفي البَشَرة وَضاءة، وفي الأخلاق لباقة.
* أخطاء شائعة:
- حججتُ إلى البيت الحرام، والصواب حججتُه؛ لأن الفعل (حجَّ) متعدٍّ
بنفسه.
- أمر خطير (أي ذو خطر) ، والصواب: خَطِر، لأن الخطير ذو القدر
والمنزلة.
- نافوخ، والصواب يَأْفُوخ ويافُوخ.
- مكائد ومعائب، والصواب مكايد ومعايب؛ لأن الياء أصلية من الكيد
والعيب.
- مُنْتَزَه، والصواب: مُتَنَزَّه؛ لأن الفعل تَنَزّه، لا انتزه.
* بدائل عربية:
- بالونة، والبديل: نُفَّاخة.
- مايكرفون، والبديل: لاقطة.
- البترول، والبديل: النِّفْط.
- المايونيز، والبديل: البَيْضِيَّة.
- اللون البيج، والبديل: الجَوْزي، نسبة إلى الجوز.
* أمثال:
- نواصي الخيل: للعز والرفعة.
- شمس العصر: لما قرب انقضاؤه.
- حاطب ليل: لمن يُكثر ولا يدقق ويحقق.
- سفينة نوح: لسبب السلامة، وللشيء الجامع.
- فرسا رِهان: للمتماثلين.
* اشتقاق صفة الشيء من اسمه:
ويكون ذلك للمبالغة، نحو: ظل ظليل، وجُهْد جاهد (كبير) ، وساعة
سَوْعاء (أليمة) ، وليلة ليلاء، وحِرْز حَرِيْز (حصين) ، ووَيْل وائل (شديد) ،
وشُغْل شاغل.
* قاعدة المستثنى:
لإعراب المستثنى أحكام كثيرة ومتشعبة، يمكن اختصار أغلبها وأشيعها،
لغير المتخصص ليصح نطقه في هذه القاعدة الموجزة، فأسلوب الاستثناء:
- إما أن يذكر فيه المستثنى منه فتنصب المستثنى، نحو: وافقت عليه الدولُ
[المستثنى منه] إلا دولةً [المستثنى] أو دولتين أو ثلاثاً، ونحو: لم توافق عليه
الدولُ إلا دولةً إلا دولتين أو ثلاثاً.
- وإما ألا يذكر فيه المستثنى منه فتعرب المستثنى بحسب ما قبل (إلا) ،
وذلك بأن تلغي (إلا) والنافي قبلها، نحو: لم يُوافق عليه إلا دولةٌ [فاعل يوافق]
أو دولتان، ونحو: ما أكرمتُ إلا محمداً [مفعول به لأكرم] ، ما وافقت الدولُ إلا
خوفاً [مفعول لأجله] ، ونحو: ما جاء محمد إلا باسماً [حال] .
* تنبيه:
نشكر الإخوة الأدباء واللغويين على حرصهم وتجاوبهم، ونأمل أن يراعي
المشاركون ما يأتي:
1- أن تكون المشاركة بالعربية الفصحى.
2- ألا تزيد القصيدة على 20 - 25 بيتاً.
3- ألا تزيد القصة على صفحة ونصف صفحة.
4- ذكر اسم صاحب المشاركة، وعنوانه، وهاتفه.
5- تنوع المشاركات ما بين قصيدة، وقصة، ومقامة، ومقالة، ومسرحية،
ودراسة، ونقد.(185/34)
البيان الأدبي
خطوة للقضاء على (الدكاترة)
د. أم. ع؟
سليمان بن عبد العزيز العيوني
ما زال الغُيُر من أبناء الأمة يدعون إلى تنقية اللغة العربية من أدران العجمة،
وكلام السلف الصالح في ذم الرطانة بالأعجمية، أو خلط العربية بالأعجمية
مشهور مذكور.
ويشتد النكير إذا كانت تلك الكلمات الأعجمية ذات أصول دينية، كلفظة
(دكتور) ، التي وإن كانت أصولها تضرب في الإغريقية أو اللاتينية أطلقها اليهود
على العالم بشريعتهم، وأطلقها النصارى على مفسِّر كتبهم المقدسة.
ويشتد النكير أكثر إذا ولغت هذه الألفاظ الأعجمية في منابع العلم، ورتعت
في معاقله، وصارت ألقاباً لدرجاته، وشعاراً على صدور أهله.
ويشتد النكير أكثر وأكثر إذا أطلقت هذه الألفاظ الأعجمية على تلك الألقاب
والدرجات رسمياً، وأقرتها أعلى المجالس المختصة، ووافق عليها المسؤولون.
ومن تلك الألفاظ التي ينطبق عليها ما سبق لفظة (دكتوراه) ، ويسمى
صاحبها بـ (دكتور) ، ونحوها أختها (ماجستير) ، ولا أعرف بِمَ يسمى صاحبها
من اسمها، اللتان استشرى البلاء بهما في طول العالم الإسلامي وعرضه إلا ما شاء
الله.
وقد قامت جهود مشكورة لإيجاد بديل مناسب لهاتين اللفظتين الأعجميتين،
من أفراد وجهات عدة، ليس المقال لذكرها، ولكنها جهود مذكورة مشكورة،
ومأجورة بإذن الله.
ومن هذه البدائل (العَالمِيَّة) عن (الماجستير) ، و (العَالمِيَّة العالية) عن
(الدكتوراه) ، ولا يَقُلْ أحد إن هاتين اللفظتين منتشرتان جداً، ويصعب اقتلاعهما؛
لأن انتشارهما «في الحقيقة لا يعدو أن يكون كالوَعْكة والصُّداع العارض ما يلبث
أن يزول، ما دام أن ثَمَّةَ جهداً متواصلاً ونَزْعَةً متينة للتعريب» [1] .
وأقر بأن انتشار مثل هذه الألفاظ ليس المرض، ولكنه من أعراض المرض
الأكبر، وهو التخلف الحضاري الذي تتمرغ فيه الأمة الإسلامية، وأن هذه الألفاظ
نتاج دول وحضارات تقدمت علينا في الصناعات والعلوم المادية، وأنها نشرت مع
صناعاتها وعلومها لغتها ومصطلحاتها، ولكن كل ذلك لا يعني ترك علاج ما
نستطيع علاجه من أعراض المرض، حتى يأذن الله للمسلمين بالدخول على
المرض في وكره، واقتلاعه من جذوره.
ومن تلك الخطوات الحضارية على الطريق الصحيح، التي انتصرت
للتعريب على التغريب، وتستحق أن تكتب بماء الفخر على جبهة اللغة العربية
اليوم ما أقره مجلس التعليم العالي في المملكة العربية السعودية في جلسته السادسة
في 26/8/1417هـ، المتوج بموافقة رئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس
التعليم العالي في 17/6/1418هـ المتضمن اللائحة الموحدة للدراسات العليا في
الجامعات السعودية التي جاء في المادة الثانية منها ما نصه: «يمنح مجلس
الجامعات الدرجات العلمية الآتية، بناءً على توصية مجلس القسم والكلية وتأييد
مجلس عمادة الدراسات العليا:
1 - الدبلوم.
2 - الماجستير (العالمِيَّة) .
3 - الدكتوراه (العالمِيَّة العالية) » [2] .
وقد أسعدنا هذا القرار، ونأمل أن تتبعه خطوات أخرى أعمق في الإصلاح
اللغوي، وأحب أن أعلق على المادة السابقة منبهاً ومقترحاً:
1 - لم تضع المادة بديلاً للفظة (الدبلوم) ، ومن البدائل المقترحة لها كلمة
(براءة) ، ولا أرى أن نجعل بديلها كلمة (العالية) ؛ لكي لا تلتبس ببديل
(الدكتوراه) .
2 - وضعت المادة اللفظة الأعجمية أولاً، وبعدها البديل العربي بين قوسين،
ولعل هذا من شدة انتشار اللفظتين الأعجميتين، ونرجو أن تكون هذه الخطوة
الأولى، ويتلوها وضع الكلمة العربية أولاً، بعدها الأعجمية بين قوسين، ويتلوهما
الاكتفاء بالكلمة العربية، والاستغناء عن اللفظة الأعجمية، والتعجيل بهذا سيخدم
الأمر الآتي.
3 - مضى على القرار أكثر من خمس سنوات، وبدأت البدائل العربية تشقُّ
طريقها بقوة إلى الرسائل الجامعية، والمراسلات العلمية، وشيء قليل من الكتابات
الصحفية، والمأمول من وزارة التعليم العالي أن تطالب الجامعات باستعمال
المصطلحات العربية، والحرص عليها تمهيداً للاكتفاء بها، ولو تدريجياً، بأن
يكتب المصطلحان أحدهما بين قوسين، ويفضل كون المحبوس بين قوسين
الأعجمي لا العربي.
كما نأمل من جميع الجامعات السعودية بأساتذتها الكرام أن تعتز بهذا الإنجاز
الكبير، وأن تحرص على تطبيقه واستعماله، وأن تدعم التعريب، وتشجعه،
وتدعو إلى المزيد منه.
4 - نأمل أن تكون هذه الخطوة بداية تنسيق أوسع وأشمل بقنواته الخاصة
بين جامعات العالم العربي كله، للاتفاق على بدائل ومصطلحات متفق عليها لنرى
حينها العربي يحمل علمه بلقب عربي لا أعجمي.
5 - وضعت المادة أسماء عربية للدرجات العلمية (العالمِيَّة، والعالمِيَّة
العالية) ، ولم تضع منها ألقاباً تطلق على الحاصلين عليها، وهو أمر لا غنى
عنه؛ فالوصف اللغوي حينئذ سيكون: (صاحب العالمِيَّة أو ذو العالمية) للحاصل
على العالمية (الماجستير) ، واستعماله على كل حال قليل، ولكن الملح لقب
الحاصل على العالمية العالية (الدكتوراه) ، فالوصف اللغوي سيكون صاحب العالمية
العالية، أو ذو العالمية العالية، ويمكن أن يختصر فيقال: ذو العالية؛ لأن من
أسباب نجاح المصطلح كونه قصيراً، وأقترح أن يشتق منه اسم فاعل يكون
مصطلحاً دالاً على صاحبه، فيقال: العالي فلان وجمعه العالون، والعالية فلانة
وجمعه العاليات، وأن يرمز له بحرف العين (ع.) ؛ ليكون بديلاً لحرف الدال
(د.) .
المهم أن يصطلح على أسماء وألقاب عربية تكون بدائل متفقاً عليها عن
الألفاظ الأعجمية، بين الناطقين بالضاد، والله ولي التوفيق.
__________
(1) تغريب الألقاب العلمية، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، وهو من أفضل من تكلم على هذه القضية.
(2) اللائحة الموحدة للدراسات العليا في الجامعات، مجلس التعليم العالي، الطبعة الأولى، 1418هـ، ص6.(185/35)
البيان الأدبي
حوار مع الحداثيين في الصحافة الإسرائيلية
يوسف رشاد [*]
الحداثة ظاهرة فكرية وأدبية وشعرية ابتدعها العلمانيون لتكون نداً لكل ما هو
إسلامي.
والعلمانية حركة لا دينية، والحداثة منبثقة عنها، لذلك تلقفتها الأيدي اليهودية
وتبنتها، واحتضنت كثيراً من دعاتها، وقد شارك عددٌ من العلمانيين عدداً من
المفكرين اليهود في ندوات واجتماعات لتقارب وجهات النظر بين الطرفين، ولكن
انتفاضة الشعب الفلسطيني والصدامات الدموية التي تقع بين الفلسطينيين
والصهاينة اليهود حالت دون الوصول إلى أهداف وغايات كل من الطرفين، ومع
ذلك لا زال اليهود يشاركون في لقاءات مع العلمانيين؛ فقد تجمع في برلين في
شهر نوفمبر من العام الماضي عدد من كبار شعراء العلمانية وهم ما يُطلق عليهم
بالحداثيين مع جمهرة غربية في إطار مهرجان سنوي تقيمه برلين، وقد حضره
بالطبع عدد من الصحفيين الإسرائيليين الذين التقوا مع ثلاثة من كبار الحداثيين،
وقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت في عددها الصادر يوم 15/11/2002م هذا
الحوار الذي دار بين مراسلها وهؤلاء الثلاثة؛ إذ قال المراسل:
في هذه الأيام ليس من السهل بناء جسور بين الحضارات والثقافات، وفي
الوقت الذي يتحول فيه حلم صدام الحضارات بين الغرب والشرق إلى واقع دموي
مرعب ومخيف تجمّع في برلين عدد من كبار الشعراء العرب المعاصرين ينشدون
أشعارهم على مدار يومين، وقد حضر عشرات من الشعراء العرب من العراق،
ولبنان، ومصر، وسوريا، وفلسطين.. وفي الواقع الحالي، فإنه حتى المعتدلين
من الشعراء العرب الذين شاركوا في لقاءات مع الإسرائيليين يجدون صعوبة في
الموافقة على إجراء مقابلات صحفية مع صحيفة إسرائيلية؛ بيدَ أنني دُعيت مع
بعض الصحفيين الإسرائيليين إلى لقاء مع ثلاثة من الشعراء العرب وهم:
الفلسطيني (محمود درويش) ، والسوري (أدونيس) ، واللبناني (عباس
بيضون) .
وقد سعى الثلاثة إلى توجيه رسالة واضحة تقول: إن المواجهة بين الثقافات
والصراع بين الحضارات يدوران حالياً داخل العالم العربي، وفي أعماقه بين
مؤيدي المدنية والحداثة، وبين مؤيدي الأصولية الإسلامية، إنه صراع دائر فعلاً،
والشعراء يدعون للتفاهم ويطالبون بالنجدة والمساعدة ويصرخون قائلين: «حتى
لو لم يساعدنا الغرب فإننا سننتصر» (أي على الإسلاميين) .
* نداء من أدونيس إلى الضمير اليهودي:
ولد في عام 1930م في سوريا من أبوين نُصَيْرِيَّيْن، ويُقيم منذ عدة أعوام في
فرنسا من أهم الشعراء العرب (من وجهة النظر اليهودية) ، وأحد كبار المبدعين
المحرضين والمستفزين بالمجتمع العربي، ولقد اتخذ مواقف واضحة بعد توقيع
اتفاقية أوسلو تؤيد التطبيع مع (إسرائيل) والآن يسعى إلى توجيه نداء مباشر إلى
ضمائر المفكرين والأدباء اليهود، ويروي «أدونيس» قائلاً: لقد مورس النشاط
الثقافي من أجل السلام بين العرب واليهود خارج (إسرائيل) بصفة خاصة.
إن هناك يهوداً في أنحاء متفرقة من العالم يبدون تضامناً قوياً مع الشعب
الإسرائيلي ويعارضون السياسة الإسرائيلية، وهذا أمر ينبغي الترحيب به.
لكني أريد أن أقول شيئاً ما ولأول مرة بشكل علني: لقد كنت أسأل محدثيّ
في المناقشات والحوارات التي تجري مع المثقفين اليهود التي كنت أشارك فيها:
لماذا تدافعون عن حقوق الإنسان في كل مكان بالعالم من خلال الإعلانات والنداءات
والتصريحات والمظاهرات وبمختلف النشاطات في حين أنكم لم تصدروا حتى اليوم
أي إعلان أو تصريح عام بشأن حقوق الإنسان الفلسطيني؟ .. إنني أريد أن أنتهز
هذه المناسبة لكي أتوجه إليكم مرة أخرى بهذا النداء: «أصدروا تصريحاً أو بياناً
باسم المثقفين اليهود عن حقوق الفلسطينيين لا من أجل الفلسطينيين فقط، ولكن
لمصلحة الضمير اليهودي أيضاً» .
ويضيف «أدونيس» : «إن أوروبا والعرب يحتاج كل منهما للآخر،
والآن أكثر من أية فترة أخرى، ويؤكد: إن هناك في الشرق الأوسط ثقافة عربية
ليست ثقافة إسلامية، والغرب يريد التحدث فقط مع الإسلام» الأصولي «وعلى
الرغم من أن التفسير الأصولي للنصوص المقدسة يحظى بتأييد شعبي واسع فإن
نقطة ضعفه تتمثل في الصلة والعلاقة بين هذا التفسير وبين القرآن. إن الإسلام لا
يمت بآية صلة للديمقراطية، وكل أنظمة الحكم الإسلامية لم تكن ديمقراطية،
والرعايا غير المسلمين لم يكونوا أصحاب نفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون،
ومن ثم فإن أي نظام ديني إسلامي يتعارض من أساسه مع الديمقراطية بمفهومها
الغربي.. إن الديمقراطية في العالم العربي لن تتحقق إلا إذا كان هناك فصل كامل
بين الدين والدولة. وفي النهاية فقد دار في الغرب أيضاً صراع حول هذه القضية» .
ويرى أدونيس أن الصراع ضد الأصولية صراع طويل، ويقول: «إنه من
غير السهل التغلب على هذه الظاهرة، ذلك أنها تعتمد على تقاليد عتيقة وهي تتسلل
وتتسرب إلى الحياة اليومية وإلى الحياة الأسرية، ولكل المؤسسات، وهناك أيضاً
ارتباط بينها وبين المؤسسات السياسية. نحن نطالب أوروبا بعدم تأييدها أو تدعيم
التيار الإسلامي.. نطالبهم بأن يدعمونا ويؤيدونا نحن المثقفين العرب، ولكننا
سننجح حتى بدون مساعدتهم في التغلب على التيار الإسلامي» !!
ويحاول عباس بيضون المولود في جنوب لبنان والمحرر الكبير في الصحيفة
اليسارية البيروتية «السفير» هو الآخر التفرقة بشكل واضح بين الثقافة العربية
والثقافة الإسلامية، ويقول: «إن الحديث يجري اليوم عن الثقافة العربية كما لو
كانت ثقافة إسلامية، ويتم تماماً تجاهل التقاليد الثقافية الحديثة الطويلة والضخمة
الموجودة في العالم العربي في الأدب والصحافة والجامعات الأكاديمية وهي الثقافة
القريبة جداً من الثقافة الغربية لا الثقافة الإسلامية.
إن الأدب العربي الحديث يرضع ويستمد جذوره من الثقافة الغربية [1] .
وهناك حالياً صراع بين هذه الثقافة وبين الثقافة الإسلامية. وهدف هذا الصراع
وهذا الكفاح هو محاولة منع الثقافة الإسلامية من احتلال مكان الصدارة والريادة،
بيد أن الثقافة الحقيقية الفاعلة والمؤثرة هي الثقافة الحديثة التي ترتبط بكثير من
الأمور المشتركة مع الثقافة الغربية، وهي في حالة كفاح وصراع حالياً.
ويضيف بيضون: إن الدين مدفوع ويتحرك بقوة كلمة الله سبحانه وتعالى لا
من قوة كلمة الفرد، الإنسان. ودائماً ما يقال: إن عدم الديمقراطية هو مرض
الإسلام، وأنا أقول (أي بيضون) : إن هذا المرض قائم في كل الأديان، إن
الديمقراطية اختراع غربي، لكنه اختراع هش. وحتى في الدول الغربية فإنها لم
تنجح دائماً في الخروج إلى حيّز التنفيذ. لقد كانت هناك في أماكن مختلفة من العالم
أنظمة حكم ديمقراطية فككتها وحلتها أنظمة حكم ديكتاتورية وشمولية؛ إلا أن الكفاح
من أجل الديمقراطية ضد الإسلام قد بدأ.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية تريد بعد صدمة عمليات الحادي عشر من سبتمبر
التي رجّت الولايات المتحدة إحداث تغيير سياسي جوهري في الشرق الأوسط،
وزعزعة وتقويض أنظمة الحكم القائمة حالياً التي رعت وتبنت الأصولية الإسلامية
واحتضنتها، واستبدالها بأنظمة حكم ديمقراطية وبالقوة أيضاً.
وأول الأهداف الجديدة هو العراق.
إنه نظام يقوّي وضعه ومكانته عن طريق افتعال مواجهات وصدامات مع
الدول المجاورة، لكن التساؤل الحقيقي في هذا الصدد هو: بأي حق تسمح الولايات
المتحدة لنفسها بالعمل على إسقاط هذا النظام؟ لقد ظل الأمريكيون يعملون حتى
اليوم على تقوية الأنظمة الديكتاتورية بالشرق الأوسط، ولا يؤيدون أية قوة
ديمقراطية بالعالم العربي. لقد ساعدوا صدام في حربه ضد إيران، إن حرب
الخليج الأولى لم تجر تحت شعار الديمقراطية.
وسُئل الشعراء العرب: ألا زال هناك حوار قائم بين الأدباء العرب
و (الإسرائيليين) أم أن عامي الانتفاضة وقمعها مَحَوا كل ذكرى للمبادرات
العديدة الداعية لحوار إبداعي بين المثقفين من جانبي المواجهة الشرق
أوسطية؟
وعلى هذا السؤال أجاب محمود درويش الشاعر الوطني الفلسطيني من وجهة
النظر الإسرائيلية الذي اشترك في الثمانينيات ومطلع التسعينيات أثناء منفاه في
باريس في لقاءات مع أدباء (إسرائيليين) من اليسار.
يقول درويش:» مستحيل أن نقول إن هناك حواراً جاداً وعميقاً ومستمراً
بين مبدعين ومثقفين فلسطينيين و (إسرائيليين) ذلك أن هذا الحوار ومنذ بدايته لم
يكن حواراً مُرْضياً ومتكافئاً، ذلك أن هناك عدم توازن وخللاً، ومن المحزن جداً
أنه لا توجد حركة سلام بين المثقفين (الإسرائيليين) .
وعلى الرغم من أشعاره العنيفة واللاذعة فإن محمود درويش يرفض لقب
«شاعر المقاومة» ويقول: إنني لم أنجح حتى الآن في العثور على تعريف
لمصطلح شعر المقاومة، لقد اخترع هذا التعبير الأدباء والنقاد العرب، وأطلقوه
على الشعراء الذين يقيمون في (إسرائيل) .
إن الشعراء الذين يعيشون في حالة قمع واحتلال يُعبرون عن احتجاجهم، لكن
موضوع الشعر سواء كان مقاومة أو احتجاجاً لا يهمني. تهمني فقط الجوانب
الجمالية والأخلاقية.
وفي الشعر لا يوجد طرفان غير متوازنين؛ إننا نعيش في عصر العولمة،
ولا يمكننا حماية أنفسنا منها، إلا أن الشعر دائماً ما كان يحمل في طياته بذور
العولمة؛ ذلك أنه لا يقتصر على منطقة واحدة؛ إنه مفتوح ومتاح للجميع دونما
حدود ثقافية تحده، والشعر دائماً ما يعرض قضية واحدة ووحيدة وهي قضية
الجوهر، ومفهوم الوجود، ومن ثمَّ فليست لديّ أية مشكلة في فهم مشاعر غير
العربي!! انتهى الحوار.
هؤلاء هم شعراء الحداثة الذين لا همّ لهم إلا إزاحة التيار الإسلامي عن
طريقهم بزعم أنه يسحب البساط من تحت أقدامهم كما قال «فؤاد زكريا» ؛
فشعرهم وأدبهم مستمد من الثقافة الغربية التي هي قبلتهم التي يولون وجوههم قِبَلَها،
ودعوتهم التي يوجهون الشباب المنبهر بالثقافة والحضارة الغربية، وهم في ذلك
يقتدون بإمامهم وشيخهم «طه حسين» صاحب كتاب: (مستقبل الثقافة في مصر)
الذي دعا فيه إلى أن تكون ثقافة مصر في المستقبل ثقافة أوروبية خالصة، وأن
يكون اتجاه مصر في الحياة كلها اتجاهاً أوروبياً خالصاً.
من أجل هذا يتبنى اليهود أفكار وآراء مثل هذه الدعوات، ويحتضنون
أصحابها، وتقام لهم الندوات والأمسيات الشعرية بزعم تقارب وجهات النظر بين
الطرفين، وأن هذه الفئة من المثقفين العرب هي الفئة المستنيرة التي ينبغي على
اليهود والغرب أن يمدوا لهم يد العون، ويساعدوهم على نشر أفكارهم وثقافتهم
الهدامة طالما أنها ضد ما يسمى بالتيار الإسلامي.
__________
(*) باحث وكاتب إسلامي.
(1) وهذا افتراء وافتئات على الأدب العربي، إلى جانب أن عباس البيضون تلميذ نجيب لطه حسين، ويردد كلامه كالببغاء، ودليل ذلك قول طه حسين (نقد النثر) : (ولعلنا نكون قد أوضحنا في هذا البحث بما فيه الكفاية أنه كان في جميع أطواره - أي البيان العربي - وثيق الصلة بالفلسفة اليونانية أولا؛ وبالبيان اليوناني أخيرا، وإذن لا يكون أرسطو المعلم الأول للمسلمين في الفلسفة وحدها؛ ولكنه إلى جانب ذلك معلمهم الأول في علم البيان) وهذا رأيه الذي تتبناه طيلة حياته وتبعه تلامذته ومنهم عباس بيضون.(185/36)
البيان الأدبي
هل يمكنك أن تصبح شاعراً
مروان كجك
الذين يتردد في دواخلهم ومخيلاتهم الرغبة في قول الشعر، فيدفعهم ذلك ولو
في خلوة مع أنفسهم إلى قول ما يظنونه شعراً أو ما يشبه الشعر، هؤلاء قد يملك
كثير منهم موهبة مخبوءة أو مطمورة، تظهر وتقوى إذا ما أتيح لها جو مناسب
وظرف موائم، واخترقت ما توالى عليها من ركام، ونفضت ما علاها من غبار،
وقيَّض الله لها مشجعاً ناصحاً لا لاعباً لاهياً هازلاً، ولا متسلياً ساخراً؛ وقد يأخذ
أصحابها طريقهم لقول شعر حقيقي جميل.
والذين يمارسون أحياناً سجع الكلام هم أيضاً قد يحملون بين جوانحهم روحاً
شاعرية تتوارى خلف ظروف لو تغيرت لأتاحت لهم أن يبتدئوا طريقاً حقيقية في
ممارسة الشعر والارتقاء فيه صُعُداً، أو التعثر والبقاء في حدود الخطوات الأولى
إن لم يجدوا من يأخذ بأيديهم، وينمي موهبتهم، ويصقل تجربتهم.
إن كثيراً ممن يسمَّوْن بالشعراء العاميين أو الشعبيين من زجَّالين ونبَّاطين
وغيرهم يملكون استعداداً لقول الشعر العربي الفصيح إن هم تعلموا العَروض
وتشبعوا من قراءة الشعر العربي الموزون الملتزم بقواعد الشعر وفنونه، وتطلعوا
إلى الارتقاء في سلم الأدب الرفيع.
مما تقدم ندرك أَنَّ مَنْ مَنَحَهُ الله موهبة الاستعداد لقول الشعر يمكنه ذلك إن
تحققت له الأسباب التي تدربه وتشجعه وتصقل موهبته.
وهكذا ندرك أنه لا بد لمن يريد قول الشعر من توافر شرطين أساسين، هما:
أ - الموهبة والاستعداد الفطري.
ب - الرغبة والاندفاع.
أما الخطوات الأولى لقول الشعر فتتمثل في الآتي:
1 - اختيار بيت من الشعر لأحد الشعراء، ثم القيام بحفظه والترنم به.
2 - تقطيع هذا البيت من الشعر، ومعرفة تفعيلاته وبحره.
3 - محاولة كتابة بيت شعر من عندك على وزن البيت السابق.
4 - تقطيع البيت الجديد، وكتابة تفعيلاته.
5 - تكرار المحاولة مع أبيات أخرى، وفي مناسبات عديدة.
6 - محاولة كتابة عدة أبيات على وزن واحد.
7 - التزام القواعد المتعلقة بالروي والقافية، والاستفادة من جوازات التغيير في
التفعيلات أو الضرورات المقبولة إن دعت الحاجة إلى ذلك.
8 - أعد قراءة ما كتبتَ من شعر عدة مرات، وحاول معرفة ما يُحتمل وجوده من
الخلل وحاول إصلاحه بنفسك.
9 - اعرض الأبيات التي كتبتها على مختص في اللغة العربية ممن له إلمام
ومعرفة بالأوزان الشعرية ليرشدك وينصحك، وإياك أن تقرأ أبياتك لمن يكثر الهزء
والمزاح من زملائك أو أصحابك؛ فإنه إما أن يهزأ بك ويجعل منك أضحوكة
فيثبطك، أو يغشك فيحول بينك وبين الصواب [*] .
__________
(*) من كتاب (كيف تصبح شاعرا؟) تحت الطبع.(185/38)
البيان الأدبي
أمتي.. سامحيني
سيف العتيبي
براكين ثائرة في الصدور.. دموع كالحمم تحرق الوجنات.. ومرارة غصّت
بها الحلوق.. وبسمة اختفت وتلاشت.. بل توارت خجلاً.. فلم يعد لها مكان..
وإن ارتسمت على الشفاه.. فهي بسمة مزيفة.. لا تدل على مكنون النفس.. فكيف
يهنأ موجع؟ وكيف يسلو مفجوع؟ وكيف لعين جريح أن تعرف معنى الهجوع؟
أينما نظرت لا تجد إلا جراحاً نازفة.. أشلاء متناثرة.. براءة طفولة مغتالة..
كرامة شيوخ مذلة.. وأعراض حرائر منتهكة..
شربت يا أمتي كأساً من الذلِّ والهوان.. تجرعت من كؤوس المرارة أصنافاً
وألواناً.. فنصرناك بمظاهرات مشت.. وأعلام أحرقت.. وهتافات علت.. وما
لبثت تلك الجموع أن تفرقت.. وذلك الهتاف أن خفت..
آلمني وأحرق وجداني.. وزلل فكري وكل كياني.. سؤالك: من الجاني؟
من بالذلّ رماني؟ قلي بربك ما دهاني؟
أي بني!
تربص بي الأعداء منذ بزوغ فجري.. وحشدت الحشود لوأدي.. فلم يفتّ
ذلك في عضدي.. ولم يضعف من مكانتي وقدري..
نصرني الله وأعزني بأبناء مولاهم الله.. وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم
.. وبيتهم المسجد.. ومذكرتهم القرآن.. وزادهم التقوى.. ولباسهم الزهد..
ومركبهم اليقين.. وطريقهم الهدى..
قل لي بربك أين هم؟
أواه يا أمتي.. لم أكن لأتخيل يوماً أنني على مجدك قد جنيت.. وعلى أملك
قد قضيت.. لم أكن لأصدق يوماً أنني كنت سبباً في ذلك وهوانك.. لم أكن لأفكر
يوماً بأنني بطعنة في القلب قابلت إحسانك.. قضيت حياتي كلها في الإسقاطات..
وكالببغاء أردد الشعارات.. رميت القادة العرب بتهمة التخاذل.. ونسيت أنني أول
من تخاذل.. أطلقت الصفر على الألف مليون.. ونسيت أنني أول أصفارها.. نعم
أصبحت صفراً عندما تناسيت أنني جزء منك إن صلحت رفعت من قدرك.. وإن
فسدت كنت عدداً زائداً عليك.. لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. ولا
يعز من ابتغى العزة بغير الله.. وعدنا الله بالنصر إن نحن نصرناه.. وكيف
ينصره من عصاه؟ وبعد عن هداه.. واتخذ إلهه هواه.. ينبغي أن نعترف صراحة
بأننا السبب في ذُلِّك وهوانك.. ينبغي لنا أن نبدأ من اليوم بترميم بنائك.. ينبغي لنا
أن نعي أننا في بنائك لبنات.. فلنغير من أنفسنا لنزيد بناءك قوة وثباتاً.. حتى
تعود لك عزتك.. وتعودي لسابق مجدك ورفعتك..
فهيّا أخي.. وهيّا أخيتي.. لنصنع فجراً جديداً لمجد أمتنا.. ونسأل الله العون
لنا في مسيرتنا.. وليكن شعارنا «إصلاح النفس أولاً» وليكن شعارنا «حتى لا
تكون كلاًّ» وليكن شعارنا «حتى لا تكون صفراً» وليكن شعارنا «فلتكن الرجل
الألف» «ولتكوني المرأة الألف» .(185/38)
نص شعري
من أناشيد الإباء
عبد الله عويس محمد
abdullahewis@hotmail.com
اقطعوا مني الوريدج ... أبتغي موت الشهيد
اصلبوني.. مزقوني ... كبّلوني بالحديد
كفنوني في ثيابي ... في دمائي تلك.. هيّا
واجمعوا أشلاء جسمي ... وادفنوها في الثريا
إنما أهوى حياتي ... حينما نحيا رجال
وأرى رايات قومي ... راسخاتٍ كالجبال
يا أسود الله هيا ... فغداً يومُ النزال
فيه بالتكبير يشدو ... فوق أقصانا بلال
ليس في الإمكان إلا ... أن أضحي بالدماء
فأنا مذ كنت طفلاً ... كان من طبعي الإباء
كان لا يُسمع صوتي ... في أنين، أو بكاء
رغم أني كنت أحبو ... كان أنفي في السماء(185/39)
نص شعري
سباعيات
الشِّعر والشَّعير
د. محمد ظافر الشهري
alshahri_m@yahoo.com
...
عند أولى العلم والرشادِ ... لا يستوي الخلدُ والسعيرُ
وعند لُقياكَ للأعادي ... لا تستوي الخيل والحميرُ
وعند داعٍ إلى الجهاد ... لا يستوي الندب والنفيرُ
وعند نومي على الوساد ... لا يستوي الليف والحريرُ
وعند مَن أُفرِدوا بِضادِ ... لم يستوِ الشِّعر والشَّعيرُ
فالشعر يشكو من الكساد ... والخبزُ طُلاّبُه كثيرُ
مَطالِعُ اليومِ: ليتَ زادي! ... هل أيسَرَ الشاعرُ الفقيرُ!
الغش «بالدش»
أخي يا صاحب «الدشِّ» ... أراك إلى الردى تمشي
وتضرم ضاحكاً ناراً ... على بيت من القش
وأنت كطائر يأوي ... بثعبان إلى العش
أترضى منزلاً يُبنى ... على الإجرام والفحش
ألا تخشى بأن ينهار ... فوق أساسه الهش
أخي إن أنت لم تخرجه ... قبل مسيرة النعش
ستلقى الله غشاشاً ... وبئس عقوبة الغش(185/39)
نص شعري
لا تقل
محمد بن عائض القرني
مع التحية إلى الشاعر (الدكتور) عبد الرحمن العشماوي وفقه الله.
صدى قصيدته العصماء: (بيان من أشلاء طفل) .
لا تقل: عملاقنا اليوم تقزم ... لا تقل: أحلامنا البيضاء تُهدم
لا تقل: متنا فما مات فتى ... وهب النفس لباريها وأقدم
وإذا الدبابة الرعناء ألقت ... حِمم الحقد ولم تعطف وترحم
وإذا ما شهب الغدر هوت ... لم تدع ثكلى ولم تحفل بمأتم!
وإذا ما صفَّق الأوغاد فخراً ... وانتشى (بوش) وحياهم وتمم!
لم يرعه القتل والتدمير بل ... أيَّد الباغي وللبغي تفهَّم!
لا تلم حامية الطغيان والبطش ... فما يرجى من الثعبان بلسم!
لا تلم من دمر المسجد والمشفى ... وأفنى عُزْلَ (بغرام) وهدم!
هكذا كانوا وقد صاروا ولن ... يصبح السفاح كالشيخ المعمم!
* * *
لا تقل: عملاقنا الشهم تقزم ... ما عهدت اليأس في حرفك تمتم
لا تقل: آهٍ إذا العمر تصرَّم ... سيكون الزمن القادم أكرم
وانظر البرعم يفدي الأرض في ... عنفوان كفتى القدس الملثم
ذلك البركان يغلي ويل من ... عارض البركان يوما إن تجهَّم
لا تقل: مات بنو الإسلام إني ... لأرى في الأفق صبحاً يتبسم!
وأرى الطغيان قد أرخى على الدنيا ... رداء الظلم فضفاضاًَ وأجرم
من هنا ينبلج الفجر وينساب ... على الأرجاء لحن يترنم
ويسير الموكب الأسمى إلي نصر ... وتمكين من الله ومغنم
ديننا حق ووعد الله حق ... ولنا في القدس آيات ومعْلَم
* * *
لا تقل: عملاقنا الغالي تقزم ... هو في الأحداث كالطود وأعظم
لا تقل: عملاقنا خاف وأحجم ... ما يهاب الموت يوم الروع ضيغم
عاتب المذياع والرائي وما ... كان معلوماً ودع ما ليس يُعلم
عاتب الطوق الذي من هوله ... شرف الإقدام في قومي تحطم
يا صديقي نضب النهر ولن ... ترد الينبوع والوادي محرَّم
يا صديقي راقب الفجر الذي ... يفلق الليل وإن طال وأظلم
إنه النور الإلهي انجلت ... شمسه الكبرى على أكناف زمزم
إنه الحق وعتهُ أمة ... خلقت للنصر لم تخلق لتهزم!(185/40)
قصة قصيرة
وللحقيقة وجه واحد
محمد علي البدوي
افترشه المرض، أقعده، هدّه، عضّ عليه بنواجذه القوية، أنشب فيه أظفاره
القاتلة، موجة من الاصفرار كست ملامح وجهه الذي تغضَّن تحت وطأة المرض،
هالة سوداء أخذت تزحف على عينيه الغائرتين في صمت موحش، تهدّل عنقه،
برزت تضاريس جسمه الناحل، حتى خصلات شعره الموغلة في البياض نفرت
منه بفعل الكيماوي..
- للأسف.. لم يعد لك أمل في النجاة!!
- أبداً.. أبداً.. يا (دكتور) ؟! قالها بصوت متحشرج ذليل مشوب بالحزن.
- الأمل في الله وحده.. فهو القادر على كل شيء.
(الله) .... ولسعته الكلمة.. أفاق من سكرته تواً.. (الله) أخذ يرددها في
نشوة عارمة.. الآن.. بدت له الشمس ناصعة في كبد السماء.. انتفض بشدة،
سرت في جسده رعشة لم يستطع السيطرة عليها.. أخذ يهذي:
- ماذا سأقول له؟ وبأي جواب سأجيبه الآن؟
تصبب عرقه كثيراً وهو يسترجع تلك الليالي السوداء والدعوات الشيطانية
التي كان يروجها في قصصه ورواياته، تلك الحداثة المزعومة وكيف تولى كبرها
وحارب في سبيلها.. ماذا بقي منها الآن؟ وماذا ستفيده اليوم؟ .. المال.. الشهرة
.. الأضواء.. كل ذلك سيذهب.. وسيرحل إلى عالم الآخرة.. وحيداً من كل شيء
إلا من عمله.. إلا من صفحاته السوداء الموحلة.. قطَّب مفكراً.. زمّ شفتيه في
حسرة وعاد يهذي:
- الموت.. القبر.. الجنة.. النار.. مفردات قادمة لا تقبل الاختزال.
قام يمشي مترنحاً بخطوات متثاقلة، اتخذ لنفسه مكاناً قصياً، وأخذ يتكور
على نفسه في أسى.. وينتحب كثيراً.. كثيراً جداً.. في صباح اليوم التالي غرفة
الإنعاش تعج بحركة غريبة وحزن موجع يلف الجميع لقد توفي الأديب الكبير بعد
صراع طويل مع المرض بينما ظلت ورقة صغيرة مهملة تحت غطائه لم يعرها أحد
اهتمامه كان قد خطها البارحة بيديه وفيها: توبة واعتذار إلى مقام الجبار.(185/41)
خبر عاجل
- فلسطين 2001.
- القدس الشرقية.
في طريقه إلى الموت كانت الأفكار تنداح في ذاكرته، تجوس في داخله،
تعبث به.
- الموت قاب قوسين أو أدنى.
قال ذلك وهو يتحسس حزام المتفجرات الذي يتمنطق به، ويعيد تثبيته حول
خاصرته بإحكام.. الجرافات تلتهم البيوت في نهم، وزخات الرصاص المجنون
تنهمر في غزارة، تقتل، تصيب، تحرق الأجساد الغضة، تستقر في بطون
الحوامل، تزهق الأجنة القادمة ... والعالم صامت!!
الصور القاتمة كانت حاضرة في نفسه وهو يأخذ مكانه في الحافلة، وينتبذ
لنفسه ركناً قصياً منها، ويغوص في بحر لا ينضب من الذكريات الموجعة:
- أخي أحرقوه حياً، أبي داسوه تحت أقدامهم القذرة، ابن أختي عذبوه حتى
لفظ أنفاسه الأخيرة ... والعالم صامت!!
كانت الحافلة مكتظة بالركاب، الأجساد متلا صقة، والأنفاس متلاحقة،
روائح القردة أخذت تزكم أنفاسه حتى كادت تصيبه بالغثاء، لاذ بالصمت وآوى إلى
نفسه يمضغ الصبر ويجتر مشاهد المأساة:
- (الدرة) قتلوه بدم بارد، والعالم ينظر بعينين اسمنتيتين، والعرب
يبحثون القضية حول موائد الكلام.. رحماك يا رب!
توقفت الحافلة أمام مطعم المدينة، الزحام الشديد يملأ المكان، صراخ
السيارات يختلط بأصوات الباعة، أحسّ بنشوة عارمة تسري في جسده، انتفض،
وقف دفعة واحدة، افترَّ ثغره عن ابتسامة عريضة، أسرع للخروج من الحافلة
وغاب في زحام المدينة.
أدرت مؤشر المذياع، كانت عقارب الساعة تتصافح عند الواحدة ظهراً، خبر
عاجل من الأراضي المحتلة: «عملية استشهادية جديدة تودي بالعشرات من اليهود،
بينهم منفذ العملية» .(185/41)
نص شعري
ما بيني وبين فلسطين
عماد علي قطري
ما بيننا ليست تصاريح الدخول
ونجمة..
... فوق الجباه مُلَمّعَةْ
ما بيننا قصف توالى فوقنا
وأب يموت..
... وطفلة كانت مَعَهْ
ما بيننا حرب وثأر خالد
ليست تصاريح السلام
... وجعجعَةْ
ما بيننا ثأر ينادي أمتي
- في كل صبح -
... كي تقوم وتجمَعَهْ
ما بيننا طفل يموت
وألف طفل قادم
... فيهم صلاح ومن مَعَهْ
ما بيننا حجر ينادي مؤمناً
خلفي يهودي
... خبيث فاصرعهْ
ما بيننا صبرا وشاتيلا
وقانا.. والدماء
... وشلونا من مَزّعه
ما بيننا يا قاتلاً
شلوٌ ينادي شلوَهُ
... الملقى هناك
... ليجمَعَهْ
ما بيننا قبح الوداع
... ودمعة
... في عين طفل
... مات يوم الموقِعَةْ
مات الصغير..
ولم يكن جُبناً يصيح
وإنما غدراً سلبتم مضجعَهْ
مات الصغير..
تجمدت أطرافه
يوم استبحتم يا كلاب أضلعَهْ
مات الصغير..
وموته عارٌ لكم
سقطت تخاريف السلام
... ومن مَعَهْ
إنا سنأخذ ثأرنا منكم غداً
نقتص منكم
للشهيد بأربَعَةْ(185/42)
نص شعري
وسألتها
محمود العمراني
...
... ... ما بال قلبك شفه الألم ...
... ... ... ... ... وقسا عليه فبات يضطرمُ ...
... ... فأجابني بلسان مكتئب ...
... ... ... ... ... ولكل جرح في حشاه فمُ ...
... ... إني نظرت لحال أمتنا ...
... ... ... ... ... من حولها الأمواج تلتطمُ ...
... ... ورأيتها في الكون حائرة ...
... ... ... ... ... تشكو الجراح وكلها ورم ...
... ... ونظرت فيها وهي واجمة ...
... ... ... ... ... تخفي ملامحَ وجهها الظلم ...
... ... وسألتها: ماذا يُراد بنا ...
... ... ... ... ... ولأي شيء بيعت القيمُ ...
... ... ما بال رايتنا قد انتكست ...
