تأملات دعوية
من لي بأمثال هذا الداعية؟
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
في قرية نائية من قرى مالي التقينا مع داعية من الدعاة يحدوه الهم لتعليم
الناس وتبليغ الدين؛ قام من خلال جهد فردي بإنشاء إذاعة محلية في منزله، هذه
الإذاعة يُشغلها ويديرها ويقدم برامجها بنفسه، ولا تتجاوز تكلفتها بطارية بقيمة مائة
دولار، ويبث من خلال هذه الإذاعة برامج تعليمية وأشرطة قرآن كريم على مدى
ساعتين في الصباح، وساعتين في المساء، وحين يسافر يكون قد أعد مجموعة من
الأشرطة الصوتية وأناب زوجته بتشغيلها فترة غيابه.
ويقبل أهل القرية على سماع هذه الإذاعة ومتابعة برامجها، وينتظرونها
ويتلهفون عليها بشغف.
إن هذا الداعية الذي ربما لم يحمل تأهيلاً جامعياً ينتج بعمله هذا على المدى
الطويل أضعاف ما ينتجه كثير ممن يملك أعلى المؤهلات.
كثيراً ما نقدم أفكاراً طموحة، ونتحدث عن مشروعات ضخمة، وكثيراً ما
يبدو في حديثنا عن الأعمال والمشروعات تهميش الأفكار الجزئية والأعمال
الصغيرة.
ومن هنا تعلو لدى بعض الناس وتيرة النقد، وكلما ارتبط النقد بالأكابر أفراداً
أو مؤسسات صار أكثر شهية.
ومما لا شك فيه أن مشروعنا الدعوي يحتاج منا إلى أن نفكر بطريقة أعمق،
وإلى أن نقدم برامج طموحة، وإلى أن نخضع مشروعاتنا للنقد والتقويم؛ فإننا
نعاني من سطحية في التفكير ومحدودية في الآراء.
لكن هذا قد يدعونا إلى أن نغفل عن أمر له آخر ألا وهو الروح العملية
والإنتاج.
فمع أهمية الأفكار الطموحة، ومع ضرورة معايشة تحديات الواقع، إلا أن
ذلك كله ما لم يقرن بجهد عملي يبقى حبراً على ورق.
والناقدون للأعمال والعاملون ما لم يقدموا برامج عملية واقعية فإنهم لا يحققون
أمراً ذا بال.
أينما رحلت في المشرق والمغرب ولقيت العديد من شباب الصحوة فأنت ترى
فئات عديدة من الخيرين، وتسمع ما يسرك من الأفكار والآراء، لكن حين تنتقل
إلى الواقع العملي وتبحث عما يقدمه هؤلاء فسترى أن العامل قليل.
وتزداد المشكلة حين يكون التحليق في جو الأفكار المثالية والمشروعات
الطموحة وسيلة نفسية يمارسها أصحابها للهروب عن العمل المنتج؛ فحين تبدو
أمامهم مجالات للعمل، وحين يدعون للمشاركة يحتقرون ما يدعون إليه، ولو أنهم
انشغلوا عنه بما هو أوْلى وأجدى نفعاً لكان مسلكهم محموداً، لكنهم إنما ينشغلون
باجترار الكلام وترديد المقولات.
وأمثال هؤلاء ينبغي أن يُذكَّروا بقول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ] (الصف: 2-
3) .
وحري بالمربين والموجهين أن يُخرِّجوا جيلاً يكون العمل أول ما يفكر فيه،
ويدرك أنه إنما يُسأل يوم القيامة عما قدم وعمل، وإنما يجزى على عمله إن خيراً
فخير، وإن شراً فشر.
وهذا لا يتم إلا من خلال قدوات واقعية يرونها، ومن خلال فتح مجالات عمل
يُشرك الناس فيها.
والاهتمام بالعمل لا يعني إهمال الفكر وإلغاءه؛ بل نحن بحاجة إلى أن ننفق
المال من أجل الوصول إلى أفكار بناءة تختصر علينا الكثير من الخطوات.
لكن ينبغي أن ندرك أن قيمة هذه الأفكار إنما تظهر حين تكون خطوة نحو
العمل الإيجابي، وإلا صارت علماً لا ينفع، وقد استعاذ من ذلك خير الخلق صلى
الله عليه وسلم.
كما ينبغي أن ندرك طاقات الناس وإمكانياتهم، وأن الداعية الناجح هو من
يستطيع أن يدفع الناس لأن يعملوا ويقدموا ما يطيقون من جهد وعمل، وأن يتقي
كل منهم ربه فيما يستطيع.(180/33)
ندوات
مستقبل الانتفاضة الفلسطينية
تخطت انتفاضة الأقصى السنتين من عمرها دون أن تتغير بل تترسخ أهداف
المنتفضين النبلاء الذين تصدوا للهمجية اليهودية بسلاح بُعِثَ من جديد هو سلاح
الشهادة وبيع النفس لله. وكلما أصر اليهود ومن خلفهم على إخماد الانتفاضة
والإسراف في القتل جاءهم الرد واضحاً جلياً في إرادة لا تخور معلنة الجهاد في
سبيل الله تحريراً للأرض وحماية للعرض وذوداً عن شرف المسلمين في كل مكان.
الجميع يطلب الشهادة: الشباب، والأطفال، والعرائس. وفي هذه الانتفاضة
معان وعبر تشير إلى حيوية هذه الأمة وأنها مستعدة للحركة إن حُرّكت،
وللاستشهاد حين يدعو إليه ما يرضي الله ورسوله. ويسعد مجلة البيان اليوم أن
تستمع مع قرائها إلى ثلاثة من رجال الجهاد في سبيل الله في الأرض التي بارك الله
حولها.
* ضيوفنا في هذه الندوة هم:
- الدكتور محمود الزهار:
القيادي البارز في حركة المقاومة الإسلامية حماس.
- الدكتور محمد الهندي:
القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
- الدكتور هشام فرارجة:
أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت.
* المحور الأول: القدرات الذاتية:
البيان: بعد الآلام الكثيرة والمحن العديدة التي مرَّ بها الشعب الفلسطيني في
الانتفاضة الأخيرة هل لا زال متعاطفاً مع الانتفاضة؟ وما موقفه من دعوات
السلام والتفاوض التي تطرحها بعض الأطراف الفلسطينية؟
- د. محمود الزهار: الإجابة عن هذا السؤال تستدعي استطلاع الرأي.
واستطلاعات الرأي التي صدرت من الجانب الإسرائيلي تقول إن أكثر من 78%مع
استمرار الانتفاضة، واستطلاعات الرأي التي صدرت أيضاً عن الجانب
الإسرائيلي تقول إن أكثر من 60% يتعاطفون مع العمليات الاستشهادية، والدليل
الثالث أيضاً هو استمرار الشعب الفلسطيني في العطاء اليومي سواء كان في الضفة
الغربية أو في قطاع غزة.
ولنستعرض مثل حجم المعاناة في مدينة رفح ومنطقة مدينة خان يونس التي
تطوقها مستوطنة غوش قطيف من معظم الجهات، وحجم المعاناة التي يعانيها
الشارع الفلسطيني في انتقاله من مكان إلى مكان وخصوصاً منطقة غزة، وحجم
المعاناة التي يعانيها في الإغلاق الدائم ومنع التجول المستمر بحيث لا يسمح في
بعض المناطق إلا بساعة أو ساعتين وحتى بعد أن يتم الإعلان عن رفع حالة منع
التجول وتحديدها بساعة معينة ما أن تمضي ساعة واحدة أو ساعتان، حتى يتم
إطلاق الرصاص على الناس حتى يعودوا إلى بيوتهم.
إذن هذه كلها لا يصاحبها حالة تذمر ولا أي تراجع عن الموقف العام.
وتجربة الشعب الفلسطيني تجربة حية، والانتفاضة هي نتاج الشعب، ولو أن
الشعب رفع الراية وسلم لانتهت الانتفاضة؛ ولذلك أقول إجابة على سؤالك: إن
الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الأخيرة التي نعيش فيها الآن قد استفاد من تجارب
الانتفاضة الأولى، وتخلص من كل سلبياتها، وعمق إيجابياتها، ومن هنا كانت
النتائج التي تحققت على مستوى الشعب الفلسطيني وحجم الخسائر التي تكبدها العدو
هي نتائج مقبولة ومحترمة.
الشخصيات التي وقعت على البيان في الحقيقة هي شخصيات معروفة: إما
يسار قديم ارتبط بتأسيس الحزب الشيوعي في أوائل العشرينيات من القرن الماضي،
وهؤلاء كانوا هم واليهود في برنامج تعايش واحد.
تاريخ الحزب الشيوعي في المنطقة معروف، الأحزاب التي انبثقت عن
الشيوعيين وأخذت أسماء مختلفة لم تطلق رصاصة واحدة لا في الانتفاضة الأولى
ولا في الثانية؛ لأنها لا تؤمن بالكفاح المسلح، وهناك شخصيات لها ارتباطات
بالمشروع الصهيوني: ارتباط اقتصادي، أو ارتباط أمني، أو كونترول؛ يعني
سيطرة معينة.
وهناك شخصيات لها فكر أصلاً يمكن تسميته بفكر الأسرلة، واستطاع
مشروع ما يسمى بمشروع التسوية السياسية والحلول السلمية ودولتين وعلمين أن
يستحوذ على أفكار هؤلاء الناس، وهؤلاء معروفون للشارع الفلسطيني.
وأريد أن أضيف واحدة من الطرائف التي رأيتها: من الأسماء هناك سيدة لم
تتزوج معروفة في غزة بأنها يعني على البركة تسير حافية وتتسول وتدخن في
الشارع، وماتت منذ مدة فأحد الظرفاء وصفها بالدكتورة، ثم وضع اسمها حتى
الذين تعاطوا مع هذه البيانات تعاطوا معها باستهزاء؛ لأنهم يعرفون أن الشارع
الفلسطيني يلفظ هذه الأفكار ولا يقبل بها، وأنا أعتقد أن من يريد أن يسوِّق نفسه
الآن إسرائيلياً وأمريكياً يمكن أن يوقع على هذا البيان، وهناك شخصيات مهترئة
كان بعضها في الإبعاد وبعضها تساقط على طريق الدعوات وعلى طريق الأحزاب
وطريق المؤسسات، وهذه واحدة من تسويق النفس في هذا المشروع ظاهرة يوم أو
يومين وتنتهي أو انتهت بالفعل.
- د. محمد الهندي: عند الحديث عن الشعب الفلسطيني يجب الاعتراف
بقدرة هذا الشعب على العطاء والتضحية؛ فقد صهرته المحنة، محنة التصدي
للمشروع الصهيوني الغربي في فلسطين على مدى القرن المنصرم، وهو على مدى
هذه السنوات يقدم التضحيات الكبيرة، ولم يشكُ أو يتألم، والمحنة كانت تزيده دوماً
إصراراً على الصمود والمقاومة، ونحن لا نتحدث اليوم عن تعاطف الشعب
الفلسطيني مع الانتفاضة، بل عن ازدياد انخراطه في المقاومة، وهو يدرك عن
وعي كامل أنه يدفع ضريبة الحرية والكرامة وهي أهون عليه بكثير وأقل تكلفة
أيضاً من ضريبة الذل والمهانة التي كان يدفعها بعد اتفاق أوسلو وأذكِّر هنا بمجزرة
الحرم الإبراهيمي في الخليل ومجزرة القدس التي ارتكبت في سنوات السلام
المفخخ.
وأؤكد هنا بأن شعبنا قادر على تحمل واستيعاب المزيد من التضحيات؛ كيف
لا وهو يرى ثمار هذا الجهد رأي العين، وهو يرى تراجع المشروع الصهيوني في
فلسطين، وإذا كان هناك من مقياس لقياس حيوية المشروع الصهيوني فهو قياس
الهجرة والاستيطان؛ ونظرة واحدة تكشف كيف ضربت الانتفاضة الباسلة المشروع
الصهيوني بكل قوة في هذا المجال.
أما موقف الشعب الفلسطيني من دعوات التفاوض التي يطرحها بعض
الفلسطينيين فهو لا يلقي لها بالاً؛ فهؤلاء أشخاص مهزومون مسلوبو الإرادة وهم
على أحسن الأحوال لا يفهمون طبيعة المشروع الصهيوني القائم على العنف والغدر،
ويحاولون تسويق الوهم مرة أخرى.
ثم ماذا جنى شعبنا في فترة ما تسمى بالسلام حتى يعود إليها؟ فنظرة سريعة
لفترة أوسلو تكشف المعاناة والألم الكبير الذي لحق بشعبنا، ويكفي أنها مزقتنا
وسلختنا عن محيطنا العربي والإسلامي، ونحن اليوم بتمسكنا بانتفاضتنا نعيد
اللحمة لشعبنا وأمتنا، ونعيد الصراع إلى طبيعته.
- د. هشام فرارجة: بدون أدنى شك عندما اندلعت انتفاضة الأقصى فإنها
كانت ولا تزال تعبر عن إجماع وطني وإسلامي فلسطيني واسع بضرورة التخلص
من الاحتلال الإسرائيلي مهما كلف الأمر من ثمن.
الشعب الفلسطيني بعمومه في المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع
غزة لمدة سبعة أعوام عجاف كان يتابع مسيرة العمليات السياسية دون أن يلاحظ
تقدماً ملحوظاً في الميدان بخصوص الاحتلال وبطشه وتنكيله بالشعب الفلسطيني.
مصادرة الأراضي استمرت بدون هوادة وبناء المستوطنات أيضاً، الحصار
الاقتصادي، تقطيع أوصال الوطن كان على أشده.
قتل الفلسطينيين واعتقالهم كان يتم بدون رادع؛ وكأن العملية السياسية
استغلت من قِبَل الإسرائيليين فقط كغطاء من أجل تلميع صورتهم أمام العالم
الخارجي وحتى يقول العالم إن هناك عملية سلام تجري في المنطقة دون أن ينظر
هذا العالم إلى ما كان يقوم به الإسرائيليون من حملات تنكيل وتجويع للشعب
الفلسطيني؛ لذلك عندما قام شارون بانتهاكه المسموم لحرمة المسجد الأقصى كانت
تلك الحادثة هي الشرارة أو الشعرة التي قصمت ظهر البعير. حيث كانت الحالة
الفلسطينية محتقنة جداً وكان الوضع في حالة كبيرة وشديدة من الغليان وخاصة بعد
الإخفاق الذريع التي منيت به محادثات كامب ديفيد في صيف عام 2000م. لم يكن
بوسع الشعب الفلسطيني إلا أن يلتفت إلى نفسه وإلى مكنوناته الداخلية مفجراً
انتفاضة الأقصى التي تعتبر في تقديري ظاهرة من أنبل الظواهر التي يعرفها العالم:
شعب يناضل من أجل الحرية ومن أجل الاستقلال ومن أجل دفع الظلم عن نفسه
رغم انعدام الإمكانيات أو ضآلتها، ورغم وجود اختلال واضح في ميزان القوى ما
بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
هذه الانتفاضة الآن بالتاكيد أصبحت محط اهتمام الناس الذين ينظرون إلى
هذه الانتفاضة كالمرحلة التي سوف تخلصهم بإذن الله من دون أدنى شك من
غطرسة هذا الاحتلال وإرهابه وبربريته.
البيان: إذن في ظل هذا التعاطف كما تشير كيف ينظر الشارع الفلسطيني
إلى دعوات السلام واللقاءات السياسية التي تجري بين أطراف فلسطينية والجانب
الإسرائيلي؟
- د. هشام فرارجة: في حقيقة الأمر، وخاصة أن الدم الفلسطيني ينزف
بغزارة يوماً بعد يوم بسبب التضحيات من جانب، وبسبب ممارسات الاحتلال
البربرية من جانب آخر، فإن مجمل ما يحدث من تحركات سياسية هنا وهناك
واضحة تماماً بالنسبة للناس بأنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
بالتاكيد في الشارع الفلسطيني هناك إدراك بأنه توجد حاجة ماسة من أجل
تحريك الجانب الدبلوماسي في مختلف الأروقة والأصعدة. ولكن بدون أدنى شك
بأن هذه التحركات التي هُدِفَ منها إسرائيلياً على أقل تقدير تقويض أواصر انتفاضة
الأقصى، لا ينظر إليها إلا بنوع من الشك في الشارع الفلسطيني وخاصة أن هذه
التحركات والتفاعلات واللقاءات لم يستطع كما لا يمكن لها أن تستطيع إيقاف
الهجمة الإسرائيلية المتصاعدة يوماً بعد يوم.
بالفعل نستطيع أن نقول إن الهمّ الرئيسي للشعب الفلسطيني بكافة قطاعاته
وتركيباته هو استمرار المقاومة وتصعيدها وليس تصعيد اللقاءات الإسرائيلية
والفلسطينية حيث تلك اللقاءات تبعث في نفوس الفلسطينيين شعوراً بالإحباط عندما
تتم. لكن حتى هذه اللقاءات الآن لم تعد تستطع أن تبعث في النفوس الإحباط الذي
كان يراد منها من قبل خاصة بإقدام شخصية مثل شمعون بيرتس على تكثيف مثل
هذه اللقاءات؛ لأنه يعرف أنها تعمل كسلاح سيكيولوجي فتاك في النفسية الفلسطينية،
ولكن تماماً كما أخفقت العملية السياسية الإسرائيلية فإن هذه الحملة السياسية
والدبلوماسية والنفسية لا محالة مخفقة.
البيان: في خضم هذه الأوضاع ما قدرة المقاومة الإسلامية على الاستمرار
في ظل الفارق الكبير في ميزان القوة مع اليهود؟
د. محمود الزهار: ميزان القوى لم يكن يوماً من الأيام متوازناً ولم يكن في
يوم من الأيام إلا في صالح الجانب الإسرائيلي سواء كان في فترة بداية القرن
العشرين وحتى تأسيس الدولة عام 1948م، والتي تعهدت بريطانيا بالذات في جعله
دائماً في صالح اليهود، ثم بعد ذلك تعاون الغرب: بريطانيا وفرنسا وأوروبا
عموماً حتى عام 1956م، وبعد ذلك مال الميزان لصالح الكيان الإسرائيلي بصورة
كبيرة جداً عندما دخلت أمريكا على الخط، وأصبح الكيان الإسرائيلي يمثل ترسانة،
نموذجاً لتجربة الترسانة الأمريكية في المنطقة.
والانتفاضة الأولى لم تكن مبنية على توازن القوى، والانتفاضة الثانية لم تكن
مبنية على توازن القوى؛ لكن مبنية على عاملين:
الأول: هو الاستفادة من تجربة ضرب الأمن القومي الإسرائيلي النظرية التي
روج لها الصهاينة والتي تقول بأنها دولة لا تهزم. في الحقيقة أن القارئ لما حدث
في حرب أكتوبر عام 1973م يقول إن الدولة هزمت، ولولا التدخل المباشر من
أمريكا وما أرسلته إلى العريش من طائرات ودبابات من المصانع لنجدة الكيان
الإسرائيلي لانتهى الكيان، ومن ثم نظرية الدولة ضربت في 1973م على يد
المصريين والسوريين في سيناء والجولان.
والنظرية الثانية: هي قيام الدولة اليهودية هي نظرية الأمن الفردي التي تقوم
على أن كل من يأتي مستجلباً أو مستوطناً يأتي من أي مكان في العالم سوف يجد له
أمناً شخصياً وأمناً اقتصادياً ومسكناً، ومن ثم جاء كل المرتزقة من الأديان
والأجناس جاؤوا إلى فلسطين وما عليهم إلا أن يحملوا سلاحاً تحميهم الدبابات
والطائرات. اليوم ضُربت هذه النظرية في مشروع العمليات الاستشهادية وأصبحت
القوة الاستراتيجية في يد الكيان الإسرائيلي عاجزة عن أن تتعاطى مع هذه الظاهرة.
يعني: إسرائيل تملك أسلحة نووية لا يمكن أن تستخدمها في مجال العمليات
الاستشهادية؛ لأن الغبار الذري لا يميز بين فلسطيني ويهودي أو صهيوني أو مسلم
أو مسيحي. هنا نجد صراخ العالم خصوصاً أمريكا والكيان الإسرائيلي لتجريد
الشارع الفلسطيني من أحد الأسلحة الاستراتيجية الخطيرة التي ضربت الأمن
الفردي وضربت مشروع السياحة الصهيوني.
- د. هشام فرارجة: لربما هذا هو واحد من أهم الأسئلة التي يدور في خلد
كل فلسطيني وفي خلد كل مراقب، وأمر معلوم ومعروف تماماً بأنه لا يوجد ميزان
قوى استراتيجي ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ فما لدى الإسرائيليين كثير جداً:
لديهم السلاح النووي، ولديهم البنى التحتية بمختلف أشكالها، ولديهم إمكانات
اقتصادية، ولديهم قنوات الدعم المفتوح من الولايات المتحدة الأمريكية، ولديهم
نوع من الاستقرار في مؤسساتهم. أما نحن الفلسطينيين فماذا لدينا؟ : حصار،
تجويع، حظر للتجول، منع للتواصل ما بين المناطق الفلسطينية نفسها؛ دع عنك
منع التواصل ما بين فلسطين ومختلف أنحاء العالم. هذه الصورة بجزيئيتها قد تبدو
قاتمة جداً؛ حيث توضح انعدام ميزان القوى الاستراتيجي ما بين الفلسطينيين
والإسرائيليين، ولكن في ذات الوقت وانطلاقاً من فهم فلسطيني دقيق بانعدام ميزان
القوى الاستراتيجي عمل الفلسطينيون المقاومون على التعويض عن انعدام ميزان
القوى الاستراتيجي هذا بالوصول إلى ميزان استراتيجي في الرعب ما بين
الفلسطينيين والإسرائيليين. أصبح الاستقرار والأمن الإسرائيلي مرهوناً بشكل فعلي
وعملي بالأمن والاستقرار الفلسطيني. كان من قبل دائماً يسقط الشهداء الفلسطينيون
ويقع الجرحى الفلسطينيون، ويعتقلون وينفون ويخضعون لحملات التنكيل لوحدهم؛
أما الآن وخاصة منذ بداية هذه الانتفاضة فإن نسب الخسائر ما بين الفلسطينيين
والإسرائيليين قد ضاقت إلى أضيق فجوة منذ بداية هذا الصراع. فعلى سبيل المثال
لا الحصر فقط عندما كان نتنياهو في الحكم كرئيس وزراء الإسرائيليين كانت نسبة
الخسائر ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين (1: 15) ، ولكن عندما أتى باراك
الذي اندلعت الانتفاضة في وقته ضاقت هذه الفجوة لتصبح (إسرائيلي واحد إلى
10 فلسطينيين) ولكن عندما جاء شارون الذي تمتع بسمعة مرموقة في الإرهاب
والقتل ضاقت هذه الفجوة إلى أكثر لكي تتأرجح ما بين (1: 3 أو 1: 5) في
أسوأ الأحوال. بدون أدنى شك انعدام ميزان القوى الاستراتيجي من وجهة نظر
المقاومين الفلسطينيين والمنتفضين لم يعن بأي حال من الأحوال رفع الراية البيضاء
أو التسليم بحقيقة قوة الاحتلال فقط، وإنما عنى أنه يجب ابتكار وابتداع الأدوات
والوسائل والمقومات من أجل بعث الذعر في نفوس المحتلين حتى يعرفوا أنه لا
أمن ولا استقرار لهم إلا بتلبية الحقوق الوطنية الفلسطينية.
- د. محمد الهندي: المسألة لا تقاس بالمقدرة المادية فحسب، صحيح أن
ميزان القوة مختل لصالح العدو بشكل كبير، لكن الإرادة والعزيمة والتضحية وحب
الشهادة والإيمان بالقضية ووضوح الهدف يعدل كثيراً من هذا الاختلال.
نحن ندافع عن أنفسنا وأمتنا ومقدساتنا ومستقبل أبنائنا، وهم يريدون استعباد
شعب آخر وإذلاله وقهره، نحن نملك حباً كبيراً للوطن والمقدسات والأطفال، وهم
يملكون حقداً للأغيار تغذيه أساطير تلمودية، ويملكون حباً كبيراً للدنيا، وهذه هي
المعادلة.
أما بالنسبة للتطور التقني للمقاومة فهذا متروك لأهل الاختصاص لكن هناك
قانون عام بأن الحاجة أمُّ الأختراع.
البيان: ما هو حجم التطور التقني والعسكري للمقاومة؟
- د. محمود الزهار: بالتأكيد التطور التقني لم يصل إلى مرحلة أباتشي ولا
الـ (إف 16) لكن وصل إلى مرحلة أنه أصبح مؤثراً تماماً في الأهداف التي
يختارها الشارع الفلسطيني، تطوير الهاونات وهي لم تكن موجودة في الانتفاضة
الأولى هي صناعة محلية، ثانية ما عرف بـ (البنا 1 و 2) هو تطوير ذاتي
وهو فعال في الحقيقة، والعبوات الموجهة، العبوات الجانبية هي عبارة عن بديل
للمدافع طويلة المدى والتي استخدمت آخرها في عملية عمانوئيل، واستخدام القنابل
اليدوية وتصنيعها محلياً، استخدام المتفجرات ذات القدرة العالية التي استطاعت في
يوم من الأيام أن تقسم الدبابة المركباه إحدى رموز القوة العسكرية الإسرائيلية هذه
أيضاً تقنية.
أنا أعتقد أنه في المرحلة القادمة وعلى المراقب أن يلحظ الوتيرة التي تحدث،
وربما يتم استحداث وسائل قتالية أخرى تساعد على حماية الشعب الفلسطيني.
البيان: الجيل الفلسطيني الجديد الذي تربى في ظل الانتفاضة ما مستقبله؟
وهل يمكن استثماره؟
- د. محمد الهندي: بدون شك فإن الجيل الفلسطيني الجديد الذي يترعرع
في ظل الانتفاضة ينسف كل المراهنات الصهيونية تماماً كما حدث في الانتفاضة
الأولى، هذه الروح التي يحملها الشباب والأطفال الذين يواجهون الدبابات بالحجارة،
والصدور العارية لا يمكن تطويعها كما يتم تطويع الأنظمة الرسمية.
بعد احتلال الضفة وغزة في نكبة 1967م قال الاحتلال إن الجيل القديم
سيموت خلال سنوات، وأن الجيل الجديد الذي يولد في ظل الاحتلال سينسى
القضية، وبعد فترة فوجئ الجميع بأن الجيل الذي ولد في فترة الاحتلال يفجر
انتفاضة 1967م.
واليوم انتفاضة الأقصى فجرت فيما فجرته طاقة شعبنا في فلسطين المحتلة
عام 1948م الذي حاول الاحتلال مسخ إرادته على مدى أكثر من نصف قرن.
- د. هشام فرارجة: في حين من الزمن وخاصة أثناء ما كان يسمى
بالعملية السلمية كنا حقيقة متخوفين جداً من التشتت الثقافي. كانت هناك ثقافات
التطبيع والتطويع والتتبيع، وتعرض ذلك الجيل في تقديري إلى تمزيق حقيقي
لسيكيولوجيته ونفسيته، فلم يعد يستطيع أن يحدد مساره الثقافي والحضاري. كانت
ثقافة العولمة والأمركة وإلى آخره. حتى أثناء هذه الانتفاضة وفي تقديري من أهم
إنجازاتها هي إنقاذ جيل فلسطيني بأكمله رغم أنه لحقت بهذا الجيل الصاعد خسائر
فادحة جداً في الأرواح حيث العديدون من الشهداء هم أطفال وهم من زهرات
وخيرة شبابنا؛ فهم الذين دفعوا الثمن الأكبر وما يزالون في هذه الانتفاضة؛ إلا أن
هذه الانتفاضة شكلت عملية صقل ذهني ونفسي وعمقت الوعي الوطني، وهي قد
وضعت النقط على الحروف بخصوص وجود الاحتلال وممارساته، وأصبح كل
فلسطيني الآن يعي أنه مستهدف بغض النظر عن انتماءاته وبغض النظر عن
تطلعاته وبغض النظر عن موقع سكنه أو عن طبيعة مهنته.
هذه الانتفاضة في حقيقة الأمر أيقظت الروح في المجتمع الفلسطيني، ولا
أجد نفسي مبالغاً إذا ما قلت إنها أنقذت الروح في المجتمع العربي وفي المجتمع
الإنساني برمته.
- د. محمود الزهار: هناك بعض المتأسرلين أو المتصهينين يحاول أن
يصور الجيل الفلسطيني الحالي وكأنه يعيش حالة من التشوه الفكري والنفسي نتيجة
ما يعانيه. صحيح أن هناك حجم معاناة، ولكن لا يمكن أن تكون الأمراض النفسية
سبباً في ظاهرة الاستشهاد، ولا يمكن أن تكون سبباً في ظاهرة دفع الآباء والأمهات
لأبنائهم لأن يقوموا بهذه العمليات، ولا يمكن أن تكون وراء نجاح برامج المقاومة
والمواجهة التي يعجز الإنسان عن تقديرها حسب مواصفات المواجهات. يعني
معركة عمانوئيل الثانية والثالثة، والأولى كانت قبل سبعة أشهر وذهب فيها
11 إسرائيلياً، ولم يصب فيها فلسطيني واحد، والعملية الثانية التي حدثت قتل
فيها 8 يهود ولم يخدش فيها فلسطيني بأقل من 42 ساعة. كانت العملية الثالثة كل
الجيش والطائرات والدبابات وجهات التلصص لم تستطع إلا أن تقتل شهيداً واحداً،
وقتل في مقابله ضابط كبير وجرح أربعة جراحهم خطيرة، وتكتم الكيان الإسرائيلي
أو الجيش على بقية الخسائر، ولم يعتقل أحد.
إذن بكل المقاييس سواء كانت المواجهات العسكرية أو عمليات تفجير
الأهداف الإسرائيلية كلها تحقق على مستوى المواجهة الفردية نجاحاً للمقاومة
الفلسطينية، ولا يمكن أن يكون هذا تشوه نفسي. أو مرض نفسي. هنا تخطيط
وترتيب ومواجهة وإقدام وبطولة. المريض دائماً يخاف أما الشهيد أو البطل لا
يخاف، ومن ثم فإن هذه الظاهرة تحظى باحترام كل من يرى أن الشعب الفلسطيني
مقهور ويجب أن يدافع عن نفسه؛ إنه استثمار الجيل.
البيان: لكن هل تستطيعون استيعاب الشباب المتعاطفين معكم؟
- د. محمود الزهار: حقيقة أن إقبال الشارع الشبابي على الحركة إقبال لا
تستطيع الحركة أن تلبي طلب كل إنسان، ليس فقط على مستوى لا أتحدث عن
المستوى العسكري ولكن أتحدث عن المستوى الدعوي. المساجد فجأة امتلأت بجيل
الشباب هؤلاء إذا أردنا أن نتبع الأساليب القديمة في تربيتهم وتنظيمهم فلن
يستوعبوا، ومن ثم فإن هناك ابتكارات في عملية استيعاب هؤلاء الناس،
وأصبحت الدروس المفتوحة واللقاءات العامة البديل عن اللقاءات الخاصة المغلقة
السرية. أصبحت هناك ساحة العمل الدعوي ساحة مفتوحة على مصراعيها،
والمساجد التي أممت بواسطة الأوقاف لا تستطيع أبداً أن تؤدي دورها العلماني، بل
على العكس تحولت إلى دور فاعل في تقوية الوعي السياسي والاقتصادي
والاجتماعي والتعبوي، وهي قضية تذكرنا بدور المسجد على مر التاريخ الإسلامي.
أنا أعتقد أن الحركة الإسلامية انتقلت من العدد والنسبة أي حركة تكون عد
100 - 200 ثم تتحول إلى نسبة 1 أو 2 أو 3% لكن الحركة الآن تحولت إلى
تيار؛ بمعنى أن هناك نسباً كبيرة من المجتمع يمكن أن تصوت للحركة،
وسأضرب لك مثلاً: في أمريكا يوجد حزبان كبيران؛ 280 مليون من له حق
الانتخاب يوزع صوته بين هذين الحزبين، وأعتقد الآن أن حماس تشكل حجماً
على مستوى الشارع، ليس حجماً على مستوى التنظيم بل على مستوى الشارع؛
بمعنى أن 30 - 40 %، 50 - 60% إذن دخلت إلى مرحلة تمثيل الشارع،
وهذا هو المكسب الذي تحقق للحركة في الفترة الأخيرة.
البيان: ما الهدف القريب والبعيد الذي تسعى الانتفاضة المباركة لتحقيقه؟
- د. محمود الزهار: نحن لا نقول إن الانتفاضة سوف تحرر فلسطين،
ولكنها ستبقي جذور المقاومة حية إلى أن يتم تحرير فلسطين. الهدف هو طرد
الاحتلال مرحلياً عن الأرض التي احتلت عام 1967م. هذا هدف واضح ومعروف
لا يعني ذلك أننا سوف نتنازل عن حقنا عن كامل التراب الفلسطيني. نحن نعتبرها
مرحلة يمكن أن تؤسس فيها مشروعاً سياسياً يطور الموقف العسكري إلى الدرجة
التي تصبح فيها تمهد لمرحلة تحرير فلسطين عندما تتغير الجغرافيا السياسية من
حولنا.
* المحور الثاني: آثار الانتفاضة:
البيان: كيف أثرت الانتفاضة في تغيير مفاهيم ومنطلقات الصراع بين
اليهود؟
- د. محمود الزهار: الحقيقة أنه في بداية الثورة الفلسطينية العلمانية التي
هي فتح ومنظمة التحرير كانوا يؤمنون على الأقل في مستنداتهم وأدبياتهم بتحرير
كامل التراب الفلسطيني، ولكن لم يلبثوا إلا سنوات قليلة حتى بدأ الحديث عن
دولتين وعلمين واعتراف متبادل وتعايش. بقيت الحركة الإسلامية تؤكد على
مشروعها القاضي بكامل التراب الفلسطيني وإسلامية المعركة؛ بمعنى أن صاحب
القضية هو الإسلام، وتدهور الموقف العلماني الوطني من عروبة القضية
الفلسطينية؛ يعني من قومية القضية إلى إقليمية القضية، ثم تحولت إلى منظمة في
مواجهة إسرائيل، وكان القرار الخطير هو: (القرار الفلسطيني المستقل) الشعار
الذي أعطى فرصة للدول العربية أن تنفض يدها من هذا المشروع.
بعد إخفاق أوسلو عادت القضية لتأخذ بُعدها من جديد: ارتفعت من دائرة
منظمة التحرير في مواجهة إسرائيل إلى ضرورة أن يقف العرب مع الشعب
الفلسطيني، وبقي الموقف الإسلامي ثابتاً في موقف حماس بأنه لا بد من أن تبقى
العروبة بكاملها والإسلام بكل حدوده في مواجهة الاحتلال، ومن هنا نقول: إن
صار تطوير في أي حديث في الموقف الوطني ولكن ليقترب قليلاً قليلاً من الموقف
الإسلامي الذي تمثله حماس حول طبيعة الصراع في المنطقة.
د. محمد الهندي: إسرائيل تتعامل باستمرار مع مشكلة الشعب الفلسطيني
بأنها مسألة داخلية، وليس هناك حزب صهيوني واحد له برنامج سلام يسلم
بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، ويسلم بدولة فلسطينية كاملة السيادة على
حدود 1967م بما في ذلك حزب ميرتس اليساري.
وهناك مسائل تشكل إجماعاً وطنياً صهيونياً من أقصى اليمين إلى أقصى
اليسار منها أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ومنها عدم القبول بعودة اللاجئين
إلى مدنهم وقراهم، وعدم وجود جيش قرب النهر (نهر الأردن) .
الانتفاضة مرة واحدة أعادت الصراع إلى جذوره الأولى، وتحدث الصهاينة
بكل وضوح وجدية عن حرب الاستقلال التي بدأت في عام 1948م - 1978م
وأنها لم تنته بعد.
- د. محمد الهندي: بدون أدنى شك فإن قضية فلسطين بهذه الأبعاد
التاريخية والعقدية والثقافية والسياسية والاستراتجية هي قضية العرب والمسلمين
المركزية، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، فإذا تم استباحة فلسطين فسيكون
ذلك لاستباحة بقية العواصم العربية والإسلامية والسيطرة عليها سياسياً واقتصادياً
وثقافياً واستخبارياً، وإذا صمدت فلسطين فهذا يحصن بقية الأقطار في الشرق
الإسلامي أمام الغزو الصهيوني متعدد الوجوه، ولذلك نحن في فلسطين في حاجة
كبيرة للتفاعل العربي والإسلامي مع مقاومتنا وجهادنا، كما أن العرب والمسلمين
في حاجة كبيرة لاستمرار وتصاعد مقاومتنا في فلسطين، وإذا كانت أوسلو قد
ضربت هذه الحلقة الهامة وسمعنا حينها شعارات من قبيل: «نقبل بما يقبل به
الفلسطينيون» ومن قبيل: «لسنا ملكيين أكثر من الملك» التي رفعها كل من
أراد أن يتحرر، ويتحلل من عبء فلسطين؛ فإن الانتفاضة المباركة أعادت لنا هذه
الحلقة المفقودة وهذا البعد الضروري للصراع، وهذه غدت أكثر وضوحاً وأكثر
ضرورة مع مرور الوقت، ونؤكد هنا ضرورة أن تتكاثف جهود القوى الشعبية
الإسلامية والعربية في الأقطار العربية لتؤكد على أهمية هذا البعد، وبطريقة
منسجمة مع تصاعد المؤامرة على الانتفاضة المباركة.
البيان: لكن في المقابل ما آثار الانتفاضة على العدو اليهودي: الحالة
النفسية، الحالة العسكرية، الحالة السياسية، الحالة الاقتصادية ... ونحوها؟
- د. هشام فرارجة: حقيقة لم يشعر الإسرائيليون بجدية الرادع وتأثيراته
في هذا الشكل إلا عندما اندلعت انتفاضة الأقصى، وكانت الحالة من قبل بأن
الإسرائيليين يقومون بحملاتهم العقابية على الشعب الفلسطيني، ويلحقون به كامل
الأضرار وأفدحها دون أن يشعروا هم بأي تأثير نسبي بوجود الصراع، ولكن
عندما اندلعت انتفاضة الأقصى ونتيجة للإدراك الفلسطيني بأنه ما حك جلدك مثل
ظفرك، فإن الإسرائيليين أصبحوا يعانون الأمرين، وأصبح ذلك الأمل المزعوم
والمولود لهم بشخصية شارون بأنه سوف يجلب لهم السلام والاستقرار والأمن ما
هو إلا أكذوبة ووهم حقيقي لم يعد الإسرائيليون أنفسهم يستوعبونه.
الشارع الإسرائيلي صحيح لا يشعر بنفس الضرر الذي يشعر به الشعب
الفلسطيني المحاصر المجوع الممنوع من التجوال المشلولة حياته اقتصادياً وتعليمياً
وزراعياً واجتماعياً وبالتاكيد نفسياً، ولكن الشارع الإسرائيلي ولمرة جديدة أصبح
يعرف تماماً أن الاحتلال يلحق به بالغ الضرر.
الحياة الاقتصادية عندهم أصبحت في حالة يرثى لها من الناحية الفندقية،
ومن الناحية السياحية، ومن ناحية المطاعم التي كانت تزخر بالرواد من قبل، الآن
أصبحت الحياة شبه معدومة عندهم في هذا الصدد. من ناحية أخرى لم يعد
الإسرائيلي يستطيع أن يتمتع برخائه على حساب الفلسطيني كما كان يفعل من قبل.
أصبح يتردد أكثر من أي وقت مضى في أن يرتاد مطعماً أو مرقصاً أو أن يذهب
حتى إلى فندق هنا وهناك. هذا من الناحية الاقتصادية.
ومن الناحية السكيولوجية يكاد لا يوجد إسرائيلي الآن لا يعرف حقيقة الصراع
وبأن هناك شعباً فلسطينياً يقاوم لأنه مظلوم. هذه الحالة لم تكن حقيقة موجودة من
قبل؛ حيث كان الإسرائيلي يعيش حياته برخاء دون أن يابه بالحالة التي عليها
الشعب الفلسطيني.
من ناحية ثالثة من الناحية العسكرية اعتاد الإسرائيليون أن يتبختروا في
المناطق الفلسطينية قبل الانتفاضة دون أن يكون هناك رادع لوجودهم ولاحتلالهم.
كانوا يفكرون أن الشعب الفلسطيني سوف لا يحرك ساكناً، وليس بمقدوره لانعدام
ميزان القوى أن يفعل شيئاً. سوف يكتفي الشعب الفلسطيني وكانوا يحسبون خطأ
سوف يكتفي بإلقاء الحجارة على الجنود الإسرائيليين المتمترسين خلف أسلحتهم
الثقيلة، والذين كانوا يقنصون ويتصيدون الفلسطينيين دون هوادة، هذه الصورة
تغيرت كثيراً.
نسبة الخسائر ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين الأن هي (1: 3) هذه نسبة
غير معهودة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأستطيع أن أقول بأنها
غير معهودة في تاريخ الصراعات ما بين شعب مستعمر وقوة مستعمرة. إذن
استطاعت الانتفاضة أن تحقق إنجازات حتى وإن لم تكتمل حتى الآن.
أريد أن أنتقل إلى تأثير آخر على الشارع الإسرائيلي: قبل الانتفاضة كان
المهاجرون اليهود يأتون إلى فلسطين من كل صوب وحدب: من روسيا ومن
أثيوبيا ومن غيرها من بلدان العالم، معتقدين أن هذه هي حضيرتهم، وأن هذه هي
واحة الديمقراطية التي تنتظرهم، وبأنها أرض الميعاد التي يجب أن تطأ أقدامهم
عليها؛ لكن بعد انتفاضة الأقصى بدأنا نشاهد بأن هناك هجرة معاكسة عند
الإسرائيليين إلى خارج فلسطين المحتلة. الانتفاضة بعثت فيهم قلقاً وذعراً وخوفاً
غير مسبوق على الإطلاق.
وتأثير آخر على صعيد المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة: كان
المستوطنون هم الذين يمسكون بقبضة القرار السياسي الإسرائيلي، ولكن سرعان
ما أتت الانتفاضة لكي تغير من هذه التفاعلات، ولكي يفكر المستوطنون جدياً
وعملياً بالرحيل عن مستوطناتهم التي بنيت عنوة وبشكل مغتصب للأرض
الفلسطينية.
إذن هذه الانتفاضة ما زالت في أوجها. الهجمة الإسرائيلية والعدوان
الإسرائيلي ما زال أيضاً في أوجه، ولكن مهما كلف الأمر من ثمن كما هو واضح
فإن المنتفضين الفلسطينيين عازمون العزم على الاستمرار في هذه الانتفاضة حتى
تحقيق الهدف الأسمى وهو طرد الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
- د. محمود الزهار: الحقيقة أن هناك دراسات كثيرة تتحدث عن هذا
الموضوع، يعني الأثر النفسي. كل الصحف العبرية الآن تتحدث عن حالة الخوف
الفردي المتمثل في المظاهر الآتية: فراغ كل المحلات الكبرى المعروفة بالسوبر
ماركت، إفلاس عدد كبير من المطاعم والملاهي والمراقص، إفلاس الحافلات
الكبرى من الركاب وخسائر كبيرة في شركة إيغد بالذات، غياب أي تجمع في أي
من الأماكن العامة التي كانت تمتلئ نشاطاً، المؤسسات وشركات المشتريات التي
تقوم بنقل المشتريات إلى البيوت، الهجرة المعاكسة من داخل فلسطين المحتلة إلى
خارجها لعدد كبير من المرتزقة، وانخفاض حجم الاستجلاب من المهاجرين من
الخارج إلى الداخل.
هناك حديث كبير يحتاج إلى بحث أكثر من مصدر عن حجم الأدوية
المستخدمة في العلاج النفسي كالمهدئات والمنومات واللجوء إلى أطباء نفسيين؛
وهذه طبعاً ليست سراً. نحن نتابعها من مصادرها الإسرائيلية الوضع العسكري
شهد تراجعاً كثيراً.
عندما ندرك أن هناك 49 قتيلاً ومئات الجرحى بعد عملية السور الواقي،
والآن حوالي 65 قتيلاً بعد عملية عمونئيل وفي يوم (5/6 و 6/6 و 8/6 و 11/6
و15/6 و 18/6 و 19/6) كلها يعني في شهر واحد تقول إن هناك هزائم على
المستوى العسكري.. إخفاق في أن تطوق ظاهرة الاستشهاد وأن تواجه كما حدث
في عملية عموئيل، وفي عملية وادي الرامة في رام الله.
هناك إدراك حقيقي أن الجيش الإسرائيلي لا يستطيع أن يستخلص عبرة من
أي حادث من المواجهة إلى الدرجة أنه في عملية عمونئيل ثلاث عمليات تمت في
نفس المكان والأسلوب بين العملية الثانية والثالثة أقل من 24 ساعة، وكلها تشكل
هزيمة في الحقيقة. معنى ذلك أن الجندي الإسرائيلي الذي كان لا يقهر الآن يقهر
في معسكره وفي طريقه إلى المعسكر.
- د. محمد الهندي: عند الحديث عن آثار الانتفاضة مع الكيان العبري في
فلسطين فلم تعد هذه الآثار خافية على أحد.
على المستوى النفسي يتحدث الصهاينة أنفسهم عن زيادة كبيرة في أعداد
المترددين على العيادات النفسية، وعن الحالات العصبية وعن مبيعات هائلة
للعقاقير المهدئة.
باختصار فإن المجتمع الصهيوني يتكون أساساً من يهود قادمين من أوروبا
بعقلية رأسمالية شكلوا مجتمعاً يحبون المال ويبحثون عن الملذة، ولذلك هم لا
يستطيعون تحمل العمليات الاستشهادية التي تضرب فصائل هذا المجتمع بعنف،
وتترك آثارها إما أن تدفعه للمصحات النفسية أو للهروب للخارج كما حدث مع
حوالي مليون صهيوني لهم محل إقامة خارج إسرائيل، وكما عبرت حفيدة بيجن
التي غادرت تل أبيب إلى حي (بروكلين) في واشنطن والتي قالت: أعلم أن
جدي يتقلب في قبره مما فعلت، لكن ماذا أفعل؛ فليس في إسرائيل أمان.
أما شعب فلسطين فعلى العكس تماماً؛ فهو شعب تعود على التضحية والفداء
وتقديم القرابين، وتعايش مع المصائب حتى أصبحت جزءاً من وجودنا.
على المستوى العسكري: الجيش الصهيوني تم إعداده كجيش نظامي قوي
مدجج بأحدث أنواع السلاح والتكنولوجيا المتطورة ليواجهه ويهزم الجيوش العربية.
اليوم هو يواجه أطفالاً يحملون حجارة ومقاليع، ويختفون خلف حاويات الشوارع،
وهذا يخلق أزمة حقيقية في الجيش الصهيوني. هذا من ناحية، ومن ناحية
أخرى فإن العمليات الاستشهادية تكسر معادلات القوة والتكنولوجيا والتسلح؛ فمثلاً
لو قتل طيار في عملية استشهادية فهذا يوازي إسقاط طائرة حربية حديثة، وهكذا
يكون القياس صحيحاً في الحالات الأخرى.
هناك إحباط سياسي كبير عند الذين راهنوا على اتفاق أوسلو سواء في
الجانب الفلسطيني أو الصهيوني؛ فبعد أن أمل عرابو أوسلو من الصهاينة على
إنهاء الكيانية الفلسطينية وإقامة كيان فلسطيني ملحق بإسرائيل له وظيفة واحدة هي
قمع المقاومة الفلسطينية مع الاحتفاظ بالمستوطنات والقدس والسيادة جاءت
الانتفاضة لتضع أوسلو وأصحابها في مأزق حقيقي يعري كل الأوهام التي تم
تسويقها أمام مسائل الحل النهائي التي تم تأجيلها، والتي لا حل لها، ووجدنا
أصحاب أوسلو الصهاينة وعلى رأسهم بيرس عرابها وصاحب جائزة نوبل للسلام
يتحول بقدرة قادر إلى عراب لحكومة شارون وجرائمها.
اقتصادياً نشير فقط إلى خسائر صهيونية بمليارات الدولارات، وإلى شلل في
قطاعات البناء والزراعة التي كانت تعتمد أساساً على الأيدي العاملة العربية وإلى
ضرب قطاع السياحة نظراً لغياب الأمن؛ كما تشير إلى شلل المستوطنات الزراعية
(الكيبوتسات) والمستوطنات الصناعية، وإقفال أو نقل المصانع منها سبب توقف
حوالي 150 ألف عامل عزل عن العمل.
ليس هناك حل نهائي للقضية الفلسطينية والصراع في فلسطين وعلى فلسطين
سيستمر، وليس هناك مقدرة لأي طرف على حسم الصراع، وإنما مراكمة نقاط
سواء كانت نقاط ضعف أو نقاط قوة، والانتفاضة راكمت للشعب الفلسطيني نقاط
قوة عديدة كان قد فقدها أثناء فترة المفاوضات، وأنه لا أمن لأحد في المنطقة بدون
نيل الشعب الفلسطيني لحقوقه؛ كما أثبتت أن القوة العسكرية مهما بلغت في
جبروتها لن تستطيع حسم المعركة وإلحاق الهزيمة بشعب فلسطين.
أما ما تسمى بعملية التسوية فقد وصل إلى نهايته، وصل إلى الإخفاق؛ لأنه
ما من حل للمسائل التي تم تأجيلها عن عمد والتي تمثل جوهر الصراع، وليس
هناك أي إمكانية لردم الهوة بين الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به أي فلسطيني
وبين الحد الأقصى الذي يمكن أن يوافق عليه أي حزب صهيوني في قضايا القدس
واللاجئين والمستوطنات. إسرائيلياً يهدفون أساساً إلى تفتيت التجمع السكاني
الفلسطيني الكبير في الضفة الغربية (2 مليون) وعزلهم في كانتونات منفصلة بها
كتل استيطانية وشوارع التفافية ليستمر التعامل مع القضية الفلسطينية وكأنها قضية
داخلية إسرائيلية. وفلسطينياً ليس هناك من يعلن قبوله بأقل من دولة فلسطين على
الأرض المحتلة عام 1967م. وأي عودة للمفاوضات من جديد تعني تأجيل هذه
القضايا لسنوات طويلة.
- د. محمود الزهار: في المجتمع الإسرائيلي أنا لا أؤمن أن هناك يميناً
إسرائيلياً ويساراً إسرائيلياً؛ برامج معروفة؛ ولكن هناك حالة تحكم كل انتخابات،
حالة خوف معينة تحكم نتائج الانتخابات؛ والدليل على ذلك: هذه المرة ينجح
حزب العمل، والمرة التي بعدها ينجح حزب الليكود، وبعده يأتي حزب العمل،
وبعده حزب الليكود. إذن من يعد بالأمن يكسب؛ خصوصاً أن كل واحد لا يأتي
بالأمن ينهزم؛ فالذي بعده يعد بمزيد من الأمن فيعطونه أصواتهم حتى يثبت إخفاقه
؛ وهكذا حتى الآن لم يستطع أحد أن يوفر لهم الأمن. معنى ذلك أن الحالة النفسية
هي التي تحكم القرار الإسرائيلي الشعبي في مستوى الانتخابات وما يسمى
بالأيديولوجيين سواء كان من هذا التيار أو ذاك؛ هم قلة في المجتمع الإسرائيلي.
الذي يضبط السلوك الإسرائيلي هو المصلحة، وأهم هذه المصالح هو الأمن.
والأمن حتى الآن لا يستطيع أحد أن يوفره، وأنا على يقين أنه إذا استمرت
الانتفاضة وضربت الأمن، واستمر ضرب الأمن الإسرائيلي الآن فسيخسر شارون،
ولا أقول إن خسارة شارون ستأتي بالسلام لأن البعض يراهن على أن شارون هو
عقبة السلام. أنا أقول إن خسارة شارون سوف تأتي بزعيم جديد يعدهم بالأمن
فيخفق إلى أن يأتي وعد الله تبارك وتعالى ويتم التعامل مع هذه القضية تعاملاً
مختلفاً عن مشاريع الاستسلام.
البيان: مشاريع التسوية مع اليهود لم تتوقف، لكن هل أثرت عليها
الانتفاضة؟ وهل أكَّدت ضرورة المقاومة والثبات عليها؟ أم أنها رجَّحت ضرورة
السير في طريق التفاوض والتسوية السياسية؟
- د. هشام فرارجة: لمدة سبع سنوات عجاف منذ توقيع اتفاقيات أوسلو
والشارع الفلسطيني كان في حالة انتظار وفي حالة ترقب وأمل لكي تفضي ما دامت
تجري من مباحثات ولقاءات واجتماعات ومفاوضات عن نتائج يمكن للشعب
الفلسطيني أن يقبلها وأن يتعايش معها.
في حقيقة الأمر لم تفض هذه المفاوضات إلا إلى تكريس للاحتلال على
الأرض مع الأسف الشديد، ولذلك وبخاصة بعد أن تمكنت المقاومة اللبنانية في عام
2000م من تثبيت نصرها على المحتلين الإسرائيليين في جنوب لبنان أصبح
واضحاً تمام الوضوح أن خيار المقاومة بالرغم من انعدام التوازن في الإمكانات هو
خيار ممكن وجائز، بل هو هو الخيار الذي يجب أن يكون.
باندلاع انتفاضة الأقصى ووضوح الرؤيا أمام المنتفضين الفلسطينيين باتت الصورة
أوضح من أي وقت مضى بأن خيار المقاومة هو الخيار الأمثل للتعامل مع هؤلاء
المحتلين؛ لأنه واضح تماماً أنهم لا يفهمون ولا يتفهمون إلا لغة القوة ولغة الخسائر
بالتأكيد. هذا لا ينفي بالضرورة التحرك الدبلوماسي، ولكن على أسس ومعطيات
ودون أن يكون على حساب الخيار المقاوم، ونحن في انتفاضة الأقصى وجدنا
صوراً ساطعة لمؤثرات الخيار المقاوم، والنهج المقاوم في الساحة الفلسطينية تجلى
ذلك بأوضح ما تجلى في مخيم جنين، مخيم جنين بالتاكيد ارتكبت بحقه مجزرة
نكراء حيث هدم الحجر وقتل البشر هناك دون هوادة، ولكن في ذات الوقت
استطاع مخيم جنين لمدة تسعة أيام على الأقل، أن يصمد في وجه أعتى وأقوى قوة
عسكرية في الشرق الأوسط، استطاع ما استطاع أن يفعله هذا المخيم وأكبر مما
استطاعت أن تفعله جيوش نظامية بكاملها، وليس هذا فحسب وإنما مخيم جنين
استطاع أن يسطر أسطورة بقيادة (أبو جندل) في الصمود والتصدي بشكل غير
مسبوق، وأن يلحق في صفوف الإسرائيليين خسائر لم يعهدوها من قبل. ثلاثة:
قائد كتائب - قادة كتيبة من قبل الإسرائيليين تنحوا جانباً في قيادة المعركة ضد
مخيم جنين حتى أتى مسؤول الأركان (شاؤول موفاز) وقاد المعركة بنفسه نظراً
لحجم الخسائر التي وقعت بالإسرائيليين. نحن لا نقول خداعاً للنفس ولا نقول ذلك
إيقاعاً بأنفسنا في الأوهام، بالتأكيد كانت هناك خسائر فلسطينية في كل شيء، وهو
أمر متوقع؛ لأنه من طبيعة الأحوال أن تلحق بالشعب المحتل المستعمَر خسائر
كبيرة؛ هذه هي طبيعة الاحتلال، ولكن ما كان مغايراً والذي دلل عليه النهج
المقاوم هو أنه بالإمكان بالفعل إذا ما توفر القرار والإرادة إلحاق أفدح الخسائر في
صفوف المحتلين رغم ضآلة الإمكانات وتواضعها؛ لذلك الآن النهج المقاوم في
الساحة الفلسطينية هو النهج المقبول، وهو النهج المقنع، وهو النهج الذي يحرك
الصراع بدلاً من السبع سنوات العجاف التي شاهدناها قبل اندلاع انتفاضة الأقصى.
- د. محمود الزهار: الانتفاضة أظهرت أن الموقف الذي قال إن الكيان
الإسرائيلي لا يفكر في الانسحاب ثبت صحته، والتحذير الذي كنا نطلقه في عام
1994م أننا نخشى، وهناك فرق بين نخشى ونتمنى. إننا نخشى أن يكون مشروع
غزة أريحا أولاً غزة أريحا آخراً الآن تتضح معالمه هذا المشروع إن ثبت هزيمته،
وأهم مشروع تسوية طرح هو مشروع أوسلو، وأنا أعتقد أن أوسلو انتهى لعدة
أسباب عملياً: انتهى؛ لأن الكيان الإسرائيلي لا يريده قانونياً. انتهى؛ لأن مدته
الزمنية انتهت والمشروع انتهى من ضمير الشارع الفلسطيني الذي كان يظن أن
أوسلو يمكن أن تصبح سنغافورة جديدة، وعلى أرض الواقع هناك احتلال. الواقع
أن الاحتلال يلغي أوسلو؛ لأن أوسلو هي حكم ذاتي. لا يمكن أن نقول إن هناك
حكماً ذاتياً، ومشروع التسوية المطروح هو انتهى، ما هي التسويات الأخرى التي
سوف تأتي؟ لا أحد يعلمها، والمفاوضات استمرت في الانتفاضة ولكن لا أستطيع
أن أقول إن الانتفاضة كرست نهج المقاومة إلى الأبد. لا تزال بعض عيون الناس
تتلمس طريقها إلى المفاوضات، وعندما يجدون مفاوضاً فسوف يفاوضون، لكن أنا
أقول إن الشارع الفلسطيني الآن أصبح يؤمن بنهج المقاومة وهو نهج أصيل في
الحفاظ على الإنجازات، وهو موقف مقدم جداً عن الموقف في السنوات الماضية
التي كان يرى في العمليات الاستشهادية تعطيلاً للمشروع الوطني. اليوم أصبحت
المقاومة هي إنجازاً على مستوى المشروع الوطني وهو تطور في الموقف
الفلسطيني في مجمله.
البيان: كيف تقوِّمون التعاطف الإسلامي معكم في ظل الانتفاضة الأخيرة؟
- د. محمود الزهار: العالم العربي المغلوب على أمره استطاع أن يكسر
كثيراً من الحواجز. يعني: العالم العربي استطاع أن يصل إلى درجة أن يخرج
فيها إلى الشارع. خرج إلى الشارع، وعندما خرج إلى الشارع تظاهر، وهو كان
غير مسموح له. خرج إلى الشارع وأطلقت عليه الكلاب والغازات المسيلة للدموع،
ولكن استطاع الشارع العربي في المحصلة أن يصل إلى مرحلة أن يفرض إرادته،
وهناك مناطق خرجت فيها المسيرات، ولم تكن تشهد مسيرات قبل ذلك، وهناك
مناطق غير مسوح لها الخروج خرجت خارج إطار معين فخرجت عن هذا الإطار
خرجت من الجامعات، وأيضاً هناك تخوف من خروج هذه المسيرات أن تؤثر
سلباً على وحدة النسيج والعلاقة بين هذا الشعب وسلطاته، فخرجت هذه المسيرات
ووجهت وجهتها في اتجاه فلسطين، ولم تفعل شيئاً على المستوى الداخلي. إذن
حتى على مستوى الانتفاضة الشعبية استطاعت أن تحسم الكثير من المخاوف حول
العلاقة بين المتظاهر العربي والإسلامي وبين السلطة القامعة التي تقمع هذا
المتظاهر، وأعطت فرصة للحكومات أن قضية فلسطين مقدمة حتى على الصراع
الداخلي. هذه أيضاً إيجابية تضاف إلى رصيد الانتفاضة.
في المحصلة أنا أعتقد أن ما حدث هو قضية تراكمية سوف يتم تطويرها
لتغيير الجغرافيا السياسية في العديد من المناطق العربية الفاعلة والإسلامية، ولربما
تكون واحدة من أهم العوامل التي ستفرزها المواجهة المرتقبة بين الغرب وبين
العرب.
- د. هشام فرارجة: في حقيقة الأمر ربما هناك مساران للتعامل مع
موضوع من هذا الأمر. على الصعيد الرسمي والجماهيري بالفعل تابعنا وبعين
ثاقبة هنا في فلسطين موقف الشعوب العربية والإسلامية إزاء ما كان يحدث في
فلسطين من ارتكاب للمجازر بحق الأطفال والنساء، قصف الأطفال النائمين
المستغرقين في نومهم كما حدث في حي الدرج في غزة قبل عدة أيام فقط، تابعنا
وشاهدنا حجم الغضب والسخط عند هذه الجماهير التي خرجت في تظاهرات عارمة
في كل بلد عربي تقريباً وفي الكثير من البلدان الإسلامية وتابعنا أيضاً وشاهدنا كيف
كانت تنادي هذه الجماهير وهذه الشعوب بضرورة أن يفتح هذا الباب باب الجهاد
هذا من ناحية، ولكن على الصعيد الرسمي يتساءل كل فلسطيني: لماذا هذا
الاستمرار في مثل هذا الصمت المطبق من الناحية الرسمية؟ أليس الفلسطينيون
عرباً؟ أليس الفلسطينيون يدافعون عن حرمة المسجد الأقصى وعن حرمة القدس
وقدسيتها نيابة عن كل عربي ومسلم؟ لماذا يبقى الفلسطينيون مستفرداً بهم أمام
أعتى قوة آلية ووحشية في المنطقة وهي الآلة العسكرية الإسرائيلية؟ بالتاكيد في
الشارع الفلسطيني هناك غضب وعطش لموقف عربي ورسمي وإسلامي أكثر
جدوى وتاثيراً مما شاهدناه حتى الآن. نحن نعرف طبيعة القيود والظروف، ولكن
لا توجد ظروف أكثر وأعقد من الضغوط التي يعيشها الشعب الفلسطيني؛ ولذا لا
يستطيع أن يقبل الشعب الفلسطيني بمسوغات الظروف التي قد تطرح هنا وهناك.
هناك حاجة ماسة لتضامن كل الجهود رسمياً وشعبياً من أجل التخلص من هذا
الاحتلال؛ لأنه لا يشكل خطراً على الفلسطينيين فقط؛ وإنما يشكل خطراً حقيقياً
على المنطقة برمتها وعلى كل العرب والمسلمين وأن لا تظهر آثار هذا المظهر
الآن.
* المحور الثالث: العوائق:
البيان: كيف تنظرون لمستقبل الانتفاضة عقب أحداث 11 سبتمبر؟ وكيف
يؤثر الدور الأمريكي في الانتفاضة؟
- د. محمد الهندي: بعد 11 سبتمبر أعلنت أمريكا حرباً دولية بقيادتها على
الإرهاب بالمفهوم الأمريكي، وشارون حاول بما لإسرائيل من نفوذ داخل الإدارة
والكونجرس والإعلام الأمريكي حاول أن يطابق الأجندة الأمريكية في هذه الحرب مع
الأجندة الإسرائيلية وأن يطابق بين حركات الفلسطينيين وبين القاعدة، وبين السلطة
الفلسطينية وبين الطالبان لينسف حتى مشروع أوسلو. ولكن غاب عن الجميع
وخاصة عن الأنظمة العربية المرعوبة والمستلبة أن فلسطين ليست أفغانستان، وأن
المقاومة الفلسطينية ليست طالبان، لذلك الانتفاضة مستمرة والمقاومة متصاعدة رغم
كل المحاولات الأمريكية لإجهاضها، وكل زيارات تينت وتشيني وغيرهما للمنطقة،
بل إن استمرار الانتفاضة بالفعل أعاق مخططات أمريكا في المنطقة.
- د. هشام فرارجة: الدور الأمريكي ومنذ بداية الصراع هو دائماً موقف
داعم بشكل استراتيجي للإسرائيليين بغض النظر عن ممارساتهم وسياساتهم
ومواقفهم، والموقف الأمريكي حقيقة يعتبر الحاضنة للسياسات الخارجية على
اختلاف وحشياتها وبربرياتها، ولذلك من الناحية الأولى نجد أن الولايات المتحدة
هي تقوم بالاستمرار بإيصال الدعم العسكري والاقتصادي للإسرائيليين لكي يشنوا
حربهم الوحشية ضد الفلسطينيين غير آبهين بمختلف الخروقات والانتهاكات
لمختلف القوانين والشرائع في العالم.
من ناحية ثانية نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة في ظل إدارة بوش
الصغير تقود حرباً سياسية ونفسية وإعلامية على الشعب الفلسطيني، بوش يطرح
بأن شارون مرتكب مجازر صبرا وشاتيلا ومن قبلها قبيا ومن بعدها حي الدرج
بغزة هو رجل سلام، هذا بالتاكيد مناف للمنطق وللواقع ولما هو مقبول.
من ناحية أخرى إدارة بوش تريد أن تصبغ الحياة الفلسطينية بالشكل التي
تريد. تريد أن تفرض على الشعب الفلسطيني قيادته وأسلوب حياته وهو أمر آخر
غير مقبول.
ومن ناحية ثالثة نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية وبشكل ممنهج ومبرمج
تقود حرباً قانونية على الشعب الفلسطيني خاصة من قِبَل أروقة الأمم المتحدة
وبالتحديد مجلس الأمن، فلا يكاد يقدم قرار في مجلس الأمن فقط لكي يستنكر
الممارسات الإسرائيلية حتى تقف الولايات المتحدة الأمريكية بالمرصاد وتتخذ حق
النقض (الفيتو) وفقاً لصلاحياتها وإمكانياتها في مجلس الأمن.
إذن الموقف الأمريكي في تقديري موقف مفروغ منه سواء كان فلسطينياً او
عربياً خلف الموقف الأمريكي ما هو إلا اللهاث خلف السراب ولا يمكن أن يجدي،
هذا لا يعني أنه يجب أن لا نتفاعل دبلوماسياً مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن
يجب أن تكون طبيعة التفاعل مغايرة لما يجري عليه الحال الآن. علينا أن نقول
للولايات المتحدة الأمريكية كفي عنا؛ لا نستطيع أن نلتقي بكم حتى تعرفوا تماماً أنه
من مصلحتكم إزاحة هذا الاحتلال وعندها تستطيعون أن تطرقوا أبوابنا، ما دون
ذلك لا جدوى من لقائكم، لا جدوى من الاجتماع بكم، أنتم لستم راعياً لعملية السلام
وإنما أنتم رعاة حرب تمثل إرهاب دولة منظماً وممنهجاً ضد الشعب الفلسطيني.
- د. محمود الزهار: يجب ألا نخجل نحن من أحداث 11 سبتمبر، أحداث
سبتمبر كانت إفرازات السياسة الأمريكية، وكانت كشفاً لعورة الأمن الأمريكي
وهشاشة المجتمع والنظام الأمريكي، وهذه القوة الغاشمة يمكن أن تقهر وأن تهدد؛
فنحن كفلسطينيين لم يكن لنا في هذا الموضوع لا ناقة ولا جمل؛ لأنها تستثير
المظلومين لأن يستخدموا وسائل مبتكرة في ضرب الظالمين لاستطعنا أن نقنع العالم
بأن الدولة الظالمة الإسرائيلية تستحق العقاب لما فعلته من مظالم ضد الشعب
الفلسطيني، وأن ما يحققه الشعب الفلسطيني ضد الإجرام الإسرائيلي هو أمر
مشروع، ولكن نجح الكيان الإسرائيلي، ونجحت أمريكا في أن توظف هذا
الموضع الأفغاني وأن تسحب لضغط الإرهاب الذي هي تمارسه هي وحلفاؤها مثل
بريطانيا على الإسلام، وأنا أعتقد أن أخطر ما في أحداث سبتمبر أنها كشفت
الموقف الحقيقي المغطى بنظرة الغرب تجاه الإسلام والذي وجد له كتابات عن
صراع الحضارات مسبقاً، والذي كشف عنه بوش بصراحة وبغباء عندما تحدث
عن الحرب الصليبية، ومن هنا نستطيع أن نقول إن نواتج سبتمبر بقدر ما فيها من
إيلام بقدر ما فيها من إيجابيات استطاعت أن تكشف الوجه الحقيقي للصراع،
ولربما تكون الحركة الفاصلة في مسار التاريخ المعاصر هو الاعتداءات المتوقعة
من أمريكا على شعوب بريئة ربما تكون العراق مرشحة لها، ولا أعتقد أن أمريكا
سوف تحقق لها أي إنجاز يذكر إن لم تحقق هزيمة منكرة لها في المنطقة عندما
تصبح في مواجهة المظلوم الذي ليس أمامه إلا أن يدافع عن نفسه كالمثل الفلسطيني
تماماً. القوة الظاهرة في مواجهة المظلوم الذي يجب أن يدافع عن نفسه، فابتكر
الوسائل التي حقق بها إنجازات ربما يستطيع المثل العراقي أن يقدم هذا الإنجاز
عندما يجد أن الشارع العربي والإسلامي من حوله لا يقبل هذا الإجرام وحالة
السكوت التي يتواطأ عليها الساكت والمعتدي؛ عندها سوف يحدث ما لم تتوقعه لا
أمريكا ولا غيرها.
والحقيقة أن المتتبع لوتيرة الانتفاضة والعمليات الاستشهادية في الفترة الأخيرة
يقول إنها ازدادت بصورة غير متوقعة عما كانت عليه من عام 1994م وحتى عام
2000م؛ بمعنى أنه كلما ازداد الإجرام الإسرائيلي مدعوماً من أمريكا كلها كان رد
الفعل القوي في الدفاع عن النفس أقوى؛ ولذلك وإن لم تشأ أمريكا فهي استطاعت
أن تسعر برنامج المقاومة ضد الكيان الإسرائيلي بزيادة حجم الإجرام على المحتل
ضد الشعب الفلسطيني.
البيان: الأنظمة الغربية والعربية تضغط بشدة على السلطة الفلسطينية لوقف
الانتفاضة والسلطة الفلسطينية تضغط بشدة على المقاومة الفلسطينية ...
فما الموقف المتوقع إزاء هذه الضغوط، وخاصة أنَّ اليهود والدول الغربية تطالب
السلطة باعتقال القيادات الإسلامية الفاعلة؟
- د. هشام فرارجة: أصبح جلياً أكثر من أي وقت مضى أن زخم هذه
الانتفاضة وعنفوانها هو أقوى من كل الضغوط سواء كانت محلية أو إقليمية أو
دولية كان هناك ومنذ الأسبوع الأول للانتفاضة رغبات جامحة ومتشابكة على
مختلف الصعد، وربما من مختلف الاتجاهات من أجل إضعاف هذه الانتفاضة
وتقويضها، وأيضاً من أجل التلويح في التخوفات نتيجة لاستمرار هذه الانتفاضة،
ولكن الحقيقة الساطعة في الشارع الفلسطيني كانت أقوى من كل الضغوط ومن كل
المحاولات في بادئ الانتفاضة والمخاوف والتخوفات التي كانت تبرز من حين
لآخر وعندما يجري لقاء سياسي هنا وهناك. أعتقد الآن بأنها قد تلاشت وبأن حالة
الانتفاضة، كظاهرة متكاملة أصبحت لا رجعة فيها حتى تحقيق أهدافها بطرد
وكنس الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعد تحقيق الاستقلال. الضغوط
ما زالت مستمرة على مختلف الصعد، وأعتقد أنه سوف يبقى مستمراً؛ فكلما
تصاعدت المقاومة فسوف يكون هناك تصاعد للضغوط، ولكن في تقديري أياً كان
الحال فإن الإرادة الميدانية الفلسطينية أثبتت جدارتها وجدواها بشكل لم يعد إزاءه
ممكناً بأي حال من الأحوال إيقاف هذه الانتفاضة وإحباطها إلا عندما تحقق أهدافها.
- د. محمود الزهار: هنا أتحدث عن مشاعر. أما موقفنا كحركة ورسمياً
فلا أريد أن أعلن عنه، ولكن أتحدث عن مشاعر، وهذه المشاعر مهمة بالنسبة لنا.
نحن نتحرك في وسط وبيئة نحترمها، ونستغل هذا الظرف استغلالاً طيباً
لمصلحة القضية الفلسطينية. لا أحد في الشارع الفلسطيني يقبل أن نعود لسياسة
اعتقال حماس لأنها تقاوم، أو نزع سلاحها لأنها تقاوم أو يطلق الرصاص عليها
لأنها تقاوم، أو توقف مؤسساتها الأجتماعية لأنها توزع بالعدل والإنصاف، ومن ثم
لن يقبل أحد من الشعب الفلسطيني أن يهدم مصدر من مصادر قوته. هذه واضحة
وهذه عبرة استخلصها كل الأطراف صافية واحدة في الشعب الفلسطيني، ولا يمكن
إعادة العجلة إلى الوراء، لا المقاومة تسمح ولا السلطة تريد أو تقدر، وعام 1994م
سوقت السلطة اتفاق أوسلو على أنه دولة وسيادة وقدس وسنغافورة الشرق وأن
المقاومة تقضي على الوليد الفلسطيني، وفي ظل هذا التزييف تم ملاحقة المقاومة،
وخلال 8 سنوات اكتشف الشعب هذا الوهم الكبير، والتف أكثر حول حركات
المقاومة، ومهما كانت الضغوط اليوم فلا أحد يريد أن يتسبب في كسر هذا الصمود
مقابل وعود من سراب.
البيان: أخفقت المنظمات العلمانية الفلسطينية منذ عقود طويلة في إدارة
الصراع مع اليهود حرباً وسلماً؛ فهل البديل الإسلامي مهيأ لتسلم دور الريادة؟
- د. محمود الزهار: في الحقيقة أنا أريد أن أقول إن العبارة الآتية أن
الإسلام هو الأساس وأن البدائل أخفقت. الإسلام هنا عمره 1423 سنة وإن كان
أقل من ذلك كوجود لأن الإسلام بدأ في فلسطين في عام 136 ميلادي. الإسلام هنا
أصيل وقاوم بأصالته كل أشكال الاحتلال. البدائل التي جاءت عن الإسلام لم تفلح
في تحقيق شيء، إذن العودة إلى الجذور هو الأساس.
البيان: بعد المحاولات المحمومة من اليهود أمنياً وعسكرياً على عزل
المناطق الفلسطينية وحصارها؛ هل تتوقعون أن تنجح السياسة اليهودية في وأد
الانتفاضة أو إضعاف قدراتها؟
- د. محمود الزهار: لو نجحت، لو كان مقدر لها أن تنجح لكان لها أن
توقف العمليات الأخيرة، وقلت لك إن أكثر من 65 من الإسرائيليين قتلوا منذ
عملية السور الواقي، وهذا أكبر دليل على إخفاقها. لو استعرضنا كل ما أصاب
الكيان الإسرائيلي في عام 1994م و 1995م يمكن ما وصل حجم الخسائر
الإسرائيلية إلى هذا العدد، ومن ثم الأرقام تقول إن الكيان الإسرائيلي أخفق.
صحيح أن هناك صعوبات قاتلة عندما يكون منع التجوال كاملاً لا تستطيع أن
تخرج سيارة ولا يخرج إنسان. عندما يخرج إنسان من بيته يتم إطلاق الرصاص
عليه سواء كان رجلاً أو طفلاً أو امرأة، عندما لا تستطيع السيارة أن تتحرك بما
فيها سيارات الإسعاف يصبح هناك صعوبات؛ لكن هذه الصعوبات نميز بينها وبين
الاستحالة، ليس هناك مستحيل في العمل. المجاهد في فلسطين ضد الكيان
الإسرائيلي.
- د. محمد الهندي: ضرب الانتفاضة وإضعافها هذا أمر وارد؛ فمن
الطبيعي أن نتأثر بالضربات والاجتياحات والتصفيات ... إلخ؛ لكن في كل مرة
ننهض أكثر قوة وأكثر إصراراً وأكثر عنفواناً وتصميماً على المواصلة، أي أن
إنهاء الانتفاضة غير وارد بالمطلق طالما لم يأخذ الشعب الفلسطيني حقوقه كاملة.
اغتال العدو الصهيوني قبل ذلك الشهبد د / فتحي الشقاقي؛ فهل أنهى ذلك حركة
الجهاد الإسلامي ودورها أم زادها قوة وصلابة؟ كما اغتال الشهيد يحيى عياش
فماذا كانت النتيجة؟ ويغتال اليوم الشهيد صلاح شحادة، وهو يكرر نفس النتائج؛
فطالما أن العدو الصهيوني لم يعترف بحقوقنا وأصر على إنكارنا ونفينا فمعنى ذلك
أن دماء كثيرة ستسيل على جانبي الصراع، وأؤكد هنا أننا الطرف الأقدر على
الصمود، وأننا سنثبت للعالم أننا لن نرحل من جديد من أرضنا فلسطين.
البيان: في المقابل هناك محاولات لم تتوقف من بعض الاتجاهات الفلسطينية
لقطف ثمرات الانتفاضة واستغلالها لمكاسب شخصية وحزبية ... فما رأي
الحركات الإسلامية في ذلك؟ وهل من سبيل للحفاظ على هذه الثمار اليانعة؟
- د. هشام فرارجة: بالتاكيد هناك من الفلسطينيين والانتهازيين
والمستثمرين لا أريد أن أقول الكثيرين، ولكن هناك البعض، دعنا نعود قليلاً إلى
انتفاضة 1987م تلك الانتفاضة أثبتت عمومية النضال الفلسطيني في كل قرية
ومخيم ومدينة وشارع ومن مختلف قطاعات الشعب؛ حتى أتت مجموعة ممن
يسمون أنفسهم بالمثقفين والمتسيسين الذين عملوا جاهدين على قطف ثمار تلك
الانتفاضة بطريقتهم من خلال إجراء اجتماعات مع الإسرائيليين ومع الأمريكيين،
ولكنهم في حقيقة الأمر قاموا بدور سلبي؛ حيث عملوا على قطف ثمار تلك
الانتفاضة وبطريقة خاطئة وبطريقة غير ناضجة سياسياً وهو ما قاد إلى مدريد،
ومن بعده إلى أوسلو والذي لم يثبت نجاعة في تقويض وضعف أواصر هذا
الأحتلال.
الآن انتفاضة الأقصى عام 2000م نجد أيضاً البعض من بين هؤلاء أنفسهم
يحاولون إجهاض هذه الانتفاضة بطريقتهم الخاصة. بعضهم يحاول فتح قنوات
سرية مع مسؤولين إسرائيليين، وبعضهم يحاول فتح قنوات أيضاً مع مسؤولين
أمريكيين؛ وكأنهم يتنافسون على من يريد أن يقدم للأمريكيين والإسرائيليين
إنجازات أكبر، كل ذلك أثر بعض الشيء على مسيرة الانتفاضة، ولكنه عمق
القناعة بضرورة استغلال هذه الانتفاضة وعدم السماح بإجهاضها من أي جهة حتى
ولو كانت جهة محلية من بين أشباه المثقفين والمتسيسين. وكانت هناك خطوة
أخرى وجدنا مجموعة لا تمثل حتى نفسها تقوم بإطلاق نداءات من أجل إيقاف
العمليات الاستشهادية ضد الإسرائيليين وكان نداؤهم متبوعاً بأجر من قوة غير
فلسطينية. إذن هو كان نداءً مأجوراً أوروبياً الآن بدلاً من أن يتوجه هؤلاء
القريبون من الإسرائيليين والأمريكيين بنداء إلى الرأي العام الإسرائيلي والأمريكي
حيث كان بالإمكان أن يستمع إليهم قاموا بتوجيه حرابهم وسهام عقولهم إلى الشارع
الفلسطيني محاولين بعث الفرقة والتشتت في هذا الشارع، ولكن سرعان ما انكفؤوا
على وجوههم دون أن يأبه بهم أحد حتى من قدموا لهم أجر ذلك النداء البائس الذي
لا يعبر إلا عن تهافت ثقافي ليس إلا.
- د. محمد الهندي: أي محاولات في هذا الاتجاه هي محاولات مفضوحة
ومحكوم عليها بالإخفاق. هناك للأسف مجموعة من المرعوبين المهزومين في
صفوف الشعب الفلسطيني أرادوا الدخول إلى واشنطن من الباب الإسرائيلي من
باب شارون، وهناك من أدانوا العمليات الاستشهادية في الوقت الذي اجتاح العدو
الصهيوني بدباباته وطائراته واستباح مدننا وقرانا ومخيماتنا ودماءنا وحلمنا، ولكن
المثير في الأمر أن شارون لم يعطهم فرصة للتنفس ولم يمنحهم أي انتباهة أو أهمية
؛ ففي نفس الوقت الذي يدينون فيه العمليات الاستشهادية ويعلنون تفهمهم لإلغاء حق
العودة للاجئين تقوم دبابات شارون باجتياح مكاتبهم ومحاصرة الجامعة التي
يديرونها في استخفاف واضح. إن شعبنا في فلسطين يتجاوز كل هذه الدعوات
المشبوهة وهذه الخزعبلات المشوهة لنضاله بأسرع مما يتصور أصحاب الدعوات
نفسها.
- د. محمود الزهار: الثمار غير الناضحة هي ثمار سامة، وحاول البعض
سابقاً أن يقطف هذه الثمار، وكانت غير ناضجة فتسمم بها، فإما وصف بالفساد أو
قتل نتيجة الفساد أو وضع في السجن نتيجة الفساد، أو فقد مصداقيته أمام كل الناس
وأمام العالم كله نتيجة هذه الثمار الفاسدة. نحن لا نتعجل الحقيقة قطف الثمار،
والثمرة الوحيدة التي نريدها هي تحرير فلسطين، وعندما يتم تحرير فلسطين هذه
هي الثمرة التي نعتبرها ناضجة، وتحرير فلسطين يستدعي أيضاً تأسيس الدولة
الكبرى ذات الحضارة والدور الحضاري المعروف والإدارة الإسلامية المعروفة؛
نحن جزء من كل وليست قضيتنا منغلقة على حدود فلسطين فقط؛ ولذلك عندما يتم
تغيير الواقع من حولنا فسنكون نحن بإذن الله جزءاً من هذا التغيير.
البيان: كيف ستحافظون على هذه الثمار اليانعة؟
- د. محمود الزهار: قوة الحركة وعلاقتها بالشارع الفلسطيني والتحولات
التي تجري في الشارع الفلسطيني بدعم الحركة واحدة من الضمانات الهامة بعد الله
تبارك وتعالى.(180/34)
نص شعري
نشيد الصمود.. من جروزني
د. محمد بن ظافر الشهري
alshahri_m@yahoo.com
يميناً قطعناهُ منذ الأزلْ ... بألاَّ نهونَ وألا نَذِلْ
وألاَّ نُطأطِئ هاماتنا ... لشيءٍ سوى الله مهما حصل
وما حل في دارنا عُنوة ... سفيه من الناس إلا سُحِل [1]
فنحن الضراغم في غابِها ... ونحن بنو الفاتحين الأُوَل
إذا ما تَضَوّعَ عَرْفُ الوغى ... تفيض خواطرنا بالجذل [2]
ولسنا نمَلُّ إذا سُعّرَت ... مقارعةَ الشُّوسِ حتى تَمل [3]
ولسنا نهابُ لدى الحرب أن ... نموت فكم من عظيم قُتل
وكم زَهد الموتُ في خائرٍ ... كِنَازٍ فنُكِّس حتى رَهِل [4]
أرينا القلوبَ ضريحَ الهوى ... ورُمْنا ذُرى الطَّود فوق الأَسَل [5]
فما أَيِسَ القلبُ إلا سلا ... ولا دُهِك الحَزْنُ إلا سَهُل
وصَيْد المَحار مُحالٌ إذا ... كففتَ ثيابكَ خوفَ البَلل
وما طلبَ الخُلْدَ من صادقٍ ... وسارَ على الدربِ إلا وَصَل
بنو الصِّيد نحنُ وهل يَرتضي ... سليلُ الملوك حياةَ الخَوَل [6]
جِراحُ الجُسوم لها طِبُّها ... وجرح الكرامة لا يندمل
وموت الشعوب خيارٌ لها ... من العيش إنْ هي لم تستقل
إله الخليقة أنت الذي ... يؤمَّل في كل خطب جلل
قد انتفش الكفرُ مستكبراً ... وأنت الكبير الأعزُّ الأجلّ
ومن ذا سواكَ له هيبةٌ ... إذا ما تجلى تدك الجبل
ومن ليس يغلبه غالب ... ومن لا يرد ظليماً سأل [7]
تزول العروشُ وإن أُجِّلَت ... وعرشك أنت الذي لا يُثَل [8]
كفرنا بمجلس حَيف وإن ... تستَّر زوراً بزَيْن الخُلَل
أيوصف بالعدل في حكمه ... وعن كل خطة عَدْل عَدَل
وفي كل ظلم له سهمه ... وعن كل مَظلمة قد غَفل
رأينا أيادِيه في صربيا ... عرفناه حين «أمات الأمل»
عرفناه حرباً على ديننا ... وسلماً لما دونه من مِلَل
فليس سوى الله مِن كاشف ... لضرٍ بساحتنا قد نزل
وما خاب من يشتكي ضُره ... إلى الله حين تضيق السُّبُل
فهيئ لنا رَشَداً ربنا ... فبالأمس كنا ولمَّا نَزَل
نُكابِد نارين أذكاهما ... عدوٌ طغى وقريبٌ خَذَل
رويدك يا أيها المعتدي ... فعينك بالنصر لن تكتحل
أَغَرَّكَ هذا العتادُ الذي ... جمعتَ وأقسمتَ ألا يُفَل
وأنَّا قليل وأعداؤنا ... كثير وإخواننا في شُغُل
فإما نكوننّ في قِلَّةٍ ... ففي القادسية كنا أقل
إذا فَتَن التبرَ حَرُّ اللظى ... أُبِينَ الرديءُ وبان الزَّغَل [9]
توكلتَ أنت على آلةٍ ... ونحن على ربنا نتكل
وما كان رب الورى مسلماً ... فريقاً هدى لفريقٍ أضَل
__________
(1) سحل: سحق.
(2) تضوَّع: فاح، الجذل: الفرح والسعادة.
(3) الشوس: الشجعان.
(4) كناز: ممتلئ لحماً، رهل: ترهل.
(5) الطود: الجبل الشاهق، الأسل: الرماح.
(6) الصيد: الملوك، الخول: الخدم.
(7) ظليماً: مظلوماً.
(8) يثل: يهدم ويزال.
(9) الزغل: الغش.(180/46)
قصة قصيرة
سوف
سامي بن محمد العبودي
تردد في بداية حياته وسوّف ... كان شاباً قوياً مفتول العضلات يمتلئ نضارة
وحيوية ... لكنه قال حينما عُرض عليه الموضوع: أنا مشغول بالدراسة
والاستذكار في الوقت الحاضر والعمر أمامي ... وبعد تخرجه وإنهائه للدراسة
الجامعية قال: ليس الآن، بل بعد الزواج ... وحينما تزوج لم يذهب؛ لأن زوجته
كانت حاملاً ولا يستطيع تركها وحدها على حد زعمه ... وبعد أن وضعت قال:
سأؤجل هذا الأمر حتى يكبر ابني قليلاً ويستغني عن أمه، وأستطيع اصطحابها
معي ... كبر ابنه وفُطم لكنه أجل الموعد؛ لأن الجو شديد الحرارة والشمس محرقة
هناك ...
مرت السنون وتوالت المواسم وصاحبنا يؤجل ويسوّف مع يسر حاله ...
اشتغل ببناء منزل جديد، واحتج به لتأخير هذا العمل ... وفي أحيان كثيرة كان
يعزم بشكل أكيد، وحينما يحين الموعد ويحل يتردد ويفتعل الأعذار والأسباب لعدم
قدرته في ذلك العام، وعندما يرى الناس قادمين إلى ديارهم يحزن ويتأثر أشد التأثر؛
لكن هذا الحزن والأسف لا يستمر طويلاً ولا يثمر تصميماً أكيداً، وفي سنوات
عديدة كان يحل هذا الموعد وهو مسافر خارج البلاد إما في سياحة أو لأجل عمل
دنيوي، فينشغل بهذا العمل ويتشاغل بهذا السفر، ويفوت الموعد وينتهي ...
أحس أن صحته وحيويته تتأخر من عام إلى آخر، وأن قوة الشباب وفتوته
أعقبها ضعف الكهولة ووهنها، فعزم ألا يفوّت هذه السنة بأي حال من الأحوال
وأخذ يستعد ويتهيأ، وقبل الموعد أصابته نوبة قلبية نقل على إثرها إلى المستشفى
ليبقى في غيبوبة مات بعدها ... مات وهو لم يحج ... مات وهو لم يحج ...
رحماك ربي!!(180/47)
نص شعري
مأساة جنين
صالح الهنيدي الزهراني
salh8@hotmail.com
طفلة فلسطينية ولدت أثناء الغزو الإسرائيلي الغاشم على مخيم جنين فأسماها
والدها (جنين) .
في زمان الصمت والغدر المشينْ
ولدت في لُجة الحقد الدفينْ
طفلة أرهقها الوهن
وأشقاها الألمْ
وعلى وجناتها الحلوة آثار سقمْ
ولدت والكون يحكي
قصة الإجرام في دنيا السباتْ
وزئِير الغدر من صدر المماتْ
ولدت والعالم المشؤوم ينظرْ
بعيون الصمت يبصرْ
ويرى قصة إرهاب الخنازير
على أرض (جنين)
آه من أرض (جنين)
ولدت فاستبشر الوالد بالنصر
فأسماها (جنين)
كي تكون الشاهدَ الفعلي للمأساة
في أرض (جنين)
ولدت تبصر آلاماً وتقتات الأنينْ
ولدت والموت يهذي
وعلى أصواته رجف المدافع
وعلى نغماته حزن السنينْ
ولدت ترضع أحقاداً
لأبناء اليهودْ
وترى في غيبة العدل
انتهاكات اليهود
ورأت صورة وجه الذل
بادي القسماتْ
وتبدّت هامة العزة فوق الشمس
بل خلف الكواكبْ
** ** **
يا (جنين)
يا عقود الشوق في نحر القضيَّة
يا هدايا الحب من رب البريَّة
آه ما أحلى الهديَّة
يا (جنين)
يا زمان الوعد بالنصر المبين
يا ثمار اللوز
في صحراء دنيانا الدنيَّة
يا بشارات الأماني في ليالي اليأس
يا نبع الأملْ
يا عيوناً طرفها من صورة
القهر اكتحلْ
وعلى وجناتها الغضة ليل الظلم حلّ
يا (جنين)
أوَ ما أبصرت جيش الغدر
يجتاح المنازلْ؟
أوَ ما أدهشك الموت
على الأحباب نازلْ؟
أوَ ما قلتِ وعيناك غزاها الدمع:
ما هذي المهازل؟!
أين قومي؟!
أين صوت الحق في هذي النوازلْ؟!
أين هم؟
أين صلاح الدين؟! أين المسلمون؟!
ما لكم لا تسمعون؟ ما لكم هل تجزعون؟
** ** **
يا (جنين) !
أوَ ما شاهدت أصحاب الكراسي
عندما ناموا
على جرح المآسي
عندما أغمض كل منهم الطرف
وأحنى للنعاس
أوَ ما أبصرت قومي
في ذهول المعمعة
وتغشاهم سكونُ الموتِ والذلِّ
ولحظاتُ الدعة
فغدونا حائرين لست أدري
هل على الكافر أم نحن معه
** ** **
يا (جنين)
ما نسينا أبداً صبرا وشاتيلا
ودير ياسين كلاّ
وجراحَ القدس والأقصى
ولا الماضي تولّى
ما نسيناها ولن ننسى مآسي أمة
تبحث عند الغرب حلاَّ
يا (جنين)
لستِ طفلة
لستِ إلا صرخة في وجه صناع القرار
لستِ إلا قنبلة
لستِ إلا صرخة الحق تدوي
في زمان الصمت في دنيا الذهول
أعلنيها يا (جنين)
«أن يوم الحق آت هكذا قال الرسول»(180/48)
نص شعري
صانع المجد
نافع خليل يوسف
...
شعبنا يصنع مَجْدَهْ ... يكتب التاريخَ وَحْدَهْ
ولذا هبَّ وَحيداً ... ومضى يُنفِذُ عَهدَه
لم يخف بطش عدوٍّ ... وانبرى يُبْطلُ كَيْدَه
إنه خصم لئيم ... غادِرٌ يَنْفُثُ حِقْدَه
شعبنا ما هان يوماً ... لم يُدِر للبغي خَدَّه
فهو قد ضَحَّى وعانى ... وغدا يُنجز وَعْدَه
فانظروه كيف يحيا ... صامداً من دون نَجْدهْ
واجه الشَرَّ بعزم ... وتَحدّاهُ وَجُندَه
غارةٌ في كلِّ حين ... تقتل الشعب وأُسْدَه
نحن في كرٍّ وَفَرٍّ ... أفرزا الشيءَ وضِدَّه
إنها حرب ابتلاءٍ ... حربُ إيمانٍ وَرِدّهْ
شعبنا عاف امتهاناً ... سيفنا قد ملَّ غمدَه
قد طرقنا كل باب ... وَتوسلنا الموَدّهْ
غير أنَّا قد خُدِعنا ... ووجدنا السلمَ عُقْدهْ
فهو عارٌ وشَنَارٌ ... ثم تفريط «بِعُهْدهْ»
ولذا نحن نهضنا ... كلنا يَبْذُل جهدهْ
وعلى الله اتّكلنا ... وهو من ينصر جُنْدَه(180/49)
نص شعري
قصة أفول نجم
محمد بن يحيى
لقد أفل النجم حين الممات
وقبل الأفول..
بدا النجم بالعز والمكرمات
وبعد الأفول..
تنادى الجميع لدفن الرفاة
وحين الأفول..
سيول الدموع بدت دافقات،
وجمع كبير من الباكيات
وما كان كل البكاء سواء!
فدمع تراه غزيراً كثيراً
وما ثم إلا الرياء
ودمع بلا أعين باكية،
يراق طويلاً رجاء الثناء!!
ونيل العطاء.
ودمع عيون بدت خائنات..
تحب كثيراً أفول النجوم
وتعشق ترداد حب الهداة
إذا حان وقت الأفول الطويل.
ولكن على الرغم ممن هناك
وممن هنا!
وممن سعى نحو أعدائنا!
دموع الوفاء بدت ساخنات
على رغم صبر جميل جميل
وأعطت مواثيقها طائعات لرب السماء،
سنمضي ووجهتنا ربنا
سنمضي وعزتنا ديننا
ستعلو قريباً ألوف النجوم
وإن أفل النجم يوماً..
سيبقى المعين الذي يستقي الناس منه الضياء(180/49)
قراءة في كتاب
أهداف الجامعة الأمريكية بالقاهرة 1920 ـ 1980م
د. سهير حسين البيلي
دار فرحة للنشر والتوزيع - مصر
عرض: وائل عبد الغني
«إنه لا يوجد شخص يستطيع أن يقضي أربع سنوات في الجامعة دون أن
يكتسب السلوك الخلقي والمثل العليا الجديدة التي ستحول حياته بشكل كامل عقب
تخرجه في الجامعة» .
- وليم هل -
الدراسة التي بين أيدينا دراسة وثائقية نالت بها كاتبتها درجة الماجستير،
غاصت فيها الباحثة في الوثائق الخاصة بالجامعة وأخرى خاصة بالدولة لتكشف عن
الدور الذي لعبته الجامعة الأمريكية في القاهرة خلال ستين عاماً من عمرها
1920 - 1980م، وتثبت الدراسة مجموعة حقائق تتبلور عن حقيقة كلية هي أن
التجربة الأمريكية الاستعمارية تفوقت على التجربة البريطانية تماماً، كما تفوقت
التجربة البريطانية على التجربة الفرنسية، وقد أشاد اللورد كرومر بالتعليم
الأمريكي بقوله: «إنه ليس لدي أي تردد في إظهار نتيجة ما يزيد على 23 عاماً
من الخبرة بأن مدارس التبشير الأمريكي وكلية أسيوط البارزة أحدثت إنجازاً كبيراً
وتقدماً جيداً للتعليم والحضارة في مصر» .
وقد قامت هذه المدارس بعشرة أضعاف الجهد الذي قامت به بريطانيا في
سبيل نشر التعليم واللغة الإنجليزية في مصر.
والنموذج الأمريكي المتمثل في الجامعة بالذات كان أذكى بكثير في مدخله
وأساليبه؛ فما تركت مجالاً إلا وأثرت فيه، ولم تدع فرصة إلا واقتنصتها، فكان
لها مع كل حادثة حديث، ومع كل فرصة نقلة.
وتعد الدراسة توثيقاً لصفحة من تاريخ الأمة يكشف اختراق الجامعة الأمريكية
للمجتمع العربي من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه، وبصورة محببة وجذابة
تخطت بصورة مذهلة ما عجز عنه نظام دنلوب؛ فالاحتلال البريطاني ظل احتلالاً،
وقد كان له أثره في الأمة، أما التجربة الأمريكية التي لم تنته فصولها بعد فتمثل
نوعاً جديداً من الاستعمار هو الاستعمار النفسي الذي بدأ على عكس التجربة
البريطانية بالتعليم وانتهى بالعسكرة.
ونظراً لأن محور الكتاب هو أهداف الجامعة في الفترة المحددة للدراسة فقد
مايزت الكاتبة بين أربع مراحل من عمر الجامعة تم تقسيم الكتاب على أساسها هي
عنوان لأربعة فصول من فصول الكتاب الثمانية، وقد استكملتها الكاتبة بشرح
المقدمات والظروف والعوامل التي مكنت الجامعة الأمريكية من تحقيق أهدافها.
** الفصل الأول: خضوع مصر للهيمنة الاستعمارية وتغلغل التعليم الأجنبي.
وهو عن المقدمات الطبيعية التي مهدت لنشأة الجامعة، والتي كان لها أثرها
المباشر في انتشار التعليم الأجنبي بصوره المختلفة: (الطوائف غير الإسلامية -
الجاليات الأجنبية - مدارس الإرساليات والفرق الدينية) .
وهي العوامل الداخلية (السياق الاجتماعي) والعوامل الخارجية (السياق
العالمي) .
أما عن العوامل الداخلية فكان أبرزها الانهيار الاقتصادي نتيجة لسوء إدارة
الاقتصاد، وتحكم نظام الإقطاع، واحتكار الدولة لوسائل الاقتصاد؛ نتيجة لسياسات
أسرة محمد علي المنفتحة على الغرب من أجل ترسيخ أطماعه في مواجهة الدولة
العثمانية، وهو ما فتح الباب أمام التدخلات الأجنبية في مصر سياسياً واقتصادياً،
وهو ما تولد عنه نظام الامتيازات الأجنبية التي أعفت رعايا الدول الأجنبية من
القوانين المحلية ومن الضرائب ومن أي التزام أمام الحكم الداخلي، وهو ما فتح
الباب على مصراعيه لهجرة كثير من رؤوس الأموال والصناع وأصحاب الحرف
إلى مصر والاستقرار فيها، وحيث ذهب رأس المال الأجنبي تسللت الإرساليات
الدينية في إثره، خاصة أن سياسة محمد علي لم تضع العامل الديني في الحسبان،
فتصرف الأجانب بحرية تامة خاصة بعد أن ألغيت القاعدة التي كانت تحتم عليهم
الحصول على تصريح من الحكومة لبناء كنيسة أو ترميمها أو إعادة بنائها، فأخذوا
يقيمون الكنائس ويلحقون بها المدارس المختلفة بحجة تعليم أبنائهم، كما كان لافتتاح
قناة السويس دور خطير في زيادة التغلغل الأجنبي واللجوء إلى سياسة القروض
التي لعبت دوراً في التدخل المباشر في أمور البلاد.
وقد قدم الخديو سعيد وإسماعيل المساعدات والدعم لهذه الإرساليات إرضاء
للدول الدائنة، وقد أدى هذا الأمر إلى تغلغل الثقافة الغربية التي بدأت مع حملة
نابليون واستمرت مع تبني أسرة محمد علي للمشروع الغربي للتحديث، واتسعت
مع عودة البعثات من أوروبا لإدارة أمور البلاد بدرجة ولدت انقلاباً في ثقافة البلاد
خاصة في عهد إسماعيل الذي شهد تأسيس عدد من الجمعيات العلمية وانتشار
الصحف بمختلف اتجاهاتها، وظهور الصالونات الفكرية والثقافية. لكن كل هذه
العوامل ما كانت لتحقق آثارها لولا تأخر التعليم في مصر.
أما العوامل الخارجية (السياق العالمي) التي عجلت بتحقق الهيمنة:
فأولها: الامتيازات الأجنبية التي أدت إلى تضاعف عدد الأجانب عشرين
مرة بين عامي 1836، 1846م كما تزايد لأكثر من أربعة أضعاف بين عامي
1846، 1917م.
ومن ثم توسعت الإرساليات التبشيرية في بناء الكنائس والمدارس والجمعيات
من أجل السيطرة على المجتمع المصري، كما توسعت في إصدار الصحف
والمجلات والكتب التي أنشئت لمتابعة الدراسات الاستشراقية.
والأمر الثاني: هو أن التنافس الاستعماري على مصر كموقع كان باعثاً
للتنافس التنصيري من أجل حل المسألة المصرية.
إلى جانب الهيمنة الاقتصادية التي بدأت بمعاهدة لندن، وتوسعت في عهد
إسماعيل حيث سادت في عهده الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، وكان من
جرائها بسط السيطرة الأجنبية على مصر خاصة بعد تغول الرأسمالية العالمية في
القرن التاسع عشر، والتي سعت إلى الاستحواذ على مناطق شاسعة من العالم
لاستنزاف مواردها واقتصادها، وقد كانت مصر أرضاً خصبة في هذا المجال.
كما كان للرحالة الأوروبيين الذين وفدوا على مصر وعلى رأسهم السان
سيمونيين دور في تهيئة الأوضاع، فقد جلبوا معهم أفكاراً جديدة كان لها أثرها
ومنها الفن للفن، وضرورة إقامة مدارس للفنون الجميلة للعناية بالموهوبين، وقد
رددت الصحافة أفكارهم وتأثر بها عدد من المثقفين.
كل هذه العوامل جعلت من مصر أرضاً ممهدة أمام للتعليم الأجنبي ومجالاً
خصباً للنفوذ والهيمنة الاستعمارية.
وقد بلغ عدد المدارس في عهد إسماعيل حوالي 70 مدرسة، وتخرج فيها عدد
كبير من رجال الأعمال والمهن في مختلف النواحي الاجتماعية، ونال كثير منهم
الحماية الأجنبية بواسطة القناصل فصاروا في حكم الأجانب في انتمائهم وميولهم،
وأمام هذه المغريات زاد عدد المدارس.
** الفصل الثاني: التعليم الأمريكي في مصر: النشأة والتطور.
جاء في تقرير مجموعة من المبشرين: (إن القاهرة تعتبر نقطة مهمة وهي
المدينة الثانية في الإمبراطورية التركية) .
وقد بدأت الإرسالية الأمريكية العمل في مصر مع بداية عام 1850م تحت
مسمى (الرسالة المشيخية الاتحادية الأمريكية) ، ومنذ اليوم الأول ترافق النشاط
التعليمي مع النشاط التبشيري.
وقد أنشأ الأمريكيون تحت لواء الهيئة المشيخية المتحدة عدداً من المدارس
على طول نهر النيل، كان من أشهرها كلية للرجال في مدينة أسيوط التي تعد
عاصمة إقليم الصعيد، وكلية للبنات في القاهرة كان لها دور تعليمي بين نساء مصر
عامة والقاهرة خاصة، وقد كان نشاط المدارس الأمريكية يتركز في عدد من
الأهداف: نشر المذهب البروتستانتي بين الأقباط أولاً والمسلمين ثانياً في مصر،
وكان لنشر المذهب دوافع استعمارية كشف عنها وليم هل: «إن مصر مستودع
للثروات التي لا تعد ولا تحصى» .
وقد كان لكلية أسيوط وهي تعليم ثانوي دور تنصيري كبير في صعيد مصر،
ويؤكد هذا كلام واطسن أحد صناديد المنصرين في تلك الفترة: «إن الاتحاد حقق
غرضه بالفعل وتنصر اثنان وستون طالباً في عام واحد، وفي عام آخر تنصر
خمسة وثلاثون آخرون، كما وهب سبعون من أعضاء الكلية أنفسهم للعمل
التنصيري أيضاً» .
وكان التركيز في تلك الفترة على الطبقة الفقيرة من خلال تبني أفرادها
واحتوائهم وتقديم التعليم المجاني لهم، ثم إيجاد فرص عمل مناسبة ضمن نشاطها،
وكان الشرط الأساسي لذلك هو عضوية الشخص للكنيسة الإنجيلية وانتماؤه إليها،
والدعوة إلى مذهبها بين أقرانه وذويه وأصدقائه، وفي نفس الوقت اتخذت الإرسالية
من الطبقة الغنية سنداً لها بتقديمهم الدعم المادي والمعنوي لأنشطتها.
وأدى انتشار الأفكار الغربية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر إلى
تحولات واسعة في كافة المجالات وبخاصة الأفكار المتصلة بالتعليم.
وسعياً في تطوير الآليات الموجودة رأت الإرسالية القفز بمستوى التعليم من
أجل إعداد جيل من القادة، وتم بالفعل إنشاء كليات مجهزة تجهيزاً جيداً في كل من
القاهرة وبيروت وإستانبول من أجل تسريب المبادئ النصرانية إلى الطبقة المثقفة
على وجه الخصوص وإلى بقية الطبقات بالتبعية.
** الفصل الثالث: نشأة الجامعة الأمريكية في القاهرة.
يتجه الاهتمام في هذا الفصل إلى إلقاء الضوء على نشأة الجامعة الأمريكية
بالقاهرة والظروف التي واكبتها، والأهداف التي أنشئت الجامعة من أجلها.
فقد تأسست الجامعة الأمريكية في الخامس عشر من أكتوبر 1920م بعد رحلة
طويلة من المبادرات والنقاشات والرسائل المتبادلة واللقاءات وجمع المعلومات.
وكان الغرض من الجامعة هو أنها:
- سوف تخدم 24 مليوناً من المتحدثين بالعربية وتغطي الشمال الإفريقي.
- التواجد الثقافي في مصر حيث المكانة الاستراتيجية كمركز فكري للعالم
الإسلامي له أهميته عند المبشرين، حيث الأزهر، وما يزيد عن مائتي دار
للطباعة والنشر يصل إنتاجها إلى مراكش وجاوا والصين، كما يتدفق نحو
القاهرة جموع من المسلمين الرحالة من كل مكان لأهداف دينية وتجارية، وأعدادهم
تفوق بكثير أعداد الحجاج الذين يتوافدون أفواجاً في أشهر الحج على مكة، ولهذا
كان عدد المنظمات التبشيرية ضخماً في تلك المرحلة.
- تحتاج الساحة إلى لون جديد من التبشير يتفوق في شكله ومحتواه على
الصور الموجودة.
وقد أكد المؤسسون في لقاءاتهم ومراسلاتهم على أن تكون شخصية الجامعة
مسيحية، وكان من بين المشاركين في وضع المعالم الرئيسية لشخصية الجامعة
زويمر وجون موط السكرتير العام لجمعية الشبان المسيحيين الأمريكيين، وبالفعل
ولدت الجامعة نصرانية بروتستانتية تبشيرية بنسبة 100% [1] .
ومع الميلاد بدأت الجامعة في مد الصلات مع كل القوى التي يمكن أن
تساندها، ونالت الجامعة تأييد لوردات الاحتلال على تتابعهم، كما رحبت الصحافة
المصرية لسان حال الحكومة ترحيباً حاراً، أما السلطان فؤاد فقد دعا واطسن رئيس
الجامعة للعمل ضمن لجنة عامة لدراسة برنامج التعليم القومي، وكانت هذه الدعوة
أقوى دعم يمكن أن تناله مؤسسة تعليمية في ذلك الوقت، بعد أن أقامت اتصالاً بينها
وبين وزارة المعارف بما يعني مد نشاطها إلى خارج أسوارها.
أما عن التوجهات الأساسية فقد أجملتها الباحثة في ثلاثة توجهات: ديني -
أكاديمي - اجتماعي.
وكان التوجه الديني هو المقدم كما تؤكده وثائق الجامعة، حيث كان الهدف
الأكبر هو ضمان الشخصية المسيحية، وتأثيرها الواسع، وتنمية الولاء المسيحي
عبر التبشير البروتستانتي بين المسلمين عامة في مصر ومحيطها الديني والثقافي.
أما التوجه الأكاديمي: فقد كان مسخراً لإنشاء تعليم على مستوى عال يمكِّن
من إعداد نخبة يمكن أن توسد إليها الأمور في المستقبل القريب، وكانت الأقسام
المقترحة: قسم التعليم العالي - كلية إعداد المعلمين - كلية لاهوتية - كلية الزراعة.
كما افتتحت كليات لاحقاً في الطب والهندسة والصحافة إلى جانب كلية الخدمات
التعليمية الممتدة التي تقدم دروساً ليلية.
أما التوجه الاجتماعي: فقد كان من بين الأهداف المعلنة التي تتعلق بتطوير
المجتمع المصري بحيث يصبح ذا خصائص ثقافية غربية بديلة للعقائد والتقاليد
والخرافات السائدة في ذلك الوقت، كما اهتمت بقضية المرأة تحت مسمى التحرير،
وبعبارة أوضح صبغ المجتمع بالصبغة الأمريكية من خلال تعليم أبناء الصفوة
العقيدة المسيحية وتنمية العقلية المتحررة لديهم ثم تحركهم لتغريب المجتمع ككل في
مرحلة لاحقة.
وقد بدأت الجامعة عملها الرسمي بالأقسام التالية:
- كلية الآداب والعلوم على مستوى الثانوية وكانت على قسمين:
* قسم الآداب ويدرس باللغة الإنجليزية وفق النظام الأمريكي.
* قسم الحكومة باللغة العربية وفقاً للنظام المصري مع إضافات أخرى.
- مدرسة الدراسات الشرقية وهي تطوير لمدرسة تدريب المبشرين التي
أنشئت في مصر عام 1913م التي كانت تدعى «مركز القاهرة للدراسات» .
- أما قسم الدراسات الممتدة فقد افتتح في عام 1924م للإسهام في فحص
المجتمع المصري، وجمع أكبر قدر من المعلومات عنه وبناء تصور لمشكلاته،
ومن أهداف هذا القسم: التأثير في الخلفية الاجتماعية لطلاب الجامعة الشرقيين،
وفي الأقطار المسلمة (عادات وتقاليد اجتماعية) التي تمثل أكبر عائق أمام تغريب
الطلاب، والتأثير في طلاب الجامعة الذين سيناط بهم قيادة المجتمع في المستقبل،
وقد كان القسم حريصاً على توصيل مفاهيمه لأكبر قطاع من المجتمع؛ ولذلك
استحدث عدداً ضخماً من الوسائل والأساليب التي يتمكن من خلالها الاتصال بأكبر
قطاع ممكن من المجتمع، وقد وظفت المحاضرات والنشرات الشهرية والفصلية
والسينما التعليمية أسبوعياً والأمسيات والمناقشات في العلوم الاجتماعية ومصلحة
رعاية الطفل التي كانت تابعة للقسم، وكانت بعض المحاضرات التي يقدمها القسم
تعقد خارج الجامعة في بعض المدن والقرى لاجتذاب اهتمام أكبر عدد من الناس.
- كلية التربية (1926م) : وكانت تهدف إلى التأثير في التعليم المصري
وفي البلاد المجاورة من خلال نقل طرق التعليم الحديث إلى مصر، وكانت الكلية
تسعى لتحقيق أهداف الجامعة من خلال تأكيد المنظومة التربوية الغربية عموماً
والأمريكية على وجه الخصوص، وقد أصدرت الكلية صحيفة التربية الحديثة التي
كان لها تأثير خطير في كل من مصر وسوريا والسودان والعراق وجاوا
والحبشة وسنغافورة، ومع هذا الرواج حققت الجامعة من ورائها أرباحاً وفيرة، وقد
كان من أهداف الصحيفة إقامة اتصال مباشر في مجال التربية بين العالم العربي
والولايات المتحدة؛ ومع التوسع في التعليم المصري كانت هذه الصحيفة من
أكبر المؤثرات الثقافية في مصر.
- مركز البحث الاجتماعي (1953م) : وتم إنشاؤه بمنحة من مؤسسة فورد
أحد أخطر واجهات المخابرات الأمريكية، وقد اهتم هذا المركز بجانب المعلومات
وتحليلها من خلال توظيف الطلاب في مجال البحث الاجتماعي في المنطقة العربية،
والعمل على تدريب الطلاب في مجال علم الاجتماع وأساليب البحث العلمي،
وتشجيع الطلاب على مشروعات البحث الاجتماعي.
- معهد اللغة الإنجليزية: وقد تأسس في عام 1956م لتعليم اللغة الإنجليزية
للطلاب الراغبين في تحسين لغتهم الإنجليزية من أجل الالتحاق بالجامعة.
وفي الفصول الخمسة الباقية من الكتاب ترصد الباحثة مدى الثبات أو التغير
في أهداف الجامعة ومؤسساتها وطبيعة الظروف التي أدت إلى ذلك، وما نتج عنها
من سياسات تعليمية وأقسام جديدة لنرى كيف كانت الجامعة تنظر إلى الأمور من
واقع الوثائق المحفوظة لديها والتي أتيح للباحثة الاطلاع عليها في فرصة ربما كانت
نادرة.
وقد فرقت الباحثة بين أربع مراحل: مرحلة النشأة والاستقرار وهي أطول
المراحل (1920 - 1956م) ، ومرحلة ما بعد الثورة (1956 - 1963م) ، ثم
مرحلة التحول الاشتراكي (1963 - 1970م) ، ثم المرحلة الأخيرة مرحلة
الانفتاح وهي ما بعد 1970 وحتى حدود الدراسة 1980م.
** الفصل الرابع: الأهداف المعلنة والممارسات منذ عام 1920 - 1956م.
وقد حدد الهدف في البند الثاني من وثيقة الإنشاء ويتضمن «تقديم التربية
المسيحية لشباب مصر والأراضي المجاورة، وذلك عن طريق إقامة معهد تعليمي
على أعلى المستويات التربوية الفعالة، كي تظهر للعالم الإسلامي السمات الخلقية
للسيد المسيح [السلوك النصراني] ... » .
ولم يتوقف هذا الهدف المعلن عن الظهور في لوائح الجامعة السنوية على
مدار الأعوام من 1920 - 1956م وإن اختلفت الصياغة، حيث ظلت الوجهة
التبشيرية هي المحور الذي تدور حوله بقية الأهداف المعلنة من إعداد النخبة ونشر
الثقافة الأمريكية وخدمة المجتمع المصري، وكانت الجامعة تسعى لتحقيق أهدافها
من خلال أقسامها المختلفة.
أما عن وسائل تحقيق الهدف الديني فقد تعددت بين:
- اجتماع ديني يومي في كنيسة صغيرة بالجامعة وبصورة إجبارية، تقام فيه
الصلوات النصرانية ويقرأ فيه الإنجيل وتتلى خطب قصيرة في الأخلاق، وكان
الجميع يشاركون في إنشاد التراتيل (كان الطلاب المسلمون يمثلون ثلث الطلاب
في البداية) ، وقد انبثق عن هذه الاجتماعات جمعية الشبان المسلمين المسيحيين
التي تعد امتداداً في نشاطها لجمعية الشبان المسيحيين والتي مارست نشاطاً تنصيرياً
خارج أسوار الجامعة.
- محاضرات عامة عبر قسم الدراسات الممتدة الذي يفتح الباب أمام الاحتكاك
بالجماهير عبر المحاضرات والأنشطة الثقافية في الفترة المسائية لكن بصورة غير
ملزمة، وقد كانت قاعة إيوارت محفلاً لهذا النشاط الذي تطرق تقريباً لكل شيء،
يمكن أن يخدم الهدف الديني للجامعة.
وكانت القضايا تناقش دون تحفظ، وقد وجد أن أثر هذه الطريق بالغ مع
مضي الوقت في تقبل الكثيرين للعقائد النصرانية، وتضمنت المحاضرات كثيراً من
الشبهات حول عقائد الإسلام مما اختلقه المستشرقون، كما مررت هذه المحاضرات
العديد من الأفكار لقياس الرأي العام ودرجة الوعي، وكان من بينها محاضرة
بعنوان «هل ستنال المرأة حقوقاً وواجبات مساوية للرجل؟» والتي ثارت بسببها
ثائرة الناس، وشنت الصحف حينها حملات قوية على الجامعة، وكانت الجامعة
تطأطئ رأسها للموجة ثم تعاود الكرة من جديد.
كما عملت الجامعة على نشر أفكارها من خلال سلسلة أخرى من المحاضرات
التي يتخفى فيها الهدف الديني وتتحدث عن مواضيع من قبيل الرفاهية القومية
والصحة العامة، والتاريخ والعلوم، والمشكلات القومية، والأمور السياسية وكل
من هذه المجالات مرتبط بأهداف اجتماعية وثقافية ولكنها تحمل أفكاراً دينية لتأكيد
الغرض التبشيري.
وكان الحضور منوعاً من كل الطبقات؛ أعضاء برلمان، وأساتذة وطلاباً
بالأزهر، ونساء، وكبار رجال الدولة وعامة الناس، مما وضع الجامعة في أعلى
مكانة على الخريطة الثقافية في مصر.
كما كانت تُعرض أفلام تعليمية وأخرى مثل الفيلم التبشيري
«KING OF KINGS» الذي يعرض العقيدة النصرانية في المسيح عليه
السلام، وكان يعرض من عشرين إلى ثلاثين مرة كل عام قبل عيد القيامة، وقد
قامت بالفعل بتنصير عدد من الطلبة المسلمين مما حرك نوازع الغيرة الدينية
الشعبية ضد الجامعة، وقد نفَّس العامة عن هذه المشاعر كلما أتيحت الفرصة، وقد
تم اقتحام الجامعة وتحطيم مكوناتها مرات عدة على إثر كل غضبة شعبية ضد
المستعمر، كما حدث في حريق القاهرة وبعد العدوان الثلاثي وبعد نكسة 1967م.
- المناهج الدراسية: ويكفي هنا أن ننقل مقولة واطسن وهو يخاطب أصدقاء
الجامعة الأمريكية في القاهرة: «إني أتحدى أن ينجح أي منكم في اختبارات
الإنجيل التي يواجهها طلابنا في الجامعة الأمريكية في القاهرة» .
وقد شهدت مجلة الاتحاد المشيخي على طبيعة المناهج: «الجامعة الأمريكة
بالقاهرة كانت تقدم المبادئ المسيحية، وهذا البرنامج كان بعيداً عن أن يكون منهجاً
تعليمياً صرفاً، فالجامعة منظمة تبشيرية تستخدم التعليم للوصول إلى تحقيق
غرضها التبشيري بين الناس» .
- اختيار أعضاء هيئة التدريس: وقد نصت اللائحة الداخلية للجامعة عام
1954م على أنه عند تعيين الجامعة لهيئة التدريس يوضع في الاعتبار توافر
الشخصية المسيحية للشخص المراد تعيينه من أجل تحقيق الهدف التبشيري،
والمدرسون الأمريكيون خدم أغلبهم في الكنائس والاتحادات الدينية العالمية مثل
جمعية الشبان المسيحيين وجمعية الشابات المسيحيات اللتين كان لهما نشاط واسع
داخل الجامعة.
- الأنشطة الاجتماعية: والتي تمثلت في الأنشطة الرياضية والنشاط الثقافي
واتحاد الطلاب وقد وفرت هذه الأنشطة جواً اجتماعياً وتربوياً وثقافياً أسهم بشكل
فاعل في تعميق أفكار الجامعة لدى الطلاب، وامتداد نشاطها خارج أسوار الجامعة،
وتدريب الطلاب على التأثير المطلوب في المجتمع.
- المناخ الجامعي: حيث الروح الكنسية والجو الليبرالي بمفهومه الأمريكي
حيث حرية التعبير والسلوك والعلاقة..
العلاقة التي تربط التلميذ بأستاذه ومحيطه الجديد، فقد كان الاحتكاك اليومي
بين المدرس والطلاب أقوى من كل التأثيرات الدينية [2] .
أما هدف إعداد النخبة الحاكمة وهو لا يقل أهمية عن الهدف الأول، وهو
يبدو إنسانياً في ظاهره لكنه محمل بأبشع أنواع الاستعمار.
وقد أكدت جميع وثائق الجامعة على شعار: «التعليم الشامل للصفوة» ولم
يكن غريباً عندما فتحت الجامعة أبوابها عام 1925م أن نجد أن الطلبة المدرجين في
قوائمها من الطبقات العليا في المجتمع 60% منهم مسلمون، وقد كان الطلبة
يتدربون على وسائل التأثير البعيد في الفكر والحياة في الشرق الأدنى وأجزاء
أخرى من العالم، وقد شغل معظم خريجي الجامعة الأمريكية بالقاهرة مناصب عليا
في المجتمع في مجالات الإعلام والسياسة والاقتصاد.
أما عن هدف نشر الثقافة الأمريكية:
فالجامعة كما قال واطسن «جسر صداقة» بين المجتمع الأمريكي والعالم
الإسلامي، وهي تدار بإدارة أمريكية وأموال أمريكية بغرض نقل القيم النابعة من
التجربة التربوية المسيحية التي تمارس في أمريكا إلى مصر، وتنمية التفكير على
أسس من الثقافة الأمريكية. وقد استخدمت في ذلك عدة وسائل هي:
- التعليم الحر.
- الحفلات الفنية والموسيقية وكانت الإذاعة المصرية تنقلها إلى مستمعيها.
- المحاضرات والمنتديات الثقافية التي تعتمد على العقلانية في النقاش.
- السينما التعليمية: وهي وسيلة ناجعة لبسط الهيمنة الثقافية الغربية وبناء مجتمع
متغرب.
وأما هدف خدمة المجتمع المصري:
فكان المراد من هذا الهدف نيل مصداقية عالية لدى الحكومة وعموم الشعب
نتيجة إظهار الاهتمام بمشاكل المجتمع، وهي في نفس الوقت تعد وسيلة مهمة
لفحص المجتمع المصري من حيث خصائصه النفسية والاجتماعية والدينية
ومشكلاته وأعراضه وأمراضه حتى يسهل التأثير فيه.
وهي كذلك وسيلة لتدريب الطلبة على حل المشكلات، وتوصيفها وتصنيفها
وفقاً للمنظور الأمريكي بخلفيته النصرانية، وعلى سبيل المثال قام 130 شاباً خلال
صيف 1932م بمناقشة الأوضاع الصحية في حوالي 13 مديرية من مديريات مصر
وقاموا بتوزيع حوالي 125 ألف بحث تنظيم وحوالي 3195 استمارة مقابلة.
كما ساهم قسم الدراسات الممتدة بفصول مسائية لأصحاب الوظائف الحكومية
الدنيا، وآخرين ممن يريدون الحصول على درجات علمية في التعليم المسائي.
كما قام مركز البحث الاجتماعي بدور خطير في كشف دقائق الأمور وتحليل
المشاكل الاجتماعية في مصر ودول الشرق الأوسط، وبهذا تتمكن الولايات
المتحدة من ترسيخ الهيمنة الثقافية على المجتمع المصري.
** الفصل الخامس: المتغيرات العالمية والمحلية الميسرة لثبات الأهداف
1920 - 1956م.
أما على المستوى الداخلي فقد أسهمت ثلاثة تيارات فكرية في تهيئة الأوضاع
للجامعة وهي الفكر الليبرالي والفكر الشيوعي بثقافته الغربية والتيار العقلاني بقيادة
الشيخ محمد عبده، وقد مهد الثلاثة من خلال تبنيهم لمفهوم الحرية بمعناه الغربي
لاقتحام الجامعة مجالات كان من المفترض أنه من المحظور على أي أحد الخوض
فيها فضلاً عن جهة تبشيرية أو أجنبية.
أما الأوضاع السياسية فكانت مساندة تماماً لنشاط الجامعة، وقد نجح القائمون
على الجامعة في إرضاء كافة الأطراف واستغلال الظروف السياسية المختلفة،
وتوثقت الصلات بالقصر والوزارة والبرلمان والاحتلال في وقت واحد بالإضافة
إلى النخبة الغنية.
أما على المستوى الشعبي فكان أقرب للعداء نتيجة للمارسات التنصيرية التي
أثارت الرأي العام، وأقامت عدداً من العلماء على رأسهم الشيخ المراغي في
مواجهة نشاط الجامعة المشبوه لكن الجامعة قامت بجهود جبارة لاختراق المستويات
الشعبية، وقد حققت لها بعض النجاحات.
وقد اضطرت الظروف السياسية والقانونية الجامعة في بعض الأحيان لأن
تتخفف من بعض أنشطتها التبشيرية دون أن يعني ذلك التخلي كلية عنها.
أما على الوضع الاقتصادي فقد كان لسيادة النظام الرأسمالي خلال الفترة
الملكية أثره في وجود ما يشبه التحالف الضمني لاتحاد المصالح؛ إذ التحق أبناء
هذه الطبقة بالجامعة والتي كانت تؤهلهم لتوسد المناصب السيادية في الدولة، كما
وفرت بعض عناصر هذه الطبقة المنح للجامعة.
** الفصل السادس: الجامعة الأمريكية والنظام الجديد في أعقاب ثورة يوليو
حتى 1963م.
وقد نشأت على إثر الثورة طبقة جديدة صعدت مع الثورة فحرصت الجامعة
على التقرب منها؛ فاستثنت أبناء أعضاء مجلس قيادة الثورة من شروط القبول،
دون أن يعني ذلك تخليها عن علاقاتها مع الطبقة الرأسمالية التي ظلت تحافظ على
تواجدها رغم الإجراءات التي اتخذت ضدها من أجل تقليص دورها.
وبدأت الجامعة إبراز خطاب جديد يناسب شعارات الثورة، كما ألغت الدراسة
يوم الجمعة وخفضت اليوم الدراسي في شهر رمضان، واختارت أعضاء هيئة
التدريس من المصريين والأمريكيين على حد سواء بغض النظر عن العقيدة.
أما على الصعيد الدولي فقد سنت الولايات المتحدة القانون رقم 480 الشهير
لاستغلال الفائض الزراعي في خدمة المصالح الأمريكية وهو القانون الذي فتح
الباب أمام أرقام كبيرة جداً من المساعدات والمنح الأمريكية، ونتيجة للاستقطاب
بين المعسكرين أخذت الولايات المتحدة تتقرب إلى الثورة من أجل كسب مصر في
صف المعسكر الغربي.
لكن كان لرفض مصر الدخول في مشروع الحلف مع أمريكا وعقدها صفقة
الأسلحة الشهيرة مع تشيكوسلوفاكيا بعد أن رفض المعسكر الغربي بيع أي أسلحة
لمصر، أثراً في ممارسة الضغوط الاقتصادية الأمريكية ضدها، وجاء الرد
الأمريكي قاسياً بإيقاف المساعدات وإيقاف النشاط التجاري بين البلدين، وقطع
العلاقات الدبلوماسية، ومحاصرة مصر بحراً لمنع وصول أي سفينة تحمل سلاحاً
إلى مصر، وإلغاء تمويل مشروع السد العالي.
كل هذا أدى لأن تسير الجامعة في إطار أكثر حذراً وأقل انفتاحاً، وأكثر
اعتباراً لما يثير الرأي العام.
وبدا الدور التبشيري أكثر انكماشاً وأظهرت الجامعة لوناً من الحرص على
المصلحة الوطنية والانتقاد العلني للمواقف الأمريكية، بصورة تعطي انطباعاً
باستقلاليتها وبعدها عن السياسة الأمريكية بما يدعم وجودها في مصر، ويدعم
مبادئها المعلنة في الحرية والديمقراطية التي كانت تتبناها الثورة.
كما تأثرت الجامعة بالعدوان الثلاثي على مصر نتيجة لتأميم قناة السويس
فرحل أعضاء هيئة التدريس وفتحوا جامعة في المنفى.
لكن ما لا ينبغي إغفاله أن الدعم الأمريكي لم ينقطع عن الجامعة حتى في هذه
الفترات.
وكان للجامعة رجالها حتى في ظل حكم الثورة، وقد وسطت الجامعة محمد
حسنين هيكل من أجل تخفيف بعض القيود وإزالة بعض المخاوف، وجاءت إجابة
عبد الناصر فوق الإيجابية.
والغريب أنه رغم صدور عدة قوانين على مدار عمر الجامعة تنظم شأن
المؤسسات التعليمية الأجنبية من حيث الإشراف والمناهج وهيئات التدريس إلا أن
الجامعة نجحت في الإفلات من جميع هذه القوانين، وظلت هي المؤسسة التربوية
الوحيدة في مصر التي تدار فعلياً دون إشراف من الحكومة المصرية.
كما لعبت الجامعة دوراً مكنها من أن تكون يد الحكومة الأمريكية في مصر
وأداتها في الحفاظ على مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يثير التساؤل
حول نجاح الجامعة في اختراق جميع مؤسسات الدولة.
أما الأهداف فصيغت على النحو الآتي: تقديم تعليم رفيع المستوى.. تجسيد
قيم الثقافة الأمريكية.. الإسهام في حل مشكلات المجتمع المصري.. تشجيع
التبادل الثقافي والفكري بين الشرق والغرب، وبهذا اختفى الهدف التنصيري
بصورته السافرة وبقي مضمناً في هدف الترويج لقيم الثقافة الأمريكية التي تحمل
في طياتها القيم النصرانية، وبهذا تم إعادة تنظيم مدرسة الدراسات الشرقية وأصبح
اسمها: (مركز الدراسات العربية) وقلل فيه النشاط التبشيري، لكن النشاط بقي
يمارس خارج أسوار الجامعة، كما تم التوسع في الدراسات العليا في الأدب
البريطاني والأمريكي وعلم الاجتماع، وعلم الأجناس البشرية، الكيمياء والاقتصاد،
العلوم السياسية.
أما قسم الدراسات الليلية فتغير اسمه إلى قسم الخدمة العامة وتحول نشاطه من
المحاضرات والندوات إلى تدريب الموظفين في مجالات مختلفة.
وأما المكتبة فقدمت برنامجاً تعليمياً وزودت بالتسهيلات، وقد مارست
الجامعة من خلالها دوراً كبيراً في النشر والاتصال بالباحثين.
أما هدف خدمة المجتمع فبقي مجالاً خصباً لجمع المعلومات حول القرية
المصرية، وموقف الشرق الأوسط عامة ومصر خاصة تجاه السياسة الأمريكية،
وحول النوبيين، وإحصائيات السكان.
أما إعداد القادة فحافظت عليه الجامعة بأن قصرت الالتحاق بها على أبناء
النخبة الحاكمة والطبقة الغنية.
وقام معهد اللغة الإنجليزية على تحسين لغة عدد منهم من أجل تجاوز شرط
جديد للالتحاق ينص على إتقان اللغة الإنجليزية.
** الفصل السابع: من عام 1963 - 1970م. مرحلة التحول الاشتراكي.
ويعكس هذا الفصل براعة الجامعة في خدمة الأهداف الأمريكية في ظل
التحول الاشتراكي، والعداء الأمريكي العلني لمصر خلال حرب 1967م
وانعكاساته على الساحة المصرية، وكيف تمكنت الجامعة أن تتعايش مع هذه البيئة.
وقد فرضت الحكومة المصرية الحراسة على الجامعة الأمريكية، ورحلت
هيئة التدريس، وعينت حارساً قضائياً، ولكن الحارس قام بدور خطير في إقناع
الحكم المصري بإبقاء الجامعة أمريكية الهوية كما هي، وسهل إجراءات اعتراف
الحكومة بالجامعة الأمريكية.
وخلال هذه الفترة تولى كريستوفر ثورون إدارة الجامعة، وكان ثورون عميلاً
للمخابرات الأمريكية، فعمل مع إدارته للجامعة لحساب المخابرات أيضاً، وقد
سعى في توسيع صداقاته داخل مصر، وكوَّن علاقات حميمة مع موظفي الخارجية
المصرية! وبهذا يظهر هدف آخر غير معلن للجامعة تسعى لخدمته من أجل رعاية
المصالح الأمريكية.
وكانت الجامعة في هذه الفترة حريصة على نيل الاعتراف الرسمي الكامل بها
كنشاط وكشهادات علمية بما يضمن لها البقاء في ظل التغيرات العميقة التي تطرأ
على الحالة المصرية بين آونة وأخرى، وقد حققت الجامعة بعضاً من ذلك خلال
هذه الفترة.
** الفصل الثامن: الجامعة الأمريكية في ظل الانفتاح الاقتصادي.
وهو العهد الذي أعاد للجامعة سيرتها الأولى، فمع موت عبد الناصر ومجيء
السادات انفرجت الأمور وبدأت مفاوضات للاعتراف بالدرجات العلمية للجامعة
مقابل تعيين 45% من الأساتذة من مصر مقابل نفس النسبة من الأمريكيين،
والباقي يتم استكمالهم من باقي الجنسيات، وأن تكون الوظائف الإدارية للأمريكيين،
وألا يقل عدد الطلاب المصريين عن 75% والأمريكيين 10% والباقون من
العرب، وطلبت الحكومة أن يتم تعيين مستشار للجامعة ومجلس استشاري لها من
المصريين.
وبالفعل تم الاعتراف بالجامعة كما أرادت لنفسها من حيث الهوية والاستقلالية
والدرجات العلمية التي تمنحها وفق بروتوكول موقع عليه من وزير التعليم ورئيس
الجمهورية شخصياً.
وقد استفادت الجامعة من هذه الإجراءات استفادة كبيرة حيث عمقت اتصالها
بجميع الأوساط، ونالت عن طريقهم ما لم تنل من قبل، بالإضافة إلى أن رواتب
هؤلاء تبدو متواضعة، كما أنها لن تعدم من بين هؤلاء من ينفذ رغباتها خاصة بعد
أن اطمأنت إلى أجيال من خريجي الجامعة ممن تبنوا فكر الجامعة، وربما كان
الأمر مستحيلاً في بداية عمر الجامعة؛ لأنها كانت تريد بناء نسق معين يحتذى وقد
كان.
وبدت الجامعة في أنشطتها الثقافية والتعليمية متكاملة مع الجامعات الوطنية
المصرية، ولذلك حرصت الجامعة على تقديم تعليم مكثف للطلاب يقابل حاجات
المجتمع الجديد، كما حرصت أن يكون طلابها ممن لديهم القدرة على تلقي هذا
النوع من التعليم.
أما الممارسات والأنشطة المتعلقة بتحقيق الأهداف المعلنة فقد قدمت الجامعة
خدماتها للمجتمع عبر مركز البحث الاجتماعي بتمويل من مؤسسة فورد ووكالة
التنمية الدولية AID، وكانت الموضوعات: الزيادة السكانية، ووسائل منع الحمل،
كما تقدم المركز ببحوث حول المواد الخام الصلبة المتوفرة في مصر [3] .
وفي الخاتمة تخلص الباحثة إلى أن الجامعة وإن خففت من الهدف الديني
المباشر من أجل ضمان بقائها واستمراريتها إلا أنها بقيت على أهدافها الأخرى:
الهدف الثقافي، وهدف خدمة المجتمع، وهدف إعداد القادة، والحاصل أن الجامعة
ظلت حريصة على تحقيق الهيمنة على المجتمع المصري مباشرة والمجتمعات
العربية الأخرى بالتبعية، كما تبين وجود أهداف أخرى غير معلنة بدا بعضها
وربما ما خفي أكثر، ويمكن من خلال نتائج الدراسة استشراف الدور الحالي
والمستقبلي للجامعة لخدمة أهدافها.
__________
(1) في عام 1916م تقدم تشارلز واطسن أول رئيس للجامعة بطلب لسلطة الاحتلال وليس وزارة المعارف في مصر؛ حيث كانت الامتيازات الأجنبية تخول الأجانب فتح مدارس وإقامة أنشطة دون الرجوع إلى الحكومة! .
(2) بالطبع كانت حرية التعبير فقط في الإطار المرسوم من الجامعة بعناية أما ما يخالف ذلك فقد كان للتصرف معه أساليب ملتوية وقاسية؛ فالجامعة وإن تبنت ظاهراً الروح الليبرالية إلا أنها ما زالت تحتفظ لنفسها بمساحة يحظر الاقتراب منها وهي القضايا النصرانية والتبشير والإجبار على دراسة الإنجيل، لدرجة أن الجامعة خيرت الطلاب بين قبول هذه المواد وبين ترك الجامعة.
(3) قدمت مؤسسة فورد منحة قدرها 236 ألف دولار، كما قدمت وكالة التنمية الدولية منحة مالية قيمتها 800 ألف دولار لخدمة مشروعات البيئة المصرية.(180/50)
حوار
حوار مع فضيلة الشيخ قاضي حسين..
أمير الجماعة الإسلامية في باكستان
البرنامج النووي والقوة العسكرية الباكستانية وهويتنا الإسلامية
ليست من مصالح أمريكا
برزت الباكستان في بؤرة الأحداث العالمية بعد الحملة الأمريكية على
أفغانستان، وتعرضت لضغوط وتهديدات غربيَّة وهنديَّة، وكان أداء الحكومة
الباكستانية العسكرية غاية في الضعف والعمالة، لإعراضها عن تطلعات الشعب
ومطالبه، مما أدى إلى تمرير كثير من المخططات الغربية في المنطقة بشكل فاضح.
ولكشف كثير من الحقائق الغائبة عن الكثيرين، يسعدنا في هذا العدد أن نلتقي
بفضيلة الشيخ القاضي حسين أحمد، أمير الجماعة الإسلامية في باكستان - التي
أسسها أبو الأعلى المودودي - رحمه الله -، وهي من أكبر الجماعات الإسلامية
في شبه القارة الهندية، وأكثرها تأثيرًا في الساحة السياسية الباكستانية، وقد
حرصنا على الحوار مع فضيلته منذ بداية الحملة الأمريكية الجائرة على أفغانستان،
لكن الحكومة الباكستانية فرضت الإقامة الجبرية على الشيخ مدة طويلة، وبعد
خروجه كانت تنتظره برامج كثيرة، حتى تيسر - بحمد الله - هذا اللقاء الذي
تطرقنا فيه إلى ثلاث محاور:
1 - المحور الباكستاني.
2 - المحور الهندي.
3 - المحور الأفغاني.
نسأل الله تعالى أن يعز دينه، وأن ينصر أولياءه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المحور الأول: الباكستاني:
البيان: مضى على التدخل الأمريكي في أفغانستان عدة أشهر، وكان
للتحالف (الباكستاني - الأمريكي) دور رئيس في نجاح المخطط الأمريكي.. فهل
تحققت المصالح التي تطمح إليها الباكستان؟! أم أن أمريكا تجاوزت الجميع ولم
تر إلا مصالحها؟
- مشاركة (برويز مشرف) في التحالف الدولي كانت نتيجة للضعف
الشخصي، ولم يكن لهذه المشاركة والتعاون أية صفة قانونية أو أخلاقية، عندما
كان بل كلينتون رئيسًا للولايات المتحدة وقام بزيارة للهند توقف في باكستان لمدة
ست ساعات، واشترط لذلك ألا يصافح برويز مشرف أمام عدسات الكاميرات؛
لأنه حاكم عسكري غير دستوري قد سيطر على الحكم عنوة، هذا الأمر ظل بمثابة
عقدة نفسية ونقطة ضعف لدى برويز مشرف، وعندما هدده الرئيس بوش بتاريخ
13/9/2001، وخيَّره بين أن يكون «مع» أو «ضد» فاختار الرئيس غير
الدستوري والواقع تحت الضغوط اختار الوقوف مع أمريكا.
ثم قامت الآلة الإعلامية الحكومية بمحاولة إقناع الشعب بأن باكستان إن لم
تقف مع أمريكا فسوف يكون مصيرها مثل مصير أفغانستان، وترجع إلى
«العصر الحجري» كما هدد به بوش. وتناسى برويز مشرف أن باكستان
دولة نووية لم تبلغ من الضعف ما وصلت إليه أفغانستان، ولم يكن من السهل
معاملتها معاملة أفغانستان، وكان يجب أن يتخذ موقفًا مغايرًا لموقفه الراهن،
ولكن هذا الأمر كان يحتاج إلى قوة الإرادة وعزة النفس.
لو أشركت الحكومة الشعب في اتخاذ القرار، وقررت الحفاظ على حرية البلد
ومصالحه حتى وإن تعرض في سبيل ذلك لبعض الصعاب لكن الوضع مختلفاً،
ولكنه أخلد إلى الأرض، واختار الهوان.. منذ تلك اللحظة وباكستان في ذل وهوان
مستمر، لا نهاية له. حيث فقدنا استقلاليتنا، وأصبحت الحدود الغربية أيضًا غير
آمنة. ألتقى قبل أشهر حامد كرزاي بمندوب الصهاينة في آلما آتا وعرض عليه كل
التعاون لمحاربة «الإرهاب» .
أما الحدود الشرقية فالهند تهددها كالمعتاد وتستعين بـ (إسرائيل) لسحق
المقاومة وحركة التحرير في كشمير؛ والتعاون النووي بينهما لا يخفي على أحد،
كما تحظى الهند بدعم أمريكي وبريطاني مكشوف، فأصبحنا بين فكي كماشة،
علاوة على هذا وذاك تسعى أطراف مختلفة للإيقاع بين الجيش والشعب. القوى
الجهادية والمناطق القبلية والمدارس الدينية: كل هذه الفئات أصبحت في حالة
الامتعاض من سياسات الحكومة العسكرية، الإدراة الأمريكية تمارس ضغوطها على
باكستان لتعترف بهيمنة الهند على المنطقة. ويكفي تصريح بوش للدلالة على ما قد
تواجهه المنطقة من مصائب عندما قال: «إن صداقتنا مع باكستان سوف تستمر
إلى الوقت الذي تكون فيه مصالحنا ومصالح باكستان مشتركة» . الجميع يعرف أن
البرنامج النووي والقوة العسكرية الباكستانية وهويتنا الإسلامية ليست من مصالح
أمريكا.
البيان: تحدثت كثير من وسائل الإعلام الغربية عن ضرورة العمل على
تفكيك القوة النووية الباكستانية، ويرى بعض المحللين أن من أبرز أهداف التدخل
الأمريكي في المنطقة هو العمل على هذا.. فهل يرى فضيلتكم أن الجيش
الباكستاني يعي ذلك؟! وهل يمكن مواجهة هذا التهديد الأمريكي؟
- وقعت الحكومة الباكستانية في فخ وشراك كبير، ووقعت في مخالب أمريكا،
النفوذ الأمريكي يتزايد يوماً فيومًا (إف. بي. آي) فتحت مكاتبها في المدن
الكبيرة والصغيرة. القواعد الأمريكية موجودة في مناطق حساسة، وهذه المخاوف
في محلها بأن البرنامج النووي وقع تحت تهديدهم المباشر.
بعد التخلص من حكومة الطالبان أجبرت الإدارة الأمريكية الحكومة الباكستانية
على التخلي عن مجاهدي كشمير، والآن تمارس ضغوطها للتخلي عن البرنامج
النووي، الحكومة تعلن أنها لن تتخلى عن كشمير، أو عن البرنامج النووي؛ لكن
هل تستطيع ذلك؟ لا يمكن تصديق ذلك متى التزمت باكستان بموقفها المبدئي أمام
الضغوط الأمريكية.
البيان: لماذا لم تستفد باكستان من قوتها النووية في لعب دور قيادي
ومحوري في العالم الإسلامي؛ حيث يلاحظ أن وضع باكستان لم يتغير سياسيًا
واقتصاديًا إلا إلى الأسوأ؟
- العالم الإسلامي يحتاج إلى القيادة، والطاقة النووية لا تكتفي لذلك. لا بد
من القوة الأخلاقية والاعتماد على الله، ثم الثقة في النفس وبُعد النظر، أهمية القوة
المادية تأتي في الدرجة الثانية في قائمة مواصفات القيادة.
المؤسف أن معظم حكام العالم الإسلامي يفقدون الاعتماد على الذات، وهم
عالة على الغرب، ومحرومون من القوة الأخلاقية، ولا يملكون أي مشروع
للتخلص من المخالب الغربية الاقتصادية.
البيان: أنشأت القوات الأمريكية قواعد عسكرية دائمة في أفغانستان قريبًا
من الحدود الباكستانية والحدود الإيرانية.. فما أهداف هذه القواعد؟ وما
مستقبلها؟ وهل ستقبل الدول المعنية في المنطقة بها؟
- صحيح أن القوات الأمريكية أقامت قواعدها العسكرية في أفغانستان وفي
باكستان، والآن تهدد وتسعى لذلك في إيران والعراق، لكن كل الدول المحيطة
قلقة من هذا التصرف الأمريكي الأرعن، وحتى الدول الأوروبية لا تتفق مع هذا
التوجه الأمريكي؛ لأن ذلك يعرض العالم لحادث وخيم، وقد تغوص الولايات
المتحدة الأمريكية نفسها في هذا الوحل القاتل.
البيان: هناك صراع قوي يبدو أنه طويل النَّفس بين الجماعات الإسلامية في
الباكستان بمختلف اتجاهاتها وبين حكومة برويز مشرف والاتجاهات العلمانية في
الباكستان.. فما أبعاد هذا الصراع، وما رؤيتكم الاستراتيجية له، خاصة أن
لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (A. I. C) اليد الطولى في تأجيج هذا
الصراع؟
- لا شك أن الحكومة الأمريكية تسعى لتأجيج نار الصراع بين الأحزاب
الدينية بحجة محاربة الإرهاب، كما تقوم بالتضييق على المدارس الدينية وإلحاقها
بالحكومة، وكما تعلمون أن هناك آلافًا من المدارس الدينية في باكستان، وجلها تقع
خارج نطاق التأثير الحكومي عليها، وتوفير ميزانياتها بمساعدة أهل الخير.
حكومة برويز تقع حالياً تحت تأثير ونفوذ الحكومة الأمريكية، ولكن مع ذلك
لا يمكن لها أن تفتح جبهاتها مع الحركات الإسلامية ومع المدارس الدينية.
قد لا تملك الأحزاب الدينية قوة انتخابية كبيرة، ولكن من حيث تأثيرها في
المؤسسات الوطنية المختلفة فتملك خبرة طويلة لممارسة الضغوط الشعبية على
الحكومة عبر تنظيم حركات احتجاجية سلمية كبيرة.
كما أنها تحظى بعلاقات واسعة مع كل الفئات الشعبية، وتصل قنوات
اتصالاتها إلى داخل المؤسسة العسكرية؛ فكلنا أبناء هذا البلد. وبإذن الله تعالى لا
يمكن للحكومة العسكرية أن تحول باكستان إلى تركيا أو الجزائر. وهذا ما اعترف
به برويز مشرف نفسه خلال لقائه مع قادة مجلس العمل الموحد عندما قال: «لا
يمكن لأحد أن يجعل من باكستان تركيا أخرى، ولا ننوي أن نحاول ذلك» وقال
برويز بكل وضوح: «إن باكستان كانت دولة إسلامية وستظل دولة إسلامية» .
إنهم اخترعوا مصطلح (الإسلام الحديث) للتستر على علمانيتهم وللأسف أن
النفاق تحت دعاوى (الإسلام الحديث) دين كل من يحكم باكستان، وهذا ما نخشاه
في المستقبل أيضًا، لكن الآن وقد اتحدت بفضل الله الأحزاب الدينية وتكوَّن
مجلس العمل الموحد نأمل بأن يزداد تأثير القوى المحبة للإسلام، ولن تتمكن بإذن
الله أية حكومة مقبلة أن تسبح عكس التيار الإسلامي للشعب الباكستاني. أمريكا
تدرك أبعاد هذا السيناريو، ولذلك تسعى لتكوين حكومة تلبي احتياجاتها من ناحية،
وتلهي الأحزاب الدينية بوعودها المعسولة من الناحية الأخرى، ولكن لن نُخْدَع
بذلك إن شاء الله، وسوف نحدد سياساتنا في ضوء المصالح الإسلامية، وفي ضوء
مصالح الأمة الإسلامية، وفي ضوء المتغيرات الدولية.
البيان: اختلفت تحليلات بعض الصحفيين في تفسير مواقف الجنرال برويز
مشرف، فمنهم من يرجح أنه عميل هزيل لأمريكا، ومنهم من يرى أنه رجل
وطني تعامل مع الأحداث بواقعية، واستطاع اتقاء الهجوم الأمريكي على
الباكستان والحفاظ على القوة النووية.. فماذا يرجح فضيلتكم؟ وهل هناك أطراف
قوية ومعارضة لمشرف داخل الجيش الباكستاني؟
- هناك آراء متضاربة حول شخصية برويز مشرف خارج باكستان وداخلها.
الرأي الأول يقول إنه نظرًا لضعفه الشخصي وضعف وضعه القانوني وقع في
أحضان أمريكا، والرأي الثاني يرى أنه حاول أن ينقذ باكستان من الولايات المتحدة
الأمريكية التي أصيبت بجنون، وأنه كان مجبرًا على ذلك، ولم يكن له أي مخرج
آخر. ونحن نقول إنه لو كان صادقًا في إنقاذ باكستان فإنه لم يسلك الطريق
الصحيح لذلك، ولم يضع الاستراتيجية المناسبة. أما أن يصبح مجرد تابع وخاضع
لأمريكا في محاربة ما تصفه هي بالإرهاب فهذه هي الأشواك التي لم ولن تثمر
العنب.
أما ما يتعلق بوضع برويز داخل المؤسسة العسكرية، فمؤسستنا العسكرية
مؤسسة متماسكة جيدة التنظيم، وكلنا حريصون على هذا التماسك وهذا التنظيم.
وجود برويز على رأس هذه المؤسسة أمر طارئ وآنى، أما المؤسسة العسكرية
فهي قوة وسند للعالم الإسلامي كله، ولا بد من الحفاظ على هذه القوة.
برويز مشرف أصبح ضعيفًا بعد الاستفتاء، وسوف يكون أكثر ضعفًا بعد
الانتخابات القادمة مهما كانت نتائجها - شعار المؤسسة العسكرية هو: إيمان،
تقوى، جهاد في سبيل الله. وهناك فئات قوية داخل المؤسسة التي هي مخلصة لهذا
الشعار، وترى من واجبها الحفاظ على هذا الشعار وعلى روحه.
البيان: تشهد الباكستان ضغوطًا أمريكية كبيرة للضغط على الأحزاب
والجمعيات والمدارس الدينية وتقزيم دورها.. فما موقف تلك الأحزاب
والجمعيات؟ وهل ستستسلم لهذه الضغوط؟
- الأحزاب السياسية التي حكمت باكستان في فترات مختلفة لا تختلف كثيرًا
عن الحكومة العسكرية الحالية في تعاملها مع أمريكا، ولكن الحكومات المنتخبة
(مهما كانت) تقع تحت الضغوط الداخلية أكثر من وقوعها تحت الضغوط الخارجية،
ولذلك لا يمكن للحكومة المنتخبة أن تستسلم للولايات المتحدة الأمريكية استسلام
الحكومات غير الدستورية. لذلك نسعى أن تكون هناك حكومة ديمقراطية منتخبة
بدلاً من حكومة ديكتاتورية، وهو الأمر الذي يكبح جماح الحكومة العسكرية نحو
تضييق الخناق على الأحزاب الدينية.
البيان: تآلفت بعض التيارات الإسلامية لمواجهة التدخل الأمريكي في
المنطقة، وأسست ما عرف (بمجلس الدفاع عن الباكستان وأفغانستان) ، فهل لا
يزال المجلس قائمًا؟ وما أعماله ومنجزاته؟ وهل هناك خطوات عملية لتطوير
أدائه؟
- مجلس الدفاع عن أفغانستان وباكستان كان تنظيمًا فضفاضًا طارئًا. أما
مجلس العمل الموحد فله قواعد ثابتة، سعينا لتكوينه سنين طويلة. والآن خرج
بدستور وبرنامج انتخابي موحد يضم جميع المدارس الفقهية. الجماعة الإسلامية
محور أنشطته والقوة الجامعة له، ويكون لها دورها المشهود له بإذن الله في أدائه.
البيان: في هذه الظروف الحرجة، ما هو مستوى العلاقة بين مختلف
الأحزاب الإسلامية؟ وهل هي علاقة تحالف أو تنسيق أو تنافس أو ... ؟
- مجلس العمل يضم ستة أحزاب دينية رئيسة: الجماعة الإسلامية، جمعية
علماء الإسلام (ف) ، جمعية علماء الإسلام (س) ، جمعية علماء باكستان،
جمعية أهل الحديث، الحركة الإسلامية (الحركة الجعفرية سابقاً) بين هذه
الأحزاب تنافس تقليدي، ولكن بما أنها جزء في التحالف الواحد بدأ تنافسها هذا
يتحول إلى تعاون وتآلف. الخلافات الفقهية بينها موجودة منذ قرون طويلة، ولا
يمكن القضاء عليها فورًا، ولكن إدراكًا من الجميع للتحديات الدولية الكبيرة
يشعرون ويدركون أهمية مثل هذا التحالف. ويسعون أن يتفادوا الخلافات ويركزوا
على المشتركات.
البيان: تمارس القوات الأمريكية في الباكستان أعمالاً استفزازية سافرة مثل
عمليات البحث والتفتيش عن عناصر القاعدة وطالبان في المنطقة الجبلية
الحدودية.. فهل ستقبل القبائل الباكستانية بمثل هذا؟ وما رأي الأحزاب
الباكستانية المعارضة؟
- القوات الأمريكية المتمركزة في باكستان تخوض عمليات مشتركة مع
القوات الباكستانية وخاصة في منطقة القبائل، وهذه العمليات أثارت غضب القبائل
وموجة من السخط والقلق داخل الأوساط الشعبية والعسكرية المختلفة. المؤسسة
العسكرية تدرك أن التضييق على القبائل وإثارتها يضعف الدفاع الوطني. ويبدو أن
هناك بعض المحاولات لإقناع القوات الأمريكية أن التدخل في المناطق القبلية ليس
في صالحها.
الأحزاب السياسية والدينية الباكستانية أيضًا قلقة على توسيع رقعة العمليات
العسكرية باسم مكافحة الإرهاب. وترى أن هذا الأمر سوف يدفع باكستان إلى أتون
الحرب الداخلية (لا سمح الله) ولكن القوات الأمريكية لم تعدل في سياستها إلى
الآن، وتسعى لازدياد نفوذها واتساع دائرة عملياتها، وهذا الأمر لن تحمد عقباه.
البيان: هل يوجد هناك أصدقاء مخلصون لباكستان في المنطقة بعد فقد
طالبان للسلطة أو بصورة أخرى ما مدى مصداقية الصين، وهل تعتبر إيران
أقرب لباكستان منها للهند؟
- بدخول باكستان في التحالف الأمريكي تأثرت صداقتنا مع الصين تأثرًا
سلبيًّا كبيرًا، ولم يعد ذلك الدفء الذي تفتخر به باكستان في صداقتها مع الصين،
وإن بدت تلك العلاقات كأنها لم يطرأ عليها تغيير، كما أن هناك جهودًا خارجية
للتأثير على علاقاتنا مع إيران؛ وذلك من خلال إثارة النزاعات الطائفية بين الشيعة
والسنة، ولم تعد الجارة الإيرانية في الدرجة المطلوبة أو المتوقعة من الصداقة مع
باكستان.
الجميع يدرك الطموحات والنزعات الهندية للسيطرة والتحكم على المنطقة
بالتنسيق الشامل مع الكيان الصهيوني، ولذلك تحتاج كل دول المنطقة مثل سري
لانكا والنيبال وميانمار وبنجلاديش وأفغانستان وإيران والدول الخليجية تقع
تحت التأثير الهندي الكبير، والهند تستغل عدد سكانها الكبير وقوتها الاقتصادية
للتأثير على هذه الدول، ولكن المستقبل يشير إلى ضرورة التقارب بين هذه الدول
وخاصة الدول الإسلامية والصين، وهذا ما تحاول أمريكا تفاديه ومحاصرته عن
طريق تقوية الهند وإخضاع دول المنطقة للهيمنة والشيطنة الهندية الصهيونية.
المحور الثاني: الهند:
البيان: هناك تحالف استراتيجي (أمريكي - هندي - إسرائيلي) موجه
أساسًا ضد الباكستان؛ فما رؤيتكم لهذا التحالف؟ وما موقف الجيش الباكستاني؟
- إن أهداف هذه القوى الثلاث مصالح مشتركة؛ فللولايات المتحدة مصالحها؛
لكنها واقعة في مخالب صهيونية، ولذلك دخلت في ساحة حددتها لها الصهيونية،
مصدر الويلات لأمريكا.
الكيان الصهيوني المحاط بالعالم الإسلامي لا يمكن لأحد أن يدافع عنه؛ حتى
في الداخل عدد الفلسطينيين أكثر من الصهاينة رغم أنهم اجتمعوا هناك من جميع
أنحاء العالم، الكيان الصناعي مثل الكيان المذكور لا يمكن أن يدوم طويلاً،
وتصبح له السيطرة على العالم كله. وهذه إحدى أسباب تحالف اللوبي الصهيوني
مع اللوبي الهندوسي، إنهم يعملون سويًا داخل الولايات المتحدة وخارجها،
ويؤثرون على السياسات الأمريكية. الخوف الأمريكي من البرنامج النووي
الباكستاني في الأصل خوف صهيوني أكثر من أن يكون خوفًا هندوسيًّا. والصهاينة
لا يمكنهم القضاء على البرنامج النووي إلا بالإتفاق والتنسيق مع القوات الهندية.
القوات الباكستانية تدرك أبعاد هذا التحالف الثلاثي الخطير. ولكن المؤسف
أن العالم في رعب من هذا التحالف. ولا يملك قدرة السير على خط استراتيجي
مستقل عن تأثيره. الجامعة العربية ومنظمة الدول الإسلامية وغيرهما من
المنظمات الإسلامية أصبحت شبه معدومة التأثير من حيث أدوارها المطلوبة.
الأمة الإسلامية في حاجة إلى قيادة شجاعة وحكيمة تستطيع الاستفادة من
القوى والقدرات الكامنة في شباب الأمة الإسلامية ويعيد لها ثقتها في نفسها ويوحد
صفوفها. والأمل في الله تعالى كبير.
العالم الإسلامي لا ينقصه الحماس وروح الفداء. استشهاديو الأمة أقضوا على
الأعداء مضاجعهم في فلسطين. التضحيات الكبيرة التي يقدمها المسلمون في كشمير
وفي الشيشان ترعب من يعاديهم. إن هذه الروح موجودة في جميع فئات الأمة.
ومنصة العالم جاهزة لاستقبال قائد العصر، ليأتي ويوقظ أسود الأمة من سباتها.
وما ذلك على الله بعزيز.
البيان: كشمير منطقة من مناطق الصراع الملتهبة، وقد استغلت الهند ما
سمي بالحرب على الإرهاب للضغط على الباكستان لتصفية الأحزاب والمنظمات
الجهادية؛ فهل ستضحي (حكومة مشرف) بمصالحها في كشمير كما ضحت
بمصالحها في أفغانستان؟
- تغيير سياسة باكستان في كشمير بمائة وثمانين درجة يصعب على برويز
مشرف. والهند تسعى لأن تصبح باكستان على قائمة الدول الإرهابية بحجة أنها
تدعم ما وصفته بالإرهاب في كشمير، نجحت الهند بممارسة الضغط على باكستان؛
وذلك بالتنسيق والتعاون مع القوى الغربية، واستطاعت إجبار باكستان على
إغلاق الطرق بين شطري كشمير رغم أن هذا الأمر غير قانوني وغير أخلاقي؛
لأن الكشميريين يعيشون على طرفي خط وقف إطلاق النار، ومن حقهم أن يتصل
بعضهم ببعض. بل إنشاء حركة المقاومة والتحرير من حق الكشميريين الذين
يقبعون تحت الاستعمار الهندوسي. وخط وقف إطلاق النار ليس بحدود دولية.
لكن رغم كل ذلك وقف الغرب كله مع الدعاوي والاتهامات الهندية، وأجبر باكستان
على هذه الخطوات غير الأخلاقية. ولكن ليعلم الجميع أن إجبار باكستان على
تغيير سياستها في كشمير بدرجة تغييرها في أفغانستان أمر مستحيل. إن مثل هذه
المواقف تؤدي - لا محالة - إلى ثورة وعصيان داخل كل الفئات الشعبية والرسمية.
والله أعلم.
البيان: سباق التسلح بين الهند والباكستان إلى أين يسير؟ وهل شبح
الحرب الذي تلوّح به الهند شبح حقيقي أم أنها أداة جديدة للضغط على الباكستان
والحصول على مزيد من التنازل؟
- التهديد الهندي لم يحصل إلا بدعم ورضى وإشارة من القوى الغربية. إنهم
قاموا أولاً بإبعاد القبائل عن القوة الدفاعية الوطنية ثم بإبعاد الحركات الجهادية
وبالقضاء على حكومة أفغانية صديقة على الحدود الغربية وبفرض حكومة لا تخفى
عداءها لباكستان، ثم بالحشودات الهندية على طول الحدود الشرقية، كل ذلك للنيل
من المواقف الباكستانية. وسيلتهم الأساسية في كل ذلك ممارسة الضغوط على
باكستان؛ فلو تحققت مآربهم عبر الضغوط والتهديد فقط فما ضرورة الحرب إذن؟
والجميع يدرك خطورة وأبعاد الحرب بين القوتين النوويتين.
البيان: ما دور الأحزاب الإسلامية في الباكستان لدعم وتقوية الوجود
الإسلامي في كشمير؟ وما رؤيتكم المستقبلية للقضية الكشميرية؟
- قضية كشمير أحياها الشعب الكشميري بنفسه. وكانت باكستان قد تخلت
عن ذكر قضية كشمير في المحافل الدولية، ولكن الشعب الكشميري لم ولن يرضى
بحياة الذل والاستعمار. إنه بدأ مقاومته المسلحة للاستعمار منذ انتخابات عام
1989م عندما قاطعها مقاطعة تامة. والآن المقاومة الكشميرية قوة سياسية كبيرة مع
كونها قوة جهادية. الشعب الكشميري لن يقبل أن يظل خاضعًا للحكومة الهندوسية،
وليست هناك أدنى إمكانية لأن يقبل الكشميريون أن يكونوا رعايا الهند. إنهم
يعلنون ذلك عبر إضراباتهم واحتجاجاتهم. والهند تعرف هذا الأمر. والخيار
الأصح لها أن تعطي الكشميريين حق تقرير المصير، ومن ثم تفتح لنفسها أبواب
الاستقرار والنمو الاقتصادي التي تصل إمكانياتها إلى آسيا الوسطى عبر باكستان.
ولكن هذا لن يتحقق إلا إذا تخلت الهند عن عدائها للمسلمين وللعالم الإسلامي.
المحور الثالث: أفغانستان:
البيان: تفاوتت مواقف بعض الاتجاهات الإسلامية في أفغانستان من التدخل
الأمريكي، بل رأينا من تحالف مع أمريكا، ومن تحالف مع روسيا لإسقاط حكومة
طالبان، فما تفسير فضيلتكم لهذه المواقف؟ وهل حقق المجاهدون السابقون
طموحاتهم بتكوين حكومة إسلامية؟
- المؤسف أن التوجه الإسلامي الأفغاني أصبح ضحية الزعامات الشخصية؛
والتنافس الشخصي بين القادة الأفغان ألقى بأفغانستان وبالحركات الإسلامية في
غياهب الخراب والدمار الكبير. النزاعات العرقية واللغوية والإقليمية طغت على
الهوية الإسلامية. حتى قَبِلَ بعض القادة أن يتحالفوا مع الروس والأمريكان
للقضاء على منافسيهم. أين الروح الإسلامية الكبيرة التي أحياها الجهاد ضد
السوفيات؟ والتضحيات الجبارة التي قدمها الشعب الأفغاني ألقيت ثمارها في النهاية
في أحضان أمريكا. ومرة أخرى تعيش أفغانستان حالة من الفوضى. القوى
الاستعمارية تصول وتجول في أرض المليون ونصف المليون شهيد، ولكن دون أن
تستطيع أو يستطيع غيرها السيطرة على الأوضاع الأمنية. حتى المجتمع
الأوروبي بدأ يشتكي من أن القوات الأمريكية حولت أفغانستان ميدانًا للحرب
بدعوى مكافحة الإرهاب ولا تسهم مساهمة جدية في إعادة إعمار أفغانستان. النظام
الأفغاني الحالي، أيضًا يشتكي من عدم وجود البنية التحتية، وهو ما يهدر كل
المعونات في سبيل الحوادث الطارئة. ولا تلوح إلى الآن بوادر الخروج من حالة
الفوضى هذه.
حركة الطالبان رغم ضحالة الإمكانيات والرؤى تمكنت من استتباب الأمن
في 90% من الأراضي الأفغانية بعد أن كانت هناك حرب داخلية تلتهم الأخضر
واليابس، وتمكنت حركة الطالبان من فرض نظام القضاء والقسط حسب رؤيتهم،
وهذا ما جعل الشعب يحس بالأمن في الحل والترحال، وكانت تلك الحركة تحظى
بدعم من المولوية والزعامات الدينية المحلية والتي تعتبر نوعًا من البنية التحتية
تصل خطوطها وخيوطها إلى جميع أنحاء البلاد؛ ودون تعاون هذه البنية لا يمكن
لأي حركة من الحركات أن تتمكن من إعادة الأمن والاستقرار.
البيان: الحكومة الأفغانية المعينة في (بون) ، ثم الحكومة المنتخبة بعد
اجتماعات مجلس الأعيان الأفغاني (اللويا جركا) في كابل، هل تمثل حقًا الشعب
الأفغاني؟ وهل هي قادرة على إدارة البلاد؟
- الحكومة التي تشكلت في بون والتي تكونت بعد انعقاد (اللويا جركا)
حكومة مفروضة على الشعب من الخارج، ويعتبر التحالف الشمالي وقوات أحمد
شاه مسعود (شورائي نظار) أهم داعم لها، ولكن لا يمكن لمثل هذه التركيبة
الحكومية أن تحافظ على وحدة البلد. (حامد كرزاي) يواجه المعارضة حتى من
داخل أفراد قبيلته خاصة بعد الهجوم الأمريكي على منطقته. وزراء الحكومة
يقتلون في العاصمة واحدًا بعد الآخر. بعد مقتل عبد الرحمن الذي كان ينتمي إلى
منطقة نورستان قتل حاجي قدير الذي كان من ننجرهار ومن البشتون حتى الرئيس
كرازي نفسه تعرض لمحاولة اغتيال، وهذه دلالة واضحة على أنه لا أحد يستطيع
أن يطمئن على حياته وإن كان مسؤولاً حكوميًّا كبيرًا.
أما اللويا جركا فكانت أضحوكة، لم يسمح القائمون على المجلس لأي من
المشاركين بإبداء الرأي ولم يمنحوهم حرية القرار، وبعد مسرحية مكشوفة فرضوا
حكومة مقبولة لدى بعض الجهات الخارجية. الفائدة الوحيدة من اللويا جركا أن
عددًا من الناس وجدوا فرصة الخطابة، وخيل إليهم أنهم بذلك يدلون بدلائهم
ويساهمون في تقرير مصير البلد.
البيان: ما رؤيتكم لمستقبل القوات الأمريكية وقوات الأمم المتحدة في
أفغانستان؟ وهل هي قادرة حقا على فرض الأمن في أفغانستان كلها؟ وما
مستقبل الأحزاب والميليشيات العسكرية الأفغانية؟
- تسعى الولايات المتحدة والأمم المتحدة أن تنشيء في أفغانستان قوة عسكرية
نظامية تستطيع أن تتحكم في الأمور، وتعمل مستقلة عن العناصر الأمريكية
والغربية، وتحقق السيطرة على الأوضاع والفئات بما فيها الميليشيات المختلفة؛
ولكن السؤال هو: هل يمكنهم أن ينشئوا مثل هذه القوة المتناسقة؟ صحيح أنهم
استطاعوا أن يسلموا معظمي الدول الإسلامية إلى مثل هذه القوات القمعية، ولكن
هل يستطيعون فعل ذلك في أفغانستان والشعب يدرك أن هذه الإجراءات قد تمت
على الأيدي الخارجية.
لو استطاعت أمريكا أن تنشىء مثل هذه القوى العسكرية النظامية في
أفغانستان فسوف تصبح أفغانستان مثل عديد من الدول الإسلامية التي تحكمها الفئات
المدربة على الأيدي الغربية ليحفظوا لها مصالحها وتحكم شعوبها بالحديد والنار،
وتكون خطرًا على دول المنطقة ولكن العائق الأكبر في مثل هذه المهمة هو الخلاف
الكبير الذي يوجد بين معظم فئات الشعب.
الآمال الغربية بأن يكون للملك المخلوع ظاهر شاه دور قد ضاعت وراء
السراب، واضطر ظاهر أن يكتفي ببعض تحركات «الباطن» [*] ، وهناك بعض
الإشاعات حول إمكانية عودته إلى الغرب. وتجدر الإشارة إلى أن الوزراء الذين
لقوا حتفهم كانوا من مؤيدي ظاهر.
البيان: مع تكرار عمليات تدمير القرى وقتل المدنيين في أفغانستان.. هل
هي نتيجة سياسة مقصودة لترويض الشعب الأفغاني، أم هي دليل تدني في
المعنويات مع ضعف في المعلومات؟
- كلا الاحتمالين وارد. يعتقد الأمريكان أنهم يستطيعون السيطرة على رقاب
الأفغان بالتهديد والتخويف وفي الوقت نفسه يساورهم القلق والذعر تجاه طبائع
الأفغان.
إنهم دخلوا في بيت مفخخ. الأفغان لا يملكون ما يخشون عليه. إنهم لا
يملكون سوى حياتهم وبندقيتهم التي يخففون بها ضغوطهم النفسية.
إنهم يرون دولتهم مدمرة وتزداد تدميرا، فلجأ الكثيرون إلى حيلهم القبلية
القديمة: الغش، الخداع، والمساومة، والحرص على المال. الذي يأتي غازيًا أو
حاكمًا من الخارج لا يعرف طبائعهم هذه، ولا يحسن التعامل معهم. الملك المخلوع
كان على علم بهذا، ولكنه عجوز ولا توجد هناك أية شخصية أخرى تجتمع عليه
كل الفئات.
في الأوضاع الراهنة المتشابكة يستحيل على القوات الأمريكية أن تحقق
مآربها ثم تخرج من أفغانستان سالمة؛ وخاصة أن القوات الأمريكية حديثة العهد
بأفغانستان، ولا تعرف كثيرًا من دقائق الأمور وكنهها. الإنكليز كانوا يلمون بهذه
الحقائق ولكن الأوضاع الآن متغيرة، كما أن رعيلهم الأول والجيل الذي قضى
عمره في أفغانستان قد انتهى. وسوف يأتي الآوان الذي تفهم فيه أمريكا أن نزعة
السيطرة على العالم كله ضرب من الجنون، والأوهام سوف تتبدد وتتحطم على
صخور الحقيقة.
__________
(*) لمح الرئيس كرازي إلى رغبته في الاستقالة من الرئاسة وتسليمها لابن الرئيس المخلوع، ولا ندري مدى قرب ذلك من عدمه لكنه احتمال قائم ويصب في خانة السيطرة الغربية التي لن تستطيع أن تلقى التأييد الكامل من الشعب الأفغاني - البيان -.(180/60)
المسلمون والعالم
حرب الخليج الثالثة.. وتداعياتها الخطرة
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
عَرْك العراق وعزلها وإذلال شعبها أصبح ضرورة أمريكية، وحاجة
إسرائيلية، ومطلباً ظالماً للشرعية الدولية، وهو قبل هذا وذاك مقصد توراتي قديم،
وغرض إنجيلي صهيوني حديث، فشرق العراق وغربها تواصل ذكرهما في
التوراة التي يدين بها اليهود والنصارى من أول البدء إلى غاية الانتهاء؛ حتى إن
اسم (بابل) ذُكر في التوراة أكثر من مئتي مرة على أنها مدينة الإثم والفجور
والشرور.
أما (آشور) فلم تكن أقل سوءاً، فلئن كان البابليون في غرب العراق بقيادة
(بختنصر) هم الذين اجتاحوا بلاد بني إسرائيل فخرَّبوها ودمروها وساؤوا وجوه
أهلها، وسبوهم سبياً جماعياً في عام (586) قبل الميلاد، فيما عرف تاريخياً
بمرحلة (السبي البابلي) ؛ فإن الآشوريين سبقوا إلى ذلك بقيادة (سرجون) في
شمال شرق العراق فنفوا الإسرائيليين نفياً جماعياً في عام (720) قبل الميلاد.
كراهية العراق وبغض العراقيين جزء من عقيدة أهل الكتاب، وعداء كفار
بني إسرائيل من النصارى للعراق وأهله؛ لا يقل عن عداء كفار بني إسرائيل من
اليهود؛ لأن كلاً منهما يدين بالتوراة التي تدين العراقيين بالإجرام في حق «الشعب
المختار» قبل مجيء صدام حسين بأكثر من أربعة آلاف عام، فالأمر إذن ليس
بجديد، ولا هو فقط وليد الكراهية الظاهرة أو المتظاهرة لشخص الرئيس العراقي.
والعجيب هنا؛ أن تأسيس العداوة للعراق في التوراة بمقتضى أحداث الأزمنة
القديمة؛ امتد إلى إدامتها حتى الأزمات الأخيرة التي تسبق قيام الساعة، فالبابليون
الذين سلطهم الله على بني إسرائيل بعد إفسادهم الأول كما تشهد التوراة هم الذين
سيسومون اليهود سوء العذاب في آخر الزمان بحسب نبؤات التوراة أيضاً؛ وذلك
بسبب إفسادهم الأخير، جاء في كتاب التوراة، في سفر حزقيال: «وكان إليَّ
كلام الرب قائلاً: وأنت يا ابن آدم، عيِّن لنفسك طريقين لمجيء سيف ملك بابل.
من أرض واحدة تخرج الاثنتان» [سفر حزقيال: 12/18 - 19] ، والمعنى:
اختر المصير الذي سترى فيه العقوبة الإلهية على الإفساد الأخير، كما كانت
العقوبة على الإفساد الأول، والعقوبتان ستخرجان من أرض واحدة هي أرض بابل.
وتبين التوراة في ذلك السفر أيضاً سبب هذه العقوبة الواقعة على اليهود،
بخطاب متوجه إلى الأرض المقدسة: «فيكِ أهانوا أباً وأماً، في وسطكِ عاملوا
الغريب بالظلم، فيكِ اضطهدوا اليتيم والأرملة» ، وجاء فيه أيضاً: «من أجل
ذلك حيٌ أنا، يقول السيد الرب: من أجل أنك قد نجست مقدسي بكل مكروهاتك
وبكل أرجاسك، فأنا أيضاً أجُزُّ ولا تشفق عيني، وأنا أيضاً لا أعفو، ثلث يموت
بالوبا وبالجوع يفنون في وسطك، وثلث يسقط بالسيف من حولك، وثلث أذريه في
كل ريح، وأستل سيفاً وراءهم» [سفر حزقيال: 5/11 - 13] .
وأما من سيكون أداة قدرية للعقاب؟ فهو قائد بلاد بابل، وهو رجل من آشور
يُدعى (الآشوري) ، تدل نصوص التوراة على أنه سيُسلط على شعب المغضوب
عليهم، فينهب ثرواتهم ويهينهم في الطرقات: «ويلٌ لآشور قضيب غضبي،
والعصا في يدهم هي سخطي، على أمة منافقة أرسله، وعلى شعب سخطي أوصيه؛
ليغتنم غنيمة وينهب نهباً، ويجعلهم مدوسين كطين الأزقّة» [سفر أشعياء 10/
5 - 6] .
إذن؛ فكفار أهل الكتاب في هذا العصر، من يهود ونصارى، يخافون على
مصير يصير إليه المسيطرون على الأرض المقدسة يشبه مصيرهم يوم اجتياح
البابليين لأرضهم أيام الملك البابلي (بختنصر) .
وحديث الوحي الخاتم لا تبعد ملامحه كثيراً عن ذلك، فالقرآن يدل على أن
هناك إفسادين كبيرين سيقعان من بني إسرائيل [1] ، وأن الإفساد الأخير منهما
ستتكرر العقوبة عليه بشكل مشابه للعقوبة على الإفساد الأول: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً
* ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ
أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ
وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: 4-7) .
ولعلنا هنا نفهم بعض الخلفيات والدوافع التي تكمن وراء الموقف العدائي
الغربي البروتستانتي من العراق، وإصراره المتآزر مع اليهود على إطالة مدة عزله
وحصاره تمهيداً لتفكيكه ودماره، لعلهم يؤخرون المصير المحتوم كما يعتقدون لـ
«إسرائيل» على يد العراقيين.
أو يعجلون الانتقام الذي سيأتي دوره على العراقيين بعد عقاب الإسرائيليين؛
حيث يعتقدون أيضاً أن عصا الانتقام ستدور عليها الدائرة فتنكسر ثم تبيد، ففي
السفر نفسه من أشعيا تلعب يد التحريف الذي يتحول إلى عقائد، فيجيء فيه:
«ولكن هكذا يقول السيد رب الجنود: لا تخف من آشور يا شعبي الساكن في
صهيون، يضربك بالقضيب ويرفع عصاه عليك على أسلوب مصر؛ لأنه بعد قليل
جداً يتم السخط وغضبي في إبادتهم» [سفر أشعياء: 10/ 24 - 25] .
فإبادة العراق بعد ضرب (إسرائيل) عقيدة يدين بها المؤمنون بالتوراة
اليوم.
وبطبيعة الحال؛ فإن هذه الخلفيات الدينية لا تقف وحدها وراء النية الغربية
الشريرة ضد العراق، ولكن هناك بلا شك دوافع أخرى عديدة سياسية واقتصادية
وحضارية، ولكنها كلها تغذيها وتنميها المسوغات الدينية المزعومة.
لقد هال الغرب واليهود معاً أن العراق كان قد بدأ يشب عن الطوق مع دنوِّ
الألفية الثالثة، واقترب جداً قبل حرب الخليج الثانية من القدرة على تملك السلاح
النووي، مع حيازته للسلاح الكيمياوي والبيولوجي، ومع كون العراق دولة غنية
وبترولية، وعظيمة في مواردها المائية الزراعية، والمعدنية الصناعية، والبشرية
التقنية، لهذا فقد كان لزاماً أن يُخضَع لعمليات إرباك وتوريط تستهدف تعويق تقدمه
وانطلاقه، وهو البلد الذي لم تفصل بينه وبين دولة اليهود المتربصة بالمنطقة كلها
سوى صحراء جرداء فقيرة آلت إلى بقايا الأسرة الهاشمية المالكة للعراق سابقاً.
وكل الدلائل الآن تشير إلى أنه كان هناك دور غربي مباشر في توريط
العراق في صراعات مع جيرانه جميعاً، سوى دولة اليهود وحماتها، ولم يكن هذا
التوريط بداهة بعيداً عن بطانة السوء التي اتخذها النظام البعثي العلماني الذي التقط
طُعم المؤامرة بكل غباء وغرور.
* حرب الخليج الأولى: حرب الإرباك:
جاءت هذه الحرب بإطماع غربي لصدام حسين، بعد عام واحد من تسلمه
السلطة، بأن يدخل في منازلة كبرى لتصفية الثورة الإيرانية الناشئة التي قام بها
الشعب الإيراني عام 1979م، ضد الحكومة الموالية للغرب وأمريكا بزعامة شاه
إيران السابق (رضا بهلوي) ، ومهما قيل عن ملابسات نشوب تلك الحرب
ونتائجها، فقد جاءت تحقيقاً لرغبة يهودية أمريكية، وتطبيقاً لسياسة عبَّر عنها
وزير الخارجية الأمريكي اليهودي الأسبق (هنري كيسنجر) عندما قال أكثر من
مرة: «سياستنا تجاه هذه الحرب: ألا تُهزم إيران، وألا ينتصر العراق» !
فالسياسة الأمريكية كانت مع مد الحرب بأسباب الاستمرار، حتى طالت مدة ثمانية
أعوام، حصدت فيها أرواح نحو 450 ألف عراقي، وتكبدت إيران مليوناً من
القتلى والجرحى والمشردين، وأنفقت في تلك الحرب عشرات المليارات من
الدولارات التي دخلت خزائن الغرب مقابل صفقات السلاح للطرفين، والتي كان
من أغربها شراء إيران السلاح من (إسرائيل) بوساطة من الرئيس الأسبق رونالد
ريجان، فيما عرف بفضيحة (إيران جيت) .
ورغم طول الحرب وشدة مقاومة الإيرانيين لجيش صدام حسين في تلك
الحرب، فقد خرج العراق منها بجيش نظامي يضم 600 ألف مقاتل نظامي،
إضافة إلى 500 ألف مقاتل غير نظامي، وببرنامج متقدم للأسلحة الكيمياوية وثانٍ
للصواريخ، وثالث لصنع السلاح النووي.
وإن كان كل هذا قد جاء على حساب الاقتصاد الذي بدأ يعاني الاختناق بسبب
خسائر بلغت 452 مليار دولار، وتعويضات بلغت 97 مليار دولار، فظل صدام
يبحث عن مخرج؛ لأنه عندما تتضاعف القوة العسكرية، وتضعف القوة
الاقتصادية فلا مناص من حل مغامر، ينقذ القوتين أو يفقدهما معاً، وذلك ما حدث!
* حرب الخليج الثانية: حرب الإنهاك:
كان خروج العراق قوياً من الناحية العسكرية من حرب الخليج الأولى مقلقاً
للغرب، وبالرغم من أن تلك الحرب كانت بداية لاستنزاف ثروات المسلمين في
بلدان الخليج كلها، إلا أن ذلك لم يخفف من أحقاد الأمريكيين والأوروبيين، ولم
يجفف ينابيع الحسد في قلوبهم على ما أفاء الله تعالى به على شعوب تلك المنطقة
من خيرات، وصدق الله إذ يقول: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ
المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو
الفَضْلِ العَظِيمِ] (البقرة: 105) .
وأعداء المسلمين يعلمون أن ثروات المسلمين لا بد أن ينصرف نصيب منها
مهما قل لصالح دعوة الإسلام التي يبغضونها ويكرهون العزة لها.
ولا بد أن يخصص نصيب منها لتسليح الجيوش وتقويتها؛ لهذا كان لا بد من
كَرَّة أخرى من الحرب في المنطقة، لا يكون فيها منتصر ولا مهزوم، بل الكل فيها
خاسر ومأزوم.
وبوحي من شياطين الإنس؛ تنزلت على صدام إلهامات (البعث العربي
الاشتراكي) ليقود «نضال» القومية العربية من أرض الكويت المنهوبة إلى
أرض فلسطين المغصوبة، بعد عامين فقط من انتهاء الحرب مع إيران، وصدَّق
الناس الشعارات، بل صدقها صاحبها حين لم يجد مخرجاً لتجييش الأمة من ورائه
بعد الورطة سوى أن يطلق على (إسرائيل) عدداً من الصواريخ التي حرص
مطلقوها أن يجردوها من أي أسلحة كيمياوية أو بيولوجية كتلك التي أُمطر بها
الشيعة في إيران، أو الأكراد في (حلبجة) ! والتي قتلت ما لا يقل عن خمسة
آلاف كردي، في حين أن خسائر إسرائيل من صواريخ صدام السبعة والثلاثين
كانت قتيلاً واحداً سقط عليه أحد الجدران.
لقد قامت تلك الحرب التي أرادت أمريكا قيامها، بإعطائها لصدام ضوءاً
أخضر لغزو الكويت [2] ، وسرعان ما حشدت أمريكا العالم خلفها، لا لافتداء حرية
الكويت ولكن لإفناء قوة العراق وبسط السيطرة على منابع النفط وإتمام حماية دولة
اليهود من أي خطر مستقبلي، وقد ظهرت نوايا أمريكا تجاه العراق والعراقيين على
لسان جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي في عهد بوش الأب؛ حيث قال لطارق
عزيز في الاجتماع المثير الذي ضمهما قبل بدء الحرب بأسبوع: «إذا استمر
العراق على مواقفه؛ فسنرجعه إلى عصر ما قبل الصناعة» ! وقد بدأ تنفيذ هذا
الوعيد مع بدء الحرب؛ حيث ألقي على الشعب العراقي أكثر من مائة ألف طن من
المتفجرات، منها مئات الأطنان من اليورانيوم المنضب [3] ، وذلك طوال مدة
الأربعين يوماً التي استغرقتها الحرب، وكانت قوات التحالف بزعامة أمريكا قد
حشدت لتلك الحرب 850 ألف عسكري، و 750 طائرة، و 60 سفينة حربية،
و1200 دبابة.
وكان الجنرال (ميشيل دوغان) رئيس هيئة أركان القوات الجوية الأمريكية
قد وجه قادة قواته «باستهداف كل ما هو فريد في حضارة العراق، وكل ما يعتبره
العراقيون قيماً علياً، وكل ما يترك أثراً نفسياً على الشعب العراقي» ، وقال لهم:
«إن الطرق، وسكك الحديد، ومنظومات الطاقة أهداف جيدة، ولكنها ليست
كافية» ! وقد نفَّذ غربان الجو الأمريكان تلك التعليمات بأمانة الخونة وإخلاص
المجرمين عندما يتفانون في إتقان الجرائم الهمجية ضد الشعوب، واستمرت ترجمة
تهديدات جيمس بيكر بإرجاع العراق إلى عصر ما قبل الصناعة على أرض
الواقع طيلة السنوات التي أعقبت الحرب؛ من خلال حصار ضار ألحق
بالعراقيين أسوأ مما حاق بهم أثناء الحرب، وقد شهدت الأمم المتحدة التي
أصدرت قرارات الحصار وأشرفت على تنفيذه؛ أن (وعد بيكر) قد تحقق، وذلك
على لسان وكيل المنظمة الدولية للشؤون الإدارية (مارتي إيتسارى) ، فقد قام
بزيارة إلى العراق في مارس (آذار) 1999م، وعاين بنفسه مدى الدمار الذي
أحدثته الحرب وما تبعها من حصار، وأدلى بتصريح بعد الزيارة قال فيه: «لا
شيء مما رأيناه أو قرأناه من الذي أصاب هذا البلد يمكن التعبير عنه، لقد تسببت
الحرب والحصار في نتائج لا يمكن تصورها على البنى التحتية الاقتصادية.. إن
العراق الذي كان حتى يناير 1991م بلداً مدنياً وتقنياً إلى حد بعيد، قد أعيد الآن
إلى عصر ما قبل الصناعة» ! وعصر ما قبل الصناعة الذي أُعيد إليه العراق، لم
يكن في المجال الاقتصادي فقط، بل شمل المجال الطبي والتعليمي والإعلامي تحت
ظل الحصار المتواصل، وأما المجال العسكري؛ فقد خسر العراق بانتهاء الحرب
أربعة آلاف دبابة، و 1300 قطعة مدفعية، و 240 طائرة، و 1856 عربة
لنقل القوات، وما بين سبعين إلى مائة ألف جندي، بحسب التقديرات الغربية!
ولكن العراق على الرغم من كل ذلك؛ ظل شبحه مخيفاً للغرب وإسرائيل، فقد
ظل الجيش العراقي بعد حرب الخليج يضم 400 ألف مقاتل، ويمتلك 2500 دبابة،
و1500 قطعة مدفعية، و 300 طائرة رابضة على أراضيه بخلاف ما احتجزته
إيران، وما امتنعت عن تسليمه تونس من الطائرات التي أودعها العراقيون لديهم
إبان بدء الحرب.
إن بقاء تلك القوة في الجيش العراقي، إضافة إلى بقاء صدام نفسه على رأس
الحكم في العراق، جعل الشعب الأمريكي ينظر إلى انتصار جورج بوش الأب
على أنه انتصار ناقص، ولهذا لم يشفع له تحرير الكويت ولا السيطرة على آبار
النفط في الخليج في أن يجدد الأمريكيون له مدة رئاسية ثانية؛ فأسقطوه بجدارة،
ولحقت بحزبه الجمهوري ذي الاتجاه اليميني الديني هزيمة منكرة، أضافت إلى
أحقاده ضد العراق أحقاداً جديدة.
* سنوات الحصار:
كان عهد كلينتون بالنسبة للعراق عهداً أسود؛ إذ في ظله شُددت وطأة
الحصار على المدنيين، وكُثفت حملات التفتيش على الأسلحة، وأظهرت سنوات
الحصار العشر الماضية، أن أمريكا قصدت منه إيذاء الشعب العراقي قبل الحكومة
العراقية، وهذا مسلك أمريكي عريق في ممارسة الظلم ضد الشعوب، عبَّر عنه
السياسي الأمريكي الشهير «مستر دالاس» بقوله: «إن الحظر الاقتصادي سلاح
شامل جداً، وبديل دائم لاستخدام القوة التي تثير النفور» ! وعندما يتخطى الحظر
الاقتصادي الغذاء والكساء ويصل إلى الدواء، فالحظر عندئذ ليس سلاحاً شاملاً فقط
كما يقول دالاس بل هو دمار شامل.
والولايات المتحدة هي أكثر دول العالم استخداماً لهذا الدمار الشامل، وهي إذ
تمارس هذا القتل الجريء البطيء؛ تحاول دائماً أن تغطي وجهها القبيح بأقنعة
الخداع المصنوعة في أروقة منظمة الدجل الدولية: الأمم المتحدة، يقول (تام داليل)
عضو مجلس العموم البريطاني معلقاً على صيغة (النفط مقابل الغذاء) التي تم
ابتكارها لتجميل بشاعة الحصار: «صيغة النفط مقابل الغذاء مكيدة سياسية،
هدفها» تبرئة الذمة «مما يحدث للشعب العراقي، فهي عملية نزع مستمرة لمدنية
وتطور العراق تحت إشراف الأمم المتحدة» ! والحصار الذي بدأ مع حرب الخليج
واستمر لأكثر من عشر سنوات بعدها، كان تتمة لمهمة إنهاك العراق، فقد كان
بوسع الولايات المتحدة أن تجبر صدام حسين على وثيقة يقر فيها بالهزيمة، ولكنها
لم تفعل، بل أرادت أن تسمح له بأن يدعي الانتصار أمام شعبه ريثما تكتمل مهمة
التنكيل بالشعب العراقي وابتزاز الشعوب المجاورة له، فالحصار دائماً لا يُسقط
الحكومات، ولكنه يذل الشعوب ويضعفها إلى الحد الذي يمكِّن الأنظمة منها أكثر
وأكثر.
حصيلة حصار السنوات العشر الماضية تؤكد هذه المقولة، وشعب العراق
اليوم أضعف منه في أي مرحلة فاتت، بينما ظل صدام متمكناً من السلطة ولم يهزه
الحصار الطويل عن كرسيه الصلد.
لقد كانت الخسائر البشرية من جراء ذلك الحصار أكثر مما خسره العراق في
حرب الخليج الأولى والثانية، ويزداد الأمر أسى عندما نعلم أن المليون ونصف
الذين فقدهم العراق من ذلك الحصار الممتد، أكثرهم من الأطفال، وبشهادة
(دينيس هاليداي) الرئيس السابق لبرنامج «النفط مقابل الغذاء» التابع للأمم
المتحدة، فإن العراق يفقد شهرياً ما بين 5 إلى 6 آلاف طفل نتيجة الحصار، وهذا
أيضاً ما قررته «منظمة اليونيسف» و «منظمة الصحة العالمية» التابعتان للأمم
المتحدة، بل إن تقارير تلك المنظمة تقول إن المعدل المذكور من الضحايا قد يكون
أقل من المعدل الحقيقي؛ نظراً لأن نسبة كبيرة من وفيات الأطفال في القرى أو
الأماكن الفقيرة لا تسجل أصلاً.
وتقول الأرقام المتداولة إن 30% من العراقيين يعانون من سوء التغذية في
ظل الحصار. ويذكر (دينيس هاليداى) [4] أيضاً في حديث له مع قناة الجزيرة
في أن 25% من تلاميذ المدارس في العراق يتركون الدراسة للتفرغ لأي عمل
يضمن كسب القوت اليومي، كما أن نحو عشرة آلاف مدرس تركوا مهنة التدريس
واتجهوا لأعمال أخرى لأسباب معيشية.
نقول: هل يعقل أن يجوع العراقيون وهم يسكنون أرض الرافدين، وبلدهم
هو البلد الذي يملك ثاني احتياطي للنفط في العالم؟!
إنه لأمر محيِّر! ولكن ضباب الحيرة يتلاشى عندما نتذكر قول الرسول صلى
الله عليه وسلم عن خطورة تولية الأمور لغير أهلها: «إذا وسِّد الأمر لغير أهله
فانتظر الساعة» [5] .
ومن عجيب الأمر أن يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن جوع يصيب
أهل العراق قبل قيام الساعة، نظن والله أعلم أن المقصود به هو ما يحصل الآن
للعراقيين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم
قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل العجم يمنعون ذاك. ثم قال:
يوشك أهل الشام ألا يُجبى إليهم دينار ولا مُدْيٌ. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل
الروم» [6] .
نحن أمام معدل من ضحايا الجوع يساوي أكثر من ضعف ضحايا القتل في
11 سبتمبر، يُقتلون شهرياً على مرأى ومسمع من العالم «الحر» والعالم
المستعبد أيضاً.
* لعبة الأزمات وتعميم العقوبات:
إذا كان الشعب العراقي هو المقصود المباشر بالحصار والعقوبات الاقتصادية
خلال السنوات الماضية؛ فإن المجتمعات العربية الأخرى قد استُهدفت بعقوبات
أخرى، تمثلت في عمليات شد الأعصاب، واللعب بالأزمات لابتزاز الأنظمة
وإرهاب الشعوب، فعند إعادة قراءة الأحداث منذ انتهاء حرب الخليج الثانية، تبدو
الولايات المتحدة الأمريكية على مسرح أحداث الخليج المتتالية، كمثل شخص يقوم
بدور (مخلِّص) بين طرفين يتشاجران، ولكنه بدلاً من أن يفض المشاجرة ويقنع
الطرفين بالانصراف لحال سبيلهما، إذا به يتشاجر لئلا تنتهي المشاجرة!! فيظل
يحرك الأحقاد ويثير الضغائن بين المتخاصمين، ويذكرهما بأسباب الشقاق كلما
اتجها نحو الهدوء، أو تعبا من الصراع! هذا ما كانت الولايات المتحدة تقوم به
بانتظام لضمان توتر العلاقة بين العراق وجيرانه، وإلى جانب ذلك أشعلت الولايات
المتحدة أزمات عدة خلال السنوات العشر الماضية، كانت توظفها بلا شك
لمصالحها ومصالح الدولة العدوة (إسرائيل) ، ولا يُعفى نظام صدام من تهمة الغباء
في الاستجابة لدعوات الإثارة في بعض المرات، فإنه كان يظهر في أحيان كثيرة،
وكأنه يؤكد ما تتهمه به أمريكا من أنه يمثل خطراً على جميع جيرانه، بل على
جميع العالم.
- ففي أزمة عام 1993م، وفي بداية عهد بيل كلينتون، ادعت الولايات
المتحدة أن بعض العملاء العراقيين حاولوا الاعتداء على حياة الرئيس السابق
جورج بوش (الأب) أثناء زيارته للكويت، وقبل أن تثبت أمريكا ذلك سارعت
كعادتها بتنفيذ العقوبة قبل إثبات التهمة، فأمطرت بغداد بوابل من صواريخ
(كروز) ، لم يسقط أي منها على أحد من المتهمين بمحاولة الاعتداء، ولكن
الصواريخ فقط روعت الشعب المنكوب الخارج لتوِّه من حرب الانتقام التي سميت
«حرب التحرير» !
- وفي أزمة عام 1996م كانت الولايات المتحدة قد أغرت الأحزاب الكردية
العلمانية بالانقلاب على النظام، وبينما هم يقومون بتشجيع منها بثورتهم
وانتفاضتهم في الشمال؛ إذ بها تضرب بـ (كروز) في الجنوب!
- وفي أزمة 1997م كانت الولايات المتحدة قد دبرت بالتعاون مع لجان
التفتيش بالأمم المتحدة أزمة جديدة، تتعلق باتهام النظام العراقي بتخزين أسلحة
الدمار الشامل في القصور الرئاسية، وهددت أمريكا وتوعدت وحشدت حشودها
مرة أخرى لخوض حرب جديدة إذا لم يسمح صدام بتفتيش القصور! وكعادته:
تمنَّع صدام وترفع، وجادل وماطل، فأوحى للعالم أن أمريكا صادقة في ادعائها،
وحبست دول العالم أنفاسها، وجهزت دول الجوار نفسها لحرب طاحنة جديدة،
كانت لها بالطبع صفقاتها وميزانياتها ولكن ... وفي النهاية سمح صدام بتفتيش
المواقع الرئاسية البالغة ستين موقعاً، فلم تقع لجان التفتيش في داخلها على أي
شيء محظور! ومضت الأزمة ...
- وفي منتصف عام 1998م افتعلت أمريكا عن طريق لجان الأمم المتحدة أو
بالأحرى لجان الولايات المتحدة للتفتيش على أسلحة الدمار الشامل أزمة جديدة؛
بادعاءات عن وجود غاز (في إكس) القاتل، بكميات كبيرة داخل العراق، ولما لم
تجد له أثراً في طول البلاد وعرضها، إذا بها تفتش في دفاترها القديمة، فوجدت
أنه من الممكن أن يكون هذا الغاز قد استخدم في الماضي، فأمرت بالبحث عنه بأثر
رجعي!!
وبالفعل أثيرت ضجة كبرى حول جريمة استخدام هذا الغاز أثناء الحرب
المنتهية، وأصر الأمريكيون على اختبار بقايا الصواريخ العراقية التي استخدمت
في حرب الخليج، وتوسطت الأمم المتحدة في ذلك، وأمرت بشحن رفات
الصواريخ إلى فرنسا وسويسرا، وكانت المفاجأة!
لقد أعلنت الدولتان أن الصواريخ كانت خالية من أي أثر للغاز السام، فكان
هذا بمثابة تكذيب لأمريكا، وتخطئة لها في إثارة الأزمة الجديدة، فما كان من
الأمريكان إلا أن كذبوا التكذيب وخطؤوا التخطئة، وبدؤوا يستعدون للبحث عن
أزمة جديدة مفتعلة!
- في عام 2000م تبين للسلطات العراقية أن لجان التفتيش التابعة للأمم
المتحدة تضم في عضويتها جواسيس صرحاء، منهم يهود إسرائيليون، وهنا أمرت
السلطات بطرد تلك اللجان، فاعتبرت الولايات المتحدة هذا القرار من العراق
بمثابة تفويض مفتوح لأمريكا بأن تتصرف بمفردها لمواجهة خطر العراق على
سلام المنطقة وسلام العالم، وسلام الأمن القومي الأمريكي نفسه!
وظلت أمريكا، منذ ذلك الحين، توحي للعالم بأن صدام انتزع بالقوة فرصة
الانفراد بصنع أسلحة الدمار الشامل، دون أي رقابة من أي جهة دولية!
وتركت الولايات المتحدة والأمم المتحدة العراق منذ ذلك الحين بلا رقابة ولا
تفتيش، كي تحكم ترتيب مسرحية ترهيب جديدة لدول المنطقة، تتلخص روايتها
في أن صدام قد نجح بالفعل في إعادة بناء قوة جبارة تقليدية وغير تقليدية يمكن بها
أن يعيد غزو جيرانه ويهدد سلام العالم، بل أعلنت بريطانيا أنه قد يكون نجح
بالفعل في صناعة قنبلتين نوويتين؛ ليتناسب ذلك مع بشاعة المسرحية المبيتة.
وتُرك موعد رفع الستار عن أولى فصول المسرحية لكي يتواكب مع مرحلة
جديدة؛ يكون العالم فيها مهيأ لتصديق أي أكذوبة أمريكية جديدة تتعلق بصدام حسين،
ولو كانت أكذوبة من العيار الثقيل مثل: تعاون صدام مع تنظيم القاعدة!
وقبل أن أغادر هذه النقطة، أود الإشارة إلى أن سياسة التوتير والتخويف
واللعب بالأزمات، قد آتت أكلها وألقت به في فم الشراهة الأمريكية، على شكل
صفقات ضخمة من مبيعات الأسلحة للدول العربية، فالعرب الذين أقنعتهم أمريكا
بوداعة (إسرائيل) ولطفها وحرصها على سلام دائم وشامل وعادل مع جيرانها؛
استطاعت أيضاً أن تقنعهم بأن بعضهم لبعض عدو، وهذا يستدعي مزيداً من
التأهب، ومزيداً من التسلح، ومزيداً من الإنفاق العسكري الذي ينزف من قلوب
شعوب العرب دماً؛ ليسيل في خزائن ذئاب الغرب ذهباً!!
بلغ الإنفاق العسكري في منطقة الشرق الأوسط عام 1998م حوالي 60 مليار
دولار (مع أنه لم تقم أي حرب) ، ولم يختلف إنفاق عام 1999م عنه كثيراً، أما
في عام 2000م وما بعده فقد زادت معدلات الإنفاق على التسليح في المنطقة؛ بفعل
التوترات التي بدأت تظهر مع بدء أحداث فلسطين، وبالرغم من أن دول الخليج
ليست طرفاً مباشراً في الصراع العسكري مع اليهود، فإن أثر التخويف بصدام
خلال السنوات العشر الماضية ظهر في ارتفاع معدل الإنفاق العسكري لتلك الدول،
فالإنفاق على التسليح في الخليج يأتي في المرتبة الأولى على الخريطة الإقليمية،
وهو يمثل 12% من إجمالي الدخل القومي لدول الخليج، و 70% من مجموع
الإنفاق العربي على التسليح، و 120% من إجمالي إنفاق دول الطوق المحيطة بـ
(إسرائيل) ! ومع أن الدولة العدوة تنهال عليها نفقات التسليح بسخاء من كل أعداء
المسلمين في العالم وعلى رأسهم أمريكا؛ فإن تقريراً لمعهد الدراسات الاستراتيجية
في واشنطن صدر عام 2000م؛ يؤكد أن الدول العربية تتفوق على دولة اليهود من
حيث الكم في الأسلحة التقليدية!! ماذا يعني هذا؟! وضد من يكدس هذا السلاح؟!
ولصالح مَنْ سيحارب بهذا السلاح أو سيختزن والشعب الفلسطيني لا يزال يقاتل
بالحجارة؟!
* حرب الخليج الثالثة: حرب الإنهاء:
تتعامل أمريكا في حربها ضد العراق على طريقة الرياضة الإجرامية الإسبانية
اللاإنسانية المسماة (مصارعة الثيران) ، فبعد ثلاثة عشر عاماً على نهاية حرب
الإرباك (الخليج الأولى) ، وأحد عشر عاماً من انتهاء حرب الإنهاك (الخليج
الثانية) ؛ تعاد تهيئة المسرح لحرب خليج ثالثة؛ يراد لها أن تكون حرب الإنهاء
لسيادة العراق ولوحدة أراضيه وقوة كيانه، حرب جديدة تتهيأ للنشوب، بالطاقم
نفسه (من الطرفين) ، وبالوجوه والأسماء نفسها، حتى اسم الزعيم الغائب
(جورج بوش) قد عاد في عملية استنساخ انتخابية هزلية (متخلفة) جاءت بولده
إلى كرسي الرئاسة بعد ست سنوات، بفارق عدد ضئيل من الأصوات المفروزة
بالأيدي، فيما يشبه جمهورية ملكية في أكبر بلدان الديمقراطية! وكأن الطاقم نفسه
والأسماء نفسها بل والصراعات والشعارات نفسها؛ يستعد أبطالها لإعادة تمثيل
مشهد لم يحسن المنتج إخراجه في المرة السابقة! جاء جورج بوش (الابن)
ليصحح أداء جورج بوش (الأب) ، ويسد الثغرات العملاقة في ملحمته الناقصة.
هذه أهم معالم مرحلة بوش الثاني منذ بدأت؛ حيث بدأ عهده الرئاسي، وقبل
أن يثبَّت رسمياً؛ بإطلاق عدة صواريخ على العراق، في إشارة واضحة تقول
للعالم: ها قد عاد جورج بوش للصدام مع صدام! وها هي أمريكا قد عادت لتشغل
العالم وتشعله بدعوى التصدي لخطر العراق.
ولكن حدثاً هائلاً شوش على انتظام المسيرة المثيرة، وهو تحول الخطر
الوهمي ضد أمريكا إلى خطر حقيقي بوقوع أحداث سبتمبر، فكان لا بد من ربط
بين الخطرين: الوهمي والحقيقي، الأسطوري والواقعي؛ لأن أمريكا لم تعد في
وارد اللعب بالأحداث واللعب بالأزمات واللعب بالشعوب كما كان عهدها، فقد
أدخلتها أحداث سبتمبر في محل المفعول به، بعد أن احتكرت على نحو دائم محل
الفاعل المرفوع بالجبروت!
وبعد عام من أحداث سبتمبر التي تعرضت فيها أمريكا للغزو الجوي المدني؛
يجد الأمريكيون أنفسهم في حكم المضطرين للتعجيل بغزو مؤجل منذ أكثر من عشر
سنين وهو غزو العراق، وتغيير نظام الحكم فيه بالقوة الداخلية أو الخارجية. وهو
غزو له دوافعه العديدة وأهدافه البعيدة، وقد يبعد بعضها أو يقرب من هواجس ما
بعد سبتمبر، ولكنه لا يبعد أبداً عن الثأر التاريخي، النصراني اليهودي، مع
أرض العراق وشعب العراق.
لقد أطلق جورج بوش بعد أحداث سبتمبر على العراق وإيران إضافة إلى
كوريا الشمالية وصف (محور الشر) ، وهذا الوصف «التوراتي» لم يأت جزافاً،
فاليميين الإنجيلي الحاكم في أمريكا الآن؛ يدين بمنظومة عقائدية تقسم العالم دينياً
إلى محورين: محور للشر يسكن الشرق، ومحور للخير يعيش في الغرب أو ما
يدور في فلكه، هذا ما يبثه فيهم القساوسة الإنجيليون اليمينيون في أمريكا وغيرها،
وهكذا تعلم تلميذهم البار (جورج بوش) الأب والابن معاً.
وكما سبق أن ذكرت؛ فإن التوراة التي يستمد منها الحكام العقائديون عقائدهم
في أمريكا وغيرها، تجعل من (إسرائيل) محوراً لاهتمام العالم حتى تقوم الساعة؛
وتجعل من العراق أهم خطر على ذلك المحور، وعلى الرغم مما يبدو على ذلك
الطرح الصهيوني الإنجيلي من علامات الخرافة والأسطورية؛ فإن تعامل النصارى
البروتستانت معه في السنوات الأخيرة يثبت أنهم ينطلقون في تحركاتهم بالفعل من
«مسلَّمة» أن (إسرائيل) هي المركز المحرك لمحور الخير، والعراق هي
المركز في محور الشر، وأن مركز محور الخير سيضم إليه مع الزمن عناصر من
قوى الخير، في حين أن المركز في محور الشر سيجذب إليه مع الزمن أيضاً
عناصر من قوى الشر.
ومما يزيد الطين بلة؛ أن الدعاية الإنجيلية التي تروج لاعتبار صدام حسين،
هو رمز الشر الآتي من الشرق، تستند إضافة للنبوءات التوراتية، إلى نبوءات
الكاهن الفرنسي اليهودي الشهير (نوستراداموس) المتوفى سنة 1566م والذي كاد
الغربيون يعدونه نبياً في تصديقهم لنبوءاته التي يقولون إنه قد تحقق منها الكثير،
يقول هذا المنجم في كتابه الشهير (قرون) في النبوءات القريبة من الألفية الثالثة:
«ملك أوروبا يأتي كالنسر، مصحوباً بأهل الشمال، يقود جيشاً من الأحمر
والأبيض، يذهبون ضد ملك بابل، (ماباس) [7] سيموت، بعدها دمار رهيب
للإنسان والحيوان، فجأة يظهر الثأر، عطش وجوع عندما يمر المذنب» [8] .
* التعجيل بالحرب.. دوافع وأهداف:
اجتمعت لأمريكا عدة دوافع لتحقيق عدة أهداف، أصبح من الواضح أن حرباً
ثالثة في الخليج هي المنفذ الأقرب إن لم يكن الوحيد لتفعيلها في الواقع، وهناك
مستجدات تدفع للتعجيل بتلك الحرب، إضافة للاستحقاقات القديمة التي يرى
الأمريكيون والإسرائيليون أنه قد آن الأوان لفتح ملفاتها أو خرائطها على جبهة
الصراع، وعلى رغم التداخل الشديد بين الدوافع والأهداف؛ فإن الجامع بينهما هو
أن أعداء الأمة يريدون تسديد ضربة إجهاضية جديدة تكفي لتجميد مسيرتها، بل
تدفعها إلى التقهقر على مستوى الزمان والمكان والإنسان، ولو رجعنا نتأمل في
معطيات الأحداث والدراسات والتصريحات المتعلقة بذلك الشأن في السنوات
والأشهر الأخيرة، لوجدنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد من إشعال حرب ثالثة
في الخليج تحقيق ما يلي:
1 - إلغاء دور العراق كمصدر إزعاج وخطر واقع أو متوقع على مصالح
أمريكا وإسرائيل، لتدخل المنطقة في مرحلة (السكون التام) والخضوع الكامل
الذي يسمح لأمريكا وإسرائيل أن تتحركا في طول المنطقة وعرضها، بعد كسر
إرادة التحدي لدى الشعوب والحكومات على السواء، ولو كان هذا التحدي بمجرد
الشعارات، ويتم ذلك بإغلاق الجبهة الشرقية (النظرية) في العراق بعد أن تم
تكبيل الجبهة الغربية (الواقعية) في مصر بعملية كامب ديفيد، وبهذا يقفلون إلى
أمد غير معلوم ملف ما كان يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) .
2 - فرض وجود عسكري أمريكي جديد في المنطقة قد يأتي وراء (تحالف
شمالي) عراقي؛ يفضي إلى تنصيب (الكرزاي العراقي) الجديد الذي ستنصبه
أمريكا؛ ليكون عبداً لها، وصديقاً لربيبتها (إسرائيل) ، وهو ما يعطي رسالة
لشعوب المنطقة بأنها أصبحت تعيش عصر ما بعد الدكتاتورية وما بعد الديمقراطية،
وهو عصر الحكومة العالمية الأمريكية الصهيونية.
3 - بسط السيطرة على نفط العراق الذي يمثل ثاني أكبر احتياطي في العالم؛
ليضم إلى بقية منابع النفط التي تضع أمريكا يدها عليها؛ لكي تؤمن لنفسها
ولحليفاتها في الغرب في الخمسين سنة القادمة موارد لا تنضب إذا أوشك نفط
الشمال على النضوب.
4 - استعادة الهيبة الأمريكية التي تمرغت في الوحل على هضاب وسفوح
أفغانستان؛ حيث لم تفلح أمريكا بعد عام من أحداث سبتمبر في تحقيق أهدافها
المعلنة في أفغانستان، وعلى رأسها القضاء التام على تنظيم القاعدة وحركة الطالبان
اللتان ما زالتا تتحديانها وتنزلان بها الخسائر بشكل دوري، وتهددان استمرار
سيطرة الحكومة الأمريكية العميلة هناك.
5 - الإتيان على ما تبقى من مظاهر التماسك في اقتصاد الدول العربية؛
باستنزاف جديد لمواردها قد يزيد على ما أنفق في حرب الخليج الثانية؛ حيث
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أن الحرب القادمة ضد العراق قد تصل تكاليفها
إلى مائتي مليار دولار، وهو أكثر من ضعفي تكاليف حرب الخليج الثانية.
6 - التمهيد للمرحلة التالية في حرب أمريكا على الإسلام التي سمتها (الحملة
العالمية على الإرهاب) ، والتي تعد إيران بحسب الترتيب المنطقي مكان الجولة
القادمة فيها باعتبارها العضو الثاني في (محور الشر) الذي اصطنعته أمريكا.
وإقدام الولايات المتحدة على ضرب إيران بعد العراق، هو ضرب في الوقت نفسه
لسوريا ولبنان وهما البلدان اللذان يستمدان ويستوردان ما تبقى من إرادة التحدي
فيهما من مساندة ومساعدة إيران، وكل هذا يحتاج إلى تجريب الأسلحة الجديدة التي
أعلنت أمريكا أنها لم تستخدم بعد!
7 - إعطاء مشاريع الدولة الصهيونية في المنطقة دفعة جديدة، فالحرب مرة
أخرى في الخليج إضافة إلى كل ما سبق قد تعطي (إسرائيل) فرصة ذهبية لإنهاء
الانتفاضة الفلسطينية الثانية، كما أنهت حرب الخليج السابقة الانتفاضة السابقة.
يضاف إلى ذلك أن بسط أمريكا لسيطرتها على العراق سيقرب دولة اليهود إلى حد
كبير من تحقيق حلم (إسرائيل الكبرى) ؛ فعندما تنصَّب حكومة موالية لأمريكا أي
موالية لإسرائيل على شط الفرات؛ فما الذي سيمنع (إسرائيل) مع الوقت من أن
تبسط مزيداً من السيطرة الإدارية [9] بالاشتراك مع أمريكا على المنطقة الممتدة من
النيل إلى الفرات؟!
ومشروع آخر عاجل ينتظره نصارى أمريكا قبل يهود (إسرائيل) وهو
إنجاز المشروع المؤجل منذ خمسين عاماً، بل منذ ألفي عام وهو مشروع إعادة بناء
الهيكل الثالث. وهو المشروع الذي سبق أن قلت في مقالات عديدة إنه الخطوة
الثالثة [10] المنتظرة في العقائد الألفية اليهودية والنصرانية، وهي الخطوة التي
سيحتاج تمريرها حتماً إلى ألسنة دخان كثيفة في حرب كبرى مثل حربَي 1948م
و1967م؛ تغطي بكثافتها لا قدر الله على المخطط الشرير وتمرره، وقد تكون هذه
الحرب هي حرب الخليج الثالثة نفسها في حال خروجها عن حدودها، أو حرباً
أخرى (سابعة) [11] بين العرب وإسرائيل.
* وبعد:
قد تبدو الصورة مظلمة قاتمة، ولكننا نؤمن أنه الظلام الذي يسبق بزوغ
الفجر، أو الفجر الذي يسبق الإشراق، إشراق الإسلام على أركان الأرض الأربعة،
حتى (لا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل
ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) [12] كما أخبر الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكن بين يدي هذا التفاؤل الذي لا يستند إلا إلى
لطف اللطيف الخبير سبحانه، نجد لزاماً علينا أن نقف مع حديث الحرب القادمة
الوقفات الآتية:
1 - شنآن وبغض النظام العلماني البعثي في العراق لا يمنعنا أن نقول عن
الحرب القادمة ضد العراق: إنها حرب ظالمة من دولة ظالمة في ظل شرعية دولية
ظالمة تسمح لأعداء المسلمين بكل أسباب القوة، بينما تنزع عن المسلمين كل
أسباب القوة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
2 - تملّك السلاح الكيمياوي أو البيولوجي أو حتى النووي ليس جريمة في
ظل احتكار دولة اليهود للعديد من ترسانات تلك الأسلحة في المنطقة، ودعوى تمتع
(إسرائيل) بالمسؤولية والعقلانية في استعمال أسلحتها ضد الشعوب؛ ظهرت
مصداقيتها المزيفة في انتقامها المجنون من الفلسطينيين دون حاجة إلى أسلحة
تقليدية.
3 - الشعوب العربية المغلوبة على أمرها، والممنوعة من مجرد الهتاف ضد
ظلم الظالمين، مدعوة اليوم بأن تعد نفسها لمثل ما يفعل بجيرانها إذا هى لم تُعذر
إلى الله تعالى بالمستطاع من دفع المظالم عن إخوة الدين في العراق، وفلسطين
وغيرهما، فالذي يُسلم إخوانه اليوم؛ سيسلَّم لأعدائه غداً.
4 - على العلمانية العربية أن تعلن على ملأ الأشهاد عن إفلاسها بكل راياتها،
وتعترف بأنها هزمت في كل معاركها العسكرية والسياسية، وما ذلك إلا لموالاتها
لأعداء الأمة وحسن ظنها بهم، مع سوء الظن وسوء التعامل مع كل دعوات
الإصلاح والتصحيح التي تستهدف عودة الأمة الإسلامية لهويتها وشريعتها.
5 - الولايات المتحدة لا تزال تسير على درب الهاوية بخروجها عن كل قيم
العدل في التعامل مع الدول والشعوب، وإمعان تلك القوة الغاشمة في ظلم الشعب
العراقي وإذلاله؛ هو خطوة جديدة على طريق (انتحار أمريكا) ، واستنزالها
لمطارق السنن الإلهية والشرعية التي تدل على أن البغي هو أسرع الذنوب عقوبة.
6 - الربط أو الخلط المتعمد من الإعلام العلماني بين معارضة جمهور
الإسلاميين لضرب العراق، وبين تأييدهم لصدام حسين كما حدث من ذلك الإعلام
في حرب الخليج الثانية لا ينبغي أن يتكرر؛ لأن البواعث الإسلامية لا تتغير،
فالباعث الإسلامي على رفض حكم البعث وحكامه ما لم يثوبوا ويتوبوا؛ هو الباعث
على رفض التدخل النصراني واليهودي في شؤون المسلمين.
7 - للأمريكيين والإسرائيليين وسائر النصارى واليهود والمشركين أن
يصدقوا خرافاتهم التوراتية، ويبشروا بنبوءاتهم الإنجيلية، فهذا شأنهم، وهم أحرار
في مواقفهم من كتبهم المحرفة، وأساطيرهم المؤلفة. أما المسلمون فلا يسعهم أن
يبنوا مواقفهم على خيالات أو توهمات أو توسمات لا تستند إلى محكم النصوص
ودقيق الفقه، وقويم الاستدلال.
8 - دعاوى اليهود والنصارى في شخص صدام حسين بأنه هو المقصود
بالآشوري في نصوص التوراة التي بين أيديهم لن يخلو من ضلال وإضلال،
وتلبيس شيطاني لن يكون جديداً على أمتَي الضلال والغضب، وكيف لا يضلون
في معرفة حقيقة إنسان وهم الذين ضلوا عن معرفة رب الأكوان سبحانه وتعالى؟!
ودعاواهم على أية حال ليست إلا مسوغاً شيطانياً لممارسة المزيد من الظلم والإفساد
والعلو في الأرض.
9 - أما دعاوى بعض الإسلاميين وهم قلة في تزايد بأن صدام نفسه هو
المقصود فيما يسمونه بنصوص (الوحي القديم) وهو نفسه المقصود بـ (السفياني)
فيما جاء في الوحي الخاتم؛ فهي قضية متشابكة، تداخلت فيها الرؤى والأماني
الشخصية مع التحاليل والتفاسير العلمية [13] . ولكن الأمر مع هذا لا يخلو من
ثوابت لا بد من استحضارها واستصحاب فقهها عند النظر في مسائل انطباق
صفات (صدام حسين) أو عدم انطباقها على صفات (السفياني) المذكور في
الأحاديث، وأهم هذه الثوابت أن خلاص أمة محمد وانتصارها على جميع أعدائها
لا يتصور أن يجيء في نهاية المطاف كما يقول أصحاب هذه الدعوى [14] على يد
حزب ضال في منهجه، منحرف في سلوكه، متوحش في تعامله، لم نسمع عنه
توبة ولم يعلن زعماؤه عن أوبة أو رجوع ولو ظاهري عن التمسك والتشبث بمبادئ
حزب البعث المؤسس على دعائم الجاهلية المنتنة.
إن لهذه الأمة (طائفة منصورة) معروفة باستقامتها و (ظاهرة) بمنهجها،
لا تقاتل إلا على الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حتى يأتي أمر الله
وهم على ذلك، كما تواترت بذلك الأحاديث، فهم لا يقاتلون لعصبية، ولا تحت
راية عمِّية، قومية أو وطنية، بل (يقاتلون على الحق) [15] كما جاء في
الأحاديث.
ومن أوجب واجبات الأمة الآن في العراق وفلسطين وأفغانستان وكل مكان،
أن تكف عن الانتظار (القدري) لمجيء هذه الطائفة، وتبدأ على الفور في الإعداد
(الشرعي) لها ولنهجها ولجندها وكيانها، فبها وبها فقط يتنزل نصر الله على
الأمة. [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
__________
(1) قناعتي التي أثبتها في كثير من المقالات والكتابات أن إفساد بني إسرائيل يشمل إفساد النصارى وبخاصة البروتستانت إلى جانب إفساد اليهود، وعلى هذا فالعلو الكبير لبني إسرائيل يشملهما معاً، فهو علو للنصارى مع اليهود.
(2) كان الرئيس العراقي قد استدعى السفيرة الأمريكية في بغداد (أبريل جلاسبي) في 25/7/1990م، أي قبل الغزو، وفاتحها في موضوع المشكلات المتفاقمة بين العراق والكويت بسبب ضخ الكويت كميات من النفط تفوق ما تسمح به منظمة أوبك؛ مما أدى إلى انخفاض سعر النفط، وبسبب قيام الكويت باستغلال نفط حقل الرميلة لصالحها دون العراق، فأجابت السفيرة بأن بلادها لن تتدخل بين الجيران العرب، باعتبار أن هذا شأن عربي داخلي، فاعتبر صدام هذا ضوءاً أخضر لضم الكويت! .
(3) استعمال أمريكا لليورانيوم المنضب في حرب الخليج الثانية، من أبلغ الدلائل على دجل الدعاية الأمريكية على العالم؛ لأنها تكون بذلك قد استعملت الأسلحة غير التقليدية ضد العراق، وهي التي تملأ العالم صراخاً للتحذير والتخويف من استعمال العراق لأسلحة غير تقليدية! .
(4) استقال (دينيس هاليداي) من منصبه كرئيس لبرنامج «النفط مقابل الغذاء» احتجاجاً كما قال على تواطؤ الأمم المتحدة ضد الشعب العراقي.
(5) رواه البخاري في صحيحه في كتاب العلم، ح 59.
(6) رواه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، ح 2931.
(7) يتعسف مفسرو تلك النبوءات فيقولون: إن (ماباس) هي مقلوب سابام بعد قلب الباء دالاً، فتكون (سادام) أو صادام!! .
(8) انظر: نوستراداموس وقراءة المستقبل، لياسر حسين، ص 38.
(9) قال تيودور هرتزل في مذكراته، ص 1473، معلقاً على الصيغة التي يراها لدولة المستقبل (إسرائيل الكبرى) : «المساحة -- من نهر مصر إلى نهر الفرات، نريد فترة انتقالية في ظل مؤسساتنا الخاصة وحاكماً يهودياً خلال هذه الفترة، بعد ذلك تنشأ علاقة كالتي تقوم بين مصر والسلطان» !! أي: سيطرة إدارية.
(10) بعد خطوة إقامة الدولة (إسرائيل) وخطوة الاستيلاء على العاصمة (القدس) ، والثالثة هي: إعادة بناء الهيكل، وهي المراحل الثلاث التي لا بد أن تسبق مجيء المسيح كما يعتقدون.
(11) باعتبار أن حرب الخليج الثانية كانت سادس حرب في المنطقة يستفيد منها اليهود بعد حروب 1948م، 1956م، 1967م، 1973م، 1982م.
(12) أخرجه أحمد في المسند، مسند الشاميين، ح/ 16509.
(13) لعل الفرصة تتهيأ لتفنيد ما يصح وما لا يصح من هذه الدعاوى في عدد قادم من أعداد مجلة البيان بإذن الله.
(14) يقول أصحاب تلك الدعوى إنه على يد صدام ستتم هزيمة الأمريكان وأوروبا وإسرائيل وتركيا (!) ، وإن جيشه هو الذي سيدخل القدس محرراً لها (!) .
(15) أخرجه أحمد في المسند، مسند البصريين، ح/ 19419.(180/68)
المسلمون والعالم
الهروب إلى الأمام في اتفاق ماشاكوس
أمير سعيد
amirsaid@hotmail.com
مثلما لا يخالجني شك في أنك الآن تطلع على أوراقي هذه، أتيقن تماماً أن
ثمة مؤامرة صهيوصليبية وراء ما يجري ترتيبه اليوم في السودان؛ إذ ليس من
المقبول عقلاً اعتبار الضربات المتناغمة التي تسددها الصهيونية والصليبية للأمة
الإسلامية عموماً؛ والعربية خصوصاً خبط عشواء.
فمحال أن يكون قصف أفغانستان وتفكيكها، وإقامة الأمريكان فسطاطهم جوار
بحر قزوين «المكتنز» نفطاً، والسعي وراء الاستيلاء على العراق نفطاً وحكومة
وشعباً، والحديث عن تقسيم دولته إلى ثلاث دول: شيعية (جنوبية) وسنية
(وسطية) وكردية (شمالية) ، أو توحيدها تحت إمرة «الشريف» الحسن بن
طلال وعائلته عريقة التوجه الغربي، والعمل الدؤوب الهادف للسيطرة على النفط
الخليجي، ربما عبر تقسيم دوله، ومحاصرة «الوهابية» في الخليج، والترويج
لدولة شيعية في شرقه، وتأليب المارونيين على المسلمين في لبنان، وسلخ أجهزة
الأمن الفلسطينية (وسلطتها) من وطنييهما.
محال أن لا يكون اتفاق ماشاكوس، ومن بعده احتلال مدينة توريت الجنوبية
الاستراتيجية، وضغط الولايات المتحدة على السودان «رهابياً» متسقاً مع كل
المؤامرات السابقة؛ وحلقة من سلسلة نيرها الذي يحكم معصم الأمة الإسلامية.
فالاتفاق ينص صراحة كما ورد في وثيقته على ما يلي:
** المبادئ المنصوص عليها في اتفاقية السلام:
- تكوين آلية المراقبة والتقييم يكون على أساس التمثيل المتساوي بين حكومة
السودان والحركة الشعبية - الجيش الشعبي لتحرير السودان، إضافة إلى ممثلين
للجهات التالية لا يزيد عددهم عن ممثلَين اثنين للجهة الواحدة.
- أعضاء اللجنة الفرعية حول السودان لدول إيغاد، وهي (جيبوتي، إريتريا،
إثيوبيا، كينيا، وأوغندا) أعضاء الدول المراقبة وهي (إيطاليا، والنرويج،
والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية) أية دول أخرى أو هيئات إقليمية
أو دولية يتفق عليها الطرفان.
- يعمل الطرفان مع هذه الآلية خلال الفترة الانتقالية بغرض تطوير وتحسين
المؤسسات والترتيبات المكونة بموجب الاتفاقية وجعل وحدة السودان خياراً جذاباً
لأهل جنوب السودان.
- في نهاية العام السادس للفترة الانتقالية يجري استفتاء تحت المراقبة الدولية
تتعاون في إجرائه حكومة السودان والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير
السودان من أجل تدعيم وحدة السودان بالتصويت لتبني نظام الحكم الذي أقيم
بموجب اتفاقية السلام، أو التصويت لصالح الانفصال.
- يمتنع الطرفان عن إلغاء هذه الاتفاقية أو خرقها من طرف واحد.
- النص المتفق حوله فيما يتعلق بدين الدولة: اعترافاً بأن السودان بلد متعدد
الثقافات والأعراق والإثنيات والأديان واللغات، وتأكيداً لعدم استخدام الدين كعامل
للفرقة، يتفق الطرفان على ما يلي:
1 - الأديان والأعراف والمعتقدات مصدر للقوة الروحية والإلهام للشعب
السوداني.
2 - تضمن حرية المعتقد والعبادة والضمير لأتباع كل الأديان والمعتقدات
والأعراف، ولا يجوز التمييز ضد أي شخص على هذه الأسس.
3 - تولي جميع المناصب، بما فيها رئاسة الدولة والخدمة العامة والتمتع
بجميع الحقوق والواجبات، يتم على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو
المعتقدات أو الأعراف.
4 - يمكن أن تجري وتنظم كل الأمور الشخصية والعائلية، ومن ضمنها
الزواج والطلاق والإرث والتنصيب والولاء، وفق القوانين الشخصية (بما فيها
الشريعة أو القوانين الدينية الأخرى أو العادات أو الأعراف) الخاصة بأولئك الذين
يهمهم الأمر.
5 - يتفق الطرفان على احترام الحقوق التالية:
- حرية العبادة والتجمع من أجل أداء الممارسات الدينية أو الممارسات
الخاصة بالمعتقدات الأخرى، وتأسيس وحماية الأماكن التي تقوم لأداء هذه الشعائر.
- تأليف وإصدار وتوزيع المطبوعات الخاصة بهذه القضايا.
- تدريس الديانات والمعتقدات في الأماكن المناسبة لأداء هذه الأهداف.
- التمتع بالعطلات والاحتفال بالمناسبات وفق المبادئ والتعاليم التي ينص
عليها الدين الذي يدين به الفرد المعين.
- إقامة الصلات والاتصال بالأفراد والمجموعات فيما يتعلق بالشؤون الدينية
المعتقدية، على المستويين القومي والعالمي.
6- المبادئ الواردة في المواد (1) إلى (5) تضمن في الدستور.
** الحكومة الوطنية:
1 - يتفق على تكوين حكومة وطنية لتمارس الوظائف، وتجيز القوانين التي
تتطلب طبيعتها أن تجاز وتمارس من قبل سلطة عليا ذات سيادة وعلى المستوى
القومي. وستأخذ الحكومة الوطنية في الاعتبار، في كل القوانين التي تجيزها،
الطبيعة التعددية للشعب السوداني دينياً وثقافياً.
2 - التشريعات التي تسنّ على المستوى الوطني والتي تطبق على الولايات
خارج جنوب السودان، يكون مصدرها التشريعي الشريعة وإجماع الشعب.
3 - التشريعات التي تسنّ على المستوى الوطني والتي تطبق على الولايات
الجنوبية و / أو الإقليم الجنوبي يكون مصدرها التشريعي الإجماع الشعبي وقيم
وعادات الشعب السوداني، ومن ضمنها تقاليده ومعتقداته الدينية، مع اعتبار
التعددية السودانية.
في حالة ما إذا كانت التشريعات الوطنية المعمول بها الآن أو المطبقة وكان
مصدرها دينياً أو القوانين العرفية، وكانت أغلبية سكان الولاية أو الإقليم لا
يمارسون شعائر هذا الدين أو القوانين العرفية:
- أما طرح تشريعات تسمح بـ أو تؤسس مؤسسات أو ممارسات في الإقليم
متماشية مع دينهم أو أعرافهم.. أو يتم عرض القانون على مجلس الولايات لإقراره
بأغلبية الثلثين، أو تقديم تشريعات وطنية تطرح مثل هذه المؤسسات البديلة
الضرورية كما هو مناسب.
** نص اتفاقية حول حق تقرير المصير لأهل جنوب السودان:
- لأهل جنوب السودان الحق في تقرير المصير بين أشياء أخرى، عبر
استفتاء لتقرير أوضاعهم في المستقبل.
- سيتم تأسيس مجلس مستقل وهيئة تقييم خلال الفترة الانتقالية لمراقبة
تطبيق اتفاقية السلام خلال الفترة المؤقتة، وستجري الهيئة تقييماً في منتصف المدة
لترتيبات الوحدة التي تم التوصل إليها طبقاً لاتفاقية السلام.
- تشكل هيئة التقييم من ممثلين متساوين من حكومة السودان والحركة
الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ومما لا يزيد عن ممثلين اثنين من الدول
والمنظمات الآتية: الدول الأعضاء في اللجنة الفرعية حول السودان التابعة لإيغاد:
(جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وأوغندا) . دول مراقبة: (إيطاليا والنرويج
والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) وأي دول أخرى أو هيئات دولية إقليمية يتم
الاتفاق عليها من قِبَل الأطراف.
- ستعمل الأطراف مع الهيئة خلال الفترة المؤقتة بهدف تحسين المؤسسات
والترتيبات المؤسسة طبقاً للاتفاقية، وجعل وحدة السودان جذابة لأهل جنوب
السودان.
- في نهاية الفترة المؤقتة التي تستغرق 6 سنوات سيجري استفتاء تحت
رقابة دولية، تنظمه حكومة السودان والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير
السودان لأهل جنوب السودان لتأكيد وحدة السودان بالتصويت على تبني نظام حكم
مؤسس طبقاً لاتفاقية السلام.. أو التصويت على الانفصال.
- تمتنع الأطراف عن أي شكل من أشكال التعديل والإلغاء من طرف واحد
لاتفاقية السلام. والاتفاق على هذا النحو لا يبدو خادماً لمصالح المسلمين في
السودان، كما لا يبدو في الوقت نفسه شراً محضاً كونه يتيح المجال لنوع من النمو
الاقتصادي للسودان.
وبرغم أن هذا الاتفاق لم يكن مفاجأة للكثيرين من متابعي الشأن السوداني؛ إلا
أنه مثل صدمة للمهتمين بالسياسة السودانية بمن فيهم رؤساء الأحزاب السودانية
والحركات المسلحة وغير المسلحة في شمال السودان وجنوبه الذين تباينت آراؤهم
فيما يتعلق بالاتفاق.
** موقف القوى السودانية من الاتفاق:
أولاً: موقف الحكومة:
رغم أن ممثلي الحكومة قد وقَّعوا على بروتوكول الاتفاق؛ فإن بعضاً من
أقطابها بدوا كما لو أنهم تجرعوا السم بإقراره؛ ويتحينون الفرصة للالتفاف عليه،
بمن فيهم الرئيس السوداني عمر البشير نفسه الذي ما أن سقطت مدينة توريت
الاستراتيجية في أيدي المتمردين بعد أقل من شهرين من توقيع الاتفاقية حتى قال
من فوره: إنها «إرادة من الله لأن تظل جذوة الجهاد مشتعلة حتى ترتفع الراية» ،
مضيفاً: «سنعلنها حرباً، وإنَّا منتصرون فيها بإذن الله، وسنقاتل حتى تعود
توريت وكبويتا» . ثم وقف البشير يلوح بعصاه في جنازة أحد الضباط الذين قُتلوا
في توريت ويقول: «المتمرد جارانج ومن خلفه لم يعرفونا حق المعرفة، فليسألوا
عنا.. كل سياسات الضغط والاحتواء ضدنا فشلت» . وهو المنطق ذاته الذي
تحدث به وزير خارجيته حين قال في مصر: «إن الرئيس حسني مبارك على
حق فيما قاله من أن انفصال الجنوب سيؤدي إلى فوضى في أفريقيا» .!!
ونستشف من موقف حكومة الإنقاذ أنها وقعت تحت ضغط شديد من الولايات
المتحدة الأمريكية، ومن أوضاع البلاد الداخلية السيئة التي تستدعي تحركاً
استثمارياً عملاقاً يفيد من اكتشاف مخزون هائل من النفط لديه، يستدعي بدوره
ضرورة توافر استقرار أمني وسياسي في شرق وجنوب البلاد، وكذلك وقعت تحت
ضغط سياسي داخلي متمثل في كثرة الانشقاقات وتغيير الولاءات التي تعترض
طريق شعبيتها، ولا سيما أن فترة حكم الإنقاذ قد شهدت العديد من الانشقاقات
لمعظم القوى السياسية، منها من انضم للحكومة كجناح من حزب الترابي
«المؤتمر الشعبي» ، وجناح من حزب الصادق المهدي «حزب الأمة» بزعامة
مبارك فاضل المهدي، وجناح من جماعة أنصار السنة المحمدية، وجناح من
جماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن المنشقين عن التحاف الجنوبي كـ (لام أكول
ورياك مشار) . ومنها من لم ينضم للحكومة في صفوف المتمردين الجنوبيين أنفسهم
(كجيش جبال النوبة الذي تقول بعض التقديرات إنه يبلغ نحو 12 ألف مقاتل) .
ولأن الاتفاق قد بدا كما لو كان إذعاناً من جانب نظام البشير لضغوط أمريكية،
فقد حاولت الحكومة أن تبين الصورة كما لو كانت صفقة تمت بين طرفين يتمتعان
بحرية كاملة، وجاء على لسان الدكتور غازي صلاح الدين (مستشار الرئيس
السوداني لشؤون السلام) ورئيس الوفد الحكومي لمفاوضات (الإيغاد) : «حدث
تنازلان أساسيان؛ يعني بملخص العبارة: تنازلت الحركة في قضية الدين والدولة،
وتنازلت الحكومة في قضية تقرير المصير، لا لبس في ذلك، وأي كلام سوى هذا
هو مغالط» .
وقد حاول الرجل التقليل من أثر الضغوط الأمريكية على صياغة القرار
السوداني فقال: «نحن مبدئيون جداً في هذه المسألة، التصوير الإعلامي المغرض
هو الذي صور كأنما السودان باع كل قضاياه وباع أصدقاءه، هذا ليس صحيحاً،
والسودان ما يزال حتى هذه اللحظة في قائمة الإرهاب الأميركية، وما يزال حتى
هذه اللحظة في قائمة العقوبات الاقتصادية الأميركية، يعني ليس بيننا موالاة وليس
بيننا مودة، ولكننا نتعامل بصورة موضوعية ومنطقية» .
ثانياً: موقف الجيش الشعبي الحركة الشعبية لتحرير السودان:
يعتبر الاتفاق بالنسبة لمعظم المتمردين مغنماً، لكنها ليست كذلك بالنسبة
لقطاع الانفصاليين، وغلاة المتمردين ممن يرغبون في أن يحدث الانفصال فوراً،
وممن ينزعجون من تحكيم الشمال للشريعة الإسلامية السمحاء.
ثالثاًَ: مواقف الأحزاب الشمالية الرئيسة:
1 - حزب المؤتمر الشعبي (بزعامة الترابي) : أبدى الحزب تحفظه على
كثير من بنود اتفاق ماشاكوس.
وقال محمد الحسن الأمين مسؤول الدائرة السياسية بالحزب: إن هناك
«غموضا في نصوص الاتفاق وثمة نقاطاً لم يكشف عنها» . مضيفاً أنه «يعتبر
أن الخرطوم قدمت» تنازلات «بشأن الحكم بالشريعة الإسلامية في السودان» .
2 - حزب الأمة (بزعامة المهدي) : يقول الصادق المهدي: جاء هذا
الاتفاق الذي في رأينا طابق في جزئياته الكثيرة رؤانا، وما كنا نسميه أسس الحل
السياسي الشامل، ونعتقد أن هذا الاتفاق لمصلحة الوطن، فالاتفاق هو لمصلحة
الوطن، ويوافق رؤانا، (لذا فقد) أيدناه باندفاع شديد وشكلنا قيادة للرأي العام
السوداني في هذا الصدد.
3 - الحزب الاتحادي (بزعامة الميرغني) : أبدى فقط انزعاجه لكونه لم
يدع للمباحثات من بدايته، واستغرب البت في مثل هذه القضية دونما الرجوع إليه.
** مواقف الدول ذات الصلة من الاتفاق:
1 - الولايات المتحدة الأمريكية:
رحبت الولايات المتحدة بشدة بهذا الاتفاق التي هي في الحقيقة راعيته الخفية،
والجميع يدرك أن هناك أطرافاً أجنبية ساهمت من قبل في تأجيج الصراع وتقوية
التمرد لمصالح دول غربية أهمها الولايات المتحدة، وكانت الولايات المتحدة تدعم
في الخفاء الجيش الجنوبي في زمن كلينتون تحت إطار معاقبة الدول العاقة والداعمة
للإرهاب، وقد كانت بعض الصحف الغربية تصف مثل هذه الحرب بأن الشمال
المسلم يريد إجبار الجنوب على الدخول في الإسلام..!
والآن تسعي الولايات المتحدة إلى قطف ثمار جهودها الدؤوبة لإنهاك قوى
الجيش الوطني السوداني وإنهاك اقتصاد دولته في هذه الحرب الطويلة، من أجل
الوصول لحالة استسلام جزئي لمطالب الغرب المحرك الرئيس لجون جارانج
ومرتزقته.
2 - مصر:
أخفقت في أن تحل القضية لأكثر من 13 عاماً تركتها الولايات المتحدة لحدٍّ مّا
تدير الوساطة، وظل دورها ينحسر من السيطرة الكاملة على السودان تحت حكم
الملك فاروق «ملك مصر والسودان» إلى الإخفاق الذريع في تأمين أمنها
«القومي» الجنوبي.
ولم تستفد من علاقاتها المتميزة مع كافة أطراف الصراع، فلم تُرَ مكترثة بما
يدبر لها من الجنوب، وقدمت مبادرات غير واقعية غلبت عليها الحيطة من نفوذ
الإسلاميين في الشمال السوداني أكثر من الخشية على تأمين منابع النيل؛ فلم
تحصد إلا هشيماً.
3 - ليبيا:
نفضت يديها عن قضية الوساطة بعد إخفاق المبادرة المصرية الليبية، وعلق
القذافي على ذلك بالقول: «لن نكون سودانيين أكثر من السودانيين أنفسهم» .
والقذافي الذي يحتفظ بعلاقة جيدة مع المتمرد جارانج، والذي سبق أن نعته
بأنه «المناضل الحقيقي الوحيد في السودان» !! بدا عديم التأثير على «مناضله
الثوري» هذا!
4 - الدول الأخرى المجاورة للسودان:
أيدت هذه المبادرة بلا تحفظ لرغبتها العارمة في تقسيم السودان، وخلق
منطقة عازلة بين أرباب «الحكم الإسلامي» وحدودهم.
** المبادرة المصرية الليبية:
محقت المبادرة المصرية الليبية كما هو معلوم؛ لأنها أولاً لم تكن واقعية، فلا
هي أرضت المتمردين بتأكيدها على حق تقرير المصير للجنوب (وهو ما لم تخل
منه أي مبادرة أو اتفاق باستثناء ماشاكوس الذي تجاوز تقرير المصير إلى النص
صراحة على إمكانية الانفصال) ، ولا هي أرضت عصبة البشير بإجازة تحكيم
الشمال السوداني للشريعة الإسلامية، بل حاولت القفز على المشكلة الجنوبية بإقرار
الديمقراطية الغربية عبر التعددية الحزبية، وإقامة دولة «مدنية» واحدة تحكم
الشمال والجنوب.
ومما يزيد الطين بلة أن كلتا الدولتين ليستا مؤهلتين للحديث عن التعددية
الحزبية؛ فالراعية الأولى للمبادرة لا تؤمن بالتعددية عندها إلا كنوع من «الديكور»
الذي يتجمل به الحزب الواحد. أما الثانية فتعتمد طريقة «شورية» ممعنة في
الغوغائية. ولأنها ثانياً (المبادرة) تأخرت كثيراً عن موعدها، فجاءت؛ وقد ألقت
الولايات المتحدة بثقلها في السودان بعد أن فطنت إلى أهميته بعد اكتشاف كميات
كبيرة من النفط فيه، فبعُد أن تترك الميدان لغيرها ليصول فيه ويجول.
** نتائج الاتفاق:
أفضى الاتفاق إلى نتائج لا يصب معظمها في خانة المصلحة السودانية العليا
كبلد مسلم عربي، أهمها:
1 - إقرار انفصال الجنوب عبر استفتاء يجري بعد (6) سنوات، ولأول
مرة يتم النص صراحة على قبول انفصال الجنوب من دون الحديث عن خيانة
الموقعين عليه من الطرف الشمالي الذي هو في هذه الحالة «الحكومة السودانية
الإسلامية» ذاتها؛ ومن ثم تمهيد السبيل بشكل غير مسبوق أمام انشطار السودان.
2 - تشجيع المتمردين على كسب أرضية جديدة للتفاوض يمكنهم البناء عليها،
وإتاحة الآمال لهم لحكم «سودان علماني جديد» ، وهو ما حملهم على السعي
وراء تملك أوراق تفاوضية جديدة، فاحتلوا مدينة توريت الجنوبية الاستراتيجية،
وطالب زعيمهم جارانج بثلاث سنوات أولى في الفترة الانتقالية يكون فيها رئيساً
للسودان كله!!
3 - إضعاف شعبية فريق البشير من الإسلاميين باعتباره أطاح بكل ما كان
يبنيه من «سودان إسلامي موحد» يرفع راية «الجهاد والاستشهاد» ويسل سيفه
في وجه كل متمرد «صليبي خائن» ، وتشويه صورة الإسلاميين الذين يضع أحد
قادتهم (البشير) يده في يد المتمرد جارانج، فيما يقبع بأمر رئاسي «البروفيسور
الإسلامي» د. حسن الترابي خلف القضبان، وبأن فريقاً منهم قد أذعن لضغوط
الأمريكان «الصليبيين» فيما يخص انفصال الجنوب، بعدما أذعن لمطالبهم في
مسألة «الإرهاب» .
4 - تكريس انقسام الإسلاميين، فلا نجافي الحقيقة إن قلنا إن اتفاق ماشاكوس
سيباعد (إذا ما نفذ) بين الفصائل الإسلامية والمنشقين عنها، فعلى سبيل المثال
ينتظر أن يتجذر الانشقاق بين جناحي جماعة الإخوان المسلمين المؤيد، والمعارض
للحكومة السودانية، ونفس الشيء يقال عن جناحي أنصار السنة المحمدية، وفي
ظل استمرار حبس الترابي (الذي يفرضه الإذعان لمطالب الولايات المتحدة في
مسألتي المفاوضات و «الإرهاب» ) فلن يتوقع التئاماً سريعاً لحزب المؤتمر
الشعبي (الترابي) والحزب الحاكم (البشير) .
5 - استنهاض همم جميع الأحزاب لسلوك المسلك العسكري الناجع، وقد
سجل في الآونة الأخيرة ارتفاع كبير في معدلات شراء الأسلحة واقتنائها.
6 - إفساح المجال لبروز الدور الأمريكي؛ فمع استقرار السودان (أو ربما
دولتي السودان) تجد الولايات المتحدة أرضاً معبدة لها للسعي وراء السيطرة على
النفط السوداني (النفط السوداني: إنتاج متنام ومستقبل واعد، 250 ألف برميل
يومياً هذا العام؛ 500 ألف برميل العام القادم، 4 ملايين برميل يومياً خلال بضعة
سنوات قادمة، بإذن الله) ، وللاستثمار في الجنوب الذي أوحت دوائر اقتصادية
أمريكية لعدد من البنوك الكبرى بدراسة جدوى الاستثمار التجاري في جنوبه في
حال أصبح علمانياً محضاً، أو في حال انفصاله تماماً، وكذلك ستجد الولايات
المتحدة ومن ورائها الكيان الصهيوني مجالاً رحيباً لتطويق دولة العرب الكبرى
مصر، وذلك بإحكام السيطرة على منابع النيل، ومن ثم التحكم في كل قطرة ماء
تصل لمصر.
ولن تشبع الولايات المتحدة من تكرار طلباتها من الحكم السوداني ما دامت
تجد منه استجابة في ماشاكوس، وما دام الأمر كذلك فستستمر الولايات المتحدة
تضغط باتجاه تقزيم الإسلاميين، ولا شك أن استمرار حبس «السجين السياسي»
الدكتور الترابي هو موضع ترحيب من جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي سبق
أن قلبت لمصر ظهر المجن قبل نحو شهرين لدى حكم قضائها على «السجين
السياسي» د. سعد الدين إبراهيم في شمال الوادي.
7 - تقليص الدور المصري وإنهاء الوصاية المصرية على السودان ربما
للأبد من أبرز نتائج هذا الاتفاق (حال تنفيذه) ؛ فقيام دولتين سودانيتين من شأنه
أن يعقد الأمور أكثر وأكثر فيما يخص قضية تقاسم مياه النيل، وستجد مصر نفسها
مضطرة لخوض مفاوضات شاقة للحصول على حصة كانت تحصل على أكبر منها
آنفاً بسهولة في ظل سودان موحد تحكمه حكومة عربية إسلامية كانت أو حتى
علمانية.
كما أن قيام دولتين سيجعل حكومة الشمال أكثر «إسلامية» ومحضناً
لإسلاميين قد يكونون مناوئين للنظام المصري، وحتى بافتراض قيام دولة شمالية
ديمقراطية تعددية؛ فلن يكون ذلك ساراً للنظام المصري الذي قد يخشى من تطلع
الأحزاب المصرية لممارسة اللعبة السياسية وفق النموذج السوداني.
8 - دغدغت المفاوضات في ماشاكوس طموحات الوثنيين والنصارى
المتمردين، فقدموا اقتراحاتهم بجعل الخرطوم «عاصمة خالية من الشريعة
الإسلامية» !! نظراً لإقامة نحو 3 ملايين جنوبي في أحيائها.
9 - دفع جارانج مستفيدا من ماشاكوس الأحزاب المعارضة نحو الهرولة
خلفه بعد إصراره على التفاوض في كينيا منفرداً وهي في أضعف حالاتها.
** ومع ذلك ...
ومع ذلك، ورغم كل التداعيات المصاحبة لماشاكوس، يبقى ظننا بحكومة
البشير أنها لن تستسلم بسهولة لمخططات الولايات المتحدة، ليس إفراطاً منا في
التفاؤل وحسن الظن بحكومة الإنقاذ، وإنما ارتكاناً إلى تجارب سابقة للإنقاذ أجادت
فيها الالتفاف والدوران حول فخاخ كثيرة أعدت لها.
ونذكر أن حكومة البشير كثيراً ما بدت موافقة على طلبات قدمت لها بشأن
الشريعة أو التعددية الحزبية من جانب الولايات المتحدة أو المعارضة الجنوبية
والشمالية، إلا أنها في الأخير لم تذعن لها.
وهي الآن استغلت حماقة جارانج باحتلاله لمدينة توريت لقلب طاولة
المفاوضات في وجهه، وتعليق مباحثات مدينة ماشاكوس الكينية، وإعلان الجهاد
مجدداً لاستعادة المدن السليبة.
وحكومة البشير تدرك حقيقة ماهية الضغوط الواقعة عليها من قِبَل الولايات
المتحدة المتغولة، وهي لا تريد أن تقف أمام القطار الأمريكي في الوقت نفسه الذي
لا تريد أن تفرط فيه بمكتسبات ثورتها التي بدأت إسلامية، وبين هذا وذاك تمارس
حكومة الإنقاذ لعبتها المفضلة بالهروب إلى الأمام لعل عامل الوقت يكون في
صالحها ...
وفي غياب الدكتور حسن الترابي الذي يجيد السير فوق كل الأوتار يبقى
التساؤل: هل ستنجح حكومة البشير في تجاوز عقبة ماشاكوس؟
كل الأمل في ذلك، وفي تغليب حكومة الإنقاذ لمصلحة المسلمين العليا في
السودان على مصلحة بقائها في السلطة.(180/78)
المسلمون والعالم
تفاهم ماشاكوس.. حل أم مشكلة؟!
مصعب الطيب بابكر
musaabll@hotmial.com
في 20/7/2002م وقّعت الحكومة السودانية مع حركة التمرد (الحركة
الشعبية لتحرير السودان) ما يسمى بـ (تفاهم مشاكوس) باسم الضاحية الكينية
التي جرى فيها التفاوض، وهو الاتفاق الذي يمثل (مفاجأة) حتى بالنسبة (للتجمع
الوطني الديمقراطي) الذي تنتمي إليه الحركة وتشكل ذراعه العسكري، ولمصر
وليبيا صاحبتي (المبادرة المشتركة) اللتين تربطهما علاقة خاصة بـ (الحركة)
و (التجمع) . الاتفاق الذي بدأ وانتهى في 24 ساعة بشكل (مسرحي) بعد 34 يوماً
(فاشلاً) من المفاوضات وبعد أكثر من 19 جولة ولقاءً فنياً (فاشلاً أيضاً) تحت
مظلة (الإيقاد) . والاتفاق الذي يُنتظَر أن ينهِي أطول حروب إفريقيا التي أزهقت
أرواح ما قدِّر بمليوني قتيل، وشردت 4.5 مليون نازح وكلّفت ما معدّله مليوني
دولار يومياً (تمثل أكثر من 75% من الناتج القومي السوداني) كما جاء في تقرير
المبعوث الأمريكي القسيس (جون دانفورث) عن السودان. فما الجديد إذن؟
ولماذا الآن؟ وماذا تعني الاتفاقية، وما الذي يترتب عليها؟ جزء كبير من هذه
الأسئلة وغيرها سيظل قائماً ينتظر الإجابة، وجزءٌ آخر ربما تنكشف بعض إجاباته
في السطور التالية.
* الوضع الميداني قبل (مشاكوس) :
بعد الهزائم الكبيرة التي تلقتها (الحركة الشعبية المتمردة) فيما سمي بعمليات
(صيف العبور) عامي 1991 - 1992م واسترداد جيش الحكومة لأكثر من 41
حامية عسكرية فإنّ جيش الحركة الذي يضم حوالي 30.000 مقاتل حسب تقدير
المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن لم يستطع أن يقلب الميزان العسكري
لصالحه رغم وجود عوامل إقليمية ودولية وداخلية تعزز مواقفه.
و (الحركة الشعبية) تحظى بدعم الدول الغربية كافة، وبدعم أكثر من 160
منظمة غربية وعبر برنامج (شريان الحياة) الذي أنفقت عليه أمريكا بين عامي
1989 - 2001م أكثر من 2 مليار دولار ذهب جلّها لصالح الحركة.
إنّ جيش الحركة لا يستطيع أن يحسم خياراته عسكرياً كما يقول (دانفورث)
في تقريره، بل إنه (ليس له القدرة ولا الوحدة على تعطيل الخطط الحكومية
لاستغلال النفط) كما جاء في تقرير الإيكونومست 12/4/2001م.. بل إنّ وضع
الحركة يصبح أكثر حرجاً عندما تستخدم الحكومة صفقة طائرات ميج 29 والدبابات
الروسية والصينية المبرمة في ديسمبر 2001م، وعندما تستثمر الوضع الإقليمي
والداخلي في صالحها.
إنّ التمرد قبل مشاكوس كان يعيش في واحدة من أسوأ أوضاعه بعد (صيف
العبور) وهو أحوج ما يكون إلى عملية (السلام) فإما أنْ يستثمر ما تبقى من قوته
في تحقيق المكاسب من اتفاق هو فيه ليس الطرف المهزوم، وإما أن يهادن حتى
يعيد تجميع صفوفه، ولربما تأتي له الأحداث بما يستفيد منه.
* ماذا لدى دول الطوق؟
«تشترك الولايات المتحدة و (إسرائيل) وتلتقي مصالحهما في التدخل
ومحاربة السودان عبر دول الجوار لاحتواء النظام الإسلامي الحاكم في الخرطوم؛
وقد يرى صناع القرار السياسي في أمريكا أنه في تسليم قرنق وسيلة ناجحة
للمعالجة (صحيفة نيويورك تايمز 3/3/1996م) ، وهذه السياسة أعلن عنها في
أكثر من مناسبة مستشار الأمن القومي السابق (أنطوني ليك) ووزيرة الخارجية
السابقة (مادلين أولبرايت) .
وهكذا فابتداءً من 1994م ساءت علاقة السودان بكل من إرتيريا وأثيوبيا ...
رفعت أثيوبيا شكوى ضد السودان لمجلس الأمن عقب محاولة اغتيال الرئيس
المصري حسني مبارك في يونيو 1995م وصدر بموجبها القرارات العقابية
(1044/1054/1070) وفي يناير 1997م عند احتلال منطقتي الكرمك وقيسان
بعث السودان شكوى لمجلس الأمن اتهم فيها القوات الإرترية (6000 مقاتل و22
دبابة) باحتلال مواقع داخل الحدود السودانية.
وقد أعلن الرئيس الإرتري أكثر من مرة:» إنّ إسقاط هذا النظام لا مجاملة
فيها، ونحن لا نعمل في الخفاء إزاء هذا الأمر « (صحيفة الحياة يناير 1996م) .
وفي أبريل 1995م قطعت يوغندا علاقاتها الدبلوماسية مع الخرطوم، واتهمها
السودان بغزو أراضيه في أكتوبر عام 1995م.
وفي مارس 1997م نشرت دورية analysis Africa التابعة للاستخبارات
البريطانية 17/11/1995م تقريراً عن إنشاء واشنطن لخلية متحركة تتبع الجيش
اليوغندي بغرض محاصرة السودان. ولكنّ قيام بوادر الحرب بين أثيوبيا وإريتريا
غيّر تماماً نمط علاقتهما بالسودان لخطورة دوره وموقفه بالنسبة لهما.
أما يوغندا فقد وقعت اتفاقية مع الحكومة عام 1999م برعاية الرئيس
الأمريكي (كارتر) والكيني (موي) تقضي بالتوقف عن دعم المعارضة المسلحة
لأي من الدولتين، وأقفل الجيش اليوغندي معسكرات التدريب (العلنية) لحركة
التمرد، ثم أعادت يوغندا فتح سفارتها بالخرطوم في سبتمبر 2001م ... وهكذا
احترقت ورقة الضغط عبر الجيران التي تبنتها الإدارة السابقة، وتبخَّر قدر كبير
من الآمال في إسقاط نظام الخرطوم و (الحل الناجع) بتسليم جون قرنق حكم البلاد.
* النفط ورياح المصالح:
تمكن التمرد بقيادة (قرنق) من ضرب أعمال شركة (شيفرون) الأمريكية
للتنقيب عن البترول في فبراير 1984م، وضرب أعمال الشركة الفرنسية لحفر
(قناة جونقلي) التي كان يؤمل أن توفر 4 مليارات متر مكعب سنوياً من مياه النيل؛
وعليه توقف العمل في استخراج النفط.
ومن مارس 1997م بدأت ثورة نفطية جديدة بالسودان حتى وصل إنتاجها
الآن 230 ألف برميل يومياً (كلها من منطقتي هجليج والوحدة فقط) بمساحة تقدَّر
بـ 50.000 متر مربع وتعادل 6% من المساحة الكلية (المرخصة فقط) والتي
يقدَّر أنها تحتوي على كميات تجارية من خام البترول الذي يتوقع أن يكون احتياطي
السودان منه يتراوح بين مليار إلى أربعة مليارات برميل أو تزيد ... وقد وفر عائد
النفط للحكومة 71% من إجمالي الناتج المحلي، وحقق فائضاً في الميزانية يزيد
عن 200 مليون دولار.
ويملك امتيازات هذا الإنتاج شركات كندية وماليزية وصينية وسودانية كما
يعمل في هذا المجال شركات من النمسا وروسيا وفرنسا والهند والإمارات
وقطر.
إنّ دخول النفط في جو الحرب سيعيد تشكيل الأحداث بحيث إنه:
- سيعضد موقف الحكومة، ويضمن لها التفوق في إمداد الحرب، وإنعاش
الاقتصاد، وإغراء الفصائل المعارضة للانضمام لها.. يقول (جون برندر جاست)
مسؤول الشؤون الإفريقية بالخارجية الأمريكية السابق (الأوبزيرفر 12/5/
2002م) :» إنّ خيارات الحركة محدودة، وقوتها العسكرية معرَّضة للتراجع
مع تحسُّن موقف الحكومة بتدفق العائدات النفطية «.
- سيعزز وضع الحكومة الدولي عبر تأسيس شراكات وتحالفات ومصالح مع
الدول المؤثرة إقليمياً وعالمياً.
- سيحرك اللوبي الاقتصادي والنفط الأمريكي في سبيل تغيير السياسة
الأمريكية تجاه السودان؛ بما يضمن له مصالحه النفطية. وهو ما كان يعنيه
المبعوث الأمريكي (دانفورث) عندما صرح في 20/7/2002م قائلاً:» إنّ
نجاح محادثات السلام في نيروبي؛ سيحوّل السودان من منطقة نزاع إلى مصدر
رئيسي للنفط « ... إنها رياح المصالح (العاصفة) التي تسير بها سفينة السياسة
الأمريكية.
* ماذا وراء المبادرات الأمريكية؟
بدأت أول مبادرة أمريكية حول حرب الجنوب في ديسمبر 1989م بنيروبي
رعاها الرئيس الأمريكي الأسبق (كارتر) ، ومنذ ذلك الحين تعدّدت المبادرات
والمبعوثون الأمريكيون: هيرمان كوهين.. جورج موس.. ميلسيا ويلز ... هاري
جونستون ... جيفري ميلينغتون.. وغيرهم. وهي مبادرات لم تتمخض عن شيء
يُذكر سوى المزيد من تجريم الحكومة وفتح خطوط للإغاثة (الموجَّهة) ومتابعة
أحوال النصارى وحمايتهم.
إنّ موقف الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه السودان يتشكل تحت تأثيرات عدة:
- تيار (اليمين الديني والجمعيات الأصولية النصرانية) وهي قاعدة الحزب
الجماهيرية التي تؤثر عبر الكونجرس ومجلس النواب ومؤسساتها الإعلامية
والمنظمات التي تديرها وأعضائها في الإدارة، وهذا التيار ذو دور قوي ومؤثر.
ومن رَحِمِه خرجت مبادرات عدةٌ منها:
- مشروع (سلام السودان) الذي أُجيز في مجلس النواب في مايو 2001م
الذي يُوصِي بالدعم المباشر (العسكري) و (المدني) لحركة التمرد، والضغط
على الحكومة، وصيانة الحريات الدينية، ومنع معاقبة الشركات الأمريكية العاملة
في نفط السودان، وقد أيّدت الحكومة بنود المشروع، ولكنها تحفظت على بند
العقوبات ضد الشركات مما أدى إلى إبعاده.
- تعيين القس الأمريكي (جون دانفورث) في سبتمبر 2001م جاء بضغط
من (لجنة حماية الحريات الدينية بالكونجرس) وهي إحدى أذرع تيار اليمين
الأصولي الأمريكي.
- مجموعات الضغط الصهيونية التي تسعى لدعم (الحركة) والتمكين
لمشروعها (الحالم) في السودان، وإعدادها (كحليف إفريقي) لإسرائيل في منطقة
استراتيجية وهامة؛ حتى لقد غدا شأن (جنوب السودان) مادة يتقرّب بها الرئيس
بوش لليهود في 3/5/2001م عندما شبه معاناة الجنوبيين في السودان بمعاناة اليهود
في مطلع القرن السادس عشر ... ثم تعهد بدعمهم.
- اللوبي الاقتصادي والنفطي الذي يهمه في المقام الأول دخول السوق
السودانية النفطية، وتوسيع استثماراته. ومما يوسع مساحة تأثير هذا التيار أنّ
الإدارة الحالية (بوش ونائبه) تنتمي لهذه المجموعة ... لقد كان هذا اللوبي وراء:
- إسقاط مشروع (سلام السودان) في مرحلة العرض على الكونجرس.
- مشروع (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية) في مارس 2001م
(والذي أعده خمسون خبيراً) عن السلام في السودان. وفكرته الأساسية هو قيام
دولة واحدة بنظامين ودستورين، واقتسام السلطة والثروة (النفط) بين الحكومة
والحركة بالإضافة إلى حماية الحريات الدينية.
- مجموعة الأمريكيين السود التي تتأثر بما يُروّج عن دعاوى الاستعباد
والرق والسُّخرة لمواطني جنوب السودان وهذه المجموعة تعمل بالتضامن مع اليمين
الديني.
* المفاوضات قبل مشاكوس:
أول لقاء جمع بين (حكومة الإنقاذ) و (الحركة الشعبية) كان عبر المبادرة
الإثيوبية في أغسطس 1989م تلاها المبادرات النيجيرية (أبوجا الأولى 1992م)
و (الثانية 1993م) ثم ظهرت مبادرات الإيقاد في سبتمبر 1993م.
وقد قبلت الحكومة طمعاً في ضغط دول الجوار على (الحركة) حينما كانوا
على وفاق مع الحكومة، وفي ظل غياب دور عربي أو إسلامي آخر.
في مايو 1994م تقدّم وفد الحركة لأول مرة بمقترح (تقرير المصير) الذي
ضمن في مقترح الوسطاء الذي سمي بـ (إعلان المبادئ) وقد رفضته الحكومة
في حينه. وحينما وافقت الحكومة على (إعلان المبادئ) في جولة أكتوبر 1997م
طرح وفد الحركة مقترح الكونفدرالية وقضية توسيع حدود الجنوب؛ وهو ما
رفضته الحكومة أيضاً.
* حقيقة تفاهم مشاكوس:
قبيل إبرام الاتفاق كانت الأمور تسير وكأنها موعودة بشيء جديد، وأنّ هذه
الجولة ليست كباقي الجولات؛ فالرئيس السوداني ومستشاره للسلام ووزير
الخارجية السوداني أبدوا تفاؤلاً بلا تحفظ على نجاح هذه المفاوضات (مثلاً الرأي
العام 1/7/2002م) ، وتحدث قادة الحركة عن إمكانية أن يقبلوا دولة بنظامين في
أكثر من مناسبة مثلاً (ياسر عرمان) الناطق الرسمي لحركة التمرد في لقاء الشرق
الأوسط 5/7/2002م أما الولايات المتحدة فقد صرح وزير خارجيتها (كولن باول)
في 1/7/2002م لقناة FOX قائلاً:» إنّ واشنطن تدفع بقوة لإنهاء الحرب في
السودان عبر المفاوضات الجارية الآن في نيروبي «وفي جلسة استماع أمام
(اللجنة الفرعية للشؤون الإفريقية) بالكونجرس الأمريكي في 11/7/2002م تحدث
(وولتر كانشتاينر) مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية عن أنّ» المفاوضات
الجارية الآن في نيروبي تمثل فرصة إيجابية للغاية لتحقيق السلام في السودان «.
لقد تعزز الموقف الأمريكي بعد نجاح وقف إطلاق النار واتفاق جبال النوبة
في 19/1/2002م برعاية (دانفورث) وتمّ نشر الوجود الأمريكي في جبال النوبة
تحت مسمى: (لجان المراقبة والإغاثة) كخطوة أولى للمبادرة الأمريكية، أما
الخطوة الثانية فكانت جنوب السودان عبر (مشاكوس) .
إن مقترح (مشروع التفاهم) صاغه خبير القانون الدستوري الجنوب إفريقي
(نيكولاس هيسن) الذي حضر بصفة مستشار، وقدمه المبعوث الكيني الجنرال
(لازروس سومبابو) الذي هدد بأن الطرف الذي سيرفض التوقيع سيتحمل تبعات
ذلك؛ وهكذا وقع الطرفان مشروع (التفاهم) الذي لونه وريحه وطعمه أمريكي،
وهو لا يختلف كثيراً عن (مركز الدراسات الاستراتيجية) بواشنطن ولا عن
المسودة التي قدمها السياسي الجنوبي المتعاطف مع الحركة أبيل ألير في أغسطس
2000م وهو ما صرح به (دانفورث) للصحافة في 17/2/2002م وهو طرح
الحركة تقريباً لولا الصياغة (اللطيفة) التي تجنبت المصطلحات المثيرة.
أما الاتفاق فقد كان ضبابياً ومبهماً؛ إلى الحدّ الذي تضاربت فيه تفسيرات
أعضاء الوفد الواحد، وأصبحت له أكثر من قراءة، وعلى كل حال فهو يتضمن
ثلاث قضايا:
1 - علاقة الدين بالدولة (الشريعة والدستور) .
2 - تقرير المصير (الانفصال) .
3 - الفترة الانتقالية وهيكلة السلطة.
* علاقة الدين بالدولة في (مشاكوس) :
لقد قال المبعوث الأمريكي (دانفورث) في20/1/2002م إنه» لا يتوقع قيام
دولة علمانية في السودان، والمطلوب هو الحفاظ على حقوق غير المسلمين «..
وعلى هذا فأمريكا يمكن أن تقبل بدولة (غير علمانية) في السودان، ولكن تحت
شرط (واسع) هو الحفاظ على حقوق غير المسلمين.
أما (الحركة) فقد تقبل بقيام (الشريعة) في الشمال بشروط:
أولاً: أن يكون ذلك في ظل (كونفدرالية) : دولة بنظامين ودستورين وإدارتين.
وثانياً: أن يكون الدستور الاتحادي علمانياً.
وثالثاً: أن تكون العاصمة الاتحادية علمانية (في تصريح قرنق نفسه في 16/5/
2000م) و (الحكومة) قدمت كل ما يمكن أن تقدمه فدستور السودان لعام 1998م
(المواد 21، 24، 25، 27، 37) قد أعطى (بسخاء) كل حقوق التساوي
وحرية العقيدة والعبادة والفكر والتنصير والدعوة والمجموعات الثقافية ومنع التمييز
بحسب الدين والسكوت عن دين الرئيس. واتفاقية الخرطوم للسلام الموقعة في
أبريل 1997م مع ست فصائل جنوبية قد استثنى الجنوب من أحكام (الشريعة)
المادة (5 ب) . والحقيقة أنّ الأحكام المعمول بها في دستور 1998م التي ينصّ
الدستور على أن مصدرها هو (الشريعة الإسلامية) لا تمثل ما يتطلَّع إليه
المسلمون من إقامة شرع الله لا تقنيناً ولا تنفيذاً؛ وإنّ من الرزية أن يهزأ مثل هذا
المتمرد (قرنق) بعقائد المسلمين فيقول في تصريح له نشرته صحف الخرطوم في
9/8/2002م:» لقد تم حسم أمر الشريعة رغم أننا كنا نريد استبعادها، لكن
الوضع تغير فأصبح تطبيق الشريعة في الشمال أمراً يخص الشماليين وعليهم أن
يكونوا جادّين في ذلك «.
وبحسب (الاتفاقية) فإنّ علاقة (الدين بالدولة) تكونت من قضيتين:
أولاً: قسم يتعلق بالحقوق والواجبات (البند 6) وهذا بند واضح يماثل ما
جاء في دستور 1988م مع تفصيل زائد.
ثانياً: قسم يتعلق بالدستور (البند 3) وهو نص (رمادي) يحتمل التأويلات:
فالفقرة (1) تتحدث عن (دستور قومي أعلى) يجب أن يتوافق مع كل القوانين.
والفقرة (2) تتحدث عن (تشريعات وطنية) إذا طبقت خارج الجنوب (باقي
السودان) فمصدرها الشريعة واجتماع الشعب ... وإذا طبقت في الجنوب فمصدرها
إجماع الشعب والعادات. وتتحدث نقطة تالية عن (التشريعات الوطنية ذات
المصدر الديني) لولاية لا يدين غالبها به؛ فهذه إما أن تُغيّر عبر موافقة ثلثي
(مجلس الولايات) أو عبر مؤسسات في الولاية متماشية مع الدين فيها.
إن موضع الاتفاق في هذا (التفاهم) بين توضيحات وفدي الحركة والحكومة
هو أنّ الشمال يحكم (بالشريعة) الواردة في دستور 1998م والجنوب بقوانين
(غير الشريعة) صادرة عن مؤسسات (أو جهات) تكونها (الحركة الشعبية) مع
الجنوبيين.
أما موضع الاختلاف بين الوفدين فهو قائمة طويلة تبدأ من قضية وجود أو
عدم وجود (دستور اتحادي ثالث) ! ثم هل الدستور الاتحادي علماني أم إسلامي؟
وهل يعني إلغاء دستور 1998م أم تعديله؟ وهل العاصمة القومية ستكون ضمن
الدستور العلماني أم (الإسلامي) ... إلخ.
وكيفما كانت تفاصيل الاتفاق على أهميتها فإنّ مجرد وجود (الحركة الشعبية)
في سدة السلطة الاتحادية بثقلها وثقل من يقف وراءها سيفرز واقعاً جديداً لا يمكن
التنبؤ بمآلاته. نسأل الله حسن العاقبة.
* مسألة الانفصال:
تتحدث الفقرة (22) من (المنافستو) الذي خرجت به (الحركة الشعبية)
أول ظهورها:» لا بد من التأكد بأنّ هدف الحركة ليس هو فصل الجنوب عن
الشمال ... إنّ الجنوب سيظل أبداً جزءاً لا يتجزأ من السودان ... لقد تم تقطيع
أوصال القارة الإفريقية بواسطة المستعمرين في الماضي ... ولا تخدم الحركات
الانفصالية إلا أهداف أعداء القارة «وهذا النص في الواقع لا يعكس (الوحدوية)
التي يدعيها (قرنق) بقدر ما يعكس النزعة التوسعية لتسلطه التي يعبر عنها أحياناً
(بالسودان الجديد) ... إنّ معظم القادة الجنوبيين لا يمكن تسجيل رأي (واحد
ودائم) لأي منهم حول قضية الانفصال، وعندهم أنّ لكل مقام مقالاً ولكل حادث
حديثاً.. وفي الوقت الذي تتحدث فيه (الحركة) عن الوحدة فإنها تطالب بتقرير
المصير في سائر مفاوضاتها، و (الذي يرغب في الوحدة لا يطالب بتقرير
المصير) على حد تعبير السياسي الجنوبي (جناح الفصيل المتحد) د. لام أكول.
أما الكونفدرالية فقد طرحتها الحركة في (أبوجا الثانية) تم أعادت طرحها
مرة ثانية في جولة أكتوبر 1997م عبر (الإيقاد) وبعدها قال قرنق (لصحيفة
الخرطوم 7/12/1997م) : إنّ (الكونفدرالية ليست من خياراتنا) وقال إنه جاء
بها لنسف المفاوضات.. ثم عاد ليقول في الذكرى (17) للحركة بتاريخ 16/5/
2000م إنّ (الكونفدرالية هي الحل الأكثر نجاعة لمشكلة السودان) !
* خاتمة:
إنّ واحدة من أبرز مشكلات الجنوب سواء مع الوحدة أو الانفصال هو وجود
عشرات الفصائل الجنوبية ومئات القادة الميدانيين (الذين يسيطرون على آلاف
المقاتلين) والذين تختلف أعراقهم ومشاربهم وطموحاتهم وآراؤهم وهي أعقد بكثير
من أن تسعهم صياغة للحكم ولو كانت (سخيّة) كما هو واضح في دراسة قام بها
كاتبان: (جوك مادوت) و (شارون ألين) عن حرب الجنوب توصلت إلى أنّ
عدد الضحايا في الصراعات (الجنوبية الجنوبية) أكبر بكثير من ضحايا
الصراعات (الشمالية الجنوبية) .
ليس من شك أنّ لكل خيار من (الوحدة أو الانفصال) مخاطره ومحاذيره،
وأنّ صراعاً بهذا التعقيد يفتح مجالاًً واسعاً جداً (للاحتمالات والمفاجآت) التي كان
من آخرها قيام قوات المتمردين باقتحام مدينة توريت الاستراتيجية الحصينة بعد
قصف مكثف استمر لمدة يومين، وقد تم ذلك بأن زجّت حركة التمرد بما يزيد عن
تسعة آلاف من الجنود المدعومين بالدبابات ليتمكنوا من احتلال المدينة وقتل أعداد
كبيرة من القوات الحكومية والمتطوعين والاستيلاء على كميات من العتاد الحربي
والذخائر.
وبينما أعلنت الحكومة تعليق المفاوضات وطلب الرئيس البشير من الوفد
الحكومي الرجوع إلى الخرطوم احتجاجاً على هذه العملية فإن حركة التمرد اتهمت
الحكومة بالنكوص عن الاتفاقية والتهرب من التزاماتها، وأضافت إلى ذلك مطالبتها
بفصل الدين عن الدولة وتعريف حدود الجنوب إلى مناطق جنوب النيل الأزرق
والأنقسنا والميرم وأبياي في غرب كردفان وجبال النوبة، كما أكدت إصرارها
على تعيين مدينة ملكال عاصمة للاتحاد الكونفدرالي بين الشمال والجنوب.
إن هناك تخوفاً كبيراً أن تكون مشاكوس بداية (مشكلة) تأزم الموقف وأن
تدخل البلاد في دوامة أشد وأنكى يحمل تبعاتها أجيال بعد أجيال.
وعلى حكومة السودان الحرص واليقظة من غدر (قرنق وأتباعه) فالرجل
صاحب اتجاه مناوئ للسودان، وصاحب أيديولوجية صليبية، وهو مدعوم من
الغرب ومن أذنابهم في القارة ومهما تظاهر بالموضوعية وأدعى الوحدة فبرنامج
حركته انفصالي، وهجوم قواته بعد التفاهم يدل على نوايا خبيثة ومحاولة ضرب
وحدة الشعب السوداني.
ونعتقد بأن الاتحاد والوحدة بين فئات الشعب السوداني كفيلة بالقضاء على
مخططات المغرضين والحاقدين وأهل الأهواء وأعداء الاتجاه الإسلامي.(180/84)
المسلمون والعالم
النيوزيلنديون على الطريق المستقيم
نظرة إلى الاهتداء إلى الإسلام في نيوزيلندا
إعداد: شيريل هل
تلخيص وتعليق: عدنان تيم
* أولاً: المقدمة:
بدأ الباحث دراسته ببيان معنى آيتين باللغة الإنجليزية، من القرآن الكريم
هما: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] (النحل: 125) .
[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (البقرة: 256) .
ثم يقول الباحث: إن الدعوة إلى الإسلام توجه إلى المسلمين الذين ضلوا
الطريق، وإلى غير المسلمين، وإن اعتناق الدين الإسلامي (التحول إلى الإسلام)
أمر بسيط لا يحتاج إلا إلى الاعتراف بوحدانية الله، وتقبُّل أن محمداً رسول الله،
وقول الشهادة، ثم إظهار الاعتقاد بذلك.
ويقول الباحث: إن الإسلام أكثر الأديان انتشاراً في العالم، والنيوزيلنديون
ليسوا على فهم ومعرفة بالإسلام، ومع قلة عددهم، فإن أعداداً لا بأس بها اعتنقت
الإسلام.
ويذكر الباحث: أن هذا البحث هو ناتج المسح الذي أجري على 31 ممن
اعتنقوا الإسلام في نيوزيلندا، علماً بأن هدف هذه الدراسة كان التعرف إلى بعض
العوامل والدوافع التي كانت سبباً في التحول إلى (اعتناق) الإسلام.
1 - المجتمع المسلم في نيوزيلندا:
نيوزيلندا بلد صغير، معزول، وقد ازداد عدد المسلمين فيه نتيجة للهجرة
من مناطق أخرى مزقتها الحروب مثل الشرق الأوسط، وشرق أفريقيا.
ومعرفة النيوزيلنديين بالإسلام قليلة، وكذلك فإن المعلومات عن الإسلام قليلة،
وهم في أمس الحاجة للتغلب على ذلك.
ويميل النيوزيلنديون إلى التسامح، ولكنهم مع ذلك قليلو الاحتكاك بالمسلمين،
نظراً لما يصوره الإعلام عن المسلمين والأصولية الإسلامية.
ويوجد في نيوزيلندا سبع جمعيات إسلامية انضمت إلى الجمعية الإسلامية
الفيدرالية في نيوزيلندا (FIANZ) .
Federal of Islamic Association of New Zeeland) FIANZ (
كما يوجد ما مجموعه 15 مسجداً ومركزاً إسلامياً، وعدة أقسام تعمل تحت
رعاية (FIANZ) تهتم بشؤون النساء، الأطفال، التعليم، التحول إلى الدين
الإسلامي، المنشورات الدينية، الحلال والحرام، الشؤون الوطنية والدولية
والدعوة.
إن قسم الدعوة هو المسؤول عن توزيع الكتاب الإسلامي بما في ذلك نسخ من
القرآن الكريم، وعقد لقاءات للحوار الديني والبرامج الإخبارية.
وقد أُسِّسَتْ جمعية الدعوة الإسلامية والمتحولون إلى الإسلام في نيوزيلندا قبل
12 سنة لنشر الوعي الإسلامي، وتقديم خدمات تربوية ومعلوماتية إضافة إلى الدعم
المادي والمعنوي لأولئك الذين يعتنقون الإسلام.
2 - استعراض الأدب التربوي:
ما كُتب عن الإسلام قليل جداً، وكتاب «التحول إلى الإسلام» هو أحد
الكتب القليلة التي صدرت وتتعلق بالإسلام، كذلك يوجد بعض المنشورات
والدراسات ولكنها قليلة جداً.
3 - ظاهرة التحول إلى الدين:
تتوفر كمية جيدة من الأدب التربوي تتعلق بالتأثيرات الاجتماعية والنفسية
والدينية على التحول الديني، وقد طور «لوفلاند، ستارك» نموذجاً من سبع نقاط
يبين الظروف التي يمكن أن تحمل الفرد على التحول الديني، وبالرغم من أن ذلك
يتعلق بإطار الدين النصراني، إلا أن المبادئ نفسها يمكن أن تطبق أيضاً على
التحول إلى أديان أخرى.
ويشير الباحث إلى أنه من الضروري التفريق بين ثلاثة أنواع من التحولات
إلى الدين وهي:
أ - صحوة في الاهتمام الديني من موقف عدم الاعتقاد، أو من الشك إلى التعلق
الشديد بالدين.
ب - التشدد في الإخلاص والوفاء ضمن ثقافة ومعتقدات محددة.
ج - تحول كامل من دين إلى آخر.
ويقول الباحث إن هذه الدراسة تتعلق بالنوعين: الأول والثالث فقط، ويقول
إن كثيرين حاولوا تعريف هذه الظاهرة، ظاهرة التحول إلى الدين؛ حيث أعطى
مجموعة من التعريفات، أختار منها:
تعريف ذوليس (Thouless) :
التحول الديني هو الاسم الذي يعطي للعملية التي تقود إلى تبني اتجاهات دينية،
وهذه العملية يمكن أن تكون تدريجية أو فجائية، وتتضمن التغييرات في
المعتقدات، وهذا يتصاحب مع التغير في الدوافع والسلوك والتفاعل مع البيئة
الاجتماعية.
ويقول الباحث إن نتائج هذه الدراسة، تشير إلى أن اعتناق الدين الإسلامي لم
يكن مفاجئاً أو عاطفياً، بل كان تحولاً تدريجياً في المعتقدات والاتجاهات على مدى
سنوات.
نموذج التحول إلى الدين الإسلامي Islamic Conversion Model:
فيما يخص المسلمين فإن كلمة العودة (Reversion) هي المفضلة، وهذا
التعليل العقلي مركَّز على مفهوم «الفطرة» التي تعرف على أنها الطبيعة الفطرية
(الغريزية) لكل البشر نحو الإسلام؛ بمعنى أن أولئك الذين يخضعون إلى أمر الله
ويعملون به؛ فإنهم يجدون السلام، وقد وصفت الفطرة بأنها طبيعة الأشياء،
وتسمى أحياناً: «سنة الله» ، بمعنى أن الله قد خلق كل شيء وفق منهاج معين.
ومن الضروري هنا اقتباس قول «هاري Haeri» الذي يقول: «كل
الناس ولدوا خاضعين للحقيقة الفطرية، ومن ثَمَّ للإسلام، والمجتمع والآباء
يتدخلون في هذه الفطرة الإسلامية، وهناك أناس في العالم اكتشفوا الإسلام في
داخلهم خلال حياتهم، وليس كنتيجة للدين الإسلامي؛ إن ذلك هو صدى أشياء
داخلية في قلوب بني البشر» .
وهذا القول يؤكده القرآن الكريم في قوله تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ
مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا
يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] (الأعراف: 172) ، وقوله سبحانه: [يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *
وَادْخُلِي جَنَّتِي] (الفجر: 27-30) .
* ثانياً: طريقة الدراسة والنتائج:
أ - طريقة جمع المعلومات:
1 - الأدب التربوي الإسلامي في نيوزيلندا وبعض الدراسات في أمريكا
وبريطانيا.
2 - الاتصال ببعض المسلمين الذين تحولوا إلى الإسلام في نيوزيلندا
والاتصال بـ (FIANZ) .
3 - استبانة: ورقية وإلكترونية: تم إعدادها على مستوى الأمة.
4 - متابعة 21 شخصاً من الذين استجابوا للاستبانة، بمقابلات شخصية أو
تليفونية أو بريد إلكتروني.
ب - المعلومات التي تم جمعها:
بعد جمع المعلومات فإن هناك صعوبات محتملة متعلقة بتصنيفها منها:
1 - بعض الذين اعتنقوا الإسلام، من الممكن أنهم لم يتصلوا مع مراكز
إسلامية، ولم يسمعوا بالدراسة.
2 - لا يوجد سجلات في نيوزيلندا تحدد عدد الذين اعتنقوا الإسلام،
ويصعب الحصول على أرقام صحيحة.
3 - الفئة التي تم الاتصال بها هي ممن اعتنق الإسلام عن طريق الاتصال
بالمسلمين.
4 - كانت هناك صعوبة في الحصول على الاستبانات بعد توزيعها.
5 - أهداف الدراسة يمكن أن تكون قد أثرت على استجابة عينة الدراسة.
يمكن أن يكون هناك تحيز ومحاباة في اختبار المشاركين واستجاباتهم نتيجة ما
يلي:
1 - يمكن أن يكون التحيز ناتجاً عن مدى استجابة الأفراد للدراسة.
2 - يمكن أن يكون التحيز ناتجاً عن مستوى التعليم، حيث كان 1.6%
ممن استجابوا للدراسة في مستوى جامعي.
3 - طريقة توزيع الاستبانة يمكن أن يكون فيها تحيز.
ج - التصنيفات الرئيسة لتحليل المعلومات والنتائج:
أجري التحليل على أساس منظور اجتماعي مصغر يتعلق بالأفراد أكثر منه
في المجتمع، وتم تصنيف المعلومات إلى أربع مجموعات رئيسة هي:
1 - المنحى الديموغرافي (السكاني) .
2 - إصدارات الدعوة.
3 - الالتزام الشخصي.
4 - قضايا قانونية.
وتضمنت كل مجموعة عناصر فرعية تتعلق فيها.
* ثالثاً: المناقشة:
يناقش الباحث أربع قضايا فقط وهي:
أ - مؤثرات ما قبل التحول الديني: Pre-conversion influences
تعالج الدراسة بعض العوامل التي كان لها علاقة في التحول الديني منها:
1 - الزواج: حيث أشارت الدراسة إلى أن الزواج كان سبباً للتحول الديني
بين الرجال والنساء على السواء.
2 - التصوف: تشير الدراسات أن النواحي الروحية كانت أداة لجذب الناس
إلى الإسلام، ولكن هذه الدراسة لم تؤكد ذلك.
3 - الحصول على المعلومات: 59% من عينة الدراسة أجابوا بأنه يوجد
صعوبة في الحصول على معلومات عن الإسلام مما يؤثر في عدم معرفة الناس
بالإسلام.
4 - السفر إلى البلاد الإسلامية: تشير الدراسة إلى أن غالبية الذين تحولوا
إلى الإسلام كانوا قد قاموا بزيارات للبلدان الإسلامية.
ب - الخبرات أثناء التحول الديني: Conversion Experiences
أظهرت الدراسات كما يقول الباحث أن العمر كان له تأثير في التحول الديني؛
حيث يتراوح عمر الذين يتحولون من دين إلى آخر ما بين (10 - 25) سنة،
وبصورة عامة فإن الإسلام له قبول عالمي بغض النظر عن الجنس أو العرق.
ج - ملاحظات ما بعد التحول الديني Post-conversion
observations:
1 - استخدام اسم إسلامي عند التحول.
2 - كان هناك خلافات في الرأي حول قبول الزي الإسلامي فيما يتعلق
بالنساء.
3 - يوجد تخوف من المعاملة السيئة التي قد يعامل بها المسلم زوجته في
غير بلدها.
* رابعاً: النتائج والتوصيات: Conclusion and Recommendations:
- التوجه نحو الإسلام كدين عالمي يتجذر تدريجياً في نيوزيلندا، وهذا ما
يشير إليه تحول النيوزيلنديين المستمر إلى هذا الدين.
- الذين يتحولون إلى الإسلام غالباً تكون لديهم خلفية مسيحية، ولكنهم درسوا
ديانات أخرى وخاصة في الجامعة.
- يعتمد الإسلام على العقل، وهذا يجعل بعض المسيحيين ممن هم في شك
في معتقداتهم، وخاصة فيما يتعلق بالثالوث وألوهية عيسى، إلى الدخول في
الإسلام.
- كون الإسلام دين حياة يهتم بالقيم العائلية، وحقوق المرأة، والأمور
الحياتية جعله قريباً من اهتمامات النيوزيلنديين.
- اتخاذ قرار التحول إلى الدين الإسلامي يأخذ عادة وقتاً طويلاً، وكثير من
الذين تحولوا إلى الإسلام قاموا بدراسات عن الإسلام قبل دخولهم الإسلام.
- كثير من الذين اعتنقوا الإسلام، كانوا قد طوروا اهتماماً بالإسلام؛ وذلك
من خلال مقابلاتهم مع المسلمين واحتكاكهم معهم أو من ملاحظاتهم أو عن طريق
الدراسة والسفر إلى البلدان الإسلامية.
- نقص المواد التعليمية المناسبة والنشرات والكتب بلغة المواطنين قد تكون
من أهم الصعوبات التي تواجه إمكانية التحول إلى الدين الإسلامي.
- المؤسسات الإسلامية غير قادرة على تلبية احتياجات المسلمين في نيوزيلندا
فيما يتعلق بنشر الوعي الإسلامي.(180/91)
المسلمون والعالم
أنصار الإسلام في تورابورا العراقية
(2 ـ 2)
أحمد فهمي
Ahmdsaad1@hotmail.com
أوشكت قضية (جماعة أنصار الإسلام) أن تقفز إلى قمة الأحداث العالمية
في الأسابيع الماضية؛ وذلك بعد أن أعلن أن الإدارة الأميركية اتخذت قراراً
بالهجوم على مواقع الحركة ومعاقلها من أجل القضاء عليها وتدميرها، ولكن
تراجعت أميركا في اللحظات الأخيرة حسب التصريحات الرسمية بحجة أن ذلك
ربما يؤثر على موقف حلفائها العرب والمسلمين، ووجه وزير الدفاع رامسفيلد بدلاً
من ذلك هجوماً كلامياً على الجماعة، واعتبرها حليفاً قوياً لنظام صدام حسين.
وقد تناولنا في العدد السابق التعريف بأنصار الإسلام الكردية، وعلاقاتها مع
بعض اللاعبين الرئيسيين على الملعب الكردي العراقي، وبقي أن نواصل الحديث
عن بقية هؤلاء.
* أنصار الإسلام على الساحة الكردية:
يعتبر الأكراد بمثابة المرآة الصقيلة التي انعكست عليها أسوأ سوءات الواقع
الإسلامي، سياسياً واجتماعياً وإسلامياً؛ فمن الناحية السياسية تفرق الأكراد إلى
أحزاب مختلفة، ومتخالفة، في البلد الواحد، فضلاً عن تفرقهم أكثر من خمسة
وعشرين مليون كردي على خمس دول، هي تركيا، والعراق، وسوريا،
وأرمينيا، وإيران، وهو ما يعني عشرات الأحزاب والتجمعات والحركات السياسية
التي يدعي كل منها أحقيته بالحديث عن المصالح الكردية. وتتوزع هذه الأحزاب
بدورها على مختلف المذاهب السياسية، واليسارية، والليبرالية، والقومية،
بالإضافة إلى الحركات الإسلامية..
أما من الناحية الاجتماعية فلم يسلم الأكراد من تأثير النظام القبلي العشائري
لكن في صورته السلبية التي تدعو إلى مزيد من التفرق والانقسام، حتى داخل
الحزب الواحد، لتصنع عدداً إضافياً من التقاطعات داخل النسيج الكردي المهترئ.
أما من الناحية الدينية فقد نجح العلمانيون خلال عقود من الزمان، وبتأثير
البعث العراقي، في تحويل العرب إلى عدو أكبر لدى كثير من طوائف الشعب
الكردي؛ وذلك لكي تضعف الرابطة الإسلامية، وتنكمش المرجعية الدينية، طالما
كان العرب أحد مكوناتها الرئيسية. ومن ثم يصبح الحديث عن قضية كردية واحدة،
أو شعب كردي واحد، مجرد ترف فكري وسياسي، وتعلق بأوهام لا أساس لها
على الأقل في الظروف الراهنة بل إنه من المشاهدات المحزنة أن كل حزب كردي
بينما يعادي نظام الدولة التي يوجد بها يتحالف مع دولة أو دول أخرى مجاورة تقهر
بدورها الأكراد داخل حدودها.
فعلى سبيل المثال يحظى حزب البرزاني بعلاقة قوية مع تركيا، بينما حزب
العمال الكردستاني التركي يتعرض لحرب شعواء من حكومة أنقرة، ويحظى بالدعم
السوري ما قبل سقوط أوجلان وعداء حزب الطالباني العراقي، وهذا الأخير يحتفظ
بعلاقة قوية مع إيران التي تقمع المعارضة الكردية على أراضيها.. وهكذا.
وفي ثنايا هذه الفسيفساء ذات الأبعاد المتفاوتة، يمكن أن نلتقط أهم حزبين
على الساحة العراقية، لنسلط الأضواء على علاقتهما بحركة أنصار الإسلام، وهما
حزب الاتحاد الوطني، والحزب الديمقراطي اللذان يكشف تاريخهما السياسي عن
مجالات أخرى للتناقض الكردي المعاصر؛ فالاتحاد الوطني انشق في الأساس عن
الديمقراطي في منتصف الستينيات، بينما يقول بعض المختصين إن الانشقاق
الفعلي كان في عام 1975م، وقاد جلال طالباني الحزب نحو سلسلة متتالية من
التحالفات بدأت بالنظام العراقي، وتوجهت في الأساس ضد أحزاب عراقية كردية
أخرى، وانتهت بالتحالف المقدس مع أميركا، ضد نظام صدام، وخلال مسيرته
الحافلة تبنى الحزب النهج اليساري، وتحالف مع الشيوعيين، ثم توجه نحو
الليبرالية، وأخيراً يخطو بقوة في اتجاه النظام الغربي الرأسمالي مع ميول قومية،
ويتركز تواجده في الشمال الشرقي للعراق، بجوار الحدود مع إيران التي يحظى
بعلاقة قوية معها، مع علاقة أضعف بتركيا.
أما الديمقراطي الذي تأسس عام 1946م، بزعامة الملا مصطفى البرزاني
والد مسعود الزعيم الحالي للحزب، فقد مر بدوره بسلسلة مشابهة من التحالفات،
مع كافة الأطراف والدول المجاورة والمعنية، بما فيها العراق نفسه، ونظام صدام
بالتحديد، حيث استعان البرزاني الابن بالجيش العراقي في حربه المستعرة مع
الاتحاد الوطني عام 1996م، وينهج الديمقراطي نهجاً قومياً، ويعتمد على العشيرة
البرزانية بصورة رئيسية، وهو حليف قوي لأميركا، وعلاقته هشة بإيران،
ويتركز تواجده في الشمال العراقي المتاخم للحدود مع تركيا التي يحظى أو كان
بعلاقة متميزة مع نظامها السياسي قبل أن يشوبها نوع من التوتر إثر الكشف عن
دستور لإقامة حكم ذاتي في كردستان العراق في ظل أي حكومة عراقية جديدة،
وهو ما تتخوف منه أنقرة، باعتبار تأثيره السلبي على الواقع الكردي لديها.
وبينما تتمركز حكومة الطالباني في مدينة السليمانية، فإن حزب البرزاني
يستقر في مدينة أربيل، والعلاقات بين الحزبين متوترة دائماً لدرجة التقاتل العنيف،
وتبذل الإدارة الأميركية جهوداً محسوبة بدقة لوقف النزاع بين الحزبين، حيث
تبدأ عادة في ممارسة الضغوط فقط عندما يهدد القتال مصالحها، والعلاقة بين
الحزبين تمر حالياً بفترة من الهدوء، خاصة مع الترويج الأميركي لحملة قوية
لإسقاط نظام صدام، والتي تتطلب تكاتف الجهود لتحقيق الرغبات الأميركية.
وتحتل العلاقة بين حركة أنصار الإسلام والاتحاد الوطني حيزاً كبيراً من
الواقع السياسي للحركة الإسلامية الجهادية، ويمكن زمنياً تقسيم العلاقة بين الطرفين
إلى ثلاث مراحل رئيسية: الأولى تبدأ في شهر سبتمبر من العام الفائت، والثانية
تبدأ من 11 ديسمبر من نفس العام، والثالثة تبدأ من 2/4/2002م.
المرحلة الأولى:
وكانت تحديداً بين الاتحاد الوطني وجند الإسلام، وهي العضو الرئيسي
المندمج في أنصار الإسلام الحالية، وبالنسبة للإسلاميين كانت العلاقة يحكمها
القناعة بوجوب إعلان الجهاد ضد الأحزاب العلمانية الكافرة الخارجة عن النهج
الإسلامي، وقد تزعم الملا أبو عبيد الله الشافعي الحركة في هذا الوقت، وقد دارت
معارك طاحنة بين مقاتلي الطرفين أسفرت عن خسارة بشرية فادحة للاتحاد الوطني
نتيجة الأسلوب العسكري الذي يتبعه مقاتلو جند الإسلام، والأقرب إلى حرب
العصابات، وقد أسفرت العمليات حسب بعض التقديرات عن سقوط نحو 1086
قتيلاً وجريحاً من الوطني خلال 73 يوماً من القتال المستمر، مقابل 47 قتيلاً
وجريحاً في صفوف جند الإسلام، إلا أنه من ناحية أخرى، لم يحدث تغيير كبير
لصالح الإسلاميين في مناطق السيطرة والنفوذ على أرض الواقع، وبقي النصر
الذي حققه الإسلاميون متمثلاً في إبطال جهود الوطني في إنهاء الحركة.
وبدأ جلال الطالباني بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في شن حملة
إعلامية قوية ضد الحركة؛ حيث ادعى أنها تابعة لبن لادن وتنظيمه القاعدة، وأنها
تتلقى تمويلاً ودعماً خاصاً منه، وأن هناك العشرات من الأفغان العرب يقاتلون مع
الجماعة، وأنها تفرض نمطاً إسلامياً مماثلاً لحركة طالبان، واتهم حزب الطالباني
جند الإسلام بتنفيذ عدد من عمليات القتل والاختطاف كان أبرزها الادعاء بقيام
مقاتلين إسلاميين بتنفيذ كمين ضد مقاتلي الوطني في قرية خيلي حمة على الطريق
بين السليمانية وحلبجة نتج عنه مقتل نحو 37 منهم، وقال مسؤولو الوطني إنه تم
التمثيل بجثثهم على نحو بشع، وقطعت بعض الأعضاء الخارجية، وتم تصوير
الجثث وأرسلت للصحف للدلالة على إرهاب الإسلاميين حسب ادعائهم، وقد نفت
الحركة ذلك، وقالت إن الوطني «اصطنع» الصور، أو مثّل أتباعه بالجثث قبل
تصويرها.
وقد توقفت المعارك بعد إعلان الوطني عن وقف لإطلاق النار في 11 أكتوبر،
باعتبار نجاحه في السيطرة على مناطق للحركة في حلبجة، ومناطق مجاورة لها
رغم خسارته البشرية الكبيرة، وأعلن الحزب عفواً دعائياً صورياً عن مقاتلي جند
الإسلام لمدة ثلاثين يوماً، مستثنياً من قاموا بعمليات القتل والتمثيل حسب ادعائه.
المرحلة الثانية:
بدأت في 11/12/2001م، وبعد يوم واحد من ظهور جماعة أنصار الإسلام
للعيان، نتيجة اندماج ثلاثي شمل جند الإسلام، وحماس الكردية، وحركة التوحيد،
وكان أمير الحركة الجديدة هو الملا نجم الدين فرج، المعروف بفاتح كريكار،
الذي أعلن فوراً عن الرغبة في إنهاء الصراع، ووقف القتال مع الوطني،
والدخول في مرحلة من المفاوضات لحل المشكلات العالقة، وبدا أن الجماعة قد
غيرت قليلاً من منهجها، وهو ما فسر من قبل بعض المحللين أنها محاولة للتكيف
مع نتائج أحداث سبتمبر، والحرب الأميركية على الحركات الإسلامية بدعوى
الإرهاب، وقد ترتب على ذلك عقد سلسلة مطولة من اللقاءات والمباحثات بين
الحركة والحزب الوطني، وبتأثير الخسارة والعجز، أبدى حزب الطالباني تجاوباً
أولياً، ودعا الأخير قادة الجماعة إلى مأدبة غداء في أحد فنادق السليمانية،
وحضرها منهم الملا فاتح كريكار، وأيوب ممثلاً لأبي عبيد الله الشافعي، ومحمد
حسن ويسي، وكانت مطالب جماعة أنصار الإسلام في هذه المفاوضات تتلخص في
تسليم إدارة مدينة بيارة للإسلاميين، وتقديم تعويضات مالية عن الخسائر نتيجة
القتال الأخير، وأيضاً تقديم حصة مالية شهرية ثابتة من واردات حكومة الوطني
في السليمانية، كما يحدث مع تنظيمات كردية أخرى، وقد استمرت اللقاءات بين
الطرفين عدة أشهر، وبدا أن الغيوم آخذة في الانقشاع، وأعرب الطالباني في حوار
مع الرأي العام الكويتية عن رضاه عن تطور العلاقات، وقال: «نحن في حوار
معهم، وأنا شخصياً استقبلت الملا كريكار في مقر إقامتي، وتكلم معي كلاماً جيداً،
وإذا ما تم تبني هذه السياسة التقارب من قبل المنظمة، فلن تبقى مشاكل» .. ولكن
فجأة تغير مسار الأحداث تماماً، عندما أعلن عن محاولة لاغتيال الدكتور برهم
صالح رئيس وزراء حكومة الوطني والرجل الثاني في الحزب، وذلك في مقر
إقامته في السليمانية، وكان آخر اللقاءات بينهما وهو اللقاء الذي عقد في قرية
خاركيلان قد انتهى يوم 31 مارس؛ أي قبل يومين فقط من المحاولة، واستمر لمدة
ثلاثة أيام، وكان من المتوقع أن يستجيب الاتحاد الوطني إلى الكثير من مطالب
أنصار الإسلام.
المرحلة الثالثة:
يعتبر الدكتور برهم صالح الرجل الثاني في الاتحاد الوطني، ورئيس حكومة
الحزب، وعرَّاب هذه المرحلة من العلاقة بين الوطني وأنصار الإسلام، وأبرز
المؤثرين فيها، والرجل حاصل على الجنسية الأميركية، وكثير السفر إلى أميركا،
ومعروف بعلمانيته وكراهيته الشديدة للحركات الإسلامية، ويعده البعض رجل السي
آي إيه الأول في المنطقة.
وقد بدأت الأحداث في يوم 2 إبريل من العام الحالي، عندما تعرض منزل
برهم صالح لهجوم غامض في توقيته والجهة التي تقف وراءه من قبل أشخاص
مجهولين، وقد نتج عن ذلك تدهور فوري في العلاقة بين الوطني وأنصار الإسلام،
لتنتهي بذلك الحقبة السلمية التي بدأت بعد نشأة الحركة في ديسمبر العام الماضي،
وقد نفت الحركة تماماً أي علاقة لها بالهجوم، خاصة أنه أتى على خلفية مباحثات
ناجحة بين الطرفين، لم يكن هناك داع لإفسادها، وقالت في بيان لها: «كان
التزامنا بقرارنا ذلك المفاوضات نابعاً من تعاليم التزامنا بالشرع الإسلامي الحنيف،
ولو أردنا تغيير مواقفنا فإننا سنعلن ذلك صراحة وبلا مواربة» ، إلا أن الاتحاد
الوطني على الرغم من ذلك شرع في تنفيذ إجراءات عقابية ضد جماعة أنصار
الإسلام والجماعة الإسلامية، بعد أن ادعى الحزب أن منفذي الهجوم كانوا ثلاثة
أشخاص، هم: عبد السلام أبو بكر عضو مركز السليمانية للجماعة الإسلامية،
وشخص آخر اسمه قيس نجح في الفرار ثم اعتقل بعدها في محلة السليمانية الجديدة
في بيت عضو بالجماعة الإسلامية، والثالث اسمه كامران مورياسي، وكان عضواً
سابقاً في جماعة التوحيد إحدى الجماعات الثلاث المكونة لأنصار الإسلام.
وتمثل الانتقام المفتعل للوطني في حملة اعتقالات مكثفة في السليمانية شملت
مئات الإسلاميين، ومن بينهم عدد من النساء، وهو ما جعل الأنصار يهددون
الاتحاد الوطني، ويعلنون مهلة ثلاثة أيام لإطلاق سراح الأسرى، خاصة النساء،
وقد تدخلت الحركة الإسلامية بزعامة الشيخ علي عبد العزيز للوساطة بين الطرفين،
فتم عقد لقاء استمر ليومين، أسفر عن إطلاق سراح النساء المعتقلات، وبدا أن
الوطني ثاب إلى رشده، وأبدى استعداده لمناقشة الاتفاقات السابقة، إلا أن الدكتور
برهم صالح تدخل مرة أخرى، حيث أعرب عن رفضه لأي مفاوضات مع أنصار
الإسلام، وذلك بعد عودته من زيارة لأميركا، معتبراً أن تحالف حزبه مع
الأميركيين يمثل خطوة هامة للقضاء على الإسلاميين دون حاجة للتفاوض معهم،
وبالفعل بدأت المماطلة والتسويف تحكم علاقة الوطني بحركة الأنصار، والتي
اتخذت قراراً بوقف المباحثات، واشتعل القتال مرة أخرى بين الجانبين، ولأن
الأنصار يعلمون أن مقاتلي الاتحاد الوطني أشبه بالمرتزقة الذين يقاتلون فقط من
أجل المال، وأن قادة الوطني يجدون صعوبة كبيرة في حشدهم للقتال، فقد أصدر
الملا فاتح كريكار عفواً مؤقتاً تكتيكياً في إطار الحرب النفسية عن مقاتلي الوطني
مشروطاً بإلقاء السلاح، مع تقديم مكافأة مالية لمن يبادر، وقد رد جلال الطالباني
بأن أعلن عن زيادة رواتب ومكافآت مقاتليه، لتشجيع الفارين على العودة.
وقد أخذت المعارك بين الطرفين نفس وتيرتها السابقة: قوات الطالباني تحفر
الخنادق، ومقاتلو الأنصار يتبعون أسلوب حرب العصابات، وينفذون هجمات
سريعة ضد أهداف الوطني الذي يمنى بخسائر بشرية كبيرة، بينما يفقد الأنصار
عدداً محدوداً.
أما فيما يتعلق بالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني، فقد
اتهم الحزب الأنصار بتنفيذ عمليات اغتيال في مناطقه، أبرزها اغتيال فرانسوا
الحريري القيادي البارز في الحزب في مدينة أربيل، وصرح مسؤول بالأنصار
لصحيفة الحياة أن حركته تستضيف بعض العناصر الإسلامية التي كانت ملاحقة في
مناطق الحزب الديمقراطي، لكنه لم يعترف صراحة بإيواء قاتلي الحريري، ومن
ناحية أخرى فقد جاءت محاولات القضاء على الأنصار لتكون عنصراً قوياً للتقريب
بين الحزبين الكرديين البارزين المتنافرين، الوطني والديمقراطي، حيث تم التوقيع
قبل أشهر على اتفاقية للتعاون الأمني في هذا المجال، ويحاول الطالباني جاهداً أن
يستدرج البرزاني للدخول في حرب مشتركة ضد الأنصار لكي يتخلص من الجماعة
التي تؤرقه.
وقد برز في الفترة الأخيرة حدثان لهما أبعادهما الهامة في تحديد وضعية
حركة الأنصار ومستقبلها في المنطقة:
الحدث الأول:
قام بعض الأشخاص في يوليو الماضي بنبش بعض مقابر الطريقة النقشبندية
وبالأخص قبر المسمى (الشيخ حسام الدين) في قرية باخة كون قرب بيارة التي
يسيطر عليها أنصار الإسلام، ونقلوا الرفات الموجود بها إلى المقابر العامة لمنع
زيارتها، وكانت عناصر من الجماعة قد هددوا أتباع الطريقة قبل ذلك بوجوب
وقف المريدين عن زيارة هذه المقبرة، وعلى الفور قامت قيامة الطريقة النقشبندية
الكردية، وعقدت اجتماعات وصدرت بيانات تستنكر وتتوعد، ونفخ الاتحاد
الوطني في الفتنة، وتبادل قادته الخطابة في أتباع النقشبندية متوعدين جماعة
الأنصار بالويل والثبور، ولكن كان موقف الجماعة في هذه القضية غامضاً،
ومحيراً، فقد نفت بداية أي صلة لها بهذا العمل، واستنكرته، ثم دعا بعض
عناصرها أطرافاً خارجية محايدة لزيارة المنطقة المذكورة، والتأكد من سلامة
المقابر، ولكن ترددت بعد ذلك أنباء عن تشكيل لجنة خاصة من قبل فاتح كريكار
للتحقيق في الحادث، ثم اعترفت الجماعة بعد ذلك أن عناصر تابعين لها كانوا
وراءه، وأنها اعتقلتهم، وكشف التحقيق معهم عن فردية المحاولة، وأنهم لم
يرجعوا فيها إلى قادتهم أو إلى النصوص الشرعية لمعرفة الحكم الصحيح، وقالت
الحركة إنهم سوف يحاكمون وفق أحكام الشريعة المطبقة في مناطق الجماعة.
وقد استغل الوطني الحادثة لصالحه، وحاول استثارة كافة الأطراف ضد
الأنصار، ودعا أتباع النقشبندية إلى زيارة البرزاني والتأثير عليه للقيام بعمل
عسكري مشترك بين الحزبين للقضاء على الحركة.
أما على الصعيد الداخلي للحركة فقد أثارت الحادثة تساؤلات حول مدى
سيطرتها على أتباعها، وهل يمكن أن يكون ثمة اختراق لها من قبل جهات كردية،
أو من قبل المخابرات الأميركية؟ وهذا الاحتمال يقوى في حال ثبوت أن العناصر
التي نفذت محاولة اغتيال برهم صالح هي بالفعل عناصر إسلامية، وتسود حالياً
علامات استفهام حول قيادة الحركة خاصة بعد الإعلان عن توقيف الملا كريكار من
قبل السلطات الهولندية، حيث كان في طريقه من إيران عائداً إلى النرويج محل
إقامته، وذكرت السلطات الهولندية أنها اعتقلته بناء على طلب من جهاز مخابرات
أجنبي، وأنها تعتزم التحقيق معه حول دور مزعوم في الربط بين المخابرات
العراقية والقاعدة.
الحدث الثاني:
إعلان الإدارة الأميركية تراجعها عن تنفيذ عملية عسكرية خاصة للقضاء على
جماعة أنصار الإسلام، وتدمير معاقلها، وأماكن تجمعها، وقد فسر ذلك بأحد
أمرين:
الأول: أن الهجوم خطط له إثر تقارير مخابراتية مكثفة ومزيفة روجت فيها
الأحزاب الكردية لخطورة الجماعة، في نفس الوقت الذي اكتشفت فيه المخابرات
الأميركية هذا التضخيم في قدرات الجماعة قبل التنفيذ، وهو ما جعلها تتراجع عنه،
وتطالب الأحزاب بتقديم إثباتات كافية، وخاصة أن المحصلة المرجوة لا تتناسب
مع ردود الفعل المتوقعة.
الثاني: أن إعلان التراجع يأتي في سياق تهيئة الرأي العام العربي والإسلامي
لتنفيذ هجوم مماثل لاحقاً أثناء الحملة الشاملة على العراق، وكما ذكرنا في العدد
السابق فإن بقاء الجماعة قد يقدم فائدة أكبر للسياسة الأميركية، مما لو تم القضاء
عليها في هذه المرحلة.
ولكن لم يمنع ذلك الإدارة الأميركية من توجيه اتهامات إلى الجماعة؛ فقد
صرح دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي أن أنصار الإسلام تطور أسلحة
كيمياوية، وأنها مرتبطة مع نظام صدام الذي يخفي كميات كبيرة من الأسلحة
الكيماوية في مناطق الحركة، وقد أصدر الملا كريكار بياناً نفى فيه هذ الاتهامات،
وقال إنها صدرت على خلفية الإخفاق الذي أصاب الاتحاد الوطني في إدارة المنطقة،
وقال إن الجماعة تفسح المجال أمام أية فرقة مختصة سواء كانت تابعة لمنظمة
الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة الأمريكية نفسها لزيارة المناطق الخاضعة
لسيطرتها وإجراء تفتيش عن تلك المواد المزعومة.
ولم تتوقف العمليات المخابراتية في مناطق الجماعة، والتي اعترف بها
الاتحاد الوطني، وكان يشرف على تقديم التسهيلات لعناصر المخابرات الأميركية
برهم صالح بنفسه، وتشمل هذه العمليات بجوار جمع المعلومات، تنفيذ سلسلة من
الاغتيالات، واتهام الجماعة بها، وتنفيذ عدد من عمليات التفجير داخل مناطق
سيطرتها، خاصة في الأماكن المزدحمة في الأسواق والمساجد، وقد أعلنت
الجماعة بالفعل عن اعتقال عدد من الأشخاص كانوا في طريقهم لذلك، كما أعلنت
الجماعة الإسلامية بدروها عن أعمال مماثلة في مناطقها.
* أنصار الإسلام والحركات الإسلامية الكردية:
رغم أن التيار الإسلامي كان موجوداً في كردستان العراق منذ عقود بعيدة،
إلا أنه لم يتشكل في هيئة جماعات إلا منذ نحو خمسة عشر عاماً، حيث أنشات
مجموعة من الإسلاميين تضم علماء بعضهم ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين،
الحركة الإسلامية عام 1988م، وتزعم الحركة الشيخ عثمان بن عبد العزيز الذي
اضطرته ظروف الحكم البعثي إلى الانتقال لإيران، وكانت الحركة في منهجها العام
جهادية، لكنها قريبة من فكر الإخوان المسلمين، وفي عام 1992م أنشأت مجموعة
أخرى من الإخوان المنشقين جماعة النهضة، ثم ظهر للعيان عام 1994م الاتحاد
الإسلامي الممثل للإخوان المسلمين في كردستان، وتبنى منهج الجماعة المعروف،
وابتعد عن العمل الجهادي، وركز نشاطه في مجالي الدعوة والعمل السياسي، وفي
عام 1999م، اتفقت الحركة الإسلامية بزعامة الملا علي عبد العزيز الأب على
الوحدة مع حركة النهضة، وأصبحت حركة الوحدة هي الجماعة الجديدة، ولكن
الخلاف لم يلبث أن نشب بين الإخوة المتحدين، نتيجة تباين المواقف والرؤى تجاه
عديد من القضايا، ولم تستطع الجماعة الوليدة أن تكمل عامين قبل أن تتفكك إلى
ثلاث جماعات أساسية ما عدا بعض الفصائل الصغيرة، وهذ الجماعات هي:
الجماعة الإسلامية بزعامة الشيخ علي بابير، والحركة الإسلامية بزعامة الملا علي
عبد العزيز الابن، وجماعة جند الإسلام وأبرز قادتها أبو عبيد الله الشافعي، وكان
الثقل العددي مع الجماعة الإسلامية والحركة الإسلامية، وفي ديسمبر من العام
الماضي، توحدت حركات: جند الإسلام، والتوحيد، وحماس، لتكون جماعة
أنصار الإسلام، والجماعات الثلاث الأخيرة هي جماعات جهادية، لها ميلشيات
مسلحة، لكن أنصار الإسلام فقط هي التي تقاتل الأحزاب الكردية العلمانية.
ومن هذا العرض المختصر يتبين التداخل الشديد بين فصائل التيار الإسلامي
في كردستان العراق، خاصة في بداية النشأة، ثم فيما يتعلق بالجماعات ذات
التوجه الجهادي، ولعل الصورة تتضح إذا علمنا أن أحد قادة الأنصار هو إحسان
ابن الملا علي عبد العزيز زعيم الحركة الإسلامية، وابن عم صادق عبد العزيز
نائبه، ورغم الاختلاف بين الفصائل الثلاث، والذي كان يأخذ منحى حاداً أحياناً،
إلا أن ذلك لم يمنع من وجود قدر من الولاء بينها، حيث كثيراً ما تدخل زعيم
الحركة الإسلامية للوساطة بين الاتحاد الوطني والأنصار، كما أن الجماعة
الإسلامية تتهم من قبل الوطني بتقديم دعمها لأنصار الإسلام، ومن أهم القضايا
التي تثير خلافاً بين هذه التيارات الجهادية الثلاث ما يتعلق بالموقف من ممارسة
العمل السياسي والأحزاب العلمانية، حيث تشارك كل من الجماعة الإسلامية
والحركة الإسلامية في حكومة السليمانية مع الوطني، وتتلقيان دعماً مالياً منه،
وتعتبر الجماعة الإسلامية أن علاقاتها مع الاتحاد الوطني تمثل مكسباً للإسلاميين..
وأيضاً الموقف من إيران؛ فكل من الجماعتين الأخيرتين لهما علاقات وثيقة مع
الإيرانيين كما سيتبين لاحقاً.
أما فيما يتعلق بالاتحاد الإسلامي فهو ينأى بنفسه منذ البداية عن هذه
المشكلات، حيث يشارك في حكومة الحزب الديمقراطي في أربيل بوزير للعدل،
ويعتبر أن التيار الجهادي بهذه الصورة يمثل معوقاً للعمل الإسلامي، لكنه سبق أن
نسق لمرة واحدة مع الحركة الإسلامية في المجال السياسي؛ حيث تشاركت
الحركتان في قائمة واحدة في انتخابات عام 1992م، وكان زعيم الحركة الإسلامية
على رأس القائمة.
* العلاقات مع إيران:
هناك مبدأ سياسي كردي يقول إن الأحزاب الكردية مضطرة لتقديم ولائها
للدولة التي تقيم قرب حدودها، وهي مقولة صحيحة إلى حد كبير؛ فالحزب
الديمقراطي يوالي تركيا التي يحتشد عند حدودها الجنوبية، ولا يبالي بإيران البعيدة
عنه، وكذلك الاتحاد الوطني يوالي إيران، ولا يبالي بالأتراك، ولم تسلم
الجماعات الإسلامية من ذلك كثيراً، ولكن باعتبار مخالف؛ فإيران هي الدولة
المجاورة الوحيدة التي يمكن أن تقدم مساعدات مشروطة طبعاً لهذه الحركات، وهي
التي يمكن أن تستخدم أراضيها للسفر إلى الخارج، إلا أن التباين العقدي مع النظام
الإيراني كان يمثل عقبة اضطرت أغلب الأحزاب لتجاوزها، ووصل الأمر إلى حد
الثناء على الحكومة الإيرانية، والاحتفال بذكرى الثورة الخمينية، كما فعلت
الجماعة الإسلامية بزعامة علي بابير.
ويمكن تحديد الأداء الإيراني في كردستان العراق في النقاط التالية:
أولاً: بداية نقول إن المصلحة الإيرانية للوجود في تلك المنطقة تكمن في
بعدين:
الأول أميركي: حيث توقن إيران تماماً أن المخابرات الأميركية تسرح
وتمرح فيها كيفما تشاء، يعني على مرمى حجر من حدودها، ولأن قدرة الإيرانيين
على السيطرة على حزب علماني مثل الاتحاد الوطني في مقابل إغراءات أميركية،
تبقى محدودة، فإن المجال الوحيد يبقى محصوراً في الجماعات الإسلامية التي
تبحث عن أي داعم لها.
أما البعد الثاني، فيعبر عن مصالح حدودية وداخلية؛ حيث يحسب الإيرانيون
لقيام نظام عراقي جديد في بغداد في حال أسقط نظام صدام حسين، وهو ما يعني
أهمية المسارعة في تثبيت أقدام مخابراتية قوية في المنطقة، وتأمين الحدود، ومن
ناحية أخرى، فإن طهران تحتاج إلى دعم كردي عراقي لكي تقمع النشاط الكردي
على أراضيها.
ثانياً: تستغل حكومة طهران الضغوط والحصار المفروض على الجماعات
الإسلامية في تقديم مساعدات مشروطة، تشمل دعماً مالياً سرياً بطبيعة الحال،
ومع تزايد الحصار المالي في ما يتعلق بجمع التبرعات، وتمويل العمل الإسلامي
بعد أحداث سبتمبر؛ فإن العون الإيراني يكتسب أهمية استراتيجية لدى من يقبله.
ثالثاً: تتدخل إيران عن طريق الوساطة بين الاتحاد الوطني والأحزاب
الإسلامية المختلفة؛ فقد سبق أن عقد اتفاق سلام بين حركة الوحدة تفككت والوطني
في طهران، كما تمارس إيران ضغوطاً للتأثير على أداء تلك الحركات؛ حيث
أجبرت الحركة الإسلامية على الانسحاب من حكومة الحزب الديمقراطي في أربيل
بعد أن شاركت فيها.
رابعاً: تستخدم الأراضي الإيرانية من قِبَل كل الحركات الإسلامية في السفر
إلى الخارج، أو كمهرب قريب وآمن، فقد اضطر الملا عثمان أول زعيم للحركة
الإسلامية إلى الانتقال إلى إيران أثناء الحكم البعثي في أواخر الثمانينيات، بعد
مأساة حلبجة، كما تكرر ذلك أيضاً بعد القتال الشديد مع الاتحاد الوطني في النصف
الأخير من العام الماضي بعد تفكك حركة الوحدة.
ويبقى أن نحدد طبيعة العلاقة بين أنصار الإسلام وإيران: فأولاً حسب
الاتهامات الموجهة من أطراف عديدة؛ فإن أنصار الإسلام جماعة أنشأتها إيران
نفسها لكي تثير القلاقل في المنطقة، وتستطيع السيطرة من خلالها، وقد تبنى هذا
الاتهام الحزب الديمقراطي، وأعلنه عدي بن صدام الذي أكد أن «اللعبة كلها
إيرانية صرفة» ، وواضح أنها اتهامات جزافية لا تستند إلى أي أدلة حقيقية،
ولكن يبقى بعد ذلك أن هناك غموضاً في حقيقة هذه العلاقة؛ فمن الناحية العلنية
تعتبر أنصار الإسلام أن إيران دولة مؤسسة على نظام عقدي مخالف لأهل السنة
والجماعة، ويشتد نكيرها على من يتحالف معها، أو يمدح نظامها، كما حدث مع
الجماعة الإسلامية بعدما ألقى أميرها الشيخ علي بابير كلمة أثنى وترحم فيها على
الخميني، وقد ردت الجماعة الإسلامية على الأنصار ببيان قالت فيه إن «جميع
الأطراف في كردستان تنتفع من علاقتها مع إيران، ومن ضمنها جماعة أنصار
الإسلام التي يستخدم بعض أعضائها أراضيها للسفر والتنقل إلى الدول الأخرى،
فلماذا يوجه اللوم لها وحدها؟» ، وكان الملا كريكار قد اعتقل في مطار أمستردام
في هولندا قبل أيام إثر عودته من إيران في طريقه إلى النرويج، وهو ما يطرح
تساؤلاً: لماذا تسمح حكومة طهران لقادة الأنصار باستخدام أراضيها للسفر، وهي
تعلم موقفهم العقدي المعلن منهم، وممن يمدح نظامهم؟ ولا يشترط أن تحمل
الإجابة عن التساؤل اتهاماً أو سوء ظن، لكن على الأقل فإن إيران تنجح كثيراً في
استغلال الظروف لاختراق العمل الإسلامي، ولا نقول الجماعات الإسلامية فهناك
فرق بين الحالتين في غيبة تامة عن أهل السنة.
* القاعدة والأنصار:
يتوقع كثيرون أن يطالعوا في هذه الفقرة نفياً قاطعاً لأي علاقة بين أنصار
الإسلام الكردية والقاعدة؛ ولكن من يدعي ذلك فلا بد أن يجافي المنطق والمعقول،
وليس معنى ذلك بالضرورة أن هناك علاقة أكيدة بين الطرفين، وهذه ليست أحجية،
لكننا ينبغي أن نحاول تغيير منهجنا في تلقي الأحداث والتعامل معها، وقبل أشهر
كان المتعاطفون مع القاعدة يستنكرون إقدام أميركا على اتهامها دون دليل بتنفيذ
هجمات سبتمبر، ثم لما أعلنت القاعدة معرفتها أو مسؤوليتها تحول النكير لديهم إلى
افتخار.
أما بالنسبة للأميركيين فإن منهجهم معروف منذ تلك الهجمات، وقد عبر عنه
بعض الكتاب الغربيين بدقة حين قال: «أصبحت قاعدة: من المحتمل جداً.. ذات
تأثير بالغ عند الحديث عن أي موضوع له علاقة بالقاعدة من قريب أو بعيد» ،
وهذا يعني أن الحقيقة فيما يتعلق بهذه القضية لن تستنبط من أدلة وحقائق واضحة،
إنما من معطيات ومعلومات غير مباشرة، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولاً: كما ذكرنا في العدد السابق فإن اتهام أنصار الإسلام بتلقي الدعم
والتمويل والخطط أيضاً من العراق وإيران والقاعدة، وربما من أطراف أخرى
يوحي بهراء هذه الاتهامات كلها، وخاصة أن الجماعة لم تحقق انتصاراً على
الاتحاد الوطني يتجاوز قدرة عالية على استخدام أسلوب قريب من حرب العصابات
الذي يوقع خسائر في الطرف المقابل دون تحقيق تقدم واضح على الأرض، ولو
كانت تتلقى بالفعل مثل هذا التمويل الثلاثي لكان الأمر مغايراً ولا شك.
ثانياً: العلاقات بين المنتمين أو المشتركين في العمل الجهادي خاصة،
والعمل الإسلامي عامة، خارج نطاق الدول المستقرة عربياً وإسلامياً، هي علاقات
متداخلة ومتشابكة إلى حد كبير، بما يعني أن وجود صلة ما بين أشخاص أو
مؤسسات أو هيئات، لا يعني بالضرورة أن يكون ثمة تعاون وتشارك بينهم في
أعمال معينة، ويتعاظم الأمر عند الحديث عن ظاهرة مثل الجهاد في أفغانستان،
والتي استوعبت لفترات طويلة، عشرات الآلاف من الإسلاميين الذين بقي منهم من
بقي، وعاد منهم من عاد، ومن بقي ربما لم يثبت في مكانه، بل انتقل للجهاد في
أماكن أخرى، وببساطة يمكن القول إن من اصطلح على تسميتهم بالأفغان العرب
أو غير العرب من الطبيعي أن يوجدوا في أي دولة إسلامية، ومجرد ذلك لا يعني
أنهم لا يزالون على علاقة بالقاعدة، ويتلقون منها التمويل.
ثالثاً: أغلب من يتهمون الأنصار أنهم على علاقة بالقاعدة يصرون على
ثلاثية: (الأنصار، وصدام، وبن لادن) ، وهذا الإصرار العجيب يحمل في
طياته براهين الكذب نتيجة التباين الشديد بينهم، وربما لو اقتصر هؤلاء على
وجود علاقة بين صدام والأنصار فقط لكان الأمر أقل غرابة.
رابعاً: صرح محمد حسن محمد مسؤول العلاقات في الأنصار رداً على هذه
الاتهامات بالقول إنه سيرحب بكل من يرغب في زيارة المنطقة للتحقق من هذا
الادعاء، لكنه قال إن هناك عراقيين عرباً من أنحاء مختلفة لجؤوا إلى مناطق
الجماعة كمسلمين يتعرضون لمضايقات الحكومة المركزية في بغداد.
ختاماً: يبقى أن نقول إن العمل الإسلامي بجميع مجالاته: الجهادية
والسياسية والدعوية، بات يحتاج إلى مراجعة بعد عقود طويلة من العمل، لن نقول
إنها كانت عقيمة، ولكنها لم تثمر ما كان يرجى منها، وفي ظل العولمة الإجبارية
التي يعيشها المسلمون عامة، والإسلاميون خاصة، ينبغي التنبه إلى أن جماعة
صغيرة في أقصى المشرق يمكن أن يؤثر أداؤها على جماعات في أقصى المغرب،
وأنه لا يمكن بحال أن نتخيل نصراً في هذه الحقبة المقبلة، والجماعات الإسلامية
على هذه الحال البائسة من التشرذم، كما أن علامات النصر نفسها التي وضعها من
قبلُ إسلاميون في المجالات الثلاث تحتاج بدورها إلى إعادة تأمل، وربما أمكن
تناول هذه القضية في مرات قادمة.. والله المستعان.(180/94)
المسلمون والعالم
المؤسسات التي تعنى بتشريح الإسلام في الغرب!
يحيى أبو زكريا [*]
yahya@swipnet.se
من الملفات المفتوحة والساخنة في الغرب ملف الإسلام وعلاقته بالغرب
ومستقبله وديناميكيته الماضية والراهنة والمستقبليّة، ولدى دوائر القرار ومراكز
الدراسات الاستراتيجية والاستشرافية حيز كبير من اهتماماتها بالإسلام، وكل ما
يرتبط به من ثقافات واجتهادات وحركات ومسلكيات سياسية واجتماعية، وكل ما
يمت إليه بصلة من قريب أو بعيد. وقد ازدادت الاهتمامات بالإسلام بعد الأحداث
التي عصفت بأمريكا.
وفي الغرب خمسة اتجاهات أو مدارس تضطلع بعملية تشريح الإسلام لتحقيق
أهداف قريبة المدى، ومتوسطة المدى، وبعيدة المدى. وهذه المدارس هي:
* المدرسة الأمنية:
وهي الملتصقة بدوائر الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، وتقوم هذه المدرسة
بتشريح كامل ودقيق وتفصيلي للحركات الإسلامية؛ وتحديداً تلك التي لها قواعد في
الغرب كالجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، والجماعة الإسلامية المصرية،
وحزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين، وحزب
الدعوة العراقي، وجماعة أسامة بن لادن، وعشرات التنظيمات الإسلامية التي لها
قواعد في الغرب أو تحاول التحرك في العواصم الغربية ضمن حيّز الحرية الموجود.
وتتعاون الأجهزة الأمنية الغربية فيما بينها لرصد تحركات الأشخاص المشتبه
بانتمائهم إلى هذه الجماعات.
وقانون الاتحاد الأوروبي في بعض بنوده ينص على ضرورة التنسيق
الأمني، وتبادل المعلومات. والتعاون قائم في أعلى مستواه في هذا المجال،
وتستعين هذه الأجهزة بخبراء من العالم العربي والإسلامي في فهم المنطلقات
الفكرية والفقه الخاص بهذه الحركات وآفاق تفكيرها واستراتيجياتها. وغرض هذه
الأجهزة من تشريح حركات الإسلام السياسي هو الحفاظ على الأمن القومي ومنع
تكرار ما يحدث في العالم العربي والإسلامي على أراضي الغرب، والحؤول
دون تحويل الغرب إلى قواعد للراغبين في الإطاحة بنظمهم وإقامة مشاريع فكرية
وسياسية في العالمين العربي والإسلامي مغايرة للعلمانية الغربية. وقد تكون هذه
المشاريع معادية للغرب بالأساس، ويجري هاهنا التنسيق كاملاً مع الأجهزة الأمنية
العربية للحصول على معلومات عن الأشخاص والتنظيمات الإسلامية، والأرشيف
الأمني العربي دائماً مفتوح للغربيين خصوصاً فيما يتعلق بالخصوم الإسلاميين.
لكن لم يسبق للأجهزة الأمنية الغربية أن تعاملت مع الإسلاميين على أراضيها
بالطريقة التي يتعامل بها معهم رجال المخابرات العرب؛ فما دام هؤلاء في
نطاق المعارضة الفكرية والسياسية فلا أحد يستطيع أن يطالهم؛ لأنّ حرية التعبير
مكفولة في كل الدساتير الغربية، لكن إذا أراد أحدهم التلاعب بالأمن القومي الغربي
فيكون بذلك قد جنى على نفسه؛ لأن الأمن القومي مقدّس في الغرب.
* والمدرسة الثانية:
هي المدرسة المرتبطة بوزارات الهجرة ودوائر الاندماج؛ حيث لدى هذه
الدوائر مراكز للبحث والدراسات، وتضطلع هذه المراكز بتشريح ثقافة المسلمين
وعاداتهم وتقاليدهم، والغرض منها ليس أمنياً على الإطلاق، بل الغرض منها فهم
المسلمين عن قرب في محاولة لإدماجهم في المجتمعات الجديدة المستقبلة لهم،
ولوضع قوانين تتماشى مع توجهات المسلمين، ولتجنيب المجتمعات الغربية
التصادم مع من يمثلون الظاهرة الإسلامية الوافدة.
وتستعين هذه الدوائر أيضاً ببعض الباحثين العرب والمسلمين، ولها أيضاً
باحثوها الأصليون والذين يقومون في أحايين كثيرة بزيارات إلى عواصم عربية
وإسلامية لفهم أسلوب حياة المسلمين وعاداتهم وتقاليدهم.
* والمدرسة الثالثة:
هي المدرسة الأكاديمية التي قوامها مجموعة كبيرة من المستشرقين والباحثين
في قضايا العالم العربي والإسلامي، ومجموعة من المعاهد والكليات التي تعنى
بالحضارة الإسلامية والحوار الإسلامي الغربي، وتضم هذه المدرسة ثلات
اتجاهات: اتجاه منصف للحضارة الإسلامية ومتفهم للخلل الحاصل في حياة
المسلمين والفرق الشاسع بين مسلكيات المسلمين وتعاليم الإسلام السمحة، واتجاه
حاقد يهمه الانتصار لمنطلقاته الأيديولوجية ويحمّل الإسلام كل خيبات العالم
العربي والإسلامي ويصوره أنه الخطر المحدق بالمنظومة الغربية، واتجاه ثالث
عقلاني واقعي يحاول تفسير الأمور تفسيراً أبستمولوجيّاً وعلمياً.
* والمدرسة الرابعة:
قوامها مجموعة من مراكز الدراسات الخاصة التي تسوّق منتوجها البحثي
لحساب وزارات خارجية ودوائر قرار ودوائر حساسة وحسب الطلب، وتوظف
هذه المراكز خليطاً من الباحثين من مختلف الجنسيات والبلدان.
ويمكن القول إن السرعة هي طابع الدراسات عن الإسلام السياسي التي
تصدر عن هذه المراكز ذات البعد التجاري.
* والمدرسة الخامسة:
وقوامها مراكز محدودة لبعض أصحاب النفوذ الديني من مسيحيين ويهود،
والغرض منها إشعال نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين بالنسبة للفريق الأول،
ورسم منهجية علمية للتنصير من خلال فهم المسلمين وكيفية التسلل إلى عقلياتهم
بالنسبة للفريق الثاني.
ويبقى القول: إن المسلمين في الغرب صحيح أنهم تخلصوا من قمع سلطاتهم
وباتوا يعيشون في وضع سياسي واقتصادي متميّز، إلا أنّه ومما لا شك فيه أنّهم قد
أصبحوا حقل تجارب في مختبرات الأفكار والدراسات، ومن خلالهم تمكنت الدوائر
الغربية وبامتياز الغوص في شعور ولا شعور مليار مسلم موزّعين بين طنجة
وجاكرتا، وكل ذلك تم لها بأبخس الأثمان!(180/102)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@hotmail.com
من يحاكم أمريكا على هذه الجريمة؟
بقايا العظام باتت بيضاء، وكأنها مدفونة هنا منذ قرون، مع أن هذه الرفات
البشرية لم يمض عليها أكثر من أشهر. وهي كل ما تبقى من بضعة آلاف من
الشباب الذين اتكلوا على الحماية التي توفرها معاهدة جنيف، لكنهم قضوا في
ظروف مرعبة إما اختناقاً وإما إعداماً. وعند تكبير صورة الجثث يمكن بكل سهولة
تمييز آثار أنياب الكلاب الشريدة التي تهيم على وجهها ليلاً في الصحراء. وتنتشر
على قمة هذا الكثيب الاصطناعي الذي يبلغ طوله حوالى 50 متراً عظام الأفكاك
والأضلع والسيقان والجماجم المحطمة. وحولها الثياب الممزقة تشبه الرقائق. أما
عن قرب فيمكن رؤية بعض بطاقات العناوين: كاراتشي، لاهور.. وعناوين
أخرى.
في داشت لايلي في أفغانستان بلغ عدد الرجال الذين لقوا حتفهم حوالى
3000، بعضهم كانوا قد قضوا اختناقاً خلال هذه الرحلة الجهنمية، وآخرون ناموا
بين جثث رفاقهم الأسرى.. كانوا يصيحون ويتوسلون جزاريهم قبل أن يسقطوا
تحت رشقات الرصاص. وقلعة جانجي، الحصن المنيع في ضواحي مزار
الشريف، التي جعل منها دوستم مقراً للقيادة العامة، ستصبح في صلب الأحداث
الآتية. إلا أنه وفيما كان البحث جارياً لتسوية الأمور تدخل وزير الدفاع الأميركي
دونالد رامسفيلد، ويبدو أنه خشي أن يسمح بإنهاء الحصار بالتفاوض إلى عودة
المقاتلين الأجانب أحراراً من حيث أتوا: «سوف يكون من المؤسف أن تطلق
حرية بعض الأجانب في أفغانستان، من جماعة القاعدة والشيشان وغيرهم ممن
شاركوا مع طالبان، فيتمكنوا فيما بعد من ارتكاب الأعمال الإرهابية نفسها في بلد
آخر» . وقد أكد في الأيام التي تلت ذلك: «إما أن يقتلوا أو يؤسروا؛ فهم أناس
قاموا بأعمال فظيعة» .
والحال أنه لم يكن لقادة تحالف الشمال أن يصموا آذانهم حين يعبر عن رأيه
بهذا الشكل حليفهم وممولهم الرئيسي، عدا عن أنهم كانوا موافقين على ذلك.
«الانتقام» هو عملياً الرياضة الوطنية وهو يخيم على المدينة تعطشاً للدماء.
وبدا أن المجزرة محتمة. وفي قلعة زايني كانوا يجبرونهم على البقاء جالسين
أرضاً جنباً إلى جنب في حقل واسع مسور. وسرعان ما وصلت قافلة من
الشاحنات تحمل على قواعد هياكلها مستوعبات من الفولاذ المقوى. فأجبر الأسرى
على السير في رتل أحادي ليحشروا في المستوعبات.
ويروي أحد ضباط تحالف الشمال فضل عدم ذكر اسمه ما يلي: «كنا
مسؤولين عن نقل الأسرى. في زايني تولينا أمر 25 مستوعباً نقلت إلى شيبرغان.
وقد ملأنا الواحد منها بحوالى 200 شخص» . وإذ كدسوا فوق بعضهم مثل
السردين في العلب المعدنية حيث لا هواء ولا نور في حرارة تزيد عن 30 درجة
مئوية راح عناصر طالبان يطلبون الرحمة. ولم تتأخر الاستجابة لطلبهم بحسب ما
يؤكد أحد الجنود الأفغان الذي أقر بأنه هو نفسه قتل بعض الأسرى: «أطلقت
النار على المستوعبات لأحدث فيها الثقوب من أجل التهوية ولقد سقط بعض
القتلى» . وعندما سئل: «هل أنت شخصياً أطلقت النار لفتح الثقوب في
المستوعبات؟ ومن أعطاك الأمر؟ أجاب:» إن قادتنا هم الذين أصدروا الأمر «
لكن وراء صراحة هذا الرجل الكثير من الوحشية. فالكثير من ثقوب الرصاص
التي عايناها على المستوعبات موجودة في أسفل أو في وسط جدرانها وليس في
أعلاها؛ حيث كان يمكن فعلاً تأمين التهوية وتوفير فرص النجاة للأسرى.
أحد سائقي التاكسي كان قد توقف على إحدى محطات الوقود المرتجلة
المتكاثرة على الطرقات الرئيسية يروي:» يوم نقل الأسرى من قلعة زايني إلى
شيبرغهان، توقفت للتزود بالوقود، وكانت تفوح رائحة غريبة فسألت صاحب
المحطة عنها فقال لي: انظر وراءك. فرأيت ثلاث شاحنات محملة بالمستوعبات،
والدم يسيل من كل مكان فيها. وقف شعر رأسي، إنه لأمر مرعب. وأردت أن
أغادر المكان لكنني لم أستطع لأن إحدى الشاحنات كانت معطلة وسيارة التصليح
كانت تقطع علي الطريق «.
أما المشهد الذي لفت انتباهه ولا يقل رعباً عن الأول فكان في اليوم التالي
أمام منزله في شيبرغهان:» رأيت ثلاث شاحنات تمرّ بمستوعباتها وهي أيضاً
كانت تقطر دماً «. وبعض هذه المستوعبات لم يثقب بالرصاص الذي يأتي
بالخلاص من الموت. ولا شك أن الأسرى فيها ظلوا ينازعون مدة خمسة أيام
فيموتون اختناقاً وجوعاً وعطشاً. وحين فتحت في النهاية لم يبقَ فيها من شاغليها
إلا البول والدم والبراز والقيء واللحوم المتعفنة. إن التهمة بالتواطؤ الأميركي
سيكون نقطة حساسة في أي تحقيق محتمل، فالقانون الدولي في هذا المجال أو حتى
القانون الوطني أو العسكري من جهة أخرى يستند في جزء كبير منه على إعادة
بناء تسلسل الأوامر التي نفذت الجريمة على أساسها، وبمعنى آخر سيكون
المطلوب معرفة من تولى قيادة العمليات في شيبرغهان..
يقول أحد السائقين:» كان هنالك حوالي 25 مستوعباً، وقد كانت الظروف
سيئة لأنه لم يعد بإمكان الأسرى التنفس؛ عندها أطلقت النار على المستوعبات
فقتل الكثير من الأسرى. وفي شيبرغهان أنزل أولئك الذين حافظوا على نسمة حياة.
لكن الكثير من عناصر طالبان كانوا قد غابوا عن الوعي لأنهم جرحوا أو لأن
الوهن أصابهم. هؤلاء نقلوا إلى هذا المكان الذي يسمى داشت لايلي حيث صفوا.
وقد قمت بثلاث رحلات إلى المكان وفي كل مرة كنت أنقل 150 سجيناً. كانوا
يصرخون ويعولون فيما تطلق النار عليهم. وقد قام بالرحلة نفسها عشرة أو خمسة
عشر سائقاً «.
ويجيب سائق آخر عندما يسأل حول التواجد الأميركي:» نعم كانوا معنا هنا،
في داشت لايلي «. وحول عددهم يقول:» كان هناك كثيرون، ربما ما بين
الثلاثين والأربعين. رافقونا في النقلتين الأوليين لكن لم أرهم في المرتين
الأخيرتين «.
وبعد شهرين ما تزال آثار جرافات البولدوزر بادية في مكان المقتلة في داشت
لايلي؛ فقد دفعت الجثث إلى الحفر ودفنت تحت أطنان من الرمال.
[جايمي دوران - مجلة لوموند دبلوماتك الفرنسية - النسخة العربية - عدد سبتمبر 2002م]
اطلبوا المسلمين ولو في الصين!!
قالت السفارة الأمريكية في بكين إن جماعة إسلامية تسعى للاستقلال في جزء
من الصين خططت لشن هجمات على سفارات في قرغيزستان.
وقال متحدث باسم السفارة الامريكية في بكين توجد أدلة تشير إلى أن أعضاء
في حركة تركستان الشرقية الإسلامية كانوا يخططون لشن هجمات على سفارات
في قرغيزستان.
وأوضح المتحدث أنه تم ترحيل اثنين يشتبه بأنهما عضوان في حركة
تركستان الشرقية الإسلامية إلى الصين من قرغيزستان في أيار (مايو) الماضي.
وأضاف تم ترحيلهما على أساس أنهما كانا يخططان لشن هجمات إرهابية.
وقالت حكومة قرغيزستان إن الاثنين كانا يخططان لاستهداف سفارات في
بشكك ومراكز تجارية وأماكن تجمعات عامة.
وقال ريتشارد ارميتاج نائب وزير الخارجية الأمريكي أثناء زيارة للصين أن
واشنطن أضافت هذه الحركة إلى قائمة المنظمات الإرهابية بعد محادثات مع بكين
استمرت أشهراً عدة.
وتقول الحكومة الصينية إن عشرات من أعضاء حركة تركستان تلقوا تدريباً
خاصاً في أفغانستان أثناء حكم حركة طالبان، ودخلوا مرة أخرى إقليم سنكيانغ
الشمالي الغربي حيث يأمل اليوغور المسلمون في الاستقلال وشكلوا خلايا سرية.
وتقول الحكومة الصينية إن هذه الحركة التي يرأسها حسن معصوم تلقت دعماً
وتوجيهات من أسامة بن لادن الذي تنسب إليه المسؤولية في هجمات أيلول
(سبتمبر) ضد الولايات المتحدة.
ويقول محللون غربيون إن الصين ألقت بثقلها وراء واشنطن في الحرب ضد
الإرهاب لأسباب منها إضفاء الشرعية على حملتها الصارمة ضد اليوغور المسلمين.
ودعت بكين المجتمع الدولي إلى دعم ما وصفته بالحرب ضد الإرهاب في
كانون الثاني (يناير) عندما نشرت وثيقة تربط بين إسلاميين انفصاليين في إقليم
سنكيانغ وبين بن لادن. وقالت إن 162 شخصاً قتلوا وإن أكثر من 440 أصيبوا
في الفترة بين عامي 1990 و 2001م بأيدي متشددين يسعون إلى إقامة دولة
مستقلة يطلق عليها تركستان الشرقية.
ويتشكك بعض المحللين الغربيين في وجود حركة حقيقية لاستقلال اليوغور،
ويقولون إن الغالبية العظمى من اليوغور يكافحون في مواجهة الاضطهاد الديني
وعدم المساواة ثقافياً واقتصادياً.
وقالت منظمة العفو الدولية التي يقع مقرها في لندن إنها تشعر بالقلق من أن
بكين ربما تستخدم الحرب ضد الإرهاب في شن حملة صارمة ضد اليوغور.
[صحيفة (الزمان) العدد (1230) ]
العائد إلى الحظيرة
أعلن الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي أن بلاده ستنصاع من الآن فصاعداً
للشرعية الدولية بعد أن احتجت عليها لفترة طويلة.
وفي خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الـ 33 لثورة الفاتح في الأول من أيلول
(سبتمبر) التي أوصلته إلى الحكم، قال القذافي: لا يمكن إلا أن ننصاع للقانون
الدولي، ونستسلم للشرعية الدولية مهما كانت مزورة من قبل أمريكا وإلا فسنداس
بالأقدام.
وأضاف الزعيم الليبي في مدينة سبها التي تبعد 700 كلم جنوب طرابلس،
وحيث أعد عندما كان ضابطاً شاباً الإطاحة بالملكية إن سياسة ليبيا القادمة ستصبح
جزءاً من سياسة الاتحاد الإفريقي ومن ثم فإن ليبيا لن تتصرف بمفردها مستقبلاً.
وتابع: إن الذين كانوا يقولون بأن ليبيا دولة مارقة لن يستطيعوا ذلك بعد أن
أصبحت سياستها جزءاً من سياسة الاتحاد الإفريقي. ومن جهة أخرى، أعلن
القذافي أن ليبيا لا تستطيع التعلق بعواطفها مع العرب الذين مزقتهم العولمة
ومشروع برشلونة حول الشراكة مع أوروبا. مضيفاً أن الجامعة العربية لا معنى
لها، ذليلة وفاشلة ولا تساوي شيئاً، إذن وجودنا في الاتحاد الإفريقي أصبح
ضرورة حتمية.
[صحيفة القدس العربي، العدد: (4136) ]
الاستعداد للحرب
بريطانيا تخطط للبدء في برنامج بقيمة 5.5 بليون دولار لتطوير برامجها
العسكرية لضمان أدائهم في أي حرب تقوم بمنطقة الخليج. وجاء البرنامج رداً على
الأداء الضعيف للمدفعيات المتطورة وطائرات الهليكوبتر والدبابات وأجهزة
الاتصالات خلال تدريب نشر القوات السريع في عُمان في شهر أكتوبر. وتم
الإعلان عن النواقص في تقرير صدر عن وكالة التدقيق بالبرلمان، وأُصدر في
شهر يوليو. وأوضح المسؤولون أن وزارة الدفاع تخطط لاستثمار نحو 5.5
بليون دولار في الأعوام الثلاثة القادمة لتعزيز نواقص بريطانيا أثناء الحرب في
الصحراء. ولم يتم الإعلان عن أي تفاصيل أخرى للبرنامج. وأفاد وزير القوات
المسلحة البريطاني آدم إنجرام بأنه قد تم وضع مسودة لبرنامج التحسين. لكنه ذكر
أن الوزارة قد تتطلب موافقة نهائية من أجل التمويل.
[موقع ميدل إيست نيوز لاين - http://arabic.menewsline.com]
ليس لإفريقيا أن تختار ما تأكل!! !
اتهم دعاة حماية البيئة (الخضر) الأوروبيون والتحالف الحر الأوروبي
الولايات المتحدة بإرغام سكان إفريقيا الجنوبية المهددين بالمجاعة على قبول
المساعدة الغذائية من المواد المعدلة وراثياً.
وقالت جيل إيفانز نائبة رئيس التحالف الحر الأوروبي في جوهانسبورغ إن
» الولايات المتحدة تستغل الدول الأكثر فقراً فترغمهم على تلقي مواد معدلة وراثياً
أو الموت جوعاً، وهي تقوم بذلك دفاعاً عن مصالحها الخاصة «. ودعت إلى
صيانة التنوع الحيوي والأمن الغذائي. وقد وافقت خمس من دول إفريقيا الجنوبية
الست التي تعاني من مجاعة خطيرة، باستثناء زامبيا، على تلقي مساعدات من
الذرة المعدلة وراثياً التي يوزعها برنامج الأغذية العالمي. وحذر هذا البرنامج الذي
يتولى توزيع المساعدات الغذائية الأميركية أخيراً من أن 2.6 ملايين شخص
مهددون بالمجاعة في حال استمرت زامبيا في رفض تلقي المساعدات. وقالت جيل
إيفانز إنه» يحق لزامبيا، شأنها شأن أي دولة أخرى، أن تقرر ما تريد أن تأكل «.
[موقع ميدل إيست أونلاين - www.middle-east-online.com]
وثيقة (مصيبة) الجديدة
كشفت صحيفة» هآرتس «العبرية عن وثيقة جديدة في مسلسل الوثائق التي
يتم بلورتها بين نشطاء من الجانبين أعدت من قبل سري نسيبة مسؤول ملف القدس
في منظمة التحرير، واللواء احتياط عامي إيلون الرئيس السابق لجهاز الأمن العام
الإسرائيلي» الشاباك «.
تتضمن هذه الوثيقة دولة فلسطينية على مناطق 1967م مع تبادل أراضي
وإخلاء المستوطنات جميعها مقابل حرمان الفلسطينيين من السيادة على القدس
الشرقية والحرم والاكتفاء بإدارتها، وبقاء المدينة مفتوحة، وإسقاط حق العودة
للاجئين إلى ديارهم والاكتفاء بإعادتهم إلى الدولة الفلسطينية.
وفيما يلي نص الوثيقة كما أوردتها» هآرتس «: يعترف الشعب الفلسطيني
والشعب اليهودي كل واحد للآخر بالحقوق التاريخية في ذات الأرض. فعلى مدى
الأجيال سعى الشعب اليهودي إلى إقامة الدولة اليهودية في كل أرجاء أرض
إسرائيل، بينما سعى الشعب الفلسطيني هو الآخر إلى إقامة دولة له في كل أرجاء
فلسطين، يتفق الطرفان بهذا على حل وسط تاريخي يقوم على مبدأ دولتين
سياديتين قابلتين للعيش تعيشان جنباً إلى جنب، وإعلان النوايا التالي هو تعبير عن
إرادة أغلبية الشعب. فالطرفان يؤمنان بأن هذه المبادرة ستتيح لهما التأثير على
قياداتهم ومن ثم فتح فصل جديد في تاريخ المنطقة. كما ويتحقق هذا الفصل بدعوة
الأسرة الدولية إلى ضمان أمن المنطقة والمساعدة في ترميم وتطوير اقتصادها.
إعلان النوايا:
1 - دولتان للشعبين: يعلن الطرفان عن أن فلسطين هي الدولة الوحيدة
للشعب الفلسطيني، وإسرائيل هي الدولة الوحيدة للشعب اليهودي.
2 - الحدود: تتفق الدولتان على إقامة حدود دائمة بينهما على أساس خطوط
الرابع من يونيو 1967م، وقرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية (المسماة
بالمبادرة السعودية) .
- التعديلات الحدودية ستقوم على أساس تبادل الأراضي بشكل متساو بنسبة
1 إلى 1 وفقاً للأغراض الحيوية للطرفين، بما في ذلك الأمن والتواصل الإقليمي
والاعتبارات الديمغرافية.
- المنطقتان الجغرافيتان اللتان ستشكلان الدولة الفلسطينية الضفة الغربية
وقطاع غزة تكونان متصلتين. بعد إقامة الحدود المتفق عليها لا يبقى مستوطنون في
الدولة الفلسطينية.
- القدس: القدس ستكون مدينة مفتوحة، عاصمة للدولتين: الحرية الدينية
وحرية الوصول الكاملة إلى الأماكن المقدسة تكون مضمونة للجميع.
- لا يكون لأي طرف سيادة على الأماكن المقدسة، دولة فلسطينية توصف
كوصية على الحرم الشريف لصالح المسلمين. وإسرائيل توصف كوصية على
الجدار الغربي لصالح الشعب اليهودي يجري الحفاظ على الوضع الراهن في
موضوع الأماكن المسيحية المقدسة لا تجري أي حفريات داخل الأماكن المقدسة أو
في نطاقها.
- حق العودة: انطلاقاً من الاعتراف بمعاناة وأزمة اللاجئين الفلسطينيين،
فإن الأسرة الدولية وإسرائيل والدولة الفلسطينية تبادر وتتبرع بالأموال لصندوق
دولي لتعويض اللاجئين.
- لا يعود اللاجئون الفلسطينيون إلا إلى دولة فلسطين، ولا يعود اليهود إلا
لدولة إسرائيل.
- الأسرة الدولية تقترح منح التعويض لتحسين وضع اللاجئين الساعين إلى
البقاء في دولة عودتهم الحالية أو الساعين إلى الهجرة إلى دولة ثالثة.
- الدولة الفلسطينية تكون مجردة من السلاح، والأسرة الدولية تضمن أمنها
واستقلالها.
- نهاية النزاع: مع التطبيق الكامل لهذه المبادئ يوضع حد لكل المطالب من
الطرفين ويصل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني إلى منتهاه.
[البيان الإماراتية، 5/9/2002م]
واتصالات سرية
على الرغم من أن مرشد الجمهورية الإيراني آية الله علي خامنئي سبق أن
حذر الحكومة والبرلمان من مغبة الاتصال مع الولايات المتحدة وأكد أخيراً في لقاء
مع أعضاء الحكومة ورئيس الجمهورية، معارضته لفكرة الحوار مع واشنطن، إلا
أن كبير مستشاريه ورئيس» مجمع أهل البيت العالمي «الدكتور علي أكبر
ولايتي، وزير الخارجية السابق، أقام مكتباً في دبي للاتصال مع الجهات المؤثرة
في الولايات المتحدة لإيجاد أرضية مناسبة لقيام الحوار بين البلدين.
وكشف دبلوماسي إيراني سابق على صلة بولايتي، أن الأخير أقنع خامنئي
بضرورة فتح الحوار مع الولايات المتحدة قبل بدء الحملة العسكرية الأمريكية ضد
العراق.
وأضاف الدبلوماسي الإيراني أن ولايتي الذي تولى رئاسة الجهاز الدبلوماسي
الإيراني لأكثر من 15 عاماً يحظى بثقة خامنئي مما يجعله مؤهلاً للقيام بدور ساعي
البريد بين المرشد والإدارة الأميركية خصوصاً أن أخرين مثل هاشمي رفسنجاني،
رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي حاول فتح قناة للاتصال مع الإدارة
الأميركية الحالية عن طريق شركة كونوكو النفطية، وحبيب الله عسكر أولادي
زعيم تنظيم» المؤتلفة الإسلامية «اليميني المناهض للإصلاحات، يسعون جميعاً
لفتح قنواتهم الخاصة مع واشنطن التي لا تبدو راغبة في التحدث إلا مع الرئيس
محمد خاتمي وأنصاره الإصلاحيين.
والرئيس الأمريكي أعلن أكثر من مرة تنديده بما وصفه بالأقلية غير المنتخبة
التي تتصدى للاصلاحات وتعرقل جهود خاتمي وأنصاره لتطبيق الإصلاحات.
وتفسر أوساط المحافظين أن رفض إدارة بوش التعامل مع رسائل رفسنجاني
والمحافظين بجدية، وتأكيده على أن إدارته ستواصل دعمها المعنوي للإصلاحيين
والحركة الثالثة المطالبة بفصل الدين عن الحكومة وقيام الديمقراطية والمجتمع
المدني، هي كلها بمثابة إعلان حرب على المحافظين والجهات القريبة من المرشد.
ومبادرة ولايتي الأخيرة بفتح مكتب خارج إيران بتمويل من المرشد الأعلى،
تدل على أن خامنئي نفسه قرر هذه المرة اختبار حظوظه لدى الإدارة الأمريكية بعد
أن تبين للأميركيين أن خاتمي لا يستطيع حتى مصافحة نظيره الأمريكي في الأمم
المتحدة طالما المرشد يعارض ذلك، وقد نقلت» جبهة المشاركة «الإصلاحية على
موقعها في الإنترنت خبراً أفاد بأن الدكتور محمد جواد ظريف الرئيس الجديد للبعثة
الإيرانية الدائمة لدى الأمم المتحدة ينوي تشكيل لوبي مؤيد لقيام العلاقات بين إيران
والولايات المتحدة، أكد أحد النواب في البرلمان أن ظريف مخول من جميع
الأطراف بحل معضلة العلاقات مع الولايات المتحدة عن طريق مكاتب الأمم
المتحدة، غير أن تسرب خبر فتح مكتب اتصال في دبي من قبل كبير مستشاري
المرشد الأعلى، علي أكبر ولايتي، من قبل الأوساط القريبة من الإصلاحيين،
كان بمثابة تأكيد على أن المرشد لم يخول ظريف بل أنه يعتمد على مستشاره
الخاص، ولايتي، في مخاطبة» الشيطان الأكبر «.
[صحيفة الشرق الأوسط - العدد 8674]
هدية أمريكية!
ترغب وزارة الدفاع الأميركية منح إسرائيل بطارية إضافية من صواريخ
» باتريوت «من الطراز الجديد» باك 2 «دون الحصول على مقابل.
ويهدف الأميركيون من وراء منح هذه البطارية التي تساوي ملايين الدولارات،
تعزيز منظومة الصواريخ المضادة. وقد تساهم البطارية الإضافية في طمأنة
مواطني إسرائيل، وتضمن تمسك إسرائيل بموقف فاتر أثناء الهجوم الأميركي على
العراق. وكانت الولايات المتحدة قد منحت إسرائيل في فترة حرب الخليج
بطاريات صواريخ» باتريوت «، واعتبرتها في حينه» دواء مسكناً «
بهدف خفض مستوى القلق الجماهيري الإسرائيلي، وبهدف تزويد إسرائيل بالرد
العسكري على إطلاق صواريخ» سكاد «من العراق.
ولم ترد إسرائيل حتى الآن على العرض الأميركي، لكنها قد تتنازل عنه.
ويوضح جهاز الأمن الإسرائيلي سبب هذا الرفض المتوقع بما يستدعيه نصب
هذه البطارية الإضافية من توظيف المزيد من القوى العاملة والميزانيات وهو ما لا
يتماشى مع برامج تقوية الجيش الإسرائيلي. ويعد طراز» باك 2 «مضاداً
للطائرات، ويتم استخدامه في سلاح الجو الإسرائيلي. ويوجد طراز آخر هو
» باك 3 «معد للتصدي لصواريخ أرض - أرض فقط، وهو ما زال قيد التطوير،
ويتطلع الجيش الإسرائيلي إلى حيازته في المستقبل.
[موقع صحيفة يديعوت أحرنوت - www.arabynet.com](180/104)
في دائرة الضوء
دروس من حركة تحرير المرأة المصرية
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
مع التحفظ على استخدام كلمة (تحرير) فإن الحركة التي عرفت بذلك الاسم
في مصر إضافة إلى الحركة نفسها في تونس تعد من أهم الحركات ذات الأثر
الاجتماعي التي عرفها عالمنا العربي في عصوره المتأخرة.
وبالنظر إلى سبق التجربة المصرية وإلى موقع مصر وثقلها في العالم العربي
والإسلامي فإن حركة تحرير المرأة فيها تعد حركة خصبة جديرة بالدراسة
والاستفادة منها لمعالجة آثارها من ناحية، ولأنها مرشحة للتكرار بشكل أو بآخر في
مواطن أخرى من ناحية ثانية.
وقبل أن أذكر بعض هذه الدروس وهي عموماً ملحوظات أولية تحتاج إلى
مزيد بحث ونقاش وبسط أحب أن ألفت النظر إلى ملحوظتين عامتين:
الأولى: هي أن واقع المرأة المصرية والمسلمة عموماً آنذاك كان واقعاً يسوده
الجهل والتخلف وأحياناً كثيرة القهر والظلم، وقد كان ذلك الواقع ينسب عند كثيرين
من العامة إلى الدين والشرف والرجولة.. ولم تكن هذه الصورة منبتَّة الصلة عن
واقع المسلمين عموماً الذي كان انحرافهم عن دينهم قد أدى إلى أمراض وتقهقرات
(حضارية) كثيرة.
الثانية: عندما ظهرت حركة تحرير المرأة المصرية بدا أنه يتفاعل فيها ثلاثة
تيارات: اثنان منها رئيسان، هما: التيار المحافظ، والتيار (الوسطي الإصلاحي)
بحسب النظر إلى الطرفين وليس إلى اعتداله والتيار الثالث كان ثانوياً من حيث
حجمه ولكنه كان خطيراً من حيث دوره، وهو التيار التحرري الغربي؛ فإضافة
إلى كون هذا الأخير حاداً في هجومه واضحاً في تبعيته، فإنه لعب دور (الفزاعة)
للتيار المحافظ وللرأي العام، فكان وجوده يدفع من لا يرضى عن واقع المرأة وكان
لا يرضي كثيرين من أصحاب الفكر والضمائر إلى تيار الوسط الإصلاحي
والالتفاف حوله والرضا به رغم كون أفكاره والقائمين عليه ليسوا فوق مستوى
الشبهات، ومن هذا التيار (الوسطي الإصلاحي) خرجت الدعوة (العملية)
لتحرير المرأة لتتفاعل في المجتمع وتسير به خطوة خطوة في عملية متدرجة
متصاعدة صبت في النهاية باتجاه تيار (الفزاعة) الذي بات مألوفاً فيما بعد (التيار
التحرري الغربي) . وقد كان لهاتين الملحوظتين أثرهما في مسيرة هذه الحركة.
وهاكم بعض الملحوظات التي نرى فيها دروساً ينبغي وعيها والاستفادة
منها:
* تحرير المرأة كتلة ضمن بناء ضخم:
يشير أحد الباحثين إلى خطوط التماسِّ بين العرب والغرب، فيقول: « ...
أدى تسرب الثقافة الغربية إلى العالم العربي إلى قيام ثلاث حركات كبرى متداخلة
بعضها في بعض:
أولاها: سياسية: وتتمثل في تزايد المطالبة بتقرير المصير.
وثانيتها: اقتصادية اجتماعية: وتظهر في زيادة الطلب على بضائع الغرب
وفنونه واقتباس المعايير الغربية بتعديلها أو بدون تعديل في تنظيم المظاهر المادية
والخارجية للحياة العربية. كما ظهرت أيضاً في المطالبة بتحرير المرأة، وإلغاء
نظام تعدد الزوجات، والسفور، والمطالبة بتحسين أحوال العامة من الناس.
أما الحركة الثالثة: فثقافية وخلقية: فمن الجانب الخلقي أصبح أساس
السلوك السليم هو الاقتناع الذاتي بسلامته والرغبة في المحافظة عليه، ومعنى هذا
أن سلامة السلوك لم يعد أمراً تحتمه التقاليد أو النصوص المقدسة، بل أمر تقرره
حرية الفرد وشعوره بدوره الاجتماعي ... » [1] .
وقد احتلت قضية تحرير المرأة مكاناً بارزاً في حركة الاختراق الغربي لعالمنا
العربي والإسلامي، حتى إن المعتمد البريطاني (كرومر) يشير إلى أن «وضع
النساء في مصر وفي البلاد الإسلامية يعد عقبة قاتلة تحول دون رفع المستوى
الفكري والشخصي الذي يجب أن يصحب دخول الحضارة الأوروبية إلى هذه البلاد
[مصر] ، وإذا أرادت هذه الحضارة أن تحقق أفضل فائدة ممكنة فليس أمامنا إلا
تعليم المرأة ... ويذكر كرومر ما نصه: إن هناك سؤالاً مفتوحاً يحتاج إلى إجابة،
ألا وهو: هل تعليم المرأة [حسب المنظومة الغربية] يمكن أن يترك آثاراً صحية
وإيجابية على سلوك الرجال؟ كما أنه يناقش على المستوى التصوري النتائج التي
قد تنشأ عن ضعف التأثير الأخلاقي لتعليم المرأة، وما قد يترتب عليه من يأس من
متابعة جهود الإصلاح، كما أنه يشير إلى أن تعدد الأدوار الإصلاحية (توجيه
وإرشاد وشرح ومناقشة) لن تحدث التأثير المرجو ما لم يكن المرء قادراً على رفع
مستوى المرأة، فذلك هو المدخل الأساسي لتنمية الرجل المصري وفق قواعد التعليم
الأوروبي» [2] ، ولذلك نجد أن حركة تحرير المرأة تواكبت مع حركة اجتماعية
وسياسية ووطنية قوية وشاملة.
وعلى ذلك فمن الخطأ بمكان محاولة معالجة موضوع المرأة منفصلاً عن
الأبعاد (الحضارية) الأخرى، فالمسألة مسألة رؤية شاملة للإنسان والحياة والكون،
وليست مسألة امرأة تخرج من بيتها أو لا تخرج، تعمل أو لا تعمل، ترتدي زياً
معيناً أو لا ترتدي ... كما أن (كتلة) تحرير المرأة تحتوي على محاور متعددة
عمل عليها دعاة التحرير، فكان هناك محور فكري ثقافي عمل من خلال النشاط في
الصحافة والإعلام والتعليم الملوث بالأفكار العلمانية والاتجاهات الغربية، ثم بعد
ذلك من خلال الأعمال الفنية المتنوعة.
كما كان هناك محور تشريعي عمل على تغيير التشريعات الخاصة بالمرأة
والأسرة لتتوافق مع النظرة الغربية للمرأة وحقوقها، كأحكام الزواج والطلاق
والقوامة والحضانة والميراث.
إضافة إلى ذلك كان هناك محور سياسي تمثل في إقحام المرأة إقحاماً في
العمل السياسي، وفي التدخل بالضغوط السياسية بهدف التأثير على الأطراف
المشاركة في الصراع حول القضية.
وقد كانت هذه المحاور متواكبة وإن أحرز بعضها تقدماً ملحوظاً عن غيره في
فترات ما، ولكن أصحاب التوجه التغريبي والعلماني لم يكلُّوا عن استكمال الدائرة
من جميع محاورها؛ فكما أننا يجب أن ننتبه إلى مكان (أو مكانة) الكتلة في البناء
الكلي يجب أن ننتبه أيضاً إلى جميع العناصر التي تتكون منها هذه الكتلة، كما
يجب أن ننتبه كذلك إلى المتغيرات والتطورات التي تطرأ دائماً عليها وعلى من
يحملها وعلى المستهدفين منها.
* استغلال التباس الدين بالعادات والتقاليد:
التبست في الواقع آنذاك الأحكام الشرعية للمرأة بالعادات والتقاليد، فكان
ينظر إلى بعض هذه الأحكام على أنها (عيب) ، كما كان ينظر إلى بعض هذه
العادات والتقاليد الخاصة بالمرأة على أنها (حرام) حتى ولو لم تكن كذلك في
الحقيقة.
وقد يكون هذا الالتباس مفيداً على المدى القصير؛ حيث يكون هناك أكثر من
حائط صد ضد الهجمات المتوقعة، ولكنه على المدى البعيد له خطورته: ففضلاً
عن كونه قد لا يقدم الدين في صورته الصحيحة فإن الارتباط بين هذين الحائطين
يجعل سقوط أحدهما سقوطاً للآخر بشكل تلقائي، وهذا ما فعله دعاة تحرير المرأة
الأوائل، فإنهم دعوا إلى تحرير المرأة في بادئ الأمر باعتبارهم مهاجمين لأوضاع
اجتماعية شائنة يرفضها الدين وليسوا مهاجمين للدين، واستخدموا في هذا الهجوم
آراء شرعية تحتمل الصحة والخطأ ولكنها عموماً قد يكون لها قبول فقهي للترويج
لدعوتهم؛ فماذا فعل الرافضون لهذه الدعوة؟
الذي حدث أن معظمهم تخندق في موقع (المحافظين) فرفضوا هذه الآراء
رغم وجاهة بعضها من منطلق أنها (عيب وحرام) ، وليس أدل على ذلك من كون
أبرز من ردوا على قاسم أمين عندما أخرج كتابه (تحرير المرأة) كان محمد
طلعت حرب الذي ارتبط اسمه فيما بعد بتأسيس الاقتصاد الربوي في مصر، بل إن
القبطي واصف بطرس غالي كان مع علي الشمسي وهما عضوان في الوفد ممن
عارضوا أمر سعد زغلول لصفية زوجته بخلع (البرقع) ومواجهة مستقبليهم في
مصر سافرة الوجه.. صحيح أنه قد يكون لواصف بطرس غالي أغراض أخرى
من هذا الرفض، ولكن صحيح أيضاً أن هذا البرقع ارتبط بقيم معينة في أوساط
طبقية واجتماعية معروفة بغض النظر عن دين صاحبته أو التزامها بهذا الدين.
والذي حدث أنه رغم الردود على دعاة تحرير المرأة فقد بقيت آراؤهم
(الشرعية) يسعها الدين، وقد عزز هذه الآراء لدى الناس الواقع الذي كانت تعيشه
المرأة، ومع طول الأمد، ومع المثابرة، ومع ضغوط القوى السياسية، ومع تغير
تركيبة المرأة المصرية الفكرية والثقافية.. أصبحت آراء دعاة تحرير المرأة مقبولة،
ومع قبولها انهارت المنظومة الاجتماعية الدينية الخاصة بالمرأة بأكملها.. وكان
لا بد فيما بعد من تأسيس المنظومة من جديد على أسس صحيحة، وهي أن الأحكام
الشرعية الخاصة بالمرأة (دين) يجب أن يلتزم به (كما هو) طاعة لله واستسلاماً
له.
* سبق أصحاب الاتجاهات التغريبية في التأثير على المرأة وتبني قضاياها:
ويظهر ذلك جلياً في ظهور الصحافة النسائية وتعليم البنات: فباكورة
الصحافة النسائية كانت مجلة (الفتاة) التي أصدرتها عام 1892م هند نوفل التي
تنتمي لأسرة لبنانية وخريجة إحدى مدارس الراهبات بالإسكندرية، وقد تولى والد
هند اليوناني الأرثوذكسي وكان كاتباً إدارة مكتب (الفتاة) متناولين قضايا المرأة.
وفي يونيو 1896م ظهرت ثاني مجلة نسائية، وهي (الفردوس) للويزا
حابلين التي نزحت عائلتها من قرية زوق ميخائيل بالشام.
وفي نوفمبر 1896م ظهرت مجلة (مرآة الحسناء) نصف الشهرية التي كان
يصدرها (سليم سركيس) تحت اسم مستعار هو (مريم مظهر) .
وفي 1898م أنشأت ألكسندرا أفيرينوه، وهي تنحدر من أسرة يونانية
أرثوذكسية كانت تتمتع بالحماية الروسية قبل نزوحها من بيروت، ودرست في
إحدى مدارس الراهبات بالإسكندرية.. أنشأت مجلة (أنيس الجليس) الشهرية..
وجدير بالذكر أن ألكسندرا هذه مثلت نساء مصر في مؤتمر اتحاد المرأة العالمي
للسلام المقام بباريس عام 1900م رغم أنها كانت حاصلة على الجنسية البريطانية،
كما كان لها نشاط اجتماعي وسياسي ملحوظ، وكانت تعقد صالوناً دورياً بمنزلها
يلتقي فيه المفكرون والكتاب والشعراء من النساء والرجال، وقد عدها أحد
المسؤولين البريطانيين «ذات فائدة كبيرة لجهاز مخابراتنا في هذا البلد [مصر] في
العديد من المواقف» [3] .