... ... ... ... ... وهي التي باهت بها القممُ ...
... ... ما بالها أضحت وقد سقطت ...
... ... ... ... ... أرضاً فلا نارٌ ولا علمُ ...
... ... ما بال هذا الذل صاحبنا ...
... ... ... ... ... حتى تداعت حولنا الأممُ ...
... ... يبغون إخفاء الضياء ضحى ...
... ... ... ... ... جهراً وما غير الهدى نقموا ...
... ... أما المجاهد فهو مرتكب ...
... ... ... ... ... جرماً وبالإرهاب متَّهمُ ...
... ... وبكل أرض قصة كتبت ...
... ... ... ... ... ومدادها دمع جرى ودمُ ...
... ... وتعددت فينا الجراح فذي ...
... ... ... ... ... كف تطير هنا.. وذي قدمُ ...
... ... هذى الجراح بنا قد اجتمعت ...
... ... ... ... ... فبأي طب سوف تلئتمُ ...
... ... القدس أصبح لا يحركنا ...
... ... ... ... ... فعل اليهود به وما اجترموا ...
... ... ونداء إخوان لنا أُسروا ...
... ... ... ... ... لكن أصاب قلوبنا الصممُ ...
... ... فَهَبِ الأخوة ليس تجمعنا ...
... ... ... ... ... أو ليس تجمع بيننا رحمُ ...
... ... ذهب السؤال فلم يجبه سوى ...
... ... ... ... ... رجع الصدى وتشتت الكلمُ ...
... ... ومضى بأدراج الرياح سدى
... ... ... ... ... حتى اختفى فتكلم القلمُ(185/42)
ندوات
ما دورنا حيال.. حملة الإفك
والحقد الدفين للأصولية النصرانية المتصهينة على الإسلام
ورسوله الأمين؟
مقدمة:
الهجوم الإعلامي على الإسلام ذو جذور قديمة قدم الإسلام، وهو أحد أساليب
الكفار للصد عن سبيل الله تعالى، بدءاً من كفار قريش وحتى عصرنا الحاضر.
هذا الهجوم له ألوان كثيرة، ولكنها في أغلبها كانت محصورة في نطاق
الشبهات والمغالطات والطعون، لكن بعد أحداث 11 سبتمبر انتقل الهجوم إلى لون
جديد قذر لم يُعهد من قبل، وهو التعرض لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم
والنيل من عرضه وذاته، واتسم هذا التهجم بالبذاءة والسخرية والاستهزاء: قال
جيري فالويل [1] : «أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً» ، «في اعتقادي.. المسيح
وضع مثالاً للحب، كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمداً وضع مثالاً عكسياً» ،
«إنه كان لصاً وقاطع طريق» .
وقال بات روبرتسون [2] : «كان مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك
عبثاً من الجنون» .
وقال جيري فاينز [3] : «شاذ يميل للأطفال، ويتملكه الشيطان» .
وقال جيمي سوجارت [4] : «إنه شاذ جنسياً» ، «ضال انحرف عن طريق
الصواب» .
هذا غير تصويره صلى الله عليه وسلم صراحة في الرسوم الكاريكاتورية في
مواقف ساخرة وضيعة [5] .
وهكذا انتقل الهجوم على الإسلام من طرح الشبهات إلى إلقاء القاذورات، ولم
يجد المهاجمون في الإسلام ولا في شخص خاتم الأنبياء ما يرضي رغبتهم في
التشويه، ووجدوا أن الشبهات والطعن الفكري من الأمور التي يسهل تفنيدها
وكشف زيفها أمام قوة الحق في الإسلام، فلجؤوا إلى التشويه الإعلامي، وخاصة
أنهم يملكون نواصيه في الغرب.
هذه القضية تثير غيرة كل مسلم، وتدفعه إلى التساؤل عن أسباب هذه الهجمة،
والأغراض الكامنة وراءها، ومدى تأثيرها، وكيف يواجهها، وبناء على ذلك
قامت البيان بدعوة عدد من المهتمين بالتصدي لهذه الحملة؛ لبيان أبعادها، والإجابة
عن هذا التساؤلات.
* ضيوف الندوة:
- الأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس: رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة -
واشنطن.
- الأستاذ سليمان البطحي: أمين عام اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء
صلى الله عليه وسلم.
- الأستاذ علي جمعة: داعية كندي.
- الشيخ سليمان الحرش: باحث في الدراسات الإسلامية - سوريا.
البيان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم
على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. لعلنا في هذه
الندوة نبدأ في الحديث عن العوامل المرتبطة بظهور هذه الحملة والهجوم على
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الأستاذ الدكتور جعفر: هناك عاملان ولعل الإخوان يضيفون إليهما ما يرونه:
العامل الأول: هو سرعة انتشار الإسلام، والتي تثير غيرة كل المعادين
للدين، سواء أكانوا من النصارى أو اليهود، أو من العلمانيين، وأنبه هنا إلى أن
بعض الدعاة يركزون في تصديهم على اليهود والنصارى فقط، مع أن العلمانيين
والملحدين هم أيضاً أعداء كبار للدين.
الثاني: حسد القيادات وخصوصاً الدينية، وقد وجدت أن كثيراً من هؤلاء
يغيظهم شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى المنافقين عندنا في العالم
الإسلامي، فتوقير المسلمين الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم يثير حسدهم.
ويمكن أن يضاف إلى هذين العاملين عامل الخوف، ولكن ليس الخوف من
انتشار الإسلام في الغرب فقط، بل الخوف من عودة المسلمين في العالم الإسلامي
إلى التمسك بدينهم، وهم الآن يستغلون ضعف المسلمين في كثير من الجوانب،
مثل الجانب الاقتصادي والإعلامي، ويريدون أن يطفئوا هذا النور قبل أن ينتشر
في العالم.
الأستاذ سليمان البطحي: أرى أن هؤلاء يتهجمون على الرسول صلى الله
عليه وسلم لإبراز شخصياتهم من خلال ذلك التهجم، أضف إلى ذلك أحداث 11
سبتمبر، وهي أحد الأسباب الرئيسة التي زادت من هذه الهجمة، وإلا فالهجوم
موجود من قديم، لكن تلك الهجمات في الماضي كانت تظهر في وقت دون آخر،
وكانت تصدر من شخص هنا أو هناك، ويقوم المسلمون بمجابهتها مباشرة، أما
الآن فأصبح الهجوم على الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل عام.
الأستاذ الدكتور جعفر: ويمكن أن نوضح ذلك فنقول إنهم أصلاً أعداء
للإسلام، فلما وجدوا الجو مناسباً، حيث زادت الدعاية ضد المسلمين، وعم السخط
في الغرب منهم؛ استغلوا ذلك، وهم يقولون المشكلة ليست في أسامة بن لادن أو
غيره، وإنما نبيهم هو نفسه إرهابي.
الأستاذ علي جمعة: كذلك هناك عامل التغريب، حيث يريد الغرب أن يجعل
العالم كله تحت هيمنته في الثقافة والفكر والاقتصاد، وفي كل شيء، ويريدون
تغيير أفكار الناس لكي توافق خططهم في مجال العولمة، وخاصة بعد سقوط
الاتحاد السوفييتي، حيث زادت الدعوة إلى التغريب، والتحذير من خطر الإسلام،
ولا يتحقق لهم ذلك إلا بالحد من انتشار الإسلام بمثل هذه الأساليب وغيرها.
الأستاذ الدكتور جعفر: في هذا السياق أيضاً، هناك بعض الناس يقولون إن
أمريكا تحتاج دائماً إلى عدو حتى يجمعها، ربما يكون هذا صحيحاً، لكنهم يرون
الإسلام خطراً، ومن الغرائب أن الذي هوّل لهم خطر الإسلام قدرة الإسلام نفسه
على الوقوف ضد الشيوعية، ومن خلال تجربتهم مع المسلمين رأوا أن المسلمين
كما وقفوا ضد تيار الشيوعية سيقفون ضد حضارتهم الغربية، و (فوكوياما) في
كتابه الشهير (نهاية التاريخ) قال إن كل العالم يسير نحو الديمقراطية الليبرالية
والرأسمالية إلا جماعات من المسلمين، ما زالوا يعتقدون أن عندهم شيئاً أحسن منها،
كل الناس مقتنعون إلا هؤلاء. فالغرب يرى أن هؤلاء خطر على الغرب، وأنهم
ضد الحداثة.. وغير ذلك.
وقد بدأ يتضح للناس أن الحرب ضد الإرهاب هي في الحقيقة حرب ضد
المستمسكين بدينهم، وهم عندما يتحدثون عن المسلمين المعتدلين إنما يقصدون
المسلمين غير المستمسكين بالدين.
هذه الحقيقة واضحة حتى عند عامة المسلمين، عملت بعض الجهات في
بريطانيا استبياناً فسألوا المسلمين عن هذه الحرب، فقالوا: «هذه حملة ضد
الإسلام» ، ولا يمكن أن يقال إن غالبية المسلمين في بريطانيا راديكاليون أو
ثوريون!
البيان: لكن العجيب أن بعض هذه الحملة قد صدر أيضاً من بعض
المنتسبين إلى الإسلام، يعني مثلاً في آخر الأخبار التي سمعناها قبل أيام، هناك
نائبة في البرلمان الهولندي من أصل صومالي اسمها (حرسي علي) تهجمت
على النبي صلى الله عليه وسلم، وتهجمت على القرآن وعلى المسلمين، وفي
الأردن نشرت إحدى المجلات مقالاً ينتقص من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
ومن بيت النبوة! فما تفسير هذه الظاهرة الموجودة في بعض من ينتسبون إلى
الإسلام؟
الشيخ سليمان الحرش: أرى أن مسألة العداء لدى الكفار عموماً شيء
متأصل فيهم؛ لكونهم لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فأمر
طبيعي أن يكون عندهم هذا العداء، لكن الأحداث في الواقع تحرك مثل هذه الكمائن
في نفوسهم، كما أنها كذلك تحرك بعض المنافقين الذين ينامون على مثل ضغائنهم،
عندما يجدون من مثل هؤلاء التهجم على النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول
صلى الله عليه وسلم هو رمز للمسلمين، فكونهم تهجموا على النبي صلى الله عليه
وسلم معناه أنهم تهجموا على الإسلام، وهناك لا شك فئات من هؤلاء قد تكون
مسالمة في الظاهر لكن هي في نفسها قد تضمر مثل هذه الكراهية، وهذا البغض
للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وجدوا أن الجو مناسب أخرجوا ضغائنهم! ولا
شك أن ما نراه في العالم الإسلامي من الصحوة في مختلف بقاع العالم الإسلامي؛
يرونه من العوامل التي تجعل المسلمين قوة في العالم، لذلك يقومون بمثل هذه
الأساليب لإضعافها.
الأستاذ علي جمعة: نقطة مهمة أخرى، وهو أنهم يريدون أن يستخدموا الآن
ضعف المسلمين وقلة العلم المنتشر بينهم لكي يشوشوا على المسلمين بصفة عامة،
وغير المسلمين بصفة خاصة، فيستخدمون بعض المسلمين أو من أصول إسلامية
حتى يثير هذا التشويش، هذه المرأة قالت: «كيف ديننا يأمر بهذا، وكيف نبينا
يفعل هذا؟» ، وتبدأ الشبهات تثور بين المسلمين أنفسهم.
الأستاذ الدكتور جعفر: وفي رأيي أن هؤلاء أناس منافقون، ولهم مصالح
دنيوية، منها أنهم يريدون أن يكون لهم استقرار ومكانة في تلك المجتمعات الغربية،
فيقولون للغرب: نحن معكم، ونحن منكم، ولسنا مع المسلمين. فهذا أحد
الأسباب التي تجعل المنافقين يتهجمون على الإسلام.
البيان: ألا يتبادر إلى الذهن أن الغرب عنده مجال واسع لحرية التعبير عن
الرأي، فكوننا نتعرض لهذه الحملة ونتصدى لها معناه أننا نعترض على مقوم من
مقومات الثقافة الغربية؟
الأستاذ الدكتور جعفر: صحيح، هذه مشكلة بالنسبة لنا، لكن هناك في
الغرب نفسه من يفرقون بين حرية التعبير وبين الكذب على الإنسان أو اتهام إنسان
بالباطل، كما أن القانون هناك لا يسمح بهذا، فنحن نقول بالنسبة للمسلمين سب
الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه سب لكل مسلم، بل أكثر من هذا؛ لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم عند كل مسلم هو أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس
أجمعين، ونحن نفرق بين أن يقول الإنسان رأيه في الإسلام ونستمع إليه ونجادله
بالحكمة والموعظة الحسنة، وبين أن يتطاول على الإسلام ونبيه صلى الله عليه
وسلم بالسب والسخرية، السب ليس تعبيراً عن رأي، والسب يمكن أن يقوله أي
إنسان، ونحن لا نسبّ أحداً من الأنبياء عليهم السلام، ديننا يمنعنا من هذا، فمن
الظلم لنا نحن المسلمين إذن أن يُسب نبينا صلى الله عليه وسلم، ونحن نعد سب
عيسى عليه السلام أيضاً خروجاً عن الدين والإسلام.
الأستاذ سليمان البطحي: إن التهجم لا يدخل في قضية حرية الرأي لأنه تعد
بالأذى على الآخرين، وهذا هو الذي حدث، بل من وقاحة (جيري فالويل) أنه
بعدما آذى النبي صلى الله عليه وسلم في برنامج (60 دقيقة) ، وقام بعض
المسلمين في أمريكا بانتقاده؛ رجع يعتذر عن إساءته في حق مسلمي أمريكا!!
وهذه أيضاً وقاحة أخرى؛ يعني أنت تؤذي الآخرين، وتؤذي أمة تعدادها يفوق
المليار ثم تعتذر لمسلمي أمريكا فقط! فهذا التهجم ليس تعبيراً عن الرأي.
الأستاذ علي جمعة: تعبير الرأي أيضاً لا بد أن يكون فيه مساواة في نشره،
ولو ذهبت إلى أكثر المكتبات الغربية، وأردت أن تأخذ كتاباً عن الإسلام، فإنك لا
ترى كتاباً موجوداً لكاتب مسلم مشهور مثلاً، فلو ذهبنا إلى هؤلاء الذين يوزعون
كتباً ضد الإسلام تجد أنهم يسمح لهم بنشرها وعرضها، وتنشر في المكتبات
المشهورة هناك، وهذا ليس من حرية الرأي.
البيان: هناك بعض المسلمين يقولون إنكم تضخمون هذه القضية، والحملة
على النبي صلى الله عليه وسلم في الآونة الأخيرة ما هي إلا حملة لمجموعة من
الشواذ الذين لا يمثلون حال الإعلام الغربي؛ فهل هذا الكلام صحيح أو أن هناك
شيئاً آخر؟
الأستاذ الدكتور جعفر: أنا أميل إلى أن نفرق، فهنالك منصفون في الغرب
استهجنوا هذا السب والافتراء، وهنالك سياسيون عقلاء يرون أن هذا لا يفيدهم لا
في سياستهم الخارجية ولا في سياستهم الداخلية، حتى لو كان رأيهم مثل رأي
هؤلاء فلا يرون أن من الحكمة أن يقال هذا الكلام، وأما عامة الناس والغالبية
العظمى منهم؛ فلا يعرفون عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا عن الإسلام،
وهذا الافتراء موجه لهم لكي يتأثروا، أما هم أنفسهم فلا أعتقد أن عندهم مواقف من
النبي صلى الله عليه وسلم. فأنا أرى أن الذين قالوا هذا هم شواذ فعلاً، هناك كاتب
يهودي في الواشنطن بوست، رد على القسيس الذي سب النبي صلى الله عليه
وسلم، وقال: «إن هذا بذيء» ، وقال: «أنتم نسيتم التاريخ» ، يذكّر اليهود
بأنه ليس هناك بلد آوت اليهود مثل الإمبراطورية الإسلامية. فأنا أقول دائماً: من
الحكمة والخلق أن نكون منصفين أيضاً، إذا كان هناك أناس يسبون نرد عليهم،
وإذا كان هناك أناس منصفون نكون أيضاً منصفين معهم، وقد يكون هذا من أسباب
هدايتهم إن شاء الله.
الأستاذ سليمان البطحي: لكن المجموعة التي تقوم على هذه الحملة من
الواضح أنها فرقة منظمة، ولها استراتيجية خاصة، وتركز على استخذام وسائل
الإعلام، سواء كان (جيري فالويل) ، أو (فرانكلين جراهام) ، أو (جيمي
سوجارت) ، وهناك كثير من الدراسات تبين أنها تسمى النصارى المتصهينة، وأن
لها أهدافاً محددة، وأتباعها يبلغون 40 مليون نسمة داخل أمريكا، ولذلك أرى أنها
ليست شاذة.
الأستاذ الدكتور جعفر: الهجوم شاذ، والسؤال هو: هل هذا يمثل رأي
الشعب الأمريكي؟ والجواب: أنه لا يمثلهم ولا يمثل حكوماتهم.
الأستاذ سليمان البطحي: خذ مثلاً (بات روبرتسون) ، و (جيري فالويل) ؛
فقد تم تكريمهما عن طريق الحزب الجمهوري لمساهمتهما في دعم الحزب والتيار
اليميني المعارض.
الأستاذ الدكتور جعفر: أنا في رأيي أن هذه المجموعة شاذة؛ لأن العقلاء
هناك من الناحية السياسية يقولون هذا لا يفيدنا بشيء.
الأستاذ سليمان البطحي: نأخذ مثلاً (جيري فاينز) ؛ عندما تهجم على سيد
الخلق صلى الله عليه وسلم في الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية،
وطلب من قادة الكنيسة إدانة ما قاله فرفضوا؛ مما يدل على تبنيهم لهذا التهجم
وإثارتهم لروح التعصب والكراهية حتى بين أبناء الشعب الأمريكي.
نعم؛ نحن ينبغي أن نكون منصفين، وهناك فرق أكيد، وهناك ناس تكلمت
وانتقدت، وهذا شيء طيب، لكن هذا التهجم أصبح اليوم هدفاً داخل أمريكا، على
سبيل المثال في فلوريدا في اللافتة التي يكتب عليها مواعيد الصلاة في الكنيسة
كتبت العبارة الآتية: (عيسى ينهى عن الاغتيال، سفر متّى 26 - 52، محمد
يأمر بالاغتيال، سورة 8 - 65) !
هذه اللافتة يمر الناس عليها صباح مساء.
الأستاذ الدكتور جعفر: هذه الكنيسة واحدة من بين كم كنيسة؟
الأستاذ سليمان البطحي: أنا أقول هذا مثالاً على إفرازات الحملة التي بدأت.
الأستاذ الدكتور جعفر: لكن هناك آلاف مؤلفة من الكنائس.
الأستاذ سليمان الحرش: هناك جانب في هذه القضية مهم، وهو أن هؤلاء
الذين يقفون على الحياد أو قد لا يظهرون أي شيء أو أي عداء، أو يقولون ليس
من المصلحة أن نثير هذه الأمور، هؤلاء كذلك ينبغي ألا نركن لهذه المواقف منهم؛
لأنه سرعان ما ينقلبون بتحول المصالح، فيرون بعد ذلك أن المصلحة تقتضي
التهجم أو الكلام، أو الوقوف مع الجانب الذي يتهجم، أو تأييده ضمنياً، يعني
هؤلاء لا نستطيع أن نعول عليهم لأنهم سرعان ما ينقلبون لتحقيق مصالحهم.
الأستاذ الدكتور جعفر: ما كل من ليس على الإيمان يعادي، قال تعالى:
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ] (محمد: 32) ، هناك واحد يكفر
وهو جالس في بيته، وهناك من يكفر ويصد عن سبيل الله، فهناك أناس عندهم نوع
من الإنصاف حتى لو كانوا كفاراً، ونحن لا نعلم ما في قلوبهم، ونحن نقول هذا
شيء تشكرون عليه، ونحن لا نتهم كل أمريكي بهذا، ولا نتهم كل نصراني بهذا؛
لأن هناك ناساً منهم عملوا أعملاً في صالح المسلمين لا نستطيع أن ننكرها.
البيان: أياً كان الأمر؛ دعونا ننظر في أثر هذه الحملة على الرأي العام في
الغرب، يعني هل هذا الكلام الذي قيل في وسائل الإعلام الغربية مجرد فقاعة
ذهبت، جاءت وانتهت، أو أن لها أثراً في تشكيل الرأي العام؟
الأستاذ علي جمعة: أنا أرى في أمريكا الشمالية من سنوات أن وسائل
الإعلام تهيئ المسلمين وغير المسلمين، خاصة في الغرب، للدعاية ضد الإسلام
والمسلمين، فجاءت تلك الفئة التي نتكلم عنها واستغلت هذه الدعاية، ولعلهم وراء
هذا الإعلام أيضاً، وطبعاً القوة الإعلامية بيد الصهاينة، ويستغلونها لكي يثيروا
هذا الأمر بين عامة الناس، ولكن يوجد كثير من السكان وهم الأكثرية لو تريد أن
تتكلم معهم عن الإسلام أو تفتح الموضوع معهم يقبلون الكلام، ويوجد فرصة
للنقاش والدعوة إلى الإسلام.
في حرب الخليج الثانية عندما كنت في الجامعة في كندا، كنا نذهب من
كنيسة إلى كنيسة، نرسل الرسائل لهم، ونقول نريد أن نزوركم ونجتمع معكم
عندما تجتمعون في يوم الأحد، ونتكلم معكم عن الإسلام؛ لأننا جيرانكم ونسكن
معكم، ونريد أن نعرفكم على شيء من الإسلام، وأن الأشياء التي تحدث في أماكن
أخرى لا تجعلوها تشوش على أفكاركم، فقبلوا كلامنا ورحبوا، ولو كان عندنا من
العلم كفاية في ذلك الوقت كنا استطعنا أن نؤثر فيهم تأثيراً أكبر، وهذا الشيء هو
الذي ينقصهم هناك الآن، وهو الدعوة.
الأستاذ الدكتور جعفر: أما كونه له تأثير فنعم، حتى مهما قلنا إنهم قلة، قال
لي أحد المسلمين البيض من الأمريكان: لا تستهن بهذه الحملة. وقال: إنهم
يستغلون الإنترنت، لأن الكلام موجه إلى الشباب. أنا أحكي لكم فقط ما قال لي،
وقال لي: الشباب الآن لا يقرؤون كتباً، ولا يذهبون إلى المكتبات، وشغلهم كلهم
في الإنترنت، فهم قالوا ركزوا على هذا. ويعرف هو هذا من تجربته مع بعض
الناس، قال لي: إن بعض المسلمين من الشباب الذين كانوا أسلموا ارتدوا.
والسبب ليس بمجرد هذا السب وكذا، لا، ولكن السبب هو الحجج والشبهات التي
تثار بطريقة فكرية، أما مجرد السب فلا يؤثر في كثير من الناس، فكونها مؤثرة..
نعم مؤثرة ليس في ذلك شك.
أنا قلت لهم: الحمد لله أنه بسبب هذه الكوارث بدأ يزداد الاهتمام بالإسلام،
فقالوا لي: مع الأسف الذين استغلوا هذا أيضاً أعداء المسلمين، رأوا أن الناس
مقبلون على معرفة الإسلام؛ فملؤوا الأسواق والإنترنت بكلام عن الإسلام، ولا
يعرف من الذي كتبه؟ وكأن المسلمين هم الذين كتبوه، ونحن نعرف أن وراءه
اليهود. فيقرأ الإنسان عن الإسلام لكن يقرأ كلاماً فيه تضليل.
البيان: ربما نجد تفسيراً لحملة بات روبرتسون أو جيمي سوجارت أو
غيرهم من المنصرين، لكن ما تفسير الهجوم من بعض المفكرين العلمانيين أو
الساسة، مثل تصريح الرئيس بوش بالحرب الصليبية، ورئيس وزراء إيطاليا،
وغيرهما، هذه الحملة على الإسلام من هؤلاء هل لها تفسير آخر غير الموجود
عند القساوسة؟
الأستاذ سليمان البطحي: القضية الآن هي قضية دينية عقدية، حتى الإدارة
الأمريكية تتحرك الآن من خلال نبوءات عبر ارتباطها بهذه الفئة من النصارى
الصهاينة، ولو جئنا لنبوءاتهم الآن في قضية الحرب على العراق، أو قضية
الحرب على الإسلام؛ نجد أنها كلها مرتبطة بعضها مع بعض، فأنا أرى أن هذه
إفرازات لما يسمعونه من هؤلاء القساوسة، وكذلك إفرازات للتهجمات التي يرونها
منهم الآن، وهذه كلها من الأسباب.
الأستاذ الدكتور جعفر: أما أن يكون هناك دوافع دينية فما في هذا شك، بل
أصبحت هذه مسألة واضحة الآن، على الرغم من أن بعض الناس ينكر هذا،
وعندما نقول إن الدوافع دينية ليس معنى ذلك أن الذي يهاجم الإسلام هو متدين؛
يعني أنه مستمسك بالنصرانية أو باليهودية أو كذا، حتى إن كان غير متدين فهو
عدو للدين الإسلامي. وأما مسألة بوش، فتصريحه بالحرب الصليبية يمكن أن
نستنتج منه أن الدوافع دينية، لكن هم قالوا وأنا حقيقة هذا الذي فهمته عندما سمعت
تصريحه أن الكلمة هذه تستعمل عندهم مجازاً في كثير من الأحيان، يقولون: قام
بحملة (Crusade) (كروسيد) ضد كذا، ويقال: قام بعمل حملة صليبية ضد
الأدباء الفلانيين، أو ضد الإيدز، فهم فسروها بهذا المعنى، ونحن في البداية قبلنا
هذا، وأنا من الناس الذين قبلوا هذا التفسير، لكن ظهر في النهاية أن دوافعهم دينية
فعلاً.
الأستاذ سليمان البطحي: مثل كلمة (الحرب العادلة) هذه كلمة دينية أساساً.
الأستاذ الدكتور جعفر: الشيء الثاني: إذا كان رئيس وزراء إيطاليا قال هذا
الكلام، فكثير من السياسيين الآخرين في أوروبا انتقدوه نقداً شديداً، حتى إن
بعضهم قال له: إنه يبدو أنك لا تعرف تاريخ المسلمين. وذكر بعض محاسن
الإسلام.
الأستاذ علي جمعة: معروف أن كثيراً من هؤلاء الساسة لهم علاقة قوية مع
الكنائس، ويتأثرون بها، خاصة فيما يتعلق بنبوءات آخر الزمان عند النصارى،
مثل معركة الهرمجدون، بل يتأثرون بنبوءات (نوسترا داموس) الذي ذكر منذ
قرون أن العرب سيستولون على العالم، فهذا مما يؤثر عليهم، ويروج له القساوسة
في الإعلام.
الأستاذ الدكتور جعفر: من الطرائف التي سمعتها في أمريكا أن بعض اليهود
قال: «أي حلف هذا الذي نعمله مع النصارى!» ؛ لأن النصارى يقولون إذا
جاء عيسى سيقتل اليهود، فقال: «هم يريدون الآن أن يجمعونا في إسرائيل
وينشؤون دولة (إسرائيل) ، حتى إذا جاء عيسى يقتلنا، فأي حلف هذا؟» ،
وقال: «هذا حلف غير مقدس!» .
البيان: أمام هذه الحملة من النصارى أو من الإعلام الغربي؛ هل تشعرون
أن هناك نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم وذباً عن عرضه وسنته في العالم
الإسلامي، أو أن المسلمين في واد والعالم في واد آخر؟
الأستاذ سليمان البطحي: الواقع أننا نحن المسلمين نعيش حالة من الهوان،
حتى وصلت إلى التفريط في الذبّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، تكاد ألا تجد
في صحيفة مقالة أو من يتكلم دفاعاً ونصرة. وأنا أتوجه بالسؤال لأي إنسان فأقول:
لو سُب والدك أو سُببت أنت شخصياً ماذا تفعل؟ الإجابة عن هذا السؤال يتولاها
كل شخص بنفسه، وسيعرف ما هو الحال.
البيان: انظر إلى بعض الإسلاميين أنفسهم لو سُب شيخه أو جماعته
سيكون غضبه عظيماً، ولن يقف موقف المتفرج!
الأستاذ سليمان البطحي: وانظر الآن إلى ما يكتب في الدفاع عن الإمام أبي
حنيفة، أو شيخ الإسلام ابن تيمية، أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما يكتب
ويعد من المؤلفات والبحوث، ونحن الآن نقول الرسول صلى الله عليه وسلم يُقذف
ولا نجد من يذب عن عرضه بالكلمة أو المقالة أو الخطبة! لذلك أرى أن الأمر
يزيد كل فترة في ظل غياب العلماء خاصة، وأنا أحملهم الدرجة الأولى من
المسؤولية؛ لأنهم المحرك الرئيس في أي قضية في أي مجتمع إسلامي، ولأنهم
عليهم دور يجب أن يقوموا به. فيجب أن يكون في ترتيب أولوياتنا تقديم الذب عن
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويجب أن تكون هذه القضية همّ الجميع، ويجب
أن تدرس، ويجب أن يتكلم عنها، ويجب أن تكون همّ الصحفي، وهمّ عامة الناس،
ولا يقتصر الأمر على الحوقلة، وأن نقول هؤلاء شواذ أو سخفاء.
ما فائدة أن ندعو إلى الإسلام والركن الثاني من الشهادة التي ندعو إليها
يتعرض لحملة تشويه، حيث شوهت صورة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل
جعل التشويه هدفاً؟! واضح أن هذا سيؤثر على الدعوة، وقد لا يستطيع الدعاة في
الغرب أن يتكلموا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسهولة والحال هكذا، وخاصة
أن هذه الافتراءات تنقل عبر وسائل الإعلام المؤثرة، فبرنامج (جيري فالويل)
(60 دقيقة) مثلاً يشاهده الملايين في أمريكا الشمالية، والصحف المشهورة مثل
(الواشنطن بوست) و (النيويورك تايمز) التي تطبع منها عشرات الملايين تنشر
مثل هذه الافتراءات.
فنقول علينا دور كبير، ونريد أن يكون هناك ترجمة لقولنا نحن نحب
الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسنا، ونحن نرددها كثيراً ولكن ترجمة هذا
الحب إلى الواقع هي مسؤولية كل مسلم.
الأستاذ الدكتور جعفر: مما لا شك فيه أن كثيراً من المسلمين في الأماكن
التي حدث فيها هذا الافتراء عبّروا بقوة، وانتقدوا الذين قالوا هذا الكلام، وعبّروا
عن استيائهم، وخرجوا في مظاهرات، ولكن الذي كنا نريده أكثر من هذا،
المسلمون من المؤكد أنهم لم يقصروا في الأماكن التي قيل أو نشر فيها هذا الكلام،
لكن المسلمين هؤلاء كانوا يتوقعون موقفاً قوياً ليس منا نحن فحسب بل من العلماء
الرسميين وغير الرسميين؛ لأن هذا الذي يؤثر في السياسة، يعني لو أن الإفتاء في
مصر وفي السعودية وفي المغرب، والعلماء في رابطة العالم الإسلامي؛ ردوا على
تلك الافتراءات لكان لهذا تأثير كبير، بل كل المسلمين يرون أن هذا كان من
واجب الدول؛ لأن الإسلام لا فرق فيه بين السياسة والدين، فرئيس أي دولة مسلمة
لا يقول إن هذه مسألة دينية لا تهمني، لا بل تهمه ما دامت تهم شعبه وتمس دينه.
فالمسلمون في الغرب كانوا يتوقعون أن تصدر احتجاجات قوية من قادة العالم
الإسلامي السياسيين والعلماء.
الأستاذ سليمان البطحي: هناك بعض الدول قد تقطع علاقاتها الشخصية أو
الدبلوماسية مع دولة أخرى لمجرد التعدى على شخص من الدولة، لذلك أقول يجب
على الدول والحكومات أن توجه إعلامها، لا نقول للحرب ولكن للذب عن الرسول
صلى الله عليه وسلم، أن يكون هذا همّ الإعلام؛ سواء التلفزيون أو الإذاعة أو
الصحافة، كذلك ينبغي التنسيق الدبلوماسي بين الدول في هذه القضية، لماذا لا
يتكلم ممثلو الدول الإسلامية لوضع حد لهذا الهجوم، وذلك عندما يجتمعون في
لقاءات أو مؤتمرات مع ممثلي الدول الغربية وغيرها.
الأستاذ سليمان الحرش: الكلام الذي ذكره الأخ سليمان صحيح؛ أن العلماء
لهم دور بارز، فهم الذين يوجهون الأمة، وهناك قضية مهمة هنا، وهي أن نجعل
نصرة النبي صلى الله عليه وسلم مهمة كل مسلم، العلماء والساسة، الخاصة
والعامة، الرجال والنساء.. لكن هل الأمر يتوقف عند مجرد الكلام، أو أنه لا بد
أن تكون هناك أمور عملية، مثل وضع خطط لعرض شخصية الرسول صلى الله
عليه وسلم العرض الصحيح؟
في تصوري أن العرض الصحيح لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
سيعطي قبولاً أكبر عند هؤلاء مما لو جئت أنا وأرد على الشبهات التي يقرؤونها
حول الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، الشبهات كثيرة ولا بد من دحضها وتبيينها،
لكن لا بد من أن يعقب الرد على هذه الشبهات الخطوات العملية التي تبين هذا
الأمر بصورة صحيحة عند هؤلاء الناس.
الأستاذ سليمان البطحي: لا شك، لكن الذي أقصده أن هذه الشبهات الآن
تثار ويتناولها كل الناس بما فيهم المسلمون، أفلا يوجد رد من المسلمين من علمائهم
وأئمتهم على هذه الشبهات! هذه الهجمة لماذا لم يُتكلم عليها ويُعلق عليها على الأقل
من قبل العلماء، أو يبين الموقف الشرعي من قضية التعدي على الرسل والأنبياء،
والنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ومثل ما قال الشيخ جعفر مثلاً؛ أن
يقوم العلماء في الإفتاء في السعودية، والإفتاء في مصر، والإفتاء في الجزائر..
وغيرهم ويبينوا، وخاصة أن هناك أناساً تأثروا مثلما ذكر الشيخ، فلماذا ننتظر
حتى آخر لحظة ثم نبدأ التوضيح والرد، القضية سهلة، ولا يحتاج الأمر إلى أن
تستشير أحداً، شبهة أثيرت نرد عليها، والحمد لله؛ هم يتكلمون بالباطل ونحن
نتكلم بالحق، والناس ينتظرون كلام المشايخ.
الأستاذ الدكتور جعفر: إذا كان المقصود هو الرد على هذه الشبهات في
الغرب، فهذه الأمور التي ذكرناها هي إجراءات للعمل بين المسلمين، وهي لا
تؤثر في فكر الغرب إلا من ناحية سياسية، يعني عندما يصدر شيخ الأزهر
والمفتون في الدول المختلفة بياناً، هذا يؤثر من ناحية سياسية، لكنه لا يؤثر في
عقول المستمعين من الشباب في الغرب، فهذا واجبنا نحن الدعاة والعلماء الذين لهم
اهتمام بهذا، يجب أن نعمل مشروعاً للرد على هذه الشبهات، ونستغل الوسائل
التي توصل كلامنا إليهم، سواء كان بالإنترنت أو بالفاكسات أو الكتب، فيجب أن
نفرق بين قيام الدول والحكومات بهذا الواجب في بلدها، وبين التأثير في المستمع
في الغرب.
يمكن أن نضيف أن الواجب ليس على العلماء والحكومات فقط، بل أيضاً
على المحسنين من الناس؛ لأن أي مشروع يحتاج إلى تمويل، وما كل الدعاة
والعلماء لديهم المال، نحن نعمل المشروع ولكن يجب أن يساعد على إيصاله
إخواننا المحسنون.
البيان: هذا يقودنا إذن إلى السؤال عن الاستراتيجية التي تقترحونها
لمواجهة مثل هذه الحملة في الغرب أو في البلاد الإسلامية؟ كيف نستطيع أن
نواجه هذه الحملة بمنطق علمي وعملي بعيداً عن الجانب المرتجل، لا شك أن
هذا يؤثر في صدور جميع المؤمنين، لكن ما هي الخطوات العملية التي ترون
أنها تؤثر في المستمع الغربي أو في المستمع هناك؟
الأستاذ سليمان البطحي: هناك كثير من الأمور يستطيع الإنسان أن يفعلها،
إذا رتب أولوياته بحيث يكون هذا الأمر هو الهم الأول عنده، قضية نصرة الرسول
صلى الله عليه وسلم.
نحن في اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم أقمنا
مؤتمرين أحدهما في لندن، والآخر في كندا، وخرجنا بتوصيات عمومية؛ بحيث
تكون سلسة، لا تخص اللجنة أو فرد أو مجموعة أو مؤسسة بعينها، بل كل إنسان
يستطيع العمل بها، فهناك الإعلاميون لهم دور يقومون به بأنفسهم، الحكام،
المعلمون في مدارسهم مع الطلاب، المؤسسات الخيرية لها دور، وقد يكون دورها
أكبر من غيرها لأن مجالها مجال دعوة أصلاً، الدبلوماسيون في لقاءاتهم مع
نظرائهم الغربيين.
فنحن نقول إننا أمة مسلمة تجاوز تعدادها المليار والربع؛ أي ما نسبته 23%
من سكان العالم، تحتل مساحة 19% من مساحة العالم تقريباً، ونعيش في
54 دولة إسلامية، ونقيم في 120 مجتمعاً في العالم؛ فأمة بهذا القدر يجب أن
تنكر وأن ترفض هذه الاتهامات.
ونحن في لجنة مناصرة النبي صلى الله عليه وسلم وحسب الإمكانيات اليسيرة
لدينا وضعنا مجموعة من الخطوات العملية أو الاستراتيجية، وسوف ننفذها إن شاء
الله خلال السنة القادمة؛ منها:
1 - إعداد برامج للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بحيث تتبنى كل
مؤسسة أو جهة هذا البرنامج ونشره في المجتمعات.
2 - إنشاء قاعدة بيانات على الشبكة العالمية عن السيرة النبوية، وبدأنا فيها
بالفعل مع أحد الجهات المتخصصة، وستكون في البداية بالعربية والإنجليزية ثم
بلغات أخرى بعد ذلك.
3 - نحن الآن نرتب لإعداد قرص مدمج (CD) عن شخصية الرسول
صلى الله عليه وسلم وشمائله، وسوف يوزع مجاناً على مستوى العالم.
4 - نقترح إقامة معارض متنقلة ودائمة في المطارات، في الأماكن العامة،
في الأسواق، بالتنسيق مع الجهات المسؤولة طبعاً، حتى نبرز شيئاً من شخصية
الرسول صلى الله عليه وسلم عن حياته وأخلاقه وشمائله.
5 - تكوين مجموعة تنفيذية من العلماء المتخصصين وطلبة العلم للإجابة عن
هذه الافتراءات خلال الموقع في الشبكة.
6 - إصدار مواد إعلامية متخصصة في مقدمتها: نشرات مجلات تخصيص
أبواب في بعض المجلات. والحمد لله استعطنا أن نصدر مجلة شهرية متواضعة
خلال المؤتمر السابق في كندا، تبرز شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفند
بعض الافتراءات المثارة، بعيداً عن المجادلات، لأن هدفنا هو بيان شخصية
الرسول صلى الله عليه وسلم.
7 - عقد مؤتمرات، وقد استطعنا أن نعقد مؤتمرين حتى الآن، ونحن نقول
يجب على كل دولة عقد مؤتمر لهذا الموضوع خاصة، هذا الموضوع فقط، كل
دولة إسلامية، وهذا بحد ذاته سيرسل رسالة إلى العالم أن شخصية الرسول صلى
الله عليه وسلم هي شخصية فاصلة لا يمكن تجاوزها.
8 - التنسيق مع المراكز الإسلامية والعلماء في مختلف أنحاء العالم، على
مستوى المتخصصين منهم في دعوة غير المسلمين، وغير المتخصصين.
هذه بعض الأمور، وهناك أمور كثيرة أخرى، ومجرد أن الإنسان يكون
عنده همّ بهذه القضية سيجد وسائل كثيرة، وليس هناك أشرف ولا أفضل من أن
يكون هدف الإنسان أن يذب عن محمد صلى الله عليه وسلم؛ سواء كان فرداً أو
جماعة.
الأستاذ علي جمعة: لعلي أضيف هنا مسألة يسيرة لكنها في غاية الأهمية،
وهي أن يكون خطابنا إلى الغرب خطاباً علمياً بعيداً عن الارتجال والانفعال، وأن
نتقن لغة القوم ومصطلحاتهم وأساليبهم في الحوار.
البيان: أحداث 11 سبتمبر وما تبعها بعد ذلك من هجوم على الإسلام في
وسائل الإعلام الغربية، ألا تشعرنا بأن الغرب بشكل عام لا يعرف كثيراً عن
الإسلام، وأن المسلمين مقصرون في حمل هذه الرسالة العظيمة وتعريف الناس
بها؟
الأستاذ علي جمعة: ذات مرة كنا نتكلم عن دعوة الناس إلى الإسلام، وإقامة
الحجة عليهم، فقال أحدهم: إن الإسلام قد وصل، وإن الحجة قد قامت عليهم.
فرد عليه بعضهم فقال: إن المسلمين وصلوا إلى الغرب، أما الإسلام فما وصل
حتى الآن. وهذا حق، وأنا من خلال خبرتي في أمريكا الشمالية أشعر أننا
مقصرون جداً في حمل رسالة الإسلام.
فعلينا دور كبير في دعوة الناس إلى الإسلام، خاصة أن كثيراً منهم سيقبل
هذه الدعوة إذا وصلتهم، وأظن أن رسالة الإسلام ما وصلتهم حقيقة إلى الآن.
الأستاذ سليمان الحرش: هذه النقاط التي ذكرها الأخ سليمان وسائل أرى أنها
تنقلنا من دعوة في مجال ضيق من خلال مثلاً مركز إسلامي أو من خلال مسجد أو
مؤسسة أو ما إلى ذلك، إلى شمولية أكبر، عندما يطرح الإسلام مثلاً من خلال
مواقع الإنترنت أو من خلال الصحف والمجلات، هذه الشمولية مهمة جداً؛ لأن
الإسلام يصور في أوروبا وأمريكا أنه ينتشر انتشاراً واسعاً، وهذا تصوير مبالغ
فيه.
لكن هذا الطرح المذكور في الواقع يجعل الأمر شاملاً، ونستطيع من خلال
هذه الوسائل أن نصل إلى كل إنسان، وخاصة إذا أجدنا لغة الخطاب ولغة الطرح،
وحققنا مفهوم الوسطية للإسلام، من خلال هذه الوسائل الحديثة أتصور أن تتحقق
نقلة في الدعوة من النطاق الضيق إلى الشمولية في الدعوة إن شاء الله.
الأستاذ علي جمعة: قبل أحداث 11 سبتمبر؛ عندما كنا نريد أن نتحدث مع
الغربيين عن الإسلام لا يهتمون؛ لأنهم كانوا لا يهتمون بمسألة الدين، ولا يسمعون
عن الإسلام كثيراً، أما بعد 11 سبتمبر؛ فقد أتيحت فرص كثيرة لنا، وبدأ الناس
يأتون إلينا بأنفسهم، ويسألون أسئلة كثيرة حول الإسلام، وهذه فرصة ثمينة إذا
أحسنا استثمارها فسيكون لها أثرها الكبير على كل من لا يعرف شيئاً عن شخصية
نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.
الأستاذ الدكتور جعفر: هناك أناس عملوا إحصاءات تبين أن أكثر ما يدخل
الناس الإسلام هو القرآن الكريم، والدعوة بالقرآن الكريم قائمة، لكن الشيء الذي
قصرنا فيه هو الدعوة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وشيخ الإسلام يقول إن
أول شيء يبدأ به ربنا سبحانه هو أن يرسل الرسول، فالناس يعرفونه وعن طريقه
يسلمون، ولذلك بدأ البخاري في صحيحه بكتاب بدء الوحي لأن هذه بداية الدين،
فبالنسبة للقرآن العمل بالدعوة به قائم، لكن عندنا تقصير في مسألة الدعوة بالسيرة
النبوية، بل أنا أرى أن هناك تقصيراً فيها على مستوى اللغة العربية، فينبغي أن
يكون هناك كتاب جذاب يقرأه عامة الشباب في المدارس والجامعات، بلغة أدبية
رفيعة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نريد كتاباً يجمع بين العلم والتوثيق
والناحية الأدبية، ثم يكون هذا الكتاب نفسه باللغات الأخرى، الكتاب الذي كتبه
الباشا عن حياة الصحابة كتاب جميل، وعندما كنا في معهد العلوم الإسلامية
أعطيناه أمريكية أديبة وتجيد اللغة العربية فترجمته، وأثر في ناس كثيرين لأنه
مكتوب بلغة أدبية رفيعة. وعلى سبيل المثال اتفقت بعض الجهات مع جريدة
(Today A.S.U) وهي من أوسع الجرائد انتشاراً، وهي تشترط في الكتابة
ألا يستعمل في الكلمات أرفع من مستوى طالب الثانوية؛ لأن غالبية الناس هكذا،
اتفقوا معهم على نشر مقالات قصيرة عن الإسلام، لكن كأنها إعلانات، ويكتبها
أديب، فلو عملنا الشيء نفسه وأعددنا الكتاب، وكتب باللغات المختلفة؛ فإن ذلك
سوف يؤثر في الناس تأثيراً كبيراً.
وقد اتفقنا على كتابة كتاب عن السيرة، سيكون من الناحية الأكاديمية جيداً،
لكن يحتاج الكتاب نفسه أن يكتب بلغة أدبية جذابة؛ لأن هذا في رأيي سيساعد في
دعوة الناس مع القرآن الكريم إلى معرفة الدين الحق بشكل مؤثر.
وإذا استطعنا أن نضع مع كتاب السيرة تفسيراً مثل تفسير الجلالين بهوامش
بسيطة، فهذان إن شاء الله سيكونان مادة توضع في الإنترنت أو في قرص مدمج،
فإذا أعددنا المادة الجيدة فوسائل انتشارها سهلة.
البيان: قضية نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مشروعاً شخصياً،
وليست مكسباً حزبياً، أو مغنماً لمؤسسة من المؤسسات، وإنما هي قضية أمة
وقضية عقيدة، وينبغي أن تتواطأ جميع المؤسسات الإسلامية وأهل الغيرة على
نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والذب عن دينه وعن عرضه، وتعريف الجميع
بهذا الدين، ونسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لخدمة دينه، والله المستعان.
__________
(1) هو قسيس إنجيلي معروف، ويقيم في مدينة (لينشبرج) في منطقة فيرجينيا بالولايات المتحدة، وله برنامج أسبوعي إذاعي وتلفزيوني يصل إلى أكثر من 10 ملايين منزل أسبوعياً، وله جامعة خاصة أصولية تسمى جامعة الحرية، يهاجم النبي صلى الله عليه وسلم من خلال وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، إضافة إلى موقعه الخاص على الإنترنت:
) www.falwell.com (
، يضع في صفحته الأولى تاريخاً زائفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أقواله تلك في برنامج (60 دقيقة) الذي أذيع في 6/10/2002م.
(2) هو قسيس إنجيلي معروف باهتماماته السياسية، وتأييده المطلق لإسرائيل، ويمتلك عدداً من
المؤسسات الإعلامية، من بينها (نادي الـ 700) ، وهو برنامج تلفزيوني يصل إلى عشرات الملايين في الولايات المتحدة، إضافة إلى محطة (البث النصراني) الفضائية التي تصل إلى 90 دولة في العالم بأكثر من 50 لغة، ومنها إذاعة الشرق الأوسط المتخصصة في التنصير في منطقة العالم العربي، وقد سعى بات روبرتسون إلى الترشيح لمنصب الرئيس الأمريكي عام 1988م، ويقف خلف إنشاء أقوى تحالف سياسي ديني في الحزب الجمهوري وهو (التحالف النصراني) ، وموقعه على الإنترنت:
) www.patrobertson.com (
، ويملك جامعة أصولية هي جامعة بجينت (Pegent) ، وقد قال كلامه هذا في برنامج (هانتي
وكولمز Hannity & Colmes) الذي تبثه قناة (Fox News) .
(3) هو راعي كنيسة في (جاكسونفيل - فلوريدا) يصل عدد أتباعها إلى 25 ألف شخص، وهو من أبرز المتحدثين في المؤتمر السنوي للكنائس المعمدانية الجنوبية، والذي يعد أكبر مؤتمر ديني يعقد في كل عام، وقد قام كلينتون وبوش الابن بمدح هذا القسيس وعده من المتحدثين بصدق عن دينهم، وقد قال كلامه هذا خلال الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الذي عقد في سانت لويس في ولاية (ميسوري) الأمريكية.
(4) هو القس الأمريكي الذي عرف من خلال مناظرته الشهيرة مع الداعية المسلم أحمد ديدات، وقد
ذكر تصريحاته تلك في شهر نوفمبر 2002م.
(5) على سبيل المثال: رسومات دوج مارلت الأمريكي، والذي توزع رسوماته على مئات الجرائد في أمريكا والعالم، وقد سبق له النشر في عدد من أكبر الجرائد الأمريكية مثل (واشنطن بوست) و (نيويورك تايمز) وقد نشر في 23/12/2002م رسماً يسخر من الرسول صلى الله عليه وسلم، صور رجلاً يرتدي ثياباً عربية اسمه محمد، يقود شاحنة محملة بصواريخ نووية، من نوع الشاحنة التي استخدمها توماس ماكفاي مفجر مبنى التجارة الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي عام 1995م، وكتب الرسام تحت رسمه عنوان: (ماذا يقود محمد؟) ، ونشرت إحدى الصحف الفرنسية رسماً يمثل النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته الطاهرات بطريقة حقيرة وقبيحة، وقد كتب أعلى الرسم: (بار محمد) ، وفي أسفل الرسم: (انتخاب ملكة جمال البطاطس عند محمد) ، وكذلك مجلة رسم كاريكاتوري موجهة إلى الأطفال وعامة الناس، تصدر في مدينة لاس فيجاس الأمريكية بعنوان: (المحمدية صدقها وإلا،،،) ، ويوجد بداخلها سخرية بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته، واستهزاء بالأحاديث والتعاليم النبوية بطريقة حقيرة، تغرس في أذهان الأطفال وعامة الناس التنفير من الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، وتصور المسلم في صورة العربي البدائي الإرهابي.(185/44)
حوار
حاكم ولاية زمفرة (نيجيريا) في حوار خاص مع البيان
كثيرون أولئك الذين يشوهون قضية تطبيق الشريعة في نيجيريا!
مسألة (تطبيق الشريعة) من المسائل التي أثارت لغطاً شديداً في نيجيريا؛
فالحكومة الفيدرالية منزعجة من تصاعد التعاطف الشعبي في الولايات الشمالية التي
بدأت في تطبيق الشريعة، والمنظمات والكنائس النصرانية المحلية والغربية تتعامل
بتشنج وتوتر مع دعاة تطبيق الشريعة، كما أن الحكومات الغربية لا تخفي استياءها
الشديد من ذلك، وتدفع الحكومة النيجيرية والأحزاب العلمانية للحد من هذه الظاهرة.
ومع ذلك كله فإن التعاطف الإسلامي في الشمال خاصة في ازدياد مستمر،
فقد تتابع في السنوات الأربع الأخيرة الإعلان عن تطبيق الشريعة في الشمال
النيجيري ولاية بعد ولاية، حتى وصل عدد الولايات التى أعلنت التطبيق بفضل
الله تعالى 12 ولاية، تختلف في جديتها وحزمها.
ومن أكثر الولايات جدية فيما نحسب ولاية (زمفرة) التى تقع في الشمال
الغربي وتبعد عن كانو عاصمة الشمال النيجيري 300 كم تقريباً.
وقد حاز شرف السبق والريادة في ذلك سعادة حاكم ولاية زمفرة الأستاذ
(أحمد محمد ثاني) ، والذي يشرفنا أن يكون ضيفاً لمجلة البيان لنقف معه على جهود
تطبيق الشريعة والعوائق التي تواجهها.
البيان: ما قصة تطبيق الشريعة في ولاية زمفرة، وما دوافعه؟
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام
على رسول الله وآله وصحبه أجمعين:
الأمر الأول الذي دفعني لهذا الاتجاه هو أثر الصحوة الإسلامية التي ظهرت،
وقد كنت أُكثر من الاستماع إلى الدروس والمواعظ خاصة دروس الشيخ أبو بكر
محمود جومي وغيره من العلماء، وهذا قوّى فيّ الشعور بأنه يجب على المسلمين
التمسك بالإسلام وتأييده.
والأمر الثاني: هو ما حصل لي في أول زيارتي لأداء العمرة في عام 1993م؛
حيث استمعت إلى دعاء القنوت في قيام رمضان من إمام الحرم المكي الشيخ
السديس، ورأيت المصلين عن يميني وعن شمالي ومن خلفي ومن أمامي كلهم
يبكون. لكني لم أفهم من دعاء الشيخ شيئاً، ولا أدرك سبب بكاء الناس، فبكيت أنا
لسبب آخر وهو الشعور بتأنيب الضمير والتقصير؛ إذ إنني لم أفهم معنى ما يدعو
به الشيخ ولا معنى ما يتلوه من كتاب الله، ثم فكرت بأنني موظف كبير في البنك
المركزي، وأن معظم ساعات حياتي تذهب في هذه الوظيفة؛ فقد كنت أعمل من
الساعة 7.30 صباحاً إلى الساعة 9 وأحياناً 10 ليلاً، ولم أكن حين ذلك قد
أكملت حتى قراءة القرآن، فقررت في نفسي أنني بعد عودتي سأعود لإكمال
دراستي للقرآن، وفعلاً بعد عودتي كتبت استقالتي من العمل، ورجعت إلى مدينة
سوكوتو، وبدأت أتعلم القرآن في مسجد عندنا وبعد الانتهاء من تلك الدراسة بدأت
أحضر درس التفسير.
وألقيت ذات يوم كلمة في حفل افتتاح المسجد ناديت فيها إلى تكثيف الجهود
نحو تطبيق الشريعة الإسلامية في ولاية سوكوتو ثم في نيجيريا كلها، واتخذت
المسجد مركزاً للاجتماع والتشاور مع أصحابي للنظر في كيفية السعي لإعادة تطبيق
الشريعة، ثم أُسست ولاية زمفرة وعيّنتُ وكيلاً في إحدى وزاراتها، وحين جاء
الإعلان عن العودة إلى الحكم المدني دخلت في العمل السياسي، فتم انتخابي حاكماً
للولاية، وقد كنت أصرح في أثناء الحملة الانتخابية بأنني ليس لدي غرض في
الدخول في السياسة إلا إصلاح الحياة الاجتماعية على وفق النظام الإسلامي، ولا
أريد جمع حطام الدنيا.
البيان: هل كانت هناك جهود سابقة للمسلمين منذ الاستقلال من الاحتلال
الإنجليزي تسعى إلى تطبيق الشريعة؟
- إن المسلمين في شمال نيجيريا منذ دخل الاحتلال الإنجليزي لم يستسلموا
استسلاماً تاماً للمحتلين؛ ومن أجل ذلك لم يتم فرض السيطرة عليهم إلا عن طريق
غير مباشر حسب ما هو معروف من سياسة المحتل البريطاني في شمال نيجيريا؛
فمنذ ذلك الوقت وُجِد علماء وشباب غيورون يعارضون الحكومة، ويطالبون
بتطبيق الشريعة بالرغم مما ينالهم من سجن وقتل. ثم اتجهت جهود العلماء إلى
دعوة الناس والبيان والتعليم للدين حتى انتشرت الصحوة الإسلامية؛ فهذه الصحوة
أوجدت جيلاً من الشباب المتحمسين للدين، ومن أجل ذلك لما جاء الإعلان عن
تطبيق الشريعة في ولاية زمفرة مثلاً أقبل الناس على ذلك بكل سرور وتأييد
ومساندة. وساند المشايخ قضيّة التطبيق على الرّغم من الخلافات الطائفيّة الموجودة
بينهم، وقد تلاشت تلك الخلافات في صفوف الأتباع خاصة، فقاموا صفاً واحداً
لتأييد قضية التطبيق.
البيان: ما الأمور التي يتيح لكم الدستور أن تطبقوا الشريعة فيها؟
- وقع نزاع شديد بين المسلمين والنصارى في دستور عام 1978م حول
النص على المادة التي تسمح بتطبيق الشريعة الإسلامية، إلا أنه عند كتابة الدستور
لم يتمكن المسلمون من أن يفرضوا على لجنة كتابة الدستور النص على تلك المادة،
وبعد أن تم انتخابنا لهذا المنصب جئنا نطالع في دستور 1998م فرأينا أنه يمكننا
القيام بتنفيذ كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية من خلال الدستور؛ فأولاً المادة 38 [1]
من الدستور أعطت كل شخص حرية ممارسة أعماله الدينية بدون أية مضايقة
بصفة فردية أو جماعية، فمعنى هذا أن لكل إنسان في خاصة نفسه أو في نطاق
حكومة ولايته أو حكومة محلته حرية العمل بنظام الدين الذي يرغب فيه، وله
حرية تامة في ذلك. ثم المادة التي تتعلق بالقوانين وهي المادة 6 فقرة 4 و 5،
أعطت الصلاحية للولايات أن تؤسس محاكم خاصة بها تحكم بموجب قانون يراه
مجلس نواب الولاية مناسباً وموافقاً لهوية رعايا الولاية؛ فالدستور ضمن كل هذه
الصلاحيات، لكن صحيح كما ذكر أن الجيش والشرطة والمباحث تحت سيطرة
الحكومة الفيدرلية، ونحن لما لاحظنا هذا جئنا بنظام الحسبة، وجعلنا لمنسوبي هذا
النظام حق متابعة المخالفين للشريعة وإلقاء القبض عليهم وحملهم إلى الشرطة
ليقوموا بدورهم في عرضهم أمام محاكم الولاية، ويتابعون الشرطة ليتحققوا من
قيامهم بواجبهم تجاه عرض المجرمين أمام المحاكم، وقريباً لاحظنا أن الشرطة
يعرضون المسلمين أمام محاكم قانونية في الولاية، فجئنا بقانون يمنع من أن
يعرض أي مسلم في الولاية إلا أمام المحاكم الشرعية، وهذه المواد التي استندنا
إليها كانت موجودة حتى في دستور عام 1978م لكن لم يتنبه لها المسلمون.
البيان: قسم الدستور الصلاحيات بين الحكومة الفيدرالية وحكومات
الولايات، وذلك مدرج في قائمة طويلة في الدستور، فما أبرز الأمور التي لا يتاح
لبرلمان الولاية وللحاكم أن يسن القوانين فيها، ويجب عليه أن يطبق فيها
القانون الفيدرالي؟
- كل نظام يمكن أن يوجد فيه ثغرات، فمثلاً في ما يتعلق بالجانب
الاقتصادي نحن في زمفرة نستغل القانون الذي تم اعتماده في أيام حكم الجنرال
إبراهيم بابنجيدا والذي يسمح بتأسيس بنك جماعي هو في الحقيقة جمعية اقتصادية
لا تقوم على أساس التعامل الربوي، فنسعى بموجبه إلى تأسيس بنك إسلامي، أما
ما يتعلق بالعلاقات الخارجية بين الدول وما يتعلق بالجيش فهذا ليس لنا أي سلطة
فيه، أما سائر الأمور المحلية الخاصة بولايتنا والتي تعود إلى جميع جوانب حياة
المسلم فلنا حق سن قوانين فيها، وأي قانون يتم اعتماده لدينا فلا اعتراض عليه إلا
إذا كان راجعاً إلى الشؤون الخارجية التي هي من اختصاص الحكومة الفيدرالية،
وحتى في الشؤون الخارجية ليس هناك قانون يمنع الولايات أن تتعامل مع دولة
خارجية مثلاً في علاقة تجارية معها؛ فنظام الدستور النيجيري أعطى نوعاً من
الاستقلال لكل ولاية؛ فهو نظام فيدرالي تكون فيه حكومة فيدرالية وحكومات أخرى
للولايات تتمتع بنوع من الحكم الذاتي؛ ففي الدستور ثغرات تتيح لنا ممارسة كل ما
نسعى إليه، فما دام أن هذا الدستور من صنع البشر فلا بد أن يوجد فيه ثغرات.
عوداً على ما يتعلق بالتعامل مع دول خارجية، وأنه ليس في الدستور ما
يمنع الولايات من ممارسة ذلك التعامل؛ من هذا المنطلق جاءتنا دعوة من جهات
شتى خارجية؛ فعلى سبيل المثال حاكم منطقة ميلانو الإيطالية وجه إليَّ دعوة، فأنا
أجيب مثل هذه الدعوات وأقوم بالدخول في علاقات تجارية أو اقتصادية معهم وما
إلى ذلك.
وبالنسبة لما يتعلق بإنشاء البنك، فإن القانون يسمح لأهل قرية أو مدينة أن
يؤسسوا بنكاً خاصاً بهم؛ فنحن الآن نسعى إلى تأسيس بنك إسلامي يغطي جميع
أنحاء نيجيريا، ويتيح لمسلمي نيجيريا فرصة التعامل مع بنك لا يقوم على أساس
ربوي، وإذا رأينا تأخراً عن تأسيسه فعندنا العزم على إقامة مصارف في كل مدينة
أو في كل عاصمة حكومة محلية في أنحاء الولاية، بحيث نجعل أهل المدينة
يؤسسون المصرف المذكور والذي لا يحتاج سوى رأس مال بسيط قانونياً، وهو
5 مليون نيرا، فعندنا هذا العزم والترتيب له جارٍ، فكل ما يتعلق بالتشريع
الإسلامي لدينا العزم على تنفيذه من الحدود والقصاص وما إلى ذلك، ووجدنا
ثغرات لذلك من الدستور نفسه.
ثم تعديل الدستور حالياً لا يمكن؛ لأن ذلك يتطلب موافقة ثلثي عدد برلمانات
نيجيريا، والمسلمون في الولاية التي فيها المسلمون لا يوافقون على تعديل يفضي
إلى إلغاء الشريعة الإسلامية، ولدينا 19 ولاية ذات أغلبية مسلمة.
البيان: هل كان في ذهنكم عند إعلان التطبيق مرحلة نهائية يصل إليها
التطبيق، وإذا كان الجواب بنعم، فما الذي تم تطبيقه، وما الذي بقي حتى يتم
بلوغ مرحلة النضج والتمام؟
- الذي بقي حالياً هو ما يتعلق بالشؤون المالية. كما ذكرنا هدفنا هو أن
يشمل هذا النظام جميع أنحاء نيجيريا، ومن أجل هذا نسعى مع البنك الإسلامي
للتنمية إلى تأسيس بنك إسلامي، وقد أبدوا استعدادهم للمساعدة في هذا الجانب،
وحالياً حصل تقدم واضح في زمفرة، وكل من يأتي إلى زمفرة ويمكث يوماً أو
يومين سيرى أثر الإسلام فيها؛ فالذي نريد تحقيقه في الأعوام الأربعة القادمة في
حال إعادة انتخابنا هو أن تكون ولاية زمفرة أنموذجاً يقتدى بها في سائر الولايات،
وتكون معياراً للمسلمين في سائر الولايات عندما يطالبون حكام ولاياتهم بأن يكون
التطبيق على مستوى ما يجري في زمفرة، فإذا رأوا شيئاً من التقصير من جانب
حكامهم طالبوهم بالجد في قضية التطبيق، فعلى سبيل المثال لما جعلنا رواتب لأئمة
المساجد اقتدت بنا بقية الولايات، فتبعت ولاية سوكوتو، ثم كيبي ثم نيجر، وهكذا
ننتظر أن ينتشر هذا في بقية الولايات؛ فما دام أن الله قد منّ علينا بمنصب الريادة
في هذا الشأن فهمّنا الآن هو السعي لأن يكون لولاية زمفرة أيضاً موقف ريادي
للمسلمين في نيجيريا، وتصبح تجربتها بمثابة ميزان يقيس عليه المسلمون في سائر
أنحاء نيجيريا به من يصلح أن ينتخب للمناصب القيادية، ونأمل أن يحصل هذا
خلال الأعوام الأربعة القادمة؛ حيث يمكن لكل مسلم في نيجيريا أن يرى تطبيق
الشريعة واضحاً ويرى ثماره.
وهناك مثال آخر، وهو ما يتعلق بالمحافظة على أوقات الصلوات؛ فلدينا
لجنة تعنى بتوحيد أوقات الصلوات، وتلتزم جميع المساجد بما تقرره اللجنة،
فيؤذنون في وقت واحد، وتغلق محلات التجارة ويذهب الناس إلى الصلاة، وهناك
شخص من ولاية زمفرة تزوج بامرأة من ولاية أخرى فكانت تسمع الأذان في وقت
واحد من جميع المساجد، فاستغربت وجعلت تقول: ألا يوجد هنا شغل آخر غير
الصلاة؟ فهكذا كل من جاء من ولاية أخرى ورأى كيفية الالتزام بالصلاة في زمفرة،
وكيف يبادر الناس بإغلاق محلات تجارتهم بعد سماع الأذان، ورأى الأمر
بخلاف ما يحصل في الولاية التي جاء منها؛ فإنه سوف يفكر في أنه لا زالت هناك
بعض الإصلاحات لا بد من إيجادها في ولايته.
البيان: ذكرتم أنه بقي الجانب المالي من حيث التطبيق، لكن لو أردنا أن
نعدد بالتفصيل الجوانب الهامة التي قُطِعت، فما الخطوات التي قطعت حتى يتمكن
قراؤنا الكرام من معرفة الجوانب التي حققها تطبيق الشريعة؟
- أولاً أسسنا مجلساً للعلماء يجتمعون فيه، ويشيرون علينا بالخطوات
المناسبة التي ينبغي متابعتها لتحقيق تطبيق الشريعة الإسلامية بموافقة الكتاب
والسنة. ثم أسسنا وزارة الشؤون الإسلامية التي تعنى بجميع الشؤون الدينية في
الولاية، ثم أسسنا لجنة مكافحة الرشوة والفساد الإداري، وهي تعتني بمتابعة سلوك
جميع موظفي الولاية، ابتداء من الحاكم إلى أدنى عامل في مكاتب الولاية، وطُلب
من جميع المسؤولين في الولاية ابتداء من الحاكم ووزرائه أن يعلن كل واحد عن
جميع ممتلكاته لتتم مراقبته ومحاسبته والنظر في ما يحصل له بعد ذلك من الثراء
أثناء فترة توليه المنصب، ثم أسسنا لجنة الحسبة، وأسسنا 59 محكمة ابتدائية،
وتم تعيين عدد زائد من القضاة مع تدريب القدامى، وأسسنا مكتب الزكاة والأوقاف،
ولجان متابعة أوقات الصلوات ومراقبة رؤية الهلال، وشرعنا بالتعاون مع مركز
الدراسات الإسلامية القانونية في جامعة أحمد بللو بزاريا في تدريب القضاة من
الولاية في دورات خاصة، وهذا في الجانب الديني، كما تم تحديد رواتب للأئمة
وبناء مساجد في المدن والقرى، وكذلك مدارس إسلامية.
وفي الجانب الاجتماعي أنشأنا مشروعين:
الأول: مشروع مكافحة الفقر وإيجاد فرص العمل للشعب، ومن خلال هذا
المشروع نقوم بتقديم قروض للناس، وشراء أدوات الزراعة والصناعات الخفيفة
وتقديمها لهم، وخصصنا مبلغاً من المال من أجل هذا المشروع، ويوجد في كل
قرية في الولاية من يستفيد منه، وخاصة في مجال الزراعة التي هي حرفة معظم
أهل الولاية.
والثاني: مشروع توفير البنية التحتية في الولاية، فتم تعبيد طرق كثيرة،
وتوفير مياه الشرب، وإصلاح المستشفيات، وبناء مستشفى جديد للنساء والأطفال
تُصرف فيه الأدوية بالمجان، وحيث يتطلب الأمر إحالة حالات حرجة إلى مستشفى
متخصص ولو خارج نيجيريا مثل مستشفى السعودي الألماني بالمملكة، ولدينا
علاقة معه في هذا المضمار فالحكومة تساعد في ذلك، كما فتحنا كليات فوق
الثانوية ككلية المعلمين، وكلية الزراعة، وكلية التقنية الطبية، كما تم تخصيص
مكافأة شهرية تصرف كحافز للطلاب الجامعيين التابعين للولاية، ويختلف حجم
المكافأة باختلاف التخصص؛ حيث نقدم للدارسين في التخصصات التي تكون حاجة
الولاية إليها أشد كالطب والهندسة مكافأة أكثر من غيرهم.
البيان: بقي جانبان وهما الإعلام والتعليم، فما الخطوات التي قطعتموها في
أسلمتها؟ علماً بأننا قرأنا في الصحف أن النصارى اجتمعوا برئيس برلمان الولاية
يطالبون بمعرفة مصير ستين ألف طالب نصراني يدرسون في الولاية ولا يتمتعون
بأي تعليم لدينهم؟
- أما ما يتعلق بالتعليم فقد كوّنا لجنة من التربويين مقرها في جامعة عثمان
بن فودي بمدينة سوكوتو، ستقوم بإعداد منهج جديد للتعليم نقوم بتطبيقه، وسيتم
تقديمه قريباً، وهذا النظام يشمل حتى صفة اللباس المدرسي وقد تم تفصيل الملابس،
ويبقى فقط توزيعها على الطلاب، وهذا النظام سيبدأ العمل به قريباً إن شاء الله،
ويكون النظام بحيث يُعَدُّ الطالب ويربى تربية إسلامية تغرس فيه العقيدة الإسلامية
من لدن المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الجامعية، والحكومة هي التي قامت بشراء
وتفصيل الملابس للطلاب، واللجنة المكلفة قد انتهت من مهمتها وحاولت أن تعد
نظاماً يرمي إلى أسلمة العملية التعليمية، وأما ما يتعلق بمطالبة النصارى بتعليم
الدين النصراني للطلاب النصارى في الولاية؛ فهذا أمر ليس بجديد؛ فمنذ كنا
تحت ولاية سوكوتو لم يزل النصارى يطالبون بتعيين مدرّسي مادة الدراسات
النصرانية يدرسونها لأبنائهم في مدارسنا، فقلنا لهم: لا يمنعهم شيء من أن يوظفوا
من قِبَل أنفسهم مدرساً يدرس أبناءهم لكن لا نسخر أموال الحكومة لتوظيف من يعلِّم
الدين النصراني؛ لأنه لا يوجد عدد يذكر من أتباع الديانة النصرانية في الولاية،
وكما أن المسلمين في الولايات ذات الأقلية المسلمة لا يتمتعون بهذه الفرصة من
أموال حكومة الولاية؛ فكذلك نحن في ولايتنا لا يمكن أن نقدم هذه الخدمة من أموال
الحكومة؛ فمنذ أن كنا متَّحدين مع ولاية سوكوتو كان الوضع هكذا، وكذلك في
جميع ولايات شمال نيجيريا لم تحصل موافقة لهم على هذا.
وأما ما يتعلق بالإذاعة أحياناً فإن النصارى يطالبون بحصة من الزمن يقومون
ببث برامجهم الدينية فيها عبر الإذاعة، فهذا أيضاً لم نوافق عليه؛ لأن الولايات
الجنوبية التي فيها أغلبية مسيحية لا تسمح للمسلمين ببث برامجهم الدينية في
إذاعاتها؛ فنحن أيضاً لا نسمح للنصارى بذلك في ولايتنا، فهذا هو الوضع، وقد
جعلنا جميع برامج الإذاعة في الولاية تحت مراقبة وزارة الشؤون الإسلامية،
ومجلس العلماء، ومن هنا يتم تصحيح أي خطأ يصدر في البرامج الإعلامية،
وحالياً نسعى إلى فتح قناة تلفزيونية، وسيتم ذلك بعد شهرين من الآن إن شاء الله،
وقد تم شراء جميع أدوات البث ومعدات المحطة، وهي الآن تحت التركيب.
البيان: ألا يوجد صحافة؟
- لدينا صحيفة تصدر من الولاية، وهي أيضاً تحت مراقبة وزارة الشؤون
الإسلامية.
البيان: ما صفة اللباس الذي يتم تفصيله من قبلكم للطلاب في المدارس؟
- هو ثوب طويل إلا أنه يكون معه عمامة تعمم على الرأس.
البيان: ألا يمثل هذا النوع من اللباس مشكلة؟
- نعم كان هناك كلام كثير وضجة عالية لما تم الإعلان بعزمنا على هذا
الأمر، ونحن نقول: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.
البيان: ما الفروق بين الولايات التي أعلنت التطبيق؛ أعني الفروق في
جوانب التطبيق؛ فما الذي تختلف فيه ولاية زمفرة عن ولايات النيجر وسوكوتو،
وكانو، وكدونا، وغومبي، وغيرها؟
- كما لا يخفى عليكم فقضية تطبيق الشريعة في ولاية زمفرة صدرت من
حاكم الولاية وقادتها مع مساندة الشعب، أما بعض الولايات ففي معظمها لم تنجح
القضية إلا بمطالبة الشعب وبعد الضغوط من الشعب على الحكام؛ فهذا هو الفارق
الجوهري بين زمفرة وبقية الولايات، لكن إن شاء الله ما دامت المطالبة من الشعب
قوية فالقضية سوف تقوى، فإما أن تقوم القيادة بتبني القضية بجدية، أو يقوم
الشعب بتغيير القيادة عن طريق صناديق الاقتراع، لكن كما كنت أقول نحن نسعى
نحو إيجاد نوع من التنسيق بين جميع الولايات التي أعلنت التطبيق حتى يتم السير
على منوال واحد إن شاء الله.
البيان: ما أبرز العقبات التي واجهتكم خلال مرحلة التطبيق؟
- العقبات من جهتين: الجهة الأولى من المسلمين الذين يعارضونني في
الميدان السياسي؛ فكثيرون أولئك الذين يشوِّهون قضية التطبيق، ويقولون ليست
صادقة، وإنما هي لعبة سياسية نلعبها لجذب الجماهير إلى صفوفنا؛ فهم يؤيدون
كل سعي للكفار في إعاقة عملية التطبيق. وهناك فئة ثانية من المسلمين وهم في
الحقيقة منافقون، وهم الذين يكرهون التطبيق ويكرهون السعي لمنع الفساد في
المجتمع كالزنا وشرب الخمر، ويرون أن في هذا اعتداء على حرياتهم، ويرغبون
في إطلاق العنان لهم ليرتكبوا ما يشاؤون من الأعمال المنكرة. وهناك فئة ثالثة من
المسلمين ممن لهم قصور في فهم الإسلام وهم يعارضون التطبيق أيضاً؛ فهذه الفئة
والفئة الأولى المخالفة لنا في السياسة يتم البيان لهم، وينتقلون تدريجياً إلى الصف
المؤيد لقضية التطبيق؛ فالمشكلة مع فئة المنافقين؛ حيث يقفون في خندق واحد مع
الكفار لمحاربة التطبيق.
أما الجهة الثانية التي تأتينا منها العقبات فهي من الكفار؛ فهؤلاء لا نبالي بهم؛
لأننا نعرف أنهم يعارضون الشريعة الإسلامية بالطبع، وقد استخدموا في البداية
أسلوب التهديد بالقتل، ثم حاولوا تقديم الأموال، والمعارضةُ من طرفهم لا زالت
تظهر بين حين وآخر، وكذلك من طرف المنافقين. وما زالوا يكيدون لنا، وحالياً
لما قربت الحملة الانتخابية للفترة الثانية يحاولون منعنا من أن نكون من المرشحين،
وشركة الخمور النيجيرية يسعون حالياً لترشيح شخص منافس لي في الانتخابات،
وموَّلوه بأموال طائلة، وجعل يبحث عن الفئة المنحرفة من الشباب والنساء وينفق
تلك الأموال عليهم، وقد أظهر من الفساد ما جعل الناس يعرضون عنه وهو في
الوقت الراهن قد ترك الأمر واختفى.
البيان: كيف تقرؤون المخاطر المستقبلية التي قد تعوق استمرار قضية
تطبيق الشريعة؟
- العائق الأول في نظرنا هو مسألة الانتخابات، وإن كنا نعتقد أن كل عائق
سيواجهنا مستقبلاً لن يكون بقوة ما مضى، وما دام الوضع استمر على الحكم
الديموقراطي، وحافظنا على ما يصلح الشعب، والشعب بدوره متفاعل معنا،
ونحن بدورنا نسعى لإقامة العدل وتطبيق الشريعة فأنا واثق بأن الله معنا إلا أن يأتي
اختبار وابتلاء من الله تعالى؛ فهذا أمر آخر، لكن ما دام العدل قائماً.... فلا أظن
أنه ستكون هناك عوائق أشد مما مضى، فقد قاموا بالتشويه وحاولوا إثارة الشغب؛
فمثلاً في يوم الإعلان كان هناك أمر للجيش بمنع تجمع الناس من أجل إعلان
تطبيق الشريعة حتى وإن أدى ذلك إلى قتل الحاضرين، ولكن الله سلّم وحيل بينهم
وبين ما يشتهون.
البيان: الغرب يعادي تطبيق الشريعة لاعتبارات دينية وحضارية قبل كل
شيء، فهل ترون أن الدعاة إلى الله وأبناء الإسلام المخلصين له في نيجيريا
قادرون على إدارة دفة الصراع بتخطيط وروية، ولا يدفعهم مجرد الحماس فقط؟
- هناك أمر وقع قريباً، وهو يمثل لنا ما يمكن أن يحدث في هذا الموضوع،
(يشير إلى ما حدث قريباً من رد فعل المسلمين تجاه قضية مسابقة ملكة الجمال وما
ترتب عليه) ، أنا واثق بأنه يوجد في المسلمين من هو مستعد للتضحية بحياتهم في
سبيل الله سبحانه وتعالى؛ فأنا واثق بوجود من قد جند نفسه من أجل هذا الأمر،
والأمر الذي نحتاج إليه هو وجود قائد، وإذا وجد فالأتباع مستعدون للانقياد له.
ففيما يتعلق بقضية الانتخابات أنا واثق بأن المسلمين في نيجيريا لن يقبلوا أي
تلاعب بالنتائج لغرض إبعاد الذين يسعون للتطبيق عن كراسي الحكم، ولو أدى
ذلك إلى تقسيم البلد. ويوجد حالياً فئة في زمفرة لديهم استعداد تام في حالة ما إذا
رأوا مني تغيراً في منهجية التطبيق أن يتصرفوا بإقامة من يمضي قُدُماً بالعملية.
البيان: الذي أقصده بالقدرة على إدارة دفة الصراع، أن الصراع يتطلب
نوعاً من الكر والفر، والإقدام والتراجع، وخاصة أن الغرب قد يستثمر حالة
الحماس الموجودة لدى المسلمين لإسالة الدماء في أوساط الشباب المسلم
والقضاء على الرموز الإسلامية والدعوية، ولا أقصد الدعاة، وإنما أقصد
الرموز المخلصة للإسلام في شمال نيجيريا؛ فمن الممكن أن تستقطب بطريقة أو
بأخرى، فهل ترون بأن لدى المسلمين قدرة على إدارة الصراع، أم أن لديهم
فقط الاستعداد بأن يموتوا في سبيل القضية؟
- كما سبق أن قلت: نحن نعرف بأن للموت أجلاً مسمى، وإذا جاء الأجل لا
يمكن تجاوزه، إن أهم ما أريد غرسه في قلوب الناس هو طلب مرضاة الله سبحانه
وتعالى، وإذا نحن قعدنا ننظر فيما عسى أن تفعله أمريكا أو بريطانيا فحتى ديننا قد
نعجز عن العمل به، وأما ما يتعلق بالحكمة كما جاء في أوامر الله سبحانه وتعالى
فنحن نستعمل الحكمة في بيان الدين للناس بدون حاجة إلى عنف أو شدة، أما لو
كان النظر إلى كراهيتهم لهذا الأمر فهذا شيء لا نملك أن نفعل شيئاً تجاهه، نحن
غايتنا غرس العقيدة في قلوب الناس، وأن يستعدوا للتضحية ولو بحياتهم من أجل
دينهم، مع عدم الاعتداء على أحد، بل نعلّم الناس الصبر على من يريد إثارتهم؛
فكلما حاولوا إثارة الفوضى فنحن بأسلوب حكيم نجد طريقة لتهدئة الوضع؛ فليس
لنا حاجة إلى أن نقوم ببعض ردود الأفعال من أجلهم.
إن من أهم الأمور عندنا جمع كلمة المسلمين؛ لأنه كلما اجتمع المسلمون فلا
يجد هؤلاء طريقة لشق صفهم، وقد بدأ سلوك السبيل المؤدي إلى الاتحاد والاجتماع
بحمد الله تعالى، ونحن دائماً نصبّر الناس حتى لا تنتشر الفوضى ويحصل الشغب؛
فقد شاهدنا محاولات كثيرة لإثارة الشغب في زمفرة؛ فمرة خططوا للشغب فيها
فأخفقت خطتهم ووقع الشغب في كدونا؛ فهذا هو الأسلوب الذي نتخذه: نصبّر
الناس، وهذا لا يمنع الأمريكان ومن شايعهم من أن يسعوا لإثارة الفوضى؛ فنحن
بدورنا نسعى للدفاع عن أنفسنا بشتى الوسائل.
والقضية التي أراها أن المسلم ما دام يعتقد أنه سيموت، وأن لموته أجلاً
مسمى، فينبغي له أن يصرح (بمعتقده) ، وقضية المداهنة من أجل ألا تقع
الفوضى أو ألا يحصل القتل؛ فأنا قد شاهدت تجربة حية؛ فكما قلت قد كانت هناك
محاولات لتهديدنا وبعثوا بعوثاً إلينا، ولا زال الصحفيون يأتون إلينا من الغرب
لينظروا ماذا نعمل، بل جاؤونا أيضاً من قِبَل الحكومة الفيدرالية لما رأوا إقبال
الناس على قضية التطبيق.
وقد نادت الصحيفة الرسمية للولاية جميع المسلمين وخصوصاً قادتهم في
الداخل والخارج بأن يعرفوا بأنهم سيموتون، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه،
وأن المُلك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، بمعنى أنه لا بد من عرض
الإسلام على حقيقته، وأشارت إلى أن ما حدث في زمفرة يدل على أنه حتى ولو
قتلنا فالعبرة بما حققناه؛ لأن الموت مصير الجميع.
البيان: ما أبرز الجهود التي تبذل للحيلولة دون نجاح التطبيق؟
- أولاً كما ذكرت سابقاً بدؤوا بأسلوب التهديد: هددوا بأنهم سوف يسقطون
الحكومة إذا لم نتوقف؛ فلما رأوا أن ذلك لم يُجْدِ شيئاً لجؤوا إلى التهديد بقتلي، فلما
رأوا عدم جدواه وأننا لم نلقِ بالاً لذلك بدؤوا محاولة شرائنا بالأموال، وهذا أيضاً لم
ينفع، والآن جهودهم منصبَّة في اتباع الحيل السياسية، وهذا أيضاً بفضل من الله
لم يوفقوا فيه؛ فإنهم يريدون أن يسببوا لنا خلافات داخلية وانشقاقاً في حزبنا في
الولاية؛ لأنهم رأوا أنهم إذا رشحوا مرشحاً من أي حزب آخر فلن يكون له أي أمل
في الفوز، فيريدون أن يُحدثوا مشاكل في العملية الانتخابية، أو في أتباعنا في
الحزب فيفرقوهم؛ لأنهم لاحظوا أن في الانتخابات الأخيرة كان هناك مرشحان
قويان في حزب الشعب الديموقراطي (الحزب الحاكم في الحكومة الفيدرالية وهو
الحزب المعارض لنا في ولاية زمفرة) ، فلما تمّ ترشيح أحدهما غضب أتباع الآخر
فصوتوا للحزب المعارض، ودخلوا في صفوفنا، فيريدون أن يستخدموا هذه الخطة
للانتصار علينا، فيسعون في تأييد شخص آخر معارض لي ويقدمون له أموالاً
طائلة، ويحصل له أتباع؛ فإذا لم يتم ترشيحه فسوف ينقلب أتباعه إلى صف
الحزب الآخر المعارض، وهناك مؤشرات واضحة تدل على أن هذا أيضاً لن ينجح؛
فالآن بيننا وبين المرشح الآخر مفاوضات، وسيكون من المؤيدين لنا وفي صفنا
أيضاً إن شاء الله.
البيان: المرحلة التي قطعت في تطبيق الشريعة مرحلة مباركة؛ فما الأمور
التي ترون أنها أعانت على دعم تطبيق الشريعة؟
- إن أهم ما ساعدنا هو توحُّد صفوف المسلمين والعلماء، واتحاد العلماء من
مختلف الانتماءات الدينية كان عاملاً فعالاً في مضي الحكومة قُدُماً نحو عملية
التطبيق، وتوحُّد كلمة المسلمين واتخاذهم موقفاً واحداً ضد كل من يعارض الشريعة،
كل ذلك جعل أعداء تطبيق الشريعة الإسلامية كالحكومة الفيدرالية وغيرها ممن
يريد إثارة المشاكل يحسبون ألف حساب قبل الإقدام على أي عمل ضد الشريعة،
فهذا التوحّد والاجتماع قد ساعدنا كثيراً، ثم وقوف بقية المسلمين معنا في قضية
التطبيق، والذي لم يكن مقصوراً على مسلمي ولاية زمفرة فحسب، بل يشمل كل
المسلمين في ولايات كانو وكدونا، وسوكوتو، وكاتسينا، وكيبي، وجيغاوا،
وبرنو، وبوشي، بل كل أنحاء نيجيريا حتى من ولايات يوربا، كلهم وقفوا ولا
زالوا يقفون معنا، ونشاهد ذلك واضحاً عندما تصدر أي معارضة، فقبل أن أتكلم
بالرد يسارع المسلمون من شتى أنحاء نيجيريا إلى الدفاع عنّا، وهذا كان له دور
في تقوية وتوحيد صفوف المسلمين، وساعدنا أيضاً الإقبال الشديد على تعلُّم الدّين
وخاصّة من قِبَل الشباب؛ فالناس اتجهوا إلى المدارس ومراكز التوعية الإسلامية
سواء التي أقامتها الحكومة بواسطة جهود وزارة الشؤون الإسلامية، أو التي فيها
دروس خاصة يقوم بها علماء من عند أنفسهم؛ فهذا أيضاً أعان قضية التطبيق
بشكل كبير.
بالنسبة لما يتعلق بطبائع الناس، لا زلنا نبذل الجهود في تغيير سلوك الناس
عما عهدوه من قبل وتربوا عليه؛ فالناس موافقون ومستسلمون للتطبيق، لكن هناك
أمور لدى البعض خاصة فيما يتعلق بقضية جمع الأموال فهو أمر يحتاج إلى
الاستمرار في التوعية ووعظ الناس لمعالجة هذا الجانب، فترى الإنسان من
حرصه على المال قد يسلك طرقاً غير شرعية لكسب المال وجمعه، إما في عمله
الوظيفي في الحكومة أو في تجارته في سوقه، فهذا جانب نرى فيه نوعاً من
الضعف فيه؛ فالناس إذا جاءهم أمرٌ فيه مكسب مالي فقد ينقلب تفكيرهم رأساً على
عقب، سواء كانوا من العلماء أو من موظفي الحكومة؛ فهذا أمر يحتاج إلى معالجة،
ونحن نسعى لذلك. فقضية حب المال هي أكبر مشكلة لدينا، سواء مع العلماء أو
الموظفين أو مع جميع فئات المجتمع.