وفي عام 1899م أنشأت إستر أزهري مويال وهي يهودية من بيروت،
ومتزوجة من شمعون مويال الماسوني مجلة (العائلة) نصف الشهرية، والغريب
أن إحدى الجمعيات الخيرية الإسلامية أسندت لهذه اليهودية إدارة مدرسة بنات تابعة
للجمعية.
ومع احتدام الجدل حول قضايا المرأة في مطلع القرن العشرين خاصة بعد
ظهور كتابات قاسم أمين بدأ في الظهور الصحافة النسائية (الإسلامية) ، أي التي
لا يملكها ويصدرها غير مسلمين، وإلا فإن الوعي الإسلامي الصحيح بمثل هذه
القضايا لم يكن تبلور بعد: فظهرت مجلة (الهوانم) الأسبوعية عام 1900م،
ويرأس تحريرها أحمد حلمي، وفي العام نفسه ظهرت مجلة (المرأة في الإسلام)
نصف الشهرية، ويرأس تحريرها إبراهيم رمزي، وفي العام التالي ظهرت مجلة
(المرأة) نصف الشهرية ورأست تحريرها أنيسة عطا الله وهي في الغالب مسلمة من
الشام، وظهرت أيضاً مجلة (شجرة الدر) الشهرية، ورأست تحريرها سعدية سعد
الدين زادة، وهي أول مصرية مسلمة تصدر مجلة نسائية.
وفي عام 1902م ظهرت (الزهرة) لمريم سعد، ثم في عام 1903م ظهرت
(الموضة) لسليم خليل فرح، «وقد تراوحت موضوعاتها من النقد الاجتماعي
إلى التسلية، ولكن معظم هذه المجلات كانت قصيرة الأجل لم تترك أثراً يذكر»
[4] . ثم عاود النصارى الشوام إصداراتهم، فصدرت مجلة (السعادة) برئاسة
تحرير ريجينا عواد عام 1902م، وفي عام 1903م أصدرت روزا أنطون التي
تنتمي لأسرة يونانية أرثوذكسية نزحت من بيروت، وهي أخت فرح أنطون
صاحب مجلة الجامعة وزوجة نيقولا حداد الكاتب المعروف، وكلاهما من الداعين
إلى الفكر الاشتراكي، أصدرت مجلة (السيدات والبنات) .
وفي عام 1906م أصدرت لبيبة هاشم، وهي بيروتية مارونية درست في
مدارس الإرساليات الإنجليزية والأمريكية، وكانت متزوجة من عبده هاشم
الماسوني المعروف، أصدرت مجلة (فتاة الشرق) الشهرية، لتستمر في الصدور
ثلاثة عقود بدون توقف، وهي أطول فترة صدور لمجلة نسائية آنذاك، وقد نشطت
لبيبة على مستوى الجمعيات النسائية، وجابت أنحاء مصر وسورية لإلقاء
محاضراتها.
وبعد ذلك صدرت عدة مجلات نسائية لمصريات قبطيات ومسلمات معظمهن
صاحبات رؤية مشوشة وملتبسة عن المرأة والإسلام، وقد كانت مجلة (الريحانة)
التي أصدرتها جميلة حافظ عام 1907م أول مجلة ترى في الإسلام طريقاً لتحسين
أوضاع المرأة، مؤكدة أن العلمانيين والحداثيين لا يمكنهم احتكار الدفاع عن حقوق
المرأة، ولكن هذه الخطوة جاءت متأخرة خمسة عشر عاماً استطاع فيها هؤلاء
العلمانيون والحداثيون بذر أفكارهم في المجتمع المصري بشكل أو بآخر.
والأمر نفسه يمكن قوله عن التعليم؛ وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى الدور
الخطير الذي لعبته إرساليات التنصير الأجنبية والحكومات والجاليات الأجنبية؛ فقد
كان للمدارس التي أنشؤوها ثلاثة أهداف: هدف ديني يتمثل في التنصير ونشر
مذاهبهم الدينية، وهدف طائفي يتمثل في تزويد أفراد الجاليات بثقافاتهم الخاصة،
وهدف سياسي يتمثل في نشر الثقافات والدعاية السياسية الأجنبية.
وعلى هذه الأهداف أنشئت في عام 1835م أول مدرسة أجنبية للبنات على يد
المستر ليدز أحد المبشرين الإنجليز، ثم جاءت راهبات المحبة وأسسن مدرسة
لتربية البنات سنة 1846م، وحذا حذوهن الراهبات الفرنسيسكان وأنشأن مدرسة
بالقاهرة سنة 1859م، ثم أسست مس وتلي سنة 1860م مدرسة إنجليزية، وقد
نجحت بعد عشر سنوات من الدأب والمجاهدة في جذب كثير من الفتيات المصريات
إليها، ثم أنشأت الراهبات الفرنسيسكان مدرسة أخرى ببولاق سنة 1868م،
وغيرها بالمنصورة سنة 1872م.
ولمواجهة هذه الحملات (التبشيرية) المذهبية بدأ الأقباط في منتصف القرن
التاسع عشر في إنشاء مدارس للبنات، فأسست الكنيسة القبطية مدرسة للبنات في
حي الأزبكية عام 1853م، وأخرى في حارة السقايين بالقاهرة تحت إدارة البطريك
سيريل الرابع، كما تم إنشاء مدارس قبطية أخرى بجهود أهلية.
وكان لليهود أيضاً مدارسهم الخاصة بهم، ففي عام 1840م افتتح أدولف
كريميو وهو أحد رجال الدولة اليهود بفرنسا عدة مدارس في القاهرة والإسكندرية،
ورغم أن هذه المدارس ما لبثت أن أغلقت أبوابها إلا أن الطائفة عادت فأنشأت
مدرسة للبنات في الإسكندرية عام 1862م، ثم جاءت الدفعة اليهودية التالية لتعليم
البنات في التسعينيات من القرن التاسع عشر، عندما افتتحت جماعة الأليانس
الإسرائيلية العالمية وهي مؤسسة خيرية يهودية فرنسية مدارس تعليم مشترك
بالقاهرة والإسكندرية وطنطا.
وبعد أن أخذت هذه الاتجاهات زمام المبادرة أنشئت أول مدرسة مصرية
(غير طائفية) بخلاف مدرسة الحكيمات التي أنشئت عام 1832م برعاية إحدى
زوجات الخديوي إسماعيل سنة 1872م هي المدرسة السيوفية، من أجل تعليم
الجواري وبنات العائلة المالكة وكبار موظفي الدولة.
وإضافة إلى الكتاتيب وبعض المدارس التي أنشئت بجهود فردية تعد جمعية
تعليم البنات الإسلامية التي أنشئت عام 1901م باكورة العمل الموجه لتعليم البنات
المسلمات.
ويمكن القول إن هذه المدارس كانت إسلامية الانتماء، وهناك علامات
استفهام كثيرة حول المفاهيم والمناهج التي كانت تدرسها، وهو ما يدل عليه ما سبق
ذكره من تسنم إحدى الناشطات اليهوديات الماسونيات إدارة مدرسة بنات تابعة
لجمعية خيرية إسلامية.
وفي حين أن مدارس البنات (الإسلامية) متأخرة النشأة كانت تتوجه إلى
تقديم تعليم مجاني لبنات الطبقات الفقيرة والمحرومة مرتكزة على تبرعات المحسنين
وهو جهد تشكر عليه على أي حال فإن شريحة الأغنياء وعلية القوم اتجهوا إلى
المدارس الأجنبية «ليتعود أبناؤهم وبناتهم الحياة الأوروبية والتفكير الأوروبي،
فيصبح بينهم وبين سواد الشعب حائل كثيف من حيث الأخلاق والعادات والتفكير»
[5] .
ويلاحظ في هذا المقام وجود نمو ملحوظ لتأييد الرأي العام لتعليم البنات على
الوضع الذي كان قائماً، الأمر الذي رصده المعتمد البريطاني اللورد كرومر؛ حيث
كتب عام 1898م: إنه بالرغم من بطء التقدم إلا أنه «لم يعد هناك وجود للامبالاة
التامة التي كان الرأي العام يواجه بها قضية تعليم البنات في السنوات الماضية» ،
ثم عاد ليكتب بعد سنتين: «إن التغيير الذي حدث للرأي العام المصري في خلال
السنوات القليلة الماضية بخصوص قضية تعليم النساء لهو تغيير مثير للانتباه» ،
وفي عام 1904م توصل إلى أن الرأي العام بالنسبة لتلك القضية قد «تحول
تماماً» .. وكتب جورست الذي خلف كرومر في عام 1907م: «أصبح لدى
المصريين رغبة قوية في تعليم بناتهن تعليماً جيداً» .. وفي سنة 1913م كتب
المستشار العام كتشنر: «إن المعارضة واللامبالاة التي كان المصريون يقابلون بها
قضية تعليم البنات قد انتهت الآن تماماً» [6] .
وقد صاحب هذا النمو في الرأي العام نمو آخر في نسبة البنات المسلمات
الملتحقات بمدارس الإرساليات التنصيرية؛ فمع تراخي الدولة في الاستجابة للطلب
المتزايد على تعليم البنات «وجدت الإرساليات التبشيرية المسيحية المجال واسعاً
أمامها لإقامة مدارسها، وظلت لوقت طويل أكبر مركز لتعليم البنات في مصر من
حيث عدد التلميذات، ففي عام 1892م كان عدد المدرسين بمدارس الإرساليات
التبشيرية يبلغ 360 معلماً في أكثر من 50 مدرسة تولوا التدريس لحوالي 9 آلاف
تلميذة، في حين عمل 200 مدرس في 40 مدرسة أهلية ضمت أكثر من 4 آلاف
تلميذة. أما المدارس الحكومية فكان يعمل بها عشر مدرسين موزعين على ثلاث
مدارس ضمت 242 تلميذة. وإلى جانب ذلك فقد بدأت نسبة التلميذات المسلمات
إلى نسبة التلميذات المسيحيات تتغير؛ ففي أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر
كان من النادر وجود تلميذة مسلمة في إحدى مدارس الإرساليات التبشيرية، كما كان
الالتحاق بتلك المدارس قاصراً على المسيحيات، وفي خلال العقدين التاليين أصبح
30% من التلميذات في المدارس التابعة للإرساليات التبشيرية من المسلمات.
ويلفت النظر استعداد الأهالي أو ربما اضطرارهم نظراً لانعدام البدائل لإلحاق بناتهم
من دون أبنائهم بمدارس الإرساليات التبشيرية..» [7] .
ثم كانت خريجات هذه المدارس وأضرابها هن طلائع حركة تحرير المرأة
المصرية وحجر الزاوية فيها.
يقول الدكتور رؤوف عباس أحمد بعد أن يذكر أن النخبة المثقفة المصرية
التي احتضنت (الجامعة المصرية) في العقد الأول من القرن العشرين كانت تؤمن
بتحرير المرأة وبحقها في التعليم، وضرورة أن يكون لها دور في بناء المجتمع،
يقول تحت عنوان: (الجامعة والتعليم المختلط) : «وما كان إنشاء القسم النسائي
في رأينا إلا اختباراً من جانب القائمين على أمور الجامعة لمدى تقبل الناس لفكرة
تلقي النساء العلم في الجامعة؛ فاللاتي انتسبن إلى القسم النسائي كن من سيدات
الطبقة العليا في المجتمع اللائي نلن حظاً من التعليم في المدارس المصرية
والأجنبية إلى جانب الأجنبيات المقيمات في مصر؛ فلم يكن الهدف إذن فتح أبواب
التعليم الجامعي للمرأة المصرية بقدر ما كان اختباراً للنوايا والمواقف من تلك الفكرة»
[8] .
ولا شك أن التيارات التغريبية والعلمانية في حركة تحرير المرأة وجدت واقعاً
يقتضي التغيير، وفي الوقت نفسه كان هذا الواقع خالياً من المعارض أو المقاوم ذي
الشأن، فانطلقت هذه التيارات بحرية وقوة ترسم للمرأة المصرية معالم تحررها من
هذا الواقع وتقودها نحو تغييره.. وفرق كبير لو انتبهت لهذا الواقع وخطورته قوى
إسلامية أصيلة وواعية، وأخذت زمام المبادرة نحو التغيير في الاتجاه الصحيح.
* استخدام دعاة تحرير المرأة لحجج ضبابية:
فتحرير المرأة المصرية كانت دعوة أقرب إلى الدعوى منها إلى الحقائق
العلمية الاجتماعية، وقد استخدمت في هذه الدعوى أساليب كثيرة من الدعاية الهادفة
إلى التأثير على العقول والنفوس، ليس من ضمنها المنطق الهادئ الرزين،
ونضرب على ذلك مثالين:
الأول: ما ادعاه مروجو هذه الدعوة فيما يخص العلاقة بين تحرير المرأة
ورفع الحجاب وبين تقدم الأمم، فقد ربط هؤلاء بين تقدم الأمم الأوروبية وتحرير
المرأة هناك، باعتبار أن تحرير المرأة هناك كان أحد مقومات وأسباب تقدم هذه
الأمم، ثم قارنوا ذلك مع واقع تخلف البلدان الأخرى (وعلى رأسها الإسلامية)
ووضع المرأة فيها، باعتبار أن وضع المرأة في هذه البلدان هو أحد الأسباب
الرئيسة في تخلف هذه البلدان، ثم رتبوا على ذلك أن تقدم هذه البلدان مرهون إلى
حد بعيد بتحرير المرأة، ويقصدون من ذلك: خروجها من إطارها الاجتماعي
الإسلامي ولحوقها بنموذج المرأة الأوروبية أو نموذج قريب منه. فهل بالفعل
كان تحرير المرأة الأوروبية سبباً في تقدم أوروبا، وعدم تحرير المرأة المسلمة
(بمفهومهم) كان سبباً في تخلف البلدان الإسلامية؟
يشير الباحثون عادة إلى أن نقطة تحول المنحنى العمراني الأوروبي نحو
الصعود كانت في الفترة ما بين 1450 - 1700م، وقد شهدت هذه الفترة وما
تلاها تحولات دينية وثقافية وفنية وعلمية وصناعية عديدة أثرت بلا شك على بنية
المجتمع الأوروبي فيما بعد، ولم تشهد هذه الفترة تقدماً يذكر في وضع المرأة في
الغرب سواء من جهة النظرة إليها، أو من جهة حقوقها الاجتماعية ووضعها
القانوني، أو من جهة تكوينها الثقافي ومساهمتها في نهوض المجتمع.
هذا في حين أن بداية الحركة النسائية في الغرب التي أخذت على عاتقها
الكفاح من أجل حصول النساء على حقوق متساوية ووضع قانوني عادل، والتي
أدت إلى تغيرات جذرية في وضعهن الاجتماعي والقانوني وأحدثت تغيراً هائلاً في
المجتمع الغربي تمشياً مع قيمه المتطورة الجديدة.. هذه الحركة تؤرخ عادة بعام
1792م، عندما نشرت ميري ولستن كرافت (Craft Wollston Mary) كتابها
الذي بعنوان (دفاع عن حقوق النساء) في إنجلترا.
أي إن الحركة النسائية في الغرب كانت لاحقة لتقدم الغرب وقوته، ومن ثم
فمن الصعب منطقياً قبول القول بأن هذه الحركة كانت السبب في تقدم الغرب وقوته،
كما أن هذا التقدم شمل مجالات عديدة وساهمت فيه عوامل وظروف كثيرة، منها
ما قد يعد إيجابياً يمكن اقتباسه أو محاكاته، ومنها ما قد يعد سلبياً ويعاب اقتباسه
أخلاقياً أو إنسانياً.. فمن هذه العوامل والظروف: نقل علوم الأمم الأخرى
(وخاصة المسلمين) والاستفادة منها وتطويرها، ومنها أيضاً: غزو هذه الأمم
واحتلالها وإذلال سكانها ونهب خيراتها، فهل يستطيع أحد القول إن سبيل تقدمنا
هو الاحتلال والنهب والاستغلال؟ ومن ناحية أخرى: فالناظر إلى واقع تخلفنا
وعلاقته بواقع المرأة يرى أيضاً أن تردي أوضاع المرأة من وجهة النظر الصحيحة
كان لاحقاً أو مصاحباً وليس متقدماً على واقع التخلف والضعف الذي نعيشه في
واقعنا، وأن الأمة الإسلامية عندما كانت تتقدم الأمم كانت مكانة الأسرة والمرأة
وواقعها فيها أقرب إلى تعاليم الإسلام منها إلى مكانتها وواقعها في حالة الضعف
والتخلف؛ وقد كان لهذه الحالة أسباب وظروف عديدة أيضاً ليس من ضمنها تمسك
المرأة المسلمة بتعاليم دينها، بل إن العكس هو الصحيح، وهو أن تخلي المرأة
المسلمة عن هذه التعاليم كان أحد أسباب الضعف والتخلف وخاصة في الجانب
الأسري والاجتماعي.
المثال الثاني للأساليب الضبابية لدعاة تحرير المرأة هو: قضية المرأة
والعمل: فلقد بدأت الدعوة إلى خروج المرأة للعمل وإعدادها لذلك بالمقدمات التالية:
1 - المرأة نصف المجتمع وتعطيلها عن العمل تعطيل لنصف طاقات
المجتمع.
2 - في المجتمع بعض النساء في حاجة للعمل لإعالة أنفسهن أو ذويهن.
3 - بعض النساء المصريات يعملن بالفعل لسد حاجاتهن، ولكن في أعمال
شاقة أو مهينة أو غير أخلاقية؛ لأنها لا تحتاج إلى تعليم، والمجتمع لا يمنعهن من
ممارسة تلك الأعمال.
4 - من الأفضل إعداد المرأة بتعليمها وتأهيلها لأعمال غير شاقة وغير مهينة
ولا تعرضها لابتزاز أو تحرشات أخلاقية.
إلى هنا والكلام جيد ومنطقي، ولكن لأن هذه المقدمات كانت مبتسرة ومنتقاة
فقد أدت إلى نتائج أكثر سوءاً من الواقع المراد علاجه، وهو أن المرأة أصبحت
مبتذلة أمام جميع الأفراد، وأن المشقة التي لاحقتها أنستها تميزها النوعي الأنثوي،
وأفقدتها وظيفتها الاجتماعية، ومن ثم أثر ذلك كله على المجتمع بكامله.
ولو أضيف إلى المقدمات السابقة المقدمات الأخرى (الساقطة عمداً) فلربما
تغيرت النتائج نحو الأفضل، ومن هذه المقدمات:
1 - وجود خصائص تكوينية ونفسية للمرأة تقتضي تفردها وعدم الضغط
عليها بأعمال لا تناسبها حتى وإن كانت أعمالاً شريفة أو تناسب الرجال.
2 - أن عدم أداء المرأة لعمل مهني لا يعني عدم أدائها لدور فعال في المجتمع.
3 - أن عمل المرأة لا يعني التفريط في هوية مجتمعاتنا أو تعاليم ديننا والتي
منها: التكافل الاجتماعي، والتزام المرأة بحجابها الشرعي بالمفهوم الشامل، ونظام
الأسرة في الإسلام.
4 - أن ما سبق كله يقتضي:
أ - إيجاد تعليم نوعي وإعداد خاص للمرأة يناسب طبيعتها، ولا يتعارض مع
هوية مجتمعها وتعاليم دينها.
ب - أن يكون القائمون على هذا التعليم والإعداد مؤتمنين ومهيئين لأداء هذه
الرسالة.
ج - وجود إطار إسلامي عام تلتزم به المرأة المسلمة إذا خرجت للعمل.
د - البحث عن وسائل فعالة تساعد المرأة المتعلمة والعاملة على أداء رسالتها
الاجتماعية الأساس.
فإذا أضيفت هذه المقدمات إلى المقدمات السابق ذكرها لاختلفت النظرة
واختلف الاتجاه واختلفت النتائج.
* قوى تحرير المرأة والضرب تحت الحزام:
لم تكن دعوة تحرير المرأة نابتة في بلادنا نبتاً طبيعياً، بل كانت نتيجة وجود
تطورات استثنائية استخدمت فيها أساليب قسرية لإعادة تشكيل مجتمعنا حسب رؤية
جديدة.
ولم يتوان دعاة هذه الدعوة عن استخدام أساليب غير نظيفة والاستعانة بقوى
غير بريئة وتحت مستوى الشبهات.
فقد كانت أول المحاولات لـ (تحرير) المرأة المصرية من إطارها
الاجتماعي الإسلامي على يد زعيم الحرب الفرنسي نابليون بونابرت وعسكره أثناء
حملتهم على مصر والشام، فكما يذكر الجبرتي فإن أعضاء هذه الحملة فتحوا
المجال وأحياناً حملوا على تمرد بعض النساء؛ حيث يقول: «ومنها [أي:
أحداث سنة 1215هـ] تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء، وهو
أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في
الشوارع وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة،
ويسدلن على مناكبهن الطُرَح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول
والحمير ويسوقونها سوقاً عنيفاً مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية [سائقي
الحمير] معهم وحرافيش العامة، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل
والفواحش، فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن، وكان ذلك التداخل
أولاً مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخفائه؛ فلما وقعت الفتنة الأخيرة
بمصر [القاهرة] وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها
وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم فزيُّوهن بزي
نسائهم، وأجروهن على طريقتهم في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياء
بالكلية، وتداخل مع أولئك النساء المأسورات غيرُهُن من النساء الفواجر» [9] .
ثم في عهد محمد علي وخلفائه انفتحت الدولة على الغرب فأرسلت البعثات
إلى أوروبا وفتحت البلاد أمام نشاط الإرساليات التنصيرية تحت رعاية رجال الدولة
فبدأ تعليم البنات على يد هذه الإرساليات كما سبق ذكره، واستغل نصارى الشام
وأصحاب الاتجاهات التغريبية هذه الفرصة فنشطوا في مجال الصحافة والفن
محتمين على وعي بالقوى السياسية والمتنفذين في الدولة.
ثم كان الاحتلال الإنجليزي أكثر دهاءً من الفرنسيين، فأسند عملية التغريب
ومنها تحرير المرأة إلى أيادٍ مصرية من الموالين له المتشربين لثقافته، فعملوا تحت
حمايته بواجهة وطنية، فكان من هؤلاء: الشيخ محمد عبده، والقاضي قاسم أمين،
والمحامي مرقص فهمي، ومنصور فهمي (والد صفية زغلول) ، وأحمد لطفي
السيد.
إلا أن سعد زغلول يعد أخطر هؤلاد دوراً؛ حيث كان على صلة وثيقة
بالإنجليز، متشبعاً بأفكارهم، مقرباً إليهم، وفي الوقت نفسه كان أزهرياً،
واستطاع بمقدرته الخطابية التي برز فيها وبألاعيبه السياسية أن يكتسب شعبية
جارفة جعلت (الجماهير) المخدوعة تقبل منه ما لا تقبله من غيره.. ولم يترك
سعد فرصة للترويج لـ (تحرير) المرأة إلا اغتنمها، فكان هو المنفذ العملي لهذه
الدعوة، حتى إنه كان يشترط على السيدات اللواتي يحضرن لسماع خطبه أن
يزحن النقاب عن وجوههن، ثم كان هو أول من نزع الحجاب عن المرأة المصرية
عندما دخل بعد عودته من المنفى إلى سرادق المستقبلات من النساء، فاستقبلته
هدى شعراوي بحجابها، فمد يده ونزع الحجاب عن وجهها وهو يضحك.
وما زالت هذه الأساليب (غير النظيفة) مستمرة عبر قوانين وقرارات سيادية
تجبر المرأة قسراً على سلوك نهج معين هو النهج الغربي العلماني، وتصدها
وتحاربها للحيلولة دون التحول إلى نهج دينها وشريعة ربها.
__________
(1) حبيب أمين كوراني، تفاعل الفكر الإسلامي بالفكر الغربي في البلاد العربية، ضمن كتاب (الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته) ، تحرير: ت / كويل رينج، ترجمة: الدكتور عبد الرحمن محمد أيوب، ص 206 - 207.
(2) أمنية شاكري، الأم المتعلمة واللعب المقنن، ترجمة: خالد عبد المحسن، ضمن كتاب: الحركة النسائية والتطور في الشرق الأوسط، حررته بالإنجليزية: ليلى أبو لغد، ص 136- 137.
(3) النهضة النسائية في مصر، الثقافة والمجتمع والصحافة، تأليف: بث بارون، ترجمة: لميس النقاش، ص 24.
(4) المصدر السابق، ص 27.
(5) الإقطاع الفكري، الدكتور عبد الحي دياب، ص 26.
(6) انظر: النهضة النسائية في مصر، ص 122.
(7) المصدر السابق، ص 131.
(8) تاريخ جامعة القاهرة، ص 118.
(9) تاريخ الجبرتي، ج 2، ص 436.(180/110)
في دائرة الضوء
الدارونية الاجتماعية
بين حقوق الإنسان وحقوق الغوغاء
أحمد محمد بكر موسى
إذا كانت المساواة الإنسانية كما يفسرها الليبراليون، تعني «حق كل شخص
في أن تكون لديه فرص متساوية لأن يصبح غير متساوٍ» [1] ، وإذا كانت هذه
الفكرة قد وجدت طريقها إلى الواقع على مستوى الدول؛ وذلك في صورة الدول
الخمس التي تتمتع بحق النقض في مجلس الأمن، وهي الدول التي يقول عنها
مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي: «إنها تتمتع بالمساواة أكثر من غيرها»
[2] وبمعنى آخر نالت حقها في أن تكون غير متساوية مع باقي الدول، وعلى
مستوى الحضارات بسيادة الحضارة الغربية كما ينظر هنتنجتون، وعلى مستوى
الأيديولوجيات بانتصار الليبرالية الذي أسماه فوكوياما نهاية التاريخ، وحتى على
مستوى التاريخ «فقد نجحت الصهيونية في جعل المحرقة المزعومة تنال من
الاهتمام أكثر من غيرها من أحداث التاريخ، واستطاعت استبعاد معاناة عشرات
من الأمم والشعوب الأخرى» [3] .
إذا كان هذا على مستوى الدول والحضارات والأيديولوجيات والتاريخ؛ فماذا
عن مستوى الأفراد؟ وإذا سلمنا مع تيري إيجلتون بأن المفهوم المعقول للمساواة
يتشابك فعلاً بدرجة كبيرة مع مفهوم الاختلاف؛ وأن المساواة لا تتحقق بمساواة غير
المتساوين، فهل لنا أن نتساءل معه عن مدى مفهوم الاختلاف الذي يسوغ الحق لأن
يصبح الإنسان غير متساوٍ؟ وهل يمتد هذا الاختلاف إلى الحق في الوجود أو حق
الحياة؟ وهل الأرواح تختلف ولا تتساوى؟ بما يسوغ أن يصبح الناس غير
متساوين في حق الحياة، وأن يكون بعضهم أوْلى بالحياة من الآخر؟ وهل
مستويات الأرواح تتدرج صعوداً وهبوطاً، فنجد مستوى أعلى لا يجوز المساس
بحقه في الحياة بأي حال، ومستوى أدنى ليس له حق الحياة أصلاً؟ وعلى سبيل
المثال: هل تتساوى روح الأفغاني بروح الأمريكي؟ والليبرالية التي تحكم العالم
حالياً قد استطاعت التلاعب بحقوق الإنسان عن طريق تقسيمها إلى «حقوق»
و «إنسان» ، وأجهزت على الاثنين، فقتلت الحقوق عن طريق تجزئتها إلى حقوق
مدنية وسياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبالطبع فالحقوق المدنية
والسياسية تتمتع بالحق في أن تكون غير متساوية؛ فهي التي لا بد أن تأتي في
المقدمة من الاهتمام، أما الحقوق الأخرى فتتأخر أو لا تأتي أصلاً فلا يهم [4] .
وبعد قتل الحقوق بدأت في تصنيف الإنسان؛ فهناك «الإنسان» وهو الذي
يتمتع بجميع الحقوق؛ وذلك لما يتمتع به حسب مفهوم الاختلاف من فكر وثقافة
وحضارة وخلافه، وهناك «الغوغاء» [5] ، وهم الذين ليس لهم حقوق ولا حتى
حق الحياة.
وبين منزلة «الإنسان» ومنزلة «الغوغاء» منازل أخرى كثيرة؛ كل
منزلة تزيد حقوقها كلما علت واقتربت من منزلة «الإنسان» ، وتقل كلما سفلت
واقتربت من «الغوغاء» ، ورحم الله مالك بن نبي؛ فقد عفى الزمن على تقسيمه
الثنائي القائم على: إنسان محور واشنطن، وإنسان محور طنجة جاكرتا.
* الدارونية الأمريكية:
لقد اقتنع المفكرون الأمريكيون بالمساواة الإنسانية كما يفسرها الليبراليون،
ورأوا أن فكرة البقاء للأصلح التي قال بها دارون تصلح للتطبيق على الإنسان؛
وعلى هذا فيحق للإنسان أن يقتل الغوغاء؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر كان
إلفريد تاير ماهان يرى أن الولايات المتحدة مثل الكائن البيولوجي الذي يتمثل قدره
المحتوم في النمو والتقوي عن طريق التوسع، وهذا هودزون مكسيم يقول: «إن
قوانين الطبيعة التي كشف عنها دارون تجعل النزعة التوسعية الإمبريالية المصدر
البيولوجي للولايات المتحدة، وأن الدولة مثلها مثل الكائن البيولوجي في صراعه
من أجل البقاء: إما أن ينتصر، وإما أن يموت. ونتيجة للتفوق العرقي فإن
الولايات المتحدة الأمريكية سيكتب لها النصر» .
وفي نهاية النصف الأول من القرن العشرين يأتي نيقولاس سبيكمان الذي آمن
بالدارونية الاجتماعية، واقتنع بأن الأقوى يحق له دائماً إخضاع الأضعف، وفي
كتابه «الاستراتيجية الأمريكية في السياسة العالمية» يقول: «إن كل أشكال
العنف بما فيها الحروب المدمرة مباحة في المجتمع الدولي» .
وفي إطار الحديث عن القدرة المقارنة للأمم على الحياة نظر هنتنجتون إلى
الولايات المتحدة وإنجلترا كأمة أكثر قدرة على الحياة في العالم، ولقد أكد
هنتنجتون في عديد من أعماله على أن الأمريكيين هم العرق البشري الأرقى
بيولوجياً، وبصفاقة مذهلة سوَّغ واحدة من أسوأ صفحات التاريخ الأمريكي وهي
إبادة الهنود الحمر، بطرح أفكاره عن الإزاحة الطبيعية للهنود الحمر ذلك الجنس
البشري غير الراقي من قبل الأنجلو سكسون الحيويين [6] ، ولم تتوقف الدارونية
الأمريكية عند حد إبادة الهنود الحمر ولا عند قذف هيروشيما ونجازاكي بالقنابل
النووية العام 1945م، ولا عند إلقاء الأسلحة الفسفورية على الفيتناميين العزل في
الستينيات، وإنما هي ماثلة إلى الآن، ولك أن تنظر إلى أي صراع تشترك فيه
القوات الأمريكية مع غيرها، تجد القوات غير الأمريكية أو «الغبار البشري»
تتقدم إلى الموت، أما جنود الولايات المتحدة فإنهم لا بد أن يكونوا في مأمن، «بل
إن مهمة حماية القوات الأمريكية تأتي قبل مهمة تحقيق السلام أو غيرها من
المهام» [7] .
وفي هذا يقول سمير أمين: «إن نقاط الضعف في الاستراتيجية الأمريكية
واضحة تماماً؛ فهناك ذلك الموقف الشاذ من الجمهور الأمريكي الذي يقبل الحرب
ما دام أولاده لا يتعرضون لخطر القتل! هذا الموقف يشل فاعلية استراتيجية
واشنطن فيضعها منوطة بمشاركة قوى حليفة مرؤوسة يطلب منها القيام بـ (العمل
القذر) أي إنزال قوات برية تتعرض للمخاطر الطبيعية في أية ممارسة لعمليات
حربية [8] .
* الدارونية التلمودية:
وهذه الدارونية الإنسانية والإبادية الأمريكية هي في حقيقتها امتداد للدارونية
اليهودية التلمودية؛ ففي التلمود الذي هو أشد قداسة عند اليهود من التوراة، أنهم
شعب الله المختار، وفي التلمود أن أرواح اليهود تتميز عن باقي الأرواح بأنها جزء
من الله، ومن ثم كانت أرواح اليهود عزيزة عند الله بالنسبة لباقي الأرواح؛ لأن
أرواح غير اليهود هي أرواح شيطانية وشبيهة بأرواح الحيوانات.
إنهم يؤمنون بأن غير اليهود مثل الكلاب والحمير والثيران، بيوتهم زرائب،
وأرواحهم نجسة، وحياتهم بلا قيمة؛ ومن ثمَّ يجوز قتلهم وذبحهم وغشهم وسرقتهم.
وهم يرون أن الإله قد خلق الأغيار على هيئة الإنسان لكي يكونوا لائقين
بخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا من أجلهم؛ إذ ليس من الملائم أن يقوم حيوان على
خدمة الأمير، وهو على صورته الحيوانية [9] ، وأنه لمما يؤيد دعوى امتداد
الدارونية الأمريكية للدارونية التلمودية، ما حدث عند اكتشاف العالم الجديد، فعندما
وصل المهاجرون البروتستانت الأوائل إلى أولى المستعمرات في نيوانجلند،
اعتبروا أمريكا هي» أورشليم الجديدة «أو» كنعان الجديدة «وشبهوا أنفسهم
بالعبرانيين القدماء حين فروا من ظلم فرعون» الملك الإنجليزي جيمس الأول «
وهربوا من أرض مصر» إنجلترا «بحثاً عن أرض الميعاد الجديدة، وبالمشابهة
أصبحت مطاردة المهاجرين البروتستانت للهنود الحمر في العالم الجديد، مثل
مطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين، وكان المستعمر البروتستانتي
يقتل الهندي الأحمر على أنه كنعاني فلسطيني، وكان يفكر في عالم دون هنود مثلما
كان العبرانيون يفكرون في عالم دون كنعانيين [10] ، لقد حلم المهاجرون ببناء قدس
جديدة، لقد أرادوا بناء مدينة للرب، فأقاموا لهذا الرب مدناً فوق أشلاء الشعوب
[11] ، وعلى هذا فالتلمود كان صريحاً تماماً في موضوع عدم تساوي الأرواح، ولم
يعط الفرصة لتيري إيجلتون وغيره للتساؤل عن مدى المساواة الإنسانية، ولقد
تبلورت هذه الدارونية أكثر مع ظهور الحركة الصهيونية؛ فالصهيونية شأنها شأن
كل الحركات الاستيطانية الإحلالية تدور في إطار الرؤية المادية الدارونية التي
حولت العالم بأسره إلى ساحة للقتال والصراع، البقاء فيها لصاحب القوة وليس
بالضرورة لصاحب الحق، فالحركة الصهيونية الاستيطانية هي حركة إبادية
عنصرية تنكر على السكان الأصليين أبسط حقوقهم الإنسانية، بل وتنكر حقهم في
الوجود ذاته [12] .
فقد ظهرت الدارونية الصهيونية في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا
وغيرها، وهي ماثلة إلى الآن وواضحة في التفرقة في التعامل الصهيوني مع
مظاهرات العرب ومظاهرات اليهود، والصحافة الصهيونية نفسها لاحظت
الدارونية وتحدثت عنها [13] .
ولم يقتصر الإيمان بالدارونية الاجتماعية على القيادة السياسية الإسرائيلية
والجيش والشرطة فحسب، وإنما امتد إلى القضاء أيضاً، فتراه يصدر أحكاماً ثقيلة
تصل إلى السجن المؤبد بحق الفلسطينيين لمجرد شبهة تهديد أرواح إسرائيلية، في
حين يصدر أحكاماً تدعو إلى السخرية بحق إرهابيين وقتلة من الوسط اليهودي،
وهو ما يهدد الحق في المساواة أمام القانون عن الجرائم والمخالفات المتماثلة [14] ،
ولكن ليبرالياً لا الجرائم ولا المخالفات متماثلة؛ إذ كيف يتساوى الإنسان إذا كان
معتدياً مع من يدافع عن أرضه؟ وعلى هذا فعندما يقول كلينتون:» قدر للولايات
المتحدة أن تكون ضوءاً هادياً للعالم «وعندما يقول توماس فريدمان:» إسرائيل
هي الدولة التي تقدم المثل الأعلى للأخلاق لمختلف دول العالم «فإنهما على حق!!
فأي ضوء أهدى وأية مثل أعلى من هذه الدارونية؟
* الليبرالية العربية:
إذا كانت الليبرالية تقر عدم تساوي الأرواح، وتقر أن من حق الإنسان أن
يشعر أن روحه أهم وأسمى من حياة الآخرين، فهي بلا شك تقر حق الإنسان في
أن يعتقد أن حياته وروحه أرخص وأقل في الأهمية من حياة الآخرين، وبذلك
فنحن العرب لسنا ببعيدين عن الليبرالية؛ فنحن نرى أن أرواحنا هي أرواح
الغوغاء التي لا تتساوى ولا يحق لها أن تتساوى بأرواح الإنسان، وهذه الليبرالية
أصابتنا حكاماً وشعوباً وحتى نشطاء حقوق الإنسان.
فبالنسبة للحكام نقول: إن احترام العالم للعرب مبني على احترام النظم
العربية لمواطنيها في الداخل، ولكي نصبح قوة يعمل لها العالم حساباً يجب أن تنبع
تلك القوة من الداخل، من مدى احترام النظم العربية لآدمية الإنسان داخلها.
فإذا كانت حياة الشعوب العربية رخيصة جداً في داخل أوطانها فكيف نطالب
أمريكا وإسرائيل باحترامها؟! [15] ، ولا أريد الخوض في القتل خارج نطاق
القانون وغيرها من الممارسات في الوطن العربي؛ فهذا الموضوع بحاجة إلى
مجلدات وليس إلى مقال في مجلة.
وأما بالنسبة للشعوب العربية، فكأنما نظروا إلى كثرتهم العددية، فقلَّت قيمة
أرواحهم لديهم؛ فكم من المذابح ارتكبت ضدهم وراحت الدماء هدراً دون رد فعل،
ولكم هللوا لإصابتهم فرداً وقتلاهم بالمئات.
وأما نشطاء حقوق الإنسان، فحقاً هم نشطاء حقوق الإنسان، وأما الغوغاء
فما لهم وحياتهم؟ إن رؤوسهم لا تعنيهم في شيء فما دامت الأرواح لا تتساوى
ليبرالياً فكذلك أعضاء الإنسان تتمايز ولا تتساوى إنهم ينظرون إلى مواضع أهم؛
حيث محاربة الختان، وتدريس الصحة الإنجابية، وحرية الشذوذ الجنسي، وليس
أدل على حقارة رأس الغوغاء في نظر نشطاء حقوق الإنسان مما حدث في مؤتمر
مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الأخير [16] ، فقد تقرر عقد جلسة على
هامش المؤتمر حول حقوق الإنسان الفلسطيني، وقد كانت الجلسة بعد الغداء الذي
حضره أكثر من مائتين وخمسين خبيراً في حقوق الإنسان، وبالرغم من الإعلان أن
الجلسة غير رسمية؛ فهذا محمد السيد سعيد مدير الجلسة يجلس في انتظار النشطاء
الذين دخلوا حجراتهم بعد الغداء، ولكن طال انتظاره، وبعد أن يئس من خروجهم
إليه أعلن عن بدء الجلسة التي لم يحضرها سوى خمسة وعشرين ناشطاً من نشطاء
حقوق الإنسان! [17] .
* إمكانية الترقي:
هذه المنازل التي تبدأ بالغوغاء صعوداً إلى الإنسان - معذرة - التي تبدأ
بالإنسان نزولاً إلى الغوغاء، ثابتة لا تتغير؛ بمعنى أن الإنسان لا يهبط بأي حال
إلى مرتبة أدنى فضلاً عن تدنيه إلى مرتبة الغوغاء، وكذلك الغوغاء لا يستطيع
الترقي إلى درجة أعلى ناهيك عن صعوده إلى الإنسان.
* أخيراً:
أيها الإنسان! أيها الغوغاء! لا تسيئوا الظن بي، فأنا لا أدعو إلى مساواة
الأرواح معاذ الله ولا أنكر حق الإنسان في قتل الغوغاء، ولكن كل ما في الأمر أني
قرأت أن الأوروبيين أعزهم الله بالارتفاع إلى الإنسان وحفظهم من النزول إلى
الغوغاء لم يتأثروا بما يحدث للغوغاء في فلسطين، وأن الاتحاد الأوروبي تضامن
مع إسرائيل ضد لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان!! وتذكرت كيف أن الأوروبيين
تأثروا في عيد الأضحى الماضي بما ألحقه المسلمون بالخراف في أوروبا، وكيف
طالب الاتحاد الأوروبي بوقف هذه الممارسات، ووقف ذبح الخراف في الخلاء؛
ولذا فإني أرجو» الإنسان «أن يمتنع عن قتل» الغوغاء «في الخلاء، وأن
يقتله بلطف وفي أماكن بعيدة عن أعين كاميرات الإعلاميين ما أمكن؛ حتى لا
تصل الصورة إليهم، وذلك من قبيل الإجراءات الاحترازية؛ فمن يدري؟ فلعلهم
وإن لم يتأثروا الآن، فربما يتأثرون بعد عام أو اثنين!!
__________
(1) تيري إيجلتون، أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة الدكتورة منى سلام، مراجعة الدكتور سمير سرحان، القاهرة، أكاديمية الفنون، 2000م، ص 200.
(2) الدكتور حمدي عبد الرحمن حسن، العولمة وآثارها السياسية في النظام الإقليمي العربي، المستقبل العربي، العدد 258، أغسطس 2000م، ص 8.
(3) انظر الدكتور محمد السيد سعيد، نحو هيئة أركان لمناصرة فلسطين، مجلة العربي، الكويت، العدد 506، يناير 2001م، ص 29.
(4) دافيد ب فورسايث، حقوق الإنسان والسياسة الدولية، ترجمة محمد مصطفى غنيم، القاهرة، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، 1993 م، ص 242، وما بعدها.
(5) وهي الكلمة التي اختارها الإعلام الأمريكي الناطق بالعربية لوصف كل من له رأي مخالف وخاصة في مجال حقوق الإنسان! .
(6) نيقولاس كريتور، العالم حيث حدود أمريكا، ترجمة هاني شادي، مجلة العصور الجديدة، القاهرة، العدد 14 أكتوبر 2000م، ص 26 - 30 بتصرف.
(7) انظر: جون جنتري، القوة العسكرية في عصر الجبن الأمريكي، ترجمة سعد زهران، مجلة الثقافة العالمية، الكويت، العدد 99 مارس / أبريل 2000م، ص41 - 52.
(8) الدكتور سمير أمين، نحو عولمة متعددة القطبية، العصور الجديدة، القاهرة، العدد 5، يناير 2000م، ص 30.
(9) عبد الوهاب المسيري، اليد الخفية، دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية، القاهرة، دار الشروق 2000م، ص 29.
(10) رضا هلال، المسيح الأمريكي اليهودي، العصور الجديدة، القاهرة، العدد 13 نوفمبر 1999م، ص 48.
(11) محمد الأسعد، الفلسطيني المنسي وراء الصهيونية، العصور الجديدة، العدد 15 فبراير 2000م، ص 36.
(12) الدكتور عبد الوهاب المسيري، تفكيك الصهيونية، سطور، العدد 38 يناير 2000م، ص 10.
(13) انظر نماذج من هذه المقالات بمجلة سطور، العدد 48 نوفمبر 2000م، ص 40.
(14) خالد الأزعر، إسرائيل ضد الإنسانية، سطور، العدد 51 فبراير 2001م، ص 49.
(15) الدكتور أحمد محمد صالح، إحراق الأعلام لا يكفي، مجلة سطور، العدد 48 نوفمبر 2000م، ص 53.
(16) مؤتمر قضايا تعليم ونشر ثقافة حقوق الإنسان، جدول أعمال القرن الحادي والعشرين، أكتوبر 2000م.
(17) جريدة عقيدتي، القاهرة، العدد 413، 24/10/2000م، ص 9.(180/118)
الورقة الأخيرة
أورام في البناء الثقافي
د. أفراح بنت علي الحميضي
حين تنبض الثقافة بهمّ الأمة، وحين تمد الأمة الثقافة بمقومات صمودها
وعوامل بقائها وأصالة منبتها ونبل مخبرها، وإذا توثقت العلاقة بين الطرفين كان
ذلك مدعاة لسيادتهما جميعاً، وإذا تهاوت تلك العلاقة فلا بقاء لواحدة دون الأخرى.
وحيثما يكون للأمة رسالة يحملها مثقفوها عبر أقنية الاتصال لإبلاغها دعوة
الخير للعالم أجمع يعيشون آنذاك حالة من الهم والقلق لأجلها، وإذا انتفى ذلك
وفضل المثقفون سلوك طريق غير معبّد وأسلوب غير ممهد وطريقة ومنهج موسوم
بالعبثية والمصلحة الفردية عند ذاك يظهر الخلل بين الجذر والساق، بين الأمة
والثقافة، فلا الساق بقادر على السمو والعلو، ولا الجذر يستطيع وهبه مقومات
شموخه، وتغدو العلاقة حالة من العقوق.
وفي هذه الكلمات أضع بعض الجراح على ورم البناء الثقافي؛ مستحثة
المثقفين والمثقفات لمهمة استئصاله قبل أن يتشعب فيهلك الجسم الواهن.
- الورم الأول:
الفجوة الواسعة بين المثقف المحلي ومطالب ورغبات وهموم وتطور المجتمع،
والمعنى المقصود اتساع المسافة الزمنية بين المراحل التاريخية للتطور الثقافي،
وهو أمر قد يُلبس بعض المثقفين التهمة حين يقفزون قفزات واسعة متجاهلين
المراحل التي يمر بها المجتمع دون وعي بأن قفزاتهم قد تبعد بهم عن أرض الواقع.
- الورم الثاني:
ضعف الجانب الإبداعي لدى المثقف المحلي حتى غدت التكرارية والتلقي من
الآخرين سمت بعض المثقفين.
- الورم الثالث:
انتفاء الهم الثقافي الذي يدافع عنه المثقف ويسعى لإجلائه؛ فقد يدور في دائرة
من النرجسية والخيالية أو العبثية أو الحداثية وما بعدها، وهذا الانتفاء يجعل
مساهمات المثقف هزيلة ضعيفة لا تصمد أمام تيارات العولمة وأعاصير التغريب.
- الورم الرابع:
وضع حدود بين الثقافة العربية والإسلامية، وهي حدود تدل على ضيق أفق
واضعيها في فهمهم الشامل لمفهوم الثقافة الإسلامية؛ مما يؤدي إلى تهميش الأصول
الثابتة التي ترتكز عليها الثقافة الإسلامية؛ ومن ثم تحييد قضية الولاء والبراء.
- الورم الخامس:
استلهام تجارب وثقافات الآخرين دون غربلة لما ينالنا ويمس ثوابتنا، ويدخل
في إطار ذلك أيضاً المحاور الثقافية التي يدور حولها النص والمصطلحات،
والجمل التي تعارض أسسنا وقيمنا.
- الورم السادس:
سعي بعض المثقفين إلى الإيهام بأن هناك خطاباً أنثوياً خاصاً مع ما يجره ذلك
من رفض لصيغ الأمر والنهي الواردة في الشرع، والتي يدخل في محتواها
الجنسان؛ إذ طالما في فهمهم أن للأنثى خطاباً يوجه لها فهي غير ملزمة بالخطاب
الآخر وفي ذلك نكسة وعصيان.
- الورم السابع:
شعور بعض المثقفين أن العادات والتقاليد عنصر كبح لإبداعاتهم، ولهذا فهم
يستغلون الفرص للخروج من إطاراتها إلى عوالم أوسع، ومجالات أفسح للتقليد
والالتحاق بركب الآخر حتى وإن قاده ذلك الآخر إلى مصير منبوذ فلا هو ابن أمته،
ولم يشأ الآخر أن يتبناه.
- الورم الثامن:
عدم إدراك بعض المثقفين للحدود التي يجب أن يقفوا عندها في محاولاتهم
التجديدية وكتاباتهم الأدبية والتاريخية، بل وحتى العلمية؛ فهناك حدود لا تمس
وثوابت لا تجس يجب أن يقفوا عندها؛ فالذات الإلهية والعبادات والقرآن وسيرة
الرسول صلى الله عليه وسلم وتراجم الصحابة والتابعين ولغتنا العربية ليست مجالاً
للتغيير والتبديل والعبث.
- الورم التاسع:
حصر مفهوم الثقافة بالدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية، واعتقاد ذلك يحدد
مفهوم الثقافة، ويضيق أفق المثقف الذي هو إنسان مبدع.
- الورم العاشر:
المثقف مجدد وهو إذا حمل همّ بيئته كان مفجراً لآمالهم معالجاً لآلامهم،
وكثير من المثقفين لا يكونون مماثلين للنابغة الجعدي أو الذبياني، وإنما تبدأ سيرهم
الثقافية في صغرهم، فتتولاهم أسرهم رعاية واستنباتاً ورياً حتى تنهض هاماتهم
الثقافية، وتسمق سوقهم الإبداعية الإيجابية، ولا يتأتى ذلك إلا إذا أدركت أسرهم
أن مجتمعاً بلا ثقافة إيجابية أو مثقفين إيجابيين سيستسلمون بلا وعي تحت وقع
الإعجاب بالآخر.
- الورم الحادي عشر:
استعجال كثير من المبتدئين نشر إنتاجهم دون وعي لمدى نضجهم وكفاءتهم،
ومن ثم قد تتلقاهم وسائل الإعلام بالدعاية والتلميع دون أن يكون ذاك المثقف قد
حوى تجربة ثرة تمكنه أن يعرضها؛ حيث يشمخ مغزاها ويسمو معناها، مثلما يعلو
إطارها اللفظي وبناؤها الشكلي.
- الورم الثاني عشر:
تجاوز بعض المثقفين أطر مجتمعهم متناسين أن الثقافة نتاج عقول الأمة وهي
أعظم راسم للهوية، ومحدد لبناء المستقبل، وبمعنى أدق كثير من المثقفين يتناسون
أن تمايز الثقافات يعني تمايز الأمم، وهو أمر ينعكس على تمايز وجودها على
الخارطة التاريخية.
- الورم الثالث عشر:
سعي بعض المثقفين إلى العالمية ولو على حساب غموض نصوصهم
وأطروحاتهم وعروضهم، فيفضلون كونهم في هوامش العالم على أن تكون
نصوصهم الثقافية في هوامش مجتمعهم، مما يعكس وجود فجوة هائلة بينهم وبين
الجماهير، فلا هم الذين أخذوا بيد الجماهير إلى العالمية وفق ثوابت وأصول، ولا
هم الذين استطاعوا أن يدخلوا العالمية تحت مظلة ثقافية واضحة قادرة على الصمود.
يقول شوقي عبد الأمير: «أنا لا أعترض أن يقال عن شعري إنه شعر
نخبوي؛ لأنه لدي همٌّ في القصيدة؛ وحتى يواكب هذا الهمُّ أي قارئ يجب أن يكون
لدي حقيبة معينة. أنا لا أعتقد أن مهمتي كشاعر هو تحميس الجماهير أو إرضاؤهم،
ولا أظن أن الهدف العميق للشعر هو مواكبة الشعب بكل طبقاته وطوائفه
بأحاسيسهم اليومية وعواطفهم المباشرة، هذا صعب في مشروعي الشعري الذي
الهدف منه تأسيس رؤيا جديدة للعالم.. نحن مطالبون بأن نأخذ بعين الاعتبار بكتابة
نص جديد، وإلا فسنظل على هامش العالم؛ فالشاعر إما أن يقع على هامش
المجتمع الذي هو فيه، أو يقع النص الشعري على هامش العالم، أنا أفضل أن
أشتغل في هامش المجتمع من أجل نص شعري يقع في قلب السؤال الحضاري لا
العكس» [1] .
وبعد فإذا كان ذلك حصيلة فحص مبدئي للبناء الثقافي لجعله صامداً أمام
محاولات فرض العولمة الثقافية؛ فإني أخلص إلى بعض المقترحات:
** من الضرورة أن يولد المثقف في مجتمعه، ويرضع من مجتمعه، وتنبثق
أفكاره منه، وحيث تكون علاقته بالمجتمعات الأخرى والثقافات المغايرة علاقة
احتكاك وصقل لا ذوبان.
** من وظائف المثقف أن يجدد نفسه ويكثر من الاطلاع، وأن يُدعم بين
جوانحه موضوعاً يُسير أطروحاته ومناقشاته على أن يتبع ذلك الموضوع من
حاجات بيئته.
** مثلما يدافع ساسة فرنسا وبريطانيا عن الثقافتين الفرنسية والإنجليزية من
الذوبان في بعضهما يجب أن يقف مثقفونا نفس الموقف من الثقافة الإسلامية، بل
إن الأمر يجب أن يتعدى الدفاع عن / إلى عرضها كنموذج خلاص للضحالة الفكرية
التي تُغرق العالم؛ كيف وهي تحوي من مقومات الصمود ما لم يتوفر لغيرها، ومن
المتوقع إذا دفعها أبناؤها إلى جدار العولمة أن تكون اللبنة الظاهرة فيه.
** ضرورة أن يدرك المثقفون عامة وأصحاب النظريات الثقافية خاصة أن
لهم أن يمارسوا إبداعاتهم التجديدية في كل شيء إلا الثوابت.
** على الساعين إلى العالمية أن يدركوا أن الأدب الإنجليزي العالمي لم يكن
عالمياً إلا بعد أن ذاب في المحلية الإنجليزية، والأدب الفرنسي العالمي لم يكن
عالمياً إلا بعد أن خرج من بوتقة اللغة الفرنسية، أوَ ليس حرياً بنا أن ندخل العالمية
تحت مظلة الثقافة الإسلامية؟! وحفظ الله أمتنا.
__________
(1) نقلاً عن مجلة اليمامة، العدد 1592، ص 265، 266.(180/122)
رمضان - 1423هـ
ديسمبر - 2002م
(السنة: 17)(181/)
كلمة صغيرة
دورنا الإعلامي المنشود
يتطلب الإعلام الإسلامي، في ظل الأجواء الإعلامية الحديثة، إلى قوة دفع
كبيرة وجهود عظيمة ليثبت مكانه بين التيارات الإعلامية الأخرى، سواء في مجال
البث التلفزيوني والإذاعي، أو الإنترنت، أو في مجال الإصدارات المطبوعة؛
وذلك ليؤدي رسالته، ويحقق التأثير المطلوب، وهو تأثير مزدوج: تأثير في
مجال نشر الدين، ومعالجة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أسس
ومبادئ إسلامية. وتأثير في مجال التصدي لتيارات الفكر العلماني الذي يكاد
يسيطر على أغلب الأجواء الإعلامية؛ مستخدماً أكثر الأساليب تقدماً، وأقواها
تأثيراً.
إن المؤسسات الإسلامية الإعلامية ينبغي لها أن تحقق أعلى المستويات
الإعلامية الفنية بالقدر نفسه الذي ينبغي أن تحقق فيه أعلى مستويات الالتزام
بالمنهج الشرعي الإسلامي، وأن تسير في ذلك على الخطط المنهجية المرسومة
بدقة، والدراسات والبحوث المتخصصة.
وفي مجلة البيان تتواصل الجهود لتحقيق تلك الغايات؛ فعلى مدى 16 عاماً
منذ نشأتها مرت المجلة بمراحل تطويرية شملت كل المجالات العلمية والفنية؛
وذلك لتوسيع مجالها الإعلامي؛ ومن ثم تحقيق رسالتها المنشودة، وقد بلغ عدد
النسخ الموزعة منها شهرياً الآن أكثر من 70 ألف نسخة، مع نسبة (رجيع) قليلة
ولله الحمد والمنَّة، بعد أن كان يوزع منها أربعة آلاف نسخة فقط في أعدادها
الأولى، كما بلغ عدد الدول التي توزع فيها المجلة عن طريق منافذ البيع أو
الاشتراكات مائة دولة.
ولا تزال المجلة تهدف إلى أبعد من ذلك في سبيل تحقيق رسالتها الدعوية؛
مصغية في ذلك لكل ناصح، موسعة صدرها لكل رأي سديد، بل تدعو جميع
القراء إلى المشاركة وإبداء الرأي، وإسداء النصيحة. نسأل الله - تعالى - السداد
والتوفيق.(181/5)
الافتتاحية
الحروب صعقات إحياء لا إماتة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فمنذ أن نعقت أو صاحت مطربتهم في الزمن القومي الثوري الغابر:
«الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان.
الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان..» .
منذ ذلك الحين وغضبهم إلى أفول، وأحزاننا في سطوع.. ولم نر منهم سوى
المعلقات والشعارات، فإذا تلك العنتريات يتبعها أقوال ودعاوى من مثل «سأمشي
على جرحي وأقاوم» و «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» ، و «سنلقي
بإسرائيل في البحر» ، و «من لا يعجبه أن يشرب من البحر الأبيض فليشرب
من البحر الأحمر» ، أما على أرض الواقع فلم يأت على عدونا غضبهم بل أتى
علينا نحن، ولم يمشوا على جراحهم بل مشوا على جراحنا، ولم يقاوموا، ولم
يستردوا، ولم يلقوا بالعدو في البحر، بل كانت الهزائم تلو الهزائم، وشربنا نحن
من البحر الميت!!
وبعد أن كانت واقعيتهم في الزمن الثوري تقول: إننا نرفض أن تجرنا
(إسرائيل) إلى معركة لا نكون مستعدين لها أصبحت ثوريتهم بعد الأفول تقول: لن
نسمح لـ (إسرائيل) بجرنا إلى الحرب، ولن نعطي لها الفرصة لكي تهرب من
السلام. وأصبحوا يرفعون راية (سلام الشجعان) البيضاء شعاراً، وأفرغوا
غضبهم الساطع دوماً تنكيلاً وإرهاباً في طلائع الأمة التي ترفض الاستسلام؛ لأن
شبابها هم أعداء السلام الذي يريدون.
حاولوا أن يقنعونا بأن عقولهم النيرة وأبصارهم الثاقبة اكتشفت مؤخراً ويا له
من اكتشاف أن في أعدائنا حمائم وصقوراً، وأن حنكتهم السياسية التي لا تنضب
تعمل على استمالة الحمائم حتى ولو كان ذلك بالتنازل عن حقوق مصيرية للأمة..
أما نحن فلم نر إلا صقوراً وصيادين وأكلة، ربما لم نر الحمائم لأنها اختبأت خلف
الصقور! أو لأن الصقور التهمتها، وربما لم نر الحمائم لأننا ننظر دائماً إلى بعيد
فلم تقع أبصارنا إلا على الصقور..
وأثناء تأملنا في قصة الحمائم والصقور لم نجد بين أشاوسنا حمائم وصقوراً،
بل وجدنا حمائم وعصافير تهاب الصقور، وتقدم بعض صغارها قرباناً لاتقائها!!
لم يقتصر الأمر على فلسطين، بل امتد ليشمل امتدادات جغرافية وقِيَمِيَّة واسعة في
عالمنا الإسلامي؛ فمن الفلبين إلى البوسنة والهرسك، إلى الشيشان إلى كوسوفا
إلى تيمور الشرقية وإندونيسيا إلى أفغانستان إلى جنوب السودان إلى الهند إلى
العراق المهدد بحرب لا تبقي ولا تذر يتواصل الاستهداف وتتواصل المذابح..
ويتواصل أيضاً خنوع الحمائم والعصافير وتنازلاتها.
ومن التضييق على الدعوة ومحاصرة شبابها إلى خنق التعليم الديني وتقليصه،
إلى نشر الفساد والإباحية في وسائل الإعلام، إلى هدم القيم الإسلامية للمرأة
والمجتمع، إلى محاولة تغيير مفاهيم الإسلام الأساسية، إلى قصد النيل من رموز
هذا الدين ومقدساته.. تتواصل الحملات في الداخل والخارج.
إن امتداد هذه الاعتداءات وشراستها يشيران إلى أن القائمين عليها وبها
تسرب إليهم إحساس بأنهم في مأمن من غضبة قوية ترد على مثل هذه الحملات
التي باتت صليبيتها وعلمانيتها بادية للعيان، وهو الأمر الذي وضح في تكرار ذكر
(الحملات الصليبية) على ألسنة مسؤولين غربيين كبار، وفي تكريم المتمردين
على الإسلام ممن كانوا ينتمون إليه أمثال سلمان رشدي، ونصر أبو زيد،
وتسليمة نسرين، بل وتكريم بعض المتهمات بالزنا، مثل النيجيرية «صفية
حسيني» التي منحتها سلطات العاصمة الإيطالية روما جنسيتها الشرفية؛ لمجرد
أنها نجت من حكم بالإعدام رجماً بالحجارة وفق قوانين الشريعة، في إحدى
ولايات الشمال النيجيري.
بل إن هذا الإحساس كان عاملاً في تشجيع بعض الكتاب في الغرب على بث
سموم حقدهم على الإسلام والمسلمين باطمئنان، ومن آخر ذلك: الهجوم الذي
شنته الصحفية الإيطالية اليهودية «أوريانا فالاتشي» التي نشرت كتاباً بعنوان
(السخط والكبرياء) ، بيع منه مليون نسخة في إيطاليا في غضون شهر، وقد
رفضت محكمة فرنسية حظر نشر الكتاب في فرنسا؛ رغم أنه يحض صراحة على
كراهية المسلمين وازدرائهم في كل مكان، ودعوته لإعلان الحرب عليهم، وعدم
الانجرار إلى التمييز بين واحدهم والآخر؛ فجميع المسلمين في نظرها متطرفون
وقتَلة ومتخلفون وأميون، ناهيك عن التطاول على القرآن الكريم ومشخصات
الإسلام.. بل إن هذا الإحساس جرأ أمثال القس المعروف فرانكلين جراهام
(المستشار الروحي) للرئيس بوش، وصديق العائلة المعروف الذي يقضي عطلة
في المنتزه الخاص بعائلة بوش كل صيف.. على التهجم على الإسلام، ووصفه
بأنه ديانة قبيحة وسيئة جداً، وأخيراً جرأ القس الأمريكي البارز جيري فالويل
راعي الكنيسة المعمدانية الجنوبية في الولايات المتحدة التي يتبعها نحو 15 مليون
شخص، من أبرزهم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.. جرأه على الهجوم
المباشر والصريح على شخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، قبل أن يقدّم
اعتذاراً بارداً عما بدر منه.
ولكن يبدو أن هذا الإحساس لن يدوم طويلاً إن شاء الله تعالى، فهناك عوامل
متنامية تشير إلى أن الإجهاز على الفريسة الإسلامية والتهامها لن يكون بالسهولة
التي يتمناها صائدوها وأكلتها، ونرصد هنا بعض هذه العوامل التي لا تخفى على
أي متأمل:
* فغرور القوة الذي أصيب به أعداء الأمة جعلهم يُقدِمون وما زالوا على
حماقات وأخطاء لا يستهان بها، قد تصدر هذه الحماقات والأخطاء منهم بقصد
توجيه عدة صعقات كهربائية نفسية تجهز على ما تبقى من روح في الأمة، ولكنا
نراها بإذن الله لأننا نعرف حقيقة هذه الأمة صدمات كهربائية تقدر أمتنا على
استيعابها، بل تساعدها على إفاقتها من غيبوبتها، وذلك بتنبيه مراكز الإحساس في
منطقة الشعور الباطن لديها.
* كما أن هذه الأمة بجميع فئاتها تشهد نمواً متزايداً في الوعي جعل أفرادها
يدركون حقيقة الحرب الدائرة، وأنها حرب حضارية دينية في بعض جوانبها،
وأنهم مستهدفون في هذه الحرب، وأن خيرات بلادهم محل أطماع من عدوهم،
وجعلهم يدركون حقيقة مواقف زعماء الشعارات والتخدير الذين يتاجرون بقضايا
الأمة، ولا يعملون إلا لاستمرار جثومهم فوق صدور أبنائها.
* ويزيد من هذا الوعي وينميه تلاحق الأحداث، وسهولة التعرف عليها
وعلى تفاصيلها ومشاهدتها ومتابعتها؛ فالمتغيرات الإعلامية المتلاحقة المفروضة
على جميع الأطراف تجعل محاولات الوصاية والترشيح ضرباً من مصارعة
طواحين الهواء، وهو الأمر الذي أجبر دهاقنة تشكيل الوعي على البحث عن
أساليب جديدة لتزييف الوعي وإبطال أثر هذا التدفق المعلوماتي.
* كما أن خروج الجيش (الإسرائيلي) ذليلاً مرغماً من جنوب لبنان،
وإخفاق أجهزة الأمن (الجبارة) في أمريكا والغرب في توقع أحداث سبتمبر ومنعها،
وعدم تحقيق قوات الحلفاء الغازية لأفغانستان أهدافها المعلنة من الحرب حتى الآن،
واستمرار الانتفاضة الفلسطينية رغم الظروف الصعبة التي يحياها يومياً هذا
الشعب الصابر، ورغم أساليب التنكيل والبطش والإرهاب التي يعامله بها عدوه
المحتل.. كل ذلك حطم في نفوس أبناء هذه الأمة حاجز الخوف، وأزال من
أذهانهم خرافة أن هناك قوة أرضية لا تقهر.
وربما يكون ذلك أحد العوامل التي عجلت بالرغبة الأمريكية في غزو العراق
والاحتلال العسكري السافر لمناطق البترول؛ حتى يزيلوا أثر هذه الأحداث،
ويعيدوا هذه الخرافة إلى الأذهان مرة أخرى، ويحطموا المعنويات التي اشرأبت..
ولكن.. من يدري؟! فكثيراً ما تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن..
نحن في الحقيقة لا نرغب الحرب مع الأعداء في ظل اختلاف توازن القوى
من ناحية، ومن ناحية أخرى لما للحروب من آثار تدميرية على المجتمعات في
بناها الفوقية والتحتية. ولكن هذه التوجهات الشيطانية للتعجيل بالحرب التي
يريدون إخافتنا بها وإن كانت الحروب صعقات إحياء لا إماتة تجعلنا نقول بثقة: إن
الظن بأن هذه الأمة ماتت (أو ذبحت) ولم يبق إلا التهامها، هو محض وهم،
ويجعلنا نقول بثقة إن ما قدَّر الله هو الخير الذي يحوي في طياته الرحمة والنعمة،
وإن كان ظاهره الألم والمشقة؛ فهذه عقيدة إيمانية راسخة، تستضيء بنور الكتاب
العزيز، وتستهدي بهدي النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم. [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .(181/6)
دراسات في الشريعة
أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين
(2 ـ 2)
د. عثمان جمعة ضميرية [*]
drothmanjd@hotmail.com
* توطئة:
كان الحديث في المقالة السابقة عن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير
المسلمين، وقد تبين أن هذا الأصل يقوِّم الدعوة وموقف غير المسلمين منها، فقد
تكون هذه التعاملات سلماً، وقد تتحول إلى حرب؛ فهي ليست الحرب بإطلاق،
وليست السلم بإطلاق.
وفي هذه الحلقة نعرض رأي بعض الكاتبين المعاصرين في هذه المسألة، ثم
نبدي بعض الملاحظات حياله، والله ولي التوفيق.
* سابعاً: مذهب معاصر:
في العصر الحديث ذهب بعض الكاتبين والباحثين إلى أن الأصل في العلاقات
بين المسلمين وغيرهم هو السِّلم [1] . ولم نجد أحداً من علمائنا وفقهائنا السابقين قال
بمثل ما قال هؤلاء المعاصرون [2] . حتى الذين تكلموا على قضية السلم لم يكن
كلامهم منصبّاً على القاعدة العامة المستمرة في العلاقات، وإنما على حالات معينة
يدعو الإسلام فيها إلى السلم والمصالحة والبر بالمخالفين. وجاء كلامهم هذا في
وقت كان المسلمون فيه يتربعون على قمة المجد؛ والعزةُ تملأ جوانحهم، والعدو
أشدَّ رهبة ... ومع ذلك وجدوا أنَّ سماحة الدين الإسلامي ومبادئه الفاضلة تدعو إلى
ذلك، ولن يُخشى أن ينتهي هذا الكلام بأحد إلى الدعوة لنبذ الجهاد وتركه حتى يقول
إنه لا يجوز الجهاد إلا عندما يقع العدوان علينا، ولو وقع فينبغي دفعه سلماً، ثمَّ
يكون التهافت على السلم الرخيصة الذليلة.
* ثامناً: أدلة المعاصرين:
استدل أصحاب هذا الاتجاه بأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن
القواعد الفقهية العامة ومن المعقول. ولكن النظرة الدقيقة إلى ما استدلوا به ترينا أن
عموم الأدلة التي استندوا إليها في غير محل النزاع، ولا تدل على ما ذهبوا إليه،
إن لم نقل إنها تدل على عكس ما ذهبوا إليه.
فمن القرآن الكريم: حشد أصحاب هذا الاتجاه مجموعة من الآيات الكريمة
هي الآية (208) من سورة البقرة، والآية (61) من سورة الأنفال، والآيتان
(90 و 94) من سورة النساء، كما استدلوا ببعض الوقائع التاريخية والقواعد
الفقهية التي ستأتي عند المناقشة بإذن الله تعالى.
* تاسعاً: مناقشة أدلة المعاصرين:
وبكلمة إجمالية نذكر أن هذه الأدلة قد وضعت في غير موضعها، وأنطقها
هؤلاء بما لم تنطق، وحمّلوها ما لا تحتمل. ويظهر هذا بالنظر في هذه الأدلة
واحداً بعد الآخر.
- أما الآية الأولى، وهي قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ
كَافَّةً] (البقرة: 208) . فإنها تأمر المؤمنين بالله تعالى المصدِّقين برسوله أن
يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره
ما استطاعوا من ذلك [3] .
يقول شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر الطبري - رحمه الله -: اختلف أهل
التأويل في معنى «السِّلم» في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناه الإسلام. قال
ذلك: ابن عباس ومجاهد وقتادة والسُّدي وابن زيد والضحَّاك. وقال آخرون:
بل معنى ذلك ادخلوا في الطاعة. قال ذلك الربيع بن أنس [4] . ثمَّ رجح التأويل
الأول وهو قول من قال معناه: ادخلوا في الإسلام كافة؛ لأن الآية مخاطب بها
المؤمنون؛ فلن يعدو الخطاب إذْ كان خطاباً للمؤمنين من أحد أمرين:
إما أن يكون خطاباً للمؤمنين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم المصدِّقين به وبما
جاء به. فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان: ادخلوا في
صلح المؤمنين ومسالمتهم؛ لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان يمارس
حرباً بترك الحرب. فأما المُوالِي فلا يجوز أن يقال له: «صالِحْ فلاناً» ولا
حربَ بينهما ولا عداوة.
أو يكون خطاباً لأهل الإيمان بمن قَبْلَ محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء
المصدّقين بهم وبما جاؤوا به من عند الله، المنكرين محمداً ونبوته، فقيل لهم:
«ادخلوا في السلم» يعني به الإسلامَ، لا الصلح؛ لأن الله عزَّ وجلَّ إنما أمر عباده
بالإيمان به وبنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى ذلك دعاهم، دون
المسالمة والمصالحة. بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن
دعاء أهل الكفر إلى الصلح فقال: [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ
وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] (محمد: 35) ، وإنما أباح له صلى الله عليه
وسلم في بعض الأحوال، إذا دعوه إلى الصلح، ابتداءَ المصالحة، فقال له جلَّ
ثناؤه: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] (الأنفال: 61) . فأما دعاؤهم إلى الصلح
ابتداءً فغير موجود في القرآن، فيجوز توجيه قوله: [ادْخُلُوا فِي السِّلْم] إلى
ذلك « [5] .
وحتى لو قلنا إن المراد» بالسِّلم «هو المسالمة والصلح وترك الحرب، فإن
ذلك عند من قال به يعود إلى المعنى الأول، حيث جوَّز أبو علي الفارسيّ أن يكون
» السلم «هنا بمعنى الصلح؛ لأن الإسلام صلح على الحقيقة. ألا ترى أنه لا
قتال بين أهله، وأنهم يدٌ على مَنْ سواهم [6] ؟ وسبب نزول الآية الكريمة يؤكد ذلك
[7] . فأصبح واضحاً من هذا أن هناك إجماعاً من علماء التفسير على أن الآية لا
تعني بحالٍ التعاملَ بين المسلمين وغيرهم.
ولو تنزلنا جدلاً وقلنا بذلك، فإنها لا تدل على ما يريده أصحاب الدعوة إلى
أن السِّلم هو الأصل في العلاقات الدولية؛ لأنها بذلك تعني أن الحرب كانت قائمة،
ثمَّ جاءت الدعوة إلى السلم والصلح، فلم يكن السِّلم أصلاً في التعامل.
- وأما قوله تعالى: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]
(الأنفال: 61) ؛ فهو في سياق آيات سورة الأنفال التي تأمر بنبذ العهود إذا خيف
من الأعداء خيانة لها ونقض، مع تهديد الكفار والأمر بإعداد العدة والقوة لإرهابهم؛
حيث قال الله سبحانه وتعالى: [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ] (الأنفال: 58) إلى قوله: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَهَا] أي: إن خفت من قوم خيانة وغدراً فانبِذْ إليهم عهدهم على سواء، وآذِنْهم
بالحرب؛ فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتِلْهم، وإن مالوا إلى المسالمة إما
بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية ونحوها من أسباب السلم والصلح
كالمصالحة والمهادنة [فَاجْنَحْ لَهَا] أي: فمِلْ إليها واقبل منهم ذلك [8] .
ولذلك قال الإمام محمد بن الحسن بجواز الموادعة والمعاهدة للمشركين إذا لم
يكن بالمسلمين قوة، استناداً إلى هذه الآية الكريمة؛ لأن هذا من تدبير القتال؛ فإن
على المقاتل أن يحفظ قوة نفسه أولاً، ثمَّ يطلب العُلُوَّ والغلبة إذا تمكَّن من ذلك [9] .
فالآية الكريمة - إذن - إنما تتعلق بالهدنة؛ لأن» السِّلم «هاهنا معناها
الهدنة بلا خلاف. والهدنة عمل من أعمال الحرب. فهذا الحكم لا يفيد السلام الدائم
المطلق كما وهم المحتجون بذلك [10] .
هذا، وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية: هل هي محكمة أو منسوخة؟
على رأيين:
أ - ذهب بعض السلف إلى أنها منسوخة [11] ؛ فإن الميل إلى الصلح
والمسالمة، إنما كان قبل نزول سورة» براءة «، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يوادع القوم إلى أجل، فإما أن يسلموا وإما أن يقاتلهم، ثمَّ نسخ ذلك بقوله تعالى:
[فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] (التوبة: 5) . وقوله: [وَقَاتِلُوا
المُشْرِكِينَ كَافَّةً] (التوبة: 36) . فأمر بقتال المشركين على كل حال حتى
يسلموا.
وقيل هي منسوخة بقوله تعالى: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
الآخِرِ] (التوبة: 29) ، أو بقوله تعالى: [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْن] (محمد: 35) .
ب - والرأي الثاني، وهو ما ذهب إليه عامة العلماء، من أن الآية محكمة
غير منسوخة. وهو ما رجحه الإمام الطبري؛ لأن القول بالنسخ لا دلالة عليه من
الكتاب ولا السنة ولا العقل؛ لأن الناسخ لا يكون إلا من نفي حكم المنسوخ من كلِّ
وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخاً.
وقول الله تعالى: [فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] (التوبة: 5) غيرُ
نافٍ حكمُه حكمَ قوله تعالى: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] (الأنفال: 61) ؛
لأن هذه الآية إنما عنى بها بني قريظة، وكانوا يهوداً أهل كتاب، وقد أذن الله
تعالى بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم.
وأما قوله تعالى: [فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] (التوبة: 5) فإنما
عُنِيَ به مشركو العرب من عَبَدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم، فليس
في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه
[12] .
ولذلك قال الجصَّاص:» وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين؛ فالحال
التي أمر فيها بالمسالمة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوِّهم. والحال التي أمر
فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين
وقوَّتهم على عدوهم، وقد نهى الله تعالى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو
وقتلهم « [13] .
وقد أوجز الزمخشري القول في ذلك فقال:» والصحيح أن الأمر موقوف
على ما يرى فيه الإمام صلاحَ الإسلامِ وأهلِهِ من حرب أو سلم، وليس بحتم أن
يقاتَلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً « [14] .
وفي ضوء هذه الأحكام المستفادة من الآية الكريمة، وبعد عرض آراء العلماء
في ذلك ننتهي إلى أن الآية محكمة ليست منسوخة [15] ؛ وإنما هي تواجه مرحلة
معينة وواقعاً معيناً.
ولذلك يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -:» إن الأحكام المرحلية ليست
منسوخة؛ بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد
نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة. ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في
شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدِّد عن طريق الاجتهاد أيَّ الأحكام هو
أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف، في زمان من الأزمنة، في مكان من
الأمكنة؛ مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها متى أصبحت
الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام، كما كان حالها عند نزول
سورة التوبة؛ وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه
الأحكام الأخيرة النهائية سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب « [16] .
- وأما قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ
كَثِيرَةٌ] (النساء: 94) . فهي في غير محل النزاع، ولا دلالة فيها على أن
الأصل في العلاقات هو السلم؛ لأنها تبين حكماً من أحكام الحرب والجهاد؛ حيث
جاء الأمر فيها من الله تعالى للمؤمنين إذا ساروا في الأرض لجهاد الأعداء أن يتأنَّوْا
ويتثبتوا في قتل من أشكل عليهم أمره فلم يعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا
يعجلوا فيقتلوا من التبس عليهم أمره، ولا يُقدموا على قتل أحد إلا مَنْ علموه يقيناً
حرباً لله ولرسوله. ولذلك لا يجوز أن يقولوا لمن استسلم لهم فلم يقاتلهم مظهراً لهم
أنه من أهل الإسلام، لا يجوز لهم أن يقولوا له: لستَ مؤمناً؛ إذ ينبغي أن يكتفوا
بظاهر الإسلام في كلمة اللسان؛ إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان؛ فقد حكم الله
تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام، وأَمَرَنا بإجرائه على أحكام المسلمين، وإن
كان في المغيَّب على خلافه؛ لأن الأحكام تُنَاط بالمظَانّ والظواهر لا على القطع
وإطلاع السرائر. وهو يوجب أن مَنْ قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو قال:
إني مسلم، أنه يحكم له بالإسلام؛ لأن قوله تعالى: [لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ]
يعني: إظهار تحية الإسلام، وقد كان ذلك عَلَماً لمن أظهر به الدخول في الإسلام؛
وعلى قراءة [لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَم] إنما معناه: لمن استسلم فأظهر الانقياد لما
يدعى إليه من الإسلام. والمعنيان متقاربان [17] .
هذا، وسبب نزول الآية الكريمة يؤكد ذلك، فقد وردت روايات كثيرة في
سبب نزولها، يجمعها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلاً معه غنم له، فقال
لهم: السلام عليكم وفي بعضها أنهم لحقوا به فقال: أشهد إن لا إله إلا الله فظنوا
أنه أظهر ذلك تعوُّذاً من القتل فحسب، فقتلوه وأخذوا غنمه، ورجعوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فوجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك
وَجْداً شديداً. وكان قد سبقهم الخبر قبل ذلك، ونزلت الآية الكريمة، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:» قتلتموه إرادةَ ما معه؟ «ثمَّ قرأ عليهم الآية الكريمة.
وحمل النبي صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله، وردَّ عليهم غنيماته [18] .
فظهر من معنى الآية وسياقها ومن سبب نزولها أنه لا دلالة فيها على أصل
التعامل بين المسلمين وغيرهم، وأنها ليست دعوة مطلقة إلى السلم، وإنما هي
دعوة للتثبت لئلا يقتل في الجهاد أحد ممن دخل في الإسلام ولو في تلك اللحظة
هرباً من القتل؛ إذ الأصل أنه يصبح معصوماً بمجرد نطقه بالشهادتين.
- وأما قوله تعالى: [فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ
اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً] (النساء: 90) . فقد جاء في سياق الآيات الكريمة
(87 - 94) من سورة النساء، وهي تبدأ بتقرير قاعدة التصور الإسلامي للتوحيد
وإفراد الله سبحانه بالألوهية، ثمَّ تبين طريقة التعامل مع الطوائف الآتية:
أ - المنافقين غير المقيمين في المدينة.
ب - الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
ج - المحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين وحرب قومهم كذلك
وهم على دينهم.
د - المتلاعبين بالعقيدة الذين يظهرون الإسلام إذا قدموا المدينة، ويظهرون
الكفر إذا عادوا إلى مكة المكرمة.
هـ - حالات القتل الخطأ بين المسلمين، والقتل العمد، على اختلاف
المواطن [19] .
والآية الكريمة فيها إشارة إلى سُموِّ أحكام الإسلام في اختيار السلم حيثما وجد
مجالاً للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار،
وعدم الوقوف في وجه الدعوة بالقوة، مع كفالة الأمن للمسلمين وعدم تعريضهم
للفتنة أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر.
ومن ثمَّ يجعل الإسلام كلَّ من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين عهد ذمة
أو هدنة شأنه شأن القوم المعاهدين، يعامَل معاملتهم، ويسالَم مسالمتهم. وهي روح
سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام.
كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى، وهي الأفراد والقبائل أو
المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال.
وواضحٌ من هذا: الرغبة السلمية في اجتناب القتال حيثما كفَّ الآخرون عن
التعرض للمسلمين ودعوتهم، واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم.
وهؤلاء الذين يتحرَّجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم، كانوا
موجودين في الجزيرة العربية وفي قريش نفسها؛ ولم يُلْزمهم الإسلام أن يكونوا معه
أو عليه؛ فقد كان حسبه ألاّ يكونوا عليه [20] .
وقال الإمام الطبري: إن المعنيَّ بهذه الآية هم المنافقون، إذا استسلموا لكم
صلحاً منهم لكم فلا سبيل لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فلا ينبغي التعرض
عليهم [21] .
ونقل الإمام البَغَوِيُّ عن بعض السلف: أنهم مَن انضم إلى قوم بينكم وبينهم
عهد وميثاق فدخلوا في حلف ولجؤوا إلى جوارهم، وضاقت صدورهم عن قتالكم
بسبب العهد الذي بينكم.
ويجوز أن يكون المعنى: إنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم،
فهؤلاء إذا اعتزلوكم وانقادوا للصلح واستسلموا، فما جعل الله للمسلمين عليهم
طريقاً بالقتل والقتال [22] . فالسبب الموجب لترك التعرُّض لهم هو تركهم للقتال
[23] .
وأبدى العلاّمة أبو بكر الرّازي الجصَّاص رأياً في أنَّ منع قتال مَنْ هذا وصفه
مِنَ الكفار منسوخ باتفاق العلماء حيث قال:» إن هذه الآيات فيها حظر قتال من
كفَّ عن قتالنا من الكفار، ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزلنا من
المشركين. وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره. فقد حصل الاتفاق
من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وَصْفُه ما ذكرنا. والله الموفق للصواب «
[24] .
والذي ننتهي إليه من هذه الأقوال: أن الآية الكريمة وإن كان فيها دعوة إلى
السلم، فإنما ذلك مع قوم مالوا إلى المصالحة والمهادنة وانقادوا للطاعة، أو اعتزلوا
قتال المسلمين، فكانوا في موقف الحياد. وليس في الآية نسخ؛ لأن هذا الحكم
المستفاد منها من الأحكام المرحلية التي أشرنا فيما سبق إلى أنها تواجه واقعاً معيناً
في مرحلة معينة. وذلك كله لا يتعلق بأصل التعامل بين المسلمين والكفار، ولا
بالقاعدة العامة فيها.
* وأما ما استدلوا به من الواقع التاريخي، وهو أن حروب النبي صلى الله
عليه وسلم كانت لردّ العدوان والبغي، وأنه لم يقاتل إلا دفاعاً [25] . فهذا في بيان
حال واقعة، وليست بياناً لأصل أو مبدأ تُرَدُّ إليه الوقائع. مع أن غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم وحروبه فيها ما هو دفاع وما هو هجوم ابتداءً. ولهذا لا يصح
الاستدلال بذلك على أصل العلاقات وأنها السلم المطلق.
* بقي من أدلة المعاصرين جملة من القواعد الفقهية، مثل:» الأصل في
الدماء الحظر «، و» الضرورات تقدر بقدرها «و» الأصل في الأشياء الإباحة «
[26] . وهذه كلها لا علاقة لها بموضوع بحثنا، ولا تدل على شيء مما أرادوه.
كما أن ما نقلوه عن بعض الأئمة كقول مالك:» لا ينبغي لمسلم أن يهريق دمه إلا
في حق، ولا يهريق دماً إلا بحق « [27] ، إنما جاءت في سياقٍ آخر لا علاقة له
بمسألتنا، وهذا السياق هو: هل يجوز للمسلم أن يقاتل مع غير المسلمين؟ [28] .
ولذلك نجد أن النتيجة التي وصل إليها أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي عندما قال:
» والخلاصة أن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم. والحرب
عارض لدفع الشر ... وفقهاؤنا قرروا أن الأصل في العلاقات هو الحرب، دون أن
يكون لذلك سند تشريعي، إلا ما كان تصويراً منهم للواقع « [29] . هذه النتيجة
ليست مسلَّمة؛ لأنه قد تبين لنا السند التشريعي لما ذهب إليه الفقهاء، وهو الآيات
القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.
أما ما عرضه هو فلا سند له من النصوص الشرعية إلا التمحل والتأويل
للنصوص ليجعلها موافقة للقانون الدولي الذي عبّر عنه بقوله:» وفي صدد
المقارنة نجد أن ما انتهينا إليه من اعتبار السلم أصل العلاقات في الإسلام هو الأمر
المقرر لدى فقهاء القانون الدولي حيث يقولون: الحالة الطبيعية بين الدول هي
السلام، والحرب وقتية عارضة مهما كان سببها « [30] .
ويعبِّر عن هذا أيضاً: قولُ الشيخ عبد الوهاب خلاّف - رحمه الله -» وقال
فريق آخر من العلماء: إن أساس علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول لا تغاير
ما قرره علماء القانون الدولي أساساً لعلاقات الدول الحاضرة … « [31] . مع أن
في ذلك عكساً للترتيب، فلم يكن هناك قانون دولي عندما قال الفقهاء المسلمون بما
ذهبوا إليه.
__________
(*) عضو هيئة التدريس، بجامعة أم القرى فرع الطائف
(1) كان أول من كتب في ذلك: الشيخ عبد الوهاب خلاَّف، ثمَّ الأستاذ عبد الرحمن عزام، ثمَّ الدكتور محمد عبد الله دراز، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمود شلتوت، وتابعهم على ذلك من جاء بعدهم وأخذ عنهم، كالدكتور حامد سلطان، ومحمد سلام مدكور الذي كان له التأثير على أستاذنا الدكتور الزحيلي في رسالته:» آثار الحرب «حيث قال الدكتور مدكور في كتابه:» معالم الدولة الإسلامية «ص20 بعد أن أشار إلى رسالة الدكتور الزحيلي:» وكانت تحت إشرافي، وكان يتجه أولاً إلى هذا الرأي (الحرب أساس العلاقات) ولكنه أثناء الإعداد والتوجيه اقتنع بما أتجه إليه من أن الحرب في الإسلام دفاعية «.
(2) بخلاف ما أوهمه كلام الأستاذ ظافر القاسمي في كتابه عن» الجهاد والحقوق الدولية «ص160، ولذلك كان الدكتور محمد حافظ غانم - رحمه الله - دقيقاً في هذا عندما قال:» وقد ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى القول بعكس ما تقدم، فقرروا أن الأصل في العلاقة بين الجماعة الإسلامية وغيرها هو السلم «فهو رأي لبعض المعاصرين، فضلاً عن أن يكون رأي الفقهاء أو جمهورهم من المتقدمين، انظر:» مبادئ القانون الدولي العام «د / محمد حافظ غانم، ص54.
(3) انظر:» تفسير ابن كثير «: 1/ 248.
(4) » تفسير الطبري «: 4/251 252، وانظر:» تفسير البغوي «: 1/ 240،» الكشاف «للزمخشري: 1/127،» المحرر الوجيز «: 2/197،» زاد المسير «: 1/255،» تفسير القرطبي «: 3/22 23،» الدر المنثور «: 1/579،» روح المعاني «للآلوسي: 2/99 - 100،» تفسير المنار «: 2 /256 -259،» في ظلال القرآن «: 1/ 206 - 211.
(5) انظر:» تفسير الطبري «: 4/ 254 - 255.
(6) انظر:» البحر المحيط «لأبي حيان الغرناطي: 2/ 120 - 121.
(7) انظر:» تفسير البغوي «: 1/240،» أسباب النزول «للواحدي، ص 97.
(8) انظر:» تفسير الطبري «: 14/40،» تفسير البغوي «: 3/373،» المحرر الوجيز «: 6/363،» أحكام القرآن «للجصَّاص: 3/69،» تفسير القرطبي «: 8/39،» البحر المحيط «: 4/513،» تفسير ابن كثير «: 2/ 323.
(9) » شرح السِّير الكبير «: 5/1689.
(10) انظر:» مصنفة النظم الإسلامية «لأستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي، ص291.
(11) ذهب إلى القول بالنسخ: ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والحسن رحمهم الله، انظر:» تفسير الطبري «: 14/ 41.
(12) » تفسير الطبري «: 14/ 42 - 43، وانظر كلاماً جيداً أيضاً في: 11/209.
(13) أحكام القرآن» للجصَّاص: 3/69 - 70 باختصار، انظر: «المبسوط» للسرخسي: 10 / 86.
(14) «الكشاف» للزمخشري: 2/133.
(15) ومما يجدر ذكره هنا توفيقاً بين الرأيين: أن معنى النسخ عند علماء أصول الفقه المتأخرين يختلف عنه عند المتقدمين؛ فهو عند الأصوليين: «رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخٍ» ، وأما عامة السلف فكانوا يطلقون النسخ على رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين السابق ويطلقونه على رفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة أخرى، إما بتخصيص العام أو تقييد المطلق أو حمله على المقيد وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخاً، فالنسخ عندهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ولعل هذا البيان يكون سبباً لتلاقي الرأيين في بحثنا، فالذين قالوا بأن آية السيف نسخت آيات الصبر والمسالمة، إنما يحمل كلامهم على المعنى الثاني للنسخ، والذين قالوا بأن الآية محكمة غير منسوخة أرادوا المعنى الأول للنسخ.
(16) انظر: «في ظلال القرآن» : 3/ 1580.
(17) انظر: «تفسير الطبري» : 9/70 - 71، «تفسير البغوي» : 2/ 269.
(18) انظر: «تفسير البغوي» : 2/ 268 - 269.
(19) انظر: «في ظلال القرآن» : 2/ 233.
(20) المرجع السابق نفسه.
(21) «تفسير الطبري» : 9/24 - 25، وراجع «تفسير القرطبي» : 5/ 308.
(22) «تفسير البغوي» : 2/260 - 261، وانظر: «أحكام القرآن» للجصَّاص: 2/221.
(23) «تفسير الفخر الرازي» : 10/229.
(24) انظر: «أحكام القرآن» للجصَّاص: 2/222.
(25) انظر: «العلاقات الدولية في الإسلام» لأبي زهرة، ص (49 - 50) ، «آثار الحرب» د / الزحيلي، ص134، «العلاقات الدولية في الإسلام» د / الزحيلي، ص97 وما بعدها.
(26) «العلاقات الدولية في الإسلام» د / الزحيلي، ص101، «آثار الحرب» ، ص135.
(27) المراجع السابقة.
(28) انظر «المدونة» للإمام مالك: 2/31 - 32، «اختلاف الفقهاء» للطبري، ص195.
(29) «آثار الحرب» : د / الزحيلي، ص136.
(30) نفسه، ص137.
(31) «السياسة الشرعية» للشيخ عبد الوهاب خلاف، ص71.(181/8)
قضايا دعوية
رسالة من القلب إلى إخواننا في اليمن
د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
من سفر بن عبد الرحمن الحوالي: إلى إخوانه في الله من أهل السنة في
اليمن، حفظهم الله تعالى أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد:
تعلمون - حفظكم الله - أن أعظم نعمة لله على عباده بعد الهداية للإيمان أن
يجعلهم من أهل السنة والاتباع، لا من أهل الأهواء والابتداع، ومن حق الله على
عباده أن يكونوا قابلين لنعمته، شاكرين لها، مثنين بها عليه. وإن من قبول النعمة
وشكرها أن يعرفوا قدرها، ويحافظوا عليها، ويخافوا من سَلْبها بسبب ذنوبهم
وتفريطهم في أسباب استدامتها.
وقد أنعم الله على أهل اليمن بظهور السُّنة، وانحسار البدع والأفكار الإلحادية
قديمها وحديثها، لكن الشيطان كلما يئس أن يُعبد في أمة رضي بالتحريش بينهم.
وهذا يستوجب النصح والتذكير بأمور مهمة؛ ولا سيما فيما يتعلق بمنهج
التعامل مع أهل القبلة:
1 - إن سبيل السنة والاتباع؛ كما هو أهدى السبل وأقومها هو كذلك أوسعها
وأرحمها، وقد وَسِعَ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومسلمي الأعراب،
وبين هاتين المرتبتين من مقامات الإيمان ما لا يعلمه إلا الله (كما بيّن تعالى في
سورة التوبة) ، وأهل هذا السبيل السالكون له داخلون دخولاً أولياً في الأمة
المصطفاة: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم
مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32) ..
إلخ.
فلا يشقى ظالمهم بالسير مع سابقهم وإن تأخر، بل يحمل بعضهم بعضاً،
ويجبر بعضهم كسر بعض، وكلهم صائرون إلى حسن العاقبة: منهم من يدخل من
أبواب الجنة الثمانية، ومنهم من يلازم باباً واحداً، ومنهم بين ذلك. ومنهم من
يدخلها بالقيام مقام الأنبياء، ومنهم من يدخلها بتهليلة في ساعة صفاء، أو دمعة في
جوف الليل، أو درهم وضعه في يد مسكين، أو غصن من الشوك أزاحه عن
طريق المسلمين.
2 - وهم متنوعون في مواهبهم ومقاماتهم، متحدون في منهجهم وغاياتهم:
منهم المجاهد، والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، والمفسّر والمحدّث واللغوي
والشاعر، ومنهم العامة المطيعون لله ورسوله ولو لم يحملوا من العلم شيئاً.
فكل من لم يُفسد عليه أهل البدع فطرته فهو منهم على فطرة السنة، كالمولود
على فطرة الإسلام الذي لم يهوِّده أبواه ولم يُنصِّراه أو يُمجِّساه.
وأهل السنة والاتباع يؤدون حقوق الأمة كما أمر بها الشرع، فإن الشرع في
مقام المعاملة مع الله وأداء حقِّه علّق دخول الجنة والفوز باسم (الإيمان) كما في
آيٍ كثيرة جداً من كتاب الله، ولكنه في مقام التعامل مع الناس علّق حقوق صيانة
الدم والمال والعرض باسم (الإسلام) ، فقال: «كل المسلم على المسلم حرام دمه
وماله وعرضه» [1] ، وقال: «حق المسلم على المسلم ست» [2] ، وقال:
«المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده» [3] ؛ فمن ثبت له اسم الإسلام ثبتت
له هذه الحقوق، ولا تسقط إلا بيقين ولمصلحة الدين، بل إن الله تعالى سمّى
الطائفتين المتقاتلتين مؤمنين تنبيهاً لثبوت حقهما على سائر المسلمين، فقال تعالى:
[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] (الحجرات: 10) .
3 - وهم لا يُهْدرون الأحكام الثابتة والأصول الكلية لأجل الأحكام العارضة
والوقائع العينية؛ فمن الأصول الكلية الثابتة بصريح الآيات والأحاديث الصحيحة:
(وجوب اجتماع كلمة المسلمين) ، ومن الأحكام العارضة: (هجر المبتدع أو
الفاسق) ، فما لم تكن المصلحة في ذلك راجحة فلا يصار إليه، وهو مما تتغير فيه
الأحوال ويقبل تعدد الاجتهاد.
4 - وكلّ من صلّى صلاتهم، واستقبل قبلتهم، وأكل ذبيحتهم فهو منهم؛ له
ما لهم، وعليه ما عليهم، وحسابه على الله، وسريرته إليه، لا تنقيب عن القلوب،
ولا شقّ عن السرائر، ولا إساءة ظن، ولا غلّ على سابق بالإيمان، ولا تفريق
للمسلمين بالألقاب والأسماء وإن كانت أشرف الأسماء، مثل «المهاجرين
والأنصار» ؛ لأنها إنما تقال على سبيل الثناء والتأليف أو التمييز والتعريف، فما
أغنى عن المعتزلة تسميتهم أنفسهم بـ (أهل التوحيد والعدل) ، ولا أغنى عن
الصوفية دعواهم أنهم (أهل الولاية والقرب) ، وقبلهم قالت اليهود والنصارى:
[نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه] (المائدة: 18) .
5 - وهم يعدّون امتحان الناس بالولاء والبراء لطائفة أو معيّن من المحدثات
التي زجر عنها السلف؛ فإن الموالاة والمعاداة تكون على الحقائق لا على الدعاوى
والأسماء، وفي جماعتهم الصغرى قدوة لجماعتهم الكبرى؛ فكما أن الواجب هو أن
يصلّوا كما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وأن يكون
إمامهم من أهل السنة والاتباع؛ دون أن يمنعوا دخول أهل النفاق والمعاصي إلى
المسجد وصلاتهم بصلاة أهل السنة، فكذلك يجب أن يكون اجتماعهم العام على
السنة بمفهومها الواسع العميق، ولا يمنع ذلك أن ينضم إليهم في نصرة الإسلام
ومعاداة أعدائه مَنْ هو متلبس ببدعة أو مقيم على معصية، لكنهم يجتهدون في دعوة
هؤلاء إلى الاستقامة مثلما يُعلّم الإمام جماعة المسجد كيف يؤدون الصلاة صحيحة،
وهذا خير من أن يستقل أهل المعصية بمسجد وإمام، ويكون بين المسجدين عداوة
وخصام.
6 - وهم أقوياء في الحق من غير غلوّ، ورحماء بالخلق من غير تهاون،
وأشداء على أهل الضلال والبدع من غير عسف ولا جور، يأمرون بالمعروف
بمعروف، وينهون عن المنكر بلا منكر.
7 - وهم يوفون الكيل والميزان بالقسط ولا يبخسون الناس أشياءهم،
ويَزِنون الأمور بالعدل والحكمة، ويرتكبون أخف الضررين، ويجتنبون أكبر
المفسدتين، ويصبرون على أهون الشرين، ويسلكون أقرب الطريقين، ويختارون
أيسر الأمرين، يأوي إلى عدلهم المظلوم من كل أمة وطائفة، ويثق في علمهم
طالب الحق من كل ملة ونِحْلة، فالعدل عندهم قيمة مطلقة؛ فإن الله تعالى جعله
واجباً على كل أحد لكل أحد في كل حال؛ فهو قيمة مطلقة لا يحدها اختلاف الدين
فضلاً عما هو أدنى من ذلك. قال تعالى: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ
المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا] (المائدة: 2) ، ومن لم يميز بين وجوب معاداة
الكافرين والظالمين ووجوب العدل معهم، ويقيم الواجبَيْن معاً فليس من أهل الفقه
في الدين والاتباع لسيد المرسلين الذي أوحى إليه ربه أن يقول: [وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ
بَيْنَكُمُ] (الشورى: 15) .
وقال ابن القيم في نونيته ضمن الحديث عن دعوة الرسل:
وكذاك نقطع أنهم جاؤوا بعدل ... الله بين طوائف الإنسانِ
8 - ومن حكمتهم في الدعوة: أن يظهروا محاسن الأئمة المتبوعين من أئمة
العلم أو السلوك أو الدعوة، ويبينوا أن ما أوتوه من تعظيم وثناء إنما هو بسبب ما
لديهم من اتباع للحق وجهاد من أجله، وأن ما نالهم من توفيق في دعوتهم فهو
بسبب ما اتبعوا من السنة، ويجعلوا ذلك وسيلة لدعوة أتباعهم والمنتسبين إليهم إلى
السنة والاتباع، ونبذ التعصب للمتبوعين، والعمل لنصرة الدين كما نصر أولئك
الأئمة؛ وبذلك يجمعون بين العدل مع المتبوعين والدعوة الحكيمة للتابعين، كما
فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلامه عن الأئمة الأربعة وغيرهم
كالأشعري، وعدي بن مسافر.
9 - هم أكثر الناس ازدراءً للنفس في ذات الله، وأبعدهم عن ادعاء الكمال،
لا يزكُّون أنفسهم بالشعارات وبالألقاب، ولا يستغنون عن الاتباع بالانتساب، بل
يعلمون أن ليس بأمانيّهم ولا أمانيّ أهل الكتاب. وهم في جهادهم، ودعوتهم،
وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتغليظهم على أهل البدع وسائر أمورهم
يتقدمون ويتأخرون بمقتضى الدليل الشرعي، والمصلحة الدينية، ودافع النصح لله
ولرسوله وللمؤمنين، وليس بدافع الانتقام أو التشفي أو التشهير، يعاقبون أحبّ
صديق لهم، ويعفون عن أعدى عدوٍّ لهم إذا اقتضى أمر الله ورسوله ومصلحة
الإسلام ذلك. وهم يفرحون بتوبة التائب، ويقبلون عذر المعتذر، ويدعون بالهداية
للعاصي؛ لأنه لا حظَّ لأنفسهم في شيء من ذلك، بل إنما يريدون وجه الله،
ويحرصون على هداية خلق الله، ولا يحبون أن يعثروا على بدعة أو معصية ممن
يخالفهم؛ لأن من فرح بذلك فقد أحب أن يُعصى الله، ومن أحب أن يُعصى الله
فليس من الله في شيء. ويسترون عيوب المسلمين، ولا يتتبعون عوراتهم، ولا
يذكرون أخطاء أهل العلم إلا لبيان الحق، وعلى سبيل الترجيح لا التجريح،
ويلتمسون لهم العذر ما أمكن.
وقد كان بعض السلف يوصون الوعاظ والخطباء ألاّ يُفصّلوا ذنوب المسلمين
ويشهروا عيوبهم على المنابر؛ حتى لا يشمت بهم أهل الكتاب والمشركون.
ويُدخَلَ في ذلك التشهير بالجماعات الإسلامية في أوساط أهل الإلحاد والبدع.
وكثير من الناس يحصرون (السُّنِّي) في المتمحض للسنة؛ الذي لم يقع منه
خطأ ولا تأويل ولا جهل، ويقابلهم آخرون يظنون أن (المبتدع) هو من اجتمعت
فيه أصول البدع، أو انتسب إلى ما أجمعت الأمة على أنها من فرق الضلال.
والحق أن البدع كسائر الذنوب: منها الكبير والصغير، والصريح والمشتبه،
والعصمة من التلبس بها نادرة أو قليلة.
والمخالفة بالتأويل والخطأ والجهل سمة أكثر الخلق، ويجتمع في الواحد
المعيَّن والطائفة الحرص الشديد على السنة مع الوقوع الصريح في البدعة، كما
يتفق للكثير من أهل البدع إصابة السنة في بعض الأحوال والمقامات؛ وإنما العبرة
بالأصول والمنهج في الجملة والعموم، والموفق من وفقه الله.
وعلى كل أحد اتهام نفسه، والتفتيش عن عيوبه، وتجديد إيمانه، وعلى
الكافة التناصح في غير جفاء، وقبول الحق من أي مصدر جاء.
10 - وهم لا يمنعهم طلب الكمال عن الحكمة في التعامل مع واقع الحال،
فيدعون إلى الحق كاملاً غير منقوص، وإلى الاتباع المطلق للرسول صلى الله عليه
وسلم، ويقبلون من الناس التدرج في الأخذ بذلك والتفاوت فيه، وسيرته صلى الله
عليه وسلم هي منهاجهم وقدوتهم في هذا وغيره.
11 - ومن ضاق علمه وقصر نظره عن الجمع بين التمسك بأصول السنة
وبين التعامل الشرعي مع الأُمة ولا سيما المخالفون منها؛ فقد قصّر في اتباع
الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته، كمن يظن أن المخالفين تسقط كل
حقوقهم الشرعية، أو أن العدل معهم ضعف وتهاون، أو أن نصرة الدين لا تكون
إلا من أهل الطاعة الثابتة والاتباع الكامل.
فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، لا سيما في
حال المعارك؛ قتالية كانت أو عقدية أو سياسية.
ولهذا كان من أصول السنّة: (الجهاد مع كل برٍّ وفاجر) ، وهذا الجهاد
يشمل الجهاد الميداني، والجهاد السياسي، والجهاد العلمي والدعوي؛ ما دام
المقصود منه النكاية في عدو الدين المستبين الذي لو تسلط؛ لكان ضرره أعظم من
تسلُّط مَنْ تَنْقُصه شروط العدالة والاستقامة.
وقد جاهد كثير من علماء السلف مع جيوش الحجاج بن يوسف وكلهم لا يشكّ
في طغيانه وظلمه، كما فرح أهل السنة بما فعل بعض الخلفاء والولاة بالمبتدعة،
وإن كانوا في أنفسهم ليسوا على السنة المحضة؛ مثل المتوكل، وخالد بن عبد الله
القسري؛ فالعبرة في هذا كلّه بنصرة الدين وإقامة الشريعة.
وبالنظر إلى الواقع السياسي في اليمن نقول:
إنه ينبغي التفريق بين من يدعو إلى الكتاب والسنة في الجملة وهو متلبس
ببدعة أو انحراف فكري، وبين من يدعو إلى بدعته وفكرته الضالة.
وكلاهما يقع من أطراف المعارك السياسية في اليمن وغيرها، فإن قوماً
اتخذوا البدعة حزباً سياسياً، وآخرين هم منتسبون لها في الأصل لكنهم يخالفون
أولئك ويدعون إلى الإسلام جملة إما مستقلين وإما منضمّين تحت راية إسلامية عامة.
وهناك من كان على مذهب فاسد كالاشتراكية ثم استقام في الجملة وإن لم يعلم
تفصيل ما أنزل الله، فيجب التفريق بينه وبين من لا يزال على اشتراكيته أو
قوميته.. ونحو ذلك.
والتاريخ الإسلامي شاهد على أن الله تعالى نصر الإسلام على أعدائه من
صليبيين وباطنية ومغول وغيرهم بأُناسٍ لم يكونوا من أهل السنة المحضة، لكنهم
كانوا يقاتلون لنصرة الإسلام لا لإظهار البدع، وفرق بين هؤلاء وبين دول
الخوارج والروافض الباطنية وغيرهم التي قامت في شرق العالم الإسلامي وغربه،
وقاتلت من خالفها من المسلمين لكي يدخل في بدعتها.
فالأحزاب الإسلامية في اليمن: حين تواجه الروافض أو الاشتراكيين في
معاركها القتالية أو السياسية؛ فهي من النوع الأول، فيجب مناصرتها على أحزاب
البدعة والإلحاد، كما تجب مناصحتها للاستقامة على السنة المحضة، وليس في
الجمع بين هذين إشكال لدى أهل الفقه والبصيرة.
أما الاشتغال بعداوتها عن عداوة أهل البدعة والإلحاد فهو عين الخطأ، وأعظم
منه موالاة من يحكم بغير ما أنزل الله أو الأحزاب العلمانية ومعاداة الأحزاب
الإسلامية، فهذا لا يفعله إلا منافق صريح النفاق أو أعمى البصيرة لا فقه له ولا
فكر، فهو كمن يبني كنيسة ويقفل المسجد بحجة أن المصلين لا يصلُّون على السنة،
أو يدعو الناس إلى أكل الميتة وترك ذبيحة أهل المعاصي، أو يفضل الجهل
بقراءة القرآن على تلقيه من ماهر بالقراءة متلبس ببدعة، أو يتوضأ بالماء النجس
تاركاً ما فيه شبهة!
وعلى من ينتسب إلى السنة أن يحذر من سيرة الخوارج ومنهجهم في التعامل
فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب - رضي الله عنه - مستحلّين دمه، وتركوا النصراني
مراعاة لذمته!! وكانوا يقاتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان، سَلِمَ منهم الروم
والترك والدَيْلم، ولم يَسْلَم منهم كثير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم
والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم والإيمان.
ولا يشفع لهؤلاء الصنف من طلبة العلم ظنّهم أنهم وحدهم أهل السنة
والاستقامة؛ فإن هذا من أعظم أسباب التشبث بالهوى، وعمى القلب عن قبول
الحق والتزام العدل، نسأل الله السلامة والعافية.
إن التعامل الحق مع أهل القبلة هو السبيل القويم لتوحيد الأمة؛ لأنه يعتمد
على قواعد شرعية مستمدة من نصوص الوحي، وليس على مجرد المصلحة كما
يظن كثيرون، وبيان هذه القواعد هو جزء من منهج أهل السنة والجماعة الذي لا
تجتمع الأمة ولا تنتصر إلا بمقدار حظها من التمسك به.
* أيها الإخوة المؤمنون:
إن أعداء الله يكيدون لليمن شر كيد، وقد عزموا على أن يجعلوا المعركة
الانتخابية القادمة حاسمة في انتصارهم؛ فعلى المسلمين كافة أن يقفوا صفاً واحداً
في هذا الجهاد الكبير، وأن يرفضوا الخضوع لأعداء الله أو الركون إليهم، وأن
يُعِدُّوا العُدة لمواجهتهم في كل ميدان، وأعظم العُدة بعد تقوى الله اجتماع الكلمة
ووحدة الصف، وهذا في حدّ ذاته انتصار عظيم، [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ] (الصف: 4) .
__________
(1) أخرجه مسلم، رقم 2564.
(2) أخرجه مسلم، رقم 2162.
(3) أخرجه البخاري، رقم 6119.(181/14)
دراسات تربوية
قاعدة الانطلاق وقارب النجاة
(1 ـ 2)
فيصل بن علي البعداني
albadani@hotmail.com
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومجتباه، وبعد: فإن هذا الموضوع
مما يحتاج إلى التذكير به في كل مناسبة، والحديث عنه بين وقت وآخر؛ إذ هو
لب الدين، وعموده الأعظم، وعليه مدار النجاة وتحقيق سعادة الأبد. واللهَ أسأل
أن يلهمني الرشد، وأن يعم النفع بهذه السطور.
* منزلة الإخلاص:
الإخلاص هو حقيقة الدين. قال تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ] (البينة: 5) ، وقال سبحانه: [فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ
الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ] (الزمر: 2-3) ، فقصر سبحانه «ما يصح أن
يدان به على الخالص منه، وهو المنزه عن شوائب الشرك قليله وكثيره، جليله
وحقيره، فأفادت الآية أن الإخلاص شرط في دين الإسلام، وهو دين الأنبياء
أجمعين. وطلب الإخلاص في جميع الشرائع دليل على عظم منزلة هذا الخلق
العظيم» [1] . وهو مفتاح دعوة المرسلين عليهم السلام، وأعظم الأصول التي
جاؤوا بها. وهو رأس أعمال القلوب التي هي أجل أعمال العبد وأعظمها قدراً [2] ،
«فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد
الموات بلا روح، والنية هي عمل القلب» [3] . كما أنه شرط لقبول العمل وتحقق
الزلفى عند رب العالمين. ولجلالته وعظم منزلته أثنى الله على المتصفين به ونوه
بذكرهم؛ مما يوضح أن الإخلاص كان أبرز سماتهم وأخص خصائصهم فقال
سبحانه عن يوسف عليه السلام: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] (يوسف: 24) [4] ، وقال تعالى عن محمد صلى الله عليه
وسلم: [قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُخْلِصُونَ] (البقرة: 139) [5] .
وفي المقابل جاء الوعيد الشديد لمن تخلى عنه، فقال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء] (النساء: 48) ، وقال سبحانه
عن المشركين: [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً] (الفرقان:
23) ، «وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله»
[6] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛
من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» [7] ، وقال صلى الله عليه
وسلم: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به
عرضاً من الدنيا؛ لم يجد عَرْف الجنة [يعني: ريحها] يوم القيامة» [8] .
ولذا فالإخلاص مطلوب في جميع العبادات الظاهرة والباطنة؛ فلا يكفي أن
يتوجه العبد إلى الله في عمل دون عمل، أو في عبادة دون معاملة، قال ابن القيم:
«العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه» [9] .
* حقيقة الإخلاص:
الإخلاص لغة: تصفية الشيء وتنقيته وتخليصه مما يكدره [10] .
وللعلماء في المراد به شرعاً عبارات متقاربة مدارها على أن يريد العبد
«بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون أي شيء آخر؛ من تصنع لمخلوق،
أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني
سوى التقرب به إلى الله تعالى» [11] .
ولقصد الرب بالعمل وإخلاصه له صور عدة؛ إذ من العباد من يعبد الله تعالى
تعظيماً له وتوقيراً، ومنهم الذي يقصد الدخول في طاعته وعبادته، ومنهم الذي
يطلب رضوانه ورضاه، ومنهم الذي يقصد الأنس به والتلذذ بطاعته وعبادته،
ومنهم من يرجو التنعم برؤيته في يوم لقياه، ومنهم من يطلب ثوابه من غير أن
يستشعر ثواباً معيناً، ومنهم من يطلب ثواباً معيناً، ومنهم من يخاف عقابه من
حيث الجملة غير ناظر إلى عقاب معين، ومنهم من يخشى عقاباً معيناً.
وتنوع المقاصد باب واسع، والعبد قد يقصد هذا مرة، وهذا مرة، وقد يقصد
أكثر من واحد من هذه المقاصد، وكلها تنتهي إلى غاية واحدة، وتعني في النهاية
شيئاً واحداً: أن العبد يريد الله سبحانه، ولا يريد سواه، وكل ذلك محقق للإخلاص،
وأصحاب هذه المقاصد على الصراط المستقيم، وعلى الهدى والصواب [12] ،
وإن كان لا ينبغي للعبد أن يخلي عبادته من قصد الحب لله المشوب بتعظيم، ومن
الخوف والرجاء؛ إذ قوام العبادة ومدارها على ذلك، والله أعلم.
* صعوبة الإخلاص:
مع وضوح الإخلاص وجلائه إلا أنه من أشق الأمور على النفس؛ لأنه يحول
بينها وبين تطلعاتها وشهواتها؛ فتحقيقه والاستمرار فيه يتطلب مجاهدة كبيرة،
وهذه المجاهدة لا تقتصر الحاجة فيها على عوام الناس فقط، بل الكل محتاج إليها
حتى العلماء والأشداء من الصالحين والعباد، يقول الثوري: «ما عالجت شيئاً أشد
عليّ من نيتي، إنها تقلب عليّ» [13] ، ويقول يوسف بن الحسين الرازي:
«أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه
ينبت فيه على لون آخر» [14] ، ويقول يوسف بن أسباط: «تخليص النية من
فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد» [15] ، «فالنفس الأمارة بالسوء
تشين الإخلاص للعبد وتريه إياه» في صورة ينفر منها، وهي الخروج عن حكم
العقل المعيشي، والمداراة والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشيه بين
الناس؛ فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئاً تجنبهم وتجنبوه وأبغضهم
وأبغضوه « [16] ؛ ولذا فقد كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو:» يا مقلب
القلوب! ثبت قلبي على دينك « [17] ، وكثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يكثر في
حلفه من قول:» لا ومقلب القلوب « [18] ، وذلك لكثرة تقلب القلوب وتحولها في
قصودها ونياتها.
* ثمرات الإخلاص:
للإخلاص ثمار عديدة، من أبرزها:
1 - دخول جنات النعيم: يدل على ذلك قول المولى جل جلاله: [إِلاَّ عِبَادَ
اللَّهِ المُخْلَصِينَ] 19 [* أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ] ،» فالناس كلهم هـ (الصافات: 40-43) لكى إلا العالمون، والعالمون
كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون « [20] .
2- قبول العمل: الإخلاص شرط لقبول العمل، قال صلى الله عليه وسلم:
» إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهه « [21] ،
وقال صلى الله عليه وسلم:» إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا
ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير
الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك « [22] .
3 - الفوز بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة: قال صلى الله
عليه وسلم:» أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من
قلبه أو نفسه « [23] ،» فمن كان أكمل توحيداً كان أحرى بالشفاعة « [24] ،
و» الشفاعة لأهل الإخلاص، ولا تكون لمن أشرك بالله « [25] .
4 - تنقية القلب من الحقد: إذا حلّ الإخلاص في قلب هذَّبه من الآفات،
وحصَّنه من سيئ الصفات، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:» ثلاث لا
يَغِلُّ عليهن قلب امرىء مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين،
ولزوم جماعتهم « [26] ، قال ابن عبد البر:» فمعناه: لا يكون القلب عليهن
ومعهن غليلاً أبداً، يعني: لا يقوى فيه مرض ولا نفاق إذا أخلص العمل لله، ولزم
الجماعة، وناصح أولي الأمر « [27] .
5- مغفرة الذنوب ومضاعفة الأجر: إذا تمكن الإخلاص من عمل كان سبباً
لمغفرة ذنب صاحبه ومضاعفة أجره؛ حتى لو كانت الطاعة في ظاهرها يسيرة أو
قليلة، يقول ابن المبارك - رحمه الله - في هذا الشأن:» رُبَّ عمل صغير تكثره
النية، ورُبَّ عمل كثير تصغره النية « [28] ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم
عن أعمال صغيرة غفر لأصحابها ببركة إخلاصهم، كحديث صاحب البطاقة التي
فيها» لا إله إلا الله «، وحديث البغيِّ التي سقت كلباً فغفر الله لها، وقصة الرجل
الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، قال ابن تيمية:» فهذه سقت الكلب
بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها،
وكذلك هذا الذي نحَّى غصن الشوك من الطريق؛ فعله إذ ذاك بإيمان خالص،
وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من
الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتهما
كما بين السماء والأرض، وليس كل من نحَّى غصن شوك عن الطريق يغفر له «
[29] . وهذا يبين سر تفاوت منزلة الناس في المنازل. قال ابن القيم:» واعتبر
هذا بحال الصدِّيق؛ فإنه أفضل الأمة، ومعلوم أن فيهم من هو أكثر عملاً وحجاً
وصوماً وصلاة وقراءة منه. قال أبو بكر بن عياش: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم
ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه « [30] .
وفي المقابل متى كان أداء العبد للطاعة بدون إخلاص لله وصدق معه كان
معرضاً للوعيد الشديد؛ لحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة،
وهم شهيد وعالم قارئ ومنفق، عملوا من أجل أن يقول الناس: هذا شهيد، وهذا
عالم، وهذا منفق [31] ، وحديث:» لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا
به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار « [32] ، وحديث:
» إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: يا رسول الله! وما الشرك
الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى
الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟! « [33] .
6 - الظفر بالنصر والتمكين: قال صلى الله عليه وسلم:» إنما ينصر الله
هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم « [34] ، وقال:» بشِّر هذه
الأمة بالنصر والسناء والتمكين؛ فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في
الآخرة من نصيب « [35] ، ومن تأمل في حياة سلفنا الصالح يجدهم لم ينتصروا إلا
بقوة إيمانهم، وزكاة نفوسهم، وإخلاص قلوبهم، وعملهم بعقيدة جعلوا كل شيء
وقفاً عليها [36] ، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:» فمن خلصت نيته
في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس « [37] ، ومن كان الله معه
» فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؛ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف، وإن لم
يكن معه فمن يرجو، وبمن يثق، ومن ينصره من بعده؟! « [38] .
7 - نيل قبول الناس ومحبتهم: يضع الله سبحانه لصاحب الإخلاص القبول
والمحبة في قلوب الخلق بعكس المرائي الذي يطلب الشهرة ويسعى للحصول على
المنزلة في قلوب الناس، فالله يعامله بنقيض قصده، قال صلى الله عليه وسلم:
» من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به سامع خلقه، وصغّره وحقّره « [39] ، وقال:
» من كانت الدنيا همه: فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته
من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته: جمع الله له أمره، وجعل غناه
في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة « [40] .
وهذا مجاهد يقول:» إن العبد إذا أقبل إلى الله عز وجل بقلبه أقبل الله
بقلوب المؤمنين إليه «، وهذا الفضيل يقول:» من أحب أن يُذكر لم يُذكر، ومن
كره أن يُذكر ذُكر «! قال ابن القيم معلقاً على قول الفاروق:» لما كان المتزين
بما ليس فيه ضد المخلص فإنه يظهر للناس أمراً وهو في الباطن بخلافه.. عامله
الله بنقيض قصده ... ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة
والمحبة والمهابة في قلوب الناس.. عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه
الله بين الناس؛ لأنه شان باطنه عند الله، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى
وصفاته العليا « [41] .
8 - قلب المباحات إلى طاعات: إخلاص العبد وصلاح نيته يرتفع بعمله
الدنيوي ويصيره عبادة متقبلة، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:» وفي
بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟
قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال
كان له أجر « [42] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:» إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها
وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فم امرأتك « [43] ، فإذا كان هذا في
شأن الزوجة التي يكون معها هذا عادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح،
فغيرها من المباحات من باب أوْلى [44] ، قال ابن تيمية:» إن الذي ينبغي أنه لا
يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على
الطاعة، فهذا سبيل المقربين السابقين « [45] . ولذا فقد كان السلف يكثرون من
استحضار النية الصالحة في المباحات، قال زبيد اليامي:» إني لأحب أن تكون
لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب «، وعنه أنه قال:» اِنْوِ في كل
شيء تريده الخير، حتى خروجك إلى الكُناسة « [46] ، وقال غيره:» من سره أن
يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حسنت نيته حتى
باللقمة « [47] .
وكما أن الإخلاص يرفع المباحات إلى منزلة الطاعات، فإن الرياء يهبط
بالطاعات المحضة فيقلبها معاصي شائنة؛ كما في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ] (البقرة: 264) ، وكما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر
بهم النار [48] .
ومما روي عن السلف في ذلك أن رجلاً قال» لعبادة بن الصامت: أقاتل
بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومَحْمَدة الناس؟! قال: لا شيء لك.
فسأله ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا شيء لك. ثم قال في الثالثة: إن الله يقول:
أنا أغنى الشركاء عن الشرك ... الحديث « [49] ،» وسأل رجل سعيد بن
المسيب فقال: إن أحدنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر؟ فقال له: أتحب
أن تمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملت لله عملاً فأخلصه « [50] .
9 - بلوغ النية الخالصة مبلغ العمل: صاحب النية الصالحة قد يعجز عن
عمل الخير الذي يصبو إليه؛ لقلة ماله، أو ضعف صحته، وقد يجتهد في فعل
الخير ولا يدرك موقعه، ولكن الله المطلع على خبايا النفوس يرفع المخلص إلى
مراتب العاملين الموفقين؛ لأن علوّ همته وصدق نيته أرجح لديه عز وجل من
عجز وسيلة عبده وقلة حيلته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:» إن أقواماً خلفنا
بالمدينة ما سلكنا شِعْباً، ولا وادياً إلا وهم معنا! حبسهم العذر « [51] ، وفي رواية
مسلم:» إلا شركوكم في الأجر « [52] ، ويقول صلى الله عليه وسلم:» من أتى
إلى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له
ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه عز وجل « [53] ، ويقول صلى الله عليه
وسلم:» من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه «
[54] ، وفي الحديث الآخر: ذكر الرجل الذي رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً
فتمنى مثل مال فلان ليعمل عمله الصالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:» فهما
في الأجر سواء « [55] .
والنية الصالحة تنيل صاحبها الأجر وإن لم يوفق المخلص لوضع الأمر في
موضعه، كما في قصة الذي تصدق على زانية وعلى غني وعلى سارق [56] .
10 - تنفيس الكرب والنجاة من الشدائد: الإخلاص سبيل الخلاص، وهذا
بيّن في قوله تعالى: [وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ *
فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنذَرِينَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ] (الصافات: 71-
74) ، وقوله عز وجل: [وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ] (لقمان:
32) ، وحديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه
الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد منهم بعد أن يذكر عملاً
صالحاً قام به يقول: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه،
فانفرجت الصخرة عنهم، وخرجوا يمشون [57] ، وحديث سعد بن أبي وقاص -
رضي الله عنه - في فتح مكة، وفيه:» ... وأما عكرمة فركب البحر، فأصابتهم
عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا،
فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره،
اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه: أن آتي محمداً صلى الله عليه
وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً. فجاء فأسلم « [58] .
11- الحفظ من كيد الشيطان: يكيد الشيطان للعبد ويزين له سوء عمله،
وبإخلاصه في عمله وصدقه في نيته يحفظه الله تعالى ويعصمه من وسوسة الشيطان
ومكره، يدل على ذلك قوله تعالى عن الشيطان: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ] (ص: 82-83) [59] أي: إلا الذين أخلصوا
العبادة والإيمان لك فإنه لا سبيل لي عليهم [60] ؛ فإخلاصهم كان سبباً في حفظهم من
إضلال الشيطان وإغوائه. قال أبو سليمان الداراني:» إذا أخلص العبد انقطعت
عنه الوساوس والرياء «. وكان معروف يبكي ثم يقول:» يا نفس كم تبكين!
أخلصي تتخلصي « [61] ، وقال ابن تيمية:» وإذا كان العبد مخلصاً له اجتباه
ربه فيحيي قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء،
... ومن لم يكن خالصاً لله عبداً له ... استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه
الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء
ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إذا لم يكن حنيفاً مقبلاً
على الله معرضاً عما سواه وإلا كان من المشركين « [62] .
12 - نيل التوفيق والأنس والبركة: متى أخلص العبد لمولاه في عمله وفق
للصواب، ودخله الأنس، وأعطي الذخائر، وبورك له في العمل، قال مكحول:
» ما أخلص عبد قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه «
[63] ، وحين قيل لحمدون القصار:» ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال:
لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز
النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق « [64] ، وقال ابن القيم:» ترك الشهوات
لله، وإن أنجى من عذاب الله، وأوجب الفوز برحمته، فذخائر الله، وكنوز البر،
ولذة الأنس والشوق إليه، والفرح والابتهاج به لا تحصل في قلبٍ فيه غيره، وإن
كان من أهل العبادة والزهد والعلم؛ فإن الله سبحانه أبى أن يجعل ذخائره في قلب
فيه سواه، وهمته متعلقة بغيره « [65] .
ولكن لا بد لمن أراد نيل العطايا وتحصيل الهبات أن يتأكد فعلاً من تحقيقه
للإخلاص. قال ابن تيمية:» يذكر أن بعض الناس بلغه أنه من أخلص لله أربعين
صباحاً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، فأخلص في ظنه أربعين صباحاً
لينال الحكمة، فلم ينلها، فشكى ذلك إلى بعض حكماء الدين، فقال: إنك لم تخلص
لله سبحانه، وإنما أخلصت للحكمة. يعني: أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادة
وجهه، فإذا حصل ذلك حصلت الحكمة تبعاً، فإذا كانت الحكمة هي المقصود ابتداء
لم يقع الإخلاص لله سبحانه، وإنما وقع ما يظن أنه إخلاص لله سبحانه « [66] .
13- النجاة من الفتن: يدل على ذلك قوله تعالى عن نبيه يوسف - عليه
السلام -: [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] (يوسف: 24) [67] ، فأخبر سبحانه
أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه؛ وذلك لأن القلوب
إنما تبتلى بذلك إذا كانت فارغة» من حب الله والإخلاص له؛ فإن القلب لا بد له
من التعلق بمحبوب؛ فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن يتعبد
قلبه لغيره « [68] .
يقول ابن القيم عن يوسف - عليه السلام -:» فلما أخلص لربه صرف عنه
دواعي السوء والفحشاء فانصرف عنه السوء والفحشاء ... فالإخلاص هو سبيل
الخلاص « [69] ، قال بعض السلف:» العشق حركة قلب فارغ، يعني: فارغاً
مما سوى معشوقه « [70] ، و» الشرك يدعو إلى الظلم والفواحش، كما أن
الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه « [71] .
* تحصيل الإخلاص:
لتحصيل الإخلاص طرق عدة، من أبرزها:
1 - قَدْر الله حق قدره: بمعرفة عظمته سبحانه وكماله وجلاله، وأنه عز
وجل الغني الكبير المتعال، القادر على كل شيء، العالم بخائنة الأعين وما تخفي
الصدور، الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم
يكن. وبمشاهدة منة الله تعالى وفضله وإحسانه، وأن العبد بالله لا بنفسه، وأن كل
نعمة منه وكل خير فمن جوده وإنعامه [72] ، فحقوقه سبحانه عظيمة، والعبد
أضعف من أن يوفيه تعالى حقه، ويشكره على نعمه، وبهذا يقوى اليقين ويعظم
توجه العبد إلى بارئه وإخلاصه له.
2 - تعلم الإخلاص: إذ العمل ثمرة العلم، قال يحيى بن أبي كثير:
» تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل « [73] ، وقال عبد الله بن أبي جمرة:» وددت
أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم،
ويقعد إلى التدريس في أعمال النيات ليس إلا ... ، فإنه ما أتي على كثير من
الناس إلا من تضييع النيات « [74] .
3 - تذكر ثواب الإخلاص وعاقبة ضده: ليصفو الإخلاص للعبد عليه أن
يتذكر ثواب الإخلاص وفضائله؛ فهو شرط قبول العمل، والسبيل الوحيد لدخول
الجنة، وبوابة السلامة من كيد الشيطان ووسوته. وفي المقابل لا بد من تذكر عاقبة
فقد الإخلاص؛ إذ ذلك يحبط عمل العبد، بل قد يودي به إلى النار، ويكون سبباً
في فضيحته في الدنيا والآخرة، كما جاءت بذلك النصوص، ومنها: قوله تعالى:
[مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ] (هود: 15-16) ،» أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عُجِّل له الثواب،
ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب؛ لأنه جرد قصده إلى الدنيا،
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» ؛ فالعبد إنما يعطى
على وجه قصده، وبحكم ضميره « [75] .
4 - مراقبة النفس ومجاهدتها: بحيث يراقب المرء نفسه قبل الإقدام على
العمل، سائلاً إياها: ماذا أرادت به؟ فإن كانت النية سليمة أقدم، وإن كانت غير
ذلك صحح قصده قبل أن يلج بوابة العمل، وقد كان ذلك هدياً ظاهراً للسلف. قال
الحسن:» كان الرجل إذا همَّ بصدقة تثبَّت؛ فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك
أمسك « [76] ؛ أي يمسك حتى يصحح نيته ويراجعها، وليس المراد أن يترك
العمل بالكلية خوف الرياء، بل المطلوب أن يأتي بالعمل بإخلاص. قيل لنافع بن
جبير:» ألا تشهد الجنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي، قال: ففكر هُنَيَّة، ثم قال:
امض « [77] .
5 - الاستعانة بالله: وذلك بأن يظهر العبد افتقاره إلى الله عز وجل، ويكثر
من الدعاء والتوسل إليه تعالى بأن يوفقه للإخلاص؛ إذ هو سبحانه مقلب القلوب
ومصرفها، فالاستعانة بجنابه هي الطريق القويم لتحصيل الإخلاص ودفع ضده،
ولذا فرض الله على العبد أن يردد في اليوم الواحد مراراً: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) أي: نعبدك وحدك، ونستعين بك على عبادتك؛ إذ لا
حول لنا ولا قوة على فعل ذلك إلا بك. ولدور الاستعانة العظيم في تحقيق
الإخلاص ومفارقة الشرك جاء في الكتاب العزيز من دعاء إبراهيم الخليل - عليه
السلام -: [وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ] (إبراهيم: 35) ؛ أي: يا الله!
باعدني وبنيَّ عن جانب الشرك، واجعلنا من أهل الإخلاص والتوحيد [78] .
وجاء عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تعليمنا الاستعاذة بالله والاحتماء
به؛ فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال:» خطبنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ذات يوم فقال: أيها الناس! اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب
النمل. فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا
رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه،
ونستغفرك لما لا نعلم « [79] . فأكثر من الاستعانة، وألح في الطلب؛ فإن من
يكرر الطَّرْق ويشتد فيه يوشك أن يلج.
6 - الإكثار من الطاعات: مراد الشيطان من العبد أن يترك الطاعة بالكلية أو
أن يأتي بها على غير وجهها» نية أو كيفية «، فإذا عرف الشيطان أن العبد
يراغمه ولا يطيعه، وأنه متى أحدث له وسوسة زاد العبد من تعبده وإخلاصه
ومتابعته، فإنه يكف عنه لكي لا يكون ذلك سبباً في زيادة حسناته، قال الحسن
البصري:» إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله ملَّك ورفضك، وإذا
كنت مرة هكذا، ومرة هكذا طمع فيك « [80] ، و» يروى عن الفضيل بن غزوان
أنه قيل له: فلان يذكرك أي بسوء فقال: والله لأغيظن من أَمَره، قيل له: ومن
أَمَره؟ قال: الشيطان، اللهم اغفر له « [81] .
7 - ترك الإعجاب بالنفس والمبالاة بالخلق: من أعظم مداخل الشيطان على
العبد دفعه له ليرى عمله ويعجب به، ويطالع المخلوقين أثناء فعله. فأما العجب
بالعمل فمن باب الإشراك بالنفس [82] ، وهو ناتج من استعظام العمل، ولذا فكأن
المعجب بعمله مانّ على الله تعالى بفعله، وهو بذلك ينسى نعمته سبحانه عليه
بتوفيقه له لفعل الطاعات. قال تعالى: [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ
إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (الحجرات:
17) ، وهو أمر محبط للعمل. وعلاجه: أن يستحضر منة الله عليه في كل شيء؛
فهو خالقه وممده بالقوى ومعلمه وموفقه ... فماذا للعبد من هذا؟! وأما مطالعة
المخلوقين والاهتمام بنظرهم، وحب حمدهم وكراهية ذمهم في الطاعات؛ فمن باب
الإشراك بالخلق [83] . وداعي النفس إليه قوي؛ إذ النفوس مجبولة على حب أن
يكون لها منزلة في قلوب الخلق [84] .
وطريق العبد لتجاوز ذلك: تذكُّر قوله صلى الله عليه وسلم:» واعلم أن
الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو
اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت
الأقلام، وجفت الصحف « [85] .
ومما يبين أن مدح الناس وذمهم لا يغني العبد من الله شيئاً أن الأقرع بن
حابس لما نادى من وراء حجرة النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: إن مدحي زَيْن
وذمي شين، رد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:» ذاك الله « [86] .
قال ابن القيم:» لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والطمع فيما
عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب
الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء
فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في
الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص « [87] ، فمراءاة الآخرين والاهتمام بنظرهم لا
تجلب للعبد نفعاً ولا تدفع عنه ضراً، بل إنها تجلب مقت الناس وسخطهم، كما قال
صلى الله عليه وسلم:» من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به « [88] .
8 - مصاحبة الأخيار: الصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده، فـ
» الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا
يدري « [89] ، فمن جالس المخلصين تحرك الإخلاص لديه، ومن خالط أهل
الرياء والسمعة تأثر بهم.
9 - التأسي بالمخلصين: المحاكاة الواعية هي الأسلوب الأمثل لإعادة تحقيق
ما نجح الآخرون في فعله على نحو دقيق؛ فالقدوة الحسنة مثال حي يثير في النفس
التقدير والمحبة، ويقنعها بإمكانية الوصول للكمال، ويحفزها للعمل على بلوغه
[90] . وسبيل معرفة إخلاص المخلصين مطالعة سيرهم والنظر في تراجمهم؛ إذ
فيها هدي القوم وسمتهم، قال أبو حنيفة:» الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب
إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم « [91] ، ومن قرأ في سيرة
النبي صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان رأى من صور
الإخلاص ما يبهر اللب ويشعل جذوة الإيمان.
10 - اتخاذ الإخلاص هدفاً: كثيرون هم أولئك الراغبون في الإخلاص،
لكنِ المخلصون منهم قلة؛ ذلك أن رغبتهم تلك لم تتخذ هدفاً، فتترجم إلى ممارسة
وعمل، فإذا أردت أن تكون مخلصاً فاجعل الإخلاص هدفك الذي تريده وتتجه إليه
دوماً، ثم عليك أن تقرر استعدادك لدفع ثمن تحقيق ذلك الإخلاص وتحويله إلى
سلوك معاش في حياتك، وبادر إلى دفع ذلك الثمن فعلاً، كأن تقطع الطمع عما في
أيدي الناس، وتترك التعلق بالدنيا واتخاذها غرضاً، وتكبح جماح نفسك وطمعها
الشديد في الحصول على حمد الناس وثنائهم؛ لأن من فعل ذلك فسيكون إن شاء الله
من القلة التي نهضت بالعمل مقابل تلك الكثرة التي تكتفي فقط بالإرادة والتكلم [92] .
__________
(1) أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، للحداد: 1/160.
(2) انظر: الإخلاص والشرك الأصغر، د / العبد اللطيف: 4.
(3) بدائع الفوائد، لابن القيم: 3/192، وانظر: 3/ 187 193.
(4) قرئ في السبعة بفتح لام (المخلَصين) ، وتأويلها: (إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوتنا) ، وقرئ بكسر اللام، وتأويلها: (إن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا فلم يشركوا بنا شيئاً، ولم يعبدوا شيئاً غيرنا) ، انظر: جامع البيان، للطبري: 16/49 - 50، المحرر الوجيز، لابن عطية: 8/281.
(5) انظر: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة: 1/ 160 - 161.
(6) مدارج السالكين، لابن القيم: 2/ 90.
(7) أخرجه مسلم (2985) .
(8) أخرجه أبو داود (3664) ، وصححه الألباني.
(9) الفوائد، لابن القيم: 67.
(10) انظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: 2 / 208، المصباح المنير، للفيومي: 94.
(11) الرسالة القشيرية: 2/ 443.
(12) مقاصد المكلفين، للأشقر: 409.
(13) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي: 1/ 317.
(14) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/ 84.
(15) المرجع السابق: 1/ 70.
(16) الروح، لابن القيم: 392.
(17) أخرجه الترمذي (2140) وحسنه.
(18) أخرجه البخاري (6617) .
(19) قرئ في السبعة بكسر لام (المخلِصين) وفتحها، فالمعنى على القراءة الأولى: إلا الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد، وعلى الثانية: إلا الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده، ومن كان مخلِصاً فهو مخلَص ولا بد.
(20) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: 360.
(21) أخرجه النسائي (3140) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1856) .
(22) أخرجه ابن ماجه (4203) ، وحسنه الألباني.
(23) أخرجه البخاري (99) .
(24) تعليقات ابن القيم على سنن أبي داود - مطبوع مع مختصر المنذري ومعالم الخطابي -: 7/ 134.
(25) الدين الخالص، لصديق خان: 2/ 307 - 308.
(26) أخرجه أحمد (16296) وابن ماجه (3056) ، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/182) .
(27) التمهيد، لابن عبد البر: 21/277.
(28) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 8/ 400.
(29) منهاج السنة، لابن تيمية: 6 / 218 - 222.
(30) مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 1/ 82.
(31) أخرجه مسلم (1905) .
(32) أخرجه ابن ماجه، (254) ، وهو حديث صحيح.
(33) أخرجه البغوي في شرح السنة (4135) ، وإسناده قوي.
(34) أخرجه النسائي (3178) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/669) .
(35) صحيح ابن حبان (405) ، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
(36) الرائد، للفريح: 1/ 34.
(37) السنن الكبرى، للبيهقي: 10/150.
(38) إعلام الموقعين، لابن القيم: 2/ 178.
(39) أخرجه أحمد (6800) ، وصحح إسناده محققو المسند (11/57) .
(40) أخرجه ابن ماجه (4105) ، وهو حديث صحيح.
(41) إعلام الموقعين (2/180) .
(42) أخرجه مسلم (1006) .
(43) أخرجه البخاري - 56 -.
(44) انظر: شرح مسلم للنووي 11/112.
(45) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/460.
(46) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/ 70.
(47) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/ 71.
(48) أخرجه مسلم (1905) ، وانظر: الرائد للفريح: 1/ 36 - 37.
(49) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/ 296.
(50) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/ 296.
(51) أخرجه البخاري (2839) ، وانظر: الرائد للفريح: 1 /38.
(52) مسلم (1911) ، وانظر: الرائد للفريح: 1/ 38.
(53) أخرجه النسائي: 3/ 258، وانظر: صحيح سنن النسائي للألباني (1685) .
(54) أخرجه مسلم (1909) .
(55) أخرجه ابن ماجه (4228) ، وانظر: صحيح سنن ابن ماجه (3406) .
(56) أخرجه البخاري (1421) ، ومسلم (1022) ، واللفظ له، وانظر: فتح الباري، لابن حجر: 3/ 341.
(57) أخرجه البخاري (2272) ومسلم (2743) .
(58) أخرجه النسائي (4067) ، وهو حديث صحيح.
(59) قرئ في السبعة بكسر لام (المخلِصين) وفتحها، والمعنى على قراءة الكسر: إلا الذين أخلصوا لك في العمل، وعلى قراءة الفتح: إلا الذين أخلصتهم وطهرتهم، وإنما استثناهم لأنه علم أن كيده ووسوته لا تعمل فيهم لأنهم لا يقبلون منه، انظر: فتح البيان، لصديق خان: 7/170، التحرير والتنوير، لابن عاشور: 14/51.
(60) انظر: جامع البيان، للطبري: 17/ 103.
(61) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 9/ 341.
(62) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/ 216 - 217.
(63) مدارج السالكين، لابن القيم: 2/ 92.
(64) انظر: صفة الصفوة، لابن الجوزي: 4/ 122.
(65) الفوائد، لابن القيم: 277.
(66) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 3/ 362 - 363.
(67) قرئ في السبعة بكسر لام (المخلصين) وفتحها، والمعنى على الأولى أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله، وعلى الثانية: أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة، وقد كان عليه السلام مخلصاً مستخلَصاً، انظر: فتح البيان، لصديق خان: 6/ 215 - 216.
(68) إغاثة اللهفان، لابن القيم: 1/ 47.
(69) مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 1/ 72.
(70) زاد المعاد، لابن القيم: 4/ 268.
(71) الفوائد، لابن القيم: 122 - 123.
(72) انظر: الإخلاص والشرك الأصغر، د / العبد اللطيف: 14.
(73) حلية الأولياء، للأصفهاني: 3/ 70.
(74) المدخل، لابن الحاج: 1/ 5.
(75) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 9 / 17.
(76) جامع البيان، للطبري: 3/ 70.
(77) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/ 70.
(78) انظر: فتح البيان، لصديق خان: 7/ 122.
(79) أخرجه أحمد في المسند (19606) ، وقال محققوه: (إسناده ضعيف لجهالة أبي علي الكاهلي) ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب - 33 -، وصححه في صحيح الجامع (3731) .
(80) الزهد، لابن المبارك: 7.
(81) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/ 314.
(82) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/277.
(83) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/ 277.
(84) انظر: مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: 211، الإخلاص، للأشقر: 96 - 97.
(85) أخرجه الترمذي (2516) ، وصححه الألباني.
(86) أخرجه أحمد (15561) ، والترمذي (3267) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 107) .
(87) الفوائد، لابن القيم: 218.
(88) أخرجه البخاري (6499) .
(89) تحفة الأحوذي، للمباركفوري: 9/ 49.
(90) انظر: القدوة، لابن حميد: 10 - 11، القدوة على طريق الدعوة، لمصطفى مشهور: 31.
(91) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر: 1/ 509 رقم (819) .
(92) انظر: قدرات غير محدودة، لروبينز: 27.(181/20)
دراسات تربوية
الغضب..
مخاطره وآثاره وعلاجه
عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين [*]
* أهمية الموضوع:
سرعة الغَضَب آفة خطيرة يفقد المرء فيها السيطرة على نفسه، وربما اعتدى
على غيره بلسانه أو بيده، فيندم بعد ذلك، ويعتذر لما بدر منه تجاه غيره، وكان
في غنى عن ذلك بتحكمه في انفعال الغضب.
والغضب (فسيولوجي وسيكيولوجي) ، بمعنى أنه عضوي نفسي في وقت
واحد، ألا ترى الانفعال النفساني يصحبه ثورة دموية، تغلي غلياناً شديداً في
مراجل الصدر، وترتفع بها حرارة الجسم، وربما تحدث أشياء غير متوازنة في
قول أو فعل؟ [1] .
والسبب في ذلك أن في «الغدَّتين الكظريتين هرمون» الأدرينالين «الذي
يؤثر على الكبد ويجعله أقدر على بذل المجهود العضلي للدفاع عن النفس، وإن
زيادة الطاقة في الجسم أثناء انفعال الغضب يجعل الإنسان أكثر استعداداً وتهيؤاً
للاعتداء البدني على من يثير غضبه» [2] .
وأود التأكيد على أن سرعة الغضب رذيلة شريرة إذا استشرت في مجتمع
قوضت بنيانه، وهدمت أركانه، وأصبح المجتمع في بلاء جسيم، وإلا فبماذا نفسر
تفكك المجتمعات المسلمة، واندثار آدابها وأخلاقها، وانتشار العداوة، وفشو الشقاق،
وتقطع العلاقات على كافة الأصعدة سواء العلاقات الأسرية، أم العلاقات الأخوية،
أم العلاقات الرسمية وغيرها.
ومما لا شك فيه أن للطباع أثراً في سلوكيات الناس في سرعة الغضب أو قلته،
ولكن بمجاهدة النفس وضبطها واكتساب الفضائل الحميدة تسلم من الوقوع في
سوءات الغضب ومصائبه (إنما الحلم بالتحلم) ، ومن الأهمية بمكان التحكم في
انفعال الغضب [3] كما يأتي بيان ذلك من خلال الأمور التالية: تعريف الغضب،
ودرجاته، ومخاطره، وآثاره، وأسبابه، وعلاجه.
أ - تعريف الغضب لغةً واصطلاحاً:
الغَضَبُ: لغةً: غَضِبَ يَغْضَبُ غَضَباً، قال ابن فارس: «الغين والضاد
والباء أصل صحيح يدل على شدة وقوة. يقال: إن الغَضْبة: الصخرة، ومنه
اشْتُقَّ الغضب، لأنه اشتداد السُّخط» [4] .
وفي الاصطلاح: عرفه الجرجاني بأنه: «تغير يحصل عند غليان دم القلب
ليحصل عنه التشفي للصدر» [5] ، وعرفه الراغب: «ثوران القلب إرادة الانتقام»
[6] ، وعرفه الغزالي: «غليان دم القلب بطلب الانتقام» [7] .
ب - درجات الغضب:
يتفاوت الناس في طريقة تعاملهم مع الآخرين في حياتهم اليومية، ومعالجة
المثيرات التي يواجهونها «فمنهم من تستخفه التوافه، فَيَسْتَحْمِق على عجل،
ومنهم من تستفزه الشدائد فَيُبْقِي على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره وسجاحة
خلقه» [8] [9] .
وينقسم الغضب إلى درجات ثلاث هي: التفريط، والإفراط، والاعتدال [10] ،
ونأتي إلى بيان كل درجة منها بإيجاز:
أولاً: التفريط:
وهو أن يفقد قوة الغضب أو ضعفها، وهذا مذموم، وهو الذي يقال فيه: إنه
لا حَمِيَّة له، ولذلك قال الشافعي: «من استُغْضِبَ فلم يغضبْ فهو حمار» ، فهذا
قد فَقَدَ معنى الغَيْرَة والعِزَّة، ورضي بقلة الأنفة واحتمال الذل.
ثانياً: الإفراط:
وهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا
يبقى للمرء معها بصيرة، ولا نظر، ولا فكرة، ولا اختيار، وسبب غلبته أمور
غريزية، وأمور اعتيادية.
ثالثاً: الاعتدال:
وهو الغضب المحمود، بأن ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعثَ حيث تجبُ
الحَمِيَّةُ، وينطفئُ حيث يَحْسُنُ الحلمُ وحفظُهُ على حد الاعتدال والاستقامة التي كلف
الله تعالى بها عباده وهو الوسط.
والغضب المحمود هو ما كان دفعاً للأذى في الدين أو العرض أو المال له أو
لغيره، وانتقاماً ممن عصى الله ورسوله، وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه
وسلم، فإنه لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله تعالى غضب لذلك، كما
وصفت عائشة - رضي الله عنها - النبي صلى الله عليه وسلم: «وما انتقم
رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك حرمة الله،
فينتقم بها لله» [11] .
ج - مخاطر الغضب:
الغضب شعلة نار مستكنة في طي الفؤاد، استكنان الجمر تحت الرماد،
وربما جمع الغضبُ الشرَّ كله، وربما أدى إلى الموت باختناق حرارة القلب فيه،
وربما كان سبباً لأمراض خطيرة، ناهيك عن لواحقه: مقت الأصدقاء، وشماتة
الأعداء، استهزاء الحساد والأراذل من الناس.
ولا أدل على خطورة الغضب من وصية النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل
جاء إليه يطلب أن يوصيه، فقال صلى الله عليه وسلم له: «لا تغضب فردد
مراراً قال: لا تغضب» [12] ، وفي رواية: «علمني شيئاً ولا تكثر عليَّ لعلي
أعيه، قال صلى الله عليه وسلم: لا تغضب فردد ذلك مراراً، كل ذلك يقول: لا
تغضب» [13] . وقوله لمن استوصاه: لا تغضب يحتمل أمرين:
الأول: أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق: من الكرم
والسخاء، والحلم، والتواضع، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإن النفس إذا
تخلقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول
أسبابه.
والثاني: أن يكون المراد ألا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد
نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان
كالآمر والناهي له، وفي وصية عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري
- رضي الله عنه -: «لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان» [14] ، وروي عن
بعض السلف: «أقرب ما يكون العبد من غضب الله عز وجل إذا غضب» .
وقال بعض العلماء: خلق الله الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان، فمهما
قصد أو نُوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب، وثارت حتى يحمر الوجه
والعينان من الدم « [15] . وصدق من قال:» الغضب ريح تهب على سراج العقل
فتطفئه «.
كما أن للغضب مخاطر صحية؛ فكثرة الانفعال تسبب الإصابة بالأمراض
البدنية، وكثرة الغضب تجعل الإنسان مشدود الأعصاب مرتعش المشاعر، وتؤول
به إلى تفكك العلاقات الإنسانية.
د - آثار الغضب:
للغضب آثار عديدة نوجز الإشارة إلى أبرزها:
- الحقد في القلب.
- الحسد والبغضاء بين الناس.
- الشتم والسب والفحش في القول.
- الخصومة والعداوة والشقاق.
- طلاق الزوجة الذي يعقبه الندم.
- الضرب والاعتداء الذي ربما يؤول إلى القتل.
- الدعاء على نفسه أو أهله أو أولاده أو ماله؛ فإنه ربما يوافق ساعة إجابة
فيستجاب له.
- الأيْمان والقسم، وإذا أقسم الغضبان على شيء انعقدت يمينه، وفيها الكفارة كما
قال أهل العلم [16] .
- ربما ارتقى الغضب إلى درجة الكفر، كما حصل لجبلة بن الأيهم.
هـ - أسباب الغضب:
هناك أسباب عديدة للغضب، نذكر منها ما يلي:
الزَّهو (الكِبْر) ، والعُجْبُ، والمزاح، والهَزْلُ، والهُزء، والتعيير، وحب
الدنيا، وربما كان تسمية الغضب عند بعض السفهاء بأنه قوة وشجاعة ورجولة وهم
بهذا يستسيغونه فيصبح مدحاً لصاحبه! وعموماً فأسباب الغضب كثيرة ومتفاوتة من
شخص لآخر؛ فمن الناس من يغضب لأتفه الأسباب، وعلى المرء أن يهدئ نفسه
دوماً، ويبتعد عما يغضبه حفاظاً على دينه ونفسه.
و علاج الغضب:
لا خَلاصَ من الغضب مع بقاء الأسباب، وعلاج الغضب بإزالة هذه الأسباب
بأضدادها؛ فعلاج الزهو بالتواضع، وعلاج العُجب بمعرفة النفس، وعلاج المزاح
بتركه، وعلاج الهزل بالجد في الأمور، وعلاج التعيير بالحذر من القول القبيح،
وعلاج حب الدنيا بالقناعة.
ومن الأمور المهمة في علاج الغضب ما يأتي:
1 - ذكر الله عز وجل: فيكون ذلك مدعاة إلى الخوف منه، وبعثه الخوف
منه على الطاعة له؛ فعند ذلك يزول الغضب [17] ، قال تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا
نَسِيت] (الكهف: 24) قال عكرمة: إذا غضبت. والآيات في هذا كثيرة منها
قوله تعالى: [وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (آل
عمران: 134) ، وقوله: [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ]
(الأعراف: 199) .
2 - تفكر المرء في النصوص الواردة في فضل كظم الغيظ، والعفو،
والحلم: جاء في حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله!
دلني على عمل يدخلني الجنة! قال صلى الله عليه وسلم:» لا تغضب؛ ولك
الجنة « [18] .
3 - تخويف النفس من عقاب الله عز وجل: وهو أن يقول: قدرة الله تعالى
عليَّ أعظم من قدرتي على هذا الإنسان؛ فلو أمضيت فيه غضبي لم آمن أن يُمضي
الله تعالى غضبه عليَّ يوم القيامة.
4 - تحذير النفس من عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو للمقابلة [19] .
5 - الاستعاذة بالله العظيم من الشيطان الرجيم، كما في حديث سليمان بن
صرد - رضي الله عنه - قال: استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم،
ونحن عنده جلوس، وأحدهما يَسبُّ صاحبَهُ مُغضَباً قد احمر وجههُ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم:» إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم «فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقوله النبي صلى الله
عليه وسلم؟ قال: إني لست بمجنون؟ [20] .
6 - التحكم في انفعال الغضب، وبذلك يحتفظ المرء بقدرته على التفكير
السليم، وإصدار الأحكام الصحيحة.
7 - تحول الغاضب عن الحال التي يكون عليها؛ فإن كان قائماً جلس، وإن
كان جالساً اضطجع، وعليه أن يتوضأ أو يستنشق الماء.
8 - الصمت، وهو علاج ناجع للغضب أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله:» إذا غضب أحدكم فليسكت « [21] ، ولأن الغضبان يصدر منه في حال
غضبه من القول كثير من السباب وغير ذلك من الأضرار مما يندم عليه في حال
زوال غضبه، فإذا سكت زال هذا الشر، وكما قيل: إذا غضبت فأمسك.
9 - تذكر الغاضب ما يؤول إليه الغضب من الندم ومذمة الانتقام.
10 - تذكر ثواب العفو وحسن الصفح، وهو بهذا يقهر نفسه عن الغضب،
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:» ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك
نفسه عند الغضب « [22] ، وقد أحسن القائل: لا يُعرفُ الحلمُ إلا ساعَةَ الغَضَبِ.
11 - تفكر الغاضب في قبح صورته؛ فلو نظر إلى صورته في مرآة حال
غضبه لاستحى من قبح صورته واستحالة خلقته! [23] .
وأخيراً: فإن علاج الغضب بألا نكثر من الغضب في غير موضعه الصحيح،
وقد مرت معنا وصية النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجل بقوله:» لا تغضب «.
يقول ابن التين:» جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا تغضب»
خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن
يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين [24] . ولذا تجد العاقل إذا تغير حاله
من الغضب إلى الرضا، تعجب من نفسه، وقال: ليت شعري كيف اخترت تلك
الأفعال القبيحة؟ ويلحقه الندم [25] .
ونؤكد على أن الغضب من أعظم المفاسد التي تعرض للإنسان، وأن الذي
يملك نفسه عند الغضب يعد قوياً، حيث استطاع أن يقهر حظ نفسه وشيطانه،
والغضب المحمود هو ما كان لله عز وجل. ومن دعائه صلى الله عليه وسلم:
«أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا» [26] .
__________
(*) محاضر بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالإحساء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. (1) انظر: دراسات إسلامية في العلاقات الاجتماعية والدولية، الدكتور محمد عبد الله دراز، ص45.
(2) القرآن وعلم النفس، الدكتور محمد عثمان نجاتي، ص 117.
(3) إفراط الغضب تهور وجور، وتفريطه جبن ورذيلة.
(4) معجم مقاييس اللغة، باب الغين والضاد وما يثلثهما (2/219) .
(5) التعريفات، ص 209.
(6) المفردات، ص 274.
(7) إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، (3/222) .
(8) سجاحة الخلق: لينه وحسنه.
(9) خلق المسلم، لمحمد الغزالي، ص 113.
(10) انظر: إحياء علوم الدين، (2/222 - 224) .
(11) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (يسروا ولا تعسروا) ، رقم الحديث 6126.
(12) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم الحديث 6116.
(13) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في كثرة الغضب، وقال: حسن صحيح غريب، رقم الحديث 2020، وصححه الألباني في تحقيق جامع الترمذي، ص 336.
(14) أخرجه عبد الرزاق في المصنف في كتاب البيوع، باب كيف ينبغي للقاضي أن يكون (8/300) .
(15) فتح الباري، (10/520) .
(16) انظر: جامع العلوم والحكم، (1/294) .
(17) موسوعة نضرة النعيم في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم (11/ 507) .
(18) رواه الطبراني (2/261 - 264) .
(19) انظر: إحياء علوم الدين (3/329) .
(20) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم الحديث 6115.
(21) مسند أحمد، 2029، من حديث ابن عباس.
(22) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم الحديث 6114.
(23) انظر: إحياء علوم الدين (3/329) ، وفتح الباري (10/520) .
(24) فتح الباري (10/520) .
(25) انظر: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، لابن مسكويه، ص 140.
(26) رواه النسائي في كتاب السهو، باب الدعاء بعد ذكر الصلاة، رقم الحديث 1305.(181/28)
دراسات تربوية
أيها الدعاة
رمضان لكم قبل غيركم!
عثمان بن عطية المزمومي
يمر بنا رمضان كل عام، فلا يجد فيه كثير من الدعاة والمصلحين المعين
الذي يجدد الإيمان في قلوبهم ويعينهم على مواصلة ما نذروا أنفسهم للقيام به من
دعوة وإرشاد وتربية للناس على مفاهيم هذا الدين، وتعليمهم ما يحتاجون إليه في
أمر دينهم.
إن رمضان الذي مرَّ على الأمة سابقاً، وأثّرَ فيها تأثيراً عميقاً ولا نجد له
مثيلاً في حياتنا هو رمضان نفسه.
والقرآن الذي تلاه سلفنا الصالح وحرّك كوامن الإيمان في قلوبهم وملأها
بالخوف والخشية هو القرآن الذي نقلبه بين أيدينا في عصرنا هذا، فلماذا تغيرت
أحوالنا عن أحوالهم؟ وما هو الخلل الذي حدث في حياتنا؟
إننا حين نقف مع هذه الظاهرة الخطيرة في نفوس الدعاة والمصلحين نلحظ
الأسباب التالية:
أولاً: خطأ كثير من الدعاة في تغليب الاهتمام بالآخرين على حساب الاهتمام
بالنفس، والفهم الخاطئ للنصوص التي جاءت مرغبة للخير في هذا الشهر.
ومن تلك النصوص:
1 - «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون
في رمضان» [1] ؛ حيث يفهم الكثير من هذا النص أن من أنواع الجود التي يمكن
أن يقدمها الداعية الجود بالوقت في تعليم الناس وتوجيههم، والتفرغ لهم «كما هو
معروف من أنواع الجود المختلفة» .
وهذا فهم فيه شيءٌ من الصحة، ولكن لا يعني بالضرورة الجود بالوقت كله
للآخرين وإهمال النفس؛ لأن النفس الجزء الأكبر من الجود بشغلها بالطاعات
والقربات لتطهر ولتتزكى، وخصوصاً أنها هي مصدر الجود الذي يراد بذله
للآخرين.
ومن هذه النصوص:
2 - «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت
الشياطين» [2] .
حيث يفهم بعضنا من هذا النص أن نفوس الناس يحصل لها من التهيؤ لتقبل
الخير في رمضان ما لا يحصل في غيره؛ وذلك لأن الشياطين تُصفد فلا تخلص
إلى ما كانت تخلص إليه في غير رمضان. وهذه بالطبع فرصة سانحة لزيادة
التأثير على الناس وترقيق قلوبهم وربطها بالله تعالى. وهذا فهم صائب، ولكن
الخطأ عدم الموازنة بين الأمور وعدم تقديم الأولويات؛ فالنفس هي أحق من
تُقتنص لها الفرص لتعبيدها وتذليلها وتعويدها على جوانب العبادة المختلفة.
ثانياً: نسيان كثير من المصلحين أن النفوس العاجزة عن التأثير في ذاتها
وقصرها على جوانب العبادة المختلفة ستكون أشد عجزاً عن التأثير في الآخرين
وغرس المبادئ والقيم الخيّرة في نفوسهم، وهذا هو مضمون العبارة التي تقول:
«فاقد الشيء لا يعطيه» .
- إذ كيف يوصل الإيمان للقلوب ويعلقها بالله قلب مقطوع عن الله؟
- وكيف يرقق القلوب ويغذيها بالخوف والخشية قلب قاسٍ لم يتمرغ في طاعة
الله، ولم تدمع عين صاحبه من خشية الله، ولم تتغذَّ روحه بالصلاة والقيام وتلاوة
القرآن؟
ثالثاً: الغفلة عن حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الدعاة،
وعن حال السلف الصالح.
- فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم: «كان ينزل عليه جبريل في رمضان
كل ليلة فيعارضه القرآن» [3] ، متفق عليه بلفظ «فيدارسه القرآن» .
- وكان صلى الله عليه وسلم «إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشدَّ
المئزر» [4] .
- يقول ابن القيم: «وكان هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان
الإكثار من أنواع العبادات» .
- وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان أوقف حلقات العلم وكفَّ عن التدريس
والفتيا وقال: «هذا شهر رمضان» .
فكل هذه النصوص تعطي للدعاة درساً في وجوب الاهتمام بالنفس قبل
الاهتمام بالغير.
* يا صُنّاع الحياة!
إن اهتمامكم بأنفسكم وصلتكم بالله هي من الدعوة ذاتها؛ لأنها المعين الأول
لكم بعد توفيق الله على مواصلة جهدكم في دعوة الناس وتعليمهم وإصلاح فساد
مجتمعاتنا، والتي تحتاج إلى ثقة كبيرة بنصر الله لهذا الدين مهما بلغ حجم
الانحراف والفساد في هذه الأمة، وهذا ما تغرسه العبادة والاتصال بالله في النفوس
حتى لا تقع ضحية اليأس والإحباط من التغيير.
* وأخيراً:
لا يعني كلامي هذا أن يتفرغ الدعاة والمصلحون لأنفسهم، ويتركوا الميدان
للمفسدين والمضللين ودعاة الشر بحجة الاهتمام بالنفس قبل الغير، ولا يعني في
المقابل أن يبذلوا لهم كل أوقاتهم وجهودهم بل التوسط مطلوب في كل الأمور. فكلا
طرفي قصد الأمور ذميم؛ كما قيل. والوقت فيه مُتَّسع لهذا وذاك إذا أخلصنا النيات
وجردنا المقاصد ورتبنا أولوياتنا، واستبعدنا كثيراً من الأمور التي تُعدُّ من الترف،
أو يمكن قضاؤها بعد رمضان.
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.(181/32)
تأملات دعوية
مشكلات المجتمع بين الدعاة والآخر
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
الذين يريدون التغيير في المجتمعات يستثمرون الفرص المتاحة، وينطلقون
من حاجات الناس ومشكلاتهم.
وقد سار التيار العلماني على هذا المنوال، وأصبح ينطلق من حاجات
ومشكلات موجودة في مجتمعات المسلمين، ويستثمر هذه الحاجات في المطالبة
بالتغيير؛ فيبدو حينئذ للناس بمظهر الغيور على المجتمع، والساعي للإصلاح،
فتلامس مطالبه واقع الناس، ويشعرون بحرصه على مصالحهم.
ومن أمثلة ما يثيره هؤلاء: مشكلة الأقليات الدينية والمذهبية في بلاد
المسلمين، والتعامل التجاري مع غير المسلمين، ومخرجات التعليم، والتعليم
الشرعي وصلته بسوق العمل، وتمويل المشروعات الاقتصادية. ومشكلات تتعلق
بالمرأة كتعليمها والحاجة إلى التوسع فيه، والحالة الاقتصادية للأسرة التي تتطلب
أن تشارك المرأة في تحمل التكاليف، والمشكلات التي تعاني منها المرأة العاملة
المتعلقة بالتنقل أو السفر إلى أماكن العمل ... ونحو ذلك.
ويدرك الغيورون الناصحون سوء مسلك طائفة من هؤلاء؛ فيشعرون أن من
واجبهم الشرعي إنكار المنكر، والدفاع عن مجتمعاتهم، والوقوف في وجه المفسدين،
فيسعون إلى التصدي لطروحاتهم والمحافظة على سمت المجتمع.
ويصاحب هذه الجهود المشكورة أمور تحتاج إلى تأمل ومراجعة؛ فسلامة
نوايانا لا تعفينا من السعي إلى سلوك الأسلوب الصحيح في التعامل مع هذه
المشكلات.
إننا بحاجة ماسة إلى مراجعة أسلوبنا في التعامل مع مشكلات المجتمع، ومما
يجدر بنا أن نراعيه ما يلي:
1 - الاعتراف بالمشكلات الحقيقية الموجودة في مجتمعاتنا، وإن كان ذلك لا
يتفق مع ما نحب، وتعويد أنفسنا على أن نفهم الأمور كما هي لا كما نريد.
وقد نرى من المصلحة تلافي الحديث الصريح عن بعض ما قد يسيء الناس
فهمه وينزلونه على غير منزلته، أو ما يؤدي إلى استغلال دعاة السوء له؛ لكن
ذلك لا ينبغي أن يدعونا إلى نقل هذا التحفظ إلى نقاش أصل المشكلة حتى في
الحوارات الشخصية والمجالس الخاصة. بل قد يتجاوز الأمر مجرد التحفظ على
الصراحة في نقاش المشكلة إلى التصريح بإنكارها في الخطاب العام، وأن ما يثيره
الآخر مجرد ضحك على الناس وليس له وجود.
2 - التعامل الواقعي مع حاجات الناس والاعتراف بها، وإن كان الآخر قد
يوظفها توظيفاً سيئاً؛ فمن المكابرة أن ننكر حاجة الأسر إلى تعزيز مصادر الدخل،
وحاجة الناس إلى قدر من الترفيه المباح.... إلخ، وقد راعى الفقهاء هذا الأمر
فنزلوا الحاجة العامة منزلة الضرورة، ورُخِّص فيها ما لا يُرخَّص في غيرها.
وفرق بين ما نختاره لأنفسنا من تورع وبُعد عن الشبهات، وبين ما نلزم
الناس به، وفرق بين حاجتنا وحاجات الآخرين؛ فأُسَرُنا بمشكلاتها وحاجاتها لا
تمثل بالضرورة المجتمع بأسره.
3 - الاعتناء بالمنهج العلمي في فهم الظواهر الاجتماعية والتعامل معها،
وحين لا نفهم ظاهرة فلنستعن بالمتخصصين فيها؛ فغيرتنا وشعورنا بالمسؤولية
الدعوية لا يكفي وحده لفهم كل شيء أو تأهيلنا للحديث عن كل مشكلة.
4 - البعد عن الحديث عن نوايا الآخر ومقاصده في الإفساد؛ فالنوايا لا
يعلمها إلا الله تعالى، وما يبدو لنا من قرائن قد لا يبدو للناس، وقد لا يكفي في
إقناعهم. والنقاش الموضوعي للقضايا المثارة أوْلى وأكثر إقناعاً للناس وبناء لهم.
5 - الاعتناء بتقديم البديل واقتراح الحلول لمشكلات الناس؛ فالشرع لم يحرم
على الناس ما يحتاجون إليه إلا حين تكون مفسدته أعظم، ومع ذلك ففي المباح ما
يغني عن الحرام، وليس صحيحاً ألا يعرف المجتمع عنا إلا أننا نقول «لا» دوماً،
وأننا نقف وقفة المتوجس من كل جديد.(181/34)
البيان الأدبي
رشفات من اللغة
المحرر الأدبي
* تنبيه:
نشكر الإخوة الأدباء واللغويين على حرصهم وتجاوبهم، ونأمل أن يراعي
المشاركون ما يأتي:
1 - أن تكون المشاركة بالعربية الفصحى.
2 - ألا تزيد القصيدة على 20 - 25 بيتاً.
3 - ألا تزيد القصة على 1 - 1.5 صفحة.
4 - ذكر اسم صاحب المشاركة، وعنوانه وهاتفه.
5 - تنوع المشاركات ما بين قصيدة، وقصة، ومقامة، ومقالة، ودراسة ونقد.
* فضل العربية:
قال الإمام الشافعي: «لسانُ العربِ أوسعُ الألسنة مَذْهباً، وأكثرها ألفاظاً،
ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسانٌ غير نبي» [1] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «اللسانُ العربي شعارُ الإسلامِ
وأهلِه، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميَّزون» [2] .
وقال التابعي الجليل قتادة: «لا أسأل عن عقل رجلٍ لم يدله عقلُه على أن
يتعلم من العربية ما يصلُح به لسانُه» [3] .
وقال كارل نليتو (المستعرب) : «اللغةُ العربية تفوق سائر لغات العالم
رونقاً وغنى، ويعجز اللسانُ عن وَصْفِ محاسنها» [4] .
* فصيح لا عامي:
هذه كلمات فصيحة، قد يُظن أنها عامية:
- حَطَّ الشيءَ = وَضَعَه.
- تَمَلَّصَ = تخلَّص.
- حُرْمة = امرأة.
- حراميّ = لص.
- أسامي = جمع أسماءٍ.
- استوى الطعامُ = نَضِج.
- جِلْف = قاسٍ.
- تَفَلَ = بَصَقَ.
- تَحَلْحَلَ = تحرَّك.
- خَبَصَ = خَلَط.
* بدائل لكلمات أعجمية:
- لَمْبة = مِصْباح.
- ماسورة = أُنْبُوبْ.
- ميدالية = وِسام.
- كوبري = جِسْر.
- كندرة = حذاء.
- كوكتيل = مُشكَّل.
- طرمبة = مِضَخَّة.
- شاكوش = مِطْرقة.
- شرشف = مُلاءَة.
__________
(1) الرسالة، للشافعي، 42.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم، 203.
(3) تنبيه الألباب، لأبي بكر الشنتريني، 71.
(4) الفصحى لغة القرآن، لأنور الجندي، 301.(181/36)
نص شعري
أين العهود؟
عز الدين فرحات [*]
ماذا أخبِّرُ عن مأساةِ أمتنا؟ ... ومن يُصَدِّقُ يا قومي مآسينا؟
كنا أساتذةَ الدنيا وسادتها ... ما بالُنا اليومَ شمَّتنا العِدا فينا؟
ما لي أرانا نبيتُ اليومَ في كمدٍ ... والدمعُ يجري سَخِيناً من مآقينا؟
شيشانُ باتت ودُبُّ الروسِ يَعْصِرها ... ونارُ حقدٍ بصدر الغرب تكوينا
القدسُ نادت ومَنْ منا سيسمعها؟ ... صوتُ الخليج طغى يا قوم أفتونا!
كشميرُ صاحت، سراييفو تجاوبها ... لبنانُ تبكي وأفغانٌ تنادينا
والمسلمونَ بأرض الهند ما وجدوا ... أُذْناً لتسمعَ، أو صوتَ المعزِّينا
أنَّى التفتَّ فلن تلقى سوى مِحَنٍ ... للمسلمين ولن تلقى المداوينا
من ذا يمدُّ يداً بالعون يا وطني: ... أهلُ الصليب؟ أم الإلحادُ يحمينا؟
أين العهودُ وما يَدْعُون من سَلَمٍ؟ ... لقد أبادوا بأرضِ القُدْسِ أهلينا
خمسونَ عاماً شعاراتٌ مُزخرفةٌ ... تخدِّر الحِسَّ، تكوي في حواشينا
خمسونَ عاماً حكاياتٌ نردِّدُها: ... عن مَجْلسِ الأمن مندوبٌ سيأتينا
هم كلما جاءنا مندوبهم ومضى ... تشتد مِحْنَتُنا، يَقْوى أعادينا
يا قومُ حتى متى نلهو وتُشغلنا ... أموالُنا، وصروفُ الدهرِ تكوينا؟
يا قومُ أين (صلاحُ الدين) يُنقذنا ... من الفسادِ فيُحْيي فَخْرَ ماضينا؟
بل أين صرخة (محمودٍ) [1] ليُطلقها ... فتبعث العزمَ بالأرواح تحيينا؟
يا قومُ عودوا إلى الرحمنِ وانتبهوا: ... مَكْرُ العَدُوِّ يكادُ اليومَ يُردينا
ما من سبيلٍ سوى الرحمنِ نَقْصِده ... فهو النجاةُ لنا يمحو مآسينا
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي.
(1) هو سيف الدين قطز صاحب صيحة (وا إسلاماه) في معركة عين جالوت.(181/37)
قصة قصيرة
النزيل 19
غسان فالح شومان
كان يتميز بقدرته على التكيف والتعايش رغم كل الظروف غير المواتية، بل
إنه تدرب على ذلك في الجبال والكهوف، في الحر وفي القر، جاع أو شبع، كان
يؤمن أن من الأفضل للإنسان في ظل الاحتلال أن لا يتعود على عادة.
إلا أنه في هذا الحيز الضيق أيقن تماماً وتجريبياً أن (الحكي مش مثل
الشوف) كما كانت تردد أمه وهي توصيه بأن لا يقع في أيدي الجنود؛ آه يا أمي!
ماذا ستقولين لو تريني أجاور برازي وبولي، وتلك الشمس التي غابت حتى خيل
إليه أنها ركبت قطار عدم العودة، وذهبت هناك وراء الزمن إلى اللارجعة، حيث
تركته يصادق التقرحات والجرب وأوجاع السياط وألم الوحدة، ما أفظع أن تختلط
حدود الزمن؛ فلا ليل ولا نهار، ولا صباح ولا مساء، حتى غرفة المحقق ليس
فيها ساعة.. إنها حياة الثعابين تحت الأرض. بوابة حديدية ضخمة تحجزه عن
العالم بل عشرات البوابات التي تخفي خلفها عشرات المعتقلين.. لا هواء ولا بشر،
لا ضوء ولا ماء إلا القطرات التي تقدم مرة كل يوم بصورة مسرحية مقرفة خانقة
عبر نافذة الزنزانة، حيث يتدلى حذاء بلاستيكي يحوي القليل من الماء الذي يأنف
أن يشربه ضفدع، لقد برعوا في فن التعذيب لدرجة الإبداع، ويزيد جنونهم
إصرار المعتقلين على المقاومة، حيث تبرز عظمة الإنسان وقواه الخارقة إذا ما
استثيرت في هذه الظروف الحالكة، كاد أن يسترسل متذكراً كتاب «الإنسان وقواه
الخفية» لكولن ويلسون؛ لولا أن قطع أنينه الخافت حركة نشطة داخل ممر
الزنازين ... أقدام ثقيلة تدوس الأرض كأنها قادمة من وراء الزمن تحدث صدى
رهيباً كأنه يصطدم ويرتد من جدران الكواكب، وتلك السياط التي تهوي على
الظهور محدثة ارتطامات بالأرض يخالجها أنين متهدج ... تذكر بغلة أبي علي بائع
الحليب.
(حِي ولي) .... وهي لا تئن ولا تشتكي ... كان دائماً يراها ويتأملها ويرى
دموعها الصامتة كأنها تمثل الأغلبية الصامتة التي لا حول لها ولا قوة ... طالما
حدق فيها علَّه يجد لغة للحوار.... أما الآن فإن هؤلاء الأنذال قد منحوه شعور «أم
صابر» ، حتى تمنى أنه مكانها، إنها تأكل وتشرب وترى الشمس وتستنشق
الهواء يا ليتني أم.... أستغفر الله [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ] (الإسراء: 70) .
(أنتي ابن كهبة، كل أرب شرموت) !! ... اتلعي.
دوى صوت أقفال الباب مزمجرة كأنها وحش كاسر، واختلطت بصوت
السجان.... فرحل مع الصدى، وتذكر ليلة أن هاجم المعسكر هو وصديقاه جمعة
وحامد اللذان انتقلا إلى الدرجات العلا.
كانا أفضل منه فقدر الله لهما الراحة الأزلية وحماهما من دخول هذه المزبلة
.... لعل الله قدر عليه أن يتطهر أكثر من أرجاس اللهو أيام الجامعة....
قومي وقف ابن كهبة.
وأخذت السياط تنزل على ظهره لكنه عصي على الانكسار، لقد قهرهم في
المعسكر وأراهم الموت صليات من فوهة بركانه الآلي، لقد أمطرهم بوابل قنابله
التي حولت ليلهم إلى جهنم، وحولت سكرهم إلى بالغ الحذر والوجل، إنهم يخشون
نظراته الكاسرة رغم وجوده دون النزلاء تحت الحراسة المشددة ... إنهم يكرهون
ليلة نوبتهم إذا ما كانت عليه، إنهم يتذكرون صوته المزمجر القادم من العتمة ...
أنت احمِ ظهري ... صرخ عداس ... وتقدم كالسيل العرم جارفاً يشعل طوفان
جهنم في ثكناتهم.... لا يبقي ولا يذر ... اقشعرت من هول إقدامه كؤوسهم
وسيقانهم وتلحفوا بمومساتهم.... الله أكبر....
انفتل جمعة ... برشاشه يبذر الموت رصاصاً في مآقيهم، ويبث الرعب بفره
وكره ...
(يا نابلس يا ثائرة....
خلي المعاصر دائرة....
صبي على المستوطنات شواظ نار هادرة.....)
انضم إليه حامد بعد أن استكمل زرع عبواته الناسفة حول مستودع الذخيرة
والوقود، حيث أخذت تنفجر تباعاً محدثة دماراً شاملاً.... لقد ظنوا أن القيامة
قامت ... وأنهم على أعتاب جهنم، اشتركت الهليوكوبتر في المعركة فعبقت رائحة
الشهادة، وعلت ترانيم الموت.... من لا يعرفه منهم لا بد أنه سمع به.
دفعة قوية جعلته يترنح في الساحة الكبرى للمعتقل.. إنه في لقاء حار مع
الشمس ... أين أنت؟
خلتك لا تعودين ... وهي ساطعة صامتة ... سنة كاملة مرت على اعتقاله
كأنها عمر الأرض، صوت جبان يدعوهم للاصطفاف استعداداً لتحية العلم، ومن
بعده تبدأ مراسم الإعدامات، فجثا على ركبتيه وتبعه عوزي بصوته المخنوق من
أثر الدخان الذي ينفثه من أنفه ومن فمه، خيل إليه أنه يخرج من كل ثقوبه.....
مطا سوطه كثعبان أسود فلوحه بالهواء وهوى به على ظهره وهو يرغي ويتوعد
ويهدد بالعربية تارة وبالعبرية تارة وبالإنجليزية أخرى ...
فشرد خلف جمعة وحامد. نعم لقد تذكر أنه رآهم البارحة وهم ينتظرونه على
الغداء ... نسي العلم والسوط والجلاد.. وتعلق بصره بالسماء.... أوقفوه عنوة ...
أراد أن يموت ... بل تمنى أن يستشهد.... قابله عوزي ... فك السلاسل من يديه
ورجليه.... أحس بالحرية.. عبقت رائحة محيرة استنشق عبيرها وحده..
استجمع قوته.. حفز خلاياه توثب.. ضربة واحدة تحت الحزام كما تعلم من مدرب
الكاراتيه وإذا نجحت فقد تنقل عوزي إلى عالم الآخرة هو وسوطه..... وقد تنقله
إلى طاولة جمعة وحامد.... زم شفتيه.. أغلق قبضتيه كأنه أمام المدرب الذي
يعرف سطوته لو أخفق، ثم تفجرت رجله اليسرى مع صرخة كأنها خرجت من
بئر.
سددها أسفل البطن ... كأنه يكمل عملية اقتحام المعسكر ... لملمت روحه
أشلاءها بفرح وتركت جسده يتلوى تحت صليات البنادق.... والتحقت بالحبيبين
... رمقت عوزي.. خيل إليه أنه ركب زورق جهنم.. تفل.... رفع ذراع روحه
ملوحاً لإخوة الثورة: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] (آل عمران: 169) .
تعالت الأصوات والأنفاس.. شق زامور السجن جمال صباح النقب
الصحراوي، وأسرعت فرقة إسعاف السجن لحمل الجثتين، بينما علت الله أكبر،
ودوى صوت الغدر والرصاص.(181/38)
نص شعري
بطولة الصغار
ماجد أبابطين
بطولةٌ تجسَّدَتْ
في صبيةٍ صِغَارْ
براعمُ قد نَبَتَتْ
من بين أنقاض الأسى
والقصفِ والحصارْ..
عتادُهم ليس سوى أحجارْ
بها يسطرونْ..
دروسَ الانتصارْ
جهادُهم عبادةْ
وموتهم شهادةْ
وعزمُهُم إصرارْ
قد أقسموا بأن يصونوا المسجدا
وأن يقارعوا العِدا
في الليلِ والنِهار
بصبرهم بَنَوا لنا حضارةً مجيدةْ..
عمادها الدماءُ والأشلاءْ
عنوانها (انتفاضةْ)
من أجلِهَا شدُّوا على اليدِ اليدا
وأصبحوا لها يرددونْ:
«لكِ الحياةُ في الردى»
لكِ الحياةُ في الدمارْ..
لكِ الحياةُ كلما
تجبَّرَ الإعصارْ..
لكِ الحياةُ طالما
تشبَّهَ القرودُ بالأسُودْ،
أو لَبِسَ الأنجاسْ
ملابسَ الأطهارْ
* * *
يا إخوَةَ الصمودْ:
العالَمُ الجبانُ نَثْرٌ سامجٌ..
وأنتمُ الأشعارْ(181/39)
ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
كشف المؤتمر العالمي للتنمية المستدامة (قمة الأرض) المنعقد في
جوهانسبرج بجنوب إفريقيا عن العقلية الغربية الاستعلائية التي تسيطر على
علاقات الغرب بإفريقيا وبقية الدول الفقيرة؛ فالدول الغربية تندفع بكل استبداد
لتحقيق مصالحها، فتنتهب خيرات الشعوب، وتزدري حقوقهم الإنسانية، وتقف
بكل صلف وكبرياء أمام مشروعات التنمية والاستقلال الحضاري.
بل إن الغرب يذهب أبعد من ذلك، ويتعامل مع إفريقيا على أنها مختبر
لإجراء تجاربه وبحوثه المعملية، فبرنامج الغذاء العالمي يقدم مساعداته الغذائية
(الإنسانية!) للتخفيف من آثار المجاعة والفقر، ليكشف فيما بعد أن الأطعمة
المرسلة كانت أطعمة معدلة وراثياً، وأن فريقاً من الباحثين الغربيين بدأ بدراسة
آثارها الجانبية على الأطفال والنساء الحوامل..!!
والاتحاد الأوروبي لا يتردد بإرسال كمية من المساعدات الغذائية (الإنسانية
أيضاً!) منتهية الصلاحية، بل إن الدول الغربية تتسابق للاتفاق مع زعماء
الحرب الأفارقة لتحويل القارة الإفريقية مستنقعاً لدفن النفايات النووية.
لقد اكتوت إفريقيا بلهيب الاستعمار الغربي ردحاً طويلاً من الزمن، ثم هاهي
تذعن لاستعلائه وطغيانه، ولكن هذا الواقع لن يستمر طويلاً، فالقارة الإفريقية
أدركت حقيقة دور الرجل الأبيض.
ونحسب أنها مقبلة على تغيرات أخرى جديدة يكون الصوت الإسلامي فيها
حاضراً بقوة واعتزاز.
والحديث عن إفريقيا حديث واسع جداً؛ لكننا رأينا أن نبدأ بهذا الملف، آملين
من قرائنا المتخصصين معالجة محاور أخرى تتميماً للفائدة.
__________
محتويات الملف:
- إفريقيا و (إسرائيل) في عالم متغير - أ. د. حمدي عبد الرحمن.
- القوى الكبرى والمشروطية السياسية في إفريقيا - راوية توفيق.
- خلفيات الحروب الأهلية في إفريقيا - أ. رانيا حسين عبد الرحمن.
- الصراع في حوض النيل والقرن الإفريقي - نجلاء محمد مرعي.
- إفريقيا بين التنصير والتغريب - سالي هاني.
- من واقع العمل الإسلامي - محمد بن حمد الخميس.(181/41)
ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
إفريقيا و (إسرائيل) في عالم متغير
أ. د. حمدي عبد الرحمن [*]
* مقدمة:
لقد كانت (إسرائيل) أول دولة تفتتح سفارة لها في العاصمة الغانية أكرا بعد
أقل من شهر على حصول غانا على استقلالها عام 1957م، ومنذ ذلك الوقت
والدولة العبرية تسعى جاهدة لكسب النفوذ وتعظيم أهداف سياستها الإفريقية بأقل
تكلفة ممكنة.
فإسرائيل ليست دولة غنية بمفهوم الثراء المادي، ولكنها استطاعت من خلال
توثيق عرى التعاون الفني بينها وبين الدول الإفريقية على مدى أكثر من أربعين
عاماً أن يكون لها سفراء معتمدون في أربعين عاصمة إفريقية جنوب الصحراء.
وتحاول إسرائيل جاهدة تقويم سياستها الإفريقية؛ وذلك للاستفادة من دروس
وتجارب الماضي.
وليس بخاف أن دراسة مسيرة التغلغل الصهيوني في القارة الإفريقية تحمل
أهمية بالغة؛ وذلك لعدة اعتبارات لعل من أبرزها:
أولها: أن فرض الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط أدى إلى خلق
نظام إقليمي صراعي بحيث إنه أضحى سمة لازمة للتفاعلات العربية الإسرائيلية.
يعني ذلك أن تحرك إسرائيل في تفاعلاتها الخارجية جعلها ترتبط بهذه الوضعية
التي أخرجت علاقاتها مع دول المنطقة عن مصاف العلاقات الطبيعية بين الدول.
وثانيها: ارتباط وتأثر العلاقات الإسرائيلية الإفريقية بالعلاقات العربية
الإفريقية أدى ذلك إلى النظر إلى القارة الإفريقية باعتبارها ساحة للتنافس والصراع
بين إسرائيل والدول العربية.
وثالثها: ارتباط كل من إسرائيل والعرب والأفارقة بمتغيرات النظام الدولي؛
حيث تأثرت العلاقات بين هذه المجموعات بإرادة وتوجهات النظام الدولي سواء
القديم أو الجديد. وربما يكون التغير الهيكلي الذي شهده النظام الدولي منذ بداية
أعوام التسعينيات وأودى بحياة الحرب الباردة في غير صالح العرب والأفارقة،
وهو ما أفاد يقيناً الدولة العبرية التي راحت تعيد ترتيب أولويات حركتها الخارجية
بما يحقق لها الهيمنة الإقليمية، وأحلامها التوراتية في بناء دولة كبرى.
وتحاول هذه الدراسة تحليل أهم محددات السياسة الإسرائيلية تجاه إفريقيا؛
وذلك لبيان حقيقة الوجود الإسرائيلي في إفريقيا عبر فترات زمنية مختلفة وذلك في
محور أول. أما المحور الثاني، فإنه يركز على تطور العلاقات الإسرائيلية
الإفريقية منذ بداية التغلغل في الخمسينيات والستينيات، ومروراً بالقطيعة الإفريقية
لإسرائيل في السبعينيات، وانتهاء بالعودة الثانية لإسرائيل إلى إفريقيا وما لحق بها
من تغيرات وتحولات على مستوى الأهداف والسياسات. وأخيراً يتناول المحور
الثالث، ركائز السياسة الإسرائيلية في كسب الهيمنة والنفوذ في إفريقيا وانعكاس
ذلك على العلاقات العربية الإفريقية.
* أولاً: محددات السياسة الإسرائيلية في إفريقيا:
1- الصراع العربي الإسرائيلي [1] :
حقيق على أي دارس لتطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية أن يعترف بأهمية
ومحورية الصراع العربي الإسرائيلي في تحديد مسار هذه العلاقات؛ وذلك من
مناحٍ مختلفة:
أولاً: انعكاسات الحرب الباردة على كل من النظامين الإقليميين العربي
والإفريقي بدرجة أدت إلى استفادة إسرائيل بدرجة أكبر من غيرها من الأطراف
الإقليمية.
ثانياً: إدراك (إسرائيل) المتزايد بأهمية أفريقيا بحسبانها ساحة من ساحات
إدارة الصراع العربي الإسرائيلي؛ حيث اعترفت منذ البداية بثقل الصوت الإفريقي
في الأمم المتحدة والذي برز واضحاً في مناسبتين:
الأولى: هي قرار الأمم المتحدة الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية عام
1975م.
والثانية: هي عندما تم إلغاء القرار نفسه عام 1991م في سابقة غير متكررة
عبر تاريخ المنظمة الدولية.
ثالثاً: أن حركة المد والجزر في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية ارتبطت
بتطور الصراع العربي الإسرائيلي؛ فالمقاطعة الدبلوماسية الإفريقية لإسرائيل في
السبعينيات ومعظم سنوات الثمانينيات، ثم العودة الكاسحة لهذه العلاقات منذ بداية
التسعينيات ارتبطت بحدثين هامين في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي:
أولهما: هو حرب أكتوبر 1973م، والثاني: هو انعقاد مؤتمر مدريد للسلام
في الشرق الأوسط عام 1991م.
رابعاً: أن حالة الضعف الاستراتيجي للقارة الإفريقية من حيث عدم وجود
نظام قوي للأمن قد نظر إليها من جانب طرفي الصراع في الشرق الأوسط على أن
إفريقيا ساحة للاستقطاب وتحقيق مكاسب على حساب الطرف الآخر.
ومن الجلي أن نشير هنا إلى أن إسرائيل نظرت ومنذ البداية، وبغض النظر
عن أهدافها ومراميها الأيديولوجية والتوراتية والبراجماتية، إلى إفريقيا باعتبارها
قادرة على القيام بدور محوري في تسوية محتملة للصراع العربي الإسرائيلي؛
وذلك استناداً إلى عدد من الحقائق (وفقاً للرؤية الإسرائيلية) لعل من أبرزها [2] :
أولاً: الصداقة المتبادلة بينها وبين كل من العرب والإسرائيليين.
وثانياً: تحررها من الأبعاد النفسية والأخلاقية الخاصة بطبيعة الصراع في
الشرق الأوسط؛ وبالفعل طرحت عدة مقترحات إفريقية للوساطة بين العرب
وإسرائيل، وكان من بينها مبادرة الرئيس كوامي نكروما غير أنها باءت جميعاً
بالإخفاق.
على أن حرب 1967م مثلت تطوراً مهماً في تاريخ التنافس الإسرائيلي
العربي في إفريقيا؛ حيث نظر الأفارقة إلى إسرائيل باعتبارها قوة احتلال تحتل
أراضي دولة إفريقية. صحيح أن موقف منظمة الوحدة الإفريقية لم يكن حاسماً
بدرجة كافية، ولكنه أكد على تأييد قرار الأمم المتحدة 242 القاضي بعدم شرعية
احتلال إسرائيل للأراضي العربية. وكانت غينيا بقيادة الرئيس أحمد سيكوتوري
هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بعد
عدوان 1967م مباشرة؛ بيد أنه مع تصاعد الدعم العربي لحركات التحرر الوطني
في الجنوب الإفريقي، وخيبة أمل القادة الأفارقة من الدول الغربية لعدم مساعدتها
في تنفيذ الخطة الإفريقية الرامية إلى عزل جنوب إفريقيا والبرتغال وروديسيا فإن
الانتقاد الإفريقي للعدوان الإسرائيلي ازدادت حدته حتى وصل الأمر قبل نشوب
حرب أكتوبر 1973م إلى قطع العلاقات الدبلوماسية. ففي عام 1972م قامت
أوغندا بقطع علاقاتها مع إسرائيل، ثم تبعتها سبع دول أخرى هي: تشاد، ومالي،
والنيجر، والكونغو برازافيل، وبوروندي، وزائير، وتوجو [3] .
وإذا كانت حروب الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل قد أحدثت مزيداً من
التعقيدات في مركب العلاقات الإسرائيلية الإفريقية فكذلك فعلت مبادرات التسوية
السلمية في المنطقة. ففي أعقاب قيام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة القدس
عام 1977م وتوقيعه على اتفاقات كامب ديفيد عام 1979م بذلت محاولات عربية
دؤوبة لعزل مصر إفريقياً بيد أنها لم تنجح مطلقاً [4] .
ففي القمة الإفريقية التي عقدت في ليبيريا عام 1979م قامت ست دول عربية
أعضاء في المنظمة من بينها المغرب، والجزائر، وليبيا بمقاطعة القمة احتجاجاً
على وجود السادات.
وقد عملت إسرائيل حثيثاً على إعادة روابطها الإفريقية، وهو ما اتضح جلياً
في عودة علاقاتها مع زائير (الكونغو الديموقراطية) في 14/5/1982م؛ لأن
الأساس الذي بمقتضاه اتخذت الدول الإفريقية قرار المقاطعة لإسرائيل قد انهار بعد
تبادل السفراء بين كل من القاهرة وتل أبيب [5] .
أياً كان الأمر فإن الإدراك الإفريقي لـ (إسرائيل) باعتبارها دولة صغيرة
محدودة الموارد محاطة بأعداء من كل جانب؛ ومع ذلك استطاعت بناء نموذج
تنموي يمكن أن يحتذى قد تغير بعد احتلالها الأراضي العربية أثناء عدوان 1967م؛
بيد أن هذا الإدراك قد تغير مرة أخرى مع بدء مسيرة التسوية السلمية، وكان ذلك
مرة أخرى لصالح إسرائيل.
2- المكانة الإفريقية في المنظومة الدولية:
على الرغم من أن إفريقيا كانت قارة مجهولة بالنسبة للعاملين في وزارة
الخارجية الإسرائيلية في أعوام الخمسينيات إلا أنها لم تكن كذلك على مستوى
التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي؛ وذلك مقارنة بقارات العالم الأخرى. فأمريكا
اللاتينية مثلت دائرة نفوذ للولايات المتحدة الأمريكية، كما أن إسرائيل وجدت دعماً
ومساعدة من القوى الغربية الرئيسية في أوروبا. وهنا كان عليها في سعيها للبحث
عن الشرعية الدولية أن توجه أنظارها إلى آسيا وإفريقيا.
أما بالنسبة لآسيا فقد كانت أشبه بالقارة «المغلقة» أمامها لعدة عوامل من
بينها:
- وجود دول كبرى قطعت شوطاً كبيراً في ميدان التنمية الاقتصادية.
- وجود دول وجاليات إسلامية كبيرة وهو ما يجعلها أقرب لتأييد الموقف
العربي.
- تضاؤل فرص تسويق النموذج الإسرائيلي في التنمية في ظل وجود دول
مثل الصين واليابان والهند.
وعليه؛ فقد كانت إفريقيا التي تؤهلها مكانتها الجيو استراتيجية فضلاً عن
وجود عدد كبير من الدول بها التي تتطلع للحصول على مساعدات تنموية وتقنية
من الخارج الخيار المناسب أمام صانع القرار الإسرائيلي. هذا بالاضافة إلى قدرة
الدول الإفريقية العددية في المحافل والمؤسسات الدولية والتي تكمن أهميتها [6] في
سياق الوعي بحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، وإمكانية الاستفادة من الدور
الإفريقي في هذا المجال.
وليس أدل على هذه الأهمية من أنه عندما اجتمعت الجمعية العامة للأمم
المتحدة في منتصف يونيو 1967م في جلسة خاصة بناء على طلب الاتحاد
السوفييتي تأثر الموقف الإفريقي بدور الأطراف الخارجية، ولا سيما الولايات
المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ حيث حاول كل منهما ممارسة الضغوط لصالح القرار
الذي يتبناه. فقد طرح مشروع قرار باسم مجموعة عدم الانحياز قدمته يوغوسلافيا،
ونظر إليه على أنه موالٍ للعرب، كما طرح مشروع قرار آخر باسم مجموعة
دول أمريكا اللاتينية ونظر إليه باعتباره موالياً لإسرائيل [7] .
وبتحليل السلوك التصويتي للمجموعة الإفريقية نجد أن الدول التي ساندت
الموقف الإسرائيلي سواء بشكل حاسم أو غير حاسم تصل إلى عشرين دولة.
بيد أن هذا التوجه تغير تماماً عند مناقشة قرار الأمم المتحدة الذي يعتبر
الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية؛ حيث صوَّت لصالح القرار عشرون دولة
إفريقية من غير الأعضاء فى جامعة الدول العربية (باستثناء الصومال وموريتانيا) ،
كما عارض القرار خمس دول فقط؛ بينما امتنع عن التصويت اثنتا عشرة دولة.
وليس بخاف أن هذين المثالين يعكسان بجلاء الدور الإفريقي في الأمم المتحدة
وهو ما ظهر مرة أخرى عند إلغاء هذا القرار عام 1991م.
3 - الجاليات اليهودية في إفريقيا:
من المعلوم أن إفريقيا تحتضن بين ظهرانيها جاليات يهودية متفاوتة الأحجام
ومتباينة القوة والتأثير [8] .
ففي شمال إفريقيا جماعات من اليهود السيفارديم الذين قدموا بالأساس من
أسبانيا والبرتغال خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
أضف إلى ذلك فقد قدمت إلى إفريقيا جماعات من اليهود الإشكيناز من شمال
وشرق أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
وإذا كان حجم هذه الجاليات، خارج جمهورية جنوب إفريقيا، هو جد
متواضع إلا أن وضعها الاقتصادي في بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء مثل
كينيا يتسم بالقوة والتأثير.
ويمكن القول إن يهود الفلاشا الإثيوبيين يمثلون واحدة من أفقر الجاليات
اليهودية في العالم على الرغم من اعتقادهم الراسخ بأنهم يمثلون القبيلة المفقودة في
التاريخ الإسرائيلي.
وقد تم نقل معظم الفلاشا إلى إسرائيل جواً عبر السودان فيما عرف باسم
«العملية موسى» التي بدأت في عام 1983م ووصلت إلى ذروتها خلال الفترة من
نوفمبر 1984م وفي مارس 1985م [9] .
وبالمقابل، فإن الجالية اليهودية في جنوب إفريقيا تعد واحدة من أغنى
الجاليات اليهودية في العالم.
وطبقاً لأحد التقديرات فإن مساهمة يهود جنوب إفريقيا في خزانة الدولة
العبرية تأتي في المرتبة الثانية بعد مساهمة يهود الولايات المتحدة. بيد أنه إذا أخذنا
بعين الاعتبار حجم كل من الجاليتين فإننا نلاحظ أن تبرعات يهود جنوب إفريقيا
بالنسبة إلى كل شخص تفوق في بعض السنوات تبرعات اليهود الأمريكيين.
ولعل القضية المثيرة للاهتمام عند دراسة أوضاع الجالية اليهودية السوداء في
إسرائيل تتصل بمفهوم الهوية اليهودية السوداء، ونظرهم إلى إسرائيل باعتبارها
جزءاً من التراب الإفريقي؛ إذ كان يقطنها في الأصل شعوب إفريقية داكنة البشرة
[10] .
أياً كان الأمر فإنه لا يمكن التقليل من أهمية متغير الجاليات اليهودية في
توجيه وتخطيط العلاقات الإسرائيلية الإفريقية؛ إذ لا يخفى أن نحو 20% من
إجمالي المهاجرين اليهود إلى (إسرائيل) خلال الفترة من (1948 إلى 1995م)
هم من إفريقيا [11] .
* ثانياً: مراحل تطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية:
شهدت سياسات التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا مردودات متباينة؛ بحيث يمكن
التمييز بين خمس مراحل أساسية في تطور مسيرة العلاقات بين (إسرائيل)
وإفريقيا وهي:
المرحلة الأولى 1948 - 1957م: البحث عن شرعية الوجود وتأمين الكيان:
بعد إعلان قيام الدولة العبرية عام 1948 أوْلى صانع القرار الإسرائيلي
اهتماماً كبيراً بتأسيس علاقات قوية وراسخة مع القوى الكبرى الأساسية في العالم
مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي.
يعني ذلك أن إسرائيل في بحثها عن شرعية الوجود على الساحة الدولية
وتأمين وجودها العضوي لم تنظر إلى المستعمرات الإفريقية، بل انصب جل
اهتمامها على القوى الاستعمارية الأوروبية [12] .
ومن أبرز المؤشرات التي تؤكد هذا المنحى الإسرائيلي أن إسرائيل لم يكن
لديها بنهاية عام 1957م سوى سبع سفارات فقط في العالم بأسره، ست منها في
القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية.
ومن الجلي أن القارة الإفريقية جنوب الصحراء كانت بمثابة أراض مجهولة
incognita terra بالنسبة للعاملين في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ولم ترغب
الدول الإفريقية في إقامة علاقات مع دولة تمتلك العديد من الأعداء. لذلك كان
منطقياً ألا يوجد دبلوماسي إسرائيلي واحد مقيم شمال جوهانسبرج حتى حدوث
الانفراجة في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية مع حصول غانا على استقلالها عام
1957م. على أن نقطة التحول الأساسية التي دفعت إلى حدوث تحول كبير في
الدبلوماسية الإسرائيلية تجاه إفريقيا تمثلت في عقد مؤتمر باندونج عام 1955م؛ إذ
لم توجه الدعوة إلى إسرائيل لحضور هذا الحدث التاريخي الهام، بل ولم يقف
الأمر عند هذا الحد حيث أدان المؤتمر في بيانه الختامي احتلال إسرائيل للأراضي
العربية [13] .
على أن ثمة متغيرات أخرى دفعت إلى توجيه الأنظار الإسرائيلية إلى إفريقيا
وليس إلى آسيا كما ذكرنا آنفا وهو ما أدى إلى دخول العلاقات الإسرائيلية الإفريقية
في الستينيات مرحلة جديدة.
المرحلة الثانية 1957 - 1973م: سياسات التغلغل:
يمكن التأريخ لبداية الانطلاقة الإسرائيلية في إفريقيا بعام 1957م؛ حيث
كانت إسرائيل أول دولة أجنبية تفتح سفارة لها في أكرا بعد أقل من شهر واحد من
حصول غانا على استقلالها [14] .
وقد لعبت السفارة الإسرائيلية في أكرا دوراً كبيراً في تدعيم العلاقات بين
البلدين، وهو ما دفع إلى افتتاح سفارتين أخريين في كل من منروفيا وكوناكري؛
وذلك تحت تأثير إمكانية الحصول على مساعدات تنموية وتقنية من (إسرائيل) .
ومن جهة أخرى فقد تجسدت الرغبة الإسرائيلية في تأسيس علاقات قوية مع
إفريقيا في قيام جولدا مائير وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك عام 1958م بزيارة
إفريقيا لأول مرة حيث اجتمعت بقادة كل من ليبيريا وغانا والسنغال ونيجيريا
وكوت ديفوار.
وثمة مجموعة من المتغيرات الدولية والإقليمية أسهمت في تكثيف الهجمة
الإسرائيلية على إفريقيا، ومن ذلك:
* حصول عدد من الدول الإفريقية على استقلالها في الستينيات أدى إلى زيادة
المقدرة التصويتية لإفريقيا في الأمم المتحدة حيث كان الصراع العربي الإسرائيلي
من أبرز القضايا التي تطرح للتصويت.
* إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963م وضع تحدياً أمام إسرائيل؛
حيث إنها لا تتمتع بالعضوية في هذا التجمع الأفروعربي.
* عضوية مصر المزدوجة في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة
الإفريقية أعطاها فرصة إقامة تحالفات مع بعض القادة الأفارقة الراديكاليين من
أمثال نكروما وسيكوتوري.
وبحلول عام 1966م كانت إسرائيل تحظى بتمثيل دبلوماسي في كافة الدول
الإفريقية جنوب الصحراء باستثناء كل من الصومال وموريتانيا. ومع ذلك فإن
إفريقيا كانت بمثابة ساحة للتنافس العربي الإسرائيلي [15] .
المرحلة الثالثة 1973 - 1983م: أعوام المقاطعة:
قبل حرب أكتوبر 1973م كانت إسرائيل تقيم علاقات دبلوماسية مع خمس
وعشرين دولة إفريقية. بيد أنه في الأول من يناير عام 1974م تقلص هذا العدد
ليصل إلى خمس دول فقط هي: جنوب إفريقيا، وليسوتو، ومالاوي،
وسوازيلاند، وموريشيوس.
وليس بخاف أن الدول الإفريقية التي قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع
إسرائيل قد فعلت ذلك تأييداً للموقف المصري بحسبان مصر دولة إفريقية تسعى إلى
استعادة أراضيها من الاحتلال الإسرائيلي [16] .
بيد أن بعض الباحثين يحاول تفسير الموقف الإفريقي أنه كان يرمي إلى
الحصول على المساعدات العربية ولا سيما من الدول النفطية [17] .
وثمة مجموعة من العوامل أسهمت في دعم الموقف العربي في مواجهة الكيان
الصهيوني خلال عقد السبعينيات. فقد شهدت هذه الفترة ظهور تجمعات لدول العالم
الثالث تعبر عن مستوى أو آخر من التضامن مثل منظمة الدول المصدرة للبترول
(أوبك) ومجموعة الـ 77. كما أن إسرائيل جوبهت بسلاح البترول العربي ودعم
كثير من دول العالم الثالث للموقف العربي. ففي عام 1973م أصبح الرئيس
الجزائري هواري بومدين رئيساً لحركة عدم الانحياز، وأثناء مؤتمر الحركة في
الجزائر في العام نفسه اتخذ المؤتمرون قرارات تؤيد كلاً من مصر وسوريا
والأردن في استعادة أراضيها المحتلة، كما تدعو إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع
إسرائيل. وكانت كل من كوبا وزائير وتوجو من أوائل الدول التي تستجيب لدعوة
المقاطعة تلك. وفي عام 1974م رُشح وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز
بوتفليقة رئيساً للجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد استطاع العرب وبمساعدة قوتهم
النفطية إضفاء مزيد من الشرعية الدولية على منظمة التحرير الفلسطينية. لا غرو
أن تتم دعوة ياسر عرفات في 13/11/1974م لالقاء خطاب أمام الجمعية العامة،
وأن يعامل معاملة رؤساء الدول؛ وذلك بشكل غير مسبوق في تاريخ المنظمة
الدولية. إضافة لما سبق فقد نجحت الحملة العربية الرامية إلى عزل إسرائيل
ووصفها بالعنصرية؛ حيث تمت مساواتها بالنظام العنصري في جنوب إفريقيا.
واستفادت الحملة العربية من المواقف والسياسات الإسرائيلية في إفريقيا مثل:
- الدعم الإسرائيلي للحركات الانفصالية الإفريقية على شاكلة بيافرا في
نيجيريا وجنوب السودان.
- دعم وتأييد نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا.
صفوة القول: أن الموقف الإفريقي وإن كانت له دلالات سياسية ودبلوماسية
واضحة من زاوية الصراع العربي الإسرائيلي إلا أن إسرائيل ظلت على علاقة
وثيقة - ولو بشكل غير رسمي - مع معظم الدول الإفريقية التي قامت بقطع
العلاقات معها. وليس أدل على ذلك من أن التجارة الإسرائيلية مع أفريقيا خلال
الفترة من عام 1973م وحتى عام 1978م قد تضاعفت من 54.8 مليون دولار
إلى 104.3 مليون دولار. وتركزت هذه التجارة بالأساس في الزراعة
والتكنولوجيا [18] .
وبنهاية عقد السبعينيات وأوائل الثمانينيات كثفت إسرائيل جهودها من أجل
إعادة علاقاتها الدبلوماسية بإفريقيا؛ حيث قام وزير خارجيتها بإجراء اجتماعات
مباشرة مع الزعماء الأفارقة سواء في الأمم المتحدة أو في العواصم الإفريقية.
ومع ذلك فقد باءت هذه الحملة الإفريقية بالإخفاق، وهو الأمر الذي دفع إحدى
الصحف الإسرائيلية إلى عدم توقع قيام أي دولة إفريقية كبرى بإعادة علاقاتها مع
إسرائيل في المستقبل المنظور.
المرحلة الرابعة 1982 - 1991م: العودة الثانية:
استمرت (إسرائيل) في سياساتها الرامية إلى العودة إلى إفريقيا؛ وذلك من
خلال تدعيم وتكثيف اتصالاتها الإفريقية في المجالات كافة دون اشتراط وجود
علاقات دبلوماسية.
وفي عام 1982م أعلنت دولة إفريقية واحدة هي زائير عن عودة علاقاتها مع
إسرائيل؛ لأن الرئيس موبوتو كان بحاجة ماسة للمساعدات العسكرية الإسرائيلية
ولا سيما في ميدان تدريب الجيش وحرسه الجمهوري.
على أن الدول الإفريقية الأخرى التي حافظت على علاقات غير رسمية وثيقة
مع إسرائيل لم تنهج نفس المسلك الزائيري، وربما يعزى ذلك إلى العوامل الآتية
[19] :
* أن قرار الرئيس موبوتو كان منفرداً، ولم يتم بالتنسيق مع الدول الأخرى.
وقد حاجج البعض بأن قرار قطع العلاقات مع إسرائيل كان برعاية منظمة الوحدة
الإفريقية في أواخر الستينيات، ومن ثم ينبغي أن يكون استئناف هذه العلاقات
بقرار من المنظمة ذاتها.
* أن الدول العربية كثفت من حملتها الدبلوماسية المضادة؛ حيث استخدمت
سلاح المساعدات الاقتصادية والتقنية كأداة للترغيب والترهيب في آن واحد.
* أن إسرائيل قامت في الأسبوع الأول من يونيو عام 1982م بغزو لبنان
وهو ما يؤكد نزعتها التوسعية والعدوانية.
المرحلة الخامسة 1991م: سياسات التطبيع:
لقد شهدت هذه المرحلة إعادة تأسيس العلاقات بين إسرائيل وإفريقيا مرة
أخرى ولا سيما خلال عامي 1991، 1992م؛ وربما يعزى ذلك إلى:
* التغيرات في النظام الدولي وانعكاساته الإقليمية.
* سقوط النظم الشعبوية والماركسية اللينينية في إفريقيا.
* الدخول في العملية التفاوضية بين العرب وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد.
وقد تسارعت عودة العلاقات الإسرائيلية الإفريقية؛ حتى إنه في عام 1992م
وحده قامت ثماني دول إفريقية بإعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
وتسعى إسرائيل إلى تعزيز سياساتها الإفريقية بدرجة تفوق طموحاتها خلال
عقد الستينيات وأوائل السبعينيات.
وطبقاً للبيانات الإسرائيلية فإن عدد الدول الإفريقية التي أعادت علاقاتها
الدبلوماسية أو أسستها مع إسرائيل منذ مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991م قد بلغ
ثلاثين دولة [20] .
وفي عام 1997م بلغ عدد الدول الإفريقية التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع
إسرائيل 48 دولة.
وتحاول إسرائيل جاهدة الاستفادة من دروس الماضي بما يرسخ أقدامها في
القارة الإفريقية؛ وذلك من خلال التأكيد على الأدوات الثلاثة الآتية:
أولاً: المساعدات الاستخبارية والتدريبات العسكرية:
من الملفت للنظر حقاً أن إسرائيل تمتلك مصداقية كبيرة لدى الدول الإفريقية
في ميادين الاستخبارات والتدريبات العسكرية. فقد ركزت إسرائيل في تفاعلاتها
الإفريقية منذ البداية، وحتى في ظل سنوات القطيعة الدبلوماسية بينها وبين إفريقيا،
خلال الفترة من 1973 - 1983م، على المساعدات العسكرية في مجال تدريب
قوات الشرطة وقوات الحرس الرئاسي لعدد من الدول الإفريقية مثل زائير
(جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) والكاميرون.
وبدهي أن الدول الإفريقية التي تعاني من الصراعات والانقسامات الاجتماعية
والانشقاقات داخل صفوف النخب السياسية الحاكمة تهتم اهتماماً بالغاً بقضايا
المساعدات الأمنية والاستخبارية، وهو ما دأبت السياسة الإسرائيلية في إفريقيا على
التركيز عليه في جميع مراحل علاقاتها الإفريقية منذ أعوام الستينيات. فمع تنامي
المد الناصري في إفريقيا وتعهد الرئيس عبد الناصر بطرد إسرائيل من إفريقيا
قامت إسرائيل بتعزيز تواجدها في إثيوبيا، وأرسلت عملاء الموساد لتدريب قوات
الشرطة الإثيوبية.
ومع سقوط نظام هيلاسيلاسي ومجيء نظام مانجستو ظلت إسرائيل على
علاقة وثيقة بإثيوبيا؛ ولا أدل على ذلك من أن إثيوبيا امتنعت عن التصويت على
قرار الأمم المتحدة عام 1975م والذي يقضي بمساواة الصهيونية بالعنصرية.
ومع دخول القرن الإفريقي أتون الصراعات الإثنية والسياسية أصبح المجال
مفتوحاً أمام التركيز مرة أخرى على أداة المساعدة العسكرية والاستخبارية التي
تمارسها إسرائيل في هذه المنطقة المهمة لها استراتيجياً بسبب ارتباطها بأمن البحر
الأحمر، وكذلك ارتباطها بأمن بعض الدول العربية المؤثرة مثل السودان ومصر.
ثانياً: المساعدات الفنية:
وقد اشتملت منذ البداية على ثلاث مجالات أساسية وهي: نقل المهارات
التقنية وغيرها من خلال برامج تدريبية معينة، وتزويد الدول الإفريقية بخبراء
إسرائيليين لمدة قصيرة أو طويلة المدى، وإنشاء شركات مشتركة أو على الأقل
نقل الخبرات والمهارات الإدارية للشركات الإفريقية.
وتشير الإحصاءات التي نشرها مركز التعاون الدولي التابع لوزارة الخارجية
الإسرائيلية أن عدد الأفارقة الذين تلقوا تدريبهم في إسرائيل عام 1997م وصل إلى
نحو 742 متدرباً إضافة إلى نحو 24636 إفريقياً تلقوا تدريبهم من قبل في مراكز
التدريب الإسرائيلية خلال الأربعين سنة الماضية.
وقد قامت إسرائيل بإعادة تقويم أداء المراكز التدريبية الخاصة بإفريقيا وهي:
- مركز جبل كارمل بمدينة حيفا الذي ينظم حلقات دراسية للمرأة الإفريقية
في ميدان التنمية.
- مركز دراسة الاستيطان الذي يوفر تدريبات في البحوث الزراعية
والتخطيط الإقليمي.
- المركز الزراعي الذي يوفر الخبراء والمساعدة الفنية لتعظيم استخدام
الموارد المتاحة.
- قسم التدريب الأجنبي الذي يهتم بقضايا التنمية الريفية.
- المعهد الأفروآسيوي للهستدروت الذي يهتم بأنشطة الاتحادات العمالية.
وتطرح إسرائيل نموذجاً مهماً بالنسبة للدول الإفريقية في ميدان محاصيل
الأراضي القاحلة وشبه القاحلة.
وعلى سبيل المثال فإن البرنامج الدولي لمحاصيل الأراضي القاحلة والذي
تتبناه جامعة بن جوريون بصحراء النقب بتمويل من اليونسكو ووزارة الخارجية
الفنلندية ومركز التعاون الدولي الإسرائيلي يسعى إلى إقامة مشروعات زراعية في
إفريقيا بغرض محاربة التصحر، وخلق البيئة المواتية للزراعة الدائمة.
ثالثاً: تجارة السلاح والألماس:
من المعلوم أن إسرائيل توفر السلاح للدول الإفريقية بالإضافة إلى التدريب
العسكري، وتفيد الخبرة التاريخية أن إسرائيل تتعامل مع الأشخاص الأفارقة وذوي
النفوذ أو الذين لهم مستقبل سياسي فاعل في بلدانهم.
ولعل حالة الرئيس الكونغولي الراحل موبوتو سيسى سيكو تطرح مثالاً
واضحاً؛ فقد تلقى تدريباً إسرائيلياً، ثم أصبح رئيساً للدولة بعد ذلك بعامين.
ولا يخفى أن إسرائيل تقوم بتزويد العديد من الدول الإفريقية بالأسلحة مثل
إثيوبيا وإريتريا.
وطبقاً لتقارير الأمم المتحدة وبعض التقارير الأخرى فإن هناك تورطاً
لشركات إسرائيلية ولتجار إسرائيليين في التجارة غير المشروعة للألماس.
فمن المعروف أن مافيا هذا الحجر الثمين تقوم بتهريبه من دول مثل الكونغو
وسيراليون وأنجولا عبر دول الجوار ليصل إلى هولندا، ثم بعد ذلك إلى مراكز
تصنيع الألماس في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالإضافة إلى
إسرائيل والهند.
على أن هذه التجارة غير المشروعة يوازيها تجارة أخرى غير مشروعة في
السلاح؛ حيث يتم عقد صفقات لشراء الأسلحة وهو ما يسهم في استمرار واقع
الصراعات والحروب الأهلية في الدول الإفريقية الغنية بالألماس، وهو ما يعود
بالنفع المادي على كل المتورطين في هذه التجارة.
بيد أن وجود تجار إسرائيليين أو شركات إسرائيلية لا يقوى دليلاً على اتهام
الحكومة الإسرائيلية بالتورط في هذه التفاعلات التجارية غير المشروعة، وعلى
هذه الشاكلة توجد اتهامات لإسرائيل بدعم بعض الجماعات الإقليمية غير العربية في
دول الشمال الإفريقي مثل جماعات البربر في المغرب العربي، والجيش الشعبي
لتحرير السودان بزعامة جون جارانج.
لكن السؤال يبقى مطروحاً حول مدى مصداقية أو صحة هذه التقارير التي
عادة ما تستند إلى اجتهادات استخباراتية.
بيد أن الخلاصة التي يستطيع المرء أن يصل إليها بكل سهولة ويسر هي أن
إسرائيل استطاعت فعل ذلك بمواردها المحدودة من خلال معرفتها بواقع ومشكلات
الدول الإفريقية؛ وذلك دون كثير عناء وجهد وبعيداً عن الخطابات الأيديولوجية
والبلاغية التي كثيراً ما نأسر أنفسنا بها!
ثالثاً: السياسة الإسرائيلية والبحث عن الهيمنة:
ليس بخاف أن التغيرات الهيكلية التي شهدها النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد
السوفييتي وبروز عصر العولمة الأمريكية وما صاحب ذلك من تغيرات في النظم
الإقليمية ومن بينها منطقة الشرق الأوسط قد جاء بتأثيرات ملموسة على تطور
العلاقات الإسرائيلية الإفريقية. فدخول أطراف الصراع العربي الإسرائيلي مسار
العملية التفاوضية قد أدى إلى إضفاء المشروعية المطلوبة على الكيان الصهيوني
وتأمين وجوده العضوي، ومن ثم فإنه يسعى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى
تحقيق أهدافه التوسعية بحسبانه قوة إقليمية؛ وذلك على حساب النظام الإقليمي
العربي. على أن هدف تحقيق الهيمنة الإقليمية لإسرائيل في المرحلة الراهنة
يقتضي إعادة تقويم واختبار عدد من القضايا الهامة ضمن منظومة العلاقات المتبادلة
بين (إسرائيل) وإفريقيا وذلك على النحو التالي:
1- تأمين البحر الأحمر:
لقد كانت خطورة البحر الأحمر ولا تزال ماثلة في ذهن القيادات الإسرائيلية
المتعاقبة. ولنتذكر أن بن جوريون في حرب 1948م أصدر تعليماته لموشي ديان
بأن يضحي بأي شيء في سبيل موطئ قدم على شاطئ البحر الأحمر. وقد حدث
بالفعل أن حصلت إسرائيل على ميناء إيلات.
ومن الجلي أن الدولة العبرية تصبح بدون هذا المنفذ البحري وقد انقطعت كل
صلة بينها وبين إفريقيا واَسيا، ولعلها اكتشفت هذه الحقيقة في حرب 1973م عندما
تم إغلاق باب المندب في وجهها [21] .
ونظراً لغياب قواعد عربية واضحة تحكم أمن البحر الأحمر، ومع استقلال
أرتيريا عام 1993م وابتعادها عن النظام العربي، فإن إسرائيل في ظل «التسوية
السلمية» سوف تضمن تلبية مطالبها الأمنية الخاصة بالبحر الأحمر. وانطلاقاً من
ذلك سوف تحاول جاهدة الاستفادة لأقصى درجة من أجل تدعيم احتياجاتها الخاصة
بالهيمنة والتوسع.
2- التركيز على دول القرن الإفريقي:
وتسعى إسرائيل من جراء ذلك إلى تحقيق أكثر من هدف واحد انطلاقاً من
المتغيرات التالية:
- وجود جالية يهودية كبيرة في إثيوبيا «يهود الفلاشا» . صحيح أن
إسرائيل تمكنت من نقل معظم الفلاشا إلا أن بعض الإحصاءات تؤكد على وجود
نحو خمسة عشر ألفاً من هؤلاء لا يزالون يعيشون في إثيوبيا.
- ارتباط القرن الإفريقي بالبحر الأحمر والخليج العربي، ومن ثم فهو
يرتبط تقليدياً بمنظومة الأمن الإسرائيلي والسعي من أجل تحقيق اعتبارات التفوق
العسكري والاقتصادي.
- ترتيب التوازن الإقليمي في المنطقة يرتبط بالأمن القومي العربي عموماً
والمصري تحديداً؛ وذلك على ضوء العلاقات الصومالية الإثيوبية والإثيوبية
الأرتيرية. والوجود الإسرائيلي في المنطقة يساعد على تحقيق متطلباتها الأمنية.
ومن الملاحظ أن إسرائيل حافظت على وجودها دائماً في إثيوبيا بغض النظر
عن طبيعة النظام الحاكم [22] . فمع تنامي المخاوف الإثيوبية خلال عهد
هيلاسيلاسي من «ثورية» النظام الناصري في مصر الذي تعهد بطرد إسرائيل
من إفريقيا، سعت الدولة العبرية إلى تدعيم تواجدها في إثيوبيا، وأرسلت عملاء
الموساد لتدريب قوات الشرطة الإثيوبية. ومع سقوط نظام هيلاسيلاسي ومجيء
نظام منجستو ظلت إسرائيل على علاقة وثيقة بإثيوبيا، ولا أدل على ذلك من أن
إثيوبيا امتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة عام 1975م الذي يقضي
بمساواة الصهيونية بالعنصرية. وبدخول القرن الإفريقي في أتون الصراعات
الإثنية والسياسية حيث انقسمت الصومال إلى دويلات وفقاً لمنطق حرب الكل ضد
الكل، وانهمكت كل من إرتيريا وإثيوبيا في صراع مرير تم فتح المجال واسعاً أمام
تدخل أطراف أجنبية من بينها إسرائيل.
3 - التركيز على دول حوض النيل:
وليس بخاف أن هدف إسرائيل الثابت من وجودها في هذه المنطقة هو
الرغبة في الحصول على مياه النهر والضغط على صانع القرار المصري نظراً
لحساسية وخطورة «ورقة المياه» في الاستراتيجية المصرية. وأطماع إسرائيل
في مياه نهر النيل قديمة ومعروفة [23] .
وعندما زار السادات القدس لأول مرة عام 1977م أحيا فكرة مد ترعة من
النيل إلى النقب، وهو ما نظر إليه البعض على أنه تعبير عن الرغبات الأمريكية
الإسرائيلية الحقيقية. وبالفعل تقدمت إسرائيل بعدة مشروعات للحصول على نسبة
1% من مياه النيل. وقد حاولت (إسرائيل) في ظل المفاوضات متعددة الأطراف
الخاصة بمشكلة الشرق الأوسط أن تطرح هذه القضية إلا أنها لم تنجح في ذلك.
ومن المعروف أن (إسرائيل) تلعب دوراً غير مباشر في صراع المياه بين
دول حوض النيل استفادة من نفوذها الكبير في دول مثل إثيوبيا وكينيا ورواندا.
ومع تفجر الصراع في منطقة البحيرات العظمى بعد الإطاحة بنظام موبوتو
في الكونغو الديموقراطية، حاولت إسرائيل المساهمة في إعادة ترتيب الأوضاع
وذلك تحت المظلة الأمريكية التي تقوم بدور نشط في هذه المنطقة مقارنة بالنفوذ
الفرنسي التقليدي [24] . وتكمن الرؤية الإسرائيلية في النظر إلى المنطقة بشكل
شمولي أي بامتداداتها الجغرافية في القرن الإفريقي والبحر الأحمر. ولتدعيم نفوذها
في المنطقة تعمل إسرائيل على:
- تشجيع جيل من القادة الجدد الذين ينتمون إلى الأقليات في بلدانهم
ويرتبطون مع الولايات المتحدة وبالطبع إسرائيل بعلاقات وثيقة، ومن هؤلاء ميلس
زناوي في إثيوبيا، وأسياسي أفورقي في أرتيريا، وجون جارانج في جنوب
السودان، ويوري موسيفيني في أوغندة، وبول كاجامي في رواندا.
- محاصرة الأمن القومي العربي ولا سيما في امتداده المصري والسوداني
وفق استراتيجية «حلف المحيط» أي إقامة تحالفات مع الدول والجماعات الإثنية
والدينية المعادية للعرب هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الاستفادة من وجودها في
المنطقة للتلويح بورقة المياه في مواجهة السياسة المصرية.
4 - الوقوف في وجه الدول والحركات المعادية للغرب:
وفي هذا السياق يمكن تفهم الموقف الإسرائيلي من كل من ليبيا والسودان في
ظل حكم الجبهة القومية الإسلامية. أضف إلى ذلك فإنها تحاول مساعدة الدول
الإفريقية ضد الحركات الإسلامية الأصولية. وتسعى إسرائيل من وراء ذلك إلى
تحقيق أكثر من هدف واحد:
- إذ إنها تقدم نفسها للعالم الغربي باعتبارها المدافع الأول عن القيم
الديموقراطية العلمانية في مواجهة الحركات الأصولية الإسلامية.
- وهي من جهة أخرى تحاول مساعدة الدول الإفريقية في ميادين
الاستخبارات والتدريبات العسكرية، وهي مجالات كانت إسرائيل موجودة فيها
أصلاً، وتمتلك مصداقية كبيرة لدى الدول الإفريقية.
وأياً كان الأمر فإن إسرائيل تولي علاقاتها الإفريقية أهمية خاصة للأسباب
والمحددات السابق بيانها.
وعلى الرغم من دخول الصراع العربي الإسرائيلي منعطفاً تاريخياً مهماً بعد
عمليات «التسوية السلمية» فإن إسرائيل لا تزال تعول في حركتها الخارجية على
استراتيجية إضعاف الخصم موضع التعامل، وقد أوضحت الدراسة مؤشرات تلك
الاستراتيجية من خلال بيان طبيعة الدور الإسرائيلي في مناطق القرن الإفريقي
وحوض النيل والبحيرات العظمى، ومساندة ما يسمى بجيل الزعماء الجدد في
إفريقيا. أضف إلى ذلك فإنها تشجع وتساند جماعات الأقلية، ولا تتردد في هذا
الخصوص في أن تقدم المعونة المادية والخبرة، بل وتتولى تدريب رجالها على
حركات العنف المسلح. ولنتذكر في هذا السياق المحاولات الإسرائيلية الدؤوبة
لنشر الفتن بين الأقليات غير العربية في شمال إفريقيا وجنوب السودان.
__________
(*) أستاذ العلوم السياسية، ومدير برنامج الدراسات المصرية الإفريقية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(1) انظر في ذلك: Arye Oded, Africa and the Middle East conflict, Boulder, co: Lynne Rienner, 1987 and Charles Kwarteng,"the Arabs, Israel and Black Africa: the politics of courtship", Round Table, No 322, April, 1992,pp 167-82.
(2) Decalo, Israel and Africa: forty years,1956-1996, Gainesville and London: Florida academy press,1998, p37.
(3) خليل إبراهيم الطيار، (محاولات إسرائيل العودة إلى إفريقيا وعلاقتها باتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة) شؤون عربية، عدد 47، أيلول/ سبتمبر 1986م، ص 164.
(4) Kwarteng, op-cit, p 178.
(5) Baffour Ankoma, " Let us Recognize Israel " , New African, October 1988,p16.
(6) نقلاً عن Decalo, opcit, p37.
(7) Ibid, pp 53-56.
(8) Ali ALMazrui, The Africans: A Triple Heritage, London: BBC publication,1986,p85.
(9) يقدر إجمالي يهود الفلاشا الذين نقلوا إلى إسرائيل بمقتضى قانون العودة بنحو أربعين ألفاً، انظر: Steven Kaplan, The Bita Israel (Flasha) in Ethiopia: From Earliest Times to the Twentieth century, New York: New York University press, 1992.
(10) انظر في تفصيلات ذلك: Fran Markowitz, Israel As Africa, Africa As Israel: "Divine Geography" in the Personal Narratives And Community Identity of the Black Hebrew Israelites, Anthropologyical Quarterly, vol69, No4, October 1969, pp 193-206.
(11) انظر: The American-Israeli Cooperative Enterprise 1988 at (www israelorg/ j source/Immigration) .
(12) انظر في ذلك عواطف عبد الرحمن، مرجع سابق، وخليل الطيار، مرجع سابق، ص 166.
(13) وحول صدمة باندونج للسياسة الإسرائيلية انظر: Decalo, opcit,p 30 Kwarteng,opcit,p168.
(14) Ibid, p 168.
(15) انظر: cit, p168Kwarteng, op.
(16) cit,p2Oded, op.
(17) Ibid, pp 1-28.
(18) Ibid,pp 76-79 and see also Naomi Chazan," Israel in Africa" The Jerusalem Quarterly, Vol 18, winter 1981, pp 30-32.
(19) Noah Dropkin," Israel's Diplomatic Offensive in Africa: The case of Zaire TransAfrica Forum, Spring1992, vol9, No1,p19.
(20) Israel Ministry of Foreign Affairs, Israel's Deplomatic missions Abroad, at (www.mfa.gov) .
(21) حول موقع البحر الأحمر في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي انظر: علاء سالم، (إسرائيل والقرن الإفريقي: المنطلقات الاستراتيجية وأنماط التحرك) ، التعاون، المجلد 10، العدد 39، 1995م، ص 144 - 184.
(22) انظر: المرجع السابق، ص 155 - 167.
(23) حمدي عبد الرحمن حسن، (إمكانيات تدعيم الأمن المائي العربي) ، في: مصطفى كامل السيد (محرر) ، حتى لا تنشب حرب عربية عربية أخرى: من دروس حرب الخليج، القاهرة، 1993م، ص 520 - 521.
(24) لمزيد من التفصيلات انظر: حمدي عبد الرحمن حسن، (التوازن الإقليمي في البحيرات العظمى والأمن المائي المصري) ، السياسة الدولية، عدد 135، يناير 1999م، ص 22 - 37.(181/42)
ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
القوى الكبرى والمشروطية السياسية في إفريقيا
راوية توفيق [*]
طرحت فكرة المشروطية مع أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن
العشرين؛ حيث ظهر ما يعرف باسم الجيل الأول للمشروطية الذي ركز على آليات
الإصلاح الاقتصادي مدفوعاً بما عانته دول العالم الثالث من أزمات اقتصادية في
ذلك الوقت.
وكان مضمون هذا الجيل الأول من المشروطية هو تبني برامج التكيف
الهيكلي كشرط لتلقي المساعدات من المؤسسات المالية الدولية، ولأن تلك البرامج
عكست اتجاهاً لفرض الليبرالية الاقتصادية على دول العالم الثالث؛ فإنها لم تخل
من بُعد سياسي؛ لأنها هدفت فرض النمط الغربي للتنمية على تلك الدول النامية
وعلى رأسها الدول الأفريقية باعتبارها أكثر الدول النامية اعتماداً على المساعدات
الخارجية.
ومع بداية التسعينيات ظهر الجيل الثاني للمشروطية حيث بدأت الدول المانحة
الأوروبية والأمريكية، والمؤسسات المالية النقدية ممارسة الضغوط السياسية
والاقتصادية على الدول الإفريقية لإقامة نظام ديمقراطي مدني يستمد شرعيته من
إجراء انتخابات تنافسية متعددة الأحزاب، وكانت وسيلتها للوصول إلى هذا الهدف
هي التهديد بإيقاف المعونات والتسهيلات المالية، أو إيقافها فعلاً بهدف فرض نوع
من العزلة والحصار على النظم التي لا تتبع النهج الديمقراطي لإجبارها على السير
في طريق التحول الديمقراطي، وهو ما أصبح يعرف باسم: «المشروطية
السياسية» .
وقد اختلفت الآراء حول أسباب ظهور هذا الجيل الثاني من المشروطية؛
فالبعض أرجعه إلى التغيرات التي شهدها العالم خلال تلك الفترة من تحولات في
دول أوروبا الشرقية، وسقوط الاتحاد السوفييتي والتحول إلى نظام أحادي القطبية.
وأرجعه آخرون إلى إخفاق تطبيق المشروطية الاقتصادية مما أدى بالمؤسسات
المالية إلى إرجاع إخفاق برامج التكيف الهيكلي إلى العوامل السياسية في الدول
المستقبلة للمعونات. واتجه البعض إلى التأكيد على أن الدول المانحة أرادت تسويغ
استمرار معوناتها لدول العالم الثالث أمام شعوبها رغم انتهاء الحرب الباردة، فلم
تجد سوى مسوِّغات دفع المبادئ الديمقراطية والحكم الجيد، أو أن المشروطية
السياسية هي مجرد أداة أيديولوجية تجعل الرأسمالية الليبرالية تحل محل الاشتراكية
على مستوى العالم، وتوفر أساساً من المشروعية للزعامة الجديدة للغرب بإسهامه
في إسقاط النظم غير الديمقراطية [1] .
وبغض النظر عن الاختلاف حول تفسير طرح الدول الغربية والمؤسسات
المالية الدولية للمشروطية السياسية يبقى التساؤل الأهم هو: ما مدى مصداقية الدعم
الغربي للمبادئ الديمقراطية فى القارة الأفريقية؟ وهل هناك فجوة بين المبادئ
المعلنة والسياسات الواقعية؟ وهل تطبق سياسات المشروطية على دول القارة
بصفة عامة أم ان هناك انتقائية في تطبيقها؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات يتطلب في البداية البحث في الفواعل الأساسية
المحركة لقواعد المشروطية السياسية والمبادئ التي تعلنها ثم البحث في كيفية
تطبيقها لهذه القواعد من الناحية الفعلية مع طرح بعض الأمثلة والنماذج التي
مورست عليها سياسات المشروطية، وأثر هذه السياسات وتلك التي لم تتم ممارسة
هذه السياسات عليها وأسباب ذلك.
* أولاً: الفواعل المحركة للمشروطية السياسية:
تعد الدول الإفريقية من أفقر دول العالم، وأعلاها من حيث الاعتماد على
الديون الخارجية، والتي قدرت عام 1999م بحوالي 350 مليار دولار، وهو ما
يوازي ثلاثة أرباع إجمالي الناتج القومي للقارة، وما يقرب من أربعة أضعاف
صادراتها السنوية.
والمديونية هي علاقة سياسية من الطراز الأول؛ فهي تربط بين طرفين:
الدائن والمدين، وتختفي بينهما علاقة المساواة. فالدائن يمارس قوة على المدين،
ويسعى للاستفادة من وضعه بفرض شروط على المدين لا يملك إلا أن يسلِّم بها.
وينطبق هذا المنطق على الدول النامية بصفة عامة والدول الإفريقية بصفة
خاصة؛ وبذلك تسعى القوى الكبرى المانحة للمساعدات المالية لفرض شروطها
على الدول الإفريقية. ويتم ذلك إما عن طريق استغلال المؤسسات المالية الدولية
والتي تسيطر عليها هذه الدول الكبرى بحكم مشاركتها في الجانب الأعظم من
التمويل، وفرض هذه الشروط مباشرة في إطار سياسة هذه الدول الخارجية لمنح
المعونات إلى الدول النامية.
1 - المؤسسات المالية الدولية:
أدى تفاقم مشكلة المديونية إلى دفع الكثير من المنظمات الدولية إلى تكثيف
الجهود لمحاولة الحد من تفاقم الأزمة، والتدخل بصورة مباشرة في إدارة مديونية
الدول النامية؛ على أن هذه المؤسسات لم تنشأ خصيصاً لهذا الغرض، إنما أضافته
إلى مهامها التي كانت تشمل أساساً نوعاً من المسؤولية عن إدارة نظام النقد الدولي
والمدفوعات الدولية، أو تمويل جهود التنمية وتحرير التجارة الدولية (البنك الدولي،
صندوق النقد الدولي، الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية) [2] .
وإذا كان تأثير هذه المؤسسات في سياسات الدول النامية تأثيراً بارزاً فهو أكثر
وضوحاً في الدول الإفريقية نظراً لتفاقم مشكلة المديونية؛ حيث تتميز القارة
الإفريقية بأعلى معدلات الفقر بين الدول النامية، وأقل معدلات للنمو الاقتصادي،
وأعلى معدلات للديون الخارجية؛ فوفقاً لتقرير البنك الدولي 2000م تصل معدلات
الفقر في بعض الدول (نيجيريا - بوركينا فاسو) إلى حوالي70%، ويصل
متوسط الدين الخارجي فى دول أخرى إلى حوالي 280% من الناتج المحلي
الإجمالي (أنجولا - الكونغو برازافيل) [3] ، وتكتسب المساعدات المالية متعددة
الأطراف التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية أهمية خاصة؛ لأنها تمثل الحجم
الأكبر من المساعدات السنوية التي توجه للدول الإفريقية.
وقد بدأ تدخل البنك الدولي في حل مشكلة الديون الإفريقية منذ الاستقلال؛
بينما بدأ تدخل صندوق النقد الدولي منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين.
ومع بداية الثمانينيات بدأت هذه المؤسسات في فرض بعض السياسات
الاقتصادية على الدول الإفريقية المدينة كشرط لتلقي المساعدات في إطار برامج
التكيف الهيكلي من قبيل تعويم العملة، والحد من الإنفاق الحكومي وتحرير التجارة.
ولكن منذ بداية التسعينيات بدأت المشروطية السياسية تقترن بالمشروطية
الاقتصادية، أو ما كان يطلق عليه: (التكيف الهيكلي السياسي) فأصبحت
المعونات مشروطة بالوصول إلى الحكم الجيد، والذي يشير وفقاً لتعريف البنك
الدولي إلى المحاسبية فيما يخص الإنفاق العام، والشفافية عند اتخاذ القرارات،
وحكم القانون [4] . وبذلك تكون هذه المؤسسات قد خرجت عن المسار المحدد لها
وعن الوظائف المسندة إليها منذ نشأتها؛ فميثاق البنك الدولي على سبيل المثال يؤكد
أن البنك يجب عليه عدم التدخل في الشؤون السياسية لأعضائه، ويجب ألاَّ يتأثر
بالاعتبارات السياسية في قراراته؛ فلا يتم الاستناد إلا إلى الاعتبارات الاقتصادية،
ورغم ذلك فإن تقرير البنك الدولي عام 1992م أكد أنه على الرغم من أن البنك لا
يستطيع أن يلعب دوراً مباشراً في تصميم برامج المشروطية السياسية إلا انه ما
زال يمثل قناة رئيسية لتطبيقها.
ولكن ما هو المسوغ الذي تستند إليه هذه المؤسسات في سبيل تطبيقها لهذه
السياسة؟
تستند هذه المؤسسات إلى المنطق القائل بأن الديمقراطية كقيمة في حد ذاتها
تعتبر أداة ضرورية لتوفير مناخ سياسي ملائم دافع للتنمية الاقتصادية، وهذا
المنطق أكد عليه تقرير البنك الدولي؛ حيث تبنى فكرة العلاقة السببية بين
الديمقراطية والنمو الاقتصادي زاعماً أنه ليس من قبيل المصادفة أن تكون كل من
بوتسوانا وموريشيوس هما أعلى دولتين من حيث معدلات الأداء الاقتصادي، وفي
الوقت نفسه تكونان الدولتين الوحيدتين اللتين شهدتا نظاماً تعددياً حقيقياً متصلاً في
القارة منذ استقلالها.
وعام 1991م أقرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بالافتراضات السابقة
بالقول إن هناك دليلاً قوياً أن المجتمعات المنفتحة التي تقدر الحقوق الفردية،
وتحترم حكم القانون، ولديها حكومات منتخبة تتعرض للمحاسبة تقدم فرصاً أفضل
للتنمية الاقتصادية المستدامة من المجتمعات المنغلقة التي تقيد المبادرات الفردية [5] .
وانطلاقاً من هذه المبادئ فإن عدم انصياع الدولة للشروط السياسية التي
يضعها البنك والصندوق يعرضها لوقف الإمدادات والمساعدات المالية إليها بحجة
أنها تفتقد المناخ الديمقراطي الملائم الذي يدفع النمو الاقتصادي، ويمكن الدولة من
تسديد التزاماتها المالية.
ويرى البعض أن وجود هذه المؤسسات يمثل ملمحاً من ملامح عصر العولمة؛
حيث توفر إطاراً مؤسسياً يفرض قواعد ومعايير على الدول المدينة.
وينتقد الكثير من المحللين دورها كأداة لسيطرة الدول الكبرى على مقدرات
الدول النامية بصفة عامة، والدول الإفريقية باعتبارها أكثر الدول تأثراً بسياسات
هذه المؤسسات بصفة خاصة.
فالبعض يعتبر أن هذه السيطرة بمثابة إعادة استعمار للقارة من جديد؛
فالضغوط التي تمارسها الدول الكبرى بواسطة تلك المؤسسات تعيد الذاكرة إلى
عصور الاستعمار، وكل ما تغير أن الدول الاستعمارية قد غيرت استراتيجيتها،
فتبنت أساليب جديدة للوصول إلى نفس الأهداف التي كانت تصل إليها عن طريق
الاستعمار الصريح المباشر، ولكن بأساليب أخرى غير الاحتلال العسكري [6] .
وبذلك يتضح أن المؤسسات المالية الدولية من خلال ما تطرحه من سياسات،
وما تمثله من أداة لتطبيق سياسات الدول الكبرى التي تسيطر على هذه المؤسسات
تفرض تأثيراً على سياسات الدول الإفريقية من خلال دفعها نحو الانفتاح الاقتصادي
والتحول الديمقراطي.
2 - الدول الغربية المانحة:
كانت الدول الإفريقية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن
العشرين تقريباً مستعمرات سيطرت عليها الدول الإمبريالية. وبعد رحيل الاستعمار
انزوت معظمها في حروب أهلية عنيفة نتج عنها حكم أقلية محدودة في ظل نظام
الحزب الواحد. وتعرضت إفريقيا لتأثير العوامل الخارجية أكثر ما تعرضت خلال
الحرب الباردة، فشهدت قبل تسعينيات القرن العشرين مساعدات اقتصادية ضخمة
من القوى الأجنبية من أجل جذب الدول الإفريقية إلى النموذج الرأسمالي أو
الشيوعي دون الاهتمام بتدعيم الديمقراطية في حد ذاتها.
وبعد انهيار الشيوعية وقيام نظام أحادي القطبية أصبح الدافع وراء النظام
الجديد للمساعدات الذي يربط المساعدات المالية بالتحول الديمقراطي يعتمد على
الاعتقاد الغربي بأن النموذج الليبرالي الديمقراطي هو النموذج الأمثل للحكم.
وسيتم التركيز في هذا المحور على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في
تقديم المعونات إلى الدول الإفريقية، ثم الأبعاد السياسية للتعاون بين إفريقيا
والاتحاد الأوروبي، مع إشارة خاصة للدور الفرنسي في إرساء قواعد المشروطية
السياسية.
أ - سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في تقديم المعونات إلى إفريقيا:
خلال الحرب الباردة كانت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا بصفة
خاصة، ودول العالم الثالث بصفة عامة تحكمها اعتبارات الصراع مع الاتحاد
السوفييتي. فعلى الرغم من صدور قانون المساعدات الخارجية عام 1961م الذي
يشترط عدم تقديم أية مساعدات للدول التي تنتهك حقوق الإنسان، إلا أن الولايات
المتحدة اتجهت للتعاون مع بعض الدول الإفريقية لإقامة قواعد عسكرية (كينيا -
الصومال - السودان) في عهد الرئيس كارتر رغم وجود انتهاكات عديدة لحقوق
الإنسان في تلك الدول. وفي المقابل تم تخفيض المعونات لدول أخرى تذرعاً بنفس
الحجة (زائير) أو فرض عقوبات اقتصادية ومالية (إثيوبيا وجنوب إفريقيا) ،
كما رأت الإدارة الأمريكية في عهد ريجان قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في
إطار سياسة إحاطة الشيوعية في إفريقيا، وكان ذلك واضحاً في مساندة من أسماهم
ريجان بالمقاتلين الأحرار مثل الاتحاد الوطني لاستقلال أنجولا ضد الحكومة
الماركسية المدعومة من الاتحاد السوفييتي.
وبذلك يمكن القول إن اعتبارات سياسة احتواء الاتحاد السوفييتي تغلبت أحياناً
على اعتبارات الديمقراطية في تلك الفترة.
وبعد انتهاء الحرب الباردة تغيرت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا
لدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبدأت تلك السياسة مع إدارة الرئيس بوش؛
حيث أوضح مارك نورثرن مبعوث الأمم المتحدة للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان
سياسة الولايات المتحدة تجاه هذه القضايا مؤكداً أن الانقسام الحقيقي في العالم لم يعد
بين الشرق والغرب، إنما بين الدول التي تلتزم بالديمقراطية والحرية السياسية من
ناحية، وتلك التي لا تلتزم بها من ناحية أخرى.
ولم يتضح هذا الاتجاه إلا مع بداية التسعينيات؛ فبينما رفضت الإدارة
الأمريكية عام 1989م تخفيض المعونات لبعض النظم غير الديمقراطية (نظام سياد
بري في الصومال، وموبوتو في زائير) بدأت في الضغط على هذه النظم بفرض
المشروطية السياسية عليها مع بداية التسعينيات. فبدأت علاقة الولايات المتحدة
بكينيا على سبيل المثال تتراجع في هذه الفترة، وبدأت الولايات المتحدة في الضغط
على الحكومة الكينية للسماح بالتعددية الحزبية، فتم تجميد 25 مليون دولار من
المساعدات العسكرية لكينيا، واتبعت نفس السياسة مع دول أخرى مثل مالاوي،
الكاميرون، زائير، توجو، وغيرها.
واستمرت نفس السياسة مع إدارة كلينتون الذي أعلن أن الولايات المتحدة
استمرت لعدة عقود ترى إفريقيا من واقع الحرب الباردة، وأنها ساندت بعض
القيادات لغرض مجابهه الشيوعية دون الالتفات إلى الاتجاهات الحقيقية لهذه
القيادات. وبذلك فإن الولايات المتحدة أغفلت حقائق إفريقيا، وأعلن رغبة بلاده في
دعم التنمية والديمقراطية من أجل إقامة الاستقرار العالمي الذي لا يتحقق إلا باتباع
الديمقراطية، وتجسدت هذه السياسة في رد فعل الإدارة الأمريكية تجاه إلغاء
الانتخابات وقتل المدنيين في ظل نظام أباتشا في نيجيريا؛ حيث قررت قطع
450 ألف دولار من المساعدات العسكرية و 11 مليون دولار من المنح لنيجيريا
[7] .
وظلت سياسات المشروطية حاكمة لسياسة الولايات المتحدة في تقديم
المساعدات إلى دول القارة الأفريقية، وهو ما تجسد من خلال قانون النمو والفرص
في أفريقيا الذي تم التصديق عليه من الكونجرس في مايو 2001م، والذي يقوم
على فرض عدة شروط تتعلق بمحاربة الفساد، وحماية حقوق الملكية الخاصة،
واتخاذ إجراءات متدرجة لتقليل الدعم الحكومي مقابل إعطاء معاملة تفضيلية
لصادرات الدول الأفريقية إلى الولايات المتحدة.
ونتيجة للشروط الصارمة التي وضعها هذا القانون لم يستفد منه حتى الآن
سوى خمس دول أفريقية من مجموع خمس وثلاثين دولة يخاطبها القانون.
ولكن يلاحظ على السياسة الأمريكية خلال تلك الفترة أمران مهمان:
1 - انخفاض المساعدات الأمريكية للقارة الإفريقية؛ فرغم اتجاه العديد من
الدول الإفريقية إلى إرساء إصلاحات سياسية في الاتجاه الديمقراطي، إلا أنها لم
تحصل على القدر الكافي من المساعدات الأمريكية. وقد شهدت بداية التسعينيات
انخفاضاً ملحوظاً في حجم المساعدات الأمريكية للقارة الإفريقية والذي وصل إلى
700 مليون دولار، وهو أدنى مستوى لها خلال عقد الثمانينيات، وهو ما يعكس
تراجع الاهتمام الأمريكي بالقارة آنذاك [8] .
2 - أن المصالح الأمريكية ما زالت تعلو على اعتبارات الديمقراطية وحقوق
الإنسان. فالولايات المتحدة مثلاً لم تستطع فرض عقوبات اقتصادية صارمة على
نيجيريا؛ لأنها من الدول الرئيسية المصدرة للبترول الخام للولايات المتحدة، ولعل
التركيز على تحقيق المصالح الاقتصادية في العلاقة مع إفريقيا هو ما دفع الولايات
المتحدة إلى مجابهة فرنسا للسيطرة على الدول الإفريقية [9] .
وبذلك فإن الولايات المتحدة رغم أنها ترفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان،
وتجعل من التزام الدول بهما شرطاً لتلقي المساعدات المالية؛ إلا أن التناقض
يبدو واضحاً في هذه السياسة حيث تتغلب في النهاية الاعتبارات المصلحية التي
طالما حكمت السياسة الخارجية الأمريكية.
ب - الأبعاد السياسية للتعاون الأوروبي الإفريقي:
تربط الدول الإفريقية بالاتحاد الأوروبي علاقات قوية من أبرز مراحلها توقيع
اتفاقيه لومي بين دول الجماعة الأوروبية ودول الجنوب الإفريقي ومنطقة الكاريبي
والمحيط الهادي والتي وقعت في لومي عاصمة توجو في منتصف السبعينيات،
وتم تجديدها عدة مرات إلى أن انتهت في 29/2/2000م وحل محلها اتفاقيه كوتونو
التي أبرمت في يونيو 2000م كما توج هذا التعاون بانعقاد مؤتمر قمة إفريقي
أوروبي بالقاهرة في 3/4/2000م بمشاركة دول الاتحاد الأوروبي مع 52 دولة
إفريقية [10] .
ورغم عجز الدول الإفريقية عن الاستفادة من عضويتها في تلك الاتفاقية نتيجة
الخطوات التي وضعها الاتحاد الأوروبي لتوزيع المعونات ببطء، والتي كانت تمثل
استجابة لتطورات الأحداث الدولية وما نشأ عنها من تهميش القارة الإفريقية إلا أن
أوروبا منذ منتصف التسعينيات كانت أهم شريك تجاري لإفريقيا، واستمرت في
إمدادها بنصف إجمالي معوناتها.
ومن الملاحظ أن دول الاتحاد الأوروبي قد ركزت في شراكتها مع الدول
الإفريقية على البعد السياسي، وربطت ربطاً واضحاً بين السياسة والاقتصاد؛
فبداية من نوفمبر 1991م قرر الاتحاد الأوروبي أن يجعل مساعداته للدول الإفريقية
مشروطة بشروط سياسية هي احترام حقوق الإنسان، والتقدم في المسار
الديمقراطي، والحكم الجيد.
وترتيباً على ذلك فقد تم تعليق مساعدات الاتحاد الأوروبي لبعض الدول
الكبرى مثل نيجيريا، السودان، والكونغو كينشاسا رغم إعلان الدول الإفريقية مع
دول المحيط الهادي والكاريبي رفضها لهذه المشروطية في اجتماع الطرفين في
لومي1997م [11] .
وكان اتفاق لومي الرابع المعدل 1995م يتضمن مبادئ الديمقراطية وحقوق
الإنسان وسيادة القانون باعتبارها عناصر رئيسية في التعاون بين الطرفين، إلا أن
الاتفاق الجديد عبر عن الرغبة في إجراء حوار سياسي، كما نص على آليات
للتشاور والتوفيق بين المصالح بالنسبة لمختلف المشكلات السياسية، وقد أكدت
الدول الإفريقية رفضها مجدداً للمشروطية السياسية خلال الاجتماع الذي عقد في
نيجيريا في مارس 2000م للجنة المشتركة بين الاتحاد الأوروبي، ودول إفريقيا
والكاريبي والمحيط الهادي، وتمسكت بأن يكون الحكم الجيد أحد العناصر الرئيسية
في الاتفاق الجديد، وألا يرقى لمستوى المشروطية؛ بحيث لا يتم تعليق المساعدات
إلا في حالات الفساد الكبرى.
ويرجع هذا التصميم إلى أن الاتحاد الأوروبي يعد الممول الأول للدول
الإفريقية؛ ومن ثم فإن تعليق معوناته سوف يكون له تأثير عميق على اقتصاد أي
دولة [12] .
وفي النهاية فقد جاءت الاتفاقية الجديدة (اتفاقية كوتونو) لتؤكد على قواعد
الحكم الجيد والشفافية وحقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، بل إنها نصت على
إجراءات جديدة يتم اتخاذها في حالة انتهاك الدول الأفريقية لهذه القواعد، وهي
إجراءات قد تصل إلى تعليق العضوية [13] .
وبذلك يتضح أن قضية المشروطية السياسية كانت إحدى القضايا الخلافية في
العلاقة بين إفريقيا والاتحاد الأوروبي، وأن الاتفاقية الجديدة قد عكست إلى حد
كبير سيطرة الرؤية الأوروبية في هذه القضية.
* الدور الفرنسي:
وعند الحديث عن سياسة المنح والمساعدات تبرز أهمية خاصة لإبراز دور
فرنسا في هذا الصدد لا سيما فى مجال العلاقات الثنائية لمنح المساعدات حيث تأتي
فرنسا كأهم دولة أوروبية مؤثرة داخل المجموعة الأوروبية.
ومنذ انتهاء الحرب الباردة أعلنت فرنسا سياستها الجديدة تجاه إفريقيا والتي
أعلنها الرئيس السابق ميتران خلال القمة الإفريقية الفرنسية السادسة عشرة عام
1990م؛ ومؤداها أن فرنسا سوف تكون على استعداد لتقديم المساعدات للدول
الإفريقية التي تحقق تقدماً على مسار التحول الديمقراطي، بينما لا تلتزم بذلك تجاه
الدول التي لا تتخذ أي إجراءات بهذا الصدد؛ ليس ذلك فحسب إنما أعلنت عدم
التزامها بالمساندة العسكرية للدول الفرانكفونية التي تواجه تمرداً عسكرياً إلا إذا
كانت ملتزمة بنفس الشروط.
وقد ساعد انتهاء الحرب الباردة والتراجع الاقتصادي للقارة الإفريقية وما
صاحب ذلك من تراجع نسبي للوجود الاقتصادي لفرنسا في القارة على إعلان تلك
السياسة.
وقد طبقت فرنسا هذه السياسة بالفعل، فمارست ضغوطاً على دول مثل بنين،
كوت دي فوار، الجابون وتشاد مما ساهم في دفعها نحو التخلي عن نظام الحزب
الواحد وتبني التعددية الحزبية، كما رفضت فرنسا التدخل في جيبوتي بناء على
طلب رئيسها حسن جوليد عام 1991م ضد المعارضة التي تمكنت من السيطرة
على شمال البلاد، واكتفت فرنسا آنذاك بإرسال مائتي جندي كقوة لحفظ السلام في
المنطقة، وهو ما دفع الرئيس جوليد في مارس 1992م إلى إعلان الإصلاح
الدستوري وتبني الانتخابات التعددية وإصدار قرار بالعفو العام في البلاد [14] .
وبذلك فإن الدور الفرنسي كان مؤثراً في تحول بعض الدول إلى الديمقراطية،
وإن كان قد واجه بعض العقبات في دول مثل زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) ،
رواندا، توجو.
ولكن الملاحظ أن الضغوط الفرنسية في بدايتها كانت ضغوطاً معتدلة؛ حيث
أعلنت فرنسا أنها لا تمانع في وجود نظام حزب واحد جماهيري يراعي المبادئ
الديمقراطية؛ وذلك بعد أن واجهت بنين بعض العقبات عند تحولها إلى نظام تعدد
حزبي. ولكن سرعان ما عدلت فرنسا من مواقفها لتكون الديمقراطية التعددية هي
الهدف الأوحد.
وعلى الرغم من ذلك إلا أن سياسة فرنسا ما زالت الأكثر اعتدالاً، ويبرز ذلك
مما أعلنه الرئيس الفرنسي شيراك خلال القمة الإفريقية الأوروبية في القاهرة إبريل
2000م؛ حيث أعلن عدم موافقته على التصريح الأمريكي بأن تكون العلاقة مع
إفريقيا علاقة تجارة وليست علاقة مساعدات، موضحاً أن المساعدات المالية عامل
مهم في تحقيق التنمية لدول إفريقيا [15] .
وبعد هذا العرض الموجز لسياسات المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية
المانحة المعلنة في إرساء قواعد المشروطية السياسية ودعم المبادئ الديمقراطية في
القارة الأفريقية تبدو الحاجة إلى البحث في المصالح الغربية الحقيقية وراء رفع
شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
* المصالح الغربية وسياسات المشروطية:
تعرضت سياسات المشروطية لانتقادات مختلفة من قِبَل العديد من المحللين
الأفارقة تكشف عن آثار هذه السياسات من الناحية الفعلية كما تكشف عن المقاصد
الغربية الحقيقية وراء فرض مثل هذه السياسات ومن أهم هذه الانتقادات:
1 - أن المشروطية السياسية تعمل على تقييد التحول الديمقراطي؛ لأن
مسؤولية النظام في الدولة الأفريقية أمام الجهات الخارجية يتعارض مع المحاسبة
الديمقراطية التي يجب أن تكون في يد المجالس التشريعية والمواطنين في الداخل.
فيصبح تقييم النظام يعتمد على المصادر الخارجية التي قد تضع تقييماً مخالفاً لما
يراه المواطن في الداخل؛ فقد ترى هذه المصادر أن الدولة حققت نجاحاً في مسيرة
التحول الديمقراطي في الوقت الذي لا تشعر فيه الجماهير بأي تغيير يذكر أو أي
تقدم من الناحية الفعلية. كما أن المشروطية تؤدي إلى تراجع سيطرة أجهزة صنع
القرار الداخلية في الدولة على اتخاذ القرارات مما يؤدي إلى تراجع الديمقراطية.
لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون دول مثل بوتسوانا وموريشيوس
وهما الدولتان اللتان تميزتا بنظام ديمقراطي متواصل منذ استقلالهما هما الدولتين
اللتين لم تعتمدا على المساعدات التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية والدول
الغربية المانحة بشكل كثيف، رغم اعتمادها على الاستثمارات الخارجية؛ ومن ثم
فان مثل تلك الدول لم تكن مرغمة على الامتثال لقرارات الجهات المانحة [16] .
2 - أن تدخل الفاعلين الخارجيين في شؤون الدول الأفريقية يجعل الموجة
الثانية للديمقراطية في القارة الأفريقية مجرد موجة للاستعمار الجديد تتزامن مع
النظام العالمي الجديد أحادي القطبية، بالإضافة إلى أن الفوائد الاقتصادية التي تعود
على الدول الأفريقية نتيجة امتثالها لقواعد المشروطية السياسية محدودة؛ والدليل
على ذلك الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها العديد من الدول الأفريقية؛ وهذا ما
دفع بعض المحللين إلى القول بان الدول الأفريقية عليها أن تقطع شوطاً طويلاً
(على مسيرة التحول الديمقراطي) لتجد نفسها تقف في نفس المكان دون تقدم (في
مستوى المعونات التي تحصل عليه والذي لا يكفي إلا عُشر احتياجاتها) .
فعلى سبيل المثال التزم (هوافييه بوانيه) في كوت دي فوار بالإصلاحات
التي طالبت بها فرنسا وتلك التي طالبت بها المعارضة الداخلية، ثم أثبت عن
طريق الانتخابات التنافسية أنه ما زال يحظى بتأييد الجماهير، ورغم ذلك لم يتزايد
حجم المساعدات، ولم يتحسن الوضع الاقتصادي في كوت دي فوار [17] .
3 - وفيما يتعلق بتأثير برامج التكيف الهيكلي التي تفرضها المؤسسات المالية
الدولية فإن بعض النماذج للحكومات التي طبقت تلك البرامج أثبتت أن تلك النظم
غالباً ما تفقد مساندة الجماهير، وبذلك تفقد أساس شرعيتها نتيجة رفع الدعم عن
السلع الأساسية، وخفض الإنفاق على التعليم والصحة وغيرهما من الخدمات
الاجتماعية. فبدلاً من أن توفر تلك الحكومات قدراً أكبر من الاستقرار وتحقق
الآمال والطموحات التي رسمتها الجماهير بعد سقوط الأنظمة القديمة في تلك الدول
تفقد النظم الجديدة أساس شرعيتها نتيجة تطبيق هذه البرامج [18] .
4 - زعم الدول الغربية بالاهتمام بالديمقراطية يفتقد المصداقية؛ فالولايات
المتحدة الأمريكية وإن كانت قد أعلنت تأييد مبدأي الديمقراطية وحقوق الإنسان
كركيزتين أساسيتين للسياسة الخارجية الأفريقية، إلا أن هذه المبادئ مجرد أداة
تستغلها السياسة الأمريكية لتحقيق مصالحها، وليست هدفاً تسعى إلى تحقيقه.
فالمصالح الأمريكية تتجه في بعدها السياسي إلى تطوير العلاقات مع دول القارة
الأفريقية بما يخدم ويعزز المصالح الأمريكية الحيوية في القارة، وتتعامل مع هدف
تشجيع الديمقراطية لدى النظم الأفريقية الحاكمة بمبدأ النسبية؛ حيث ترتبط بمدى
الاهتمام الأمريكي بحالة كل نظام سياسي على حدة تبعاً لطبيعة المصالح التي قد
تختلف طبيعتها من دولة إلى أخرى. كما تهدف الولايات المتحدة بالأساس في
علاقاتها مع أفريقيا تحجيم النفوذ الأوروبي، والانفراد بالنفوذ في القارة من أجل
الحفاظ على الزعامة العالمية.
أما فرنسا فإنها تهدف إلى وجود مراكز قوية سياسية محلية في أرجاء مختلفة
من العالم لا ترغب في إطلاق الهيمنة الأمريكية ثقافياً، وإنشاء تجمع سياسي
فرانكفوني في أفريقيا له هدف سياسي يؤخذ به في الساحة الدولية، وهو ما يعني
بالدرجة الأولى إنشاء تيار سياسي مناهض للتيار الأنجلوسكسوني الأمريكي تجتمع
تحت مظلته جميع الدول الهادفة إلى الحد من الهيمنة الأمريكية [19] .
ولأن هذا الاهتمام بالمبادئ الديمقراطية يفتقد المصداقية فإن تلك الدول لم
تتوانَ عن تغيير شعاراتها عندما تجد ما يهدد مصالحها؛ فعندما طالبت الدول
الغربية دول القارة الأفريقية بتبني نظم تعددية والسماح بإجراء انتخابات تنافسية
أدى ذلك إلى سقوط العديد من النظم الموالية للغرب (حركة يونيتا UNITA في
أنجولا، نظام د. باندا في مالاوي، الحزب الوطني وحركة أنكاثا في جنوب
أفريقيا وغيرها من الأنظمة) . ورفضت النظم الجديدة الانصياع لإجراءات التكيف
الهيكلي التي فرضت عليها. لذلك رفعت الدول الغربية ومعها البنك الدولي شعاراً
جديداً وهو الحكم الجيد. وقصد به من الناحية العملية الحكم الذي يقبل الانصياع
لبرامج التكيف الهيكلي والمطالب الغربية الأخرى بغض النظر عما إذا كانت
الحكومة منتخبة في انتخابات تنافسية أم لا. كما بدأ بعض المسؤولين الأمريكيين
في القول إن الدول الأفريقية قد لا تكون على استعداد للديمقراطية الغربية، وأنها
تحتاج إلى حل يتواءم مع طبيعتها. وكان الهدف من ذلك أن تقوم حكومة وحدة
وطنية في كل دولة تضمن مكاناً متميزاً للحلفاء الأفارقة في النظام الجديد بعد أن
أخفق هؤلاء في الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات التنافسية، رغم
استخدام الغرب الدعاية المضادة للقوى التي كانت تنافس هؤلاء الحلفاء (حزب
المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، حركة Frelimo , Mpla في
موزمبيق، وغيرهما) [20] .
ويمكن بذلك استخلاص أنه على رغم الاتجاه إلى تحديد مبادئ التحول
الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان كأهداف أساسية من قبل القوى الغربية إلا أن
معظم المحللين اتجهوا إلى أن هذه المبادئ هي مجرد أدوات تمتلكها القوى المتنافسة
وتستخدمها من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في القارة.
وللتعرف على مدى صحة هذه الآراء النظرية يمكن الرجوع إلى بعض الأمثلة
التطبيقية لمعرفة هل تطبق هذه القواعد على الدول الأفريقية بصفة عامة أم أن
قواعد المشروطية هي قواعد انتقائية؟
* المشروطية السياسية وازدواجية المعايير:
تؤكد متابعة النماذج الواقعية أن الدول المانحة تتبع معايير مزدوجة
عند تطبيق قواعد المشروطية السياسية على الدول الأفريقية؛ فهي تتخذ موقفين
متعارضين من قضية ذات طبيعة واحدة في بلدين مختلفين طبقاً لارتباط هذا البلد
بمصالحها، ويمكن في هذا الإطار المقارنة بين تعامل الدول الغربية مع كينيا
(وهو النموذج الذي تكرر مع العديد من الدول الأفريقية) والنموذج الأوغندي الذي
يعد استثناءً واضحاً من فرض سياسات المشروطية ودليلاً على ازدواجية المعايير.
ففي الحالة الكينية تعرض نظام الرئيس دانيال آراب موي لضغوط خارجية
مطالبة بالإصلاح السياسي مع بداية التسعينيات؛ فقد مارس السفير الأمريكي لدى
كينيا ضغوطاً قوية على الحكومة الكينية؛ حيث هدد بأن مجلس النواب الأمريكي
سوف يشترط لتقديم المساعدات الأمريكية لكينيا ضرورة القيام بإصلاحات سياسية
تسمح بالتعدد الحزبي، وتزايدت حدة الضغوط بعد إصدار الدول الدائنة في منتدى
باريس قراراً في نوفمبر 1991م بوقف مساعدات قيمتها 350 مليون دولار حتى
يقوم النظام الكيني بإجراء إصلاحات سياسية، والسماح لأحزاب المعارضة
بالتنافس في انتخابات تعددية.
وإزاء هذه الضغوط أعلن الرئيس موي فى أحد الاجتماعات الحزبية بعد أيام
من صدور قرار منتدى باريس أن النظام ليس أمامه سوى بديل واحد وهو التعديل
الدستوري، والسماح بالتعدد الحزبي وهي الخطوة التي تم تنفيذها بالفعل في
10/12/1991م، وبنهاية أكتوبر 1992م حل موي البرلمان من أجل الاستعداد
للانتخابات التعددية التي أعلن عن إجرائها في ديسمبر 1992م، وعلى أثر ذلك
أيضاً تم إنشاء عدد من أحزاب المعارضة (منتدى عودة الديمقراطية (فورد) ،
الحزب الديمقراطي، حزب العمل الديمقراطي، المؤتمر القومي لكينيا وغيرهما)
[21] .
وبذلك فإن الضغوط الغربية لعبت دوراً مهماً في أخذ قرار التحول، والسماح
بالتعددية الحزبية، وإقامة انتخابات تعددية، إلا أن هذا الدعم الخارجي للمبادئ
الديمقراطية ولقوى المعارضة في الداخل لم يستمر؛ كما أن الجهات المانحة ركزت
في تعاملها مع النظام الكيني على قضايا الفساد الحكومي، والإصلاح الاقتصادي
على حساب الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية. فبعد أن جمد صندوق
النقد الدولي مساعداته للنظام الكيني عام 1997م نتيجة تزايد معدلات الفساد عاد
لاستئناف تقديمها عام 2000م بعد تدهور الأحوال الاقتصادية في كينيا؛ وذلك
شريطة توافر قدر من الشفافية بدلاً من اشتراط تحقيق استقلال القضاء، أو احترام
حقوق الإنسان وحكم القانون، أو غيرها من المعايير الديمقراطية التي يحتاج النظام
الكيني إلى تدعيمها. وبالفعل فقد أعلن صندوق النقد الدولي عن قرض قيمته 198
مليون دولار للحكومة الكينية، كما أعلنت بريطانيا الحليف التقليدي للنظام الكيني
عن مساعدات قيمتها 42 مليون دولار لمعالجة العجز في الميزانية؛ بينما أعلنت
الولايات المتحدة عن مساعدات قيمتها 34.9 مليون دولار خصص منها 5.8 مليون
دولار فقط لدعم الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي [22] . وتلك الحقائق إنما
تؤكد عيوب المسلك الغربي في التعامل مع النظام الكيني الذي يفصل بين الفساد
والإصلاح الاقتصادي من جهة، والإصلاح السياسي من جهة أخرى.
أما بالنسبة للنموذج الأوغندي فيطرح خبرة مختلفة في كثير من جوانبها عن
النموذج الكيني؛ فمنذ وصول الرئيس يوري موسيفيني إلى السلطة في أوغندا عام
1986م أعلن أن أوغندا ليست مستعدة لتبني التعددية الحزبية، وتبني نظام الجبهة
الائتلافية باعتباره السبيل الوحيد للحفاظ على التماسك الوطني وتحقيق التنمية.
وعلى الرغم من عدم تبنيها للتعددية الحزبية، إلا أن أوغندا تعتبر من الدول التي
تعتمد على المساعدات الغربية بصورة كثيفة، وخلافاً للنموذج الكيني (وغيره من
النماذج) لم يتم التهديد بتجميد هذه المساعدات إذا لم يتم إرساء الإصلاحات
السياسية التي تؤدي إلى تبني التعددية الحزبية، بل وقد تزايدت المساعدات الغربية
لأوغندا زيادة ملحوظة في الفترة ما بين 1989م إلى 1994م، فتضاعفت تلك
المساعدات من 452 مليون دولار عام 1989م إلى 830 مليون دولار عام 1995م،
كما زاد الاهتمام الغربي بالشؤون الداخلية في أوغندا في تلك الفترة.
وقد يظن البعض - للوهلة الأولى - أن الدول المانحة لم تلجأ إلى فرض
المشروطية السياسية على النظام الأوغندي تفهماً للوضع الذي ساد في أوغندا
لفترات طويلة من الحرب الأهلية، أو محاولتها لإعادة البناء، أو أن تلك الدول
اقتنعت بأن الحكومة الأوغندية لديها الاستعداد للتشاور وتبني إصلاحات سياسية
واقتصادية، وأنها بالفعل ساهمت في إرساء بعض الإصلاحات عن سابقاتها من
الحكومات. ولكن هذه الأسباب جميعها لا تفسر وحدها لماذا لم تمارس الدول
الغربية المشروطية السياسية على الحكومة الأوغندية لدفعها نحو تبني التعددية
الحزبية. السببان الرئيسيان اللذان يفسران هذا المسلك الغربي هما:
1- التقدم الاقتصادي لسياسات الانفتاح في النموذج الأوغندي:
فقد تحول الرئيس موسيفيني تحولاً جذرياً في سياساته الاقتصادية من الوقوف
ضد سياسات صندوق النقد الدولي فور توليه السلطة عام 1986م إلى تبني سياسات
الصندوق الاقتصادية عام 1987م إيماناً بأنه لن يستطيع إعادة بناء الاقتصاد المنهار
والبنية التحتية بعد سنوات طويلة من الحرب دون مساندة الدول الغربية. وبدأ
الاقتصاد الأوغندي في الازدهار نتيجة الالتزام بسياسات الصندوق، وكان ذلك هو
ما يهم الدول المانحة لحاجتها أن يكون هناك تجارب اقتصادية ناجحة في إفريقيا
تمثل نماذج يحتذى بها للدول الأخرى، فتسعى تلك الدول لتطبيق مبادئ الانفتاح
الاقتصادي التي تدافع عنها الدول الغربية؛ وذلك في الوقت الذي كانت تواجه هذه
السياسات التي تفرضها الدول الغربية على الدول النامية بصفة عامة، والدول
الإفريقية بصفة خاصة بانتقادات حادة بدافع أنها لا تتلاءم مع ظروف تلك الدول،
ومن ثم فإن توافر نموذج كالنموذج الأوغندي يعني أن الإخفاق في تطبيق هذه
السياسات والبرامج في الدول الأخرى لا يعود إلى عيب في تلك البرامج ذاتها، ولا
يعود إلى الدول الغربية، إنما يعود إلى حكومات الدول الإفريقية.
2 - الدور الإقليمي المحوري للرئيس موسيفيني:
فالدول المانحة وبصفة خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا اعتمدت بصفة
أساسية على الرئيس موسيفيني لتنفيذ أهداف سياستها الخارجية في المنطقة. وقد
أثبت موسيفيني أنه يصلح للقيام بهذا الدور في فترة ما بعد الحرب الباردة. فقد شهد
النصف الأول من التسعينيات عدة أحداث مهمة في القارة الإفريقية منها استمرار
الحرب الأهلية في السودان، النزاعات الدائرة في الصومال، المذابح في رواندا
وبوروندي، وغيرها من الأحداث. وكانت أوغندا هي الدولة التي تتمتع بقدر من
الاستقرار النسبي في وسط هذه الحالة من الفوضى. ولعب موسيفيني دور الوكيل
بالنيابة عن الولايات المتحدة في المنطقة، فكان حليفاً للولايات المتحدة في علاقاتها
ضد السودان؛ بل إن البعض اعتبر أن الحرب في شمال أوغندا لم تكن حرباً بين
الحكومة وجيش الثوار فقط، إنما بين الأوغنديين والحكومة السودانية التي كانت
تدعم هؤلاء الثوار. كما تعاون موسيفيني مع الدول الغربية في توفير محور إقليمي
رئيسي لازم لعمليات الإمداد والتمويل بعد مذابح رواندا 1994م.
وعليه فان الدول الغربية إذا مارست ضغوطاً على حكومة موسيفيني لتبني
التعددية التي يرفضها فإن ذلك يعني المخاطرة بشريك رئيسي للدول الغربية في
المنطقة. لذلك كان على الدول الغربية اختيار مسلك آخر غير المشروطية السياسية
في التعامل مع الحكومة الأوغندية لدفعها نحو إرساء الإصلاحات السياسية [23] .
من مقارنة النموذجين الأوغندي والكيني والتعامل الغربي معهما يتضح أن
الدول الغربية والجهات المانحة يهمها تطبيق برامج التكيف الهيكلي (في شقها
الاقتصادي) باعتبارها من وجهة نظر تلك الجهات المخرج الوحيد للدول الإفريقية
من أزماتها الاقتصادية أكثر من حرصها على تطبيق المشروطية السياسية حتى وإن
كانت تلك الجهات تعلن تمسكها بالإصلاحات السياسية التي توفر مناخاً ملائماً لدفع
التنمية الاقتصادية، وهي بتركيزها على السياسات الاقتصادية تتجاهل تأثير
المشكلات السياسية على الأداء الاقتصادي؛ فالإصلاحات الاقتصادية لا بد أن
يصاحبها إصلاحات سياسية تدعم بعضها البعض إذا سارت في نفس الاتجاه. أما
تجاهل الجانب السياسي فإنه يؤثر سلباً على الأداء الاقتصادي؛ فتصاعد الصراعات
الإثنية، ونمو الجماعات الثورية على سبيل المثال عوامل تؤثر بالسلب على النجاح
الاقتصادي.
كذلك يتضح أن الدول الغربية تضع مصالحها فى المقام الأول عند التعامل مع
قضية التحول الديمقراطي في القارة الإفريقية؛ فلأنها بحاجة للدور النشط الذي قام
به الرئيس موسيفيني في المنطقة لم تمارس ضغوطاً مكثفة لإدخال الإصلاحات
السياسية؛ بينما مارست تلك الضغوط على النظام الكيني وغيره من النظم، وهو ما
يعبر عن ازدواجية المعايير في التعامل مع قضية التحول الديمقراطي في القارة
الإفريقية.
* الخاتمة:
مع أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات بدأت الدول الغربية والمؤسسات
المالية الدولية في فرض قواعد المشروطية السياسية على الدول الأفريقية وكانت
تلك الجهات تركز في فرضها لقواعد المشروطية السياسية على تطبيق الديمقراطية
بنهجها الغربي القائم على التعددية الحزبية إيماناً منها بأن نموذج الديمقراطية
التعددية هو أفضل نماذج الحكم، وهو النموذج القادر على إخراج الدول الإفريقية
من أزماتها الاقتصادية المتلاحقة، وتسوية الصراعات القائمة بها. وبدأت هذه
السياسة مع كينيا 1991م ومالاوي 1992م؛ حيث هددت الدول المانحة بتجميد
المساعدات المالية لهاتين الدولتين إذا لم تتجها إلى الأخذ بالتعددية السياسية وتسعيا
لإقامة انتخابات تعددية مما أدى بهما إلى البدء في مسيرة التحول الديمقراطي، ثم
تبعهما في ذلك العديد من الدول الإفريقية التي بدأت تتراجع عن الأخذ بنظام الحزب
الواحد، وتقيم انتخابات تعددية، كما لجأ بعضها إلى إشراك الجماهير والمعارضة
في صياغة وثيقة دستورية جديدة تؤكد على المبادئ الديمقراطية وتكفل حقوق
الإنسان. إلا أن مراجعة السياسات الفعلية والنماذج الواقعية يثبت أن الانتقائية
وازدواجية المعايير وتغليب المصالح الغربية كانت هي المعايير الحاكمة لفرض
سياسات المشروطية، وهو ما يشكك في مصداقية الدعم الغربي للمبادئ الديمقراطية
في القارة الأفريقية، ويؤكد أن شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان هي مجرد
أدوات تستغلها تلك الدول لفرض نماذج التنمية الغربية في بيئة تختلف كلية عن
البيئة الغربية، ودون مراعاة للخصوصية الثقافية للدول الأفريقية. وهذه الشعارات
هي التي ترفعها هذه الدول أيضاً في مواجهة الدول العربية والدول النامية بصفة
عامة؛ ولذلك يجب العمل معها بشيء من الحذر، والبحث عن مراميها البعيدة حتى
لا تصبح الدول النامية مجرد مستورد للنماذج الغربية للتنمية.
__________
(*) معيدة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(1) Olav stokke, "Aid and political conditonality: core issues and state of art" , in: Olav stokke, (ed) , Aid and political conditonality, (London: frank cass, 1995) , p 12.
(2) محمد نور السيد، (المؤسسات الدولية وديون العالم الثالث) ، السياسة الدولية، العدد 86، أكتوبر1986م، ص 185.
(3) لمزيد من البيانات حول الدول الإفريقية:
World Development Report 2001 ,http://www.Worldbank.Org/poverty/wrdpoverty/report.
(4) Werner Hammel , The political Dimension of Aid: developing countries must shoulder responsibility" , http://www.oneworld.org/euforrc/dandc/97-eham.htm , pp. 2-3.
(5) Samuel Decalo "the process, Prospects and constraints of Democratization in Africa ", African Affairs, vol. 91, No.362, January 1992,p.23.
(6) من أمثلة هذه الكتابات الناقدة لسياسات المشروطية:
Shahana S.ahmed,"globalization: towards a liberalized or a re-colonized world?", African political and economic monthly,vol.13,no.1,march 2000,p.44.
Mai plumberg, The struggle for Africa, (London: pitman press , 1983) , pp.49-51
(7) Korwa G.Adar, "the wilsonian conception of Democracy", http://web.africa.ufi.edu.asq/v2/v2i2a3.htm, pp.3-6.
(8) نيفين حليم، (التنافس الدولي لكسب النفوذ في إفريقيا) ، في: صلاح سالم زرنوقة (مشرف) ، العرب وإفريقيا فيما بعد الحرب الباردة، (جامعة القاهرة، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، قضايا التنمية، عدد 18، 2000م) ، ص 54، 1.
(9) peter schraeder,"Removing the shackles: Us foreign policy toward Africa after the cold war", In: Edmon keller & Donald Rothchild (eds.) , Africa in the international order , (London: Lynne Rienner publishers , 1996) , pp.200-201.
(10) أحمد طه محمد، (الأبعاد السياسية للشراكة بين أوروبا وإفريقيا) ، السياسة الدولية، العدد 141، يوليو 2000م، ص 166.
(11) (12) Estelle Drew, " Acp - Eu joint Assembly ",African business, no. 254, May 2000,p.38.
(13) انظر فى أحكام هذه الاتفاقية:
cotonou Agreement, www.europa.eu.int/comm/development/cotonou.
(14) claude Wathier , "French policy in Africa" , Africa contemporary Record , Vol.23,1990-92
(15) Estelle Drew, "Eu - African summit: Temperature rise" , African business, No.225 , june 2000, p. 20
(16) Nicolas van Dewalle, " Globalization and African Democracy", In: Richard Joseph, state, conflict and democracy in African, (London: lynnne Rienner publishers, 1999) , p.108.
(17) Decalo , op. cit , pp. 30 - 33.
(18) Legum , op. Cit , p.61.
(19) نيفين حليم، مرجع سابق، ص ص 58-59.
(20) Joseph Hanlon, "Is there An African Democracy?", http://www.brad.ac.uk/research/ijas/estudos.htm, pp. 1- 3 of 9.
(21) انظر في تفصيل ذلك: حمدي عبد الرحمن، قضايا في النظم السياسية الأفريقية، (القاهرة: مركز دراسات المستقبل الأفريقي، 1998م) ، ص 252 - 255.
(22) Frank Holmquist , Michael ford ", Kenyan politics: Toward a second transition", Africa today, vol. 54, No 2, April- june 1998, p.246.
(23) لمزيد من التفاصيل حول علاقة أوغندا بالدول المانحة انظر:
Elen Hauser, " Ugandan relations with western donors in the 1990'S:what impact on democratization", Journal of modern African studies, vol. 37, Dec 1999 , p. 623(181/50)
ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
خلفيات الحروب الأهلية في إفريقيا
أ. رانيا حسين عبد الرحمن [*]
* مقدمة:
تعتبر ظاهرة الحروب الأهلية من أبرز الظواهر الإفريقية؛ إذ لا يكاد يخلو
إقليم من أقاليم القارة الإفريقية من صراع أو حرب أهلية عنيفة كان لها آثارها
العميقة ليس فقط على الحياة السياسية وإنما على كافة مناحي الحياة في القارة
الإفريقية.
وتتسم ظاهرة الصراعات الأهلية في القارة الإفريقية بأنها ظاهرة معقدة سواء
فيما يتصل بخلفياتها وأسبابها، أو فيما يتصل بنتائجها وتداعياتها. فعلى صعيد
الأسباب لعبت العديد من المتغيرات دوراً في اندلاع الحروب الأهلية. ويمكن
تصنيف هذه المتغيرات في مجموعتين رئيسيتين تتعلق أولاهما بالبيئة الداخلية مثل
الطبيعة التعددية للمجتمعات الإفريقية: العوامل الاقتصادية والسياسية. أما ثانيهما
فتتعلق بالبيئة الخارجية وما يرتبط بها من دور للقوى الدولية والإقليمية في
الصراعات الإفريقية.
وعلى صعيد النتائج أفرزت الحروب الأهلية في إفريقيا العديد من النتائج
تمثلت في: انهيار الدولة وتقويضها، نشوء ظاهرة العنف السياسي أو ثقافة العنف
في المجتمعات الإفريقية، بروز ظاهرتي اللاجئين وتجنيد الأطفال في النزاعات
المسلحة، وغيرها من الظواهر التي تؤدي بدورها إلى تفاقم حدة الصراعات
وتجددها مرة أخرى.
وتجدر الإشارة إلى أن القارة الإفريقية ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية
شهدت ثلاث موجات من الحروب والصراعات الأهلية، يمكن الإشارة إليها على
النحو التالي [1] :
الموجة الأولى: وقد انفجرت هذه الموجة في أعقاب الحرب العالمية الثانية،
وتمثلت في حروب حركات التحرير ضد القوى الاستعمارية. وامتدت هذه الموجة
حتى منتصف السبعينيات. واتسمت هذه الموجة من الحروب والموجهة بالأساس
ضد القوى الاستعمارية بانخفاض تكاليفها، وضيق أو محدودية نطاقها.
الموجة الثانية: وشملت ظهور عدد قليل من الصراعات بين الدول الإفريقية
فضلاً عن صراعات وحروب أهلية على نطاق واسع. وكان من أبرز أنماط
النوع الأول (الصراعات بين الدول الإفريقية) حرب الأوجادين (بين
الصومال وإثيوبيا 1977 - 1978م) ، (والحرب التنزانية - الأوغندية
1978 - 1979م) .
الموجة الثالثة: وقد بدأت هذه الموجة مع انتهاء الحرب الباردة، واتسمت
الصراعات في هذه المرحلة بأنها في معظمها صراعات أهلية؛ إذ أصبحت
الحروب الأهلية النمط الأكثر شيوعاً في القارة الإفريقية بين أنماط الصراع الأخرى.
ففي حين لم تتعدد حالات الحروب الأهلية التي وقعت في القارة منذ منتصف
الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات - لم تتجاوز تسع حالات - فإنه ومع بداية
التسعينيات، انفجرت سلسلة من الحروب الأهلية الطاحنة، فضلاً عن حالات
التطهير العرقي والمذابح الجماعية، وتنوعت هذه الصراعات ما بين صراعات
شكلت استمراراً لحالات سابقة (السودان - موزمبيق) ، أو استئنافاً لها في شكل
جولات جديدة أكثر حدة (بوروندي - أنجولا) ، فيما ظهرت حالات جديدة لم يكن
لها وجود سابق مثل (ليبيريا والصومال) [2] . ووفقاً لتقرير الأمين العام للأمم
المتحدة حول أسباب الصراعات الأهلية في القارة الإفريقية، فإن 14 دولة من
إجمالي 53 دولة إفريقية عانت من نزاعات مسلحة عام 1996م.
وقد تنوعت التعريفات المقدمة لظاهرة الحرب الأهلية، وفقاً للبعد الذي يتم
التركيز عليه في التعريف. وقد عرف أحمد إبراهيم محمود الحرب الأهلية تعريفاً
إجرائياً وذلك في دراسته حول الحروب الأهلية في إفريقيا، باعتبارها شكلاً من
أشكال الصراع الداخلي في المجتمع، تقوم به جماعة أو جماعات على أسس إثنية
أو أيديولوجية من أجل تغيير بعض السياسات الحكومية أو الإطاحة بنظام الحكم أو
الحصول على الحكم الذاتي لمنطقة معينة أو الانفصال عن الدولة. ويشتمل هذا
الصراع على أعمال عنف مسلح منظم واسع النطاق من جانب جميع الأطراف
المشاركة، ويتم تنفيذ عمليات العنف انطلاقاً من مناطق معينة تمثل قاعدة عسكرية
محددة لها [3] .
* عوامل اندلاع الحروب الأهلية:
تتميز العوامل المؤدية إلى اندلاع الحروب والصراعات الأهلية في إفريقيا
بالتعقيد الشديد، وفيما يلي محاولة لتناول هذه العوامل من خلال تقسيمها إلى
محورين رئيسيين يتناول المحور الأول العوامل ذات الصلة بالبيئة الداخلية
للمجتمعات الإفريقية، بينما يتناول المحور الثاني العوامل ذات الصلة بالبيئة
الخارجية.
وثمة ملاحظة ينبغي الإشارة إليها في هذا الإطار وهي أن العوامل المؤدية
لبروز ظاهرة الحروب الأهلية في المجتمعات الإفريقية هي في واقع الأمر عوامل
متداخلة يصعب الفصل بينها واقعياً عند تحليل ودراسة الحالات المختلفة للحروب
الأهلية في القارة، ومن ثم يظل الفصل بين هذه العوامل هو فصل تحتمه اعتبارات
الدراسة؛ إذ إن تحليل ظاهرة الحروب الأهلية في القارة تكشف عن تداخل يعتد به
بين هذه العوامل.
* المحور الأول: العوامل ذات الصلة بالبيئة الداخلية للمجتمعات الإفريقية:
أ - العوامل الإثنية:
تتميز المجتمعات الإفريقية بتعدد أشكال وأنماط التعددية سواء كانت تعددية
إثنية أو لغوية أو دينية.
فعلى صعيد التعددية اللغوية توجد في إفريقيا أكثر من ألفي لغة ولهجة، إلا أن
هذا العدد يمكن تقليصه إلى نحو خمسين لغة رئيسية إذا ما تم تجميع اللغات
واللهجات المتشابهة، والاقتصار على اللغات الرئيسية. وتنتمي هذه اللغات في
مجملها إلى مجموعتين رئيسيتين هما: مجموعة اللغات الأفرو آسيوية، ومجموعة
لغات النيجر الكونغو، وكلاهما تتكون من مجموعات لغوية فرعية [4] .
وعلى صعيد التعددية الدينية يشهد الواقع الأفريقي أيضاً تعدداً وتنوعاً في
الأديان والمعتقدات. فإلى جانب الدين الإسلامي والمسيحية توجد الأديان التقليدية،
والتي هي بدورها متعددة ومتنوعة بقدر تنوع وتعدد الجماعات الإثنية في القارة؛ إذ
تتميز الأديان التقليدية بأنها محلية الطابع لا تمتلك أي فعالية خارج نطاق الجماعة
الدينية المؤمنة بها [5] .
إلا أنه وعلى الرغم مما سبق ذكره حول التعددية اللغوية والدينية، فإن
التعددية الإثنية تظل هي النمط الأهم من أنماط التعدديات الموجودة والسائدة في
المجتمعات الإفريقية. وتتميز الإثنية في المجتمعات الإفريقية بأربعة خصائص
أساسية [6] :
أولاً: أن الرابطة الإثنية تتميز عن غيرها من الروابط الاجتماعية بكونها
رابطة وراثية وليست مكتسبة؛ ومن ثم فهي تقوم على أساس الوعي بالذات.
ثانياً: أن الجماعة الإثنية تتميز بوجود إيمان جمعي بمجموعة من القيم
والمعتقدات يتم التعبير عنها بشكل مؤسسي.
ثالثاً: تتميز الرابطة الإثنية في إفريقيا بوجود تمايزات واضحة داخل
الجماعات الإثنية، ولعل هذا ما يسوِّغ الصراعات الداخلية داخل كل جماعة إثنية،
وهو الأمر الذي يزيد من تعقيد ظاهرة التعددية الإثنية في القارة الإفريقية.
وأخيراً: تتميز الإثنية في إفريقيا بأنها يمكن أن تتلاءم مع المواقف
والسياسات المتنوعة والمعقدة بحكم ما تنطوي عليه من ولاءات فرعية متعددة.
وعلى الرغم من أن التعددية الإثنية أمر أصيل في واقع المجتمعات الإفريقية،
فإن الاستعمار الأوروبي وبالأحرى السياسات الاستعمارية ساهمت في زيادة حدة
التعددية الإثنية إلى الدرجة التي أصبحت بها هذه التعددية أحد أهم أسباب الحروب
والصراعات الأهلية في القارة [7] .
ويولي دارسو الحروب الأهلية في إفريقيا أهمية خاصة للبعد الإثني باعتباره
المحرك الرئيسي لتلك الحروب؛ ذلك أن الحروب الأهلية تبدأ «باستقطاب إثني»
حاد داخل المجتمع يسمح بتعبئة الموارد وحشد الصفوف على أسس إثنية بالأساس
[8] .
وتجدر الإشارة إلى أن وجود الظاهرة الإثنية في حد ذاتها لا يعتبر سبباً كافياً
لظهور الصراعات الأهلية؛ حيث إن هذه الصراعات تبرز إلى الوجود فقط عند
شعور جماعة أو جماعات إثنية معينة بالحرمان والظلم بسبب تعرضها لنوع من
أنواع الضرر الجماعي المتمثل في عدم المساواة الاجتماعية، وحرمان أعضائها من
التمتع بمستوى معين من الحياة المادية التي تتمتع به الجماعات الأخرى، أو
حرمانها من المشاركة في تداول السلطة.... إلخ [9] .
بمعنى آخر، فإن الظاهرة الإثنية تعتبر ركيزة أو أساساً للحرب الأهلية عندما
يجري رسم وتنفيذ السياسات العامة للدولة على أساس الاعتبارات الإثنية المتحيزة.
وتعتبر رواندا حالة خاصة من الحالات التي اندلعت فيها الحرب الأهلية
استناداً إلى أسباب عرقية. فعلى الرغم من بساطة التركيبة الإثنية في رواندا (من
ثلاثة جماعات فقط هي: الهوتو 85%، التوتسي 14%، التوا 1%) ، وعلى
الرغم من التجانس الملحوظ بين المواطنين من حيث اللغة والديانة ونمط التنظيم،
فإن العنف الإثني الذي وصل إلى درجة التطهير العرقي أو الإبادة، جاء ليس نتيجة
لظاهرة التعددية في حد ذاتها، وإنما نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل والأسباب،
ومنها [10] :
أ - عوامل تاريخية: مرتبطة بنمط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية بين الهوتو والتوتسي قبل وخلال الاستعمار؛ إذ تميزت هذه العلاقة قبل
الاستعمار بعدم المساواة؛ فسياسياً سيطر التوتسي على هرم السلطة التقليدي، كما
سيطروا على مصادر الثروة التقليدية، وتمكنوا من إخضاع الهوتو - اقتصادياً
واجتماعياً من خلال ما يعرف بعلاقة «التابع والمتبوع» .
ب - عوامل ثقافية: تمثلت في تراكم تراث كبير من الأساطير والمرويات
الشعبية، تكرس فكرة الأصل المقدس للتوتسي وحقهم الطبيعي في الحكم والقيادة،
وقد واصل الاستعمار تغذية هذا الميراث كما سيتضح ذلك في جزء تال من هذه
الورقة.
ج - عوامل سياسية: تتعلق بطبيعة واتجاهات النخب السياسة الإثنية ومدى
استعدادها وقدرتها على توظيف الانقسامات الإثنية لتحقيق أغراضها السياسية.
وقد شهدت القارة الإفريقية تسييساً للظاهرة الإثنية، من حيث تشكيل الأحزاب
السياسية على أسس إثنية وما يترتب على هذا الأمر من تمثيل المصالح والتعبير
عنها، بل وتوزيع الثروة والسلطة وفقاً لهذه الأسس.
ب - العوامل الاقتصادية:
على عكس الاعتقاد السائد بأن الحروب الأهلية في إفريقيا تعود إلى التعددية
الإثنية بالأساس؛ فإن دراسة قام بها البنك الدولي استهدفت الحروب الأهلية في
161 دولة بين عامي 1960 - 1999م أوضحت أن العوامل الاقتصادية تلعب
دوراً هاماً في إشعال الحروب الأهلية في القارة الإفريقية [11] .
وتعاني القارة الإفريقية من تخلف اقتصادي واضح، ينعكس في العديد من
المؤشرات مثل: تدني معدلات النمو الاقتصادي، المستويات العالية للفقر، تفاقم
الديون، تدني متوسطات دخول الأفراد، تدني مستوى البنية التحتية.... إلخ.
ويعتبر التخلف الاقتصادى سبباً مباشراً لنشوب الحروب الأهلية؛ إذ إن
محدودية القدرات الاقتصادية للدول الإفريقية تؤدي بالضرورة إلى عدم العدالة في
توزيع الموارد الاقتصادية بما يعنيه ذلك من استجابة الأنظمة لمطالب جماعات
بعينها على حساب جماعات أخرى، ومن ثم تنشب الصراعات الأهلية إما من قِبَل
الجماعات التي تسعى للحصول على نصيب من «الكعكة» أو من قبل الجماعات
التي ترغب في استمرار حصولها على الامتيازات الاقتصادية بمفردها دون مشاركة
الجماعات الأخرى.
وعلى الرغم من أن الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها القارة الإفريقية اليوم
هي نتيجة مباشرة للاستعمار الذي سعى لأن تكون اقتصاديات الدول الإفريقية مجرد
اقتصاديات متخلفة تابعة للمراكز الرأسمالية العالمية بما يضمن تقدم هذه الأخيرة.
إلا أن السياسات الاقتصادية للدول الإفريقية المستقلة ساهمت هي الأخرى بقدر كبير
في تعميق مشكلات الصراعات الأهلية؛ إذ اتبعت الدول الإفريقية المستقلة حديثاً
سياسات اقتصادية تمييزية، استهدفت في الغالب إرضاء الجماعات الإثنية التي
ينتمي الرئيس أو النظام الحاكم، بما يعنيه ذلك من غياب للعدالة التوزيعية للسلع
والخدمات فضلاً عن المكانة والمناصب السياسية والمراكز الإدارية، وهو الأمر
الذي عمق مشكلة الاندماج الوطني في المجتمعات الإفريقية [12] .
وفي التسعينيات، تفاقمت الأزمة الاقتصادية في الدول الإفريقية نتيجة اتباع
هذه الدول سياسات وبرامج التكيف الهيكلي والإصلاح الاقتصادي وهو ما أدى إلى
ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الأجور الحقيقية.
وتعتبر سيراليون نموذجاً للصراعات الأهلية التي اندلعت في التسعينيات على
خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية، وليس أدل على تردي الأوضاع الاقتصادية في
سيراليون من تصنيفها في تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة
باعتبارها أفقر دولة في العالم؛ وذلك بوجود 65% من المواطنين تحت خط الفقر
[13] .
وقد أدى اتباع سياسات اقتصادية تمييزية وغير متوازنة إلى استشراء ظاهرة
الفساد في المجتمعات الإفريقية.
ومرة أخرى يرتبط الفساد في هذا السياق بالروح الإثنية، وتعتبر سيراليون
أحد الأمثلة التي شهدت استشراء ظاهرة الفساد؛ ففي الفترة من 1986 - 1992م
خضعت موارد الدولة لسيطرة الحزب الحاكم، واستخدمت هذه الموارد لتحقيق
مصلحة فئة صغيرة على حساب المصلحة العامة، بل والأكثر من ذلك كان من
الصعوبة بمكان الفصل بين الثروة الوطنية والثروة الشخصية لرئيس الدولة سياكا
ستيفينز، وقد استغل الرئيس ستيفينز ومعاونوه المقربون وعلى رأسهم قيادات
الحزب موارد الدولة في تحقيق ثروات خاصة ضخمة، وهو ما مكنهم من تدعيم
وتقوية قبضتهم على السلطة [14] .
ولقد شكلت الحروب الأهلية في أحد جوانبها صراعاً من أجل الثروة
والمكاسب الاقتصادية التى أصبحت هدفاً في نفس الوقت؛ فهي هدف في ضوء
الظروف الاقتصادية السلبية والقاسية السابق الإشارة إليها، وهي في نفس الوقت
أداة لتمويل الاحتياجات العسكرية للجماعات المتصارعة، ومن ثم فإنه ليس من
قبيل المصادفة أن تنخرط ثلاثة دول على الأقل من الدول الست الرئيسية المنتجة
للماس في إفريقيا [15] في حروب طاحنة سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.
وقد أوضح رئيس البنك الدولي أن الماس يمول نحو 75% من الحروب في
إفريقيا، ولعل هذا هو ما دفع مجلس الأمن إلى إصدار القرار رقم 1306 للتحقيق
في العلاقة بين الاتجار في الماس والاتجار غير المشروع في السلاح [16] .
وفي أنجولا، هدفت حركتا يونيتا ومبلا إلى السيطرة على مناطق شمال
شرق البلاد الغنية بمناجم الماس والثروات الطبيعية، وبالفعل نجحت يونيتا في ذلك،
واستغلت عائدات هذه الثروات في إدارة صراعها مع الحكومة [17] .
وتجدر الإشارة إلى أن استغلال الثروات الطبيعية لا يكون هدفاً للجماعات
المتصارعة فقط، بل يكون أيضاً هدفاً للقوى الخارجية التي تتدخل في النزاعات
الأهلية مدفوعة بمصالحها الاقتصادية. فالولايات المتحدة الأمريكية على سبيل
المثال اهتمت بالتدخل في الكونغو الديمقراطية في الستينيات والسبعينيات من أجل
حماية استثماراتها في إقليم كاتنجا (شابا) ، وبالمثل كان التدخل الليبي في تشاد
مدفوعاً برغبة ليبية في السيطرة على إقليم أوزو الغني باليورانيوم [18] .
* المحور الثاني: العوامل ذات الصلة بالبيئة الخارجية للمجتمعات الإفريقية:
على الرغم مما سبقت الإشارة إليه من عوامل ومتغيرات وثيقة الصلة بالبيئة
الداخلية للدول الإفريقية إلا أن الصراعات الأهلية في القارة تشكلت أيضاً بفعل
العديد من المتغيرات والعوامل المرتبطة بالبيئة الخارجية للقارة.
بيد أن أقدم العوامل الخارجية تمثل في الاستعمار الأوروبي الذي وضع بذور
الحرب الأهلية في إفريقيا سواء من خلال النشأة المصطنعة للدول الإفريقية أو من
خلال السياسات الاستعمارية المتبعة في المستعمرات الإفريقية السابقة.
أما فيما يتعلق بالنشأة المصطنعة للدول الإفريقية، فتجدر الإشارة إلى أن
التقسيم الاستعماري للقارة الذي جرى في مؤتمر برلين 1884 - 1885م جاء
متسقاً فقط مع مصالح المستعمرين واتجاهاتهم للتوسع، بينما جاء هذا التقسيم
متناقضاً مع الواقع الاجتماعي والإثني للمجتمعات الإفريقية.
وقد أفرز هذا التقسيم الصناعي وضعين شكَّلا فيما بعد الأساس للبعد الإثني في
الحروب الأهلية الإفريقية. فمن ناحية جمعت الخريطة الاستعمارية داخل الدولة
الواحدة جماعات لم يسبق لها العيش معاً، ولم يسبق لها التفاعل مع بعضها البعض
في إطار واحد مثلما هو الحال في أنجولا على سبيل المثال. ومن ناحية أخرى
فصلت الحدود السياسية المصطنعة «عرى» التواصل بين جماعات عرقية واحدة
وجدت نفسها فجأة تابعة لكيانات سياسية مختلفة، وهو وضع شائع الحدوث في
العديد من أنحاء القارة الإفريقية [19] .
وتجدر الإشارة إلى أن التقسيم التعسفي للقارة لم يكن هو الأثر الوحيد
للاستعمار الأوروبى؛ إذ لعبت السياسات الاستعمارية التي اتبعتها القوى
الاستعمارية الأوروبية دوراً في تعميق تناقضات المجتمعات الإفريقية ولا سيما
التناقضات الإثنية.
فمن ناحية ساعدت السياسة الاستعمارية على تغذية التناقضات الإثنية من
خلال سياسة «فرِّقْ تسدْ» ، أو من خلال تفضيل جماعات إثنية معينة على غيرها،
وإعطائها نصيباً أكبر في الحكم والسلطة؛ ففي أوغندا - على سبيل المثال -
فضلت الإدارة الاستعمارية قبيلة البوجندا على باقي الجماعات الإثنية الأخرى،
وجرى إطلاق اسمهم على الدولة الأوغندية ككل، وحصلوا على حكم ذاتي موسع،
وحصلوا على فرص تعليمية أكبر بكثير مما كان متاحاً لباقي الجماعات، وتمتعوا
بنفوذ كبير في المجالس التشريعية التي أقامها الاستعمار.
ولعل هذا الوضع المميز لجماعة البوجندا أسفر عن صعوبات جمة في مرحلة
ما بعد الاستقلال؛ إذ طالبت البوجندا بإقامة دولة منفصلة يتمتعون فيها بالنفوذ خوفاً
من أن يؤدي الاستقلال إلى فقدانهم للامتيازات التي حصلوا عليها إبان الاستعمار
[20] .
وفي رواندا عمل المؤرخون والأنثروبولوجيون الاستعماريون على إضفاء
ظلال عنصرية على الإثنية في رواندا من خلال التأكيد على اختلاف الأصول
«العنصرية» للجماعات الرواندية، وأن بعضها يتمتع بالتفوق العنصري إزاء
الجماعات الأخرى.
وعلى الرغم من أن الأساطير الشعبية الرواندية تحفل بالقصص التي تعزز
فكرة تفوق التوتسي على الهوتو والتوا [21] إلا أن الدراسات الأنثروبولوجية
والتاريخية الاستعمارية أضفت على هذه الأساطير مسحة علمية وساعد على خلق
وعي جماعي إثتي في رواندا، يشعر فيه التوتسي بالتفوق العنصري بينما يشعر
الهوتو بالضعة والدونية، وهو ما أدى في النهاية إلى تفجر العنف الإثني والحرب
الأهلية في رواندا [22] .
وفي السودان لعب الاستعمار دوراً مختلفاً، وإن كان قد أسفر عن نفس
النتيجة؛ حيث قسمت الإدارة الاستعمارية السودان خلال فترة احتلالها له إلى
جزأين، واتبعت في كل منهما سياسة استعمارية مختلفة. ففي الشمال كانت السياسة
البريطانية تسمح بتطوير هوية قومية تتركز على الأنصار والختمية، وفي الجنوب
اتبعت بريطانيا سياسة اللورد لوجارد الخاصة بالحكم غير المباشر، وقامت
السلطات البريطانية بحظر اللغة العربية في الجنوب، وحالت دون نفاذ التأثيرات
العربية الإسلامية، بل وسمحت للبعثات التبشيرية التي يتم طردها من الشمال
بالعمل في الجنوب، وأصدرت السلطات الاستعمارية البريطانية قوانين مثل قانون
المناطق المغلقة وقانون المرور.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الازدواجية في التعامل مع شمال وجنوب السودان
أثر على الصراع بين الشمال والجنوب، وأضفى عليه أبعاداً جديدة [23] .
ومع حصول الدول الإفريقية على استقلالها لم ينته الدور الخارجي، وإنما
تحول ليأخذ أشكالاً وصوراً جديدة، ففي أثناء الحرب الباردة كانت القارة الإفريقية
ساحة للمواجهة بين القوتين العظميين، ومن ثم فقد كان التدخل الخارجي والحروب
الأهلية أحد أدوات القوى الكبرى في إدارة علاقاتها الدولية. ومن ثم فقد كان ينظر
إلى هذه الحروب باعتبارها أحد أدوات هذه القوى في تحقيق أهدافها.
فبالنسبة للاتحاد السوفييتي، فقد اتخذ إفريقيا ميداناً لمواجهته مع القوى الدولية
في القارة الإفريقية وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المقابل كانت الولايات
المتحدة الأمريكية تسعى إلى وقف المد الشيوعي في إفريقيا.
ولعل الحرب الأهلية الأنجولية تعتبر من أكثر النماذج المعبرة عن الدور
الخارجي وأثره؛ إذ استغلت القوى الخارجية تشرذم وانقسام الحركة الوطنية
الأنجولية إلى ثلاثة أجنحة هي: الحركة الشعبية لتحرير أنجولا (مبلا) ، والاتحاد
الوطني لاستقلال كل أنجولا (يونيتا) ، والجبهة الوطنية لتحرير أنجولا (فنلا)
[24] استغلت ذلك التشرذم في التدخل لتحقيق أهدافها الخاصة في أنجولا ولا سيما أن
هذه الأخيرة تتمتع بموقع جيوبوليتيكي فريد، فضلاً عن تمتعها بثروات طبيعية
هائلة.
وفي هذا الإطار، وقف كل من الاتحاد السوفييتي السابق وكوبا وألمانيا
الشرقية والجزائر إلى جانب الحركة الشعبية لتحرير أنجولا (مبلا) ؛ بينما قامت
الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا والبرتغال وزائير والصين إلى جانب (فنلا)
و (يونيتا) [25] .
ولعل هذا الدعم الذي تلقته كل جبهة من الجبهات الثلاثة قد ساعد على إطالة
أمد الحرب، وعدم القدرة على حسمها لصالح أي من هذه الجهات بصورة سريعة.
ويرى اتجاه أن تدخل القوى العظمى في القارة إبان الحرب الباردة لم يؤد في
جميع الحالات إلى إشعال الحروب الأهلية، بل إنه قد ساعد في بعض الأحيان على
تهدئة هذه الصراعات، ولعل ما يؤيد هذا الاتجاه أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة
شهدت تفاقم هذه الحروب بصورة أكثر حدة؛ حيث أدى انتهاء الحرب الباردة إلى
تقلص أهمية القارة الإفريقية في السياسات العالمية، ومن ثم حرمت الأطراف
الداخلية المتورطة في صراعات في القارة الإفريقية من الدعم الذي كانت تحصل
عليه سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً، وهو ما أدى بدوره إلى اختفاء واحدة من أهم
آليات الضبط والسيطرة على مسار تطور الصراعات الداخلية في تلك الدول، وهو
ما أتاح مجالاً أوسع بكثير لانفجار تلك الصراعات بصورة أكثر حدة [26] .
* تداعيات الحروب الأهلية في إفريقيا:
وتنبع أهمية تناول تداعيات الحروب الأهلية في إفريقيا من حقيقة هامة
مؤداها أن هذه التداعيات قد تكون في حد ذاتها سبباً وعاملاً من عوامل تجدد
الصراع مرة أخرى.
وتتعدد تداعيات وآثار الصراعات الأهلية في إفريقيا، ومن أبرز هذه الآثار:
تفاقم مشكلة اللاجئين، ظاهرة تجنيد الأطفال في الصراعات المسلحة، ومشكلة
انهيار الدولة، انتهاكات حقوق الإنسان، انتقال الحروب الأهلية للدول المجاورة
فيما يعرف بأثر العدوى، وفيما يلي سوف نتناول الآثار الثلاثة الأولى:
أولاً: مشكلة اللاجئين:
تعتبر مشكلة اللاجئين واحدة من أبرز الآثار التي أفرزتها الحروب
والصراعات الأهلية في القارة الإفريقية. وتضم القارة الإفريقية حوالي نصف
اللاجئين في العالم، لتصبح بذلك أكبر قارات العالم من حيث عدد اللاجئين.
وتسبب ظاهرة اللاجئين مشكلات سواء لدولة المنشأ أو دولة اللجوء. فبالنسبة
للأولى: تفقد هذه الدول مواردها البشرية بسبب نزيف العقول الذي تتعرض له،
وهروب المتعلمين والمثقفين إلى الخارج للنجاة بأنفسهم والبحث عن مصادر جديدة
للرزق بعيدة عن مواطنهم التي دمرتها الحروب الأهلية. أما بالنسبة للثانية (دولة
اللجوء) فتواجه هي الأخرى سلسلة من المشكلات تتمثل فيما يحدثه اللاجئون من
تغيرات في الخريطة البشرية وتحديداً الإثنية، فضلاً عما يمثله هؤلاء اللاجئون من
أعباء اقتصادية واجتماعية [27] .
وعلى الرغم من الاتفاق المبدئي على اتساع نطاق مشكلة اللاجئين في إفريقيا،
فإن ثمة صعوبات تحول دون التحديد الدقيق لأعدادهم، ومن هذه الصعوبات [28] :
1 - اتسام أوضاع مخيمات اللاجئين بالسيولة الشديدة؛ حيث تزداد عملية
دخول وخروج اللاجئين من هذه المخيمات، بما يجعل أعداد اللاجئين عرضة
للتقلبات السريعة والمفاجئة.
2 - عدم قدرة دولة المنشأ على وضع عدد دقيق لأعداد اللاجئين الفارين منها
بسبب ظروف عدم الاستقرار الداخلي.
3 - ميل دولة اللجوء إلى المبالغة في أعداد اللاجئين الموجودين لديها، سعياً
إلى الحصول على مزيد من المساعدات الدولية.
ومن حيث دول المنشأ تأتي الصومال على رأس هذه الدول؛ إذ أدى تفاقم
الحرب الأهلية فيها منذ بداية التسعينيات إلى خروج أعداد هائلة من اللاجئين هرباً
من الجفاف والمجاعة والحرب الأهلية. يلي الصومال: بوروندي وليبيريا
والسودان وسيراليون وإريتريا وأنجولا والكونغو الديمقراطية ورواندا وإثيوبيا
[29] .
وعلى صعيد دول الملجأ تعتبر تنزانيا على رأس الدول المستقبلة للاجئين
ليس فقط في إفريقيا وإنما في العالم بأسره؛ حيث وصل عدد اللاجئين فيها إلى أكثر
من 560 ألف لاجئ، من بينهم 449 ألف لاجئ من بوروندي، و 98 ألف لاجئ
من الكونغو الديمقراطية، ويلي تنزانيا كل من: غينيا، السودان، إثيوبيا،
الكونغو الديمقراطية، كينيا، ساحل العاج، أوغندا، الجزائر، وأخيراً زامبيا [30] .
ويتضح مما سبق التداخل الواضح بين دول المنشأ ودول اللجوء؛ فالدولة
الواحدة قد تكون طاردة للاجئين أو مستقبلة لهم. فالكونغو الديمقراطية على سبيل
المثال تعاني من مشكلة اللاجئين منذ عام 1960م، ويقدر حجم اللاجئين الفارين
منها بأكثر من 200 ألف لاجئ. وفي نفس الوقت تستضيف الكونغو الديمقراطية
اللاجئين من أنجولا وبوروندي وأوغندا ورواندا، وينطبق الوضع على كل من
السودان وإثيوبيا.
ثانياً: ظاهرة تجنيد الأطفال في الصراعات المسلحة:
ويعتبر الأطفال من أكثر الفئات تعرضاً لمخاطر وآثار الحروب الأهلية؛ فهم
إما يتعرضون للقتل أو الإعاقة أو التشريد عن منازلهم أو الانفصال عن ذويهم.
بيد أن الآثار الواقعة على الأطفال في الحروب تفاقمت باستخدام الأطفال كأداة
في الحرب.
وفي عام 1988م قدر عدد الأطفال المحاربين في الحروب الأهلية بنحو
200.000 طفل، ارتفعوا إلى 300.000 طفل عام 1995م؛ حيث
تستخدمهم الجيوش النظامية للقيام بكافة أنواع الأعمال كطهاه، أو محاربين أو
جواسيس أو كأدوات للكشف عن الألغام..... إلخ [31] .
وقد ساعد توفر الأسلحة الخفيفة إلى تكوين جيوش من الأطفال دون العاشرة
يجيدون كافة فنون القتال والتعذيب.
ففي سيراليون يطلق على الحرب الدائرة هناك «حرب الأطفال» إذ إن
معظم المحاربين من الجانبين من الأطفال.
وفي رواندا رصدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف عام 1995م)
حالات لأكثر من 3000 طفل تعرضوا لمستويات عالية جداً من الإصابات خلال
عمليات التطهير العرقي عام 1994م.
كما قدرت منظمة العفو الدولية عدد الأطفال الذين يقومون بإعالة أسرهم بنحو
60.000 طفل، ثلاثة أرباعهم من الفتيات [32] .
وفي حالات اللجوء يمثل الأطفال حوالي 50% من أي مجموعة، وقد تتزايد
هذه النسبة الى ما بين 65% - 70%.
ثالثاً: مشكلة انهيار الدولة:
تعد مشكلة انهيار الدولة من أولى النتائج والآثار المترتبة على الحروب
الأهلية، ويقصد بانهيار الدولة تقويض مؤسسات الدولة وأجهزتها بما لا يسمح لها
بأداء وظائفها المختلفة. ويتخذ انهيار الدولة كنتيجة للحروب الأهلية نمطين
أساسيين:
النمط الأول: هو الانهيار الشامل للدولة، ويقصد به انهيار السلطة المركزية
للدولة، ويحدث عندما تؤدي الإطاحة بالنظام إلى حدوث حالة من الفوضى الشاملة،
بما لا يسمح لأي من الجماعات المتصارعة بالسيطرة على الحكم بصورة كاملة.
أما النمط الثاني: فهو الانهيار الجزئي ويقصد به ضعف سلطة الحكومة
وترهل جهازها البيروقراطي الذي ينجم عنه عجز الدولة عن فرض سيطرتها على
جميع أقاليم الدولة، ويتسم هذا النمط بأنه مؤقت، ويقتصر على فترة محددة من
الحرب الأهلية [33] .
ويعود انهيار الدولة الإفريقية إلى أسباب مرتبطة بالضعف الهيكلي للدولة
الإفريقية التي تعاني من العديد من الاختلالات والمشكلات، ولأسباب مرتبطة
بطبيعة الدولة الإفريقية التي توصف بأنها دولة رخوة، وأنها دولة وقف، ودولة
نخبة [34] .
بيد أن انهيار الدول الإفريقية يظل أيضاّ وثيق الصلة بالعوامل الخارجية؛
ففي فترة الحرب الباردة كان للمساعدات التي تقدمها القوى الكبرى للدول الإفريقية
أكبر الأثر في صمود هذه الدول في وجه التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية
التي تواجهها، ومع انتهاء الحرب الباردة - وما صاحبها من متغيرات على الساحة
الدولية قادت إلى انخفاض الأهمية النسبية للدول الإفريقية - توقفت هذه المساعدات
لتجد الدول الإفريقية نفسها مضطرة لمواجهة هذه التحديات بمفردها، ومن ثم فإن
عدداً قليلاً جداً من الدول الإفريقية هي التي نجحت في الحفاظ على الاستقرار
السياسي والاقتصادي والأمني [35] .
ويعتبر الصومال وليبيريا نموذجين دالين لما يتعلق بحالات الانهيار الشامل
للدولة؛ ففي الحالة الليبيرية غابت الدولة بوصفها النظام الشرعي القائم، كما انهار
المجتمع اجتماعياً واقتصادياً.
ويرجع انهيار الدولة الليبيرية إلى عملية تاريخية طويلة من التآكل التدريجي
في البنية السياسية الاجتماعية للمجتمع الليبيري أسفر عن انهيار النظام الديكتاتوري
للرئيس تولبرت ليحل محله نظام أكثر ديكتاتورية يهيمن فيه صامويل دو وجماعته
الإثنية على مقاليد الحكم في البلاد [36] .
أما بالنسبة للصومال فقد تكاتفت عدة عوامل أدت في النهاية إلى انهيار الدولة
الصومالية، ومن هذه العوامل: نظام الحكم الفردي لنظام سياد بري، الاعتماد
الكثيف على المؤسسات العسكرية والبوليسية في مختلف قطاعات الدولة، هذا
إضافة إلى العوامل الخارجية المتمثلة في الأدوار التي لعبتها القوى الإقليمية والدولية
في الحرب الأهلية الصومالية [37] .
وأخذ انهيار الدولة الصومالية شكلاً متطرفاً أعاد المنطقة إلى الوضع الذي
كانت عليه في القرن التاسع عشر من حيث غياب السلطة المركزية والنظام
القضائي وانهيار الخدمات العامة [38] .
وعلى الرغم من أن انهيار الدولة هو أحد نتائج الحروب الأهلية في إفريقيا،
إلا أنه بدوره له العديد من الآثار والنتائج الفادحة؛ حيث إن هذا الانهيار يؤدي إلى
تدمير الركائز الاقتصادية والاجتماعية للدولة، ويؤدي إلى الفصل العملي والواقعي
للدولة نظراً لغياب سلطة مركزية تفرض سلطتها على أرض الواقع وهو ما يؤدي
في التقدير إلى إطالة أمد الحرب الأهلية، وصعوبة حسمها لصالح أي من الأطراف
المتصارعة.
يتضح مما سبق أن ظاهرة الصراعات الأهلية هي ظاهرة بالغة التعقيد تتعقد
فيها الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية، وتتداخل فيها الأسباب والنتائج، مما
يتطلب منهجاً شاملاً ورؤية متكاملة عند التعاطي مع هذه المشكلة. بيد أن البحث
عن حلول لتسوية مشكلة الصراعات الأهلية التي تضرب القارة منذ عقود خلت
تتطلب الأخذ في الاعتبار خصوصية هذه الصراعات التي تعتبر صراعات ممتدة
بالغة التعقيد لأنها ترتبط بتمايز هوية وثقافة الجماعات التي تشكل أطرافها الفاعلة
وهو ما يتطلب مجموعة من الحلول الخاصة تراعي هذه الخصوصية، وتضع نهاية
لهذه الظاهرة بالغة الخطورة على الساحة الإفريقية.
__________
(*) معيدة بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة.
(1) William Thom, " Africa's Security issues through 2010 " , Military Review, July/August 2000 p 9.
(2) د / محمود أبو العينين، (إفريقيا والتحولات الراهنة في النظام الدولي) ، في الهيئة العامة للكتاب، مصر وإفريقيا الجذور التاريخية للمشكلات الإفريقية المعاصرة، أعمال ندوة لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة بالاشتراك مع معهد البحوث والدراسات الإفريقية، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1996م) ، ص 302.
(3) أحمد إبراهيم محمود، الحروب الأهلية في إفريقيا، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 2001م) ، ص 25، وقد قدمت الدراسة العديد من التعريفات لظاهرة الحروب الأهلية كما وردت في الأدبيات السياسية.
(4) د / حمدي عبد الرحمن، التعددية وأزمة بناء الدولة في إفريقيا الإسلامية، (القاهرة: مركز دراسات المستقبل الإفريقي، 1996م) ص 30 - 36.
(5) المرجع السابق، ص 36 - 37.
(6) المرجع السابق، ص 25 - 26.
(7) سوف يتم تناول دور الاستعمار في تعميق البعد الإثني في الصراعات الإفريقية في جزء تال من هذه الورقة.
(8) أحمد إبراهيم، م - س - ذ، ص 153.
(9) المرجع السابق، ص 154.
(10) د / صبحي قنصوة، العنف الإثني في رواندا، القاهرة: برنامج الدراسات المصرية الإفريقية، سلسلة دراسات مصرية إفريقية، العدد 2، سبتمبر 2001م، ص 3.
(11) Ibrahim Elbadawi, Nicolas Sambanis, " Why are there so many civil wars in Africa? Understanding and preventing violent conflict " (Washington DC , World Bank working papers, December 2000) p 1.
(12) أحمد إبراهيم محمود، م - س - ذ، ص 175 - 176.
(13) Sahr Jhon Kpundh, " Limiting Administrative corruption in Sierra Leone " , The Journal of Modern African Studies, (Cambridge: Cambridge Uni Press, vol 32, no 1, 1994) , p140.
(14) Ibid, pp 139-140.
(15) هذه الدول هي الكونغو الديمقراطية، أنجولا، سيراليون، ناميبيا، بتسوانا، جنوب إفريقيا، ويبلغ مجموع إنتاج هذه الدول من الماس الخام نحو 4.7 مليارات دولار أي نحو 59.3% من الإنتاج العالمي خلال عام 1999م.
(16) الثروات الإفريقية إلى أين؟ آفاق إفريقية، (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، المجلد الأول، العدد الرابع، شتاء 2000/2001م) ، ص 77 - 78.
(17) أحمد إبراهيم محمود، م - س - ذ، ص 179 - 180.
(18) المرجع السابق، ص 180.
(19) د / السيد فليفل، الحروب الأهلية في إفريقيا: محاولة للتفسير التاريخي، في معهد البحوث والدراسات الإفريقية، الصراعات والحروب الأهلية في إفريقيا، أعمال المؤتمر السنوي للدراسات الإفريقية (القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية، 1999م) ، ص 32 - 33.
(20) أحمد إبراهيم محمود، م - س - ذ، ص 65 - 66.
(21) من هذه الأساطير والمرويات الشعبية قصة (الأصول) التي تتحدث عن بداية تاريخ رواندا بحكم كيجوا Kigwa الذي هبط من السماء، وأنجب ثلاثة أبناء هم جاتوتسي وهو أصل التوتسي، وجاهوتو وهو أصل الهوتو، وجاتوا وهو أصل التوا، وعندما أراد كيجوا أن يختار خليفته في الحكم، عهد إلى كل ابن من أبنائه الثلاثة بإناء من اللبن، وطلب منه أن يحافظ عليه حتى الصبح، فما كان من جاتوا إلا أن شرب إناءه، بينما أهمل جاهوتو إناءه فانسكب منه اللبن، وأما جاتوتسي فقد ظل متيقظاً وحافظ على إنائه، ووفقاً لتصرف كل من الثلاثة تحدد مصيرهم في الحياة، فأصبح لجاتوتسي وحده الحق في الحكم، وأصبح جاهوتو خادماً له، أما جاتوا فقد أصبح مطروداً منبوذاً من المجتمع، انظر في ذلك: د / صبحي قنصوة، م - س - ذ، ص 6.
(22) المرجع السابق، ص 7.
(23) د / حمدي عبد الرحمن، مشكلة جنوب السودان دراسة في الأطر التاريخية وديناميات الصراع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر وإفريقيا م - س - ذ، ص 198 - 199.
(24) حول انقسام الحركة الوطنية الأنجولية، انظر: د / السيد فليفل، الجذور التاريخية للحرب الأهلية الأنجولية في الهيئة المصرية العامة للكتاب، الجذور التاريخية، م - س - ذ، ص 163 - 171.
(25) أحمد إبراهيم محمود، م - س - ذ، ص 200 - 201م.
(26) المرجع السابق، ص 190.
(27) أحمد إبراهيم، م - س - ذ، ص 348 - 350.
(28) المرجع السابق، ص 354.
(29) أحمد إبراهيم، م - س - ذ، ص 355 - 358.
(30) المرجع السابق، ص 360 - 364.
(31) د / عزيزة بدر، التكلفة والآثار الاجتماعية والاقتصادية للصراعات في الحروب الأهلية وانعكاساتها على البيئة والتنمية البشرية في إفريقيا، في معهد البحوث والدراسات الإفريقية، الصراعات والحروب الأهلية في إفريقيا، م - س - ذ، 835.
(32) المرجع السابق، ص837 - 838.
(33) خليل العناني، العوامل الداخلية لتآكل مؤسسة الدولة في إفريقيا، آفاق إفريقية، المجلد الثاني، العدد السادس، صيف 2001م، ص 72 وفي تحليل أنماط وأشكال انهيار الدولة انظر أيضاً: أحمد إبراهيم محمود، م - س - ذ، ص 266 - 281.
(34) حول إشكالية الدولة الإفريقية انظر: د / إبراهيم نصر الدين، إشكالية الدولة في إفريقيا، القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، سلسلة بحوث سياسية، العدد 130.
(35) United Nations, The causes of conflict and the promotion of durable peace and sustainable development in Africa, Report of the Secretary-General,1997.
(36) خليل العناني، م - س - ذ، ص 73، وانظر أيضاً: أحمد إبراهيم محمود، م - س - ذ، ص270 - 272.
(37) حول تحليل شامل لأدوار القوى الدولية والإقليمية، أنظر: د / نجوى الفوال، المواقف الدولية والإقليمية تجاه الأزمة الصومالية في معهد البحوث والدراسات الإفريقية، الصراعات والحروب الأهلية في إفريقيا، م - س - ذ، ص 345 - 389.
(38) أحمد إبراهيم محمود، م - س - ذ، ص 272 - 274.(181/60)
ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
الصراع في حوض النيل والقرن الإفريقي
وأثره على أمن المنطقة العربية
نجلاء محمد مرعي [*]
* مقدمة:
تشير الأحداث التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي (السودان - إريتريا -
إثيوبيا) إلى استمرار سلسلة الانشقاقات والخلافات التي عانت منها دول المنطقة
داخلياً وإقليمياً عبر تاريخها، وهو ما جعل التنافس والصراع السمة الغالبة على
شبكة العلاقات الداخلية والإقليمية لدول هذه المنطقة.
ففي الآونة الأخيرة شهدت المنطقة العديد من التطورات التي تمس علاقات
الجوار الجغرافي والحدود والموانئ وخطوط أنابيب البترول. ولذا تحاول هذه
الدراسة بلورة بعض القضايا والإشكاليات الخاصة بالصراع في منطقة القرن
الإفريقي وانعكاساته على المصالح الحيوية العربية فيها من خلال المحاور التالية:
أولاً: مدخل تمهيدي: الموقع وأهمية دراسة الصراع.
ثانياً: طبيعة وأبعاد الصراع في القرن الإفريقي.
ثالثاً: الصراع في القرن الإفريقي وانعكاساته على الأمن القومي العربي.
* أولاً: مدخل تمهيدي: الموقع وأهمية دراسة الصراع:
القرن الإفريقي هو ذلك الرأس النائي من اليابسة الناطح البحر على شكل قرن
يشق الماء شطرين: الشمالي منه هو البحر الأحمر والجنوبي منه هو المحيط
الهندي. وعليه فإن القرن الإفريقي من الناحية الجغرافية يشمل إثيوبيا والصومال
وجيبوتي. بيد أن بعض الجغرافيين قد وسع الرقعة التي يشملها هذا القرن لتضم
كينيا والسودان. بل الأكثر من ذلك أنه في عام 1981م قام وزير الدولة الفرنسي
للشؤون الخارجية آنذاك، (أوليفيه ستيرن) ، بتوجيه الدعوة إلى كل من السعودية
واليمن إضافة إلى دول القرن الإفريقي لحضور مؤتمر إقليمي يهدف إلى حل
مشكلات المنطقة. يعني ذلك أن الدلالة السياسية لمصطلح القرن الإفريقي تتعدى
حدود الدلالة الجغرافية حتى في معناها الواسع. وربما يعزى ذلك ولو جزئياً إلى أن
هذه المنطقة تقع داخل الإقليم الذي أضحى يعرف باسم «قوس الأزمة» والذي
يضم القرن الإفريقي وشبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج [1] .
وقد شهدت منطقة القرن الإفريقي ولا تزال صراعات مريرة وصلت إلى حد
الحروب والصدامات المسلحة لمدة قاربت العقدين. وبرز واضحاً في هذا الصراع
تفاعل كل من المؤثرات المحلية والداخلية والمؤثرات التي تطرحها قوى فاعلة
خارجية.
ويمكن القول منذ البداية إن دراسة الصراع في هذه المنطقة أمر على جانب
كبير من الأهمية لعدد من الاعتبارات من أبرزها:
1 - الموقع الاستراتيجي الهام لهذه المنطقة جعل منها محل أطماع الدول
القومية في مختلف عصور التاريخ؛ فالقرن الإفريقي يحاذي الممرات البحرية
الاستراتيجية في كل من البحر الأحمر والمحيط الهندي. ومنذ افتتاح قناة السويس
عام 1869م ازدادت القيمة الاستراتيجية للأراضي المطلة على البحر الأحمر،
وهو الأمر الذي يؤدي بالتبعية إلى زيادة إمكانية التدخل الخارجي في الشؤون
الداخلية للإقليم [2] .
2 - اتسام صراعات القرن بطبيعة بالغة التعقيد نابعة من تعدد أبعاد
ومستويات الصراع في المنطقة، وهو ما يبدو واضحاً في أن الخلافات الحدودية
بين دول المنطقة تختزل في داخلها صراعات ضارية بين قوميات متناحرة في
إثيوبيا والصومال وكينيا. كما تتداخل أيضاً في هذا الصراع أبعاد حضارية ودينية
وعرقية واقتصادية. أما التعدد في مستويات الصراع فيبدو واضحاً أن المنطقة
شهدت أشكالاً شتى من الصراعات تراوحت ما بين الحروب النظامية واسعة النطاق
والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية. وتجدر الإشارة إلى أن نتاج ذلك كله أن
تصبح هذه الصراعات هادياً للسياسات الداخلية، وتؤدي إلى خلق نوع من
المشكلات المحلية والإقليمية تستعصي بطبيعتها على استراتيجيات إدارة الأزمات
المعتادة [3] .
3 - ورثت منطقة القرن الإفريقي عدداً من القضايا التي ترجع جذورها إلى
مرحلة ما قبل الاستقلال ومن ذلك:
أ - الدولة الإمبراطورية الإثيوبية التي قامت أساساً على التوسع، وضمت
أقواماً من أمم مختلفة يتحدثون لغات مختلفة وذوي سبل عيش اقتصادية مختلفة.
ب - تركة من التدخل الخارجي والتغلغل الاقتصادي منذ الحرب العالمية
الثانية؛ إذ ركزت الأطراف الخارجية الفاعلة على إثيوبيا باعتبارها قوة إقليمية
كبيرة في المنطقة [4] .
وعليه فإن دراسة ديناميات الصراعات في هذه المنطقة أمر على جانب كبير
من الأهمية لما لها من مردودات مباشرة وغير مباشرة على الأمن القومي العربي
بصفة عامة، والأمن الوطني المصري بصفة خاصة. فلا يخفى أن تفهم مختلف
أبعاد الصراع في المنطقة وجوانبه يمكننا من التفاعل معه والتأثير بدلاً من أن تقف
موقف المتلقي لتياراته وتأثيراته، ومن ثم تكون حركتنا مجرد ردود أفعال.
* ثانياً: طبيعة وأبعاد الصراع في القرن الإفريقي:
1 - الصراع في حوض النيل:
تتميز العلاقات المائية بين دول حوض نهر النيل بالاستقرار النسبي نتيجة
للعديد من الاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الثنائية المبرمة بينها كاتفاقية عام 1959م
بين مصر والسودان التي تنظم استفادة كل منهما من مياه النهر. كما تعقد دول
الحوض العديد من الاجتماعات بهدف عقد اتفاقيات تعاون لاستغلال مياه النهر
وتنمية موارده المائية، كالاجتماع الذي عقد عام 1986م تحت إشراف برنامج
التنمية التابع للأمم المتحدة، وحضره ممثلو دول الحوض، وصادقوا فيه على عدد
من الاتفاقيات.
إلا أن الأمر لا يخلو من بعض التوتر بين دول حوض النيل حول مياه النهر؛
فإثيوبيا التي تتحكم بحوالي 85% من مياه النهر تمثل مصدر الخطر الأساسي
لدول الحوض وخاصة السودان ومصر الواقعتين أسفل الحوض [5] .
وحيث إن قضية المياه من القضايا الحيوية التي تشغل دول حوض النيل،
فدائماً ما تسعى مصر إلى ضمان حقها التاريخي في المياه. غير أن قلق مصر على
حصتها من مياه النيل أخذ يتزايد في السنوات الأخيرة بسبب سياسات التنمية
الزراعية والصناعية التي تتطلع إليها اليوم دول المنبع، والتي تتطلب بناء سدود
على البحيرات ذاتها، وعلى بعض روافد النهر، مما يهدد بتخفيض حصص المياه
المكتسبة لمصر والسودان.
ونظراً إلى أهمية هذه القضية بالنسبة إلى الأمن القومي المصري، يكون من
المفيد عرض أهم المشروعات التي تخطط لها دول حوض النيل منذ سنوات،
والتي وردت في دراسة قيمة قامت بها المجالس القومية المتخصصة في هذا العام
[6] .
* بالنسبة إلى دول البحيرات العظمى تشرع تنزانيا ورواندا وبوروندي في
إقامة مشروعات عدة للري وتوليد الطاقة على نهر كاجيرا على بحيرة فيكتوريا.
* بالنسبة إلى بحيرة تانا وحوض النيل الأزرق فقد شرعت إثيوبيا في تنفيذ
33 مشروعاً للري ولتوليد الكهرباء حول حوض النيل الأزرق، وهناك مشروعات
أخرى ما زالت قيد التنفيذ، منها إنشاء محطة لتوليد الكهرباء على بحيرة تانا،
وإنشاء سد على نهر فيشا لزراعة قصب السكر. كما تقوم المجموعة الاقتصادية
الأوروبية بمشروعات عدة لتوفير مياه الري للمنطقة المحيطة ببحيرة تانا ولتوليد
الكهرباء من البحيرة الواقعة جنوب غرب إثيوبيا، كما تقوم روسيا ببناء سد صغير
على نهر البارو لري عشرة آلاف هكتار. هذا، وقد أكد وزير الري المصري
مؤخراً وجود اتفاق بين إسرائيل وإثيوبيا على إقامة سد لتوليد الكهرباء. وفي 9/6/
1996م وافق البرلمان الإثيوبي على مشروع قرار تقدمت به الحكومة بإنشاء
خزانين: الأول: على النيل الأزرق للاستفادة منه لأغراض زراعية وإنتاج الطاقة
الكهربائية، والثاني: على نهر دايوسن. وسوف يمول هذين المشروعين البنك
الدولي وجهات أخرى. وجدير بالملاحظة أن البنك الدولي قد وافق على تمويل
المشروعين الإثيوبيين الأخيرين من دون اشتراط حصول إثيوبيا على موافقة باقي
دول حوض النيل كما هو معمول به ارتكازاً على نظرية القانون الدولي في
الاستفادة المشتركة للدول المشاطئة للأنهار الدولية. وتعتبر موافقة البنك الدولي
بالشكل الذي تمت عليه سابقة خطيرة على مصالح دولتي المصب: مصر والسودان
[7] .
وعادة ما استخدمت مياه النيل كمادة للصراع السياسي وخاصة في اتجاه مصر
من قبل إثيوبيا بشكل رئيسي والسودان في بعض الأحيان. فهناك قضية السدود
الإثيوبية التي تطرح بين الحين والآخر ومطالبتها بسحب امتيازات الحق التاريخي
التي تتمتع بها مصر، ومحاولات الإيحاء بالقدرة على التأثير في حصة مصر من
المياه، وموقفها الرافض للاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان عام 1959م، وهو
الأمر الذي يطرح مسألة جدية التلويح أو المخاطر التي تحوم بحصة مصر من النهر.
أما بالنسبة للسودان فموقفها يتلخص في استخدامها لورقة المياه كورقة ضغط على
مصر؛ ولذا لا يتم الإعلان عنها إلا في فترات التوتر وآخرها ما حدث من خلال
اتفاقها مع إثيوبيا عام 1993م الخاص بالتعاون المشترك في استخدام مياه النيل [8] .
فإثيوبيا تبدو من دون باقي دول الحوض الأكثر رغبة في تغيير الواقع القائم
وتحديه؛ حيث لا تعطى هذه الدول أولوية حاسمة لحقوقها من مياه النيل كما تفعل
إثيوبيا على اختلاف أنظمتها السياسية. فلا شك أن الدور البريطاني وسياساته تجاه
مياه النيل وارتباط مصر بهذه السياسة قد أفرز الكثير من التعقيدات والحساسيات
التي وجدت سبيلها إلى جملة التفاعلات السياسية في منطقة حوض النيل؛ بحيث لم
يشكل قيام ثورة يوليو 1952م بداية مرحلة جديدة، بقدر ما تأثر بتاريخ تلك
العلاقات وما أفرزته من حساسيات وخاصة بالنسبة لإثيوبيا، كما كان لإقدام مصر
على اتخاذ قرار بناء السد العالي دون استشارة دول المنبع أثره الواضح في إقرار
العديد من التعقيدات والهواجس التي وجدت سبيلها في الظهور مرة أخرى مع توقيع
مصر والسودان لاتفاقية 1959م؛ وهذا ما سعت معه إثيوبيا لاتخاذ مجموعة من
الإجراءات المقابلة التي يأتي في مقدمتها عقد اتفاقية مع الولايات المتحدة تقدم
بمقتضاها الخبرة بعمل دراسة شاملة عن نهر النيل في إثيوبيا لبحث إمكانية إقامة
السدود والزراعة وتوليد الطاقة، كما سعت إلى تطوير علاقتها مع إسرائيل بقبول
استقدام قنصل عام لإسرائيل في أديس أبابا عام 1956م، لتدخل العلاقات الثنائية
منحى جديداً تستخدم فيه ورقة المياه كأداة ضغط وتوتر متبادل على الرغم من أن
بناء السد لم يكن ليؤثر في قدرة إثيوبيا على استخدام مواردها من المياه ولا على
مشروعاتها التي لم تكتمل بسبب قصور إمكانياتها وقدراتها الاقتصادية [9] .
أما بالنسبة للسودان، فتتلخص جملة اعتراضات بعض قطاعات السودانيين
حول قانونية وشرعية اتفاقية 1959م، وأن الاتفاقية التي أبرمت في عهد الحكم
العسكري (حكومة إبراهيم عبود) قد افتقرت إلى التفويض الشعبي، وأنها غير
عادلة سواء بالنسبة للحصة التي حصل عليها السودان من المياه، أو بالنسبة
للتعويض المالي نتيجة غمر أراض عزيزة وغالية من أرض السودان (حلفا) [10] .
أما عن الموقف المصري من هذه القضية فيمكن تلخيصه في اتجاهين
رئيسيين:
الاتجاه الأول: ويمثله بعض المسؤولين في وزارة الخارجية:
يؤمن هذا الاتجاه أن مصر لا تتفاوض على حقوقها في مياه النيل، وأنها
تتمسك بالمعاهدات الدولية التي أبرمت في هذا الخصوص، بغض النظر عن موقف
بقية الأطراف المعنية من هذه المعاهدات التي ترغب بالفعل في تغييرها بحجة أنها
عقدت في عهد الاستعمار، ولذلك لا تلزم الدول الإفريقية الآن.
ومن أهم الاتفاقيات التي توضح حقوق مصر في مياه النيل:
* اتفاقية مياه النيل عام 1929م المبرمة بين مصر والسودان (في عهد الاحتلال
الثنائي) والتي تنص على ضرورة المراعاة الكاملة لمصالح مصر المائية وعدم
الإضرار بحقوقها الطبيعية في مياه النيل.
* اتفاقية مياه النيل عام 1959م بين مصر والسودان.
الاتجاه الثاني: وتمثله وزارة الري المصرية:
يؤمن هذا الاتجاه من حيث المبدأ بأن النيل يمثل مجالاً خصباً للتعاون بين
دول الحوض، وأن هناك كثيراً من الإمكانيات غير المستغلة حتى الآن والتي يمكن
أن تكفي الجميع. ومن ثم يجب ألا يكون هناك وجه للخلاف. ولكي يتم هذا
التعاون المنشود لا بد من أن يتسم الحوار بالموضوعية والأخذ في الاعتبار
احتياجات كل الأطراف. ويعترف هذا الاتجاه بحق كل دولة في السعي لتحقيق
التنمية على أرضها لحل مشاكلها الآنية والمستقبلية، شريطة عدم الإضرار بالحقوق
الأساسية لأية دولة من دول الحوض، وخصوصاً دولتي المصب اللتين تعانيان
دائماً قلة الأمطار.
ويطرح هذا الاتجاه التعاون في إنشاء المشاريع التنموية بين دول الحوض
كبديل من الخلافات والصراعات بينهما على المياه [11] .
وبشكل عام يمكن القول بأن ضعف اقتصاديات معظم دول حوض النيل
يجعلها غير قادرة على القيام بكثير من المشروعات المائية التي تخطط لها. كما أن
الوضع الأمني غير المستقر في معظمها يؤثر على تنفيذ هذه المشروعات، وعلى
ذلك يقل احتمال حدوث صراع حاد بينها.
2 - الصراع الإريتري الإثيوبي:
رغم العلاقات المتينة والروابط المتعددة بين إريتريا وإثيوبيا، فقد انفجر
الموقف بينهما عسكرياً في مايو 1998م، على خلفية حدود مشتركة وبطريقة لم
تكن متوقعة جعلت من الصراع في منطقة القرن الإفريقي ينقل نقلة نوعية من
الصراع العرقي والديني إلى صراع دول وطنية ذات خطط واستراتيجيات قومية.
مما مثل مفاجأة للمجتمع الدولي؛ ليس فقط لأن الحرب جاءت متعارضة مع
توجهات النظام العالمي الذي تضاءل خلاله اندلاع الحروب النظامية الواسعة [12] ،
وإنما لكون قائدي النظامين في البلدين: آسياس أفورقي ومليس زيناوي ينتميان
إلى نفس المجموعة العرقية (التيجراي) كما أن زيناوي يعود إلى أصول إريترية
من جهة الأم، فضلاً عن ذلك فهما رفيقا سلاح؛ فقد خاضا الحرب معاً ضد نظام
منجستو في إثيوبيا الذي تم القضاء عليه عام 1991م [13] ، مما ساهم في إرساء
أسس علاقة قوية بينهما ساعدت على حصول إريتريا على استقلالها عن إثيوبيا عام
1993م [14] . منذ ذلك اليوم وقع البلدان على عدة اتفاقيات للتعاون في مختلف
المجالات. ويرى بعض المراقبين أن بداية التراكمات تعود إلى مرحلة ما قبل
استقلال إريتريا؛ ففي غمرة الانتصارات على عدوهم المشترك منجستو ترك
الطرفان العديد من القضايا والأمور المشتركة بين الدولتين دون حسهم. وفي ذلك
الحين لم يتصور أحد أن هذه القضايا المعلقة كانت بمثابة قنبلة موقوتة سرعان ما
تفجرت وأشعلت الحرب بين البلدين [15] .
والمتتبع لمسار العلاقات الإثيوبية - الإريترية، سيجدها لم تخل خلال
السنوات الخمس السابقة على الحرب من خلافات عديدة منها الخلاف الحدودي الذي
تعود جذوره إلى فترة استقلال إريتريا عام 1993م؛ حيث كان الجانبان قد اختلفا
بشأن السيادة على عدد من المناطق الحدودية وهي: زالامبيا، يوري، ويام مي،
وشيراو، ومثلث برجا - الحميرة، وعفر، وبعض ولاية تيجراي وأبيجي
وأنداكيدا ولبتينا وأردى ماتيوس [16] .
ويتمحور الموقف القانوني للبلدين في رؤية مشتركة لمبدأ يقضي بضرورة
الاعتراف بالحدود المتوارثة عن الدول الاستعمارية وعدم تغييرها، ولن تختلف
الدولتان حول أي الاتفاقيات التاريخية التي يجب الأخذ بها.
ونتيجة لهذه التراكمات بدأ النزاع الحدودي يظهر في أغسطس 1997م،
عندما بدأت إثيوبيا في ممارسة بعض مظاهر السيادة على الأقاليم المتنازع عليها،
بنشر بعض الخرائط التي تظهر تبعية إقليمي بادمي، وزالامبيا لها [17] ؛ مما
أفضى إلى قيام إريتريا يوم 6/5/1998م، باقتحام الحدود المشتركة وتوغلت داخل
الأراضي المتنازع عليها. وبهذا تكون إريتريا قد بادرت باحتلال الأراضي
المتنازع عليها بالقوة العسكرية، وتحقيق النصر على إثيوبيا في هذه الجولة. ثم
انفجر القتال بين الجانبين خلال شهر فبراير 1999م مرة ثانية، ودار القتال في
ثلاث مناطق هي: بادمى التي شهدت العمليات العسكرية في مايو 1998م،
ومنطقة تسورنا، وزالامبيا ومنطقة يوري جنوب غرب ميناء عصب. واستطاعت
القوات الإثيوبية تحقيق بعض الانتصارات غير الحاسمة، وهو ما أجبر إريتريا
على الموافقة على خطة السلام التي أعدتها منظمة الوحدة الإفريقية، مما ساعد على
إيقاف القتال مؤقتاً بين الطرفين [18] .
والجدير بالذكر أن الجولة الأولى والثانية من الحرب لم تساعدا في تسهيل
عملية التسوية؛ بل على العكس استمر التباعد في المواقف بين الجانبين، وبدا
واضحاً أنهما يستعدان لجولة ثالثة فاصلة. وهذا ما حدث؛ حيث اندلعت مواجهة
جديدة خلال شهر مايو 2000م، والتي كانت أكثر شراسة، واستطاعت إثيوبيا
التي امتلكت المبادأة في هذه الجولة تحقيق انتصارات حاسمة على القوات الإريترية
[19] .
فلم تكتف إثيوبيا باسترداد المناطق التي احتلتها القوات الإريترية عام
1998م، فحسب بل إنها توغلت داخل الأراضي الإريترية.
ومن الملاحظ أن الحرب الإريترية الإثيوبية وخاصة في جولتها الثالثة، أنها
الحرب الأكثر عنفاً ودموية في الصراعات الإفريقية؛ ففي التاريخ الحديث لإفريقيا
لم يحدث أبداً أن تصاعد أي صراع بين دولتين إلى هذه الدرجة من العنف.
3 - الحرب الأهلية في السودان:
ظلت الأزمة السودانية بملامحها وأبعادها المستجدة الأكثر حدة وتعقيداً منذ
الاستقلال تراوح مكانها عام 1997م وسط مؤشرات تدل على عدم إمكان حسمها
عسكرياً أو حلها سياسياً. فلا يبدو أن الخيار العسكري يمكن أن يؤدي إلى نتائج
حاسمة في ظل موازين القوى القائمة. كما أن الحل السياسي يواجه مشكلات كبيرة
في ظل المواقف المعلنة. ولذلك تواصلت أعراض هذه الأزمة التي تجمع
المشكلات الرئيسية التي واجهت السودان منذ استقلاله. وهي مشكلات عدم استقرار
نظام الحكم واستمرار الحرب الأهلية، فضلاً عن تصاعد وتوتر العلاقات الخارجية،
كما تعقدت الأوضاع المحيطة بالنظام السوداني، واستخدمت الأدوات العسكرية
والدبلوماسية بأساليب جديدة، في ظل محددات تشير إلى أن أياً منها لن يكون
حاسماً في إيجاد حل قريب للصراع الدائر [20] .
وترجع الأزمة السودانية إلى عدد من الأسباب التي يمكن إجمالها على النحو
التالي:
1 - أن التطورات التي شهدتها السودان منذ وقوع الانقلاب العسكري الأخير
عام 1989م وقيام نظام سياسي عسكري يستند إلى قواعد الجبهة القومية تشير إلى
انكسار في الحلقة المفرغة التي أفرزت دورات الحكم في الدولة؛ فقد كانت هذه هي
المرة الأولى التي يتمتع فيها حكم عسكري في السودان بقاعدة تأييد مدنية صلبة
نسبياً. لكن قدرة النظام على إعادة صياغة الخريطة السودانية المعقدة أخذت تتآكل
مع الوقت، خاصة في ظل عدم المرونة التي اتسم بها واستخدام العنف المكشوف
ضد العناصر المعارضة [21] .
2 - وصول الفجوة بين النظام الحاكم والمعارضة الجنوبية المسلحة إلى أوسع
مدى لها في عام 1997م منذ الاستقلال، وذلك بسبب التوجهات الأيديولوجية للنخبة
الحاكمة. فقد ارتكزت سياسة النظام تجاه الجنوب على أن مسألة نشر الإسلام في
تلك المناطق «قضية جهاد» وأدى ذلك إلى اعتقاد المعارضة الجنوبية استحالةَ
الوصول لحل وسط بشأن تلك المشكلة [22] .
3 - انفجار التوترات السياسية المتزامنة بين السودان ودول الجوار الرئيسية.
فالسودان من الدول التي تمثل تفاعلاتها مع دول الجوار المجال الرئيسي لسياستها
الخارجية، بحكم تعدد تلك الدول، والتصاق الكتل الجنوبية، ويؤدي وجود أسباب
للتوتر معهما إلى عدم توازن سياسته الخارجية.
4 - تصاعد درجة الاهتمام والتدخل في الشؤون الداخلية السودانية [23] :
وفي هذا الإطار التقت العوامل السابقة لتشكل ملامح أزمة ممتدة ذات طابع
حاد تفجرت خلالها كل المشكلات السودانية، على نحو أدى إلى تفاعلات مكثفة
أفرزت تحولات درامية في سلوك جميع الأطراف المعنية بالمسألة السودانية،
والقوى الإقليمية الرئيسية، وتبلور توجه رئيسي للتعامل مع المشكلة وهو تبني
المعارضة السودانية خيار العمل المسلح. ولكن في عام 1999م فإن ثمة «فرصة»
للحل السياسي، حيث شهد هذا العام:
أ - توقيع «اتفاق سلام» في إبريل بين الحكومة السودانية، وستة فصائل
جنوبية منشقة على حركة جون جارنج.
ب - قبول النظام السوداني مبادئ إعلان «إيغاد» الصادر عام 1994م،
الذي أكد على التعددية السياسية، وتقرير المصير للجنوب، وفصل الدين عن
الدولة بوصفه «أساساً للنقاش والمفاوضات» .
ولكن سرعان ما بدأت المشكلة المرتبطة بالحل السلمي عندما قبلت الحكومة
شقاً واحداً رئيسياً في إطار الحل وهو الشق الخاص بالجنوب، ولم يصدر عنها ما
يشير إلى قبول التعددية السياسية الكاملة بالمفهوم الذي تطرحه المعارضة الموحدة
[24] .
ولكن فجأة، وبعد مرور 20 سنة من الصراع، و 18 جولة غير ناجحة من
المفاوضات، و33 يوماً من التفاوض في الجولة الأخيرة توصل وفدا كل من
الحكومة السودانية وحركة التمرد في جنوب السودان (حركة جون جارنج) إلى
بروتوكول ماشكوس نسبة إلى المدينة الكينية التي احتضنت الاتفاق الذي يعتبر أول
اتفاق من نوعه يضع مبادئ عامة ومحددة للتفاوض عليها مستقبلاً بشأن الجنوب.
وصف الاتفاق بأنه «اختراق» في العلاقات بين الطرفين اللذين أسفرت حربهما
عن مقتل ما لا يقل عن مليونين، ونزوح 4 ملايين سوداني من مدنهم، وإيقاف
تنمية السودان تماماً رغم موارده الهائلة. فهو ليس اتفاقاً نهائياً، ولكنه أقرب ما
يكون إلى «إطار للتفاهم» أو «أرضية مشتركة» ، وفي يوم 18/7/2002م
أعرب «جون رانفورث» مبعوث الرئاسة الأمريكية عن ضرورة وقف حرب
جنوب السودان حتى يمكن أن يفتح الباب أمام السودان ليصبح دولة نفطية كبرى في
إفريقيا [25] .
* ثالثاً: الصراع في القرن الإفريقي وانعكاساته على الأمن القومي العربي:
1 - مفهوم الأمن القومي العربي:
بعبارة موجزة: يمكن أن نعرِّف الأمن القومي بأنه سلامة حدود الدولة
ومصالحها وقيمها وثقافتها من المخاطر المحدقة بها. وقد تكون هذه المخاطر
خارجية آتية من دول الجوار أو الدول الكبرى، أو قد تكون داخلية كأن يهدد النظام
الشرعي للدولة أو أمن المواطن في الداخل نتيجة لفقدان أحد مقومات الأمن.
وتتمثل هذه المقومات في عوامل ثلاثة: القوة العسكرية، والتنمية الاقتصادية،
والاستقرار السياسي.
فإذا كان المقصود هو عدة دول مرتبطة بنظام إقليمي محدد كالدول العربية،
تزداد على هذه العوامل دعامة أخرى رئيسية ألا وهي ضرورة وجود حد أدنى من
الاتفاق على تحديد مصادر التهديد الرئيسية داخلياً وخارجياً، مما يوجب رسم
استراتيجية موحدة للدفاع عن هذا الكيان الإقليمي. ويتبع ذلك ضرورة توافر الإرادة
السياسية الموحدة وجهاز صنع القرار على المستوى القومي. فإذا انتقلنا إلى مفهوم
الأمن القومي العربي وجدنا أنه محصلة لمجموع أمن الدول الأعضاء في جامعة
الدول العربية.
فالعلاقات العربية - العربية الآن تمر بمحنة حقيقية لعل أخطر سماتها التمزق
والتشتت في السياسات والأهداف، بحيث أصبح من أصعب الأمور على المهتمين
بالشؤون العربية رسم خطة واضحة لحماية الأمن العربي، بل أكثر من هذا وضع
مفهوم موحد ومتفق عليه بين جميع الأطراف، لما يطلق عليه الأمن القومي العربي
[26] .
فإذا قارنا بين المقومات العامة للأمن التي سبق ذكرها سلفاً، وبين الوضع
الراهن في الدول العربية وجدنا الآتي:
1 - القوة العسكرية: دُمِّر جزء هام من القوة العربية حيث دمر العراق. أما
القوتان الأخريان المصرية والسورية فقد انضمتا إلى المحور العربي، وبذلك لا
يمكن أن نتكلم اليوم عن قوة عسكرية عربية مستقلة.
2 - التنمية الاقتصادية: تعتبر التنمية الاقتصادية متعثرة في أغلب الدول
العربية؛ حيث إنها تعتمد غالباً على القروض وليس على تنمية الإنتاج.
3 - الاستقرار السياسي: من الصعوبة بمكان الحديث عن الاستقرار السياسي
في الدول العربية اليوم؛ حيث تتهددها مخاطر داخلية وخارجية.
4 - الاتفاق على مصادر التهديد: ليس هناك أي اتفاق بين الدول العربية في
هذا الشأن.
5 - ونتيجة لكل هذه السلبيات.. لا يوجد تنسيق في صنع القرارات العربية،
ومن ثم لا يمكن الحديث عن جهاز موحد عربي لصنع القرار.
ومن هنا يجب النظر إلى مسألة الأمن العربي من خلال مناظير عدة بدلاً من
منظور واحد غير ذي موضوع.
وبما أن المنطقة الخاصة للدراسة هي القرن الإفريقي فسيكون تأثير ما يحدث
فيها واقعاً على بعض الدول العربية فقط، وعلى وجه الخصوص دول الخليج
ومصر واليمن [27] .
2 - تداعيات الصراع على الأمن العربي:
انطلاقاً من مفهوم الأمن القومي يتضح أن منطقة الصراع في القرن الإفريقي
تعد على جانب كبير من الأهمية نظراً إلى ارتباطها المباشر بالأمن العربي عموماً،
وكذلك تأثيرها الملموس في المصالح الحيوية لبعض الأقطار العربية الفاعلة في
آليات هذا الصراع سواء بشكل مباشر مثل الصومال والسودان، أو بشكل غير
مباشر مثل مصر. ومن ثم فإن التغيرات التي شهدتها المنطقة منذ بداية التسعينيات
ينبغي التعامل معها في ضوء هذه الاعتبارات، على أنه تجدر الإشارة بداءة إلى
أمرين هامين:
أولهما: أنه نتيجة التناقض السياسي والأيديولوجي السائد في الوطن العربي،
فإن المصالح القُطرية لكثير من البلدان العربية في المنطقة قد لا تكون متطابقة أو
تابعة من الأهداف القومية العليا.
ثانيهما: ترتبط منطقة القرن الإفريقي ومنطقة الخليج بروابط استراتيجية
وثيقة لا يمكن التقليل من أهميتها. وتؤكد الشواهد التاريخية مدى عمق هذه الروابط؛
فمنذ نحو قرن ونصف طلب أحد سلاطين الصومال من أحد أمراء القواسمة في
الخليج أن يمر الأسطول التجاري القاسمي بالسواحل الصومالية في طريقه إلى شرق
إفريقيا. وبذلك تسهم القوة البحرية مع القوة البرية الصومالية في الدفاع عن الحزام
الجنوبي للوطن العربي والإسلامي [28] .
وأياً ما كان الأمر، فإن انعكاسات الصراع في القرن الإفريقي يمكن أن تؤثر
بشكل مباشر في ثلاثة مصادر كامنة لتهديد الأمن القومي العربي، وهي:
1 - عروبة ووحدة السودان.
2 - التحكم في منابع النيل وتأمين الاحتياجات المائية لكل من مصر
والسودان.
3 - البحر الأحمر وأمن المنطقة العربية.
بالنسبة إلى تأمين كل من السودان والصومال وجيبوتي من مصادر التهديد
المختلفة، فإنه يمكن القول إن هذه الدول الثلاث تشكل دعائم هامة للحزام الأمني
الجنوبي للبلدان العربية في إفريقيا. فمن المعروف أن السودان يمثل نقطة تلاقي
المصالح العربية والإفريقية. كما أن تأثير الصراعات في منطقة القرن الإفريقي في
الوطن العربي في عمومه إنما يكون عبر السودان [29] .
ونظراً إلى أن السودان يمتلك حدوداً مشتركة مع دول الصراع في القرن، فقد
دخل في شبكة من العلاقات الدولية المعقدة في المنطقة. ولا يخفى أن الحرب
الدائرة في الجنوب السوداني على حد سواء، ولا سيما في ما يتعلق بقضية المياه.
فقد اتفقت كل من مصر والسودان على بعض المشروعات التي تهدف إلى تقليل
الفاقد في مياه نهر النيل مثل مشروع قناة جونجلي (1) ، وقناة جونجلي (2) ،
على أن العمل في مثل هذه المشروعات توقف بسبب اندلاع الحرب الأهلية في
الجنوب واعتراض سكان المناطق الجنوبية في السودان على هذه المشروعات بزعم
أنها استنزاف لمواردهم الطبيعية والاقتصادية.
ولا شك أن سقوط مانجستو أدى إلى فقدان الحركة الشعبية لتحرير السودان
حليفاً قوياً، وهو الأمر الذي يسمح في ظل المعطيات الدولية والإقليمية الراهنة
للبلدان العربية أن تقوم بدور سياسي نشيط لتسوية مشكلة جنوب السودان.
فالمصالح القومية العليا تتعدى أي خلافات قطرية ضيقة أو منازعات طارئة بين
أنظمة الحكم القائمة في البلدان العربية [30] .
وبالنسبة إلى تأمين تدفق مياه النيل، نلاحظ أن الشواهد التاريخية تشير إلى
أنه كلما ساءت العلاقات بين الحبشة ومصر أضحت قضية مياه النيل ورقة تهديد
في أيدي ملوك الحبشة. ففي ظل حكم داودين يوسف ملك الحبشة (1381 -
1411م) لم يكتف هذا بالتهديد بتحويل مياه النيل الأزرق، بل شن هجوماً على
حدود مصر الجنوبية وبلغ أسوان منتهزاً حالة الفوضى في البلاد على عهد السلطان
برقوق. وقد كشفت بعض الوثائق التاريخية أن ملك الحبشة عام 1704م وجه
رسالة تهديد إلى حاكم مصر العثماني جاء فيها: «في النيل وحده الوسيلة التي
تكفي أعقابكم، لأن الله جعل منبع هذا النهر وفيضانه تحت سلطاتنا. وفي وسعنا
التصرف بمياه هذا النهر بالكيفية التي تلحق الأذى البليغ بكم» .
ولا شك أن الخوف من تهديدات الأحباش بتحويل مياه النيل كان وراء تفكير
محمد علي في تجريد حملات عسكرية ترمي في أهدافها البعيدة إلى السيطرة على
مصادر هذا النهر [31] .
إن بعداً هاماً للأمن القومي العربي يمتد إلى هذه المنطقة من إفريقيا حيث
منابع النيل، ومن شأن أي تهديد لتدفق مياه النيل أن يمثل تهديداً أساسياً لكل من
مصر والسودان. وفكرة تأمين منابع النيل كانت قائمة في إدراك الحكومات
المتعاقبة على حكم مصر. ومنذ أوائل القرن الحالي شغلت قضية مياه النيل جزءاً
كبيراً من السياسة المصرية. ويمكن الإشارة هنا إلى خزان أسوان ومشروعات
المياه في السودان، وكذلك قيام كبار مهندسي الري المصريين بوضع تصور عن
مشروعات النيل الكبرى من المنبع إلى المصب. ومنذ تلك الفترة اتخذت الحكومات
المصرية المتعاقبة مجموعة من الاتفاقيات والمشروعات لتشجيع التعاون الإقليمي
لضبط النهر [32] .
كما أن عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في إثيوبيا يفتح الباب للنفوذ
الإسرائيلي والعربي المتناقض مع الأمن الاقتصادي المصري في منابع النيل
الأزرق على الهضبة الحبشية [33] .
إن تأمين جنوب البحر الأحمر يعتبر أمراً حيوياً بالنسبة إلى الاستراتيجية
العربية لمواجهة الأطماع الإسرائيلية في المنطقة. ولنتذكر في هذا الصدد الدور
الهام الذي قام به إغلاق باب المندب في جنوب البحر الأحمر الذي قامت به القوات
المصرية خلال حرب أكتوبر 1973م ضد إسرائيل. وبما أن البحر الأحمر هو
المنفذ الوحيد المؤدي إلى إيلات الميناء الإسرائيلي؛ فدائماً ما يهدف المحور الغربي
إلى تأمين الملاحة الغربية والإسرائيلية فيه، وينتج عن ذلك الرغبة الدائمة في
تحييده والوقوف ضد فكرة تحويله إلى بحيرة عربية، كما يهدف أيضاً إلى تدويل
باب المندب أو على الأقل تحييده. وهذا بالطبع يعمل على تهديد مصالح دول
الخليج العربي [34] .
وأياً كان الأمر، فإن على السياسات العربية أن تتعامل مع دول المنطقة التي
سوف تتمخض عنها أي مشروعات مستقبلية على أساس التعاون السياسي
والاقتصادي بما يحقق المصالح المشتركة للأطراف كافة.
4 - الموقف العربي واستراتيجية الحل:
اتساقاً مع التحليل السابق، فإن تدعيم الأمن القومي العربي يتطلب الاعتماد
على عدد من الركائز الواقعية والموضوعية من بينها ما يأتي:
* ضرورة التعامل مع نظم الحكم القائمة في المنطقة بغض النظر عن
توجهاتها الأيديولوجية. انطلاقاً من المصالح العربية الحيوية التي تربطنا بدول
المنطقة. ومن الملاحظ فعلاً أن الاعتبار الأيديولوجي لم يكن له أدنى تأثير في كثير
من السياسات الخارجية العربية تجاه هذه المنطقة. كما أن المصالح العربية الحيوية
التي تربطنا بدول المنطقة بالنسبة إلى الأمن القومي العربي تفرض دائماً وجوب
التمييز بين الثوابت والمتغيرات في إقليم القرن الإفريقي؛ فالعلاقات العربية في
المنطقة لا تحدها طبيعة أي جماعة حاكمة فيها.
* ينبغي أن تتعامل النظم العربية مع محركات الصراع في القرن الإفريقي
في ضوء المشروعية القانونية للنظام الإفريقي في مرحلة ما بعد الاستعمار، وكذلك
أي تسوية سلمية محتملة تقبلها أطراف الصراع الفاعلة [35] .
* ضرورة التعاون والتنسيق مع إثيوبيا بشأن قضية مياه النيل، ويعني ذلك
الاعتراف بعدد من الاعتبارات التي ينبغي أخذها في الحسبان، ومن ذلك:
أ - عدم التلويح باستخدام القوة عند الحديث عن مشكلة المياه في العلاقات
المصرية - الإثيوبية.
ب - مياه النيل ليست شأناً مصرياً وإثيوبياً فحسب، وإنما هي قضية تشمل
دول حوض النيل العشر كافة، وأي سياسة مائية سليمة للتعاون المائي ينبغي أن
تشمل كل الدول المشتركة في النهر.
ج - إن إسرائيل لا تقوى وحدها على إقامة مشروعات مائية كبرى على
النيل الأزرق، ولكن عادة ما تستخدم قضية التعاون الأمريكي - الإسرائيلي مع
إثيوبيا في مجال المياه كورقة ضغط على كل من مصر والسودان.
د - نهر النيل يختلف عن معظم الأنهار الدولية في آسيا ولا سيما دجلة
والفرات فثمة اتفاقات دولية تنظم الاستخدام المشترك لمياه النيل، وهو الأمر الذي
أدى إلى ثبات العلاقات بين دول حوض النيل واستقرارها ولو في المدى القصير
على الأقل [36] .
وأخيراً: يجب ملاحظة أن الركائز السابقة تفترض ضرورة تبني استراتيجية
عربية موحدة من خلال جامعة الدول العربية ومؤسساتها المتخصصة يكون الهدف
منها المساعدة في إعمار وتنمية المناطق التي أنهكتها الحروب والصراعات وأنواء
الطبيعة في كل من السودان والصومال وجيبوتي، وهي البلدان التي تشكل نقاط
التلاقي بين المصالح العربية والإفريقية والتي من خلالها يمكن النفاذ إلى إفريقيا
جنوب الصحراء.
__________
(*) باحثة في العلوم السياسة، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة.
(1) د / حمدي عبد الرحمن، (الصراع في القرن الإفريقي وانعكاساته على الأمن القومي العربي) ، المستقبل العربي، العدد 157، مارس1992، ص 75.
(2) أ / محمد عثمان أبو بكر، (التحديات السياسية والوحدة الوطنية التي تواجه منطقة القرن الإفريقي) ، في: إفريقيا وتحديات القرن الحادي والعشرين، (جامعة القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية، 1997م) ، ص 363.
(3) التقرير الاستراتيجي العربي 1994م، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام) ، ص 143.
(4) محمد عثمان أبو بكر، مرجع سابق، ص 364.
(5) أمل حمد علي العليان، الأمن المائي العربي، (القاهرة: دار العلوم للطباعة والنشر، 1996 م) ، ص 222 - 223.
(6) د / إجلال رأفت، (القرن الإفريقي: أهم القضايا المثارة) ، المستقبل العربي، العدد 228، إبريل 1997م، ص 72.
(7) د / محمود محمد خليل، أزمة المياه في الشرق الأوسط والأمن القومي العربي والمصري، (القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 1998م) ، ص 33 - 35.
(8) أ / أيمن عبد الوهاب، العولمة والتعاون المائي في منطقة حوض النيل، بحث مقدم لندوة (إفريقيا والعولمة) ، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2002م، ص 6.
(9) المرجع السابق، ص 8.
(10) أنس مصطفى كامل، (نحو بناء نظام جديد للتعاون الإقليمي في حوض النيل) ، السياسة الدولية، العدد 105، يوليو 1991م، ص 14.
(11) د / إجلال رأفت، مرجع سابق، ص 72 - 74.
(12) التقرير الاستراتيجي العربي، 2000م، مرجع سابق، ص 223.
(13) د / صلاح حليمة، (النزاع الإريتري الإثيوبي: رؤية تحليلية) ، السياسة الدولية، العدد 136، إبريل 1999م، ص 60.
(14) د / محمد رضا فودة، (إريتريا ماذا بعد الاستقلال) ، سلسلة بحوث سياسية 1991م، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، 1995م) ، ص 34.
(15) عارف عبد القادر سعيد، سياسة اليمن الخارجية تجاه قضايا منطقة القرن الإفريقي، رسالة ماجستير، (جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2002م) ، ص 165.
(16) التقرير الاستراتيجي العربي، 2000م، مرجع سابق، ص 223.
(17) التقرير الاستراتيجي العربي، 1998م، مرجع سابق، ص 227.
(18) التقرير الاستراتيجي العربي، 2000م، مرجع سابق، ص 226.
(19) عارف عبد القادر سعيد، مرجع سابق، ص 166 167.
(20) التقرير الاستراتيجي العربي، 1998م، مرجع سابق، ص 226.
(21) أيمن السيد عبد الوهاب، (الأزمة السودانية المحدد والقيود) ، السياسة الدولية، العدد 132، إبريل 1998م، ص 197.
(22) د / حسن أبو طالب، (مأزق الحل السياسي في السودان) ، السياسة الدولية، العدد 138، أكتوبر 1999م، ص 159 - 160.
(23) التقرير الاستراتيجي العربي، 1998م، مرجع سابق، ص 198 - 199.
(24) www.Islamonline.net/completesearch/mdetails.asp?hmagazineID=766.
(25) .www.Islamonline.net/politics/2002/07/article24.shm1
(26) د / علي الدين هلال، (الأمن العربي والصراع الاستراتيجي في منطقة البحر الأحمر) ، العدد 9، سبتمبر 1979م، ص 98.
(27) د / إجلال رأفت، (الأمن القومي العربي ومنطقة القرن الإفريقي) ، سلسلة بحوث سياسية (65) ، (جامعة القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، 1993م) ، ص40.
(28) د / حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق، ص 98.
(29) المرجع السابق، ص 98.
(30) د / حمدي عبد الرحمن، (مشكلة جنوب السودان: دراسة في الأطر التاريخية وديناميات الصراع) ، في: (مصر وإفريقيا: الجذور التاريخية للمشكلات الإفريقية المعاصرة) ، ص 212 - 215.