البيان: الانتخابات النيجيرية قادمة على الأبواب؛ فكيف ترون مستقبل
تطبيق الشريعة في المرحلة القادمة في زمفرة خاصة، وفي بقية الولايات
الشمالية عامة؟
- نحن بحمد لله في زمفرة ليس لدينا مشكلة؛ فالناس لا زالوا مقبلين على
تأييد قضية التطبيق، أما على مستوى نيجيريا فالمسلمون منقسمون وخاصة كبار
الشخصيات وأهل الرأي منهم، لدينا مشكلة فعلاً؛ فمن أجل خلافات ونزاعات حول
مصالح خاصة صاروا فرقاً كل فرقة تعارض الأخرى، وكل زعيم لا يريد الآخر
أن يكون رئيساً، وهذه مشكلتنا، وأما بالنسبة للولايات التي أعلنت التطبيق فأي
شخص تم انتخابه حاكماً فيها ولو لم يكن الحاكم الحالي فلا يمكن أن يأتي بنظام
جديد يزيل به قضية التطبيق؛ لأن الناس على وعي عالٍ؛ فلا يمكن أن يقبلوا منه
هذا، وإنما المشكلة في المستوى الفيدرالي، فيصعب أن يتفق المسلمون إلا بتوفيق
من الله، وإن لم يحصل ذلك فستستمر الدولة بأيدي النصارى هذه المرة أيضاً.
البيان: يلاحظ بعض المتابعين فتور التطبيق في بعض الولايات الشمالية في
المرحلة الأخيرة، فما تعليقك على هذا؟
- ليس هناك فتور، وذلك أنه في البداية كان هناك نزاع شديد، فكانت
الأخبار يومياً تذكر قضية التطبيق في الصحف وغيرها، وكانت تتابع وتنقل
الحوادث والقضايا المتعلقة بالشريعة، ويذكرون ما حصل وما لم يحصل، والآن قد
يئسوا من القضاء على قضية التطبيق، فلا يريدون ذكر أي شيء فيه ثناء على
الشريعة وتطبيقها، إلا ما يتعلق بقضية الرجم مثلاً كقضية (أَمِينة لول) أو
(صفية حسين) على سبيل المثال، أما كل ما يحدث مما يكون فيه حسن الذكر
للشريعة فإنهم يكتمونه ويغفلون عنه تماماً، والحقيقة أنه قد حصل تقدم كبير في
جميع الولايات التي أعلنت التطبيق، والأمور تجري فيها بصفة طيبة في جانب
التطبيق؛ لكن هذا لا يُذكر؛ لأن الذين يتحدثون لا يهمهم التقدم الذي تم تحقيقه،
وإنما يهمهم فقط لماذا تطبق الشريعة؟ فهم غير موافقين على التطبيق أساساً،
فحصل نزاع معهم في الأول والآن التطبيق سارٍ، فلا يرغبون أن يحقق أي تقدم،
وهمهم الآن هو البحث عن سبل لإعاقة القضية؛ فهذا الذي جعلنا لا نسمع شيئاً
كثيراً عن تطبيق الشريعة في بقية الولايات في نيجيريا.
البيان: الغرب له مطامع في ثروات نيجيريا بصورة واضحة، فما أثر تلك
المطامع على تطبيق الشريعة اليوم؟
- لما كانت علاقة هذه الدول مع الحكومة الفيدرالية بصفة مباشرة وليس
بالولايات، فهذا لا أثر له في الأمور التي تجري في الولايات حول التطبيق، إلا
إذا تم بتوفيق من الله إقامة حكومة إسلامية على المستوى الفيدرالي فحينئذ تظهر لنا
المشاكل التي سوف تواجهنا، وأما حالياً فليس لهم أي اهتمام بنا في الولايات إلا ما
يقومون به من مساعدة الفئات التي كانوا يساعدونها من قبل (في محاربة الإسلام
وقيمه) ، ونعتقد أن لديهم متابعة مستمرة للأوضاع في الولايات التي أعلنت
التطبيق.
البيان: هل من أثر لما يسمى بحرب مكافحة الإرهاب على قضية تطبيق
الشريعة في نيجيريا؟
- في الوقت الراهن ليس لديَّ معلومات عن هذا؛ لأن هذا يرجع إلى
العلاقات الخارجية وهي كما قلت مع الحكومة الفيدرالية، إلا ما حصل قريباً لمَّا
جاءت تصريحات من نائبي تستنكر ما صدر في بعض الصحف النيجيرية من غمز
للنبي صلى الله عليه وسلم وتبين خطورته، فاختاروا أن يسموها إصدار فتوى منه،
وإنما هو تصريح يبين بأن تلك المرأة التي عرَّضت بسب الرسول صلى الله عليه
وسلم دمُها هدْر؛ فعلى الحكومة أن تتخذ الإجراء اللازم من أجل ذلك، فقد سمعت
بأن أمريكا طلبت من حكومة ولاية زمفرة سحب مقالتها تلك ونقضها؛ لأن الشريعة
لا تنفذ على غير المسلمين، وإلى الآن لم يحصل أمر آخر عن ذلك، فنظام الدولة
لا يسمح لهم بالدخول في علاقة سياسية مع الولاية أو التدخل في شؤونها؛ لأن
الدستور لا يسمح لهم بذلك، إلا أن يشيروا برأي أو يقوموا بتصريحات صحفية،
أما الحكومة الفيدرالية فهي التي لها علاقة مباشرة مع الولايات.
البيان: نيجيريا بلد ساخن في القارة الإفريقية حتى أسماه بعض المتابعين
بـ (بلقان إفريقيا) ، فهو مليء بالصراعات الدينية والعرقية والقبلية والمناطقية،
فإلى أي مدى ترون ذلك مؤثراً على مسيرة تطبيق الشريعة في نيجيريا؟
- هذه الصراعات تاريخها قديم، ففي كل مكان وجد المسلمون مع غير
المسلمين تحصل نزاعات وبخاصة في وضع مثل وضع غير المسلمين من أهل
نيجيريا الذين ليس لهم توجه إلا التقليد الأعمى للغرب وقيمه وأخلاقه، ويؤيدون كل
محاولة تحول المسلمين إلى الانقياد والتقليد لقيم وأخلاق اليهود والنصارى،
والمسلمون في نيجيريا لم يزالوا منذ عهد بعيد متمردين على كل من يريد تغيير
هويتهم وتقاليدهم وتلك الهوية هي الهوية الإسلامية، فلم يزل المسلمون منذ كنا
صغاراً يطالبون بإعادة تطبيق الشريعة عليهم، فكانت هذه مطالبهم عند كل نقاش
يقوم عند إعادة كتابة دستور للدولة، وهو الأمر الذي كان سبب النزاعات في
الندوات التي تعقد لإعادة صياغة الدستور؛ فالمسلمون يطالبون بالنص على ما
يضمن لهم حق العمل بالشريعة، وغير المسلمين يمنعون من هذا، فكان ذلك دائماً
سبب النزاع في تلك الندوات وسبب إخفاقها، فهذا الصراع قائم ولا ينتهي؛ فهم لا
يريدون للمسلمين أن يطبقوا الإسلام على أنفسهم، والمسلمون لا يرضون بشيء إلا
العمل بنظام دينهم؛ فموقفهم لا يؤثر فينا أبداً، وعلى الله توكلنا.
البيان: تسربت وثائق كنسية تفيد بأن الكنيسة لن تسمح ببروز قيادات
علمية شرعية بعد الشيخ أبو بكر محمود جومي؛ فما الذي يمكن أن يقدم لإيجاد
تلك القيادات ومن ثَمَّ إبرازها؟
- كما سبق أن ذكرت أن مما حققته قضية التطبيق للشريعة هو توحيد
صفوف المسلمين؛ وأكبر مشكلة حصلت هي أن الجمعية التي أسسها الشيخ أبو بكر
جومي، وهي جماعة إزالة البدعة وإحياء السنة قد انقسمت في نفسها إلى فرقتين:
إزالة كدونا، وإزالة جوس.
وبالرغم من كل المحاولات لجمع زعماء الفريقين لم يحصل أي نجاح؛ لأن
كل فريق لا يرضى بالتنازل عن الرئاسة للآخر؛ فقضية ظهور شخصية يرضى
به الجميع أمر صعب إلا بتوفيق من الله؛ فعلى سبيل المثال لو برز شخص
محسوب من إزالة كادونا؛ فلن يكون مقبولاً لدى إزالة جوس ولا لدى أصحاب
الطرق الصوفية؛ فهذا أمر لا يحصل إلا بتوفيق من الله كما قلت، ونحن على أمل
بأنه سيحصل إن شاء الله إذا جاء وقته. لكن مع هذه الفرقة يصعب أن يبرز
شخصية مقبولة لدى الجميع.
البيان: اشتهرت مقولة أحمد بللو أن من يسيطر على الشرق النيجيري فإنه
يسيطر على نيجيريا؛ فما السبيل لغد مشرق للإسلام في نظركم في الشرق
النيجيري؟
- قد حُققت انتصارات سارة ولا زالت تتحقق في الشرق، ونحن بدورنا
أيضاً قد ساعدنا بعض العلماء الراغبين في بناء المساجد في تلك المنطقة، وفي
الآونة الأخيرة أسلم رئيس إحدى القبائل منهم؛ فهناك عمل إسلامي قوي قائم في
المنطقة خاصة من قِبَل الشباب المسلم قبل الإعلان عن تطبيق الشريعة، ونحن
نؤيد هذه الجهود ونقدم لها ما نستطيع من مساعدات، وكذلك المؤسسات الخيرية من
المملكة العربية السعودية لديها جهود مشكورة في المنطقة، وقد بنوا مدرسة ومركزاً
إسلامياً في ولاية إيمو إحدى ولايات الشرق.
البيان: ما أبرز الدروس والعبر التي استفدتموها من تجربتكم المباركة في
تطبيق الشريعة؟
- أعظم ما لاحظته هو أن لدى بعض العاملين في ميدان العمل الإسلامي
مشكلة كبيرة لا بد من معالجتها وهي تعم جميع العالم وليست خاصة بنا هنا، وهي
مشكلة حب المال؛ فكل من جربته في الدينار والدرهم رأيت منه عجباً؛ فهذا أكبر
ما لاحظت؛ فترى الشخص يسعى جاهداً في ميدان العمل الإسلامي وفيما يبدو أن
عمله خالص وبمجرد ما تدخل قضية المال ترى منه عجائب؛ فهذه المشكلة هي
أكبر مشكلة تواجه المسلمين في نيجيريا، وهي: كيف نعالج مشكلة المال؟
إذا حصل للناس انضباط في المعاملة المالية بحيث يضبطون أنفسهم في كسبه
من الطرق المشروعة، ويفهمون أن هذا هو الإسلام الصحيح؛ فإن شاء الله
سيحصل تقدم نحو المستقبل الزاهر؛ وأما حالياً فالمشكلة التي تواجه قضية تطبيق
الشريعة الإسلامية لا تتجاوز شدة الطمع على المال.
البيان: يردد البعض بأنكم استعجلتم في إعلان التطبيق، ويقولون بأن
الباعث لكم كان مجرد الحماس الديني من دون تخطيط؛ إذ كان الواجب كما
يقولون أن يسبق عملية الإعلان تهيئة للأمة لتقبل ذلك، لكن ذلك لم يحدث بدليل
ضخامة حالات الجهل والفقر في المجتمع النيجيري وما ينتج عنها من أمراض
مادية ومعنوية، فما تعليقكم على ذلك؟
- لو أننا لم نعلن التطبيق يوم أن أعلناه لمَا جاء وقت يحصل فيه الإعلان،
وكما ذكرت سابقاً أننا لمَّا قمنا بالإعلان أتوا حتى بالجيش لمنع ذلك؛ ففي الفترة
الأولى كان هناك تردد: هل هذا يمكن أو لا يمكن؟ فالإعلان قد تم وبدأ العمل
الجاد في التطبيق؛ فهو الذي فتح الباب وكان نقطة الانطلاق، وهناك بعض العلماء
الذين كلموني قبل الإعلان بأن هذا ليس هو الطريق الصحيح، وأنه لا بد أولاً من
إصلاح الناس والقضاء على الفقر وغير ذلك، ولم يكن هذا رأينا، وحالياً بعد
الإعلان والشروع في التطبيق فإن كل ما كانوا يشيرون إليه بأنه لا بد أن يسبق
عملية الإعلان فإننا نسعى بكل السبل المناسبة لتحقيقه مثل إصلاح المجتمع
والقضاء على الفقر؛ لأن كل هذا مما يحصل بتطبيق الشريعة، والحقيقة أن
الإعلان بالتطبيق ليس إلا التصريح باستعدادنا وقبولنا بالعمل بالشريعة؛ وإلا
فالشريعة كانت موجودة من قبل، فإذا قلت: لا بد من التمهيد لهذا بشيء تعمله قبل
التطبيق؛ فمعنى هذا أنك تريد أن تحدث أموراً أخرى؛ فقد أكمل الله تعالى هذا
الدين وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكل من يريد العمل به ليس له إلا أن
يرجع إليه ويعمل به؛ فمقصودنا بالإعلان هو قبولنا العمل به؛ فالنظام كان موجوداً
أساساً، والتطبيق هو الذي يضمن هذه الإصلاحات التي تذكر.
البيان: ما الفرص التي ترونها ملائمة لدعم تطبيق الشريعة؟
- أول شيء معالجة الفقر؛ فإن الفقر يشكل مشكلة اجتماعية كبيرة في
نيجيريا؛ فكل ما يوفّر للناس فرصاً وظيفية، ويوفر البنية التحتية كالآبار، وكل ما
يرفع مستوى المعيشة في المجتمع فهو مما يساعد في زيادة وقوف الناس مع
حكومات الولايات التي أعلنت التطبيق ومن ثَمَّ تمسكهم بالدين؛ لأنهم يرون أنه قد
تم تطبيق الشريعة وحقق ذلك لهم تغيراً إيجابياً في حياتهم الاجتماعية، وكذلك
السعي لإيجاد علماء مخلصين يقومون بتوعية الناس وتعليمهم الدين الإسلامي على
المنهج الصحيح؛ فهذان الأمران في نظري من أهم السبل التي تدعم تطبيق
الشريعة.
البيان: ما الكلمة الأخيرة التي ترون توجيهها للمسلمين عبر صفحات البيان؟
- أنا أنادي إخواننا المسلمين بأن يكونوا صادقين في تمسكهم بدينهم؛ فإن هذا
الدين منصور، ولا يحسبوا أن أحداً يؤتيه الله الملك ثم يقدر أحد على نزعه منه؛
فإن الملك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء؛ فالمسلمون أهل مبادئ فإذا تمسكوا
بمبادئهم فسينالون الاحترام حتى من أعدائهم من غير المسلمين، وأما إذا قاموا
بتقديم تنازلات عن مبادئهم فهذا سيفقدهم الثقة في أنفسهم، وينزع رهبتهم من قلوب
أعدائهم.
__________
(1) المادة كما هي في نصها الإنجليزي:
Every person shall be entitled to freedom of thought, conscience and religion, including freedom to change his religion or belief, and freedom (either alone or in community with others, and in public or in private) to manifest and propagate his religion or belief in worship, teaching, practice and observance
- وترجمتها بالعربية هي: الحرية الفكرية والوجدانية والدينية مضمونة لكل شخص، مع ضمان كامل الحرية له بأن يغير دينه أو عقيدته، كما له أيضاً حق ممارسة دينه أو عقيدته بصفة فردية أو بمشاركة غيره بصفة جماعية وفي السر والعلن، وكذلك له حق نشر دينه أو عقيدته عن طريق أعمال العبادة، والتعليم، وجميع الممارسة الدينية والتمسك به.(185/52)
المسلمون والعالم
أسلحة دمار شامل بدون تفتيش أو رقابة دولية..
الترسانة العسكرية الإسرائيلية خطر يهدد المنطقة العربية والعالم
د. عز الدين المفلح [*]
تدّعي واشنطن أن العراق قد طور أخيراً جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل،
وذلك منذ انتهاء مهمة لجان التفتيش «يونسكوم» في كانون الأول عام 1998م،
علماً بأن رئيس مفتشي هذه اللجان «جميس ريتر» صرح أمام مجلس الشيوخ
الأمريكي ومجلس العموم البريطاني بأن هذه اللجان دمرت 95% من أسلحة العراق
ووسائل إنتاجها، فلم يعد بإمكانه تطوير أي قدرات بهذا الاتجاه.
وفي الوقت الذي تمتلك إسرائيل ترسانة رهيبة من أسلحة الدمار الشامل وهي
الدولة الوحيدة في المنطقة التي لم توقع على اتفاقات حظر الأسلحة النووية، ولا
تخضع للتفتيش الدوري للوكالة الدولية للطاقة الذرية توجه أمريكا إلى سوريا تحذيراً
من مغبة امتلاك الأسلحة النووية وتطويرها! ومهما انطوى عليه موقف أمريكا هذا
من غباء أو تغاب، أو عزة بالإثم، وغطرسة القوة؛ فلم تعد الحقائق خافية على
العالم.
وفيما يلي غيض من فيض مكنون الترسانة الإسرائيلية من أسلحة الدمار
الشامل، كما أوردتها مصادر مختصة عالمية:
* الأسلحة النووية الإسرائيلية:
يفيد تقرير عسكري أمريكي صدر أخيراً [1] أن إسرائيل تمتلك أكثر من 400
قنبلة نووية؛ بينها قنابل هيدروجينية، وأن حجم الترسانة النووية الإسرائيلية يبلغ
ضعف حجم التقديرات الاستخباراتية الشائعة التي كانت تتحدث عن مئتي قنبلة
نووية إسرائيلية، ويتحدث التقرير عن أنه كان لدى إسرائيل عام 1967م خمس
عشرة قنبلة نووية، وأنها امتلكت عام 1980م نحو مئتي قنبلة، ولكن إسرائيل
تمكنت من تجميع أكثر من 400 قنبلة نووية حتى عام 1997م، غير أن أهمية
التقرير تتمثل حقيقة في توصيف نوعية هذه القنابل، كما أنه في عام 1973م
امتلكت الدولة اليهودية عشرين صاروخاً نووياً، وطورت «القنبلة الحقيبة» .
وأشار التقرير إلى أنه في عام 1974م أقامت (إسرائيل) ثلاث وحدات
مدفعية نووية تحوي كل منها اثنتي عشرة فوهة من عيار 175 ملم و 230 ملم.
وأوضح التقرير أنه في عام 1984م امتلكت إسرائيل 31 قنبلة بلوتونيوم،
وأنتجت عشر قنابل يورانيوم أخرى، وفي عام 1986م كان لدى إسرائيل ما بين
مئة إلى مئتي قنبلة منشطرة، وعدد من القنابل المنصهرة، وفي عام 1994م
صنعت ما بين 64 - 112 قنبلة برأس حربي صغير، وكان لديها خمسون
صاروخاً نووياً من طراز «يريحو» [2] .
وأنجزت إسرائيل كل ما تبغيه من مشروعها النووي عام 1995م عندما
أنجزت إنتاج قنابل نيوترونية، وألغام نووية، وقنابل الحقيبة، وصواريخ تطلق
من الغواصات.
ويشير التقرير إلى امتلاك إسرائيل لنحو 50 - 100 صاروخ (يريحو -
1) ، و 30 - 50 صاروخاً (يريحو - 2) [3] .
وامتلاك إسرائيل للقنابل الهيدروجينية يتضمن بعداً نوعياً؛ إذ قوة كل قنبلة
هيدروجينية تزيد مئة إلى ألف مرة عن القنبلة النووية الاعتيادية، والقنبلة
الهيدروجينية تعد قنبلة معقدة باهظة التكلفة ومعقدة التطوير، وتملك مثل هذه القنبلة
كل من الولايات المتحدة، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، والصين.
ويرى التقرير الأمريكي الآنف الذكر أن أخطر ما في الموضوع النووي
الإسرائيلي هو أن إسرائيل طورت قنابل نيوترونية تكتيكية قادرة على تدمير القوات
المعادية بأقل قدر ممكن من الخسائر والأضرار في الممتلكات، ويذكر التقرير
توصية جنرال إسرائيلي في حرب الخليج في عام 1990م للأمريكيين باستخدام
«أسلحة نووية تكتيكية غير إشعاعية» ضد العراق. وأشار إلى التقديرات
بأن إسرائيل توجهت نحو «القنابل النووية الصغيرة» ، والتي تعد مفيدة لصد
هجوم موضعي، أو لاستخدامها كألغام.
وأشار التقرير أيضاً إلى وصول غواصات «دولفين» الألمانية الصنع
لإسرائيل، والتي تمكن إسرائيل من امتلاك القدرة على توجيه الضربة النووية
الثانية، وأوضح أن إسرائيل عملت على تطوير صواريخ تطلق من البحر منذ
الستينيات.
وجاء في التقرير أن الطبيعة السرية للمشروع النووي الإسرائيلي قد أخفت
المشكلات المتزايدة للمفاعل النووي الإسرائيلي العجوز في ديمونة، وربط بين هذه
المشكلات واستمرار المفاعل في إنتاج التريتيوم لتعزيز قوة الرؤوس الحربية
للقذائف المضادة للدروع والمضادة للطائرات.
ورأى التقرير أن للأسلحة النووية الإسرائيلية غرضاً آخر هو استخدام هذه
الأسلحة للضغط على الولايات المتحدة، كما أن الدولة اليهودية تستخدم وجود هذا
السلاح لضمان استمرار تدفق الأسلحة التقليدية الأمريكية إليها.
وخلص التقرير إلى أنه بصرف النظر عن أنواع الأسلحة النووية الإسرائيلية
وأعدادها؛ فإن الإسرائيليين طوروا منظومة معقدة، وغدوا قوة يعتد بها.
وقد خدم الغموض النووي سياسة إسرائيل، لكنها تدخل الآن مرحلة الشفافية
التي ليست في مصلحة الولايات المتحدة؛ لأن الكثيرين يتنبؤون بأن الترسانة
النووية الإسرائيلية ستغدو أقل أهمية إذا خرجت من القبو؛ لأنها ستفجر سباقاً على
التسلح.
وأما وسائط توصيل القدرات النووية فهي:
أولاً: إف - 16، وإف - 15 تاندر، وإف - 15 إيغل.
ثانياً: صواريخ «أريحا - 1 و 2 و 3» .
ثالثاً: غواصات «دولفين» الألمانية.
* الأسلحة الكيميائية والبيولوجية:
ترى إسرائيل أنه إذا لم يتحقق مسعاها لإجبارها الدول العربية على التوقيع
على معاهدة حظر إنتاج الأسلحة الكيميائية والنووية وتخزينها؛ لكي يتم لها الانفراد
بالرادع النووي من دون منافس، فإن تكرار ما وقع عام 1981م حينما أغارت
المقاتلات الإسرائيلية على المفاعل النووي العراقي ودمرته هو أمر وارد بالنسبة
للمنشآت الكيمياوية والبيولوجية العربية.
وقد قامت إسرائيل، في السنوات الأخيرة، بتطوير ترسانتها من الأسلحة
الكيميائية والبيولوجية حتى أصبحت كما يأتي [4] :
- السلاح الكيميائي الثنائي (المزدوج) : وقد اهتمت به إسرائيل منذ اكتشافه،
وهو يتكون من عاملين منفصلين، يكوِّن اتحادهما معاً عند الاستخدام فقط خليطاً
له صفات مهلكة. وقد أمدت أمريكا إسرائيل أخيراً بهذا السلاح.
- غاز الكلور (CI) : وهو يسبب تهيجاً في الجلد، وتدهوراً في وظائف
الشُّعب الهوائية، ويؤدي إلى الموت.
- غاز البروم.
- غاز التابون (GA) : وقد تم تهريب 1600 طن منه لإسرائيل من ألمانيا.
- أكسيد الإثيليين: استخدمته إسرائيل في غاراتها على لبنان.
- غاز الفوسيجين (CG) : يؤدي لإيقاف الدورة الدموية، وتخثير الدم،
وحدوث الجلطات والموت.
- غاز الخردل (HD) : يسبب التهاب العيون، وزيغان البصر، والعمى،
والتقرحات، وتسمم الجلد، والحروق.
- غاز السومان (GD) : ورائحته تشبه الكافور، ويؤدي لارتخاء
العضلات وصعوبة التنفس ثم الموت.
- غاز في إكس (VX) : وهو غاز شديد السمية، وتماسه مع الجلد يؤدي
إلى الموت.
- الجمرة الخبيثة (الإنثراكس) .
- حامض الهيدروسيانيد (AC) : ويسبب ضيق التنفس والاختناق
والغيبوبة ثم الموت.
- غازات الشرطة، وغازات العقل مثل الـ (D.S.L) (عقار الهلوسة)
وغيرها.
- هناك مصنعان يزودان الجيش الإسرائيلي بغاز (CS) وهما مصنع
«يشيرا» و «المعمل الفيدرالي» ، وغاز (CS) هو تركيب كيميائي له
رائحة الفلفل، وهو يحدث إحساساً حارقاً وقارصاً في الجلد، وسعالاً، وسيلان
دموع، وضيقاً في الصدر، ودواراً مع غثيان يصحبه قيء [5] .
- قنابل النابالم: وهو من أقدم العوامل الكيميائية التي تستخدمها إسرائيل،
والنابالم هو خليط من مادة بترولية وبعض أملاح الأمنيوم، مثل حمض الأوليك،
وحامض البالمتيك، وحامض النفثاليك، ويؤدي خلط هذه المواد إلى إنتاج تركيبة
شديدة الاحتراق تعبأ في قنابل، وعند انفجارها تتناثر مكوناتها الحارقة لتلتصق
بجسم الضحية مسببة حروقاً بالغة وتشويهاً شديداً للشكل ولوظيفة الأعضاء المصابة
[6] .
- الترميذ أو الترميت: وهو مركب معدني يتكون من الألمنيوم وأكسيد الحديد
ومشتقات معدنية أخرى، وهو شديد الاحتراق حتى بمعزل عن الهواء.
- الإلكترون: وهو خليط من الماغنيسوم والألمينيوم مع معادن أخرى، وهو
شديد التأثير؛ إذ تصل درجة احتراقه إلى 2800 درجة مئوية.
- الفوسفور الأبيض: وهو شديد الحساسية للأكسجين؛ حيث يشتعل فور
ملامسته له في الجو منتجاً درجة حرارة تبلغ 250 درجة مئوية، وينتج عن
احتراقه غاز شديد السمية، وسقوطه على الجلد يؤدي إلى تلفه وإحداث تقرحات
وفقاعات قشرية سوداء.
- أكسيد الإثيلين: وهو عامل حارق استخدمته إسرائيل ضد المنشآت في
لبنان قبل الاجتياح وخلاله في عام 1982م [7] .
وتخطط إسرائيل لتحقيق مجموعة من التحديثات لتطور الأسلحة الكيميائية
والبيولوجية، وهي تغطي المجالات التالية:
- تطوير الاستخدام المشترك للسموم الفطرية والغازات الحربية المستمرة
لإضعاف القدرة الوقائية لوسائل الوقاية المباشرة للقوات المسلحة للعدو.
- تغليظ بعض الغازات شبه المستمرة مثل الزومان والزارين لزيادة مدة
استمرارها.
- إنتاج جيل جديد من الذخائر الثنائية لغازات الأعصاب المستمرة في إطار
خفض تكلفة الإنتاج وأمان التداول.
- خلط أكثر من نوع من الغاز الحربي في الدانات، أو الاستخدام الميداني،
كحالة خلط غاز اللويزيت مع غاز الزارين؛ حتى لا تصلح حقن الأترومين
للإسعاف الأولي من غازات الأعصاب.
- تطوير مضادات الثروة النباتية بالاستفادة من بحوث الهندسة الوراثية.
- الاهتمام ببحوث الكشف والإنذار الآلي عن الغازات الحربية، وأيروسولات
غازات الأعصاب المستمرة بوجه خاص، والإسعاف الأولي منها.
- إجراء التجارب على استخدام الحوامات المسلحة في تحميل مولدات الغاز
الحربي، وإطلاق سحب الغازات الحربية في إطار التكتيكات ضد القوات المسلحة
للعدو، إلى جانب استخدام الصواريخ (جو أرض) الكيميائية الموجهة بالأشعة
تحت الحمراء.
- استمرار بحوث اللايزر الكيميائي على المستوى العملي، ودراسة
التأثيرات التدميرية لأشعة اللايزر (ثاني أكسيد الكربون، أشعة أكس) .
- إدخال الهجمات والضربات الكيميائية في نظام لتحليل واختبار الأهداف
المعادية والسيطرة عليها، واستخدام الذخائر الذكية والصواريخ ذات التوجيه الذاتي
ضد الأهداف التكتيكية المعادية [8] .
هذا وتخزن إسرائيل أسلحتها الكيميائية والبيولوجية في مصانع للغازات
الحربية والسموم قرب الناصرة، وبتاح تكفا، ومصنع «مختيتيم» قرب تل
أبيب، كما تخزن الذخائر الكيميائية في بئر السبع، وتجهز المصانع التي تنتج
المبيدات الكيميائية والحشرية ومصانع الأدوية؛ لكي تتحول عند الحاجة إلى مراكز
لإنتاج الأسلحة الحربية الكيميائية والبيولوجية.
* الصواريخ الباليستية الإسرائيلية:
هناك نوعان من الصواريخ:
1 - الصواريخ الباليستية، وهي المعروفة بصواريخ (أرض أرض) التي
تطلق من منصات أرضية ثابتة نحو أهداف بعيدة عن مركز إطلاق.
2 - الصواريخ الجوالة التي يمكن حملها وإطلاقها من عربات خاصة قادرة
على نقلها من مكان إلى آخر.
ولدى إسرائيل ثلاثة أنواع من الصواريخ الباليستية التكتيكية:
- صواريخ لانس «إم جي إم 52 سي لانس» ، وهي أمريكية التصميم
والصنع، وقادرة على حمل رأس تقليدي ورأس نووي صغير. ومدى هذا النوع
من الصواريخ يتراوح بين 72 - 130 كلم.
- صاروخ «أريحا - 1» وهو (إسرائيلي فرنسي) التصميم والصنع،
وهو قادر على حمل رأس تقليدي أو نووي، يتراوح مداه بين 482 و 563 كلم.
- صاروخ «أريحا - 2» ، وهو نموذج إسرائيلي مطور ومحسن لصاروخ
«أريحا - 1» .
ولدى إسرائيل عدد تتفاوت التقديرات حوله بين 12 و 18 منصة إطلاق
متحركة للصواريخ التكتيكية الأمريكية الصنع من طراز «لانس» ، وعدد غير
معروف من منصات إطلاق صواريخ متوسطة المدى من طراز «أريحا - 1،
2، 3» .
بالإضافة إلى هذا، لدى إسرائيل الأنواع التالية من الصواريخ المضادة
للصواريخ الباليستية مثل صاروخ «سكود» :
1 - صاروخ «حيتس» (السهم: أرو) : لقد تم تطوير هذا الصاروخ
مؤخراً؛ وذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة، وبإمكانه اعتراض صاروخ (أرض
- أرض) ، ويزن 52 طناً، وبإمكانه أن يحمل مواد غير تقليدية مثل المواد
النووية والجرثومية.
2 - صاروخ «باتريوت» : وهو أمريكي الصنع، قامت واشنطن بتزويد
إسرائيل بهذا الصاروخ منذ حرب الخليج في عام 1990م؛ وذلك لمواجهة
صواريخ سكود العراقية. ويزن صاروخ باتريوت عند الإطلاق نحو 1000 كلج،
وأقصى مدى له نحو 144 كلم [9] .
هذا وقد زودت الولايات المتحدة إسرائيل بصاروخ «نوتيلوس» الذي يعمل
على الليزر لمواجهة صواريخ كاتيوشا التي يستعملها «حزب الله» ضد
الإسرائيليين.
* السوبر كمبيوتر (2 - Gray) وأسلحة الدمار:
زودت مؤخراً الولايات المتحدة إسرائيل بعشرة أنظمة سوبر كمبيوتر من
طراز (2 - Gray) التي ستقوم بتطوير الجيل الثاني من الأسلحة الإسرائيلية،
وخاصة أسلحة الدمار الشامل؛ إذ بإمكان هذا النوع من أنظمة الكمبيوتر تطوير
قنابل نووية صغيرة ذات الأوزان 1 كلج، 2 كلج و 5 كلج 10 كلج، و 15 كج.
وفي هذا الصدد يقول مدير معهد «مشروع ويسكونس للحد من الأسلحة
النووية» «جاري ميلهولين» : «إن الكمبيوتر (2 - Gray) سيسرع بشكل
ملموس اتجاه إسرائيل لبناء المزيد من أسلحة الدمار الشامل ومن ضمنها الصواريخ
الباليستية العابرة للقارات والأسلحة النووية» .
ويضيف «ميلهولين» قائلاً: «إذا استطاع الإسرائيليون الاستفادة من
طاقات السوبر كمبيوتر؛ فإن مخاطر ذلك ستتمثل في خفض النفقات، وفي الوقت
نفسه تسريع برنامج الصواريخ الباليستية، كما أنه سيساعد في بناء الجيل الثاني
من أسلحتها النووية التي تتضمن قنابل هيدروجينية وقنابل نيوترونية، وهذا يعني
أن واشنطن تعمل على تعزيز انتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط»
[10] .
وأخيراً: من أسلحة الدمار الشامل الأسلحة الكهرومغناطيسية التي تحدث
دماراً يفوق الدمار الذي تحدثه الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية مع أن تكلفتها
هي دون ثمن الأسلحة الأخيرة.
__________
(*) مدرس ومحاضر وأستاذ زائر في عدد من الجامعات العربية والأجنبية، محاضر في جامعة بيروت العربية، وباحث في مركز الأبحاث الفلسطينية.
(1) مركز مكافحة انتشار الأسلحة النووية التابع لسلاح الجو الأمريكي، وقد نشر هذا التقرير في موقعه على شبكة الإنترنت، وهو من إعداد العقيد المتقاعد (فارنر فار) ، وقد أعد في أيلول عام 1999م، (السفير، 2/7/2002م) .
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) 36 - 35 pp K jane's weapon systems, 1996 - 1997, U.
(5) الأسلحة الكيميائية والجرثومية، الدكتور نبيل صبحي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1990م، ص 72 - 73.
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق، و (سيناريو الحرب العربية الإسرائيلية المقبلة) إعداد جلال سلطان، الحلقة 20، 1989م.
(8) (أسلحة التدمير الشامل والصواريخ الباليستية في منطقة الشرق الأوسط وخيارات إزالتها) ، اللواء ممدوح حامد عطية، مجلة (استراتيجياً) ، مارس أبريل 1994م.
(9) المصدر السابق.
(10) Military technlogy, September, 2002.(185/62)
المسلمون والعالم
السائحون على الكوارث
صور من تجاوزات المنظمات الإنسانية الدولية
د. محمد بن عبد الله السلومي
* السائحون على الكوارث [1] :
تقوم المنظمات العالمية المعنية بالعمل داخل بلادها أو خارجها بأعمال إنسانية
جيدة في مجالات الإغاثة والإسعاف والجوانب الصحية. ولا شك أن لبعضها آثاراً
إيجابية في مناطق الاحتياج وأماكن الكوارث والأزمات. ومن المعلوم أن معظم
المنظمات العالمية إن لم يكن كلها تحتفظ بأهداف خاصة غير الأهداف المعلنة، وقد
تعمل بهما معاً.
إن المشكلة التي تواجه تلك المؤسسات هي ما يتعلق بتنفيذ الأهداف الخفية؛
لأن معظم مناطق الأزمات والكوارث ومواقع اللاجئين تعتبر في البلاد الإسلامية أو
مناطق للأقليات المسلمة؛ حيث تشكل حوالي 70% من عموم مناطق الاحتياج في
العالم. وتتعمد الكثير من المنظمات العمل المنظم والقوي لتغيير الأديان والثقافات؛
وهذا يتعارض مع النظام الدولي المعلن والقوانين المنظمة لأعمال المؤسسات
والمنظمات الإنسانية.
من هنا تبرز ضرورة إيراد بعض الصور الموجزة عن الأيدي البيضاء هل
هي بريئة دوماً؟ وذلك كما تساءلت مجلة الأوروبية - كما سيأتي - التي رصدت
بعض هذه الصور نقلاً عن بعض الخبراء الألمان وغيرهم.
كما أن صاحب كتاب (سادة الفقر) (غراهام هانكوك) قد كشف من خلال
خبرته وعمله بجوار بعض الهيئات والمنظمات الدولية الشيء الكثير؛ حيث وصف
هذا الباحث الذي عمل مراسلاً لصحيفة (الإيكونومست) الاقتصادية اللندنية في
شرق أفريقيا، ومحرراً (لجريدة الدولي الجديد) الإنجليزية، ومحرراً لمجلة
(المرشد لأفريقيا) كما عمل في عدد من البلدان النامية مما أتاح له فرص مراقبة
أنشطة وكالات الغوث عن كثب، وفي ظروف مختلفة وأحوال عديدة، ورغم أنه
نال جائزة على جهوده في مجاعة إثيوبيا عام 1984/ 1985م؛ إلا أنه أبصر
حقيقة هذه الوكالات وأعمالها وسلوك كثير من كبار العاملين، ويعتبر هذا الكتاب
أول كتاب يأتي موثقاً وعارضاً لحقائق صناعة العون والإغاثة التي كانت في أوائل
التسعينيات تصرف ما لا يقل عن (60) مليار دولار سنوياً [2] من البلدان الغنية
إلى البلدان الفقيرة.
وإنه لمن المناسب حقاً إيراد نماذج من تجاوزات بعض المنظمات الإنسانية
التي حدثت، والتي لا تقل خطورة في ذاتها أو أعمالها وآثارها المباشرة وغير
المباشرة عن أخطاء قد تكون حدثت من قبل بعض فروع أو أحد منسوبي المؤسسات
الخيرية الإسلامية، ومع ذلك لم يكن التشهير، أو المصادرة والإغلاق من نصيبها.
إن ما تقوم به بعض المنظمات الإنسانية الدولية في داخل أمريكا أو في أنحاء
متفرقة من العالم، ولا سيما في مواقع الأزمات والحروب والصراعات يعتبر من
المخجل حقاً أنْ يقع من مؤسسات معنيةٍ بالدرجة الأولى بحقوق الإنسان، ومن ذلك
على سبيل المثال:
1 - مليار دولار من التبرعات لتغطية فضائح القسس الجنسية في أمريكا.
2 - استغلال الإغاثة في تغيير الدين والثقافة.
3 - توزيع الأطعمة والأدوية الفاسدة.
4 - الفساد الإداري والمالي وقصص استغلال الضرائب.
5 - الجنس مقابل الغذاء.
1 - مليار دولار من التبرعات لتغطية فضائح القسس الجنسية في أمريكا في عام
2002م:
استدعى البابا (يوحنا بولس الثاني) كبار رجال كنيسة الروم الكاثوليك في
الولايات المتحدة إلى الفاتيكان في روما، لبحث ما تكشّف أخيراً من ضلوع بعض
القساوسة الأمريكيين في فضائح جنسية هزت بشدة صورة الكنيسة هناك. وقال
الفاتيكان: إن الاجتماع مع الكرادلة الأمريكيين ربما يُعقد في وقت لاحق.
ويخضع أسقفا (نيويورك) و (بوسطن) ؛ صاحبا أكبر منصبين في الكنيسة
الأمريكية لضغوط كبيرة من أجل تقديم استقالتيهما لما يقال عن ضلوعهما في
محاولة للتستر على تورُّط بعض القساوسة في فضائح جنسية، كما اتُّهم أسقف
ميلووكي بحجب معلومات عن فضائح جنسية مماثلة.
ويواجه بعض رجالات كنيسة الروم الكاثوليك في عدة دول اتهامات مماثلة
بالضلوع في فضائح جنسية، وكان البابا قد ندد علناً الشهر الماضي لأول مرة
بالقساوسة المتهمين.
* مصداقية الكنيسة:
واتُّهم كذلك رئيس أساقفة (بوسطن) الكاردينال (برنارد لو) البالغ من
العمر 70 عاماً، بأنه كان على علم بأن عدداً من القساوسة في أبرشيته يتحرشون
بالأطفال جنسياً بشكل مستمر، ولكنه لم يقم بتأديبهم بل اكتفى بنقلهم إلى أبرشية
أخرى، حيث زادوا من ممارساتهم على ضحايا جدد. وهناك فضائح مماثلة في كل
من (سانت لويس) و (فلوريدا) و (كاليفورنيا) و (فيلادلفيا) و (ديترويت) .
وقال مراسل الـ «بي. بي. سي» : إن المشكلة أثرت على مصداقية
الكنيسة، ومن الواضح أن الفاتيكان يريد أن يتخذ الخطوات اللازمة.
ولم يحضر الكاردينال القداس الأخير في الشهر الماضي في كاتدرائيته لتجمع
عدد من المحتجين خارجها هو الأمر الذي أعاق المراسم.
* انتقادات شديدة:
ويواجه نحو (3000) من القساوسة اتهامات بالتحرش الجنسي بالأطفال،
وقد وجهت انتقادات شديدة للكاردينال لعدم معاقبة القس السابق في (بوسطن) ،
(جون جيوجان) الذي يعتقد بأنه تحرش بنحو (100) مائة شخص خلال عشرين
عاماً، بل اكتفى بنقله إلى أبرشية أخرى.
وقد كلفت هذه الفضائح الكنسية مبالغ طائلة وصلت إلى (مليار دولار) ،
حيث اضطرت لعقد تسوية خارج المحكمة في عدد من القضايا، وذكر أن عدداً من
الأبرشيات قد أفلست تماماً بسبب الفضائح [3] !!
2 - استغلال الإغاثة في تغيير الدين والثقافة:
تعمد بعض المنظمات غير الحكومية انتهاج سياسة المنح الدراسية لطلاب
الدول الفقيرة لأهداف سياسية أو ثقافية، وتعتبر منظمة سورس الأمريكية من أقوى
المنظمات في هذا المجال، حتى تعرضت المؤسسة لمشاكل إدارية وسياسية مع
الاتحاد السوفييتي لهذا السبب.
وعند التأمل في سياسة المنح الدراسية والمساعدات الأكاديمية التي ترعاها
حكومات الدول الصناعية، أو المؤسسات غير الحكومية في تلك الدول للطلاب
والأكاديميين من دول العالم الثالث، تبرز ملاحظات دقيقة.
فلا جدال أن الدول النامية والفقيرة حصدت مكاسب من ورائها، ولكن ثمارها
لم تكن جيدة دوماً، فثمة اتهام شائع يلاحق هذه السياسة بأنها أداة للتبعية الثقافية
والغزو الفكري، كما أنها تتحمل جانباً من المسؤولية عن ظاهرة «نزوح الأدمغة»
إلى العالم الصناعي، حيث يجري اصطفاء نخبتهم للعمل في الصوامع العلمية
والتقنية الغربية لقاء حوافز لا يحلمون بها في بلادهم، وهذا ما يسمى (استقطاب
الكفاءات) .
وزيادة على ذلك؛ فإن الدول المقدمة للمنح الدراسية تكون قد وظفت في
الواقع سفراء جيدين لها في بلدان العالم الثالث؛ فهم مؤهلون بشكل مرموق،
وسرعان ما يرتقون إلى قمة الهرم الاجتماعي والسياسي والوظيفي والاقتصادي في
دولهم والمكاسب هنا تكون مركبة.
من جانب آخر تكون هذه الدول الصناعية قد أَثْرت رصيدها المعلوماتي
والبحثي عن العالم الثالث عبر ذلك الكم الهائل من الدراسات والرسائل الأكاديمية
التي تعدها الصفوة العلمية القادمة من ذلك العالم، فترسو في خزائن المعاهد الغربية
لتشكل من ثَمَّ قواعد معلومات، وأرضية أبحاث فائقة الجودة تمكن من فهم هذا العالم
النامي عن كثب، والتعامل معه بالطريقة الأمثل في مسارات المصالح كلها.