(31) د / حمدي عبد الرحمن، (الصراع في القرن الإفريقي وانعكاساته على الأمن القومي العربي) ، مرجع سابق، ص 99 - 100.
(32) د / إجلال رأفت، (القرن الإفريقي: أهم القضايا المثارة) ، مرجع سابق، ص 75.
(33) د / إجلال رأفت، (الأمن القومي العربي ومنطقة القرن الإفريقي) ، مرجع سابق، ص 42.
(34) المرجع السابق، ص 41.
(35) د / حمدي عبد الرحمن، (الصراع في القرن الإفريقي وانعكاساته على الأمن القومي العربي) ، مرجع سابق، ص 102.
(36) المرجع السابق، ص 103.(181/68)
ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
إفريقيا بين التنصير والتغريب
سالي هاني [*]
علاقة القارة الإفريقية بالدين الإسلامي وبالنصرانية موغلة في القدم، وثابتة
بالتواتر في كتب التاريخ، ومع أن الديانة المسيحية سبقت الإسلام إلى إفريقيا بما لا
يقل عن ستة قرون إلا أن الإسلام استطاع في أقل من نصف قرن أن يحتوي القارة
بالشكل الذي جعل مراكز المسيحية عبارة عن جزر صغيرة وسط بحار الإسلام.
ولولا تدخل الغرب لاستمر تقلص المسيحية من جهة، وإحراز الإسلام الانتشار
والتقدم من جهة أخرى.
فمع بداية القرن الخامس عشر وجدت ظروف وأحداث أعادت ترتيب التاريخ
الإفريقي، وجثمت بثقلها على الحياة الإفريقية الدينية والثقافية والحضارية، تلك
هي دخول الاستعمار الغربي في حلبة الحياة الإفريقية. ولما كانت النظم الاقتصادية
تتشكل حسب المفاهيم والمعتقدات بل حسب الديانة السائدة، أقحم المغامرون
الأوروبيون الدين المسيحي الذي يؤمنون به إيجاباً أو سلباً في علاقتهم بإفريقيا؛
فلذلك انطلقوا من أوروبا بعدما أقسموا لأباطرتهم بأنهم يسعون لنشر المسيحية
بالإضافة إلى الوصول لبلاد التوابل.
ومع استهلال القرن التاسع عشر كانت هذه العلاقة ترسو على تثبيت مركزية
أوروبا وطرفية إفريقيا في كل مجالات الدين والاقتصاد، وانتهت إلى تقرير هذه
الدول الإمبريالية نزعتها الاستعمارية وسيطرتها المطلقة على إفريقيا عام 1885م
في مؤتمر برلين.
والذي يهمنا أكثر في هذه التطورات هو أن الدين المسيحي الذي تعطلت
محركاته منذ قرون في إثيوبيا ومصر بدأ يستعيد حيويته من جديد في ظل الوصاية
الإمبريالية على أيدي بعض الدومينيكان والجزويت بين زعماء القبائل المنتشرة
على نهر الزمبيزي.
وفي البداية لم يكن سوى دين رمزي يبارك به أباطرة أوروبا المتسلطون
منجزات سفنهم فيما وراء البحار، فكانت معظم السفن تحمل أسماء مسيحية مثل
سفينة يسوع التي شاركت بها ملكة إنجلترا اليزابيث الأولى في ستينيات القرن
السادس عشر لدعم رحلات جون هربكنز للنخاسة بغرب إفريقيا، وكذلك كان أول
حصن يشيده المغامرون على السواحل الإفريقية يرسل له ملك الدولة التي يتبعها قساً
يعطيه اسماً من أسماء القديسين مثل حصن قاعدة سان جورج قرب ساحل العاج،
وقاعدة سانتا جون قرب الرأس الأخضر.
ومع الثورة الصناعية في أوروبا وما لابسها من تثبيط علاقة الناس بالدين
وجدت الكنيسة نفسها على هامش الحياة العامة وخاصة في ظروف الثورة الفرنسية
التي هبت عدواها على معظم الدول الأوروبية، فبارت تجارة رجال الدين في سوق
الشعوب الأوروبية، وكسدت سلعة الكنيسة في معارضها الروحية، فوجدت
الفرصة من خلال تلك الصيحات المنبعثة الداعية إلى ضرورة هداية الشعوب
الإفريقية، وأن على الرجل الأبيض أن يتحمل عبء تبشير هذه الشعوب وتمدنها،
فهبت البعثات التنصيرية، ودبت حركات المنصرين من كل حدب وصوب لخلق
مملكة المسيح على الأرض. وإذا كانت هذه الأمنية لم تتحقق فإن من الأهمية بمكان
ألا ننسى نجاح هذه البعثات في نشر المسيحية.
وقد أوجدت هذه الجهود التنصيرية في ظل الحماية الاستعمارية جواً خصباً
للمسيحية في إفريقيا؛ فلارتباطها بمدارس وإدارات المستعمر كسبت لها أتباعاً في
كل هذه الدول على نسب متفاوتة؛ ففي ظل المناطق التي لم يصلها الإسلام من قبل
لبعدها عن بؤرة التأثير بين الثقافة العربية الإفريقية سواء في المبادلات التجارية أو
الهجرات والدعوة الإسلامية لأسباب في معظمها جغرافية، كان انسياب المسيحية
فيها طليقاً في لباس المدنية الغربية حراً لم يواجه بكثير من العقبات إذا استثنينا ذلك
الرفض الذي ينطلق في غالبه من اعتبارها دين الرجل الأبيض الغازي، وأما في
باقي القارة الإفريقية حيث كان للإسلام مواطئ قدم سابقة؛ فقد كان دخول المسيحية
يتم على صورة الصراع بين المسلمين والمستعمرين، والحركات الجهادية التي
احتوت أحداث القرن التاسع عشر كانت علامات رفض للاستعمار وسياساته
التنصيرية في إفريقيا، فظهرت حركة الشيخ عثمان بن فوديو في نيجيريا
(1804 - 1810م) ، وحركة محمد أحمد عبد الله المهدي في السودان
(1843 - 1885م) وحركة رابح بن عبد الله في وادي تشاد، وحركة الشيخ
عمر المختار في ليبيا، والشيخ عمر الفوتي في منطقة السودان الغربي (1797 -
1864م) .
ولرجحان كفة الاستعمار العسكرية بسلاحه الناري تمكن من أن يطيح بكل هذه
المقاومات المناهضة له، بإعدام قادتها في بعض الأحيان أو طمس حركاتهم في
معظم الأحيان ومتابعة السياسة التوسعية الاقتصادية والدينية دون مبالاة.
وقد بقي الإسلام بالرغم من كل ذلك دين السواد الأعظم من الإفريقيين،
وتمكن من الوصول إلى كثير من المناطق التي لم يصلها قبل مجيء الاستعمار.
إن هذا الأمر يثير التساؤل حول: لماذا ينتشر الإسلام بهذا الشكل في إفريقيا
على الرغم من كل ما يبذل من جانب التنصير؟
هناك عدة عوامل أسهمت في انتشار الدين الإسلامي في إفريقيا ترجع إلى
التنصير، على الرغم مما ينفق عليه بسخاء، كما ترجع إلى مضمون المسيحية
نفسها بمواجهتها مع المجتمع الإفريقي، وإلى الاستعمار الغربي، وهو الأمر الذي
لم يأت عن قصد، ولكن نتاجه المباشر أو غير المباشر كان الإسهام في انتشار
الدين الإسلامي في إفريقيا؛ فعوامل الطرد في إطار المسيحية عملت في الوقت
نفسه كعوامل جذب للإسلام.
* المسيحية ... دين الرجل الأبيض:
حرصت الإرساليات التنصيرية على نقل الحضارة الغربية الأوروبية لإفريقيا
مما جعل صفة الأجنبية والتغريب ترتبط في الأذهان بالمسيحية في إفريقيا، وهو ما
ترتب عليه استخدام تعبير «الأورو مسيحية» Euro-Christianity في هذا
المجال، والنظر إلى الإفريقي المسيحي على أنه أورو مسيحي أو مسيحي أوروبي.
فالعمل التنصيري لم يقتصر على نشر الديانة المسيحية والدعوة للإنجيل،
ولكن تضمن أيضاً التعليم والحِرَف والفنون والرعاية الطبية، كما أن زراعة الثقافة
الأوروبية أصبحت بُعداً أساسياً من الأهداف التنصيرية.
ويلاحظ أن المحطات التنصيرية نمت حول تلك المدارس والعيادات الطبية
التي أنشأتها الإرساليات، ولم تعكس إلا القليل جداً من الحياة الإفريقية في القرى
المحيطة. فالإفريقيون المسيحيون المقيمون في الإرسالية كانوا في الواقع تقريباً
يعيشون في أرض أجنبية، ويتلقون ثقافة أجنبية وديناً أجنبياً. وقد أعطيت أسماء
أجنبية للإفريقيين في تلك المحطات التنصيرية، وكانت الشكوى من الأجنبية
والتغريب في الاتجاه والعبادة والحياة وطريقة المعيشة؛ حيث ترددت في إفريقيا
على اتساعها شكوى من الارتباط بأنماط ومؤسسات غير إفريقية مثلت المسيحية
كعقيدة أجنبية.
وفي الواقع فإن المسيحية في الأساس قد طوعت نفسها للحياة الاجتماعية
والشخصية للشعوب الأوروبية إلى الحد الذي أصبحت فيه مرادفة لهذه الحياة بكافة
أنواعها، أي ذات صبغة أوروبية. فقد حدث توليف بين المسيحية والثقافة في
الغرب أدى واقعياً إلى عرقلة انتشار المسيحية خارج نطاق من يتبعون الحضارة
الأوروبية.
وفي هذا المجال يؤكد بعض الباحثين المهتمين بدراسة المسيحية في إفريقيا
أنه من الناحية الاجتماعية يجب أن تتعرف الكنيسة على المظاهر الأساسية للنماذج
الثقافية الإفريقية وأن تتمسك بها، وإلا فإنها ستظل أجنبية بدون جذور؛ فكيف
يمكن للكنيسة أن تنتمي للمجتمع الإفريقي إذا كانت تعطي بوضوح الانطباع على
أنها جزء من طريقة الحياة الغربية؟
فالظروف والأساليب التي نجحت في الغرب لا يمكن تطبيقها تلقائياً في
إفريقيا. فإذا حملت المسيحية وصمة أنها مجرد فقرة أو مادة أخرى مستوردة من
الغرب فستبقى عميقة في اتصالها بالغرب، ومن ثم تصبح عميقة في مهمتها.
وحيث إن الكنيسة في إفريقيا تعتبر أجنبية أساساً، فإنها من ثم ترفض بشدة
من جانب الإفريقيين الذين يسعون لإبراز الشخصية الإفريقية والتخلص من آثار
الاستعمار التقليدي.
ومن الجدير بالملاحظة أن أسلوب التنصير القائم على تحويل روح واحدة أي
إدخال كل فرد على حدة للمسيحية قد اتبع في إفريقيا كما هو متبع في المسيحية
عامة، ولكنه وإن تمشى مع الفردية الغربية إلا أنه أغفل طبيعة الانتماء الجماعي
في إفريقيا، وأعطى الانطباع بأن على الأفراد أن يتركوا قبائلهم لينتموا للقبيلة
المسيحية.
وغني عن الذكر أن أسلوب التنصير الفردي هذا يجعل من الصعب دخول
الإفريقيين للمسيحية كجماعات وإن لم يحل دون دخولهم كأفراد، على خلاف
المشاهد بالنسبة للعائلات بل وللقبائل التي تدخل الإسلام كجماعات تلهج بترديد
الشهادة.
كما يلاحظ أيضاً أن العشيرة عادة ما تمارس ضغطها وخاصة أن التعميد في
العادة يتطلب إذناً كتابياً منها؛ ومن ثم فإن الانتماء التقليدي يجب أخذه في الحسبان.
ومن الواضح أن المنصرين ينصرون في إطار ثقافة المسيحية البروتستانتية
الإنجيلية أو الكاثوليكية الرومانية في القرن التاسع عشر، ومن الواضح أن وجهة
نظر الإفريقي وتجربته عن الحقيقة تختلف عن تلك التي للغربيين. وتبدو تلك
الصعوبة من خضوع الكنيسة لرجال الدين الأوروبيين البيض الغرباء عن الثقافة
الإفريقية وغير القادرين على الإحساس بالإفريقيين والذين يؤكدون سواء كانوا
كاثوليك أو بروتستانت أن المسيحية تنتمي لهم مما يصبغها بصبغة أوروبية، وهذا
ما حدا إلى استخدام الأفرو أمريكيين في التنصير بدلاً من المنصرين الأوروبيين،
وإن كانوا هم أيضاً لم يحققوا الهدف المنشود.
ومن الملاحظ أن بعض النظم الاستعمارية قد لجأت إلى اتباع سياسة
الاستيعاب كما هو حال فرنسا التي جعلت الإفريقيين يفكرون كأوروبيين لا
كإفريقيين بكل ما يتضمنه الأمر من معان أدت إلى تغريب الشخص الإفريقي
ومعاداة الثقافة الإفريقية والقيم المتوارثة.
وإذا كانت فرنسا قد أخذت سياسة الاستيعاب بجدية وركزت على الاستيعاب
الثقافي والحضاري فإن البرتغال قد ركزت على الاستيعاب الثقافي والديني؛ حيث
جعلت نشاطها مُرَكَّزاً على نشر الدين المسيحي الكاثوليكي مع استخدام الاستيعاب
كصمام أمان رفعته كشعار بالدرجة الأولى.
ومن هنا يؤكد البعض أنه في كثير من الحالات ينبغي على الإفريقي المسيحي
أن يعيد اكتشاف نفسه؛ فهو كمسيحي لم يكف عن أن يصبح إفريقياً، وتقبُّله
المسيحية لا يستوجب بالضرورة جعله أجنبياً عن أهله، ومن ثم تثور مشكلة
أساسية تتمثل في تكريس أزمة الهوية؛ حيث الاستيعاب لم يخرج في حقيقته عن
عملية إفناء حضاري.
وفي الوقت الذي حرصت فيه الإرساليات التنصيرية كما حرصت فيه النظم
الاستعمارية المختلفة على نقل الحضارة الأوروبية لإفريقيا، فقد طلبوا من
الإفريقيين ترك العديد من القيم المتوارثة التي لا تتمشى في رأي المنصرين
والمستعمرين مع نظام القيم الأوروبية والمسيحية.
فالحضارة الأوروبية اعتُبرت إحلالية محل الحضارة الإفريقية التي حرصت
الإرساليات على تدميرها كمتطلب سابق للدخول في المسيحية، وكما يعبر البعض؛
فإن ما قامت به الإرساليات هو في حقيقته عملية إفناء وليس عملية استيعاب، وأن
على الإفريقي وخاصة الإفريقي المسيحي التعامل مع هذه المشكلة. فالمنصرون
طلبوا من الإفريقيين الذين يتبعونهم في المسيحية ترك العادات التي تربوا عليها،
ونبذ قيمهم التقليدية، وكذلك فرضت المسيحية الالتزام بالزواج بواحدة فقط والنظر
إلى تعدد الزوجات على أنه تحلل خلقي؛ بينما المجتمعات الإفريقية بصفة عامة
قائمة على تعدد الزوجات. وهذه بالطبع نظرة سطحية تأخذ بظواهر الأمور دون
التعمق في حقيقة المعتقدات الإفريقية التي لها جوهر ومضمون. وهذا الأمر الذي
يستهجنه المنصرون يعتبره الإفريقيون مظهراً طبيعياً في المجتمعات الإفريقية التي
يختل فيها التوازن العددي لصالح النساء؛ حيث لا يتفهم المنصرون المضمون
الثقافي والمجتمعي لتعدد الزوجات، فلا يوجد في المجتمعات الإفريقية عامة مكان
للمرأة غير المتزوجة، وطالما كانت هناك قدرة على إعالة المرأة ومدها بالنذر
اللازم من الطعام والكساء والمأوى فإنه من الطبيعي والمنطقي في المفهوم الإفريقي
أن يتزوج الشخص القادر على ذلك؛ فهناك اعتبارات إنسانية تتدخل في موضوع
تعدد الزوجات، والإفريقيون لا يجدون حساسية في ذلك حتى إن الزوجة نفسها هي
التي تسعى لتزويج زوجها من أقرب صديقاتها، وهي التي تتولى الدعوة للزفاف
والاحتفال بالمناسبة، وتعيش الزوجات عيشة أسرية عادية باعتبارها النمط الطبيعي
للحياة؛ بحيث تكون الزوجة الأولى هي الأساس وهي المبلغة لكلمة الزوج لبقية
الزوجات وأفراد الأسرة، ومن ثم عندما يطلب المنصرون قطع الصلة بتعدد
الزوجات يعتبر طلبهم غير متقبل وغير طبيعي وغير منطقي بالمفهوم الإفريقي،
كما يفتح المجال للتحلل الخلقي في حالة عدم استطاعة استيعاب عدد من النساء
بدون زواج. بينما ما فرضه الإسلام من تنظيم العلاقة الأسرية من حيث السماح
بتعدد الزوجات وتحديده من الناحية العددية، وتنظيم القيود التي فرضت على
الطلاق وغيرها تعتبر خطوة تقدمية ومنطقية في إطار النظرة الإفريقية في هذا
المجال.
ومن الملاحظ أن المنصرين بدؤوا يغضون الطرف عن تعدد الزوجات؛ وذلك
في محاولة لجذب الإفريقيين للمسيحية وتطويعها للقيم التقليدية، وفي بدء الأمر كان
التشدد تجاه تعدد الزوجات بالنسبة لمن يدخل في المسيحية؛ حيث كان الاقتصار
على زوجة واحدة، ثم بدأ التجاوز عن هذا الشرط بالنسبة لمن كان لديه أكثر من
زوجة قبل دخوله المسيحية، ثم امتد بالتغاضي عن التعدد حتى بعد الدخول إليها في
محاولة لكسب الأعداد.
ولعل من أهم عوامل إخفاق المسيحية وعدم تحقيقها ما كان يرجى لها من
نجاح في إفريقيا هو إخفاقها في تفهم القيم الروحية الإفريقية أي عدم تفهم المنصرين
أنفسهم للتقاليد الإفريقية، حيث الدخول في المسيحية يعني قطع الصلة بالعديد من
القيم والعادات المتوارثة.
فمن الجدير بالملاحظة أن كثيراً من المنصرين الغربيين بصفة عامة
يستهجنون اعتقاد وإيمان الإفريقيين بالأرواح وعالم الغيب، وهو جزء أساسي من
المعتقدات والقيم الإفريقية التي استمرت حتى بعد دخول الكثير من الإفريقيين
للديانات السماوية.
ويؤكد المنصرون على ضرورة ترك ما يطلقون عليه الأفكار والمعتقدات غير
الرشيدة، بل إن المنصرين يضعون الدخول في المسيحية في كفة وترك الاعتقاد
بعالم الأرواح والإيمان بالغيب والعالم غير المرئي الذي يعتقد فيه قبل الانضمام
للمسيحية في كفة أخرى. فهم يعتبرونها أحد مظاهر الوثنية من جهة ما سبق أن تم
في أوروبا في العصور المظلمة عندما ساد الاعتقاد بها من جهة أخرى. ويرى
البعض أن المنصرين يجب أن يفهموا العالم الإفريقي كما يفهمه الإفريقيون وأن
يكيفوا أنفسهم مع هذا الواقع ويغيروا وجهة نظرهم فيما يطلقون عليه بالظاهرة غير
الرشيدة «ظاهرة الروح» .
وعليه فإن الإفريقيين وعلى وجه الخصوص النخبة الجديدة من الزعماء
والشباب أي العناصر التي تحركت اجتماعياً واكتسبت وعياً يشعرون بالمرارة من
استهزاء المنصرين وسخريتهم من التقاليد والعادات الإفريقية.
فتفسير المنصرين للعادات التقليدية ومحاولات إحياء التراث وبعض القيم غير
المعترف بها في المسيحية أسهم في عدم الثقة بالمنصرين؛ حيث الاتجاه حالياً في
إفريقيا نحو التأكيد على الإفريقية وإحياء الروحانيات وإعادة بعث القيم التقليدية
القديمة.
باختصار: فقد عمل المنصرون من وجهة نظر الكثير من الإفريقيين على
تدمير الحضارة الإفريقية وقطع صلة الإفريقيين بالعادات والقيم التقليدية مع إعادة
تشكيلهم وفقاً لما ارتأوه. ومن ثم استمر الشعور بالرغبة في المقاومة لدى الإفريقيين
وتحركوا خطوات في هذا الاتجاه بقصد العودة إلى كل ما هو تقليدي، فالأصالة
أصبحت هي الصيحة الإفريقية خاصة بعد الاستقلال، وفي هذا المجال نظر
الكثيرون للإسلام على أنه جزء من الأصالة الإفريقية التي سعت النظم الاستعمارية
والإرساليات التنصيرية إلى طمسها، وأنه من وجهة نظر الشعوب الإفريقية قد تم
استيعابه تماماً، وأصبح أحد سمات الشخصية الإفريقية؛ فالدخول في الإسلام لا
يتطلب بالضرورة الانتماء إلى الحضارة العربية.
* الإرساليات التنصيرية تحمل بذور فنائها ... !
هناك عدة أبعاد للنشاط التنصيري على الرغم مما ينفق عليه بسخاء أسهمت
في الإساءة لصورته ومن ثم انعكست على مدى انتشار المسيحية. ولعل أول هذه
الأبعاد هي الاتصال؛ فالمسيحية جاءت إلى إفريقيا على يد المنصرين الأوروبيين،
وما زالت لهم اليد الطولى في هذا المجال على الرغم من انتشار الكنائس المستقلة؛
فهناك في الواقع حائل حضاري ونفسي يفصل بين المنصرين وبين المخاطبين من
الإفريقيين، وعادة ما يردد المهتمون بالشؤون الإفريقية بأن الإفريقي لا يفهمه بحق
سوى الإفريقي مثله؛ فعلى الرغم من أن الاتصال في الإرسالية أخذ كحقيقة مسلَّم
بها، إلا أن المسيحية في الواقع عانت من تخلف في توصيل الرسالة المسيحية ليس
فقط لمن يعيشون بعيداً عن المناطق الحضرية، ولكن أيضاً لمن يعيشون في المدن؛
حيث التحريك الاجتماعي وعوامل التغيير الثوري في كثير من الحالات.
فمن الواضح حتى للدارسين المهتمين بالمسيحية وانتشارها أنه لم يتمكن من زرع
المسيحية بعمق في إفريقيا؛ حيث إن الأساليب التي استخدمت وصلحت في الغرب
لا تصلح بالضرورة في إفريقيا. ويأتي عدم الثقة في جدية التنصير والقائمين عليه
كبعد ثانٍ من أبعاد إخفاق المسيحية في إفريقيا.
ومن الملاحظ أن المنصرين في سعيهم لجمع الأموال اللازمة للعمل التنصيري
في إفريقيا قد أساؤوا دون قصد إلى صورة المجتمعات الإفريقية؛ وذلك بإبراز
بعض أوجه الحياة والنواحي غير المشرقة في تلك المجتمعات كالفقر والمرض
والتخلف الاجتماعي والمبالغة في إظهارها جذباً للعطف والأموال، أي بمعنى آخر:
عمل المنصرون على إظهار صورة سيئة عن إفريقيا والإفريقيين في أوروبا
وأمريكا حتى يستمروا في عملهم التنصيري والحصول على الأموال اللازمة لذلك.
ولكن من ناحية أخرى يسيء هذا الأمر لشعور الإفريقيين وخاصة الدارسين
والعاملين في الدول الأوروبية والأمريكية والمحتكين بالمجتمعات الغربية عامة.
وفي مسابقة أجريت بين الدارسين من الدول الإفريقية المختلفة في الولايات
المتحدة الأمريكية لإبداء رأيهم في التنصير بما يعكس وجهات نظر الطليعة الجديدة
في هذا المجال، جاءت معظم الآراء سلبية، ومن ذلك القول بأن المنصرين الذين
يذهبون إلى إفريقيا يؤكدون حقيقة أن الإفريقيين فقراء؛ ومن ثم فهم يحاولون جمع
المال من وطنهم لمساعدة إفريقيا، ويكون من الأفضل جداً لو أنهم أكدوا أن
الأفريقيين فقراء؛ لأن الاستغلال والسيطرة حرمتهم من مواردهم الطبيعية وثروة
قارتهم.
وعلى أي حال فإنه على الرغم مما قد يقال عن النوايا الحسنة للمنصرين
والدوافع الإنسانية إلا أن ذلك السلوك من جانبهم أسهم في تشويه صورة إفريقيا في
العالم، واستثار الإفريقيين المحتكين بالخارج ضد المنصرين وضد الإرساليات
المسيحية في إفريقيا عامة.
ومن ناحية أخرى فمن أهم ما أسهم في ابتعاد الإفريقيين عن التنصير هو
النظرة إلى أنه قاصر في نشاطه، فلم يستطع أن يحل المشكلات الروحية للشعوب
الإفريقية، كما لم يواكب التطورات السريعة والثورية التي تطرأ على تلك الشعوب؛
فالندوات الدينية في إفريقيا خاصة تلك التي في أقاصي المناطق الريفية تعطي
الانطباع على أنها بقايا لأديرة القرون الوسطى؛ حيث تعيش بعيداً عن المشاكل
والموضوعات الحقيقية في الحياة، ومعظم تلك الندوات الدينية يقوم بالتدريس بها
مدرسون غير إفريقيين بعضهم يبدون وكأنهم غير مهتمين البتة بدراسة الوضع
الإفريقي.
على الرغم من أن الكنيسة هي التي بدأت التغيير الاجتماعي في إفريقيا عن
طريق التعليم الذي يعد أهم عامل ثوري في التحريك الاجتماعي إلا أنها لم تستوعبه؛
فقد تعلم الكثير من الشباب المتحركين اجتماعياً والعاملين في المصانع والمدن
عامة أن يجدوا طريقهم بدون الكنيسة التي أخفقت في أن تبني جماعة جديدة في
المدن، وأن تواجه انهيار النظم الاجتماعية المرتبطة بالانتقال من الريف إلى
الحضر، وأن تعطي توجيهاً إيجابياً لحركة الطبقة العاملة والفئات المتحركة
اجتماعياً في المدن؛ حيث لا تقدم المسيحية برنامجاً اجتماعياً، وأصبح الكثيرون
منجذبين للسحر كحماية ضد القوى الاجتماعية، كما انجذب الكثيرون للإسلام
وزعاماته وتنظيماته الدينية المنتشرة في المدن.
باختصار: فإن الكنيسة أصبحت في حاجة إلى إعادة تجديد للتمشي مع
الأوضاع الاجتماعية الجديدة؛ وذلك كما يؤكد المهتمون بدراسة المسيحية في إفريقيا.
فمن المتفق عليه عامة بين الدارسين والمحللين للمسيحية في إفريقيا أن انقسامية
الكنيسة لا تمكنها من القيام بدور فعال في مجتمع يتطور في كافة نواحيه.
ويأتي اتباع المنصرين للسياسة الاستعلائية كثالث بُعد من أبعاد إخفاق العمل
التنصيري داخل القارة الإفريقية؛ فالمنصرون المسيحيون يذهبون إلى القارة
الإفريقية حاملين معهم تلك الطبيعة الاستعلائية والإحساس بتفوق المجتمع الغربي
الذي جاؤوا منه؛ فهم لا يندمجون مع المجتمع الإفريقي، ولا يتزوجون منهم، بل
يحافظون دائماً على مسافة بينهم وبين الإفريقيين. وإذا كان المنصرون كثيراً ما
يركزون في دولهم الأصلية في سعيهم لجمع الأموال لاستمرار عملهم التنصيري في
إفريقيا على سوء الحياة المعيشية التي يعيشونها والمعاناة الضخمة التي يتلقونها من
المعيشة في المجتمعات المتخلفة مقارنة بمستوى المعيشة في دولهم الأصلية، إلا أن
مما يزيد من استثارة الإفريقيين أن من أهم ما يلاحظ هو المستوى المعيشي المرتفع
للمنصرين بالنسبة لما يحياه الإفريقيون مما يجعل المبشر يعيش حياة مغايرة تماماً
للحياة الإفريقية، وينعزل إليها بعد دروسه التنصيرية؛ حتى المحطات الإرسالية
فإنها تحاط بعزلة عن بقية المجتمع؛ فهي تمثل بؤرة أوروبية في المجتمع الإفريقي
مع الفواصل الحضارية والنفسية والمادية بين المنتمين للاثنين.
ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أن نشر الدعوة الإسلامية وإن كان ينقصه
الإمكانيات والدعم المنظم للنشاط الدعوي، إلا أنه لا يواجه مثل ما يواجهه ذلك
النشاط التنصيري المسيحي من مشاكل؛ حيث المسلمون يعملون بمبدأ كل مسلم
داعية لدينه.
وقد تميزت المحطات التنصيرية منذ البداية بالاستغلال الذي بدأ بالاستعباد
التنصيري وذلك منذ إقامتها خاصة في غرب إفريقيا في ضوء مثلث الأطلنطي
للتجارة الذي مثل العنصر البشري الإفريقي الذي اقتلع من جذوره في ظل تجارة
الرقيق لينقل للعالم الحديث أهم أضلاعه بحيث أطلق عليه «المثلث الذهبي» .
ويتم فيها - المحطات التنصيرية - تجنيد العبيد وبيعهم وتشغيلهم وتقسيم القبائل
والممالك، وقصر تعليم الأغلبية على التعليم الابتدائي وتعليمهم الصلاة. ومن هنا
كانت تعد وبحق مقاطعات استعمارية، ولم يكن لها دور مسيحي له اليد العليا في
حياة المواطنين؛ فكان الأهالي في المناسبات الحزينة أو السعيدة يعتمدون على
رجال الديانة التقليدية بشكل أساسي، ثم يأتي القس فقط ليقول الكلمات الأخيرة.
وعليه فقد استمر الاستغلال في استخدام المحطات للنشاط التجاري وجمع الأموال.
ولعل أهم ما واجه المسيحية في إفريقيا من صعوبات عرقلت نشاطها هو
صبغها بالصبغة الاستعمارية؛ حيث نظر إليها على أنها أداة استعمارية وملحقة
بالإدارة الاستعمارية عاشت على حذوها أياً كانت تلك الإدارة، ومن ثم فإن رفض
الاستعمار تضمن بالطبيعة رفض كل ما ارتبط به من قيم بما فيها المسيحية،
والمنصِّر المسيحي كان رائداً لدخول الرجل الأبيض للقارة؛ فالمنصرون كانوا
طليعيين للاستعمار الغربي في إفريقيا؛ فقد سبقوا الجيوش الاستعمارية ووطدوا لها،
كما جاؤوا في ركابها؛ حيث لم تخل الجيوش الاستعمارية من المنصرين ليعملوا
على فتح القلوب. وتضمنت الاتفاقيات التي أبرمت بين النظم الاستعمارية
والزعامات الإفريقية حيثما وجدت بنداً ينص على إطلاق حرية التنصير في طول
البلاد وعرضها، كما عاش المنصرون على الحظوة والتفضيل الإمبريالي
والسياسي، وارتبطت مصالحهم بمصالح دولهم المستعمرة خاصة، وارتأوا استمرار
الوضع القائم الذي يمكنهم من القيام بمهامهم، وبنفس المثل استخدمتهم النظم
الاستعمارية على اختلافها لتحقيق أهدافها؛ فالعلاقة بينهم متبادلة وكذلك المصالح.
فالعلاقة بينهم تكافل بالدرجة الأولى؛ ومن هنا فقد استخدم البعض تعبير (إمبريالية
الجماعات التنصيرية) أو (الإمبريالية التنصيرية) رمزاً لتسلط الإرساليات في
إفريقيا وسياستها في السيطرة على مقدرات الشعوب وتسييرها وفقاً للسياسات
الاستعمارية والقضاء على أي تراث ثقافي قائم غير التراث الغربي المسيحي.
وكان المدخل الواسع للتنصير ونشاطه هو التعليم الذي كان نحو 95% منه على يد
المنصرين في ظل الغارة الاستعمارية، وكان التعميد هو المتطلب السابق للتعليم في
معظم الحالات، لكن في بعض الحالات قام الإفريقيون فيما بعد بإحراق المدارس
والكنائس على أساس أنها مرتبطة بالسلطة ومن ثم بالإخضاع. وكما يعبر البعض
من الإفريقيين أن الشر الأساسي للتنصير في إفريقيا هو تراثها النفساني.
فالمسيحية هي دين الأسياد الجائرين الأجانب، وقد ينظر إلى زيادة انتشارها
بين شعب يحاول أن ينفض عنه آثار سيادة الجائرين نظرة ريبة. وليست فكرة إقناع
الرجل الأسود برب الرجل الأبيض سوى ترادف لإقناعه بقبول دوره الأدنى.
ومما يلاحظ في هذا المجال أنه في الوقت الذي ربطت فيه الشعوب الإفريقية
بين الاستعمار والمسيحية - حيث قدمت المسيحية على أي حال من جانب مواطنين
ينتمون على وجه الخصوص لدول مستعمرة - فإن الإسلام على العكس ارتبط في
أذهان الكثيرين بالوقوف في وجه الاستعمار لا كمجرد دعاية أو تصور ولكن كحقيقة
موضوعية؛ فمن ناحية واجهت الجيوش الاستعمارية محاولة فرض السيطرة من
جانب الدول الأوروبية مقاومة شديدة من جانب الزعماء الدينيين المسلمين الذين
أطلقوا على الأوروبيين من الغزاة اسم الكفار. وقد شهدت القارة الإفريقية في الواقع
هذه الظاهرة التي انتشرت من مكان لآخر مع اختلاف مسمياتها، وجميعها أمثلة
حية على ما يمكن أن نطلق عليه الحروب المقدسة تحت راية الإسلام لمقاومة الغزو
الأوروبي والتسلط الاستعماري.
ويلاحظ أن الإسلام كان بطيء الانتشار في القارة الإفريقية عامة حتى القرن
التاسع عشر، حتى فرض الاستعمار سيطرته على القارة، ومن وقتها انتشر
بسرعة واضحة؛ حتى أصبح متغلغلاً في كل دول القارة مع الاختلاف بينها في
نسبة المسلمين العددية؛ فما من دولة في القارة اليوم إلا وفيها نسبة من المسلمين بما
في ذلك أنجولا معقل الكاثوليكية وركيزة البرتغال بالقارة لقرون. وهم مع قلتهم
ظاهرة تدرس في كيفية الصمود والاستمرار رغم الجهود المكثفة للتنصير بالمنطقة
ولقرون.
وهناك عدة جهود لتسويغ أسباب ارتباط سرعة انتشار الإسلام وتعميقه في
إفريقيا بوجود المستعمر؛ فمن ناحية يمكن القول إن الحروب الدينية باسم الجهاد
جذبت إليها الكثيرين لمواجهة الاستعمار، ومن ناحية أخرى فقد يكون هناك اجتياح
تلك الجيوش الإسلامية لكثير من القرى أثناء مواجهة المستعمر جعل الكثيرين
يتبعونه لا بحماس المجموعة الأولى ولكن اتباعاً للكثرة.
ومن ناحية ثالثة فإن زعامة القادة الإفريقيين المسلمين للجهاد ضد المستعمر
الأوروبي أوجد تعاطفاً مع المسلمين، وجعل الإسلام رمزاً للكفاح ضد الاستعمار،
وجذب البعض نحوه ممن نفروا لنفس السبب من المسيحية التي جاءت تحت الراية
الاستعمارية الأوروبية.
يضاف إلى هذا أن النظم الاستعمارية في كثير من الحالات كما حدث في
غرب إفريقيا وشمالها وشرقها لم تستطع أن تقيم حكمها إلا بعد القضاء على الممالك
الإسلامية القائمة والتي مثلت عقبة في سبيل فرض سيطرتها الاستعمارية، إلا أنها
وإن كانت قد استطاعت بذلك أن تضعف النفوذ السياسي للمسلمين في كثير من
المناطق لم تستطع أن تتغلب على حقيقة أن المسلمين كانوا على درجة من التقدم
والتنظيم والثقافة مما جعلها تستعين بهم في الإدارة، كما استخدمت الكثير من
المشايخ ذوي النفوذ الاجتماعي والسياسي لضمان السيطرة على الشعوب عن
طريقهم مما قوَّى من نفوذهم الاجتماعي والسياسي وجذب إليهم المزيد من الأتباع،
ويبدو هذا واضحاً من المشايخ والعلماء المعروفين بالمرابطين في غرب إفريقيا
الناطقة بالفرنسية وخاصة في السنغال. ويلاحظ أن اعتماد إنجلترا على السواحليين
في شرق إفريقيا في الإدارة كان مطلقاً تقريباً على الرغم من كراهيتهم لذلك. ولكن
كونها قد بنت سياساتها الاستعمارية على النفعية (البراجماتية) فإنها كان عليها أن
تستعين بأكثر العناصر تقدماً ألا وهم المسلمون السواحليون، مما أسهم أكثر في
زيادة نفوذهم اجتماعياً، وزاد من نشاط الدعوة الإسلامية. يضاف إلى هذا أن نشاط
الأقليات الإسلامية من الهنود الذين جلبتهم الإدارة البريطانية للعمل في شرق إفريقيا
والجزر الإفريقية أسهم في نشر الإسلام عن طريق هؤلاء الذين، وإن كانوا قد
جاؤوا معهم ببعض الانشقاقات الدينية إلا أنهم على أي حال كانوا مسلمين، ويرجع
الفضل لهؤلاء المسلمين التجار في حمل شعلة الإسلام في شرق وجنوبي إفريقيا؛
بحيث نجد أن نحو 6% من الملونين ذوي الأصل المختلط في جمهورية جنوب
إفريقيا من المسلمين. وأصبح المسلمون بهذا الشكل يعيشون حياة اجتماعية غير
تلك التي يعرفها المسلمون قبل الاستعمار، وأصبح يعرف هذا النوع من الإسلام
بالإسلام العلماني Islam Secular ويقصد به الإسلام الذي اعتنقه السكان أثناء
الاستعمار الأوروبي، أي أنه الإسلام الذي تخفف من بعض الظواهر الاجتماعية
التي لا تمس العقيدة الإسلامية.
ولكن من ناحية أخرى فإن الدين الإسلامي يعد عاملاً هاماً في توحيد الثقافة
الإفريقية، وأنه من بين الشعائر الإسلامية ما يكون رباطاً هاماً للتفهم بين المسلمين
كما يجعل من الثقافة الإسلامية الإفريقية وحدة مترابطة، وأن الشعائر الإسلامية
واحدة في كل مكان. كما أن التعاليم الإسلامية هي التي شكلت الحياة الإفريقية؛
وعليه فالإسلام الإفريقي يمكن أن يفهم بطريقة مزدوجة؛ فهو مظهر إفريقي محلي
في عالم الإسلام، وهو أيضا تنوع إسلامي في الثقافة الإفريقية.
__________
(*) باحثة سياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
* أهم المصادر:
1 - الإسلام في إفريقيا وواقع المسيحية والديانة التقليدية، دكتورة حورية توفيق مجاهد، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 2002م.
2 - الدولة العثمانية والمسلمون في جنوب إفريقيا، دكتور السيد علي أحمد فليفل: دراسة وثائقية للفترة من (1856 - 1878م) ، أوراق إفريقية 3، القاهرة: مركز دراسات المستقبل الإفريقي، 2002م.
3 - قضايا اللغة والدين في الأدب لإفريقي، إمباي لوبشير، القاهرة، مركز دراسات المستقبل الإفريقي، 1996م.
4 - قضايا فكرية: إفريقيا والإسلام والغرب، علي مزروعي، ترجمة صبحي قنصوة وآخرين، سلسلة دراسات إفريقية 4، القاهرة: مركز دراسات المستقبل الإفريقي، 1998م.
5 - المسلمون في إفريقيا المدارية، دكتور محمود طه أبو العلا: مسلسل: المسلمون، الجزء الثاني، القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، 1999م.(181/76)
ملفات
إفريقيا في عالم متغير.. وجهات نظر استراتيجية
من واقع العمل الإسلامي في شرق إفريقيا
محمد بن حمد الخميس [*]
لقد وصل الإسلام إلى إفريقيا قبل أن يصل المدينة المنورة؛ وذلك عندما
هاجر مجموعة من صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة بعد البعثة
بخمس سنوات، ثم بدأت الفتوحات الإسلامية لإفريقيا في عهد الفاروق عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - حيث فتحت مصر ثم استمر الفتح الإسلامي لشمال
إفريقيا خلال القرن الهجري الأول حتى وصل إلى المحيط الأطلسي غرباً.
ولهذا نستطيع القول بأن الجهاد كان سمة أساسية لانتشار الدعوة الإسلامية في
الشمال الإفريقي.
أما في شرق أفريقيا فإن الأمر مختلف تماماً؛ فهجرات المسلمين وازدهار
التجارة مع بلاد المسلمين يمثلان أهم عوامل نشر الدعوة الإسلامية.
وبعد أن تمكن الإسلام من قلوب شعوب الشمال والشرق الأفريقي بدأ ينطلق
وبقوة حيث عبر الصحراء الكبرى حتى وصل إلى الغابات الاستوائية على الساحل
الغربي للقارة، كما توغل من الشرق إلى الوسط والجنوب، وقامت في أفريقيا
ممالك إسلامية عظيمة في الشرق والغرب والوسط.
وبهذا أصبحت القارة تدين بالإسلام، واستمرت على ذلك قروناً عديدة حتى
جاء الاستعمار خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وعزل المسلمين بأفريقيا عن العالم
الإسلامي، وحارب انتشار اللغة العربية، وغيَّر كتابة كثير من اللغات الأفريقية من
الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وكان العالم الإسلامي وقتها ضعيفاً إلى درجة
أنه لم يستطع مساعدة إخوانه في أفريقيا أمام هذه الهجمة الشرسة من الاستعمار الذي
فتح الباب على مصراعيه للبعثات التنصيرية التي دخلت إلى كل مكان في أفريقيا
وشيدت الكنائس في عواصم أفريقيا ومدنها وقراها حتى يخيل إليك أحياناً أن
النصارى أغلبيه وهم ليسوا كذلك.
ففي دار السلام عاصمة تنزانيا حيث الغالبية المسلمة دون منازع؛ ومع ذلك
فإنك تشاهد الصليب مرفوعاً على الكنائس الضخمة في معظم مداخل المدينة البرية
والبحرية وفي شوارعها الرئيسية، وفي زنجبار التي يدين 98% من شعبها
بالإسلام ترى الكنائس في أماكن متفرقة من الجزيرة بحجة الحرية الدينية، وفي
كثير من مدن وقرى شرق وشمال كينيا حيث سكانها من أصول صومالية مسلمون
100% وليس فيها نصارى إلا الحاكم أو أفراد الجيش أو الشرطة أو العاملون في
السلك الحكومي ومع ذلك تتجول في المدينة، وترى أحياناً أن عدد الكنائس يفوق
عدد المساجد، وأذكر أني زرت قرية في جنوب مدغشقر اسمها قرية (مكة) وإذا
كنيسة على مدخل القرية، فسألت عن نسبة النصارى فيها، وإذا بالإجابة أنه لا
يوجد فيها نصراني واحد.
ولم تقف الكنيسة عند هذا الحد من صدها للدعوة الإسلامية في أفريقيا، وإنما
قامت وساهمت وبدعم من المستعمر الأوروبي بتجهيل قبائل مسلمة وإبعادها عن
الإسلام حتى أصبحت وثنية أو لا دينية لا تعرف عن الإسلام حتى اسمه، ولا
تستغرب إذا قلت لك إن قبيلة السكلافا ذات الأصول الإسلامية في محافظة ماجونقا
بشمال مدغشقر لديهم مكان للعبادة يسمونه: «الدعاني» أي بيت الدعاء يطوفون
حوله بإزار ورداء أبيضين متجردين من الملابس الداخلية وحاسري الرؤوس، وبعد
الطواف يتبركون ويشربون ماءً ثم ينحرون الهدي.
وفي شمال كينيا حيث تعيش قبيلة الغبرا يصومون رمضان ويحتفلون في
شهر ذي الحجة احتفالاً يسمونه احتفال أرفه، ويتوجهون بطقوس تعبدية إلى جهة
القبلة خمس مرات في اليوم ومع ذلك فهم لا يعرفون ديناً اسمه الإسلام.
وقبيلة البورنا في شرق أفريقيا يؤمنون بوجود الله عز وجل، ويقومون
ببعض الممارسات التي تدل أنهم كانوا مسلمين في يوم من الأيام، ولكنهم يعبدون
غير الله كالجبال أو الأشجار وغيرها.
وبالرغم من هذه الهجمة المنظمة على الإسلام في أفريقيا من قِبَل الاستعمار
والكنيسة، إلا أن هذه القارة ظلت تدين بالإسلام؛ حيث تشير إحصاءات عام
1988م أن عدد سكان القارة الأفريقية بلغ 611 مليون نسمة، منهم 52.8%
يدينون بالإسلام، والباقي 47.2% تشترك فيه المسيحية والوثنية والديانات
الأخرى [1] .
ومما يشهد على ذلك أن عدداً لا بأس به من برامج الكنيسة التي وجهت إلى
قبائل معينة باءت بالإخفاق، وقد كتب الشيخ موسى الطارقي مقالاً رائعاً في مجلة
الكوثر الكويتية بعنوان: «لماذا لا يحتفل المسلمون بفشل أشرس غارة صليبية
على أفريقيا؟» وذكر أن البرنامج التنصيري الموجه إلى قبيلته «الطوارق» كلف
الكنيسة خلال ثلاثين سنة مئات الملايين من الدولارات، وكانت النتيجة هي تنصير
خمسة أشخاص فقط من القبيلة وذكر أسماءهم [2] .
ولا يعني هذا أن هذه الهجمة الكنسية على أفريقيا، وهذا الغزو الصليبي لم
يؤثر عليهم سلباً؛ فهناك مسلمون تنصروا بسبب حاجتهم لإمكانات الكنيسة وما
تقدمه إليهم، والبعض قد يكون عن جهل. وهناك عدد كبير من القبائل الأفريقية
تحولت من الإسلام إلى الوثنية أو اللادينية مثل قبائل: الأنتيمور والسكلافا
والكريو والبورنا وغيرهم، ويقدر عددهم بـ 40 إلى50 مليون نسمة [3] .
وهناك مسلمون تأثروا بالفكر الصوفي، وآخرون أدخلوا في الدين من البدع
ما لم ينزل به الله سلطاناً.
واستمر هذا التأثير السلبي يدب في جسد القارة الأفريقية وينهك قدرتها على
مقاومة الكنيسة ولا سيما أن العون الخارجي المادي أو الدعوي كان شبه معدوم؛
حيث كان الاعتماد بعد الله على الجهود الدعوية الذاتية لأبناء القارة الذين تلقوا
ثقافتهم الإسلامية في ظل هيمنة الاستعمار على بلدانهم، والذي كان يحرص أشد
الحرص على عزلهم عن العالم الإسلامي.
ومما زاد الطين بلة نجاح بعض الحركات الثورية المدعومة من الشيوعين
التي أوصلت زعماء إلى سدة الحكم حاربوا الإسلام علانية، وأظهروا الكراهية له
كما حصل في أثيوبيا والصومال وتنزانيا وغيرها من البلدان الأفريقية.
وخلال الثلاثين سنة الماضية تحررت معظم الدول الأفريقية من حكم
الاستعمار، ووصلت الصحوة الإسلامية إليها كما وصلت إلى غيرها، وساهم فيها
خريجو الجامعات الإسلامية ولا سيما الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وساهموا
في نشر المدارس الدينية والخلاوي القرآنية.
وتشير بعض الإحصاءات أنه في جزيرة زنجبار ذات المليون نسمة يوجد ما
لا يقل عن 1800 مدرسة دينية، وفي مقديشو توجد 3830 خلوة قرآنية [4] . وهذه
المدارس والخلاوي وإن كانت تعاني من الضعف المالي والإداري، وتفتقر إلى
أدنى درجات التنظيم والترتيب إلاَّ أنها ساهمت في الحفاظ على هوية المسلمين
واعتزازهم بدينهم؛ حيث تستوعب هذه المدارس أحياناً أكثر من 80% ممن هم في
سن التعليم.
وفي هذه الفترة من الزمن بدأ العمل الخيري المؤسسي في الخليج والبلدان
الإسلامية الأخرى، وامتد نشاطه إلى القارة الأفريقية مما ساهم في تعزيز الدعوة
الإسلامية.
ولكن مع الأسف فإن عدداً كبيراً من المؤسسات الخيرية الإسلامية اقتصر
دعمه على المدارس الدينية والخلاوي القرآنية، وأغفل المدارس النظامية التي لا
تقل أهميتها عن المدارس الدينية؛ فكما هو معلوم أن الإسلام نظام كامل لحياة البشر
يشمل جميع مجالات الحياة، وكما أن الأمة تحتاج إلى العالم والداعية والإمام فهي
بحاجة إلى الطبيب والمهندس والاقتصادي والسياسي والإعلامي.
ونتيجة لهذا الإغفال أقصد إغفال إنشاء مدارس نظامية للمسلمين أصبح
المسلمون مهمشين في دولهم وإن كانوا أغلبية؛ فعادة ما يكون الوزراء ونواب
البرلمان ومدراء العموم وأصحاب النفوذ في كل بلد من الحاصلين على شهادات
ومؤهلات دراسية، وهذا في الغالب يتوفر لدى النصارى، ولذلك تجدهم يسيطرون
على هذه المقاعد المهمة وإن كانوا أقلية في البلاد، لهذه الأسباب وحسب تجربتي
المتواضعة في لجنة مسلمي أفريقيا بدأت ألمس أن بعض مؤسسات العمل الخيري
في أفريقيا سواء كانت أجنبية أو محلية أخذت بالاهتمام في بناء وتشييد وتسيير
مؤسسات تعليمية في التعليم العام تطبق المناهج المعترف بها من قبل وزارة التربية
والتعليم في الدولة المعنية، وتضيف إليها من المناهج الشرعية واللغة العربية ما
تشاء، وهي بهذه الطريقة تستفيد من تعليم المناهج النظامية لتخريج طلاب في
مجالات عديدة دون أن تفقد التعليم الديني الذي كانت مقتصرة عليه في السابق.
وأرى من خلال متابعتي للمدارس النظامية التي تديرها اللجنة في شرق
أفريقيا أن هذا الاهتمام ليس فقط من قِبَل مؤسسات العمل الخيري، ولكن الوعي
لدى الآباء بأهمية تدريس أبنائهم هذا النوع من التعليم بدأ يتنامى حتى إن بعضهم
يقطع جزءاً من لقمة عيشه على تواضعها ويسدد بها الرسوم الدراسية لأبنائه.
وهناك مؤسسات خيرية قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال، وبعد أن لمست
نجاحات متعددة في التعليم العام بادرت بإنشاء مؤسسات للتعليم العالي بعد أن كانت
حكراً على الكنيسة لعقود مضت؛ وذلك من أجل توفير الدراسة الجامعية للطالب
الأفريقي المسلم في بلده وبين أهله ليساهم في تنمية نفسه وبناء أمته محصناً بالعلم
الشرعي؛ وهذه المؤسسات وإن كانت قليلة ولا زالت تعتمد على تبرعات المحسنين
في التسيير، ولكنها خطوة في الطريق الصحيح إن شاء الله لإيجاد المسلم القادر
على خدمة قضاياه المصيرية في زمن العولمة.
وأذكر بعض هذه المؤسسات على سبيل المثال لا الحصر:
- جامعة مقديشو.
- جامعة زنجبار.
- كلية التربية بزنجبار.
- كلية الحديث وأصول الدين في ممباسا.
- كلية ثيكا للدراسات الشرعية.
- المعهد الصومالي للتنمية الإدارية.
ولذلك فإن الدعوة الإسلامية في الوقت الحاضر أمامها تحديات كبيرة لا يمكنها
أن تتطور إلا بتجاوز هذه التحديات التي أرى أن من أهمها:
1 - توحيد الجهود والتنسيق الحقيقي لا الصوري بين مؤسسات العمل
الخيري الإسلامي لمواجهة أكبر هجمة غربية تهدد العمل الخيري ولا سيما بعد
أحداث سبتمبر.
2 - التوسع في إنشاء المدارس النظامية والمعاهد والكليات والجامعات
الإسلامية وبتخصصات مختلفة تخدم المسلمين في جميع المجالات.
3- توحيد مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية التي تضاف للمدارس
النظامية.
4- اعتماد سياسة التسيير الذاتي لهذه المؤسسات التعليمية من خلال الرسوم
حتى لا تكون عرضة للانهيار إذا ما توقف دعم المتبرعين، وهذا الأمر ليس ضرباً
من الخيال أو صعب المنال في أفريقيا؛ فلدينا في اللجنة مؤسسات للتعليم العام
والعالي وصلت بفضل الله إلى هذه المرحلة، ولولا الإطالة لأسهبت في ذكر بعضها.
5 - تأهيل وتدريب العاملين في حقل الدعوة والسلك التعليمي والإداري في
العمل الخيري الإسلامي.
__________
(*) مدير مكتب لجنة مسلمي إفريقيا في الدمام.
(1) الأقليات المسلمة في إفريقيا، سيد عبد المجيد بكر.
(2) مجلة الكوثر الكويتية، العدد (18) .
(3) شريط صوتي كاسيت للدكتور عبد الرحمن السميط.
(4) تقرير غير منشور لمكاتب لجنة مسلمي أفريقيا في زنجبار والصومال.(181/82)
المسلمون والعالم
التعدي والتصدي في حرب الإرادات
بين أمريكا والعراق
د. سامي محمد صالح الدلال
منذ أواخر القرن التاسع عشر كانت الولايات المتحدة تبني ترسانتها العسكرية
وفق مفهوم الحرب المتوازنة، وحققت انتصارها المذهل في هذا الاتجاه بعد حوالي
قرن من الجهد والعمل والأبحاث والحروب، وكان قمة ذلك عندما تفتت الاتحاد
السوفييتي فأصبحت الدولة المتفردة بالقوة الكاسحة في العالم ابتداءً من القرن الواحد
والعشرين، وبعد أن تحقق لها ذلك شرعت في الدخول في حروب على ما يسمى
بحرب الإرهاب؛ فهل هي مستعدة لذلك؟!
ننظر إلى الموضوع من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: من حيث الواقع فإن الولايات المتحدة (أو أي دولة أخرى)
غير محصنة داخلياً ضد الأعمال الإرهابية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما تتميز به
هذه الأعمال من التخفي والمباغتة والانتشار والاستمرارية والاستعداد للموت فإن
على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في وضعها الأمني برمته؛ حيث إن المرافق
الحيوية التي يمكن أن تطالها تلك الأعمال في الولايات المتحدة لا حدود لها.
إن ترتيب أوضاع أمنية تفصيلية لكل مرفق (وعددها بالملايين) غير ممكن مهما
وضعت لها من ميزانيات أو حشدت لها من طاقات أو وظفت لأجلها من إمكانيات،
ولذلك فإن الانتصار في هذا المسار غير ممكن.
وعلى هذا الأساس فإن هذه الجبهة ستبقى مفتوحة، وإن السهام من خلالها
ستبقى نافذة ومستمرة ولا حل لها عملياً ما دام أن الأعمال الدافعة لمعاداتها ما زالت
قائمة.
الوجه الثاني: بعد أن انهار الاتحاد السوفييتي وجهت أمريكا قواها لمواجهة
تنامي الصحوة الإسلامية في العالم، وخاصة أن هذه الصحوة أصبح لها امتدادات
كالشرايين في جميع أنحاء المعمورة بما فيها أوروبا والولايات المتحدة نفسها. وقد
رأى المحللون الاستراتيجيون الأمريكيون أن هناك محطتين يجب التوقف عندهما:
المحطة الأولى: أن كثيراً من الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي أخفقت في
الحد من تعاظم هذه الصحوة، أو إيقاف امتدادها.
المحطة الثانية: أن هذه الصحوة قد تبلورت في بعض الأماكن بطريقة
أفرزت أوضاعاً جهادية، كما حصل في فلسطين وأفغانستان والشيشان والفلبين
وكشمير وأرتيريا والصومال والبوسنة والهرسك وكوسوفا وغيرها. بل إنها
نجحت في أفغانستان في السيطرة على مقاليد الحكم تحت علم الطالبان، كما كانت
قد نجحت على نحو ما في السودان. وقد وجد أولئك الاستراتيجيون الأمريكان
(يهوداً ونصارى) أن التعامل مع هاتين المحطتين يكون على الوجه التالي:
1 - فيما يخص المحطة الأولى: لا بد من إيجاد موقع قدم عسكري حقيقي
ضاغط وفاعل في المواقع الاستراتيجية التي تمثل المصالح الحيوية للولايات
المتحدة، وذلك في داخل دول العالم الإسلامي، وأن لا يكتفى بالدولة العبرية فقط.
2 - فيما يخص المحطة الثانية: إن التشخيص الأمريكي لبؤر المقاومة
المتناثرة في أصقاع العالم قد تجاوز اعتبار تلك البؤر ذات بواعث محلية تبتغي
تحرير بلادها من نير الأنظمة الأجنبية المتسلطة عليها لتقيم على أنقاض استعمارها
أنظمة إسلامية تضيء مناهج الحياة، إلى اعتبارها بؤراً تنتظم تجمعات جهادية
لتشكل رؤوس جسور إرهابية في زعمها في أمريكا وأوروبا وروسيا وغيرها من
الدول، ولذلك فإن على أمريكا أن تقود تحالفاً عسكرياً عالمياً للقضاء على تلك البؤر
في مراكز انطلاقها.
ولتحقيق الأهداف البعيدة وفق هذا المنظور لا بد لأمريكا أن توظف مساري
(الحرب على الإرهاب) كأداة إشعال، والحرب غير المتوازنة لقطف الثمرة،
بمعنى أنه لا بد من حصول أعمال إرهابية تخص المصالح الحيوية الأمريكية لتكون
ذريعة لأمريكا للتدخل العسكري المباشر في الدول الإسلامية.
وفي هذا السياق يمكن إيجاد تفسير منطقي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر؛
ومن خلال استعمال الولايات المتحدة لهذين المسارين فإنها تبتغي الوصول إلى
حضور صليبي في البلاد الإسلامية لا يكون فقط قادراً على وأد أي توجه إسلامي
يبتغي تغيير الواقع الحالي الذي يحتكم إلى الدساتير الوضعية والقوانين البشرية إلى
واقع آخر يحتكم إلى الشريعة الإسلامية، بل يكون قادراً كذلك على تبديل أي نظام
حاكم حتى وإن كان علمانياً يرى الأمريكان واليهود أن استبداله يحقق لهم مصلحة
أكبر في المرحلة القادمة.
وفي هذا الإطار نستطيع تفسير ما تعده أمريكا الآن للعراق الذي يحكمه
البعثيون العلمانيون.
الوجه الثالث: إن الولايات المتحدة قد وضعت لنفسها معالم شبه تفصيلية
لطبيعة خطة المرحلة القادمة، وقد ذكر (بوش) أن تنفيذها يستغرق حوالي عشر
سنوات. وخلاصتها فرض الهيمنة الأمريكية على العالم وخاصة البلاد الإسلامية
(هذا من حيث الظاهر، لكن من حيث الحقيقة فإن اليهود سيمتطون صهوة الجواد
الأمريكي لتحقيق تلك الخطة باسم الولايات المتحدة) .
إن هذه الخطة الرهيبة تستوجب خوض عدد من الحروب، وكل حرب بحاجة
إلى فتيل إشعال يسوِّغ لـ (أمريكا) القيام بضربتها العسكرية لفريستها. وقد
جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في هذا السياق. فإذا كان فتيل الإشعال
خافتاً فإنها تحاول أن تؤججه، كما هو الحال في فتيل إشعال الحرب على العراق
وهو مطالبتها له بنزع أسلحة الدمار الشامل، فإن لم تتمكن من ذلك فما هو الحل؟!
هنا جاء ابتكار بوش بطرح نظرية عدوانية سماها «الحرب الاستباقية» .
ومعناها أن تبادر الولايات المتحدة بشن حرب على أي دولة في العالم دون سابق
إنذار بمجرد ادعاء الولايات المتحدة أن تلك الدولة تشكل خطراً عليها. وطبعاً لن
تعدم الولايات المتحدة الوسيلة لإبراز نوعية ذلك الخطر، والذي هو في كل
الأحوال لن يخرج عن قولها إن هذه الدولة أو تلك تشكل تهديداً لمصالحها الحيوية،
ومن ثم فهي خطر داهم ينبغي إزالته فوراً!! وبهذه النظرية استوفت الولايات
المتحدة تعريف العمل الإرهابي بما يخدم مصالحها ليس إلا، ولكن من خلال
إمكانات دولة امبراطورية.
* أهداف شن الحرب على العراق:
ابتداء لا بد من إبراز متوالية الأسئلة الآتية: قبل غزو العراق للكويت في
الثاني من آب عام 1990م ما كان دوره في المنطقة؟ وبعد أن خرج مهزوماً في
حرب الخليج الثانية لماذا استبقى المنتصرون نظامه ولم يسقطوه؟ وهل كان
بإمكانهم إسقاطه ولم يفعلوا، أم لم يكن ذلك بإمكانهم؟ وهل إسقاطه كان مطروحاً
أصلاً قبل بدء الحرب، أم المطروح إبقاؤه واحتواؤه؟ وإذا كان المطروح إبقاءه
واحتواءه؛ فلماذا يريدون الآن إسقاطه؟! هل استنفد دوره وفقد مسوِّغات استمراره؟
إن الإجابة عن تلك الأسئلة بحاجة إلى مبحث منفصل، ولكن يمكن تلخيصها
ببضعة أسطر فيما يلي:
لقد دعم المستعمر الصليبي إنشاء الأحزاب القومية والوطنية في البلاد العربية
بغية استقطاب الجماهير تحت شعارات علمانية تعادي الإسلام وتجهض تحرك
أتباعه.
وكان حزب البعث العربي الاشتراكي من أبرز الأحزاب التي أحرزت
نجاحات علمانية باهرة حققت تماماً أهداف المرحلة بعد أن تبوأ حكم العراق
وسوريا. ثم أفلح الأمريكان وحلفاؤهم في إسقاط حكم الشاه في إيران عندما شرعت
آماله في تجاوز ما حدد له، ثم قرروا تحطيم القوى العسكرية الإيرانية والعراقية معاً
فأدخلوهما في حرب ضروس استهلكت إمكانياتهما، مستغلين في ذلك الخلفية الطائفية
المتناقضة لكلا الحكمين؛ مما أخرج الصراع القديم بينهما من بطن التاريخ ونثره على
سطحه. وقد حققت تلك المرحلة التي انتهت عام 1988م أهدافها جزئياً؛ حيث نجح
الطرفان في استبقاء قوى عسكرية هائلة في حوزتهما بعد أن وضعت الحرب
أوزارها، وكان ذلك خارج نطاق المخطط. هنا برزت المرحلة الثالثة وهي
التخطيط للبقاء في منطقة الخليج وضمان استمرار هذا البقاء.
ولذلك فنحن الآن على أبواب المرحلة الرابعة، وهي المرحلة التي ستبدأ بشن
الحرب على العراق تحت مظلة الحرب على الإرهاب، مستفيدة من نجاحاتها في
المرحلة الثالثة.
إن أهداف شن هذه الحرب على العراق متعددة المرامي، بعيدة الغايات،
ومتنوعة «التكتيكات» ، ويمكن إجمالها بما يلي:
1 - إن الصحوة الإسلامية في العراق أخذت في السنوات الستة المنصرمة
منحى جماهيرياً امتدادياً استطاع أن يتجاوز أسوار حزب البعث ويتغلغل بين
أروقته، رغم حالات القمع التي تستخدمها السلطة ضده دون هوادة. وهذا يعني أن
حزب البعث بدأ يفقد شيئاً فشيئاً مسوِّغات وجوده، وخاصة أنه لم يجد مفراً في
الأعوام الأخيرة من استخدام المصطلحات الإسلامية في أدبيات خطابه للجماهير في
محاولات مستميتة لإبقاء التفافها حوله. وقد أخذ ذلك منحى الالتصاق بالإسلام
السني لمقابلة الثقل الشيعي في جنوب العراق وبعض ضواحي بغداد. وإن
الاستمرار على هذا النحو لن يكون في صالح تحقيق المخططات الأمريكية
(النصرانية - اليهودية) ، بل سيكون مجهضاً لها. ولذلك فإن إسقاط نظام الحكم
القائم الآن في بغداد سيبعثر هذه الأوراق ويخلط ترتيبها، وهو هدف قائم بذاته.
2 - إن المخطط الشمولي الذي تبناه النصارى واليهود في مواجهتهم العالمية
لنهوض العملاق الإسلامي وانتشار الصحوة الإسلامية في أرجاء المعمورة هو
إرساء أنظمة حكم علمانية تحت مسمى الديمقراطية والتي تحت مظلتها ستكون
الفرص متاحة لجميع التيارات غير الإسلامية والإسلامية (بشكل محدود) للمشاركة
في الحكم. وستسعى الولايات المتحدة لتكون جميع البلدان في العالم، وخاصة
الأقطار الإسلامية، محكومة بالدساتير البشرية. وباسم الديمقراطية ومن خلالها
توضع القوانين والتشريعات التي تحول بين الإسلاميين وبين السيطرة على مفاتيح
«اللعبة» . وبإدارة هذه المسرحية الدولية بمهارة فإن المنهج البشري سيبقى حاكماً
باسم الديمقراطية، والمنهج الرباني سيبقى منحسراً باسم الديمقراطية؛ لأن
الديمقراطية فوق الجميع ويحتكم إليها الجميع وتحكم على الجميع. ضمن هذا
المنظار فإن الهدف الثاني من شن الحرب على العراق وإسقاط نظام الحكم القائم فيه
هو إقامة نظام ديمقراطي يحقق الأغراض المنشودة.
3 - تريد أمريكا أن يعرف العالم كله، حكومات وشعوباً، أن تفرد الولايات
المتحدة بالقوة العسكرية العاتية شيء معناه: أن على جميع تلك الحكومات والشعوب
أن تنصاع للإرادة الأمريكية وتذل لسطوتها وتخضع لجبروتها، وأن العراق عندما
تمرد على تلك الإرادة صببنا عليه جام غضبنا وهشمناه بمطرقتنا ليعلم الجميع عِظَم
قوتنا وشدة قهرنا. تلك رسالة ثانية تتضمن معنى التأله تريد أمريكا إرسالها
للمعنيين في أقطار الأرض (بعد أن أرسلت مثلها عبر أفغانستان) .
4 - إقامة نظام في بغداد تابع لها على غرار الوضع الأفغاني. وقد يتطلب
ذلك في المرحلة الأولى إبراز شخصية ديكتاتورية تستطيع أن تسيطر على
الأوضاع باستخدام سطوة الدولة، وتمهد في المرحلة الثانية لإقامة النظام
الديمقراطي الأمريكي.
5 - تحويل العراق إلى بحيرة عسكرية أمريكية؛ حيث يتوقع أن تقوم
الولايات المتحدة بإنشاء عدة قواعد لها في العراق، في كل من الجنوب والشرق
والغرب. وأما الشمال حيث يسيطر الأكراد فإن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية فيه
سيخضع لبعض المفاوضات، والتي ستنتهي بالموافقة على إقامتها مقابل بضعة
ملايين من الدولارات وتشييد بعض المنشآت.
6 - تحقيق الهدف السابق معناه أن إيران ستكون محاصرة أمريكياً من
الجهات الأربع، بوجود القواعد الأمريكية في كل من أفغانستان شرقاً والعراق
والخليج غرباً وتركيا شمالاً، وحاملات الطائرات في المياه جنوباً (وغرباً) .
وأما سوريا فستكون محاصرة بالقواعد الأمريكية من العراق شرقاً، ومن تركيا
شمالاً ومن (دولة العدو الصهيوني) والبحر المتوسط غرباً، ومن قواعد الخليج
جنوباً. ويترتب على ذلك أيضاً فرض سياسة أمريكية على منطقة الخليج تتضمن
في كثير من الأحيان التدخل في شؤونها الداخلية بغية تقليص حركة الصحوة فيها
وتجفيف منابعها، والحد من المناهج التعليمية الشرعية فيها، وفرض المناهج
التعليمية العلمانية، وإعادة صبغ هويتها الإسلامية بألوان العولمة الأمريكية،
وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة والأسرة.
7 - سيترتب على تحقيق نصر أمريكي على العراق في حال حدوثه تخفيف
جذوة الانتفاضة الفلسطينية أو إطفاؤها، وسيكون ذلك مقدمة لهدم المسجد الأقصى
وتشييد الهيكل اليهودي على أنقاضه.
8 - كما سيترتب على ذلك توقيع اتفاقيات سلام جائرة بين كل من الكيان
اليهودي وسوريا ولبنان (والعراق فيما بعد) . وقد تستغل الدولة العبرية الموقف
لشن حرب على كل من سوريا ولبنان لتفرض شروطها في تلك المعاهدات. وحينها
يمكن أن تفتتح أبواب التطبيع مع اليهود على مصراعيها، وتغرق البضائع اليهودية
الأسواق العربية والإسلامية، وسينساح العهر اليهودي في جميع أنحاء البلاد
الإسلامية.
9 - إن سقوط العراق بين يدي الأمريكان سيقلب حالة التوازن الدولي
(المختل أصلاً) رأساً على عقب، وستكون أمريكا في وضع أفضل وأقوى
استراتيجياً لفرض إرادتها على روسيا والصين والهند، وكذلك لابتزاز الاتحاد
الأوروبي وتسخيره في خدمة مصالحها.
10 - إن من أهم أهداف هذه الحرب أن تسيطر الولايات المتحدة على
الثروات الطبيعية الغنية في بلاد الرافدين، وعلى منابع النفط العراقي؛ مما يتيح
لها فرصة التحكم في أسعار النفط العالمية بما يحقق لها مصالحها. وكذلك يتيح لها
التحكم في مفاصل الاقتصاد العالمي والتلاعب بتوازنات البورصات الدولية.
11 - قالت كونداليزا رايس: إن أمريكا ستأخذ على عاتقها إعادة إعمار
العراق بعد انتهاء الحرب. ومعنى ذلك أن النية مبيتة لدى الحكومة الأمريكية
لتدمير البنية التحتية العراقية، وتشمل المطارات، والموانئ، ومحطات السكك
الحديدية، والطرق، ومحطات القوى الكهربائية، ومراكز تنقية المياه، والسدود،
(كما حصل في أفغانستان) . مما سيؤدي إلى انتعاش الشركات الأمريكية لسنوات
طويلة، وسيخسر العراق عوائده البترولية، ربما لعقود ممتدة تسديداً للفواتير
الأمريكية.
12 - وإن من أهداف هذه الحرب إضعاف أو إيقاف مشاريع التنمية في دول
الخليج؛ حيث إنها ستكون مضطرة للمساهمة بحصة كبيرة في تكاليف الحرب؛
بحجة أن الأمريكان ما فعلوها إلا لإزالة الخطر العراقي الماحق الذي يهدد كياناتهم
السياسية.
13 - بعد إقامة النظام الأمريكي في العراق سيكون الحال ممهداً لشن حرب
على إيران تحرق الأخضر واليابس، وتحقق أهدافاً استراتيجية للولايات المتحدة
كتلك التي ذكرناها بشأن العراق.
14 - في حال انتصار الولايات المتحدة في تلك الحرب فإن الدولار
الأمريكي سيرتفع، وستحقق أمريكا اكتساحاً اقتصادياً هائلاً على المستوى العالمي.
15 - بعد الحرب مع إيران، إذا انتصرت أمريكا، فإن تقسيم العراق
سيكون ليس فقط متاحاً بل هو مطلب ملح. وسيقسم العراق عندها إلى قسمين:
شيعي في الجنوب وسني في الوسط والشمال، وفي مرحلة لاحقة ربما تقسم المنطقة
السنية إلى دولتين: واحدة في الوسط والأخرى في الشمال. وبمجرد حصول
التقسيم الأول فإن الحروب لن تهدأ بين هذه الأقسام؛ مما يتيح الفرصة الكاملة
لإتمام المشروع اليهودي في تحقيق حلمهم بامتداد دولتهم من الفرات إلى النيل.
16 - بسقوط كل من سوريا ولبنان والعراق في أوحال معاهدات السلام، فإن
الهم اليهودي سيتجه حتماً نحو تحطيم القدرات العسكرية المصرية، خشية من أن
تتبلور أمور المستقبل باتجاه وقوع سلطة الحكم في أيدي الإسلاميين؛ وسوف توجِد
(دولة العدو الصهيوني) في حينها من المسوغات ما تتجاوز به نصوص اتفاقيات
كامب ديفيد. وربما سيستخدم الكيان اليهودي الأداة الأمريكية لتحقيق غرضه، كما
استخدمها بنجاح في حال العراق.
* الإجراءات اللازمة لشن الحرب:
شرعت الولايات المتحدة في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لشن حرب على
العراق تحقق لها أهدافها. وفيما يلي مرور سريع على تلك الإجراءات فيما يلي.
1 - الإجراءات السياسية: هي ذات شقين:
الشق الأول: إجراءات داخلية.
ولها مستويان: شعبي ورسمي. فأما الشعبي فتكفلت به أجهزة الإعلام التي
سخرها الجمهوريون لحشد الرأي العالم الأمريكي خلف قرار الرئيس بوش بشن
الحرب. وكذلك الزيارات التي قام بها بوش نفسه وآخرون من أركان حزبه
لمختلف الولايات لإلقاء الخطب في الجماهير للحصول على تأييدها. وأما الرسمي
فإنه لا يتم إلا من خلال الكونغرس. وقد بذل بوش جهوداً كبيرة للحصول على
سلطات واسعة لنزع أسلحة العراق بما في ذلك سلطة إعلان الحرب عليها وإسقاط
نظامها. وقد نجحت جهوده في الحصول على مراده. والخطوة الأخرى من
الكونغرس هي إصدار قانون يخول الرئيس القيام بذلك الفعل، وقد تم ذلك. ويهمنا
في هذا المبحث أن نسوق أبرز النقاط التي دار حولها النقاش، وذلك لأهمية بيان
هذه المسألة.
لقد تمحور التباحث في الكونغرس حول الإجابة عن ثمانية أسئلة:
السؤال الأول: هل يمكن «احتواء» صدام و «ردعه» ؟
الجواب: يرى الخبراء أن هذا الأسلوب قد نجح سابقاً مع دول أخرى عندما
رافقه تهديد بالرد المدمر. وأن استخدام هذه الاستراتيجية بقوة ضد العراق يمكن أن
يحقق النجاح. ويدعو «مورتون هالبرن» من مجلس العلاقات الخارجية إلى
تبني سياسة أكثر صرامة في التفتيش على الأسلحة العراقية، وإلى اتخاذ إجراءات
حظر تجاري مؤثرة لتشديد الاحتواء. مع أن بوش لا يرى ذلك كافياً بعد الحادي
عشر من سبتمبر.
السؤال الثاني: هل لدى صدام علاقة بالقاعدة؟
الجواب: لم يثبت هذا الأمر. دانيل بنجامين المدير السابق لإدارة مكافحة
الإرهاب في مجلس الأمن القومي له رأي خلاصته أن العراق العلماني والقاعدة
الأصولية غريمان: أي لا يجتمعان.
السؤال الثالث: هل نزع السلاح ممكن دون تغيير النظام؟
تيار الصقور بقيادة رامسفيلد وزير الدفاع لا يرى ذلك ممكناً، بينما تيار
الحمائم بقيادة كولن باول وزير الخارجية يرى إمكانية ذلك إذا توفرت شروط إرغام
قوية.
السؤال الرابع: كيف سيتصرف الجيش العراقي في حالة الحرب؟
الجواب: سيأتي لاحقاً عندما نتحدث عن الاحتمالات.
السؤال الخامس: كيف سيتصرف الشعب العراقي؟
الجواب: سيكون ممتناً للقوات الأمريكية؛ لأنه لا يرغب بوجود صدام!
السؤال السادس: كيف ستكون ردة فعل الشرق الأوسط تجاه الحرب والسلام
الذي سيعقبها؟
الجواب: المسلمون العاديون لن يرضوا بهذه الحرب ضد العراق. ويثير
مارك باريس السفير الأمريكي السابق لدى تركيا احتمال قيام حرب تندلع بين
الأتراك والأكراد حول مدن الموصل وكركوك النفطية، واهتزاز حكم بلدان
مجاورة.
السؤال السابع: هل ستساعد الحملة العسكرية ضد العراق الحرب ضد
الإرهاب أم تضرها؟
الجواب: كثيرون يرون إمكانية ازدواجية الحملة العسكرية ضد القاعدة
والعراق في آن واحد. لكن الخوف هو أن تضر هذه الحرب روح التعاون مع
العديد من الدول، ومن بينها دول عربية، تساعد في الحملة على الإرهاب.
السؤال الثامن: هل ستكون الولايات المتحدة في نهاية الأمر أكثر أمناً؟
الجواب: إذا لم يمكن ردع صدام فلا بد من اسئصاله بالحرب. وعندها
ستكون الولايات المتحدة أكثر أمناً [1] .
والخلاصة أن بوش نجح في إجراءاته الداخلية للحصول على تفويض وتأييد
لشن الحرب على العراق؛ رغم أن هناك بعض المعارضات من رؤساء سابقين مثل
كارتر وكلينتون ونائبه آل جور وبعض الفعاليات في الحزب الديمقراطي،
ومعارضات خفيفة في داخل الحزب الجمهوري، وبعض المظاهرات هنا وهناك.
الشق الثاني: إجراءات عالمية.
كثير من الدول لا تزال تعارض الولايات المتحدة في شن حرب على العراق
بحجة إزالة أسلحة الدمار الشامل لديه. وترتكز هذه الدول على أن المعيارية
الأمريكية غير متوازنة؛ إذ إن كثيراً من الدول لديها أسلحة دمار شامل ومن أبرزها
الدولة اليهودية ولم تتخذ ضدها أي إجراءات وقائية. ومن أبرز الدول التي تضاد
الاتجاه الأمريكي دول الاتحاد الأوروبي وخاصة ألمانيا وفرنسا، ومن خارجه كل
من روسيا والصين وبعض الدول العربية والإسلامية، وطالبت جميع تلك الدول
بأن لا يتخذ أي إجراء عسكري ضد العراق إلا بتخويل من مجلس الأمن.
لقد اضطرت أمريكا للموافقة على ذلك، لكنها قالت إن العراق يشكل خطراً
مباشراً عليها، ولذلك فإنها ستتخذ إجراءً أحادي الجانب وتقوم بعمل منفرد ضد
العراق إن لم يتمكن مجلس الأمن من إصدار قراره بالتفويض الدولي لشن تلك
الحرب. إن الدولة الوحيدة التي تؤيد الولايات المتحدة في اندفاعها هي بريطانيا
رغم المعارضة الداخلية. العراق بدوره أحرج الإدارة الأمريكية عندما وافق على
عودة المفتشين الدوليين دون شروط ثم وافق على أن يكون ذلك بقرار جديد من
مجلس الأمن. لكن الإدارة الأمريكية كانت قد رفعت سقف مطالبها إلى إسقاط النظام
الحاكم في العراق إما طواعية أو بالحرب.
2 - الإجراءات العسكرية.
منذ شهر فبراير عام 2002م بدأت الولايات المتحدة في تنفيذ خطة حشد
عسكري للدخول في حرب مع العراق؛ مما يدل على أن هذا القرار كان قد اتخذ
منذ ما لا يقل عن ثمانية شهور من الآن (أكتوبر 2002م) . وقد بلغت الحشود
العسكرية ذروتها. وأعلن القادة الميدانيون أنهم الآن مستعدون تماماً وفي انتظار
الأوامر الرئاسية. وقد تمت المناورات المختلفة استعداداً لهذه المواجهة، ووضعت
جميع القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة تحت حالة الإنذار، وكثفت الطائرات
الأمريكية والبريطانية من طلعاتها الجوية على شمال وجنوب العراق، وما لم تحدث
«معجزة» - كما يقول البروفيسور علي مزروعي مدير معهد الدراسات الثقافية
العالمية والأستاذ بجامعة نيويورك فإن الحرب واقعة لا محالة!! (وربما تكون
الحرب قد وقعت عندما تكون هذه الدراسة بين يدي القارئ) .
3 - الإجراءات الاقتصادية.
الاستعدادات العسكرية الأمريكية التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر
تمت بدعم مباشر من الكونغرس الأمريكي عندما رفع سقف ميزانية وزارة الدفاع
إلى ما يزيد على الأربعمائة مليار دولار. ورغم أن مؤشرات تراجع الاقتصاد
الأمريكي منذ تلك الأحداث لا تزال في ازدياد، ورغم إشهار كثير من الشركات
الأمريكية الكبرى إفلاسها، فإن ذلك لم يفتّ في عضد الإدارة الأمريكية في مواصلة
إجراءاتها لخوض غمار الحرب ضد العراق، خاصة أنها تأمل تعويض كل ذلك من
الاستثمارات النفطية الكبرى التي سوف تحصل عليها الشركات الأمريكية من
استثمار النفط العراقي. ومن المعلوم أن الاستثمارات النفطية التي يمتلكها بوش
وآخرون في مجلس الأمن القومي قد فتحت عليهم أبواب التوجس ووجهت إليهم
أصابع الاتهام بأنهم من الزاوية الشخصية البحتة سيكونون من أول المستفيدين من
إسقاط النظام العراقي، فنائب الرئيس ديك تشيني كان رئيساً تنفيذياً لشركة
هاليبورتون HALIBURTON التي نفذت عقوداً لإعادة بناء منشآت نفطية دمرتها
حرب الخليج الثانية، ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس عملت في مجلس
إدارة شركة «شيفرون» SHIFRON لأكثر من عشر سنوات قبل أن تنضم
لإدارة بوش، ووزير التجارة الملياردير دونالد إيفانس عمل مديراً لشركة دينفر
DENVER للنفط والغاز، وهلم جراً.
فالإجراءات الاقتصادية التي تتخذها إدارة بوش لها وجه من الانتفاع
الشخصي الذي ستعود به الحرب على المستفيدين.
* نتائج الحرب المتوقعة بين رأيين:
ما هي احتمالات نتائج الحرب الأمريكية البريطانية ضد العراق؟
في نقاش الكونغرس الأمريكي لهذا الموضوع وردت السيناريوهات التالية:
الأول: يقوم الجيش العراقي بإطلاق الأسلحة الكيماوية والبيولوجية باتجاه
(الدولة العبرية) لإشعال حرب عربية إسرائيلية، وإطلاق قنابل غاز على القوات
الأمريكية المتقدمة.
الثاني: يرفض الضباط العراقيون ارتكاب جرائم الحرب هذه عند مواجهة
هزيمة وشيكة، ويقومون بانقلاب على النظام المتداعي. واستبعد الجنرال توماس
مالكينرس حصول حرب مدن.
الثالث: ذكره الجنرال هورفيري وهو: إن سيناريو الرعب يقوم على وجود
ست وحدات من الحرس الجمهوري، وست وحدات ذات أسلحة ثقيلة معززة بآلاف
قطع المدفعية المضادة للطائرات للدفاع عن بغداد، والنتيجة ستكون وقوع عدد كبير
من الضحايا على الجانبين وبين المدنيين.
هذا ما ذكروه، لكن ما أود إيراده هو أن احتمالات نتائج الحرب في نظري
كالتالي:
الاحتمال الأول: انتصار الولايات المتحدة في الحرب. وسيترتب على ذلك
تحقيق معظم أو جميع الأهداف التي ذكرناها سابقاً. لكن هذا الانتصار سيكون عبر
معارك شديدة وإزهاق أرواح كثيرة، خاصة من المدنيين، وتدمير كم هائل من
البنية التحتية العراقية، وخاصة أن القيادة الأمريكية لا تتوقع أن تزج بجنودها في
مواجهات إلا بعد أن تكون الطائرات والصواريخ الأمريكية قد دكت العراق دكاً عبر
عشرات الآلاف من الطلعات الجوية لمدة قد تستغرق أسابيع عديدة، ربما تتجاوز
شهراً إلى شهرين أو أكثر. فإذا حصل ذلك فإن دماء المسلمين المدنيين ستسيل
أنهاراً، وأعداد قتلاهم ستبلغ آلافاً؛ فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الاحتمال الثاني: إخفاق الحملة العسكرية الأمريكية. وهو احتمال يستبعده
الكثيرون. غير أن محاكاة هذه الحرب والتي أجريت عبر الكومبيوتر انتصر فيها
النظام العراقي مرتين: الأولى: عندما طبقت خطة احتلال المحافظات العراقية ثم
الإطباق على بغداد، والثانية: عندما طبقت خطة احتلال بغداد أولاً ثم الانتشار إلى
باقي المحافظات. وفي هاتين الخطتين لم يستعمل الجيش العراقي أسلحة الدمار
الشامل، بل اعتمد خطة الانقضاض بالانتحاريين واستخدام وسائل الاتصال المباشر
(ذكرت ذلك الصحافة اعتماداً على تصريحات أمريكية) . وبناء على نتائج هذه
المحاكاة فقد تم إدخال كثير من التعديلات على خطط الحرب المعدة.
لكن ما يمكن قوله أن العراق إذا استخدم أسلحة الدمار الشامل ضد القوات
الأمريكية فإن أحداثاً مروعة يمكن أن تقع، كأن تستخدم الولايات المتحدة القنابل
الذرية المحدودة ضد بغداد وهذا غير مستبعد؛ لأن الولايات المتحدة فعلتها سابقاً في
هيروشيما وناجازاكي فإن حدث ذلك فقد تحدث مفاجآت أخرى في الحرب تؤدي
إلى اضطرار القوات الأمريكية إلى عدم متابعة الحملة العسكرية. ومعروف أن
دخول الحرب معلوم، ولكن الخروج منها غير معلوم. مما سيصيب الأوضاع
الدولية باضطراب شديد على جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية،
وخاصة في الخليج والشرق الأوسط. ولا شك أن صفحة جديدة من إعادة هيكلة
الوضع العالمي ستفتح باتساع.
الاحتمال الثالث: استطالة الحرب: حيث يخفق طرفا النزاع في حسم الحرب
لصالح أي منهما. وفي هذه الحالة ستتحول الحرب إلى نمط استنزافي يحتذي
النموذج الفيتنامي. هذا الاحتمال، إن وقع، فإنه سيؤدي إلى سقوط مرشح الحزب
الجمهوري في الانتخابات الأمريكية القادمة وخاصة إذا أعاد بوش ترشيح نفسه،
كما أنه سيؤجج المعارضة الشعبية للحرب في المجتمع الأمريكي، وسيدفع
الذكريات المؤلمة للحرب الأمريكية الفيتنامية إلى السطح لتحتل الواجهة الإعلامية
في كل مكان، وستكون له تبعات شديدة في تتابع التداعيات السياسية والاقتصادية
والنفسية، وسترتفع الأصوات المنادية بانكفاء الولايات المتحدة نحو الداخل والتخلي
عن سياسة دس الأنف في الدول الأخرى، كما أنه سيسقط الهيبة الأمريكية على
المستوى العالمي، ويهشم عرش الغطرسة الذي تتبوؤه الآن. ولا يستبعد أن يؤدي
استمرار الحرب واستطالة مدتها إلى بدء حالات تململ في الولايات المتحدة
الأمريكية قد يتصاعد ليبلغ حد التمرد على القرارات الفيدرالية؛ مما سيمهد إلى
ولوج طريق التفكك الذي انخرط في متعرجاته الاتحاد السوفييتي فتشرذم إلى خمس
عشرة دولة. وبسبب وجود الميليشيات المسلحة في كل ولاية من تلك الولايات
الأمريكية فإن احتمال حصول الاحتكاكات الدموية بين الولايات وارد في الذهن،
وبناء عليه فإن التفكك الأمريكي سيكون تفككاً دموياً وليس سلمياً كما حصل في
الاتحاد السوفييتي. من جهة أخرى إذا استطالت الحرب فإن أسعار النفط سترتفع
تدريجياً لتبلغ مستويات قياسية، في حين تنخفض قيمة الدولار الأمريكي إلى
الحضيض وسيكون ذلك لصالح اليورو الأوروبي. كذلك فإن جميع العملات الدولية
المعتمدة على سلة الدولار الأمريكي ستنحدر قيمتها باضطراد. ولا مجال هنا
لمتابعة الحديث عن مختلف التداعيات الناشئة عن هذا الاحتمال.
* لكل احتمال من الاحتمالات التي ذكرناها أوجه منوعة حيال المنتهيات التي
ستنجم عنها:
ولكن إذا نظرنا إلى أي من تلك الاحتمالات فإننا نستطيع تبويبها تحت عنوان
«المندرجات» ؛ أي مجرد نتائج تندرج في طريق الصراع الذي يتواصل احتدامه.
وأما المنتهيات التي نعنيها فهي آخر ما سينتهي إليه الأمر. ولما كان ذلك من علم
الغيبيات فإن استجلابه غير تابع للعقليات بقدر ما هو تابع للسمعيات، وبالذات
البشارات، والتي لا بد أن تتقدمها المعطيات.
لقد بشر الله تعالى هذه الأمة بأنه سينصرها في منتهى الأمر نصراً عزيزاً
مؤزراً باهراً. قال تعالى: [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن
يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 32-33) .
وعن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا
وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً
يذل الله به الكفر» [2] .
ولا شك أن الطريق إلى ذلك إنما يكون بمقارعة أهل الكفر والباطل بالجهاد
في سبيل الله، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزال طائفة من
أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة» [3] . وفي رواية: «لا تزال
عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم،
حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» [4] . وللحديث طرق كثيرة أخرى.
ولما كان القتال في سبيل الله هو سنام الإسلام؛ فإن المنتهى إليه لا يكون إلا
بالعلم والعمل وهما ساعدا الدعاة اللذان يُمضى بهما إلى ساحات الجهاد.
إن البؤر الجهادية المعاصرة في فلسطين والشيشان وكشمير وأفغانستان
والفلبين وأرتيريا وغيرها لهي مصابيح نور تبدد الدجى وتحيي آمال المسلمين.
ورجعة لموضوع أمريكا والعراق؛ فإن أي احتمال من الاحتمالات التي
ذكرناها وقع فإن الجهاد لن يخبو ضوؤه ولن تنطفئ شعلته، وهو السبيل الذي
سيبقى في كل الأحوال سالكاً رغم العقبات والنكبات.
* وقفات وتعليقات:
الوقفة الأولى: إن شرر الحرب إذا اندلعت بين الولايات المتحدة والعراق
سيتطاير في كافة الاتجاهات، وستكون له آثار سياسية واقتصادية وعسكرية مباشرة
على منطقتي الخليج والشرق الأوسط وتركيا وأوروبا وروسيا وآسيا عموماً،
بما فيها رباعي الصراع باكستان والهند والصين وأفغانستان، فضلاًُ عن أندونيسيا
وماليزيا وتايلاند وسنغافورة والفلبين واليابان، إضافة إلى دول شمال إفريقيا
وهلم جراً. كل سيصاب بنوع ما من الشرر المتطاير.
الوقفة الثانية: الحجة الرئيسة التي تستند إليها أمريكا في التجهيز لشن حرب
على العراق هي امتلاك الأخير لأسلحة الدمار الشامل. لكن العراق ينفي ذلك بشدة.
ففي رده على سؤال بهذا الشأن وجهته إليه مجلة «آخر ساعة» المصرية قال
وزير الخارجية العراقي ناجي صبري الحديثي: «الأمريكان يعرفون أكثر من
غيرهم أن العراق خال تماماً من أسلحة الدمار الشامل، كما أن فرق التفتيش التي
فتشت كل شيء وكل مكان في العراق على مدى سبع سنوات وسبعة أشهر، لم
تعثر على أسلحة أو أي نشاط محظور خارج ما سلمته الجهات العراقية لها في عام
1991م، وكان إيكيوس رئيس اللجنة الخاصة قد اعترف منذ عام 1994م أن
العراق نفذ التزاماته بشأن أسلحة الدمار الشامل بنسبة 95%، كما أكد الأمريكي
سكوت ويتر أحد أبرز عناصر التفتيش أن العراق نفذها بنسبة 98% والنسبة الباقية
قصد بها بعض أسئلة تدور في أذهان المفتشين وليس أسلحة متبقية. إن الولايات
المتحدة تريد في تركيزها على عودة المفتشين توفير جواسيس على الأرض يحدثون
لأجهزتها العسكرية والاستخبارية المعلومات اللازمة عن منشآت العراق الاقتصادية
والعسكرية والأمنية لاستخدامها في أعمالها العسكرية العدوانية ضد العراق» انتهى.
وتعليقي على ذلك هو أن الحرب إذا وقعت فستتبين الحقيقة.
الوقفة الثالثة: المعارضون للحرب عددهم كبير ولكل مسوِّغاته، وكل من
موقع تخصصه وزاوية نظره. وأسوق أدناه أقوالاً مهمة لثلاث شخصيات ذات نفوذ:
1 - بول بيفر المعلق والمحلل العسكري المشهور يقول: «الحرب ضد
العراق ستدمر جميع النوايا الحسنة التي تمكنت من بنائها الولايات المتحدة
وبريطانيا مع العالمين العربي والإسلامي. الحرب ستكون كارثية، لا سيما أنه لا
توجد ضمانات أن هذه الحرب ستؤدي إلى تغيير النظام في بغداد، فضلاً عن أنه ليس
هناك أي فكرة عن البديل الذي سيخلف صدام. ولكن إذا كان لا بد من نشوب الحرب
فيجب أن تتوفر مسوغات قانونية، وعلى حد علمي لا توجد مثل هذه حتى الآن» .
2 - جيسيكا ماثيو رئيسة مؤسسة كارنيجي للسلم العالمي تقول: «إن آخر
ما نريد أن نراه في المدى البعيد هو أن نعيش في عالم تتخذ فيه بعض الدول
قرارات بشن الحرب أو الإطاحة بحكومة أو حكومات أخرى لمجرد أنها تعتبرها
حكومة شريرة. إن مصلحتنا تحتم علينا أن نعيش في عالم يحترم القانون، إنها
مسألة مهمة بالنسبة للولايات المتحدة وضع تصرفها تحت سيطرة القانون. إن
الإدارة لم تظهر حتى الآن غير عدم الاكتراث واحتقار آراء الآخرين على أساس
أننا نحن فقط الذي يقرر» .
3 - شاك هاغل، السيناتور الجمهوري ممثل نيبراسكا يقول: «كيف يمكننا
استكمال مهمة تغيير النظام في بغداد في ظل الأوضاع المعقدة في المنطقة؟ الأزمة
الفلسطينية الإسرائيلية مستمرة، علاقاتنا مع سوريا متوترة، لا توجد لنا علاقات
مع إيران، إضافة إلى أن مصر والسعودية وتركيا والأردن قد حذرونا من تبعات
الحرب الخطيرة فيما لو اتبعنا سياسة متفردة ضد العراق، فضلاً عن أن الحرب في
أفغانستان لم تنته بعد. إنني لا أستطيع أن أرى أي إمكانية لنجاح الولايات المتحدة
في مثل هذه العملية المعقدة من دون دعم التحالف الإقليمي والدولي» .
جميع هذه التوجهات ضد الحرب تضرب بها الولايات المتحدة عرض الحائط.
حتى ريتشارد هاس، مدير إدارة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية
يؤكد تعنت وعناد الولايات المتحدة فيقول: «لا بد من إنهاء ملف أسلحة الدمار
الشامل مهما كلف هذا الأمر الجانب الأمريكي.. وإذا استمر الموقف العراقي على
ما هو عليه من دون إحراز تقدم؛ فإن واشنطن ستسعى إلى توفير الغطاء الدولي
لردع النظام العراقي بالتعاون مع بريطانيا، مهما كلف الأمر!!» [5] .
الوقفة الرابعة: أشرنا في هذه الدراسة إلى أن من أهداف الحرب نشر
الديمقراطية. تأكيداً لذلك أسوق ما ذكره جيمس وولسي مدير وكالة الاستخبارات
المركزية السابق بهذا الصدد، يقول: «إذا تمكنا من تغيير النظام في بغداد ونشر
الديمقراطية في العالم العربي، فإننا سنغير وجه الشرق الأوسط بأكمله، قد نواجه
بعض المعوقات هنا وهناك، ولكن العالم سيكون في حال أفضل إذا ما بدأنا التحرك
نحو الديمقراطية في هذا الجزء من العالم» .
الوقفة الخامسة: ما هو مستقبل النفط العراقي؟! روبرت مابرو مدير معهد
دراسات الطاقة في جامعة أكسفورد بريطانيا يقول: «إن جماعات الضغط
الأمريكية الكبرى تريد إضعاف الدور الرائد للمملكة العربية السعودية في سوق
النفط الدولية، وتقليص حقها من صادرات النفط في العالم ... كخطوة مبدئية
ستحاول الحكومة العراقية الجديدة مضاعفة حجم الإنتاج النفطي.. ولا شك أن
مضاعفة الإنتاج في وقت تكون فيه السوق النفطية في حالة إغراق يمكن أن تؤدي
إلى انهيار في الأسعار» .
ملحم كرم، في مجلة «الحوادث» يسلط الضوء على الموضوع من زاوية
أخرى، يقول: «إن تقارير دبلوماسية محدودة التداول أشارت إلى هدف نفطي
كبير يتمثل في السيطرة على حقل» القرنة «الذي يقدر احتياطياته الخبراء بأنها
تفوق أي مخزون آخر في الجزيرة العربية. وقد تعاقدت بغداد مع شركات روسية
لاستثمار جزء من هذا الحقل الخرافي، وهو الأمر الذي أسال لعاب شركات
أمريكية مرتبطة بالرئيس بوش الذي تعهد بأن تصبح» القرنة «تحت مظلتها
الاستثمارية بعد إسقاط النظام» (هكذا إذن) . إن هذا الكلام يؤكد ما ذكرناه من
أهداف الحرب الأمريكية على العراق.
الوقفة السادسة: هل ستدخل إيران الحرب؟!
الجواب: لا، بل إن وزير دفاعها أشار إلى أن إيران لن تتعرض للطائرات
الحربية الأمريكية إذا انتهكت المجال الجوي الإيراني خطأ. ولكن ينبغي لإيران أن
تعلم أن الدور سيكون عليها فيما بعد، وأن تدمير مفاعل بوشهر على الأجندة
الأمريكية الإسرائيلية. وإذا قام في العراق نظام حكم موال لأمريكا، فرغم أنه
سيكون عازلاً بين إيران وحليفتها سوريا ثم حزب الله في لبنان، فإن العقلية
اليهودية تتجه بسرعة إلى التخلص من القوى الإيرانية المسلحة؛ لأن من سياسة
(الدولة العبرية) أن تمنع وجود دولة قوية عسكرياً بالقرب من حدودها كإيران مثلاً
حتى وإن كانت في وفاق علني أو سري معها. وإذا انتصرت أمريكا على العراق
في الحرب التي يتم التجهيز لها على قدم وساق فإن إيران ستكون محاصرة أمريكياً
من الجهات الأربع، ومن ثم ستكون ساقطة عسكرياً حكماً. لكن لو وقفت إيران
الآن مع العراق عسكرياً فإن المعادلة ستتغير بالكامل، ولن يكون من السهل على
أمريكا أن تخوض حرباً مع الدولتين في آن واحد، وبذلك سيخفق المخطط
الأمريكي في شن الحرب على العراق.
الوقفة السابعة: من هو كرزاي العراق؟!
ليس ثمة اسم محدد بشكل قاطع؛ لكن هناك تكهنات تتحدث عن إعادة
الهاشميين. غير أن المنصب التنفيذي المهم هو منصب رئيس الوزراء؛ فمن
سيكون؟
أرجح الأقوال أنه الدكتور أحمد جلبي زعيم المؤتمر الوطني، وستوفر له
الحماية الأمريكية والبريطانية، حيث إن المطروح بقاؤه خمس سنوات دون إجراء
أي انتخابات باعتبارها فترة انتقالية. ولكن هل سيحدث ذلك في ظل النزاعات
المتوقعة بين مختلف الفصائل العراقية؟ وقفات كثيرة، وأسئلة وفيرة.. ولكن
الغيب يعلمه الله وحده.
وختاماً، فقد طفنا في جولتنا السريعة هذه بمختلف المؤثرات التي نرى أنها
ستصوغ الأوضاع العالمية إذا شنت الولايات المتحدة حربها المدمرة الموعودة على
العراق.
أسأل الله تعالى أن يرد هذه الأمة إلى دينه رداً جميلاً، ويؤيدها بقوته ونصره
وأن يكفيها شر أعدائها المتربصين بها.
__________
(1) باختصار وتصرف عن الواشنطن بوست، عن القبس 8/10/2002م.
(2) رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
(3) رواه مسلم عن طريق جابر بن عبد الله.
(4) رواه مسلم عن طريق عقبة بن عامر.
(5) الرأي العام 7/10/2002م.(181/88)
المسلمون والعالم
العراق ومائدة اللئام
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
تمارس الولايات المتحدة هذه الأيام تعرية نفسها أمام العالم سياسياً وعسكرياً
وفكرياً، وفضحت زيف كل الشعارات والمثل التي كانت تتغنى بها، ولم تعد تبالي
بمن كانت تدعوهم بالأصدقاء والحلفاء، وتقلصت دائرة الموثوقين واقتصرت على
الأنجلوساكسون (بريطانيا وأستراليا وكندا) بعد تفجر الخلافات العلنية مع ألمانيا
وفرنسا، وأوروبا لهم تبع.
وتمرد بوتين على سياسة يلتسن السابقة في مجاراة أمريكا والتضحية بمصالح
روسيا؛ مقابل وعود زائفة للبلاد ونقود حاضرة للقواد، ولم تجد الإدارة الأمريكية
في المنطقة العربية من يتحمس لمشاريعها ظاهراً إلا من سلبت حريته في التعبير،
وفقد السيطرة كلياً على قواعد الجو وجزائر البحور؛ فهو لا يستطيع منع الهجوم
من أرضه، وآخر ينفي أن يكون ترحيبه بالأمريكان نكاية بالجيران بل هو حب
خالص ووئام!
لقد حرصت الإدارات الأمريكية السابقة على إبعاد الكيان اليهودي في فلسطين
عن التدخل المباشر في مشاريع السيطرة على المنطقة حرصاً على عدم إثارة
الشعوب، وعلى عدم إحراج الحلفاء في المنطقة، مع التعهد بحماية (إسرائيل)
وضمان تفوقها، ولكن الظروف الحالية اختلفت، والسياسة انقلبت، فلم تعد
الأنظمة تثق بصداقة أمريكا، بل إنها تخشى أن لا تسلم من مصير يشابه مصير
العراق.
أما الشعوب الإسلامية قاطبة فهي تشهد تنامي مشاعر العداء لليهود وحاميتهم
أمريكا، ولم تعد الحكومات قادرة على ضبط هذه المشاعر؛ لأن سياسات بوش
وشارون هي المحركة لهذه المشاعر.
وحيث إن المشروع اليهودي البروتستانتي في إعادة ترتيب المنطقة وفق
(الرؤى التوراتية) غير قابل للتأجيل؛ فإن أمريكا الحالية لا تمانع بل ترحب
بالمشاركة اليهودية المباشرة في الصراع الطويل الذي يمثل فيه تدمير العراق
المرحلة الأولى فحسب. فماذا يفهم من التصريحات المتتالية من بوش وشارون
وغيرهم خلال الزيارة السابعة لشارون، والتي أعلن أن الهدف منها هو تنسيق
ضرب العراق؟ والمثير أن الإعلام الأمريكي كان يتوقع ثبات سياسة إبعاد (دولة
الصهاينة) عن واجهة الصراع، ولكن الذي حدث العكس؛ حيث صرح بوش
للصحافيين بقوله: «إذا هاجم العراق (إسرائيل) غداً فأنا متأكد من أنه سيكون
هناك رد مناسب. أعتقد أن رئيس الوزراء (شارون) سيرد لأن من حقه الدفاع
عن النفس» . إنه تشجيع ودفع للمشاركة، بل وهدد بنفسه الدول التي تستضيف
حزب الله بالقول: «إن مبدأه ما زال قائماً؛ وهو أن من يستضيف الإرهابيين فهو
إرهابي» ، وهذا الكلام يقصد به لبنان، وقد يمتد لكل من سوريا وإيران حسب
الظروف.
والذي أعتقده أن اليهود قد بلعوا الطعم؛ فقد وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي
الرئيس الأميركي بوش بأنه أفضل رئيس أميركي تعاملت معه (إسرائيل) عبر
تاريخها، وقال (رعنان غيسين) المتحدث باسم أرييل شارون عقب اللقاء: «لم
نكن نتوقع أفضل من هذا من الرئيس الأميركي الذي أقر علناً بحق (إسرائيل) في
الدفاع عن نفسها في حال تعرضها لهجوم من قبل العراق أو حزب الله» ، ونفى
حدوث أي ضغط على شارون من جانب الأميركيين بشأن المسألة الفلسطينية.
نعم لقد بلعوا الطعم، وسيقعون في خضم صراع لا قِبَل لهم به، وبدلاً من أن
تقاتل أمريكا من أجل مصالح اليهود فإنهم سيقاتلون من أجل مصالح البروتستانت،
فإذا نجح المخطط فإن المستفيد الأساسي هو أمريكا، وإن سارت الأمور عكس ذلك
فإن اليهود سيدفعون ثمناً غالياً.
وعلى كل حال فإنه مما لا شك فيه أن اعتقاد النصارى هو أن اليهود هم وقود
الملحمة الكبرى وأكبر ضحاياها، وما لدينا من الأحاديث يؤكد على قتالهم وإبادتهم
حتى يقول الحجر والشجر: «يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال
فاقتله!» [1] .
والمتتبع للتصريحات الأمريكية يلاحظ استعجالاً لضرب العراق بقرار دولي
أو بدونه سواء شاركت دول كثيرة أم قامت به وحدها.
وكما أسلفنا لم تعد هناك تحفظات على طبيعة المشاركين؛ فقد أعلن البيت
الأبيض أن الولايات المتحدة لن تنتظر شهوراً لتتحرك لضرب العراق، وذلك في
حال تأخر صدور قرار عن الأمم المتحدة يحدد بدقة إجراءات التفتيش في العراق
والعواقب في حال أعاقت بغداد عمل المفتشين. وأضاف الناطق الرسمي للبيت
الأبيض (فلايشر) أن «الرئيس ما زال يأمل في أن تتحرك الأمم المتحدة» .
وأضاف أنه «إن لم تفعل، فقد قال الرئيس بوضوح إن الولايات المتحدة ستشكل
ائتلافاً يضم كل من هم مستعدون لتطبيق قرارات الأمم المتحدة حول نزع أسلحة
العراق» بل إن الرئيس بنفسه أعلن أن «على الأمم المتحدة أن تكون على
مستوى الهدف الذي أنشئت من أجله، وهو الدفاع عن أمننا» .. نعم! لقد أوضح
حقيقة الهدف من إنشاء الأمم المتحدة ألا وهو الدفاع عن أمن أمريكا وحماية
مصالحها حول العالم، وعلى هذا الأساس يجب أن نفهم تعامل الأمم المتحدة مع
قضايا فلسطين والبوسنة وكشمير والشيشان وأفغانستان والكونغو وكوريا
وفيتنام و ... وتيمور الشرقية.
إن مهمة أمريكا ليست سهلة في مجال تسويق هذه المشاريع سواء داخلياً أو
خارجياً، وسنعرض فيما يلي تلخيصاً لخطابين رسميين: الأول ألقاه الرئيس بوش
أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لإقناع العالم والشعب الأمريكي بوجهة نظر الإدارة
الحالية، والثاني ألقاه رئيس وزراء بريطانيا أمام مجلس العموم لإقناع الرأي العام،
وإيهام العالم أن هناك مسوغات كافية وقانونية وشرعية لما ستقوم به أمريكا في
العراق.
وسنبدأ بخطاب بوش مع إضافة بعض التعليقات المختصرة:
لقد بدأ الرئيس بتخويف الناس، وذلك من أجل دفعهم للقبول والتسليم بالحجج
والبراهين الواهية بدون تدبر وتمحيص، فقال: «علينا ألا ننسى الأحداث الأكثر
قوة في تاريخنا الحديث، في يوم 11/9/2001م شعرت أميركا بضعفها حتى أمام
تهديدات كانت تتجمع في الجانب الآخر من الأرض، وقد عقدنا العزم، ونحن
عاقدو العزم هذا اليوم على مواجهة كل تهديد من أي مصدر يمكن أن يعرض أميركا
للرعب والمعاناة» ، وحاول أن يظهر نفسه أنه يعرض وجهة نظر الكونجرس
ومجلس الأمن، وأنه يتكلم باسمهم فقال: «إن أعضاء الكونجرس الذين ينتمون
إلى الحزبين السياسيين وأعضاء مجلس الأمن الدولي يوافقون على أن صدام حسين
هو تهديد للسلام وعليه أن ينزع أسلحته، ونحن متفقون على أن الدكتاتور العراقي
يجب ألا يُسمح له بتهديد أميركا والعالم بسموم رهيبة، وبالأمراض والغازات
والأسلحة الذرية» .
ثم حاول عرض الأدلة والبراهين التي تُسوِّغ ضرب العراق واحتلاله عسكرياً،
ويمكن تلخيصها فيما يلي:
- قوله: (نحن نعلم أن العراق وتنظيم القاعدة الإرهابي يتشاطران عدواً
مشتركاً؛ هو الولايات المتحدة الأميركية. ونحن نعلم أن العراق والقاعدة يقيمان
اتصالاً على مستوى رفيع يعود عهده إلى عقد من الزمن) . هل كان للقاعدة وجود
قبل عقد من الزمن؟ !!
- قوله: (بإمكان العراق أن يقرر في أي يوم يريد أن يقدم أسلحة كيميائية
وبيولوجية إلى جماعة إرهابية أو إرهابيين فرادى) .
- قوله: (إذا تمكن العراق من إنتاج أو شراء أو سرقة كمية من اليورانيوم
العالي التخصيب بكمية لا تعدو حجم كرة البيسبول، فسيكون قادراً على اقتناء
سلاح نووي في أقل من عام، وسيكون في وضع يمكنه من الهيمنة على الشرق
الأوسط) .
- قوله: (وخلال العام الماضي وحده أطلقت القوات المسلحة العراقية نيرانها
على الطيارين الأميركيين والبريطانيين أكثر من 750 مرة) أين، وفوق أي
أرض؟!
- قوله: (إن العراق يمتلك صواريخ باليستية ذات مدى يمكن أن يصل إلى
مئات الأميال؛ أي بما يكفي لضرب (العربية السعودية) ، و (إسرائيل) ،
وتركيا وبلدان أخرى في منطقة يعيش ويعمل بها أكثر من 135 ألف عسكري ومدني
أميركي) .
لاحظ كلمات: (بإمكان، وإذا، ويمكن أن) ، وقد خلص إلى تبشير الشعب
العراقي أن مصيره سيشبه مصير شعب أفغانستان الذي يرفل بالسلام والأمن ورغد
العيش بعد سنة من الغزو الأمريكي!! فقد قال: «يخشى البعض من احتمال أن
يؤدي تغيير القيادة في العراق إلى إيجاد عدم استقرار، ويجعل الوضع أسوأ، إن
من الصعب أن يصبح الوضع أسوأ مما هو عليه بالنسبة إلى أمن العالم، وأمن
الشعب العراقي، إن حياة المواطنين العراقيين ستتحسن تحسناً دراماتيكياً إذا لم يعد
صدام حسين في السلطة، مثلما تحسنت حياة المواطنين الأفغان بعد طالبان» !!!
أما خطاب بلير فقد حاول تسويق المشروع بأسلوب مشابه، ولكنه أكثر
تفصيلاً، وفيه تكرار كثير، وقد حاول في البداية إضفاء المصداقية على التقرير؛
فقد بدأ بقوله: «إن الملف الذي نُشر اليوم يقوم في معظمه على تحريات لجنة
الاستخبارات المشتركة JCD، إن جُلَّ الأعمال والدراسات التحليلية التي تضطلع
بها لجنة الاستخبارات المشتركة JCD هي ذات طابع سِرّي. وتُعَدُّ سابقة لم تقع
من قبل أن تقوم الحكومة بنشر وثائق من هذا النوع. ولكن في ظل الجدل الدائر
حول العراق وأسلحة الدمار الشامل؛ نشأت لدي الرغبة في إشراك الشعب
البريطاني وإطلاعه على الأسباب التي تجعلني أعتقد أن هذه المسألة [العراق
وأسلحة الدمار الشامل] إنما هي خطر داهم وقائم يتهدَّد المصالح القومية للمملكة
المتحدة» .
ثم ذكر بعض المعلومات التي نسبها للتقارير الاستخباراتية المتوفرة عن
العراق كما يلي:
- استَمرَّ العراق في إنتاج الوسائط الكيماوية والبيولوجية.
- يوجد لدى العراق خطط عسكرية لاستخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية،
وبعضها يمكن إطلاقه خلال 45 دقيقة من صدور الأمر باستخدامها.
- َطوَّر العراق مختبرات مَحمولَة / مُتنقِّلة بغرض الاستخدامات العسكرية؛
مما يؤكد تقارير سابقة عن وجود وحدات متنقلة لإنتاج الوسائط / المواد البيولوجية
ذات الاستخدامات الحربية.
- اتَّبع العراق سبلاً غير شرعية للحصول على مواد محظورة من الممكن
استخدامها في برامج تصنيع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.
- حاول الحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من إفريقيا؛ على الرغم
من أن العراق ليس لديه مشروعات مدنية نشطة للطاقة النووية تستلزم استيراد
اليورانيوم.
- قام باستدعاء خبراء للعمل في برنامجه النووي.
- ويحتفظ العراق الآن وبصورة غير شرعية بقرابة عشرين صاروخاً من
طراز (الحسين) يبلغ مداها 650 كم، وهي قادرة على حمل رؤوس كيماوية
وبيولوجية.
- بدأ في نشر صواريخ طراز (الصمود) التي تعمل بالوقود السائل،
واستغل غياب مفتشي الأسلحة وعمل على إطالة مداها؛ بحيث يصل مداها إلى
200 كم على الأقل.
- كما بدأ العراق في إنتاج الصاروخ الذي يعمل بالوقود الجاف من طراز
(أبابيل 100) ، ويعمل على إطالة مداه إلى 200 كم.
- أنشأ العراق موقعاً لاختبار محركات الصواريخ بهدف تطوير صواريخ
قادرة على الوصول إلى كل من (إسرائيل) وجيران العراق من دول الخليج،
وكذلك إلى مناطق السيادة والقواعد العسكرية للمملكة المتحدة في قبرص، ومثيلاتها
في باقي دول حلف شمال الأطلسي (كقواعد الناتو في اليونان وتركيا) .
- أن القوة العسكرية العراقية تستطيع أن تنشر الأسلحة الكيماوية والبيولوجية
خلال 45 دقيقة من إصدار الأوامر لذلك.
- أن العراق يتمتع بالاكتفاء الذاتي في التقنية المطلوبة لإنتاج الأسلحة
البيولوجية، ومعظم الموظفين ذوي الخبرة الذين كانوا ناشطين في البرنامج ظلوا
في العراق.
وقد لخص أعمال لجان التفتيش بقوله:
قامت الـ UNSCOM بالتفتيش على 105 مواقع داخل العراق، ويصل
عدد حملات التفتيش إلى 272 حملة منفصلة، ورغم العثرات وأساليب الترهيب
التي اتبعها العراق كشف مفتشو الأمم المتحدة عن تفاصيل برامج التسلح العراقي
الكيماوية والبيولوجية والذرية والباليستية. وأكبر إنجازات الـ UNSCOM
والـ IAEA هي:
- تدمير أربعين ألف قطعة من أعتدة الحرب الكيماوية، و 2610 أطنان من
الكيماويات التحضيرية، و 41 ألف طن من المواد الوسيطة التي تستخدم في
الحرب الكيماوية.
- تفكيك محطة (المثنى) التي كانت المحطة الرئيسة لتطوير وإنتاج الأسلحة
الكيماوية بالعراق بما فيها من خطوط إنتاج رئيسة.
- تدمير 48 صاروخاً من طراز سكود، و 11 منصة متحركة لإطلاق
الصواريخ، و 65 موقعاً صاروخياً، و 30 رأساً صاروخية معبأة بالوسائط
الكيماوية، إضافة إلى 20 رأساً حربية تقليدية.
- هدم محطة (الحكم) لإنتاج الأسلحة البيولوجية، وعدد من معدات الإنتاج،
ومخزونات من البذور والوسائط المَزرعيَّة [عادة ما تكون محاليل لعمل مزارع
جرثومية وبكتيرية] لإعداد الأسلحة البيولوجية.
- اكتشاف عينات مصنَّعة محلياً من اليورانيوم المُخَصَّب في عام 1991م؛
مما أجبر العراق على الاعتراف ببرامج تخصيب اليورانيوم لديه، ومحاولاته
للحفاظ على المكونات الرئيسة لبرنامجه النووي المحظور، وإزالة وهدم البنية
التحتية لبرنامج التسلح النووي العراقي بما في ذلك منشأة (الأثير) لاختبار
الأسلحة.
ولا ندري ماذا بقي في العراق بعد هذا؟
وقد انتقد بعض السياسيين الإنجليز هذا التقرير؛ فمثلاً النائب العمالي في
مجلس العموم البريطاني جيريمي كوربين، وصف الملف الذي أصدرته الحكومة
البريطانية مؤخراً حول أسلحة الدمار الشامل العراقية بأنه «يحتوي على القليل من
الوقائع أو مما هو جوهري» . وأضاف: «في الواقع إنه تقيؤ للوثيقة التي
أصدرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية قبل أسبوع» .
ولا يخفى غموض الهدف البريطاني من الحماسة لكل مشروع توسعي
أمريكي؛ فقد استمرت بريطانيا في لعب دور تسويق المشروع الأمريكي سواء في
أفغانستان أو العراق، وكان لقب بلير هو (وزير خارجية بوش) ، وتمادى بعض
الفنانين الإنجليز بوصفه بـ (كلب بوش) .
ونلاحظ أن الجهد الدبلوماسي تتولاه بريطانيا وكأنها تريد دفع أمريكا
للاستمرار في مغامرات متوالية، ولكني أشك في إخلاص الإنجليز وحسن نيتهم
بالنسبة لمستعمرَتهم السابقة التي يحتمون بها، ويحسدونها في الوقت نفسه.
وإذا كان بلير لم يقنع قومه فماذا عن فرنسا التي عانت كثيراً من التوسع
الأمريكي على حسابها في إفريقيا (رواندا، وبوروندي، والكونغو..) ، وهي
هنا تتعرض لفقد مصالحها في العراق؟ وقد وقفت فرنسا في مواجهة المشاريع
الأمريكية تساندها في ذلك روسيا وألمانيا، وقد أكد الرئيس الفرنسي جاك شيراك
حين زيارته الإسكندرية أن «فرنسا ستضطلع بمسؤولياتها كعضو دائم في مجلس
الأمن الدولي» فيما يتعلق بالمسألة العراقية مؤكداً أن «المنطقة ليست بحاجة الى
حرب جديدة إن أمكن تفاديها» . وقد تعالت الدعوات في فرنسا وروسيا لاستعمال
حق النقض ضد المشروع الأمريكي البريطاني حفاظاً على المصالح، وتململاً من
سيطرة القطب الواحد وتلاعبه بالمنظمة الدولية.
وأخيراً فإن إمريكا مقبلة على مغامرة تتطلع فيها للسيطرة التامة على مقدرات
المنطقة وثرواتها، وتعرف أن عدوها الأساسي الذي يمكن أن يعرقل أو يحبط هذا
المشروع هو الإسلام الذي يجب أن يكون أهله على مستوى الحدث، وأن يدافعوا
عن دينهم وأرضهم وثرواتهم ووجودهم بكل ما يستطيعون.
إن القضية ليست خاصة بتنظيم جهادي أو نظام متمرد أو غير خاضع؛ إن
الذي يريد تدمير نظام بعثي علماني لأنه يحكم بلداً مسلماً لديه شيء من أسباب
القوة بدعوى الدكتاتورية والبطش وأسلحة الدمار الشامل الموجودة والمتوهمة؛ لن
يعدم الأعذار المقنعة من وجهة نظره لضرب بلدان وأنظمة تمثل مصدراً محتملاً
للتطرف والإرهاب. إن إخفاق أمريكا في أفغانستان وتخبطها يوحي بما يمكن أن
يحدث في العراق، ومَنْ أخفق في التعامل مع شعب فقير يسيطر عليه الجهل
والتخلف قد تخلى عنه القريب قبل البعيد؛ فلا نتوقع أن ينجح في بلد غني يحتوي
على أكبر احتياطي نفطي في العالم تتنافس الأمم على ثرواته، ويقع في منطقة
حساسة، وتحيط به دول يتعاظم فيها الشعور الإسلامي والمعادي لأمريكا
و (إسرائيل) .
فهل آن أوان انحسار الفرات عما يختزنه من أشراط الساعة؟! [قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن
تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 26) .
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود بالرياض.
(1) أخرجه البخاري، رقم 2709، ومسلم، رقم 5203، واللفظ له.(181/98)
المسلمون والعالم
مع الانتفاضة في عامها الثالث
د. عادل بن علي الشدي [*]
قضية الساعة بالنسبة للمسلمين اليوم هي ذاتها قضية الساعة بالنسبة لهم منذ
أكثر من خمسين سنة إنها قضية احتلال جزء عزيز من أجزاء الجسد المسلم هو
فلسطين، وما تبع ذلك من تدنيس اليهود الصهاينة للمسجد الأقصى المبارك،
وتنكيلهم بالشعب الفلسطيني المسلم إلى حدّ يصعب تصوره لولا رؤية العالم أجمع له
بواسطة قنوات البث الفضائي التي تنقل شيئاً، ويغيب عنها أشياء.
وإزاء هذا الواقع المرير الذي ينطبق عليه قول الشاعر:
أحل الكفر بالإسلام ضيماً ... يطول عليه للدين النحيبُ
وكم من مسلم أضحى سليباً ... ومسلمة لها حرم سليبُ
فقل لذوي الضمائر كل وقت ... أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
أما لله والإسلام حقٌ ... يدافع عنه شبان وشيبُ؟
إزاء هذا الواقع فقد تفاوتت ردود الأفعال بين المسلمين، وتعددت الاتجاهات
في التعبير عن مشاعر الغضب والألم.
ومن المهم في هذا الجو المشحون التأكيد على جملة من الثوابت لينطلق المسلم
من خلالها أثناء تعامله مع هذه الأحداث المؤلمة، أسوقها في وقفات عجلى لضيق
المقام:
* الوقفة الأولى: العمل لا البكاء:
إن هذا الوقت ليس وقت تباك وندبٍ ونواح؛ فما لهذا جعل الله هذه الأمة خير
أمة أخرجت للناس، كما أنه ليس وقت تلاوم وتبادل للاتهامات بما يزيد الفرقة
والاختلاف بين شعوب الأمة وحكوماتها. المطلوب إذاً هو العمل وبذل الجهد
واستفراغ الوسع في مواجهة إسرائيل وأعوانها.
* الوقفة الثانية: بعضهم أولياء بعض:
لماذا يستغرب بعضنا هذا التحالف بين اليهود في إسرائيل وبين الولايات
المتحدة الأمريكية، ويجهدون أنفسهم في إثبات ما يؤكد هذا الدعم وغض الطرف
عن الممارسات القمعية لإسرائيل تجاه الفلسطينيين؟ لقد أخبرنا الله بذلك حيث قال:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]
(المائدة: 51) ، والتاريخ يشهد بهذا الحلف المعلن بين الطرفين. ومن ثم فإن
المبالغة في بذل الجهد الموجه لتعريف الرأي العام العالمي ولا سيما الأمريكي
بقضيتنا بحيث يطغى ذلك على الجهد المبذول في تقوية الذات وتحصيل أدوات
المعركة خطأ ينبغي تصحيحه.
* الوقفة الثالثة: ماذا يريدون منا؟
جاءت الأحداث لتؤكد أن اليهود والنصارى لا يمكن أن يرضوا عن المسلمين
إلا إذا تركوا دينهم وتحولوا إلى ملتهم، وإلا فمن كان يتوقع أن تواجه السلطة
الفلسطينية ورئيسها بهذا الحصار والقمع الواضح مع مرونتها وتعاونها الكبير في
تحقيق متطلبات السلام المزعوم، وهاهم اليوم يسعون إلى عزل رئيسها وإقصائه
عن سلطاته، وصدق الله تعالى حيث يقول: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم] (البقرة: 120) .
* الوقفة الرابعة: أين الخلل؟
إن ما يجري الآن كان نتيجة مجموعة من الأخطاء الكبرى بدأت بتنحية
الإسلام عن المعركة مع اليهود المحتلين واستبداله بالشعارات القومية أو الحزبية أو
حتى العلمانية في فترة متأخرة نسبياً من تاريخ الصراع. واستمر الخطأ بترك خيار
الجهاد في سبيل الله والتركيز فقط على الخيار السلمي مما جعل إسرائيل تزيد من
عنفها وبطشها لعلمها بأن السلاح الموجه ضدها هو سلاح الترغيب لا سلاح
الترهيب والوعد لا الوعيد، ولم يُعرف في التاريخ أن شعباً تحرر من الاحتلال
بمجرد إعطاء الوعود والإغراءات للمحتل دون جعله يشعر بأن ثمن بقائه أكبر من
ثمن رحيله.
* الوقفة الخامسة: ما العمل؟ ما هو واجبنا تجاه ما يجري لإخواننا في فلسطين؟
هذا هو السؤال العملي الذي يجب أن نطرحه بدلاً من الشعارات والخطب
والاعتصامات والاحتجاجات التي هي سلاح الضعيف وحيلة العاجز في معظم
الأحوال. إن واجبنا الشرعي تجاه إخواننا يتلخص في: نصرتهم وإعانتهم: قال
تعالى: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاق]
(الأنفال: 72) ، وقال صلى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً..
الحديث» [1] ، والنصرة من مقتضيات الأخوة في الدين قال تعالى: [إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) ، وقال تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (التوبة: 71) ، وفي الحديث: «المسلم أخو المسلم لا
يظلمه ولا يُسلمه ولا يخذله» [2] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين
في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالحمى والسهر» [3] ، وقد كاد عضو عزيز من جسد الأمة أن يُبتر
فوجب على بقية الأعضاء أن تهب لنصرته. ومن وسائل النصرة لهم على سبيل
المثال لا الحصر:
1 - بذل المال: والمال أقل ما يقدمه المسلم لإخوانه في مثل هذه الظروف
الحرجة، وقد قدم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في مواضع من كتابه كما في
قوله: [تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ]
(الصف: 11) ، ولا شك أن المال عصب الصمود ومحركه، فبه يسد الفلسطينيون
جوع أطفالهم ويكسونهم ويداوونهم ويتدبرون به أمر الحصول على السلاح اللازم
لدفع العدو الصائل عنهم، وبه يدعمون مؤسساتهم التربوية والصحية والاجتماعية
لتقوم بجزء من دورها في دعم المرابطين. والمهم هنا تحري الدقة ببذل المال إلى
الجهات الموثوقة التي تضمن إيصاله إلى مستحقيه الصامدين في أرضهم وبأسرع
وقت ممكن.
2 - الشعور بألمهم والتذكير بقضيتهم: فلا بد من حمل همهم من منطلق
المشاركة الوجدانية بين المسلمين التي أشار إليها قوله صلى الله عليه وسلم
«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً» [4] ، ومن المعيب في مثل هذه
الظروف أن تستمر بعض وسائل الإعلام ولا سيما بعض القنوات الفضائية في
تجاهل مأساة المسلمين في فلسطين، وتواصل بثها لكثير من البرامج الهابطة التي
تخاطب الغرائز بطريقة لا أثر فيها للتهذيب والأخلاق، وهو أمر مشاهد لا يمكن
تسويغه أو السكوت عنه.
أما على المستوى الشخصي فيمكن لكل فرد مسلم أن يتحول إلى وسيلة
إعلامية متنقلة، فيذكّر بقضية إخوانه في فلسطين، ويحشد التأييد العملي لهم من
خلال حديثه مع زملائه في العمل أو تلاميذه في الصف أو جيرانه في الحي أو
أقاربه وأصدقائه بقدر طاقته.
3 - تحفيز العلماء والقادة لبذل جهد أكبر في نصرة قضية فلسطين:
والحق أن معظم العلماء وبعض القادة السياسيين بذلوا ويبذلون جهوداً متفاوتةً في
هذا المجال قد يعلمها الناس وقد لا يعلمونها؛ لكن المطلوب اليوم تحفيزهم لمضاعفة
الجهد ومطالبتهم بالضغط الاقتصادي والسياسي في عالم لا يعترف إلا بالمصالح،
ولا يُذعن إلا للأقوياء فقط، وحين يشعر العلماء والقادة بأن نبض الشعوب
والمجتمعات يحفزهم لسلوك هذا السبيل فلا بد أن تتسارع خطاهم في ميدان نصرة
المسلمين في فلسطين.
4 - الدعاء لهم: وهو سلاح أهمله الكثير منا للأسف الشديد مع أنه سلاح
ماضٍ بيد المؤمنين، وقد أمرنا الله به ووعدنا بإجابته فقال: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]
(غافر: 60) ، وقال: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَان] (البقرة: 186) ، وقال: [أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ] (النمل: 62) ، ومن الغريب أن البعض يلح في الدعاء ولو في أصغر
أموره الدنيويّة وهذا مطلوب؛ لكنه لا يخصص شيئاً ولو يسيراً من دعائه لإخوانه
المستضعفين في فلسطين، وهو يرى ما يصيبهم، ولو تحرى المسلمون الأوقات
التي هي مظنة إجابة الدعاء كثلث الليل الأخير وأثناء السجود وآخر ساعة من نهار
يوم الجمعة فدعوا فيها ربهم دعاء المضطرين بأن ينصر إخوانهم في فلسطين لكان
في ذلك خير كثير؛ ومن يدري فلعل في جموع المسلمين رجل صالح لو أقسم على
الله لأبره، فيستجاب دعاؤه لإخوانه ويكشف الله عنهم السوء.
أما قضية الذهاب للجهاد بالنفس في فلسطين فقد صرح الكثير من قادة العمل
الميداني في فلسطين بعدم حاجتهم لذلك، ومنهم الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة
حماس؛ حيث قال في مقابلة على قناة الشارقة الفضائية مساء يوم الخميس 21/1/
1423هـ بأنه لم يدخل إلى المعركة حتى الآن إلا المئات من أبناء الشعب
الفلسطيني، وبقي الآلاف منهم بانتظار دورهم، ومن ثم فهم لا يحتاجون الآن إلى
مشاركة مقاتلين من خارج فلسطين.
* الوقفة السادسة: الجهاد، الثبات، الصبر:
ثلاث كلمات متلازمة يحتاجها الفلسطينيون اليوم أكثر من أي وقت مضى؛
فالجهاد هو طريق تحرير المقدسات وقد أعطاهم الله الإذن بذلك حتى وإن اعترض
على جهادهم المعترضون ووصفوه زوراً وبهتاناً بالإرهاب؛ فقد قال تعالى: [أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ] (الحج: 39-40) ، وقال تعالى: [وَجَاهِدُوا
فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] (الحج: 78) ولكن طريق الجهاد طويل محفوف بالآلام،
ولهذا فصاحبه يحتاج إلى ثبات على المبدأ؛ ولذلك يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً] (الأنفال: 45) . وهذا لا يتم إلا
بالصبر على المكاره والمشاق؛ فقد قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] (آل عمران: 200) ، ويقول صلى الله عليه وسلم «اعلم
أن النصر مع الصبر» [5] ، وقديماً قيل: «إنما النصر صبر ساعة» ذلك أن
العدو اليهودي الحاقد بدأ الرعب يدب في صفوفه، والرغبة في الفرار تعتري أفراده،
والألم الحسي والمعنوي يؤثّر على تماسكه، وصدق الله القائل: [وَلاَ تَهِنُوا فِي
ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ
يَرْجُونَ] (النساء: 104) .
* الوقفة السابعة: أهمية الاجتماع على الحق وترك التفرق:
لقد جرب الفلسطينيون كل الشعارات والمبادئ، ودخلت بينهم معظم الأفكار
والطروحات المعروفة في العالم فما زادهم ذلك فيما سبق إلا وهناً وتفرقاً؛ لكنهم
حين أقبلوا من جديد على الحل الإسلامي الذي يبدأ بجمع الكلمة على الحق، وبدأ
الجهاد الذي يُراد به نيل رضا الله وتحقيق النصر أو الشهادة عندئذٍ بدأت ثمار
مقاومتهم تظهر للعيان. وكل ما تحقق للفلسطينيين من مكاسب مرحليّة حتى اليوم
إنما حصل بفضل الله، ثم بفضل هذا التوجه للعمل الجهادي في الداخل عبر
الانتفاضتين الأولى والثانية. ولئن كانت الفرقة خطراً في كل حين فإنها اليوم أشد
الأخطار التي يمكن أن تحيق بالفلسطينيين. يقول الله تعالى: [وَلاَ تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال: 46) ، ولذلك فلا بد من رص الصفوف،
وتقوية اللحمة، وقبول عودة بعض الفلسطينيين الذين لم يكن الحق شعارهم ولا
الجهاد طريقهم فيما سبق، لكنهم رأوا بأم أعينهم خطأ توجههم فرجعوا عنه.
* الوقفة الثامنة: عدم طلب المعجزات:
إننا جميعاً نوقن بأن ما يحصل اليوم على أرض فلسطين إنما يجري بقدر الله
لحكمة بالغة يعلمها. قال تعالى: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي
أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا] (الحديد: 22) ، وقال تعالى: [وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) ، وقال: [أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] (آل
عمران: 142) ، وقال: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا
مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى
نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) . ونؤمن كذلك أن العاقبة
للمتقين، وأن النصر آت للمؤمنين لا شك في ذلك كما قال تعالى: [كَتَبَ اللَّهُ
لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (المجادلة: 21) ، وقال: [إِنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) ، وقال:
[وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] (المنافقون: 8) .
ولكن ذلك لا يعني حصول المعجزات ووقوع النصر بين غمضة عين
وانتباهتها؛ فإن لله في هذا الكون من السنن ما يجري على خلقه أجمعين، ومن ذلك:
1 - سنة التدافع بين البشر: قال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً] (الحج:
40) ، وقال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْض]
(البقرة: 251) . فالصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة، وفي ذلك
الابتلاء من الحكم ما نعلم بعضه كتميز الصادقين من الكاذبين، وإظهار الفاقة إلى
الله، ومنها ما لا يعلمه إلا الله.
2 - سنة التدرج في التغيير: وتأمل قصة خلاص بني إسرائيل من تسلط
فرعون عليهم وكم كان الزمن بين قوله تعالى: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] (القصص: 5) ، وبين
قوله تعالى عن فرعون: [فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمّ] (القصص: 40) ،
عشرات السنين؛ حيث أوحى الله إلى أم موسى أن ترضعه ثم تلقيه في اليم، ثم
يتربى في بيت فرعون حتى يبلغ أشده، ثم يخرج إلى مدين نحواً من عشر سنين،
ثم يعود بالرسالة إلى فرعون، ثم يأخذ الله فرعون وقومه بالسنين ونقص الثمرات
وغيرها من الآيات، ثم يوحي الله إلى موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر
هاربين من فرعون؛ كل ذلك وهم يعيشون في الذل وتسلط فرعون حتى أذن الله
بخلاصهم. وكذلك الحال بالنسبة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث ابتلي
ومن معه بالتكذيب والتضييق والأذى والحصار حتى أضطر للهجرة بعد ثلاث
عشرة سنة من الرسالة؛ ثم ابتلوا بالهزيمة يوم أحد والخوف يوم الأحزاب حتى أذن
الله لهم بالنصر المبين وفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة.
3 - التغيير يبدأ من الداخل: يقول تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم] (الرعد: 11) ، وهذا يقتضى أن يفتش المسلمون في دواخل
نفوسهم ليعلموا مصدر الخلل وسبب الخطأ وهم اليوم أقدر منهم على العلاج غداً
بتصحيح التوجه إلى الله لا إلى أحد سواه؛ فكم جر عليهم ذلك الخطأ من المآسي
والويلات.
* الوقفة التاسعة: النصر للمؤمنين، لكن بشروط:
القرآن صريح في هذه المسألة؛ فحصول النصر للمسلمين بشروط وليس
مطلقاً. يقول تعالى: [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) ،
فأداة الشرط (إن) ولتحصيل الشرط وهو نصر الله للمؤمنين فلا بد من فعل
المشروط وهو نصر المؤمنين لله؛ وذلك يكون بعبادته وحده لا شريك له كما بين
ذلك في قوله تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] (النور: 55) ، المسلمون
اليوم خائفون وهم بأمسِّ الحاجة إلى تحرير أرضهم واستخلافهم فيها وتمكين دينهم
في الأرض؛ وهذا كله مشروط بقوله تعالى: [يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً]
(النور: 55) .
* الوقفة العاشرة والأخيرة: الأخوة تقتضي المصارحة:
لقد هيأ الله للسلطة الفلسطينية جزءاً من الأرض تحكمه ولو بشكل جزئي،
واستمرت على ذلك بضع سنوات؛ فهل كان أداؤها في تلك السنوات ملبياً لشروط
الاستخلاف في الأرض والنصر على الأعداء التى ذكرها الله عز وجل في قوله:
[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ]
(الحج: 40-41) ؟ أم أن الأمر كان على العكس من ذلك من حيث التوجه
إلى غير الله والتعلق به، ومن حيث الحكم بغير ما أنزل الله، ومن حيث القمع
لكثير من أبناء الشعب الفلسطيني المسلم واعتقالهم، ومن حيث فشو المنكرات
كالرشوة والقمار وغيرها؟ وليس القصد هنا النبش في أخطاء الماضي بقدر ما هو
محاولة تصحيح المسار والعودة إلى جمع الكلمة؛ ولكن على أساس صحيح
يضمن للفلسطينيين على وجه الخصوص والعرب والمسلمين على وجه العموم
الانتصار على عدوهم في المستقبل القريب بإذن الله.
وإن غداً لناظره لقريب: [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]
(يوسف: 21) . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) أستاذ الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود.
(1) رواه البخاري.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.
(5) رواه الترمذي، وهو صحيح.(181/102)
المسلمون والعالم
الصراع على المياه في الشرق الأوسط
د. محمد مورو [*]
إذا كان الصراع على البترول قد شكل مساحة كبيرة من معادلات وأحداث
المنطقة منذ عقود كثيرة وحتى الآن، فإن الصراع على المياه يمكن أن يكون أشد
حدة؛ ذلك أن المياه في التحليل النهائي أهم من البترول وأغلى؛ فهو سر الحياة
[وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ] (الأنبياء: 30) .
ولا شك أن الإدراك المبكر لأهمية المياه، ومعرفة طبيعة الصراع القادم
حولها سيؤثر على أمتنا إذا ما أحسنوا الاستعداد بكثير من الجهد والتضحيات،
ويؤمّن لهم مستقبلاً معقولاً، أما إذا ظل العرب في حالة غفلة عن هذه التقنية
الخطيرة فإن مجرد وجودهم على سطح الأرض سيصبح أمراً صعباً! ومن المهم
هنا أن نقرر حقيقة بدهية، أن هناك علاقة مباشرة بين الأمن العربي بعامة ومسألة
تأمين مصادر المياه.
وإذا كان الأمن العام لدولة ما هو الإجراءات التي تتخذها تلك الدولة لتحافظ
على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل، فإن فهم الأمن على أنه موضوع
الدفاع العسكري داخلياً وخارجياً هو أمر سطحي وضيق؛ لأن الأمن العسكري هو
وجه سطحي ضيق لمسألة الأمن الكبرى كما يقول روبرت مكنمارا وزير الدفاع
الأمريكي الأسبق؛ فهناك الكثير من الجوانب غير العسكرية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً
بمسألة الأمن القومي، ومن هذه الجوانب بالطبع مسألة الأمن الغذائي والاقتصادي
ومسألة المياه على رأس تلك الجوانب.
وإذا أخذنا مسألة الأمن الغذائي كمحدد لفهم مستقبل العالم العربي لوجدنا أن
الأمر مفزع؛ ذلك أنه إذا كان من يمتلك غذاءه يمتلك قراراً؛ فإن وجود فجوة
غذائية في العالم العربي تصل إلى حوالي 30 مليار دولار سنوياً هي الفرق بين
الصادرات والواردات العربية مما يمثل مشكلة خطيرة، بل ونسبة الاكتفاء الذاتي
من أهم السلع الاستراتيجية في مجال الغذاء لا تزيد عن 39%، وهذه النسبة لها
أهميتها؛ ونراها في حالة الدول ذات الأهمية في المنطقة العربية مثل مصر التي
يبلغ اكتفاؤها الذاتي من القمح 27%.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن السوق العالمية للقمح تتشكل من دول ذات توجهات
سياسية ومتعارضة معنا، لأدركنا فداحة المشكلة؛ فالدول الكبرى المسيطرة على
سوق تصدير القمح هي «أمريكا، كندا، أستراليا، السوق الأوروبية المشتركة» ؛
حيث يمكنها التكتل في احتكار للتحكم ليس في تصدير القمح فقط بل وفي أسعاره
كذلك.
وهكذا فإن المسألة الغذائية تفجر بالضرورة مسألة الماء؛ حيث إن الماء هو
العنصر الأساس للزراعة القادرة بدورها على سد تلك الفجوة الغذائية. وبالطبع لا
تقتصر أهمية الماء على مسألة الزراعة؛ فالماء ضروري للتصنيع أيضاً، فضلاً
عن أهميته لتلبية الاستهلاكات البشرية المباشرة من مياه شرب وغسيل وغيرها،
وليس عبثاً بالطبع أن تكون معظم الحضارات قد نشأت حول مصادر المياه.
ومشكلة المياه في الوطن العربي ذات أبعاد كثيرة؛ فالوطن العربي يقع في
الحزام الجاف وشبه الجاف من العالم، وتقل فيه الموارد المائية المتجددة عن 1%
من المياه المتجددة في العالم، ونصيب الفرد العربي من المياه 1744 متراً مكعباً
سنوياً، في حين أن المعدل العالمي يصل إلى 12900 متر مكعب سنوياً، ومعدل
هطول الأمطار في الوطن العربي بين 5 - 450 ملم سنوياً، في حين يتراوح في
أوروبا مثلاً بين 200 - 3000 ملم سنوياً. وتمثل الصحارى في الوطن العربي
مساحة 43% من إجمالي المساحة الكلية للوطن العربي، وفي عام 2000م حيث
بلغ عدد سكان الوطن العربي 300 مليون نسمة فإن عجز الموارد المائية العربية
يصل إلى 127 مليار متر مكعب؛ وذلك لأن حجم الموارد المائية المتاحة حالياً تبلغ
338 مليار متر مكعب سنوياً لا يستثمر منها إلا 173 مليار متر مكعب! في حين
أن الوطن العربي يحتاج لتلبية احتياجاته من المياه إذا أحسن استخدامها، وتم عمل
خطط لسد الفجوة الغدائية إلى حوالي 500 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.
والموارد ومصادر المياه في الوطن العربي تتمثل في الأمطار والمياه السطحية
«الأنهار» والمياه الجوفية، ولعل المشكلة حول المياه السطحية «الأنهار» هي
الأهم؛ فالمياه السطحية المتاحة حالياً للوطن العربي تبلغ 127.5 مليار متر
مكعب سنوياً، تحوز ثلاثة أقطار عربية حوالي 71 % منها، هي مصر والعراق
والسودان، ومن المفروض أن يزيد حجم الموارد السطحية ليصل إلى 256 مليار
متر مكعب من المياه؛ أي ضعف ما هو متاح حالياً عن طريق مشروعات الري
والسدود مثل قناة جونجلي في السودان.
وإذا أدركنا أن 67% من مياه الأنهار «المياه السطحية» في البلدان العربية
تأتي من خارج بلادهم لعرفنا حجم ما يمكن أن يحدث من مشكلات إذا قام العرب
بعمل تنمية أو سدود تؤدي إلى زيادة مواردهم، وعلى سبيل المثال فإن نهر النيل
ينبع من إثيوبيا «النيل الأزرق» ، وبحيرة فكتوريا «النيل الأبيض» ، ويمر
في تسع دول إفريقية هي «إثيوبيا، كينيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندي،
والكونغو والسودان ومصر» ، ويقطع مسافة من أبعد منابعه على روافد بحيرة
فكتوريا نيانزا في قلب إفريقيا إلى ساحل رشيد على البحر الأبيض المتوسط في
مصر حوالي 6700 كم.
أما نهرا الفرات ودجلة فينبعان من الجبال الواقعة شمال تركيا، ويمر الفرات
عبر سوريا ثم العراق. أما نهر دجلة فيمر من تركيا إلى العراق مباشرة.
وبالنسبة لنهر النيل مثلاً الذي تعتمد مصر عليه اعتماداً شبه كامل في
اقتصادياتها وخاصة الزراعة؛ فإن نصيب مصر منه يصل الآن إلى 55.5 مليار
متر مكعب سنوياً، والسودان إلى 18.5 مليار متر مكعب سنوياً، وبديهي أن
مصر والسودان يسعيان إلى زيادة مواردهما من مياه النيل عن طريق مجموعة من
المشروعات، وهذه المشروعات لن تؤثر على حصة دول المنبع؛ لأن المياه قد
تركت أراضيهم بالفعل من ناحية، ولأن هذه الدول لها مصادر مياه غنية جداً،
فإثيوبيا مثلاً التي يأتي منها 85% من مياه النيل المستخدمة في مصر ليست في
حاجة إلى مياه النيل أصلاً؛ لأن مواردها المائية أعلى كثيراً من احتياجاتها، ولكن
الأمر ليس بهذه البساطة؛ حيث تسعى قوى عالمية وإقليمية لحرمان مصر من
حصة كبيرة من المياه أو منها على الأقل من زيادة مواردها من تلك المياه؛
فإسرائيل تسعى إلى زيادة نفوذها في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى،
وكذلك أمريكا التي نجحت أخيراً في تحقيق أكبر قدر من النفوذ على كل من إثيوبيا
وأوغندا والكونغو «ميذكابيلا» ورواندا وبورندي.
والمخططات المعادية لمصر في هذا الصدد كثيرة؛ فالجيش الشعبي لتحرير
جنوب السودان بقيادة جون جارانج المدعوم إسرائيلياً منع إنشاء قناة جونجلي التي
كان من الممكن أن تزيد نصيب مصر والسودان من المياه، وهناك مخطط قديم
يقضي بمحاولة تحويل مجرى النيل في إثيوبيا، وقد قام المكتب الأمريكي
لاستصلاح الأراضي بعمل الدراسات الخاصة به إلا أنه بالطبع لم ينفذ، ولكنه
يشكل فكرة في الأدراج يمكن تنفيذها فيما بعد للضغط على مصر، وهناك الآن عدد
من الدراسات الجاهزة لإقامة سدود على النيل في إثيوبيا سوف يمولها البنك الدولي
تؤثر على حصة مصر من المياه بنسبة 20% سنوياً، أي 7 مليارات متر مكعب
من المياه، بل ووصل التفكير إلى حد أن هناك خطة تقضي بتحويل كل مصادر
المياه في تلك المنطقة لتصب في منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة كخزان
عملاق للمياه، ثم بيع هذه المياه لمن يريد ويدفع الثمن كالبترول تماماً، ويمكن
كذلك تعبئتها في براميل تحملها السفن أو عن طريق أنابيب لبيعها لدول خارج القارة،
وتطالب إسرائيل أيضاً بمدها بنصيب من مياه النيل عن طريق سيناء، وإلا قامت
بإحداث متاعب لمصر في منابع النيل في إثيوبيا ومنطقة البحيرات.
وفي الحقيقة فإن المطامع الإسرائيلية في مياه النيل قديمة قدم المشروع
الصهيوني ذاته، فقد تقدم الصهاينة في بداية هذا القرن بمشروع إلى اللورد كرومر
المندوب السامي البريطاني في مصر لهذا الغرض إلا أن ذلك المشروع قد رفض،
وفي عام 1974م قام مهندس إسرائيلي «إليشع كيلي» بتصميم مشروع لجلب
المياه لإسرائيل من الدول المجاورة على أساس أن إسرائيل ستعاني من مشكلة مياه
في المستقبل، ويتلخص المشروع بالنسبة لنهر النيل في توسيع ترعة الإسماعيلية
حتى يزيد معدل تدفق المياه داخلها إلى 30 متراً مكعباً في الثانية، ونقل هذه المياه
عن طريق سحارة تمر أسفل قناة السويس، ثم تصب المياه على الجانب الآخر من
القناة في ترعة مبطنة بالإسمنت لمنع تسرب المياه، وتصل هذه الترعة إلى ساحل
فلسطين المحتلة وتل أبيب، ثم في خط آخر يتجه جنوباً نحو بئر السبع لعرب
صحراء النقب، وتسعى إسرائيل وفق هذه الخطة إلى الحصول على 8 مليارات
متر مكعب من المياه سنوياً من النيل، وقد تكرر الحديث عن هذا المشروع فيما بعد
خاصة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979م.
وبالنسبة لنهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويمر في سوريا والعراق، فإنه
نشأت حول حصص المياه والتدفق في هذا النهر العديد من المشاكل بين كل من
تركيا وسوريا والعراق، وتستخدم تركيا مسألة المياه للضغط السياسي على سوريا
مثلاً بسبب قضية دعم سوريا للأكراد الأتراك، ومن الناحية الفنية فإن سوريا لديها
عجز في المياه يقدر بحوالي مليار متر مكعب سنوياً، ومع قيام تركيا بمشروعات
كبرى على نهر الفرات تقضي بإنشاء 13 سداً، نفذت بالفعل منها سد أتاتورك عام
1990م؛ فإن معدل التدفق في النهر قد انخفض مما أثر على كل من سوريا
والعراق، كما أن قيام سوريا بدورها بإنشاء سدود على الفرات يؤثر على العراق
الذي يصل إليه النهر في النهاية، بل قد وصلت الأمور إلى حافة الصدام بين
سوريا والعراق عام 1974م.
وهناك مشروعات يتم التفكير فيها الآن خاصة بعد التحالف العسكري التركي
الإسرائيلي بنقل المياه من تركيا إلى إسرائيل عبر أنبوب طويل يسير في البحر
المتوسط إلى شواطئ إسرائيل، وهذا يحقق لتركيا موارد مالية من بيع المياه،
ويحقق لإسرائيل تلبية حاجاتها من المياه بثمن بسيط، ولكن هذا بالطبع سيكون
على حساب كل من سوريا والعراق.
كانت المياه من أهم العوامل التي نشأت بسببها الحروب بين العرب
و (إسرائيل) ، فالعمليات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية اللبنانية عامي
1964، 1965م كانت بسبب الأطماع الإسرائيلية في مياه نهر الأردن ونهر
بانياس ونهر اليرموك ونهر الحاصباني، كما كان من أسباب حرب 1967م
موضوع تحويل مجرى نهر الأردن، وفي عام 1982م شنت إسرائيل حملة
عسكرية على لبنان كان من أهدافها أطماع إسرائيل في نهر الليطاني.
وتسعى (إسرائيل) كما ذكرنا من قبل إلى الحصول على مياه نهر الفرات
من تركيا مباشرة، وكذلك الحصول على حصة من مياه نهر النيل عن طريق قناة
الإسماعيلية باتجاه النقب وساحل (إسرائيل) .
وتعتبر المياه محوراً هاماً من محاور الفكر الصهيوني؛ فبعد صدور وعد
بلفور عام 1917م تقدم حاييم وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني آنذاك إلى لويد
جورج رئيس وزراء بريطانيا طالباً تحسين حدود إسرائيل حسب وعد بلفور،
لتضم حوض الليطاني وجبل الشيخ وحرمون أي تضم أنهار الأردن وبانياس
واليرموك.
ويقول الصهيوني بلسان هوارس عام 1921م: «إن مستقبل فلسطين بأكمله
هو بين أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن» .
وأعلن ديفيد بن جوريون عام 1955م «أن اليهود يخوضون مع العرب
معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، وأننا إذا لم ننجح
في هذه المعركة فإننا لن نبقى في فلسطين» .
ومن المعروف أن الحدود الإسرائيلية المستهدفة طبقاً للخريطة المعلقة على
الكنيست في إسرائيل هي من النيل إلى الفرات أي من ماء إلى ماء.
على كل حال فإن إسرائيل توفر حاجاتها المتزايدة من المياه التي تصل 3.5
مليار متر مكعب حالياً، وتريد إسرائيل زيادتها إلى 12 ملياراً للتوسع في
مشروعاتها، وتحصل عليها الآن إما من سرقة مياه الآبار العربية بوسائل
تكنولوجية معقدة داخل الأراضي المحتلة، أو من مشروعات تستهدف السيطرة على
أكبر قدر ممكن من مياه الأنهار العربية وحرمان الآخرين منها خاصة على أنهار
الليطاني والحاصباني وبانياس واليرموك والأردن.
وبالطبع فإن الفجوة المائية بين ما تنهبه إسرائيل حالياً من المياه العربية وبين
ما تستهدف نهبه يمكن أن يشكل عنصراً هاماً من عناصر اندلاع حروب قادمة في
المنطقة.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي مصر.(181/106)
مرصد الأحداث
يرصدها: وائل عبد الغني
بيان بنكهة الدولار!
أصدر مائة من المثقفين والكتاب والأكاديميين العرب بياناً مشتركاً ناشدوا فيه
الرئيس المصري حسني مبارك استخدام سلطاته التي منحها له الدستور والقانون؛
للإفراج عن الدكتور سعد الدين إبراهيم الذي يقضي حكماً بالسجن لمدة سبع سنوات،
وبإعادة افتتاح (مركز ابن خلدون) للدراسات الإنمائية.
وقال البيان: «إن الموقعين وهم ينتمون إلى تيارات فكرية وسياسية مختلفة
في العالم العربي أصيبوا بصدمة شديدة بعد الحكم بحبس سعد الدين إبراهيم،
مؤكدين أن سعد الدين إبراهيم أحد أبرز الوجوه المشرقة لمصر والعالم العربي
بوصفه مفكراً وطنياً يتمتع باحترام دولي» .
ونوه البيان بجهود سعد الدين إبراهيم في المشاركة مع مثقفين عرب في
تأسيس (مركز دراسات الوحدة العربية) في بيروت، و (منتدى الفكر العربي)
في عمان، و (المنظمة العربية لحقوق الإنسان) .
وقال المائة: «إن بيانهم الذي يناشد الإفراج عن سعد الدين إبراهيم يأتي
حرصاً على سمعة مصر في العالم، والتي تعرضت للنقد الحاد، وحرصاً على
وجود المجتمع المدني في مصر» . وقال: «إن الموقعين أصيبوا بصدمة أدت
إلى تراجع نشاطاتهم بعد رؤية ما يحدث لسعد الدين إبراهيم والدور الحيوي للمجتمع
المدني؛ أمام الاتجاهات المتطرفة التي تحاول أن تعيد مصر إلى عصور الظلام» .
كما أكدوا حرصهم على عدم انتكاس جهود مصر في توسيع هامش الحريات
«الذي بدأنا نرى ثماره عبر مزيد من حرية الكتابة والنشر» . وكذلك حرصاً على
حياة الدكتور سعد البالغ من العمر 63 عاماً، والذي تشكل الظروف المادية والنفسية
للسجن خطراً بالغاً على صحته المتدهورة، وعلى حياته.
[صحيفة الشرق الأوسط، 24/9/2002م]
خطب يسير في خطب جلل!
أعتقد أن الانتفاضة انتصرت على كل ما خطط لها من قِبَل أعدائها؛ حيث
إنها سحقت كل المبادرات المتكررة لإنهائها؛ سواء المبادرات الأمريكية أو
الصهيونية أو العربية، كما أن الآلة العسكرية الصهيونية البشعة التي استُخدمت
بكل بشاعة لقتل الانتفاضة، والخطط الجهنمية التي ابتكرتها العقلية الصهيونية مثل
«جهنم المتدحرجة، وحقل الأشواك، والسور الواقي، وخطة المائة يوم التي تعهد
بها شارون للقضاء على الانتفاضة» لم تفلح في القضاء عليها. ولكن أنا أعتقد أن
أخطر ما يواجه الانتفاضة الآن هي الأصوات التي تخرج من الداخل الفلسطيني،
وهي التي تشكل بالنسبة للعدو «التنفس الصناعي» الذي يبقي على الاحتلال؛
مع أن الاحتلال دخل في غرفة الإنعاش بسبب الانتفاضة، والذي يبقي على
الاحتلال هي الأصوات النشاز التي تخرج وتدعو إلى وقف الانتفاضة.
[د. عبد العزيز الرنتيسي، في حوار له مع المركز الفلسطيني للإعلام]
الشريك الأطلسي ومهمة العمليات القذرة
يبدو أن الإدارة الأمريكية تريد أن تكسب رهانها إلى النهاية مع الشركاء
الأطلسيين؛ حيث تسعى لتوريطهم في إنشاء قوات مشتركة للتدخل السريع تخدم
الأهداف الأمريكية، وقد لا يهمها كثيراً الموافقة كما لا تسعى إلى الرفض، ولكن
الذي يهمها أن تصل إلى ترسيخ قناعات لدى هؤلاء الشركاء بأن يُسْلِموا القياد إلى
الولايات المتحدة في كلا الاحتمالين.
وقد جاء اقتراح تشكيل قوة أطلسية للتدخل السريع «في أية بقعة من العالم» ،
والذي تقدم به وزير الدفاع الأمريكي (دونالد رامسفيلد) خلال اجتماع أعضاء
الحلف الأطلسي في العاصمة البولندية فارسوفيا؛ ليخدم هذا التوجه لدى الإدارة
الأمريكية، وقد تحدث رامسفيلد بإيجاز عن مشروع قوات تتشكل من 21 ألف
عسكري يمثلون جميع الدول الأعضاء، ويزودون بأحدث الأسلحة والتجهيزات؛
بحيث يمكنهم التدخل عند الحاجة في أي مكان خلال فترة تمتد من أسبوع إلى شهر
واحد.
وأوضح أن المشروع الذي ينتظر أن يكون جاهزاً بعد عامين يحمل بصمات
الاستراتيجية الأمريكية القائمة على قاعدة «الحروب الإجهاضية» ، في إطار ما
يسمى بـ (مكافحة الإرهاب) ، ويتحول الحلف الأطلسي بموجبه إلى جهاز تسند
له «المهمات العسكرية القذرة» ، وهو من هذه الناحية «يقلِّص» العبء
اللوجستيكي والبشري عن الولايات المتحدة، و «يورِّط» الأوروبيين في الالتزام
باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي.
[بتصرف عن مجلة العصر الإلكترونية، بتاريخ: 30/9/2002م]
مرصد الأرقام:
- كشف تقرير أعدته منظمة الصحة العالمية حول (العنف والصحة) أن
أكثر من 191 مليون شخص معظمهم من المدنيين قد لقوا مصرعهم نتيجة
للصراعات خلال القرن العشرين، مشيراً إلى أنه يعتبر أعنف الفترات في تاريخ
الإنسانية.
- أظهرت دراسة خليجية أن نسبة الإصابة بـ «السمنة» في دول (مجلس
التعاون لدول الخليج العربية) وصلت إلى 60%، وأن أكثرها انتشاراً كان لدى
النساء.
- تنفق الولايات المتحدة 25 مليار دولار على الدبلوماسية التقليدية، و30
مليار دولار إضافية على الاستخبارات، بينما تنفق مليار دولار فقط على توصيل
المعلومات، وتوجيه الجمهور العالمي، وغير ذلك من أنشطة التبادل الثقافي.
- حركة (سلام الآن) : إسرائيل أقامت 100 نقطة استيطانية في الضفة
الغربية خلال السنتين الأخيرتين.
- أعلنت وزارة الصحة العراقية أن حوالي 30 ألف عراقي معظمهم من
الأطفال وكبار السن قد لقوا حتفهم خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين بسبب
الحظر المفروض على العراق منذ أكثر من اثني عشر عاماً.
- الأجهزة الاستخبارية الأمريكية رصدت مبلغ 5 ملايين دولار لدعم أحزاب
سياسية فلسطينية ناشئة تقبل بالحلول الأمريكية الإسرائيلية بشأن القضية
الفلسطينية.
- يوجد نحو مليون معاق في أفغانستان البالغ تعداد سكانها نحو 23 مليون
نسمة، وهو ما يمثل أعلى نسبة في أي بلد على مستوى العالم. وتقول وكالات
المعونة: إن نحو 300 شخص معظمهم ليسوا مقاتلين يتعرضون شهرياً للتشويه
وبتر أطراف نتيجة انفجار ألغام.
- دلت آخر الإحصائيات على أن حركة حماس تسببت في قتل أكثر من 50%
من قتلى العدو الصهيوني وجرحاه.
- هناك 16 مليون أجنبي يعملون في الدول العربية، كما أن هناك أيضاً 16
مليون عربي يعملون في الخارج؛ بينهم 6.8 ملايين في الولايات المتحدة وحدها.
- ارتفع الدين العام الداخلي للدول العربية ليصل إلى 331.8 مليار دولار.
- يقارب الإنفاق العسكري للولايات المتحدة الآن مبلغ 350 مليار دولار
سنوياً، وهذا مبلغ كبير من المال، ولكنه في اقتصاد ينتج أكثر من 10 تريليون
دولار سنوياً؛ لا يشكل عبئاً على الإطلاق، فهو يزيد قليلاً عن 3% فقط من الناتج
المحلي الإجمالي. ويذكر أن أقصى تقدير لنفقات الحرب على العراق هو 200
مليار دولار؛ أي 2% من الناتج المحلي.
- كشفت إحصاءات حكومية مصرية أن 167 مخالفة وجريمة تتصل بالفساد
الإداري والمالي ترتكب كل يوم، وأعادت هذه الظاهرة إلى وجود خلل في القوانين
والتشريعات التي تنظم شؤون العاملين في مرافق الدولة والقطاع العام.
صفقة عسكرية
أعلنت مصادر عسكرية إسرائيلية عن التوصل إلى صفقة عسكرية مع تركيا
بقيمة 680 مليون دولار أميركي؛ لتحديث 270 دبابة تركية من طراز (بيتون)
خلال خمس سنوات. وكانت إسرائيل قد قامت بتطوير لطائرات (فانتوم) تركية
خلال عام 1997م، وصرح (عاموس يارون) مدير عام وزارة الحرب
الإسرائيلية أنه بإنجاز الصفقة التركية الجديدة تكون إسرائيل قد صدَّرت وطورت
سلاحاً بقيمة ثلاثة مليارات دولار خلال العام الحالي.
[الوطن القطرية: 30/9/2002م]
معاداة السامية تطال أمير الشعراء!!
طالب حاكم نيوجيرسي (جيمس ماكجريفي) الشاعر الأمريكي (أميري
باراكا) بالتنحي عن منصب (أمير شعراء الولاية) إرضاءً لليهود؛ بعدما كتب
قصيدة يتهم فيها اليهود بالتواطؤ في أحداث سبتمبر.
ويقول الشاعر في قصيدته «شخص ما فجر أميركا» التي ألقاها في
مهرجان للشعر أقيم الشهر الماضي بالولاية:
«من كان يعلم أن مركز التجارة العالمي سيُنسف؟!
من أخبر 4000 إسرائيلي يعملون بالبرجين
أن يلزموا منازلهم ذلك اليوم؟!
ولماذا بقي شارون بعيداً؟!» .
وألمح الشاعر إلى أن إسرائيل كانت تعلم سلفاً بالهجمات.
وأثار (باراكا) وهو كاتب وناشط سياسي شهير، عُيّن في شهر أغسطس
الماضي أميراً لشعراء نيوجيرسي لمدة عامين انتقادات اليهود وأنصارهم في
الولايات المتحدة.
وقال متحدث باسم حاكم الولاية: إنه لا يمكن سحب المنصب أو المنحة
المالية من (باراكا) ، وإن الأمر يعود إليه فيما إذا كان يريد الاستمرار.
وفي حوار له مع صحيفة نيويورك تايمز قال (باراكا) : إن تصفحه لشبكة
الإنترنت أقنعه أن إسرائيل كانت على علم بهجمات سبتمبر / أيلول، موضحاً أنه
لا يعتزم الاستقالة، ودافع عن رأيه. وأضاف للصحيفة: «من الواضح أنهم كانوا
على علم بها؛ شأنهم شأن الرئيس الأميركي (جورج بوش) » ، مشيراً إلى أن
السماح بوقوع الهجمات خدم أهداف البيت الأبيض في أفغانستان والعراق، وبقية
منطقة الشرق الأوسط.
[الجزيرة نت: الإثنين 23/7/1423هـ، الموافق 30/9/2002م]
وا أقصاه!
تتحين الحكومة الصهيونية أقرب فرصة لفتح باحة المسجد الأقصى أمام اليهود
ليقيموا صلاتهم في إحدى زواياها. وقد أكد ناطق بلسان وزير الأمن الداخلي أن
القرار أصبح قاب قوسين أو أدنى في هذا الاتجاه؛ بعد أن تراجعت قيادة الشرطة
عن معارضتها لخطوة كهذه.
يذكر أن رئيس الوزراء إرييل شارون كان قد أدار المعركة من أجل السماح
بصلاة اليهود في الأقصى وهو في المعارضة، وقام بنفسه بزيارة استفزازية قبل
سنتين انطلقت على إثرها الانتفاضة الفلسطينية الثانية؛ حيث خرج المصلون
المسلمون للتظاهر فأطلقت الشرطة عليهم الرصاص وقتلت سبعة منهم على الفور،
وراحت تطلق الرصاص على مظاهرات أخرى في مواقع مختلفة؛ بما في ذلك
مظاهرات فلسطينيي 1948م، وقتلت 13 شاباً منهم.
وبعد انتخاب شارون لرئاسة الحكومة تولى مهمة فرض صلاة اليهود في باحة
الأقصى وزير الأمن الداخلي (عوزي لانداو) ، لكن قادة الشرطة في وزارته
اعترضوا على ذلك، وحذروا من أن قراراً كهذا سيشعل الأرض في جميع المناطق
الفلسطينية؛ بما في ذلك القدس، وفي صفوف العرب في أراضي 1948م.
ويبدو أن الوقت بات أكثر ملاءمة بعد تطور الأحداث في المنطقة العربية وفق
المسلسل الصهيوني؛ إذ قدم رئيس قسم المخابرات السابق في الشرطة الجنرال
(حايم كلاين) أخيراً رأياً موافقاً، وقال إنه لا مانع من السماح لليهود بالصلاة
هناك.
[الشرق الأوسط: 30/9/2002م]
أسرار كتاب «جهاز الأسرار»
من المفارقات أن كتاب (جهاز الأسرار) لجيمس بامفورد كان قد صدر قبل
شهرين من أحداث 11 سبتمبر، ولكنه لقي اهتماماً كبيراً بعدها؛ حيث حظي بأكبر
عدد من المراجعات في الصحافة الأمريكية، ثم صدرت الطبعة الثانية من الكتاب
بعد 11 سبتمبر متضمنة فصلاً عن الأحداث ودور جهاز الأسرار (وكالة الأمن
القومي الأمريكي) ، كما استضافت كل من صحيفة «واشنطن بوست» ،
«وكلية السياسات العامة» في جامعة بيركلي مؤلف الكتاب؛ لتسليط الضوء على
ما حدث في 11 سبتمبر، ودور وكالة الأمن القومي.
يكشف المؤلف أن وكالة الأمن القومي التي يعمل بها 30 ألف موظف،
تضمهم 50 بناية في ميريلاند، ويستحوذون على أقوى أجهزة الكمبيوتر في العالم،
و1.6 مليون شريط مسجل تتلقى الإشارات المخابراتية، وتتنصت على
الاتصالات الهاتفية، ورسائل الفاكس والبريد الإلكتروني، وكل وسائل الاتصالات
عبر العالم من خلال تكنولوجيا التقاط إشارات الموجة القصيرة، كما تقوم بفك
الشفرات المخابراتية. ولكن ماذا عن دور وكالة الأمن القومي في 11 سبتمبر،
والذي يقارنه البعض بالإخفاق في بيرل هاربر؟ يفاجئنا المؤلف بامفورد بأن وكالة
الأمن القومي الأمريكي استطاعت فك شفرة يابانية أرسلت إلى كل من يهمه الأمر،
وهي رسالة تقول: (هناك هجوم ياباني متوقع) ، ولكن الرسالة وصلت بعد
ساعات من الهجوم بسبب سوء الأحوال الجوية. بالمقابل؛ فإن الوكالة لم تفعل شيئاً
يساعد في منع هجمات 11 سبتمبر، فلم تراقب أسامة بن لادن، بل إن خاطفي
الطائرة التي ضربت البنتاجون (وزارة الدفاع) عاشوا في ميريلاند حيث توجد
مباني الوكالة، وحدث الهجوم بينما كان رئيس الوكالة يتناول إفطاره في واشنطن.
ويفجر المؤلف مفاجأة بأن الوكالة قد رصدت وصول جهاز تليفون فضائي إلى
بن لادن من لندن إلى أفغانستان، وقد سجلت مكالمة له مع والدته، وكان يمكنها أن
تحدد مكانه من خلال رصد الترددات.
وقصف بوش بالصواريخ مقر بن لادن ولكنه لم يكن هناك، وتوقف بعد ذلك
عن استخدام التليفون الفضائي، ولم تسمع الوكالة صوت بن لادن بعد ذلك.
ومفاجأة أخرى أن مهمة الوكالة في أفغانستان كانت مراقبة الروس والأسلحة
الروسية، ولم يكن أفرادها هناك يتحدثون اللغة الأفغانية.
ومفاجأة ثالثة أن الوكالة كانت تستخدم في التنصت على المحادثات الأطباق
الفضائية، وهي وسيلة تقادمت تكنولوجياً بعد أن حلت تكنولوجيا الكابلات والألياف
محلها؛ وذلك بسبب خفض ميزانية الوكالة بعد الحرب الباردة بنحو الثلث؛ في
الوقت الذي تشعبت فيه مهامها، ولذلك أخفقت وكالة الأمن القومي في رصد
التجارب النووية في الهند، وتفجير المدمرة كول، وتفجير السفارتين الأمريكيتين
في كينيا وتنزانيا.. وأخيراً أخفقت في توقع هجمات 11 سبتمبر. ومثل إخفاق
وكالة الأمن القومي كان إخفاق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قبل أحداث
11 سبتمبر، إنه (النوم القاتل.. الإخفاق المخابراتي الأمريكي الأعظم) ، وذلك
هو عنوان الكتاب المقبل لجيمس بامفورد.
[الأهرام، العدد: 43206]
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة: «القوة فوق القانون» !
اعتبر أحد الخبراء الروس أن (الاستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني) التي
صاغتها إدارة بوش مؤخراً هي محاولة لتشريع هيمنتها على مستوى العالم،
ولوضع الولايات المتحدة فوق المجموعة الدولية، ولمنحها منزلة القاضي الأعلى
الذي يحكم في جميع القضايا وينفذها.
المقال التحليلي المقدم من نائب مدير (معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا)
في أكاديمية العلوم الروسية البروفيسور (فيكتور كريمنيوك) ، والذي نشرته
وكالة (نوفوستي) الروسية للأنباء يرى أن «هذه الوثيقة المؤلفة من 35 صفحة
تكشف رغبة أمريكا بشكل علني بأن تصبح القوة العظمي الوحيدة: (قوات البلاد
المسلحة دائماً ستكون قوية بما فيه الكفاية لكي لا تحاول أي أمة أخرى منافسة
إمكانيات الولايات المتحدة العسكرية) » .
وبعد هذا الاقتباس من الوثيقة يقول كريمنيوك: «من الآن فصاعداً؛ ستكون
الولايات المتّحدة أول من يوجه الضربات ضد أي خصم، وهي تملك الحق
بالتصرف بشكل مستقل وفق تقديراتها الخاصة» ، مضيفاً: «وتبدو جلية محاولة
وضع حدّ لمجلس الأمن الدولي كهيئة دولية رئيسة مسؤولة عن تقرير ضرورات
استخدام القوة ضد هذه أو تلك من الدول. وفي الحقيقة؛ فإن الولايات المتحدة
الأمريكية تدّعي بأنها لم تعد تحتاج لموافقة مجلس الأمن الدولي، وأنها ستتجنب هذا
الجهاز، وقد أثبت الأمريكيون هذا الأمر قبل ثلاث سنوات حين توجيههم القصف
على يوغسلافيا» .
ويرى كريمنيوك في مقاله أنه «على الرغم من أن الاستراتيجية الجديدة
تعتبر الإرهاب الخصم الأول للولايات المتّحدة، وتدّعي الحق بتوجيه الضربات
الوقائية ضده، من الواضح أنّ الأمر لا يدور حول الإرهاب، لكن حول إحجام
الولايات المتحدة عن تقييد نفسها بأيّ التزامات دولية، ورغبتها بالتصرّف وفق
تقديراتها الخاصة في أيّ حالة، والعديد من الأعمال الأمريكية الأخيرة التي سبّبت
ردّ الفعل السلبي في أنحاء العالم كافة تشهد على هذه الحقيقة» ، وهنا يشير إلى
الانسحاب الأمريكي من (اتفاقية كيوتو) التي تفرض التقييدات على انبعاثات
التلوث، وانسحابها الأحادي الجانب من معاهدة (حظر انتشار الصواريخ البالستيّة
عام 1972م) ، والانتهاك العملي لـ (اتفاقية جنيف) ؛ بسبب رفضها اعتبار
مقاتلي طالبان الذين أسروا أثناء عملية مكافحة الإرهاب في أفغانستان أسرى حرب.
وبحسب كريمنيوك فإن «هذا الميل الخطير يتشكّل الآن رسمياً في
الاستراتيجية التي صيغت مؤخراً، ولا سيما أن ذلك جاء مصادفة مع حدث مثير؛
فقد حثّ جورج بوش الكونجرس الأمريكي على العمل على مراجعة وتحديد قانون
سلطات الرئيس العسكرية عام 1972م في الالتزام بهذا القانون الذي ينص على أنه
(خلال شهر بعد بداية حملة عسكرية، على الرئيس الأمريكي أن يوضّح
للكونجرس الأسباب ويحصل على موافقته، وإذا وجد الكونجرس أسباب الرئيس
غير مقنعة؛ فإنه يتعين على رئيس الدولة أن يوقف العمل العسكري الذي باشره) ،
ويريد بوش الآن تعديل هذا القانون لكي يتمكن من إطلاق العنان لرغباته ويشنّ
حرباً بدون موافقة الكونجرس، وهذا يكشف تصميم البيت الأبيض على الخروج
عن سيطرة الكونجرس في الداخل (بتعديل قانون سلطاته العسكرية) ، وفي خارج
البلاد (بواسطة تبنّي استراتيجية الدفاع الوطنية الجديدة) .
ومع الأخذ في الحسبان حقيقة أن الكونجرس الأمريكي من المحتمل جداً أن
ينضمّ إلى جانب بوش لزيادة سلطاته العسكرية، وحقيقة أن استراتيجية الدفاع
الجديدة لا تتطلب موافقة الكونجرس مطلقاً؛ فيمكن حينها الاستنتاج أن البيت
الأبيض ستطلق أيديه للعمل على التخلص من أي نظام غير مناسب في أي مكان،
وبالطبع، فإن هذا يشير إلى العراق أولاً، وإلى حملة جديدة في الخليج العربي،
وحرب ستكون الطبعة الثانية لـ (عاصفة الصحراء) ، بينما وزارة الدفاع
الأمريكية تعتقد أن هذه الحرب ستضع حداً لنظام صدام حسين الأكثر كراهية» .
ويشير المقال إلى أن «المحاولة الأمريكية لجعل مجلس الأمن الدولي يعطيها
الحق باستخدام القوة ضدّ العراق أخفقت» ، مضيفاً «لكن الولايات المتحدة تريد
إطلاقها على أية حال، وغرض استراتيجية الدفاع الوطنية الأمريكية الجديدة هو
تسويغ هذه الحملة» .
[جريدة (الزمان) اللندنية، العدد 1325](181/110)
في دائرة الضوء
إشكاليات الديمقراطية المستدامة
مقالة في الفلسفة السياسية
مدى الفاتح
في أوقات المنافسات الحزبية والانتخابية تكثر أكثر من أي وقت آخر الوعود
السياسية ويزداد التنظير السياسي، وفي هذه المرحلة يستخدم السياسيون كثيراً من
العبارات البراقة والفضفاضة التي تصلح للتفسير بحسب وجهة نظر السياسي المعين
وحسب مصلحته، ومن هذه العبارات ما يُخترَع بحسب الحاجة، ومنها ما يعاد
اجتراره واستخدامه بصورة جديدة؛ ولعل عبارة: «الديمقراطية المستدامة» هي
مما يدخل في إطار ذلك النوع الأخير.
ومنذ البدء يحملنا المنظر السياسي لا سيما إذا كان ينتمي إلى العالم الإسلامي
على تجاهل المدلول اللغوي المباشر لكلمة «ديمقراطية» الذي لا يعدو أن يكون
«حكم الشعب» أو «التحاكم إلى الشعب» ؛ لتعارض هذا المعنى صراحة مع
أبسط قواعد العقيدة الإسلامية التي تعطي الحاكمية المطلقة في الدين والدنيا لرب
الشعب.. ونجد أنفسنا مضطرين للتعامل مع الديمقراطية بوصفها النظام الذي
تتلاقى فيه قيم الحرية والمساواة والعدل، وتراعى فيه حقوق الشعب والمواطن،
وتنفذ فيه وصايا الأغلبية كما تراعى حقوق الأقلية؛ وهو النظام الذي يسود فيه
الرضا المتبادل بين الحاكم والرعية؛ فالحاكم ليس سوى ممثل لطموحات شعبه
وإرادة مواطنيه؛ وبذلك يصبح النظام الديمقراطي النظام النموذج، وتتعالى بذلك
النداءات الشعبية التي تطالب بتطبيق النظم الديمقراطية التي تلبي احتياجات
المواطنين وتطلعاتهم. ثم ينطلق المنظر السياسي بعد أن يثبت في أفهام الجماهير
هذا الفهم القاصر والحالم للديمقراطية يتحدث عن الديمقراطية المستدامة التي يمكن
فهمها على ضوء ما سبق بأنها الديمقراطية التي تمتلك أسباب بقائها، وتنحدر من
وجدان كل من المؤسسة الحكومية والشعب على حد سواء، ويعمل كل منهما
على تثبيتها وتطويرها، وعادة ما يؤخذ الغرب والولايات المتحدة خصوصاً مثالاً
يحتذى في الوعي والتقدم الديمقراطي.
إلا أن كل هذه الكلمات الجميلة سرعان ما تفقد بريقها حينما تعرض على
واقعنا المنظور، فيعترف دعاة الديمقراطية أنفسهم بأن أحلامهم في الحرية
والمساواة لم تطبق كما أريد لها في أي نظام سياسي عبر تاريخ الممارسات
الديمقراطية الطويل؛ ليس ذلك فقط؛ بل إن الديمقراطية الغربية قد بدأت تفقد
رواجها وجاذبيتها حتى في منشئها الأوروبي؛ فقد كشف استطلاع واسع للرأي
أجراه معهد «لينزباخ» الألماني أن نصف الألمان فقدوا ثقتهم بالديمقراطية [1] .
وفي الحقيقة فإن أولئك الذين بدؤوا الدعوة للفكرة الديمقراطية من المفكرين
والفلاسفة الأوروبيين أمثال «جوزلوك» و «جان جاك روسو» وغيرهم كانوا
أول من أحس بتناقض دعوتهم؛ فهم كانوا يبحثون عن حرية مطلقة لا توجد؛ فلما
أيقنوا بذلك عرّفوا الديمقراطية على أساس أنها النظام الذي تتفق فيه الأغلبية على
التنازل عن بعض حرياتها وقالوا: إن حريتك تنتهي حينما تبدأ حرية الآخرين.
أما أول صدمة تعرضت لها الديمقراطية بشكلها الحديث كانت إبان الثورة
الفرنسية التي كانت تحمل شعارات الحكم الديمقراطي؛ فقد كانت صدمة قاسية جداً؛
إذ بدأت هذه الثورة عهدها بإرهاب شديد وقمع لا نظير له وكثير من الجرائم؛
مما حدا بفيلسوف كبير مثل «جان جاك روسو» الذي عدّ كتابه (العقد الاجتماعي)
إنجيلاً للثورة الفرنسية أن يعتزل الناس ويصاب بالقلق والإحباط والصراع النفسي
الشديد [2] ؛ ومنذ ذلك الوقت المبكر بدأ الحديث عن التجارب الديمقراطية؛ حيث
توهم المنظِّرون السياسيون أو حاولوا أن يوهمونا أن الأزمة ليست إلا مجرد أزمة
تطبيق وليست أزمة مبادئ، وأنه يمكن إذا ما تبنت الحكومات المناهج الصحيحة
أن تنزل هذه الشعارات إلى أرض الواقع، وأصبح هدف الأنظمة «المعلن» هو
توحيد المثال والواقع وتطبيق ديمقراطياتها بشكل مُرْضٍ أو بأقل الخسائر والضرر.
ومن مطلع القرن العشرين أصبحت الدول المستقلة ملزمة أو شبه ملزمة بتبني
مثل هذه الأطروحات؛ فالضمير العالمي كله معبأ ليقف ضد الأنظمة الديكتاتورية
المتسلطة التي يعنون بها باختصار النظم غير الديمقراطية، وهكذا تترك العبارة
فضفاضة خاضعة لتفسير أهواء أصحاب المصالح في الشرق والغرب، وتصبح
الديمقراطية وتطبيقاتها الشغل الشاغل للأمم المتحدة ومنظماتها، فترفع التقارير،
وتعقد المؤتمرات، وتوضع «الديمقراطية» على رأس جميع أجندات العمل.
وأمام الضغط العالمي عبر وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان لم تلبث
الحكومات في تاريخنا المعاصر إلا أن تحولت لحكومات ديمقراطية بين يوم وليلة
تسعى لتحقيق الديمقراطية حسب وجهة نظرها الخاصة وبقليل مما يسمى: (فلسفة
سياسية) استطاعت حتى الحكومات الأحادية المستبدة والشديدة الديكتاتورية أن تجد
مسوغات مقنعة تبرهن بها على أن الديكتاتورية قد تكون نوعاً من الديمقراطية الحقة
كحديث الشيوعيين الملاحدة عن «ديكتاتورية البروليتاريا» ، أو تفترض أن
تتوحد الحكومة والشعب معاً كما كان «هتلر» يريد أن يثبت إبان حكمه ورئاسته
لحزبه «الديمقراطي» .
وبجانب الدور الذي تلعبه الفلسفة السياسية في إقناع الآخر بمشروعية الرؤية
السياسية الخاصة يأتي دور القوة الاقتصادية والمصلحة السياسية؛ ومعهما لا يحتاج
النظام السياسي لكثير من الجهد في إقناع الآخرين ومحاولة تسويغ مواقفه. ومن
ذلك حديث الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» العام الماضي عن المثال
الديمقراطي في الهند إبان زيارته لـ «دلهي» ؛ فنحن جميعاً نعلم أن «كلينتون»
لا يهتم كثيراً بحريات المواطن الهندي على المستوى الشخصي، ولم يطلق
آراءه إلا من منظور المصلحة السياسية.
وهكذا يختلف تقييم التجارب الديمقراطية بحسب اختلاف فلسفة الناظرين
ومصالحهم؛ وفي حين نصف بلداً ما بأنه ديمقراطي يصر غيرنا على نفي هذه
الصفة بتاتاً عنه، وينطبق الحال على البلد الواحد؛ فترى السلطة على الدوام أنها
مثال الديمقراطية في حين تشتكي المعارضة باستمرار من الكبت والقمع اللذين لن
يزولا إلا بقيام نظام سياسي جديد.
والإشكالية الكبرى التي واجهت المنظرين السياسيين إبان تنزيل الفكرة
الديمقراطية الرومانسية على أرض الواقع شديد التعقيد والتناقض هذه الإشكالية
كانت وما تزال إشكالية تحديد الثوابت؛ فتركيا مثلاً حينما تصر على قمع الحجاب
تستند في ذلك إلى ثوابت الدولة العلمانية، وحينما تتنكر فرنسا لقضايا الحريات
وتطارد بعض الصحفيين والكُتاب الأحرار تستند إلى المصلحة العامة للشعب
الفرنسي، وكذلك الحال بالنسبة لكثير من الأنظمة التي يصل بها الحال إلى التنكر
علانية لنتائج الانتخابات الحرة وإعطاء نفسها حق تسمية النواب مثلما حدث العام
الماضي بالنسبة لانتخابات الجامعة الأردنية التي حصل فيها الإسلاميون والقوميون
في البداية على غالبية الأصوات.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: من الذي يحدد هذه الثوابت؟ فعلى
الصعيد النظري يمكن فهم الثوابت على أساس أنها ما اتفق عليه الشعب أو غالبيته،
أي أنها مبادئ وأولويات نابعة من صميم الشعب، ولا يمكن أن تفرض عليه بأي
حال من الخارج؛ إلا أن الذي يحدث في دول الانهزام هو أن رجالات الحكم
يتلاعبون بهذه الثوابت فيطوعونها لتناسب تحولات النظام العالمي وتغيراته؛ فتكون
الدولة المعينة راضية مرضية، وهنا تتشابك المصالح والأهواء الشخصية والحزبية
مع الثوابت والمبادئ؛ فلا تصبح الشريعة الإسلامية مثلاً من ثوابت الدولة المسلمة
وإن كان أغلبية سكانها من المسلمين، أو يحاول أهل التشريع فيها تفسير أحكامها
على ما يرضي الشرق والغرب، وتحميل معانيها ما لا يحتمل تفادياً للصدام مع
«الدول الكبرى» . قارن هذا الموقف الانهزامي المتخاذل الذي يتنازل بكل سهولة
عن ثوابت الشرع والعقيدة أو يجعلها على أخف تقدير محلاً للتفاوض والجدال
بمواقف اليهود التي ظلت ترتكز منذ بداية التفكير في إنشاء الدولة اليهودية وحتى
الآن على أساطير التوراة.
ودعاة الديمقراطية هم في أغلب الأحوال دعاة العلمانية لما بين المصطلحين
من تكامل، وربما بدت هذه الفكرة في العالم الغربي شديدة الوضوح، أما دعاة
الديمقراطية من المسلمين فهم يضعون أنفسهم في مآزق حرجة، ومن ذلك أن أحد
أقطاب الفكر العلماني يقول شارحاً: «إن الديمقراطية تستوجب التعددية الحزبية
والفكرية وحرية المناقشة والتفاهم، واستخدام الرموز الدينية في النظام الديمقراطي
يلغي مبدأ المنافسة المتساوية بين الأحزاب التي تمارس السياسة؛ لأن القواعد
الدينية هي أمور يجب إطاعتها كما هي؛ فلو تم استخدامها لأمور العامة تلغى
بطبيعة الحال حرية المناقشة والتعددية، هذا ما يعني نهاية الديمقراطية؛ وليست
الديمقراطية هي المتضرر الوحيد من هذه العملية؛ بل إن الدين أيضاً سوف
يتضرر من كونه أصبح مادة مفتوحة للنقاش» [3] .
وهكذا فالعدو الأول للديمقراطيين هم أهل الشرائع؛ فإذا علمنا أن النصرانية
تنص في نصوصها الصريحة على تحييد الدين في المسائل السياسية، إضافة إلى
عدم وجود أي نص يمكن تفسيره على أساس أنه بيان اقتصادي أو سياسي، وإذا
استثنينا اليهود باعتبارهم حالة خاصة، ولسيطرتهم على الإعلام وتوجيه القرارات
السياسية العالمية فلن يتبقى أمام الديمقراطيين عدو إلا الشريعة الإسلامية والمطالبون
بتطبيقها من المسلمين، وبدلاً من أن نعي حجم التحدي الذي نواجهه نظل نطالب
بالتعددية وندافع دفاعاً مستميتاً عن النظم الديمقراطية.
ومغالطة أخرى يحاول أصحاب الهوس الديمقراطي [4] إقناعنا بها، ألا وهي
زعمهم أن الغرب أنموذج للنظام الديمقراطي برغم أننا نعلم اليوم مدى تأثير رجال
المال والاقتصاد على السياسة الغربية حتى تصبح القرارات السياسية بيد طبقة دون
أخرى كما يفعل اللوبي اليهودي في أمريكا وغيرها فيسقط هذا الادعاء الزاعم أن
الشعب هو الذي يحكم، وقد تابعنا في الانتخابات الأمريكية الأخيرة كيف كان
المرشح «آل جور» ساخطاً على مسيرة العمل الانتخابي، وكيف كان يعتبر تقدم
«بوش» الابن خيانة للنظام الديمقراطي الأمريكي العريق.
والحق أن العمل الانتخابي وما يحتاجه من دعاية وتمويل يبدو في كثير من
الأحوال محتكراً وغير عادل، وهذه اللاعدالة هي التي تجعل مفكري الغرب اليوم
يبحثون عن وسائل لتعديل النظرية الديمقراطية بحيث تحتوي على تمثيل أكثر
صدقاً وعدلاً للمواطنين؛ فلا نتوقع مثلاً من «برنار تاي» رئيس نادي «ميلانو»
الإيطالي وصاحب شبكة القنوات التلفزيونية أن يبذل كثيراً من الوقت لعلاج
مشكلة الفقر والتنمية حينما يصبح نائباً في البرلمان، ومثل ذلك يقال عن «سلفيو
برلسكوني» ، رئيس نادي أوليمبك مرسيليا الذي كوَّن بسبب قدرته المالية الفائقة
حزباً سياسياً خلال شهرين ليفوز بواسطته بالأغلبية الانتخابية ثم يتولى منصب
وزير أول [5] .
ولعل الصورة تبدو أكثر وضوحاً إذا ما ألقينا نظرة على الظلال العالمية
للفكرة الديمقراطية، فكم من الجرائم ترتكب سواء برعاية الدول الديمقراطية
الكبرى، أو بزعم الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان.
انظر إلى قضايا البوسنة وفلسطين والعراق والسودان وغيرها من الدول
المسلمة، وإلى التدخل السافر في الشأن الداخلي للدول المستقلة، ثم إلى الفساد
والإفساد الذي يروّج له تحت هذه المسميات البراقة والذي تعج به الدول الديمقراطية
المتقدمة وما يصحبه من دعوات للتحلل الأخلاقي وتسويغ لأشنع الجرائم كالزنا
والشذوذ وغيرهما من فنون الفساد.
وهكذا؛ فإن الإشكاليات التي تواجه فكرة أو حلم الديمقراطية المستدامة نظرية
وتطبيقاً كثيرة ومركبة؛ ذلك لأن الأزمة في اعتقادنا هي أزمة في الفكرة نفسها
وليس فيما يصاحبها من إسقاطات؛ فهي تقوم على تصور إلحادي ينازع المولى عز
وجل في حق من حقوقه وهو حق التشريع، وإعطائه للبشر أفراداً أو مؤسسات.
ونحن وإن كنا نجد العذر للكافرين الذين يحاولون البحث عن أي طريق لا
وحي فيه ولا غيب؛ فإننا لا نستطيع أن نعذر أولئك المنتسبين للإسلام الذين
يتعمدون إسقاط العقيدة الإسلامية من حساباتهم أو يحاولون المتاجرة بالقيم الإسلامية
الصحيحة كالشورى والمصلحة المرسلة؛ وما ذلك إلا لنيل رضى الكافرين والعياذ
بالله. أما الحل الذي نفهمه وندعو إليه فليس هو محاولة تعديل للفكر الديمقراطي؛
بل هو العودة الرشيدة للنظام الإسلامي الأصيل، وهنا يجب أن يكون الجهد
والمجاهدة.
والله من وراء القصد.
__________
(1) الأنباء السودانية، العدد (397) ، تاريخ، 9/7/ 1998م.
(2) انظر فصل: (روسو) في كتاب مايكل هارت الشهير: (الخالدون المائة) .
(3) السفير التركي في الكويت، جريدة الأنباء، العدد (8745) .
(4) في بلادي: تطلق عبارة (الهوس الديني) على جميع المنتمين إلى الجماعات الإسلامية بتنوعها والتي تطالب بإقامة الشريعة الإسلامية وإقامة الدين، وقد استخدمت في أول الأمر من قبل العلمانيين وغيرهم من أعداء الدين، وهنا أحسب أنني استخدمتها في محلها؛ فالديمقراطيون هم المرضى بالهوس والشلل الفكري الذي يمنع من الرؤية والتقييم.
(5) عن مقال بعنوان: إشكالات نتائج وإفرازات الديمقراطية، وردت في البيان العدد (118) .
(*) تجدر الإشارة أيضاً بخصوص اليهود إلى أنهم قد رفضوا تسمية كيانهم جمهورية بعكس العرب الذين تهافتوا على هذه التسمية؛ فالجمهورية في عرف السياسيين تعني بالضرورة حكم الشعب؛ والديمقراطية مما يجعل الشعب هو سيد الموقف، وتهرباً من التحاكم المباشر للشعب فضل دهاة اليهود اختيار كلمة دولة لاغين أو متحكمين فيما يعرف بـ (السلطة الشعبية) ، حول هذا المفهوم للجمهورية راجع كتاب: (اغتيال العقل) للدكتور برهان غليون، 1990م، مكتبة مدبولي، القاهرة، هامش، ص 249.(181/114)
ملتقى البيان الثقافي
المسلمون والمتغيرات.. إلى أين؟
يحفل العالم اليوم بالكثير من المتغيرات والتحولات على شتى المستويات
السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وتختلط الأحوال على كثير من الناس،
وتكثر الفتن والشبهات، ويتصدر الإعلام الغربي والعلماني فضاءنا الإعلامي ليمعن
في التشويه والتضليل؛ ولذا كان لزاماً على الدعاة والمصلحين أن يكون لهم قصب
السبق والمبادرة في تبصير الأمة وتوضيح مسارها.
وتحقيقاً لهذا المطلب فقد يسر الله تعالى لمجلة البيان إقامة (الملتقى الثقافي
الأول) في قاعة الصداقة في مدينة الخرطوم بعنوان: (المسلمون والمتغيرات..
إلى أين؟) ، في الفترة من 16 - 21 رجب 1423 هـ، شارك فيه جمع من
أهل العلم والفكر، وتضمن سلسلة من الفعاليات والأنشطة العلمية والثقافية، نذكر
أهمها فيما يأتي:
أولاً: المحاضرات المسائية:
وقد تم بثها على شبكة الإنترنت، وهي خمس محاضرات، تناول فيها
المشاركون عدداً من جوانب قضية المتغيرات وأثرها على المسلمين.
وقد قام بالتعليق والمداخلة في كل ليلة واحد أو اثنان من العلماء والدعاة،
وكانت المحاضرات على النحو الآتي:
1 - الصراع الحضاري ومستقبل المسلمين:
ألقاها فضيلة الأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس. تناول فيها مفهوم الحضارة،
وبيَّن أنه لا توجد حضارة إسلامية معاصرة حتى يمكن أن نقول إن هناك صراعاً
مع الحضارة الغربية، وإنما تتمثل المشكلة في محاولة الدول الغربية فرض
حضارتها وثقافتها على العالم. ولخوف الغرب من عودة الأمة الإسلامية لحضارتها
وقوتها، ولكي يضمن عدم بعثها من جديد؛ اتخذ هدفين هما: العمل على ألا يعود
المسلمون للفهم الصحيح للدين، وألا تكون لهم قوة مادية. ثم أشار إلى التطور
التاريخي لمحاولات الغرب للقضاء على الحضارة الإسلامية، والتي انتهت في هذا
العصر إلى تفرد أمريكا بالقوة، ومحاولة فرض هيمنتها على العالم الإسلامي.
وبعد أحداث 11 سبتمبر عاد الحديث بشدة في الغرب عن خطر الإسلام،
ودارت نقاشات كثيرة حول كيفية التعامل مع المسلمين، وكانت هناك ثلاثة حلول
تتمثل في: إزالة الفهم الحرفي للإسلام وإيجاد صورة جديدة له تتلاءم مع الواقع
الغربي، ومعالجة الأسباب الاجتماعية التي يرون أنها تؤدي لعداء الغرب،
ومعالجة القضية الفلسطينية.
وفي ختام المحاضرة أكد أن فرص بعث الحضارة الإسلامية متوفرة؛ فقد
ضمن الله تعالى لهذه الأمة ألا ترتد ردة كاملة إلى الجاهلية، ومن براهين ذلك: أن
الإسلام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأنه أكثر الأديان انتشاراً في الأرض،
وأن الناس يجدون فيه تصادقاً بينه وبين مقتضيات العقل، وأن العلم التجريبي
يشهد له ولا يشهد عليه.
2 - الثبات في زمن المتغيرات:
ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم الدويش. دارت المحاضرة حول عدد من
النقاط:
أولاً: أدوات التغيير: وتتمثل في وسائل الإعلام كالبث المباشر، والمجلات،
وشبكة الإنترنت، وكذلك الدعاية والإعلان التي لها أثر كبير في الناس، ثم هناك
السفر إلى الخارج. ونبه إلى أن من التغيير محموداً ومذموماً، فالمحمود هو التغير
إلى الأحسن ما دام منضبطاً بالثوابت الشرعية، أما المذموم فهو التأثر بتيارات
الأخلاق والتصورات المخالفة للإسلام.
ثانياً: أمثلة على المتغيرات: تناول فيها أمثلة عديدة من التغيرات التي
أصابت المجتمعات الإسلامية على مستوى المظهر واللباس، وعلى مستوى الأفكار
والتصورات، ومن أهم ما ذكر: التشبه بالكافرين في لباسهم وأخلاقهم، تسلل الفكر
العلماني، الأخذ برأي الأغلبية في مسائل حسمتها الشريعة، تمييع الأحكام الشرعية
وإيراد الأقوال الشاذة والشبهات عليها كما في مسألة الغناء، وكشف الوجه. ونبه
إلى أن خطورة التشبه بالكافرين تكمن في أن التقليد انهزامية، وفقدان للهوية، وأنه
يورث محبة الكافرين، ويقود إلى التأثر بالعقائد الباطلة.
ثالثاً: أصناف الناس في قضية المتغيرات: بيَّن أن منهم من ركب قطار
الحضارة الغربية دون حذر ولا زاد. ومنهم من أُركب قطار الحضارة الغربي
وغُسل عقله ليكون سهماً ضد قومه. ومنهم من رفض الركوب إما ورعاً، وإما رد
فعل للصنف الأول. ومنهم من أخذ من الحضارة الغربية محاسنها، وسعى لنشر
الهداية في بلادها، مع حذر من زيفها.
رابعاً: وسائل الثبات في زمن المتغيرات: ومن أهم ما ذكره: وضوح
الهدف والغاية من الخَلْق، وضوح المنهج والالتزام بسبيل المؤمنين، القناعة
والرضى بالدين، والاعتصام بالله، تنظيم الوقت، كثرة الذكر، المحافظة على
الفرائض، طلب العلم الشرعي.
3 - المسلمون في ظل المتغيرات الدولية:
ألقاها فضيلة الشيخ عبد العزيز مصطفى كامل. في بداية المحاضرة بيَّن
فضيلة الشيخ أن القرن الماضي يعد قرناً استثنائياً في حياة الأمة، تتمثل أبرز
معالمه في غياب الكيان الإسلامي الواحد (الخلافة) ، وذكر أن غياب هذا الكيان
من أكبر الأسباب لأكثر المشكلات التي تعيشها الأمة من الاستضعاف وتسلط
الأعداء.
وذكر أن الكيان الإسلامي (الخلافة) يقوم على معرفة الدين، والامتثال له،
والاجتماع عليه، والدعوة إليه، وبقدر توفر تلك الأركان تتوافر للمسلمين القوة
والتمكين.
وذكر أن أعداء الأمة جعلوا القضاء على هذا الكيان هدفاً أولياً، وكانت
بدايات هذا القرن هي بدايات الشروع الفعلي في إسقاط الكيان الإسلامي العالمي
متمثلاً في الدولة العثمانية، وكانت مراحل تطبيق هذا الهدف هي باختصار أحداث
العالم الإسلامي في القرن المنصرم.
ثم استعرض متغيرات القرن الماضي، مقسماً سنواته أربعة أقسام، يمثل كل
منها ربع قرن، وأخذ يتناول أبرز الأحداث في كل قسم مبيناً أثرها على المسلمين.
ومن الملاحظات المهمة التي لفت الشيخ عبد العزيز النظر إليها: أن القضية
الفلسطينية كادت أن تغيب من برامج الإسلاميين في فترة المد الثوري وتصدي
العلمانيين للقضية، وعلل ذلك بأنه ربما لأن الإسلاميين رأوا القضية واجهة
للعلمانيين. ثم تساءل: أين المسلمون في ظل تلك المتغيرات التي جعلتهم في ذيل
الأمم؟ وذكر أن كل محاولات العودة للكيان الإسلامي كانت تقف أمامها الأنظمة
العلمانية، ثم تولت أمريكا تلك المهمة لكي تصفي كل عناصر القوة في العالم
الإسلامي، مبيناً أن الغثائية التي وقع فيها المسلمون جعلت محصلة ما بأيديهم من
قوى صفراً.
وذكر أن النظم العلمانية أفلست في مجالات الحروب، كما أفلست في مجال
السياسة؛ حيث خدعوا الأمة بعمليات السلام التي قادت إلى سراب، وينتهي الحال
إلى تهديد الدول العربية كلها بالضرب والحرب، ولا نجد من يُظهر ولو إرادة
التحدي، وإنما اللهجة السائدة على لسان تلك الأنظمة أن الأمة ليست مستعدة!
أما أبرز المتغيرات في أول القرن الجديد فهي: انقلاب اليهود على مشروع
السلام، وظهور الانتفاضة الثانية التي أربكت خطط شارون على الأقل إلى حين،
وأحداث سبتمبر، وتناولها من حيث آثارها مبيناً أن الإعلام العلماني والغربي لم
يقصرا في ذكر الآثار السلبية.
أما الآثار الإيجابية التي ينبغي أن يستثمرها المسلمون فهي: ظهور الوجه
الحقيقي للغرب وأمريكا، وانكشاف الحجم الحقيقي لقوة أمريكا، وإثبات أن بإمكان
الأمة في نطاق الجهاد الشرعي أن يلحقوا الأذى والإذلال بأشد الأعداء. كما
أظهرت تلك الأحداث حقارة النظم العلمانية؛ حيث أرضى النظام الباكستاني الغرب
على حساب المسلمين؛ مما يبين أنهم ليسوا أمناء ولا أهلاً لمواجهة أعداء الأمة.
4 - القضية الفلسطينية في ظل المتغيرات الدولية:
ألقاها فضيلة الدكتور عبد الغني التميمي. افتتح الدكتور عبد الغني التميمي
محاضرته بالتنبيه إلى وجوب أن نفقه المتغيرات الدولية وفق السنن الإلهية؛ لأن
فهم المتغيرات خارج الرؤية الإسلامية يوقع الناس في أوهام وتخبطات كثيرة. ثم
بدأ بذكر ثوابت القضية من منظور إسلامي، وهي:
1 - فلسطين أرض إسلامية مغتصبة، واليهود تحولوا من أهل ذمة إلى
محاربين يجب قتالهم.
2 - القضية الفلسطينية قضية إسلامية، ومحاولة جعلها شأناً فلسطينياً هو
توجه صهيوني.
3 - هذه القضية هي القضية المركزية المحورية للأمة، وأي محاولة لإبعاد
القضية عن مركزيتها هو اعتداء على مسلَّمات الدين.
وبيَّن أن كل ما يتم تحت مسميات (التطبيع، السلام) لا يمت بصلة لما هو
معروف في أحكام الفقه الإسلامي بـ (الصلح والهدنة) .
أما محاولات التأثير على القضية في ظل المتغيرات الدولية، فقد ركز فيها
على التوظيف السياسي من قِبَل اليهود للبعد الديني في الصراع، وأنهم قد
استطاعوا أن يجعلوا البعد الديني يشكل مرتكزاً للصراع في السياسة الأمريكية،
وذلك في تحالف صهيو إنجيلي.
وأورد عدداً من الأمثلة التي توضح مدى تأثير البعد الديني على السياسة
الأمريكية، منها كما ذكرت جريس هاليسل أن الكونجرس الأمريكي لا يجتمع
لاتخاذ قرار إلا في وجود مندوب من الحركة الإنجيلية ليتواءم القرار مع المعتقد
الديني للحركة، وأن الشعارات التي أطلقها بوش (الحرب الصليبية، العدالة
المطلقة، محور الشر) هي مصطلحات دينية للحركة.
5 - رؤية في تقارب الأديان:
ألقاها فضيلة الدكتور أحمد القاضي. دارت المحاضرة على أربعة محاور:
المحور الأول: بيَّن فيه مفهوم الدين، ومدلول التقارب، موضحاً خطأ
التعبير الشائع (الأديان السماوية) ، (الأديان الثلاثة) ، ثم ذكر من صور التقارب
: صورة التسويغ، بمعنى تسويغ جميع الأديان، ويمثلها في الماضي أصحاب وحدة
الوجود، وفي الحاضر أصحاب الدعوة الإبراهيمية. وصورة التلفيق، وهي نحت
دين ملفق من أديان كثيرة، ويمثلها في السابق إخوان الصفا والبهائية، وظهر حديثاً
المونية (مونيزم) . وصورة التقريب، وتسعى إلى إبراز أوجه الاتفاق، وإغفال
أوجه الاختلاف، والامتناع عن نقد الآخر، ويمثلها قرارات المجمع الفاتيكاني
الثاني.
أما المحور الثاني: فقد أعطى فيه رؤية تاريخية، استعرض فيها تاريخ
محاولات التقريب، موضحاً أن تلك المحاولات قد حسمت في العهد النبوي حينما
أنزل الله تعالى سورة الكافرين، وغيرها من الآيات التي تفضح وتكشف أهداف
اليهود والنصارى من محاولات التقريب، مثل قوله تعالى: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ
الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (البقرة:
109) . وبين أنه لم يعهد طوال التاريخ الإسلامي أن دعا أحد إلى التقارب إلا
بعض الشواذ الذين لا يعدون من أهل الإسلام، ذكر منهم أصحاب وحدة الوجود،
والحلاج، وإخوان الصفا، والإمبراطور المغولي (أكبر) ، والبهائية، والحركة
الماسونية، منبهاً أن من بين من وقعوا في حبائل الماسونية ودعوا إلى تقارب
الأديان جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده.
وفي المحور الثالث: أعطى رؤية وصفية معاصرة لمحاولات التقارب بين
الأديان، بيَّن فيها أن هذه القضية ظهرت في العصر الحديث مع التغير الجذري
الذي حدث في تاريخ الكنيسة، حيث قرر المجمع الذي عقد في الستينيات أن
الكنيسة الكاثوليكية لا تنقد شيئاً مما جاء في الديانات، ودعا المجمع إلى التخلص
من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين. ثم ذكر أمثلة من مظاهر
التقارب؛ منها عقد مؤتمرات التقارب، الصلوات المشتركة، مجمعات المعابد،
الدعوة إلى طباعة الإنجيل والتوراة المحرفين مع القرآن الكريم، إقامة مجمعات
سكنية تجمع أهل الأديان.
وختم برؤية شرعية وضح فيها أن الطريقة النبوية في خطاب أهل الأديان الأخرى
هي الدعوة المباشرة للإسلام، دون الدخول فيما يسمى بالبيان المشترك، أو إبراز
أوجه الاتفاق دون الاختلاف والافتراق.
ثانياً: أمسية شعرية:
شارك فيها الدكتور عبد الغني التميمي، والأستاذ أحمد محمد إسماعيل.
ثالثاً: المحاضرات العامة:
أقيمت سلسلة من المحاضرات العلمية والفكرية والتربوية في عدد من
الجامعات والمساجد.
رابعاً: الدورات العلمية، وقد أقيمت دورتان:
الأولى: في مهارات التفكير، قدمها فضيلة الشيخ محمد الدويش.
والأخرى: في شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني، قدمها فضيلة الشيخ
الدكتور أحمد القاضي.
وأقيم على هامش الملتقى الثقافي معرض للكتاب والشريط الإسلاميين.
وقد حظيت هذه الفعاليات ولله الحمد والمنة بإقبال كبير، وحضور حاشد، من
شتى الاتجاهات الإسلامية رجالاً ونساءً. وكانت فرصة كبيرة للحوار وتبادل
الآراء.
نسأل الله تعالى أن يرفع الدرجات، ويحسن النيات، وأن يجعلنا من
المتواصين بالحق المتواصين بالصبر.(181/118)
المنتدى
وقفة مع هلال أول الشهر
زياد بن أحمد خبشي
هلاَّ وقف أحدنا يوماً بعد صلاة المغرب يتأمل هلال أول الشهر بجماله البراق
ونحفه المتواضع: بياض باهت وسط ذلك الظلام الدامس تجاوره نجومٌ متواضعة
ترصع السماء فتعطيها روعة وجمالاً..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: «الله أكبر، اللهم
أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا
وربك الله» [1] .
في هذا الحديث يطلب خير البرية صلى الله عليه وسلم من ربه أن يدخل
علينا شهرنا ونحن ننعم بالأمن من الآفات والمصائب، وأن نكون ثابتي الإيمان،
وأن يكون حالنا في سلامة من آفات الدنيا والدين، بل ضمَّن صلى الله عليه وسلم
الدعاء سؤال ربه التوفيق والهداية لكل ما يحبه ربنا ويرضاه من الأقوال والأعمال
بل والمقاصد، ثم ختم دعاءه صلى الله عليه وسلم بحقيقة واضحة يجب أن لا تغيب
عن الأذهان أبداً، هذه الحقيقة هي أننا كلنا عبيدٌ مربوبون لله جل وعلا: الإنسان
منا والحيوان بل والجماد، وأرجو يا أخي الكريم أن لا تنسى وأنت تُردد هذا الدعاء
وتنظر إلى هلال أول الشهر إلى أن تتأمل مرة أخرى في هذا الدعاء لتلمح شيئاً من
هديه وخُلُقه صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه جعل الدعاء عامّاً له ولأمته صلى الله
عليه وسلم وأنه لم ينسها، وصدق ربنا حين قال عنه: [عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة: 128) .
أخي! وأنت تنظر إلى هلال أول الشهر كأني بك وقد استدار بك الزمان
والمكان، وقد أخذتك الذاكرة إلى قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؛ لتلقي نظرة
على ذلك البيت الطيني الذي كان يمر عليه الهلال والهلال ولا توقد فيه نار للطهي،
بل كان التمر والماء هما طعامهم كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة - رضي
الله عنها -.
يقول الحسن البصري: «كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سُقُفها بيدي» . «إنه بيت متواضع
وحُجَر صغيرة ... لكنها عامرة بالإيمان والطاعة، وبالوحي والرسالة» [2] .
بيت من الطين بالقرآن تعمره ... تباً لقصر منيف بات في نغم
لقد كان صلى الله عليه وسلم لا يتكلف طعاماً أبداً، ولا يعيب طعاماً: إن
اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه. ومات عليه الصلاة والسلام «وما شبع آل محمد
منذ قدم المدينة من طعام بُر ثلاث ليال تباعاً» كما في الصحيحين.
وأرع سمعك لما رواه الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو
يقول: «وكان أكثر خبزهم خبز الشعير» .
طعامك التمر والخبز الشعير وما ... عيناك تعدو إلى اللذات والنعم
تبيت والجوع يلقي فيك بغيته ... إن بات غيرك عبد الشحم والتخم
وهذا الهلال الماثل أمام عينيك ما هو إلا مرحلة تنقضي، ثم يتبعها مرحلة
أخرى.. هكذا دواليك حتى يكون عرجوناً كهلال أول الشهر [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ
حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ] (يس: 39) .
وهكذا أنت أيها الإنسان: طفل رضيع، ثم صبي، فغلام، فشاب، فرجل،
فكهل، ثم شيخ، حالك كحل ذلك الطفل الرضيع لا تعلم شيئاً ولا تحرك شيئاً
[وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً] (الحج: 5) .
فانظر يا أيها الإنسان في حال عمرك، وتحسس جسدك، وانظر في أي
المراحل أنت تسير: هل أنت في الهلال ما زلت؟ أم أنك قاب قوسين أو أدنى من
العرجون القديم؟ وما هي إلا أيام أو لحظات ثم تفارق هذه الحياة.
واحذر ثم احذر يا أخي! أن يباغتك الموت فجأة وأنت لا زلت في
ريعان الشباب لم تأخذ أُهبتك، ولم تستعد لهذا الطارق الذي لا يُرد أبداً؛ فالحذر
ثم الحذر! فإن الخسوف لا يقع إلا للبدر.
__________
(1) أخرجه الدارمي، وخرج الترمذي أخصر منه.
(2) يوم في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، عبد الملك القاسم، 13.(181/122)
المنتدى
الدعوات والفتن
محمد الزهراني
من سنة الله أن يحصل الابتلاء للمؤمنين أفراداً وجماعات: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن
تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ] (البقرة: 214) .
لكن هذه الفتن بوجهها الآخر مبشرات؛ فإنه لا تحدث فتنة إلا كان بعدها فَرَج،
وحصل لأهلها من الخير الكثير، وإن شدة ظلام الليل دليل على قرب صبحه.
وينبغي على الدعاة والمصلحين أن يوقنوا بأن الخير فيما يقدره الله؛ فكم غَدَر
أعداء هذا الدين وكادوا ضده، وكاد ربنا بكيده؛ فكان ما قدره الله وكان فيه الخير
للدعوة وأهلها.
قتل فرعون كل مواليد بني إسرائيل فزعاً وخوفاً من طفل قال الكهان إن على
يديه يزول مُلك فرعون، وكاد ربنا، فقدّر أن يكون فرعون هو الذي يعتني بموسى
- عليه السلام - ويرعاه في عقر داره رعاية أبناء الملوك [لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوا]
(القصص: 8) .
وحسد إخوة يوسف أخاهم - عليه السلام - فكادوا ودبّروا [غَيَابَةِ الجُب]
(يوسف: 10) ، فجعل الله في ذلك خيراً كثيراً، فأخرجه الله سيداً لمصر وأميناً
على خزائن الأرض [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً] (يوسف:
100) .
واجتمعت قريش وغطفان ويهود في الأحزاب ضد نبي الله محمد صلى الله
عليه وسلم وقلة المؤمنين معه، فكادوا ودبروا لاستئصال شأفة المؤمنين حتى بلغت
قلوب المؤمنين الحناجر، وأرجف المنافقون في المدينة، فجاءت [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا
نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] (الروم: 47) ، فدبر ربنا سبحانه وقدّر، وارتحل الأعداء
منهزمين، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» .
وهكذا تجري الأقدار ولا يعرف الناس في أيٍّ الخير، فلربما شُدّد على
الدعوات، ومُلئت السجون بالدعاة، وأُلجم الناصحون فكان في ذلك كل الخير،
فزاد عدد المنتمين للدعوة، وكثر أنصارها وقد ظن ضعفاء النفوس أن لن تقوم لها
قائمة، وإنما يحصل هذا [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً] (الأنفال: 44) ،
وإنما الخير فيما يقدره الله [فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً]
(النساء: 19) .
والذي يجب بعد هذا هو أن نعلم أن البلاء والرخاء جولات ينبغي أن تجعلنا
حريصين على إعداد العدة وقت الشدة؛ لتنطلق الدعوة في أوقات السعة والرخاء
وتتقدم، وأن نأخذ من السنوات السمان للسنوات العجاف، ونوقن أن الله يأبى [إِلاَّ
أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] (التوبة: 32) .(181/123)
المنتدى
الإرهاب
محمد عبد السلام الباشا
عملاقُ العالم أمريكا ... شربت من كأس الأخطارِ
النارُ ستحرق صاحبها ... لعبت أمريكا بالنارِ
طيران يصدم أبراجاً ... ويقول لأمريكا انهاري
هلع أو رعبٌ داهمها ... أحداث مثل الإعصارِ
آلاف القتلى قد شهدت ... وانهارت كل الأسوارِ
يرتد الفعل على الباغي ... هذا إنذار الجبارِ
الله سيهدم أمريكا ... وسيهدم كل الأشرارِ
عادٌ وثمودُ تشابهها ... تحذير جاء من الباري
كانت أمريكا عدواناً ... وستبقى بعد الإنذارِ
دعموا أعداء قضيتنا ... فتمادوا في قصف الدارِ
وأذاقوا أمتنا هولاً ... في القدس عرين الأحرارِ
(صبرا شاتيلا) ما غابت ... (شارون) قرين الأوزارِ
كانت أمريكا سمساراً ... وشريكاً قبل السمسارِ(181/123)
الورقة الأخيرة
إلهي
لا تعذب لساناً يخبر عنك
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
«إلهي لا تعذب لساناً يُخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدلّ عليك، ولا
يداً تكتب حديث رسولك؛ فبعزتك لا تدخلني النار» [1] .
هكذا كان ابن الجوزي - رحمه الله - يناجي ربه، وربما ابتهل إلى ربه قائلاً:
«ارحم عبرة ترقرق على ما فاتها منك، وكبداً تحترق على بُعدها عنك» [2] .
إن الانكسار والانطراح بين يدي الله تعالى أعظم العبادات وأجلُّ القربات؛
فالدعاء هو العبادة؛ حيث يتضمن أنواعاً كثيرة من العبادة كإسلام الوجه لله تعالى،
والرغبة إليه، والاعتماد عليه والتذلل والافتقار [3] .
يقول مطرف بن عبد الله بن الشخّير - رحمه الله -: «تذاكرتُ: ما جماع
الخير؟ فإذا الخير كثير الصيام والصلاة، وإذا هو في يد الله، وإذا أنت لا تقدر
على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير الدعاء» [4] .
وقال سهل بن عبد الله التستري - رحمه الله -: «ليس بين العبد وبين ربه
طريق أقرب إليه من الافتقار» [5] .
ولما كان الله تعالى لا يخلق شراً محضاً، فإن المحن المتتابعة على أمة
الإسلام في هذا العصر من أعظم أسباب اللجوء إلى الله تعالى، والابتهال إليه.
وتحقيق التوحيد كما حرر ذلك ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: «فمن تمام نعمة
الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه
مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحداً سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره،
فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة
من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب، أو
حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة؛ فإن ذلك لذَّات بدنية ونِعَم دنيوية قد
يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن. وأما ما يحصل لأهل التوحيد
المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال،
ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: يا ابن آدم، لقد
بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك. وقال بعض الشيوخ: إنه
ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب
معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك» [6] .
إن الناظر إلى حالنا يرى غفلة عن الدعاء؛ فقد ندعو الله تعالى دون إلحاح أو
افتقار، وربما دعونا الله تعالى مع ضعف ثقة ويقين بإجابة الدعاء، ولذا تغيب
حلاوة المناجاة ولذة الابتهال إلى رب العالمين. وإن مما يحقق ذلك أمرين مهمين:
أحدهما: أن نستحضر أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، فنتعبد الله تعالى
بأسمائه وصفاته؛ فهو جل جلاله البرّ الكريم، الرحمن الرحيم، الملك القدوس
السلام المؤمن المهمين العزيز الجبار المتكبر. كما نتعرّف على الله تعالى من خلال
آلائه ونعمه، [وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (النحل: 18) ، [وَمَا بِكُم
مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ] (النحل: 53) .
والأمر الآخر: أن نستصحب في مناجاتنا فقرَنا وضعفَنا ومسكنَتَنا، وكثرةَ
ذنوبنا، وظلمَنا وتفريطنا؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أرأيت إلى دعوات الأنبياء ومناجاتهم وما تحويه من هذين الأمرين المهمين؟
فهذا زكريا - عليه السلام - ينادي ربه قائلاً: [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياًّ] (مريم: 4) ، وها هو يونس -
عليه السلام - ينادي ربه في بطن الحوت فيقول: [لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي
كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ] (الأنبياء: 87) ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:
«سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا
على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك
عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [7] .
ومما يحسن ذكره ها هنا أن عبد الملك بن مروان خطب خطبة بليغة ثم قطعها
وبكى بكاء كثيراً، ثم قال: يا رب! إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم
منها، اللهم فامحُ بقليل عفوك عظيم ذنوبي. فبلغ ذلك الحسن البصري فبكى وقال:
لو كان كلامٌ يكتب بالذهب لكُتِب هذا الكلام [8] .
ومع أن ابن تيمية - قدس الله روحه - ينكر على الشاعر المتنبي مبالغته في
قوله:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره
إلا أنه يقول: «ربما قلتُ هذين البيتين في السجود أدعو الله بما تضمناه من
الذل والخضوع» [9] .
وقد رئي أبو الحسين الرازي (304 ت هـ) في المنام بعد موته، فقيل له:
ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بقولي عند الموت: اللهم إني نصحت الناس قولاً،
وخنت نفسي فعلاً؛ فهب خيانة فعلي لنصح قولي [10] .
ونختم المقالة بخير الهدي؛ فقد كان من دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم:
«اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى
عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق،
المقر بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك
دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذلّ لك جسده، ورغم لك أنفه،
اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن ربي رؤوفاً رحيماً! يا خير المسؤولين،
ويا خير المعطين!» [11] .
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض.
(1) (2) ذيل طبقات الحنابلة، 1/422.
(3) انظر: كتاب الرد على شبهات المستعينين بغير الله، ص 47.
(4) أخرجه ابن بطة في الإبانة (القدر) 2/ 195.
(5) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 10/108.
(6) مجموع الفتاوى، 10/333، 334.
(7) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، رقم 15، معنى (أبوء) : أقر وأعترف.
(8) البداية والنهاية، لابن كثير، 9/67.
(9) البداية والنهاية، لابن كثير، 11/259.
(10) البداية والنهاية، لابن كثير، 11/ 127.
(11) أخرجه الطبراني.(181/124)
شوال - 1423هـ
ديسمبر - 2002م
(السنة: 17)(182/)
كلمة صغيرة
الثبات الثبات.. يا أهل الرباط!
ذكرت بعض المصادر الإخبارية أنَّ الفاتيكان أعلن نداء للفلسطينيين
الكاثوليك، وللمنصِّرين الأوروبيين للبقاء في الأرض المقدسة، وعدم التخلي
عنها بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة، وأعلن الفاتيكان أن القس
الكاثوليكي (بول جوزيف كورديس) مدير الذراع الخيري للفاتيكان قام بتوزيع
400 ألف دولار أمريكي للكاثوليك الفلسطينيين في الضفة الغربية، وداخل
فلسطين المحتلة حتى يساعدهم على الثبات والبقاء، ويعوضهم عن الخسائر الفادحة
التي أصابتهم بسبب الانهيار الاقتصادي وضعف الحركة السياحية..!
أما المسلمون الفلسطينيون فيمارس عليهم العدو اليهودي أشدّ الضغوط
ليهاجروا من أرضهم المباركة، فتُهدم المنازل، وتُحرق المزارع، وتُهدم المدارس
والمستشفيات، وتُصب الحمم فوق رؤوسهم صباً، ويُهجَّرون قسراً بعيداً عن
أرضهم وأهليهم ... ولكنهم لا بواكي لهم..!!
من أجل هذا نقول للمرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: إنَّ
طريق الفلاح والتمكين هو طريق المصابرة والمرابطة، كما قال الله تعالى: [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران:
200) . نعم.. نعلم يقيناً أن التضحيات جسيمة، والضغوط عليكم لتتخلوا عن
رباطكم، ومصابرتكم تنوء بها الجبال الرواسي، ولكنَّ الظنَّ بكم أن تكونوا أسوة
للمرابطين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فبرباطكم وثباتكم سيشع نور النصر
بإذن الله وعونه، وما عهدناكم إلا أهل قوة ويقين، وتأملوا قول الله تعالى:
[وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا
ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 146) ، فمن تربى
على معين الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام لن يتطرق الوهن أو الضعف إلى
قلبه؛ بل تراه شامخاً بدينه، معتزاً بعقيدته، صابراً محتسباً، وإن أحاطت به الفتن
من كل جانب.(182/3)
الافتتاحية
فهلا فسحتم الطريق!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد: فإن الفوز الساحق لحزب (العدالة والتنمية) الإسلامي التوجه في تركيا،
واكتساحه لبقية الأحزاب، يقابله تقدم واضح للحزب (الجمهوري) الذي يقوده
أعضاء المنظمات النصرانية في أمريكا، وسيطرته لأول مرة على مجلسي النواب
والشيوخ، وهناك إجماع على تقدم حزب (الليكود) اليهودي المتطرف أياً كان
رئيسه المقبل؛ سواء كان شارون أم نتنياهو؛ على حزب (العمل) الصهيوني
الاشتراكي الذي يمثل اليهود الصهاينة العلمانيين الذين أقاموا دولة يهود في فلسطين
بالحديد والنار وبدعم الغرب، وتفردوا بالحكم أكثر من ثلاثين سنة متوالية، ثم
شاركوا (الليكود) لثلاثين سنة أخرى، ويبدو والله أعلم أن المرحلة القادمة ستشهد
بقاء حزب (العمل) خارج الحكم؛ حيث تبدو عليه آثار الهزيمة التي بدت حتى
في تبادل زعمائه المتنافسين الألفاظ السوقية في المناظرات التلفزيونية.
وفي الهند يبدو أن حزب (بهارتيا جاناتا) الهندوسي المتطرف سيبقى طويلاً
في الحكم أمام الأداء الضعيف لحزب المؤتمر العلماني الذي حكم الهند فترات طويلة
منذ الاستقلال.
أما في أطراف العالم الإسلامي فقد حصلت الأحزاب الإسلامية على مراكز
متقدمة في كل من المغرب والباكستان، والبحرين، ونجحت في تطبيق بعض
أحكام الشريعة في بعض الولايات النيجيرية.
إن المظاهر السابقة من تقدم أصحاب التوجهات الدينية، وتفضيل الشعوب
لهم على غيرهم في الدول التي يعبر فيها الناس عن آرائهم بحرية تعطي مؤشراً
قوياً على أوضاع الرأي العام في الدول الأخرى سواء الإسلامية أو غيرها، والتي
يمكن أيضاً تلمسها من بعض تصريحات وتصرفات الزعماء أو من الصور
السلوكية، والمظاهر الواضحة للعيان في الشارع العام، فمثلاً ماذا تفهم أخي القارئ
من:
- تصريح رئيس دولة حارب المتدينين طويلاً: أن الضغط الغربي
والإسرائيلي عليه سيدفعه لإطلاق لحيته؛ كناية عن التنفيس للعمل الإسلامي في
بلاده.
- دولة يحكمها حزب علماني حاول طويلاً القضاء على مظاهر التدين؛
تضيف لعَلَمها كلمة «الله أكبر» ، ولا تخلو الآن خطابات الرئيس من مضامين
دينية إسلامية.
- انتشار المظاهر الإسلامية في الشارع، وبروزه خاصة في أوساط الأجيال
الجديدة، ففي حين كنت ترى الأم المحجبة تمشي مع بنتها المتبرجة؛ أصبحت
ترى العكس. وأصبحت المساجد تمتلئ بالمصلين بل والمصليات بعد طول غياب،
ولا شك أن حجاب البنات، وصلاة الأبناء في المساجد سيدفع الآباء عاجلاً أو آجلاً
إلى متابعتهم.
- بعض الأنظمة الشمولية وبعضها له ماض إلحادي تحاول الآن إحياء الطرق
الصوفية التقليدية، ودعمها لقيادة الصحوة الإسلامية الشعبية أمام تيار الدعوة السلفية
الجارف.
- السماح بعد حظر طويل لبعض الأحزاب الإسلامية بالعمل السياسي، مع
محاولة تقزيمها واحتوائها.
إن إعطاء حزب إسلامي معارض وقديم في انتخابات مزورة حوالي 7% مثلاً
من الأصوات يراد به الإيحاء للناس أن هذا هو المعبر عن شعبية التوجه الإسلامي.
- وأخيراً: إن من يريد قياساً مبسطاً لانتشار الصحوة فليذهب إلى المساجد
الثلاثة (الحرمين والأقصى) ، وسيرى إقبال الناس الذي لا يمكن مقارنته
بالسنوات الماضية.
إن مظاهر إقبال الشعوب الإسلامية على الدين يقابله تخوف شديد من زعماء
الدول الاستعمارية، فقد اضطر بابا الفاتيكان للدعوة أخيراً إلى الحفاظ على أوروبا
نصرانية، وهي دعوة لم يطلقها أمام سيطرة اللادينية التي كانت سائدة في أوروبا
في عصر نهضتها المادية، بل أطلقها خوفاً من تنامي الإسلام في أوروبا، والذي
يتقدم بسرعة خاصة في أوساط المهاجرين.
أما (بوتين) الذي برز فجأة للحكم من قاع المخابرات الشيوعية؛ فلم تسعفه
ثقافته للرد على الصحافيين حول المجازر التي ترتكبها القوات الروسية في الشيشان
إلا بتهديد أضحك الحاضرين من مد إسلامي سيؤدي إلى ختانهم جميعاً!
نعم! إن أوروبا تدعي العلمانية، ولكنها تخفي مشاعرها الصليبية التي لم
تتمكن من إخفائها عند منع تركيا، والتي يحكمها دستور علماني من الانضمام
للاتحاد الأوروبي بحجج مختلفة؛ منها حقوق الإنسان، ولكن سيطرة الإسلام على
الشارع التركي أبرز السبب الرئيس للمنع؛ حيث صرح «فاليري جيسكار ديستان»
الرئيس الفرنسي السابق أن تركيا ليست أوروبية، وأن عاصمتها ليست في
أوروبا. وأضاف أن دخولها للاتحاد يعني نهايته. وكان وزير الخارجية الإسباني
أكثر وضوحاً حيث صرح بأن وصول الإسلاميين للحكم لا يمنع انضمام تركيا
للاتحاد؛ لأنه ليس نادياً نصرانياً. ونحن نقول: كاد المريب أن يقول: خذوني.
أما في أمريكا فقد أخذت مواجهة الإسلام تتخذ مظاهر عديدة أهمها هو
الاعتراف بوجوده بعد طول تجاهل، وبدأ الرئيس في الدعوة إلى مائدته الرمضانية،
والتصريح أن أمريكا لا تحارب الإسلام بوصفه ديناً، وإنما (تحارب الإرهابيين) .
أما التوجهات النصرانية فقد بدأت الهجوم المباشر، ولم يعد غريباً أن يصرح
أحد وعاظ التلفاز أصحاب الشعبية الكبيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو
الإرهابي الأول، وآخر يهاجم المسلمين ويقارنهم بالنازيين.
إن الأمريكي العامي لم يسمع غالباً لا بالإسلام ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم
إلا أخيراً، واضطرار هؤلاء للهجوم المباشر يدل على خوفهم وهلعهم من حب
الاستطلاع الفطري لدى العوام في أمريكا، ومع ذلك فلا شك لدينا بالأثر الإيجابي
لهذه التصرفات؛ لأن الله قد حكم على كل شانئ للرسول صلى الله عليه وسلم بالبتر
وقطع الذِّكْرِ والخمول: [إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] (الكوثر: 3) .
إن الهجوم على الإسلام يعتمد على تحالف صليبي يهودي معلن يقوده الزعماء
السياسيون الذين يلبسون مسوح الدين، ويحاولون جر شعوبهم من خلفهم في حرب
نعرف أولها في أفغانستان والعراق، ولا نعرف نهايتها، وفي المقابل فإن الشعوب
الإسلامية تقف وحدها أمام الإعصار الذي قد يقتلع الجميع.
إن واجب النخب تحديد موقفها بوضوح من الصراع، وألا يكون همهم فقط
الحفاظ على مصالحهم الضيقة؛ حتى لو أدى هذا للتعاون المصلحي مع الأحزاب،
ولنتذكر حال ملوك الطوائف في الأندلس قديماً وحال السلطة الفلسطينية حالياً، وما
آل إليه حال كل منها.
وأخيراً نقول: إنه صراع مبادئ، وإن لم تكونوا في المقدمة فأفسحوا الطريق
لغيركم، [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .(182/4)
دراسات في الشريعة
غسيل الأموال.. مفهومه وحكمه
فارس بن مفلح آل حامد
farisalrashed@hotmail.com
* المبحث الأول: الكلام عن أصول التجارات وما يحل منها وما يَحرُم:
مما يحسن في هذا المقام ذكره أن يقال: إن الأصل في المعاملات الحل،
وهو ما يُعبَّر عنه في القاعدة الفقهية: (الأصل في الأشياء الإباحة؛ حتى يدل
الدليل على التحريم) [1] .
جميع صور الحرف والمهن والتجارة يجمعها معنى واحد تؤول إليه جميع هذه
الصور؛ ألا وهو «تبادل المنافع» .
وقد اشترط الشرع في المكاسب التجارية أن تكون حلالاً لتُنتِجَ آثارها
المشروعة، وهذا يقودنا إلى الكلام عن مشروعية الطرق التي يُكتسب المال منها؛
وبناءً عليه نقول: إن تجارات الناس كلها آيلة إلى ما ينتفعون به من: مأكول، أو
مشروب، أو ملبوس، أو مركوب، أو مسكن، أو خدمة، أو صحة، أو زينة،
أو مسموع، أو مرئي، أو معلوم، ولا تخرج جميع التجارات على إطلاقها عن
هذه الإحدى عشرة [2] .
وجميع تلك الأصول منها ما هو مباح، ومنها ما هو محرم، وكذا الوسائل
إليها منها ما هو مباح، ومنها ما هو محرم كذلك.
والتفصيل في ذلك يطول جداً؛ لذا لا يهمنا من ذلك إلا ما نحن بصدده من
موضوع هذا البحث، وما هو إلا تمهيد ومقدمة لما بين يديه. وبالله التوفيق.
* المبحث الثاني: التعريف اللغوي والاصطلاحي لكل من كلمتي (غسيل)
و (تبييض) ، والتنبيه على اللفظة المناسبة في ذلك:
جاء في معجم مقاييس اللغة ما يلي: «غَسَل: الغين والسين واللام أصل
صحيح يدل على تطهير الشيء وتنقيته. يُقال: غسلتُ الشيء غَسْلاً. والغُسْلُ
الاسم. والغَسُول: ما يُغسَلُ به الرأس من خِطمِيٍ وغيرِه» [3] .
وقال في لسان العرب تحت مادّة (غسل) : «غَسَلَ الشيءَ يغسِلُه غَسْلاً
وغُسْلاً، وقيل: الغَسْلُ: المصدر من غَسَلتُ، والغُسْلُ بالضمِّ: الاسم من
الاغتسال [4] ، ... والغَسُول: الماء الذي يُغَتسَلُ به، والمُغَتسَلُ: الموضع الذي
يُغَتسَل فيه.... وغُسَالَةُ الثوب: ما خرج منه بالغسل ... » [5] .
ومجيئه على فَعِيل: يجعله على وزن مغسول، فيكون اسم مفعول، كقتيل
بمعنى مقتول، وسليب بمعنى مسلوب.
وقال السمين الحلبي: «والغَسْلُ والغِسْلُ مصدَرا غَسَلَ يَغسِلُهُ؛ إذا أسال
عليه الماء فأزال درَنه» [6] .
وأما الأموال: فهي جمع مال. قال في القاموس المحيط: «المال: ما ملكته
من كل شيء. جمع أموال» [7] .
وقال في لسان العرب: «قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يُملك من
الذهب والفضة، ثم أُطلِق على كل ما يُملَك ويُقتنى من الأعيان [8] » [9] . فتبين
من هذا أن المال يُطلق على ما تقع به المنفعة ويحصل به الملك، فلا بد من هذين
الأمرين: المنفعة والملك؛ فقد ينتفع الإنسان بشيء وليس هو في حال الانتفاع مالاً،
كالتراب في البر، والماء في البحر. وأما الملك فهو فرع المنفعة، فلا يمكن
للإنسان أن يملك ما لا نفع فيه عنده [10] .
فقَصْر المال على أعيان مخصوصة لا يصح، ولعل مما يقوِّي هذا: قوله
تعالى: [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (الجاثية: 13) .
فقوله [سَخَّرَ] مع كلمة [جَمِيعًا] ينسحب على كل ما تقع عليه تصرفات
الإنسان.
أما التعريف الاصطلاحي بالتركيب الإضافي للكلمتين (غسيل الأموال) ؛ فلم
يرد في كتب الفقهاء تعبير عن المعنى المراد بهذا الاصطلاح، وإنما يعبرون بـ
(المكاسب المحرمة) كما سوف يأتي في تضاعيف هذا البحث.
وهذه الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث كما يقول شيخ الإسلام: «إذا
عُرِف تفسيرها وما أريدَ بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحْتَجْ في ذلك
إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم، ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع:
ما يُعرَفُ حدُّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يُعرف حده باللغة كالشمس والقمر،
ونوع يُعرف حده بالعرف كلفظ المعروف في قوله تعالى: [وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوف] (النساء: 19) » [11] .
واصطلاح (غسيل الأموال) هو من النوع الأخير قطعاً، وبناءً على ذلك
فيُمكن أن يُعَرَّف مصطلح (غسيل الأموال) بأنه: «جعل الأموال الناتجة عن
أصول محرَّمة ذات أصول مباحة في الظاهر بطرق مخصوصة، وهي باقية على
أصلها المحرم في واقع الحال» .
ولكن التعبير بـ (غسيل) من جهة العربية لا يستقيم في الدلالة على
مقصوده؛ إذ معناه: الأموال الناتجة عن الغسل فحسب، ولا يدخل في دلالة العبارة
طريقة ذلك الغسل، وقد يقصدون به (تغسيل) ، وهذا خطأ فالتغسيل يدل على
الفعل الواقع على محل، والغسيل إنما يدل على نتاج ذلك الفعل فحسب، ففرق بين
اللفظين وإن كانا مصدرين.
والتعبير بكلمة (غسيل) للدلالة على الطريقة أو الطرق التي يتم بها تحويل
الأموال الخبيثة إلى أموال مباحة في الظاهر؛ كما أن التعبير بكلمة (الأموال)
يُراد بها الأموال النقدية على وجه الخصوص؛ غير أن التعبير بكلمة غسيل
يُشكِِلُ؛ لذا يُقترح وضع كلمة بديلة دالة على المراد مؤدية للغرض؛ ألا وهي
(تبييض) ؛ ففيها دلالتان:
الأولى: التمويه بإظهار الشيء على غير ما هو عليه في باطن الأمر.
الثاني: أن حصول هذا واقع من فاعل عامد لذلك.
وهذان المعنيان لا تفيدهما كلمة غسيل؛ لذا سوف نثبت هذه الكلمة بدلاً من
كلمة (غسيل) فيما يُستقبل من هذا البحث بإذن الله تعالى.
ويحسن هنا أن يُقال: إن التعبير بكلمتي: (غسيل) و (تبييض) هما تعبير
بلاغي؛ إذ هما في علم البلاغة من باب الاستعارة الخيالية المجرَّدة، والاستعارة
على التعريف المختار: «تصييرُك الشيءَ الشيءَ وليس به، وجَعْلُك الشيءَ
للشيءِ وليس له؛ بحيث لا يُلْحَظُ فيه معنى التشبيه صورةً ولا حُكماً [12] » [13] .
وتلك الاستعارتان هما من قسم استعارة المحسوس للمعقول [14] ، كقوله تعالى:
[بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ] (الأنبياء: 18) ، فالقذف والدمغ أمران
معقولان مستعاران من صفات الأجسام، والمستعار له الحق والباطل، والجامع هو
الإعدام والإذهاب. فكلمة (غسيل) معقول مستعار من إجراء الماء على جسم
لغرض التطهير من درن ألمَّ به، والمستعار له: المال، والجامع إزالة القذر. وكذا
(التبييض) ؛ فهو معقول مستعار من إكساب جسم لون البياض؛ لغرض إخفاء
لونه الأصلي، والجامع إظهار الشيء على غير ما هو عليه تمويهاً على الغير.
وبذلك يظهر الفرق بين الاستعارتين ورجحان هذه الأخيرة؛ إذ هي أدلُّ على
المراد، فكأن التاجر موَّه على الناس باستثمار الأموال المحرَّمة في أعيان مباحة.
وبالله التوفيق.
* المبحث الثالث: في بيان قصد الشارع من حفظ مصالح الخلق في باب الأموال:
من المعلوم أن المال أحد الضرورات الخمس التي نزلت الشرائع بحفظها،
وهي: «الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال» . وهذه المقاصد لا تعدو
ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
الثاني: أن تكون حاجية.
الثالث: أن تكون تحسينية.
فأما الضروريات: فمعناها ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ بحيث
إذا فقدت لم تجر مصالح الناس على استقامة؛ بل على فساد وتهارج وفوت حياة،
وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين [15] .
وأما الحاجيات: فمعناها: أنها مفتقَرٌ إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق
المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراع دخل
على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد المعتاد المتوقَّع
في المصالح العامة [16] .
وأما التحسينيات: فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب
المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق [17] .
وتلك المقاصد يَكُون حفظها بأمرين:
1 - ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب
الوجود، وهي في المال كالاتجار في المباحات؛ كالإجارة والصناعة والزراعة ...
ونحو ذلك.
2 - ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها
من جهة العدم [18] ، وهي في المال: كالنهي عن السرقة، والغرر، وإضاعة المال.
وتبييض الأموال هو من هذا الباب.
وعلى هذا فالمال المتولد عن محرَّم يأخذ أصله فيصير حراماً.
فمثال الكسب الخبيث في باب الدين: بيع كتب الضلال والانحلال، ككتب
الشرك، والسحر، والزندقة.
ومثله في باب النفوس: أخذ الأجرة على المخدرات والدخان، وكأخذ الأجرة
على الأنفس المعصومة، أو التعدي على أطرافها.. ونحو ذلك.
ومثاله في باب الأعراض: أخذ الأجرة على الزنا، كما هو الحال في مراكز
الدعارة المنظمة أو ما كان وسيلة إليه.
ومثاله في باب العقول: أخذ الأجرة على المسكرات، والمفترات.
ومثاله في باب الأموال: الربا، والرشوة، والتزييف، والسرقة، والقمار،
ونحو ذلك.
وهكذا نجد كل تلك الأكساب الخبيثة تُخِلُّ بتلك الضرورات جميعها، وجريمة
(تبييض المال الحرام) لا شك أنها امتداد لتلك الجرائم واستثمار لما يتحصَّل عنها.
* المبحث الرابع: حكم الشرع في غسيل الأموال:
إذا تبين ما ذكرنا؛ فلا شك في حرمة هذه الأموال وما تولد منها، وقد دل
على ذلك الكثير من النصوص في الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ]
(الأعراف: 157) ، وهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم في كتب اليهود
والنصارى، ولا شك أن تبييض الأموال المحرمة هي من الخبيث؛ إذ هي نتاج ما
تولدت عنه، وهي محرمة في الأصل كالسرقة، والغصب، والاختلاس، والقمار،
ودور الدعارة.... إلخ.
وكذا قوله تعالى: [وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ] (البقرة: 267) ،
وإن كانت الآية في سياق الصدقات، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يعمد إلى أرذلها
فيتصدق به وهو قادر على الأفضل منها؛ ولكن القاعدة الأصولية تقرر أن «العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» [19] ؛ فيكون داخلاً في الآية عدم جواز الإنفاق
من المال الحرام.
ومن الأدلة أيضاً: [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ] (البقرة: 188) ،
وقوله: [بِالْبَاطِلِ] هنا بمعنى الحرام، وهو ثلاثة أقسام:
- محرم لعينه: كالخمر، ولحم الخنزير.
- ومحرم لوصفه: كالربا.
- ومحرم لكسبه: كالغصب [20] . و (تبييض الأموال) يدخل في هذا القسم.
وقد قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: «والمعنى لا يأكل بعضكم مال
بعض بغير حق، فيدخل في هذا القمار والخداع والغُصوب وجحد الحقوق، وما لا
تطيب به نفس مالكه، أو حرَّمته الشريعة وإن طابت نفس مالكه، كمهر البغي أو
حُلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك» [21] .
وأما من السنة فكثير كذلك، فمنه ما صح من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود ثلاثاً؛ إن الله حرم
عليهم الشحوم فجمَّلوها وباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرَّم ثمنه»
[22] .
وجه الاستشهاد: بيان بطلان كل حيلة يتوصل بها إلى محرَّم، وأنه لا يتغير
حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه [23] .
وكذا ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لعن النبي صلى الله
عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها،
والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له»
[24] .
دل الحديث على أن الحرمة غير مقصورة على العين الواقع عليها التحريم؛
بل ينسحب التحريم على ما سواها، فيشمل كل وسيلة إليه أو ما تولد عنه.
وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «من
جمع مالاً من حرام ثم تصدق به؛ لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه» [25] .
والحديث وإن كان ضعيفاً فمعناه صحيح بأحاديث أخرى، ووجه الاستشهاد
منه أن الكسب الأخروي لا يُنال بوسيلة محرمة، وإذا كان هذا في الآخرة فالدنيا لها
تبع.
ومثله في الحديث الآخر: «لا يكسب عبد مالاً حراماً، فيتصدق به فيُقبل
منه، ولا ينفق منه فيبارَك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار،
إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا
يمحو الخبيث» [26] .
والحديث صح بمعناه في أحاديث كثيرة كذلك، والشاهد من الحديث قوله:
«إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ» ، وقوله: «إن الخبيث لا يمحو الخبيث» ،
ووجه الاستشهاد أن المعنى في ذلك: إن الله لا يمحو السيّئ من العمل في مقابل
السيّئ من المال، وكذا الخبيث من المال لا يمحو الخبيث من العمل. وإنما يُمحى
السيئ من العمل بالحسن من المال، ومن هذا الباب قوله تعالى: [إِنَّ الحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] (هود: 114) .
ولعل فيما ذُكر من الأدلة غُنية وكفاية إن شاء الله تعالى.
وفيما يلي نذكر بعض القواعد الفقهية التي استنبطها الفقهاء على ضوء تلك
الأدلة. فمن تلك القواعد:
1 - «الضرر يُزال» [27] .
وهذه القاعدة برُمَّتها؛ إحدى القواعد الكبار التي تندرج تحتها قواعد كثيرة،
وهي تدل بمفهومها وبمنطوقها على أن ما لحق به وصف الضرر أنه تجب إزالته،
وتبييض الأموال من هذا الباب.
2 - «إذا سقط الأصل سقط الفرع» [28] .
والقاعدة تفيد بطلان الفرع إذا بطل الأصل، يبين هذا القاعدة التالية.
3 - «التابع تابع» [29] ؛ حيث تفيد أن الفرع يتبع حكم الأصل.
وعلى ذلك؛ فإن نتاج المال الحرام يأخذ حكم ما نتج عنه وهو الحرمة، وذلك
أن الأموال المحرمة نتاج جرائم محرمة في الأصل فتبعتها في الحكم؛ وعليه تفيد
القاعدة الأولى أن جميع العقود والمعاملات الناتجة من تلك الأموال تسقط، ولا
تكون منتجة لآثارها المباحة شرعاً.
4- «ما حرم أخذه حرم إعطاؤه» .
ومعنى القاعدة أن الشيء المحرم الذي لا يجوز لأحد أن يأخذه ويستفيد منه؛
يحرُم عليه أيضاً أن يقدمه لغيره ويعطيه إياه؛ سواء كان على سبيل المنحة ابتداءً
أم على سبيل المقابلة؛ وذلك أن إعطاء الغير عندئذ يكون من قبيل الدعوة إلى
المحرم أو الإعانة والتشجيع عليه، فيكون المعطي شريك الفاعل، ومن المقرر
شرعاً أنه كما لا يجوز فعل الحرام فلا يجوز الإعانة والتشجيع عليه؛ لقوله تعالى:
[وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان] (المائدة: 2) .
5 - «الحريم له حكم ما هو حريم له» [30] ؛ يريد ما لا يتم المحرم إلا به فهو
محرم، وأن الوسائل المفضية إلى الحرام محرمة كذلك.
وهكذا نرى تقارب تلك القواعد مع بعض الفروق في بعضها، وبعضها تدور
على نفس المعنى واللفظ.
* المبحث الخامس: حكم الأموال الناتجة عن المعاملات المختلف فيها؛ من حيث
الحرمة والإباحة:
ينبغي أن يُقال في هذا الموضع: «إنه ليس كل ما اعتقد فقيه معيَّن أنه حرام
كان حراماً، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس
مرجح لذلك، وما تنازع فيه العلماء رُدَّ إلى هذه الأصول. ومن الناس من يكون
نشأ على مذهب إمام معيَّن، أو استفتى فقيهاً معيَّناً، أو سمع حكاية عن بعض
الشيوخ، فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك، وهذا غلط» [31] .
بعد ذلك نقول: إن المعاملات المختلف فيها بين أهل العلم قسمان:
1 - ما كان الخلاف فيه قوياً بحيث لم يصادم نصاً أو إجماعاً؛ بحيث تكون
الخلافات في الدلالات المستنبطة، أو تعارض ظواهر الأحاديث، وذلك أغلب سبب
اختلاف أهل العلم، كثمن الكلب، وثمن الحجامة، وكعقد بيع المعاطاة، وكعقد
المزارعة، وعقد المساقاة [32] ... ونحو ذلك.
2 - ما كان الخلاف فيه ضعيفاً، وقد بيَّن السيوطي حقيقة الخلاف الضعيف
غير المعتبر؛ من خلال شروط ثلاثة اشترطها في مراعاة الخلاف المقبول عند
الفقهاء، وهي:
1 - ألا تؤدي مراعاة الخلاف إلى الوقوع في خلاف آخر.
2 - ألا تؤدي مراعاة الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
3 - أن يكون الخلاف مما قوي مَدرَكُهُ؛ بحيث لا يُعَدُّ هفوة من قائله [33] .
وأمثلة هذا القسم: بيع العينة، وكبيع المرابحة للآمر بالشراء لكونه من بيع
ما لم يُملَك، كما أن الربا داخل فيه بصورته الحالية، وكمذهب عطاء في جواز
الاستمتاع بعارية الجواري قياساً على الاستمتاع بعارية الأعيان، وذلك قياس مع
الفارق بل هو زنا.
ومثاله في وقتنا: ما ذهب إليه الشيخ مصطفى الزرقا من إباحة التأمين بجميع
صوره؛ مخالفاً بذلك أصول الشريعة وقواعدها التي تحرم كل معاملة يدخلها القمار
والغرر، فخلاف الشيخ مصطفى في هذه المسألة ضعيف؛ لأن الحرمة فيه ظاهرة؛
فإن عقد التأمين من عقود المعاوضات المالية القائمة على الاحتمال المشتمل على
الغرر الفاحش [34] .
ويترتب على ذلك: أن كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد
لإمام، أو اتباع لبعض أهل العلم؛ فإن الأموال المكتسبة المقبوضة حلال وليس
عليهم إخراجها، فإن تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في تقليدهم، أو أن الذي
أفتاهم كان مخطئاً؛ فإنهم كذلك لا يكلفون بإخراج ما اكتسبوه، وإنما يُكلَّفون
بالانتهاء عن تلك المعاملات فيما يُستقبل [35] .
فالتأويل عذر يَسقُطُ به الإثم بشرط ألا يصادم نصّاً يفيد التحريم بصريح
الدلالة كالربا، والخمر ... ونحو ذلك.
ومن آثار ذلك أن الحرام لكسبه إذا اختلط بالحلال لم يُحَرِّمه، وهذا أصل نافع؛
فإن كثيراً من الناس يتوهَّم أن الدراهم المحرَّمة إذا اختلطت بالدراهم الحلال حَرُم
الجميع؛ فهذا خطأ. وإنما تورَّع بعض العلماء فيما إذا كانت قليلة، وأما مع الكثرة
فما أعلم فيه نزاعاً [36] .
ومن ذلك أيضاً أن المسلم إذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها وقَبَض المال؛
جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال وإن لم يعتقد هو جواز تلك
المعاملة [37] .
* المبحث السادس: أسباب إباحة تملك المال الحرام:
1 - (الجهل) : فالجهل عذر مؤثر في رفع الإثم والعقوبة، وليس ذلك
مطَّرِداً في جميع أنواع الجهل، بل المقصود الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة،
وما لا يتعذر عنه ولا يشق لم يُعف [38] . فلو كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ
ببادية بعيدة ولم يَعلَم حكم الخمر؛ فإن ماله حلال قبل العلم، فإذا علِم حَرُم. وكذا
الرجل يجد اللُّقطة هي من أصل حرام وهو يجهل ذلك.
2 - (الإسلام) : فإن الرجل إذا أسلم كان ما معه من المال حلال وإن كان
نتاج معاملة محرَّمة، يدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه: عن عروة بن
مسعود الثقفي رضي الله عنه: كان المغيرة بن شعبة صحب قوماً في الجاهلية،
فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما
الإسلام فأقبل، وأما المال فلستُ منه في شيء» [39] . فامتناع الرسول صلى الله
عليه وسلم عن تخميس هذا المال وتركه في يد المغيرة دلَّ على تمليكه له بالأخذ.
وروى البيهقي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول في
أهل الذمة: «لهم ما أسلموا عليه من أموالهم وعبيدهم وأرضهم وماشيتهم؛ ليس
عليهم فيه إلا الصدقة» [40] .
وقد أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق كثير من المشركين،
ودخلوا في دين الله أفواجاً، ولم يسأل أحداً منهم عن مصدر كسبه، ولا عن الأموال
التي حازوها: أمِن حلال هي أم من حرام؟ بل أقرهم على أموالهم وأنكحتهم [41] .
3 - (الاستحالة) : فإن زوال علة التحريم في المال موجبة لزوال حكم
التحريم؛ إذ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً؛ وعليه فلو وهب المغصوب منه
للغاصب ما غصبه أو سرقه حل له الانتفاع بذلك المال، وكذا لو استحال عين المال
كأن ينقلب خَلاًّ (بدون فعل فاعل) ؛ فإنه يجوز الاتجار في ذلك.. وهكذا.
4 - المال المأخوذ بأمر شرعي ممن لا حرمة له؛ كالمال المتحصل من جهاد
الكفار الذين لا أمان لهم مع المسلمين ولا عهد كالغنائم، وكالجزية المضروبة على
أهل الذمة؛ مع أنه يدخل في كسبهم نتاج لحم الخنزير والخمور والربا وغير ذلك
من المحرمات.
يدل على ذلك ما روي من أن بلالاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن
عمالك يأخذون من الخمر والخنزير في الخراج، فقال: «لا تأخذوا منهم، ولكن
ولُّوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن» .
قال راوي الحديث: أبو عبيد: «يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل
الذمة الخمر والخنزير من جزية رؤوسهم وخراج أراضيهم بقيمتها ثم يتولى
المسلمون بيعها. فهذا الذي أنكره بلال ونهى عنه عمر، ثم رخَّص لهم أن يأخذوا
ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة هم المتولين لبيعها؛ لأن الخمر والخنزير مال من
أموال أهل الذمة، ولا تكون مالاً للمسلمين» [42] .
* المبحث السابع: الفرق بين حقوق الله وحقوق المخلوقين في المال الحرام:
الأموال المحرمة المقبوضة على قسمين:
1 - قبضُها بغير إذن صاحبها ولا إذن الشارع، وهذا هو الظلم المحض:
كالسرقة، والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم.
2 - قبضُها بغير إذن الشارع ولو أذن صاحبها وهي العقود والقبوض
المحرَّمة: كالربا، والميسر ونحو ذلك، والواجب على من حصلت بيده ردُّها إلى
مستحقها، فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم، وقد دلَّ على ذلك قول النبي صلى
الله عليه وسلم في اللقطة: «فإن وجدت صاحبها فارددها إليه، وإلا فهي مال الله
يؤتيه من يشاء» . فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللُّقطة التي عرف أنها ملكٌ
لمعصوم وقد خرجت عنه بلا رضاه إذا لم يوجد؛ فقد آتاها الله لمن سلطه عليها
بالالتقاط الشرعي [43] .
وتقريراً لذلك نقول: إن المال المحرَّم ما كان منه في حقوق الله كالسرقة من
مال عام، وكالرشوة، والتزييف، والمخدرات، والربا، وفي الجملة: كل ما حرم
لعينه كالخنزير والخمر، أو بوصفه كالربا، فهذه ليس لها مالك معين خاص، أو
كانت نتاج محرم تراضى عليه المتعاقدان، فالحكم الشرعي في ذلك كله مصادرة
الأموال المتحصلة من تلك المعاملات وتعزير صاحبها [44] .
أما الحقوق الخاصة بالمخلوقين كالسرقة لملك إنسان بعينه، أو غصب مال
شخص ونحو ذلك، فهذا إن عُرف صاحب المال وإلا صُرفِ في مصالح المسلمين
[45] .
وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدول، فالمال المرحَّل نتيجة معاملات
محرمة هو من حق الدولة التي رُحِّل المال منها؛ دليله قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] (النساء: 58) .
* المبحث الثامن: طبيعة جريمة تبييض المال الحرام:
لقد جرى أو يجري الخلاف في طبيعة جريمة (تبييض الأموال المحرَّمة) ؛
من حيث كونها جريمة أصلية أو تبعية، والذي يظهر أنها أصلية من حيث الصورة؛
إذ لم يُسبق إليها؛ فهي جريمة منظمة ذات أنماط حديثة، وهي في الوقت نفسه
تبعية من حيث إنها تستمد حكمها الشرعي الموصوف بالتحريم مما تولدت عنه،
ويتبين ذلك بما يلي:
إن الشرع عندما يحكم على المال بوصف شرعي يتناول الحل والحرمة؛ فإنا
نجده ينظر إلى ما يستتبعه هذا المال؛ فإن كان في مقابل محرم، أو نتاج محرم:
اكتسب وصف الحرمة، وإن كان في مقابل مباح أو نتاج مباح: اكتسب وصف
الحل، فعلى هذا فحكم المال تابع لحكم عِوَضِه أو ما تولد عنه، وهذا يندرج تحت
القاعدة الشرعية السابق ذكرها (التابع تابع) ، فالمال تجري عليه الأحكام الخمسة:
وهي الإباحة، والإيجاب، والتحريم، والكراهة، والندب. فهو منُوط بأحد هذه
الأحكام بحسب ما يستتبعه.
وبناءً على ذلك فعملية (تبييض الأموال المحرمة) وهي جعل الأموال
المتولدة عن جرائم محرمة، مباحة في الظاهر جريمة أصلية، وذلك أن ما هو ناتج
عنها مقصود [46] منها هذا المال بقصد الاتجار به [47] ، فمثلاً من كان يأخذ الأجرة
على الزنا فإنه قاصد للمال من تلك المنفعة المحرمة فحسب.
أما الذي يبيض الأموال فهذا قاصد للمال من أجل الاتجار به في سلعة مباحة،
فخرج المال الحرام بذلك من كونه فرعاً إلى كونه أصلاً [48] .
فكون المال محرماً لا يجعله جريمة تبعية من حيث الحكم بل من حيث
الصورة، فالربا جريمة مستقلة في الشريعة وهي مالية، والرشوة جريمة مستقلة
وهي مالية كذلك، والقمار جريمة مستقلة وهي مالية أيضاً.
وذلك - والعلم عند الله - لاختلاف القصد والوسيلة والصورة، وذلك سبب
في اختلاف الاسم، والاختلاف في الاسم اختلاف في المسمى ضرورة ولو بوجه
من الوجوه؛ وذلك سبب في اختلاف الأحكام التعزيرية.
بالإضافة إلى ذلك فإن جريمة تبييض الأموال القذرة هي من (الجرائم
المركبة) ؛ أي الجريمة المتولدة عن جريمة أخرى، وكونها مركبة لا يعني ذلك
جعل عقوبتين منفصلتين على كل من تورَّط بجريمة المال القذر إلا إذا تيقَّنَّا تورُّط
الشخص نفسه في الجريمة الأصلية أيضاً؛ إذ قررنا آنفاً أن جريمة تبييض الأموال
جريمة مستقلة ذات صورة مميزة لا تدخل تحت حكم الأصل الذي نشأت عنه،
وعلى هذا الأساس يختلف النظر في الحكم التعزيري بين المال المحرم المتَّجَرِ فيه
وبين الأصل المحرَّم الذي تولَّد عنه ذلك المال.
يبقى بعد ذلك أن صاحب الشأن في تحديد العقوبة المناسبة هو الحاكم؛ إذ إن
هذه الجريمة هي في العقوبات من باب التعازير، ومعلوم أن جريمة تبييض الأموال
لا يمكن ضبطها تحت عقوبة واحدة تنتظم جميع صورها؛ إذ إن الحادثة الواحدة
وإن تعدَّدت صورُها فلا بد أن تختلف في الوصف والمقدار، وبحسب اجتهاد
القاضي فإنه يوقع العقوبة التي يُظن معها أنها أردع للجاني والأقرب إلى تحقيق
قصد الشارع، وليس بالضرورة أن يكون حكمه في حادثة منها هو الحكم نفسه في
كل ما هو من جنسها، بل يُراعى في ذلك عدة أمور كنوع الجناية وقدرها،
والفاعل لها، والوقت الذي وقعت فيه [49] ، وكذا المكان، وشواهد الحال المحيطة
بالمتهم، وأوصاف المتهم في قوة التهمة وضعفها، وهكذا [50] .
وفي ختام هذا البحث أشير إلى أمر مهم للغاية وهو: أن الكسب الخبيث غير
مقتصر على المخدرات، أو القمار، أو الدعارة ... إلخ، بل يُعَد مالاً حراماً كل ما
كان من كسب حرام، وإنما تشتكي معظم الدول من عمليات تبييض المال القذر؛
لأن المال يرحَّل منها بالدرجة الأولى، والمال لا يتم ترحيله إلا لأنه نتاج عمليات
تمنعها أنظمة تلك الدول، ولكن ما بال بقية الأموال المستثمرة في داخل تلك الدول
نفسها وتتمتع بكامل الحرية، بل وقد يتم تقنينها في نفس الأمر كالبنوك الربوية،
وكالمؤسسات الإعلامية بجميع وسائلها المرئية والمسموعة والمقروءة، وكالمكوس
المسماة في النظام بالضرائب، والرسوم وغير ذلك كثير مما يضيق عنه الحصر؟!
كما أنَّا نجد النظام الغربي كذلك يقصر المال الحرام على صور خاصة، ولا
يطردون ذلك في كل مال لم يأت من وجه مباح كما في شريعة الإسلام؛ فهم
يقصرون قذارة المال: على المخدرات، وبيوت الدعارة، وبيع السلاح.. بمعنى
كل ما يجرمه النظام من الأكساب الممنوعة لديهم فإنه مال قذر عندهم، ولكنهم
كعادتهم يُفرقون بين المتماثلات؛ فلا تجدهم يمنعون الربا مثلاً بل يقرُّونه ويقننونه،
وكالضرائب، وأثمان الخنازير والخمور والكلاب، وكصالات القمار وآلاته وغير
ذلك كثير.
أما الشرع فهو يفرق بين المختلفات ويجمع بين المتماثلات؛ فهو إذا حرم
أمراً لعلة حرم جميع ما تضمنته هذه العلة كالربا.
أما ذوو العقول القاصرة بلهَ العقيمة فقد سوَّوْا بين المختلفات في ذلك فقالوا:
[إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا] (البقرة: 275) ، فجعلوا الربا أصلاً، والبيع فرعاً عنه؛
فهم قد بلغوا في الانتكاس إلى الغاية التي انقلبت معهم فيها موازين الأشياء؛ فهم
لا يزنون بالميزان الشرعي الأخروي، وإنما بالميزان العقلي الدنيوي، [أَفَحُكْمَ
الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة: 50) .
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، واليقين فيهما. وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
__________
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 133، طبعة دار الكتاب العربي.
(2) وبعض العلماء ذهب إلى تقسيم المكاسب باعتبار موادها فقسَّمها إلى ثلاثة أقسام: الزراعة، والصناعة، ونتاج الحيوان، كما هو عند الإمام الماوردي في كتابه (أدب الدين والدنيا) ، ص 336، طبعة دار ابن كثير، دمشق، بيروت - ومن العلماء من جعلها هكذا: الإجارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة، ومعلوم أن الإجارة والتجارة فرعا الزراعة والصناعة، كتاب (الكسب) ، لمحمد بن حسن الشيباني، ص 140، طبعة دار البشائر، فرجع الأمر إلى ما ذكره الماوردي رحمه الله.
(3) معجم مقاييس اللغة، ص 424، لأحمد بن فارس بن زكريا، ت/ عبد السلام هارون، طبعة دار الجيل.
(4) أي اسم الفعل.
(5) لسان العرب، لابن منظور، (11/ 494) ، طبعة دار صادر.
(6) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، للسمين الحلبي، طبعة عالم الكتب.
(7) القاموس المحيط، للفيروزبادي، ص 1368، طبعة مؤسسة الرسالة.
(8) يعني الأشياء.
(9) لسان العرب، لابن منظور، (11/ 636) .
(10) ذكر السيوطي في كتابه القيم (الأشباه والنظائر) التفريق بين المال والمتموَّل، فذكر عن الشافعي أن اسم المال لا يقع إلا على ما له قيمة يباع بها، وتَلزمُ متلِفَهُ وإن قلَّت (أي قيمته) ، وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك، وأما المتموَّل فذكر الشافعي له ضابطين: أحدهما: أن كل ما يقدرَّ له أثر في النفع فهو متموَّل، وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلَّته خارج عما يُتموَّل، الثاني: أن المتمول هو الذي تعرِض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن المتموَّل: هو الذي لا يَعرِضُ فيه ذلك، ص 533.
(11) بواسطة كتاب: (طريق الوصول إلى العلم المأمول) ، للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص 21.
(12) الطراز المتضمِّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، للسيد يحيى بن علي العلوي اليمني، ص 202، طبعة مكتب المعارف، الرياض.
(13) هذا التعريف شرحه يطول، ولكن لعل المراد يستبين بالأمثلة فيما يستقبل.
(14) المصدر السابق، ص 245.
(15) الموافقات، للشاطبي، (2/ 17 - 18) ، طبعة دار عفان.
(16) المصدر السابق، (2/ 21) .
(17) المصدر السابق، (2/ 22) .
(18) المصدر السابق، (2/ 18) .
(19) تقنين أصول الفقه، الدكتور محمد زكي عبد البر، ص 182، طبعة مكتبة دار التراث.
(20) الشرح الممتع على زاد المستقنع، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، (2/ 150) ، طبعة مؤسسة آسام.
(21) الجامع لأحكام القرآن، للإمام محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، المجلد الأول، (2/ 338) ، طبعة دار الكتاب الإسلامي.
(22) رواه أبو داود في سننه.
(23) معالم السنن (شرح سنن أبي داود) ، للإمام الخطابي، المجلد الثاني، (3/ 114) ، طبعة دار الكتب العلمية.
(24) أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أنس بن مالك، بواسطة كتاب (غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام) ، للألباني رحمه الله، ص 54، طبعة المكتب الإسلامي.
(25) رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة، بواسطة المصدر السابق، ص 28، والحديث ضعفه الألباني.
(26) المصدر السابق، ص 29، والحديث ضعيف، أخرجه أحمد، والطبراني، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
(27) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 173.
(28) القاعدة التاسعة والأربعون، شرح القواعد الفقهية، للشيخ أحمد محمد الزرقا، ص 263، طبعة دار القلم، دمشق.
(29) القاعدة السادسة والأربعون، المصدر السابق، ص 253.
(30) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 240، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي.
(31) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (29/ 315) .
(32) أحكام المال الحرام، ص 110، الدكتور عباس أحمد الباز، طبعة دار النفائس.
(33) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 258.
(34) أحكام المال الحرام، ص 115 - 117.
(35) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (29/ 265) ، (29/ 411 - 413) .
(36) مجموع الفتاوى، (29/320 - 321) .
(37) المصدر السابق، (29/ 318 - 319) .
(38) الفروق، للقرافي، (2/ 149 150) ، طبعة دار عالم الكتب، بيروت.
(39) فتح الباري، لابن حجر، (5/ 389) ، طبعة دار الفكر، بيروت.
(40) السنن الكبرى، للبيهقي، (9/ 113) ، طبعة دائرة المعارف العثمانية.
(41) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (1/ 345) ، طبعة دار العلم للملايين.
(42) كتاب الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، ص 52، طبعة دار الفكر.
(43) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، (4/ 201) .
(44) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 247 - 248، طبعة مكتبة السنة المحمدية.
(45) أحكام المال الحرام، 357.
(46) هذا هو القصد الأولي، وهو وسيلة إلى المقصود الثاني؛ إذ لا يمكن التوصل إليه إلا بالمقصود الأول.
(47) هذا هو القصد الثاني، وهو الهدف الأساس من العملية كلها.
(48) أي أن المال المتحصل من معاملة محرمة ينسحب عليه وصف الحرمة؛ لكون أصله محرماً فصار فرعاً له بهذا المعنى، أما في عملية (غسيل الأموال) فإن هذه الأموال تكون أصلاً لما ينشأ عنها من الاتجار في المباحات، فهي فرع لما فوقها أصل لما دونها، فعملية (غسيل الأموال) بهذا تكون جريمة مركبة.
(49) المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله قسم الفقه م/ 2، (4/ 555) ، طبعة مركز صالح بن صالح الثقافي.
(50) السياسة الشرعية، لابن نجيم الحنفي رحمه الله: 39، طبعة دار المسلم.(182/6)
دراسات في الشريعة
آخر الزمان بين المبشرات والمنفرات
الربيع بن إبراهيم مليحي
الحديث عن فضائل آخر الزمان ومساوئه من زاوية تربوية بات أمراً ملحاً،
ومطلباً شرعياً مهماً، ومن هذا المنطلق أحاول فتح هذا الباب المهم الذي يعطي
تصوراً صحيحاً للمستقبل من خلال النصوص الشرعية، أمام دراسات جادة وقوية
بإذن الله تعالى.
* ما المراد بآخر الزمان؟
آخر الزمان: أي آخر زمان الدنيا الذي يكون بين يدي الساعة، ولعل أوله
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الحديث الذي رواه أبو جبيرة
مرفوعاً: «بُعثت في نسم الساعة» [1] ، ومعنى «في نسم الساعة» ، قال في
النهاية هو من النسيم؛ أي أول هبوب الرياح الضعيفة؛ أي بُعثت في أول أشراط
الساعة وضعف مجيئها، وقيل هو جمع نسمة؛ أي بُعثت في ذوي أرواح خَلَقَهم الله
قبل اقتراب الساعة، كأنه قال في آخر البشر من بني آدم [2] ، ويؤيد ما سبق
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بعثت أنا والساعة كهاتين يعني إصبعين» [3] . أما نهاية آخر الزمان فهي خراب
الدنيا وقيام الساعة.
* شرور آخر الزمان (المنفرات) :
تظهر في آخر الزمان مساوئ كثيرة جداً، وردت بها السنة النبوية، وجمعها
العلماء في كتب أشراط الساعة، وأحاول في هذه المقالة المتواضعة من خلال
النصوص الوقوف على بعضها.
أولاً: ما رواه أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما،
قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة أياماً ينزل فيها
الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْج. والهَرْج القتل» [4] .
ثانياً: ما رواه أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا،
ويُشْرَب الخمرُ، ويذهب الرجال وتبقى النساء؛ حتى يكون لخمسين امرأة قيِّم
واحد» [5] .
ثالثاً: ما رواه أبو مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر
والمعازف..» [6] .
تضمنت هذه النصوص مجموعة من المساوئ التي تكون في آخر الزمان،
ويرتبط بعضها ببعض، وهي كما يلي:
1 - فُشُوُّ الجهل وقلة العلم، وقد بدأ النقص في العلم من بعد أن أكمل الله
الدين وأتم النعمة، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل، ولا
يزال ينقص إلى أن يُرفع بالكلية، كما ثبت ذلك في الحديث الذي رواه حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدرس
الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا صدقة،
ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من
الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله؛
فنحن نقولها» [7] ، أما السنة المطهرة فإنها تُرَدُّ ولا تُقبل، كما في حديث أبي رافع
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئاً
على أريكته يأتيه أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري؛ ما وجدنا
في كتاب الله اتبعناه» [8] ، وقد ظهر هذا النقص في هذا الزمن بصورة واضحة
جداً؛ حتى جهل أكثر الناس المعلوم من الدين بالضرورة، ومن تأمل النصوص
ونظر في الواقع أدرك أن هذا النقص إنما هو نتيجة حتمية لأسباب كثيرة؛ لعل من
أبرزها ما يلي:
1 - موت العلماء، ويدل عليه ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي
الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض
العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم
يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً؛ فسُئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا»
[9] .
2 - عدم الإخلاص في طلب العلم، ويدل عليه ما رواه أبو هريرة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اتُخذ الفيء دولاً والأمانة
مغنماً..» الحديث، وفيه: «وتعلم العلم لغير الدين» [10] .
وقد حصل هذا عندما رُبط العلم الشرعي بالمال في كثير من البلاد، فنزع الله
منه الخشية والبركة والنفع والعمل إلا ما شاء الله فمات العلم في القلوب، فهو لا
يتجاوز التراقي والحناجر، وقد شهد هذا الزمن موت كثير من العلماء الربانيين
الذين كانوا منارات يُهتدى بها من ظلمات الشهوات والشبهات، كما شهد الرؤوس
الجهال الذين يتجرؤون على الفتوى بغير علم، والله المستعان، ولا يزال يشهد
مظاهر ضعف العلم ونقصه في التماس العلم عند الأصاغر، واتخاذ القرآن مزامير،
وتقديم الرجل ليس بالفقيه ولا العالم ما يُقدم إلا من أجل صوته.. ونحو ذلك.
3 - تقديس العقل والمصلحة، وتقديمهما على النصوص الجلية من الكتاب
والسنة، وهو تيار ظاهر له مدارسه ومنظروه وقادته ومفكروه.
4 - الحرب ضد تعلم الدين، وسياسة تجهيل الشعوب بالإسلام تحت ستار
مكافحة الإرهاب، ومن مظاهر ذلك تغيير المناهج وتقليص مواد الدين، وقفل
المعاهد والمدارس الشرعية، ومضايقة أهل السنة ودعم أهل البدعة، ونحو ذلك
مما يساهم في إبعاد الناس عن العلم الشرعي، ومما يدل على ذلك ما رواه عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَلي
أموركم بعدي رجال يُطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن
مواقيتها. فقلت: يا رسول الله! إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم
عبد كيف تفعل؟ ! لا طاعة لمن عصى الله» [11] .
2 - فشو الزنى وكثرته؛ حتى أصبحت تجارة البغاء تشكِّل ربحاً هائلاً
ومورداً ضخماً من موارد المال في بعض البلاد، وقد هيأ المجرمون وسائله
ودواعيه حتى أصبح أسهل مما يتصور، ولا يزال يزداد ويكثر حتى تموت الغيرة
في النفوس، وتسقط آخر مرتبة من مراتب الإنكار، فيُقارف الزنى علانية على
قارعة الطريق، كما ثبت في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لا تفنى هذه الأمة حتى
يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو
واريتها خلف هذا الحائط» [12] .
وكما ثبت أيضاً في الحديث الذي رواه النواس بن سمعان رضي الله عنه وفيه:
«ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة» [13] ،
وكما ثبت أيضاً في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق
تسافد الحمير. قلت: إن ذلك لكائن؟ قال: نعم ليكونن» [14] .
3 - ظهور الأغاني والمعازف. قال الأستاذ مصطفى أبو النصر شلبي:
«وأما ظهور المعازف آلات الملاهي واستحلالها فحدِّث ولا حرج؛ فقد وقعت
هذه العلامة في العصور السابقة، وهي الآن أشد انتشاراً وتنوعاً، وقد استهان
بحرمتها كثير من الناس، بل ممن ينتسبون إلى أهل العلم، نسأل الله السلامة،
وبات التهديد بالمسخ والقذف والخسف قريباً، ما دامت الأمة لاهية تستحل ما
حرَّم الله عليها من تعاطي أسباب الفسق والفجور» [15] .
وقد ازداد هذا البلاء حتى تجاوز مرحلة السماع والاستمتاع إلى التقنين
والتقعيد، والتخطيط والتنظيم، وجلب الخبراء، وفتح المعاهد، وصياغة المناهج؛
حتى أصبحت فناً يدرَّس وعملاً يمارس؛ فأي ظهور بعد هذا الظهور؟!
4 - استحلال الخمر وكثرة شربها وتداولها بين الناس؛ حتى أصبحت أمراً
مألوفاً يقدم مع الطعام، ويوزع في الفنادق، وهو نديم المسافر في رحلاته، ورفيق
الضال في سهراته وخلواته، وتلحق به المخدرات بجميع أنواعها التي ابتليت بها
البشرية فأصبحت شبحاً يهدد أمن الدول وحياة الأفراد.
5 - الاستخفاف بالدم (كثرة القتل) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في
الحديث: «بادروا بالأعمال خصالاً ستاً ... » الحديث، وذكر منها: «واستخفافاً
بالدم» [16] ، وقد استخف الناس اليوم بالدم عندما مكنوا المجرمين من قيادة الأمم؛
حيث أشعلوا الحروب الطاحنة في كل مكان، ويزعمون أنهم دعاة سلام، ومن
الاستخفاف الخفي بالدم تلك الفتاوى التي تحل قتل الدعاة والعلماء وغيرهم من البشر
بغير ذنب، ومن تأمل النصوص الواردة في هذا الشأن استطاع أن يضع يده على
الأسباب الحقيقية لفشو تلك الظاهرة الخطرة، وهذه بعض تلك الأسباب أضعها بين
يدي القارئ مقرونة بأدلتها:
* الأشر والبطر، والتكاثر، والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد إلى
درجة القتل، ويدل على ذلك ما رواه أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: «سيصيب أمتي داء الأمم. فقالوا: يا رسول الله! وما داء
الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر، والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد
حتى يكون البغي» [17] .
* غياب العقول وضعفها، كما ثبت في حديث أبي موسى الأشعري رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة
الهَرْج ... » الحديث، وفيه: «حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل
عمه، ويقتل ابن عمه. قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: إنه لينزع عقول
أهل ذلك ويخلف لهم هباءً من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على
شيء» [18] .
رابعاً: ما رواه طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها
على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم»
[19] ، تضمن هذا الحديث ستة أمور كلها تحتاج إلى وقفات وتأمل؛ إلا أنني
سأقف مع واحدة فقط من هذه الست؛ هي فشو العقوق وقطيعة الرحم؛ حيث
تظاهرت النصوص على كثرته في آخر الزمان، ومن ذلك الحديث الذي رواه أبو
هريرة مرفوعاً: «إذا اتُّخِذَ الفيء دولاً» وذكر فيه: «وأطاع الرجل امرأته،
وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه» [20] ، ومن ذلك الحديث الذي تقدم:
«بادروا بالأعمال خصالاً ستاً» وذكر منها: «وقطيعة الرحم» [21] ، ومن
ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مراتب الدين، وفيه: «إذا ولدت الأمة
ربتها» [22] ، وقد فُسِّر بعدة أقوال؛ من أحسنها ما رجحه الأستاذ مصطفى أبو
النصر الشلبي في صحيح أشراط الساعة، وهو أن ذلك كناية عن كثرة العقوق في
الأولاد [23] .
وفي هذا الزمن ظهر العقوق، وتعددت أنواعه، واستهلكت مراتبه كلها؛ من
كلمة التضجر (أف) إلى الاعتداء على النفس والمال والعرض.. والله المستعان.
وقد ظهر اليوم عقوق يتفق مع حضارة هذا الزمن وتقدمه؛ نتيجة لغياب
الرؤية الشرعية السليمة، ومن مظاهره ما نراه اليوم من انقلاب مفهوم الخدمة؛
حتى أصبحت الأم المسنة تقوم بخدمة البنت الشابة بحجة المذاكرة والاختبارات،
فإذا فرغت من الدراسة وعملت بعد ذلك رمت أطفالها في حضن أمها لتستمر عملية
العقوق إلى ما شاء الله.
خامساً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل مؤمناً
ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا» [24] .
في هذا الحديث العظيم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمبادرة بالأعمال
الصالحة التي تكون حصناً قوياً من الفتن العظيمة المظلمة التي تكون بين يدي
الساعة، ومنها الفتنة في الدين؛ حيث يضعف التمسك به ويعز الثبات عليه لدرجة
أن العبد يتقلب بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر في اليوم الواحد؛ حتى إنه
يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً.. ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
كما بين الحديث السبب الحقيقي لتلك الفتنة؛ وهو تعلق القلب بمتاع الدنيا
الزائل: «حتى يكون الدين الذي هو عصمة الأمر وطوق النجاة من عذاب الله
سلعة تباع بثمن بخس في عالم المادة والمناصب، وقد فشت هذه الفتنة واكتوت
بنارها الأمة، ورأى الدعاة والمصلحون من يلوي أعناق النصوص ليساير الواقع
ويرضي الطواغيت، ويقرب وجهات النظر، ويفتح مجالاً للحوار حتى في
المسلَّمات، و» يعطى تصوراً رائعاً بزعمه عن سماحة الإسلام وعدالته، ورأوا
ذلك التساقط المخيف على جنبات الطريق، ورأوا الردة الجماعية التي تزداد بزيادة
الدعوة إلى التنصير، ورأوا تلك التبعية الممقوتة، وذلك التقليد الأعمى الذي يعد
مظهراً من مظاهر تلك الفتنة، ومن نظر في واقع المسلمين اليوم؛ فإنه يدرك حجم
تلك التبعية التي صبغت الأمة الإسلامية من رأسها إلى أخمص قدميها؛ حتى قلدت
الكفار في كل شيء؛ ابتداءً من كرسي الحكم وانتهاءً بكرسي الحمام، وقد أخبر
الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان
قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع؛ حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لتبعتموهم. قلنا: يا
رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!» [25] .
وستعظم هذه الفتنة بمظاهرها المختلفة حتى تعبد الأوثان، كما جاء في حديث
ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ... ولا تقوم
الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان»
[26] .
سادساً: ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع»
[27] . وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها
الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل:
وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» [28] ، واللكع هو
رديء الحسب والنسب الذي لا يُعرف له أصل، ولا يُحمد على خلق [29] ،
والرويبضة هو الرجل التافه كما فسره الحديث، والمراد من الحديث بيان فساد آخر
الزمان؛ حيث تختل المقاييس وتتقلب الموازين، فيتصدر الأمة من ليس لذلك بأهل،
ويتزعم القبيلة أفسقهم، ويسود القوم أرذلهم، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اتُّخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً،
والزكاة مغرماً ... » الحديث، وفيه: «وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم
أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره» [30] ، ومن تأمل الواقع وأمعن في النصوص
رأى سفينة الأمة تمخر عباب بحر متلاطم من الفتن والبلاء، يقودها الرجل التافه
بمجموعة كاملة من الفسقة والمجرمين.
* أخي المسلم!
إن الأمة لم تصل إلى ما وصلت إليه من ذلك الواقع السيئ إلا نتيجة أسباب
كثيرة؛ أشير إلى بعضها باختصار:
- فشو الجهل وقلة العلم، وقد مضى الكلام عليه.
- ضعف المسلمين في كثير من المجالات، وبُعْدهم عن مراكز التأثير ومواقع
القيادة؛ مما مكن أعداء الإسلام من السيطرة التامة على ذلك فأصبحوا قادة العالم
وصناع القرار، يضعون من يشاؤون في المكان الذي يشاؤون؛ فيضمنون بذلك
بقاء السيادة في أيديهم، فلا تتنقل إلا من لكع إلى لكع. وقد أخبر بذلك صلى الله
عليه وسلم كما في الحديث الصحيح مرفوعاً: «ليأتين عليكم أمراء يقرِّبون شرار
الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها؛ فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفاً،
ولا شرطياً، ولا جابياً، ولا خازناً» [31] . وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:
«بادروا بالأعمال خصالاً ستاً: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط ... » [32] ، ومن
أمعن النظر في الحديثين، وحاول أن يربط بينهما رأى عَلَماً من أعلام النبوة،
واستطاع أن يربط بين تلك النصوص الصحيحة وبين الواقع الذي يعيشه وهو يرى
الولاة يقربون العلمانيين والحداثين، ويزرعون الجلادين (الشرط) في كل بقعة
من البلاد، كل ذلك من أجل حماية النظم المفروضة، والمحافظة على منهجيتها
وعدم المساس بها بأي حال من الأحوال، ومن مظاهر هذا الوضع المخزي غياب
الوعي وضعف الرؤية الشرعية السليمة، حتى وجد في الأمة وبكثرة من يُلمِّع اللكع
ويشيد بالرويبضة، كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وفيه:
«حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة
من خردل من إيمان» [33] .
ومن المظاهر المؤلمة تداعي الأمم على الأمة الإسلامية، ونهب خيراتها،
والعبث بعقول أبنائها، كما في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها،
فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا؛ بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء
كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم
الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» [34] ،
وفي هذا الحديث إشارة إلى السر الحقيقي في ضعف المسلمين وتداعي الأمم عليها،
وأنه يكمن في ذواتهم، وهو حب الدنيا وكراهية الموت، وقد تعلقت القلوب في هذا
الزمن بالمال حتى عبدت الدينار والدرهم، وتعاملت بالربا، وانهمكت بالحرث
والزرع، وأوغلت في الترف، ونسيت الجهاد في سبيل الله؛ فتداعت عليها الأمم
ووقع الذل الذي لا يرفع إلا بالعودة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، ولن يكون ذلك
إلا إذا تعلقت القلوب بالله تعالى وحده، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بهذا الواقع، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم
بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى
ترجعوا إلى دينكم» [35] ، وقد عانت الأمة من ذل الاستعمار المفروض بالنار
والحديد، وهي اليوم تعاني أشكالاً جديدة منه؛ بسبب ما خلفه الكفار في الأمة من
ثقافاتهم وعاداتهم وقوانينهم التي تمارس من قبل الأمة الغثائية بطيب نفس، أو
تفرض عليهم فلا خيار لهم، والله المستعان.
سابعاً: ما خرجه الألباني في السلسلة الصحيحة: «إن من شرار أمتي الذين
غذوا بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب، يتشدقون بالكلام» [36] ،
والحديث واضح المعنى ولا يحتاج إلى بيان، لكنه يشير إلى قضية الترف التي هي
أخطر المراحل التي تمر بها الأمم؛ إذ ليس بعدها إلا السقوط، ولقد بلغت الأمة
اليوم حد الترف وأوج الرفاهية في كل مجالات الحياة؛ حتى أصبح الوضع ينذر
بالخطر، والله جل وعلا يقول: [حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ
أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ
بِالأَمْس] (يونس: 24) ، ومن مظاهر الترف التي تعيشها الأمة اليوم زخزفة
المساجد والبيوت، كما ثبت في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» [37] ،
وكما ثبت في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا
تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً يوشونها وشي المراحيل» [38] ، أي يخططونها
ويزخرفونها كما تخطط وتزخرف الثياب [39] .
فتأمل أخي المسلم كيف بلغ الترف هذا المبلغ العجيب في الطبقات الغنية،
والمتوسطة، وبعض الطبقات الفقيرة التي لا تجد أحياناً قيمة الضروريات؛ لكنها
تحاكي الآخرين تحت ضغط الواقع الاجتماعي المبني على المظاهر والكماليات!
* فضائل آخر الزمان (المبشرات) :
رغم كثرة المساوئ والمنفرات التي تقع في آخر الزمان؛ فإن هناك فضائل
ومبشرات كثيرة تفتح باب الأمل للمسلم، وتزيد في يقينه وثقته بنصر الله تعالى،
وقد جاءت تلك المبشرات في كثير من النصوص النبوية، وسأقتصر على بعضها
خشية الإطالة:
أولاً: ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى.
فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله:
[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 33) أن ذلك تاماً! قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء
الله» [40] ، وكذلك ما خرجه الألباني في الصحيحة: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ
الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو
بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر» [41] .
في هذين النصين الكريمين بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمة
ستعود إلى دينها بإذن الله تعالى، وسيدخل هذا الدين الحواضر والبوادي، وسيظهر
على الدين كله ولو كره المشركون، وذلك يوم تكون الأمة أهلاً لذلك تعمل للدين
وتضحي من أجله.
ثانياً: ما رواه أبو قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي
الله عنه وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رومية؟ الحديث، وفيه:
«فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً. يعني قسطنطينية»
[42] ، وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج لهم جيش من
المدينة..» الحديث، وفيه: «فيفتحون قسطنطينية» [43] . وما رواه أبو هريرة
أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سمعتم بمدينة جانب منها في
البر وجانب منها في البحر؟! قالوا: نعم يا رسول الله. قال: لا تقوم الساعة حتى
يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق» [44] ، الحديث رواه أبو هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود
فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر
والشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه شجر
اليهود» [45] .
هذه النصوص الكثيرة تبشر بعودة الجهاد في سبيل الله، وكثرة الفتوحات،
وتطهير الأرض من نجاسة اليهود وخبثهم، ولعل ما نراه اليوم من جهاد في مناطق
عدة يكون بارقة أمل، وبوابة إلى جهاد أعظم يؤذن بنصر قريب إن شاء الله.
ثالثاً: ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها،
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً
ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله
أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم
سكت» [46] ، في هذا الحديث بشارة عظيمة بوقوع خلافة راشدة على منهاج
النبوة، ولكنها لن تقوم إلا بما قامت به الخلافات الراشدة الأولى.
رابعاً: ما رواه المستورد القرشي رضي الله عنه عند عمرو بن العاص
رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» تقوم
الساعة والروم أكثر الناس «، فقال له عمرو بن العاص: أبصر ما تقول! قال:
أقول ما سمعت من رسول الله. قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم
لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة،
وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسه حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم
الملوك» [47] .
استنبط العلماء من هذا الحديث أن الروم يسلمون في آخر الزمان، وذلك من
المبشرات ولا شك.
قال الأستاذ مصطفى أبو النصر الشلبي: «وهذا يدل والله أعلم أن الروم
سيسلمون في آخر الزمان؛ لأن هذه الصفات قلما توجد إلا في أصحاب الإيمان
الصادق، ودليلي على ما أقول قوله صلى الله عليه وسلم:» والذي نفسي بيده! لو
كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء «يعني فارس والروم [48] ، ويؤيد ما
ذهب إليه الشلبي الحديث الذي تقدم:» ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار «،
وهو عام لا يخصص بأمة دون أمة ولا بمكان دون مكان. ولعل المراكز والدعوات
الإسلامية التي تنتشر في بلاد الكفار على أيدي الدعاة والعلماء مقدمات لهذه البشارة
العظيمة.
خامساً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:» إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا
أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة « [49] .
صِدْقُ الرؤيا من المبشرات في آخر الزمان، كما في هذا الحديث؛ لكن
بشرط الإيمان وصدق الحديث، ومن عظيم شأنها أنها جزء من النبوة؛ فهي دعوة
للإيمان الصادق وصدق الحديث.
سادساً: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:» لا تذهب الدنيا حتى يملك العربَ رجل من أهل بيتي
يواطئ اسمه اسمي « [50] ، هذا الحديث من المبشرات بالمهدي؛ حيث تواترت
النصوص بخروجه وصفاته ومدة حكمه، وهي مستوفاة في كتب السنة، والمراد
أنه من مبشرات آخر الزمان.
وما رواه أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً؛ يدق الصليب ويذبح
الخنزير ويضع الجزية، ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع
الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا
تضره، وتضرب الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها،
وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا
الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة
تنبت نباتها بعهد آدم؛ حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع
النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس
بدريهمات « [51] ، وكذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:» طوبى لعيش بعد المسيح! يؤذن للسماء في القطر،
ويؤذن للأرض في النبات؛ حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر
الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاحَّ ولا تحاسد
ولا تباغض « [52] .
ومن المبشرات التي تكون في آخر الزمان ما تقدم في الحديثين من نزول
عيسى عليه السلام، وما يتبع ذلك من الخيرات والبركات المذكورة.
__________
(1) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، (2/ 467) .
(2) نقلاً من المرجع السابق، ص 468.
(3) صحيح البخاري، (8/ 190) .
(4) صحيح البخاري، (9/ 87) في الفتن.
(5) مختصر صحيح مسلم، للمنذري، ص 491 في العلم.
(6) أخرجه البخاري معلقاً.
(7) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 127) رقم 87.
(8) مسند الإمام أحمد (4/ 130) ، وأبو داود رقم 4604 في السنة.
(9) مختصر صحيح مسلم، رقم 1858 في العلم.
(10) كنز العمال (14/276) رقم 38714، طبعة مؤسسة الرسالة.
(11) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/139) .
(12) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/789) .
(13) صحيح مسلم (8/ 197، 198) .
(14) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/789) .
(15) صحيح أشراط الساعة، ص 104.
(16) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/709) ، رقم 979.
(17) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/296) .
(18) سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/248) .
(19) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/250) ، رقم 647.
(20) كنز العمال (14/276) ، رقم 38714، طبعة مؤسسة الرسالة.
(21) تقدم تخريجه.
(22) مختصر صحيح مسلم، ص 7، في الإيمان، رقم 2.
(23) صحيح أشراط الساعة، ص 101.
(24) مختصر صحيح مسلم، للمنذري، ص 540، حديث رقم 4038.
(25) مختصر صحيح مسلم، للمنذري، ص 531.
(26) جامع الترمذي، رقم 2177 في الفتن، وأبو داود، رقم 4252 في الفتن.
(27) صحيح أشراط الساعة، ص 143.
(28) سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 508) ، رقم 1887.
(29) صحيح أشراط الساعة، ص 143.
(30) تقدم تخريجه.
(31) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 634) ، رقم 360.
(32) تقدم تخريجه.
(33) مختصر صحيح مسلم، ص 539، رقم 2035، في باب رفع الأمانة.
(34) مسند الإمام أحمد (5/278) ، وأبو داود رقم 4297 في الملاحم.
(35) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (1/ 15) ، حديث رقم 11.
(36) سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/512) ، رقم 1891.
(37) صحيح أشراط الساعة، للشلبي، ص 110.
(38) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (1/ 502) ، رقم 279.
(39) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (1/ 503) .
(40) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (1/ 6) .
(41) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (1/ 7) .
(42) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (1/ 8) .
(43) مختصر صحيح مسلم، ص 537، رقم 2029، باب في فتح القسطنطينية.
(44) مختصر صحيح مسلم، ص 534، رقم 2014، كتاب الفتن.
(45) مختصر صحيح مسلم، ص 535، رقم 2025.
(46) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (1/ 8) .
(47) مختصر صحيح مسلم، للمنذري، ص 536، حديث رقم 2026، طبعة المكتب الإعلامي.
(48) صحيح أشراط الساعة، للشلبي، ص 175، 176.
(49) مختصر صحيح مسلم، للمنذري، ص 401، رقم 1520.
(50) مشكاة المصابيح، (3/ 24) والجامع الصغير (6/ 70) ، رقم 5180.
(51) صحيح الجامع الصغير، (6 / 2276) ، رقم 7752.
(52) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (4/ 559) ، رقم 1926.(182/14)
دراسات في الشريعة
تحقيق دعوى ردة عبيد الله بن جحش
محمد بن عبد الله العوشن
اشتهر في كتب السيرة أن عبيد الله بن جحش قد تنصّر في أرض الحبشة،
وكان قد هاجر إليها مع زوجه أم حبيبة رضي الله عنها؛ فهل ثبتت ردّته بسند
صحيح؟
قال ابن إسحاق - رحمه الله - في ذكر بعض من اعتزل عبادة قريش
للأصنام، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث،
وزيد بن عمرو بن نفيل، فقال بعضهم لبعض: «تعلمون والله! ما قومكم على
شيء. لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به؛ لا يسمع ولا يبصر،
ولا يضرّ ولا ينفع؟! التمسوا لأنفسكم؛ فإنكم والله! ما أنتم على شيء. فتفرقوا
في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين أبيهم إبراهيم، فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في
النصرانية ... وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى
أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان
مسلمة، فلما قدمها تنصّر وفارق الإسلام، حتى هلك هناك نصرانياً» .
ثم قال ابن إسحاق: «فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: كان عبيد الله
بن جحش حين تنصَّر يمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم هنالك من
أرض الحبشة، فيقول: فقّحنا وصأصأتم؛ أي أبصرنا، وأنتم تلتمسون البصر ولم
تبصروا بعد» [1] .
وشيخ ابن إسحاق هنا محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام، وهو ثقة، مات
سنة بضع عشرة ومائة، من الطبقة السادسة، وهي طبقة لم يثبت لأحد منها لقاء
أحد من الصحابة، فالخبر مرسل. ثم ذكره ابن إسحاق في قدوم جعفر بن أبي
طالب من الحبشة فقال: «حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة قال:
» خرج عبيد الله بن جحش مع المسلمين مسلماً، فلما قدم أرض الحبشة تنصَّر،
قال: فكان إذا مر بالمسلمين ... « [2] ، وذكر نحو ما سبق.
وهذا سند صحيح لكنه مرسل، وهو أصحّ ما ورد في تنصُّر عبيد الله بن
جحش. وذكره أيضاً في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة رضي الله عنها
فقال:» ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زينب، أم حبيبة بنت أبي
سفيان، وكانت قبله عند عبد الله [عبيد الله] بن جحش.. فمات عنها بأرض
الحبشة، وقد تنصر بعد إسلامه « [3] ، والخبر هنا بدون إسناد.
وروى القصة ابن سعد في (الطبقات) فقال:» أخبرنا محمد بن عمر حدثنا
عبد الله بن عمرو بن زهير عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت
أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهها،
ففزعت، فقلت: تغيرتْ والله حاله! فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة! إني
نظرت في الدين فلم أرَ ديناً خيراً من النصرانية، وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في
دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية. فقلت: والله! ما خير لك. وأخبرتُه
بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها، وأكبّ على الخمر حتى مات « [4] ، ورواه
أيضاً في ذكر عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عند ذكر أم حبيبة
رضي الله عنها:» وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عبيد الله بن
جحش، وكان قد أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم ارتد، وتنصّر، فمات هناك
على النصرانية « [5] ، وشيخ ابن سعد في الخبرين هو الواقدي، وهو متروك على
سعة علمه. ورواه الحاكم في» المستدرك «عن الزهري مرسلاً، وفيه:» ثم
افتتن وتنصّر فمات وهو نصراني، وأثبت الله الإسلام لأم حبيبة، وأبت أن
تتنصّر « [6] ، ورواه موصولاً من طريق الواقدي، وفيه رؤيا أم حبيبة [7] ، كرواية
ابن سعد.» ومراسيل الزهري ضعيفة « [8] ، قال الإمام الذهبي - رحمه الله -:
» قال يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهري شرّ من مرسل غيره؛ لأنه حافظ،
وكل ما قَدرَ أن يُسمّي سَمّى، وإنما يترك من لا يحب أن يسميه. قلت (الذهبي) :
مراسيل الزهري كالمعضل؛ لأنه يكون قد سقط منه اثنان، ولا يسوغ أن نظن به
أنه أسقط الصحابي فقط، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه، ولما عجز عن
وصله، ومن عدّ مرسل الزهري كمرسل سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير
ونحوهما، فإنه لم يدر ما يقول، نعم كمرسل قتادة ونحوه « [9] .
وروى الخبر الطبري في تاريخه، في:» ذكر الخبر عن أزواج رسول الله
صلى الله عليه وسلم «عن هشام بن محمد مرسلاً، وفيه عند ذكر أم حبيبة:
» فتنصّر زوجها، وحاولها أن تتابعه فأبت، وصبرت على دينها، ومات زوجها
على النصرانية « [10] ، والخبر فضلاً عن إرساله؛ فإنه عن هشام بن محمد بن
السائب الكلبي، وهو رافضي متروك، قال الإمام أحمد - رحمه الله -:
» إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحداً يحدِّث عنه « [11] . ونقله
ابن الأثير في تاريخه [12] عن ابن الكلبي أيضاً.
ورواه البيهقي في» الدلائل «من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن
عروة قال:» ومن بني أسد بن خزيمة: عبيد الله بن جحش، مات بأرض الحبشة
نصرانياً، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رملة، فخلف عليها
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنكحه إياها عثمان بن عفان بأرض الحبشة «
[13] ، والخبر فيه علتان: الإرسال، وضعف ابن لهيعة. والمتن هنا فيه غرابة.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -:» وأما قول عروة إن عثمان زوّجها منه
فغريب؛ لأن عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك ثم هاجر إلى المدينة، وصحبته
زوجته رقية « [14] .
وعبيد الله بن جحش لم يترجم له ابن عبد البر في» الاستيعاب «، ولا ابن
الأثير في» أُسد الغابة «، ولا ابن حجر في» الإصابة «، وفي ترجمة أخيه
عبد الله رضي الله عنه في» الإصابة «لم يذكر ابن حجر شيئاً، أما ابن عبد البر
فقد قال في» الاستيعاب «في ترجمة عبد الله:» وكان هو وأخوه أبو أحمد عبد
بن جحش من المهاجرين الأولين ممن هاجر الهجرتين، وأخوهما عبيد الله بن
جحش تنصّر بأرض الحبشة، ومات بها نصرانياً، وبانت منه امرأته أم حبيبة «
[15] ، وكذا ذكر ابن الأثير في ترجمة عبد الله.
وفي ترجمة أم حبيبة رضي الله عنها في» الإصابة «قال ابن حجر:
» ولما تنصر زوجها عبيد الله، وارتد عن الإسلام فارقها، فأخرج ابن سعد
من طريق إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأموي قال ... « [16] ، وذكر القصة
التي رواها ابن سعد عن الواقدي، وسبقت.
وفي ترجمتها في» التهذيب «لم يذكر الحافظ تنصّر عبيد الله بل قال:
» هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش هناك، ومات، فتزوجها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي هناك، سنة ست، وقيل سنة سبع « [17] ،
وقال الذهبي في» السير «في ترجمة أم حبيبة رضي الله عنها:» ابن سعد:
أخبرنا الواقدي: أخبرنا.. «، وذكر رؤياها رضي الله عنها وردّة زوجها، ثم
قال (الذهبي) :» وهي منكرة « [18] . ولم يبيّن رحمه الله وجه النكارة.
ومما يرجّح أن خبر ردته غير صحيح: أن الروايات الصحيحة في نكاحه
صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة رضي الله عنها لم تذكر شيئاً من ذلك؛ فقد روى
الإمام أحمد بسند صحيح من طريق الزهري عن عروة عن أم حبيبة رضي الله
عنها:» أنها كانت تحت عبيد الله ابن جحش، وكان أتى النجاشي فمات، وأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وهي بأرض الحبشة، زوّجها إياه
النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف « [19] ، ورواه أيضاً أبو داود [20] ، والنسائي
[21] .
مما سبق يتبين والله أعلم أن قصة ردة عبيد الله بن جحش لم تثبت، لعدة أدلة؛
منها:
1 - أنها لم تُروَ بسند صحيح متصل، فالموصول من طريق الواقدي.
والمرسل جاء عن عروة بن الزبير، ولا يمكن أن نحتج بالمرسل (عند من يرى
الاحتجاج به) في مسألة كهذه؛ فيها الحكم على أحد السابقين الأولين رضي الله
عنهم بالردة.
2 - أن الروايات الصحيحة في زواجه صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة لم
تذكر ردة زوجها السابق، كما في الرواية السابقة عند أحمد، وأبي داود، والنسائي.
3 - أنه يبعد أن يرتد أحد السابقين الأولين للإسلام عن دينه، وهو ممن
هاجر فراراً بدينه مع زوجه، إلى أرض بعيدة غريبة. خاصة أن عبيد الله بن
جحش ممن هجر ما عليه قريش من عبادة الأصنام، والتماسه مع ورقة وغيره
الحنيفية كما في رواية ابن إسحاق (بدون سند) الواردة أول هذا البحث وفي رواية
ابن سعد (عن الواقدي) أنه كان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام. ومعلوم أن
البشارة ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت معروفة عند أهل الكتاب من يهود،
ونصارى؛ فكيف يُتصور من رجل يترقب الدين الجديد أن يعتنقه ثم يرتد عنه
لدين منسوخ؟! كما أن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة كان في سنة ست،
وقيل سبع، وردة عبيد الله المزعومة قبل ذلك بمدة، وهي مرحلة كان الإسلام قد
علا فيها وظهر حتى خارج الجزيرة العربية، بل أصبح هناك من يُظهر الإسلام
ويُبطن الكفر؛ كحال المنافقين.
4 - في حوار هرقل مع أبي سفيان وكان إذ ذاك مشركاً أنه سأله ضمن
سؤالاته:» هل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فأجاب أبو سفيان:
لا «. ولو كان عبيد الله قد تنصّر لوجدها أبو سفيان فرصة للنيل من النبي صلى
الله عليه وسلم ودعوته، كما فعل لما سُئل:» فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه
في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها؟ قال: ولم تمكنِّي كلمة أُدخل فيها شيئاً غير هذه
الكلمة « [22] ، ولا يمكن القول بأن أبا سفيان لم يعلم بردّة عبيد الله لو صحت لأنه
والد زوجه أم حبيبة.
وبعد؛ فالمسألة متعلقة بأحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل
ومن السابقين الأولين، فإن صحّ السند بخبر ردّته فلا كلام، وإذا جاء نهر الله بطل
نهر معقل. أمَا والسند لم يثبت؛ فإن نصوص الشريعة حافلة بالذبّ عن عِرْض
المسلم؛ فكيف إذا كان هذا المسلم صحابياً بل ومن السابقين؟! والله أعلم.
__________
(1) الروض الأنف، (2/ 347) .
(2) الروض الأنف، (6/ 538) .
(3) سيرة ابن إسحاق، تحقيق محمد حميد الله، ص 241.
(4) طبقات ابن سعد، (8/ 97) .
(5) (8/ 218) .
(6) المستدرك، (4/ 21) .
(7) (4/ 22) .
(8) قاله الحافظ في (التلخيص الحبير) (4/ 111) .
(9) سير أعلام النبلاء، (5/ 338 - 339) .
(10) تاريخ الطبري، (2/ 213) .
(11) لسان الميزان، (6/ 196) .
(12) الكامل في التاريخ، (2/ 210) .
(13) دلائل النبوة، (3/ 460) .
(14) البداية والنهاية، (4/ 143) .
(15) الاستيعاب (بهامش الإصابة، 2/ 263) .
(16) الإصابة، (4/ 299) .
(17) (12/ 419) .
(18) سير أعلام النبلاء، (2/ 221) .
(19) الفتح الرباني، (16/ 170) .
(20) كتاب النكاح، باب الصداق (رقم 2093) ، عون المعبود، (6/ 137) .
(21) كتاب النكاح، القسط في الأصدقة، (6/ 119) ، وصححه الألباني، صحيح النسائي، (2/ 705) .
(22) فتح الباري، كتاب بدء الوحي (1/ 42) .(182/22)
دراسات تربوية
قاعدة الانطلاق وقارب النجاة
(2 ـ 2)
فيصل بن علي البعداني
albadani@hotmail.com
في الحلقة السابقة تحدث الكاتب عن منزلة الإخلاص وبين أنه حقيقة الدين،
وأشار إلى أن الإخلاص مع وضوحه وجلائه إلا أنه من أشق الأمور على النفس،
وذكر ثمرات الإخلاص، وتحدث عن طرق تحصيله. وفي هذه الحلقة يتابع
الحديث في أمور أخرى تتعلق بالإخلاص.
- (البيان) -
* علامات المخلصين:
للمخلصين علامات عدة؛ من أبرزها:
1- إرادتهم وجه الله: سمة المخلصين العظمى أنهم يريدون بعملهم وجه الله،
فلا يريدون به مغنماً ولا جاهاً ولا ثناءً ولا عَرَضاً من عروض الدنيا الزائلة [1] .
قال تعالى: [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ]
(الكهف: 28) ؛ أي يرتقبون بدعائهم رضا الله سبحانه لا عَرَض الدنيا [2] ؛ فلذا
وصفهم في الآية بالعبادة والإخلاص فيها [3] ، وفي حديث أبي موسى رضي الله
عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم،
والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ قال: من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [4] ، فالمخلصون أصحاب نيات
صالحة، يريدون الله ورفعة دينه، والعمل إنما يكون معتبراً بالنية الصالحة، وإذا
لم تصح النية فلا أثر له [5] ، وقد جاء ذلك منصوصاً عليه في قوله صلى الله عليه
وسلم: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها
فهجرته إلى ما هاجر إليه» [6] .
2- حبهم لعمل الخلوة: المخلصون أحرص على إخفاء صالح أعمالهم من
غيرهم على كتمان ذنوبهم؛ رجاء أن ينالهم الخير الوارد في الحديث: «إن الله
يحب العبد التقي الغني الخفي» [7] ، وقد كان ذلك هدياً بيِّناً للسلف الصالح،
وسمتاً ظاهراً لهم، ومن ذلك: قول الخريبي: «كانوا يستحبون أن يكون للرجل
خبيئة من عمل صالح، لا تعلم به زوجته ولا غيرها» [8] ، وقول أيوب
السختياني: «والله! ما صدق عبد إلا سره ألا يُشْعَر بمكانه» ، وقول سلمة بن
دينار: «اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك» [9] ، وقول بشر الحافي: «أَخْمِل
ذكرك، وطيِّب مطعمك، لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه
الناس» [10] ، وقول محمد بن العلاء: «من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس»
[11] ، وقول الشافعي: «وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم، ولا ينسب إليَّ منه
شيء» [12] .
ومن الشواهد العملية: ما ورد «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج
في سواد الليل فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، فلما أصبح
طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل
يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني
الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة! أَعثرات عمر تتبع؟!» [13] ، وما ورد
أن منصور السلمي «صام أربعين سنة وقام ليلها، كان يبكي فتقول له أمه: يا بني
قتلت قتيلاً؟! فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي، فإذا كان الصبح كحل عينيه،
ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس» [14] ، وأن داود بن أبي هند
«صام أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان خرازاً يحمل غداءه من عندهم،
فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم» [15] ، وكان زين العابدين
علي بن الحسين ينفق على أهل مئة بيت في المدينة، يأتيهم في الليل بالطعام، ولا
يعرفون مَن الآتي به، حتى مات ففقدوا ذلك؛ فعرفوا أن ذلك منه، ووجدوا في
ظهره أثراً من نقل الطعام إلى بيوت الأرامل [16] ، وقال سفيان: «أخبرتني سرية
الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر
المصحف فيغطيه بثوبه» [17] وقال محمد بن واسع: «إن كان الرجل ليبكي
عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم» [18] ، وكان ابن المبارك يضع اللثام على وجهه
عند القتال لئلا يُعرف، قال أحمد: «ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة
كانت له» [19] .
وهذا الإخفاء إنما هو لما يُشرع إخفاؤه من العمل، وذلك مخصوص بالنوافل
دون الفرائض، واستثنى أهل العلم من ذلك من يقتدي الناس به؛ إذ الإبداء في حقه
أوْلى.
قال الطبري: «كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في
مساجدهم، ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم؛ ليُقتدى بهم، قال: فمن كان إماماً يُستن
بعمله، عالماً بما لله عليه، قاهراً لشيطانه؛ استوى ما ظهر من عمله وما خفي؛
لصحة قصده» [20] .
3 - أن سريرتهم أحسن من علانيتهم: فالمخلص ليس من يظهر التنسك
أمام الناس ثم يسيء فيما بينه وبين الله، بل هو قوَّام على نفسه يحاسبها؛ كأنه أبداً
يرى الله، فهو مراقب له سبحانه في سره وعلانيته، لا روغان في استقامته، وهذه
من أعظم قرباته، قال ابن عطاء: «أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام
الأوقات» [21] ، فصفته كما ذكر الله: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً]
(الفرقان: 64) ، قال الحسن: «هذا ليلهم إذا خلوا بينهم وبين ربهم تبارك
وتعالى» [22] ، فهو أبعد ما يكون عن خلال أولئك الذين ضعف إخلاصهم،
وقلّت مراقبتهم، ممن حكى النبي صلى الله عليه وسلم لنا حالهم، فقال: «لأعلمن
أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله
هباءً منثوراً. قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم.
قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون؛ ولكنهم أقوام
إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» [23] .
فإتيان المعاصي وانتهاك الحرمات في السر عمل مشين، وليس من أخلاق
المخلصين، ولذا قال الربيع بن خثيم: «السرائر السرائر.. اللاتي تخفين من
الناس وهنَّ لله تعالى بَوَادٍ، التمسوا دواءهن ثم يقول: وما دواؤهن إلا أن تتوب ثم
لا تعود» [24] ، وقال حميد الطويل: «لئن كنت إذا عصيت الله خالياً ظننت أنه
يراك لقد اجترأت على أمر عظيم، ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت» [25] ،
وقال ابن الأعرابي: «أخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز
بالقبيح مَنْ هو أقرب إليه من حبل الوريد» [26] .
4 - أنهم يخافون من رد أعمالهم: ودليله في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] (المؤمنون: 60) ، وقد بين النبي
صلى الله عليه وسلم أنهم «يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا
يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [27] ، قال الحسن: «يؤتون
الإخلاص ويخافون ألا يقبل منهم» [28] ، وعن محمد بن مالك بن ضيغم، قال:
حدثني مولانا أبو أيوب قال: «قال لي أبو مالك يوماً: يا أبا أيوب! احذر نفسك
على نفسك؛ فإني رأيت هموم المؤمنين في الدنيا لا تنقص، وأيم الله! لئن لم تأت
الآخرةُ المؤمنَ بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: همّ الدنيا وشقاء الآخرة. قال:
قلت: بأبي أنت! وكيف لا تأتيه الآخرة بالسرور، وهو ينصب لله في دار الدنيا
ويدأب؟ قال: يا أبا أيوب! وكيف بالقبول؟ وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من
رجل يرى أنه قد أصلح شأنه، قد أصلح قربانه، قد أصلح همته، قد أصلح عمله
يُجمع ذلك يوم القيامة ثم يضرب به وجهه» [29] .
ولعل من أعظم مشاهد الخوف من رد العمل أن الإمام الماوردي صاحب
التصانيف الحسان في فنون عدة، ك (الحاوي الكبير) في الفقه، و (النكت
والعيون) في التفسير، و (الأحكام السلطانية) ، و (أدب الدنيا والدين) «لم
يُظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وجمعها في موضع، فلما دنت وفاته، قال لمن
يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها لأني لم أجد
نية خالصة، فإذا عاينت الموت، ووقعت في النزع، فاجعل يدك في يدي، فإذا
قبضت عليها وعصرتها، فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمد إلى تلك الكتب
وألقها في دجلة، وإن بسطت يدي، فاعلم أنها قبلت. قال الرجل: فلما احتُضر،
وضعت يدي في يده، فبسطها، فأظهرت كتبه» [30] .
5 - لا ينتظرون ثناء الناس: ولذا تراهم لا يعاتبون من أساء إليهم، ولا
يحقدون على من منعهم، ولا يرجون من الخلق جزاءً ولا شكوراً؛ حالهم كما قال
الله تعالى: [إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً] (الإِنسان:
9) ، قال مجاهد وسعيد بن جبير: أما والله! ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به
من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب « [31] ، وجاء عن عائشة
رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول ما قالوا،
فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله؛ ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله تعالى
[32] .
ولعل من أروع ما دوَّنه التأريخ في ذلك قصة صاحب النقب. قال ابن قتيبة:
» حاصر مسلمة حصناً، فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل
من عُرْض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما
جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء!
فجاء رجل، فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال:
أنا أخبركم عنه. فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب
يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسوِّدوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء،
ولا تسألوه ممن هو. قال: فذاك له. قال: أنا هو. فكان مسلمة لا يصلي بعدها
صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب! « [33] .
* مسائل في الإخلاص:
1 - ما يضاد الإخلاص:
الأمور التي تنافي الإخلاص عديدة، من أبرزها:
أولاً: الرياء والسمعة:
الرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس ونيل حمدهم [34] . قال الغزالي:
» الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم الخير «، والسمعة:
العمل لأجل إسماع الناس طاعته، كأن يقرأ القرآن ليسمعه من حوله» [35] ، ويرى
العز بن عبد السلام أن المراد بالتسميع أن يحدث المرء غيره بما يفعله من الطاعات
التي لم يطلع عليها المتحدث؛ إذ جعل التسميع ضربين: «أحدهما: تسميع
الصادقين، وهو أن يعمل الطاعة خالصة لله، ثم يظهرها ويسمع الناس بها
ليعظموه ويوقروه وينفعوه ولا يؤذوه ... الثاني: تسميع الكاذبين، وهو أن يقول:
صليت ولم يصل، وزكيت ولم يزك، وصمت ولم يصم، وحججت ولم يحج،
وغزوت ولم يغزُ» [36] ، وقد جاءت النصوص بالتحذير من الرياء والسمعة.
وداعي العبد إلى الرياء والسمعة: حب المحمدة ونيل المنزلة في قلوب الخلق،
وهو أمر مغروس حبه في أعماق النفس البشرية، ومتجذر داخلها «ولذلك قيل:
آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة» [37] ، قال ابن تيمية: « ...
الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به ... فإن فعل
ذلك لطلب الرئاسة لنفسه وطائفته وتنقيص غيره، كان ذلك حمية لا يقبله الله،
وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً» [38] ، وطرق
الخلاص أن يعمق العبد إيمانه، ويلجأ إلى ربه ويتضرع إليه، ويزهد في الدنيا
ويعرف حقارتها، ويدرك عاقبة الرياء والسمعة دنيا وأخرى، وما لم يفعل ذلك
فسيكون من العسير عليه مدافعتهما، واجتثاث باعثهما من القلب [39] .
ثانياً: العُجْبُ بالنفس:
العُجْبُ: كِبْرٌ باطن بخصال النفس، يورث تكبراً ظاهراً في الأقوال
والأعمال والأحوال [40] ، وإنما كان العجب مهلكاً؛ لأن صاحبه يستعظم عبادته
«ويتبجح بها، ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين
منها، ثم إذا عجب بها عمي عن آفاتها، ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه
ضائعاً، فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع، وإنما
يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون العجب. والمعجب يغتر بنفسه
وبرأيه، ويأمن مكر الله، ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها
ويزكيها» [41] ، وقد أدرك السلف هذا الأمر، فقد «قيل لعائشة: متى يكون الرجل
مسيئاً؟ قالت: إذا ظن أنه محسن» [42] ، وقال مطرف بن عبد الله: «لأن أبيت
نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً» [43] ، وقال
مسروق: «كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب
بعلمه» [44] .
ومرد العجب بالنفس إلى الجهل المحض بها وعدم معرفة حقيقتها، وعلاج
ذلك: أن يعرف المعجب حقيقة نفسه، وكثرة عيوبه، وأن يقدر ربه حق قدره [45] .
ومن الدلائل على أن ذلك هو الدواء: ما روي «أن مالك بن دينار مر عليه
المهلب بن أبي صفرة وهو يتبختر في مشيته، فقال له مالك: أما علمت أن هذه
المشية تكره إلا بين الصفين؟! فقال له المهلب: أما تعرفني؟ ! فقال له: أعرفك
أحسن المعرفة. قال: وما تعرف مني؟ قال: أمَّا أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك
فجيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة. فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة»
[46] ، وما جاء عن ابن حزم قال: «كانت فيّ عيوب ... ومنها عُجْبٌ شديد،
فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها؛ حتى ذهب كله، ولم يبق والحمد لله أثر،
بل كلّفت نفسي احتقار قدرها جملة، واستعمال التواضع» [47] .
ثالثاً: اتباع الهوى:
الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه [48] ، وهو باعث لصاحبه على العمل،
فمتبع الهوى لا يهوى شيئاً إلا أتاه واتجه إليه، فإلهه هواه، قال تعالى: [أَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ
يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] (الفرقان: 43-44) ، فـ
«الهوى شر داء خالط قلباً» [49] ، وصاحبه كما قال قتادة: «كلما هوى شيئاً
ركبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى» [50] ، وقال
ابن تيمية: «وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله
في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله
ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له
بهواه، ... » [51] ، وهذا بخلاف المخلص فإنه متوجه إلى الله تعالى بكليته، قال
سبحانه: [وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى] (النازعات: 40) ؛ أي: كفها عن شهواتها
الصادة عن طاعة الله تعالى [52] ، فاتباع الهوى مضاد للإخلاص مبطل للعمل،
بل إن متبع الهوى إذا عمل عملاً صالحاً اتباعاً لهواه لا عبودية لله فإن عمله غير
مقبول؛ لأنه لم يقصد بعمله وجه الله تعالى بل اتباع الهوى، قال عمر بن عبد
العزيز: «لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً
أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق، وتعاقب على ما تركته منه؛ لأنك إنما
اتبعت هواك في الموضعين» [53] ، وقال الشاطبي: «اتباع الهوى طريق إلى
المذموم وإن جاء في ضمن المحمود؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه للشريعة فحيثما
زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفاً» [54] .
ومخالفة الهوى شاقة على النفس، ولذا بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم،
وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن أصر على ما هو عليه، حتى
رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، قال الشاطبي:
«المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى
يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً» [55] . فعلى مريد الإخلاص أن
يقوي إرادته، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى، حتى تكون الجنة هي
المأوى [56] . يقول الحسن البصري: «أفضل الجهاد جهاد الهوى» [57] .
2 - ثناء الناس على العمل:
يلازم المخلص العمل الصالح كارهاً الشهرة وظهور ما لا يشرع ظهوره من
عمله. يقول علي رضي الله عنه: «لا تبدأ لأن تشتهر، ولا ترفع شخصك لتُذكر،
وتعلم واكتم، واصمت تسلم؛ تسر الأبرار، وتغيظ الفجار» [58] ، ويقول
إبراهيم بن أدهم: «ما صَدَقَ اللهَ مَنْ أحب الشهرة» [59] ، وكان ابن محيريز
يقول: «اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً» [60] . لكن ذلك يعود على المخلص بعكس
مراده، فيحبه الناس لتلك الملازمة ويحمدونه عليها؛ فيُسَر بذلك ويستبشر من دون
تعرض منه لحمدهم وتقصُّد لنيل ثنائهم، فهذه بشرى لا تضر العبد ولا تخرجه عن
الإخلاص [61] ، يدل على ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟
قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» [62] ؛ فالسرور إنما هو «بحسن صنع الله
ونظره له ولطفه به ... لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم، فأما إن كان فرحه
باطلاع الناس عليه لقيام منزلته عندهم حتى يمدحوه ويعظموه ويقضوا حوائجه؛
فهذا مكروه مذموم» [63] .
3 - ترك العمل مخافة الرياء:
ترك العمل خشية الرياء وسوسة من الشيطان، وحبالة من حبالاته، قال ابن
حزم: «لإبليس في ذم الرياء حبالة، وذلك أنه رُبَّ ممتنع من فعل خيرٍ خوف أن
يُظَنّ به الرياء» [64] ، ف «لو فعل إنسان ذلك لأوشك إذا علم منه الشيطان بذلك
أن يعترض له عند كل عمل بالخطرات بالرياء فيدع كل طاعة» [65] ، ولكن على
العبد أن يمضي في طاعته فإن ذلك شديد الألم على شيطانه.
قال الفضيل: «ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس
شرك، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما» [66] ، وفصل المقدسي الأمر فقال:
«فأما ترك الطاعات خوفاً من الرياء، فإن كان الباعث له على الطاعة غير
الدين، فهذا ينبغي أن يترك؛ لأنه معصية لا طاعة فيه، وإن كان الباعث على ذلك
الدين، وكان ذلك لأجل الله تعالى خالصاً، فلا ينبغي أن يترك العمل؛ لأن الباعث
الدين، وكذلك إذا ترك العمل خوفاً من أن يقال: إنه مراء، فلا ينبغي ذلك؛ لأنه
من مكائد الشيطان» [67] .
ومن وفق لابتداء عمله بنية صالحة فعليه أن يجاهد نفسه لتستمر على
الإخلاص وتبتعد عن ضده، نظراً لتبدل النية وتقلبها في لحظات، قال سليمان بن
داود الهاشمي: «ربما أحدث بحديث واحد، ولي فيه نية، فإذا أتيت على بعضه
تغيرت نيتي؛ فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات» [68] ، لكن ليس للعبد أن
يترك مواصلة العمل خوف الرياء، قال النخعي: «إذا أتاك الشيطان وأنت في
صلاة فقال: إنك مراءٍ، فزدْها طولاً» [69] .
4 - الإقبال على العمل عند مخالطة الصالحين:
وليس هذا برياء لحديث حنظلة رضي الله عنه، وفيه: «فانطلقت أنا وأبو
بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول
الله! ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله!
نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا
الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم
الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة. ثلاث مرات»
[70] ، قال المقدسي: «قد يبيت الرجل مع المجتهدين، فيصلون أكثر الليل،
وعادته قيام ساعة، فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولاهم ما انبعث هذا النشاط،
فربما ظن ظان أن هذا رياء، وليس كذلك على الإطلاق، بل فيه تفصيل: وهو
أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى، ولكن تعوقه العوائق، وتستهويه الغفلة،
فربما كانت مشاهدة الغير سبباً لزوال الغفلة، واندفاع العوائق؛ فإن الإنسان إذا كان
في منزله تمكن من النوم على فراش وطيء وتمتع بزوجته، فإذا بات في مكان
غريب اندفعت هذه الشواغل، وحصلت له أسباب تبعث على الخير، منها مشاهدة
العابدين، وقد يعسر عليه الصوم في منزله لكثرة المطاعم، بخلاف غيره؛ ففي
مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة، ويقول: إذا عملت غير
عادتك كنت مرائياً، فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وإنما ينبغي أن ينظر في قصده
الباطن، ولا يلتفت إلى وسواس الشيطان» [71] .
5 - تشريك النية:
لتشريك النية صورتان:
الأولى: أن يقصد العبد بعمل واحد قربتين فأكثر، وجواز ذلك استثناءٌ؛ إذ
الأصل أن لكل قربة عبادة خاصة بها، فمثلاً: لو نوى بالصلاة الرباعية الظهر
والعصر لم يصح إجماعاً، ولكن جاء الشرع باستثناء بعض العبادات من ذلك، كأن
ينوي بغسله: غسلَيْ الجمعة والجنابة، وبصلاته: تحية المسجد والسنة الراتبة،
وبصدقته على القريب: الصدقة والصلة، وبمكثه في المسجد: الاعتكاف وانتظار
الصلاة، وبطوافه: طواف القدوم والعمرة، وبقراءته للقرآن: القربة وعدم النسيان،
... ونحو ذلك من صور التشريك المشروعة [72] ، والتي لا تتنافى مع الإخلاص
بل كلما أكثر العبد من استحضارها كلما زاد أجره وتضاعفت مثوبته [73] ، يقول
الغزالي: «فاجتهد أن تكثر من النية في جميع أعمالك حتى تنوي لعمل واحد نيات
كثيرة» [74] ، ويقول ابن القيم: «تداخل العبادات في العبادة الواحدة.. باب
عزيز شريف لا يعرفه إلا صادق الطلب، متضلع من العلم، عالي الهمة؛ بحيث
يدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» [75] .
الثانية: أن يقصد العبد بعمل واحد قربة وعملاً مباحاً في آن واحد، كأن
يخلط في الوضوء: نية الطهارة بنية التبرد أو التنظيف، وفي الصوم: نية التقرب
بنية الحمية، وفي الحج: نية أداء النسك بنية التجارة، فهذا التشريك لا يقدح في
الإخلاص؛ لأن «هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق، بل هي تشريك أمور
من المصالح ليس لها إدراك، ولا تصلح للإدراك ولا للتعظيم، فلا تقدح في
العبادات ... نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر، وأن
العبادة إذا تجردت عنها زاد الأجر وعظم الثواب، أما الإثم والبطلان فلا سبيل إليه»
[76] .
ومن أدلة جواز التشريك في النية وأنه لا يفسد العمل ولا يقدح في الإخلاص:
قوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج،
ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء» [77] ؛ إذ أمر صلى الله عليه وسلم
«بالصوم لهذا الغرض؛ فلو كان ذلك قادحاً لم يأمر به عليه الصلاة والسلام في
العبادات» [78] ، وحديث أبي قلابة قال: «جاءنا مالك بن الحويرث، فصلى بنا
في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة، ولكن أريد أن أريكم
كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي» [79] ، فجمع في نيته بين الصلاة
وقصد التعليم [80] .
6 - حالات العمل مع الرياء:
للعمل مع الرياء حالات متنوعة، فهو: إما أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى
لا رياء فيه ولا سمعة، فهذا سبب للرفعة والثواب، وإما أن يكون رياء محضاً، لا
يقصد به صاحبه إلا مراءاة المخلوقين ونيل منزلة عندهم، فهذا من أعمال المنافقين،
ولا يكاد يقع من مؤمن بالله العظيم، قال ابن رجب عنه: «وهذا العمل لا يشك
مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة» [81] .
وإما أن يشترك في باعثه إرادة الله تعالى ومحمدة الناس، فهو على الصحيح
باطل وصاحبه معاقب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل
لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك» [82] ، قال ابن رجب:
«وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص
الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه» [83] .
وإما أن يكون أصل العمل لله تعالى لكن طرأت نية الرياء عليه، فإن كان
خاطراً ودفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه ففي حبوط العمل خلاف
بين علماء السلف [84] ، والظاهر بطلانه لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا
أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي تركته وشركه» [85] .
وإما أن يكون أصل العمل لغير الله لكن طرأ الإخلاص عليه، فهذا إن كانت
العبادة متصلة لا يصح أولها إلا بصحة آخرها، فالعمل باطل للحديث السابق، وإن
كان لا تعلق لأوله بآخره فهما كالعملين، الأول باطل والآخر صحيح [86] ، والله
أعلم.
وأخيراً: فالموفق من ضمن أعماله كلها الإخلاص، وصار تحقيق مرضاة الله
ومحبته، والطمع في ثوابه، وخشية عقابه هو باعثه للعمل ومراده منه.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا إخلاص القول والعمل، وصلى
الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) انظر: الرائد، للفريح: 1/ 34.
(2) انظر: فتح البيان، لصديق خان: 8 / 40.
(3) انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي: 425.
(4) أخرجه البخاري (2810) .
(5) فتح الباري، لابن حجر: 6/ 29، فيض القدير للمناوي: 4 / 183.
(6) أخرجه البخاري (54) .
(7) أخرجه مسلم (2965) .
(8) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 9/ 349.
(9) حلية الأولياء، للأصفهاني: 3/ 240.
(10) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: 210.
(11) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6/343.
(12) حلية الأولياء، للأصفهاني: 9 / 118.
(13) حلية الأولياء، للأصفهاني: 1/ 48.
(14) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 5 / 406.
(15) حلية الأولياء، للأصفهاني: 3/ 94.
(16) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي: 3/ 393 - 394.
(17) حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 107.
(18) حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 347.
(19) صفة الصفوة، لابن الجوزي: 4/ 115، 146.
(20) فتح الباري، لابن حجر: 11/ 345، وانظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، الإخلاص، للأشقر: 127 - 129.
(21) إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/ 397.
(22) الزهد، لابن أبي عاصم: 286.
(23) أخرجه ابن ماجه (4245) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5028) .
(24) حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 108.
(25) إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/ 398.
(26) شعب الإيمان، للبيهقي (6987) .
(27) أخرجه الترمذي (3175) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
(3/80) .
(28) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 12/132.
(29) صفة الصفوة، لابن الجوزي: 3 / 360.
(30) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 18 / 66 - 67.
(31) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 8/ 289.
(32) تفسير أبي السعود: 9/ 72.
(33) عيون الأخبار، لابن قتيبة: 1/ 266، أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، للحداد: 1/160، ومعنى: لا تسودوا اسمه: أي لا تكتبوا قصته إلى الخليفة.
(34) انظر: فتح الباري، لابن حجر: 11/ 344.
(35) انظر: الإخلاص، للأشقر: 95.
(36) قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 107.
(37) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: 209.
(38) منهاج السنة، لابن تيمية: 5 / 254.
(39) انظر: الإخلاص، للأشقر: 98.
(40) انظر: نضرة النعيم، لابن ملوح وآخرين: 11/ 5354 - 5356.
(41) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/ 370.
(42) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/ 370.
(43) الحلية، لأبي نعيم: 2/ 200.
(44) الدر المنثور، للسيوطي: 5 / 470.
(45) انظر: إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/ 371.
(46) حلية الأولياء، للأصفهاني: 2/ 384.
(47) الأخلاق والسير، لابن حزم: 33 - 34.
(48) ذم الهوى، لابن الجوزي: 12.
(49) السنة، لعبد الله بن أحمد (105) ، من كلام الحسن البصري.
(50) الدر المنثور، للسيوطي: 6/ 260.
(51) منهاج السنة، لابن تيمية: 5/ 256.
(52) انظر: تيسير الكريم الرحمن، للسعدي: 842، الإخلاص، للأشقر: 73.
(53) شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز: 1/ 590.
(54) الموافقات، للشاطبي: 2/ 289.
(55) الموافقات، للشاطبي: 2/ 289، وانظر: 2/ 264.
(56) انظر: الإخلاص، للأشقر: 73 - 89.
(57) أدب الدنيا والدين، للماوردي (41) .
(58) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6 / 343.
(59) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6 / 343.
(60) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6 / 342.
(61) شعب الإيمان، للبيهقي: 5/ 375، شرح مسلم، للنووي: 16/290.
(62) رواه مسلم، (2642) .
(63) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: 220.
(64) الأخلاق والسير، لابن جزم: 16.
(65) الإخلاص، للأشقر: 122.
(66) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 8 / 427.
(67) مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة: 225، وانظر: الرائد، للفريح: 1/ 48 49.
(68) سير أعلام النبلاء، للذهبي: 10/ 625.
(69) مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة: 245.
(70) رواه مسلم (2750) .
(71) انظر: مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة: 245.
(72) انظر: مقاصد المكلفين، للأشقر: 255، التداخل وأثره في الأحكام الشرعية، للدكتور محمد خالد: 61، التداخل بين الأحكام، للدكتور الخشلان: 1/ 168.
(73) انظر: المدخل، لابن الحاج: 1/ 13، الجواب الكافي لابن القيم: 165، القواعد والأصول الجامعة، للسعدي: 96.
(74) المدخل، لابن الحاج: 1/ 13.
(75) الجواب الكافي، لابن القيم: 165.
(76) أنواع البروق في أنواع الفروق، للقرافي: 3/23.
(77) رواه مسلم (2985) ، وابن ماجه (4202) ، واللفظ له.
(78) أنواع البروق في أنواع الفروق، للقرافي: 3/ 23.
(79) أخرجه البخاري (824) .
(80) انظر: فتح الباري، لابن حجر: 2/192، الإخلاص، للأشقر: 108 117، التداخل بين الأحكام، للدكتور الخشلان: 1/ 173.
(81) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/ 79.
(82) أخرجه ابن ماجه (4202) ، وهو حديث صحيح.
(83) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/ 79.
(84) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 1/ 82 - 83.
(85) رواه مسلم (2985) .
(86) انظر: أعلام الموقعين، لابن القيم: 2/161، الإخلاص، للأشقر: 118.(182/26)
تأملات دعوية
بين تغيُّرين
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
تتسارع المتغيرات في هذا العصر بصورة غير مسبوقة، وتترك أثرها في
حياة الناس وسلوكهم، وفي قيم الأفراد والمجتمعات، وفي طريقة تفكير الناس
ورؤيتهم للأمور.
وكثير مما كان مؤثراً فيما مضى أصبح اليوم هامشياً محدود التأثير، وما لم
يكن في الحسبان أصبح اليوم يشكل تفكير الناس ويصنع مواقفهم.
ويصبح الدعاة إلى الله تعالى أمام هذا الواقع بين تغيُّرين:
الأول: أن يجرفهم الواقع، ويستجيبوا لضغطه فيصيبهم التغير في سلوكهم،
أو يتنازلوا عن بعض الحق الذي كانوا ينادون به، وقد رأينا طائفة من ذلك في حياة
كثير من الصالحين، كاستمراء كثير من المنكرات، والجرأة على كثير مما كان
يُتورع عنه أو يُتأثم منه، بل شهدنا كثيراً من حالات التساقط والتراجع.
والثاني: مراجعة الأهداف الدعوية، والخطاب الدعوي، والأساليب الدعوية،
والتفاعل مع متغيرات العصر في ذلك.
إننا بحاجة إلى دعوة إلى الثبات وتركيز عليه، وإلى اعتناء بالتربية الإيمانية
الجادة، فنحن أحوج إليها؛ خاصة مع كثرة فتن الشهوات والشبهات، وبحاجة إلى
انتقاد مظاهر التميع والتساهل في الدين، والتراجع في المواقف، والتحذير من هذه
الظواهر.
وفي المقابل نحن بحاجة ماسة إلى تقويم واقعنا الدعوي، وإلى السعي إلى
مراجعة الخطاب الدعوي والنهوض به، وتجاوز الأطر التقليدية.
فنحن أمام اتجاهين: اتجاه بحاجة إلى أن يُدفع ويُتفاعل معه، واتجاه بحاجة
إلى أن يُحجَّم ويُحَدَّ منه.
وفي مثل هذه المواقف يصعب التوازن، وتترك العوامل الشخصية والنشأة
التربوية أثرها في الناس، فمنهم من يسير في طريق التراجع مسوِّغاً كل ما يفعله
بالتفاعل مع متغيرات العصر، ومنهم من يحجم ويفوت الفرص مسوِّغاً ما يفعله
بالثبات في زمن المحن.
إن الاتفاق على نقطة واحدة يلتقي عندها الجميع مطلب مستحيل، ولو ساغ
في أي عصر لامتنع في عصرنا، لكننا بحاجة إلى الاعتناء بأطر وقواعد عامة
مشتركة يُسعى إلى تحقيق الاجتماع عليها، وتبقى بعد ذلك مساحة للاجتهاد والفروق
الشخصية. ومن ذلك:
* الاعتناء بالسلوك والهدي الشخصي، والبعد عن الوقوع فيما حرم الله،
والحذر من التساهل في الدين.
* تأصيل الثوابت والاعتناء بها، والاعتدال بين طرفين: طرف يوسع دائرة
الثوابت ويدرج كل ما اعتاد عليه وألفه فيها، وطرف يتجرأ على مناقشة كل شيء
بحجة تغير العصر واختلاف الظروف.
* الاعتناء بالعلم الشرعي والاهتمام به؛ فإنه يضبط المسيرة ويحمي بإذن الله
من الزلل.
* استيعاب تعدد الآراء والمدارس الفكرية والدعوية فيما يسوغ فيه الاجتهاد،
وثمة فجوة واسعة في ذلك لدينا بين النظرية والتطبيق؛ فمع تقريرنا لذلك نظرياً إلا
أننا نضيق ذرعاً بالخلاف ولا نستوعب تعدد المدارس.
* فتح مجالات واسعة للحوار والتناصح، وإحسان الظن بالآخرين حتى لو
اختلفنا معهم في المواقف والاجتهادات، وتجنب وصم من يخالفنا بالانغلاق أو
التسيب؛ فهذا مما يزيد الفجوة.
* إعادة النظر في كثير من المواقف التي صيغت وفق ظروف معينة،
ومراجعتها مع المتغيرات الجديدة، ولا ينكر تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.(182/32)
قراءة في كتاب
التحالف الأسود
بين وكالة الاستخبارات المركزية والمخدرات والصحافة
تأليف: ألكسندر كوكبرن، وجيفري سانت كلير
ترجمة: أحمد محمود
عرض: خالد محمد حامد
في خبر أوردته وكالات الأنباء ذكر عقيد سابق في جهاز الاستخبارات
الروسية الخارجية أن الجهاز هو المسؤول عن مجموعة التفجيرات التي شهدتها
العاصمة الروسية موسكو في سبتمبر/ أيلول 1999م، والتي نُسبت إلى (متطرفين)
شيشان، وأدت لاحقاً في سياق تطورات الموقف إلى اندلاع الحرب الروسية في
جمهورية الشيشان. وقد أدلى الضابط بشهادة مكتوبة، وأخرى عبر التلفزيون للجنة
وطنية روسية ما زالت تبحث عن أسباب تلك التفجيرات.
لم يكن هذا أول الاتهامات ولا آخرها لجهاز مخابرات ما بتدبير أعمال
تخريبية ضد مواطني بلده، ثم إلصاقها بقوى سياسية أخرى، أو استغلال هذه
الأعمال لتحقيق مكاسب سياسية بعيدة وغير ظاهرة للجمهور.. وليس ببعيد عنا
الجدل الدائر حول ما حدث في الجزائر؛ خاصة أنه لم تَخْبُ بعد جذوة الاعترافات
العلنية والاتهامات للجيش وأجهزة الأمن الجزائرية بتدبير المذابح البشعة أو على
الأقل بعضها ضد المواطنين الجزائريين العزل، وإلصاقها بالجماعات الإسلامية
المختلفة. وإن صدقت هذه الاعترافات والاتهامات؛ فإن الهدف من تلك
الأعمال هو إشاعة الذعر بين المواطنين، وتسويغ قمعهم باسم الحفاظ على
الأمن، واستمرار الحكم بحالة الطوارئ، وتشويه صورة التيار الإسلامي كله،
وتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية داخلية وخارجية من وراء ذلك..
وليس ذلك بمستغرب على أجهزة الاستخبارات عموماً؛ حيث تَعُدُّ هذه
الأجهزة (العمليات القذرة) من صلب أعمالها، بل تضع مثل هذه الأعمال ضمن
مفاخرها التي تُظهر فيها مهاراتها وكفاءاتها.
والكتاب الذي نعرض له يكشف كثيراً من هذه الأعمال، ولكنه يضيف
أطرافاً أخرى ضالعة في هذه الأعمال ومكملة لأدوارها، كأجهزة الإعلام وعصابات
المخدرات؛ لذا جاء عنوانه: (التحالف الأسود.. وكالة الاستخبارات المركزية
والمخدرات والصحافة Whiteout - The CIA, Drugs and the Press)
وقد صدرت الطبعة الأولى للترجمة عام 2002م عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر.
يقع الكتاب في 500 صفحة من القطع المتوسط، وينقسم إلى مقدمة وخمسة
عشر فصلاً، وهو بدون تقديمات أو تمهيدات من المترجم أو غيره من أصحاب
مثل هذه الاهتمامات من الكتَّاب والباحثين العرب.
وإذا كنت لن أستطيع في مثل هذا المقال تقديم عرض تلخيصي واف لمثل
هذا الكتاب الضخم المليء بالمعلومات والتفاصيل، فيمكن تقديم نبذ وإلماحات
سريعة مما ورد فيه عن هذا العَالَم الذي أقل ما يوصف به: أنه عَالَم شياطين
ومتجردين من جميع الصفات والمعاني الإنسانية.
قبل أن يخوض الكاتبان في التفاصيل يؤكدان في المقدمة نقطة مهمة قد تغيب
عن كثيرين أو قد تعمَّى عليهم، وهي إسناد المسؤولية عن هذه الأعمال إلى
أصحابها الحقيقيين، فيقولان صراحة: «ونحن لا نقبل هذا الفصل بين أنشطة
وكالة الاستخبارات المركزية عن سياسات الحكومة الأمريكية وقراراتها ... فقد
كانت وكالة الاستخبارات المركزية على الدوام المنفِّذ المطيع لإرادة الحكومة
الأمريكية التي تبدأ بالبيت الأبيض» .
يبدأ الكتاب بذكر قصة الصحفي «جاري وب» ، وهو أول من كشف بمثل
هذه القوة تورط الـ (CIA) مع عصابات تجارة المخدرات في إغراق المجتمع
الأمريكي بأصناف المخدرات الفتاكة، وذلك عندما نشر أيام 18 و 19 و 20
أغسطس عام 1996م في صحيفة (سان هوزيه ميركوري نيوز) سلسلة مقالات
بعنوان رئيس: (التحالف الأسود) ، وعنوان فرعي: (القصة التي وراء زيادة
تدخين الكوكايين المفاجئة) ، وكان العنوان الرئيس في اليوم الأول هو: (جذور
بلاء أمريكا في حرب نيكارجوا) .
ويمضي الفصل الأول من الكتاب وهو بعنوان: (قصة «وب» الكبيرة)
في ذكر تفاصيل هذا التورط، ولأن وكالة الاستخبارات المركزية كانت في كل مرة
تنكر من خلال الصحافة الموالية لها الاتهامات الموجهة لها، مدعية أنها اتهامات
«لا أساس لها» ، أو أنها «مبالغ فيها» أو أنها «غير مؤكدة» ... فقد اهتم
«وب» وتابعه الكتاب الذي نعرض له بذكر التفاصيل الدقيقة المدعمة
بالوثائق والمستندات والشهادات التي تدل دلالة دامغة على هذا التورط.
ترجع بدايات هذا التورط عندما سقط نظام «سوموزا» الموالي لأمريكا في
نيكارجوا، واستيلاء شيوعيي جبهة «ساندينستا» على الحكم هناك؛ مما أقلق
الإدارة الأمريكية برئاسة كارتر حينها ودفعها إلى تنظيم ميليشيات مقاومة عسكرية
مضادة عرفت فيما بعد بـ (كونترا) ، تمركزت في هُندوراس، وأشرف عليها
ضباط (فرق الموت) الأرجنتينيون السابقون، وقبل أن يوقِّع الرئيس ريجان في
نوفمبر 1981م على قرار الأمن القومي الذي يوفر ميزانية مقدارها 19.3 مليون
دولار لكونترا من خلال وكالة الاستخبارات المركزية؛ وجد رجال الكونترا أنفسهم
في ضائقة مالية، ولأن بعض قياداتهم ومن على صلة بهم من أصحاب المصلحة
في عودة النظام القديم كان من أصحاب السوابق والملفات الإجرامية خاصة في
التهريب؛ فقد برز تهريب المخدرات وبيعها بأسعار رخيصة في شوارع المدن
الأمريكية وخاصة جنوب وسط لوس أنجلوس ذات الأغلبية السوداء وسيلة واقعية
للتمويل تحت شعار (الغاية تسوِّغ الوسيلة) .
إلى هنا والأمور قد تبدو متوقعة، ولكن غير المتوقع أن الـ (A.I.C)
عندما لم تحصل من الكونجرس على المخصصات المالية التي طلبتها لتمويل
الكونترا (خصص الكونجرس عام 1984م مبلغ 24 مليون دولار، وهو تقريباً
ربع ما طلبته الـ A.I.C) ؛ بحثت عن مصادر تمويل بديلة، وكان نشاط
رجال الكونترا في تهريب المخدرات هو الوسيلة الواقعية أمام وكالة الاستخبارات
المركزية للحصول على ما تريده من مال خاصة بعد تفجير فضيحة (إيران كونترا)
التي تورطت فيها الوكالة أيضاً فكان تهريب المخدرات وبيعها يتم بعلم وأحياناً
بإشراف الوكالة، بل كانت الطائرات العسكرية تهبط في بعض المطارات لتفرغ
حمولتها من شحنات السلاح لمقاتلي الكونترا، وتعود محملة بشحنات المخدرات
التي تأخذ طريقها فيما بعد لعصابات التوزيع في الشارع الأمريكي، ومارست
الوكالة نفوذها لحماية هؤلاء المهربين والتستر عليهم، وإحباط جهود وكالة مكافحة
المخدرات وجهات تنفيذ القانون الأخرى في ملاحقتهم.
وبحلول عام 1985م كانت هناك 15 مدينة أميركية تشكل أسواقاً مفتوحة أمام
مافيات المخدرات التي كانت توزع المخدرات أحياناً بنظام (الأمانات!) ..
وتركت العصابات والتجار والموزعين الصغار الذين يروِّجون هذه المخدرات في
كاليفورنيا وسان فرانسيسكو يجوبون الشوارع الخلفية بحُريَّة، وهكذا تسببت
الوكالة في رفع نسبة المدمنين الأمريكيين بنحو 18% خلال عقد الثمانينيات، ولم
يهتم هؤلاء جميعاً بحجم الشباب الذين كانوا يموتون من الجرعات الزائدة، أو
يفقدون عقولهم عندما يلح عليهم المخدر ولا يجدونه.
لقد تسبب كوكايين التدخين الذي كانت هذه العصابات توزعه في تحطيم أسر
بسبب الإدمان، وكان المدمنون يسرقون بأي صورة للحصول على الجرعة التالية،
وكانت هذه العصابات تدخل في معارك دامية للسيطرة على مناطق النفوذ؛ مما
أوجد مناخاً إجرامياً واسعاً في هذه المدن.
* الهجوم المضاد:
لم يكن «وب» أول من أثار هذه الاتهامات ضد وكالة الاستخبارات
المركزية؛ فالاتهامات نفسها أثيرت من قَبْلُ في منتصف الثمانينيات، ولكنها في
ذلك الوقت لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام وتم تجاهلها، أما عندما نشر «وب»
مقالاته في منتصف التسعينيات فقد لعب الإنترنت دوراً مهماً في نشر هذه المقالات
واتساع الجدل حولها؛ لذا لم يكن من الممكن تجاهلها، كما أن أحد الأبعاد التي
تناولها «وب» في مقالاته ما ذكره من أن نشاط موزعي كوكايين التدخين
الرخيص كان في المناطق التي يغلب على سكانها الأمريكان السود ذوو الأصول
الأفريقية؛ مما أوجد موجة من السخط العارم وسط هذه الأوساط، وهذا أيضاً مما
يعطي لمقالاته أبعاداً خطيرة، وخاصة أنه يشيع في هذه الأوساط من قَبْلُ
اضطهادها من قِبَل السلطات التي يغلب عليها ذوو الأصول البيضاء؛ فهناك
اتهامات بمؤامرات مفترضة مثل أن الحكومة تعمدت إصابة السود بفيروس الإيدز،
وأن دجاج الكنيسة المحمَّر، ومشروبات سنابل أضيفت إليها كيماويات لتعقيم
الرجال السود.. لذا جاءت هذه الاتهامات الجديدة لتجد آذاناً صاغية، وتشعل ثورة
الغضب من جديد؛ مما ينذر بخطر اجتماعي داهم.
من أجل ذلك كله كان لا بد من هجوم مضاد يهدف إلى أمرين: تحطيم
«وب» مهنياً والقضاء على مصداقيته هو والصحيفة التي نشر فيها مقالاته،
وتبرئة ساحة وكالة الاستخبارات المركزية مما نسب إليها من اتهامات. ومن ثم
شُن على «وب» وصاحب صحيفته أشرس هجوم من وسائل الرأي العام
المعروفة، ثم شاركت فيما بعد الصحيفة التي يعمل فيها «وب» نفسه في الهجوم
عليه وتحطيمه.
ونستطيع القول إنها كانت «حملة إبادة» شاركت فيها وسائل الإعلام
المعروفة لدى الرأي العام التي لبعض محرريها صلات بوكالة الاستخبارات
المركزية، كالواشنطن بوست، ولوس أنجلوس تايمز، ونيويورك تايمز، وشبكة
NBC، وشبكة CNN ... ولكنهم لم يكونوا موضوعيين، ولم يناقشوا المستندات
التي قدمها «وب» ، ولا شهادات بعض الأطراف التي أدلوا بها تحت اليمين
القضائي، ولكنهم بدلاً من ذلك حاولوا ممارسة نوع من النيل المعتمد على التجريح
الشخصي، والتشكيك في الهدف من نشر المقالات، وكان بعضهم يدفع بأن
ضرورات (الأمن القومي) تقتضي عدم نشر مثل هذه الأخبار، ف «نحن نعيش
في عالم قذر وخطير، وهناك بعض الأمور التي يجب ألا يعرفها الجمهور العام..
وأعتقد أن الديموقراطية تزدهر عندما يتخذ رجال الحكومة خطوات مشروعة للحفاظ
على أسرارها، وعندما تقرر الصحافة إن كان عليها نشر ما تعرفه أم لا!!» ،
وغاية ما كان يأتي من بعض هؤلاء هو إحالة الاتهامات بتبرئة ساحة الوكالة كجهة
حكومية، والزعم أن «أغلب ما سيظهر هو أن بضع ضباط من وكالة
الاستخبارات المركزية كانوا يتربحون لحسابهم الخاص» ، وهو ما تدحضه
المستندات والشهادات التي قدمها «وب» .
ثم يمضي الكتاب سارداً: تجنيد الوكالة للعلماء النازيين لخدمة أنشطتها
المريبة، والتحالف مع أمراء الأفيون في بورما وتايلاند ولاوس، وبرنامج
الاغتيالات في فيتنام، والتواطؤ لقلب نظام حكم «سلبادور أيِّندي» في شيلي،
وتسليح تجار الأفيون في أفغانستان، وتدريب الشرطة القاتلة في جواتيمالا
والسلفادور، إضافة إلى التورط في نقل المخدرات والسلاح بين أمريكا اللاتينية
والولايات المتحدة..
ورغم كل ذلك يقول أعوان الوكالة في الصحافة إنهم اكتشفوا أن أيدي الوكالة
ناصعة البياض، وعندما يتصدى صحفي معارض لهذا التيار مثل جاري «وب»
يكون زملاؤه الصحفيون هم الأدوات التي تشن بها الحرب عليه لتكذيبه والتشهير به،
رغم ما لديه من أدلة ومستندات وشهود على قيد الحياة.
* جذور البارانويا السوداء:
لم تكن ردود الفعل الغاضبة التي صدرت عن الأمريكان السود نابعة من فراغ؛
فهناك تاريخ طويل من الاضطهاد العرقي الذي مارسه الرجل الأبيض في القارة
الأمريكية ما زال ماثلاً في أذهان الملونين، والقصة التي ساقها «وب» عن
تواطؤ المخابرات المركزية في انتشار المخدرات بين سكان الأحياء الفقيرة من مدن
الجنوب الأمريكي مسَّت وتراً حساساً في نفوس السود، واستدعت حالة البارانويا
[1] التي خلفتها تصرفات الرجل الأبيض. ونستطيع إيراد لمحات دالة من هذه
التصرفات:
استخدام السود كحيوانات تجارب:
فمن الحقائق المرعبة في هذا التاريخ: استخدام السود حقل تجارب طبية؛
فمنذ عام 1932م، وعلى مدى أربعين عاماً، جُنِّد 600 من السود بدون علمهم من
مقاطعة ماكون بولاية ألباما؛ من أجل دراسة تجريها هيئة الصحة العامة الأمريكية
ومعهد تكسيجي، وأظهرت الدراسة أن أربعمئة من بين الستمئة مصابون بالسفلس
(الزهري) ، ولم يعط ضحايا تكسيجي أي علاج طبي فعال؛ لأن الباحثين كانوا
يريدون دراسة التطور الطبيعي لذلك المرض التناسلي، وعندما كان أطباء آخرون
يشخِّصون السفلس لدى بعض الرجال كان باحثو هيئة الصحة العامة يتدخلون لمنع
إعطاء أي علاج.
التطهير العرقي:
على نمط حضارة (إسبرطة القديمة) و (أفكار النازية) اهتم بعض
الأمريكان البيض بالظروف السيئة التي اتسمت بها الحياة في الأحياء الفقيرة، ومن
هؤلاء: المعالج النفسي «فريد جودوين» الذي كان في عام 1992م مديراً لهيئة
حماية اسمها (إدارة إساءة استعمال الكحول والمخدرات والصحة العقلية) ، وكان
«جودوين» شديد الحرص على تنفيذ برنامج حيوي طبي قومي للحد من العنف؛
حيث كانت الفكرة الجوهرية هي البحث عن (جين العنف) ، وبحثاً عن الأساس
البيولوجي المفترض.
كان «جودوين» يردد كل الوساوس (المالثوسية) التي تعود إلى أواخر
القرن التاسع عشر، والمفكرين والساسة الأمريكيين البيض في أوائل القرن
العشرين، وقد كانوا يعتقدون أن (التعقيم) هو أفضل طريقة للحفاظ على نقاء
(مجمع الجينات القومي) .
وكان «جودوين» يتبع خطوات المعالج النفسي في جامعة كاليفورنيا بلوس
أنجلوس (جولي ويست) الذي وضع خطة عام 1969م لوضع أقطاب كهربائية في
أدمغة المشتبه فيهم من الجناة الذين يتَّسمون بالعنف، وكان «ويست» يعمل لفترة
طويلة مع كيميائيي وكالة الاستخبارات المركزية، وغيرهم من العلماء والباحثين
في استخدام (عقار الهلوسة) لتعديل السلوك البشري.. وفي هذه الفترة بالذات
(أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) كان علماء الأعصاب والمعالجون النفسيون
مشغولين إلى حد كبير بمشاكل العنف الحضري، وكان أحد أساتذة «ويست» هو
الدكتور «أرنست رودين» يوصي بإجراء جراحات المخ النفسية والإخصاء
باعتبارها التكنولوجيا الطبية المناسبة للطبقات الخطيرة، وقد أوصى «ويست»
بعد تمرد مقاطعة واتس في لوس أنجلوس بأن تحل مادة «أسيتات السيبرتيرون»
وهي مادة معقِّمة ابتكرها الألمان الشرقيون محل منجل الخَصَّائين، وبحلول عام
1972م اقترح «ويست» استغلال نزلاء السجون مواد للبحث في ذلك العلاج.
إن فكرة (مجمع الجينات القومي) فكرة قديمة، فقد كان مؤسسو معهد
كاليفورنيا للتكنولوجيا على سبيل المثال متعصبين لتحسن الجنس البشري، وفيما
بين 1907م و 1913م وضعت اثنتا عشرة ولاية وأولها إنديانا لوائح للتعقيم
الإجباري لأي شخص يثبت أنه مجرم أو معتوه أو مغتصب أو أبله موجود في
مؤسسة حكومية، وتقرر لجنة طبية أن حالته (غير قابلة للتحسن) .
ويورد «ألان تشيس» في كتاب Malthus of Legacy The أن
63678 شخصاً عُقِّموا تعقيماً تاماً فيما بين 1907م و 1964م في ثلاثين ولاية
ومستعمرة واحدة بموجب تلك القوانين، إلا أنه يشير كذلك إلى أن أولئك الضحايا
يمثلون «أقل جزء من العدد الحقيقي للأمريكيين الذين أخضعوا في هذا القرن
لعمليات تعقيم إجبارية لتحسين النسل البشري؛ أجرتهاً جهات فيدرالية وأخرى تابعة
للولايات» .
ويورد «تشيس» ما قاله القاضي الفيدرالي «جيرهارد جيسيل» عام
1973م في قضية رفعت باسم ضحايا التعقيم الإجباري للفقراء: «على مدى
السنوات القليلة الماضية؛ كان يعقم ما بين 100 ألف و150 ألف شخص من ذوي
الدخل المنخفض سنوياً؛ في إطار برنامج ممول فيدرالياً» ، وكما يشير «جيسيل»
فإن هذا المعدل يساوي ما تحقق في ألمانيا النازية.
لقد كانت تتردد باستمرار في برنامج التعقيم الكبير نبرة (العمل من أجل خير
البشرية) ، وفي بعض الأحيان كان يعترض على هذا البرنامج بأن التعقيم سوف
يحرم العالم على الأقل من المواطنين المفيدين الممتثلين للقانون الذين يرعون
أنفسهم، وهناك إقرار بأنهم قد لا يكونون أذكياء، ولكن لو توقف إنجاب محدودي
الذكاء كافة؛ فمن ذا الذي سيحفر المجارير ويجمع القمامة؟!
ومع أن «اليوجينيين» الذين يفضلون كلمات من قبيل (ضعاف العقول) أو
(البُله) ، ويتحاشون عادة المصطلحات التي تنطبق على جنس بشري بعينه؛ فقد
كان الهدف في الغالب هو (السود) .
ألا يمكن أن يزداد ما لدى الرجل الأسود أو المرأة السوداء الذي يعاني بالفعل
من (البارانويا) بشأن فكرة معالجة الفقر أو العنف عل يد كيميائيين حكوميين
يحملون في حقنهم عوامل (إعادة التوازن) من بارانويا عند رؤيته آثار وساوس
قديمة موجودة لدى الجهات الحكومية مثل وكالة الاستخبارات الأمريكية؟!
إنها إذن ليست (البارانويا) التي تجعل أي شخص أسود يستنتج أنه منذ
تكريس المفكرين والساسة البيض البارزين في القرن التاسع عشر الكثير من جهدهم
لتقليل عدد السود؛ عن طريق وسيلة (التعقيم) أو (الاعتداء الطبي الانتقائي)
الذي يوصف تأدباً بـ (علم اليوجينيا) ! .
الحرب البيوكيماوية العنصرية:
يعود استخدام أمريكا للأسلحة البيولوجية إلى ستينيات القرن التاسع عشر؛
عندما وزع الأمريكان البطاطين الملوثة ببكتيريا الكوليرا على قبائل الهنود الحمر
(مواد إغاثة خيرية!!) ، وفي عام 1900م نقل أطباء الجيش الأمريكي في الفلبين
إلى خمسة من السجناء نوعاً من الطاعون، كما نقلوا البري بري إلى 29 آخرين.
وفي عام 1942م أصاب أطباء الجيش والبحرية الأمريكيون 400 سجين في
شيكاغو بالملاريا؛ في تجربة قصد بها الحصول على (صورة المرض، وابتكار
علاج له) ، وكان معظم النزلاء من السود ولم يُبَلَّغ أي منهم بمخاطر التجربة.
وفي عام 1951م لوث الجيش الأمريكي سراً مركز (نورفولك) للتموين
البحري في فيرجينيا بالبكتيريا، واختير نوع من البكتيريا كان يعتقد أن السود أكثر
قابلية للتأثر به من البيض.
وفي عام 1970م، وفي مقال نشرته (ميليتاري ريفيو) المجلة التي يصدرها
الجيش الأمريكي وكلية الأركان العامة، ناقش عالم وراثة سويدي اسمه «كارل
لارسون» الأسلحة المنتقاة وراثياً، وذكر «لارسون» أنه رغم أن دراسة
الإنزيمات المؤيضة للمخدرات لا تزال في بدايتها؛ فإن «التفاوتات الملحوظة في
الاستجابة للعقاقير أوضحت احتمال وجود اختلافات وراثية كبيرة في قابلية الإصابة
بالعوامل الكيماوية بين الشعوب المختلفة» .
ومضى «لارسون» ليتوقع أنه في عملية أشبه بخرطنة الجماعات العرقية
في العالم «قد يكون لدينا عما قريب شبكة نضع عليها الملاحظات الجديدة من هذا
النوع» ، وهي الفكرة التي تحققت مؤخراً من خلال ما يعرف بـ (مشروع
الجينوم البشري) ، وفي الاتجاه نفسه أشار تقرير للجيش الأمريكي صادر في
1975م في خاتمته إلى أنه «من الممكن نظرياً ابتكار ما تسمى أسلحة عرقية؛
يمكن تصميمها بحيث تستغل الفروق الطبيعية في قابلية الإصابة بين جماعات
سكانية محددة» .
الانتقائية العنصرية في تنفيذ القوانين:
يعد التطبيق العنصري لقوانين المخدرات الأمريكية أحد الموضوعات التي يتم
تجاهلها دائماً عند ذكر قصص (البارانويا السوداء) ، وكان أول تطبيق عنصري
لقوانين المخدرات في أمريكا ضد عمال كاليفورنيا؛ فبعد الحرب الأهلية الأمريكية
كان إدمان الأفيون مشكلة كبيرة؛ وفي عام 1875م أصبحت سان فرانسيسكو أول
مدينة تجرِّم تدخين الأفيون بناءً على تشريع كان من الواضح أنه يستهدف العمال
الصينيين الذين جُلبوا إلى الجنوب ليحلوا محل العبيد؛ جالبين معهم عادة تدخين
الأفيون التي شجعهم البريطانيون على إدمانها.. فجاء القانون الأمريكي ليعاقب من
يدخنون الأفيون دون الذين يتعاطونه سائلاً؛ حيث كان الرجال والنساء البيض
يتعاطونه على هذه الصورة.
في عام 1930م أنشئت إدارة جديدة في الحكومة الفيدرالية، هي مكتب
«المخدرات والعقاقير الخطيرة» برئاسة «هاري أنسلنجر» الذي فرض رأيه
بأن الإدمان غير قابل للعلاج، وإنما يمكن القضاء عليه بالعقوبات الجنائية،
وكانت أولى حملات «أنسلنجر» الكبرى لتجريم المخدر المعروف في ذلك الوقت
باسم (القنّب) ، ولكن «أنسلنجر» أسماه (ماريوانا) لربطه بالعمال المكسيكيين
الذين كانوا كالصينيين قبلهم منافسين غير مرحب بهم في فرص العمل النادرة في
فترة الكساد.
وفي عهد نيكسون؛ أكد الرئيس أن مشكلة المخدرات تكمن في السود، وكانت
هذه الإلماحة فاتحة لغضب تام في سنوات ريجان وبوش وكلينتون، عندما
أصبحت الحرب على المخدرات صراحةً حرباً على السود.
وهكذا نجد أنه في عام 1995م راجعت لجنة الأحكام الأمريكية ثماني سنوات
من تطبيق بند في قانون صدر عام 1986م؛ يقضي بالحكم بإعدام العقول المدبرة
لتجارة المخدرات، ومنع طلب تخفيف الأحكام حتى جرائم الحيازة الصغيرة،
ووجدت أنه عنصري بصورة لا سبيل إلى إنكارها في تطبيقه؛ ذلك أن 84% ممن
ألقي القبض عليهم لحيازتهم كوكايين التدخين كانوا من السود؛ بينما 10% فقط من
البيض، و 5% من ذوي الأصول الإسبانية، بل إن التباين في تحقيقات تجارة
الكوكايين التدخيني كان أوسع؛ ذلك أن 88% من السود، و 7% من ذوي
الأصول الإسبانية، و 4% من البيض. وكان 70% من أحكام الإدانة بموجب
القانون فيما بين 1989م و 1996م ضد البيض، و 24% ضد السود، ولكن في
90% من المرات التي سعى خلالها المحققون الفيدراليون إلى تطبيق عقوبة الإعدام
لم يكن هناك ولا أبيض واحد، فقد كان 78% منهم سوداً، والباقون من ذوي
الأصول الإسبانية، علماً بأن السود يمثلون 16% فقط من عدد سكان أمريكا.
التجسس الداخلي باسم الأمن القومي:
وباسم الأمن القومي ساد عام 1968م نظام واسع من التجسس الداخلي ضم
304 مكاتب في أنحاء البلاد، إلى جانب «ملفات أمن قومي مدمِّرة» عن
80731 أمريكي، بالإضافة إلى 19 مليون ملف شخصي مودعة في فهرس
التحريات المركزي بوزارة الدفاع، ومن أشهر من مُورس عليه هذا التجسس زعيم
مقاومة التفرقة العنصرية الأسود الدكتور «مارتن لوثر كينج» ، الذي شكل
التجسس عليه واحدة من أطول المراقبات المفروضة على أي عائلة في التاريخ
الأمريكي، بل يذكر الكتاب الشكوك التي تدور حول مقتل كينج نفسه.
ومن الشخصيات البارزة التي خضعت لهذا النظام: «إ. ب. دوبيوس»
مؤسس الاتحاد القومي لتقدم الملوَّنين؛ حيث خضع للمراقبة قرابة سبعين عاماً،
وألقي القبض عليه وقيد بالأصفاد بسبب دعوته لإجراء محادثات سلام مع كوريا
الشمالية.
وكانت وكالة الاستخبارات المركزية قد جمّعت من خلال (العملية فوضى) ،
وما شابهها من برامج، ملفات عن أكثر من 300 ألف اسم، وكانت تتنصت على
المكالمات التليفونية الخاصة بالصحفيين الأمريكيين، وتخترق الجماعات المنشقة،
كما أنفقت 33 ألف دولار لدعم حملة لكتابة خطابات تأييد لغزو كمبوديا.
* تاريخ أسود:
في 22/11/1996م وجهت وزارة العدل الأمريكية إلى الجنرال «جين
دافيلا» من فنزويلا اتهامات تتعلق بتوريد الكوكايين إلى أمريكا، وادعى المحققون
الفيدراليون أنه أثناء رئاسة الجنرال «جين» لوحدة مكافحة المخدرات في فنزويلا!!
هرّب ما يزيد على 22 طناً من الكوكايين إلى داخل أمريكا وأوروبا، ولكن
«جين» رد على الاتهامات من ملاذه في كاراكاس بأن أكد أن شحنات الكوكايين
إلى أمريكا كانت بموافقة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
والحقيقة أن لهذه الوكالة تاريخاً حافلاً من (العمليات القذرة) ، فلا خلاف
على أن وكالة الاستخبارات المركزية استخدمت الاغتيال سلاحاً لإضعاف النظام
السياسي أو الاجتماعي، وعلى سبيل المثال فقد اعترف مدير سابق للوكالة في
سبعينيات القرن الماضي «وليام كولبي» بإشرافه على (برنامج فينيكس) وغيره
من العمليات التي تسمى (مضادة للإرهاب) في فيتنام.
وفي شهادة أدلى بها «كولبي» أمام الكونجرس تباهى بمقتل 20587 من
نشطاء (الفيت كونج) بين 1967م و 1971م فقط، بينما أعلن الفيتناميون أن 41
ألفاً لقوا حتفهم. وربما كان هؤلاء أسعد حظاً من 29 ألف مشتبه فيهم من (الفيت
كونج) قبض عليهم واستجوبوا بأساليب مرعبة؛ حتى بمعايير ديكتاتورات العالم
الثالث، وفي عام 1972م أدلى طابور من الشهود بشهاداتهم أمام الكونجرس بشأن
الأساليب التي اتبعها محققو فينيكس: كيف كانوا يستجوبون المشتبه فيه ثم يلقون
بهم من الطائرات، وكيف كانوا يقطعون أصابعهم وآذانهم، وكيف كانوا يستخدمون
الصدمات الكهربائية، ويدقون الخوابير الخشبية في أدمغة بعض المسجونين،
ويضعون المناظير المكهربة في فتحات شرج غيرهم.
ومن هذه العمليات التخلص من الزعماء الذين يمثلون مصدر خطر على
مصالحهم، ولو كانوا من حلفائهم وعملائهم، فبحلول عام 1960م كان «روفائيل
تروخيو» رئيس جمهورية الدومينيكان قد أصبح مصدر إزعاج لواضعي السياسة
الخارجية الأمريكية؛ إذ بدا فساده الواضح وكأنه سيؤدي إلى ثورة أشبه بتلك التي
أتت بـ «فيدل كاسترو» إلى السلطة، وكانت الطريقة الوحيدة لتلافي ذلك
الاحتمال غير المرغوب فيه هو ضمان انتهاء حياة «تروخيو» السياسية على
الفور، وهو ما حدث في أوائل 1961م، فقد أردي «تروخيو» قتيلاً وهو في
سيارته خارج بيته، وظهر أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت وفرت السلاح
والتدريب لمنفذي اغتيال الطاغية الذي كانت الوكالة قد جاءت به إلى السلطة في
البداية.
ويذكر الكتاب سلسلة من محاولات اغتيال الزعماء السياسيين الذين بدا
وجودهم مزعجاً لأمريكا في أنحاء كثيرة من العالم؛ منهم: الزعيم الكونغولي
«لومومبا» الذي حاولوا اغتياله بتسميم طعامه ومعجون أسنانه بسُمٍّ حيوي؛ يشبه
في أثره مرضاً متوطناً في الكونغو، ورغم تهريب السم والأدوات إلى البلاد في
حقيبة ديبلوماسية إلا أن المحاولة أخفقت.