وبعيداً عن أشكال المساعدات الحكومية وما يلفها، تجدر مراجعة أنماط
المساعدات التي تقدمها المنظمات غير الحكومية وخاصة أن القطاع غير الحكومي
سلطة لا يستهان بها في عالم اليوم، وعناصر قوة هذه السلطة تتمثل أساساً في
بنيتها التخصصية الكفؤة؛ فهي تغطي كافة المجالات والاهتمامات، وفي قدرتها
التمويلية العالية التي تتمتع بها، وهي مستفيدة من التسهيلات وحرية الحركة القائمة
في البلدان الغربية، وفي امتداداتها العالمية عبر البحار مع اعتبار الغرب مركزاً
للتحرك ومحوراً له.
النظرة السائدة إلى المنظمات غير الحكومية على جانبي الأطلسي ترى فيها
أذرعة ممتدة للعالم الغربي باعتبارها أحد العناصر المشكِّلة لنسيجه العام. فالتي
تعنى منها بشؤون الأسرة أو المرأة أو حقوق الإنسان مثلاً، غالباً ما تروج
للتصورات الغربية الخاصة بهذه القضايا، بل ويعمل بعضها على تكوين دوائر
نخبوية ومؤسسات تابعة في العالم الإسلامي تتبنى النظرة ذاتها، وبذلك تتم العولمة
الثقافية والفكرية، وعولمة القيم التي قد تتعارض مع دين وثقافة البلدان المستهدفة
[4] .
يعتبر تغيير الدين أو التنصير من الأنشطة الملازمة لأي عمل إغاثي في العالم
الثالث عامة أو الدول الفقيرة على وجه الخصوص، وفي ذلك يشير غراهام
هانكوك صاحب كتاب (سادة الفقر) عن جوانب من استغلال الإغاثة لتغيير الأديان
والثقافة بقوله: «لقد كنت كصحفي في إثيوبيا في إحدى الكوارث، لكنَّ الصحفيين
ليسو وحدهم الذين يصطفون للسياحة على الكارثة؛ فهناك الوكالات التطوعية مثل
الفاو، واليونسيف، برنامج الغذاء العالمي، وبجوارهم جميعاً مجلس الكنائس
العالمي؛ وكما يقول المؤلف:» فقد أرسل ممثليه بوجوههم الرمادية يبعثون كميات
مناسبة من الوجوم والوقار والإخلاص للعمل، وحتى الأمين العام للأمم المتحدة قد
وجد لنفسه فرصة ليرى بنفسه كيف يبدو الأطفال الجوعى، وأن تؤخذ له صور
وهو يعمل ذلك «.
ينقل (غراهام هانكوك) عن (نيد أنغستروم) الذي كان رئيساً لمنظمة رؤية
العالم (watch World) قوله:» إننا نحلل أي مشروع أو برنامج نقوم بتنفيذه
للتأكد بأن ذلك البرنامج يمثل الجانب التنصيري (الدعوة) فيه مكوناً مهماً، إننا لا
نستطيع أن نطعم الناس ثم نتركهم يذهبون إلى جهنم «.
ويضيف الكاتب بناء على شهادات عيان لمنظمات إغاثية تعمل مع منظمة
(رؤية العالم) أن العاملين في رؤية العالم عادة ما يستخدمون التهديد بوقف الطعام
لإجبار اللاجئين من السلفادور لحضور القداس البروتستانتي.
ويشير الكاتب إلى أنه أينما اختلط الدين بالعمل الإغاثي فإن تكاليف بشرية
يجب أن تدفع. وكذلك في كثير من الأحيان فإن تصرفات بعض العاملين في هذه
المنظمات تغضب المغاثين، ومن ذلك ما حدث في الصومال عندما أضاعت منظمة
(A.I.C) ومنظمة (رؤية العالم) دولارات المانحين بتعيينها لجماعة من
المسيحيين المتطرفين للإشراف على برامجها في معسكرات للاجئين، والتي أقيمت
في أعقاب الحرب على الحدود مع أثيوبيا. فبالإضافة إلى معاداة وإغضاب
المسلمين الذين يعملون في أوساطهم، فقد كان هؤلاء الناس صغار السن وعديمي
التدريب والخبرة [5] .
يستطرد غراهام هانكوك قائلاً: " لقد أحدث (روبرت سميث) أحد العاملين
في منظمة (رؤية العالم) في الصومال ارتباكاً وحيرة وسط متعهدي المواد
والمعدات بتوقيعه لكل المكاتبات التلكسية بعبارة: (بارك الله في روبرت) . كما
أن إحدى الممرضات التي عملت مع منظمة (A.I.C) في مشروع بناء مظلات
بمواد مستوردة لم تعامل جيداً بالمبيدات، فانهارت بفعل الأرضة، وقد استقالت
الممرضة؛ لأن المشرفين على المعسكر غير مدربين على مثل هذا النوع من العمل.
ويضيف الكاتب أن بعض العاملين يضع التبشير في مقام أعلى من إدارة
المتطلبات المادية للاجئين، مما أدى إلى وقوع كثير من الأخطاء الفادحة، ومن
ذلك» أن إحدى المنظمات الأمريكية طلبت مبلغ مائة ألف دولار لمؤن ومعدات
للمعسكر، ثم ألغت ذلك عندما اتضح أن الميزانية قد استهلكت بصورة رديئة،
والأسوأ من ذلك أن المسيحيين المنصِّرين المشاركين في إحدى العمليات الصحية
لجهلهم في بعض الجوانب الطبية اختاروا لتوفير النفقات إلغاء العمل الجاري في
المجال الصحي والذي كان متضمناً كل الجرعات المنشطة في المرحلة الثانية لحملة
تطعيم للأطفال، قامت تلك المنظمة بجولاتها الأولى في أحد عشر معسكراً. نتيجة
لذلك أصبح آلاف الأطفال الذين تناولوا الجرعة الأولى أكثر تعرضاً للوبائيات
المميتة مما لو تركوا دون الجرعة الأولى « [6] .
وفي سياق آخر ذكر ستان جوثري Guthrie Stan أن مجموعة من
النصارى العرب المقيمين في الولايات المتحدة قاموا بإنشاء منظمة تسمى (المعونة
الصحية للشرق الأوسط) واختصارها HOME، وتضم هذه المجموعة 60 عضواً
يعملون من خلال مهام طبية قصيرة الأمد في الشرق؛ وذلك من خلال إرسال
المساعدات الطبية إلى المناطق المحتاجة، ولا يقف دورهم عند علاج المرضى
فحسب، بل يعقب الدكتور عصام رعد أحد أفراد المنظمة: واجبنا تجاه أولئك هو
الحد من موت الأفراد على غير النصرانية! [7] .
أياً كان الأمر؛ فبالإضافة إلى ذلك كله فإن بعض هذه المنظمات مسؤولة إلى
حد ما عن تشجيع بروز» نخب معزولة «عن سياقها المجتمعي والتاريخي
والحضاري؛ فهي نخب تنتمي نظرياً فقط إلى مجتمعها وأمتها؛ بينما تستنشق
هواءها، وتستقي غذاءها من بيئات غربية، ويمارس بعضها احتكار الحقيقة، وقد
تعيش في أبراج عاجية بعيداً عن هموم مجتمعها وتحديات أمنها.
ومع ذلك كله لا يجوز وصف هذه المؤسسات بالنعوت السلبية من حيث المبدأ،
ولا على سبيل التعميم أو إغفال جوانبها الإيجابية، ولكننا نلاحظ تجاهل كثير
منها للقيم والخصوصيات الحضارية والثقافية غير الأوروبية أو الأمريكية، ولا
سيما عندما تنشط وتتحرك في عالم الجنوب. مما يوحي باعتبارها التجربة المدنية
الغربية بمثابة المثل الأعلى لما ينبغي أن تكون عليه أمم العالم الأخرى. أو أن هذه
التجربة تمثل قمة الرقي الذي حازته الإنسانية في تاريخها الطويل. وهنا تلتقي هذه
المنظمات مع فرانسيس فوكوياما ونظريته» نهاية التاريخ «بل ومن هذا الوجه فقد
لاحقت هذه الفئة من المنظمات تهمة ممارسة الوصاية على الآخرين [8] ، وفي
حالات عديدة تبرز مرامي بعيدة لتقديم المعونات مثل نشر المعتقد وكسب الأتباع،
وتغيير الخارطة الاجتماعية والعبث بالتناقضات الداخلية للشعوب المستهدفة.
* تنصير المسلمين..
تفتتح أمريكا كليات ومعاهد ومدارس للدعوة وأصول التبشير النصراني في
أراضيها بشكل مستمر، لا للحفاظ على هويتهم الدينية؛ فهذا له مؤسساته وكنائسه
وإعلامه، ولكن الكليات التي تفتتح والمؤتمرات التي تنظم إنما هي متخصصة في
تبديل الأديان واختراق المجتمعات خارج أمريكا. تلك الجمعيات التي يراد لها
الهداية إلى المسيحية!! وهي موجهة للشعوب المسلمة بوسائل قوية وحديثة
ومدروسة، وليعمل الخريجون بعد ذلك في المؤسسات الإغاثية العالمية، أو تحت
غطاء آخر. وعلى سبيل المثال فإن ما تقوم به (جامعة كولمبيا الدولية) بأمريكا
يوضح الدور المتخصص؛ حيث تقوم الجامعة المذكورة بإعداد دروس خاصة في
التنكر والتخفي لتيسير تنصير المسلمين وهو ما تسميه بعض المجلات الأمريكية
(الحرب الصليبية الحذرة) ، وهذا ما نشرته مجلة (الأم جونز) الأمريكية في شهر
يونيو 2002م، وقد وصل عدد المنصرين لهذا الغرض (3000) منصر لتنصير
المسلمين فقط ينتشرون في (50) دولة إسلامية.
ويقول (ديفيد كاشين) أستاذ الدراسات الثقافية في الجامعة المذكورة؛ الذي
يرتدي الملابس الإسلامية ويتواصل مع الذين اعتنقوا النصرانية: (نحن نعتبر
الإسلام هو الجبهة الأخيرة!!) ويقول: (إن المسيح أجَّل عودته طيلة ألفي سنة؛
لأننا لم ننجز المهمة الموكلة إلينا!!) .
كما يقول الدارسون في جامعة كولمبيا من تلاميذ الأستاذ (ريك لون) إن أي
ضرر بسبب عملهم لا يقارن بالهدف الذي يسعون إليه والمتمثل في تقويض الإسلام
قائلين: (إذا لم تتح الفرصة للمسلمين كي يعيشوا تجربة المسيح فسوف يذهبون
إلى الجحيم!!) وذلك رداً على الناقدين لهم بأن أعمالهم التبشيرية تتسبب في
تعطيل توصيل المعونات الإغاثية وتؤجج مشاعر الكراهية تجاه الغربيين.
المنصرون يكثفون جهودهم في كل مكان يستطيعون الوصول إليه من العالم
الإسلامي، وهم يتعلمون منهج (السياقية) ، وخلاصتها أن يضع المنصر نفسه في
سياق المجتمع الذي يخاطبه؛ فيجب عليهم أن يتحولوا إلى مسلمين في مظهرهم
حتى يصلوا إلى مفاتيح قلوب المسلمين؛ فقد يظهرون بأسماء مسلمة ويطلقون
لحاهم ويرتدون الجلابيب، والنساء يرتدين الحجاب، وليس هناك ما يمنع أن يؤدي
المنصرون الصلوات مع المسلمين أو أن يصوموا خلال شهر رمضان. وما أسهل
أن يشاركوا المسلمين في عيدي الأضحى والفطر، فهذا (روبرت تلفرسون) الذي
يعمل مديراً لمنظمة (كير) للإغاثة حينما خدم مع قوات المارينز الأمريكية في
الصومال في بداية التسعينيات، كانت هناك (200) منظمة تعمل من أجل
السيطرة على المجاعة التي هددت ذلك البلد المنغمس في الحرب، يقول: (غير
أن المنصرين تسببوا في تدهور الموقف، وذلك حينما ظهروا في مراكز توزيع
الطعام، وتصرفوا على نحو أقنع الناس بأن عملية الإغاثة من خلال الطعام مرتبطة
بالتنصير؛ حيث أدى ذلك إلى كارثة؛ فقد تزاحم الصوماليون لسرقة الطعام، ثم
أشعلوا النار في الحافلات) [9] .
لقد اجتمع المنصرون في عام 1977م في (بال) بسويسرا بشأن تنصير
العالم، وفي عام 1978م اجتمع المنصرون الأمريكان في ولاية (كلورادوا)
بزعامة (150) منصراً من أشهر المنصرين، وقدموا (40) دراسة حول
الإسلام وعلاقته بالمسيحية، وكان الهدف المعلن هو تنصير المسلمين في العالم،
ورصدوا لذلك ألف مليون (مليار) دولار، وأنشؤوا لذلك معهد (زويمر) لتخريج
المنصرين تخليداً لذكرى أحد المبشرين الكبار الذي كان مقره في (البحرين) في
أوائل القرن العشرين، والذي ترأس مؤتمر المبشرين بالقاهرة في عام 1906م.
وفي عام 1995م عقد اجتماع باسم (مؤتمر المجلس العام لتنصير العالم)
عقده المجلس العام لتنصير العالم sultation on world Evangelizatiom)
(Global con قام بدعوة 500 شخصية مختارة، كل منها قادرة على تعبئة
شبكات تنصيرية جديدة، وهي الأخرى بدورها قادرة على تعبئة 10 آلاف شخص
آخر لهم القدرة على تعبئة 200 ألف إرسالية تنصيرية جديدة مع حلول عام
2000م، كما تم اختيار 500 منسق مناطق جغرافية لتنسيق شؤون التنصير،
ودعوة 250 متخصصاً قومياً يعملون في إقامة دراسات تنصيرية دائمة في بلادهم،
ودعوة 550 قساً ملتزماً بتعبئة جماهيره لدعم التنصير المحلي والعالمي، ودعوة
300 متخصص في وضع نماذج مبتكرة لأعمال تنصيرية مشتركة وشبكات تعاون
تنصيرية، ودعوة 300 متخصص في تنصير المدن ومتخصص في إنشاء
الكنائس، ودعوة ما يزيد عن 500 رجل دين متخصص في إقامة المقدسات
الدينية الجماهيرية، ودعوة ما يزيد عن 100 متفرغ ومتخصص في التنصير
الإذاعي، ودعوة 300 زعيم متميز في ترجمة وتوزيع وإنتاج الإعلام التنصيري،
إضافة لدعوة ما يزيد عن 300 زعيم نصراني يعمل في تغذية الجهود الساعية
لإقامة كنائس في بلادهم [10] .
وأخيراً ماذا يعني برنامج المنح الدراسية الذي يتبناه (جورج شورس)
ومؤسسته العملاقة (المجتمع المفتوح) ؟ خاصة في جمهوريات آسيا الوسطى
الإسلامية، وبلاد البلقان الإسلامية، ولا سيما أن المنح لفئات متميزة من المسلمين
وبأعداد كثيرة تصل إلى الآلاف.
3 - توزيع الأطعمة والأدوية الفاسدة:
يقول (غراهام هانكوك) في كتابه: (سادة الفقر) :» إن الغذاء المقدم من
المجموعة الأوروبية كهدية عادة ما تصحبه كثير من الشكاوى من المنتفعين، بناء
على قول عضو البرلمان الأوروبي (ريتشارد بالف) الذي قال: «إنه من غير
المقبول تماماً أن نقوم بتصدير غذاء لا نأكله نحن أنفسنا» ، ويضيف الكاتب: في
«أعقاب انتشار الإشعاع الصادر عن حادث تشرنوبيل في روسيا عام 1986م،
تحولت كميات من الأغذية الملوثة التي تعتبر غير قانونية في أوروبا إلى شحنات
إغاثة؛ فقد تم إغلاق مصنع أغذية في البحر الأحمر بعد أن استخدم دقيقاً إيطالياً من
قمح يوناني ملوث بالإشعاع» . علاوة على ذلك «في عام 1988م، أجبرت
مجموعة من الدول الأفريقية المسحوقة لرفض أغذية من المجموعة الأوروبية؛ لأنه
ثبت أنها ملوثة تلوثاً خطيراً» .
وينقل الكاتب ما قاله (لاري سايمون) المسؤول عن أوكسفام أمريكا: «في
أوقات الكارثة تتدحرج إلينا كل أنواع القاذورات» ؛ حيث قامت إحدى المنظمات
التطوعية الأمريكية الخاصة الغذاء للجوعى بشحن (19) طناً من الأدوية والأغذية
المنقذة للحياة إلى كمبوديا إبان المجاعة الكبرى 1979 - 1980م، فكان الغذاء
قديماً لدرجة أن أصحاب حدائق الحيوان رفضوا إعطاءه لحيواناتهم. كما أن فعالية
الأدوية كانت منتهية قبل خمس عشرة سنة!!
قامت منظمات الإغاثة بشحن (800) حقيبة من أغذية الأطفال الفاسدة إلى
معسكرات اللاجئين في هندوراس؛ كما شحنت (15) ألف طن من الأغذية
الأوروبية إلى مناطق موزمبيق المتأثرة بالمجاعة في أفريقيا، وعند وصول تلك
الشحنة وجد أنها قديمة ومليئة بالحبوب المكسرة والأوساخ والطين وغير صالحة
للاستهلاك. ومثال آخر شحنة من الذرة الشامية (26) ألف طن أرسلت كمساعدة
إلى النيجر تبين بعد فحصها أنها لا يمكن أن تكون مقبولة حتى كغذاء للحيوانات.
في سنة 1982م رفضت جيبوتي التي خربها الجفاف شحنة إغاثة من السوق
الأوروبية (974) ألف طن التي كانت مصممة على فرض شحنتها الغذائية على
الأفريقيين الجائعين بأي طريقة، وأخيراً قبلت زائير الشحنة نفسها بعد عامين في
1984م.
في المغرب أُوقف عام 1983م استخدام (240) طناً من الشحوم لصناعة
الصابون، تبين أن الزيت يحتوي على أربعة أضعاف لأعلى معدل جرثومي
مسموح به، وفي نفس العام أتلفت تونس (354) طناً من زيت شحوم أخرى أكثر
خطورة لاحتوائه على نسبة عالية من البروكسيد ولتلوثه بالديدان. في حين أن
الشحوم الأوروبية التي سمح ببيعها إلى ليبيا وهي دولة بترولية في عام 1986م
وبسعر مخفض (16) بنساً كانت سليمة؛ في صفقة تقدر بسبعة ملايين جنيه
متضمنة (700) طن من لحوم مخفضة السعر [11] .
وقد ذكرت مجلة الأوروبية الصادرة في بريطانيا تقريراً عن بعض هذه
الأخطاء، وأن الدوافع للمساعدات تنعش إمبراطورية العقاقير الدوائية، وأوردت
بعض الإحصائيات، فقالت: وصلت إلى البوسنة والهرسك خلال الحرب الطاحنة
في التسعينيات مساعدات دوائية وطبية يعود تاريخ تصنيعها إلى الحرب العالمية
الثانية؛ حيث تؤكد منظمة أطباء بلا حدود أن 60% من الأدوية التي وصلت إلى
البوسنة والهرسك خلال سنوات الحرب الأخيرة لم تكن صالحة، وحسب بيانات
المنظمة فإن (17) ألف طن منها لم يكن صالحاً أو موافقاً للمعايير العالمية، وأن
المتبرعين بها قد ربحوا (25) مليون دولار هي نفقات التخلص منها في بلادهم.
كما بلغت كلفة إتلاف المساعدات الدوائية غير الصالحة التي وصلت إلى
البوسنة والهرسك خلال سنوات الحرب (1992 - 1996م) قرابة (34) مليون
دولار، بينما كانت قيمة هذه الأدوية الفاسدة في الكشوف الرسمية (17) مليار
دولار حسب تقديرات منظمة أطباء بلا حدود.
منظمة (مشروع الأمل) الأمريكية تبرعت لمتضرري حرب كوسوفا في
ربيع عام 1999م بأدوية قيمتها المعلنة مليون ونصف المليون دولار، وعند فتح
الصناديق في الميدان اكتشفت فرق الإغاثة أنها لم تكن أكثر من مواد تجميل
وأقراص لتخفيف آلام الرأس.
كما تؤكد منظمة الصحة العالمية أن نصف الأدوية التي وصلت إلى متضرري
حرب كوسوفا في عام 1999م على هيئة مساعدات لم تكن صالحة بعد أن انتهت
مدة صلاحيتها أو قاربت على الانتهاء.
إن حملات جمع التبرعات الدوائية التي كانت تجري لصالح البلدان المنكوبة
في العالم الإسلامي، كانت مناسبة انتهزتها بعض الشركات لتخليص مستودعاتها
من العقاقير الدوائية الكاسدة والمتقادمة وغير المجدية [12] .
وفي عام 2002م أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق برنامج الغداء
العالمي التابع لهيئة الأمم المتحدة 12 ألف طن من الذرة المعدّلة وراثياً إلى زامبيا
للتخفيف من آثار المجاعة، وعندما اكتشفت الحكومة الزامبية ذلك رفضت هذه
المساعدات، وقال الرئيس الزامبي: يفضل أن يجوع الزامبيون ولا يأكلوا أطعمة
معدلة وراثياً! [13] .
وبعد أيام قلائل قبلت خمس دول إفريقية هذه المواد الغذائية المعدلة وراثياً
بسبب شدة المجاعة! [14] .
4 - الفساد الإداري والمالي وقصص الضرائب:
إن البيانات التي توردها الهيئات الحكومية في أوروبا عن المساعدات للدول
الفقيرة والنامية تثير الإعجاب للوهلة الأولى، ولكن بعض العارفين ببواطن الأمور
وخلفياتها يثيرون الكثير من الشكوك حول جدوى هذه المساعدات التنموية ومصداقية
القائمين عليها. كما أن الأعمال الإنسانية تزدهر في البلدان الأوروبية بشكل
ملموس، وهناك تنافس كبير وحالة اندفاع لمكافحة الثالوث الفتاك؛ (الفقر،
والجوع، والمرض) ولكن جهود المنظمات غير الحكومية في هذا المضمار
ليست هي الأخرى بمنأى عن النقد الذي يكون لاذعاً أحياناً.
الناقدون لديهم حججهم الجديرة بالاهتمام؛ فإذا كانت المساعدات الحكومية
مقدمة إلى البلدان الفقيرة على هيئة قروض مثلاً، فإن سدادها يتوجب غالباً مع
استيفاء خدمة الدين، أي مع إضافة الفائدة الربوية، وتعتبر هذه القروض متسببة
في تدمير اقتصاديات الكثير من دول العالم الثالث، والتي باتت تكافح وتبذل
خلاصة عائدها السنوي لخدمة الدِّين وحده.
ومن الواضح أن قضية الديون تزداد مع الأيام تفاقماً، مما أدى إلى تعميق
الهوة بين الدول الصناعية الدائنة والدول المستدينة، ويقود الأمر أحياناً إلى خضوع
المستدين للدائن حتى في قراره السياسي والاقتصادي.
وفي كل الأحوال؛ فإن تلك الديون التراكمية تؤدي إلى مشكلات سياسية
واقتصادية واجتماعية، كما أن هناك من يرى أن الهبات المالية وتوفير القروض
وشتى وسائل المساعدات الأخرى بما فيها هبات المنظمات غير الحكومية لا يمكن
فصلها عن السياق السياسي والمصالح الاقتصادية، ومن الجدير بالذكر في هذا
السياق أن كوريا الشمالية التي تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية منذ
تعرضها لسلسلة من الكوارث الطبيعية والتدهور الاقتصادي منذ عام 1995م قد
اتهمت أمريكا باستغلال المساعدات الإنسانية لتحقيق مآرب سياسية [15] ، بل قد
يكون لهذه المساعدات خلفيات دينية وأيديولوجية وتاريخية.
والتساؤلات المطروحة في هذا المجال معروفة للجميع؛ فهل كانت موسكو
ستحصل على مساعدات هائلة من واشنطن وعواصم أوروبا الغربية كما حدث في
مطلع التسعينيات، لو كان شعار المطرقة والمنجل مرفوعاً فوق الميدان الأحمر؟
وهل كنا سنسمع عن دول مانحة للمساعدات للسلطة الفلسطينية بدون المصافحة
التاريخية بين عرفات ورابين في ساحة البيت الأبيض عام 1993م؟ وهل كانت
كوريا الشمالية ستحصل على شحنات البترول الأمريكية لسد حاجتها من الطاقة إذا
لم توافق على الرقابة على برنامجها النووي لتحقيق التوازن بينها وبين كوريا
الجنوبية الموالية لأمريكا؟ من يطرح تساؤلات كهذه لا بد أن يلاحظ أن «الشرعية
الدولية» تمارس عملية تجويع لشعوب وذرف الدموع على شعوب أخرى.
ويحسن هنا ذكر قول الرئيس الأمريكي السابق جون كنيدي عام 1961م حين
قال: «إن المعونة الأجنبية وسيلة يمكن للولايات المتحدة الأمريكية عن طريقها أن
تثبت مركز النفوذ والسيطرة حول العالم» ، وبعد سبع سنوات أضاف الرئيس
الأمريكي نيكسون قائلاً: «دعونا نتذكر بأن الهدف الرئيسي من المعونة ليس هو
مساعدة الأمم الأخرى، بل مساعدة أنفسنا أيضاً» [16] .
لقد أورد مؤلف كتاب سادة الفقر (غراهام هانكوك) نماذج متعددة عن سوء
استخدام هذه الأموال، وكيف تعود بطريقة أو بأخرى إلى الدول المانحة، أي أن
هذه الدول تأخذ باليمين ما تعطيه باليسار، ومنها على سبيل المثال أن برنامج
(الجوع الأمريكي) تَسلَّم هبات تصل إلى حوالي سبعة ملايين دولار في عام
1985م، لم يصل منها سوى ربع مليون فقط كمعونات لمنظمات تعمل في حقل
الإغاثة في تلك البلدان المنكوبة، وأنفق كل المتبقي في الولايات المتحدة الأمريكية
تحت بنود مثل الدعم العام، وقد وصلت نفقات الهاتف إلى نصف مليون دولار في
السنة، وهناك مئات الأمثلة على ما يحدث من سرقة الأموال باسم الدول المنكوبة
[17] .
* وتؤكد مجلة أوروبية بعض هذه الجوانب قائلة:
ووفقاً لهذا فلا بأس من الإنصات إلى من يؤكدون بأن المساعدات المادية يمكن
أن تكون عرضة للتوظيف السياسي الذي يفقدها براءتها ويجعلها مجرد أداة
استعمارية، وعلى حد تعبير الألمانيين (روبرت مان) و (فرنر بوكات) فإن من
يقف في المعسكر الخطأ أيديولوجياً يتوجب عليه أن يأخذ في الحسبان أن ما سيتلقاه
من مساعدات وتبرعات سيكون أقلَّها، إن لم يكن لا شيء مطلقاً، والخبيران
يشيران هنا إلى ممارسة شائعة في سوق التبرعات الألماني.
إن هذا لا يعني أن الهبات المالية تبذل فقط للأصدقاء، أو كأثمان لمواقف
معينة، وإنما يمكن أن تقدَّم على هيئة حبوب منومة لأمم منكوبة وجائعة، ولشعوب
وقعت ضحية لظلم شاركت المجموعة الدولية في صناعته بقصد منها أو بدون قصد،
ويكفي هنا الإشارة إلى إنشاء الأمم المتحدة لوكالة «غوث اللاجئين الفلسطينيين»
(أونروا) بعد أن اكتملت عمليات تشريدهم القسرية عن بلادهم، أو ملاحظة
التناقض بين تمرير المذابح الصربية البشعة ضد مسلمي البوسنة على مدى سنوات،
وتقديم مساعدات للضحايا البوسنيين كانت مجرد خبز وخيام وعقاقير دوائية
مشكوك في جدواها.
كما أن المساعدات التي قدمتها (الصناعات الدوائية الألمانية) خلال حرب
كوسوفا في 1999م من المخزون الفائض عن احتياجات السوق المحلي أعفتها من
16% من الضرائب المترتبة على أرباحها، كما تؤكد مصادر الصندوق الألماني
للصحة الدوائية.
تقول دراسة صدرت في أغسطس 1999م عن معهد الصحة العامة التابع
لجامعة هارفارد الأمريكية إن نصف المساعدات الأمريكية من الأدوية لكل من
هاييتي وأرمينيا وتنزانيا لم تكن تحتاجها هذه البلدان بالفعل، ولم تكن مدرجة على
قوائم العقاقير المطلوبة. ويبدو أن دوافع التخلص من الضرائب هو السبب.
ومن المسائل الجديرة بالاهتمام أن أي منظمة غير حكومية تحصل على الدعم
اللازم لنشاطها من قواعدها الجماهيرية المتفاعلة معها، ومن المؤسسات الحكومية
أو المنظمات الدولية المعنية بالإضافة إلى قاعدتها الوقفية، ويتم ذلك كله باسم
القضية التي تعنى بها المنظمة، في حين يصعب تحديد ما إذا كانت الأموال
المرصودة لهذه القضايا قد صرفت فعلاً لصالحها بالشكل المطلوب، وكم من
الأموال قد حسمت للنفقات الإدارية الباهظة وتوسيع أملاك المؤسسة، وكم تبقّى
للقضية الجوهرية.
وليس جديداً أن بعض المؤسسات المشتغلة في المجال الإنساني تجني عوائد
مالية عالية جراء إيداع رؤوس الأمول الطائلة المجموعة في الحسابات المصرفية
الخاصة بالمؤسسة، وقد يجري تأخير إنفاق التبرعات المجموعة، طمعاً في
تحصيل الفائدة الربوية العالية التي تعود على المؤسسة، حتى في أحلك الظروف
التي تتطلب سرعة التحرك.
هناك ممارسات سلبية يصعب غض الطرف عنها تقوم بها بعض المنظمات
غير الحكومية خلال تقديمها للمساعدات منها الانتقائية، والتمييز، والاستغلال،
وغير ذلك من التصرفات التي لا تعكس رغبة المتبرع الذي أناب المؤسسة لتقدم
تبرعه للمحتاجين.
قليلاً ما يجري الالتفات إلى التوظيف الاقتصادي النفعي للمساعدات؛
فالسياسات التنموية التي تعتمدها الدول الصناعية يمكنها أن تتماشى مع مصالحها
الذاتية، مثل تعزيز المكانة الدولية وإنعاش التجارة الخارجية، ولهذا لا يستغرب
عندما نجد الفريق الذي يقدم المساعدات الحكومية لدولة فقيرة أو المساعدات غير
الحكومية، وخاصة من المؤسسات الخيرية المرتبطة ببعض رجال المال والأعمال؛
حيث يكون مصحوباً أو متبوعاً بطوابير من رجال الأعمال الذين يتحسسون
السوق ويعقدون الصفقات ويروجون لبضائعهم.
ليست المساعدات الإنسانية هي أفضل المنافذ الاستثمارية التجارية إلى البلدان
المدمَّرة جراء الكوارث والحروب أو الكيانات السياسية الناشئة، وخاصة أن هذه
البلدان هي في واقع الأمر سوق مغرية تحتاج إلى الإعمار أو إعادة الإعمار وهيكلة
البنية التحتية مجدداً، كما تبحث عن موردين ومستثمرين وشركاء وفي ظل أطماع
غزو الأسواق الواعدة يمكن القول إن المساعدة الاقتصادية خير تمهيد للشراكة
التجارية على أساس علاقة «منتج ومستهلك» [18] .
ويضرب غراهام هانكوك مثلاً لاستغلال قوانين الضرائب بقوله: «تسلمت
منظمة (مآب انترناشونال) من شركة (ويتون بالينوس) منحة قدرها (17)
مليون دولار قيمة مُنظِّمات لضربات القلب من هيئة (المستشفى الأمريكي للإمداد)
وبذلك تكون شركة (ويتون بالينوس) قد تخلصت من الضرائب في منطقة عملياتها
التي كان قد تقرر إلغاؤها، علاوة على أن هذه المنظمة سببت مشاكل لدول العالم
الثالث التي استقبلتها، منها قابلية معظم هذه الوحدات لتنظيم ضربات القلب لخسارة
البطاريات وبعض صور سوء الاستخدام الذي يهدد الحياة [19] .
ويلاحظ في هذه العملية أن الشركة التي باعت الأجهزة تخلصت من
الضرائب، كما أن المنظمة أعفيت أيضاً من كل الضرائب الصادرة من دولتها،
وأعفيت من الجمارك والضرائب في الدولة المضيفة لأجهزة لا تصلح.
أما الشركات والمؤسسات الاقتصادية فلها مساعداتها، ولأن هذه الأطراف
تتحرك بدافع الربح والخسارة، وفي مربع السوق والتجارة، فإن نصيبها من
الشكوك كان الأوفر على الإطلاق، إذ لا تزيد أهداف بعض المؤسسات التجارية من
وراء تقديمها المساعدات على أهداف الترويج الدعائي وكسب الأسواق الجديدة
والتخلص من النفايات والبضائع المكدسة والآلات المتقادمة التي تحتاج إلى نفقات
عالية للتخلص منها وأحياناً للتخلص من الضرائب.
كما تهدف هذه الشركات إلى كسب الاهتمام والبقاء في دائرة الضوء وتلميع
الذات، لنجاح العلاقات العامة، وهو تلميع لا بد منه لقبول المؤسسة ومنتجاتها من
قبل الزبائن حول العالم، وهنا تكون المساعدات والتبرعات بوابة العبور.
ومثال ذلك ما تقدم به مؤخراً» بل غيتس Gates Bill «من تبرع سخي
للهند بلغ (100) مليون دولار للأعمال الخيرية في الهند، حيث خصص هذا
التبرع لمكافحة مرض نقص المناعة (الإيدز) .
ولنا أيضاً أن نتساءل كما تساءلت صحيفة الحياة: هل كسب بيل غيتس
حرب الهند من خلال تجارة المعلومات والتجارة الألكترونية؟
لقد بدا» بل غيتس «في زيارته الأخيرة للهند أواخر عام 2002م، وهو
المؤسس الأسطوري لشركة (مايكروسوفت) العملاقة كأنه جنرال كسب معركة
كبيرة.
استطاع» بل غيتس «إقناع مهندسي الكومبيوتر الهنود باستخدام نظام تشغيل
الكومبيوتر» ويندوز «الذي تنتجه شركته، ونجح مؤقتاً في القضاء على خطر
منافسة نظام التشغيل لينوكس (Linux) .
يتميز (لينوكس) بأنه أرخص من ويندوز بمرات عدة، وتتيح شفافيته - أي
أن شفرته مفتوحة - لأي مبرمج أن يصنع به ما يشاء من تطبيقات، وبرامج،
وأدوات معلوماتية، وبالطريقة التي تناسب احتياجاته وظروفه.
لقد استطاع الرجل الأغنى في العالم قيادة حملة دعائية ناجحة، ولا سيما أنه
أعلن أنه سوف تستثمر مؤسسته (400) مليون دولار في الهند [20] .
5 - الجنس مقابل الغذاء في عام 2002م:
ومن صور الأخطاء الفادحة للمنظمات الدولية؛ صورة أخرى تعتبر من
الظواهر التي قل ما يتم الحديث عنها رغم انتشارها في بلدان عديدة، وهذه الصورة
تبرز من خلال ما كتبت عنه بعض الصحف بعنوان: كوفي عنان الأمين العام للأمم
المتحدة يحقق في اتهامات» الجنس مقابل الغذاء «في مخيمات اللاجئين، وهذا
يعتبر من أقذر أنواع الاستغلال والإرهاب البشع، وضحايا هذا الأمر لا تتجاوز
أعمارهن الثالثة عشرة، فقد قالت متحدثة باسم الأمم المتحدة أن الأمين العام للأمم
المتحدة كوفي عنان أمر بالتحقيق بشكل دقيق بقدر المستطاع وفي أسرع وقت ممكن
في شكاوى الاستغلال الجنسي للأطفال في مخيمات اللاجئين التي أقامتها الأمم
المتحدة في بعض دول غرب أفريقيا.
وجاء الأمر الذي أصدره عنان في أعقاب بيان مشترك للمفوض الأعلى
للاجئين ومنظمة (أنقذوا الأطفال) الخيرية البريطانية جاء فيه أن الأطفال ولاجئين
آخرين في غينيا وليبريا وسيراليون شهدوا أن (70) شخصاً من ضمنهم جنود
لحفظ السلام بالأمم المتحدة و (40) منظمة للمساعدات الإنسانية متورطون في
عمليات استغلال جنسي للاجئين في المخيمات.
وجاء في تقرير المنظمتين أيضاً: (إن عدد الاتهامات مع ذلك لا يدع مجالاً
للشك في أن هناك مشكلة خطيرة تتمثل في الاستغلال الجنسي؛ وتطلب مزيداً من
المبادرات والتحقيقات) ، وفي نيويورك قالت المتحدثة باسم الأمم المتحدة ماري
أوكابي: (إن عنان طلب اتخاذ المبادرات الملائمة بهدف تعزيز حماية النساء
والأطفال كلما اقتضت الضرورة ذلك) .
وأوضحت المتحدثة: أن فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة يوجد بالفعل في
المنطقة (للكشف) عن صحة الاتهامات التي ستكون إن ثبتت صحتها أخطر حالة
من حالات استغلال الأطفال يتورط فيها موظفون في وكالات المساعدات الإنسانية
التابعة للأمم المتحدة وعسكريون من قوة حفظ السلام الدولية.
وقالت أيضاً: إن عنان سيتصرف بصرامة مع مرتكبي هذه الجريمة إذا
أسفرت التحقيقات عن وقوعها فعلاً، وجاء في تقرير المنظمتين أنهما تحدثتا مع
(1500) طفلة، وأن شهاداتهن أفادت أن موظفي منظمات المساعدة في بعض
مخيمات للاجئين طلبوا ممارسة الفاحشة معهن مقابل منحهن نقوداً وهدايا وأغذية،
وتتراوح أعمار معظم الفتيات اللاتي تعرضن للاستغلال بين (13) و (18)
عاماً في حين صادق الرجال البنات الأصغر سناً بهدف الوصول إلى أخواتهن
الأكبر عمراً، وأمهاتهن.
وأشار التقرير إلى أن الآباء والأمهات كانوا يعلمون بهذا الاستغلال الجنسي،
ولكنهم لا يملكون سوى الإذعان من أجل الحصول على طعام، وشجع بعض الأهل
بناتهم على ممارسة الفاحشة ليحصلوا على نقود، وأوضحت المنظمتان أن رجالاً
مارسوا الفاحشة مع بنات قاصرات، وأكد التقرير أن تقييم الوضع أظهر أن أولئك
الذين يستغلون الأطفال هم غالباً رجال في موقع السلطة ولهم نفوذ نسبي، وهم إما
يتحكمون في توزيع السلع والخدمات، أو يملكون ثروة أو دخلاً مرتفعاً، وأضاف
أن النفوذ والسلطة يستخدمان مقابل الفاحشة، وأوضح التقرير أن الموظفين الدوليين
والمحليين من المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة هم كما أفادت
الشهادات أكثر مستغلي الأطفال جنسياً.
كما أفادت بعض المصادر المطلعة أن نقاشاً حاداً دار في مركز المفوضية
العليا لشؤون اللاجئين في مقرها (جنيف) ، شارك فيه ممثلون عن (30) دولة،
عبروا عن صدمتهم واستيائهم الشديد إزاء هذا التصرف، وطالبوا باتخاذ إجراءات
فورية لوقف الاعتداء الجنسي على الفتيات القاصرات!! [21] .
ولسائل أن يقول: أين العقوبات؟ وأين قوة الحملات وصرامة الإجراءات؟
وهل تم تجميد أرصدة تلك المؤسسات العالمية الكبيرة أو الصغيرة منها؟ وهل تم
تصنيفها مع منظمات الإرهاب والاستغلال؟
__________
(1) تعتبر مصادر هذا الموضوع من المصادر النادرة، ويرغب الكاتب من القراء تزويده بأي معلومات تفيد إثراء هذا الموضوع أو موضوع تمويل المنظمات الخيرية الإنسانية لحركات التمرد والانفصال والإرهاب على البريد الإليكتروني:
khyr2002@yahoo.com
فهو يعد كتاباً بعنوان (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب) .
(2) المصدر: كتاب سادة الفقر غراهام هانكوك، ص 8.
(3) المصدر: انظر عن هذه القضية مجلة النوزويك الأمريكية في أعداد متفرقة وعناوين متعددة في التواريخ التالية: في 5/3/2002م، 23/4/2002م، 30/4/2002م، وانظر بعنوان: (قمة الكرادلة الأمريكيين في الفاتيكان تخرق مبدأ الغفران في حال الشذوذ الجنسي) صحيفة الحياة في 11/ 2/1423هـ الموافق 24/4/2002م، وانظر بعنوان: (بابا الفاتيكان يطلب التحقيق في فضائح القسس الجنسية) مجلة الكوثر بتاريخ 4/1423هـ الموافق 6/2002م، وانظر صحيفة الشرق الأوسط في 24/2/1423هـ الموافق 7/5/2002م.
(4) للمزيد عن استقطاب الكفاءات وبعض أسرار المساعدات، انظر مجلة الأوروبية العدد 27، الصادرة في شهر 6/1422هـ الموافق شهر 9/2001م.
(5) المصدر: كتاب سادة الفقر ص210.
(6) المصدر: سادة الفقر ص 16-17.
(7) Stan Guthrie, Mission to day 95,pp 21 - 24.
(8) للتوسع في هذا الموضوع انظر مجلة الأوروبية العدد 27 الصادرة في شهر 6/1422هـ الموافق شهر 9/2001م.
(9) انظر المزيد عن جامعة كولمبيا والحرب الصليبية الحذرة في مجلة المجلة في 24/5/1423هـ الموافق 3/8/2002 م من مقال للأستاذ فهمي هويدي.
(10) مجلة الصراط المستقيم الصادرة في أمريكا، العدد 61، نقلاً عن:
Luis bush,''Global Consultation on world Evengalization by the year 2000 and beyand'' Int Jrnal of frontier Missions, 11181-186, 1994.
(11) المصدر: كتاب سادة الفقر، ص 20 - 22، غراهام هانكوك.
(12) المصدر: مجلة الأوروبية، العدد 27 الصادرة في جمادى الثانية 1422هـ الموافق سبتمبر 2001م.
(13) net. Aljazeera، 22/8/2002م.
(14) المصدر السابق، 22/8/2002م.
(15) المصدر: عن كوريا الشمالية صحيفة الاقتصادية في 13/10/1423هـ الموافق 17/12/ 2002م.
(16) المصدر: سادة الفقر ص 76، غراهام هانكوك.
(17) المصدر: كتاب سادة الفقر، ص 14.
(18) انظر لمزيد عن هذه المعلومات التي تم نقلها من مجلة الأوروبية، العدد 27 الصادرة في شهر 6/1422 هـ الموافق شهر 9/2001م.
(19) انظر كتاب سادة الفقر، ص23، غراهام هانكوك.
(20) المصدر: صحيفة الحياة في 5/10/1423هـ الموافق 9/12/2002م.
(21) المصدر صحيفة الجزيرة في 17/12/1422هـ الموافق 1/3/2002م، وانظر مجلة المجلة عدد (1155) .(185/66)
المسلمون والعالم
تأملات في «هروب النخب»
من الدول الإسلامية إلى الغرب
طلعت رميح [*]
تبدو القضية «فنية» .. لكنها «سياسية» .. ومؤشر لـ «الصراع
الحضاري» .. وجوهرها «عقدي» !
هل من سبيل للخروج من هذه الدائرة الجهنمية: الأمة تبذل «بعض»
جهودها.. مالها وعلمها؛ لتربية «النخب» ، والغرب يهيئ لهذه «النخب»
فرص الإبداع والإتقان فتهرب إليه؛ لتظل الأوضاع على حالها.. تتخلف الأمة،
ويتقدم الغرب تقنياً مستخدماً نُخَبَ الأمة ضمن صراعه الحضاري والعقائدي والعنفي
ضد الأمة، ومن يفعل غير ذلك يواجه بالحرب، والحصار التقني (التكنولوجي)
والاقتصادي.. والقتل؟!