ولم تدخر الوكالة جهداً لإجراء حوالي ثلاثين محاولة لاغتيال الزعيم الكوبي
«فيدل كاسترو» ؛ منها محاولة بتصميم طريقة لتشبيع ستوديو الإذاعة الذي يلقي
منه «كاسترو» أحاديثه بـ (عقار الهلوسة) البخاخ وغيره من «المنشطات
النفسية» ، ودعت خطة أخرى إلى تشبيع نوع السيجار المفضل لدى «كاسترو»
بالمخدرات المؤثرة على العقل أو بسُم الالبوتولينوم الذي يقتل خلال ساعات، بل
كان يكفي لمس السيجار فقط وليس تدخينه كي يقتل ضحيته.
وفي عام 1970م أُجبرت الوكالة قضائياً على نشر خبر وجود سبعة صناديق
من المعلومات عن برنامج أبحاث قامت بها الوكالة على مدى عشرين عاماً عن
«المخدرات المؤثرة على العقل وتعديل السلوك» ، والواقع أن هذا البرنامج
ومجموعة كبيرة من المشروعات ظلت قائمة حتى 1973م على الأقل، وشملت
السعي لابتكار أساليب لضبط العقل بما في ذلك (جراحة المخ النفسية) ، وكانت
وكالة الاستخبارات المركزية ترغب في إيجاد نوع من (المرشح المنشوري) ؛
وهي قائمة تضم أسماء القتلة والجواسيس (المبرمجين كيميائياً ونفسياً) .
وهذا ناهيك عن حملات الدعاية المضللة، وجراحة المخ النفسية التي كانت
تمارسها بشكل واسع على الشعب الأمريكي (إدارة الفهم) بوكالة الاستخبارات؛
بواسطة بعض وسائل الإعلام، وكبار شركات العلاقات العامة في البلاد ...
والأمر كما يقول الكتاب فكما تذكرنا تلك اللمحات الموجزة؛ فإن وكالة
الاستخبارات المركزية هي على وجه الدقة ما يتوقعه المرء من هيئة ذات تفويض
يمتد من جمع وتحليل البيانات الاستخبارية حتى تنفيذ التدمير، والتلاعب في
الانتخابات، والاغتيالات، وإدارة الحروب السرية....
والكذب جزء من توصيف وظيفة وكالة الاستخبارات المركزية؛ حيث تقدم
البيانات الزائفة دوماً للحلفاء، والصحافة، وغيرها من الوكالات الفيدرالية،
والكونجرس..
* ماذا يعني (التحالف الأسود) ؟
يسجل كتاب (التحالف الأسود) إخفاق الـ A.I.C في عملياتها أكثر من
مرة، ولكن الإخفاق الكبير الذي يشير إليه هو الإخفاق الأخلاقي الذي لازم مسيرتها،
بل إخفاق النظام السياسي الأمريكي في أن يكون وفياً لمبادئ إنسانية يدَّعي أنه
يؤمن بها ويحميها، ويشن الحملات العديدة على الدول الأخرى بدعوى مخالفتها
لهذه المُثُل: فأين هي حقوق الإنسان عندما تنفذ «جهة حكومية» عمليات تستهدف
القضاء على حياة هذا الإنسان أو تغييب عقله عندما تشرف على تهريب المخدرات؟!
وأين هي هذه الحقوق عندما تمارس «جهات حكومية» عمليات تطهير عرقي
وتفرقة عنصرية حتى ضد مواطنيها؟! وأين هي هذه الحقوق عندما تمارس أساليب
القمع وانتهاك الحرمات والتجسس؟!
ورغم أن الكتاب يشير في متابعاته إلى نجاح بعض الصحفيين إلى حد ما في
نشر ما يريده، وممارسة نوع من الرقابة على أجهزة تنفيذ القانون؛ فإنه يسجل
كذلك كيف أن بعض أباطرة الإعلام وأعمدة الحكم متواطئون في العمل على إخفاء
الحقيقة عن الرأي العام، ومحاربة من يسعون لنشرها، وهو ما يشير إلى حقيقة
الإعلام الغربي المخدوع به كثيرون.
كما أن الكتاب يقدم شهادة على زيف الديموقراطية التي ينعق بها الغرب؛ فلقد
ديست (إرادة الشعب ممثلاً في الكونجرس) مع كل شحنة مخدرات كانت تدخل
أمريكا بعلم وكالة الاستخبارات الأمريكية؛ حيث لم ترض هذه الوكالة بالحصة
المالية التي قررها (ممثلو الأمة الأمريكية) ، ولجأت إلى تحقيق ما تريده هي
باعتبارها جهة تنفيذ ولو كان ذلك بأقذر الأساليب وأبشعها وأضرها على المواطنين؛
فالمبدأ الوحيد الخالد عندهم هو (الغاية تسوِّغ الوسيلة) .
__________
(1) البارانوريا الاضطهادية - Persecutory Paranoia جنون الاضطهاد أو الارتياب: حالة عصاب تتسلط فيه على المريض أوهام تتعلق بتعقب الناس له، ومحاولتهم إلحاق الأذى به.(182/34)
ندوات
القضية الأمازيغية في المغرب
بين الهوية الإسلامية ومحاولة الاحتواء العلماني
د. فريد الأنصاري [*]
ليس من السهولة تقديم توصيف دقيق، أو تعريف جامع مانع للتيار الأمازيغي
في المغرب، فهو تيار معقد ومتشابك؛ لما دَاخَلَه من ملابسات وتوجهات مختلفة:
ثقافية، وإيديولوجية، وقومية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية ... إلخ.
فـ «الأمازيغية» في معناها المعجمي البسيط هي: لغة السكان الأصليين
لمناطق الشمال الإفريقي.
و «الأمازيغيون» قبائل شتى تلتقي أنسابهم جميعاً عند جدهم الأعلى الذي
يتسمون باسمه نسبةً، وهو (مازيغ) الذي تقول بعض المصادر التاريخية إنه من
أحفاد نوح عليه السلام.
إلا أن التيار الأمازيغي اليوم شيء مختلف؛ فالملف الأمازيغي الموضوع على
الطاولة السياسية المغاربية اليوم ملف معقد؛ فهو يرجع إلى مجموعة من الجمعيات
الثقافية والأحزاب السياسية المختلفة التوجهات والأغراض، وإشكالاته مركبة من
قضايا شتى: فهو أولاً من الناحية اللسانية متعدد ومختلف، وهو من الناحية
التصورية متضارب إلى درجة التناقض أحياناً، ثم هو بعد ذلك من الناحية
التنظيمية متعدد غير متجانس؛ فمن جناح أمازيغي ثقافي محض.. إلى جناح
أمازيغي يرفع شعار الأمازيغية كإيديولوجية سياسية ذات مضمون علماني صرف؛
يتنكر للمكونات الثقافية الإسلامية، ويجعل مرجعيته الحضارية في مغرب ما قبل
الفتح الإسلامي.
* فما هي حقيقة التيار الأمازيغي؟
هل هي الأصول الحضارية التي اصطبغ بها الوجود التاريخي للمغرب؛ إذ
تكون من فسيفساء متناسقة مركبة من مجموع متعدد، ومختلف غير متناقض من
المكونات العرقية، والثقافية، واللغوية، في إطار الدين الإسلامي الجامع؛ هذا
الدين الذي برهن تاريخياً ولا يزال في العديد من بقاع العالم المتعدد الأعراق
واللغات على شموليته الاحتضانية، وقدرته الاستيعابية لكل اللغات والأعراق
والثقافات؟
أو أن حقيقة التيار الأمازيغي إنما هي هذه الطوارئ الظرفية، والنتوءات
(الشعوبية) التي لا تظهر عادة إلا في أحوال الفتور الحضاري للأمم؟
أو أن حقيقته هي هذا التيار اللينيني الغريق الذي يسعى للتشبث بأي شيء
يمكن أن يمد له في عمره؛ ريثما يستعيد قوته، ويجدد تصوراته، ويلم صفوفه؛
ليستأنف مسيرته المستقلة بصورة أوضح؛ كما هي معروفة في الفكر الماركسي
الذي يجمع بين القوميات واللغات في إطار ديكتاتورية البروليتاريا، وفي إطار
مفهوم (المجتمع الشيوعي) ؟
وهل بمقدور الأمازيغية من حيث هي جنس بشري، وبما هي (لغة طبيعية)
كما يقول علماء اللسانيات أن تتحمل كل ذلك؛ فتسعف كل هذه التيارات، وكل هذه
الأجنحة والتوجهات للوصول إلى مقاصدها الإيديولوجية والسياسية؟ أم أن ذلك كله
مجرد مخض الماء وطحن الهواء؟
لماذا هذا الاهتمام الإعلامي المتزايد خاصة منه الفرنكوفوني بالتيار الأمازيغي
السياسي في المغرب والجزائر؟
ما الأمازيغية إذن؟ ما هي إمكاناتها الحالية؟ وما احتمالاتها المستقبلية؟
لتسليط الأضواء حول جوانب من هذا الموضوع عقدت مجلة البيان ندوة:
(القضية الأمازيغية بالمغرب؛ بين الهوية الإسلامية ومحاولة الاحتواء العلماني) .
فاستضافت متخصصين في هذا المجال؛ بلا ممالأة لأي اتجاه إيديولوجي أو
سياسي؛ فهم جميعهم أمازيغيون عرقياً ولغوياً، كما أنهم أكاديميون يعيشون الملف
الأمازيغي بوعي علمي، وبواقع معاش، وهم كما يلي:
من جامعة المولى إسماعيل بمكناس:
- الأستاذ الدكتور الحسين كنوان، أستاذ اللغة العربية، متخصص في علم النحو.
- الأستاذ الدكتور عبد الرحمن حيسي، أستاذ التفسير والعقائد الإسلامية.
- الأستاذ الدكتور محمد سدرة، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي.
ومن جامعة السلطان محمد بن عبد الله، بمدينة فاس:
- الأستاذ جواد بنامغار، عدل موثق بالمحكمة الابتدائية بولاية القنيطرة بالمغرب،
وباحث في الدراسات الإسلامية بجامعة السلطان محمد بن عبد الله بمدينة فاس.
ندعو الله أن يوفقهم لإجلاء الحقائق، وإفادة القراء بكل نافع ومفيد.
البيان: لنبدأ بالمصطلحات: (الأمازيغ) و (البربر) مصطلحان يستعملان
اليوم كما في كتب التاريخ للدلالة على السكان الأصليين لبلاد المغرب؛ فأيهما أدق
في الدلالة وأصدق؟
- الدكتور عبد الرحمن حيسي: إن الذي يناسب الطبيعة الاشتقاقية للأسماء
في هذه اللغة هو اسم «أمازيغ» ، ويُجمع على «إمازيغن» ، وكثير من الأسماء
المذكرة تأتي على هذا الوزن. ثم إنه الاسم الأصيل الذي أطلقه السكان الأصليون
للمغرب على أنفسهم - بغض النظر عن دلالته عندهم - فلا ينبغي أن نحيد عنه.
أما اسم «البربر» أو «البرابرة» ؛ فأصله لاتيني بلا خلاف، ويعني:
(المتوحشين) أو (الهمجيين) ، وكل اللغات الأوروبية الحديثة ذات الأصول
اللاتينية تستعمله بهذا المعنى. ويظهر أن أول إطلاق له على السكان الأصليين
للمغرب كان من قِبَل الرومان في غزواتهم التاريخية المعروفة لبلدان حوض البحر
الأبيض المتوسط، والتي شملت أجزاء من المغرب الأقصى، وهذا أمر معروف
في تاريخ الحركات الاستعمارية؛ حيث تستعمل مثل هذه الأوصاف للتنقيص من
شأن الشعوب المستعمرة.
البيان: بمناسبة اللغات؛ فإن علماء اللسانيات يقولون: (اللغة فكر) ؛ أي
إنه من المستحيل تجريد اللغة مثلاً من حمولتها الدينية التي امتزجت بها من
الناحية العرقية والتاريخية، فيكون بذلك لكلماتها مضمون نفسي يرتبط بالانتماء
الديني لأهلها؛ وبناء عليه فهناك من يريدون أن يصنعوا من اللغة الأمازيغية
حاجزاً للمغاربة عن الإسلام؛ على أساس أن اللغة العربية فصيحها وعاميها ذات
مضمون إسلامي؛ فهل اللغة الأمازيغية فعلاً تسعفهم بطبيعتها في ذلك؟ وهل
صحيح أن اللغة الأمازيغية خالية من المضمون الإسلامي؟
- الأستاذ جواد بنامغار: مضمون أي لغة إنما يتكون من عقيدة الناطقين بها
وتصوراتهم، والأمازيغ اعتنقوا الإسلام منذ حوالي أربعة عشر قرناً، وآمنوا به،
وأحبوه، وتعلموه، ونشروه، ودافعوا عنه خلال هذه القرون كلها؛ فكيف لا يكون
للأمازيغية مضمون إسلامي؟!
هذا من الناحية النظرية، أما عملياً وواقعياً؛ فدعني أقل لك إنني من أصل
أمازيغي، وأن والدي وأعمامي، وأخوالي يتكلمون الأمازيغية، وأخالط كثيراً من
الأمازيغيين من ذوي القرابة أو المصاهرة أو «أولاد البلاد» ، فلا أشعر أبداً أن
ما يتخاطبون به، ويتواصلون من خلاله من لغة أمازيغية خالية من المضمون
الإسلامي، بل على العكس من ذلك تجدها مليئة في عباراتها، ومعانيها، وأمثالها،
وأهازيجها، وقصصها الشعبية بما يؤكد هذا المضمون، وينبئ عن تشبع أهلها
بالإسلام ومبادئه.
- الدكتور الحسين كنوان: اللغة الأمازيغية لغة كباقي اللغات الإنسانية يمكن
التعبير بها عن الخير والشر معاً؛ حسب إرادة المُعَبِّر بكسر الباء وقصده.
لكن يبدو أن المقصود من الشطر الأول من سؤالكم حسب ما فهمت منه هو
أنكم تريدون أن تقولوا: هل يتضمن معجم اللغة الأمازيغية مفاهيم إسلامية، أم أنه
خال منها تماماً؛ ومن ثم هل يتوفر ضمير الإنسان الأمازيغي على روح إسلامية؟
على اعتبار أن اللغة الأمازيغية ما كانت ولن تكون حاجزاً بين من لا يحسن غيرها
وبين الإسلام، وذلك للأسباب التالية:
أ - أن اللغة الأمازيغية لغة مرنة تقترض المفردات الأجنبية عنها بدلالاتها
عند الاحتياج، وتضفي عليها من بنيتها التنظيمية ما يجعلها طيعة للسان الأمازيغي.
ويبدو أن هذا يقع فيما يدل على الثوابت من المعاني المتداولة في الحياة
الإنسانية أكثر منه في المتغيرات؛ فالكلمات التالية تُنطق بالأمازيغية دون تغيير
يذكر، أو مع تغيير طفيف يتلاءم مع النطق الأمازيغي كما يلي: فـ (الله) جل
جلاله هو (الله) بلا تغيير، و (جهنم) هي (جهنم) ، والرسول صلى الله عليه
وسلم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن «الجنة» تنطق «أَدْجَنْثْ» أو
«الجَنْثْ» حسب اختلاف اللهجات، و «الآخرة» هي «لُخْرَى» ، والنبي
صلى الله عليه وسلم هو «نْبي» بسكون النون.. وهكذا.
ب - لقد تغلغلت المفاهيم الإسلامية في عمق الفكر الأمازيغي عبر القرون
الطويلة التي مرت على الفتح الإسلامي للمغرب الأمازيغي، وعلى الرغم من
ضعف التعهد التربوي الإسلامي للإنسان الأمازيغي، كما هو الحال بالنسبة للمغرب
عموماً لظرف أو لآخر؛ فإن الروح الإسلامية تسري في عروق الأمازيغيين، وذلك
ما تعبر عنه إنشاداتهم وأهازيجهم في كثير من نواحي الحياة.
- الدكتور عبد الرحمن حيسي: الذي يعتقد أن بإمكانه جعل اللغة الأمازيغية
حاجزاً بين الأمازيغ والإسلام مخطئ في تصوره؛ لأن هذه اللغة قابلة بطبيعتها
الصرفية والاشتقاقية لحمل المضامين الإسلامية، بل هي تحملها فعلاً، كما يظهر
واضحاً في تراثها الأدبي الذي يزخر بقصائد شعرية رائعة في الإرشاد بتعاليم
الإسلام والدعوة إلى التمسك بها، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، وما
إلى ذلك من أغراض دينية.
ومنذ دخل الإسلام المغرب اهتم به الأمازيغ وأولوه كامل عنايتهم، فاجتهدوا
في حفظ القرآن والحديث وتعلم الفقه، ووُجِدَ منهم علماء أعلام أتقنوا العربية وألَّفوا
بها، ونقلوا منها إلى لغتهم الأمازيغية ما شاء الله نقله من المضامين الإسلامية.
ولتيسير الفهم والاستيعاب كانوا يدرسون ويعظون باللسانين العربي والأمازيغي.
ولم تكن الأمازيغية أبداً حائلاً بينهم وبين معرفة أحكام دينهم، وما حالهم في ذلك إلا
كحال الترك وغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام وأبلت فيه البلاء الحسن؛
بنصر دعوته ونشر تعاليمه باللغة العربية وبلغاتها الأصلية.
البيان: إذا تحدثنا عن التاريخ: من وَطَّنَ الإسلامَ في المغرب: الأمازيغ أم
العرب، أم هما معاً؟ وكيف تنظرون إلى المقولة الشعارية التي ترفعها الحركة
الأمازيغية والملخصة في عبارة: (الاستعمار العربي للمغرب) ؟
- الدكتور الحسين كنوان: إن كنتم تقصدون بسؤالكم من حمل بذرة الإسلام
وغرسها في المغرب؟ فالجواب واضح: هم العرب المسلمون. أما إن كان القصد
هو الدفاع عن الإسلام إحياءً وحراسةً، وهذا ما يفهم من كلمة «الوطن» الواردة
في سياق سؤالكم؛ فهم المسلمون المغاربة دون تمييز. نعم! يحدث في فترة من
التاريخ أن يحمل قائد، أو زعيم، أو مصلح لواء نشر الإسلام، أو إحياء تعاليمه
في قلوب الناس وسلوكاتهم، أو الدفاع عنه؛ ممن تسمى أمازيغ، أو نشأ في منطقة
يسكنها الأمازيغ بالغلبة؛ مثل طارق بن زياد، وعبد الله بن ياسين، أو عبد
المؤمن، أو عبد الكريم الخطابي، أو موحى أحمو الزياني ... هذا صحيح، ولكنه
لا يعني أن المغاربة من أصل عربي لم يشاركوا في هذه العملية أو تلك بأي نصيب،
ولم يحدثنا التاريخ عن أن العنصر العربي تقاعس عن أداء الواجب عندما كانت
الزعامة لأحد هؤلاء الأعلام في الدفاع عن الإسلام؛ ذلك أنه بالنسبة لي يصعب
عليَّ أن أميز بين المغاربة عندما يناديهم داعي الواجب.
هذا بالإضافة إلى انصهار الأجناس البشرية في المغرب، وتداخلها فيما بينها
إلى درجة يستحيل معها أن تميز عنصراً من الآخر؛ فالهجرات، والمصاهرات،
وتنقلات الأسر من منطقة إلى أخرى لأسباب متعددة لا تترك مجالاً للقول بأن
الإنسان المغربي خالص النسب إلى عنصر كذا عبر التاريخ. والحكمة الأمازيغية
تقول ما ترجمته بالعربية: (قيل للثعبان: من هو أخوك؟ قال: الذي يوجد معي
في الغار) ؛ أي إنها تعتبر رابطة التساكن الجغرافي فقط موجباً للأخوة. هذا
بالنسبة للشطر الأول من سؤالكم.
أما الشطر الثاني فيبدو أن فيه شيئاً من التعميم؛ لأني لا أعتقد أن كل
الحركات الأمازيغية تقول بذلك، ولا أن أفراد الفصيل الذي يقول بذلك متفقون عليه
بنفس الدرجة من إيمانهم بما يقولون.
مع العلم أنه يمكن القول: إلى أي حد تمثل هذه الحركة الأمازيغية بجميع
فصائلها الإنسان الأمازيغي في المغرب؟ ثم ما هي شروط الانتماء لهذا الفصيل أو
ذاك من فصائل الأمازيغية؟ هل هو الأصل، أو اللغة، أو الجغرافيا؟ أو لا بد من
إعلان الولاء والعداء.. هل وهل؟
صحيح أن ثَمَّ عوامل كثيرة تجعل بعض الشرائح الاجتماعية من سكان
المغرب تشعر بشيء من التهميش، وبالخصوص الأمازيغ منهم؛ لأسباب متعددة،
منها: غياب اهتمام العالم العربي الإسلامي بهذه اللغة وأهلها، ومنها: ما هو
مبثوث في القاموس الشعبي العامي من عبارات اللمز والتحقير في حق الأمازيغ
ولغتهم! وهي عبارات لا يؤبه لها حين تقال لهذا الشخص أو ذاك، ولكنها تعمل
عملها في النفوس، فتدسها إلى لحظة الحاجة، عندما ينفخ نافخ في بوق الوسوسة؛
لتصير المنبه المعتمد للشعور بالإقصاء والتحقير؛ خصوصاً عندما يُربط ذكرها
بمظهر من مظاهر الحرمان، كالفقر المادي، والتهميش الاجتماعي؛ مقارنة مع
الآخر الذي كان الأمازيغي يسلم أنه وإياه إخوة بعامل التساكن فقط.
ومن نماذج تلك العبارات العامية التي ينبغي أن يعزر مستعملوها: (الزيت
ما هو إدام، والشلحة ما هي كلام) ، و (أنغ، أنغ) ... إلى آخر ذلك من
عبارات التهكم والسخرية بالإنسان الأمازيغي! والغريب أن يصدر مثل هذا أيضاً
من بعض الأشخاص المثقفين الذين هم في موقع الإرشاد والتوجيه الاجتماعي أو
السياسي، بل حتى الحضاري أحياناً! والنفوس حساسة، وقد قال تعالى: [وَلاَ
تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ] (الحجرات: 11) .
- الدكتور محمد سدرة: مقولة: (الاستعمار العربي للمغرب) هي شعار
الراقصين على الجراح؛ من المخبولين في هذه الحركة، والذين يريدون جرها إلى
الإلحاد والعنصرية ليس إلا!
البيان: الآن ندخل في صلب موضوعنا (الحركة الأمازيغية) : من
المعروف أن تفسير الحركات الاجتماعية والسياسية التي يفرزها مجتمع ما في
مرحلة تاريخية ما ليس بالأمر السهل، ولا شك أن حركة الأمازيغية التي ظهرت
في البلدان المغاربية؛ بوصفها حركة ذات بعد عرقي وإيديولوجي هي من هذا
القبيل. ثم إن الأمازيغية بوصفها حركة سياسية أيضاً أصبحت ظاهرة متحركة في
الوسط السياسي والثقافي المغربي؛ فكيف تفسرون بروز الحركة الأمازيغية بهذه
الصورة التي نشاهدها اليوم؟
- الأستاذ جواد بنامغار: تعود المراحل التأسيسية الأولى للحركة الأمازيغية
إلى ما بعد الاستقلال مباشرة؛ حيث تأسست أولى الجمعيات بهذا الصدد في
الستينيات من القرن المنصرم، إلا أن ظهور الحركة وانتشارها، وإعلانها عن
نفسها من مختلف المنابر الثقافية، والسياسية، والإعلامية محلياً وعالمياً طغى في
السنوات الأخيرة، وقد ساعد على ذلك مجموعة عوامل ذاتية وموضوعية، وأخرى
تتصل بعوامل خارجية إقليمياً ودولياً.
وإذا كنا لا نشك في سعي السياسة الاستعمارية إلى السيطرة على بلدان العالم
الإسلامي من خلال الغزو الفكري والثقافي؛ فإن الفرنكوفونية من تجليات هذه
السياسة بالمغرب، وإن من وسائلها في ذلك احتواء الاتجاه الأمازيغي ودعمه،
والدفع به في اتجاه يضر بالمصلحة الوطنية المغربية، ووحدة الشعب المغربي
المبنية على الإسلام، ويخدم الأطماع الاستعمارية الفرنسية المغلفة بالفرنكوفونية.
إلا أننا في المقابل لا ننكر أن في الحركة الأمازيغية أفراداً وجمعيات من يهتم
بالأمازيغية باعتبارها قضية وطنية، وإحدى مكونات الهوية المغربية الإسلامية،
وتعتني بالمطالب العادلة لها في إطار الوحدة والمرجعية الإسلامية.
- الدكتور الحسين كنوان: للإجابة عن السؤال السابق شقان: أحدهما وهو
الأساس: هو الجانب السياسي، وثانيهما وهو وليد الأول وتابع له: وهو الثقافي،
ولكل منهما اعتباراته الخاصة فيما يتعلق بمعطيات الإجابة عنه؛ ولذا تنقسم الإجابة
في نظري إلى قسمين:
أ - الجانب السياسي: لهذا الجانب مغذياته، وأسبابه السياسية والاجتماعية،
وربما حتى النفسية التي قد تكون وليدة ظروف متعاقبة، وأسباب متضافرة نرى أن
الحكمة تقتضي عدم الخوض فيها، وإلا زدنا الجرح عمقاً، والقلوب تنافراً، في
الوقت الذي يتطلب الأمر العمل على لمِّ الشمل، وتوحيد الرؤى في إطار منظومة
ثقافية اجتماعية وحيدة موحدة؛ أشبه ما تكون بما أطلق عليه الرومان: «كوينتي» ؛
فكل الذين يعيشون على أرض الوطن إخوة مغاربة، وقد سبق القول بأن
الحكمة الأمازيغية تعتبر رابطة التساكن الجغرافي فقط موجباً للأخوة، والحمد لله
على أن الحركة الأمازيغية سياسية وليست قومية، وإن كانت يُشم منها بعض هذه
البوادر أحياناً.
ب - الجانب الثقافي: هذا الجانب غني غنى حياة الإنسان الأمازيغي الذي
تلاقحت ثقافته بثقافة الأجناس البشرية التي تعاقبت على أرض المغرب، وعلى
الرغم من كون هذه الثقافة غير مدونة؛ فإن ثمة بقية بصمات منها على أرض
المغرب لغوياً وجغرافياً وسلوكياً.
فمن الناحية اللغوية نرى أن الدراسة العلمية النزيهة السليمة يمكن أن تكشف
عن قواسم مشتركة في جوانب متعددة بين اللغة العربية والأمازيغية، وقد يكون ذلك
ناتجاً عن تأثر الأمازيغية بالحضارة الإسلامية العربية.
ولكل هذه الاعتبارات وغيرها كثير لا نستغرب أن تظهر حركة سياسية تعتمد
الأمازيغية إطاراً ومنطلقاً لها في ظروف مهدت لتعددية سياسية؛ لتحقيق أهداف
معينة قد تسمو إلى درجة النبل إذا ما كان القصد منها هو الكشف عن جانب من
جوانب ثقافة المغرب وحضارته. وقد تنزل إلى الحضيض عندما تغذيها أهداف
نفعية ذاتية، أو إيعازات ماكرة شريرة لا يتفطن لخبثها إلا من كان فكره مُحصَّناً،
وأوتي فهماً ثاقباً، وقوة فائقة في الإيمان بحب الله ثم الوطن.
- الدكتور محمد سدرة: الأمر مرده في تقديري إلى الإخفاقات التي لحقت
بالأطروحة الماركسية بالمغرب؛ بفضل أصالة الدين والتدين في نفوس المغاربة،
فشكَّل هذا المنعطف مشجباً بديلاً يود الفكر اليساري النفوذ من خلاله إلى الطبقات
الشعبية التي تشكل القاعدة الخلفية للأطروحة. وقد ساهمت الإحباطات التي مني
بها المجتمع، من جراء إخفاق التنظيمات السياسية في تحقيق طموحاته، في تغذية
هذا التوجه وتشجيعه.
البيان: المعروف أن التيار الأمازيغي قد نشأ وترعرع في ظل الدعم
الفرنكوفوني؛ فكيف تفسرون ذلك؛ وخاصة أن الأهداف المعلنة للفرنكوفونية إنما
هي دعم اللغة الفرنسية وثقافتها في مستعمراتها السابقة؟
- الدكتور عبد الرحمن حيسي: السؤال ليس وجيهاً؛ لأنه يُسلِّم بأن التيار
الأمازيغي نشأ وترعرع في ظل الدعم الفرنكوفوني؛ فعليكم إثبات ذلك أولاً وإبراز
مظاهر الدعم التي يتلقاها الأمازيغ من الفرنكوفونيين؛ حتى لا نخرج في حوارنا
عن حدود الإنصاف.
والذي أعتقده شخصياً أن الدعوة إلى الأمازيغية لها أسباب نابعة من واقع
المجتمع المغربي ذاته، وقد تقدم بيان بعضها.
أما الفرنكوفونية فهدفها نشر الثقافة الفرنسية بكل مقوماتها، وتعميمها في كل
الأوساط المغربية؛ بغض النظر عن المستهدَفين بهذه الثقافة؛ سواء أكانوا من
الأمازيغ أم من العرب؛ إذن فهدفها غير هدف الدعوة إلى الأمازيغية، بل تتعارض
معها.
وعليكم أن تعلموا أيضاً أن الحاملين للواء الفرنكوفونية والأنجلوفونية فيهم من
العرب المغاربة عدد كبير! فعليكم أن تفسروا ذلك لتستقيم الإجابة عن السؤال
المطروح!
البيان: طبعاً لا نتحدث عن الأمازيغ، وإنما نتحدث عن التيارات السياسية
الأمازيغية!
- الدكتور الحسين كنوان: هذا موضوع خصب وخطير، تتطلب الإجابة
عنه حلقة خاصة، بل أكثر من ذلك؛ لأن المسألة تتجاوز دعم اللغة الفرنسية
وثقافتها؛ إلى المحافظة ما أمكن على المكاسب التوسعية للاستعمار الاقتصادي
والفكري في المنطقة، والتي تعد بوابة استراتيجية لإفريقيا، تلك المكاسب التي
تحققت له (أعني الاستعمار) في المنطقة بعد كل ما بذله من جهود متواصلة خلال
فترة قد لا تقل عن قرنين من الزمن، كان ذلك على فترات، يصنع لكل فترة
شعارها الملائم؛ انطلاقاً من الصليبية إلى الفرنكفونية بعد التمهيد لها بالغزو
العسكري؛ ولذا نرى كثيراً من أبنائنا مع الأسف قد انطلت عليهم الحيلة نتيجة
تأثرهم الثقافي، وجرفهم هذا التيار أو ذاك، وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً،
ومع ذلك فهم معذورون إلى حد ما في تقديري.
وعليه يمكن القول بأن التيار الأمازيغي لم ينشأ مع ظهور الفرنكوفونية، وإن
كانت تغذيه، وإنما وُضعت له أسس قبل ذلك بكثير؛ يوم كان الدخيل يخطط
للاستفادة من خيرات المنطقة أولاً، ثم رتب تلك الخطط بإحكام لما حال هذا
العنصر البشري «إمازيغن» بينه وبين مقصوده الذي هو إخضاع المناطق التي
يسكنها هؤلاء لنفوذه؛ على غرار إخضاع جميع أجزاء الوطن؛ حيث أصيب
بذهول من هول الكارثة التي أصابت جيوشه وتوقف زحفها لمدة عشرين سنة على
يد مقاومين أشاوس من أبناء «إمازيغن» ، كما تقول بعض الأبحاث التاريخية
الحديثة. ولذا تكون الفرنكفونية صياغة ظرفية للاستمرار في تطبيق ما رُسم آنذاك
من خطط لإخضاع هذا النوع البشري «إمازيغن» ، بل وتقريبه والاستفادة منه.
- الأستاذ جواد بنامغار: نعم! حينما أخفقت فرنسا في زرع التفرقة بين
المغاربة من خلال ظهير 1930م المصطلح على تسميته «الظهير البربري» ،
وكان غرضها من ذلك تكوين مناطق متفرنسة مفصولة عن الإسلام ولغته العربية
تكون سندها في الاستعمار، ووسيلتها في السيطرة على البلاد، وتسخرها
لأغراضها الاستعمارية؛ فلما لم تنجح في ذلك عمدت إلى الفرنكوفونية التي
ظاهرها نشر اللغة الفرنسية ودعمها في مستعمراتها السابقة، وباطنها «الغزو
الفكري» والتمكين للثقافة الفرنسية، والتصورات الفرنسية، ونمط الحياة الفرنسي
الذي هو جزء من الحضارة الغربية المبنية على أسس مناقضة للإسلام، ولذلك فلا
عجب أن تحتضن في هذا السياق التيارات المتطرفة، أو تحتويها وتدفع بها في
اتجاه يخدم أطماعها الاستعمارية، وتحقق لها ما أخفقت فيه من تفرقة وسيطرة من
خلال ظهيرها الاستعماري.
- الدكتور محمد سدرة: في رأيي لا غرابة ولا مفارقة في دعم الفرنكوفونية
للتيار الأمازيغي (الإيديولوجي) ؛ فهما رضيعان من لبن واحد، وهو الحركة
الاستشراقية ذات الأهداف العدوانية على الإسلام والمسلمين؛ ففرنسا بعدما أعياها
البحث عن وسائل مسخ الهوية الإسلامية في البلدان المستعمرة وفق المخطط
الاستشراقي المعروف تاريخياً؛ لجأت إلى سياسة (فرِّق تسد) ، والتي بدأت
بأطروحة الظهير البربري في كل من الجزائر والمغرب، وهي ذاتها تعاليم
الأطروحة التي تمارس على مستوى أطروحة الأمازيغية في بعدها (الإيديولوجي)
لا الواقعي كما قلت.
البيان: إذن؛ هل يمكن الحديث عن علاقة ما بين الظهير البربري الذي
أصدره المقيم الفرنسي العام بالمغرب [**] ، وبين الحركة الأمازيغية في صورتها
الحديثة؟ هل هناك علاقة بين القديم والجديد، أم أن التاريخ لا يعيد نفسه؟
- الدكتور الحسين كنوان: أود أن أسجل قبل إعطاء وجهة نظري بخصوص
هذا السؤال الملاحظات التالية:
أ - لا بد من الاهتمام بجذور المسألة وجواهرها، لا بتجلياتها وأعراضها.
ب - لا ينبغي أن نضع الآخرين في قفص الاتهام دون تحديد المسؤولية في
الظروف التي دفعتهم إلى مثل ذلك السلوك.
ج - في هذا التاريخ الذي ذكرتموه (1934م) كان الداعي إلى شق وحدة
الصف بتوظيف الأمازيغية هو المقيم العام الفرنسي ... والآن الذي يخدم هذه
القضية بشكل أو بآخر هم أبناء المغرب، والسؤال الملح والعريض هو: لماذا؟
د - أنجب المغرب أبطالاً ومجاهدين مخلصين من الأمازيغ، حملوا راية
الإسلام لنشره تارة، وحمايته من سطوة الدخيل تارة أخرى؛ فهل انقلبت الأمور،
والسؤال أيضاً: لماذا؟
هـ - أشرتم في سياق هذا السؤال إلى أن الظهير البربري كان يقوم على
نوعين من العزل هما: عزل الإدارة السلطانية ... وعزل الشريعة الإسلامية. لقد
فعل الدخيل ذلك بخبثه إدارياً وجغرافياً؛ لكنه لم يستطع أن يحقق ذلك كل التحقيق
على مستوى القلوب؛ حيث بقي الأمازيغ متشبثين بوحدتهم الوطنية، وبدينهم
الحنيف، وثَمَّ شهادات حية على ذلك لا يسمح المقام بذكرها.
و ألغى ظهيرُ 1956م الظهيرَ البربري، ولكنه مع الأسف لم يلغ بعض
مظاهر هذه المرحلة؛ مما يحتج به عند البعض في إطار الحركة الأمازيغية.
أما بخصوص الجواب عن سؤالكم آنف الذكر؛ فإنه يمكن القول باختصار
شديد بأن العلاقة موجودة بشكل أو بآخر بين مضمون الظهير البربري وأهدافه وبين
الحركات الأمازيغية بالشكل الذي تعبر به عن نفسها، مهما كانت التفسيرات المقدمة
لذلك؛ لأنها تخدم القصد بوعي منها أو بدون وعي، وليس هذا من باب اتهام دعاة
الأمازيغية في وطنيتهم ... ولكن فقط لأجل التنبيه إلى عدم سلامة المنطلقات
الأساسية لهذه القضية وأهدافها؛ ولذا يجب على كل من يرفع شعار الأمازيغية لسد
ثغرة تنظيمية يراها؛ أن يتحرى في تحديد الأهداف التي يرمي إليها، والوسائل
التي يستعملها لتخليص الفكرة من شوائب المنطلقات الاستعمارية وأهدافها، وأن
يحتاط من تقديم الخدمات المجانية للغير ضد بلده، وإلا وضع نفسه في قفص الاتهام
طوعاً أمام المغاربة كافة عرباً وأمازيغ.
- الدكتور عبد الرحمن حيسي: لا توجد أي علاقة بين الحركة الأمازيغية
الحديثة وبين الظهير البربري الذي أصدره الاستعمار الفرنسي في 8 أبريل من سنة
1934م؛ فهذا الظهير كما لا يخفى كان هدفه الأساسي هو سلخ الأمازيغ عن دينهم،
والتفريق بينهم وبين إخوانهم العرب لخلق جو من الفوضى والفرقة في الرأي
يضمن لفرنسا الاستمرار في احتلال المغرب، وقد رفض الأمازيغ هذا الظهير
يومئذ وعارضوه بشدة، وأحبطوا كل مخططات المستعمر في تنفيذه. أما الحركة
الأمازيغية الحديثة فليس من أهدافها شيء مما ذُكر، وقد سبق بيان ذلك في
الإجابات السابقة.
- الدكتور محمد سدرة: أنا عندما أتحدث في محاضراتي عن الحركة
الاستشراقية الممهدة للاستعمار الغربي لبلدان العالم الإسلامي أركز دائماً على قضية
أساسية، وهي أن الغرب وإن أخفق في الاحتفاظ بجيوشه في البلاد المستعمرة
وانسحب منها؛ فقد بقيت جيوشه الأخرى في رباطها تؤدي المهام المنوطة بها
أحسن قيام، وقد استطاعت أن تنجح فيما لم تنجح فيه الأسلحة النارية، ومن
ضمنها النعرات القومية والعرقية التي لم تنجح الظهائر في تحقيقها فيما سبق.
- الأستاذ جواد بنامغار: إن الربط بين ظهير التفرقة الاستعماري الفرنسي
وبين الحركة الأمازيغية عند كل حديث عنها أمر تمليه تخوفات كل غيور على
وحدة الشعب المغربي، وتماسكه، وتشبثه بدينه، وقد تجاوز الأمر مجرد التخوف
إلى قلق حقيقي بظهور أصوات من داخل الحركة الأمازيغية تحيي هذا الظهير،
وتتبنى مبادئه، وتنادي بها!!
البيان: ولكن كيف تفسرون إخفاق الظهير البربري في العهد الاستعماري
العسكري، ونجاح التيار الأمازيغي بعد ذلك في عهود الاستقلال، بل في ظل
المغرب الحديث بعد ما يقرب من خمسين سنة من تاريخ إلغاء الظهير البربري
(1956م) ؛ وهل هناك خلل وقع للمجتمع المغربي ولتماسكه الوطني والديني؟
أم أن الحركة الأمازيغية جاءت بشيء جديد قَبِلَه بعض المغاربة، وقبلوا بمقتضاه
ما أجمعوا على رفضه بالأمس إجماعاً شاملاً؛ مع العلم أن الحركة الوطنية هي
التي تصدت له آنئذ، لكن بعض رجالاتها اليوم هم الذين يتزعمون التيار الأمازيغي
ويرفعون مقولة: (الاستعمار العربي للمغرب) ؛ فكيف تفسرون ذلك؟
- الدكتور الحسين كنوان: أراكم أخي هنا تتحدثون عن الإخفاق والنجاح:
إخفاق الظهير البربري في العهد الاستعماري ... ونجاح التيار الأمازيغي ... فهل
ثمة إخفاق بالفعل؟ ونجاح محقق؟ أي هل أخفق الظهير البربري الاستعماري فعلاً،
وزالت المؤسسات التي تخدمه على أرض المغرب؟ أم أنه وضع أدواته في حالة
كمون؟ وغيَّر استراتيجيته لما اصطدم بإرادة جيل من المغاربة كانت لهم مواقف
من الأجنبي الدخيل؛ ريثما يهيئ جيلاً آخر من أبناء الرافضين ليتبنى ثقافته،
ويخدم مصالحه، بعد أن صنعه على عينيه؛ لتكون نظرته إلى الكون والحياة هي
نظرته، وترتبط مصالحه بمصالحه، فيقدم له خدمات من حيث يدري أو لا يدري،
وهو يعتقد أنه يحسن صنعاً؟ وماذا حقق التيار الأمازيغي، وشعاراته سياسية أكثر
منها قومية إصلاحية، هل قدم بالفعل برنامجاً إصلاحياً لرفع المعاناة عن المناطق
التي يسكنها الأمازيغ، هل تجاوز فعلا أُمَّ المشاكل عنده؟ يتعلق الأمر بمسألتين:
أولاهما: من يحق له أن يدخل تحت مصطلح (أمازيغ) ؟ وهي التسمية
الأصل، ومن يرضى بالتبعية والفرعية فيسمى باسم المنطقة الجغرافية التي يوجد
فيها: (الريف) ، (سوس) ، ولا ضير في ذلك على كل حال، أو يسمى
بالمصطلح الآخر الذي بدأت تقل فرص استعماله (الشلح) ، وهذا المصطلح يحمل
دلالة قدحية، ولا يُستعمل مع الأسف إلا ليميز سكان المغرب من غير أصل عربي!
وثانيهما: هي معضلة المتن الذي ليس له مرجع مدون يُرجع إليه، وينبغي
العمل على تجاوز هذه المعضلة قبل التفكير في تقعيد القواعد، والسؤال الجوهري
بهذا الخصوص هو: ما هي نسبة المتن المعجمي المتبقية من هذه اللهجة أو تلك من
بين لهجات «تامزيغت» الثلاث؟ وهل يمكن أن تلبي حاجات المتكلم لو صُنع
منها معجم ملفق؟ هل وهل ... ؟ إن رفع الشعارات أمر سهل ميسور على كل من
يريد أن يفعل ذلك، لكن عند التنظير والتنزيل على أرض الواقع يختلف الأمر.
وعليه يمكن القول في النهاية بأنه ليس ثم إخفاق بالنسبة للظهير البربري إن
تأملنا بشيء من التروي أحداث التاريخ. وليس ثم نجاح محقق للأمازيغية بعد، لا
سياسياً ولا ثقافياً؛ لأن شيئاً ما لم يتم بالشكل المطلوب على أرض الواقع.
وبناء عليه؛ فالجواب عن السؤال الجزئي الوارد ضمن عناصر السؤال
السابق هو أن الخلل ليس وليد اليوم، ولا الأمس القريب، وإنما هو خلل تاريخي؛
لأن المغرب منذ الفتح الإسلامي لم يعرف سياسة تربوية شاملة تذيب الحواجز بين
سكانه مع إمكان احتفاظ كل عنصر بما يميزه، إذا ما استثنينا الإسلام الذي يؤمن به
الجميع على تفاوت في ذلك، ويتمثل بناء على ذلك تعاليمه في سلوكه بقدر فهمه
وإيمانه، فيوجد الكل على ذلك الإيمان.
وهذه الفجوة - أي عدم صهر المغاربة تربوياً في بوتقة واحدة تزيل الفوارق
الاجتماعية واللغوية بين الأمازيغ والعرب - هي التي استغلها الاستعمار لإحداث
التفرقة بين المغاربة عن طريق ما يسمى بالظهير البربري. أضف إلى ذلك ما
أصاب المغاربة من خيبة أمل في كثير من مؤملات ما بعد عهد الحماية؛ مما جعل
المحرومين منهم يبحثون لأنفسهم عن متنفس؛ فهذا عن طريق الدعوة الأمازيغية،
وآخر عن طريق المذهب الشيوعي الماركسي، وآخرون عن طريق الهجرات
القانونية وغير القانونية إلى خارج أرض الوطن؛ بما في ذلك ما يسمى في
القاموس الإعلامي المغربي عن الهجرة السرية بـ (قوارب الموت) !
فالخلل إذن تاريخي؛ إلا أن مركباً اجتماعياً وسياسياً سمح لهذه الدعوات وهذه
السلوكات أن تظهر بفعل العوامل المشار إليها سابقاً، وبفعل خفوت نور الإسلام في
القلوب، والذي هو الرابط الوحيد الأوحد بين جميع المغاربة؛ على مستوى الفكر
والواقع، كمنهج سلوكي يتعامل بمقتضى تعاليمه رغم ما يشوب أفهام المتعاملين به
من نقص أحياناً أفقياً وعمودياً.
ولعل عدل الإسلام ونورانية تعاليمه هو ما جعل المغاربة الأمازيغيين يقبلون
بالعنصر العربي أن يشاركهم في استيطان أرض المغرب لأول مرة؛ حيث اعتقادها
بالإسلام ديناً وبالله رباً لا معبود سواه، وبالمصطفى صلى الله عليه وسلم رسولاً
ونبياً. وقد سجلوا هذه المعاني وما يشبهها في أناشيدهم وأهازيجهم التي يرددونها
في شتى المناسبات.
وعليه ليست الحركة الأمازيغية إلا إفرازاً لتلك الظروف والعوامل ضمن
غيرها من الإفرازات، وقد تم الاهتمام بها أكثر من غيرها؛ لأنها لصيقة بالبعد
القومي الذي لا يتأتى لغيرها من الدعوات الموجودة على الساحة اعتماده، ومع ذلك
تبقى الحركة الأمازيغية مجرد شعار إلى أن تحقق للمؤمن بها شيئاً على أرض
الواقع، وإلا تم تجاوزها كما تتجاوز الحركات المعتمدة على الشعارات، وقد ملَّ
المغاربة عموماً والأمازيغ خصوصاً لغة الشعارات التي لا تحقق شيئاً على الواقع؛
وحالة التجارب الحزبية أكبر دليل على ذلك؛ ولذا فالرفض أو القبول رهينان بما
سيترجم من شعارات على أرض الواقع؛ من أعمال إيجابية تحترم فيها المقدسات
والثوابت.
وما ورد في سؤالكم من أن بعض رجالات الحركة الوطنية هم الذين يتزعمون
اليوم التيار الأمازيغي، وهم الذين يرفعون مقولة (الاستعمار العربي للمغرب) ؛
فإنه يمكن القول بأن هذا يدخل في إطار بعض سلوكات السياسيين من عرب
وأمازيغ، وتاريخ المغرب الحديث يحفظ لنا أكثر من دليل على ما وقع بين
السياسيين من مشاحنات خطيرة تتجاوز الأقوال إلى الأسوأ!
- الدكتور عبد الرحمن حيسي: السؤال يربط ضمنياً بين الحركة الأمازيغية
الحديثة والظهير البربري الاستعماري من حيث المبادئ والأهداف، وقد بينت سابقاً
أن لا علاقة بينهما، وإلا فعليكم إثبات العكس بأدلة ملموسة من مقررات ومواثيق
هذه الحركة حتى أصحح معلوماتي.
وكذلك فما جاء في السؤال من وصف الوطنيين الأمازيغ في أيامنا هذه بالتنكر
لقيمهم التاريخية والدينية، ولنضالهم ضد الاستعمار ومحاربتهم للظهير البربري
ورفعهم لشعارات معادية للعرب يحتاج أيضاً إلى دلائل موضوعية وحجج ثابتة؛
حتى تكون الإجابة منطقية ومعقولة ومنصفة.
ولا بد من التأكيد في هذا الصدد على أن كثيراً من المذاهب الفكرية والسياسية
قد تكون لها أحياناً مواقف شاذة ومتطرفة، لكن هذه المواقف لا تمثل أبداً الإرادة
الجماعية والموقف الجماعي لهذه المذاهب.
البيان: عفواً فضيلة الأستاذ المحترم؛ نحن طبعاً لا نتهم جميع الجمعيات
الأمازيغية، ونحترم الاتجاهات الوطنية منها كل الاحترام، ولكنه تواتر عن
بعضها مع الأسف مقولة: (الاستعمار العربي للمغرب) ، والمطالبة بإحياء
الثقافة الأمازيغية القديمة؛ أي أمازيغية ما قبل الفتح الإسلامي، وهي ثقافة وثنية
محضة!
- الأستاذ جواد بنامغار: أرى أن هناك بعداً آخر في الموضوع، وهو أن
الاستعمار العسكري يستفز بطبيعته إرادة المقاومة في الشعوب، ويشعرهم بقيمة
الوحدة والتلاحم، أضف إلى ذلك أن التيار السائد آنذاك هو تيار الوطنية المبني
على أساس ديني سلفي، لكن بعد مرحلة الاستعمار عرفت كثير من البلدان فلسفات
ونظريات وافدة، وتفرقت كثير من الأحزاب على أسس ومرجعيات لا دينية،
إضافة إلى ما أصبحت البلدان الإسلامية ومنها المغرب عرضة له من غزو فكري
وثقافي، وتغريب للنخب من أجل رجوع الاستعمار من النافذة بعدما خرج من الباب،
مع تفريط كثير من الحكومات المتعاقبة في تحصين الأجيال الناشئة، وتربيتها
على أسس متينة من التربية الإسلامية التي تفرقت بها السبل عن سبيل الله، وهذه
كلها عوامل قوية ومساعدة لنجاح أي دعوة أو حركة كيفما كانت، وفي هذا الإطار
يمكن فهم الدعوات المتطرفة في الحركة الأمازيغية التي تعيد إلى الأذهان الظهير
الاستعماري الفرنسي لفصل «البربر» عن الإسلام، والتفريق بينهم وبين العرب.
البيان: ولكن العجيب أيضاً أن التيار الأمازيغي صار مدعوماً من قبل
الشيوعيين المتطرفين؛ خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بل إن فلولهم هي
التي تملأ الآن صفوف الحركة الأمازيغية! فكيف تفسرون ذلك؟
- الدكتور محمد سدرة: لا غرابة أيضاً في هذا الأمر؛ فالإناء الفارغ كما
يقال توجد فيه القابلية للامتلاء بأي شيء مهما كان نوعه، فهؤلاء الأتباع - الذين
كنت أسميهم دائماً (بالخبزيين) المصلحيين - ديدنهم الثابت هو التصفيق لكل ما
يرون فيه مطية لعداوة الإسلام، وتحقيق طموحاتهم المخبولة، وإن لم يكونوا على
يقين من النتائج، كما يشهد المسار التاريخي للفكر والعقيدة الشيوعية على ذلك.
- الدكتور الحسين كنوان: يمكن أن ندرج ضمن الإجابة عن هذا السؤال
نقاطاً ثلاثاً هي:
أ - تتبنى الشيوعية مقولة الدفاع عن الطبقة الكادحة المحرومة، ولعلها
لاحظت معالم الحرمان في أوساط «إمازيغن» ؛ ولذا وجدت مجالها الخصب في
عقلية بعض المتعلمين من أولئك، فعندما يتحدث الشيوعي المستقطب في أوساط
الشباب عن الفقر والحرمان، ويجعل سبب ذلك هو البورجوازية المستبدة بخيرات
البلاد، وبالخصوص تلك التي تسكن المدن الكبرى ويتوفر لأبنائها من فرص العيش
ما لا يتوفر لغيرهم؛ فإن هذا المتعلم الأمازيغي يرى تجليات تلك الأوصاف منطبقة
على حياته بشكل أو بآخر؛ ولذا لا نستغرب أن نجد بعض هؤلاء قد تمركسوا؛
لأن المناطق التي تسكنها هذه الشريحة الاجتماعية المهمة من أبناء وطننا؛ لم تحظ
بالعناية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة.
ويبدو أن لصعوبة التضاريس دوراً في عسر التنمية بالمناطق المذكورة؛ لأن
الأمازيغ يقطنون الجبال والأرياف، عكس غيرهم ممن يكونون متضررين من
نقصان التنمية مثلهم. إلا أن بعض سنوات الخصب، أو قربهم من المدن التي
تتركز فيها الحركة الاقتصادية، أو مرور بعض الطرق المهمة التي تربط قراهم
بالمناطق الاقتصادية؛ قد يخفف عنهم وطأة الحرمان، والآلام إلى حد ما.
ب - يبدو أن هذا العنصر البشري من سكان المغرب «إمازيغن» يحظى
بعناية خاصة لسبب من الأسباب من لدن عدد من دول العالم غير العربية
والإسلامية وهذه الدول استعمارية عسكرياً وفكرياً، أو فكرياً فقط في أغلبها؛ إذ من
المعلوم أن اللغة الأمازيغية تُدرّس في حوالي ست عشرة (16) مؤسسة جامعية
موزعة على إحدى عشرة دولة من بينها دولة إفريقية واحدة، أما الباقي فهو موزع
بين دول القارات الثلاث هي: أوروبا (ولها حصة الأسد) ، ثم أمريكا، وآسيا.
ويمكن أن نلاحظ زيادة اهتمام فرنسا صاحبة «الفرنكوفونية» بالأمازيغية
في الدرجة الأولى بأربع مؤسسات جامعية من بين العدد المذكور، تليها أمريكا
بثلاث مؤسسات، وهذا أمر لا يحتاج إلى تعليق. والغريب في الأمر هو غياب تام
لاهتمام الدول العربية والإسلامية بهذا الأمر.
ج - إن الشيوعية ترفض الدين جملة وتفصيلاً، والإنسان الأمازيغي مؤمن
بربه كما تمت الإشارة إلى ذلك محب لوطنه، مستميت في الدفاع عن مقدساته. وقد
سبقت الإشارة إلى أنه أمد في عمر حرية وطنه عشرين عاماً، وهذا ما يفسر
الاهتمام الاستعماري بلغته؛ ومن ثم الاهتمام به نفسه من لدن عدد من دول العالم
وأنظمته ومن ضمنها الشيوعية.
- الأستاذ جواد بنامغار: إن الاندحار الماركسي في العالم الإسلامي، وإخفاق
الشيوعية على الصعيد العالمي بسقوط الاتحاد السوفييتي لا بد أن يؤدي بفلول
الشيوعيين إلى البحث عن مظلات يعملون تحتها، وقنوات يصرفون من خلالها
مبادئهم، ومن بين هذه القنوات «المسألة الأمازيغية» ؛ وذلك لأنها تحقق لهم
بالشكل الذي يتبنونها به أمرين أساسيين:
1 - إذكاء الشقاق والصراع بين مكونات الشعب المغربي، والصراع هو
مفتاح النظرية الشيوعية في توجيه الأحداث وفهم التاريخ.
2 - محاربة الإسلام، العدو اللدود للشيوعية، والذي اندحرت أمامه فكرياً
وواقعياً، وذلك من خلال محاربة العربية لغته ووسيلة فهمه وتشويه تاريخه،
وإحداث قطيعة بين الأمازيغية والإسلام، وإحياء نعرات عرقية وعصبية وأفكار
جاهلية أماتها الإسلام في هذه البلاد منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً.
البيان: بالتأكيد يصعب تحديد أهداف حركة اجتماعية ما بدقة؛ خاصة إذا
كانت تتسم بالغموض وتحوي فصائل وتوجهات فكرية وإيديولوجية متعددة.
ولكن لنحاولِ المقاربة؛ ففي نظركم هل يمكن اعتبار أهداف الحركة الأمازيغية إنما
هي لمواجهة الصحوة الإسلامية، أم لتهديد الوحدة الوطنية، أم لهما معاً، أم
هي رد فعل لنزعة القومية العربية، أم لا هذه ولا تلك؟
- الدكتور الحسين كنوان: نبدأ من السؤال الأخير بالترتيب العكسي للإجابة
عن هذه التساؤلات؛ مع استحضار التحفظ السابق المتعلق بعدم تعميم هذا الحكم
على جميع فصائل الحركة الأمازيغية.
فأما السؤال الأخير: «أم لا هذه ولا تلك؟» ؛ فغير وارد في تقديري؛ لأن
الأصابع التي ينبغي أن نفترض وجودها، وأقول هذا مع احترامي لكل الآراء ما لم
تمس الوحدة الوطنية؛ هذه الأصابع موجودة ولو عن طريق الإيحاء، والتوجيه من
بعيد، أو استغلال الحدث وتوظيفه لصالحها بالشكل المناسب، في الوقت المناسب.
وبخصوص السؤال الثاني: الذي هو احتمال رد فعل لنزعة القومية ... إلخ؛
فيمكن القول بأن نسبة من ذلك موجودة، وإن لم نقل إنها سائرة إلى الزوال إذا بقي
الحال على ما هو عليه، فهي ضعيفة جداً عند الأفراد، وهي كلام أكثر منها
تخطيط وإنجاز، وتآزر فعلي في الشدائد عند الهيئات؛ فالأجهزة القومية العربية
شبه معطلة.
ومع ذلك فهذا الجانب وارد عند البعض بنسبةٍ ما، وقد يحركه ويوقظه عامل
عقد مؤتمرات القومية العربية؛ في دولٍ نسبة كبيرة من سكانها أمازيغ؛ دون أن
يعار لهم أي اعتبار، فقد قدر لي أن حضرت إحدى جلسات «مؤتمر القوميين
العرب» بمدينة فاس، وكان الإلحاح من لدن المتدخلين على تثبيت دعائم القومية
العربية؛ مما جعلني أهمس في أذن أحد الإخوة (مازحاً بالطبع) : إن مثلي لا
مكان له في هذا الملتقى؛ لأنه خاص بالقوميين العرب وأنا أمازيغي!
وعليه فالذي يبقى مقصوداً في بؤرة تساؤلاتكم هذه هو الشطر الأول من
سؤالكم بقسميه: محاربة الإسلام الذي حمل أبناء الأمازيغ لواء نشره، أو الدفاع
عنه في أكثر من مناسبة من تاريخ المغرب، مع العمل على شق صف الوحدة
الوطنية؛ لأجل إضعافها كوسيلة لخدمة الهدف الأول، وهو أمر خطط له الدخيل
(الاستعمار) منذ زمان بإحكام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك؛ ولذا لا يتوانى في
توظيف أدوات الضغط التي يراها مناسبة في كل زمان.
- الدكتور عبد الرحمن حيسي: الحقيقة أن الأمازيغية كما ذكرت سابقاً ليست
حركة عنصرية، وليس من أهدافها مواجهة الصحوة الإسلامية؛ لأن «الأمازيغ»
سلفاً وخلفاً يدينون بالإسلام، ولا يوجد بينهم من يعتنق غيره، وهو اختيار لن
يرتدوا عنه إن شاء الله أبداً، وتاريخ المغرب القديم والحديث يشهد على ذلك.
وليس من أهداف «الأمازيغ» أيضاً تهديد الوحدة الوطنية؛ لأن دينهم يدعو
إلى الوحدة لا إلى التفرق، وهم يدركون جيداً أن قوة المغرب واستقراره تستلزم
الحفاظ على هذه الوحدة والذود عنها، ولا يوجد في مواثيقهم وتقاريرهم الرسمية ما
يخالف ذلك، أما الهدف الحقيقي لهذه الحركة فهو إحياء التراث الثقافي الأمازيغي
بوصفه إرثاً حضارياً للمغرب ولكل المغاربة، ومن مكونات ذاكرتهم التاريخية،
وأعتقد أن هذا الهدف يعطي لهذه الحركة الحق في الوجود قبل حركات أخرى أكثر
بعداً عن دين المغاربة وقيمهم وثقافتهم؛ كالفرنكوفونية والأنجلوفونية وغيرهما.
- الدكتور محمد سدرة: في اعتقادي أن الحركة هي ردة فعل طبيعية لحركة
القومية العربية الحديثة؛ على غرار ما وقع في البلاد العربية الأخرى، من
فرعونية وقبطية وفينيقية وبابلية ... إلخ. وقد ساهم الاستعمار الأوروبي الغربي
في تغذية هذا الشعور وتحميسه؛ لزيادة الفرقة بين أبناء العالم الإسلامي.
- الأستاذ جواد بنامغار: ومع ذلك؛ فإني أرى أن هناك توجهات معينة داخل
الحركة الأمازيغية؛ هي مع الأسف ترمي إلى التفرقة العرقية، ومحاربة اللغة
العربية، وفصل الأمازيغ عن الإسلام، وتفكيك الوحدة الإسلامية التي انصهر فيها
المغاربة عرباً وأمازيغ ... إن كل هذا يهدد الوحدة الوطنية طبعاً ويهدد الإسلام الذي
هو غاية الصحوة الإسلامية ومقصدها.
البيان: في ضوء ذلك: هل نعد ما تطالب به الحركة الأمازيغية اليوم من
تعليم اللغة الأمازيغية بالمدارس الحكومية والمعاهد الرسمية والتي يبدو أن شيئاً
من ذلك بدأ بالتحقق بالفعل على أرض الواقع، مع الإصرار على المطالبة بالكتابة
بالحرف الأمازيغي القديم دون الحرف العربي؛ هل نعد هذا ظاهرة سلبية أم
إيجابية؟
- الدكتور محمد سدرة: أعتقد أن هذه الظاهرة سيف ذو حدين؛ فهي ولا شك
دعوة خبيثة وإن كانت عند البعض عن حسن نية ستؤدي إلى تقويض اللغة العربية
في أذهان الأمازيغ كما وقع في تركيا (لا قدر الله ذلك) ، وهي من جهة أخرى قد
تنقلب ضداً على إرادة التيار الإلحادي العنصري في الحركة، فتكون وسيلة ناجحة
لتعميق الإسلام والهوية الإسلامية في نفوس الأمازيغ؛ لو نجحت فكرة الكتابة باللغة
الأمازيغية. ولا أظن ذلك ناجحاً.
- الدكتور الحسين كنوان: كان ينبغي أن نفرق منذ البداية بين الأمازيغية
كمعطى تاريخي اجتماعي أصيل على أرض المغرب؛ بجميع ما يحمله من مكونات
ثقافية وحضارية، وبين الحركة الأمازيغية كمفهوم سياسي محض، وإن كانت
تستند في ادعاءاتها إلى التاريخ، وهذا المفهوم الأخير لمصطلح «الأمازيغية» هو
الذي يثير شيئاً من الحساسية عند البعض، ولولا هذه الحساسية لاعتبرت الحركة
كأي حزب سياسي، ولكان من الواجب على المؤسسات التي تمثل المغاربة تأطيراً
أن تطالب بتدريس الأمازيغية في إطار مفهوم ثقافي شامل؛ لأنه لا يعقل أن يجدف
المغرب بجناح واحد في هذا المجال، ولأن اللغة الأمازيغية إن لم تكن لغة المصالح؛
أي لغة العلم نظراً لأسباب تاريخية طبيعية يمكن أن تنطبق على أي لغة من
اللغات الإنسانية التي ضعف أهلها (كما هو حال اللغة العربية في وقتنا الحاضر) ،
فهي لغة المشاعر لدى شريحة اجتماعية لا يستهان بها، أضف إلى ذلك أنها علمياً
على مستوى أسماء الأعلام قد تفيد المؤرخ والجغرافي وعالم الحفريات، وربما
حتى الاجتماعي والسياسي؛ ولذا من الإنصاف للتاريخ أن يطالب المغاربة بإتمام
شخصية ثقافتهم؛ لا أن يترك ذلك لفئة معينة، أو تجنح بها الأهواء، وقصور
الرؤية، فتسيء من حيث كان قصدها الإحسان.
والمغرب منذ بداية التخطيط لعهد الحماية، وهو خاضع بشكل ممنهج للغزو
الفكري واللغوي، بما لا يمت إلى شخصيته بصلة، وإنما بما يمثل الأطماع
الأجنبية إلى درجة أن اللغة العربية التي هي في الدرجة الأولى دستورياً صارت
ثانية على المستوى الفعلي، وربما تصبح في الدرجة الثالثة، ثم الرابعة؛ إذا بقيت
الأمور على ما هي عليه؛ إذ إن كثيراً من المغاربة المحسوبين على العروبة لا
يعرفون اللغة العربية، ومن عرفها منهم لا يحرص على استعمالها في الدرجة
الأولى كتابة ومخاطبة إلا من رحم الله.
وربما لا يرغب البعض الآخر في تعلمها وتعليمها لأبنائهم، وهذا ما يفسر
اكتظاظ مدارس البعثات الثقافية بأبناء طبقة من المغاربة؛ لأن الشعور بالانتماء
الحضاري ضعيف عند هؤلاء، إن لم يكن قد زال تماماً.
في هذا المناخ يحق لمن يطالب بتعليم الأمازيغية أن يفعل ذلك من وجهة
نظري؛ لأنها اللغة التي تسهم في حماية الهوية المغربية - إذ الرجوع إلى الأصل
أصل - لما بدأ التفريط في المقومات التي تجمع المغاربة منذ قرون، وفتح الباب
على مصراعيه لحرية الانتماء الإيديولوجي؛ هنا يكون تدريس الأمازيغية أمراً
واجباً؛ لأنها وحدها المعطى الحضاري الوحيد الذي يحتضن بعض المفاهيم
الأصلية، ولا نحتاج إلى تقديم أدلة على تنامي عدد المعرضين عن العروبة
والإسلام من المغاربة غير الأمازيغ. وعليه يكون هذا المطلب (تدريس الأمازيغية)
إيجابياً باعتبار الحيثيات المذكورة.
أما الإصرار على الكتابة بالحرف الأمازيغي فإنه يمكن القول بقطع النظر عن
الخلفية التي تدفع إلى ذلك بأن الحرف العربي على الحالة التي هو عليها لا يمثل
مخارج أصوات الأمازيغية بالشكل الكيفي المطلوب، ولعل هذا التمثيل قد يتوفر في
الحرف الأمازيغي؛ لأنه موضوع أصلاً لذلك؛ حيث يجمع بين الشكل والنطق في
ذهنية المتعلم.
أما الحرف العربي فإن كان لا بد من استعماله فإنه ينبغي إدخال بعض
التعديلات عليه بإضافة علامات يصطلح عليها لبعض الحروف؛ حتى تمثل أصواتاً
أمازيغية لا وجود لمقابلاتها في الحرف العربي الموجود حالياً.
البيان: كيف تقومون موقف الحركة الإسلامية من اللغة الأمازيغية؟ وكيف
تقومون تعاملها الدعوي معها؟ وذلك باعتبار أن الحركة الإسلامية حركة ذات بعد
حضاري شمولي؛ الأصل فيها أن تكون لها ورقة علمية وتصور معين لكل مسألة
اجتماعية ذات ارتباطات بالوجود التاريخي للوطن، ثم أن يكون - بناء على ذلك -
لها أسلوبها الخاص لمعالجة مثل هذه الملفات؟!
- الدكتور الحسين كنوان: أخي الكريم! يبدو أن سؤالكم هذا في حاجة إلى
شيء من التحوير؛ حتى ينسجم أكثر مع القصد المتبادر إلى الذهن؛ ولذا أقترح
عليكم تعويض جملة «الحركة الإسلامية» بـ «الحركات الإسلامية» ؛ لأنه
ليس ثم وحدة حركية تامة متطابقة في وجهات النظر بين العاملين في الحقل الدعوي
بالمغرب على المستوى الشكلي على الأقل، وإلا لما تعددت التسميات وتنوعت
القيادات.
وقد يكون لأسباب هذا الاختلاف الشكلي أثر في اختلاف وجهات النظر إزاء
هذا الموضوع، والذي حملني على هذا الاقتراح هو قولكم: (وكيف تقومون
تعاملها الدعوي معها؟) ؛ لأن التعامل أوْلى أن يكون مع الذوات منه مع المعاني،
والله أعلم. وحتى لا أكون متعسفاً أجيب عن سؤالكم كما هو، ثم أضيف إجابة عما
يحتمل من القصد المفترض.
إن كان قصدكم هو تقويم موقف الحركة الإسلامية من اللغة الأمازيغية - كما
هو وارد في سؤالكم - فإن الأمر واضح؛ لأن الإسلام رسالة، واللغة أداة تبليغ،
وعليه لا يمكن أن يكون موقف الداعية المسلم من أي لغة إلا موقفاً إيجابياً؛ لأنها
صلة وصل بينه وبين المدعوين، ولعل من شروط صحة كونه داعية في بيئة معينة
أن يعرف لغة القوم المدعوين؛ مصداقاً لقوله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] (إبراهيم: 4) ؛ وعليه فكل داعية يجهل لغة القوم
المدعوين فضلاً عن أن ينكر عليهم الاهتمام بلغتهم يكون قد أخل بشرط من شروط
صحة كونه مؤهلاً لهذه المهمة في تلك البيئة. وأرى أن الشطر الثاني من سؤالكم
بشكله: (وكيف تقومون تعاملها؟) ... يدخل ضمن هذه الإجابة.
أما إن كان قصدكم كما أراه هو تقويم موقف الحركات الإسلامية من الحركات
الأمازيغية؛ فإن الأمر واضح أيضاً؛ ذلك أن الإسلام ممثلاً في الحركات الإسلامية
(إن كان ممثلاً بالمستوى المطلوب حقاً) ، لا يقبل التجزؤ والتشتت بين أفراد
المجتمع المسلم، بل يقبل التنوع والاختلاف في الجزئيات، في إطار وحدة شاملة
تؤطرها الكليات، وفي هذا الإطار يمكن وصف ما قد يحصل بين الحركتين من
خلاف.
وإن كانت ثمة مواقف متباينة، أو سلوكات من هذا الجانب أو ذاك إزاء
الآخر؛ فإنه يمكن تفسيره بضعف في فهم فقه تنزيل الإسلام على الواقع (إن حدث
من أية جماعة إسلامية) . أو ضيق في أفق الرؤية السياسية (إن وقع من إحدى
الحركات الأمازيغية) .
- الأستاذ جواد بنامغار: أظن أن موقف الحركة الإسلامية من اللغة
الأمازيغية ينطلق - أو هكذا ينبغي أن يكون - من موقف الإسلام نفسه؛ فاختلاف
اللغات آية من آيات الله، وتعليم اللغات وتعلمها من أجل التواصل، ومن أجل
الدعوة إلى الله خاصة وتبليغ رسالته أمر مطلوب؛ مصداقاً لقوله الله عز وجل:
[وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] (إبراهيم: 4) . لكن في المقابل
فإن أساس الالتحام ووحدة الأمة هو العقيدة الإسلامية التي تنبذ العرقيات
والعصبيات، وتربط الناس بالله تعالى رب العالمين. والاهتمام باللغة العربية
وإعطاؤها الأولوية عقيدة لا قومية ولا عصبية؛ لأنها هي مفتاح فهم الدين
الإسلامي عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً. هذا من حيث المبدأ، أما عملياً فأظن أن الحركة
الإسلامية كفيت هذا النقاش حيناً من الدهر بالموقف التاريخي للأمازيغ أنفسهم الذين
أحبوا العربية لمكانها من الدين، فأقبلوا عليها، وتعلموها، وبرعوا فيها لأجل
فهم الإسلام، والعمل به، وتبليغه.
لكن هذا لا يعفي الآن الحركة الإسلامية - خاصة في ظل المتغيرات الجديدة -
من تركيز الاهتمام باللغة الأمازيغية، بل والمسألة الأمازيغية عامة، وخاصة أن
فئة عريضة من أعضائها أمازيغ، أو من أصول أمازيغية، بل كثير من قيادييها
وعلمائها كذلك. وهذا الاهتمام يجب أن يسير في اتجاهات ثلاثة:
1 - تكوين دعاة ووعاظ قادرين على شرح الإسلام ومبادئه بالأمازيغية؛ لأن
كثيراً من أهالي المناطق الأمازيغية لا يفهمون العربية، أو على الأقل لا يستوعبون
بها استيعابهم بالأمازيغية.
2 - إقامة أبحاث ودراسات تبين عمق ارتباط الأمازيغ بالإسلام، ولإسهامهم
في الدعوة إليه في مختلف المجالات، والدفاع عنه في شتى المناسبات، وتجلية ما
تنطوي عليه الأمازيغية من مضامين إسلامية عموماً.
3 - مد جسور التواصل والحوار مع مختلف مكونات الحركة الأمازيغية
لتطويق التطرف، وإزالة الاختلاف المذموم، وإنضاج رؤية للمسألة الأمازيغية
تعترف بالخصوصية، وتتشبث بالوحدة في إطار التنوع والتكامل.
البيان: ما الأخطار في نظركم التي يمكن أن تسببها الحركة الأمازيغية
لمستقبل المغرب الإسلامي؟ طبعاً نتحدث عن التيارات السياسية العنصرية؛ لا
عن الأمازيغية من حيث هي لغة وطنية؟
- الدكتور الحسين كنوان: لقد سبق أن قلت لكم: ينبغي أن نهتم بجواهر
الأمور لا بأعراضها، وفي هذا السياق أقول: أراكم تتحدثون عن الأمازيغية كأنها
غول دخيل يتربص بالمغرب الدوائر، وكأن غيرها من الحركات - وهي دخيلة
فعلاً شكلاً ومضموناً لا يشكل أي خطر على الوحدة الوطنية، وقد سبق أن قلت
أيضاً: عندما لا تحترم مقومات العروبة بالشكل اللائق، وتعلن ممارسات ضد
الإسلام؛ فإن الرجوع إلى الأصل أصل، ونحن نرى على أرض الواقع أن مجال
استعمال اللغة العربية وهي المقوم الأول للعروبة يضيق عند الأفراد والمؤسسات،
وإن سجلنا - بكامل الأسف - أثناء الحديث عن سؤال سابق: الغياب المطلق
لاهتمام العالم الإسلامي عموماً، والعالم العربي خصوصاً بالثقافة الأمازيغية، مقابل
العناية المشبوهة لعدد من الدول الأوروبية، والآسيوية والأمريكية بها، أمام كل هذا،
عندما نقول للأمازيغ: «إن حركتكم هذه تشكل خطراً ما على مستقبل المغرب
الإسلامي» ؛ فإننا نقول له أحد الأمرين:
أولهما: أنك لست مغربياً، ولا حق لك في أن تفكر في هويتك، فكن
فرنكفونياً، أو شيوعياً، أو ما شئت إلا أن تدعي أنك أمازيغي، وكان بالإمكان أن
نختار لك الإسلام الذي لم نلقنك ما يكفي من مبادئه لتشب عليها منذ نعومة أظفارك،
وربما لم تعامل مرة بعدله، ولا شملتك رحمته فيما عشت من حياتك، أو العروبة
المفككة التي لم يعد كثير من أبنائها يحترمون أبسط مظاهر انتمائهم لها، ممن
يوجدون حولك.
ثانيها: ونقول له ثانياً: عليك أن تعطل عقلك، وتبدل إحساسك، وتزكم
ذوقك؛ لتتبع من أهمل أحوالك المادية والمعنوية. إنه والله منطق غير مقبول.
فالأمازيغي مهما كان؛ إنسان مغربي وطني مسلم أصيل، ولن يشكل أي
خطر على مستقبل بلده، نعم من حقه أن يمارس نشاطه السياسي كغيره! فإن ضل
هديناه، وإن أخطأ وجَّهناه، وإن أصاب عضدناه، وإن اشتكى من أننا ظلمناه
أنصفناه.
وأرى أن التنظيمات الأمازيغية كغيرها من التنظيمات السياسية قد تمثل فئة
من المواطنين الذين يتعاطفون معها لسبب أو لآخر، كُلاً أو بعضاً، فقد ينساق
البعض وراء شعارات الأمازيغية كمفهوم عام، ولكن قد يتبرؤون من هذا الادعاء أو
ذاك؛ مما فيه ثقل المسؤولية أو شبه احتمال الإضرار بسمعة البلاد بشكل ما.
وأخيراً فإن الحركة الأمازيغية في تقديري حركة وطنية؛ تسعى إلى البناء لا
إلى الهدم والتخريب؛ حتى يتوقع منها خطر على الوحدة الوطنية في المستقبل؛
لأن هؤلاء أحفاد المجاهدين المؤمنين الصادقين كطارق بن زياد، وعبد الكريم
الخطابي، وموحى أحمو الزياني، وموحى أسعيد، ومحمد الحنصالي، وعسو
أباسلام، وغيرهم كثير ممن خدموا الإسلام وجاهدوا في سبيل الله، ولم يكتب
لأسمائهم أن تظهر على صفحات التاريخ، ولكنهم عند ربهم يرزقون إن شاء الله.
- الدكتور عبد الرحمن حيسي: إذا وجدت النيات الحسنة، وسادت روح
التعاون بين جميع الأطراف الفاعلة في الحقل السياسي والثقافي المغربي؛ فإن
الأمور ستسير سيراً طبيعياً، ولن تأخذ القضية أكثر من حجمها الحقيقي.
ولا بد من التأكيد في هذا السياق على أن وجود الإسلام في المغرب وجود
راسخ ومتجذر في أعماق تاريخه العريق وحضارته الأصلية، وهو اليوم كما كان
بالأمس دين كل المغاربة على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم الثقافية والفكرية؛ منه
يستمدون قوتهم ووحدتهم وعزتهم واستقرارهم، لا يجادل في ذلك ولا يساوم إلا من
سفه عقله، أو كان جاهلاً بواقع المغرب وتاريخه.
وقد تبادر إلى ذهني سؤال وأنا أجيب عن الأسئلة حول «الأمازيغية» ؛
وهو: لماذا لم يحدث مثل هذا التخوف من الشيوعية والعلمانية والفرنكوفونية
والأنجلوفونية وغيرها من التيارات التي لها وجود فعلي في الوسط السياسي
والثقافي المغربي؟!
- الدكتور محمد سدرة: لا أعتقد أن هناك أخطاراً مباشرة من الحركة
الأمازيغية؛ إذ لا أعتبرها تقف على أسس بإمكانها زعزعة الوحدة الوطنية،
وخاصة حول الدين المتغلغل في أعماق المغاربة رغم كل العواصف. ولكن الخطر
الوحيد الذي يمكن أن تكون الأمازيغة طرفاً فيه هو الإحباط المؤدي إلى الاستسلام
والعبثية، خاصة مع الإحباطات السياسية والاجتماعية، على المستوى المحلي
والجهوي والدولي للأمة الإسلامية، وهذا خطر يصيب المغاربة عبر التاريخ
لفترات طويلة، لكنهم ينتفضون منه في الوقت المناسب.
- الأستاذ جواد بنامغار: إن الخطاب المتطرف في الحركة الأمازيغية ينذر لا
قدر الله بمشكلات التفرقة، والتجزئة والانفصال كما آلت كثير من الحركات في
بلدان متعددة من العالم؛ من حركات ثقافية لغوية إلى حركات متطرفة انفصالية.
البيان: ما هو السبيل للعودة بالبلاد إلى سابق عهدها الوحدوي المتماسك
دينياً وسياسياً واجتماعياً ونفسياً؟
- الدكتور عبد الرحمن حيسي: هذا السؤال لا مسوِّغ له؛ لأن المغرب لم
يفقد شيئاً من وحدته الدينية والاجتماعية والنفسية كما ذكر، وما نلاحظه على أرض
الواقع من تعايش واستقرار سياسي واجتماعي ووحدة في الموقف تجاه القضايا
الكبرى والمصيرية للمغرب خير شاهد على ذلك.
- الدكتور الحسين كنوان: نشر عدل الإسلام ورحمته، وتعلم اللغة العربية
لفهمه على أكمل وجه.
- الدكتور محمد سدرة: في تقديري المتواضع، هناك وصفتان لا بديل عنهما:
الأولى دينية: تتمثل في تكثيف عملية التوعية الدينية والحملات الدعوية عبر
شرائح المجتمع، وخاصة الطبقات الشعبية والأمازيغية منها على وجه الخصوص.
وقد دلت قرائن متعددة على دور هذه التوعية في التحام المغاربة وتماسكهم؛ رغم
الأوضاع المزرية التي يعيشونها، وخير مثال على ذلك ما أثارته قضية (مشروع
خطة إدماج المرأة في التنمية) الذي أراد التيار الشيوعي فرضه على المغاربة،
فعبروا بإجماع، عرباً وأمازيغ؛ عن رفضهم ومقاومتهم له، وأولهم النساء.
الثانية اجتماعية: تتمثل في إعادة الثقة إلى الشرائح المحرومة من المجتمع
بالاهتمام بها على مستوى ضمان خبزها اليومي، والعناية بصحتها وتعليمها،
والتواصل معها في همومها اليومية.
- الأستاذ جواد بنامغار: لا شك أن التمسك بالإسلام هو أساس وحدة الشعب
المغربي عبر تاريخه كله، وهو أساس الأخوة والتكامل والتضامن بين جميع أفراده،
لكن هذا المعنى شابته شوائب مختلفة - على مر السنين - أضعفت من قوته
وفاعليته، فلا بد من تكثيف الجهود الدعوية، والتربوية، والعلمية والإعلامية؛
لبناء الإنسان القرآني الذي يجسد الإسلام حقاً على أرض الواقع.
وموازاة مع ذلك لا بد من محاصرة بوادر الخلاف والتفرقة، ومعالجة علل
التدين، والتصدي للجهل بالدين الأساس أو تجاهله، وكذا التصدي لموجات الغزو
الفكري، والإباحية الأخلاقية.
لا بد من مواجهة كل هذا بالدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، وعلى نهج
الحكمة والموعظة الحسنة، والحوار البناء مع كل مخلص غيور، والتعاون مع كل
ذي نية حسنة تكثيراً لسواد الخير وأهله، ومحاصرة لأهل البغي والفساد والإفساد.
ولا بد كذلك من نقد ذاتي صريح، وعلاج شامل متكامل؛ ذلك أن كثيراً من
الظواهر الفكرية والاجتماعية تجد لها عمقاً في الذات؛ فهماً وممارسة وتعاملاً،
وربنا تبارك وتعالى يقول: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
(الرعد: 11) .
البيان: نشكر السادة الأساتذة الفضلاء على قبولهم المشاركة في هذا
الحوار العلمي القيم، ونشكرهم كذلك على صبرهم على أسئلتنا، وتفضلهم
بآرائهم في كل ما تعلق بكلماتها، وبما وراء كلماتها.
لقد تبين إذن من خلال حديثكم القيم أن الإسلام هو الوعاء الطبيعي لكل نشاط
ثقافي أو سياسي يرجى له النجاح في علاج مشكلات الأمة، وأن أي شذوذ عن
الإطار الإسلامي إنما هو تحليق خارج سرب الأمة؛ فلا هو يمثلها وإنما هو يمثل
نفسه خاصة، وأن الأمازيغية الحرة ترفض أن يتكلم باسمها الماركسيون اللينينيون،
أو الفرنكوفونيون الاستئصاليون.
وأن أي استغلال علماني لمظلتها إنما مصيره الإخفاق؛ لسبب بسيط هو أنه
مناقضة لسنن الحضارة، وأصول العمران، وقواعد الاجتماع البشري؛ فالمغرب
المعاصر الذي يستمد وجوده من التاريخ إنما كان يوم كان بهذا الدين؛ فقد تشكلت
هويته عبر قرون من التراكم الثقافي والإثني في إطار الإسلام؛ فمنذ الفتح الإسلامي
الذي وقع في القرن الأول الهجري، وهو يتشكل عبر تعاقب الدول والأجيال،
لينتهي في الأخير إلى هذه الصياغة الحضارية التي مزجت بشكل عجيب ودقيق
بين مكونات شتى، فكان هذا البلد كما هو حقيقة: المغرب المسلم! وكذلك هو
الحال بالنسبة لدول الغرب الإسلامي عامة: ليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا.
فليس أحد أقدر على الاضطلاع بمشروع التجديد لثقافته - بمعناها الشمولي - من
طلائع الصحوة الإسلامية، لكن إلى أي حد هي فعلاً على صلة وثيقة بهموم الناس
وبنياتهم الاجتماعية؟ وإلى أي حد هي جادة في دراسة المآلات الاجتماعية
والحضارية لما يقع للأمة اليوم من إعادة تشكيل عولمي؟ تلك أسئلة أخرى، لها
قصة أخرى!
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، ومراسل مجلة البيان، المغرب.
(**) (الظهير البربري) الذي أصدره هنري يونسو بتاريخ 23/12/1352هـ الموافق 8/4/ 1934م كان يقوم على عزل مناطق العرف البربري عن الإدارة السلطانية القضائية والتعليمية، وتخصيصها بمحاكم عرفية لا ترجع في أمورها إلى أحكام الإسلام، بل إلى عرف القبائل! وبقي الظهير الاستعماري كذلك حتى ألغاه السلطان محمد الخامس الذي أعلن في مهرجان شعبي عقد بمدينة الخميسات: (أن ما أطلقت عليه فرنسا (مناطق العرف البربري) هي سياسة قد أقبرت وألغيت نهائياً، ولم يبق العمل بها جارياً في المغرب الحر الموحد والمستقل) ، وبدأت بعد ذلك سلسلة من النصوص التشريعية تصدر على التوالي في الجريدة الرسمية، فكان أول ظهير شريف صدر منها هو الظهير رقم 1 - 1 - 0 - 56 - 1 المؤرخ بـ 24/7/1375هـ، الموافق 7/3/1956م، وهذا الظهير هو الذي ألغى الظهير البربري.(182/42)
حوار
فضيلة الأستاذ خالد مشعل في حوار خاص مع البيان
على كل الحركات الإسلامية أن تدرك أن الخطر الصهيوني يستهدفها
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على أشرف الأنبياء وسيد
المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مع تلاحق الأحداث واشتدادها في فلسطين؛ تزداد انتفاضة الأقصى ثباتاً
وصموداً، وفي ظل التطورات التي تحيط بأمتنا من كل جانب، ولا سيما في
الأرض المباركة؛ تواصل البيان متابعتها للأحداث هناك، وتستضيف فضيلة
الأستاذ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، في
حوار يلقي الضوء فيه على كثير من الجوانب المهمة لانتفاضتنا المباركة، وما
يجري على الساحة من أحداث وتطورات.
البيان: دعوتم في كلمتكم بمناسبة مرور عامين على بدء الانتفاضة الثانية
الشعوب العربية والإسلامية إلى أن تجدد تفاعلها مع الانتفاضة؛ فما هو رأيكم إن
ضَعُفَ هذا التفاعل مع شدة الأحداث في فلسطين؟
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
نحن أولاً ظننا بأمتنا أنها لم تقصِّر، ولذلك لسنا متخوفين من تقصير الأمة، بل
نستبشر أنها ستؤدي واجبها ورسالتها، ونتفهم الظروف التي تقود أو تؤدي إلى مثل
هذه الحالة غير المستقرة من تفاعل الشعوب العربية والإسلامية، ومع ذلك فأملنا
ودعوتنا هي تجديد هذا التفاعل، لكن لا شك أن هذا التفاعل إذا قصر أو تراجع؛
فهنا مشكلتان:
الأولى: تقصير الأمة في واجبها؛ وهذه مسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى.
والمشكلة الثانية: أن أهلنا في فلسطين الصامدين المنتفضين المجاهدين
سيُحرمون من دعم أهلهم وأُمَّتهم، ولا شك أن شعبنا في فلسطين بحاجة إلى هذه
المساعدة؛ لأن أي حركة مقاومة لا تستغني عن محيطها، وفي التاريخ كل الثورات
وكل حركات المقاومة كانت تعتمد على دولة مجاورة؛ سواء في الدعم البشري، في
الدعم المالي، في الدعم العسكري، التزويد بالسلاح، حرية الحركة، الدعم
اللوجستي بصورة عامة، ولذلك لا يعقل أن حركة المقاومة في فلسطين، أو قوى
المقاومة في فلسطين تُحرم من هذا السند، لا أقول السند الخارجي؛ لأن الأمة
ليست شيئاً خارجاً، وإنما تحرم من أُمَّتها من أهلها من جوارها، وإلا يصبح هذا
استثناء من كل تجارب المقاومة في التاريخ.
فإذن نحن بحاجة فعلاً إلى هذه المساعدة؛ خاصة أن متطلبات المقاومة لا
يمكن أن تستمر بدون هذا الدعم. على سبيل المثال: السلاح. السلاح صحيح أنه
متوفر في الأرض المحتلة بشكل محدود، ولكنه بأسعار غالية، وليس كل الأنواع
إنما أنواع بسيطة، وتجارة السلاح في الداخل محفوفة بالخطر؛ بحكم أن غالبية
التجار لديهم خطوط مع الأمن الإسرائيلي وغيره، ومن ثم فنحن بحاجة إلى السلاح.
نحن بحاجة إلى المال الذي يدعم المجاهدين، ويدعم أسر المجاهدين، وأسر
المعتقلين، ويوفر متطلبات الصمود للشعب الفلسطيني. نحن بحاجة إلى الدعاء
وإلى الإسناد المعنوي من خلال تفاعل الجماهير؛ لأن الشعب الفلسطيني عندما
يرى نفسه وحيداً في المعركة يصاب بالإحباط لا سمح الله أو بالشعور بالأذى
النفسي؛ خاصة أنه يعلم أن قضية فلسطين ليست مسؤولية فلسطينية فقط بل هي
مسؤولية عربية وإسلامية؛ ولذا فمن غير المقبول ويصعب تفسيره عند جماهير
الفلسطينيين أن يقف العرب، وخاصة على المستوى الشعبي، مكتوفي الأيدي!
نحن نعتقد أن الدور العربي الإسلامي دور مطلوب وأساس.
ومع ذلك أقول: حتى لو قصَّر المسلمون في واجبهم فإننا في فلسطين لن
نتوقف عن المقاومة، سنبقى نواصل هذا الطريق؛ لأن هذا قَدَرُنا، وهذه مسؤوليتنا،
ونحن نستشعر أن الله عز وجل كلفنا بهذه المهمة الكبيرة، ونحن نشرف بتنفيذها،
وبالثبات عليها.
ودائماً أقول في كثير من هذه المناسبات، وأستشهد بقول الله عز وجل مخاطباً
رسوله صلى الله عليه وسلم: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] (النساء:
84) ، فنحن نستشعر كأننا المكلفون وحدنا في المعركة؛ ومن واجبنا أن نحرِّض
المؤمنين، مع استبشارنا أن أمتنا لن تقصِّر معنا إن شاء الله تعالى.
البيان: لو انتقلنا إلى دائرة أخص، وهي دعوة الحركات الإسلامية؛ فهل
تشعرون أن الحركات الإسلامية خلال الفترة الماضية قدمت ما يجب عليها إزاء
القضية الفلسطينية، أو أن الحركات الإسلامية انشغلت بهمومها على حساب
القضية الأهم؟
- بموضوعية أقول: هناك جهد طيب ومبارك من الحركات الإسلامية،
ولكن لا يكفي، ولا تزال هناك غلبة الهموم المحلية الإقليمية على الحركات
الإسلامية، وهذا ينطبق على الحركات الأخرى الوطنية وغيرها، وأعتقد أن هذا
تقصير كبير؛ ونحن في فلسطين لا نطالب الحركات الإسلامية أن تتخلى عن
همومها المحلية، ولكن أن تتوازن؛ فتعطي مساحة مناسبة للهموم المحلية، وهذا
شيء طبيعي؛ لأن هذه مسؤولية، وتعطي مساحة أيضاً كافية للهم العام للأمة،
لهموم الأمة العامة، وأعتقد أن من هموم الأمة العامة قضية فلسطين.
ثم إن الخطر الصهيوني لا يتهددنا في فلسطين وحدها، وعلى كل قيادة
لحركة إسلامية في العالم أن تدرك أن الخطر الصهيوني يستهدفها؛ يستهدفها بأشكال
مباشرة وغير مباشرة، ولذا فهي لا تستطيع أن تعيش في منأى عن هذا الخطر.
البعض يتصور أنه يستطيع أن يطبق برامجه بعيداً عما يجري على أرض فلسطين،
نحن نقول لا؛ بدليل الخطر الصهيوني الذي يتوسع وبأشكال عدة، وما جرى
قبل سنوات في ماليزيا حين استُهدف اقتصادها، فتأثرت كل ماليزيا، ليس فقط
الشعب، بل الدولة والقوى المختلفة فيها؛ بما فيها الحركات الإسلامية؛ إذن إذا
استشعرت كل حركة إسلامية مسؤوليتها الدينية تجاه فلسطين والأقصى والقدس،
وهي مسؤولية مؤكدة، ولا يستطيع أحد أن يتنصل منها، وإذا استشعرت هذه
الحركة أنها ليست بمنأى عن الخطر الصهيوني، هي كحركة والبلد الذي تعيش فيه؛
أعتقد أن هذا سيدفع الجميع إلى القيام بمسؤولياته، وأعتقد أن كل حركة تستطيع
أن توازن بين همها المحلي وهمها العام.
ثم هناك واجب النصرة والأخوة، وأنني دائماً أستشهد بالحديث النبوي: «ما
آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم» [1] ؛ فكيف يؤمن من
بات أخوه الفلسطيني ليس فقط جائعاً بل يعاني هذه المعاناة تحت العدوان الصهيوني،
ويخوض معركة وحده في مواجهة، لا أقول الصهاينة وحدهم، بل كل القوى
الظالمة في الأرض التي تناصر الصهاينة؟! فالحقيقة هنا اختبار للإيمان، وهنا
اختبار أيضاً للبرامج التي تضعها الحركات الإسلامية.
ثم أخيراً أقول: إن اشتغال الحركات الإسلامية في الوطن العربي والإسلامي
بقضية فلسطين هو مكسب لها، صحيح أنها مُكلِّفة، ولكن لها استحقاق على كل
حركة إسلامية، ولكن أيضاً هو في ذات الوقت مكسب لها، وكثير من الحركات
تستفيد من ذلك، لنستحضر هذا المعطى، أو هذه الزاوية، ولتحاول كل حركة
إسلامية وهي تسعى إلى مرضاة الله عز وجل، والقيام بالواجب؛ أن تستفيد من
خلال انشغالها بقضية مباركة كقضية فلسطين؛ فهذا يعلي شأنها، ويزيد أنصارها،
ويؤكد مصداقيتها، وإلا تصبح الشعارات المرفوعة لا قيمة لها؛ أن ترفع شعارات
ولا تجد طريقها إلى التطبيق.. فلا قيمة لها.
ولذلك؛ أنا دعوتي للحركات الإسلامية أن تعد الاشتغال بقضية فلسطين،
ودعم الجهاد والمقاومة، ودعم صمود الشعب الفلسطيني، ودعم الانتفاضة أن تعده
واجباً ومسؤولية، ثم هي فرصة لها لتعزيز مصداقيتها، ولتحقيق كسب إن شاء الله
لها وللإسلام وللأمة بشكل عام.
البيان: دعا فضيلة الشيخ أحمد ياسين الأمة الإسلامية في مقابلة سابقة مع
المركز الفلسطيني الإعلامي إلى تهديد مصالح أمريكا المتصهينة؛ ألا يُعد هذا
تحولاً في توجه حماس الداعية إلى الاقتصار على الداخل في الصراع مع العدو
اليهودي؟
- أستطيع التأكيد بوضوح وبشكل حاسم أنه لا تغيير على سياسة الحركة؛
فمعركتنا محصورة ضد الاحتلال الصهيوني، ومحصورة داخل فلسطين، هذا ما
اختارته الحركة منذ نشأتها ولا تزال عليه، وما ورد من حديث للشيخ أحمد ياسين
هو في سياق ممارسة ضغوط على أمريكا ومصالحها، وليس استهدافاً بمعنى ضربة
عسكرية؛ بمعنى أن تشعر الولايات المتحدة الأمريكية أنها لا تستطيع أن تجمع بين
دعمها للكيان الصهيوني اللامحدود وبين استمرار مصالحها في المنطقة، وهذه دعوة
للحكومات وليس فقط للشعوب، وأعتقد أن الدول العربية سبق أن مارست هذا،
مثلاً عندما استُعمل سلاح النفط أيام الملك فيصل رحمه الله، وأعتقد أن الأمة
تستطيع أن تفعل ذلك اليوم؛ بمعنى أن تدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعادة
حساباتها، أما إذا شعرت الولايات المتحدة الأمريكية أنها تستطيع أن تدعم إسرائيل
دعماً كبيراً ومطلقاً، ثم هي تستطيع أن تحافظ على مصالحها في الوطن العربي؛
فما الذي سيدفعها إلى تغيير سياساتها؟!
نحن نريد أن نشكل ضغطاً جماهيرياً، وضغطاً سياسياً، وضغطاً دبلوماسياً؛
بحيث تضطر الإدارة الأمريكية إلى تغيير سياستها في المنطقة؛ هذا أعتقد أنه هو
المفهوم الذي يقصده الشيخ أحمد ياسين، وليس الدخول في معركة عسكرية ضد
الولايات المتحدة الأمريكية، هذا ليس من سياستنا.
البيان: هناك حديث عن عودة خيار غزة أولاً؛ ففي ظل احتلال الضفة؛ هل
يمكن القول بأن غزة ستكون مرشحة مستقبلاً لأن تكون هي الدولة الفلسطينية
التي تطالب بها السلطة وتَعِدُ بها أمريكا؟
- كل هذه المشاريع العديدة تنطلق من رؤية صهيونية تدعمها أمريكا، أو
على الأقل تسكت عنها أمريكا، وهي تبرهن على عدم الاعتراف أو التسليم بالحق
الفلسطيني، وإصرار القيادة الصهيونية على استمرار الاحتلال، وقهر الشعب
الفلسطيني، ووقف انتفاضته ومقاومته، والخيار الأمني العسكري، ويريدون من
شعبنا أن يسكت ويقبل بالفتات وبالقليل، هذه الرؤية الصهيونية تحاول أن تعبر عن
نفسها بمثل هذه المشاريع؛ غزة وحدها، أو غزة - الخليل، أو غزة - بيت لحم،
أو غزة - أريحا، أو غيرها من المشاريع المطروحة، ولكن هذه المشاريع لن
تنجح بالتأكيد، وشعبنا الفلسطيني لن يقبل إلا بتحرير أرضه، ولن يتنازل عن
حقوقه وعن أرضه وعن مقدساته، هذه حقيقة، هناك استماتة صهيونية أمريكية من
أجل صنع الاستقرار في المنطقة، وتحقيق الأمن للكيان الصهيوني بأبخس الثمن،
وهو أن يعطوا الفلسطينيين شيئاً قليلاً من حقوقهم، ونحن نقولها للعالم كله،
وللأمريكان وللصهاينة: إن الاستقرار في المنطقة لن يكون على حساب حقنا، لا
استقرار في المنطقة إلا إذا رحل الاحتلال، ولا يستطيع العالم كله مهما توفر له من
قوة مادية أن يجمع بين الاحتلال والاستقرار: إما احتلال، وإما استقرار، وهذا
بالنسبة لنا يقين بعون الله.
وهذه المشاريع أخفقت كما أخفقت أوسلو؛ لأنه ما دام هناك فلسطيني لن أقول
ما دام هناك عربي أو مسلم يشعر بالظلم، وبأن حقه لم يعد له، وبأن هناك أرضاً
فلسطينية مقدسة مباركة لا تزال محتلة، أو أن القدس لم تعد له؛ فإن المقاومة
ستستمر حتى يرحل الاحتلال.
ربما يفهم الصهاينة الآن جزءاً من هذه الحقيقة، وكذلك الأمريكان، لكن لم
يصلوا بعد إلى التسليم بهذه الحقيقة؛ لأن هذا يحتاج فيما يبدو إلى ثمن أعلى، وإلى
أن يروا حقائق مؤلمة على الأرض؛ حتى يُجبروا على الخضوع لهذا المنطق كما
خضعوا له في جنوب لبنان، مع تقديري أن الواقع الفلسطيني يختلف عن لبنان،
والمعركة في فلسطين أكثر شراسة، وأكثر خطورة، وهي تمثل المعركة
الاستراتيجية الكبرى.
البيان: ولكن كيف وتلك التنازلات يروِّج لها بعض المدافعين عن القضية
الفلسطينية؛ فهل تتوقعون أن الضغوط الكبيرة التي يواجهها الشعب الفلسطيني
سوف تجعله في مرحلة من المراحل يقبل مثل هذه الحلول الجزئية؟
- لا أعتقد؛ لأن الذين يقبلون ويروجون مفهوم أو مشروعات التنازل
والمساومة؛ هؤلاء ينطلقون ليس من الحقائق والواقع؛ ولكن ينطلقون من نفسية
مهزومة، هؤلاء تعبوا ويريدون للناس أن يخضعوا لمنطقهم المهزوم، هذا لن ينجح،
ولماذا لن ينجح؟ لعدة أسباب:
السبب الأول: أن هذه التجربة جُرِّبت؛ ونحن لسنا أمام تجربة جديدة، هذه
التجربة جربت في أوسلو، أوسلو قامت على منطق المساومة والتفريط، القبول
بالقليل والتنازل عن الكثير، واعتبروها مرحلة تدريجية لعلها توصلهم خلال خمس
سنوات إلى الدولة، والنتيجة كانت أننا عدنا إلى الوراء وخسرنا الكثير، وبالعكس
استغلها العدو في توسيع الاستيطان والتهويد للقدس وللضفة والقطاع؛ فإذن هي
تجربة، أو هي رؤية أو مشاريع جُرِّبت ولم تنجح.
السبب الثاني: أن شعبنا الفلسطيني يدرك أن أي مشاريع من هذا النوع لن
ترفع عنه الظلم، وستبقي على الاحتلال، يعني كل منطق أوسلو وما يقارب أوسلو
منطق المساومة؛ يؤدي إلى حلول ترقيعية، وحلول لا تُخرج الاحتلال، لا تخلص
شعبنا من قبضة الاحتلال وهيمنة الاحتلال؛ بدليل كما اكتشف شعبنا وأدرك ما كنا
نقوله مبكراً أن مناطق أوسلو التي هي مناطق (أ) ليست مناطق محررة؛ إذ
يستطيع العدو أن يعود لها في أي وقت يريد، ومن ثم فإن شعبنا لن يقبل مشروعاً
يجعل الاحتلال هو صاحب الهيمنة عليه، وهكذا يبقى الظلم، يبقى الاحتلال،
يبقى القتل، يبقى السجن، تبقى مصادرة الأراضي، يبقى التهويد، هدم
المزروعات، كل ظلم الاحتلال سيبقى حتى في ظل هذه المشاريع؛ ولذلك أصبحت
هناك قناعة الآن لدى جماهير شعبنا أنه يريد التخلص من الاحتلال بشكل حقيقي،
وأن يكون هو صاحب السيادة على أرضه وقدسه ومقدساته، هذا هو المطلب،
وشعبنا أدرك أن الطريق إلى ذلك هو الجهاد والمقاومة والصمود، مع أن الصمود
كلفته عالية لا شك.
وكما تفضلتم؛ ربما شدة الأذى الذي يقع على الفلسطينيين، وتقصير القريب
والبعيد؛ فربما يوصل الناس إلى حالة من الإحباط.. ربما، لكن في النهاية ليس
هناك خيارات أخرى، بل انعدام الخيارات الأخرى يجعل شعبنا أكثر تمسكاً ببرنامج
المقاومة والانتفاضة، وأكثر صبراً وثباتاً، ولا خيار أمام شعبنا غير هذا، وهذا
أحد أسباب الصمود العظيم طبعاً بتوفيق الله سبحانه وتعالى، ثم بسبب شعور شعبنا
بانعدام الخيارات، ومن ثم ليس أمامه إلا كما قال الشاعر:
إذا لم يكن غير الأسنة مركباً ... فماذا على المضطر إلا ركوبها؟!
لا يوجد عندنا خيار آخر.
البيان: كثر حديث بعض رموز المقاومة عن استحالة غزو القوات
الإسرائيلية لمدينة غزة كما فعلوا في الضفة؛ فعلى أي أساس يتم الحديث عن
هذه الاستحالة؛ في ضوء سقوط مدينة جنين وغيرها من مناطق المقاومة؟
- لم يطرح رموز المقاومة الاستحالة؛ إنما كانوا يتحدثون عن التحليل
والترجيح، ودراسة الاحتمالات بين إمكانية الاجتياح الشامل أو عدمه، أو
الاجتياحات الجزئية من باب الاستنزاف والإرهاق، أما الحسم.. فلا أحد يستطيع
أن يحسم بأن الاجتياح لن يكون، كما كان هناك تحليل انطلاقاً من أن الواقع
الديموجرافي والواقع الجغرافي لقطاع غزة يختلف عن الضفة الغربية، الكثافة
السكانية في غزة كثافة كبيرة، ولا شك أن العدو سيدفع خسارة باهظة، فعلى الرغم
من أن إمكانيات العدو العسكرية والأمنية تتيح له أن يجتاح غزة، ولكن سيكون
الثمن باهظاً؛ خاصة أن هناك إصراراً من جميع القوى على الصمود، وعلى
مواجهة هذا الاجتياح، وإضافة إلى الكثافة السكانية؛ فإن حجم التسليح نسبياً أفضل
من التسليح في الضفة، هذه العوامل كان يرى البعض فيها أنها فعلاً ربما تعيق
الاجتياح، ومن ثم تفرض على قادة العدو أن يعيدوا حساباتهم، لكن هذا لا يمنع
الاجتياح الشامل، والناس مهيؤون في قطاع غزة لمثل هذا الاحتمال، وفي هذا
قَدَرُنا، إن حصل فسنواجهه، وإن لم يحصل فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى، ومع
ذلك فالمعركة مستمرة حتى بدون الاجتياح الشامل، الاجتياحات المتكررة موجودة،
هناك مجازر ترتكب في رفح باستمرار، في خان يونس، في بيت حانون، في
أطلال غزة، في جباليا، باستمرار.. اقتحامات ومجازر ترتكب في حق الشعب
الفلسطيني.
أيضاً هناك حسابات تتعلق بغزة من حيث مستقبلها، ربما تكون هناك رؤية
إسرائيلية أن يُحشر الفلسطينيون في غزة، ويقال لهم هنا دولتكم؛ مثلاً.
هذه حسابات.. لكن في النهاية العدو لن يتورع عن أن يقوم بمثل هذه الخطوة
عندما هو يقرر، ولكن أيضاً في النهاية قَدَرُنا كفلسطينيين أن نصمد، وأن نثبت،
وأن نواجه العدوان إن شاء الله مستعينين بالله عز وجل.
البيان: ما هي فرص نجاح المشروع الذي تم الإعلان عنه؛ بتشكيل غرفة
عمليات مشتركة في غزة بين جميع القوى والفصائل الفلسطينية؟
- هذا الأمر أُعلن في فترة التوقع للاجتياح، وأعتقد أن فرصة هذا واردة،
كما جرى في جنين؛ يعني في جنين المجاهدون واجهوا الاحتلال والاجتياح فعلاً
في صف واحد وتنسيق جيد؛ لأن ضرورات المعركة تدفع الناس إلى مثل هذا
التعاون وإن كانوا مختلفين سياسياً أو فكرياً، وأعتقد أنه في حالة الاجتياح لغزة
الاجتياح الشامل لن يجد المجاهدون من جميع الفصائل إلا أن يتوحدوا وينسقوا
جهودهم؛ لأنهم يدافعون عن أنفسهم، عن أعراضهم، عن أهلهم، عن أرضهم،
وهناك تجارب ناجحة ستشجع الجميع على تكرارها إن شاء الله.
البيان: في الفترة الماضية طالب شارون بعقد مؤتمر إقليمي للسلام، ولكنه
لم يُلق بالاً لدعوة عرفات للتفاوض؛ فما معنى هذا التصرف؟
- نعم.. شارون يتبع سياسة خبيثة تقوم على شعبتين: الشعبة الأولى: هي
استمرار سفك الدم الفلسطيني، والقتل، وارتكاب المجازر، وتقويض أركان
السلطة، وملاحقة المجاهدين واعتقالهم، وإرهاق الشعب الفلسطيني بالحصار
والتجويع، والعقوبات الجماعية، وفي ذات الوقت يمارس: الشعبة الأخرى من
سياسته: هي أن يظهر أمام العالم أنه يريد السلام، ويريد التفاهم، ويريد التفاوض،
ويريد أن يعقد صفقات تسوية مع الفلسطينيين؛ ليخدع العالم، وليخدع الأمريكان،
ويسوِّغ تصرفاته على الأرض، ولعل تعيينه شمعون بيريز وزيراً للخارجية في
مطلع حكومته.. هذا ما القصد منه؟ قبضة تقتل دماً في الواقع على أرضنا
الفلسطينية، وقبضة أيضاً خبيثة ولئيمة ولكنها مغطاة بقفاز من حرير تحاول أن
تخدع العالم، وأن تسوِّق الرؤية الإسرائيلية على العالم، هذه هي فلسفة موقف
شارون، ولكن في اعتقادي أن العالم بدأ يدرك حقيقة الموقف الصهيوني،
وباعتراف الصهاينة أنهم بدؤوا يخسرون كما يقولون أخلاقياً، ويخسرون سمعتهم
أمام العالم.
والحمد لله؛ هناك تحول نسبي معقول على المستوى الشعبي في العالم،
وعلى مستوى بعض الحكومات في العالم، وهذا نعده تقدماً إيجابياً؛ سببه الجريمة
الصهيونية من زاوية، والصمود الفلسطيني من زاوية أخرى.
البيان: أعلنت حركة حماس أكثر من مرة دعمها للرئيس عرفات في
المرحلة الراهنة؛ ألا توجد خطوط حمراء في ضوء تجاوزات السلطة مع حركة
حماس على وجه التحديد؟
- حركة حماس لم تدعم ياسر عرفات من زاوية الالتقاء السياسي معه، فنحن
مختلفون مع السلطة ومع ياسر عرفات سياسياً، ولكن نحن في حركة حماس أعلنا
موقفنا برفض الحصار على شعبنا، بما فيه الحصار على ياسر عرفات؛ بمعنى
أننا أمام العدو الخارجي نقف مع كل الفلسطينيين في مواجهة الخطر الخارجي،
فنحن ضد الحصار سواء كان على غزة، أو الحصار على الضفة، أو الحصار
على رام الله، أو الحصار على ياسر عرفات؛ أي أننا نرفض العدوان الصهيوني
من حيث هو عدوان على شعبنا حتى لو كان عدواناً أو حصاراً على من نختلف معه
سياسياً؛ لأننا في النهاية شعب واحد، نتوحد في هذه المعركة لمواجهة العدو.
وأيضاً.. ثانياً: أعلنا أننا ضد التدخل الأمريكي لفرض قيادة بديلة، نعم نحن
مختلفون مع ياسر عرفات سياسياً، ولكن لا نقبل من أمريكا أو غير أمريكا أن
تتدخل لفرض قيادة بديلة، كما أعلنا أننا لن نقبل كرزاي فلسطينياً في المنطقة، أما
أننا مختلفون مع ياسر عرفات أو غيره في السلطة الفلسطينية؛ فهذا شأن فلسطيني
ونعالجه داخلياً، ولا نقبل التدخل الخارجي، وهذا موقف حماس الذي سبق أن
أعلنت عنه.
البيان: لكن هناك من يفترض أن كل ما يحدث من حصار على الرئيس ياسر
عرفات ما هو إلا مجرد مسرحية لتهيئته لدور قادم؛ بعد أن فقد الكثير من أوراقه
الشعبية في المجتمع الفلسطيني!
- نحن لا نميل إلى هذا الترجيح، وأعتقد كما ترون في الآونة الأخيرة أن
الموقف الإسرائيلي الأمريكي أصبح واضحاً بتجاوز ياسر عرفات وإنهاء دوره
السياسي، أعتقد أن هذا هو ما يجري على الأرض الآن، ومن ثم ينبغي ألا نتعب
أنفسنا في مثل هذه الاحتمالات، المهم أن نعرف مسارنا، أن نعرف أهدافنا، مع
اليقظة والحذر، وأن ننحاز دائماً إلى مصالح شعبنا، وهذا هو المهم.
البيان: في داخل السلطة الفلسطينية ألا يوجد هناك مراكز قوى مختلفة
يمكن أن تتلاعب بالقضية الفلسطينية؟
- لا شك أن هناك في السلطة الفلسطينية تيارات وأجنحة، وهناك خلافات
داخلية، وخاصة بعد الموقف الأمريكي الأخير، والموقف الإسرائيلي كذلك الذي
دعا إلى تغيير قيادة السلطة الفلسطينية، فازداد الصراع الداخلي، وتعددت
الخلافات والأجنحة، وهناك جزء من الشخصيات الفلسطينية في السلطة تحاول
تسويق نفسها لتقدم نفسها البديل للقيادة الفلسطينية، البديل الأمريكي، وتكسب رضا
الأمريكان، وعندها استعداد أن تدفع فواتير هذا الموقع وهذا المنصب، لكن هؤلاء
في تقديري مستقبل القضية ليس بأيديهم، المستقبل بإذن الله تعالى هو بأيدي شعبنا،
هو الذي سيقرر هذا المستقبل؛ لأن الذين يريدون المساومة على حقوق شعبنا،
وأن يتلاعبوا بقضيتنا تحقيقاً لمصالحهم ولمصالح الأعداء لن ينجحوا بإذن الله، وقد
انكشفت أوراقهم، والله سبحانه وتعالى سيعين المخلصين في شعبنا على أن يسيروا
بالشعب إلى بر الأمان بإذن الله؛ مع المحافظة على الأرض، وعلى العرض،
وعلى المقدسات، وعلى حقوق شعبنا ومصالحه إن شاء الله.
البيان: يردد الإسلاميون الفلسطينيون وغيرهم أن وعود أمريكا بدولة
فلسطينية لن تكون إلا بمواصفات إسرائيلية، ولتحقيق المصالح اليهودية؛ فهل
بذل الإسلاميون جهداً أكبر لكشف هذه الحقيقة، وبيان أبعاد هذا المخطط
الأمريكي في المنطقة؟
- أعتقد أخي الكريم أن الغالبية العظمى من جماهير الأمة ليس في فلسطين
وحدها، بل على امتداد الأمة أصبحت تدرك الدجل الأمريكي، الكذب الأمريكي،
الخداع الأمريكي، وأن الأمريكان عندما يتدخلون ببعض مبادراتهم في فلسطين لا
يتدخلون حقناً للدم الفسلطيني، ولا تحقيقاً لمصالح شعبنا، وإنما يتدخلون بأحد
دافعين: إما لإنقاذ إسرائيل نفسها من ورطتها وأزمتها، وإما لتبريد الصراع في
فلسطين تمهيداً لضرب العراق، إما هذا أو ذاك، لكن ليس هناك جدية أمريكية أبداً
لرفع الظلم عن شعبنا الفسلطيني ولجم العدوان الإسرائيلي، وخاصة إذا علمنا حجم
النفوذ الصهيوني في أمريكا، وتأثير الكيان الصهيوني واللوبي الصهيوني في
صناعة القرار الأمريكي، أعتقد أن الأمر أصبح في غاية الوضوح والجلاء.
البيان: طرحت حركة حماس منذ مدة هدنة مشروطة مع العدو اليهودي،
والآن تطرح مبادرة عن الكف المتبادل عن استهداف المدنيين؛ فهل ترون
استجابة من العدو لمثل هذه المبادرة، وهل يمكن ضبط جميع الفصائل الفلسطينية
في عدم استهداف المدنيين ولو أخذاً بالثأر؟
- موضوع الهدنة هذه مسألة قديمة، طرحتها الحركة لتكشف حقيقة الموقف
الصهيوني أن الصهاينة لو انسحبوا من الأراضي التي احتلت عام 1967م فيمكن
أن نصنع هدنة؛ دون أن نتنازل عن بقية حقنا في فلسطين، ودون أن نعترف
بشرعية الاحتلال الصهيوني؛ لأن هذا لا يجوز لا شرعاً ولا منطقاً ولا سياسة ولا
حقاً لبقية الشعب الفلسطيني الذي كان يعيش في الـ 48، وثبت أن إسرائيل لم
تتعامل مع هذا المشروع، ولم تقبل بهذا المنطق أصلاً؛ لأنها تمارس العدوان،
تريد إنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها وحرمان شعبنا من حقه، ولذلك فنحن لا
نثق بالكيان الصهيوني، ولا ننطلق في برامجنا أو مواقفنا السياسية من الرهان على
الأخلاقية الصهيونية، أو على إمكانية أن يتغير الصهاينة، هؤلاء أعداؤنا بنص
القرآن وبالحديث وبتاريخ الأمة، وهم أعداؤنا في الواقع، وما يفعلونه أكبر دليل
على ذلك.
أما موضوع تحييد المدنيين؛ فهذا موضوع سبق أن طرحته الحركة قديماً
أيضاً؛ للرد على الدعوات في قصة استهداف المدنيين، ولكن أيضاً الصهاينة لم
يستجيبوا؛ ولذلك لم نعد نطرقه من جديد؛ خاصة أننا في يقيننا أن هؤلاء الذين
قدموا إلى فلسطين هم غاصبون، نحن لم نذهب إلى بلد آخر ونقتل عسكرييه
ومدنييه، نحن كنا آمنين في أوطاننا فجاءنا الغزاة، هؤلاء المحتلون غزاة، ونحن
ندفع صائلاً عنا، وخاصة إذا علمنا أن غالبية المجتمع الإسرائيلي مجتمع مسلح،
فهو إما في الجيش، وإما في قوات الاحتياط وهي ثلاثة أضعاف الجيش وإما فيما
يسمى بالمنظمات العسكرية من الشبابية وغيرها، وهذا إضافة إلى المستوطنين؛
فهناك 350 ألف مستوطن في الضفة والقطاع كلهم مسلحون، فهو مجتمع تحت
السلاح، وعند اجتياح جنين والضفة الغربية عندما استدعى العدو 20 ألفاً من قوات
الاحتياط، هؤلاء كانوا يعملون في المصانع وفي المحلات التجارية وفي محطات
البنزين، وفجأة خلال 72 ساعة امتشقوا السلاح؛ لأن هؤلاء مدربون وكل يعرف
قطعته في الجيش، والموقع الذي يُستنفر إليه؛ فإذن نحن ندافع عن أنفسنا، ونقاوم
مجتمعاً محارباً معتدياً غاصباً.
وحركة حماس أو غيرها من القوى حين تطرح مثل هذه الأمور؛ هي
تطرحها من باب المحاججة، ومن باب كشف حقيقة الموقف الصهيوني، وإبراز
نظرة شعبنا، وإنما الحقيقة أننا نعرف أن العدو لا يفهم إلا لغة القوة.
البيان: امتداداً للغة القوة؛ تمكن المجاهدون في فلسطين بحمد الله تعالى
وفضله من تحطيم أسطورة الدبابات الإسرائيلية (الميركافا) ؛ فهل هناك مبشرات
بتطورات نوعية في التسليح الفلسطيني؟
- من فضل الله تعالى علينا أن شبابنا المجاهدين في فلسطين من كل القوى
قضوا فعلاً على أسطورة (الميركافا) ؛ لا نقصد أنهم قضوا على الأسطورة أنهم
أوقفوها عن الخدمة، ولكنهم حين دمروا أكثر من 10 دبابات في محطات مختلفة
وبإمكانات يسيرة؛ بعبوات يضعونها تحت الدبابة، وبشجاعة أسطورية بفضل الله
عز وجل فهم قضوا على أسطورتها نفسياً ومعنوياً، وهذا ترك أثراً كبيراً في الكيان
الصهيوني؛ خاصة أن دبابة (الميركافا) هي الأكثر تصفيحاً وحماية في كل
دبابات العالم، بل أثَّر على صفقات هذه الدبابة عند دول مثل الهند والصين، وهذا
أيضاً من المكاسب الكبيرة للانتفاضة، طبعاً التوكل على الله ثم الإرادة تصنع
المستحيل بإذن الله تعالى.
وكما قضى المجاهدون على أسطورة (الميركافا) يمكن أن يحققوا تطوراً
أعلى ضد كل السلاح المستعمل من الصهاينة، لكن هذا لا شك يحتاج إلى جهد أكبر،
ودعم أكبر، وإمكانات أكبر، وهذه أعتقد أنها مسؤولية الأمة.
نحن في فلسطين حين عز السلاح صنعنا السلاح، وحين عزت المتفجرات
صنعنا المتفجرات، هذا هو التحدي، المهم شعبنا لن يستسلم، والمطلوب الآن هو
الدعم العربي؛ خاصة من الشعب على الأقل، دعم بالمال، دعم بالسلاح، دعم
بالخبرة، دعم بكل الإمكانات، نريد للأمة أن تنخرط في المعركة؛ حتى يعظم إن
شاء الله الإنجاز، ويتطور بإذن الله تعالى، ونحن نستبشر بقول الله عز وجل:
[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] (العنكبوت: 69) هذه بشارة رب العالمين
للمجاهدين.
البيان: في خطاب ياسر عرفات الأخير في تشكيل الحكومة؛ أشار إلى أن
السلام خيار استراتيجي؛ فهل يعني هذا أن الفلسطينيين سيعودون مرة أخرى إلى
مسار المفاوضات وهذا النفق المظلم؟
- والله! واضح أن جماعة التسوية في الساحة الفلسطينية لم يتراجعوا عن
موقفهم، ربما صدرت منهم تصريحات في الماضي تُشعر بأنهم تخلوا عن مسار
التسوية، ولكنهم يتحدثون صراحة أنهم مع منطق التسوية، وكانوا يضعون قدماً في
الانتفاضة وقدماً في التسوية، وأعتقد أن رهاناتهم ستخسر كما خسرت في الماضي.
أما نحن فهذا واضح بالنسبة لنا؛ ونحن ندعوهم دائماً ونأمل فعلاً أن يغيروا
نهجهم؛ لأنه نهج لن يقود إلى خير. ومصلحة قضيتنا وشعبنا، ومصلحتهم هم
أنفسهم أن ينحازوا إلى برنامج المقاومة والصمود والثبات، والتمسك بالحق
الفلسطيني.
ونعتقد بهذه المناسبة أخي الكريم أن أكبر خطأ وقعت فيه الأمة على الصعيد
الرسمي عربياً وفلسطينياً هو الحديث عن أن السلام خيار استراتيجي، حتى لو فعل
ذلك البعض بدافع تكتيكي؛ مثل هذه المقولة خاطئة؛ لأنه عندما تُشعر عدوك أنك
ليس لك خيار إلا خيار السلام؛ فهو عند ذلك سيغريه ضعفك، ويدفعه إلى التشدد
أكثر، إنما عندما نُشْعِر عدونا أننا نملك الخيارات الأخرى؛ إن لجأنا إلى السلام
حيناً فإننا مستعدون لركوب صهوة الحرب حين نضطر إليها، لا بد أن يشعر عدونا
بجاهزيتنا للاحتمال الآخر، أما إذا شعر أننا عاجزون إلا عن الحديث، وعن الكلام،
وعن الاستجداء، وعن المفاوضات؛ فإنه لن يعطينا شيئاً، هذا فضلاً عن
المنطق الطبيعي، منطق التاريخ، منطق الدين، منطق العقل، منطق تجارب
الشعوب والأمم الأخرى؛ أنه فعلاً ما أُخِذَ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن القوة
والمقاومة وحدها هي الطريق للحصول على الحقوق والأهداف، وأمتنا بغير هذا
الطريق ما حققت أهدافها، ولا طردت الغزاة، نحن طردنا الصليبيين والتتار
والاستعمار الحديث بالجهاد والمقاومة وليس بالمفاوضات، والشعوب الأخرى في
فيتنام وغيرها لم تصل إلى أهدافها وتتخلص من الاحتلال الأجنبي على أرضها
أيضاً إلا بالصمود وبالمقاومة، وبالاستبسال، وتقديم التضحيات الكبيرة. أعتقد أن
هذا هو منطق الأشياء.
البيان: عودة إلى خطاب الرئيس عرفات بمناسبة تشكيل الحكومة؛ حيث
أدان في هذا الخطاب ما سماه بالأعمال الإرهابية ضد المدنيين الإسرائيليين في
المنطقة المحتلة؛ فهل هذه مناورة سياسية، أو أنه فعلاً يدين الإرهاب ويرفض
هذه الأعمال؟
- هذا مما نختلف فيه مع ياسر عرفات، ومع كل من يدين العمليات العادية
أو الاستشهادية؛ لأننا لا نقبل هذا الموضوع، بصرف النظر: هذا المنطق كان
تكتيكاً أم حقيقة؛ لأنه لا يجوز أن ندين أنفسنا، لا يجوز أن نجلد ذاتنا حتى نرضي
الآخرين، لا يجوز الطعن في نية وعمل المجاهد الذي ضحى بأغلى ما يملك في
سبيل الله؛ دفاعاً عن أرضه وعن شعبه وعن مقدساته.
وثبت من زاوية أخرى أن كل هذه الإدانات لم تشفع لأصحابها عند أعدائنا؛
كل الذين أدانوا المقاومة والعمليات الاستشهادية، وأدانوا عسكرة الانتفاضة كما
سموها لم يشفع لهم ذلك لا عند الصهاينة ولا عند الأمريكان، ومن ثم فإن أصحاب
هذا المنطق يخسرون مرتين: يخسرون أمام شعوبهم، وأمام ضمائرهم، ويخسرون
أيضاً أمام أعدائهم.
البيان: ما الانعكاسات التي تتوقعونها ضمن تداعيات الحرب القادمة ضد
العراق، وتداعيات هذه القضية على الواقع الفلسطيني داخلياً وخارجياً؟
- لا شك أن ضرب العراق ليس لذاته فقط، بل لأبعد من العراق، التداعيات
كبيرة على قضية فلسطين وعلى غيرها:
* أول هذه التداعيات هو طبعاً إضعاف العراق وتمزيقه ونهب ثرواته.
* والتداعي الثاني هو تحكم أمريكا في ثروات الأمة؛ ليس في النفط العراقي
فقط بل في نفط الأمة كله والتحكم في أسعاره، وبهذا أمريكا تضرب مصالح أمتنا
بل حتى مصالح الدول الصناعية الكبرى؛ حين تتحكم بأسعار النفط وتصديره وبيعه
وغيره.
* والتداعي الثالث هو إضعاف الأمة كلها، وخاصة الدول المؤثرة في
المنطقة، وسيكون بعد العراق لا سمح الله سيكون العدوان على سوريا، وعلى
المملكة العربية السعودية، وعلى إيران، وعلى مصر، كل الدول العربية ذات
الوزن المؤثر ستكون مستهدفة؛ لأن المنطق الأمريكي المتصهين والمدعوم
بالصهاينة هو منطق يريد للأمة أن تكون دولاً ممزقة ضعيفة، وأن يكون المهيمن
الوحيد في المنطقة هو الكيان الصهيوني؛ مع أمريكا من خلال وجودها المباشر.
* ثم التداعي الرابع هو على قضية فلسطين، وهذا سر التشجيع الكبير من
قِبَل شارون والصهاينة واللوبي الصهيوني لأمريكا وتحريضها على ضرب العراق؛
أولاً ليتخلصوا من أي خطر محتمل أو مستقبلي من العراق أو غير العراق على
إسرائيل، وليتاح لهم في ظل تداعيات هذه المعركة وما قد ينشأ عنها من ضعف
عربي وتمزق عربي وتهديد أمريكا للعرب أن تنشأ حالة من الفراغ أو الضعف
تسمح لهم بحسم صراعهم مع الفلسطينيين؛ بمعنى أن ما عجزت عنه إسرائيل
خلال العامين الماضيين من وقف الانتفاضة والمقاومة؛ يريدون في ظل ضربة
العراق وتداعياتها السلبية على أمتنا أن يحسموه، مع الفلسطينيين؛ فيكسروا شوكة
الفلسطينيين، ويوقفوا المقاومة؛ حين تجد المقاومة أنها بلا سند لا سمح الله عربي
أو إسلامي أو حتى شعبي؛ حيث تكون الأمة منشغلة بهمومها والدفاع عن ذاتها.
فالحقيقة أن تداعيات الحرب خطيرة جداً، وهذا يتطلب من الأمة أن تقف ضد
هذا العدوان الصهيوني، حتى وإن كان البعض مختلفاً مع هذا النظام أو ذاك؛ لأننا
في النهاية نحن جميعاً مستهدفون، وينطبق عندئذ إذا قصَّرنا المثل الذي يقول:
«أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض» ، أعتقد أن هذه مسؤولية أن نواجه هذا
الخطر مواجهة جماعية وليست فردية.
البيان: من تداعيات الحرب المتوقعة ما يطالب به اليهود بإيجاد وطن بديل
للفلسطينيين؛ سواء في الأردن أو في أي منطقة أخرى؛ فهل تتوقع أن
الفلسطينيين سوف يقبلون بهذا البلد الآمن؟
- لا؛ بالتأكيد. لن يستغني الفلسطينيون عن أرضهم، ولن يقبلوا العوض لا
المالي ولا الأرض البديلة ولا الوطن البديل، وسبق أن أعلنت قوى شعبنا أنها ضد
الوطن البديل، ولن نستبدل بأرضنا بلداً آخر رغم أن الأمة كلها هي أرضنا وأمتنا.
نعم هناك حديث عن مخططات لشارون في استغلال أجواء ضربة العراق
والعدوان على العراق؛ أولاً لارتكاب مجازر ضد شعبنا، ومن ثم تهجير قطاعات
كبيرة من شعبنا إلى الأردن، والبعض ربما يتوقع أن يكون ذلك مروراً إلى العراق
ليكون التهجير في العراق، هذه كلها مشاريع لا شك أنها خطيرة ومحتملة، ولكني
أؤكد أن شعبنا الفلسطيني لن يقبل الوطن البديل من ناحية، ولن يقبل التهجير،
أعتقد أن شعبنا مهما وقع عليه من الأذى سيبقى منغرساً في أرضه ولن يبرحها،
ولن يخضع لمنطق التخويف الذي يحرضه أو يُجبره قسراً على الرحيل عن أرضه،
لن يكون هذا بإذن الله، ونسأل الله أن يعيننا.
البيان: الآن مرَّ على إنشاء حركة حماس حوالي 14 عاماً؛ فهل أنتم
راضون عن أدائها طوال هذه الفترة الماضية، وهل هناك إمكانية لاستيعاب
تيارات إسلامية أخرى داخل الحركة؟
- نعم! مضى للدقة 15 عاماً، من 1987م إلى الآن، نحن نعم راضون،
ونحمد الله عز وجل على ما وفقنا إليه، ونشعر أن الله عز وجل أكرمنا بأشياء
كثيرة، وأعاننا على إنجازات كثيرة لصالح شعبنا وأمتنا، ووفقنا في ساحات كثيرة
من هذه التجربة، ومن هذه المسيرة المباركة.
وبالتأكيد وقعنا في أخطاء أيضاً، وهناك جوانب لا تزال قاصرة لدينا؛ فنحن
بشر؛ لكن الحمد لله أننا نتعلم من أخطائنا، وننشد الكمال، ونسعى إلى الأفضل،
ونطوِّع أنفسنا، ونستفيد من غيرنا، ونحن طلاب حق نبحث عن الحق والحقيقة
في كل مواردها، والهداية من الله سبحانه وتعالى، ونشعر بالاعتزاز على ما نجده
من تعاطف المسلمين ودعمهم لنا، وما أكرمنا الله عز وجل به من مصداقية نحافظ
عليها أمام الجميع؛ ونتميز بها أمام الجميع؛ سواء على المستوى الشعبي أو
الرسمي، ونحن مطمئنون أننا نسير في الطريق الصحيح، ويبقى العامل عامل
الزمن، مع مزيد من الجهد والصبر والثبات.
أما موضوع استيعاب الآخرين، وخاصة من الحركات الإسلامية، فنحن
نقول هذه فلسطين هي للأمة جميعاً، ولا حَجْرَ على أحد أن ينخرط في هذه المسيرة
المباركة، وتبقى بعد ذلك الآليات والأطر وغيرها، هذه تحتاج لا شك إلى بحث
وتفكير، وإلى إيجاد السبل التي تنخرط فيها جهود الأمة في هذه المعركة؛ رغم أن
هناك معوقات كما تعلمون فحدود فلسطين مغلقة، وهناك أوضاع عربية وإقليمية
تحول دون مشاركة الأمة في معركة فلسطين بشكل مباشر؛ كما كان يجري مثلاً في
القضايا الأخرى مثل أفغانستان، أو الشيشان حيث كانت الجغرافيا والحدود تسمح
بانخراط المجاهدين بشكل مباشر، للأسف في الحالة الفلسطينية حتى هذه اللحظة
ليس هناك إمكانية سهلة أو مباشرة. ولكنني واثق أن الأمة تسير باتجاه انخراطها
الشامل والحقيقي في المعركة، وتصرفات أعدائنا تدفعنا قسراً نحو هذا الأمر،
ولعل هذا من مكر الله عز وجل؛ وإن شاء الله هذا يكون خيراً لقضيتنا ولأمتنا.
البيان: بعد مرور أكثر من سنتين على عمر الانتفاضة الأخيرة؛ ما هي
المكاسب التي جناها الفلسطينيون منها؟
- مكاسب الانتفاضة عظيمة بفضل الله عز وجل، وهذا من باب [وَأَمَّا
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] (الضحى: 11) ، مكاسبها توحيد الصف الفلسطيني خلف
المقاومة والانتفاضة، من بعد أن تمزق الصف الفلسطيني بفعل أوسلو، زيادة الأمل
لدى شعبنا بإنجاز أهدافه وتحرير أرضه، زيادة الثقة بالنفس، الصورة العظيمة
التي ظهر بها شعبنا من الصمود والتضحية والثبات أعلت مقامه ومكانته أمام العالم،
وكسب بها تعاطفاً إسلامياً وعربياً ودولياً؛ في الوقت الذي خسر العدو فيه على
الصعيد الدولي والدبلوماسي.
أيضاً من الإنجازات ما وقع للعدو الصهيوني نفسه من خسارة وتأثير بالغ
على اقتصاده، أكثر من 11 مليار دولار خسرها العدو خلال السنتين الماضيتين،
التأثير على الهجرة؛ حيث تراجعت نسب الهجرة إلى فلسطين، وفي المقابل زادت
الهجرة المعاكسة، التأثير على الاستيطان، التأثير على السياحة، التأثير على
الاستثمارات الأجنبية في الكيان الصهيوني، التأثير على أمن هذا الكيان، وهذا من
أهم الأمور؛ حيث فقد الصهاينة الشعور بالأمن في أي مكان، لم يعودوا يأمنون،
لا في الشارع، ولا على الساحل، ولا في المطاعم، ولا في أماكن اللهو، ولا في
الباصات، ولا في غيرها، وفقدان الأمن هو إن شاء الله بداية انهيار الاحتلال
وتراجعه.
وأيضاً التأثير المعنوي، وهو أن الصهاينة بدؤوا يشكُّون في مستقبلهم، وكما
قال قادتهم إن هذه الانتفاضة أعادت الكيان الصهيوني إلى حرب الاستقلال؛ أي
عام 1948م، وهي حرب احتلالهم لفلسطين، فهذا أمر عظيم بفضل الله عز وجل.
بالإضافة إلى أنها أثرت على التركيبة الحزبية الصهيونية، زادت من
الخلافات، والاستقطابات الداخلية؛ بسبب ضغط المقاومة.
ثم الخسائر العسكرية، لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني تصبح
نسبة القتلى اليهود إلى الشهداء في شعبنا؛ نسبة 1 مقابل 3 تقريباً، الآن عدد
القتلى اليهود وصل إلى 645 أو 650، هذه الإحصائيات الأقرب إلى الدقة، مقابل
عدد شهداء شعبنا حوالي 1900، هذه نسبة عظيمة، نسبة 1 مقابل 3 لم تكن في
تاريخ الصراع العربي الصهيوني، فأنا أعتقد أن هذه أيضاً من المكاسب العظيمة
من الانتفاضة وإنجازاتها.
وتوحيد الأمة على قضية فلسطين، وتفاعل الجماهير، ونجاح الشعوب
العربية والإسلامية في هذا الاختبار، حتى السقف العربي الرسمي ارتفع في ظل
الانتفاضة، وشعوب الأمة رأينا أن لديها خيارات أخرى غير الاستسلام، وغير
القبول بالعروض الأمريكية الصهيونية، وأعتقد أن أي نظام عربي واع يدرك أن
الانتفاضة مكسب؛ ليس للفلسطينيين وحدهم بل للأمة كلها، هذه كلها مكاسب
عظيمة، وكما قلت يكفي تعاطف العالم كله معنا، وتراجع سمعة ومكانة هذا الكيان
الغاصب الذي انكشفت حقيقته أمام العالم بعد أن دلس وخدع العالم سنوات طويلة؛
فالانتفاضة مكاسب عظيمة، لكنها خطوة تحتاج إلى مواصلة المسيرة؛ حتى نصل
إلى أهدافنا إن شاء الله تعالى.
البيان: بعض المراقبين الإسلاميين في القضية الفلسطينية يقول إن الخطاب
الشرعي لبعض القيادات الإسلامية التي تتبنى الجهاد في فلسطين ربما يكون أقل
مما ينبغي أن يطرح؛ خاصة في قضية ذات بعد عقدي وديني مثل القضية
الفلسطينية؛ إذ غلب الخطاب السياسي على الخطاب الشرعي؛ هل لكم رأي في
هذه المسألة؟
- نحن نتفهم من يقول هذا الكلام وندرك حرصه علينا، وفي المقابل نقول
لهم اطمئنوا.. نحن واعون لهذه الحقيقة وعياً كاملاً، ندرك حقيقة الصراع مع
الصهاينة، وندرك حقيقة البعد الديني في القضية، ونحن الحمد لله في حماس شبابنا
وقادتنا، وكل أبناء الحركة ملتزمون دينياً وإسلامياً، وثقتهم بالله كبيرة، والموازين
الشرعية واضحة لديهم، ومعظم المجاهدين والاستشهاديين من حفظة كتاب الله
تعالى؛ فهذا أمر واضح لدينا، وما يراه البعض من أن نسبة هذه الجرعة الشرعية
في خطابنا قد تكون أقل مما يتوقعون؛ فإنه في حقيقة الأمر مؤصل تأصيلاً كبيراً،
ونحن لا نتجاوز البعد الشرعي، كما أننا حريصون على إيجاد حالة من التوحد
الفلسطيني، حتى إن ظلت هناك خلافات فكرية وسياسية وعقائدية، لكن أمام
الخطر الداهم نحن نريد أن ندفع هذا الصائل عنا، وبعد ذلك نتفاهم في خلافاتنا
المختلفة، كمن يشب حريق في بيته، فعند ذلك هو يريد أن يطفئ هذا الحريق،
حتى لو شاركه من يخالفه فكراً أو سياسة، هذه هي الفلسفة التي ننطلق منها، ولكن
معاييرنا واضحة، رؤيتنا واضحة؛ فالإسلام هو الذي سينتصر في النهاية إن شاء
الله، هذه هي القضية كما ندركها، وأطمئن كل من يطرح هذا الأمر أن الصورة
والمعايير واضحة جداً على أرض فلسطين إن شاء الله.
البيان: أخيراً: هل عندكم توجيه لقراء مجلة البيان فيما يتعلق بالقضية
الفلسطينية؟
- نحن أولاً نشكر الإخوة القائمين على مجلة البيان على حرصهم وعلى
اجتهادهم، ونحييهم ونحيي من خلالهم ومن خلال صفحات هذه المجلة الغراء جميع
القراء.
ونخاطب جماهير الأمة والقراء الكرام بضرورة أن يطمئنوا أولاً إلى صلابة
المقاومة في فلسطين، وإلى استقامتها، وإلى وعيها، وإلى رشدها، وإلى ما تتمتع
به بفضل الله عز وجل من ثبات وصمود وإصرار، والاستناد إلى إرادة قوية
عظيمة، وإلى يقين بنصر الله سبحانه وتعالى؛ فليطمئنوا من هذه الزاوية.
والأمر الثاني أن يستشعروا مسؤولياتهم، وأن يضاعفوا جهودهم، وأن ينتقلوا
كما قلتُها مراراً من موقع الدعم إلى موقع المشاركة؛ ففلسطين هي لنا جميعاً؛
القدس قدسنا، والأقصى أقصانا، وأرض النبوات والصحابة والتابعين هي أرض
المسلمين جميعاً، والخطر الصهيوني خطر على الجميع؛ لأن اليهود أعداؤنا جميعاً،
فينبغي للأمة أن تستشعر مسؤوليتها. صحيح أن هناك معوقات، كما أن الشعب
الفلسطيني أمامه معوقات، ولو استسلم شعبنا للمعوقات لما قاتل الصهاينة، وأكبر
المعوقات أنه لا يجد سلاحاً، ومن ثم فوجود معوقات في الأمة لا يسوِّغ العجز، ولا
يسوِّغ التقاعس أو التقصير؛ إذن هناك مسؤولية ينبغي أن تمارس، وينبغي أن
تحمل على العوائق، وأن تبادر الأمة إلى تحمل مسؤوليتها، وتنتقل كما قلت من
موقع الدعم إلى موقع المشاركة؛ حتى نشرف جميعاً بهذه المعركة، وبالتكليف
الشرعي إزاءها، وبذلك إن شاء الله نشترك جميعاً في مكاسبها، وفي الافتخار
بنتائجها، وفي أجرنا إن شاء الله عز وجل عند الله في الدنيا والآخرة.
ومن خلالكم نشكر كل من يساهم في دعم صمود شعبنا وتعزيزه؛ سواء
بالدعم المالي أو بالدعاء، أو بالحركة الجماهيرية، أو بالقلم، أو بالتبشير بمشروع
المقاومة، أو بالرد على المهزومين.. إلى آخر ذلك، وبارك الله فيكم.
__________
(1) أخرجه البزار في مسينده، والطبراني، كلاهما عن أنس بن مالك، قال المنذري بعد عزوه لهما: إسناده حسن، وقال الهيثمي: إسناد البزار حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، رقم 2561.(182/54)
البيان الأدبي
رشفات من اللغة
المحرر الأدبي
* تنبيه:
نشكر الإخوة الأدباء واللغويين على حرصهم وتجاوبهم، ونأمل أن يراعي
المشاركون ما يأتي:
1 - أن تكون المشاركة بالعربية الفصحى.
2 - ألا تزيد القصيدة على 20 - 25 بيتاً.
3 - ألا تزيد القصة على 1 - 1.5 صفحة.
4 - ذكر اسم صاحب المشاركة، وعنوانه وهاتفه.
5 - تنوع المشاركات ما بين قصيدة، وقصة، ومقامة، ومقالة، ودراسة ونقد.
* ترتيب الحروف العربية:
حروف اللغة العربية ثمانية وعشرون، على خلاف في حرف الهمزة، ولها
عدة ترتيبات:
1 - الترتيب الأبجدي، وهو أقدمها، وهو مرتب بهذه الكلمات الثمانية:
أَبْجَدْ هَوَّزْ حُطِّيْ كَلَمُنْ سَعْفَصْ قَرَشَتْ ثَخَذْ ضَظَغْ.
2 - الترتيب الهجائي، وسمي الألفبائي، ويعتمد على جمع الحروف
المتشابهة، وينسب إلى نصر بن عاصم (ت 89 هـ) ، وهو: أب ت ث - ج
ح خ - د ذ - ر ز - س ش - ص ض - ط ظ - ع غ - ف ق - ك ل -
م ن هـ وي، ويسمى الترتيب الهجائي المشرقي؛ لأن بعض أهل المغرب
خالفه ورتب الحروف هكذا: أب ت ث - ج ح خ - د ذ - ر ز - ط ظ - ك ل
- م ن - ص ض - ع غ - ف ق - س ش - هـ وي.
3 - الترتيب الصوتي، وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي حسب مخارج
الحروف، وهو: ع ح هـ - خ غ - ق ك - ج ش ض - ص س ز - ط ت د
- ظ ذ ث - ر ل ن - ف ب م - وي اء.
والترتيب الهجائي هو الذي غلب أخيراً، فصار المعتمد في الترتيب اللفظي.
* كتاب (الخصائص) لأبي الفتح عثمان ابن جنّي (ت 392 هـ) :
من أهم الكتب التي درست أسرار العربية وخصائصها، وفيه بحوث لغوية ما
تزال تدرس وتبحث إلى اليوم؛ مثل: أصل اللغة، ومقاييس العربية، والاطراد
والشذوذ، وتعارض السماع والقياس، والاشتقاق الأكبر، والتقديم والتأخير..
* من فصاحة الأعراب:
- نظر أعرابي إلى رجل سمين فقال له: «يا هذا! أرى عليك قَطيفة من
نَسْج أضراسك مُحْكَمة» .
- وقفت أعرابية على قبر أخيها فقالت: «نِعْم السيد كنت لعشيرتك، كنت
والله مُناخ الضيفان، وحوض الظمآن، وسُمّ الفرسان، وكنت عند الغضب حليماً،
وعند الله كريماً» .
* أمثال:
- ذئب يوسف: لمن يرمى بذنب جناه غيره.
- واو عمرو: لما لا يحتاج إليه.
- حالب التيس: لمن يطمع في غير مطمع.
- فم الأسد: للشيء الصعب المرام.
* كُنى:
- أبو غياث: الماء.
- أبو راحة: النوم.
- أبو مالك: الجوع.
- أبو يحيى: الموت.
* أكْفَاء وأكِفَّاء وأكْفِيَاء:
يخلط بعض المتكلمين بين معاني هذه الكلمات، والصواب أن (الأكْفاء)
جمع كُفْء، وهو النظير والمساوي، تقول: هؤلاء أكْفاء هؤلاء أي نظراؤهم
ومساووهم، و (الأكِفَّاء) جمع كفيف وهو الضرير، و (الأَكْفِيَاء) جمع كفِيْء،
وهو الكافي والمتفوق والمتميز على غيره، تقول: هؤلاء أكْفِياء لهذا العمل أي
يكفونه ويقومون به.
* عامي فصيح:
- دَعَسَه: داسه بشدة.
- هَبْرة: قطعة لحم.
- سَكّر الباب: أغلقه.
- سلق اللحم أو البيض: طبخه على النار بالماء وحده.(182/64)
البيان الأدبي
أهمية اللغة العربية
لدارس الكتاب والسنة والمتأمل فيهما
عبد الله بن حمد الخثران
لا يمتري أحد في أن اللغة العربية وعلومها تنزل من علوم الإسلام ومعارفه
منزلة اللسان من جوارح الإنسان، ولا نبعد كثيراً إذا قلنا: بل منزلة القلب من
الجسد؛ لأنها لسان الإسلام الأسمى، بها نزل القرآن الكريم؛ وهو الدستور المهيمن
على جميع شؤون الحياة.
فإذا اعتور اللغة العربية أو أصابها جمود باعد بينها وبين ألسنة المسلمين
وعقولهم؛ واستعجم عليهم فهم كتاب الله تعالى، وأغلقت دونهم أبوابه؛ فيصعب
عليهم فهم أسراره التشريعية.
ولو أن باحثاً رمى نظره إلى ماضي المسلمين لرأى في يسر ووضوح أن
عهود التقدم والقوة، وأزمان المجد والسيادة في تاريخ الأمة الإسلامية كانت مرتبطة
أشد الارتباط بفهم القرآن الكريم وأساليبه فهماً كان منطلقه فهم أسرار هذه اللغة
والنَّهْل من منابعها، ولم تكن العناية باللغة العربية في عصور الإسلام الذهبية بأقل
من العناية بأي شأن من شؤون الدين؛ بل لقد كان الدين دافعاً قوياً على العناية بها،
وحسبنا أن نعلم أن قواعدها لم تُدوَّن إلا صوناً للقرآن الكريم من أن يَدْلِفَ إليه اللحن.
ولقد دأب العلماء منذ القديم على أن يصلوا بين علوم العربية والدين الإسلامي
بأوثق الصلات؛ حتى إن بعضهم يقدمها في التعليم على جميع العلوم؛ من أجل أن
فهم الأحكام وأخذها من الأصول متوقف على التفقه في فنون الإعراب.
إن هذا الفرض الديني من دراسة اللغة العربية هو المنهج الذي قامت عليه
دراسة اللغة العربية في العصور الإسلامية المزدهرة، وهو المنهج الذي أصَّله
العلماء القدامى، وحثوا على الأخذ به؛ مما سنبينه إن شاء الله.
* أقوال الصحابة والسلف في أهمية اللغة العربية:
تعد اللغة العربية كما أسلفنا مفتاح الأصلين العظيمين: الكتاب والسنة؛ فهي
الوسيلة إلى الوصول إلى أسرارهما، وفهم دقائقهما؛ ولهذا السبب عُني السَّلف
بعلوم اللغة العربية، وحثوا على تعلمها والنَّهل من عبابها. يقول عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: «تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من
دينكم» [1] . وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: «أما بعد:
فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأَعْرِبُوا القرآن؛ فإنه عربي» . ففي
توجيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمران:
الأول: الدعوة إلى فقه العربية.
الثاني: الدعوة إلى فقه الشريعة.
لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال؛ ففقه العربية هو الطريق إلى فقه الأقوال،
وفقه الشريعة هو الطريق إلى فقه الأعمال [2] .
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «ما كنت أدري ما معنى [فَاطِرِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْض] (الأنعام: 14) ، حتى سمعت امرأة من العرب تقول: أنا
فطرته. أي: ابتدأته» [3] ، وقال: «إذا خَفِيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوه في
الشعر فإنه ديوان العرب» .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الله لما أنزل كتابه باللسان
العربي، وجعل رسوله مبلغاً عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين
إلى هذا الدين متكلمين به، ولم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا
اللسان، صارت معرفته من الدين، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين ... » [4] .
وفي كلام ابن تيمية ما يستدعي الوقوف، وهو أن بين اللغة العربية والعقيدة
الإسلامية ارتباطاً عضوياً وثيقاً لا يماثله ترابط آخر في أي من المجتمعات القديمة
والمعاصرة؛ لأن اللغة العربية هي لغة الإسلام، ولغة كتابه العزيز، ولغة رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذا فإن الاهتمام بها والعناية بها إنما هو استكمال
لمقوم من مقومات العقيدة الإسلامية التي نجتمع جميعاً على إعزازها والدعوة إليها.
وانطلاقاً من هذا المفهوم؛ فإننا نعتقد أن تعلم اللغة العربية والاهتمام بها ليس
مهنة تعليمية أو قضية تعليمية فحسب، وإنما هو قضية عقدية، ورسالة سامية نعتز
بها.
ولهذا يقول الرازي: «لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلى القرآن
والأخبار، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم؛ كان العلم بشرعنا موقوفاً
على العلم بهذه الأمور، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وكان مقدوراً للمكلف؛
فهو واجب» [5] .
وما ذكره الرازي صحيح؛ لأن علم أصول الفقه إنما هو أدلة الفقه، وأدلة
الفقه إنما هي الكتاب والسنة، وهذان المصدران عربيان، فإذا لم يكن الناظر فيهما
عالماً باللغة العربية وأحوالها، محيطاً بأسرارها وقوانينها تعذر عليه النظر السليم
فيهما، ومن ثم تعذر استنباط الأحكام الشرعية [6] منهما؛ ولذا يقول الشافعي:
«من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم» ، وقال أيضاً: «لا أُسأل عن
مسألة من مسائل الفقه إلا أجبت عنها من قواعد النحو» [7] ، وقال أيضاً: «ما
أردت بها (يعني العربية) إلا الاستعانة على الفقه» [8] .
* أقوال أهل اللغة في أهمية اللغة العربية لدارس الكتاب والسنة:
لقد أبان عن هذه الأهمية أهل اللغة أنفسهم. يقول الزمخشري: «وذلك أنهم
لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها؛ إلا
وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنَّع، ويَرَوْن الكلام في معظم
أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنياً على علم الإعراب» [9] .
وما ذكره الزمخشري صحيح؛ وذلك لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من
الكتاب والسنة، وأهل العقد والحل من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة من جهة
(الحقيقة والمجاز) ، والعموم والخصوص، والإطلاق، والتقييد، والحذف
والإضمار، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاب، والإشارة، والتنبيه وغير ذلك؛
مما لا يعرف في غير علم العربية [10] .
وقال ابن جنِّي: «إن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد
عن الطريقة المثلى إليها؛ فإنما استهواه واستخف حِلْمَه ضعفُهُ في هذه اللغة الكريمة
الشريفة التي خوطب الكافة بها» [11] .
وقال أبو حيان في البحر المحيط في معرض ثنائه على سيبويه رحمه الله قال:
«فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير، وترقت إلى التحرير والتحبير؛ أن
يعتكف على كتاب سيبويه؛ فهو في هذا الفن المعوَّل والمستند عليه في حل
المشكلات إليه» [12] .
ويفهم من كلام الصحابة والسلف وأقوال اللغويين أنه ليس المقصود من تعلم
اللغة العربية الاقتصار فقط على القواعد الأساسية التي تتوقف وظيفتها على معرفة
ضوابط الصحة والخطأ في كلام العرب، وإنما المقصود من تعلم اللغة العربية
لدارس الكتاب والسنة والمتأمل فيهما؛ هو فهم أسرارها والبحث عن كل ما يفيد في
استنطاق النص، ومعرفة ما يؤديه التركيب القرآني على وجه الخصوص؛
باعتباره أعلى ما في العربية من بيان، وقد نبه على هذه الخاصية الزجاجي في
كتابه «الإيضاح في علل النحو» ؛ حيث يقول: «فإن قيل: فما الفائدة في تعلم
النحو؟ ... فالجواب في ذلك أن يقال له: الفائدة فيه للوصول إلى التكلم بكلام
العرب على الحقيقة صواباً غير مبدل ولا مغير، وتقويم كتاب الله عز وجل الذي
هو أصل الدين والدنيا والمعتمد، ومعرفة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وإقامة
معانيها على الحقيقة؛ لأنه لا تفهم معانيها على صحة إلا بتوفيتها حقوقها من
الإعراب» [13] .
ولهذه الأهمية التي نبه عليها العلماء السابقون جُعِلَت اللغة العربية شرطاً من
شروط المفسر، وشرطاً من شروط المجتهد في الفقه.
* أهمية اللغة العربية للمفسر لكتاب الله عز وجل:
قال الزركشي: «واعلم أنه ليس لغير العالم بحقائق اللغة وموضوعاتها
تفسير شيء من كلام الله، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها؛ فقد يكون اللفظ
مشتركاً وهو يعلم أحد المعنيين والمراد المعنى الآخر» [14] .
ولهذا السبب يقول مالك رحمه الله: «لا أُوتَى برجل غير عالم بلغة العرب
يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً» [15] ، ولذا أيضاً نجد التفاسير مشحونة بالروايات
عن سيبويه والأخفش والكسائي والفراء وغيرهم.
فالاستظهار لبعض معاني القرآن الكريم وأسراره نابع من الاستعانة بأقاويلهم،
والتشبث بأهداب فسرهم، وتأويلهم، كما قال الزمخشري في المفصل [16] .
وتزداد أهمية تعلم اللغة العربية حين بَعُد الناس عن المَلَكة والسليقة اللغوية
السليمة؛ مما سبب ضعف المَلَكات في إدراك معاني الآيات الكريمة؛ مما جعل من
الأداة اللغوية خير معين على فهم معاني القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد نبه ابن
خلدون على ذلك بقوله: «فلما جاء الإسلام، وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي
كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع
من المخالفات التي للمستعربين من العجم؛ والسمع أبو الملكات اللسانية؛ ففسدت
بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتبار السمع، وخشي أهل الحلوم منهم أن
تفسد تلك الملكة رأساً بطول العهد؛ فينغلق القرآن والحديث على الفهوم، فاستنبطوا
من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها
سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه منها بالأشباه» [17] .
ولهذا حرص العلماء في العصور المتقدمة على التأليف في إعراب القرآن
ومعانيه؛ مما يدل أيضاً على أهمية اللغة العربية في فهم الكتاب العزيز، بل إن
بعض هذه الكتب منها ما يسمى بـ (معاني القرآن) ؛ مما يوحي بأهمية الإعراب
في فهم المعاني، والدليل على ذلك ما جاء في كشف الظنون حين عَدَّ «إعراب
القرآن» علماً من فروع علم التفسير، وقد قام بهذا العمل علماء في النحو واللغة،
فاستفاد منهم المفسرون، فهذا تفسير الطبري قد أودع فيه معظم آراء النحويين
كسيبويه والكسائي والأخفش والفراء وشواهدهم؛ حيث بلغت شواهده الشعرية ما
يقرب من ثمانمائة وألف شاهد شعري، غير ما اشتمل عليه من أقوال العرب
وأمثالهم.
ومما يجب التدقيق في فهمه بالنسبة للمفسر لكتاب الله ما يلي:
1 - معرفة أوجه اللغة؛ وهو أمر ضروري في اختيار ما يناسب النص،
وقَصْر المعنى على الوجه المراد، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى:
[وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى] (الضحى: 7) ؛ فإن لفظة «الضلال» تقع على
معان كثيرة، فَتَوَقَّعَ البَعْضُ أنَّه أراد «بالضَّلال» الذي هو ضد «الهدى» ،
وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على مذاهب قومه أربعين سنة،
وهذا خطأ فاحش؛ فقد طهره الله تعالى لنبوته، وارتضاه لرسالته، ومن سيرته صلى
الله عليه وسلم رد على مزاعمهم إذ سُمِّي في الجاهلية الأمين، وكانوا يرتضونه
حكماً لهم وعليهم، والله سبحانه وتعالى إنما أراد «بالضَّلال» الذي هو الغفلة كما
قال في مواضع أخرى: [لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى] (طه: 52) أي لا
يغفل [18] سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «هو ضلاله وهو في صغره في شعاب
مكة، ثم رده إلى جده عبد المطلب، وقيل: ضلاله من حليمة السعدية مرضعته،
وقيل ضل في طريق الشام حين خرج به عمه أبو طالب» [19] .
2 - معرفة الصِّيغ وما تدل عليه من معنى؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تفسير القرآن
الكريم بما لا يليق أو فهم المعنى غير المراد، ومن ذلك على سبيل المثال: [مَنْ
عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ] (فصلت: 46) ،
وغير ذلك من الآيات التي ورد فيها نفي الظلم عن الله سبحانه وتعالى بصيغة
«فعَّال» ؛ ففي هذه الآية وما أشبهها وردت لفظة «ظلاّم» بصيغة المبالغة،
ومعلوم أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله، مثال ذلك قولك: زيد ليس
بنحَّار للإبل. لا ينفي إلا مبالغته في النحر، فلا ينافي أنه ربما نَحَر بعض الإبل،
ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات هو نفي الظلم من أصله عن الله سبحانه
وتعالى؛ أجيب عن ذلك بناءً على فهم اللغة العربية؛ وهو أن المراد نفي نسبة
الظلم إليه سبحانه؛ لأن صيغة «فعّال» قد جاءت في اللغة العربية مراداً بها
النسبة فأغنت عن ياء النسب، ومثاله في لغة العرب قول امرئ القيس:
وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعَنني ... وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّال [20]
أي ليس بذي نَبْلٍ.
وعلى هذا أجمع المحققون من المفسرين واللغويين [21] .
3 - معرفة الأوجه الإعرابية: فمما يجب معرفته للمفسر معرفة أوجه
الإعراب؛ لأن المعنى يتغير بتغير الإعراب، ويختلف باختلافه، وعلى سبيل
المثال لو أن قارئاً قرأ: [وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] (الإِخلاص: 4) برفع (كفو)
ونصب (أحد) لكان قد أثبت كفواً لله؛ تعالى عما يقولون علواً كبيراً، ولو أن
قارئاً قرأ: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) ، برفع لفظ
الجلالة ونصب (العلماء) لوقع في الكفر؛ لأن المعنى يفرض رفع العلماء فاعلاً،
ونصب لفظ الجلالة مفعولاً به؛ لأن المراد حصر الخوف من الله في العلماء لا
حصر الخوف من العلماء في الله، كما نلاحظ أن الوقف بالسكون على آخر العلماء
اختياري لا شيء يمنعه، أما نصب لفظ الجلالة فلازم لا يجوز فيه الوقف العارض؛
أي لا يتم المعنى بدون النصب، بل إن الحركة لها دور في المعنى ولو لم تكن
إعراباً، ويدل على ذلك لزوم كسر الخاء في قوله تعالى: [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ]
(الحديد: 3) ، وكسر الواو في قوله تعالى: [هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ]
(الحشر: 24) . فإن فتحها يؤدي إلى الكفر.
* أهمية اللغة العربية للفقيه:
جَعَل علماء أصول الفقه من شروط المجتهد أن يكون عالماً بأسرار العربية
وبخاصة «علم النحو» ، قال الأنصاري الحنفي: «من شروط المجتهد أنه لا بُدَّ
من معرفة التصريف والنحو واللغة» [22] ؛ لأن الشريعة عربية ولا سبيل إلى
فهمها إلا بفهم كلام العرب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما ذكر ذلك
صاحب «المحصول في أصول الفقه» [23] .
ولكن العلماء يفرقون بين طبيعة العمل الاجتهادي؛ فمنه ما يتعلق باستنباط
المصالح والمفاسد مجرداً من اقتضاء النصوص لها، وإنما العلم بمقاصد الشريعة،
فهذا العلم لا يلزم له معرفة واسعة في العلوم العربية، وإنما يلزم العلم بمعرفة
مقاصد الشريعة. وإن تعلق الاستنباط بالنصوص الشرعية فلا بد من اشتراط العلم
بالعربية [24] .
وقد مر قول الشافعي: «ما أردت بها (يعني العربية) إلا الاستعانة على
الفقه» ، فالعربية وسيلة من وسائل الاهتداء إلى بعض الأحكام الفقهية من نصوص
الشريعة، وقد نبه العلماء الأوائل على هذه الأهمية في استنباط الأحكام الشرعية،
ومن هؤلاء على سبيل المثال:
1 - القرافي (ت 682 هـ) ، في كتابه «الاستغناء في أحكام الاستثناء» .
2 - الإسنوي (ت 772 هـ) ، في كتابه: «الكوكب الدري» .
3 - أبو بكر محمد بن عبد الله، المعروف بابن العربي، صاحب كتاب:
«أحكام القرآن الكريم» .
4 - القرطبي في تفسيره؛ حيث إنه كثيراً ما يعبر في الرد على بعض
الأقوال بقوله: «وهذا كله جَهْلٌ باللسان والسنة ومخالفة إجماع الأمة» [25] .
ولا أدل على ذلك من جَعْل «النحو» أحد ثلاثة مصادر: منها استمداد
أصول الفقه، (وهذه المصادر: علم الكلام، وعلم العربية، والأحكام الشرعية)
[26] ، فإن تحديد الدلالة اللفظية قد يتوقف عليها تقرير الحكم الشرعي؛ لأن
الأسلوب العربي في لغة القرآن الكريم يتميز بالتصرف في فنون القول، وتكثر فيه
الألفاظ التي تمثل أكثر من معنى، ومن ذلك على سبيل المثال:
1 - لفظة «اللمس» الواردة في قوله تعالى: [أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً] (النساء: 43) ، فمن الفقهاء من حدد معنى «اللمس»
بالاتصال بالمرأة، ومنهم من حدده بمعنى «المس» فقط.
2 - ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً» [27] ، قاله
لنسائه فحسبنه «من الطول» الذي هو ضد «القصر» ، فظنت سودة إحدى
زوجاته أنها المرادة، فلما ماتت زينب رضي الله عنها قبلها علمن حينئذ أن المراد
بالطول هو الفضل والكرم، وكانت زينب أكثرهن صدقة، وهذا يوافق كلام العرب
فهم يقولون: «فلان أطول يداً» في حالة الكرم [28] .
وقد فطن بعض العلماء إلى أهمية تلك المعرفة ومنهم الراغب الأصفهاني
(ت 552 هـ) في كتابه «المفردات في غريب القرآن» ؛ حيث تناول في
هذا الكتاب التحديد الدقيق بين دلالات الألفاظ في القرآن الكريم، وكذلك فعل
الزمخشري في كتابه «أساس البلاغة» ؛ حيث وضح الاستعمالات المختلفة للفظ،
وما يضيفه الاستعمال من دلالة (حقيقية أو مجازية) ، كما فطن إلى ذلك أيضاً
الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه «الرسالة» [29] ، كما ذكر السيد البطليموسي
في كتابه «التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين» [30] ،
فقد ذكر أن الإعراب له تأثير بيِّنٌ في الأحكام الفقهية وتوجيهها؛ فالمعاني
تختلف باختلاف وجوه الإعراب، ويختلف الحكم تبعاً لذلك، وعلى سبيل المثال:
لو قال شخص: له عندي مائةٌ غيرُ درهم. برفع (غير) لكان مقراً بالمائة كاملة؛
لأن «غير» هنا صفة للمائة، وصفتها لا تنقص شيئاً منها [31] . ولو قال: له
عندي مائةٌ غيرَ درهم. بنصب (غير) لكان مقراً بتسعة وتسعين درهماً؛ لأنه
استثناء، والاستثناء إخراج ما بعد حرف الاستثناء من أن يتناول ما قبله. ولو قال
لزوجته: أنت طالق إن دَخَلْتِ الدار. بكسر همزة (إن) ؛ لم تطلق حتى تدخل
الدار؛ لأن (إن) للشرط. ولو قال: أنت طالق أن دَخَلْتِ الدار. بفتح همزة
(أن) ؛ وقع الطلاق في الحال؛ لأن معنى الكلام: أنت طالق لأن دخلت الدار؛
أي من أجل أنك دخلت الدار؛ فصار دخول الدار علة طلاقها لا شرطاً في
وقوع طلاقها [32] .
بل إن الحكم يختلف باختلاف تصاريف الكلمة؛ فلو أن رجلاً حلف ألا يلبس
مما غزلته فلانة، فلا يحنث إلا بما غزلته قبل اليمين، ولو قال: مما تغزله. فلا
يحنث إلا بالذي تغزله بعد اليمين، فلو قال: من غَزْلِها. دخل فيه الماضي
والمستقبل [33] .
وعلى هذا يجب أن يكون اهتمامنا نابعاً من هذا المفهوم، وهو ارتباط اللغة
العربية بالدين والتراث، فالواجب يقتضي ترسيخ هذا المفهوم؛ لأنه سوف يكون
الحارس بعد الله على هذه اللغة الشريفة، ويمكن تلخيص هذا المفهوم في الفقرات
التالية:
1 - النظر إلى اللغة العربية على أنها لغة القرآن الكريم والسنة المطهرة،
ولغة التشريع الإسلامي؛ بحيث يكون الاعتزاز بها اعتزازاً بالإسلام وتراثه
الحضاري العظيم.
2 - النظر إلى اللغة العربية على أنها عنصر أساسي من مقومات الأمة
الإسلامية والشخصية الإسلامية.
3 - النظر إليها على أنها وعاء للمعرفة والثقافة بكل جوانبها، ولا تكون
مجرد مادة مستقلة بذاتها للدراسة؛ لأن الأمة التي تهمل لغتها أمة تحتقر نفسها
وتفرض على نفسها التبعية الثقافية.
إذا عملنا على ذلك وضعنا سياجاً قوياً يحفظ اللغة العربية في كل حين وفي
كل زمان؛ لأن اللغة قد أصبحت لغة العقيدة والعلم على حد سواء؛ لأن بين اللغة
العربية والوجود الإسلامي في أي مكان وفي أي زمان تلازماً واضحاً في الماضي
والحاضر والمستقبل، فحين يتعرض الإسلام لأنواع الغزوات والنكبات تكون اللغة
العربية هي أداة التفكير والتعبير والاتصال؛ تحفظ عليه وجوده الحضاري، وهي
التي تساعده على أن يستأنف هذا الوجود بعد كل هجمة أو تعثر.
وهناك أسباب ملحة في الوقت الحاضر تدعونا إلى الاهتمام باللغة العربية،
ومن هذه الأسباب:
1 - أن هناك شعوباً إسلامية تعيش في قارات العالم تتطلع إلى استخدام اللغة
العربية والحرف العربي، ومن حق هذه الشعوب الإسلامية علينا أن نيسر لها
السبيل إلى ذلك، ونمكن لها منه، فإذا هي وجدتنا منصرفين عن لغتنا، أو أننا
ضائقون بها، أو أننا لا ننزلها المنزلة السامية أو أن حركة تعلمها أو تعليمها تمضي
في سلسلة من التعثرات؛ كان ذلك مدعاة لانصرافهم عنا وعنها، وهو الأمر الذي
يهدد بالضعف والتراجع عن روابط الأخوة الإسلامية التي نعتز بها ونعمل من أجلها.
2 - ما نراه من تهديد للجبهة اللغوية التي هي ثغر من الثغور التي يحاول
الأعداء الولوج منها للقضاء على تراث الأمة الإسلامية العظيم، وهذا التهديد يكمن
في سيطرة اللهجات المحلية التي زاحمت الفصحى في ميادين متعددة لا سيما وسائل
الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، كما يكمن في اللغات الأجنبية التي أصبح
إتقانها عند كثير من أبنائنا علامة التقدم الحضاري [34] .
وهذا كله يستدعي منا الاهتمام باللغة العربية وتعميمها في كل المجالات.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) انظر: إيضاح الوقف والابتداء، تأليف أبي بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، تحقيق محيي الدين عبد الحميد رمضان، مطبوعات، مجمع اللغة العربية بدمشق 1395هـ، 1971م، 1/ 15.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم، 207.
(3) الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، 1/51.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 162.
(5) المحصول في علم أصول الفقه، للرازي، 1/ 275.
(6) انظر: الكوكب الدري، للإسنوي، ص 45.
(7) شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، 231.
(8) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 1/75.
(9) المفصل، للزمخشري، ص 3.
(10) الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 827.
(11) الخصائص، 3/ 245.
(12) البحر المحيط، 1/3.
(13) الإيضاح في علل النحو، للزجاجي، 95.
(14) البرهان في علوم القرآن، للزركشي، 1/ 295.
(15) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، 2/ 179.
(16) المفصل، ص 3.
(17) مقدمة ابن خلدون، ص 426.
(18) انظر: الإنصاف، لأبي محمد عبد الله بن السيد البطليموسي، ص 72.
(19) البحر المحيط، 8/ 486.
(20) ديوان امرئ القيس، ص 49.
(21) انظر: البحر المحيط، 3/131، وتفسير أبي السعود، 2/121، وروح المعاني، للآلوسي، 4/143، وأضواء البيان، للشنقيطي، 7/140.
(22) فواتح الرحموت، لعبد العلي الأنصاري، 2/ 363.
(23) المحصول في أصول الفقه، 3/ 35.
(24) الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، 4/ 162.
(25) تفسير القرطبي، 5/17، انظر: تفسيره لقوله تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] .
(26) انظر: الأحكام في أصول الأحكام، 1/ 7، 8.
(27) أخرجه مسلم، رقم 2452.
(28) انظر: الإنصاف، للبطليموسي، ص 21.
(29) انظر: الرسالة، ص 52، تحقيق أحمد شاكر.
(30) انظر: التنبيه، للبطليموسي، ص 184.
(31) شرح المفصل، لابن يعيش، 1/11.
(32) انظر: معاني الحروف، للرماني، ص 174، والتنبيه، للبطليموسي، ص 188، وشرح المفصل، 12، وانظر الموافقات، للشاطبي، وما حصل مع أبي يوسف والكسائي، 1/ 84.
(33) الكوكب الدري، ص 308.
(34) انظر: توصيات ندوة خبراء ومسؤولين بحث وسائل تطوير وإعداد معلمي اللغة العربية في الوطن العربي، المعقودة في الرياض سنة 1397هـ، ص 4، 5.(182/66)
نص شعري
سفينة الأمة
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
مَنْ يحمل الإيمانَ لا يفتري ... لا يكره الحقَّ ولا يَزْدري
ومَنْ يريد الخيرَ يَظْفَرْ به ... يوماً، وإنْ خِلْناه لم يَظْفَرِ
ما كلُّ عينٍ أبصرتْ قادماً ... تعرف وجهَ الخائفِ المُدْبرِ
ما كلُّ مَنْ يُدنيكَ من نفسه ... يكشف ما للسرِّ من مصدَرِ
هل يعرف الشاطئُ من بحره ... ما تحمل الأعماقُ من جَوْهَرِ؟
كم في حنايا القلب من حَسْرةٍ ... أَغوارُها في النفسِ لم تُسْبَرِ
وكم سؤالٍ مَاجَ في خاطري ... لولا اشتعالُ الحزنِ لم يَخْطُرِ
ماذا ترى يا شاعراً، قلبُه ... أصبح بالأحزانِ كالمِجْمَرِ؟
ماذا ترى في أَرضِ إسرائنا ... ماذا ترى في ساحةِ المحشرِ؟
ماذا ترى من قتل أحبابنا ... في مَنْظَرٍ أسوأَ من منظرِ؟
ما لي أرى جَفْنَك لم ينكسر ... ما لي أرى قلبك لم يُصْهرِ؟!
انظرْ إلى أشلاء أطفالنا ... مَغمورةً في الدَّافقِ الأحمرِ
انظر إلى الأمِّ التي عَبَّرَتْ ... أجفانُها عن عارضٍ مُمْطِرِ
انظر إلى الشيخ الذي لفَّه ... ليلُ الأسى، والصُّبْحُ لم يُسْفِرِ
يسأَل عن أَحفادِه: ما لهم ... لم يهتفوا بالحلُم الأَخْضرِ؟!
ما بالُهم لم يركضوا خَلْفَه ... مثلَ الأزاهير إلى البَيْدَرِ؟!
ما بالهم لم يطبعوا قبلةً ... على جبين الفارسِ الأسمرِ؟!
يا شيخُ، أحفادُك طاروا إلى ... حيث المُنَى تُعْطى لمستكثرِ
لا تبتئسْ! إني أرى منزلاً ... يُبْنَى من الدُّرِّ على الكوثَرِ
ماذا ترى يا شاعراً، عَصْرُه ... أمسى يُعاني من «بني الأَصْفَرِ» ؟
ما لي أرى قومَك، أَوهامُهم ... تعصف بالموسر والمعسرِ؟!
أطباقُهم تَعرض أَفْلامَها ... مشحونةً بالفسق والمنكرِ
وربما تعرض أخبارَنا ... عرضاً يُرينا غفلةَ المُخْبرِ
يا سائلي: مَهْلاً ففي عصرنا ... صقرٌ رمى الرِّيش لمُسْتَنْسِرِ
عالَمُنا ... جمَّد ... إحساسَه ... حُبُّ الرِّبا والخمر والميسرِ
قد واجهَ اللهَ بعصيانه ... وأغلق السَّمْعَ عن المُنذِرِ
شعري يناديه، ولكنَّه ... كالصخرة الصمَّاء لم يشعُرِ
يا جامدَ الإحساسِ يا عالَماً ... يعجز عن إعلانِ مُستنكرِ
يا من تَبثُّ الرُّعْبَ في أرضنا ... تريد أنْ نهربَ للمشتري؟!
هذي فلسطينُ التي أطلقتْ ... من قُدسها صرخةَ مُستنصرِ
تستنفر الأمةَ ... لكنَّها ... مشغولةٌ عن صوت مُستنفِرِ
هذي فلسطين التي أصبحتْ ... نَهْباً لغدَّارٍ ومستكبرِ
تلقى صواريخ الأسى دونما ... تُرْسٍ ولا دِرْعٍ ولا مِغْفَرِ
تستقبل الفجر بلا بسمةٍ ... لأنَّ ضوءَ الفجر لم يَحْضُرِ
غابَ، ولم يأتِ سوى حَسْرةٍ ... باقيةٍ من ليلها المُدْبرِ
لمَّا هَمَى النورُ رأتْ حولَها ... جماجمَ الأطفالِ لم تُقْبَرِ
تدعو بني الإسلام، لكنّهم ... باعوا حُسامَ العزمِ بالمِزْهَرِ
والعالَم الواهمُ مُستسلمٌ ... للخوف من صاحبةِ المِجْهَرِ
سفينةُ الأمَّةِ يا سائلي ... عن شاطئ الغَفْلةِ لم تُبحِرِ
ما زال يدعوها إلى حَتْفها ... مَنْ لم يَخَفْ رَبَّاً ولم يذكُرِ
قَتْلٌ وتشريدٌ وهَدْمٌ فلا ... نامتْ عيونُ السَّيفِ والخنجرِ
يا سائلي مَهْلاً ففي أحرفي ... حزنٌ به تقسو على الأَسْطُرِ
هذا الذي تُبصره مَشْهَدٌ ... من مسرحٍ في عالمٍ مُقْفِرِ
هذا الذي تبصره حُفْرَةٌ ... لولا ضلالُ الناس لم تُحْفَرِ
فرَّطتِ الأمَّةُ فيما مضى ... واستسلمتْ للشانئ الأَبْتَرِ
ما جهَّزَتْ جيشاً له صولةٌ ... تمنعُها من سَطْوةِ «العَسْكَرِ»
نامتْ ولصُّ الدَّار يُلقي إلى ... غرفتها نَظْرَةَ مُسْتَسْعِرِ
نامتْ، ولما استيقظتْ حدَّثتْ ... مأساتُها عن حقِّها المُهْدَرِ
سفينةُ الأمَّةِ باتتْ على ... بابِ مَضيقِ الذُّلِّ لم تَعْبُرِ
أَعدَّتِ العُدَّةَ لكنَّها ... عُدَّةُ مَن يلهو عن المصدرِ
صامتْ عن الإبحارِ منذ الْتقى ... بالشاطئ الموجُ، ولم تُفْطرِ
وكيف يرجو أنْ يرى عِزَّةً ... مَنْ باع بالخسرانِ ما يَشْتري
يا سائلي: لا تبتئسْ! إنني ... بالرغم من بحر الأسى المُسْجَرِ
أسمع في آفاقِ إيماننا ... صوتاً ينادي أمتي: أَبشري
لا تحلف الشمسُ لنا أَنَّها ... جميلةُ المَظْهرِ والمَخْبَرِ
لكنَّها تَنْشُر أَضواءَها ... تعصف بالإنكار والمنكِرِ(182/72)
المسلمون والعالم
مخابرات الباكستان والصراع من أجل البقاء
حسن الرشيدي
«الاستخبارات الباكستانية تخوض حرب استنزاف ضد القوات الأمريكية
والدولية في أفغانستان من خلال القاعدة وطالبان، وبمعلوماتها المضللة التي أعطتها
للقوات الأمريكية تريد إغراقنا في الوحل الأفغاني كما غرق السوفييت من قبل،
ويجب تلقين باكستان درساً على موقفها هذا» .
هذا قول صحفي أمريكي كبير في إحدى الصحف الأمريكية؛ عقب إخفاق
القوات الأمريكية في إلقاء القبض على معظم زعماء القاعدة وطالبان.. ولم يقتصر
النقد الموجه للمخابرات الباكستانية على هذا الصحفي فقط، بل شنت وسائل الإعلام
الأمريكية حملة موسعة على عناصر المخابرات الباكستانية وقياداتها متهمة إياها
بموالاة القاعدة، وفي المقابل انبرى رؤساء سابقون لهذه الهيئة في منابر إعلامية
عديدة يدافعون عن المخابرات الباكستانية، وفي وسط هذا الخضم المائج، بالإضافة
إلى عامل السرية والغموض الذي يكتنف عمل المخابرات؛ يبدو التحقق من حقيقة
دور المخابرات الباكستانية من الصعوبة بمكان.
* دور المخابرات بصفة عامة، وطبيعة عملها:
لا شك بأن عالم الاستخبارات عالم ظل زاخراً بالأخبار والأسرار، لكن ولأنه
عالم الأسرار يصبح الغوص في تاريخه وعلاقاته الراهنة من الصعوبة بمكان.
والنظرية الشائعة في مجال عمل المخابرات تقول بأن أجهزة المخابرات هي
التي تحكم حقيقة بلدانها.
والافتراضات المتضمنة في تلك النظرية ليست صحيحة بوجه عام؛ فهناك
عدة عوامل تتحكم في طبيعة عمل المخابرات؛ منها طبيعة النظام السياسي،
والظروف التي تمر بها الدولة بصفة عامة، ومدى تشبع العناصر القيادية في
المخابرات بالأهداف الطموحة؛ سواء كانت أهدافاً شخصية أو سياسية؛ فالدولة
ذات الطموح المستقبلي، والتي تسعى للحصول على أدوات القوة بعناصرها
المختلفة؛ هي التي تسلط أجهزة استخباراتها بهدف جمع أسرار صناعة التسليح،
وأسرار التجارة العليا وغيرها. أما الدول المنكمشة والتي يهمها في المقام الأول
المحافظة على مكانة أصحاب القرار فيها؛ فهي التي تسلط عناصر مخابراتها على
أفراد شعبها لكتم أنفاسهم أو إحصائها، ووضع تقارير كاملة عنهم في السجلات.
وكذلك كان لطموح القيادات الاستخبارية دوره في بناء السلطة السياسية،
فشهدت بعض الدول الكبرى صعود رؤساء أجهزة المخابرات ليتولوا أعلى سلطة
رئاسية؛ فجورج بوش الأب تولى رئاسة المخابرات الأمريكية قبل انخراطه في
السلك الرئاسي، كذلك كان أندربوف رئيس الاتحاد السوفييتي السابق، وحتى
الرئيس الحالي لروسيا بوتين كان رئيساً للمخابرات الروسية قبل توليه الرئاسة.
كذلك نجد أن عملية صنع القرار الاستراتيجي الخاص بدولة معينة يتم وفق
عناصر محددة تدخل في تركيبة هذا القرار، ولا شك أنه كلما قويت أجهزة
المخابرات زاد الحديث عن دورها في صنع القرار.
وآلية عمل المخابرات تتضمن شقين: شقاً نظرياً، والثاني عملي: فالشق
النظري له وظيفتان رئيسيتان:
1 - تقديم المعلومات والمعطيات في الميادين الاستراتيجية: العسكرية
والسياسية والاقتصادية لدائرة القرار في مجال السياسة الخارجية.
2 - تقديم التحليلات، والتقويمات، والتقديرات للأوضاع السياسية
والعسكرية والاقتصادية والاستراتيجية في بلدان العالم؛ بناء على طلب رأس
الجهاز التنفيذي، أو عندما تتبلور لدى مسؤولي الوكالة تقويمات بشأن أوضاع بلد
أو منطقة معينة في العالم.
أما الشق العملي فله وظيفة أساسية، وهي القيام بأعمال أو عمليات سرية في
الخارج؛ لتنفيذ أهداف استراتيجية أو سياسية أو عسكرية محددة في إطار برنامج
السياسة الخارجية.
وهذه الأعمال منها الإيجابية الهجومية للحصول على المعلومات عن طريق
التجسس، والمراقبة والمتابعة، والقبض على الجواسيس، وتحويلهم إلى عملاء
مزدوجين، أو تقديمهم للمحاكمة، والقيام بأعمال التخريب، وتدمير منشآت العدو،
وانتهاج الحرب النفسية بما تشمله من أعمال الدعاية والشائعات.
ومنها السلبية الوقائية؛ فتشمل إجراءات الأمن والسلامة التي تقوم بها الدولة
لتحقيق الأمن مثل: الأسلاك الشائكة، ووسائل الإنذار، وإجراءات حفظ المعلومات
السرية، ومشروعات الأمن الداخلي، وإجراءات أمن المنشآت، وأمن الأفراد،
ومقاومة التآمر والتمرد والنشاطات الهدامة.
* تكوين المخابرات الباكستانية:
إن أهم ثلاث وكالات للمخابرات في باكستان هي: خدمة المخابرات الداخلية
(ISI) ، والمخابرات العسكرية (MI) ، ومكتب المخابرات (IB) .
وتختص كل هيئة بمسؤوليات محددة، ولكنها تلتقي جميعاً في هدف واحد هو
حماية الأمن القومي الباكستاني، وفي حالة أي نشاط داخلي أو خارجي يمس الأمن
القومي الباكستاني يحدث تشابك ملحوظ في أنشطة الهيئات الثلاث؛ فتركز الآي
إس آي (ISI) والمخابرات العسكرية (MI) بشكل عام على موضوعات
الاهتمام العسكري الطارئ، بينما يركز مكتب المخابرات (IB) على النشاطات
السياسية الداخلية.
يذكر أن الأصل في مكتب المخابرات أن يُرسل تقاريره مباشرة إلى رئيس
الوزراء، وترسل الوكالتان العسكريتان تقاريرهما للقائد العام في الجيش.
يقع مقر (ISI) الذي هو أهم فروع المخابرات وأكثرها تشعباً وتأثيراً في
إسلام أباد، ويرأسها مدير عام يخدم في الجيش الباكستاني برتبة فريق.
وهناك ثلاثة نواب للمدير: نائب سياسي، ونائب خارجي، ونائب عام.
وفريق العمل في (الآي إس آي) بشكل أساسي عبارة عن مجموعة منتدبة
من البوليس، والقوات العسكرية العليا، والمجموعات المتخصصة في الجيش،
وهي تضم أكثر من خمسة وعشرين ألفاً من الأعضاء النشطاء، وتقول مصادر
هندية وغربية إن الآي إس آي تضم 10.000 ضابط؛ علاوة على المحاضرين
والملحقين.
والهيئة مقسمة إلى ستة أقسام:
القسم الأكبر في الآي إس آي (ISI) : هو مكتب المخابرات المشترك، فهو
مختص بتغطية مجالات معينة مثل الأحزاب السياسية، ومواجهة الإرهاب، وأمن
الشخصيات المهمة، العمال والطلاب. وقام المكتب بتخصيص ثلاثة أقسام:
قسم يختص بشكل محدد بالهند، وآخر بالدول الشيوعية، وثالث بإفريقيا
وغرب آسيا. وهذا القسم مسؤول بشكل رئيس عن تعيين وإرسال الأفراد في
مهمات بالخارج.
القسم المهم الثاني: هو مكتب مخابرات الإشارة المشترك، والذي يقوم
بالإشراف على شبكة الاتصالات الخاصة بالآي إس آي (ISI) ، وجمع
الاستخبارات من خلال مراقبة قنوات الاتصالات بالدول المجاورة، وتضم الآي إس
آي (ISI) عدداً كبيراً من أفراد سلاح الإشارة في الجيش، وتنتشر وحداتها في
كراتشي ولاهور وبيشاور، وترصد وتلتقط الصور وتعترض الاتصالات
اللاسلكية؛ على أن هدفها الرئيس هو متابعة تحركات القوات على امتداد الحدود
الهندية؛ فخلال عمليات حرب عام 1971م كانت تمتلك ما يزيد على 200 محطة
راديو سرية في جبهة الحرب.