على خلفية المواقف الراهنة الطاردة من قِبَل المجتمعات الغربية للطلاب
والمهاجرين العرب والمسلمين؛ شهدت الآونة الأخيرة اهتماماً من الباحثين
والدارسين وفي بعض الأحيان من قبل بعض المسؤولين بقضية «هروب النخب»
من العالم العربي والإسلامي إلى الغرب، فظهرت العديد من المقالات والأبحاث
والدراسات والتصريحات، وأعلنت الكثير من الإحصاءات حول التكلفة المالية التي
تتكبدها المجتمعات العربية والإسلامية في تعليم هذه النخب داخل البلاد العربية..
في مدارسها وجامعاتها، وخلال تلقيها الدرجات الأعلى من التعليم في الأكاديميات
الغربية، وكذلك حول عدد الذين يعودون إلى أوطانهم، وحول أعداد الباحثين
العرب بصفة عامة، وميزانيات البحث العلمي في الدول العربية والإسلامية مقارنة
بالدول الغربية.. إلخ، كما تناولت هذه الدراسات أوضاع هؤلاء «الهاربين»
بعد أن يصبحوا مواطنين حاملين للجنسيات الغربية، وما يعانونه من مشكلات
تتعلق بالعقيدة والهوية الحضارية، وما يتعرضون له من مشكلات اضطهاد ديني
وعرقي، وما يتوفر لهم في الغرب بالمقابل من فرص للنبوغ.. إلخ.
والملاحظ أن الأغلبية من هذه الدراسات نظرت إلى الأمر من زاوية فنية أو
مالية، كما ركزت في بحثها للظاهرة بوصفها ظاهرة تتعلق بالعلماء في المجالات
العلمية أو التطبيقية؛ أي بوصفها ظاهرة تستنزف العقول في مجال التقنية، وتهدر
المال العربي والإسلامي، وباعتبارها في أفضل الأحوال ظاهرة تشير إلى عدم
توفير المال للبحث العلمي في بلداننا، ولعدم توافر الحريات الأكاديمية للباحثين
والعلماء لدينا.. إلخ.
وفي هذه المقالة سأحاول تقديم رؤية لهذه الظاهرة بالغة الأهمية بأبعادها
الشاملة، وأطرح رؤية وفهماً آخر لها؛ بوصفها ظاهرة سياسية وحضارية وعقدية؛
سواء في أسبابها أو في نتائجها، أو في طريقة التصدي الناجح لها.
وسوف أبدأ بضبط المصطلح؛ أي ما هو التعبير الصحيح الذي يجب أن
نطلقه على هذه الظاهرة؟ ثم أوضح حجم الظاهرة وتأثيرها، وجوانب تناولها،
والفهم الغربي لها، وكيف يجب أن نفهمها؟ وأخيراً.. كيف نواجهها؟
وأركز في هذه المقالة على دراسة ظاهرة هروب «النخب» التي تنال
تعليمها في المجتمعات العربية والإسلامية، وتنفق عليها هذه المجتمعات مالها ثم لا
تعود، دون التركيز على دور المهاجرين الذين استقروا في المجتمعات الغربية،
وكيف تتفاعل معهم الأمة ليكونوا أنصاراً لدينهم وقضايا أمتهم داخل المجتمعات
الغربية لا العكس.
* ضبط المصطلح:
كثير من العناوين التي يجري تحتها مناقشة وبحث ظاهرة ذهاب مواطنين
عرب ومسلمين للدراسة في الدول الغربية، بعد أن تنفق عليهم الأمة والمجتمعات
من مالها عليهم لتعليمهم قبل إيفادهم إلى الغرب وأثناء إيفادهم، لتعلُّم التقنية والعلم
الحديث في مختلف الفروع، لكنهم بدلاً من العودة إلى بلادهم لتطوير المجالات التي
ذهبوا لتعلُّم آخر المنجزات العلمية والتقنية فيها؛ يستقرون هناك ويصبح الغرب هو
موطنهم! وهذه الظاهرة يطلق عليها مصطلح «هجرة العقول» ، وهناك من
يعنون أبحاثه ومقالاته بـ «سرقة العقول» أو «استنزاف العقول» ..
فماذا نقول على وجه الدقة؟ وهل يطرح كل مصطلح فهماً مختلفاً؟ إن قضية
هذا المصطلح لا أطرحها هنا على أنها دراسة لغوية؛ فلذلك مجال علمي آخر،
لكنها محاولة للإجابة عن سؤال جوهري هو: أيّ هذه المصطلحات تقدم الدلالة
الصحيحة عن مضمون هذه الظاهرة؟ ولنبدأ بمصطلح «هجرة العقول» ؛ حيث
نرى أنه مصطلح يحمل معنى إيجابياً في الرؤية الشرعية، ويضفي جلالاً على
ظاهرة سلبية بل ومدمرة، فقد استخدم هذا المصطلح للتعبير عن انتقال خاتم الأنبياء
صلى الله عليه وسلم بنفسه وبالدعوة من مكة إلى المدينة المنورة، وكذلك الهجرة
في سنوات الدعوة الأولى إلى الحبشة، «وهي شرعة شرعها المولى جل وعلا،
وجعلها جهاداً ومجاهدة واجتهاداً لتغيير الواقع المهاجر منه، وتحقيق الهدف،
وتجاوز حالة الضعف والرقود، والاستنقاع الحضاري، والركون إلى الذين
ظلموا ... هي حركة إيجابية قاصدة، وخطة محكمة، وعمل محكوم بنية واضحة
الأهداف، وهي أشبه ما تكون بتحرف لقتال أو تحيز لفئة للخروج من حال الذل..
والناظر في الهجرة بكل أبعادها الشرعية وتطبيقاتها العملية، وعبر القرون؛
يبصر أنها ليست ظاهرة سلبية هروبية انسحابية» [1] .
ونضيف أن الهجرة هنا هي هجرة بلا عودة، على ضد الهجرة النبوية
وهجرة الأولين إلى الحبشة، كما أن مصطلح «الهجرة» تعبير يلغي الطابع
الفردي والشخصي وربما الأناني لهذه الظاهرة.
أما مصطلح «سرقة العقول» أو «استنزاف العقول» ؛ فهو في شقه الأول
(سرقة) يركز على دور السارق دون «شمول وتوصيف» دور المجتمعات
العربية والإسلامية الطاردة، هذا في شقه الأول. أما في شقه الثاني (العقول) ؛
فهو ينزع الأمر من محتواه، فالأمر ليس مجرد «عقول» وفقط، والتعبير بـ
«العقول» يستشف منه التركيز على الجانب العقلي العلمي والتقني والتطبيقي
دون الجانب العقدي والحضاري والسياسي والاقتصادي والفكري للنخب..
منابعها وأصولها وتخصصاتها أو دورها الشامل في مجتمعاتها.
وفي ضوء ما سبق؛ فإننا نرى أن مصطلح «هروب النُّخب» هو أفضل
المصطلحات في التعبير عن الظاهرة من زاوية توسيعه لمفهوم الظاهرة؛ فهو لا
يقصرها على العقول العلمية، بل يوسع المفهوم ليشمل النخب من جميع
التخصصات، وهو لا ينطبق عليه ما سبق الإشارة إليه في مصطلح «الهجرة»
الذي يضفي سمواً لفكرة الهروب.
وتعبير «هروب النُّخب» يقدم الوصف الصحيح للظاهرة، فهو في شقه
الأول (هروب) يوصِّف حالة من يتعلمون في بلادهم ويذهبون إلى بلاد الغرب
لنيل مزيد من العلم، من خلال إنفاق مجتمعاتهم العربية والإسلامية عليهم بهدف أن
يعودوا ليطوروا المجالات التي تخصصوا فيها، لكنهم يتركون بلادهم ومجاهدتها
في مواجهة خصومها أو أعدائها، ويهربون ليطوروا مجتمعات الخصوم
الحضاريين؛ بما ينعكس على أمتهم بالضعف، وبطبيعة الحال على الخصوم بالقوة
في الصراع ضد أمتهم.
و «الهروب» هنا يشمل الهروب من مواجهة واقع الأمة في داخلها؛ أي
الهروب من العمل على تغييره؛ ذلك أن الهروب يعني استمرار الظاهرة نفسها،
واستمرار الأسباب نفسها دون مواجهتها؛ حيث يلجأ الهارب إلى الأسلوب الفردي
ليحل مشكلته هو ولو على حساب مصالح الأمة.
وهو في شقه الثاني (النخب) يوسع مفهوم هؤلاء الهاربين من تأدية ما عليهم
من واجبات تجاه بلادهم؛ فلا يقصرها على العقول العلمية وإنما يوسعها لتشمل كل
تخصصات الهاربين.
ويبقى التساؤل عن الدور الغربي في القضية، وفي تقديرنا أن الولاء لعقيدة
الأمة ومصالحها كفيل بعدم تلبية «الطلب» أو الاستجابة للمغريات الغربية؛ سواء
في شقها العلمي، أو في مجال الحريات الأكاديمية، أو في جانبها المالي.
* زاوية التناول:
وكما تتعدد المصطلحات.. تتعدد وتختلف أوجه تناول هذه الظاهرة وزواياه
.. فهناك من ينظر إليها من زاوية استنزافها المالي للميزانيات العربية المخصصة
للتعليم.. وهناك من ينظر إليها من زاوية ضآلة ما توفره الحكومات العربية من
مخصصات مالية للبحث العلمي؛ مقارنة بما تخصصه الدول الغربية.. وهناك من
ينظر إليها من زاوية سيطرة البيروقراطية والفساد على عملية البحث العلمي في
الدول العربية والإسلامية؛ مقارنة بما يجري في الغرب من إعطاء كل الصلاحيات
والحريات لخدمة البحث العلمي.. إلخ.
وكلها وغيرها زوايا للنظر في حد ذاتها صحيحة لكن أياً منها لا يصلح لتقديم
تفسير شامل للظاهرة وكيفية مواجهتها، ويصح القول أيضاً: إنها لا تصلح في
مجموعها للإحاطة بالظاهرة وفهمها حتى لو جمعناها بعضها مع بعض؛ ذلك أنها
تنطلق في التعامل في مجملها مع هذه الظاهرة من زوايا فنية «مالية أو تقنية» ،
والأمر نفسه عند الذين ينظرون إليها من زاوية عدم توفر الحرية الأكاديمية في
الدول العربية والإسلامية مقارنة بالغرب، حتى عندما طوروا فكرتهم باتجاه رؤية
سياسية بناء على أنها خطر على الأمة ظلوا يحاصرون نظرتهم بفهم فني يتحدث
عن الجانب التقني وتأثيراته؛ حيث لم يروا جميعاً أن لهذه القضية هوية عقدية؛
سواء في أسبابها المتعلقة بدور الحكومات، أو حالة الأفراد الهاربين، أو في جانبها
المتعلق بالمجتمعات الطاردة والسارقة أو المستقبلة.. ومن ثم لم يطرحوا لا في
أسبابها ولا في طرق علاجها البعد الأهم.
وهدفي في هذه المقالة إدراك البعد الحقيقي لظاهرة «هروب النخب» ؛
بوصفها قضية ذات هوية حضارية، وذات بعد عقائدي.. ولا حل لها إلا في هذا
الإطار، ومن خلال هذا الفهم.
* بدهيات غائبة:
ولإدراك هذا الفهم وعلى سبيل التقديم أطرح ثلاثة أسئلة قد تبدو بدهية.. أو
حتى سخيفة بعض الشيء.. ومع ذلك فهي أسئلة جوهرية؛ ذلك أن أحد أشكال
المعرفة في مرحلة إعادة البعث الحضاري، أو إعادة بناء المعرفة بعد مراحل من
عمليات الطمس والتشويه المتعمد، وما يبنى عليه ويتراكم لتصبح مسلماته الخاطئة
بدهيات في نظر البعض هو أن تبدأ بإعادة النظر فيما أصبح بدهيات بحكم
استمراره لمدة طويلة لا بحكم أنه صحيح، وأن نقابله بما هو بدهي حقيقي لكنه لم
يعد كذلك.
السؤال الأول: ما هي دول العالم الثالث؟
والسؤال الثاني: هل لقضية هروب أو سرقة العقول أو استنزافها هوية
حضارية، أو أنها مجرد قضية فنية مالية أو تقنية؟
والسؤال الثالث: هل يقتصر دور العقول المهاجرة بالمعنى الواسع للتعبير
على مجرد الهجرة من دولها، وسرقة الأموال التي أنفقتها المجتمعات العربية
والإسلامية وغيرها في إعدادها، أو حتى على مجرد تحويلهم إلى سفراء للحضارة
الغربية لمن يعود منهم، أو أن لهم دوراً أخطر في المشاركة في الحرب من الناحية
العملية شاؤوا أم أبوا على الحضارة العربية والإسلامية والعقيدة؟
- في الإجابة عن السؤال الأول: فإن الرد دون تفكير هو أن دول العالم
الثالث تتركز في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
لكن هذا السؤال البديهي.. سؤال بالغ الأهمية؛ ذلك أن معرفة هذه الدول
تحديداً يطرح الفكرة الجوهرية في قضية سرقة عقول النخب؛ فدول العالم الثالث
في غالبيتها الكاسحة ليست إلا الدول الإسلامية؛ حيث إن كل الدول العربية
والإسلامية دون استثناء هي من دول العالم الثالث، علماً أن بعض الدول الأخرى
هذه ليست إلا دولاً إسلامية تم تغيير هويتها العقدية عبر صراع مرير.
وإذا كان قد آن الأوان للتحول من فكرة «العالم الثالث» أو «العالم
المتخلف» و «الدول الفقيرة» ، إلى فكرة الدول الإسلامية ودول أخرى، أو من
المصطلح السياسي والاقتصادي إلى المصطلح الحضاري والعقائدي الذي يخوض
الغرب معاركه على أساسه منذ قرون؛ فإن ما يهمنا هو أن قضية سرقة العقول
واستنزافها لها بعد آخر خلاف البعد المالي أو الفني؛ حيث تطرح جوهر الصراع
السابق والراهن في العالم.. الحرب ضد العرب والمسلمين.. الحرب ضد الإسلام
ومجتمعاته وحضارته، وهي حرب ليست طارئة أو مستحدثة؛ وإنما هي حرب
عميقة الجذور في العقائد والتاريخ والجغرافيا، وما أظهرها الآن بصورة سافرة هو
اضطرار الغرب للجهر بأبعادها الحقيقية تحت ضغط الصحوة الإسلامية العالمية..
ما يهمنا هو أن سرقة العقول من مجتمعاتنا الإسلامية هي أحد أشكال فرض التخلف
التقني والفكري والعلمي، والتي تبدأ من سرقة العقول ولا تنتهي بقتل العلماء الذين
رفضوا الرشوى العلمية والاجتماعية من الغرب، وقرروا البقاء داخل نسيج أمتهم
يجاهدون لتطوير مقدراتها، بل هي ظاهرة تمتد إلى إبادة مجتمعات كاملة لإبقائها
في طور التخلف، وضمن منظومة الضعف والاستكانة.
- وفي الإجابة عن السؤال الثاني: إذا كنا أشرنا إلى أن قضية سرقة العقول
ليست قضية فنية مالية أو تقنية فحسب؛ فإن السؤال الأهم الآن هو: ما الذي يجعل
حكومات عربية وإسلامية لا تهتم باستنزاف نخبها وميزانياتها بصفة دائمة؟ وهل
يكفي لتفسير ذلك: الحديث عن الفساد أو الضعف الإداري أو قلة المال؟ ولإدراك
ذلك نسأل: لو كان هناك تحد حضاري وتحد عقدي تؤمن به هذه الدول.. هل كان
الحال سيكون كذلك؟ والأمر نفسه على مستوى الأفراد: لو كان العالم الفرد مؤمناً
بعقيدته، ويدرك أنه يذهب لأعداء دينه وأمته ليقويهم ويضعف أمته بالمقابل؛ فهل
كان في هذه الحالة سيذهب أيضاً؟ .. هل كان المال سيغريه؟ أو هل كان إثبات
الذات وإجراء الأبحاث سيجعله يترك صفوف أمته؟ وهل كان سيسهل خداعه تحت
أقاويل مثل أن تطوير العلم إنما هو للبشرية جمعاء، وأن التكنولوجيا بلا هوية ولا
دين.. إلخ؟
وبطريقة أخرى: ما الذي جعل بلداً مثل باكستان تصل لصنع القنبلة النووية
دون أن تقوم على ذلك دول عربية أخرى؟ وما الذي يجعل إنساناً يفجر جسده فداءً
لدينه وأمته، ولا يجعل عالماً يبقى ليجاهد من أجل علمه في أمته؟
- وفي الإجابة عن السؤال الثالث: وهو عن دور هذه العقول في خدمة
المخططات الغربية الصهيونية والصليبية؛ فإن قصر فكرة هجرة النخب على
النخب في مجال العلوم التطبيقية وهمٌ وتضليل؛ إذ إن الهجرة شاملة لنخب
المفكرين وعلماء الاقتصاد واللغة.. إلخ، وكذلك فإن قصر فكرة سرقة أو هجرة أو
هروب النخب على مغادرة المجتمعات العربية والإسلامية فهمٌ خاطئ؛ حيث هناك
من يقومون بالأبحاث الفكرية والثقافية واستطلاعات الرأي.. إلخ وهم داخل
مجتمعاتهم الأبحاث المشتركة؛ بما يخدم خطط الأعداء في السيطرة على المنطقة
العربية والإسلامية وحرب عقيدتها وتراثها، مثلهم في ذلك مثل من يسعى بماله إلى
دول الغرب يدعم اقتصادها ليصير أقوى وأشد قدرة على مواجهة الأمة؛ وهو ما
يزال يعيش داخل جسد الأمة يستنزف مالها ويهربه إلى الخارج..
القضية في أصلها ليست فقط الهروب أو البقاء؛ بقدر ما هي قضية الولاء
والارتباط بعقيدة الأمة، ومصالحها وهمومها، وأمنها الوطني والقومي والإسلامي.
* حجم ظاهرة الهروب وتكلفتها المالية:
حجم الظاهرة بالغ الخطر.. الأرقام متكاثره ومرعبة.. من الناحية العددية
تشير الدراسات والأبحاث إلى أن حجم من يعودون من البعثات الحكومية السورية 5
% فقط، ففي عام 1998م بلغ عدد الموفدين السوريين للخارج من جامعة دمشق
وحدها 332 طالباً، عاد منهم لسوريا بعد انتهاء دراستهم 18 طالباً فقط!
وإذا كان هذا نموذجاً للدارسين الذين لم يعودوا؛ فالمثال الآخر من العراق لمن
عادوا إلى بلدهم واضطروا بعد ذلك للمغادرة تحت ضغط الحصار والقصف والقتل،
فقد غادر العراق بين عامي 1991 و 1998م أكثر من 7350 عالماً تلقفتهم دول
أوروبية وكندا وأمريكا، منهم 67% أساتذة، و 23% كانوا يعملون في مراكز
بحثية في العراق، وكان قد درس منهم 83% في جامعات أوروبية لكنهم عادوا إلى
بلادهم، والباقون كانوا درسوا في جامعات أوروبا الشرقية أو في الدول العربية
وعادوا أيضاً، ثم اضطروا للمغادرة أو الهروب من بلادهم مرة أخرى خلال
سنوات الحصار والقصف والقتل من قِبَل أعداء الأمة.
وفي حالة مصر فقد هاجر 450 ألف مصري من حملة المؤهلات العليا من
الماجستير والدكتوراه - برز منهم 600 في تخصصات نادرة جداً - كما بلغ عدد
المهاجرين إلى الخارج منها وحدها 3 ملايين و 418 ألفاً.
وعن مصر أيضاً فقد غادرها 10 آلاف مبرمج إلى الدول الغربية خلال
السنوات الماضية، 3 آلاف منهم ذهبوا إلى أوروبا في الوقت الذي يعاني فيه
السوق المصري من نقص المبرمجين؛ حيث السوق هناك بحاجة إلى ما بين 32 -
35 ألف مبرمج كمبيوتر.
وتشير الإحصاءات الإجمالية إلى أن 75% من العاملين في الشركات العالمية
في مجال تنمية البرامج العربية هم من العقول العربية العاملة في برامج الكمبيوتر.
وثمة إحصاءات أخرى تقول إن المصانع الكبرى في فرنسا وألمانيا تضم
80% من أصحاب المهارات الفنية من أبناء شمال إفريقيا، ومن الأتراك الأكراد،
ومصر، ولبنان - تشير منظمة الهجرة العالمية إلى أن إفريقيا تفقد سنوياً 80 ألف
عالم وخبير في جميع المجالات -، وهناك تقارير تفيد أن 8% من مجموع القوة
العاملة العربية هاجرت، وأن 20% من مجموع الأطباء هم الآن خارج المنطقة،
وأن 15% من خريجي الأقسام العلمية استسلموا للهجرة الدائمة، وأن 30% من
الطلاب بقوا حيث هم، وأن 27 ألف عربي يحملون درجة الدكتوراه غادروا بلدانهم
إلى أوروبا وأمريكا، وأن هذا الرقم وصل إلى 32 ألفاً في عام 2000م. وأن
هناك 4102 عالم مسلم في مختلف علوم المعرفة في مراكز أبحاث غربية مهمة.
ومن الناحية المالية نشير إلى أن مصر تتكلف 100 ألف دولار لإعداد الفرد
الواحد من الهاربين، وأن المبعوث للحصول على الدكتوراه في الطب الإكلينيكي
يكلف الدولة 750 ألف جنيه؛ أي ثلاثة أرباع مليون جنيه، وأن مصر خسرت 50
مليار دولار بسبب عمليات الهروب هذه؛ أي أن الغرب وعن طريق استقبال
المهاجرين حصل من مصر على أكثر من ديونها له البالغة حالياً نحو 27 مليار
دولار! وتشير الدراسات والأرقام أن الدول العربية تخسر سنوياً 1.5 مليار دولار
نتيجة هجرة حملة الشهادات العليا (الخسارة العربية حتى الآن 200 مليار دولار) !!
* أطراف الظاهرة وتأثيراتها:
ثمة ثلاثة أطراف تساهم في حدوث هذه الظاهرة:
الطرف الأول: هو الدول الطاردة.
الطرف الثاني: هو الدول المحفزة والسارقة.
والطرف الثالث: هو الفرد الهارب.
غير أن الجانب الأهم هو: لماذا الطاردة طاردة؟ ولماذا المحفزة والمستقبلة
تبذل كل منها جهدها، وتصل إلى حد استخدام القوة المسلحة والقتل في تحقيق ذلك؟
ولماذا الهارب الفرد على هذه الدرجة من العلاقة مع أمته من ناحية، ومع الدول
الخصم من ناحية أخرى؟
- في جانب الدول الطاردة؛ فإن الأسباب التي تتناولها المقالات والأبحاث
متعددة ومتنوعة ومختلفة؛ منها:
1 - أن هناك ضعفاً في ميزانيات البحث العلمي: حيث تشير الإحصاءات
إلى أن ميزانيات البحث العلمي العربي لا تتعدى 0.1666 % من الناتج القومي،
بينما النسبة في الغرب 3.5 % من الناتج القومي، وأن الدول العربية تنفق دولاراً
واحداً على الفرد في البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار على
الفرد، وفي الدول الأوروبية 600 دولار.. إلخ. وتشير الإحصاءات إلى أنه بينما
تنفق الدول العربية على التسليح التقنية الجاهزة - 60 مليار دولار؛ فإنها لا تنفق
على الجامعات أكثر من 60 مليون دولار!
2 - وقد انعكس ذلك على عدد المراكز البحثية وعدد الباحثين؛ حيث تشير
الإحصاءات إلى أن عدد مراكز البحث العربي لا تزيد عن 600 مركز، وأن عدد
الباحثين العرب لا يزيد عددهم عن 19 ألفاً، بينما عدد الباحثين في فرنسا وحدها
31 ألفاً يعملون في 1500 مركز بحثي.. وبينما كل مليون عربي يقابلهم 318
باحثاً علمياً؛ فإن النسبة في أوروبا تصل إلى 4500 باحث لكل مليون شخص؛
أي أكثر من 15 ضعفاً.
3 - التعامل مع البحث العلمي بمنطق الوظائف الإدارية؛ حيث تشير
الإحصاءات إلى 1% فقط من ميزانيات الجامعات العربية يتوجه إلى البحث العلمي،
وفي المقابل فإن أمريكا تتجه 40% من ميزانيات الجامعات فيها إلى البحث
العلمي.
4 - عدم توفر الحريات الأكاديمية والسياسية، ودخول المحسوبية والرشوة
في عمليات تعيين الباحثين، وتدني أجور العلماء والفنيين العرب، في حين يجري
إغداق الأموال بسفه غير محدود على الفنانين والمطربين.. إلخ!
5 - عدم التصدي للمشكلات الإدارية والفنية؛ حتى إن بعض الجامعات
العربية ترفض معادلة درجات علمية صادرة في الغرب بالدرجات العلمية الصادرة
منها.
- وفي جانب الدول المحفزة للهجرة والمستقبلة:
1 - هناك الإغراء التقني الذي توفره الشركات العالمية لهؤلاء الخريجين؛
حيث توجد أحدث المعامل والإمكانيات الهائلة للإنفاق على الأبحاث.
2 - وهناك الرواتب المجزية دون شرط أو تمييز.. (المبرمج يحصل على
متوسط 600 ألف دولار سنوياً) .
3 - وهناك التقدير والاحترام لمؤهلات وقدرات العلماء، وليس المثل الأعلى
هو الراقصات والمغنيين.
- وفي جانب الأفراد الهاربين:
1 - هناك الرغبة في نيل العلم وتحقيق الأبحاث العلمية، ونيل الدرجات
العلمية التي تلقى اعترافاً دولياً.
2 - وهناك الرغبة في رفع المستوى الاجتماعي والحياة في مجتمعات تقدر
أبحاثهم وعلمهم، وتجزيهم مالياً.
3 - وهناك اليأس من عملية إصلاح الجهاز الإداري في مجال البحث العلمي
في الدول العربية والإسلامية، واليأس من إمكانية تحقيق حريات البحث العلمي في
إطار إهدار الحريات السياسية في المجتمع.
4 - الانبهار الحضاري بالغرب، وإنجازاته، وفرص الحياة فيه.
5 - وهناك افتقاد المناعة في التعامل مع الخصوم والأعداء الحضاريين
والعقائديين.
* كيف نفهم القضية؟
تلك هي خريطة الظاهرة: الطارد، والجاذب، والمطرود (المنجذب أو
الهارب) .
غير أن الجانب الأهم هو تناول الظاهرة من زاوية أسباب المرض لا
أعراض المرض، فكل ما أشير إليه سابقاً في الدول الطاردة هو أعراض لمرض،
وكذا الأمر نفسه بالنسبة للدول الجاذبة؛ حيث ما ذكرناه هو المظهر وليس الجوهر،
والسؤال هو: لماذا دولنا طاردة؟ أو لِمَ تستمر خسارتها لنخب مجتمعاتها دون أن
تحرك ساكناً؟ وبالنسبة للعلماء الهاربين فالسؤال هو: لِمَ فضل العلماء والباحثون
بل والسياسيون الهاربون فكرة الحل الفردي؟ ولِمَ فقدوا مناعتهم في التعامل مع
الأعداء والخصوم؟ وفي الوقت نفسه وعلى الجانب الآخر السؤال هو: لماذا
يتعامل الغرب مع أي دولة عربية وإسلامية تبدأ العمل في مشروع نهضوي يكفل
توفير ظروف أفضل للتنمية والبحث العلمي بإجراءات الحصار التقني والاقتصادي
والسياسي، ويصل الأمر إلى قصف المنشآت العلمية واغتيال العلماء؟
إن هوية القضية وجوهرها لا يمكن فهمه من خلال الجوانب الفنية التي تساق
من قبل الكتابات التي ترى الأمر في جوهره مالياً أو تقنياً، أو حتى يتعلق بخطورة
الظاهرة على جوانب التطوير والتنمية، وإنما من فهم جوهر الظاهرة، وجوهرها
أنها قضية سياسية وحضارية وعقدية، قضية صراع ممتد ومتعدد المجالات.
إن النموذج الذي سقناه حول وضع العلماء العراقيين أكثر القضايا التي تجسد
هذه القضية، فهي من ناحية ترتبط بدولة لم ترفع شعارات عقائدية للتنمية والتطوير
التقني، وإنما فقط رفعت شعارات وطنية وقومية، ومع ذلك ووجهت بالعدوان
العسكري والحصار التقني، حتى وصل الأمر إلى اعتبار الدواء سلعاً مزدوجة
الاستخدام، والإجبار على وقف كل مشروعات التطوير التقني التي لم تدمر في
الحرب، وتسليم كل المعلومات عنها؛ حيث يجري المفتشون الدوليين في كل أنحاء
العراق للبحث عن معمل هنا أو هناك.
وكذلك فإنها تطرح حال النخب الهاربة؛ حيث ظل الغرب يضغط بكل
الوسائل والطرق حتى هرب العلماء، ومن لم يهرب منهم فهو الآن في حكم الأسير
وفق قرار مجلس الأمن الأخير؛ فكل عالم قابل للاستجواب مع توفير الحماية له
لكي يخون بلده بالإكراه. بل إن قضية العراق تطرح كذلك مسألة تصفية العلماء
وأشهرهم يحيى المشد، وهي تطرح قضية تهيئة الظروف المناسبة لعمل العلماء،
بل حماية العلماء أمنياً وعسكرياً.
إن الفكرة الجوهرية هي أن التطوير العلمي والبحثي فى جميع المجالات
معركة بكل معنى كلمة المعركة، وهنا قد يسأل سائل: ألم تكن الجهود الغربية
مركزة في حالة العراق على مجال تطوير التقنية العسكرية؟
وعلى الرغم من أن العالم الغربي كله يمتلك هذه التقنية، وأن المقارنة بين
الموقف الغربي من العراق ومن كوريا شاهد على عمق العداء للعالمين العربي
والإسلامي، وعلى الرغم من أن الموقف الغربي المتفاوت في التعامل مع تجربتي
التفجير النووي لكل من باكستان والهند إلا أن بعض الناس لا يدرك الحجم الهائل
للتداخل بين مجالات التقنية المدنية والعسكرية؛ حيث لا يمكنك إطلاق مجرد قمر
للاتصالات وللبث التليفزيوني دون امتلاك صواريخ الدفع، بل إن التقنية العسكرية
هي قاطرة التقنية المدنية كما هو الحال في ملايين الاختراعات، فالإنترنت مثلاً
ابتكر وبدأ العمل به في الأغراض العسكرية ثم توسع ليشمل مجال التقنية المدنية؛
أي أن الحصار للعالم العربي والإسلامي حصار تقني شامل.
إن جوهر القضية هو فكرة الصراع لمنع العالم الإسلامي من امتلاك التقنيات
الحديثة، أو في تطوير مجتمعاتها سياسياً وإدارياً، وفي القلب منها مسألة سرقة أو
استنزاف العقول، وفي القلب منها استخذاء النظم العربية والإسلامية في المواجهة،
وفي القلب منها لجوء العلماء والباحثين إلى الهرب من أوطانهم.
* وكيف يفهمها الغرب؟
يفهم الغرب القضية على أنها إعادة لإنتاج التخلف في العالمين العربي
والإسلامي، فهو يستقطب النخب العلمية والفكرية والسياسية التي بإمكانها تطوير
هذه المجتمعات على جميع المستويات من وجهة نظره.
ويفهمها على أن هذه النخب هي القادرة على تقديم رؤية دقيقة للمجتمعات
العربية والإسلامية؛ بدءاً من فهم هذه المجتمعات لغزوها فكرياً وسياسياً واقتصادياً،
أو حتى لفهم أذواقها في السلع؛ أي كتعزيز للمشروع الاستعماري.
ويفهمها على أنها وسيلة توفر المليارات وتدر ملايين الدولارات سنوياً
للخزانات الغربية، وتنتهي نتائجها بالإجمال لصالح الاقتصاد الغربي؛ حيث يربي
العرب والمسلمون النخب التي لديهم في الجامعات الغربية، ويدفعون مقابل ذلك
المليارات، ثم يقوم الغرب بتوظيف هذه الكفايات لصالح الاقتصاد والمجهود
الحربي والسياسي والثقافي الغربي، وينظر إلى القلة الذين يعودون الى أوطانهم
على أنهم سفراء جيدون لنمط الحياة الغربي في الشرق العربي والإسلامي. ومن ثم
فإن الغرب يدرك المضمون الحضاري الشامل لهذه الظاهرة، على ضد الفهم التقني
والمحدود في معظم الكتابات العربية والإسلامية.
ومن جراء هذا الوعي بأهمية تلك الظاهرة؛ تكفي الإشارة هنا إلى أن
الولايات المتحدة رفعت عدد من تمنحهم بطاقة الإقامة (جرين كارد) من 90 ألفاً
للمتخرجين في مجالات التقنية العالية في عام 1998م إلى 150 ألفاً في عام 1999م،
و210 في عام 2000م، لقد فتحت أمريكا بصدور قانون الهجرة عام 1965م
كل الأبواب وبكامل إمكاناتها لعناصر التفوق في العالم لتصب في مصلحتها؛ الأمر
الذي أدى إلى تضاعف قوتها العلمية والبحثية ومن ثم قوتها الاقتصادية والعسكرية..
لقد كان القانون الجديد للهجرة من أذكى القوانين؛ إذ استند إلى إكساب الجنسية
على أساس المهارات وإتقانها، ومن جراء هذا الوعي يرفض كثير من الكتاب
الغربيين العمليات العنصرية التي تجري ضد طلاب العلم العرب والمسلمين في
الغرب حالياً من منطق الصراع الحضاري.
* مؤشرات إيجابية:
ثمة مؤشرات إيجابية في هذه القضية، وللأسف من الطرف (الجاذب) دون
أن تكون من الطرف (الطارد) حتى الآن، لكنها ربما تكون نصف خطوة ولو
على الأقل من باب ألا يجد العلماء العرب المسلمين أن ليس أمامهم سوى أن يعودوا
إلى أمتهم ومجتمعاتهم للدفاع عن علمهم ومكانتهم داخل مجتمعاتهم.. أن يعودوا
ليجاهدوا ويثابروا من أجل دفع الحكومات إلى الرشد، وتحقيق المصلحة العامة
للأمة بدلاً من استسهال الهجرة والهروب والحلول الفردية.
المؤشرات الإيجابية قادمة من هناك من الطرف الآخر أي من قبل المجتمعات
الغربية نفسها حيث تجري عمليات التضييق على الطلاب والعلماء العرب؛ حتى
عاد الآلاف منهم، بل إن المستقرين لم يعد أمامهم فرصة لاستمرار الحياة في
المجتمعات الغربية كما كان الحال في السابق.
والسؤال الأهم الآن ليس هو التشهير بالمجتمعات الغربية باعتبارها مجتمعات
طاردة، ولكن السؤال هو: كيف ستتعامل الحكومات والمجتمعات الغربية مع هذه
الكفايات العائدة؟
وهذا هو السؤال نفسه الذي يجب أن يطرح بصدد رأس المال العربي
والإسلامي النازح من الغرب؛ إذ لا يكفي أن نتشفى في هؤلاء الذين تركوا أوطانهم
ولم يقدروا أن المال مال الله، فباتوا اليوم مهددين بمصادرة أموالهم.. السؤال هو:
ماذا سنفعل معهم؟ ماذا سنفعل مع العقول العائدة؟ هل تذهب للدواوين الحكومية أو
أن هناك إمكانيات خلاَّقة للاستفادة من علمهم ويكفي ما ضاع؟
إن أهمية ذلك تأتي أيضاً من أن طموح الدراسة في الجامعات الغربية،
والانبهار بالحضارة الغربية؛ قد بدأ يتبخر في أذهان الشباب العربي والإسلامي،
وبات الآلاف منهم يفكرون في العودة، عاد على سبيل المثال 24 طالباً من بين 62
طالباً من دولة الإمارات كانوا التحقوا حديثاً بجامعة ولاية كاليفورنيا؛ بسبب
الممارسات العنصرية ضدهم، وحملات القبض والتفتيش والتحقيق والاحتجاز
والتنصت، وفحص البيانات الشخصية، وحتى القتل.
ويبقى أن أهم مؤشر إيجابي صادر من الأمة حتى الآن هو ما تقوم به
المنظمات الجهادية في فلسطين الآن من تطوير تقنية خاصة تجابه بها التقنية
العسكرية الغربية المتقدمة.
* المستقبل وكسر الدائرة الجهنمية:
لقد كانت معظم الدول والمجتمعات الإسلامية وما تزال مربوطة وتدور في
دورة جهنمية محكمة من الخارج ومن الداخل: فى الداخل تحكم هذه المجتمعات
بحكومات وأنظمة سياسية لا تنمي الهوية والعقيدة، ولا تملك مشاريع تنموية حقيقية
تمثل تحدياً عقدياً وحضارياً في مواجهة الغرب، وهو ما يجعل المواطنين لا
يتربون على مفهوم الارتباط بعقيدتهم وأمتهم وتراثهم وشعوبهم وأوطانهم، ولا
يتربون على تكريس كل جهدهم العلمي والفكري والسياسي لنصرة الإسلام
والمسلمين. حكومات وأنظمة لا توفر لهم الحد الأدنى من الحرية الأكاديمية
والميزانيات للبحث العلمي في جميع المجالات؛ مما يزيد في سيادة مناخ النزعات
والحلول الفردية، ويوفر المسوّغات للهجرة والهروب ليصبحوا لقمة سائغة للغرب،
وبعد إقامة رأس جسر في جامعة في أوروبا أو أمريكا؛ يكون محطاً لرحال
مهاجرين آخرين من الأقارب والزملاء في المهنة وأبناء البلد الواحد؛ يصبح ما
يراه الطالب الدارس في الغرب من استقرار غيره وبحبوحة عيشه أمراً يفقده
المناعة والرفض. ومن الخارج تكتمل الدورة الجهنمية؛ حيث تساند أمريكا
والغرب بعض أنظمة الحكم هذه التي ترتبط بمصالحهم؛ حيث لا تملك مشروعاً
عقدياً أو حضارياً أو مشروعاً متحدياً. أما من يرتكب منها «خطأ» التطوير
والتحديث تحت أي شعارات قومية أو وطنية أو إسلامية؛ فإنه يواجه بالحرب
والحصار السياسي والتقني والاقتصادي، ثم بالعدوان العسكري، فتقصف منشآته
العسكرية والاقتصادية والمدنية، ويهدد بالسقوط.
وبعد أحداث سبتمبر أصبحت المعادلة أكثر تعقيداً؛ فالجديد فيها أن الغرب
أصبح يخوض المعركة ضد الأمة بشكل سافر وتحت شعارات عقائدية؛ أي ضد
الإسلام والمسلمين، ولم يعد يفتح أبوابه على مصراعيه للمهاجرين العرب
والمسلمين؛ ومن ثم فإن السؤال الآن هو ليس في جانب توفير المال والحريات
الأكاديمية.. إلخ، ولكن السؤال هو: هل يمكن أن تكون هناك مجتمعات ودول
تؤسس للعقيدة، والمواجهة، وحماية العلماء؟
__________
(*) رئيس تحرير صحيفة الشعب القاهرية.
(1) عمر عبيد حسنة، البعد الحضاري لهجرة الكفاءات، كتاب الأمة، العدد 89.(185/76)
المسلمون والعالم
غربة الأموال العربية ومهانتها
الهيثم زعفان
قضية الأموال العربية في الخارج مثارة منذ سنوات عديدة، وكثرت الكتابة
عنها في أعقاب أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تفاوتت تقديرات الاقتصاديين حول حجم الأموال العربية في الخارج؛
فهناك تقديرات قد تكون أقرب للمنطق، وهناك تقديرات بعيدة كل البعد عن
الاستدلال المنطقي.
تُستثمر هذه الأموال في قنوات عدة شرعية وغير شرعية، وتواجه خاصة في
المرحلة الحالية - تهديدات عدة أهمها التجميد.
أحدثت غربة هذه الأموال فجوات اقتصادية واجتماعية مكَّنت القوى الخارجية
من بسط نفوذها علينا بأشكال عديدة؛ أهمها: الديون -الاستثمارات الأجنبية -
المعونات - والتمويل الأجنبي للأعمال الخيرية.
وأخيراً.. هناك استثمارات حيوية في منطقتنا تنتظر عودة الأموال العربية
الصحيحة.
سأحاول في هذه المقالة تقديم عرض مختصر لبعض جوانب تلك القضية
المعقدة والمتشعبة.
* إشكالية حجم الأموال العربية في الخارج:
بداية؛ إن تناول إشكالية حجم الأموال العربية في الخارج يتطلب عرض
تقديرات الخبراء الاقتصاديين الأقرب لساحة الاستثمار، ثم أعلق بعد ذلك للوصول
إلى نتيجة منطقية عن حجم تلك الأموال، والاستثمار الأمثل لها.
د. أحمد جويلي [1] ذكر في مؤتمر «الاندماج الاقتصادي العربي بين
الطموحات والواقع» والذي عقد في أكتوبر 2001م أن حجم الأموال العربية في
الخارج يتراوح بين 600 و 700 مليار دولار، في ذلك المؤتمر أكد طاهر حلمي
وهو خبير اقتصادي أن حجم الأموال العربية المستثمرة خارج المنطقة العربية
يتراوح ما بين 600 و 800 مليار دولار. وفي المؤتمر العلمي السادس للمحاسبين
المصريين والذي نظمته الجمعية العلمية للمحاسبة والمراجعة والنظم بالقاهرة في
أكتوبر 2001م قدرت الأموال العربية المهاجرة إلى الخارج بنحو 800 مليار
دولار، وذكر الدكتور نبيل حشاد خبير اقتصادي في دراسة له أن مدير عام
«المؤسسة العربية للاستثمار» التي تملكها 15 دولة عربية؛ صرح بأن
مجموع الأرصدة العربية المستثمرة في الخارج بلغ 850 بليون دولار في
نهاية عام 1994م، وعلق «حشاد» بأنه يلاحظ التضارب الكبير في البيانات،
وأضاف أنه يمكن القول إن معظم التقديرات تشير إلى أن حجم الأموال العربية في
الخارج يتراوح بين 600 - 800 مليار دولار [2] . دراسة «حشاد» كُتبت في عام
1999م؛ أي بعد خمس سنوات من تصريح مدير عام «المؤسسة العربية
للاستثمار» ، وسوف نوضح دلالة ذلك بعد قليل.
د. خالد أبو إسماعيل رئيس «الاتحاد العام للغرف التجارية والصناعية
للبلاد العربية» أكد أن الأموال العربية المهاجرة والمستثمرة في العالم كله بلغت في
آخر إحصائية ودراسة لها 900 مليار دولار، تستثمر معظمها في الأسواق المالية
الدولية؛ خاصة في الأسهم والسندات التي تحققت بالبورصات العالمية [3] .
تقرير أعدته لجنة أمنية (أمريكية - أوروبية) مشتركة، ونشرت معالمه
صحيفة الأسبوع القاهرية، أوضح التقرير أن حجم الأموال العربية حتى نهاية عام
2001م في المصارف الأوروبية والأمريكية قد تجاوز 900 مليار دولار، وهذا
الرقم يمثل النقود السائلة، في حين أن هناك العديد من الأصول الأخرى كالعقارات
والشركات والمؤسسات التي تخضع لملكية عربية [4] . وهنا تظهر حتمية التفريق
بين ما هو (مالي) ، وما هو (مادي) ، ومع وضع هذا التفريق في الحسبان قد
يرتفع التقدير إلى رقم كبير.
مصادر مصرفية بريطانية ذكرت أن حجم الأصول والموجودات والثروات
العربية في البنوك الخارجية تزيد قيمتها على تريليون دولار (أي ألف مليار
دولار) ، وأن هذه الثروات مملوكة لأفراد وحكومات وشركات، وهي تمثل
مجال أعمال خصب وكبير للبنوك العالمية؛ خاصة أمريكا [5] .
الدكتور عبد الله دحلان - أمين عام الغرفة التجارية في السعودية - أوضح
أنه وفقاً لبعض التقديرات؛ فإن حجم الاستثمارات الخليجية في الخارج يقدر بنحو
1400 مليار دولار.. وأن معظم هذه الاستثمارات تتمركز في الولايات المتحدة؛
حيث تستوعب أمريكا نحو 60% من الاستثمارات الخليجية المغتربة [6] .
نقف قليلاً أمام هذا التصريح؛ فحديثنا عن الأموال العربية يشمل أموال جميع
الدول العربية وأثريائها، وبالتالي فعندما يقصر د. «دحلان» الأموال المذكورة
على الخليج فقط؛ فمعنى ذلك أن المبالغ العربية مجتمعة أكبر بكثير من الرقم
المذكور الغائب.
«جبر إبراهيم» عضو مجلس الشعب المصري ذكر في اجتماع لجنة
الشؤون العربية بمجلس الشعب المصري أن هناك تقريراً مالياً صادراً عن إحدى
بيوت الخبرة الاقتصادية بالخارج؛ هذا التقرير يؤكد أن حجم الأموال العربية في
البنوك الأوروبية والأمريكية يصل إلى 4.1 تريليون دولار [7] .
والدكتور أحمد جويلي بعد أقل من ثلاثة أشهر من تصريحه السابق صرح -
ضمن اجتماعات «الاتحاد العربي» التي عقدت بالقاهرة - أن الأموال العربية
المستثمرة خارج الوطن العربي تقدر بنحو 1400 مليار دولار [8] !
سياحة طويلة بين تضارب الأرقام تجعلنا نسأل أنفسنا سؤالاً يفرض نفسه:
من هو صاحب المصلحة في تضارب الأرقام؟ ولماذا؟ وما هو التقدير الأقرب
للصحة؟
قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال يجب التفرقة بين أمرين:
1- الأموال العربية المودعة بالبنوك الأجنبية تحت بند حسابات
سرية.
2- الاستثمارات المباشرة أو حتى غير المباشرة عن طريق وسطاء غير
البنوك - في الدول الأجنبية، والتي من الممكن حصرها، ومن ثم تكون تقديراتها في
الغالب أقرب للصحة.
أحسب أن الالتباس كله موجود في النقطة الأولى، وهي في وجهة نظري
تمثل الغالبية العظمى من الأموال العربية، وأحسب أنها السبب الرئيس في تضارب
الأرقام.. فمن المستفيد؟
المستفيد طرفان:
1- المودِع.
2- المودَع لديه.
فالمودِع: يحيطه غموض شديد في تمسكه بالسرية؛ ربما بسبب الضرائب
المرتفعة.
والمودَع لديه: تمثل تلك الأموال عصباً مركزياً لاستثماراته؛ بحيث لو تم
سحبها لوضع في دائرة الموت؛ لذلك فإن الاحتفاظ بالسرية شبه المطلقة يضمن
السلامة من ردود الأفعال والضغوط القوية لسحب تلك الأموال في حال كشف
الغطاء السري.
ليس هذا فقط بل يمكننا افتراض فرضية مؤداها أن هذين الطرفين يعملان
على بث أرقام منخفضة وبعيدة عن الصحة حتى يتم صرف الأنظار عن الأرقام
الحقيقية؛ وبذلك يتم حصر المبالغ في رقم معين منخفض.
هذه الفرضية ربما تؤيدها عدة شواهد؛ ففي الندوة التي عقدها رؤساء
المؤسسات الصناعية التونسية في خريف عام 1985م؛ ذُكر أن إجمالي فائض
العائدات البترولية العربية المستثمرة حتى أواخر عام 1985م يقدر بـ 600 مليار
دولار تقريباً، وأن بلدان العالم الصناعي الرأسمالي تستأثر بحوالي 82% منها.
بتحليل ذلك يتضح الآتي:
أولاً: هذه الأرقام خاصة بقطاع البترول فقط دون حساب باقي القطاعات في
الدول العربية، لكن فلنتجاوز هذه النقطة على الرغم من أهميتها.
ثانياً: هذه الأرقام كانت في نهاية عام 1985م، ولو اعتبرنا أن 82% من
600 مليار دولار؛ أي 500 مليار دولار أمريكي تقريباً مستثمرة خارج المنطقة
العربية منذ 17 عاماً، وبافتراض أن متوسط ريع هذه الأموال 20%؛ يكون ناتج
ريع رأس المال مضروباً في عدد السنوات هو 1700 مليار دولار، وإضافة إلى
المبلغ الرئيس 500 مليار دولار يكون الناتج 2200 مليار دولار تقريباً.
أيضاً من ضمن الشواهد التي تؤيد الفرضية التي وضعناها: تصريح مدير
عام «المؤسسة العربية للاستثمار» الذي ذكرناه في البداية، كان مجموع الأرصدة
العربية المستثمرة في الخارج حوالي 850 مليار دولار في نهاية عام 1994م، فلو
تم ضرب المبلغ في صافي ربح 20%، ومضروب في 8 سنوات (1995 -
2002م) ؛ يكون الناتج 1360 مليار دولار، أضف إليه المبلغ الرئيس 800
مليار؛ يكون الناتج 2160 مليار دولار، وهو رقم لا يفترق كثيراً عما توصلنا إليه
قبل قليل وهو 2200 مليار.
ها هنا بعض التعليقات على الحسابات آنفة الذكر:
1 - لم يتم سحب أجزاء تذكر من رؤوس الأموال العربية خلال السنوات
السابقة (بغضِّ النظر عن الجزء الذي سحبته دول مجلس التعاون الخليجي (20
مليار دولار) ، وذلك في أعقاب 11 سبتمبر، كما جاء على لسان «حسام حطيني»
مدير معرض ومؤتمر المال والاستثمار [9] . وهذه خطوة نحسبها مباركة، ونأمل أن
يحذو حذوها باقي المستثمرين العرب) ، ولو كان حجم ما سحب في السنوات
السابقة كبيراً لشعرنا بأثره في مجتمعاتنا.
2 - لم يتم حساب التحويلات الجديدة من المنطقة العربية إلى الدول الأجنبية؛
سواء منذ عام 1986 أو 1995م حتى الآن.
3- إذا أثيرت قضية حجم ما يخسره العربي في الخارج تزيد المأساة بشكل
يفوق التصور.
ما يمكن قوله إن الأرقام الصحيحة قد تزيد كثيراً عما يثار، وبهذا فمن
المحتمل أن تكون الفرضية التي وضعناها أقرب للصحة.
كسر حاجز الـ (2000 مليار) اقتربت منه الدكتورة سلوى حزين رئيس
مركز «واشنطن للدراسات الاستراتيجية» بالولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث
أكدت أن الأموال العربية تصل إلى تريليونين دولار (2000 مليار دولار) ؛
تتمثل في أرصدة بعض الحكومات العربية، واستثمارات الأفراد والقطاع الخاص.
وتقول إن معظم هذه الأموال يتم استثمارها في الولايات المتحدة الأمريكية [10] .
قد يسأل سائل: أين هؤلاء الذين يملكون كل هذه الأموال؟ نجد الجواب عند
عضو مجلس الشعب المصري في التقرير السابق ذكره.
إن إشكالية حجم الأموال العربية في الخارج إشكالية معقدة، والجزم برقم
محدد أمر من الصعوبة بمكان، وما توصلنا إليه هو استدلال منطقي، وهو يوضح
صعوبة اعتماد رقم أقل من الـ (2000 مليار دولار) ، لكن هناك من قد يختلف
معنا ومن ثم يقدم تقديرات أدق، وأحسب أن الساحة مفتوحة لعرض جميع الآراء.
ننتقل الآن للحديث عن طبيعة الاستثمارات التي تعمل فيها الأموال العربية في
الخارج.
* طبيعة الاستثمارات العربية في الخارج:
تستثمر الأموال العربية المهاجرة أو تستقر في إحدى القنوات الرئيسة الآتية:
1- ودائع مختلفة الآجال في المصارف التجارية العالمية.
2- سندات حكومية.
3- سندات شركات تجارية.
4- أسهم الشركات التجارية.
5- أذون الخزانة.
6- شراء العقارات والذهب.
7- استثمارات في المؤسسات المالية الدولية.
8- قروض إلى الحكومات والهيئات الدولية.
هذا بالإضافة إلى مجموعات من القنوات الفرعية.
ويؤكد كثير من الاقتصاديين أن استثمار تلك الأموال بالأشكال سالفة الذكر لا
يمثل حصة مسيطرة على المشروع؛ مما ينعكس على نشاطه وإدارته، ولعل هذا
يتضح مع قول السيناتور (حسن حسني فهمي) كبير مستشاري ولاية
«بروسبيكت بارك» ، وعضو مجلس النواب الأمريكي، والذي صرح بأن
هناك استثمارات عربية في وسائل الإعلام داخل الولايات المتحدة إلا أن النسبة
الكبرى تكون لليهود؛ ولذا تسهم هذه الوسائل في تشويه صورتنا، ويرى أنه من
الجدوى أن يسحب العرب والمسلمون استثماراتهم المحدودة في هذه الوسائل،
ويستثمرونها في محطات أخرى تكون نسبة رأس المال العربي فيها أكثر من
50%؛ وبذلك يكون لهم حق تحديد توجه المحطة الإعلامية، ويصبح من السهل
علينا تصحيح صورتنا مثلما يفعل اللوبي اليهودي [11] .
إن عدم تجاوز نسبة 50% في استثمارات الأموال العربية ليس وليد الصدفة،
فهو أمر مدروس ومخطط، ولعل ذلك ما أوضحته دراسة «أميرة الحداد» والتي
جاء فيها: «لقد وضعت الدول الصناعية مجموعة من الإجراءات تهدف إلى
احتواء الموارد المالية العربية في الاتجاه الذي يخدم مصالحها فقط، وإلى تحقيق
عملية التدوير المنشودة لتلك الموارد المالية، ووضعها في القنوات التي تعزف عنها
رؤوس الأموال الوطنية الأوروبية والأمريكية، وعدم سيطرتها على أية نشاطات
مهمة ومربحة» [12] .
نريد أن يقف المستثمر العربي مع نفسه قليلاً؛ فهو يضع الأموال التي
استخلفه الله فيها في بلاد الغرب؛ حيث لا شريعة تضبط قنوات العمل، ما الذي
يمنع الأموال العربية من أن يتم استثمارها في أحد مصانع الخمور، أو في بث
القنوات الإباحية، أو في إقامة الملاهي الليلية، أو إقامة مدن كاملة تضم بيوت
الدعارة.. هل يستطيع المستثمر العربي أن يمنع ذلك؟
* مخاطر تهدد الأموال العربية:
تتعرض الأموال العربية في الخارج لمخاطر عدة؛ أهمها سياسة التجميد التي
تستخدمها أمريكا كورقة سياسية مربحة، وهي ليست وليدة أحداث سبتمبر، ولكنها
سياسة قديمة تستخدم مع من يخالف قواعد اللعبة، ولعل ما يوضح ذلك أنه في 7
نوفمبر عام 1989م أفرج الرئيس الأمريكي عن 570 مليون دولار ودائع إيرانية
مجمدة [13] ، هذا بالإضافة إلى ما حدث للأموال العراقية من تجميد. وسياسة
التجميد لا تقوم بتنفيذها أمريكا وحدها بل تساعدها أوروبا؛ فقد قامت البلدان
الأوروبية بتجميد أموال عربية (يُشك) في أن أصحابها ينتمون لمنظمات إرهابية!
وذلك أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وقد نقلت صحيفة «الفايننشال تايمز» عن
«بول أونيل» وزير الخزانة الأمريكي الذي وصل في زيارة إلى أوروبا قوله:
«إن هذا المستوى من تجميد الأموال يعكس مستوى التعاون الكبير من البلدان
الأوروبية مع أمريكا» [14] .
يقول الدكتور مصطفى الفقي: «إن رأس المال العربي المهاجر يتعرض
لتهديدات المصادرة بدعوى العلاقة بمنظمات الإرهاب، وما تم تجميده بلغ حتى
الآن 400 حساب شخصي ومؤسسي» [15] .
إن القضية ليست قضية استثمار وأرباح، ولكنها يجب أن تكون قضية ميزان
نقيس به المكسب والخسارة؛ ليس بمنظور الدنيا فقط ولكن بمنظور الدنيا والآخرة.
هناك من لا يعلم أن أمواله تستثمر بصورة غير مقبولة، وأحسب أن هؤلاء ستكون
نتيجة توقفهم مع أنفسهم مجزية بإذن الله، وهناك من يعلم، وأيضاً نحسن الظن
بردود أفعالهم.. نقول لجميع الأطراف إلى متى تكتنزون وقد يكون العمر تقدم بكم!
وتسوِّغون أعمالكم بأنها من أجل الأبناء والأحفاد..! نقول لكل (ثري) : هل
بلغت في شهرتك وثروتك (أسطورة أوناسيس) أسطورة القرن العشرين؟! .. ماذا
حدث لثروة أوناسيس؟ اكتنزها أوناسيس من أجل أبنائه وأحفاده، مات ابنه الوحيد
في ريعان شبابه في حادث طائرة وفي حياة والده، ثم ماتت ابنته الوحيدة في حمام
منزلها (شبهة انتحار) بعد إصابتها بالاكتئاب النفسي نتيجة إخفاقها في أربع
زيجات، وبقيت أثينا حفيدة أوناسيس لابنته لتؤول إليها ثروة جدها بالكامل.
* انعكاسات الغربة:
هروب الأموال العربية أحدث قصوراً في التمويل؛ مما نتج عنه فراغ
اقتصادي واجتماعي داخل المجتمع نتج عنه مشكلات اقتصادية واجتماعية كثيرة،
لكن كان لا بد من إشباع الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية؛ فماذا حدث.. دعونا
نرى بعض أشكال الحلول التي قدمت:
1 - مأساة الديون: غرقت كثير من الدول العربية في الديون مركبة الفائدة؛
وجميعنا يعلم ما أحدثته الديون الربوية بنا. وتبلغ ديون الدول العربية 159 مليار
دولار، تم تخفيضها في مايو 2002م إلى 144 مليار دولار [16] .
بالمقارنة لما للعرب في الخارج لا تستحق كلمة (ديون عربية) كل الهالات
والانكسارات التي تثار حولها مع كل موقف تذكر فيه.
2 - الاستثمارات الأجنبية في المنطقة: حيث المجال خصب لأن تفرض تلك
الاستثمارات نفسها وهي لها مخاطر عدة؛ لعل أهمها:
أ - عدم اكتمال دائرة الأموال المحلية؛ فما تدفعه من أموال لا يعود عليك
بأي نفع اقتصادي أو اجتماعي؛ لأن نهاية الدائرة المالية في بلد المستثمر وليس في
بلدك، وهنا تبرز أهمية المقاطعة، ولكن في الوقت نفسه لا بد من التنشيط
الاقتصادي المحلي وإلا حدث انهيار اقتصادي.
ب - الانسحاب المفاجئ لهذه الاستثمارات من المنطقة العربية ينتج عنه
انهيارات اقتصادية داخلية نظراً لتشعبه في صناعات حيوية عندنا. يوضح
النقطتين السابقتين ما جاءت به دراسة د. محمد الصطوف؛ حيث يقول: «إن
الاستثمار الأجنبي لا يأخذ بعين الاعتبار تحقيق تنمية اقتصادية في الدولة التي
يدخلها، ويهتم فقط بالأرباح والعوائد التي يمكنه تحقيقها وإن كان ذلك على حساب
الاستقرار والتوازن الاقتصاديين» [17] .
3 - المعونات: يقول الرئيس نيكسون بصورة قاطعة في حديثه في عام
1968م خلال حملته الرئاسية:
" Let us remember that the main Purepose of American
aid is not to help other nations, but to help ourselves "
(يجب أن نتذكر أن الغرض الرئيس للمعونة الأمريكية ليس مساعدة الشعوب
ولكن مساعدة أنفسنا) [18] .
4- التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية: توضح سناء المصري أنه بعد
تضخم ظاهرة الجمعيات غير الحكومية صار مرض التمويل الأجنبي متفشياً،
والعلاقات مع الخارج مفتوحة على مصراعيها لقاء بعض التقارير عن الداخل
تصب مباشرة لدى المؤسسات الدولية مهما اختلفت مسبباتها [19] .
وهذا ما يوضحه الدكتور نبيل السمالوطي؛ حيث يقول: «إن التمويل
الأجنبي يُوظَّف لا لتنمية المجتمعات النامية بشكل متوازن، ولكن يُوظَّف في بعض
الأحيان لتنفيذ التوجهات العالمية اقتصادياً وثقافياً وسياسياً لصالح احتكارات الغرب
ولغير صالح الدول النامية» [20] .
وتقوم بهذا الدور مؤسسات مالية دولية عالية المستوى، فقد قامت مؤخراً هيئة
عربية تعمل كمظلة للجمعيات العربية غير الحكومية بإعداد دليل ضم 81 مؤسسة
دولية للتمويل، جاء على رأسها (فورد، والاتحاد الأوروبي) .
ومؤسسة (فورد) تقول عنها سناء المصري نقلاً عن حميدة نعنع الكاتبة
السورية: «مجرد ذكر اسم» فورد فونديشن «يجرنا إلى نقاش مستفيض حول
تاريخ هذه المؤسسة، والأدوار التي مارستها في بعض دول أمريكا اللاتينية والهند
وزيمبابوي. وهي أدوار كان ظاهرها المساعدة الإنسانية بينما استخدمت هذه
المساعدة لإجراء بحوث ودراسات انتهت كلها إلى مكاتب المخابرات الأمريكية»
[21] .
أما (الاتحاد الأوروبي) فقد أثيرت حوله قضية سعد الدين إبراهيم ومركز
ابن خلدون؛ تلك القضية التي شغلت مساحات إعلامية واسعة النطاق على
المستويات المحلية والدولية كافة، وكانت البداية تمويلاً من (الاتحاد الأوروبي)
قدره 220 ألف يورو.
إن العناصر الأربعة السابقة: (الديون - الاستثمارات الأجنبية - المعونات
- التمويل الأجنبي) كانت بعضاً من كثير مما أحدثه هروب الأموال العربية
للخارج.
* وقفة استثمارية:
- قضية الأموال العربية يكمن أحد جوانب مشكلتها في النظرة الجزئية
للأموال، فبعض المستثمرين العرب ينظرون إلى الـ (مليون دولار) التي هي
كل ثروة الواحد منهم أو نصفها على أنها لا تمثل شيئاً في تلك القضية المعقدة،
ومن ثم فهم يرسلونها للخارج، لكن هل يعلمون أنه إذا تم حساب حصيلتهم مجتمعة
فسوف يكوّن الرقم جزءاً كبيراً من القضية، هذه نقطة.
النقطة الأخرى: قد يجزم بعض المستثمرين بأنه يعلم جيداً أن استثماراته كلها
نظيفة، وأن أصول أمواله مستثمرة مثلاً في الصلب أو صناعة السيارات، نقول:
ما الذي يمنع إدارة تلك المشروعات أن توجه الأرباح إلى الاستثمارات القذرة التي
لا حدود لربحيتها، وخاصة أن حصتك غير مسيطِرة على المشروع كما أوضحنا؟!
نعلم جيداً أن هناك عوامل طرد وعوامل جذب، وتسعى الحكومات العربية
جاهدة في معالجة العوامل الطاردة؛ من ضرائب وجمارك وما إلى ذلك من معوقات،
لكن ألا يجدر بنا أن نفكر في القضية بصورة معيارية؛ بمعنى أن نكون أصحاب
غاية حقيقية، إن الانسحاب لا يحل القضية بل يزيدها تعقيداً.. كما أن بعض
تصريحات الاقتصاديين قد تصيب المستثمرين العرب بالإحباط، ويوضح ذلك عبد
الرحمن الزامل رئيس «مركز تنمية الصادرات السعودي» ؛ حيث يقول: «إن
الأموال الخليجية في الخارج أرسلت بحثاً عن الفرص التي أصبحت محدودة جداً
في الخليج» [22] .
نشك في محدودية الاستثمار في الخليج، ولو كانت الاستثمارات في الأرض
أو الجو انتهت؛ فهناك استثمارات أعماق البحار حيث اللؤلؤ والمرجان والأسماك،
وهي أعلى ربحية من الاستثمارات الأرضية والجوية؛ تلك الاستثمارات ألا يمثل
الخليج مجالاً خصباً لها؟! وعلى سبيل المثال؛ فإن صناعة اللؤلؤ تمثل ثقلاً
اقتصادياً مزدهراً في جنوب شرق آسيا، وهناك خبراء استثمار كثيرون يمكن أن
يدلوا بدلوهم في هذا الأمر. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: لماذا نحصر الاستثمار في الخليج فقط؟ لماذا لا نتشعب
في قنوات الأمة؟ السودان على سبيل المثال بها 200 مليون فدان فائقة الجودة
الزراعية، المياه متوفرة، العمالة جاهزة؛ سواء السودانية أو المصرية، ما ينقص
هو التمويل.. لماذا لا يقوم أحد المستثمرين بالتجربة على ألف فدان فقط وينظر
إلى العائد؟ سؤال لا يمكن الإجابة عنه إلا عملياً.
مصر.. الاستثمار بها قابل لاستيعاب مشروعات كثيرة جداً.. نجرب
الاستثمار الإسكاني، إن مليون وحدة سكنية يمكن أن تكلف 10 مليارات جنيه
مصري وتباع في اللحظة نفسها بـ 15 مليار جنيه؛ أي هناك 50% مكسب
مضمون، إضافة إلى أن مثل هذا المشروع يؤمِّن مستقبل مليوني فتى وفتاة توضع
دعواتهم في ميزان حسنات المستثمر العربي، أيضاً يمكن تجربة هذا الأمر على
ألف وحدة سكنية متوسطة الشكل قليلة التكلفة، يقبل عليها قطاع عريض من
الشباب ممن ينتظرون تلك الفرصة على أحر من الجمر. أراضي البناء متوفرة في
أطراف المدن، الحكومة المصرية تقدم تسهيلات كبيرة في بيعها، ولكن يحجم عنها
المستثمر لعدم وضعه البعد الأخروي في ذهنه أثناء الاستثمار، وبحثه عن مجالاته،
ويهتم ببناء مساكن تُهتك فيها الأعراض، ويرفع شعار الشيطان في أماكن لا ترى
ذلك عيباً أو حراماً. كما سبق أن أوضحنا علينا أن نزن الأمر بميزان الدنيا
والآخرة، وقد أصبح لسان حال الشباب يكاد يقول لهذا المال العربي المغترب:
S.O.S «أنقذوا أرواحنا» .
وأخيراً.. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم المال الصالح للمرء
الصالح» [23] ، وذلك لمن أراد أن يصنع ولداً صالحاً يدعو له؛ فيرفعه إلى أعلى
الدرجات عند الله، حتى وهو في داخل قبره.
__________
(1) الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ووزير التموين المصري الأسبق.
(2) نبيل حشاد: (الجات ومنظمة التجارة العالمية، أهم التحديات في مواجهة الاقتصاد العربي) ، مكتبة الأسرة بالتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001م، ص 279 - 280.
(3) (الأموال العربية المهاجرة،، هل تعود للوطن؟) تحقيق راوية الصاوي، جريدة الأهرام المصرية: 1/2/ 2002م.
(4) صحيفة الأسبوع القاهرية: 4/3/ 2002م.
(5) جريدة الأهرام المصرية: 24/11/2001م.
(6) صحيفة السياسة الكويتية: تحقيق محمد إبراهيم، 21/10/2001م.
(7) جريدة الأهرام المصرية: 2/1/2002م.
(8) جريدة الأهرام المصرية: 2/2/2002م.
(9) أميرة محرم الحداد: رؤوس الأموال العربية كأحد مقومات التكامل الاقتصادي العربي، دورية الباحث، أكتوبر 1994م، دورية ربع سنوية يصدرها مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والمالية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(10) جريدة البيان الإماراتية: 6/3/ 2002م.
(11) أموال العرب وصورتنا في أمريكا: حوار عادل أبو طالب، مجلة الأهرام العربي: 16/3/ 2002م.
(12) أميرة محرم الحداد: مرجع سابق.
(13) عبد المنعم شفيق: حزب الله رؤية مغايرة (حقيقة المقاومة،، قراءة في أوراق الحركة السياسية الشيعية في لبنان) ، ط 1، 2002م، ص 301.
(14) www.g n y banks.com.
(15) صحيفة صوت الأمة الثالث: 31/10/2001م.
(16) موقع هيئة الإذاعة البريطانية على الإنترنت.
(17) محمد الحسين الصطوف: أهم محددات الاستثمار واتجاهات استخدام نماذج المدخلات والمخرجات لتخطيط الاستثمارات، المجلة العلمية لكلية التجارة (بنين) ، جامعة الأزهر، العدد 27، السنة 2002م، ص 146.
(18) ماجد رضا بطرس: تقييم أداء المعونة الأمريكية في قطاع الصحة في مصر، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1997م، ص 97.
(19) سناء المصري: تمويل وتطبيع (قصة الجمعيات غير الحكومية) ، سينا للنشر، 1998، ص 34.
(20) نبيل السمالوطي: التنظيمات والجمعيات غير الحكومية وموقفها من العولمة، المؤتمر الحادي عشر، كلية الخدمة الاجتماعية جامعة حلوان، 1998م، ص 8.
(21) سناء المصري: مصدر سابق، ص 67.
(22) رئيس مركز تنمية الصادرات السعودية لـ الحياة: الفرص الاستثمارية محدودة جداً في الخليج: جريدة الحياة اللندنية، 8/10/ 2001م.
(23) أخرجه أحمد في المسند، مسند الشاميين، رقم 17309.(185/84)
مرصد الأحداث
وائل عبد الغني
مرصد الأخبار:
هل يحكم الصليب الصومال المسلمة؟
وزعت منظمة نصرانية صومالية مجهولة تسمي نفسها «مجتمع الأقلية
المسيحية في الصومال» رسائل على المشاركين في مؤتمر المصالحة الصومالي
المنعقد حالياً في مدينة (الدوريت) الكينية، تطالب فيها بإشراكها في المفاوضات.
وتحتج الرسالة التي كانت خالية من أي توقيع ما عدا اسم المنظمة وشعار
الصليب في أعلاها على أن الأقلية النصرانية في الصومال لم تحصل على نصيبها
من ممثلي الأطراف الصومالية في مؤتمر المصالحة، وتطالب بإشراك ممثلين لها،
قالت: «إنهم موجودون في (الدوريت) بهدف المشاركة في المؤتمر» ، لكنها لم
تفصح عن أسمائهم.
وتقول الرسالة إن الأقلية كان لها ممثلون في الحكومات الصومالية السابقة،
وعددت أسماء من بينها سياسيون سابقون أعلنوا صراحة اعتناقهم للنصرانية في
الستينيات، وأبرزهم «ميشال مريانو علي» الذي غير اسمه بعد اعتناقه
للنصرانية.
وورد في الرسالة أيضاً كلمات قصيرة مقتبسة من الإنجيل باللغات الإنجليزية
والإيطالية والألمانية.
ونقلت صحيفة «أيامها» (الأيام) اليومية والتي تصدر في مقديشو، عن
مسؤول في منظمة السلطة الحكومية للتنمية «الإيجاد» التي ترعى المؤتمر أن
المنظمة تسلمت هذه الرسالة، وأنها تفكر في الاعتراف بهذه المنظمة كإحدى
الأطراف الصومالية، لكنها لم تتخذ قراراً في ذلك بعد.
وقد أثار بيان هذه المنظمة المجهولة ضجة كبيرة في أوساط المشاركين في
مؤتمر المصالحة، ورد ممثلو علماء «أهل السنة والجماعة» في المؤتمر بأن
أعضاء هذه المنظمة إن وجدوا فهم مرتدون يستحقون القتل فضلاً عن نيلهم حقوق
مزعومة.
يذكر أن سكان الصومال يدينون بالإسلام بنسبة 100%، وعلى الرغم من أن
المنظمات النصرانية الأجنبية أقامت عدداً من المدارس التنصيرية والكنائس في
فترة الاستعمار الإيطالي والبريطاني؛ فإنها لم تنجح في خلق أقلية نصرانية في
البلاد، وهذه المرة هي الأولى التي يظهر اسم منظمة نصرانية في الصومال علناً.
ورأى مصدر صومالي يشارك في المؤتمر أن ما حدث عبارة عن استفزاز
لمشاعر الصوماليين، ولا يعبر عن وجود حقيقي لنصارى في الصومال.
جريدة (الشرق الأوسط) ، العدد: (8854)
ومن يوقف هذه الحملات؟
ضمن الحملة التي تهدف إلى فتح الباب أمام دخول اليهود إلى المسجد الأقصى؛
صعدت قوى صهيونية وجهات خارجية من حملتها الإعلامية المتواصلة الداعمة
لتهويد القدس المحتلة، تحت شعار (جبل الهيكل قلب الأمة) ، والذي أصبح دارجاً
في ملصقات وضعت على الجدران والحافلات، وتتناقله وسائل الإعلام، وينشر
بعدة لغات أخرى غير العبرية.
هذه الحملة المتطرفة ليست مقتصرة على ما يسمى «أمناء جبل الهيكل»
باعتبارها تقف خلف الحملة، فالاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بما في ذلك جهاز
«الشاباك» يدعمون هذه الحملة، إلى جانب منظمات صهيونية نصرانية في
الخارج تنفق الكثير من الأموال لإنجاحها، وتسعى إلى صدور قرار مباشر من
حكومة أرييل شارون يفتح أبواب الحرم القدسي أمام اليهود، وهو ما وعد به
شارون الإسرائيليين أثناء حملته الانتخابية الأولى.
(الشرق الأوسط) ، العدد: (8854)
إرهاب أحدث إصدار..؟!
نقلت صحيفة «كول هعير» الصهيونية نشرة توزع في كل نهاية أسبوع
بعشرات آلاف النسخ في الكنس اليهودية، وتدعى «طريق التوراة» ، نشرت في
آخر أعدادها مقالاً حاداً يدعو إلى تفجير المسجد الأقصى؛ حيث يقول كاتبه: «إن
الفريضة القاضية ببناء بيت الله صارت واجباً ككل واجب آخر. وقبل أن يكون
بوسع (شعب إسرائيل) التوجه إلى مهمة بناء الهيكل الثالث؛ عليه أولاً أن يزيل
العوائق القائمة المساجد الاسلامية» .
ويتحدث عن الحاجة إلى إزالة (عار المساجد) الذي في مكان الهيكل،
وينهي بضرورة المسارعة إلى القيام بعمل ما، (تخلص من الشر قبل أن تفعل
الخير) .
كما نشرت الصحيفة مقالاً آخر يدعو إلى تنظيم مدني يمس العرب؛ حيث
يقول: يجب إعلان الحرب على العرب، وإقامة تنظيمات مدنية للقيام برد حاد
على (بؤر العنف في المنطقة) .
(الزمان اللندنية) ، العدد: (1429)
متى تنتهي مثل هذه الاستفزازات؟
ضمن سلسلة الاستفزازات التي باتت تقرع مشاعر المسلمين بصورة شبه
يومية؛ وزعت شركة صهيونية زجاجة جديدة من الخمرة تحمل صورة مسجد قبة
الصخرة، وباحة المسجد الأقصى الشريف، وكتب على الملصق: (فودكا من
إنتاج مصنع «فوكتان» في أوكرانيا) ، وقد قررت مؤسسة الأقصى لإعمار
المقدسات الإسلامية برئاسة الشيخ رائد صلاح، وجمعية الميزان لحقوق الإنسان
التوجه للقضاء ضد الشركة الإسرائيلية التي تستورد جميع أنواع الخمور.
القدس العربي، العدد: (4363)
هناك من يقول: لا. ولكن هناك!
منعت النمسا نقل قوات أميركية من ألمانيا بالقطارات عبر أراضيها إلى
إيطاليا، في إطار استعدادات القوات الأميركية للعدوان على العراق، جاء المنع
احتراماً لنصوص القانون النمساوي التي لا تسمح بنقل القوات والأسلحة الأجنبية إلا
في ظروف خاصة؛ بوصفها دولة محايدة.
هذا السلوك لم تحتمله الحكومة الأمريكية من الحكومة النمساوية؛ نظراً لأن
قرار المنع الذي لم تعتده أمريكا من قبل خاصة في جمهوريات الموز الآخذة في
الانتشار سيكلف الولايات المتحدة مزيداً من التكاليف والوقت.
(الاتحاد) ، العدد: (10086)
شالوم في آلماآتا!
عقد في مدينة آلماآتا جنوب كازاخستان مؤتمر دولي تحت عنوان «الوفاق
والسلام» ، وشارك فيه ممثلون عن إسرائيل وتنظيمات يهودية أميركية مع رؤساء
كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، وممثلون عن أذربيجان وأوزبكستان
وتركيا وأفغانستان، وحالت زيارة بوتين لفرنسا دون مشاركته في أعمال المؤتمر.
المؤتمر الذي يعد استمراراً لندوة التعاون والأمن الاقليمي في آسيا الوسطى
التي عقدت العام الماضي في آلماآتا أيضاً، سعى فيه الرئيس الكازاخي إلى
الحصول على مباركة أميركية من أجل ممارسة دور إقليمي أساسي في منطقة آسيا
الوسطى، إلى جانب إسكات الأصوات التي تتعالى بالحديث عن الفساد الذي علت
رائحته في حكومة كازاخستان؛ من خلال كسب دعم اللوبي الصهيوني في أمريكا؛
عبر التزلف إلى إسرائيل والمنظمات اليهودية في الولايات المتحدة.
وصدر عن المؤتمر بيان مشترك شدد على «التنديد بالإرهاب في جميع
صوره، ومهما كانت دوافعه» .
وتجنب البيان الإشارة إلى الحرب الأميركية المحتملة على العراق إرضاء للعم
سام، بينما أكد ناطق باسم المنظمات اليهودية الأميركية «الدعم المطلق لسياسة
الرئيس الأميركي جورج بوش» .
(الحياة) ، العدد: (14572)
أقوال غير عابرة:
- أمريكا أصبحت أكثر فظاظة، وربما أصبح العالم كله يسير في هذا
الطريق؛ لأننا نقوم بتصدير هذه الفظاظة، إنها واحدة من أكبر سلعنا الثقافية:
اللغو!
الكاتب الأمريكي (نورمان ميلر) (نيوزويك) ، 4/2/2003م
- من أحدث تجليات الإعداد للحرب ضد العراق: الاتفاقية العسكرية التي
عقدتها الولايات المتحدة مع أحد الأقطار العربية الإسلامية، وعلى الرغم من أن
نصوص هذه الاتفاقية ما تزال طي الكتمان؛ فإن ما أعلن منها يدفعنا إلى الاقتناع
بأن ذلك القطر الإسلامي قد وضع قواعده البرية والجوية والبحرية بتصرف القوات
الأمريكية.
د. هيثم الكيلاني، جريدة (الزمان) ، العدد: (1398)
- أمريكا هي الدولة الوحيدة التي استخدمت القنبلة الذرية أثناء الحرب، وهي
تتحمل اليوم المسؤولية كاملة عن انتشار الأسلحة النووية. أما بقية الدول الأخرى
الساعية للحصول على السلاح النووي؛ فهي تحاول فقط حماية نفسها.
(كيم يونغ إيل) رئيس كوريا الشمالية، مجلة (المجلة) ، العدد: (1198)
- ليست هناك دولة عربية واحدة تعمل على التحرك ضد سياستنا في قضية
ضرب العراق، بل هناك 12 دولة عربية على الأقل تتعاون بنشاط معنا في أي
مجال نطلبه. هناك حاجة للتغيير في إيران وسوريا ولبنان إلى جانب بضع دول
أخرى، ولكن حالة العراق لها خصوصياتها.
(ريتشارد بيرل) مستشار وزير الدفاع الأميركي، صحيفة الأنوار اللبنانية، 3/2/2003م
- شركة «لوك أويل» النفطية الروسية ترحب باحتلال العراق.
وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي اللبناني، جريدة «الشرق الأوسط» العدد: (8842)
- حسب معلوماتي المؤكدة؛ فإنه يتم نقل القتلى الأمريكيين في أفغانستان إلى
قاعدة (العديّد) في قطر؛ لكي يقولوا فيما بعد إنهم سقطوا خلال الحرب التي تهدد
أمريكا بشنها ضد العراق تحديداً، وهم منذ الآن يمهدون الرأي العام لهذا الأمر؛
حينما يقولون إن الحرب على العراق ستكلفهم خسائر كبيرة في الأرواح البشرية.
الجنرال حميد جول، رئيس المخاربرات الباكستانية الأسبق،
في حديث مع مجلة (المجلة) ، العدد: (1199)
- إن إدارة بوش تقوم بنفس التكتيك الذي ينفذه أرئيل شارون، وتستخدم
الأسلوب نفسه من خلال توجيهها اتهامات للآخرين إذا ما وجهت إليها اتهامات
معيّنة.
(ديفيد بوريل) أستاذ اللاهوت في جامعة (نوتردام) بولاية إنديانا الأميركية،
(البيادر السياسي) الفلسطينية، عدد: 31/1/2003م
- إن التحالف الذي يجري بناؤه ضد العراق يضم اليوم حوالي تسعين
دولة؛ أي نصف العالم تقريباً. إنه أكبر تحالف في تاريخ البشرية.
وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في افتتاح المؤتمر الدولي
حول الأمن بميونيخ، «الحياة» اللندنية، العدد: (14565)
- إن العراق في حاجة إلى دكتاتور ... إن ما يريده الرئيس جورج بوش هو
إطاحة صدام حسين الذي عمل من قبل مع الولايات المتحدة، ووضع دكتاتور آخر
محله.
الناشر الأميركي (لويس لافام) المعارض لاستخدام القوة ضد نظام صدام حسين،
جريدة «الشرق الأوسط» ، العدد: (8841)
- خسائر مصر الاقتصادية من ضرب العراق لا تقل عن خسائرها من جراء
تحرير سعر الصرف.
جريدة (الأسبوع) المصرية العدد: (310)
مرصد الأرقام:
- قدرت قيمة عقد شركة (توتالفينا) الفرنسية النفطية مع صدّام بما بين 40
إلى 60 مليار دولار، وهو ما يعكس طرفاً من المعارضة الفرنسية للعدوان على
العراق.
(القبس) الكويتية، العدد: (10658)
- أظهر مسح أجرته شبكة (إيه. بي. سي) التلفزيونية الأمريكية بالتعاون
مع صحيفة (واشنطن بوست) عقب خطاب بوش عن حالة الاتحاد أن: 60% في
فرنسا، و 50% في ألمانيا، و 59% في روسيا، و 41% في بريطانيا يعارضون
الحرب تماماً، وأن 51% من الأمريكيين يؤيدون شنّ الحرب حتي من دون موافقة
مجلس الأمن.
(الزمان) ، العدد: (1422)
- منذ حفل تنصيب بوش خسرت السوق الأمريكية 4.8 تريليونات من قيمتها،
وهذا أكبر انخفاض في النسبة المئوية لأي رئيس حديث.
(نيوزويك) 11/2/2003م
- بلغ متوسط معدلات النمو السنوية للسكان المسلمين في فلسطين 1948م في
السنوات الأخيرة ضعف مثيلاتها لدى السكان اليهود (3.6% مقابل 1.8%) .
(الزمان) العدد: (1429)
- لقي أكثر من 560 جندياً بريطانياً، وعشرة آلاف جندي أميركي حتفهم منذ
عام 1991م؛ إثر أمراض ومشكلات صحية عرفت باسم (مرض حرب الخليج) ؛
نتيجة الأعراض التي لم يُعترف بها رسمياً على الإطلاق.
صحيفة (الأنوار) اللبنانية، 3/2/2003م
- يتمركز أكثر من 100 ألف جندي أميركي في أوروبا؛ منهم 70 ألفاً في
ألمانيا تسعى الولايات المتحدة إلى نقل أغلبهم إلى منطقة الخليج خلال الأيام المقبلة.
(الاتحاد) الإماراتية، العدد: (10086)
- يبلغ عدد العمال العاطلين عن العمل في العالم حوالي 180 مليوناً، وهو
يزيد 20 مليوناً عما كان عليه قبل عامين.
(نيوزويك) ، 4/2/2003م
أخبار سريعة:
- خسرت شركة (يونايتد إيرلاينز) الأمريكية ثاني أكبر شركة طيران في
العالم 3.2 مليارات دولار في عام 2002م، في أعقاب سنة صعبة واجهتها الشركة،
إلى درجة أنها أعلنت إفلاسها في ديسمبر الماضي، من جانبه أكد «جلين تليتون»
رئيس الشركة أنها عملت كل ما في استطاعتها لتجنب الإفلاس، فخفضت
التكاليف في كل ناحية ممكنة، وقد أعلنت الشركة إفلاسها بعد أن تعذر الحصول
على قرض تبلغ قيمته 1.8 مليار دولار، وتعد هي الشركة الأمريكية الثانية بعد
شركة (يو إس إيروايز) التي أعلنت إفلاسها فى أغسطس الماضي.
وكالة أنباء دبي، فوتو ميديا، 3/2/2003م
- أثار التعتيم الذي فرض على محاولة الاعتداء على الرئيس البوسني
«سليمان تيهيتش» في مدينة توزلا البوسنوية (120 كيلو متراً شمال سراييفو)
من قِبَل أحد الكاثوليك الكروات أثار قضية سيطرة الأقلية الكرواتية على وسائل
الإعلام في البوسنة، ولا سيما التلفزيون البوسني الذي اعتمد منذ سنتين اللهجة
الكرواتية متجاهلاً لهجة الأغلبية المسلمة، (عدد الكروات يبلغ نصف مليون
كرواتي مقابل مليونين ونصف المليون بوشناقي) .
جريدة (الشرق الأوسط) ، العدد: (8841)
- أفاد استطلاع للرأي نشرته صحيفة (ديلي ميرور) اليسارية التي تقود
حملة قوية مناهضة للحرب المحتملة ضد العراق أن 84% من البريطانيين
يعارضون هذه الحرب من دون تفويض جديد من الأمم المتحدة، وأن 43%
يعارضونها تحت أي ظرف، مقابل 9% يرون أنه يجب على بريطانيا أن تشارك
في الحرب من دون النظر إلى قرارات أخرى من الأمم المتحدة، ورأى 73% ممن
شملهم الاستطلاع أن مشاركة القوات البريطانية في الحرب ستجعل من هجوم
إرهابي انتقامي على بريطانيا أكثر احتمالاً، مقابل 2% فقط قالوا إنها ستجعله أقل
احتمالاً.
(الزمان) اللندنية، العدد: (1421)
- في خطوة خطيرة وافقت حكومات كل من الكويت وقطر والإمارات على
وجود تمثيل للكنيسة القبطية بها؛ حيث قامت حكومات هذه الدول بتخصيص
أراض لهذا الغرض في الكويت والدوحة والشارقة.
جريدة (الشرق الأوسط) ، العدد: (8847)
- فرضت الحكومة الهولندية سلسلة من الإجراءات والقوانين؛ بدءاً بمراقبة
المساجد، وفرض إلقاء الخطب باللغة الهولندية، واعتقالات بالجملة في صفوف
المسلمين من أصول مغاربية، بيد أن التطوّر الخطير يتمثل في منع ارتداء الحجاب
في المدارس، وقد قررّت «فاندير هوف» وزيرة التعليم أن من حق المدرسة منع
دخول المتحجبات، وعدم السماح لهن بالدخول إلا بعد خلع الحجاب!
مجلة (المجتمع) ، العدد: (1536)
- الأطراف العربية التي شاركت في المناقشات التي دارت حول المسألة
العراقية في منتدى «دافوس» لم تحاول معارضة الآراء الغربية التي تقضي
بتقسيم العراق وإخضاعه للأطماع الغربية.
جريدة (الشرق الأوسط) ، العدد: (8841)
- استضاف عضو مجلس النواب الأمريكي الجمهوري، وممثل ولاية
نيوجيرسي «جيم ساكستون» الجنرال الإسرائيلي «جاكوب أميدرور» ؛
للحديث عن التدريب الذي يحصل عليه جنود الجيش الإسرائيلي في «أخلاق
الحرب» ، وقد أرسل النائب «جيم ساكستون» رسالة إلى أعضاء مجلس النواب
الأمريكي يدعوهم فيها إلى حضور المحاضرة.
جريدة (التجديد) ، العدد: (576)
- وصفت صحيفة «ذي ميرور» البريطانية الرئيس الأميركي جورج بوش
بأنه رجل مجنون يقطن في البيت الأبيض، ويتولى إدارة القوة العظمى الوحيدة في
العالم، مؤكدة أن رئيس الوزراء البريطاني «توني بلير» لن يستطيع تغيير تفكير
هذا الرجل الذي أخفق في فهم أبسط الحقائق في أي موضوع.
جريدة (البيان) الإماراتية العدد: (8264)
- واصلت سلطات الاحتلال اعتداءها الصارخ على المقدسات الإسلامية؛
حيث قامت الطغمة الفاجرة في قسم «شارون» للأشبال داخل معتقل «تلموند»
بتمزيق المصاحف وتدنيسها، إضافة الى مصادرة فرش الصلاة التي تخص
الأسرى وتمزيقها.
جريدة (البيان) الإماراتية، العدد: (8265)
- إن تحرك فرنسا وبلجيكا وألمانيا لعرقلة خطط حلف شمال الأطلسي
(الناتو) للدفاع عن تركيا في حال قيام حرب، ومطالبة كل من فرنسا وألمانيا
وروسيا بمنح مزيد من الوقت لمهام التفتيش بالعراق قد كشفا عن رغبة جديدة
للوقوف في وجه القوة الأمريكية، والتي يمكن أن تؤدي إلى تكاليف بعيدة المدى
بالنسبة للجميع.
(المدينة) ، العدد: (14541)
__________
مؤتمر باريس للمنظمات الإنسانية والخيرية
عقد في باريس في يومي التاسع والعاشر من شهر يناير 2003م مؤتمر
لجمعيات الحقوق الإنسانية والجمعيات الخيرية في العالم، تحت رعاية منظمة
الحقوق الإنسانية في العالم العربي، حضرها أكثر من مائتين وعشرين وفداً،
يمثلون مائة وإحدى وخمسين منظمة، ومن خمسة وستين بلداً، وعدد من الناشطين
في مجال حقوق الإنسان في العالم العربي وبقية دول العالم.
وقد تعذر حضور وفود بعض الدول، مثل السعودية التي لم يعط وفدها
تأشيرات دخول فرنسا، وهم عدد من الأكاديميين ومن مؤسسات خيرية وإنسانية،
كما تأخر حضور الوفد الفلسطيني لمدة يومين؛ حيث أُوقفوا على الحواجز
الإسرائيلية عدة أيام.
وعقدت جلسة الافتتاح برئاسة الدكتور هيثم مناع رئيس الهيئة العربية لحقوق
الإنسان، وكان من ضيوف الجلسة: المشير عبد الرحمن سوار الذهب، وقدمت
كلمة الدكتور الأب عطا الله حنا المتحدث باسم الكنيسة الأرثوذكسية في القدس
بالنيابة؛ حيث تعذر عليه الحضور، ثم كلمة الوفد السعودي الذي لم يتمكن من
الحضور كذلك، وقد قرأها الدكتور وليد الطبطبائي عضو مجلس الأمة الكويتي،
ورئيس لجنة حقوق الإنسان بالمجلس.
وقد كانت الندوة الأولى هي: التأسيس الفكري لمفاهيم بنيوية أو أساسية، وقد
رأس الندوة الدكتور عبد الرحمن النعيمي من جامعة قطر، وتحدث فيها الدكتور
منصف المرزوقي من تونس، والدكتور محمد الأحمري من التجمع الإسلامي
لأمريكا الشمالية.
تناول المرزوقي مفهوم الحضارات حوار أم صراع؟ وأشار إلى أن مفهوم
صراع الحضارات مفهوم سياسي وعسكري دارويني يهدف لتصفية الضعفاء وبقاء
الأقوياء، وتحدث الأحمري عن تأسيس لفكر الحقوق الإنسانية والإغاثية في عالم
جديد، كما تحدث عن ظواهر المذاهب الفكرية التي أعلنت نهايتها؛ متمثلة في
الداروينية السياسية، والجبرية الفكرية القائلة بنهاية القدرات الفكرية للإنسان،
وتكلم عن مقولة نهاية التاريخ، وأكد على الاستفادة من تراث الأمم في تأصيل
مقولات حقوق الإنسان، وتوطين وترسيخ تلك المفهومات. وقد لقيت الندوة اهتماماً
كبيراً من الجمهور، وأثارت عدداً كبيراً من الاستفسارات والتعقيبات. وقد أسهم
المتحدثان بالدور الأساسي في صياغة بيان المؤتمر النهائي.
والندوة الثانية: كانت عن آثار أحداث 11 سبتمبر على الجمعيات
والمؤسسات الخيرية في العالم، ورأس الجلسة الدكتور همت أرسوي من تركيا،
جامعة أنقرة، وشارك فيها الدكتور عبد العزيز النويضي من المغرب، وهو
مستشار سابق لرئيس الوزراء المغربي، تحدث فيها عن القوانين الاستثنائية بعد
11 سبتمبر وآثارها على المجتمعات النامية. كما تحدث فيها المحامي إبراهيم
التاوتي من الجزائر عن المستجدات القانونية في البلاد الفرنكفونية، وبخاصة
فرنسا، وكندا.
الندوة الثالثة: دروس من التجربة الأفغانية، رأسها أوجين مولير من سويسرا،
تحدث فيها محمد هيثم الخياط مستشار منظمة الصحة العالمية من القاهرة، وكانت
مساهمته عن العلاقات بين المنظمات الإنسانية ومنظمة الصحة العالمية في تجربة
أفغانستان. والمشارك الثاني في الندوة الدكتور نجيب النعيمي، وقد تحدث عن
حقوق معتقلي جوانتانامو في القانون الدولي، والنعيمي وزير العدل القطري السابق
هو محامي المعتقلين، ولقيت مشاركته اهتماماً كبيراً من الحاضرين؛ لأنه كان
يتحدث عن تجربة شخصية ميدانية، ومعرفة بالقوانين، ومواجهات ميدانية مع
المسؤولين.
ثم عقدت الندوة الرابعة: عن اللاجئين الفلسطينيين، وحقوقهم الإنسانية في
لبنان وغيرها؛ حيث لا يتمتعون بأدنى حقوق الإنسان.
وشارك في نقاشات المؤتمر عدد كبير من الحضور من غير المتحدثين
الرسميين، ولم يكن الجو فيه خطابياً أو من جهة واحدة، بل كان المجال متاحاً
بشكل كاف لجميع المشاركين لإبداء ملاحظاتهم، وتأييدهم أو اختلافهم مع المقدمين
للمشاركات.
ولم يقلّ عدد المشاركين في الندوة الواحدة عن اثنين، وكان غالباً أربعة
أشخاص، وكانت جميع المشاركات تقدم بثلاث لغات هي: العربية، والفرنسية،
والإنجليزية.
وقد تم الإتفاق على تأسيس هيئة عليا للقيام بالتنسيق بين هذه المجموعات،
ومجلس دائم، وقدم مشروع (بيان باريس للجمعيات والمؤسسات الخيرية
والإنسانية) ، والذي سبق عرضه على أكثر من ثلاثين خبيراً، وشارك في
صياغته النهائية عدد من الخبراء والمحامين ليكون مشروعاً دولياً تلتزم به
المنظمات، ويعرض على الأمم المتحدة لطلب إقراره نظاماً لعمل وحقوق هذه
المؤسسات، وقد شمل مواد عديدة مهمة تهتم بحقوق المؤسسات، وحدود عملها،
وعلاقاتها بالدول والقوانين الدولية والمحلية، وحماية حقوق العاملين في تلك
المؤسسات، والتأكيد على الالتزام الدولي به.(185/92)
في دائرة الضوء
البلاغة والتأثير في الحوار الفكري مع الآخر
فايز بن عبد المجيد الغامدي [*]
يُعَدُّ الحوار - بمعناه الواسع - مع الآخر المنتمي لثقافة مختلفة ونائية من
أصعب ما يواجه المفكر المسلم من مهام، بل هو من المعضلات الفكرية والبلاغية
التي تواجه المفكرين المهتمين بالحوار الفكري بين الثقافات بوجه عام. تنبع هذه
الصعوبة من محاولة المفكر المسلم الجمع بين شيئين مختلفين أو متناقضين؛ بين
محاولة تقريب المفهومات والأفكار والقيم ودلالاتها السائدة في الثقافة العربية
والإسلامية إلى القارئ أو المثقف الغربي والأمريكي، والذي ينتمي إلى ثقافة
مختلفة بمفهوماتها الخاصة وأفكارها وقيمها، وهذا لا ينفي وجود قدر مشترك من
التشابه - وليس التطابق - في بعض المفهومات والقيم ودلالاتها بين الثقافتين.
إن أحد أكبر العقبات والتحديات التي تواجه هذا النوع من الحوار «عبر
الثقافي» ، والتي تحدد بشكل كبير مدى تأثيره؛ تكمن في مدى اختراق الخطاب
الموجه وانتشاره (الخطاب هنا بالمعنى الواسع الذي يشمل جميع استخدامات اللغة)
في الفضاء المعرفي الذي يملكه الآخر ويحيطه بثقافته ولغته وإيديولوجيته وطريقة
تفكيره.
إن أي اختراق معرفي ناجح هو بمثابة احتلال مساحة معرفية في فكر الثقافة
المتلقية ووعيها، لكن هذا التأثير الخطير مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى معرفة الكاتب
المفكر بالآخر، ومراعاته لخصوصية القراء الفكرية والثقافية، ومحاولة محاكاة
طرائق تفكيرهم قدر الإمكان، مع استخدام الأساليب البلاغية والجدلية المقبولة
والمنتشرة في خطابهم الفكري بشقيه التحليلي والنقدي.
وسوف أتناول في هذا المقال - وبإيجاز - بعض الجوانب النظرية والعملية
للحوار الفكري مع الآخر الغربي:
القسم الأول: أبدأ به مستهلاً ببعض أهم مقومات الخطاب الفكري الغربي
المعاصر، والتي منها الاعتماد على الجدل والمنطق الاستنتاجي، ومركزية
المفهومات، وأهمية النظرية والتنظير في العلوم الإنسانية، واعتماد بُناها وأنظمتها
المعرفية على التحليل والنقد.
أما القسم الثاني: فأناقش فيه بعض القضايا أو الجوانب المتعلقة بكتابة
الحوار الفكري، وهي خيارات التأليف والترجمة وإعادة الصياغة.
أما القسم الثالث والأخير: فسوف أركز فيه على بعض المقترحات والحلول
العملية والممكنة، والتي أرى أن تجمع بين الاستفادة من الأساليب الفكرية والبلاغية
السائدة في الخطاب الفكري الغربي، وبين التفكير والنظرة الاستراتيجية لمستقبل
حوار الثقافات الفكري، ومحاولة التقريب بينهما قدر الإمكان.
* أولاً: مقومات الخطاب الفكري الغربي:
إن من أهم ما يميز التفكير الغربي، أو الكتابة الفكرية الغربية: الالتزام بـ
«الأسلوب الجدلي» المبني غالباً على «المنطق الاستنتاجي» ، وليس المقصود
هنا «منطق أرسطو» الاستنتاجي الذي شاع استخدامه في الجدل الفلسفي
والبرهان العلمي قديماً، والذي يعتمد على الأقيسة المنطقية الصارمة المبنية على
مقدمات قطعية أو يقينة مجردة ولكنها ملزمة، وتؤدي إلى نتائج ملزمة وإن كانت
أحياناً غير منطقية، ولكن المقصود هو «الجدل الاستنتاجي» المبني على
المقدمات العامة والشائعة أو المقبولة في سياقات خطابها المتعددة، والتي لا تلتزم
بشكل معين متكرر دائماً، أو تؤدي إلى نهايات ملزمة كما هو الحال في المنطق
الأرسطوي، بل تنطلق من «العام» ؛ أي الاستهلال بفكرة أو حجة عامة واضحة
تحدد الموضوع المراد طرحه، إلى «الخاص» والمحدَّد، مع دعم الفكرة أو
الحجة الرئيسة بالبراهين والأدلة والأمثلة التفصيلية.
وهنا تظهر أهمية (المقدمة الفكرية المنطقية العامة) واهتمام القراء الغربيين
بها؛ سواء كانت على مستوى الفقرة أو المقال أو الكتاب؛ حيث تعد صياغتها بقوة
ووضوح وتسلسل منطقي من أهم عوامل قبول المكتوب والتأثر به.
أما بقية النص (الجزء التفصيلي والتحليلي) ، فبالإضافة إلى غلبة الأسلوب
الاستنتاجي عليه؛ فإنه عادة ما يحافظ أيضاً على مستوىً عال من القوة والوضوح
والعمق، والتسلسل والترابط المنطقيين، مع الارتباط بالأفكار والحجج العامة
المطروحة في المقدمة.
أما الجدل الاستقرائي، والذي تكون فيه الحجة أو الفكرة الرئيسة مرجأة إلى
النهاية، ومبنية على الحجج الجانبية أو الأمثلة والأدلة التفصيلية؛ فإنه يستخدم
أحياناً في الكتابة الفكرية وبشكل محدود.
وتُعَدُّ المفهومات المستقاة من الفكر الغربي وخصوصاً الفلسفة محور حركة
الخطاب الفكري عند الغربيين، وهي ما ينظمه ويضبطه، وهي لبنات بناء النظام
المعرفي والنظري في العلوم الإنسانية خاصة، ولها خصائص معرفية محددة ترتبط
بغيرها من المفهومات في الحقل المعرفي الواحد، وفي المؤسسة العلمية أو
الأكاديمية الواحدة، في سياقات ثقافية واجتماعية محددة، ومن ثم فإن لها أبعاداً
تاريخية وإيديولوجية تنفي عنها صفة المطلق الزماني والمكاني؛ إذ إن هذه
المفهومات والمصطلحات الفكرية خاصة التي نشأت في الغرب، ثم صُدِّرت
وشاعت في الخطاب الفكري العربي تأتي مثقلة بتاريخ معرفي وثقافي خاص بها له
دوافعه الإيديولوجية؛ مما يجعل معانيها ودلالاتها تختلف أو تتحول ولو بشكل
جزئي باختلاف سياقات استخدامها الثقافية والتاريخية. وهذا لا يعني بالضرورة
عدم الاستفادة من مفهومات الفكر الغربي واستخدامها فيما يخدم أهداف المسلمين
الاستراتيجية على الصعيدين المحلي والعالمي؛ سواء تلك المفهومات العالمية التي
تتشابه جزئياً مع المفهومات الإسلامية، مثل (حرية التعبير، أو رأس المال، أو
السلطة الاجتماعية) ، أو التي لا يوجد لها مقابل شائع في الفكر والثقافة الإسلامية،
مثل مصطلح «ريْس» بالإنجليزية، ويعني (عِرق أو سلالة جماعة من البشر
يتميزون بصفات خَلقية أو جسدية خاصة) ، وهو أحد أهم مكونات الثقافة الغربية،
والأمريكية على وجه الخصوص. ولكن ينبغي أولاً معرفة المعاني والدلالات الدقيقة
لهذه المفهومات، والوعي بتحولاتها وانعكاساتها التاريخية، وتاريخ تنقلاتها عبر
الثقافات، ودوافعها وأهدافها، ثم استخدامها في الحوار الفكري مع الآخر بشكل
يعكس هذا الوعي وهذه المعرفة، مع إبراز الفروق المهمة في دلالات المفهومات
المستخدمة بين الثقافتين حسب الحاجة والمصلحة.
وتشتمل الكتابة الفكرية في الغرب على الطروحات المعرفية في العلوم
الإنسانية والاجتماعية، كالكتابة الفلسفية والتاريخية والنفسية والاجتماعية
والسياسية، ونظريات اللغة والأدب والنقد، والدراسات الثقافية وغيرها.
وأهم ما يميز الخطاب الفكري في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، بالإضافة
إلى خلوِّه غالباً من الأسلوب السردي أو القصصي الذي يعتمد عليه الخطاب الأدبي،
هو طغيان «الأسلوب الجدلي التحليلي والنقدي» ، وهذا بدوره يختلف عن
«الأسلوب الوصفي التوضيحي» الذي يطغى على الخطاب العلمي (أي في
العلوم الطبيعية) ، حتى العلوم الإنسانية التي تتبع غالباً منهجية البحث العلمي
التجريبي المعتمدة غالباً على الاستقراء، مثل علوم التاريخ والنفس والاجتماع
وغيرها؛ فإنها تعتمد في صياغتها وعرضها النظري على «الجدل الاستنتاجي
والتحليلي» ، ونتائجها أقل قطعية وموضوعية من نتائج العلوم الطبيعية التي
تستخدم «المنهج التجريبي» .
والمقصود بالنقد هنا «النقد التحليلي» الذي لا ينفصل عن «التحليل
المفهومي» أو (تحليل المفهومات) ، بل يقويه ويكسبه هويته الخاصة به من
حيث هوية الكاتب، وموقفه الذاتي المنبثق من ثقافته وفكره ورؤيته الذاتية.
وقد وصل أمر اعتناء الغربيين بالنقد أن خصصوا له حقولاً معرفية وأكاديمية
مستقلة، مثل النقد الأدبي والثقافي والبلاغي، التي لها نظرياتها الخاصة بها،
والتي تمتاز عن نظريات الحقول الأخرى في العلوم الإنسانية، فضلاً عن الطبيعية،
باعترافها بأهمية النظرة الذاتية للناقد، والتجربة الشخصية للمؤلف والاعتماد
عليهما.
أما «تحليل المفهومات» فيقصد به تفكيكها، وتبسيطها، وتحديد العلاقات
بينها وبين أجزائها؛ من تشابه واختلاف، وتضاد، وعموم وخصوص، وجزء
وكل، وغير ذلك.
والمهم هو إدراك أهمية الأساليب الجدلية والتحليلية والنقدية التي تقوم عليها
العلوم الإنسانية، ودورها الرئيس في صياغة النظريات التي تكوِّن بنية الفكر
الغربي الحديث ونظامه.
ومن الملاحظ أن التنظير في العلوم الإنسانية الغربية الآخذة في التداخل بشكل
ملحوظ ومتسارع أيضاً؛ قد اتسع بشكل يجعل متابعة النظريات المستجدة في المجال
الواحد، ومعرفة تاريخها وعلاقاتها المركبة مع النظريات الأخرى القريبة؛ من
الصعوبة بمكان، وهذا بلا شك يُثقل كاهل المفكر المسلم المهتم بالحوار الفكري؛ إذ
لا بد من الإلمام بالحد الأدنى من هذه النظريات التي تشكل جزءاً مهماً وأساسياً من
نظام الآخر المعرفي، وغالباً ما يُعرف الكتاب الفكري الناجح والمؤثر في صفوف
المثقفين والمتعلمين الغربيين بقوة طرحه النظري وكثافته، ومعرفة صاحبه العميقة
بالنظريات المهمة في الموضوع المتناول. وليس المقصود بالتنظير هنا التجريد
الذي لا روح فيه أو الإغراق في الغموض والتعقيد العقيم، وإنما التنظير المشتمل
على التقعيد والتحليل والتفصيل للموضوع، والواعي بجوانبه التاريخية وارتباطاته
الواقعية، والعلاقات المتشابكة بين النظريات وبين سياقاتها المتعددة، والعلاقات
المقارنة بين النظريات نفسها.
ولعل عدم إدراك الكثيرين منا لأهمية التنظير أو البناء المعرفي في الحوار مع
الآخر وتأثيره يرجع إلى ضعف التنظير في الفكر الإسلامي المعاصر بوجه عام،
بالرغم من توفر الأصول الراسخة في العقيدة والتصور، هذا فضلاً عن ثراء
الجانب المعرفي التاريخي للحضارة الإسلامية وتعدده، وهذا الضعف لا ينفك
بطبيعة الحال عن مظاهر الضعف الأخرى التي تعاني منها الأمة في جوانب متعددة؛
أخلاقية وسياسية ومادية.
ومن أسباب الضعف التنظيري ومظاهره وجود اتجاهين رئيسين يمثلان
فكرين وموقفين مختلفين من نظريات الآخر وفكره (وهذا لا يعني عدم وجود
اتجاهات أخرى أقل انتشاراً) :
الاتجاه الأول: ينفي أصحاب الاتجاه الأول وجود أي مشكلة معرفية أو
تنظيرية أصلاً، ويُرجعون الحل دائماً إلى الأصول النظرية والتاريخية للفكر
الإسلامي دون فهم أو استنباط لمعانيها ودلالاتها وتطبيقاتها في الواقع المحلي
والعالمي؛ ذلك الواقع المتجدد بتعقيداته وتشابك أجزائه، ودون إدراك الحاجة إلى
إعادة النظر وتأمل المعرفة البشرية باتساعها وشمولها والاستفادة منها، أو يقفون
عند الجهود التنظرية والفكرية لعلماء عصور الإسلام الذهبية ونتاجهم الفكري،
بالرغم من أن أولئك لم يقفوا عند جهود من سبقوهم بل فهموها وطوروها ونقدوها.
أما الاتجاه الآخر: فهو نقيض الأول؛ إذ يرى أصحابه أن حل هذه المشكلة
يكمن في نسخ نظريات الغرب في العلوم الإنسانية أو بعضها، وتطبيقها كما هي في
العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي.
وكلا الفريقين كفى نفسه مشقة التفكير والتجديد والتطوير والمقارنة والنقد،
مع اختلاف في الدوافع والأهداف، وكلاهما لم يقدم حلاً عملياً ومؤثراً لمشكلة
الفراغ التنظيري في العلوم الإنسانية من جهة، والتشويه التنظيري الذي سببه النقل
النظري غير الواعي وغير المسؤول مع الآخر، من جهة أخرى.
ومما يميز الكتابة الفكرية لدى الغربيين الاهتمام والالتزام بـ (وحدة
الموضوع) المبني على أو المستخرج من المفهومات العامة؛ حيث يتناول الكتاب
الفكري عادة موضوعاً واحداً يكون على شكل مفهوم رئيس أو عدة مفهومات رئيسة
تنسج حولها مفهومات أخرى جانبية، وترتبط هذه المفهومات جميعاً بالمفهوم
الرئيس بحجج فكرية وبأساليب تحليلية متنوعة؛ إذ يشكل المفهوم الرئيس الخط
الفكري الذي ينتظم حجج الموضوع، وبالتالي مفهوماته من أوله إلى آخره، وتكون
الحجة الرئيسية للموضوع والمحتوية على المفهوم الرئيس عادة على شكل حجة أو
فكرة واضحة ومتكاملة، تأتي رداً على حجة أخرى مطروحة سلفاً أو مقابلاً لها
(تضاد الأفكار والحجج هو محور بناء الموضوع) .
وهذا لا يعني الإفصاح دائماً عن الحجة أو الفكرة المضادة أو المقابلة، بل
تكون على الأقل حاضرة ذهنياً أثناء الكتابة والمراجعة لأهميتها في بناء الحجة
المطروحة وتوجيهها. ويقال الشيء نفسه عن الحجج الجانبية أو الفرعية، والتي
بدورها تكوّن وتشكل الجانب الجدلي، ومن ثم التحليلي للموضوع.
وبالإضافة إلى الوحدة العامة للموضوع (موضوع الكاتب مثلاً) ؛ هناك
الوحدات المحلية: الفصل، والقسم، والفقرة، والأخيرة هي الأهم، والخلل فيها
أظهر وأشد تأثيراً على القارئ، ومن علامات قوة الكتاب ونجاحه: إتقان كتابة
الفقرة وقوتها، ووحدة فكرتها العامة مع الموضوع، والمواضيع الجانبية، وتسلسل
أفكارها وحججها الجانبية، وترابط الفقرات بعضها مع بعض في القسم أو الفصل
الواحد.
* ثانياً: الحوار الفكري بين التأليف والترجمة وإعادة الصياغة:
من الأفضل في حال الحوار مع الآخر استخدام لغته مباشرة دون اللجوء
للترجمة، مع المعرفة العميقة بفكره وتاريخه وثقافته، ليس المعرفة النظرية فحسب،
وإنما المعرفة المقترنة بكثرة ممارسة الكتابة التحليلية والنقدية بلغته، والتفكير
بطريقته. فإن تعسر هذا والحال غالباً كذلك فالأفضل إعادة صياغة ما كُتب بالعربية،
سواء كان مقالاً أو بياناً أو كتاباً، وليس ترجمته فقط؛ لكي يناسب أحوال
المخاطبين وأفكارهم وثقافتهم، مع المحافظة على جوهر النص الأصلي ولبه.
وليس بالضرورة أن تطال «إعادة الصياغة» جميع ما كُتب في النص الأصلي
(أي جميع الجمل والعبارات والمفهومات) ، ولكن تكون بالقدر المطلوب الذي يراه
المترجم أو الكاتب، والذي لا يذهب بلب أفكار النص الأصلي ولا يشوّه النص
الجديد أيضاً.
وبسبب تشابه بنى اللغات البشرية، وتشابه طرائق التفكير ذات الطابع
الكوني أو «عبر الثقافي» ، وكذلك تداخل الثقافات واتصالها؛ فإن المترجم سيجد
قدراً مشتركاً بين اللغتين والثقافتين والفكرين لا يحتاج فيه إلى إعادة الصياغة
بالمعنى المقصود هنا، وإنما تكفي فيه الترجمة الجيدة بالمعنى المعروف.
وعادة ما يتفاوت الكتاب المفكرون في مدى قربهم أو بعدهم عن فكر اللغة أو
الثقافة المقابلة الأخرى وأسلوبها (أي مقدار وجود القدر المشترك بين اللغتين
والثقافتين) ؛ وذلك حسب اختلاف تأهيلهم ومعرفتهم بالموضوع المطروح،
ومعرفتهم بالآخر المخاطب وفكره وتاريخه وثقافته، واستحضار ما أمكن من ذلك
أثناء الكتابة.
ومما يدخل في عملية «إعادة صياغة» المفهومات أو المصطلحات أو
العبارات أو التراكيب أو الفقرات: التقديم والتأخير، والتبديل، والحذف والإضافة،
ومراجعة العلاقات المتعددة بين المفهومات والاستنتاجات المنطقية الرئيسة العامة
والفرعية التفصيلية، وإبراز بعض الجوانب المهمة التي اختصرها المفكر، إلى
غير ذلك.
ويدخل في مراعاة خصوصية القراء الغربيين أيضاً استخدام المصطلحات
والمفهومات المعروفة عندهم، ليس عن طريق نقل المصطلحات والمفهومات
والعبارات والتراكيب الواردة في النص الأصلي أو العربي وترجمتها حرفياً، والذي
غالباً ما يسبب اللبس والغموض في المعنى؛ ومن ثم تثبيط القارئ وصرفه عن
الاستفادة أو التأثر بالمكتوب، أو الاكتفاء بترجمة معانيها فقط وفق ما يراه المترجم،
وإنما عن طريق استخدام ما يقابلها في اللغة والثقافة الأخرى لكي يسهل تصورها
وفهمها، مع إبراز الفروق الجوهرية في دلالات المفهومات والقيم الإيديولوجية بين
الثقافتين؛ لكي يظهر تميز الفكر الإسلامي وأصالته وشموله وعمقه.
أما المصطلحات أو المفهومات التي لا مقابل لها في اللغة والثقافة الأخرى فلا
ينبغي أن يركّز عليها كثيراً، وإنما تترجم معانيها باختصار عند الحاجة (هذه هي
الطريقة المثلى في الإيضاح والتبيين في مثل هذا المقام الذي لا يقصد منه بيان
دلالات المصطلحات الشرعية بدقة، كما هو الحال في مخاطبة المسلمين الذين لا
يتحدثون العربية) .
ومن مفارقات الترجمة بين اللغتين والثقافتين المتباعدتين؛ أنه كلما حاول
المترجم المحافظة على معالم النص الأصلي والاقتراب منه كان ذلك على حساب
النص الآخر، وتسبب في حدوث التشويش والغموض أثناء القراءة، ومن ثم تثبيط
القارئ عن إكمال قراءة النص والتفاعل معه والاستفادة منه.
إن العلاقة التبادلية بين الكاتب والقارئ والتي تنشأ عن طريق النص تكون أو
تتكون أثناء كتابة النص لا بعدها؛ إذ هي تشكل الخطاب وتحدد معالمه وأبعاده
وجوانبه المتعددة؛ المعرفية والأسلوبية على حد سواء.
بمعنى آخر: إن إيديولوجية القارئ ومعرفته الخاصة عن الموضوع، أو
العامة عن المفكر والثقافة الأخرى، وأفكاره وقيمه؛ ينبغي أن تسهم بشكل كبير في
صياغة النص وخصوصاً النهائي أثناء الكتابة.
ولأن هذا الشرط البلاغي ينبغي توفره في الكتابة أحادية اللغة والثقافة؛ فإن
الحاجة إليه في الحوار والتخاطب «عبر الثقافي» أشد والاهتمام به أولى. وهذا
ما يجعل الكتابة الفكرية بالعربية (أي مخاطبة الآخر بلغة المتحدث) أولاً ثم
ترجمتها (بالمعنى السائد للكلمة) إلى لغة المخاطب إخلالاً بهذا الشرط المهم في
الغالب.
والأولى أن يأخذ النص المكتوب بلغة المخاطبين سواء أكُتب مباشرة أو صِيغ
من النص الأصلي جل العناية والمراجعة؛ حيث يجب أن يعامل النص المترجم
خصوصاً كنص مستقل يخضع لقواعد لغته وفكره ومنطقهما، وليس للغة النص
الأصلي وفكره (عادة تأتي هذه المرحلة من المراجعة النهائية الدقيقة المنبتة عن
النص الأصلي، بعد مرحلة انتقالية من الترجمة يكون فيها النص المترجم أقرب
إلى لغة النص الأصلي ومنطقه وفكره) .
* ثالثاً: بعض الجوانب والمقترحات العملية:
الكتابة الفكرية بين الواقع والمأمول:
قد تكون الترجمة الجيدة حلاً عملياً ومؤثراً بالنسبة للقراء المسلمين الذين لا
يعرفون العربية، إلا أنها قد لا تكون الحل الأمثل في حال مخاطبة القراء المتعلمين
أو المثقفين الغربيين بسبب الصعوبات والعقبات آنفة الذكر، لكن بسبب ندرة
العلماء المفكرين المسلمين القادرين على الكتابة الفكرية بلغة الآخر مباشرة، وبشكل
يقارع ما يكتب وينشر في الأوساط الفكرية الغربية؛ فإن عملية «إعادة الصياغة»
تعد حلاً عملياً وأكثر يسراً؛ حيث يمكن أن يجتمع عالم أو مفكر مع كاتب جيد ذي
معرفة واسعة بفكر الغرب وثقافته على تأليف كتاب فكري، ليس بالشكل المعهود
بالضرورة حيث يقوم الأول بكتابة الكتاب والانتهاء منه تماماً؛ وكأنه سوف يقدم
للقراء العرب وإنما بواسطة كتابة نسخة مصغرة منه مثلاً، أو كتابته على شكل
رؤوس أقلام وعناصر مختصرة (أي تقديم اللب الفكري للموضوع) اختصاراً
للوقت وحفظاً للجهد، على أن يتولى الكاتب المترجم الجهد الأكبر في الصياغة
والمراجعة للنص الثاني، ويكون ذلك بالتشاور المستمر مع صاحب النص الأصلي.
وفي حال البحث عن نص أو كتاب فكري مناسب للترجمة (وإن كنت لا أؤيد
هذا المسلك جيداً) ؛ فينبغي التركيز على ما كتب في هذا العصر؛ إذ إنه غالباً ما
يجمع بين أفكار السابقين وطرح المعاصرين وأسلوبهم وأفكارهم الجديدة أيضاً.
والأفضل من ذلك أن يُنشأ نص جديد لهدف أو مقام محدد (أحداث الحادي عشر
مثلاً) يستفاد فيه من علم السابقين وأفكارهم عن الموضوع ذاته أو ما هو قريب منه
إن كانت موجودة، مع التركيز على فهم أفكار المعاصرين من الكتاب والمفكرين
وأسلوبهم.
ومما يجعل ترجمة كتب علماء السلف مثلاً كما هي، وتقديمها للقراء الغربيين
عملاً محدود الأثر؛ هو الاختلاف الشاسع بين السياقين التاريخيين والثقافيين، وما
ينتج عنه من اختلافات في تفاصيل الموضوع، ونوعية القراء المستهدفين وطرق
تفكيرهم، وما يرونه مهماً، وما يمكن أن يؤثر فيهم.
وخلاصة الأمر وسره: أن تُستحدث حالات بلاغية أو كتابية جديدة تراعي
جدة المواضيع والأحداث المتعلقة بها، وأهميتها، وصفات القراء المستهدفين
الفكرية والثقافية ومميزاتهم.
الكتاب أم المقالة الإلكترونية:
ليس في الغرب شيء أقوى تأثيراً وأبعد أثراً من الكتاب الفكري المتقن، ومن
بعده الرواية؛ فالكتاب الفكري لا يزال مركزياً في الثقافة الغربية، وهو يتبوأ
المرتبة الأولى في تعليم الناس وتكوين أفكارهم وصياغتها، بل حتى معتقداتهم
ومواقفهم؛ ولذا فهو يعد أحد أهم الخيارات الاستراتيجية في الحوار الفكري مع
الغرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق؛ فهو أبقى من غيره وأيسر تداولاً وأوسع
انتشاراً.
ومن ميزات الكتاب أيضاً (وهذا وارد جداً) أن يكون مادة علمية تقرر في
المواد الدراسية الجامعية في مئات الجامعات على مر السنين (تأمل أثر ذلك!) ،
ولنتذكر أن الباحثين الجادين عن المعرفة والفكر في الغرب (وما أكثرهم) لا
يبحثون عنها أو لا يجدونها في الغالب وراء شاشات التلفاز أو حتى في مواقع
الإنترنت، وإنما في بطون الكتب أو في الدوريات العلمية الرصينة.
وبالرغم من أهمية القنوات الفضائية في الغرب، وخاصة في أمريكا،
ودورها في صياغة وعي الجماهير وأفكارهم وآرائهم عن الثقافات الأخرى؛ بما في
ذلك كثير من المتعلمين والمثقفين؛ فإن الكتاب يظل أقل تكلفة وأيسر جهداً وأهدأ
اختراقاً (قارن مدى تنوع الطروحات الفكرية والسياسية والإيديولوجية الواسع في
الكتب، ومدى ذلك في قنوات التلفاز) . وهذا لا يعني إلغاء أو تهميش فكرة القناة
الفكرية الموجهة بلغة أجنبية، وإنما ينبغي عدم إهمال خيار الكتاب الفكري على
حسابها.
أما المواقع الإلكترونية الغربية ذات التوجه الفكري في شبكة الإنترنت؛ فهي
لا تزال محدودة العدد والانتشار إذا ما قورنت بمواقع الأعمال والترفيه والخدمات
والأخبار وغيرها، ومعظم ما يكتب ويقرأ في المجال الفكري في تلك المواقع يقع
على شكل مقالات، أو دراسات قصيرة نسبياً، أو منتديات حوارية غير محكمة،
أو مراجعات للكتب، أو قوائم بمراجع المواضيع الفكرية المطروحة. أما الكتب
الإلكترونية فلا تزال محدودة العدد مع أنها في ازدياد مستمر.
وينبغي أن تكون المواقع المعنية بالحوار مع الآخر سواء كانت على شكل
مقالات أو منتديات مستقلة يراعى فيها ما ذكر آنفاً، وألا تختلط بمواضيع موجهة
للمسلمين.
والخلاصة هي: أن مواقع الإنترنت الفكرية مهمة، ولكن يجب أن تتكئ على
قاعدة صلبة ومؤسسية من الكتب، والدراسات الرصينة، والمفكرين.
أولوية الأسلوب الجدلي في الحوار الفكري:
ينبغي الاهتمام بـ (الأسلوب الجدلي التحليلي والنقدي) المبني على
المسلمات البشرية، والأسس العقلية، أو الحقائق الشائعة المقبولة في ثقافة القراء
الغربيين ومجتمعاتهم، والتي بالتالي تخاطب وتؤثر في قطاع عريض من متعلميهم
فضلاً عن المثقفين منهم أو المفكرين، والتي لا تتعارض في الوقت نفسه مع
مسلمات الدين الإسلامي وثوابته. أما الانطلاق دائماً من مسلمات الدين الإسلامي
وتقريرها أولاً، أو مهاجمة عقائدهم وأخلاقهم الخاصة بهم بأسلوب مباشر فقد يكون
أسلوباً أقل إقناعاً، وذلك لعدم وجود الأسس الفكرية أو الفلسفية المشتركة مع القراء،
أو الاعتماد على معلومات تفصيلية لا يعلمها ولا يهتم بها إلا المتخصصون، أو
بسبب انتقاص الجانب الأخلاقي والديني الذي لا يتقبله كثير من القراء اتباعاً لهواهم
أو انتصاراً لأنفسهم وثقافتهم. وهذا لا يعني إغفال أهمية النقد الموضوعي للآخر
بجوانبه المتعددة وتأثيره، أو أهمية استخدام النقد الذاتي بشكل استراتيجي، والذي
يضفي بدوره مصداقية وموضوعية للمفكر المسلم وموقفه وتحليله، لكن ينبغي
التركيز على القضايا المعرفية والفكرية الكبرى والمفهومات العامة، وتقديمها كأسس
أو مقدمات منطقية، ومن ثم مناقشة المسائل الدينية والأخلاقية وغيرها بأسلوب
جدلي تحليلي ونقدي ضمن تلك المقدمات وليس العكس.
ولتوضيح المقصود هنا؛ يمكن أن نقارن على سبيل المثال بين كتاب يتحدث
عن الإسلام بشكل عام (أي على شكل مختصر لتعاليم الدين) بأسلوب وصفي أو
توضيحي، وهذا يخرجه مباشرة من تصنيف الكتب أو الطروحات الفكرية، كما
أسلفت في الفرق بين أنواع الخطابات البلاغية، ومن ثم يقل انتشاره وتأثيره بشكل
كبير (لاحظ تركيز الجهود الدعوية في الكتابة والترجمة على هذا الجانب) ، وبين
كتاب يتناول جانباً أو موضوعاً رئيساً من الدين يكون هو المفهوم الرئيس (على
سبيل المثال: الحرية الفردية؛ حيث يقابلها مثلاً مصلحة الجماعة والدولة، أو
تضحيات النفس، ويقابلها حفظ النفس وإبقاؤها، أو العلاقة مع الآخر) ، ومن ثم
تربط به المفهومات الجانبية والأفكار الأخرى المكونة للموضوع، والتي تتناوله من
جوانب متعددة: دينية، أو تاريخية، أو حضارية، أو اجتماعية، أو قيمية، أو
ثقافية، أو سياسية.
الخطاب الفكري ليس تجريداً فقط:
ومن الأهمية بمكان عدم الاكتفاء بالطرح المعرفي النظري أو التجريدي الذي
يتجاهل واقع المسلمين العملي (وغيرهم، في حالة الدراسات المقارنة) ، بل يجب
مناقشة واقع المسلمين الفردي والاجتماعي بجوانبه المشرقة والمعتمة، مع التركيز
على النواحي المشرقة التي تجسد أو تقرب من تعاليم الإسلام، وربط ذلك أو
مقارنته بالأصول النظرية أو الأفكار. وكذا طرح القضايا المهمة والمؤثرة في حياة
القراء والمتعلقة بقضايا الساعة، فالغربيون عموماً، والأمريكيون خصوصاً،
يهتمون كثيراً بالجوانب الواقعية والحياتية لكل ما يطرح؛ سواء كان ذلك في شكل
دراسات، أو جوانب ثقافية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو سياسية (يمكن الجمع
بين هذه جميعاً أو التركيز على جانب دون الآخر بحسب الموضوع أو الحدث
الداعي للكتابة) .
ومن اللافت للنظر أن الأمريكيين غالباً لا يفرقون بين الإسلام كنظام معرفي
ونظري، وبين فهم المسلمين العملي وتطبيقهم له وممارساتهم، أو على أقل تقدير
لا يهمهم هذا الفرق، ويتجاهلونه من الناحية العملية وإن اعترفوا بوجوده من
الناحية النظرية، وهذا التوجه قد يرجع إلى عدة أسباب؛ منها أن معظمهم يعتقدون
أن الأفعال والمعاملات والعلاقات البشرية الحسنة بغضِّ النظر عن عقيدة صاحبها
أو دينه أهم بكثير من مجرد الاعتقاد والإيمان بالفضائل والمثل الإنسانية، خاصة
إذا كانت هذه القيم لا ترى النور ولا تتجلى في أرض الواقع، وهذا بدوره يرجع
إلى تأثير العلمانية وهيمنة البراجماتية كفلسفة وطريقة للحياة. ومن الأسباب أيضاً
أن الأمريكيين غالباً ما يرون - بسبب تأثير ما يقرؤونه أو يشاهدونه عن الإسلام
والمسلمين - أن أفعال المسلمين التي تؤثر فيهم وتحدد علاقتهم بالآخر هي تجسيد
لمعتقدات الإسلام وتعاليمه، أو الإسلام كما يفهمه أولئك المسلمون على أقل تقدير.
وهذا الإشكال في الفهم والتصور لا ينبغي تجاهله من قبل المفكرين المسلمين؛
مما قد يزيد الأمر تعقيداً وغموضاً، بل إن التناول الصريح المتسم بالعمق
والوضوح للقضايا الحساسة والغامضة والمعقدة يسهم إلى حد كبير في تجليتها، وفي
تحسين صورة الإسلام والمسلمين ولو جزئياً.
التراكم المعرفي المضاد:
وختاماً.. أود التركيز على مسألة (التراكم المعرفي المضاد) وأهميتها، فما
يعرفه الغرب عن الإسلام لم يتكون في فترة قصيرة، بل تكوّن على مدى عقود بل
قرون من التراكم المعرفي، والذي غالباً ما يفتقر إلى الدقة والموضوعية، بل يتعمد
التشويه وتغييب الحقائق والمبالغة في أحيان كثيرة.
ومما يلاحظ في هذا الشأن تنوع الخطابات التي كونت وصاغت هذا النظام
المعرفي؛ بما في ذلك الكتب الفكرية بتنوعها (التاريخية والاجتماعية.. وغيرها) ،
والروايات الأدبية، والأفلام السينمائية، والبرامج الإخبارية، والصحف والمجلات
.. وغيرها.
ومما لا شك فيه أن هذا الزخم التشويهي الهائل لا يمكن تغييره في فترة وجيزة
وبأساليب سحرية (هذا فضلاً عن إيصال رسالة الإسلام إلى من يجهلها تماماً،
والأمران على أي حال مرتبطان؛ حيث العمل الدعوي الفكري الجاد يسهم في البناء
المعرفي، وفي تعديل الصور المشوهة وتقويمها في الوقت نفسه) ، بل لا بد من
النظرة الاستراتيجية الواضحة، والعمل الفكري المتقن والمتسق مع هذه النظرة،
مع الاهتمام بتنوع الطرح الفكري وتعدده وكثافته؛ في خطابات وقوالب ووسائل
متعددة قدر الإمكان.
__________
(*) باحث في مرحلة الدكتوراه، تخصص الأدب الإنجليزي، جامعة وسكانس، ماديسون، أمريكا.(185/98)