القسم المهم الثالث: هو مكتب المخابرات المضادة المشترك، وكما يوحي
اسمه فإنه يتولى الإشراف على البعثات الأجنبية، وعلى أفراد الآي إس آي
(ISI) وهو القسم المختص بشكل أساسي بالهند، ويطلق عليه أيضاً ملحق
المخابرات الشمالية، وتنحصر مهمته الرئيسية في تنفيذ العمليات في جامو
وكشمير، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا، والصين، وأفغانستان، والجمهوريات
الإسلامية في الاتحاد السوفييتي السابق.
القسم الرابع: وهو مكتب المخابرات المنوع المشترك، وهو مسؤول عن
الأحداث السرية في الأنحاء الأخرى من العالم، إلى جانب الاتفاقات السرية
للتكنولوجيا النووية، وتكنولوجيا الصواريخ.
القسم الخامس: مكتب المخابرات الفنية: مسؤول عن جمع المعلومات الفنية،
بالإضافة إلى بحث وتطوير الآليات الاستخبارية.
القسم السادس: مكتب المخابرات المشترك إكس x: يعمل كسكرتارية للهيئة،
ويقوم بإعداد وتنسيق الدعم الإداري للأقسام الأخرى في الآي إس آي (ISI)
والمنظمات الميدانية، ويقوم أيضاً بإعداد التقديرات الاستخباراتية وتقارير
التهديدات.
وبالإضافة إلى هذه العناصر الأساسية تضم الآي إس آي (ISI) قسماً آخر
للحرب الكيمياوية.
* ذراع باكستان الاستراتيجي:
تعتقد باكستان دائماً أن الهند لم تتقبل قط وجودها، ومن ثم كانت ترى أن
الهند عازمة على إنهاء تقسيم شبه القارة؛ مما يعني ضمناً وضع نهاية لاستقلال
باكستان؛ ففي عام 1964م صرح نهرو رئيس وزراء الهند حينذاك لصحيفة
الواشنطن بوست أن هدف الهند النهائي هو قيام اتحاد هندي باكستاني؛ مما يعني
دخول باكستان مرة أخرى تحت الهيمنة الهندوسية؛ وعليه فقد كان الهدف الجوهري
لاستراتيجية باكستان الرئيسية هو مجرد البقاء في وجه منافستها الهند الأكبر منها
حجماً والأكثر قدرة، والتي تريد بوضوح تصحيح الوضع القائم؛ مع الحفاظ على
سلامة استقلاليتها قدر الإمكان.
وكانت المخابرات الباكستانية وبالتحديد الآي إس آي أحد أذرع تنفيذ هذه
الاستراتيجية.
تشعب عمل هذه المخابرات على عدة محاور:
المحور الأول: هو نزاع كشمير: تمثل كشمير بؤرة مهمة للصراع في
جنوب آسيا؛ تلك المشكلة التي صنعتها الهند؛ فقد نص قانون استقلال الهند على
أن الإمارات داخل الدولة الهندية حرة في أن تنضم إلى أي من الهند أو باكستان،
أو أن تبقى مستقلة مع الأخذ في الاعتبار بعض العوامل مثل الوضع الجغرافي
ورغبات الشعب. ولكن الهند تجاهلت هذا المبدأ عند الاستقلال؛ وخصوصاً فيما
يتعلق بكشمير، وكانت غالبية السكان مسلمين وحاكمها كان هندوسياً. وحين تردد
مهراجا كشمير في إعلان انضمام الإمارة إلى باكستان تمرد المسلمون الكشميريون
الذين كانوا يمثلون نسبة 82% من السكان، وقام جنود الحاكم الهندوسي بارتكاب
المذابح في منطقة بونش وميربور في سبتمبر/ أيلول 1947م، ويقال إنه قتل في
هذه الاضطرابات ما لا يقل عن مائة ألف مسلم، وجرت هذه المجازر لإجهاض
انتفاضة مسلمي كشمير ضد الحاكم الهندوسي، وفي محاضرة لوزير الدفاع الهندي
جورج فرنانديز ألقاها في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة عام 1991م قال:
«هناك اعتقاد واسع النطاق بأن أيدياً خارجية تقف وراء أحداث كشمير، وتتم في
كل مرة الإشارة إلى باكستان باعتبارها المسؤولة عما يحدث، لكنني أعتقد أنه لا
دخل للأيدي الخارجية في قضية كشمير؛ فنحن (أي الهنود) الذين صنعنا مشكلة
كشمير، وإذا ما قرر آخرون الاستفادة من الوضع؛ فلا أعتقد أنه يجب أن نصنع
من هذا الأمر قضية تشغل البال» .
ولكن الذي أخفاه وزير الدفاع الهندي هو سبب ذلك التآمر الهندي على كشمير؛
ألا وهو جعل مشكلة كشمير؛ ورقة ضغط لضمان أن تكون باكستان في إطار
وحجم معين تحت الهيمنة الهندية.
وظلت الهند تنتهج سياسة مزدوجة تجاه هذه القضية، فعلى الصعيد الرسمي
ظلت تعد ولاية (جامو وكشمير) جزءاً من الهند منذ عام 1947م، بينما استمرت
في الوقت نفسه في إجراء المحادثات مع باكستان حول هذه القضية؛ كلما شعرت
بضغوط تمارس عليها.
وأدرك النظام الباكستاني منذ نشأته هذه المعضلة، وعمل على تفتيتها
واستعادة كشمير عبر عدة محاور:
- العمل على تدويل المشكلة وطرحها عالمياً للتأثير على الدول الكبرى؛
لتضغط بدورها على الهند وإرغامها على التنازل.
- تفعيل جهاز المخابرات الآي إس آي التي بلورت عملها في عدة اتجاهات
منها: دعم الجماعات الكشميرية التي تطالب بالانفصال عن الهند؛ حيث كانت
الممول الرئيسي لبعض جماعات مقاتلي جامو وكشمير، فقد استمرت في تزويدهم
بالأسلحة والذخيرة، وتوجيه العمليات التي يقومون بها.
ولقد حققت الآي إس آي (ISI) هدفها الأول في مطلع التسعينيات،
فأصبحت كشمير قضية دولية، بالإضافة إلى التمويل؛ حيث قامت الآي إس آي
بتزويد المقاتلين بالبنادق الهجومية وغيرها من الأسلحة شبه المتطورة حسب بعض
المصادر الهندية.
ونشرت النيويورك تايمز تقريراً ادعت فيه أن ضبّاطاً في جهاز المخابرات
الباكستانية قاموا بممارسة دور في تدريب حركة (جيش محمد) ، وذكرت الصحيفة
وللمرة الأولى اسم أحد هؤلاء الضباط، وهو العميد عبد الله الذي وصفته الصحيفة
بارتباطه النشيط بالجماعات الإرهابية، وذلك نقلاً عن تقرير من الجيش ومسؤولي
المخابرات الباكستانيين.
وردت الهند والتي كانت تشك منذ فترة طويلة بهذا الترابط بأنها تتمنى أن
تنتهي هذه الارتباطات والعلاقات بين المخابرات الباكستانية والحركات الجهادية
الكشميرية.
وذكر التقرير الذي نشرته النيويورك تايمز أن العميد عبد الله سهّل أيضاً
رحلات شيخ عمر أحمد سعيد - المشتبه به الرئيسي في قضية اختطاف الصحفي
الأمريكي وذبحه - بين أفغانستان وباكستان، وتشير الصحيفة إلى أنه ربما كشفت
التحقيقات المستمرة حول قتل «دانيال بيرل» عن الروابط بين المجموعات
الجهادية المختلفة والمخابرات الباكستانية.
وطالب سيليغ هاريسون مدير برنامج (آسيا في مركز السياسة الدولية) ،
وأقدم باحث في مركز (وودرو ويلسون الدولي للباحثين) الإدارة الأمريكية بمناشدة
وكالات المخابرات الباكستانية لإيقاف عمليات الاغتيال المتواصلة للكشميريين الذين
يؤيدون المشاركة في الانتخابات، مثل شخصية عبد الغني لون الذي لقي مصرعه
في 21/5/2002م.
كما قُتل أيضاً سبعة من زعماء حزب المؤتمر الوطني الذي يحكم الجزء
الهندي من كشمير خلال الشهر الماضي.
وأشار إلى تورط باكستان في مصرع لون، وحسب أقوال الباحث فإن «لون»
كان قد عبَّر عن عزمه على الترشيح في انتخابات الجمعية التشريعية في كشمير.
وكان مدير وكالة المخابرات الداخلية الباكستانية الآي إس آي الفريق إحسان
الحق قد ترأس اجتماعاً استراتيجياً عقد في الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة
في 4/2002م، مع سبعة من زعماء المتمردين الكشميريين البارزين، ممن كانوا
يتلقون مساعدة باكستانية، وكان لون بينهم، وقد أدان إحسان موقف لون في دعم
المشاركة في الانتخابات، وحذره مطالباً إياه بالتوقف عن ذلك وفقاً لتقارير نشرتها
صحف الشارقة الصادرة بالعربية والصحف الباكستانية، والتي أكدها دبلوماسي
باكستاني.
وبعد الاجتماع توجه لون إلى الولايات المتحدة لغرض المعالجة الطبية، ثم
عاد إلى كشمير في 19/5/2002م، وفي اليوم التالي لعودته وفي اجتماع للجماعات
الكشميرية المدعومة من جانب باكستان؛ حث على المشاركة في الانتخابات، وقد
اغتيل في اليوم التالي للاجتماع؛ أي في 21/5/2002م.
وواصل الباحث هاريسون اتهاماته لوزير الخارجية الأمريكي بأنه تفادى
بشكل واضح دعوة باكستان إلى تفكيك مخيمات التدريب، وتسهيلات الاتصالات
في جانبها الكشميري من خط وقف إطلاق النار، وما دامت هذه البنية الأساسية
قائمة في موضعها فيمكن لباكستان أن تتحكم بمستوى التسلل ساعة تشاء مانعة عودة
الأوضاع إلى حالتها الطبيعية، وهي حالة ضرورية لانتخابات هادفة.
وأفادت مصادر صحفية غربية أن الآي إس آي (ISI) قد أقامت معسكرات
التدريب بالقرب من الحدود مع بنجلاديش؛ حيث كان أعضاء الجماعات الكشميرية
للولايات الشمالية الشرقية، والتي عُرفت بجبهة الأخوات السبع المتحدة، ويتم
تدريبهم على المعدات العسكرية والأعمال القتالية.
وقالت هذه المصادر أيضاً إن الآي إس آي (ISI) قد كثفت نشاطها في
الولايات الهندية الشرقية؛ في حيدر آباد وما جاورها من ولايات.
ولكن تثار شكوك كثيرة حول حقيقة التعاون بين الآي إس آي والمجاهدين في
كشمير؛ خاصة أن أغلب مفردات هذه العلاقة تأتي من مصادر غربية أو هندية،
وهي بطبيعتها معادية لباكستان والإسلاميين، ولكن عند تأمل عملية كارجيل عام
1999م؛ فإنها تقدم دليلاً لا يقبل الجدال حول التعاون بين بعض فصائل المجاهدين
الكشميريين وبين الجيش الباكستاني، وهذا التعاون لا يتم إلا عبر قنوات سرية
وهي المخابرات؛ حيث هاجمت الجماعات الجهادية الكشميرية الجزء المحتل من
المقاطعة، واستولت على بعض المرتفعات بدعم وتنسيق من الجيش الباكستاني،
ورُصدت وقتها محادثة هاتفية بين الجنرال مشرف وكان وقتها قائداً للجيش وبين
المجاهدين في كارجيل يحثهم فيها على الصمود.
ولكن بعد الهجوم على البرلمان الهندي في ديسمبر الماضي والذي نُسب إلى
جماعات كشميرية؛ قامت السلطات الباكستانية باعتقال أكثر من ألف شخص حسبما
ذكرت قوات الشرطة، وأعلن الرئيس برويز مشرف - الذي يقود حملة التعقب -
في خطابه للشعب أنه قام بحظر نشاط خمس جماعات لها علاقة بأنشطة الميليشيات.
وظلت جماعة جيش محمد وهي إحدى الجماعات المحظور نشاطها، وكان
مكتبها في كراتشي؛ وأصابه دمار كبير إثر حادث انفجار غامض ظلت تعمل خارج
هذا المكتب إلى أن قامت الحكومة بإغلاقه هذا العام، ولكن معظم الميليشيات قامت
منذ ذلك الوقت بإعادة التنظيم، وغيرت من أسمائها، وربما تحول بعضها إلى
جماعات سرية تعمل في الخفاء؛ مما يصعب على المسؤولين تعقبهم.
المحور الثاني: إيجاد امتداد استراتيجي لباكستان داخل أفغانستان: جعل
الغزو السوفييتي لأفغانستان من باكستان دولة لها أهمية جيو استراتيجية بالغة،
وبعد عدة أيام من هذا الغزو أعلنت الولايات المتحدة أن باكستان دولة المواجهة ضد
العدوان السوفييتي، وعرضت أن تستأنف تقديم المساعدات والدعم العسكري
لباكستان.
وقامت إدارة المخابرات الداخلية التابعة للجيش (ISI) في باكستان بمراقبة
أنشطة المجاهدين، وتقديم الدعم والتوجيه لهم، وتحدثت مصادر غربية عن أن
قوات كوماندوز باكستانية من مجموعات الخدمات الخاصة في الجيش ربما تكون قد
ساعدت في توجيه العمليات داخل أفغانستان، وبالغت هذه المصادر حتى إنها
زعمت أن الآي إس آي (ISI) قد قامت بتدريب حوالي 83.000 من
المجاهدين الأفغان بين الفترة من 1983 - 1997م وإرسالهم لأفغانستان، ودفعت
باكستان ثمن أنشطتها؛ حيث قامت القوات الأفغانية والسوفييتية بشن حملة إرهابية
من الانفجارات وأعمال التخريب داخل باكستان، قام بتوجيهها عملاء المخابرات
الأفغانية، وتسببت في إحداث خسائر فادحة.
وسجلت في باكستان حوالي 90% من الأعمال الإرهابية التي حدثت في العالم
في ذلك العام.
واستمرت الآي إس آي (ISI) في مشاركتها النشطة في الحرب الأهلية
الأفغانية، ودعمها لطالبان في حربها ضد حكومة رباني.
وتقول مصادر غربية إن ناصر الله خان بابار الجنرال المتقاعد الذي كان
وزيراً لداخلية باكستان عام 1994م قد ملأ مناصب البعثات الدبلوماسية الباكستانية
في أفغانستان بوكلاء الاستخبارات لضمان حصول طالبان على المساعدة التي
تحتاجها على زعم مصادر غربية.
وقال الجنرال بابار في مقابلة أجريت معه أخيراً في بيته بمدينة بيشاور:
كثير من رجال الاستخبارات الباكستانية كانوا يقومون بالجهاد، ويتمتعون بالكثير
من احترام الأفغان لهم.
ويقول: كان أحد أولئك الوكلاء أمير سلطان ترار الذي عين بمنصب القنصل
العام في هرات الواقعة في الغرب، وكان يستخدم الاسم المستعار: الكولونيل إمام.
ويضيف بابار: وأقام سلطان علاقة صداقة مع زعيم طالبان الملا محمد عمر،
وقدم له استشارات في الخطط لقواته، وكما هو شأن كثير من الأفغان كان يرتدي
العمامة ويطيل اللحية لكي ينسجم مع من يتعاملون معه.
وفي أوائل عام 1996م عندما كانت بنازير بوتو في ولايتها الثانية رئيسة
للوزراء أصبحت تشعر بالقلق من صلات باكستان القوية مع طالبان، ومن هيمنة
وكالة الاستخبارات الباكستانية على السياسة الأفغانية، كما قالت في مقابلة مع
صحيفة أمريكية مؤخراً.
وجرت دعوة اجتماع لكبار مسؤولي الحكومة لمناقشة الانسحاب من العلاقة مع
طالبان، وطالب الجنرال جيهانجير كرامات رئيس الأركان حينئذ بإيقاف نشاطات
الوكالة داخل أفغانستان، وقال أعضاء مدنيون في الحكومة إنه إذا ما سحبت
باكستان دعمها؛ فإن طالبان ستنتهي؛ وفقاً لعرض موجز قدمه أحد المشاركين في
ذلك الاجتماع.
وقد انتصرت وكالة الاستخبارات ولم تنسحب باكستان، وفي الأشهر اللاحقة
حققت طالبان انتصارات مهمة في ميدان المعركة؛ حيث استولت على هرات،
وجلال آباد، والعاصمة كابل بحلول خريف عام 1996م.
وكان ضباط المخابرات الأميركية واثقين من أن الباكستانيين كانوا يوفرون
التدريب والاستشارات العسكرية لطالبان إلى جانب الأموال والأسلحة.
وواصلت بنازير بوتو معارضتها إلى أن أزيحت عن السلطة في نوفمبر عام
1996م، وقد وسع خليفتها المدعوم من العسكر في بادئ الأمر نواز شريف
العلاقات عبر أول اعتراف دبلوماسي بطالبان في مايو 1997م، وقام بزيارات إلى
دول إسلامية أخرى في محاولة لإقناعها بالاعتراف بطالبان.
وبحلول عام 1998م عزز أسامة بن لادن موقعه في أفغانستان بعد قدومه من
السودان، وقد أقام وقاعدته معسكرات تدريب في مختلف أنحاء البلاد، وكان كثير
منها إلى جانب المعسكرات التي كانت تديرها طالبان.
وبينما كانت هناك علاقة وثيقة بين طالبان والمخابرات الباكستانية قال
دبلوماسيون غربيون وضباط استخبارات أجانب إن العلاقات بين وكالة
الاستخبارات الباكستانية وشبكة بن لادن كانت أكثر حذراً.
ولم تحتوِ المحادثات التي جرى اعتراض سبيلها وتسجيلها من جانب مسؤولين
في المخابرات الأميركية على معلومات عن صلات مباشرة بين الاستخبارات
الباكستانية وشبكة العرب والأجانب الآخرين الذين جاؤوا لتعلم القتال في أفغانستان؛
وفقاً لما ذكره مسؤول مخابراتي أمريكي كبير قام بمراجعة الكثير من الوثائق
والسجلات.
ولكن بن لادن في المقابلة الشهيرة التي أجراها مع الجزيرة اعترف بوجود
صلات قوية للقاعدة مع بعض النافذين في النظام الباكستاني، ولم يسمِّهم أو يذكر
مناصبهم.
وبعد تفجير السفارتين الأميركيتين في شرق إفريقيا في صيف عام 1998م
حاولت الولايات المتحدة أن تجد سبيلاً إلى بن لادن الذي اتهمه الأميركيون
بالمسؤولية عن التفجيرات وأن تبعده عن أفغانستان.
وقال مسؤولون حكوميون إنه في سبتمبر عام 1999م استدعي المدير العام
لوكالة الاستخبارات الباكستانية الجنرال ضياء الدين وشقيق رئيس الوزراء شاهباز
شريف إلى واشنطن؛ حيث أبلغهما مسؤولون أميركيون أن على باكستان أن ترغم
طالبان على تخفيف مواقفها وتسليم بن لادن.
وذكر مسؤولون باكستانيون أنه عندما عاد المبعوثان أرسل رئيس الوزراء
الجنرال ضياء الدين إلى قندهار لإيصال الرسالة الأميركية إلى الملا عمر الذي
رفضها.
وفي 12/10/1999م أطاح انقلاب عسكري بنواز شريف، وفي ذلك الوقت
كان القائد العسكري الأعلى في باكستان الجنرال مشرف في طريق عودته إلى البلاد
من سري لانكا، وكان نائبه الفريق عزيز خان الذي كان مدافعاً عن طالبان عندما
كان يعمل في الاستخبارات الباكستانية، وقد ضمن تسليم السلطة إلى الجنرال
مشرف عندما هبطت طائرته في إسلام آباد.
ومرة أخرى كانت هناك أسباب كثيرة للانقلاب لكن محللين قالوا إن الوكالة
والموالين لها كانوا يشعرون بأنه كان على شريف أن يبتعد إلى حد ما عن المخاوف
من أنه قد يذعن للضغط الأميركي ويغير سياسة باكستان تجاه طالبان.
وكانت إحدى المهمات الأولى للحاكم العسكري الجديد إلغاء العملية الشديدة
السرية، والتي جرى التخطيط لها مع الولايات المتحدة لإرسال قوات خاصة
تستخدم المعلومات الاستخباراتية الباكستانية إلى أفغانستان لإلقاء القبض على بن
لادن.
وأوردت النيويورك تايمز قول مسؤول أمريكى كبير سابق إن المخاوف
الأمريكية بشأن تعاملات وكالة المخابرات الباكستانية مع نظام طالبان الحاكم في
أفغانستان تزايدت بشدة، ومنذ حكم كلينتون؛ لدرجة أن المخابرات الامريكية
عارضت بإصرار زيارة مزمعة للرئيس السابق بيل كلينتون لباكستان خوفاً على
سلامته.
وقالت الصحيفة إن هذا التخوف كان أساسه أن أجهزة الأمن الباكستانية
مخترقة إلى حد بعيد من جانب الإرهابيين؛ لدرجة أن الجماعات المتطرفة التي
يحتمل أن يكون بينها تنظيم القاعدة الذي يتزعمه بن لادن قد تعرف خط سير رحلة
الرئيس كلينتون من المتعاطفين داخل وكالة المخابرات الباكستانية ويحاولون إسقاط
طائرته.
وقال مسؤولون سابقون إن كلينتون تجاهل تحذير المخابرات الأمريكية وقام
بالرحلة؛ مما استدعى اتخاذ تدابير غير معتادة للحفاظ على حياته؛ حيث تم تسيير
طائرة رقم واحد التابعة للسلاح الجوي الأمريكي شاغرة؛ بينما قام الرئيس بالرحلة
على متن طائرة صغيرة غير ملحوظة، كما أن ركب كلينتون توقف تحت أحد
الجسور العلوية، وقام كلينتون بتغيير السيارة التي تقله.
وعلى الرغم من الضغط المتواصل من جانب الولايات المتحدة والعقوبات
التي فرضتها الأمم المتحدة على أفغانستان؛ واصل الجنرال مشرف دعم بلاده
لطالبان؛ حتى غيرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الطريقة التي كان ينظر بها
كثير من دول العالم إلى قوات طالبان وضيفها بن لادن.
ففي أثناء تفجيرات نيويورك وواشنطون كان رئيس جهاز الاستخبارات
الباكستاني في زيارة لأمريكا، وتوالت اجتماعاته مع المسؤولين الأمريكيين في
أعقاب الغارة.
وقال السيناتور الأميركي جوزف بيدن (ديمقراطي) : إن رئيس أجهزة
الاستخبارات الباكستانية الجنرال محمود أحمد عقد اجتماعات في واشنطن مع
مسؤولين أميركيين؛ وعدهم خلالها بتعاون إسلام أباد بشأن كشف مرتكبي
الاعتداءات على الولايات المتحدة.
وصرح بيدن لشبكة سي. بي. إس: لقد قلت للجنرال إنه عليهم الباكستانيين
اختيار معسكرهم: إما أن تكونوا أصدقاء، وإما أعداء لنا؛ موضحاً أن وزير
الخارجية كولن باول ومساعده ريتشارد أرميتاج كانا قد قالا له الشيء نفسه.
وأكد بيدن الذي يترأس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ أن
الباكستانيين سيكونون متعاونين بكل الأوجه الممكنة، وهذه مساهمة إيجابية جداً
لبناء تحالفنا.
وأضاف أن الجنرال محمود أحمد هو على الأقل الرجل الثاني في باكستان إن
لم يكن الأقوى فيها.
وتقول النيويورك تايمز: كانت وكالة الاستخبارات الباكستانية توفر منذ زمن
بعيد ممراً آمناً لمجموعة كبيرة من سائقي الشاحنات والمهربين الذين يزودون ماكينة
طالبان الحربية بكميات هائلة من الأسلحة، ولكن كان يفترض أن هذه السياسة قد
تغيرت في سبتمبر الماضي بعد أن وجهت واشنطن إنذاراً لباكستان.
وفي تحقيق لمجلة نيوزويك الأمريكية ذكرت فيه أنه بينما تواصل القوات
الأمريكية مطاردة أعضاء القاعدة والطالبان في المناطق العشائرية في باكستان
اجتمع كبار مسؤولي حركة طالبان مؤخراً بالقرب من بيشاور؛ وبالرغم من وجود
مسؤول من المخابرات الباكستانية إلا أنه تركهم يرحلون بدون أن يتدخل.
واعترف مسؤول كبير في الاستخبارات الباكستانية أن شحنة الثامن من
أكتوبر من العام الماضي؛ أي بعد القصف الأمريكي لأفغانستان كانت تحتوي فعلاً
على أسلحة مرسلة إلى طالبان، لكنه قال إنها كانت آخر دفعة مقررة رسمياً، وإن
الباكستانيين كانوا منذ ذلك الحين ملتزمين بتعهدهم للأميركيين.
ولكن كانت هناك دلائل على تغير الموقف الباكستاني من طالبان؛ فقد سُحِبَ
مستشارون عسكريون باكستانيون من أفغانستان خلال الأسابيع اللاحقة للضربة
الأمريكية، وهي خطوة يقول مسؤولون في الاستخبارات الغربية إنها ربما كانت
عاملاً حاسماً في الانهيار السريع المفاجئ لقوات طالبان عندما واجهتها قوات تحالف
الشمال.
وقال دبلوماسي غربي عمل في المنطقة لسنوات عديدة: لم ندرك بالكامل
أهمية دور باكستان في دعم طالبان إلا بعد انسحاب الباكستانيين والانهيار السريع
لطالبان.
وكان أحد مديري وكالة الاستخبارات ويوصف في الدوائر الغربية بأنه
إسلامي، الفريق حامد غول الذي ترأس الوكالة في أواخر الثمانينيات ولا يزال
يتمتع بنفوذ داخلها قد قال في مقابلة أجريت معه أخيراً: إنه لن يكون من اليسير
بالنسبة للضباط أن يتخلوا عن معتقداتهم ويغيروا مواقفهم.
وقد شجب غول إدانة الأميركيين لهم ولأسامة بن لادن من دون تقديم أي دليل
ضدهم.
وقال: إن أسامة بن لادن رجل حساس ولا علاقة له بالهجمات على أميركا؛
مضيفاً: أنتم الأميركيون سيتعين عليكم يوماً ما أن تدعموا طالبان، إنهم لن ينتهوا؛
فهم جماعة مستقيمة ومتراصة ومهمة تاريخياً.
وقد اتفقت وكالة الاستخبارات والجنرال مشرف على إنهاء دعم طالبان في
سلسلة من الاجتماعات والمحادثات الهاتفية مباشرة بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وفي السابع من أكتوبر وهو اليوم الذي بدأ فيه الأميركيون قصف أفغانستان
اتخذ الجنرال مشرف خطوة قوية وجريئة بإقالة مدير الاستخبارات الباكستانية
الفريق محمود أحمد الذي يعد من مؤيدي طالبان، وعين مكانه شخصاً مقرباً منه هو
الفريق إحسان الحق.
لكن الكثير من المعلقين الباكستانيين يربطون عزل الجنرال محمود بمخالفته
لأوامر مشرف الذي أرسله بعد أحداث 11 سبتمبر إلى أفغانستان للتفاوض مع زعيم
حركة طالبان ملا محمد عمر، وإقناعه بتسليم بن لادن، وبدلاً من ذلك أخذ الجنرال
محمود بتحريض حركة طالبان على مقاومة أمريكا.
ومن هنا اعتبر قرار عزل الجنرال محمود بمثابة الخطوة الأولية لتدجين
المؤسسة.
وترى مصادر غربية أن التعاون بين المخابرات الباكستانية والأمريكية وإن
كان مجدياً في الفترة التي أعقبت الهجمات إلا أن عدداً من قادتها ما زالوا يحملون
ولاءات مزدوجة، وتقول هذه المصادر إن خمسة من كبار قادة المخابرات
الباكستانية مارسوا دوراً كبيراً في تسليح وتدريب وإعانة طالبان في تحضير
دفاعاتها ضد الهجمة الأمريكية في قندهار.
وقال مسؤول أميركي كبير متحدثاً عن الجنرال مشرف إنه يعرف أن هناك
خلايا من طالبان في الاستخبارات، ولديه قاعدة تتمثل في أنه سيزيح كل من كان
في الاستخبارات لفترة أربع أو خمس سنوات؛ لأن المرء لا يعرف أين هذه الخلايا.
وللمساعدة في عملية التطهير يقوم مسؤولون أميركيون باستجواب باكستانيين
سابقين؛ بهدف إعداد قائمة بأسماء ضباط استخبارات ومسؤولين آخرين في
الحكومة ممن لديهم مواقف مؤيدة للإسلاميين تجعلهم عرضة للاشتباه فيهم وفقاً لما
ذكره أشخاص قالوا إن تحقيقاً أجري معهم كجزء من هذه العملية.
وفي ضوء التغييرات التي حصلت على تنظيم دائرة العلاقات والأولويات؛
فالاتفاق الذي تم بين الأمريكيين والباكستانيين يقضي بقيام الأمريكيين بتقديم أجهزة
المراقبة والمساعدات المالية المغرية لمن يدلي بمعلومات؛ في الوقت الذي تقوم فيه
المخابرات الباكستانية بتقديم الرجال والمخبرين الذين يعرفون المناطق.
وحتى الآن أدى التعاون لحدوث عدد من الثمار الجيدة. ونالت المخابرات
الباكستانية رضى من المسؤولين الأمريكيين، ولكن هذا التعاون لم يصل إلى مداه
الأعلى نظراً للحساسيات الباكستانية تجاه تعاون مفتوح خاصة بعد قيام الأمريكيين
بعدد من العمليات المشتركة مع المخابرات الباكستانية في مناطق القبائل البشتونية
خاصة منطقة وزيرستان.
وفي حالة واحدة قامت المخابرات بالتخلي عن تعاونها حينما سمحت لأحد
المطلوبين المصريين بالهروب مع مجموعة من مؤيدي طالبان لممر خيبر، وإبعاده
عن أيدي المحققين المصريين الذين جاؤوا على وجه الخصوص للمدينة الحدودية
بيشاور لإلقاء القبض عليه، ويرى المصريون أن قرار المخابرات بالتغاضي عن
هروب أحمد خضر الذي يقال إنه يعرف كثيراً عن العلاقة بين المخابرات
الباكستانية وتنظيم القاعدة هو نوع من التعاون بين المخابرات الباكستانية وتنظيم
القاعدة.
ويقول ستيفن كوهين أحد الخبراء في مؤسسة بروكنجز: إن أي جهة لا
يمكنها أن تطور مثل هذه العلاقات (يقصد العلاقة بين طالبان والمخابرات
الباكستانية) على مدى عشر أو خمس عشرة سنة ثم تقطعها فجأة.
وكان يونس قانوني وزير الداخلية الأفغاني الحالي قد اتهم الوكالة علناً
بمساعدة بن لادن على الفرار من أفغانستان.
وقد نفت الحكومة الباكستانية هذه الاتهامات، وقال الجنرال غول: إن الآي
إس آي التي يقال إنها دعمت ومولت طالبان بدعم من الولايات المتحدة لم تكن
متورطة بقوة في أفغانستان إلا خلال حقبة الاحتلال السوفييتي.
ويقول غول: من الخطأ الاعتقاد بأن الوكالة قد خلقت طالبان، فالحركة
ولدت تلقائياً وتلقت دعماً من الوكالة؛ لأن كل الشعب الأفغاني كان يرغب في نهاية
للاقتتال الداخلي بين الفصائل المختلفة.
المحور الثالث: حماية الرادع النووي الباكستاني: أوكلت الآي إس آي
لإحدى فروعها التي قامت بإنشائها بهدف وضع الإجراءات السرية بشأن التكنولوجيا
النووية من الخارج، وبالتبعية القيام بشراء وشحن الصواريخ وتكنولوجيا
الصواريخ من الصين وكوريا الشمالية، وقد ساهم هذا الفرع في مساعدة باكستان
في الوصول للتسليح النووي.
لذلك فقد تطورت الآي إس آي (ISI) التي أنشئت في البداية كوكالة لجمع
الاستخبارات الخارجية؛ لتصبح وكالة متميزة في الأعمال السرية، والاتفاقات
والتدابير الخفية الخاصة بالتكنولوجيا غير المعلنة.
ولا يقتصر دور الوكالة على مجرد الحصول على التكنولوجيا النووية؛ إنما
امتد ليشمل أيضاً الحفاظ على قوة باكستان النووية وحمايتها؛ حيث أفادت تقارير
صحفية أن الاستخبارات الباكستانية نجحت في إحباط خطة إسرائيلية كان يجري
التحضير لها، وتقضي بقصف المنشآت النووية في باكستان بواسطة طائرات
وقاذفات إسرائيلية كانت قد وصلت بالفعل إلى إحدى القواعد العسكرية الهندية،
وجرى طلاؤها بألوان سلاح الجو الهندى للتمويه.
وأضافت المصادر أن الرئيس الباكستاني استدعى سفيري الولايات المتحدة
الأمريكية والهند المعتمدين في باكستان، وجرى خلال الاجتماع عرض لتفاصيل
الخطة الإسرائيلية؛ حيث أبدى الرئيس مشرف استياء شديداً من هذا الموضوع،
وطلب من السفير الهندي نقل رسالة تحذير وإنذار لحكومته مفادها أن الحكومة
الباكستانية لن تقف مكتوفة الأيدي حيال ما يدبر ضدها من قِبَل إسرائيل والهند،
وأنها ستلجأ إلى الهجوم فوراً في حال تم تنفيذ هذا المخطط ضدها.
وطلب الرئيس الباكستاني أن يصار إلى سحب الطائرات الإسرائيلية فوراً
وإلا فعليّ وعلى أعدائي، وقد تم إلغاء العملية بعد الإنذار الباكستاني، وعادت
الطائرات الإسرائيلية إلى قواعدها في فلسطين المحتلة.(182/76)
المسلمون والعالم
نتائج الانتخابات التركية..
تفاؤل دون حد الإغراق
أمير سعيد
على أعتاب رمضان وبقيادة رجب أردوغان كان للمسلمين موعد مع النصر
في الجمهورية التركية، عندما فاز حزب العدالة والتنمية الإسلامي بأكثرية مقاعد
البرلمان التركي بحصوله على 363 مقعداً من أصل 550 مقعداً، متقاسماً بذلك
مقاعد البرلمان مع حزب الشعب اليساري الأتاتوركي الذي حاز المقاعد المتبقية،
وذلك في الانتخابات البرلمانية والبلدية التركية التي جرت يوم 3/11/2002م،
وصوت فيها أكثر من 27 مليون تركي لصالح الخيار الإسلامي.
قبل ما ينيف على عام تشكل حزب (العدالة والتنمية) بقيادة رجب الطيب
أردوغان (48 عاماً) ، إثر حل محكمة تركية لحزب (الفضيلة) الإسلامي الذي
انشطر إثر حله إلى حزبين:
- حزب (السعادة) بزعامة رجائي قوطان النائب السابق للزعيم الإسلامي
الشهير لحزب (الرفاه) المحظور نجم الدين أربكان، والذي يحظى بدعمه، ويمثل
التقليديين في الرفاه.
- وحزب (العدالة والتنمية) بزعامة الشاب أردوغان الذي يمثل جيل
الشباب الإصلاحي الذي يميل إلى التدرج في التغيير؛ مستفيداً من تجربة الرفاه
المؤلمة.
في هذا الوقت الذي تزامن مع أحداث 11 سبتمبر الصاعقة؛ كان عدد كبير
من المتابعين للحركات والتنظيمات والأحزاب الإسلامية يرون أن المرحلة القادمة
هي مرحلة انكماش وكمون صفوف التيار الإسلامي ونشطائه، وتدني سقوف
طموحات قياداته.
بيد أن الواقع كان مغايراً لجميع التكهنات، فبعد أكثر من عام فاز الإسلاميون
الذين ينتمون إلى كل من جماعة (الإخوان المسلمين) و (التيار السلفي)
البحريني بأكثر من ثلث مقاعد برلمان البحرين الجديد البالغ عدد مقاعده 40 مقعداً؛
ليشكلوا معاً أكبر كتلة في البرلمان البحريني، وفي السابع والعشرين من سبتمبر
الماضي تمكن إسلاميون ينتمون إلى حزب (العدالة والتنمية) المغربي من الفوز
بـ 42 مقعداً من أصل 325 مقعداً، علماً بأن الحزب لم يخض الانتخابات سوى
في 55 من أصل 91 دائرة (لئلا يصبح الحزب الأول) بحسب أمينه العام ليتجنب
الإطاحة به، كما أن الجماعة ذات الشعبية وهي: (التوحيد والإصلاح) والتي
تعتبر امتداداً لجماعة (العدل والإحسان) تقاطع الانتخابات منذ أمد بعيد لعدم
جدواها بنظرها.
وللمفارقة؛ فإن حزب (العدالة والتنمية) التركي قد حقق نجاحات مبهرة هو
أيضاً على الساحة السياسية التركية.
ومغايرة هذا الواقع لتحليلات المراقبين مرده - في أحد وجوهه - إلى أن
العاصفة الإمبريالية الأمريكية الجديدة قد نفضت الغبار - دونما قصد منها - عن
الهوية والعاطفة الإسلامية لدى شعوب المنطقة؛ مما جعل المندرس منها يظهر
ويتألق. غير أن هذا لم يكن السبب الأوحد وراء هذا الانتصار المبهر للعدالة
والتنمية؛ فثمة أسباب متعددة لذلك نستطيع الوقوف على معظمها لدى إجابتنا عن
هذا السؤال:
* لماذا فاز حزب العدالة والتنمية؟
تضافرت عدة عوامل داخلية وخارجية لتحقيق حزب (العدالة والتنمية) لهذه
النتيجة (66% من عدد مقاعد البرلمان) ، لعل أطرفها هو القانون الانتخابي نفسه،
هذا القانون الذي لم ينصف الإسلاميين في أي بقعة من العالم، والذي كثيراً ما تم
تفصيله للحؤول دون تحقيق الإسلاميين لانتصار بحجمهم الحقيقي، هذا القانون هذه
المرة هو الذي خدم (العدالة والتنمية) ، فعلى الرغم من عدم حصول الحزب سوى
على 34% من مجموع الأصوات الانتخابية فإنه تمكن من الإفادة من إخفاق 16
حزباً في الحصول على نسبة 10% فما فوق التي تؤهلها لدخول البرلمان في حصد
مقاعدهم باعتبار حزب (العدالة والتنمية) هو «الحزب الأول» ؛ ليصل مجموع
مقاعده في البرلمان كما تقدم إلى 363 مقعداً، وهي بالمناسبة أقل بأربع مقاعد فقط
من النسبة التي تمكنه من تعديل أو تغيير الدستور (الأتاتوركي) (367 مقعداً هم
عدد المقاعد اللازمة لذلك) .
ومن عجائب القدر أن الانشقاق الذي حدث داخل حزب (الفضيلة) قد حسبه
علمانيو تركيا موهناً بدرجة كبيرة لهدف الإسلاميين في تحقيق انتصار يلامس
انتصار حزب (الرفاه) بقيادة نجم الدين أربكان في عام 1995م؛ حيث حقق
يومها (الرفاه) ما نسبته 21.36% من مقاعد البرلمان، لكن الإسلاميين أظهروا
حنكة عظيمة عندما صوتت قواعدهم للحزب الأوفر حظاً؛ فلم يحدث أي تشتيت
لأصوات الإسلاميين، وربما تم ذلك بإيعاز من المخضرم أربكان الذي أدرك أن
قوطان زعيم (السعادة) الإسلامي لن يتمكن من استقطاب أصوات المؤيدين للتيار
الإصلاحي التجديدي، ومن ثم فمن الحكمة منع تشتيت أصوات المؤيدين للتيار
الإسلامي.
وهذا الظن العلماني لم يكن في محله، فما حسبوه لم يكن صحيحاً بدرجة
كبيرة؛ إذ وحّد الإسلاميون صفوفهم خلف أردوغان، وبذلك انطوى انتصاره على
نوع من المفاجأة لهم لم تكن متوقعة على هذا النحو.
* أسباب أخرى للفوز:
ولا شك أن هذين العاملين أعني القانون الانتخابي وترصيص صفوف
الإسلاميين خلف القائد الأوفر حظاً قد أسهما بصورة أو بأخرى في فوز الإسلاميين
بهذه النسبة العالية، إلا أن الأسباب الحقيقية لانتصار (العدالة والتنمية) والأكثر
وضوحاً تكمن في:
- شخصية رجب الطيب أردوغان زعيم الحزب الآسرة: يعزو كثير من
المحللين الأتراك قوة حزب (العدالة والتنمية) في جانب منها إلى قوة شخصية
زعيمه واستحواذها على قلوب الناس، ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك بالقول إن
الناخبين صوتوا لأردوغان قبل أن يصوتوا للعدالة والتنمية، فالرجل الذي ولد في
عام 1954م، ومارس رياضة كرة القدم لمدة 16 عاماً، واشتغل بالتجارة بدءاً من
بيع (السميط) والحلوى في مدرجات ملاعب كرة القدم، وتخرج من ثانوية الأئمة
والخطباء، وكلية علوم الاقتصاد والتجارة بجامعة مرمرة؛ هذا الرجل بدأ نشاطه
السياسي بتولي منصب رئيس حزب (السلامة الوطني) بزعامة نجم الدين أربكان
في إسطنبول وعمره 22 عاماً، ثم تولى نفس المنصب لحزب (الرفاه) في عام
1985م وعمره آنذاك ثلاثون عاماً.
والرجل أسر قلوب الملايين من سكان إسطنبول بحبه يوم تولى منصب عمدة
إسطنبول عام 1994م ولمدة أربع سنوات؛ إذ تمكن في زمن قصير من تحويل
ديون بلدية إسطنبول التي بلغت وقتها نحو ملياري دولار للبنوك إلى أرباح؛ محققاً
قيمة استثمارات تلامس سقف الـ 12 مليار دولار.
وسن أردوغان توزيع الإعانات المادية والعينية على الفقراء من الأهالي في
شهر رمضان، وساهم بنفسه في توزيعها ومراقبة توزيعها، وساهم أردوغان بشكل
فعال في حل مشكلة المياه المزمنة في منازل وأحياء إسطنبول، ونجح في توفير
أماكن كثيرة لبيع مياه الشرب بأسعار زهيدة في أحياء إسطنبول، ونجح كذلك في
ضخ المياه إلى كافة منازل المدينة.
ولم يستنكف الزعيم الكبير أن يلبس ملابس عمال البلدية، ويشاركهم أعمالهم
تشجيعاً لهم على المضي قدماً في مشروعه الطموح لنظافة المدينة، وتبنى مشروع
زرع مليون شجرة بأنحاء المدينة مما أسهم بدوره في تحويل إسطنبول لمدينة جميلة
تحوي متنفسات خضراء ومتنزهات متنوعة.
وقد سر كل مسلم وقتها أن الرجل إذ لم يتمكن من حظر بيوت الدعارة بشكل
قاطع في إسطنبول بسبب قوة القوانين العلمانية الجائرة وبطش العسكر؛ فإنه التف
على ذلك على نحو لا يخلو من ذكاء؛ حيث فتح العديد من مشاغل الحياكة ودور
التوبة التي استوعبت أعداداً كبيرة ممن يردن التوبة من عاهرات دور الدعارة
(القانونية) !
كل هذا جعل الرجل يأسر قلوب الناس ليس في إسطنبول وحدها وإنما في كل
ربوع تركيا المسلمة، وهو ما جعل قلوب العلمانيين المتحجرة تنفطر من الحنق
والغيظ عليه، فتربصوا به الدوائر، وما أن ألقى الرجل أثناء توليه منصبه في
إسطنبول أبياتاً من الشعر في مدينة (سعرت) التركية للشاعر محمد عاكف يقول
فيها: (المآذن حرابنا، والقباب خوذنا، والمساجد حصوننا، والمصلون جنودنا)
حتى أطلق عتاة العلمانية عقيرتهم مطالبين بمحاكمته، وهو ما تحقق على أيدي
قضاة الزور الذين قضوا عليه بعد محاكمة جائرة بالحبس لمدة عشرة أشهر بسبب
قراءة هذه الأبيات يتم ذلك في ظل الديمقراطية التركية العرجاء.
بيد أن الله أراد أن يبور كيد العلمانيين، وأن يأتيهم من حيث لا يحتسبون؛ إذ
أسهم سجن الرجل كثيراً في مضاعفة شعبيته، وكان يوم توديع الجماهير الغفيرة
التي احتشدت بعشرات الآلاف أمام منزله المتواضع، بحي البرهانية بإسطنبول،
إلى السجن يوماً عظيماً بلا شك، فالرجل قد صلى الجمعة بمسجد محمد الفاتح يوم
وقفة عرفات، ثم توجه ومن خلفه آلاف السيارات وعشرات الآلاف من المسلمين
الأتراك إلى السجن تتحشرج هذه الكلمات وهي تخرج من أفواههم: (لتقطع الأيدي
الممتدة لطيب، المآذن حرابنا، والقباب خوذنا..) ، وبكلمات حانية التفت
أردوغان إلى الموكب الباكي الذي يضم أكثر من 1500 سيارة، ويمتد لأكثر من
5.2 كيلو متراً قائلاً: (أستودعكم الله، هذه الأنشودة لن تنتهي هنا..، سأعمل
بجد داخل السجن، وأنتم اعملوا خارجه كل ما تستطيعونه..) ، ودخل الرجل
السجن وقضى فيه شهوراً أربعة، وعاد أكثر طموحاً وأكثر تصميماً، وعادت إليه
الجماهير أكثر لهفة واقتناعاً ببرنامجه الذي رأوه يضحي من أجله، وتزايدت
شعبيته إلى حد كبير، وتوقع الناس أن يصبح أردوغان رئيس حكومتهم الجديد،
وكان ذلك محتملاً جداً لو لم تكن هذه (السابقة) قد حالت دون دخوله البرلمان،
ومن ثم تولي رئاسة الوزراء (إلا أن يتم تعديل الدستور، وهو أمر غير واضح
حتى الآن) .
- الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أخفقت جميع الحكومات العلمانية الائتلافية
في حلها، بل ساهمت برعونتها في تفاقمها، فقد بلغت ديون تركيا أكثر من 200
مليار دولار، وتجاوزت نسبة البطالة حد الـ 20%، ولأن حزب (الرفاه) قد
نجح إلى حد كبير في تقليص العجز في ميزان المدفوعات التركي إبان حكمه،
ولأن أردوغان نفسه قد نجح اقتصادياً في إسطنبول؛ فإن أكثر من مليوني عاطل
عن العمل ورثتهم حكومة بولنت أجاويد وحدها، وغيرهم من المتضررين من
حماقة الحكومات السابقة يعولون كثيراً على حكومة (الإسلاميين الإصلاحيين
الديمقراطيين) ، لا سيما أن التيار الإصلاحي الإسلامي لم تصبه لوثة الفساد التي
أصابت معظم أطياف العمل السياسي والاقتصادي التركي، فلقد اختار أردوغان
أعضاء حزبه من الوجوه المعروفة بنظافة اليد، والابتعاد عن مواطن الفساد المالي
والخلقي.
- رغبة ملايين الأسر المسلمة في حل مشكلة الحجاب المزمنة في تركيا؛ إذ
تعد هذه القضية من الإشكاليات المهمة جداً التي يحرص العلمانيون على استمرارها
بإدمانهم إصدار القوانين المتوالية للحؤول دون عودة المرأة المسلمة لدينها وحجابها،
ولإدراكهم العميق أن هذه هي الطريقة الناجحة لتغييب هوية المسلمين والمسلمات
عبر تغريب الأسرة المسلمة التي تلعب الأم فيها الدور الأعظم في تنشئة الأجيال
المسلمة وتربيتها، فتراها لا تمل من إصدار القوانين المانعة للحجاب الشرعي بدءاً
من قانون (القيافة) عام 1934م الذي أصدره الهالك مصطفى كمال، إلى قانون
منع الحجاب في الجامعات التركية الذي أصدره الحكم العسكري عام 1981م، وهو
ما حاول تورجوت أوزال رئيس الوزراء قبل ترؤسه الدولة في عام 1983م أن
يمنعه، ثم أبطلته المحكمة الدستورية بعد ذلك، غير أنه لا زال يجري تطبيقه إلى
الآن؛ مما يضطر الآلاف من الطالبات المسلمات التركيات العفيفات للسفر إلى
آذربيجان والمجر والنمسا لاستئناف دراستهن الجامعية؛ برغم سعي الحكم
العلماني لرفض اعتماد شهاداتهن الجامعية! .. وانتهاءً بقضية النائبة البرلمانية
التركية المحجبة مروة قاوقجي عضوة حزب الرفاه المحظور، والتي حاول مجلس
الأمن القومي التركي أن يبطل عضويتها البرلمانية استناداً إلى قانون (القيافة) ،
لكنه أخفق أولاً بسبب كون مروة ليست من «موظفي الدولة» وإنما من «ممثلي
الشعب» ، ثم نجح بعد ذلك في إبطال عضويتها استناداً إلى جنسيتها الأمريكية!!
والجميع يدرك أن حزب (العدالة والتنمية) يضع هذه القضية في صدر
أولوياته في الحكم؛ فمعلوم أن رئيس الحزب ذاته قد اكتوى بنار منع الحجاب،
فلديه ابنتان درستا في الولايات المتحدة الأمريكية لتتمكنا من الاحتفاظ بحجابيهما!
وقد أعلن أردوغان فور انتصاره أن حزبه سيقترح إلغاء قرار منع ارتداء
الحجاب، مؤكداً «في هذا البلد الذي ألغى عقوبة الإعدام سيكون من المؤسف أن
نكون عاجزين عن إلغاء قرار يقيد حق التعليم، وهي مسألة تتعلق بالإيمان» .
- تطلع الأتراك إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي، فذاك حلم يراود الكثيرين
من أبناء الشعب التركي الذي نهب الفساد أمواله، ويريد أن يلحق بركب اقتصادي
مستقر، وحزب العدالة يعطي هذا الأمر أولوية كبيرة، وهو رفعه شعاراً له في
حملته الانتخابية، وبرغم أن هذه رؤية تثير تحفظات كبيرة لدى الإسلاميين، إلا
أن الحزب يحاول أن يوازن بين طموحاته وإمكاناته بنوع من الواقعية التي تضع
في اعتبارها انقلاب العسكر على رئيس الوزراء الإسلامي الأسبق نجم الدين أربكان
لدى تطلعه إلى شراكة «إسلامية» ؛ من خلال مشروعه في تنفيذ حلمه الاقتصادي
الطموح لما عرف باسم «دول الثماني الإسلامية» .
وإذا جاز لنا أن لا نأخذ الأمور بظواهرها، فربما قلنا إن أردوغان يريد أن
يضع العربة أمام الحصان الأوروبي، فقد يكون الرجل أراد أن يأتي رفض انضمام
تركيا إلى الاتحاد الأوروبي من الأوروبيين أنفسهم، أو أن تنجح حكومة
«إسلامية» فيما لم تفلح فيه الحكومات العلمانية..!
- رفض الأتراك لأن يعاملهم العسكر كفئران تجارب، تتبدل عليهم الحكومات
من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتطبق عليهم جميع النظريات المختلفة للحكم
من دون أن يؤدي ذلك إلى حلحلة معضلاتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية،
وتطلعهم إلى الخروج من حالة التصادم مع فطرتهم الإسلامية التي مهما شرقت بهم
الأحزاب أو غربت، فإنها أبداً لن تستطيع أن تقتلعها من نفوسهم.
- نجاح الحزب في تطبيق مبادئه التحررية على الداخل الحزبي أولاً، وتلك
من أهم عوامل النجاح، فتوافر الشفافية الداخلية، وحرية النقد والتقويم زادت من
رصيد الحزب داخلياً وخارجياً، ولا سيما وهو يؤكد على لسان قادته غير مرة أنه
يرفض التعصب لزعيم واحد حتى النهاية، ولعل هذا مما لا تلتفت إليه بعض
التيارات الإسلامية حين تريد أن يحدث الإصلاح في الخارج وحسب.
* أصداء هذا الفوز الكاسح:
كان لتحقيق حزب (العدالة والتنمية) الإسلامي الأغلبية المطلقة في البرلمان
أصداء واسعة النطاق على المستويات الإقليمية والدولية والشعبية.
فعلى الصعيد الأوروبي: استقبلت الدول الأوروبية ذلك برد فعل يتراوح بين
التخوف والترقب عبرت عنه كبريات الصحف الأوروبية بما يلي:
فقد أكدت صحيفة لوموند الفرنسية (اليسار - الوسط) على التحدي الكبير
الذي يشكله فوز حزب (العدالة والتنمية) بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وشددت على
أنه تقع على عاتق الحزب الإسلامي مسؤولية إظهار توافق الإسلام مع
الديموقراطية.
ورأى كاتب الافتتاحية في الصحيفة نفسها أن الرهان كبير بالنسبة للقيادة
العسكرية التركية التي سيكون عليها السماح لزعيم حزب (العدالة والتنمية) رجب
الطيب أردوغان بالحكم، مؤكدة في الوقت نفسه أن غالبية الأحزاب التقليدية
استبعدت عن الساحة السياسية التركية.
وأضافت لوموند أنه إذا عرف حزب (العدالة والتنمية) كيفية التكييف بين
الإسلام والحداثة؛ فإن ذلك سيشكل درساً للعالم العربي!!
ومن جهتها اعتبرت صحيفة ليبراسيون اليسارية الفرنسية أن تركيا ستصبح
مختبر «ديمقراطية إسلامية» ، وميداناً يشهد مبارزة شديدة المخاطر بين إسلاميين
أقوى أكثر من أي وقت مضى، والجيش حامي الدولة الجمهورية والعلمانية (لاحظ
نبرة التحريض) .
وخلصت ليبراسيون إلى القول بأنه على الأوروبيين التذكير (للطرفين) بأن
الديمقراطية والتسامح هما الشرطان اللازمان لانضمامهم المحتمل (الأتراك) إلى
الاتحاد الأوروبي.
وفي ألمانيا حيث يعيش أكثر من 2.5 مليون تركي كتبت صحيفة فايننشال
تايمز دوتشلاند الليبرالية أنه يصعب على أوروبا التصديق بأنه يمكن التوفيق بين
الديمقراطية والإسلام. لكن على الاتحاد الأوروبي الأخذ بإعلان المبادئ المؤيد
للديمقراطية، والاستمرار في الحكم على تركيا من خلال تطبيق إصلاحاتها
القضائية والاقتصادية، وليس من خلال المعتقد الديني لمسؤوليها.
واعتبرت صحيفة فرانكفورتر راندشو اليسارية أنه إذا كانت جذور حزب
(العدالة والتنمية) غارقة في الإسلام السياسي ( ... ) فسنرى قريباً إذا ما كان أبدى
ليونة فقط خلال الانتخابات؛ لخداع الأتراك والوصول إلى السلطة، أو إذا كان
بوسعنا فعلاً تصديقه.
وكتبت الصحيفة أنه في مطلق الأحوال؛ فإن الناخبين الأتراك لم يعطوهم
بالتأكيد تفويضاً لإقامة حكومة إسلامية ( ... ) إن الجيش التركي حامي النظام
الدستوري العلماني وسيسهر على ذلك.
من جانبها اعتبرت صحيفة دي برس النمساوية أن تركيا قد تكون وجدت،
بعد سنوات من النضال، نموذجاً يوفق بين إرث كمال أتاتورك (مؤسس
الجمهورية العلمانية) وتقليدها الإسلامي. فيما طالبت صحيفة كورييرا ديلا سيرا
الإيطالية الواسعة الانتشار (وسط - يمين) بأدلة وأدلة إضافية من أجل الوصول
إلى تجاوب الاتحاد الأوروبي مع طموحات تركيا.
وتحت عنوان (نحو إسلام يتوافق مع أوروبا) أكدت صحيفة لوتان
السويسرية (وسط - يمين) أيضاً على التحدي الذي يواجهه الاتحاد الأوروبي،
وكتبت أنه سيكون على الدول الأعضاء الـ 15 التي كانت تخشى هذا الفوز
«الإسلامي» في أنقرة من الآن وصاعداً إدخالهم في نقاشاتها حول كيفية جعل
تركيا أوروبية.
وكتبت الصحيفة السويسرية بالنسبة لأوروبا؛ التحدي يكمن في الوصول
أخيراً إلى الاعتراف ببعدها المسلم، وهو ما عجزت عنه فعلياً في البلقان، من
البوسنة إلى ألبانيا.
أما صحيفة لاستامبا الإيطالية (وسط - يمين) فكانت أكثر تشاؤماً؛ معتبرة
أن المخططات الأميركية لشن حرب ضد العراق ستتعقد، وأن انضمام تركيا إلى
الاتحاد الأوروبي سيتباعد أكثر، وأن الاستقرار المحلي والإقليمي سيترنح. من
جهتها دعت صحيفة لافانجارديا الإسبانية الاتحاد الأوروبي إلى أن يكون سخياً،
وأن يحرك بقناعة عملية انضمام تركيا، وأن يقضي بشكل نهائي على النزعة نحو
تحويل أوروبا إلى ناد مسيحي. واعتبر كاتب الافتتاحية في صحيفة لا ليبر بلجيك
البلجيكية أن الكثيرين يرون في ترشيح تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تهديداً،
إلا أن يفترض بدلاً من ذلك التساؤل: كيف يمكن أن نستفيد من ذلك؟
وفي بولندا أكدت صحيفة ريشبوسبوليتا أنه على رئيس حزب (العدالة
والتنمية) طيب رجب أردوغان أن يثبت الآن أن تعبير «إسلامي» لا يعني
بالضرورة «خطراً» ؛ لا بالنسبة للأتراك ولا بالنسبة للغرب.
ويعتقد فولكر برتس مدير قسم الشرق الأوسط في «المعهد الألماني للدراسات
الدولية» ، أن المستقبل سيكون لصالح إسلام سياسي معتدل، وهو رأي ربما تؤكده
التطورات المتسارعة، والتي تشير إلى بدء بروز نخب إسلامية ليبرالية جديدة
تدعو إلى التصالح مع الغرب في الخارج، وإلى التصالح مع الديمقراطية في
الداخل.
وعلى الصعيد الأمريكي: رحبت الولايات المتحدة بنتائج الانتخابات
باعتبارها داعمة للنظام الديمقراطي في تركيا، غير أنه ليس من الطبيعي النظر إلى
الموقف الأمريكي بنوع من السطحية، فثمة رأي حصيف ردده أحد المحللين العرب
ألحق الترحيب الأمريكي بنظام شرق أوسطي جديد تريد الولايات المتحدة له أن
يكون تابعاً لها قلباً وقالباً؛ متدثراً برعاية الولايات المتحدة لترسيخ القيم الديمقراطية
الحرة، مما يجعل الأنظمة والشعوب الشرق أوسطية في ظل المنظومة الجديدة
مدينة للولايات المتحدة في رعايتها لـ (الانقلابات الديمقراطية) الجديدة التي
(بشر) بها كولين باول بإعلانه عن مشروع جديد للشرق الأوسط (تأجل الحديث
عنه بعدما كان مقرراً إماطة اللثام عنه أوائل نوفمبر الماضي) .
وقد عبرت عن ذلك بعض الصحف الأمريكية، فنقرأ في «واشنطن
بوست» : «برغم أن أردوغان قد يخفق في الداخل التركي، إلا أنه قد ينجح
في خلق نموذج لممارسة سياسية ديمقراطية يحتاجها بإلحاح العالم الإسلامي» .
وتقول «نيويورك تايمز» : «التجربة التركية الإسلامية الجديدة قد تُثبِتُ
للعالم الإسلامي، وللعالم أيضاً، أن العلمانية يمكن أن تكون حقاً ليبرالية، وأن
الديمقراطية يمكن أن تترعرع في بيئة إسلامية» .
وتُقرّ «لوس أنجليس تايمز» : «هذه المرة الأولى التي تبرز فيها فرصة
زواج بين الإسلام والديمقراطية الليبرالية» .
وعلى الصعيد العسكري: عبر الجيش التركي على لسان رئيس أركانه حلمي
أوزكاك عن احترامه لإرادة الناخبين؛ بيد أن معظم المراقبين يتوقعون من العسكر
رقابة صارمة جداً تحول دون تنفيذ الإسلاميين لمعظم طموحاتهم؛ من دون تدخل
انقلابي مباشر قد يقضي على آمال تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ونعتبر أن الكرة قد ألقيت في ملعب العسكر الآن، بالنظر إلى المرونة العالية
التي يبديها الحزب الفائز حيال معظم القضايا محل الخلاف مع العسكر.
وعلى الصعيد الإسلامي: وأعني هنا الإسلاميين في العالم العربي خصوصاً:
استقبل معظم الإسلاميين فوز العدالة بنوع من الارتياح: لكن هذا الارتياح لا يعني
بالضرورة الرضا عن رؤية العدالة، ولذا كان طبيعياً أن ينقسم الرأي حول فوز
العدالة:
- ففريق رأى في منهجية العدالة نوعاً من التدرج المحمود في تنازلاته،
وأنها ضرورية لتحقيق مكاسب مهمة للمسلمين الأتراك، فالحزب لم يخض
الانتخابات ليقدم مشروعاً لتطبيق الشريعة في تركيا، بل ليحد من غلواء العلمانية،
وليترك لمن بعده بيئة صالحة للبناء عليها في إطار من تبني مشروع يطلق الحريات،
ويحافظ على حقوق الإنسان (المسلم) ، ويحد من مخاوف العسكر.. إلى غير
ذلك. وهذا الفريق يرى ضرورة التفريق بين بلد وآخر، فبلد يقذف بناته لدول
الشرق والغرب بدلاً من السماح لهن بوضع «غطاء للرأس» يحتاج لتدرج بطيء
يحقق مكتسبات مرحلية.
- وفريق تحفظ.
- وفريق ساءته تصريحات قادة العدالة ومنهجه؛ معتبراً أن كل مكتسبات
الدنيا لا تسوِّغ لحزب «إسلامي» أن يصم نفسه بأنه حزب «علماني» ، وقد
يرى أصحاب هذا الفريق أن العبرة ليست بوصول «أجساد» الإسلاميين إلى
البرلمان، وإنما العبرة بهيمنة «منهجهم الشرعي» عليه.
ولعل من نافلة القول التأكيد على أن كل فريق من هؤلاء تتوافر له من الحجج
ما يدعم رؤيته، لكن هذه الحجج لا تجعل «اجتهاده» بالضرورة أمراً توقيفياً لا
يجوز الحياد عنه.
* مستقبل الحزب وما سيواجه من تحديات:
يتوقع أن يحرص الحزب على التفرغ للقضايا الاقتصادية والاجتماعية
الداخلية، وأن يصب فيها جل مجهوداته؛ فمن المنتظر أن ينزع أردوغان إلى
إصدار قرارات وسن قوانين تطلق الحريات العامة، وتدعم الديمقراطية واحترام
حقوق الإنسان؛ متذرعاً بتحقيق شروط الاتحاد الأوروبي لانضمام تركيا إليه؛ بما
يعنيه ذلك من التحرك نحو حل قضية الحجاب، وإعادة الاعتبار للتعليم الديني،
وإطلاق أنشطة الجمعيات الأهلية الخيرية والاجتماعية (ودون ذلك عوائق كثيرة
بالطبع) .
وعلى الجانب الآخر يتوقع أن تحيل الحكومة الجديدة ملف العلاقات الخارجية
للعسكر منعاً للاصطدام معهم، ولا يبدو أن الإسلاميين سيكون بمقدورهم البت في
ملفات من ذوات الوزن الثقيل، كملف موقف تركيا من ضرب العراق، واستخدام
الولايات المتحدة لقاعدة «إنجيرليك» الجوية في قصف العراق؛ والذي اكتفى فيه
أردوغان بالتأكيد على «أننا خسرنا 40 مليار دولار في حرب الخليج الثانية.. لا
نريد أن نرى الدم والدموع» .
وملف الشراكة بين تركيا والكيان الصهيوني الذي اقتصر فيه كلام أردوغان
على إدانة ممارسات شارون، فيما أراد نائبه عبد الله جول أن يؤكد لمواطنيه
مسؤولية العسكر وحدهم عن هذه العلاقة غير الشرعية؛ حين أجاب على سؤال
حول الملف قائلاً: «سنسأل العسكر» !!
وبرغم هذين الموقفين «المرنين جداً» من العدالة إلا أن الولايات المتحدة
والكيان الصهيوني لا زالا متخوفين من «إرباك خطط الولايات المتحدة في
العراق» ، و «الشراكة التركية (الإسرائيلية) » بحسب أوساط صحفية
صهيونية.
وملف الأكراد الذي يتوقع المراقبون الأتراك أن يقتصر دور الحكومة الجديدة
فيه على منح الأكراد بعض الحقوق الثقافية فقط.
ويبقى أخيراً التحدي الداخلي لحزب (العدالة والتنمية) الذي يجسده ازدواجية
القيادة الحزبية بين القائد الذي عبر بالحزب نحو النصر، والذي تمنعه الدولة من
تولي رئاسة الوزراء، وبين رئيس الحكومة الفعلي.
* الآثار المحتملة لهذه الانتخابات على المنطقة العربية:
يعتبر أثر الانتخابات التركية وحده على المنطقة العربية متوسط الحدة، لكن
إذا أضيف إليه الآثار المترتبة على كل من انتخابات المغرب والبحرين، فيمكن
اعتبار آثارهم جميعاً جد مؤثرة، فمن أهم آثارها أنها في حال نجاح تلك التجارب
ستعد نموذجاً لنوع من «التعايش» بين الأنظمة العلمانية والإسلاميين.
ومن بين آثارها إثارة مخاوف أكثر الأنظمة من أنها ستكون مكشوفة أمام
شعوبها في رفضها لآلية تداول السلطة، ولا سيما أن الولايات المتحدة تريد إحداث
تغييرات وممارسة ضغوط معينة من خلال تبنيها لها في المنطقة العربية خصوصاً.
غير أن الزلزال المنتظر المترتب على هذه النتائج، فهو لدى الإسلاميين
ذاتهم: فمن جهة يتوقع أن ترجح هذه الانتخابات ومثيلاتها في حال عدم الانقلاب
على نتائجها كفة الإسلاميين الداعين لها، وإلى تبني منهجية المشاركة السياسية في
الحكم، وآلية تداول السلطة عبر صناديق الانتخابات.
ومن جهة أخرى، فربما يساهم فوز التيار الإصلاحي «الشبابي» التجديدي
بـ 34% من أصوات الناخبين الأتراك، في الوقت الذي لم يتمكن التيار الإسلامي
التقليدي الذي يمثله «الشيوخ (كبار السن) » سوى في تحقيق نسبة 2.5% فقط
من الأصوات، وهي ما لم تمكنه من دخول البرلمان التركي ربما يساهم ذلك في
توسيع الهوة بين تياري «الشباب» و «الشيوخ» في غير ما جماعة وتنظيم
وحزب إسلامي عربي، وربما يقوي ذلك حظوظ جيل الشباب في «التبشير»
بمنهج جديد أكثر واقعية وسياسية، ويطلق المزيد من «المراجعات» المنهجية
لتلك الجماعات.
نسأل الله أن يصلح شأن الشعب التركي العريق ليكون في نهضته والتزامه
قدوة لغيره.(182/84)
المسلمون والعالم
تداعيات المشهد العراقي
صورة من الداخل
محمد صادق أمين [*]
على مدى العقدين المنصرمين تتصدر أخبار العراق وتداعيات الأحداث الملمة
بهذا البلد نشرات الأخبار المحلية والدولية، واهتمامات صناع السياسة في العالم،
وأصحاب الفكر والتخطيط؛ لعظم الأحداث الجارية وأهميتها على هذه الساحة التي
خضبت بالدم القاني منذ ما يربو على ثلاثة عقود من الزمن، والتي أسهمت في
جملة من التغيرات على الساحة الدولية والإسلامية والعربية والخليجية، كان آخرها
وأهمها بروز النظام العالمي الجديد بعد أن قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً
لاستئصال شأفة الغزو العراقي للكويت، ومن ثم لتنفرد بقيادة نظام عالمي جديد
يقوم على الأحادية القطبية.
ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتُحوِّل البوصلة مؤقتاً باتجاه آخر،
ولدت من رحمه الحرب الأمريكية على الإرهاب؛ هذا الشعار المعلن الفضفاض
الذي حار في تعريفه ذوو الألباب، والذي لم يستثن أحداً على هذه المعمورة؛ فإما
أن تكون مع الإرهاب أو ضده؛ بحيث لا يوجد حياد في النظام القائم على الأحادية
القطبية. ثم ما لبثت البوصلة أن توجهت من جديد نحو العراق؛ هذا البلد الذي
تقرحت جراحه بسبب الحروب التي ما أن تنطفئ نارها في موضع حتى تشتعل في
آخر.
الحرب هذه المرة ليست ككل الحروب؛ فهي حرب المارد الأمريكي الثائر
بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر بكل جبروته وقوته العسكرية، والهدف
المعلن نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية التي وافق النظام العراقي على نزعها؛
بموجب وثيقة الاستسلام الموقعة في خيمة صفوان.
والهدف الحقيقي لهذه الحرب تدمير العراق كدولة تشكل محوراً مهماً للعالَمَيْن
العربي والإسلامي؛ في مواجهة التهديد الذي يمثله المشروع الصهيوني في بلاد
العرب والمسلمين، متزامناً ذلك كله مع وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم
في كل من أمريكا ودولة الكيان الصهيوني على حد سواء.
ولعل الحديث في هذا الباب تطول فصوله، وتتعدد سيناريوهاته لكثرة الأخبار
والتحليلات والأفكار المطروحة حول هذه القضية، إلا أن المُغيَّب عن الرأي العام
في القضية هو المشهد العراقي من الداخل، وحجم الأزمة وتداعياتها على الشعب
العراقي الخاسر الأول والأخير في كل هذه الحروب والأحداث والتداعيات،
والغائب الوحيد عن المشهد برمته بإرادة دولية ومحلية تتعمد إغفال معاناة شعب فَقَدَ
ما يربو على ثلاثة ملايين من شعبه خلال عقدين من الزمن قُدِّموا قرابين للحروب
التي خاضها النظام العراقي؛ دون أن يكون للشعب العراقي فيها ناقة ولا جمل!
ونحن سنحاول في هذه العجالة أن نسلط الضوء على الجزء المُغيَّب من
القضية برُمَّتها، وهو تأثير الأحداث المتلاحقة على المشهد العراقي من الداخل،
وما خَلَّفه من تأثيرات على حياة الشعب العراقي المسلم.
* بداية المعاناة:
كانت البداية مع انطلاق ثورة السابع عشر من تموز (يوليو) 1968م بقيادة
حزب البعث العراقي، والتي لم تلبث كثيراً حتى انقلبت الأجنحة الثورية على
بعضها، فحصل انقلاب في صفوف الانقلابيين؛ سجلت فصوله بالدماء في الثلاثين
من تموز من العام نفسه، وذهب أقوام وجاء غيرهم لتبدأ فصول جديدة لحكم يرفع
شعار الاشتراكية اليسارية التي كانت سائدة في تلك الحقبة، وبحسب النهج اليساري
قَبَضَ على مقدرات العراق بقبضة من الحديد والنار، وكُتمت الأنفاس في الصدور،
ومُلئت السجون والمقابر على حد سواء، وشرد الأحرار في أصقاع الأرض
المترامية، واستتب الأمر للثوريين اليساريين.
* الحرب مع إيران:
في نهاية السبعينيات تقدم رجل مغمور من الصفوف الخلفية لتنظيم حزب
البعث العراقي إلى الصفوف القيادية بسرعة عجيبة، وبين ليلة وضحاها أصبح
الرجل نائباً للرئيس العراقي أحمد حسن البكر الذي أطاح به فيما بعد في بداية
1979م؛ ليصبح رئيساً للجمهورية، ولتبدأ حقبة جديدة في تاريخ العراق دشنت
بإعدام جميع القياديين البارزين في حزب البعث الذين ساهموا في تفجير الثورة
ليخلو الطريق للقادم الجديد؛ ليقود البلاد إلى سلسلة من الحروب بدأت في 1980م
ولم تنته إلى هذه اللحظة؛ حيث تؤكد أدبيات النظام العراقي على أن (أم المعارك)
أي غزو الكويت وما أعقبها من مواجهات ما زالت مستمرة؛ فمع قيام الثورة
الإيرانية في نهاية السبعينيات شعر الغرب والولايات المتحدة بالخطر على مصالحهم
في المنطقة؛ فكان لا بد من تنفيس لهذا الخطر، فاشتعلت الحرب مع الجارة إيران
فكانت حرباً بالنيابة أنهكت اقتصاد البلدين، ودمرت حركة التنمية فيهما، بالإضافة
إلى الدمار الذي لحق بالبنى التحتية، والضحايا في الأرواح التي قدرت بحوالي
مليون شاب من الطرفين، ومثلهم من المعوقين، ومثلهم من الأسرى والمفقودين.
حين اندلعت الحرب مع إيران لم يكن قد مضى بعد على تأميم النفط العراقي من
الشركات الاحتكارية عشر سنوات، فلم تتح الفرصة للشعب العراقي كي يشعر
بمردودات العائدات النفطية، فجاءت الحرب لتبتلع كل واردات النفط العراقي زائداً
كل مدخرات العراق، مضافاً إلى ذلك عشرات مليارات الدولارات من الديون التي
لا تزال روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي تطالب العراق بما تبقى منها. ولم يسلم
الأشقاء من تبعات هذه الحرب التي أوقفت عجلة التطور في الخليج وعموم المنطقة
العربية. لقد كانت سنوات الحرب الثماني مع الجارة الإيرانية سنوات عجافاً على
الشعب العراقي؛ من حيث النقص في الأموال والأنفس والثمرات والأمن
والطمأنينة؛ فمطحنة الحرب أدخلت إلى كل بيت عراقي مأتماً؛ فما من بيت إلا
وخرج منه شاب أو اثنان أو ثلاثة أو أكثر، بعضهم عاد وبعضهم لم يعد، فتجد في
العراقيين من فقد ابناً أو أخاً أو أباً؛ وفيهم من فقد اثنين وثلاثة من أبنائه أو إخوانه.
أما الأسرى والمفقودون فلهم حكاية مأساوية أخرى؛ حيث وَدَّعَ عشرات آلاف
الشباب في المعتقلات شبابهم؛ بعد أن قضى بعضهم عشرة أعوام في الأسر،
والبعض لا يزال ينتظر الفرج رغم مرور أربعة عشر عاماً على بداية الحرب،
وقد عاد الكثير من الأسرى إلى العراق يعانون من الأمراض النفسية، والكثير منهم
لم يتمكن من التأقلم مع مستجدات الوضع العراقي، وما خلفته عملية غزو الكويت
من آثار اجتماعية ونفسية ومادية على المشهد العراقي، وحكايات الأسرى باتت
مشهورة في الوسط العراقي؛ حيث إن آلاف الأسرى عادوا بعد بضع سنين فوجدوا
زوجاتهم قد تزوجن؛ لأن الحكومة اعتبرتهم متوفين وأصدرت لهم شهادات وفاة،
والأقسى في هذه الحكايات قصص أولئك الذين عادوا ووجدوا إخوانهم قد تزوجوا
من زوجاتهم بناء على العرف الدارج لدى بعض العشائر العراقية، وهناك العديد
من الحكايات الغريبة في هذا الباب تكاد لا تجدها إلا في كتب الفقه القديمة التي
خاضت في هذه المسائل بناء على افتراضات فقهية.
* غزو الكويت:
في 8/8/1998م أعلن العراق وإيران إنهاء الحرب رسمياً بينهما، والتي
دارت رحاها على مدى ثماني سنوات، لم يكن بمقدور الشعب العراقي تصديق
حقيقة انتهاء الحرب حتى عاد أبناؤه من ساحتها؛ فالحرب تحولت إلى شبح يطارد
حياتهم بكل تفاصيلها اليومية، وعلى قرع طبولها نشأت أجيال عدة؛ فالجيل الذي
عاصر الحرب حين اندلاعها وهو في مرحلة الطفولة تحول إلى مرحلة الشباب
بفعل التقادم الزمني للحرب، وأفنت الحرب آلافاً منهم بعد وصولهم إلى سن التجنيد
وسوقهم إلى ساحات المعارك، والجيل الذي ولد مع ميلاد الحرب تفتحت مداركه
على أخبار الحرب، وتشبعت حواسه بأحاسيسها وتداعياتها، ولا ننسى أن مئات
الآلاف منهم جاؤوا إلى الحياة ووجدوا أنفسهم في عداد الأيتام بعد أن قضى آباؤهم
في الحرب؛ لأجل ذلك لم يكن الناس ليصدقوا أن الحرب انتهت لولا أن عاد
أبناؤهم منها.
والحقيقة التي لم يكن يدركها الناس هي أن الحرب إنما توقفت لالتقاط الأنفاس
فقط ليس إلا، وقبل أن يتسع الوقت لإعمار ما دمرته الحرب من خراب على
الأرض، وفي الاقتصاد والتنمية، وفي الأنفس؛ دقت طبول الحرب من جديد هذه
المرة من حيث لم يكن أحد ليحتسب قط، ولا ليخطر على قلب مؤمن ولا عربي؛
فمن كان يظن أن العراق سيغزو الجارة الشقيقة الكويت التي وقفت مع العراق
والعراقيين في أحلك الظروف وأصعبها، وفي الأول من آب 8/1990م حلت
الكارثة هذه المرة ليس على العراقيين فقط بل على العرب والمسلمين، وعلى
القضية الفلسطينية، وعلى الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى مقدرات الأمة
والمنطقة بأكملها، وتساءل الأحرار في هذا العالم على اختلاف انتماءاتهم عن
مغزى وحقيقة وسبب هذا الغزو! فالحرب مع إيران يمكن أن يوجِد لها النظام
العراقي آلاف المسوغات والحجج لكن غزو الجار والشقيق والأخ لا يمكن أن يسوّغ
بحال من الأحوال؛ إذ أين المبادئ والشعارات التي صفقت لها الجماهير وهتفت لها
حتى بحت الأصوات وتقطعت الأيدي؟! لقد أعيدت سيرتها الأولى وألقيت في سلة
المهملات لتلحق بالمزابل التي قدمت منها؛ فما هي إلا شعارات كاذبة نظَّر لها
نصارى العرب والباطنيون من أمثال ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وشبلي
العيسمي وغيرهم؛ ليبعدوا هذه الأمة عن مصدر عزها وشموخها على مدى ثلاثة
عشر قرناً من عمر الزمان.
لم تفلح كل الوساطات ولا التدخلات الإسلامية والعربية في ثني النظام
العراقي عن خطوته هذه، فكانت الفرصة مواتية للقوى الخارجية التي لطالما سعت
لإقامة موطئ قدم لها في بلادنا، فصدر القرار الأممي القاضي بتحرير الكويت،
وتصدت الولايات المتحدة للأمر بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم بعد سقوط
الاتحاد السوفييتي، فشكلت حلفاً عالمياً لم يقنع النظام بأن العراق سيتحول إلى ركام
أمام القوة الهائلة التي يملكها، والتقنية العالية التي تمثل آخر ما تفتق عنه العقل
البشري في العصر الحديث؛ حيث كان لا بد من ساحة تجرب فيها تلك التقنيات
والقدرات؛ فكان العراق لها، ومن هنا بدأت فصول مأساة عراقية جديدة.
* تداعيات الغزو على المشهد العراقي:
لم يكن غزو الكويت نزهة كما تصور النظام؛ فهناك أطراف دولية تتربص
بالمنطقة وتبحث عن ذريعة للتدخل فيها بناء على مصالح استراتيجية لها، وهناك
من المحللين من يقول إن الغزو إنما جاء بضوء أخضر أمريكي، ويستدلون على
ذلك بالقول بأن ما دار بين السفيرة الأمريكية والرئيس العراقي لا يزال طي الكتمان،
بل إن السفيرة نفسها غُيبت عن الساحة ومنعت من الحديث لأي من وسائل
الإعلام، وهي الآن سفيرة للولايات المتحدة في مجاهل أفريقيا بعيداً عن الأضواء،
ثم إن الأطراف الإقليمية والعربية لا يمكن لها بحال من الأحوال أن ترضى بضم
الكويت إلى العراق، وليس لأي من هذه الأطراف القوة الكافية لمواجهة الجيش
العراقي الذي بات خبيراً في الحروب بسبب الخبرة التراكمية التي خلفتها حربه مع
إيران، من هنا كان لا بد من حلف دولي يتصدى لردع العراق، فكان الحلف
المعروف الذي لم يقنع جبروته النظام بأن العراق ومقدراته في خطر عظيم، ومع
بداية الغارات الجوية للتحالف على العراق بدأت الكارثة؛ إذ إن الغارات لم تكن
تستهدف مؤسسات عسكرية أو جيشاً نظامياً أو مؤسسات النظام ومؤسسات صنع
القرار فيه، بل استهدفت العراق كبلد والشعب العراقي كشعب؛ من خلال تدمير
البنى التحتية للبلد بكل تفاصيلها وأبعادها، وبما يضمن إعادة العراق إلى مصاف
الدول المتخلفة؛ فالغارات استهدفت الطرق والجسور، ومحطات توليد الكهرباء،
ومحطات تصفية المياه، ومراكز الاتصالات، والمنشآت والآبار، والمصافي
النفطية، ومراكز تخزين الحبوب والأغذية والأدوية، ومحطات الوقود، ومنشآت
الري، والمراكز الاقتصادية والزراعية، وهو ما تسبب في تدمير العراق خلال
بضعة أيام تدميراً كاملاً شاملاً، وقد شهد بذلك تقرير الأمم المتحدة الصادر عن
برنامج الأمم المتحدة الذي جاء فيه: (الغارات الجوية وما ألقت به من قذائف
وقنابل وصواريخ، قضت على بنية المنشآت العامة قضاء شبه كامل؛ بما شمل
مصانع توليد الكهرباء، وتأمين المياه، ومصافي النفط الخام، والمخازن النفطية،
بالإضافة إلى ستة آبار لاستخراج النفط، ولم يعد بالإمكان تشغيل مضخات الماء،
كما تسربت كميات كبيرة من المواد الكيميائية من المصانع المدمرة إلى المياه
السطحية والجوفية، وبات من المستحيل إصلاح تلك المصانع في السنوات التالية
بسبب حظر استيراد قطع الغيار اللازمة لذلك) ؛ وبهذا الاستعراض الأفقي لما
استهدفته الغارات الجوية؛ ندرك أن المستهدف كان العراق بوصفه مسلماً امتلك في
يوم من الأيام ناصية القوة التي يمكن أن تهدد مصالح الدول الكبرى وحلفائها في
المنطقة، وإلا فإن المنطق يقول إن استهداف النظام الذي اتخذ القرار بغزو الكويت
كان أيسر وأسهل على القنابل الذكية التي استهدفت مقدرات العراق!
ولمعرفة جانب من تأثيرات هذه الضربات على العراق يمكن أن نستدل
ببعض الأرقام:
كانت نسبة النمو في الاقتصاد العراقي قبل الضربات الأمريكية التي أعقبت
غزو الكويت تقدر بـ 13%، وهي نسبة تتجاوز النمو في دول النمور الآسيوية،
بل وتتجاوز نسبة النمو في الصين التي يوصف اقتصادها بالأسطوري، أما بعد
الحرب فإن النمو في العراق لم يتوقف فقط بل إن نسبة التضخم بلغت 1000%،
وكان الناتج الاجتماعي العام يقدر بـ (60) مليار دولار إلا أنه هبط بعد ذلك
بنسبة (63%) ، وهو يساوي الآن (13) مليار دولار فقط، وكان متوسط دخل
الفرد في العراق يقدر بـ (3200) دولار سنوياً، والآن يساوي (10 - 20)
دولار في الشهر الواحد.
لم يتوقف مخطط تدمير العراق عند حد سحق البنية التحتية للعراق بل تعداه
إلى تدمير الإنسان العراقي الذي يمكن أن يكون في المستقبل أداة لإعادة إعمار
العراق، وذلك من خلال فرض الحصار الاقتصادي عليه، والهدف المعلن للحصار
هو تعطيل النظام العراقي عن استهداف دول المنطقة والجوار، وعن تهديد الأمن
والسلم الدوليين؛ وذلك من خلال إضعافه وربما إسقاطه بحسب ما هو معلن، ولكن
المؤشرات على أرض الواقع تشير إلى أن المستهدف هو الإنسان العراقي الذي دفع
فاتورة الحروب كلها، أما النظام فيمكن إزالته بوسائل أخرى إذا ما توافرت الإرادة
لذلك.
ومسلسل استهداف الإنسان العراقي بدأ مع بداية تقهقر الجيش العراقي عند
ساعة الصفر؛ فالقيادة العراقية لم تصدر أوامرها بإطلاق النار على الجيوش
المتحالفة، بل كانت الأوامر هي الانسحاب من ساحة المعركة مع ساعة الصفر؛
ولذا فإن الانسحاب جاء عشوائياً وغير منظم، وبحسب ما تقتضيه أخلاقيات الحرب؛
فإن استهداف جيش مهزوم منسحب أمر غير مشروع إلا إذا كنت تريد أن
تستهدف عدوك لذاته، وهو ما لم يقره الأمريكان في حربهم ضد العراق؛ فهي
حرب لتحرير الكويت حسب ما هو معلن، لقد أعلن متفاخراً رئيس الأركان
الأمريكي (نورمان شفار تسكوبف) عن تمكن القوات الأمريكية من قتل
(100000) ألف جندي عراقي ليس في جبهة القتال، وإنما بعد أن حسمت
المعركة من بدايتها بانسحاب الجيش العراقي، وبعد أن ألقى الجنود العراقيون
سلاحهم ورجعوا في انسحاب غير منظم مشياً على الأقدام، على طريق البصرة
بغداد استهدفت الطائرات الأمريكية الجنود العزل.
ثم إن حجم ما ألقي من قنابل على العراق يعطيك تصوراً واضحاً عمن هو
المستهدف؛ فقد ألقي على العراق (88500) طن من القنابل، وهو ما يعادل
(4425) قنبلة نووية بقوة القنبلة التي ألقيت على هيروشيما؛ علماً أن منها ما
كان مغلفاً باليورانيوم المشع، وقد استخدم في تغليف القنابل لرفع كفاءتها التدميرية،
ولكي تتمكن من اختراق الجدران الإسمنتية المحصنة؛ حيث تقول التقارير
الدولية إن حجم ما ألقي منها على العراق بلغ (300000) ألف طن، وهو ما
يعادل عشرة أضعاف ما ألقته القوات الأمريكية والبريطانية في البلقان. لقد تسبب
اليورانيوم في قتل عدد كبير من الجنود الأوروبيين والأمريكان، والمرجح أن ألوف
الجنود الأمريكان مصابون نتيجة لذلك؛ حيث منعت وزارة الدفاع الأمريكية إجراء
تحقيق في الموضوع لكشف ملابساته، هذا بالنسبة لمن تعاملوا مع القنابل؛ فما
ظنك بمن ألقيت عليهم هذه القنابل؟! ذكر تقرير وزارة الصحة العراقية بتاريخ
2/8/2002م أن هناك ما يقارب من (719 - 1.261) طفل ماتوا ما بين
عامي 1990 - 1999م، ويعد السبب الرئيس للوفاة تحت سن الخامسة هو
(أمراض الجهاز التنفسي، الإسهال، القرحات، التهاب الأمعاء، سوء التغذية) ،
أما الأطفال فوق الخامسة (أمراض القلب، ضغط الدم، السكري، أمراض
الجهاز البولي، الكبد، الأورام السرطانية) ، ويصل تعداد الأطفال من
الوفيات (5000 - 6000) شهرياً، وقد ازدادت حالات اللوكيميا بنسبة 35%،
وارتفعت نسبة أمراض السرطان بعشرة أضعاف عما كان عليه الحال عام 1989م،
وتشير تقديرات دولية أن نسبة 44% من السكان يمكن أن يصابوا بالسرطان بعد
عشر سنوات، وأصابع الاتهام تشير إلى اليورانيوم المشع؛ حسب ما ذكر
موقع (الأجندة الخفية) على الإنترنت لجون بيجلار.
إن اغتيال الإنسان العراقي لا يتوقف عند قتله مادياً فقط، بل يتعداه إلى القتل
المعنوي؛ وذلك من خلال وقف كل ما من شأنه أن يساهم في تطور مستقبل الجيل
القادم وتقدمه؛ فالحصار لا يقف عند حد الدواء والغذاء للجسد، بل يتعداه إلى حظر
استيراد ما يحتاج إليه قطاع التعليم العراقي (المدرسي، والمهني، والجامعي) ،
وهذا القطاع قد وصل إلى مرحلة خطيرة من الانهيار التام؛ خصوصاً مع هجرة
العقول العراقية تحت وطأة الضغط الاقتصادي والسياسي معاً؛ حيث بلغ عدد
الهاربين من العراق ثلاثة ملايين مهاجر، بل إن كل المشاريع التي أطلق عليها
إنسانية لم تتجاوز هذه المعضلة الخطيرة، وهو ما يجعلنا نجزم أن المستهدف هو
القتل المعنوي حاضراً ومستقبلاً للإنسان العراقي.
* العراق وآفاق المستقبل:
لم يكتف منظرو الحرب ومخططوها التي تستهدف العراق بتدمير الاقتصاد
والبنى التحتية للعراق، ولا باستهداف قتل الإنسان العراقي جسدياً ومعنوياً، بل
تعدوا ذلك إلى استهداف مستقبل العراق والقضاء على هذا المستقبل وتكبيله بأغلال
من حديد. ربما يتصور البعض وخصوصاً المعارضين من العراقيين الذين
يتعاملون مع أمريكا أن تغيير النظام في العراق هو بصيص الضوء في النفق
العراقي المظلم؛ والواقع ومعطياته لا يبشران بذلك ولا يوحيان به؛ فكرزاي
عراقي لن يغير شيئاً في النهج والبعد الاستراتيجي لاستهداف العراق من قبل
الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل؛ إذ إن المستهدف هو العراق نفسه كما أسلفت،
وكرزاي العراق سيكون دوره البكاء والنواح على أنقاض ما تبقى من العراق؛ مع
الكثير من التوسلات والتنازلات لاستجلاب المساعدات التي يفترض أنها ستعمر
العراق بعد الخراب الذي ستخلفه الضربة المرتقبة، والتي ستعقب عودة المفتشين
إلى العراق بحسب قرار مجلس الأمن الجديد، وهناك من يقول إن العراق بلد نفطي
وبلد فيه الكثير من الثروات لن يكون حاله كحال أفغانستان، والحقيقة أن المنظِّر
لهذه الحرب لم يغفل هذه الحقيقة وهو يخطط لاستهداف العراق؛ فالعراق الذي
سيقوده كرزاي قادم مرتهن مستقبله على مدى نصف قرن قادم بحسب الأرقام التالية:
في حال ضرب العراق وتغيير النظام فيه حسب ما تشير إليه الأحداث
والتصريحات الأمريكية؛ فإن على النظام الجديد للولايات المتحدة أعباء مادية لا
تتوقف عند إعمار ما دمرته آلة الحرب الأمريكية خلال عدوانها المتكرر على
العراق في 1991م و 1996م و 1998م، والغارات اليومية المتكررة على
المنشآت العراقية، وما ستخلفه الحرب المرتقبة القادمة من دمار وآثار، والتي
عنوانها (تغيير النظام) بل تتعداه إلى التزامات مادية بأرقام خيالية أولها دفع
فاتورة الحرب الجديدة التي ستصل إلى عدة مليارات من الدولارات، ثم تسخر
عائدات العراق لدفع ما يسمى بالتعويضات؛ وتقدر بـ (100) مليار دولار، ثم
دفع ديون العراق الخارجية مع فوائدها الربوية وتقدر بـ (140) مليار دولار،
هذه الأرقام الخيالية لا تحتاج إلى تعليق إطلاقاً؛ فهي ترسم صورة لمستقبل عراقي
يقول الرئيس الأمريكي إنه سيشن الحرب من أجل تحريره!!
* الوضع الإنساني في العراق:
هذه أرقام تتكلم بنفسها عن نفسها:
1 - كان العراق ينفق قبل الحصار (550) مليون دولار على الرعاية
الصحية، أما الآن فإجمالي ما توفره مذكرة النفط مقابل الغذاء هو (26) مليون
دولار سنوياً.
2 - مرض سوء التغذية يصيب واحداً من كل أربعة أطفال في العراق تحت
سن خمس سنوات، كما أن 90% من مواليد 1990م أقل من الوزن الطبيعي،
ويشير تقرير المنظمة العالمية للصحة أن عدد الأطفال العراقيين المصابين بنقص
الوزن نتيجة نقص الأغذية والأدوية تجاوز (800000) ألف طفل، وهذا الرقم
يعادل (7%) من نسبة الأطفال في كل العالم منهم (162000) يعانون من نقص
شديد في البروتينات والفيتامينات، و (24000) ألف منهم وصلوا إلى مرحلة
الضمور الكامل!
3 - ازدادت نسبة وفيات الأطفال بسبب الإصابة بمرض (اليرقان) بنسبة
(45%) ، وأصبحت الوفيات تشكل نسبة 100%، تقرير اليونسيف يشير إلى أن
المنظمة أجرت دراسة شملت (188) دولة في العالم حول نسبة تسارع ارتفاع
الوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة؛ خلال الفترة من 1990 - 2000م؛
فاحتل أطفال العراق المرتبة الدنيا الأخيرة من القائمة.
4 - ارتفعت نسبة الإصابات المرضية بشكل عام بين الأطفال دون سن
خمس سنوات من (37) إلى (254) في كل ألف خلال السنوات الماضية.
5 - نسبة الوفيات في المستشفيات لعدم توفر العلاج والمعدات الطبية بين
البالغين تعادل (30%) ، وبين الأطفال (70%) .
6 - بلغ عدد الوفيات بين الأطفال (500000) ألف طفل،
و (1000000) بين البالغين.
7 - خلال الفترة من 1997 - 2002م طلب العراق استيراد أغذية وأدوية
ومعدات طبية بقيمة (35) مليار دولار، وصل منها فعلياً (23) مليار فقط،
ورُفضت طلبات قيمتها (5) مليارات دولار.
8 - عائدات العراق من النفط للفترة من 1997 - 2002م بلغت (52)
مليار دولار، ذهب منها (25%) للتعويضات؛ فبقي (39) مليار دولار، ثم
تولت الأمم المتحدة حصة كردستان العراق بنسبة (15%) ؛ فبقي (31) مليار
دولار، وحصلت الهيئة الدولية على نسبة (3%) نفقات موظفيها وإداراتها؛ فبقي
(30) مليار في المحصلة النهائية، وهذا المبلغ يساوي 120 دولار في السنة
للفرد؛ أي (22) سِنْتاً في اليوم، وهو ما يعادل نسبة (22%) مما تعده الأمم
المتحدة الحد القاتل من مستويات الفقر والجوع، والمقدر بـ (1) دولار، وهو
مقياس للمجاعات والكوارث التي تحصل في إفريقيا.
* خاتمة:
إن المتابع للمشهد العراقي بأرقامه وإحصائياته وتفاصيله الكاملة يدرك أن
العراق إنما هو بلد وضع تحت سلاح جديد من أسلحة الدمار الشامل هو (العقوبات
الاقتصادية) ، وأن النظام العراقي الذي قاد البلد إلى هذه النهاية والخاتمة المأساوية
إنما كان شماعة لتنفيذ سيناريو معد سلفاً في إطار الغارة التي تشن على العالم
الإسلامي، كما أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت شماعة لإخراج الحرب
على الإسلام من ديوان السر إلى ديوان العلن، وأن الحرب القادمة على العراق
بذريعة تغيير النظام إنما هي حلقة في مسلسل (سايكس بيكو) جديدة لتغيير خريطة
المنطقة؛ بما يتوافق مع المصالح الأمريكية الاستراتيجية والإيديولوجية التي تتبنى
دعم قيام دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات كشرط أساسي لقدوم المسيح المخلص
الذي ينتظره النصارى للنزول في آخر الزمان، وهذه العقيدة يؤمن بها 70% من
الشعب الأمريكي، وهم من يدعمون إسرائيل في هذه المرحلة.
__________
(*) باحث عراقي - كردستان.(182/90)
المسلمون والعالم
أصابت من حيث أخطأت
ماجد الحمد الماجد
لي أمٌّ.. مثلها مثل كثير من أمهات المسلمين.. أَمَضَّ فؤادها، وأجرى
مدامعها ما تراه من ذلة المسلمين وهوانهم على الناس، وتسلط أهل الكفر والنفاق
عليهم بالتقتيل والتشريد وسَوْمهم المسلمين سوء العذاب، فلنا في كل قُطْر دم زكي
مراق لا بواكي له، وهي لا تملك حيال هذا الواقع المأزوم إلا أن ترفع كفيها
بتضرع وإلحاح؛ تسأل رباً كريماً أن ينصر المسلمين على أعدائهم عبَّاد الصليب
وإخوان القردة والخنازير.. هذا غاية ما تستطيع.
فهي لم تألف الذل وإن طال الزمان به، وما استكانت لقتامة الوضع وإن يئس
الكثير من انقشاعها؛ لذا فهي توقن يقيناً لا يخالطه شك أن النصر في النهاية
للإسلام وأهله؛ وإن حاول الطواغيت وعبيد الطواغيت أن يحولوا بين الأمة وبين
موعود الله لها؛ بتمكينها في الأرض، وضرب الذلة والصغار على من ناوأها.
فكانت تتسقط أخبار المسلمين في كل مكان علَّها تسمع خبراً يُفرحها؛ يكون
سلوى لنفسها المكلومة؛ بيد أنها ما كانت تعرف السياسة الدولية وما يجري في
دهاليزها المظلمة، ولا ما يدور في أروقة مجلس الأمن، ولكن ثمة سياسة واحدة
عَرَفَتْها، استقتها من كتاب ربها: أنها لا يمكن بحال أن تحب مَنْ غَضِبَ الله عليه
ولعنه، ولا أن توالي مَنْ ضل عن الطريق المستقيم، فإذا نزلت قارعة بقوم كان
إسلامهم الفيصل بين أن تبتسم أو تبكي عليهم.
رَأَتْ مرة جلسة مفاوضات بين اليهود والعرب، تأملَتْ في وجوه الجالسين
خلف طاولة المفاوضات فهالها ما رأت!! نظرت ذات اليمين فما عرفَتْهم، فنظرَتْ
ذات الشمال فأنكرَتْهم، فأرجعَتْ بصرها تتأمل في ملبسهم علَّها تهتدي بسببه إلى
التفريق بينهم؛ فوجدَتْه زياً واحداً لا أثر للعروبة فيه، ثم أرجعَتْ بصرها كرة
أخرى تبحث في وجوههم عن شعيرة من شعائر الإسلام فما وجدَتْها، فانقلب
بصرها حسيراً كسيراً، عندها اغرورقت عيناها بالدموع، فصرخت تسألني: أيهم
اليهود؟ .. إي والله! أيهم اليهود؟!
أمَّاه.. أولئك الشامخون بأنوفهم، الباسطو أيديهم.. يسألون ما لا يستحقون،
ويقولون فيفعلون، ويفعلون أكثر مما يقولون، وإن هددوا أوفوا وأجزلوا الوفاء..
هم اليهود.. إخوان القردة والخنازير.
أما المطأطئو رؤوسهم ذلة وانكساراً، الباسطو أيديهم.. يعطون ما لا يملكون،
ويقولون ما لا يفعلون، ويفعلون غير ما يقولون، يهددون فلا يوفون.. أولئك هم
العرب المسالمون.
ومن عجيب أمرها أطال الله عمرها في طاعته أنها لا تفرق بين «الأمم
المتحدة» و «الولايات المتحدة» ؛ فهما سيّان عندها؛ تحسبهما شيئاً واحداً، فإذا
سمعَتْ مثلاً أن «الأمم المتحدة» أرسلت قوة حفظ سلام حسبَتْها قوة أمريكية،
فكنتُ أضحك في نفسي من جهلها بالفرق بينهما، وألتمس لها عذراً بتشابه الاسمين،
لكن رجعت إلى نفسي أتأمل كلامها فما وجدت كبير فرق بينهما؛ فهما إن اجتمعا
افترقا، وإن افترقا اجتمعا؛ فما تقرره «الولايات المتحدة» تنفذه «الأمم
المتحدة» ، ولا يمكن أن يتخيل فضلاً عن أن يتصور حدوثه أن تقرر «الأمم
المتحدة» خلاف ما تريد «الولايات المتحدة» ، عندها علمتُ أنها أصابتْ من
حيث أخطأتُ في عدم التفريق بينهما.(182/95)
المسلمون والعالم
لماذا اختارت موريتانيا التطبيع؟!
يحيى أبو زكريا [*]
عندما لجأت موريتانيا إلى تطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية، وفتحت سفارة
لتل أبيب في عاصمتها نواكشوط لم تقدم للرأي العام الموريتاني والعربي على
السواء المسوغات الموضوعية التي دعتها إلى اتخاذ هذه الخطوة التي اعتبرت بأنها
تشكّل خرقاً لمواثيق الجامعة العربية القاضية بوقف التطبيع بكل أشكاله مع الدولة
العبرية ريثما يتجلى ما سوف تكون عليه المفاوضات النهائية.
وجاء الإعلان عن إقامة علاقات موريتانية - إسرائيلية بعد لقاءات سرية هنا
وهناك أفضت دون علم الموريتانيين إلى عرس التطبيع في واشنطن بحضور ممثلي
الديبلوماسية من كلا البلدين.
والواقع أنّ موريتانيا لجأت إلى التطبيع لأسباب كثيرة منها أن موريتانيا كانت
على الدوام تشعر أنّها مهددة من قِبَل الجزائر والمغرب.
ومعروف أنّ موريتانيا تحدّها من الشمال الشرقي الجزائر، ومن الشمال
الغربي المغرب؛ فالجزائر في عهد هواري بومدين سبق لها أن أطاحت بنظام
مختار ولد داده في نواكشوط بسبب وقوف هذا الأخير إلى جانب المغرب في قضية
الصحراء الغربية التي كانت تدعمها الجزائر، كما أن المغرب كانت ترفض جملة
وتفصيلاً قيام الكيان الموريتاني.
وكانت الرباط تعتبر أنّ موريتانيا كيان مختلق وهي في الواقع امتداد للأرض
المغربية شأنها شأن الصحراء الغربية. وعندما منحت فرنسا الاستقلال لموريتانيا
في 28/11/1960م كانت المغرب تنظر بعين الريبة إلى هذه المناورة الاستعمارية
الجديدة، إضافة إلى أن جمال عبد الناصر في مصر كان لا يعترف باستقلال
موريتانيا التي كان يعتبرها أرضاً مغربية؛ وهو الأمر الذي خلق عقدة موريتانية
رسمية تجاه الفكرة القومية العربية التي كان يتبناها جمال عبد الناصر.
وعندما نعود إلى بدايات تشكل الكيان الموريتاني نكتشف أنّ فرنسا ساهمت
بالدرجة الأولى في إقامة الدولة الموريتانية الحديثة، ولما كانت موريتانيا ترزح
تحت السيطرة الفرنسية أصدرت باريس قراراً يقضي بأن موريتانيا يحق لها ترشيح
نائب واحد يمثلها في البرلمان الفرنسي، وسمح هذا المناخ السياسي بتأسيس أحزاب
في موريتانيا ومنها الاتحاد التقدمي الموريتاني بقيادة مختار ولد داده وحزب الوفاق
الموريتاني بزعامة خورما ولد بابانه، وقيل في موريتانيا إنّه كان عميلاً للسلطات
الفرنسية، وأسس حزبه للتصدي لعلماء الدين وشيوخ الإصلاح.
وفي سنة 1956م أخذت فرنسا تفكر في إدارة مستعمراتها في الشمال الإفريقي
بطريقة مغايرة حتى تتمكن من التصدي للثورة الجزائرية التي كانت ملتهبة في ذلك
الوقت، وبناء عليه أنشأت فرنسا مجلساً حكومياً في موريتانيا رئيسه فرنسي ونائب
الرئيس موريتاني، وقد اختار الفرنسيون مختار ولد داده لمنصب نائب الرئيس،
وعندما قرر الفرنسيون منح الاستقلال لموريتانيا دعموا وصول مختار ولد داده الذي
أصبح رئيساً لجمهورية موريتانيا، وقد أقرّ الدستور الموريتاني أنّ اللغة العربية
والفرنسية هما لغتان رسميتان في موريتانيا، وقد ساهمت البنية الفرانكفونية للنظام
الموريتاني في دفع نواكشوط باتجاه التطبيع على اعتبار أن فرانكفونيي المغرب
العربي يعتبرون أنهم أقرب إلى المحور الغربي الإسرائيلي منه إلى محور العالم
العربي والإسلامي.
ويضاف إلى عاملي الخوف الموريتاني من الجزائر والمغرب والبنية
الفرانكفونية للنظام والنخبة الحاكمة الموريتانية عامل آخر دفع باتجاه التطبيع
الموريتاني الإسرائيلي؛ ويتمثل في بداية تصدع العلاقات الفرنسية - الموريتانية؛
حيث إن باريس ما فتئت تطالب نواكشوط بضرورة تحسين وضع حقوق الإنسان
وإطلاق التعددية السياسية في موريتانيا، ووصل الأمر بالسلطات الفرنسية أن
اعتقلت رسميين موريتانيين في فرنسا بحجة قيام هؤلاء الرسميين بتعذيب سياسيين
موريتانيين. ونواكشوط التي كانت تشعر بالضعف من جارتيها القويتين: الجزائر
والمغرب، خافت أن يؤدي تراخي علاقاتها بالحليف الفرنسي الى تكريس ضعفها
أكثر من اللازم، وراحت تبحث عن حليف أشد سطوة وقوة وهو الآن الولايات
المتحدة الأمريكية؛ والوصول إلى هذا الحليف يقتضي المرور بالدولة العبرية الممر
الضروري باتجاه واشنطن، وكان لنواكشوط ما تريد.
وقد صادف هذا التوجه الموريتاني هوى في نفس تل أبيب وواشنطن لأسباب
عديدة منها أنّ موقع موريتانيا حساس للغاية؛ فهي تطلّ غرباً على المحيط الأطلسي،
وجنوباً على دول إفريقية عديدة منها السنغال ومالي، وحول مدينة شنقيط
الموريتانية تقع ثروة موريتانيا الأسطورية الحديد الذي ينتشر على شكل سلاسل
جبليّة، ويقال إنه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية شكا الطيارون من حدوث
تغييرات على مؤشر البوصلة في كل مرة يطيرون فيها فوق الجبال المحيطة
بشنقيط، وبعد أن وقفت الحرب جاء الخبراء لكشف سرّ تلك الظاهرة، وما كادوا
يبدؤون عملهم حتى اتضح لهم أنّ جبل سفريات وجبل كديت الجلد ما هما إلا كتل
هائلة من الحديد، وثبت أنّ حجارة هذه الجبال تحتوي على 94.52 من أكسيد
الحديد، وهذه النسبة تضارع أعلى نسبة حديد موجودة في مناجم العالم.
ويبدو أن موريتانيا وثرواتها الطبيعية أصبحت تحت المجهر، وأن تطبيعها
مع الدولة العبريّة لن يكون لصالح موريتانيا بل ضدّها؛ وما خبر المطبعين عنا
ببعيد!
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(182/96)
المسلمون والعالم
مشاهد سياسية في خريف القلق
عبد العزيز كامل
تتزاحم الأحداث، وتتوالى التطورات بما يجعل المراقب للشأن الإسلامي في
حيرة من أمره.. فأي قضية يتابع، وعن أي موضوع يتحدث إذا أراد للحديث أن
يكون جديداً ومفيداً؟!
الحقيقة أن مراوغة الأحداث للأحاديث تجعل المرء يردد كلما أراد أن يكتب
قول الشاعر:
تكاثرت الظباء على خِراش ... فما يدري خِراش ما يصيد
ولهذا السبب؛ فعلى (خراش) أن يطارد سمان الأخبار وكبارها؛ تاركاً
صغارها حتى تكبر أو تتوارى عن الأنظار، وهنا لا بد من متابعة أو ملاحقة
للأحداث الساخنة والساكنة على حد سواء؛ فقد يبرد الساخن بالموت، وقد يتحرك
الساكن بالزلازل، ونحن في حاجة إلى استشراف مخبوءات الأيام حتى لا تفجأنا
بمعطيات جديدة قد لا نكون مستعدين لها، ولو من الناحية النفسية والمعنوية:
* العراق: بدأ الاحتلال
- بمجرد وصول لجنة الأمم المتحدة للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، مع
وفد الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى بغداد؛ يكون العراق قد وقع تحت الاحتلال،
وسلبت منه السيادة والاستقلال؛ فقد نجحت ولايات الشر الأمريكية في جر العالم
الحر وغير الحر إلى إصدار أكبر مهزلة من الظلم الدولي الذي اتفقت عليه الدول
(بالإجماع) !!
قرار مجلس الأمن 1441 يخير العراق بين استباحة أرضه وانتهاك استقلاله
سلماً أو حرباً، فالعراقيون مخيرون بين أن ينتحروا بأيديهم، أو ينحروا أنفسهم
بأيدي أعدائهم؛ في مشهد أقرب ما يمثل له أن يُلجأ إنسان إلى حافة هاوية سحيقة،
ثم يخيره من ألجؤوه بين أحد الأمرين قائلين: إما أن تلقي بنفسك أو نلقي بك
نحن..؟! هذا هو تماماً ما يؤول إليه أمر قرار العار الذي حظي بالإجماع!
القيادة في العراق عُزلت حكماً عن السلطة بمجرد قبولها لهذا القرار، والذي
ما كان بوسعها أو في مستطاعها أن ترفضه، فالحكومة العراقية فقدت السلطة
بالفعل؛ لأن (سلطات الاحتلال) الجديدة؛ ممثلة في لجنتي التفتيش والطاقة الذرية
قد أُعطيت كل السلطات السيادية، فيما نزعت تلك السلطات من الحكومة العراقية؛
بموجب المادة الخامسة من قرار (الفرصة الأخيرة) الصادر في (3/9/1423هـ)
الموافق (8/11/2002م) ، لقد وفر مجلس الأمن للجنة الأمم المتحدة للمراقبة
والتحقق والتفتيش، والوكالة الدولية للطاقة الذرية إمكانية الوصول «على الفور»
و «دون عقبات أو شروط أو قيود» إلى جميع المناطق والمنشآت والمباني
والمعدات والسجلات، وسمح القرار لأفراد اللجنتين «دون قيود أو معوقات» بأن
يقابلوا على انفراد جميع المسؤولين، وغيرهم من الأشخاص الذين يريدون مقابلتهم
في المكان والزمان الذي يختارونه؛ داخل العراق أو خارجه، وأعطى القرار فريق
الجواسيس صلاحية إصدار القرارات بتسفير أي شخص مرغوب في مقابلته أو
التحقيق معه هو وأسرته إلى خارج العراق؛ دون حضور مندوبين أو مراقبين من
الحكومة العراقية، ويلزم القرار لجنة الأمم المتحدة ووكالة الطاقة بإنهاء مهمتها
خلال مدة لا تتجاوز 45 يوماً من تبني القرار، وإبلاغ المجلس بنتائج عمله خلال
ستين يوماً.
أعطى قرار مجلس الأمن المجمع عليه سلطات الاحتلال الجديدة تسعة
«حقوق» ، أو تسع آليات لممارسة سلطتها المطلقة لأداء مهامها الجاسوسية؛
تتلخص فيما يلي:
1 - تقوم باختيار الأفراد العاملين في فرقها من أكثر الخبراء كفاءة وتأهيلاً؛
دون أن يحق للعراقيين المشاركة في اختيار جنسيات المفتشين.
2 - يحق لكل موظفيها التمتع بالحصانة والامتيازات الممنوحة للأمم المتحدة
في المعاهدات والاتفاقات الدولية.
3 - يحق لأفراد اللجنتين الدخول إلى العراق والخروج منه، والتنقل فيه
بحرية تامة بين مواقع التفتيش، مع حقهم في تفتيش أي مبنى؛ بما في ذلك المواقع
الرئاسية.
4 - من حق اللجنة والوكالة أن تطالبا الحكومة العراقية بأسماء جميع الأفراد
المرتبطين سابقاً أو لاحقاً ببرامج العراق الخاصة بالأسلحة الكيماوية والبيولوجية
والنووية، وكذلك من لهم صلة ببرامج إنتاج الصواريخ ذاتية الدفع، ومنشآت
البحوث والتطوير المتصلة بهذه البرامج.
5 - يضمن العراق سلامة منشآت اللجنة والوكالة؛ عن طريق السماح بقوات
أمنية تابعة للأمم المتحدة للقيام بتلك المهمة.
6 - تمتلك اللجنة والوكالة الحق في إعلان أي موقع مشتبه به منطقة
محظورة؛ بما في ذلك الطرق المؤدية إليه، والسماء التي فوقه؛ لضمان عدم تغيير
أي شيء أو نقله من الموقع الذي يجري تفتيشه.
7 - من حق اللجنة والوكالة استخدام الطائرات ذات الأجنحة الثابتة
والمتحركة؛ بما في ذلك طائرات الاستطلاع التي تعمل بطيار أو بدون طيار، مع
حق طياريها في الهبوط في أي مطار من مطارات العراق.
8 - من حق اللجنة والوكالة إتلاف أو إزالة أو تدمير أو مصادرة ما ترى
أهميته من الأسلحة والأنظمة والسجلات المتعلقة بها.
9 - للجنة والوكالة الحق في الاستيراد أو التصدير أو الاستعمال لأي معدات
أو مواد تلزم لعمليات التفتيش؛ دون أن يكون للسلطات العراقية حق تفتيش أي من
موظفيها أو النظر في أمتعته الشخصية أو الرسمية!
إن هذه الصلاحيات التي منحتها الشرعية الدولية الأمريكية الجائرة سلطات
الاحتلال (المدنية) ؛ ستوطئ حتماً لسلطات الاحتلال (العسكرية) القادمة؛ حيث
ستزرع أرض العراق كلها بعشرات إن لم يكن مئات الأفخاخ، والتي سيعد سقوط
الحكومة العراقية في واحد منها ذريعة كافية لفريق بوش المسعور لبدء الحرب التي
يتلهف إليها للتنكيل بشعب العراق؛ بعد إذلال كرامته في شخص قيادته، كما يفعل
شارون في فلسطين.
لا نملك إلا أن نقول: لك الله يا شعب العراق!
* فلسطين: الغضبة الكبرى ... أم الكذبة الكبرى؟
- منذ أن أعلنت دولة اليهود من جانب واحد القدس بشطريها عاصمة أبدية
موحدة لدولة (إسرائيل) ترددت دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية
في نقل سفارتها إلى القدس، وكان السبب المعلن دائماً هو الخوف من «غضبة»
العالمين العربي والإسلامي، بل إن الكونجرس الأمريكي الذي أصدر قراراً في عام
1995م يلزم الرئيس الأمريكي بنقل السفارة إلى القدس؛ ربط تنفيذ هذا الإجراء
بعدم التعارض مع مقتضيات «الأمن القومي الأمريكي» ؛ وهو ما يعني أن أمن
الأمريكيين القومي قد يتهدد من تلك الغضبة المتوقعة إذا ما أقدمت أمريكا على نقل
سفارتها للقدس.
وبالفعل؛ فإن ذلك القرار الملزم قد أجَّله الرئيس بيل كلينتون مرتين، وأجله
بوش مرة ثالثة في بداية رئاسته، ولكن الظاهر أن المحظور قد زال بأعين
الأمريكيين في المرة الرابعة؛ عندما أقدم الكونجرس الأمريكي على إصدار قرار
في 28/8/2002م يلزم الإدارة الأمريكية بتنفيذ القرار السابق عام 1995م، ويبدو
أيضاً أن الرئيس الأمريكي قد تبدد خوفه من تلك (الغضبة) عندما صادق على ذلك
القرار في اليوم التالي لإصداره!
القرار وتصديقه مرَّ بالفعل دون رد فعل يذكر من جماهير العالمين العربي
والإسلامي، اللهم إلا من بعض مظاهرات عتم عليها داخل فلسطين؛ فما الذي
جرى؟! هل هانت القدس على المسلمين شعوباً وحكومات حتى مرَّروا تهويدها
دون تهديد أو تنديد، أو حتى مظاهرة كتلك التي نراها في أزمات الخبز أو مباريات
الكرة؟!
لقد قرر الكونجرس الأمريكي اعتبار القدس عاصمة لدولة اليهود؛ متجاوزاً
مهمة أمريكا في «رعاية» عملية السلام المغدورة، ومتجاوزاً ما كان مقرراً من
قبل بتأجيل البت في مصير القدس حتى تتم مفاوضات (الحل النهائي) ، ومتجاوزاً
ومستغلاً انشغال أو إشغال أصحاب الشأن من العرب والمسلمين والفلسطينيين،
وقرر الكونجرس في الوقت نفسه منع تحويل الأموال المخصصة للقنصلية
الأمريكية في القدس إلا إذا خضعت لمسؤولية السفير الأمريكي الذي سيأتي إلى
القدس؛ حيث جاء ذلك القرار ضمن المصادقة على الميزانية الخارجية للولايات
المتحدة. القرار خطير، بل إنه في رأيي أخطر من احتلال القدس نفسها؛ لأن
الاحتلال يمكن أن يزول في ظل معارضة العالم للاعتراف به، أما إذا جرَّت أمريكا
العالم وهذا هو المتوقع لمسايرتها في الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اليهود؛ فإن
هذا سيضفي على ذلك الوضع المشين صفة المشروعية الدولية، وعندها ... لن
تنفع احتجاجات منظمة المؤتمر الإسلامي، ولا صرخات لجنة القدس، ولا
اعتراضات الجامعة العربية، ولن ينفع أيضاً ذلك القرار «المضاد» الذي أصدره
الرئيس ياسر عرفات باعتبار القدس عاصمة للدولة الفلسطينية رداً على قرار
الكونجرس.
تُرى.. من المسؤول عن تفريغ كوامن الغضب من صدور العالمين العربي
والإسلامي؛ حتى يمرر هذا القرار الخطير دون وقوع «الغضبة الكبرى» التي
كان الأعداء يخشونها؟! لنبحث لهذا السؤال عن إجابة سريعة قبل أن تحل المصيبة
التالية.. قبل أن يهدم الأقصى؛ فلا يجد من يغضب له أو يتحرك من أجله.
* أمريكا: الكونجرس الأمريكي ... و «أصحاب الفيل» [1] إلى أين؟!
- أظهرت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي عن فوز ساحق
للحزب الجمهوري ذي الاتجاه اليميني، فقد تمكن ذلك الحزب من الاستحواذ على
غالبية مقاعد الكونجرس بشقيه: النواب والشيوخ، بينما انزوى الحزب الديمقراطي
إلى الزوايا الخلفية؛ فماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أولاً وقوع الولايات المتحدة تحت
الحكم شبه المطلق للاتجاه اليميني المتطرف ذي النزعة الاستعلائية الساعية للهيمنة،
وهو يعني من جهة ثانية الإخلال بالتوازن التقليدي في الداخل الأمريكي الذي كان
يميز الحياة السياسية في أمريكا خلال الخمسين سنة الأخيرة؛ حيث هُمش الحزب
الديمقراطي لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة إلى الحد الأدنى. وصعود
الجمهوريين اليمينيين يعني من جهة ثالثة انفتاح الطريق أمام جورج بوش الابن؛
لكي يكمل ما بدأه بوش الأب على طريق فرض السيطرة على العالم.
كان جورج بوش (الأب) قد أعلن بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، عن
توجه الولايات المتحدة الأمريكية نحو إنشاء (نظام عالمي جديد) ، وهو مشروع قد
تبناه الحزب الجمهوري بزعامته، ولكن عدم فوزه بفترة رئاسية ثانية جعل بريق
هذا المشروع يخف ثم يخفت ثم يختفي؛ لتظهر بدلاً من ذلك الدعاية إلى مشروع
(العولمة) في فترتي حكم الحزب الديمقراطي بزعامة بيل كلينتون، وجوهر
«العولمة» و «النظام العالمي» واحد، وهو تكريس الهيمنة الأمريكية على
العالم، إلا أن العولمة كانت تغلب عليها السمة الاقتصادية والثقافية، بينما تغلب
على مشروع النظام العالمي الجديد السمة السياسية والعسكرية، والفارق في الشبه
بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في طريقة فرض الهيمنة على العالم؛ تشبه
الفارق بين حزبي الليكود والعمل في دولة اليهود في فرض السيطرة على
العرب.
والعجيب أن حزب (أصحاب الفيل) ينوي التحرك نحو السيطرة على العالم
انطلاقاً من أرض العرب، ويستعمل اليهود أداة في ذلك؛ فهل تهلك جيوش
«أبرهة» العصر على تلك الأرض كما هلكت جيوش أبرهة الأول؟! اللهم
اجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل.
* اليمن: نعم ... الحكمة يمانية!
- اعتبرت الحكومة الأمريكية على لسان مسؤول بارز فيها أن الضربة التي
وجهتها طائرة تابعة للاستخبارات الأمريكية على سيارة تقل ستة ممن (يشتبه) في
انتمائهم لتنظيم القاعدة؛ عملاً (قانونياً) و (ضرورياً) .
وقال منسق عمليات مكافحة «الإرهاب» بالخارجية الأمريكية (فرانيس
تايلور) في تصريح له في 9/11/2002م أن الولايات المتحدة سوف تستخدم أي
شيء «ضروري وقانوني» لمهاجمة أي تهديد «إرهابي» !!
إذن؛ الشيء يصبح قانونياً لمجرد أنه لصالح أمريكا، وغير قانوني لمجرد
أن يكون ضد مصالح أمريكا (!!) .
«والمشتبه به» يسقط حقه في المساءلة والمحاكمة، فيحكم عليه بالإعدام
رمياً بالصواريخ، وينفذ الحكم في الطرقات العامة إذا كان القاضي أمريكياً أو
القضية أمريكية!!
الطائرة التي انتهكت أجواء بلاد اليمن المستقلة كانت بلا طيار؛ لضمان هدر
دماء القتلى، وحفظ دماء القتلة، والاختراق الأخرق لم يجئ ارتجالاً أو اجتهاداً من
أحد مهاويس المخابرات الأمريكية، إنما جاء بحسب ما نشرته النيويورك تايمز في
8/11/2002م وفق سياسة جديدة اختطها بوش للعمليات الخارجية؛ عندما أعطى
وكالة المخابرات المركزية (A.I.C) سلطات موسعة لتخطيط وتنفيذ ما تراه
من عمليات في أي مكان من العالم!
العمليات إذن قابلة للتكرار في أماكن أخرى، لتوصل للعالم رسالة مفادها: ألاَّ
أحد في مأمن من ذراع الطيران الأمريكي الطويلة، وأن حدود الدول، وحرمة
سمائها وأرضها وبحارها؛ لا قيمة لها عندما يتعلق الأمر بمخططات أمريكا، إنها
مرحلة جديدة بكل المقاييس، وخطيرة بكل المعاني، وهي ليست خاصة باليمن فقط،
ولا أدل على ذلك مما نشرته صحيفة نيويورك تايمز في (20/9/2002م) من
أن الولايات المتحدة قد أرسلت في الشهر الماضي واحدة من أكثر السفن المتقدمة
تكنولوجياً إلى منطقة القرن الإفريقي؛ لتقوم بحسب ما أعلن عسكريون أمريكيون
بمهام مكافحة من تطلق عليهم الولايات المتحدة وصف الإرهابيين في كل من
الصومال والسودان وإرتيريا واليمن، بل إن المصادر نفسها صرحت بأن
السفينة التي تضم 150 من مشاة البحرية الأمريكية؛ يمكن أن تستخدم قاعدة
انطلاق لعمليات مشابهة لتلك التي حصلت في اليمن!
إن هذا التطور يحتاج إلى قدر عالٍ من الحكمة في التعامل، ولا نظن أن
الإسلاميين في اليمن وغيرها من البلدان المستهدفة سيفتقدون إلى تلك (الحكمة) في
التعامل مع مثل ذلك المُستجد الجسيم الذي دشنت به أمريكا مرحلة من الفوضى
الدولية عن طريق العولمة العسكرية! انتبهوا أيها الإسلاميون، ولا تفقدوا صوابكم،
فأعداؤكم أصابهم الجنون!
* أمريكا أيضاً: الازدهار أو الاستعمار أو الانتحار
- بالرغم من أن الانتخابات التي جاءت بجورج بوش الابن عام 2001م
كانت (قيصرية) ولم تكن طبيعية؛ إلا أنه وبعد التربع على كرسي الرئاسة ظن
أن الطريق قد أصبح ممهداً لكي ينفذ برنامج من جاؤوا به كاملاً دون معوقات؛
معتمداً على متانة الاقتصاد الأمريكي المحصن من الأزمات، والذي يستند في
ازدهاره إلى الاستقرار الذي تتمتع به الولايات المتحدة المحاطة بالمحيطات من كل
جانب، إلا أن ذلك الاستقرار قد سقط مع سقوط برجي التجارة، ولا يعلم أحد من
الناس: هل سيعاد بناؤه معهما، أم سيظل الاستقرار والازدهار معهما من الذكريات
الماضية؟
مشكلة أمريكا مع الاستقرار (سر الازدهار) أصبحت مزمنة؛ بسبب كفر
تلك القرية بأنعم الله، وتسلطها على عباد الله، فلا تزال التقارير كل حين تأتي
بجديد عن تلك الأزمة التي بدؤوها بمظالمهم ولا يعلمون متى تنتهي.
فقد ذكر تقرير اقتصادي صدر في أمريكا في (رجب / سبتمبر) من هذا
العام؛ أن مجموع ما تكبدته الحكومة الأمريكية من جراء أحداث سبتمبر بلغ 95
مليار دولار؛ تدخل فيها الخسائر، وعمليات إعادة البناء والتعويضات ونحو ذلك،
وهي تكلفة قابلة للزيادة على حسب ما ذكر التقرير الذي ذكر أيضاً أن 83 ألفاً من
مدينة نيويورك وحدها فقدوا وظائفهم، وفقد 63 ألفاً آخرون فرص للتوظيف كانوا
ينتظرونها.
وفي تقرير أحدث صدر في (رمضان / نوفمبر) من هذا العام؛ قال خبراء
اقتصاديون يتعاونون مع البنك المركزي الأمريكي: إن الخسائر المباشرة لهجمات
سبتمبر بلغت 36 مليار دولار، وقُدر حجم الإنفاق المقرر على الأمن في مدينة
نيويورك وحدها لعام 2003م نحو 72 مليار دولار في القطاعين العام والخاص،
وتوقع التقرير خسائر جديدة بمقدار 26 مليار دولار لإعادة الأوضاع إلى ما كانت
عليه في مدينة نيويورك التي خسرت إدارتها نحو 7.8 مليارات دولار كأرباح
كانت متوقعة من نشاط برجي التجارة لعام 2002م لو لم يُدمرا. أما الخسائر
المتوقعة بسبب نقص الطاقة الإنتاجية للمدينة بسبب استمرار الصدمة العصبية
لسكانها؛ والتي أثرت في أدائهم الوظيفي، وتسببت في تفاقم ظاهرة السُّكر للهروب
من الواقع؛ فيقول التقرير إنه لا يمكن تقديرها! غير أن هناك خسائر أخرى
يكشف عنها التقرير بسبب (المجهول القادم) ؛ تتمثل في 38 مليار دولار
خصصتها الحكومة الفيدرالية لأمن الحدود، والحماية من التهديدات البيولوجية
والكيماوية، وإجراءات الطوارئ المعدة للسنة المقبلة 2003م.
وبالرغم من آمال بوش العريضة بالفوز بفترة رئاسية ثانية، بعد الفوز الكبير
لحزبه الجمهوري في الانتخابات النصفية الأخيرة للكونجرس، إلا أن هاجس
السقوط كما حدث مع والده يظل يطارده، والذي نعتقده أنه إذا لم يجد فرصته في
إعادة الازدهار في الداخل، فقد يلجأ إلى إعادة سياسة الاستعمار في الخارج، كما
كان عهد أسلاف الأمريكيين من الساكسون الإنجليز وغيرهم، وبوش يعلم أن
استمرار رئاسته مرهون بتحقيق الازدهار للأمريكيين، أما إذا لم يفلح في إعادة
الازدهار بالاستقرار أو الاستعمار، وخاب أمله في الوصول للبيت الأبيض مرة
ثانية، فقد يبحث عن فرصته بدخول التاريخ عوضاً عن دخول البيت الأبيض.
وبما أن دخول التاريخ قد لا يحتاج إلى مميزات أرقى ولا مؤهلات أعلى من
مؤهلات جنكيز خان أو هولاكو أو نيرون أو هتلر أو شارون، فقد يحاول جورج
بؤس دخول التاريخ من بوابة العراق التي يريد أن يجعل منها ولاية أمريكية جديدة؛
تكون منطلقاً لفرض النظام (الدكتاقراطي) الأمريكي الجديد في المنطقة، أو من
بوابة أفغانستان التي سيحولها من مستعمرة إلى مقبرة للأمريكيين. أو من بوابة
أوروبا التي يستفزها ويخرج أضغانها إلى الحد الذي قد يلجئها للتوحد في وجه
الأمريكان، أو من بوابة الصين التي قد ينجح في إخراج تنينها النائم على العالم؛
بعد إزعاجه وتهييجه من الكوة الصغيرة المفتوحة على أفغانستان المحتلة.
وقد يذكر التاريخ جورج بوش كما يحب على أنه الرئيس الذي قاد أولى
حروب القرن في الألفية الثالثة، والموصلة في حال استمرار غطرسة الأمريكان
إلى الحرب العالمية الثالثة.
واحتمال آخر يستطيع جورج بوش أن يدخل به التاريخ من أوسع أبوابه،
وهو أن يكون الرئيس الذي بدأت في عهده بواكير تحول الولايات المتحدة الأمريكية
إلى الولايات «غير المتحدة» الأمريكية!!
* إندونيسيا: وتداعيات بالي
- مع أنها أكبر دولة إسلامية 210 ملايين نسمة، والمسلمون فيها يمثلون
90% من السكان فإن إندونيسيا تُرى غائبة أو مغيبة، فغالب الحكام الذين حكموها
كانوا يستلهمون نموذج العلمانية الكمالية، ورغم ذلك يظل وفاء الشعب الإندونيسي
للإسلام ظاهراً لا تخطئه العين، وبالرغم من انتشار الجهل والخرافات فإن الناس
يحبون الإسلام، ولا أدل على ذلك من حجم أنصار الأحزاب الإسلامية هناك. أكبر
جماعة إسلامية في إندونيسيا وهي جماعة «نهضة علماء الإسلام» تأسست عام
1926م، وتضم تحت مظلتها وليس عضويتها أنصاراً يقدرون بثلاثين مليوناً،
ولكن حظها العاثر جعل (عبد الرحمن وحيد) حفيد مؤسسها يتسلق إلى ذروة القيادة
فيها، وذلك عندما وصلت الجماعة إلى المستوى الذي أوصلها إلى الحكم، فقد تولى
رئاسة الجماعة في بداية التسعينيات، وانتخب رئيساً لإندونيسيا في أكتوبر 1999م،
قبل أن يتم إسقاطه دستورياً بتهمة الفساد المالي والأخلاقي. وهكذا تم في
إندونيسيا كما تم في غيرها تشويه النموذج الإسلامي بشخص رجلٍ واحد وضع في
الواجهة ليمثل عشرات الملايين من المسلمين!
يجيء بعد جمعية نهضة العلماء «الجمعية المحمدية» ، وهي أكثر تنظيماً
وحركية من جمعية النهضة، وأقدم منها أيضاً؛ إذ تأسست عام 1922م، ويقدر
المنضوون تحت مظلتها بخمسة وعشرين مليوناً، وهي تعتمد في انتشارها على
قطاع التعليم والمدارس، والأب الروحي لها هو «أمين الريس» ، ولكن العجيب
أن هذه الملايين من أنصار الجماعات الإسلامية تُصادر عاطفتهم للإسلام دائماً،
ويتم بانتظام إخضاعهم وإخضاع الشعب الإندونيسي الكبير للتحاكم لمذهب
(البانكاسيلا) العلماني الذي يشكل جوهر الدستور الإندونيسي، والجامع - مثل
ياسق جنكيز خان - بين مبادئ من الإسلام وغيره من الأديان (وحدانية - إنسانية
- وحدة وطنية - ديمقراطية - عدالة - اجتماعية) ، ولكن ذلك الدستور مع عدم
إسلاميته لا أثر لمبادئه أيضاً من الناحية الإيجابية على أوضاع الإسلام في إندونيسيا.
لهذا برزت اتجاهات إسلامية تنادي بالتحول الإسلامي بطرق أخرى غير طرق
البرلمانات والانتخابات التي استمرت ثلاثة أرباع القرن دون جدوى، فنشأت
الجماعة الإسلامية بزعامة أبي بكر باعشير (65عاماً) وهو إندونيسي النشأة
حضرمي الأصل، وكان عضواً في الخمسينيات في حركة «دار الإسلام» الداعية
لإقامة دولة إسلامية في إندونيسيا، ولكن سوكارنو الرئيس الإندونيسي الأسبق ووالد
الرئيسة الحالية (ميجاواتي سوكارنو) قضى على الحركة، وهرب باعشير إلى
ماليزيا ولم يعد إلا بعد سقوط سوكارنو، وبعد عودته أسس جماعة باسم «مجلس
مجاهدي إندونيسيا» ، وأسس معهداً لتربية صفوف لهذه الجماعة أطلق عليه
(المعهد المؤمن) ؛ يضم بصفة دورية 2000 من الطلاب والطالبات الذين يتلقون
العلوم الشرعية.
العداء الذي يستهدف المسلمين في عقيدتهم وأموالهم وأنفسهم في إندونيسيا
وغيرها يدفع بعضهم في أحيان كثيرة إلى حافة الهاوية، وزيادة الضغوط
والتضييقات قد تدفع بهم للسقوط في تلك الهاوية، فعندما تعرض المسلمون لمذابح
رهيبة في إندونيسيا عام 1999م؛ نشأت لأجل ذلك حركة عسكر الجهاد، أو
(لسكر جهاد) ، لتتولى دفع صولة الباغين من النصارى الذين وقفت الحكومة منهم
موقف المتفرج، وقد حاولت جماعة «عسكر الجهاد» الإندونيسية أن تدفع عن
المسلمين بالمستطاع، إلا أن زعيمها جعفر عمر طالب (39) عاماً اعتقل هو
والعديد من أنصاره، واعتقل أيضاً باعشير زعيم جماعة «مجاهدي إندونيسيا»
بعد تفجيرات مدينة بالي التي راح ضحيتها أكثر من (180) قتيلاً غالبيتهم من
الأستراليين والبريطانيين.
ماذا تخبئ الأيام لشعب إندونيسيا المسالم الذي يُدفع إلى طريق المواجهة؟
الحكومة الإندونيسية من ناحيتها كانت تشعر بالعجز عن فعل كل ما تريد لمواجهة
الجماعات الإسلامية في السنوات الماضية، لعلمها بقدرة هذه الجماعات على حشد
الجماهير، ولكنها في الآونة الأخيرة تريد إرضاء أمريكا والغرب بمحاولة الظهور
بمظهر المتحمس للمشاركة في الحرب الأمريكية على «الإرهاب» .
ومن الواضح أن هناك متنفذين في داخل الحكومة يريدون الصيد في الماء
العكر؛ مستغلين أجواء الحرب الأمريكية، وأمريكا بدورها لا تفوِّت فرصةً
للابتزاز، فبعد أن فرضت حظراً على الجيش الإندونيسي بعد أحداث تيمور
الشرقية؛ تجيء اليوم لتساوم ذلك الجيش برفع الحظر عنه مقابل أن يتولى مهمة
(محاربة الإرهاب) في إندونيسيا، وتحاول أن تصنع من وزير الدفاع الإندونيسي
(أندريا سورتاريو) نسخة أخرى من (خالد نزار) الذي كان وزيراً للدفاع في
الجيش الجزائري، لقد عرضت الحكومة الأمريكية على الحكومة الإندونيسية أن
تساعدها في حملتها ضد الجماعات الإسلامية في مقابل مساعدتها في إعادة جدولة
ديونها! ويدور كل ذلك رغم التهاب المشاعر الإسلامية من جراء ما يفعل بالمسلمين
في كل مكان. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله تعالى من غلبة الدين
وقهر الرجال، وعندما يقهر رجال الإسلام في بلدان الإسلام؛ فلا تسل عما يحدث
كيف يحدث، بل اسأل عن أسباب ما يحدث، لماذا يحدث؟
* ليبيا: الجامعة العربية و «لعب العيال»
- في خطاب ألقاه الرئيس الليبي معمر القذافي في 1/9/2002م أمام المؤتمر
الشعبي العام (البرلمان) ؛ بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لثورة الفاتح من
سبتمبر، طالب الرئيس المؤتمر بدراسة خروج ليبيا من الجامعة العربية معللاً ذلك
بقوله نصاً: «الأمر أصبح لعب عيال» ! ولم يكد المؤتمر يكمل دراسته حتى
أعلنت ليبيا خروجها من جامعة الدول العربية؛ وسط دهشات وتوسلات الجامعة
التي أسست في الأصل لتجسيد القومية العربية التي كان الرئيس الليبي أحد رموزها.
ولم تجد هذه التوسلات استجابة من الحكومة الليبية، ولكن أمانة الجامعة أعلنت
بعد ذلك أن القصة لم تنته بعد وأن ليبيا قد تعود.
وخروج ليبيا من الجامعة العربية، سواء تم أو لم يتم؛ فإنه يمثل طعنة نجلاء
لتلك المنظمة الآيلة للسقوط، ويمثل تعجيلاً بغسل الأيدي منها، بعد أن أُريد لها
لأكثر من نصف قرن أن تُحل رابطة العروبة محل رابطة الإسلام، حتى انتهت
الجامعة والعروبة معها إلى طرق مسدودة.
محنة القومية العربية جاءت على أيدي كبار زعمائها، فقائدها الأول عبد
الناصر برهن على رهافة حسه القومي عندما زج بالجيش المصري لكي يحارب في
اليمن (العربية) ذاهلاً عن الاستعداد لمحاربة الدولة العبرية، حتى ألحقت به تلك
الدولة أكبر هزيمة مثلت أكبر نكسة للقومية والقوميين العرب.
أما قائد القومية الثاني صدام حسين؛ فقد نكب القومية التي نكسها عبد الناصر
بغزوه لدولة الكويت (العربية) قبل أن يحرك ساكناً لنصرة القضية الفلسطينية،
وجاء الرمز الثالث للقومية العربية لكي يقضي على ما تبقى من معالم في وجه
الصنم القومي، فذبح ذلك الصنم على أعتاب الحدود الإفريقية لليبيا؛ معلناً كفره
بالوحدة العربية وإيمانه بالوحدة الإفريقية.
أما القضية الكبرى التي زايد عليها القوميون العرب لأكثر من خمسين عاماً،
فآل أمرها على يد الثوريين القوميين العرب قبل الخروج من الجامعة إلى اقتراح
بتحويل فلسطين إلى دولة (عربية يهودية) اسمها (إسراطين) ؛ بعد التخلص من
مسؤولية مسجدها الأقصى الذي قيل عنه تحت قبة مؤتمر الجامعة العربية المنعقد
في عمان منذ عامين ... «خلُّوه يروح في ستين داهية» !
* (إسرائيل) : عودة النتن
- بعد سقوط بنيامين نتنياهو في الانتخابات أمام منافسه إيهود باراك عام
1999م، وبعد أن عُزل سياسياً بتهمة الفساد المالي، أتيحت الفرصلة لباراك لكي
يتولى مهمة «الإجهاض السلمي» لقضية فلسطين عن طريق مفاوضات الحل
النهائي في كامب ديفيد الثانية، ولكن الأجواء تغيرت بمجيء شارون لتناسب عودة
نتنياهو مرة أخرى، فبعد أن دعا شارون إلى انتخابات مبكرة في الشهر الماضي،
خرج حزب العمل الذي أراد شارون أن يجمِّل بدمامته بعض قبح حزب الليكود،
ولكن شارون لم يعد في حاجة الآن لهذا التجمل فيما يبدو، فاستعان بمزيد من
الوجوه القبيحة استعداداً لمرحلة هي الأشد سواداً على الأرجح في تاريخه الكالح،
جاء بنتنياهو ليعطيه وزارة الخارجية، وبشاؤول موفاز ليسلمه حقيبة الدفاع؛
لتتحول الحكومة الإسرائيلية بعد ذلك لا إلى حكومة حرب فقط، بل إلى عصابة من
محترفي القتل الديمقراطي.
ماذا يريد نتنياهو بتلك العودة؟ بدا من تصريحاته الأولى أنه يزايد على
جرائم شارون، ويعتبره (مقصراً) في التصدي للعرب داخل وخارج فلسطين،
ووعد في حديث نشرته مؤخراً مجلة «تاج شبيجل» الألمانية بإلحاق هزيمة
بالدول العربية لاحظ! وليس فقط بالسلطة الفلسطينية. وقال: «يجب إلحاق
هزيمة عسكرية بالدول العربية كتلك التي هزم فيها الحلفاء كلاً من ألمانيا واليابان
عام 1945م» ، وأضاف: «لقد انتهت الحرب العالمية الثانية بنصر عسكري
للحلفاء، وعمل الطرف المنتصر على تنصيب حكومة في ألمانيا ظلت منقوصة
السيادة إلى أن حدث التحول المطلوب في المجتمع الألماني» .
وفي سؤال آخر، قالت له الصحيفة: «إن ألمانيا كانت قد هزمت هزيمة
شاملة، واستسلمت قبل أن يفرض عليها الحلفاء شروطهم؛ فهل تريد فعل ذلك مع
الفلسطينيين؟» أجاب النتن: «نعم، هكذا تماماً يجب علينا أن نفعل مع الدول
العربية» !
يعود إذن نتنياهو إلى الساحة السياسية أكثر سعاراً، ويصب جام غضبه على
العرب والمسلمين، وخصوصاً الإسلاميين داخل فلسطين، لا في الأراضي المحتلة
بعد عام 1967م فحسب، بل على الحركة الإسلامية في أراضي 1948م أيضاً،
فقد وصفها في حديث أدلى به في (2/10/2002م) بأنها كالورم السرطاني الذي
يمكن أن ينمو ويكبر مع الزمن، وطالب باعتبار تلك الحركة خارجة على القانون،
وطالب بتفكيكها واعتقال زعمائها، وجاء هذا الهجوم بسبب قيام نحو 30 ألفاً من
عرب 1948م بإحياء مهرجان بعنوان: (الأقصى في خطر) ! ولا ندري: ما
الذي يزعج النتن إلى هذا الحد؛ من أن يقال: الأقصى في خطر؟!
نتنياهو ينافس شارون اليوم على الإرهاب اليهودي، بل لا نبالغ إن قلنا إن
دوره في ذلك الإرهاب أخطر، من حيث التنظير لتوسيع دائرته، فهو عضو أصيل
في هندسة الاستراتيجية الأمريكية في (الحرب ضد الإرهاب) التي جرى الإعداد
لها طيلة عقد التسعينيات، وله كتاب في ذلك بعنوان (استئصال الإرهاب) ، ألفه
وقدمه نصيحة للولايات المتحدة عام 1996م، يكاد من يطالعه أن يوقن بأن اليهود
من أمثال نتنياهو هم الذين هيؤوا لأجواء الحادي عشر من سبتمبر؛ كي يوصلوا
أمريكا والعالم إلى مثل الوضع القائم الآن.
فالكتاب مليء بالتحريض والتخويف والوشاية بالعرب المسلمين، قبل أن
تحدث أحداث سبتمبر بخمس سنوات، ومما جاء فيه:
- «إن هدفي الأول من هذا الكتاب هو توجيه اهتمام المواطنين في الغرب
عامة، وفي دولة إسرائيل خاصة إلى طبيعة التحدي الإرهابي الجديد الذي يواجه
الأنظمة الديمقراطية اليوم، نوجه نصيحة للرؤساء ولرؤساء الحكومات ولأعضاء
الكونجرس والبرلمانات بالمحافظة على أمنهم ومستقبلهم من خطر الإرهاب المدمر»
(ص 152) .
- «غريب أن أياً من الدول الغربية، ورغم التقدم الاقتصادي والعسكري
الهائل، وخصوصاً الولايات المتحدة؛ لا تستطيع أن تحصن نفسها ضد الإرهاب»
ص (9) .
- «إن لم يتم قمع الإرهاب واستئصال شأفته، فقد يصبح تحديه غير سهل،
وإذا نجحت تجربة للإرهاب في دولة معينة ولا سيما إذا كانت أكبر دولة في العالم
فسيغري ذلك بالمحاكاة في دول أخرى» ص (13) .
- «إن إمكانية الولايات المتحدة التقنية، وخاصة وسائل التصنت والتصوير،
تفوق ما بحوزة دول أخرى؛ لهذا فإنها تستطيع تعقب الحركات الإرهابية» ص
(24) .
- «صدقت المحكمة العليا أثناء الحرب العالمية الثانية على تقديم الأمريكيين
المشتبه في تعاونهم مع النازيين إلى المحاكم العسكرية، بل وإجراء حملات اعتقال
مخيفة للأمريكيين من أصول يابانية» ص (26) .
- «كان الإرهاب إحدى الوسائل الأساسية للسياسة الشرق أوسطية عبر
مئات السنين» ص (61) .
- «كنت مقتنعاً بأن مفتاح إجهاض الإرهاب الدولي؛ هو قيادة الولايات
المتحدة لهذا الصراع، وبوقوفها على رأسه سوف تجذب القيادة الأمريكية باقي دول
العالم الحر إليها، كما يجذب الديزل عربات القطار» ص (68) .
- «ساد اعتقاد خاطئ في الولايات المتحدة في نهاية السبعينيات وبداية
الثمانينيات بأن الإرهاب ليس سوى نتيجة للقمع السياسي والاجتماعي، وتستحيل
هزيمة الإرهاب دون تصفية الظروف التي خلقته» ص (68) .
- ضربت إسرائيل مثلاً مشرقاً لمكافحة الإرهاب عسكرياً، ورفضت
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الخضوع لمطالب الإرهابيين «ص (69) .
-» أكدت عندما كنت سفيراً لإسرائيل بالولايات المتحدة عام 1983م أن
الغرب يستطيع القضاء على الإرهاب الدولي شريطة تبني مبدأين: الأول: رفض
الخضوع للإرهاب، والثاني: استعداد الغرب لمواجهة الأنظمة الراعية
للإرهاب «.
-» جذور العداء للغرب راسخة لمئات السنين في الثقافة السياسية العربية
الإسلامية المتطرفة، وهي تمثل القوة الدافعة لها، حتى قبل أن تخرج إسرائيل إلى
الوجود «.
-» القلة القليلة من رجال العرب هي التي على دراية وثيقة بالحقائق
الأساسية لتاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب، وهذا التاريخ يشكل حجر الزاوية
للتعليم الإسلامي في جميع أنحاء العالم العربي الذي يحكي كيف استطاع محمد في
عام 630 أن يجعل من العرب أمة ذات دين مقاتل «.
-» لولا دحر شارل مارتل العرب في موقعة بواتيه عام 732، على مسافة
290 كم فقط من جنوب باريس لكان من المحتمل أن تكون أوروبا قارة مسلمة «
ص (86) .
-» زعم المتعصبون الإسلاميون أنه يجب العودة إلى الجذور الحقيقية لعظمة
العرب والمسلمين، ودعوا إلى توحيد جميع الممالك العربية تحت حكم إسلامي
خالص «ص (89) .
-» تبين أن تيار القومية العربية لا يستطيع مواجهة الغرب، عندئذ ازدادت
الحاجة إلى ظهور قوة جديدة تعبر عن مصداقية العرب والمسلمين في مبدأ الرفض
التاريخي للغرب، وتمثلت هذه القوة في الإسلام المتطرف «ص (89) .
-» الجماعات الإرهابية تتخفى تحت ستار المنظمات الخيرية؛ لتقوم بجمع
المال ونشر وسائل التحريض، كما تقوم بتجنيد المتطوعين وحشدهم وإعدادهم
للمهام الإرهابية؛ للإعداد للمعركة ضد الولايات المتحدة «ص (100) .
-» وقعت حكومة إسرائيل في كل الأخطاء التي يمكن لدولة أن تقع فيها في
حربها ضد الإرهاب؛ عندما منحت منظمة التحرير الفلسطينية مناطق تستقر بها،
فساعدت بذلك في اندلاع الإرهاب تحت مظلة منظمة التحرير «ص (120) .
وأخيراً اقترح نتنياهو خطوات عملية لاستئصال الإرهاب كما يراه، تتلخص
في:
1 - فرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية على الدول الإرهابية.
2 -» إبادة «بؤر الإرهاب التي لا تخضع لدول مستقلة، كالأراضي
التابعة لحزب الله، أو لحماس، وحزب العمال الكردي، ومناطق الإرهاب في
باكستان وأفغانستان وكشمير.
3 - تجميد الممتلكات الخاصة بالدول والمنظمات الإرهابية الموجودة في
الغرب.
4 - نشر الثقافة المضادة للإرهاب.
5 - الدعوة إلى إدخال تعديلات في مناهج التعليم في بلاد المسلمين.
__________
(1) الفيل هو شعار الحزب الجمهوري، بينما يتخذ الحزب الديمقراطي رمز الحمار! .(182/98)
مرصد الأحداث
يرصدها: وائل عبد الغني
مرصد الأخبار:
اختراق..!
كشفت التقارير التي تصدرها المنظمات التنصيرية أن حوالي 150 ألف
مغربي يتلقون عبر البريد من مركز التنصير الخاص بالعالم العربي المسمى
(M.W.A) دروساً في المسيحية، ولدى هذا المركز منصِّرون يعملون وسط
المليوني مسلم القادمين من دول المغرب العربي والمقيمين في فرنسا.
[جريدة التجديد المغربية، العدد: (494) ]
مقاطعة المقاطعة
هددت السلطات الفيدرالية الأميركية بفرض عقوبات على الشركات الأميركية
التي ستحترم الدعوة الموجهة من مكتب مقاطعة إسرائيل التابع لجامعة الدول العربية
لمقاطعة إسرائيل اقتصادياً.
يذكر أن كلاً من مصر، والأردن، وموريتانيا التي تقيم علاقات دبلوماسية
مع إسرائيل؛ لا تشارك في اجتماعات مكتب المقاطعة الذي يضم «ضباط اتصال
المكاتب الإقليمية لمقاطعة إسرائيل» ، والذين يمثلون الدول العربية الـ 19
الأخرى الأعضاء في جامعة الدول العربية.
وكان مكتب مقاطعة إسرائيل الذي لم يكن قد اجتمع منذ ثماني سنوات، قد
عقد اجتماعاً الشهر الماضي، وضع خلاله لائحة سوداء تضم أسماء 15 شركة،
لكن هذه اللائحة لم تنشر.
[الشرق الأوسط، العدد: (8745) ]
شراك الشراكة
تتضمن الأهداف المحددة لمبادرة الشراكة الأمريكية مع دول وشعوب الشرق
الأوسط الترويج في الولايات المتحدة، ولا سيما في أوساط الإدارة، إلى ضرورة
إحداث تغييرات جذرية وجوهرية في العالم العربي. هذه التغييرات التي تتطلع
إليها واشنطن لا تشمل فقط أساليب الحكم والممارسة الديمقراطية، بل أيضاً أنظمة
التعليم والعلاقات الاجتماعية ... تأتي ضمن برامج ومشروعات مبادرة الشراكة مع
الشرق الأوسط التي يرعاها وزير الخارجية الأمريكي بنفسه، وفي طليعة البرامج
التنفيذية الأمريكية لمبادرة التحول الديمقراطي في العالم العربي: مشروعات
تجريبية لتدريب الناشطين السياسيين، والصحفيين، وزعماء نقابات العمال في
المنطقة العربية، وهي مشروعات رصدت لها الخارجية الأمريكية عشرين مليون
دولار في العام الحالي.
وقد بدأت وزارة الخارجية الأمريكية بالفعل أحد مشروعات المبادرة لتدريب
القيادات النسائية في العالم العربي على الحملات الانتخابية، واستضافت في إطار
ذلك البرنامج خمساً وخمسين سيدة من القيادات السياسية النسائية العربية لحضور
الحملات الانتخابية الأمريكية، للتجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، والانتخابات
المحلية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وستركز مبادرة الشراكة بشكل خاص على احتياجات المرأة العربية والشباب
في مجالات التعليم والمشروعات الحرة، والناشطين في مجال العمل من أجل
إحداث التغيير السياسي، ومن بين مشروعات المبادرة: مشروع لتدريب الناشطين
في العمل نحو التحول الديمقراطي، سيتم تنفيذه في كل من المغرب ولبنان
والبحرين.
كما سيتم تدريب وفود عربية أخرى على مراقبة سير الانتخابات، وتفعيل
القواعد الشعبية، وكيفية تشكيل الأحزاب السياسية.
[موقع الإذاعة السويسرية: سويس إنفو، على الشبكة العنكبوتية]
تركيا العدالة في عيون الصحافة الأمريكية
جاءت ردود فعل الصحف الأمريكية السيارة على فوز حزب العدالة التركي
بأغلبية انتخابية بتوجيه الرأي العام والساسة إلى ما ينبغي أن يكون عليه الوضع،
في توجه عام لفرض الإسلام الأمريكي على النموذج التركي الذي انقلب على
الأتاتوركية دون ضجة؛ تقول «واشنطن بوست» : «برغم أن أردوغان قد
يخفق في الداخل التركي، إلا أنه قد ينجح في خلق نموذج لممارسة سياسية
ديمقراطية يحتاجها بإلحاح العالم الإسلامي» . وتقول «نيويورك تايمز» :
«التجربة التركية الإسلامية الجديدة قد تُثبِتُ للعالم الإسلامي، وللعالم أيضاً،
أن العلمانية يمكن أن تكون حقاً ليبرالية، وأن الديمقراطية يمكن أن تترعرع في
بيئة إسلامية» . وتُقرّ «لوس أنجليس تايمز» : «هذه المرة الأولى التي تبرز
فيها فرصة زواج بين الإسلام والديمقراطية الليبرالية» .
[نقلاً عن موقع الإذاعة السويسرية: سويس إنفو]
جبهة جديدة للحرب الصليبية
صرح مسؤولون في البنتاجون أن الوزارة تعتزم إقامة مراكز قيادة أمريكية
بالقرن الإفريقي لإدارة العمليات ضد تنظيم القاعدة هناك، بينما تركز القيادة
الأمريكية العليا في المنطقة على العراق.. وأوضح هؤلاء المسؤولون أن الفرقة
الثانية لمشاة البحرية (المارينز) في معسكر لوجون في كارولاينا الشمالية تلقت
أوامر بنشر بضع مئات من العسكريين لعمليات مشتركة في القرن الإفريقي.
وتتمركز قوة ضاربة تتألف من 800 جندي من قوات العمليات الخاصة ومشاة
البحرية في جيبوتي؛ لمواجهة عناصر من القاعدة في هذه المنطقة.
وأضافت المصادر نفسها أن هذه القوات لم تشن أية عملية حتى الآن، وتركز
خصوصاً على التدريب وتوسيع اتصالاتها مع القوات الحكومية في الصومال
وأثيوبيا وإريتريا وكينيا واليمن. لكنها تقوم بالتفتيش عن قادة تنظيم القاعدة
وخصوصاً في اليمن.
[موقع القناة الإخباري]
مرصد الأرقام:
- استخدمت القوات الأمريكية أكثر من 6 آلاف قذيفة في أفغانستان، واحتوى
ثلث تلك القذائف على (اليورانيوم المنضب) ؛ مما تسبب في تلوث هائل في
أفغانستان، وطبقاً لعينات عديدة أخذت على فترات متعددة؛ فقد ثبت أن درجة
التلوث في التربة والمياه وأجساد الناس والجو في أفغانستان تتراوح بين 200
و473، وهو ضعف ما وجد من تلوث باليورانيوم في العراق وفي يوغسلافيا.
- من بين الجرائم التي شقي بها المجتمع الأفغاني المسلم بعد إزاحة حكم
طالبان وقوع 240حالة اغتصاب في كابل وحدها خلال الشهور العشرة الماضية
فقط، كما تضاعف إنتاج الحشيش في أفغانستان 18 مرة منذ إسقاط نظام طالبان،
وسط مزاعم بأن مشروع مكافحة زراعة الحشيش الذي تموله بريطانيا قد تقوض.
- يعيش في دول أميركا اللاتينية حوالي 221 مليون فقير يشكلون نسبة 44%
من مجموع السكان.
- يعاني 20 مليون مصري من أعراض الاكتئاب بسبب الضوضاء والتلوث
والزحام.
- تشير آخر الاستطلاعات إلى أن 52% من الإسرائيليين يؤيدون طرد ياسر
عرفات.
- استهلكت نفقات العمليات العسكرية على الحرب في الشيشان ثلث ميزانية
التنمية الروسية.
- تشير تقارير دولية إلى أن 80 ألف شيشاني لقوا حتفهم من جراء العمليات
العسكرية الروسية في الشيشان.
- يقدر ضحايا جنوب السودان بأكثر من مليوني قتيل، وأربعة ملايين نازح،
منذ عام 1983م.
- خسر اليمن حوالي 3.8 ملايين دولار في شهر واحد من حادث الناقلة
الفرنسية ليمبورج، بعد أن ارتفع التأمين على السفن التي تريد التوقف في المرافئ
اليمنية بنسبة 300%.
- يعاني 99.7% من العرب فوق 15 سنة من الأمية التكنولوجية.
- يشكّل المسلمون تقريباً ربع سكان العالم، ومع ذلك فإن حصتهم من الثروة
العالمية تقل عن 6%.
- يعتبر ثلثا فقراء العالم تقريباً أي أولئك الذين يعيشون بأقل من دولارين
يومياً من المسلمين.
- هناك 1.2 مليون مسلم من ذوي التعليم العالي يقبلون بسبب استنزاف
العقول على الهجرة إلى أوروبا، وأمريكا الشمالية، وأستراليا، ونيوزيلندا كل
عام.
- في العقود الثلاثة الماضية، لقي ما لا يقل عن 2.5 مليون شخص حتفهم
في حروب جرت داخل أو بين الدول الإسلامية.
- يقبع ثلثا السجناء السياسيين في العالم في سجون دول إسلامية.
- 80% من لاجئي العالم من المسلمين.
ثمن بخس!
ذكرت صحيفة الجارديان البريطانية في تقرير لها: أن قرار إيفاد المبعوث
الخاص الأمريكي الجنرال أنتوني زيني إلى الشرق الأوسط من جديد كان الثمن
الذي يتعين على واشنطن أن تدفعه مقابل الحصول على دعم حلفائها العرب لشن
هجوم محتمل على العراق.
ونقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط عن الصحيفة قولها: إن الرئيس الأمريكي
جورج بوش ونائبه ديك تشيني ظلا يقاومان النداءات الصادرة من العالم العربي،
ومن كولين باول وزير الخارجية للتدخل المباشر في نزاع الشرق الأوسط، إلا أنه
حدث تحول كبير مفاجئ بالموافقة على إرسال زيني للمنطقة.
[عن صحيفة الأسبوع القاهرية، العدد: (262) ]
ما خفي كان أعظم
تحاول وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إضفاء مزيد من التكتم حول
انتشار صور غير مصرح بنشرها لمعتقلي جوانتانامو، أثناء ترحيلهم على متن
طائرة عسكرية أمريكية إلى خارج أفغانستان، وتوضح الصور المعاملة السيئة التي
يلقاها المعتقلون؛ حيث تظهر المعتقلين بينما هم تحت حراسة أمنية مشددة، وقد
غلت أقدامهم وأجسامهم، كما وضعت أغطية على وجوههم داخل طائرة عسكرية
أمريكية من طراز C-130، وهي الطائرات نفسها التي استخدمتها القوات
الأمريكية لنقل معتقلي جوانتانامو من أفغانستان إلى كوبا.
وتظهر الصور أيضاً علماً أمريكياً كبيراً يتدلى من سقف الطائرة في الخلفية،
كما يظهر في أحد مقاطع الصورة جندي أمريكي وهو يتحدث إلى معتقل قيد جسمه
بالكامل، ووضعت يداه خلف ظهره.
[عن موقع: جود نيوز فور مي]
إيران.. وخان.. والأمريكان!
نشرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» لحقوق الإنسان بياناً في نيويورك
تتهم فيه الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بالتعاون مع «إسماعيل خان» والي
مدينة هرات الذي يسيطر على المنطقة، ويستغل سلطته، ويعتقل المواطنين
لأغراض سياسية، ويعذبهم ويرتكب انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان.
وقالت منظمة مراقبة حقوق الإنسان «هيومان رايتس ووتش» إنه تحت
قيادة إسماعيل خان حاكم هرات تتورط قوات الجيش والشرطة والمخابرات في
عمليات انتهاك واسعة لحقوق الانسان.
وطلبت منظمة حقوق الإنسان في نيويورك من المؤسسات الخيرية والإغاثية
العاملة في أفغانستان عدم مد إسماعيل خان بالمساعدات.
[عن موقع مفكرة الإسلام]
أخبار سريعة:
- تنتشر الأغاني المعادية للعرب والفلسطينيين بسرعة هذه الأيام في الكنس
اليهودية التابعة للحركة الصهيونية في فلسطين المحتلة، تلك الأغاني تحمل الكثير
من المقاطع التوراتية التي تتحدث عن الانتقام من العرب «المسلمين» وكراهيتهم،
وتدعو إلى قتلهم.
- طالب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بعقد مؤتمر دولي من أجل
مكافحة ما أسماه بالإرهاب، وذلك في خطاب ألقاه في تونس بمناسبة الذكرى
الخامسة عشرة لاستيلائه على السلطة.
- اعترف روجر كينج المتحدث العسكري باسم القوات الأمريكية بأن قواعد
قوات التحالف في أفغانستان تتعرض لهجمات منذ يونيو الماضي بمعدل 3 هجمات
أسبوعياً.
- في الفترة من 12 إلى 15 نوفمبر المنصرم، عقدت شعبة النهوض بالمرأة،
وإدارة شؤون الإعلام، في مقر الأمم المتحدة ومنظمة الأمم المتحدة للتربية
والعلوم والثقافة اجتماع خبراء حول ما سمي بـ «تمكين المرأة والإعلام» !! ،
وذلك في بيت الأمم المتحدة في بيروت، بالتعاون مع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية
والاجتماعية لغربي آسيا.
- وافق مجلس الأمن الدولي في جلسة علنية بالإجماع على القرار 1441
القاضي بإرسال مفتشي الأسلحة إلى العراق، وتضمن فقرة تنذر العراق بإجراءات
عقابية إذا رفض الانصياع لعمليات نزع الأسلحة.
وصوت مجلس الأمن بأغلبية جميع أصوات أعضائه الخمسة عشر بما فيها
سوريا لصالح قرار يمنح العراق «فرصة أخيرة» لإغلاق أي برامج لأسلحة
نووية أو كيماوية أو بيولوجية، بعد أن اتهم بغداد بانتهاكات خطيرة لقرارات الأمم
المتحدة السابقة.
- تلقت تركيا بارتياح تأكيدات الرئيس الأمريكي جورج بوش تقديم مساعدات
عسكرية واقتصادية لتركيا، لكن مصادر تركية قالت إن هذه المساعدات مشروطة
بمشاركة تركية نشطة في خطة ضرب العراق. قيمة المساعدات ربما تزيد عن
800 مليون دولار، مقسمة ما بين مساعدات عسكرية، ومساعدات اقتصادية قد
تأخذ شكل تخفيف ديون.
- قال مسؤول في واشنطن إن الوجود العسكري الأمريكي الكبير في دبي
سيكون عاملاً مساعداً للغاية في حالة اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية للعراق.
- رجّح مدير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن الدكتور جون
تشيبمان أن تقود الولايات المتحدة هجومها العسكري المحتمل على العراق في الفترة
ما بين شهري كانون الأول (ديسمبر) وآذار (مارس) المقبلين، وأن لا تتأخر
إلى فصل الصيف.
- الهجوم المفاجئ من حركة التمرد في جنوب السودان المدعوم لوجستياً
وبشرياً من إريتريا؛ استهدف ثلاثة أهداف حيوية، وهي مدينة همشكوريب،
ومدينة كسلا الاستراتيجية، وطريق الخرطوم بورسودان الحيوي.
- قام رئيس بلدية قرية «بريمانا» الجبلية الصغيرة في شمال إيطاليا
بتنكيس علم الاتحاد الأوروبي احتجاجاً على فوز حزب العدالة والتنمية الذي يعتقد
أن له توجهات إسلامية في الانتخابات التركية.
أقوال غير عابرة:
- مثلما كنت أجتهد لرفع مبيعاتي من الليمون والحلويات في شوارع إسطنبول
حتى وصلت إلى ما أنا عليه؛ سأجتهد في رفع مستوى الشعب.
[رجب طيب أردوغان، رئيس حزب (العدالة والتنمية) التركي]
- إن الكثيرين يهربون من تأدية الخدمة العسكرية ويتسلحون بذرائع صحية
أو نفسية، لكنهم في الحقيقة يبحثون عن حجة للتملص من الخدمة في المناطق
الفلسطينية، وكثيرين من الشبان الإسرائيليين يبحثون اليوم عن طرق للرحيل عن
الدولة لأنهم لا يرون هنا أي مستقبل.
[رائد في الاحتياط، ران كابلان، في حوار مع (شبكة BBC) الإخبارية
البريطانية، في إطار برنامج (هارد توك) ]
- أمريكا تستهدف بالأساس عشرات العراقيين الذين يملكون الخبرة والتجربة
دون إمكانيات الآن لبناء القوة الذاتية، ولم يهاجروا خارج العراق كما كان مأمولاً.
[محمد حسنين هيكل]
- إذا كان هذا القتل المتعمد بديلاً عن الاعتقال في ظروف لم يكونوا فيها
يشكلون تهديداً مباشراً؛ فإن قتلهم يكون إعداماً خارج نطاق القضاء؛ في انتهاك
لقانون «حقوق الإنسان الدولي» .
[منظمة العفو الدولية تسأل واشنطن عن دورها
في قصف علي قائد الحارثي في اليمن]
- إن أولئك الذين يؤيدون ترشيح تركيا «هم أعداء الاتحاد الأوروبي» ،
«فلتركيا ثقافة مختلفة، وأسلوب مختلف، وطريقة مختلفة في الحياة» .
[الرئيس الفرنسي الأسبق ديستان لصحيفة لوموند الفرنسية]
- حان الوقت لإنهاء السجن غير المقبول قانوناً الذي يحتجز هؤلاء السجناء
فيه، وهو موقف حُرموا فيه من وضع أسرى الحرب، بينما لا يسمح لهم في
الوقت نفسه بالتمتع بالحقوق المعترف بها للمشتبه فيهم جنائياً طبقاً للقانون الأمريكي.
[من تقرير لمنظمة العفو الدولية حول أسرى جوانتانامو]
قائد سلاح البر الإسرائيلي يهرب من مستوطنته
خوفاً من المقاومة
ذكرت تقارير صحفية في القدس أن الجنرال «يفتاح رون طال» قائد
السلاح البري في الجيش الإسرائيلي هجر منزله في مستوطنة «عوفره» في
أعقاب تقديرات أوساط أمنية بأن منظمات فلسطينية تحاول اغتياله.
ووصل «رون طال» وأسرته إلى مستوطنة «عوفره» قبل 14 عاماً،
وذلك بعد تعيينه قائد لواء رام الله إبان الانتفاضة الأولى، وقد بقي هناك آمناً إلى
أن نشرت معلومات قبل حوالي العام وبعد تعيين «رون طال» قائداً بسلاح البر
حول سكنه في مستوطنة قريبة من رام الله.
وفي أعقاب الكشف عن منطقة سكنه أعربت أجهزة الأمن عن تقديرها بأن
منظمات فلسطينية وضعت الجنرال هدفاً لضربه كما حاولت اغتياله، وقد قرر
«رون طال» بعد مشاورات مع أوساط عسكرية مغادرته وأسرته للمستوطنة
والانتقال للسكن في منزل بوسط إسرائيل.
وجرى التحقيق قبل عدة أشهر حول شبهات بإطلاق فلسطينيين النار على
الطائرة المروحية التي كان يستقلها «طال» إبان تحليقها، وقررت هيئة أركان
الحرب الإسرائيلية في أعقاب إطلاق النار عدة مرات على طائرات مروحية تقليص
تحليق الطائرات في المنطقة.
[البيان الإماراتية، العدد: (8180) ]
البنتاجون يصمم شبكة إلكترونية
للتجسس على بنوك المعلومات والحكومات والشركات والأفراد
بدأ مكتب أبحاث تابع لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بتصميم شبكة
إلكترونية كونية تمكن الأجهزة الاستخباراتية من مراقبة الأنشطة الإرهابية حول
العالم.
ويهدف برنامج «الاطلاع على المعلومات» الذي يقوم بتطويره مستشار
الأمن القومي السابق «جون بويندكستر» إلى الاطلاع على البيانات الخاصة
بالأفراد والشركات والحكومات في العالم.
ويبدو أن مشروع «بويندكستر» سيسهل كثيراً عمل المحققين في مجال
مكافحة الإرهاب، في ظل الصعوبات التي يواجهونها للحصول على المعلومات
«الهائلة» المتوفرة لدى السلطات عن المشتبه في علاقتهم بالإرهاب؛ إذ
يقتضي إطلاع الأجهزة الاستخباراتية على تلك المعلومات موافقة من القضاء داخل
الولايات المتحدة، أو بذل جهود دبلوماسية كبيرة خارج الولايات المتحدة.
[الشرق الأوسط، العدد: (8751) ]
ولليهود عنصرية بينهم
«إدفا» مركز المعلومات عن المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل نشر
تقريره السنوي وأثبت فيه أن هناك هوة سحيقة بين الفقراء والأغنياء، وبين
الرجال والنساء، وبين اليهود والعرب (فلسطييني 48) ، وبين اليهود الشرقيين
(السفارديم) واليهود الاشكناز (الغربيين) ، في كل مجالات الحياة تقريباً؛ ففي
الأجور يبلغ المعدل العام في إسرائيل 6964 شيكلاً (1481 دولاراً) في الشهر.
اليهود الإشكناز فقط هم الذين يحصلون على رواتب أعلى من هذا المعدل، ويبلغ
متوسط الأجور لديهم 9610 شيكلات (2044 دولاراً) في الشهر. وهو ضعف ما
يتقاضاه العربي، وأعلى مرة ونصف من اليهودي الشرقي.
[الشرق الأوسط، العدد: (8751) ](182/106)
الورقة الأخيرة
الانحراف الأخلاقي
وأثره في الانحسار الحضاري
د. رقية طه جابر العلواني
تلعب الأمراض الاجتماعية والآفات الأخلاقية دوراً بارزاً في تقويض عرى
الحضارات الإنسانية المختلفة؛ فقد أقامت العديد من الأمم السابقة آيات من البناء
المادي، وشيدت منجزات حضارية هائلة سرعان ما بادت وانحسرت بتمحورها
حول القطب المادي وإغفالها للقيم الروحية والمثل الأخلاقية ودورهما الهام في
عملية البناء الحضاري.
فلم يشهد التاريخ مصرع حضارة فتية المثل والقيم، سليمة من الآفات والعلل
الاجتماعية والأخلاقية، ولكنه شهد عدداً من مصارع حضارات وأقوام أفلست
أخلاقياً واجتماعياً ودينياً، فحق عليها قول التدمير وكلمة الفناء الأزلي، ولم تغن
عنها محصلاتها المادية.
فالقوى المادية وإن كانت تعد من أسباب التحضر والتقدم إلا أنها قد تكون
كذلك من عوامل التخلف والشقاء إذا ما قامت الأمم والشعوب بتحويلها إلى أسباب
غرور وتفاخر وتسلط وظلم لمن حولها، وتهميش كل ما وراء ذلك.
فالفساد والانحراف لا بد أن تجنيه الأمم تردياً وأفولاً وانحساراً في حضارتها،
وتلك سنة الله في الأمم؛ ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
والانحراف الأخلاقي من أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله وتحول عافيته
وفجاءة نقمته؛ فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب.
قال تعالى: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]
(الشورى: 30) .
فتغير أحوال الأمم والحضارات من الصعود والرقي إلى التدهور والانحسار لا
يكون إلا بتغيرهم وتوجههم نحو المعاصي وارتكاسهم في الانحراف والابتعاد عن
منهج الله وفطرته. قال تعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الأنفال: 53) . فقد أخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمته
التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فإذا غير طاعة الله
بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، كان الهبوط والتردي
جزاءً وفاقاً. قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ] (الرعد: 11) .
بل إن الانحراف الأخلاقي ليقطع على الأمم طريق النهوض والإقالة من
العثرات كذلك؛ فإن نعم الله لا تستجلب إلا بطاعته، كما أن النقم تستجلب بمعصيته
والانتكاس عن طريقه؛ فالخالق سبحانه اختط للأمم سنناً في النهوض والبقاء كما
وضع لها سنناً وقوانين أخرى في الهبوط والزوال؛ فإذا وظفت الأمم نعم الله عليها
من تقدم وتطور في ميادين الحياة المختلفة في معصيته والانحراف عن هديه انقلبت
تلك النعم إلى آفات تبطل أعمالها، وتحطم منجزاتها، بل وتكون سائقها إلى سبيل
الأفول والانحسار.
فاستعمال النعم في معصية الخالق جل وعلا من أهم أسباب زوالها وتحولها.
يقول ابن القيم رحمه الله: «إذا أراد الله حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها
بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها. ومن العجب علم العبد
بذلك مشاهدة في نفسه وغيره، وسماعاً لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله
عنهم بمعاصيه وهو مقيم على معصية الله كأنه مستثنى من هذه الجملة أو
مخصوص من هذا العموم» [1] .
إن غياب الوعي بسنن الله في الأنفس والحضارات وأثر الانحراف الأخلاقي
في أفولها وانهيارها لا يمكن أن يسوق إلا إلى مزيد من العثرات والانحدارات التي
تمهد بدورها السبيل أمام الانحسار التام والسقوط المطبق؛ فالصعود الحضاري في
حياة الأمم والشعوب لا يطرأ عليه تغير أو هبوط إلا في حالة سعي تلك الأمم ذاتها
في استجلاب ذلك التغيير من خلال انحرافها وحيدتها عن طريق الفطرة الإنسانية
وانتكاسها في طريق الضلال.
ولله در القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
هل تعي البشرية اليوم تلك السنة الإلهية الثابتة!! (أرجو ذلك) .
__________
(1) بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، مكتبة الباز، مكة المكرمة، 1416هـ/1996م، ج 2، 432.(182/110)
ذو القعدة - 1423هـ
يناير - 2003م
(السنة: 17)(183/)
كلمة صغيرة
«فويلٌ لَهُم ممَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهم»
(رجال الدين) النصارى يحملون في نفوسهم عُقداً وحقداً على الإسلام منذ
كشف حقائقهم في تحريف التوراة والإنجيل، وفضح مزاعمهم بدعوى صلب
المسيح عليه السلام وقتله، ومنذ بين أن الإسلام ناسخ لدينهم؛ مما جعلهم يناصبون
الإسلام والمسلمين العداء، ولا يستحييون من إشاعة الأكاذيب والمفتريات على نبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم الذي جاء بتوقير الأنبياء واحترام الأديان السماوية
السابقة.
وحينما تنشر مفتريات القوم على نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم تتركز
ردود الفعل من المسلمين على رد المفتريات وفضح الأكاذيب، وخاصة من
المنظمات الإسلامية؛ مع أن القوم لا يمر وقت إلا ونسمع بانحرافاتهم الخُلقية،
وخراب ذممهم المالية، وانحرافاتهم الجنسية؛ إلى حد أن بعضهم فُصل عن عمله،
وبعضهم أعيد تأهيله.
ومع اعتذار بعضهم اعتذارات باردة لكنها اعتذارات تحمل في طياتها الكبرياء
والعنجهية.. فإلى متى يشترون بالكتاب ثمناً قليلاً؟!
وليس بعيداً ما حصل في نيجيريا مؤخراً؛ حينما حاولوا إقامة ما يسمى
بمسابقة (ملكات الجمال) وفي رمضان بخاصة!! وزاد الطين بلة ما نشرته
صحفية مشبوهة أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لو وُجِدَ لأيَّد المسابقة
ولتزوج ملكة الجمال!! مما جعل المسلمين يثأرون من هذا الاستهتار بكرامتهم
والإساءة البالغة لدينهم، واشتعلت حرب محدودة راح ضحيتها المئات؛ فاضطر
بعضهم للاعتذار عن تلك الإساءات، ونُقلت المسابقة إلى مكان آخر؛ فإلى متى
يتهور رجال يُفترض فيهم الوقار واحترام القيم الإنسانية؟! إلى متى يكذبون
ويفترون؛ بينما لا يجرؤون على نقد اليهود الذين لا يعترفون بدينهم، والذين
يرتكبون أفظع الجرائم في حق الإنسان بفلسطين؟! وإذا ووجهوا بذلك اعتذروا
بامتناعهم عن (التجديف في الدين) ، و (عدم معاداة السامية) ؛ وكأن ذلك حق
لغير الإسلام والمسلمين فقط!
ومن العجيب أن الغرب ممثلاً بـ (أمريكا) احتجوا على مسلسل عربي
يحكي الآثار الصهيونية في المنطقة العربية على ضوء (البروتكولات المعروفة) ،
وبغضِّ النظر عن مضمونه ومدى فائدته نتساءل: أين الديمقراطية المزعومة التي
ينادون بها؟ وأين حرية الرأي؟! أم أن ذلك ممنوع في حقنا استهتاراً بمقدراتنا،
وإمعاناً في إذلالنا، وعدم مبالاة بحقوقنا؟!
والأعجب أن ذاك المسلسل عُدِّل بعد توزيعه، وعُدل عن بثه في عدد من
القنوات بضغوط خارجية، وقنوات عربية أخرى لم تفكر أصلاً في بثه؛ بينما تبث
برامج ومسلسلات تحمل مضامين واتجاهات تغريبية؛ يريدون بها أن تشيع الفاحشة
في الذين آمنوا.. نسأل الله لقومنا الهداية والرشاد، والوعي لما يراد بهم. وحسبنا
الله ونعم الوكيل.(183/3)
الافتتاحية
ومن يزيل ترسانة (إسرائيل) ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فلأكثر من عقد من الزمان، والعالم مشغول بما (يخفيه) العراق من أسلحة الدمار
الشامل، في وقت يتغافل فيه هذا العالم ويتعامى عما (يعلنه) الكيان اليهودي من
أضعاف أضعاف ما لدى العراق أو ما كان لدى العراق من هذا السلاح!
أسلحة الدمار في العراق دُمرت، وانتهت الشرعية الدولية الجائزة منها لصالح
دولة الجوار «المسالم» (إسرائيل) التي أعدت للعرب كلهم، وليس للعراق
وحدها، ما يكفي لجعل باطن الأرض خيراً من ظاهرها لهم جميعاً.
ماذا يريد هذا العالم الغربي بالوجود العربي؟! .. لا توجد دولة عربية واحدة
ثبت الآن أن لديها سلاحاً نووياً أو كيماوياً أو بيولوجياً، في الوقت الذي ثبت فيه
بكل القرائن والدلائل المعلنة والخفية، أن دولة اليهود جعلت أرض فلسطين تعوم
فوق بحيرة نار من أسلحة الدمار! فبالرغم من أن قوة السلاح التقليدي اليهودي
يتفوق على مجموع قدرات الجيوش العربية المحيطة بـ (إسرائيل) بضمانة
غربية أمريكية، إلا أن تلك الدولة، وبمباركة من أعداء المسلمين جميعاً، أصبحت
تحتل الآن المرتبة السادسة في القوة النووية بعد الدول الخمس الكبرى!
عندما استقرت دولة اليهود بعد إنشائها على يد قوى الغرب، سارع ذلك
الغرب إلى مساعدتها على حيازة الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، فقدمت لها ألمانيا
الغربية مساعدات في مجال الحرب الجرثومية، وزودتها فرنسا بمعامل لتجهيز
ميكروبات الطاعون والحمى الصفراء، أما في المجال النووي، فإن الولايات
المتحدة الأمريكية أهدت حبيبتها وربيبتها (إسرائيل) برنامجاً نووياً عام 1955م،
أطلق عليه وقتها: (برنامج أيزنهاور للذرة من أجل السلام) ! وتبرع علماء الذرة
الأمريكيون بمساعدة اليهود بتطوير هذا البرنامج سراً، ليتحول من برنامج
للاستخدام السلمي إلى برنامج للاستعمال الحربي، وتغاضت الحكومة الأمريكية عن
ذلك.
وفي عام 1954م، أنشأت الدولة العبرية مفاعلاً نووياً في منطقة النقب،
بمعونة فرنسية، واتجه اليهود بعد ذلك إلى دولة جنوب إفريقيا حيث تعاونوا معها
في المجال النووي، وظلوا يستوردون مادة اليورانيوم من دولتهم الغنية بها.
وقدمت البرازيل ومعها دول أوروبية أخرى مساعدات أخرى لليهود على شكل
تبادلات تقنية وتدريبات فنية وإمدادات بالخامات اللازمة. وكانت محصلة هذا
التعاون على الإثم والعدوان أن أصبحت دولة اليهود مسيطرة على أربعة مفاعلات
نووية هي:
- مفاعل ريشون ليفربون، وهو أول مفاعل تم تشغيله عام 1957م.
- مفاعل ناحال سوريك، وبدأ العمل به عام 1958م.
- مفاعل (النبي) روبين، وبدأ العمل به عام 1966م، وكان هدية من
الرئيس الأمريكي الأسبق «ليندون جونسون» .
- مفاعل ديمونا، وهو الذي قامت فرنسا بتصميمه وتنفيذه.
وأيضاً فإن لدى دولة اليهود المستثناة من دخول فرق التفتيش ثلاثة مراكز
ومعاهد تعكف على إنشاء أو تطوير مفاعلات أخرى، وهي: (مركز التدريب
على النظائر المشعة) و (المعهد الإسرائيلي للإشعاع والنظائر) بتل أبيب،
و (معهد العلوم الفضائية) الذي تُجرى فيه التجارب العملية للصواريخ، وتتم
فيه عمليات تحضير الوقود الصلب والسائل.
ولدولة اليهود المدللة لدى الأمم المتحدة ثلاث هيئات رسمية لصنع السياسة
النووية العسكرية: إحداها: لجنة الطاقة الذرية، والثانية: المجلس الوطني للبحث
والتطوير النووي، والثالثة: اللجنة الاستشارية للتطوير بوزارة الدفاع.
أما العراق فإن علماءه مطلوبون للتحقيق خارج العراق بتهمة محاولة الخروج
من السور الحديدي المضروب على العرب جميعاً حتى لا يخرجوا إلى عالم القدرة
على ردع أعدائهم.
حصيلة النشاط الإسرائيلي في المجال النووي وغيره، أثمرت قدرة نووية
يهودية سارت في سلسلة من التطوير، تمت تحت سمع العالم وبصره؛ فقد سربت
مجلة تايم الأمريكية عام 1973 أنباءً تفيد بأن بحوزة (إسرائيل) 13 قنبلة نووية،
وفي عام 1976 نُشرت تقارير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية تفيد بأن
(إسرائيل) أصبح لديها 20 قنبلة نووية، وتصاعد العدد إلى 40، ثم كشف النقاب
بعد قضية الجاسوس الإسرائيلي (فعنونو) في الثمانينيات أن دولة اليهود أصبحت
تمتلك مئتي رأس نووي.
وفي ظل هذا الواقع المفروض على المجتمع الدولي، أصبح هذا المجتمع
متقبلاً بالرضى أو الإكراه كل ما يصدر عن (إسرائيل) من «تجاوزات» أو
«مخالفات» أو «انتهاكات» تعد (تافهة) بالنسبة لما سبق؛ فكون الدولة
العبرية تمتلك قدراً هائلاً من القنابل النووية التكتيكية ذات الرؤوس الصغيرة، فهذا
أمر ينبغي (التسامح) فيه، وكونها تمتلك ما لا يقل عن 35 قنبلة هيدروجينية،
فتلك يجب التغاضي عنها.
أما مخالفة (إسرائيل) لتسع معاهدات دولية لحظر واستخدام أسلحة الدمار
الشامل، فتلك مجرد مداعبة ثقيلة من خفيفة الظل (إسرائيل) .
تعالوا إلى العراق الذي قتلت منشآته ومؤسساته ومستشفياته ومصانعه ومعامله
وقصوره تفتيشاً على مدى اثني عشر عاماً خلت! ماذا بقي في حوزته من خطر
- إذا وُجد - مقارنة بهذا الخطر اليهودي الماحق على الشرق الأوسط كله؟! لقد
ذرعت فرق ولجان التفتيش في السنوات الماضية أرض العراق شبراً شبراً للبحث
عن أي خطر نووي أو بيولوجي أو كيماوي. صحيح أن تلك الفرق وجدت عناصر
خطرة هنا وهناك، ولكنها جميعاً دُمرت بعد ذلك، باعترافات رؤساء تلك اللجان
أنفسهم.
بدأت عملية إزالة أسلحة العراق غير التقليدية في أبريل 1991م بعد انتهاء
حرب الخليج الثانية مباشرة، واعتبرت الولايات المتحدة ذلك الإجراء استمراراً
لتلك الحرب بوسائل أخرى؛ فما حدث بعد تدمير العراق في فبراير عام 1991م،
لم يكن إيقافاً للحرب بل وقفاً لإطلاق النار.
وبموجب قرار وقف إطلاق النار ألزم العراق بتدمير ما لم تقم الحرب بتدميره؛
حيث تبين أن 115 ألف طلعة جوية في 43 يوماً لم تقض إلا على 50% من
أسلحة العراق التقليدية، أما أسلحته غير التقليدية، فلم يستطع الأمريكيون الوصول
إليها؛ لأن حربهم البرية لم تكتمل، وتبين أن العراق لا يزال يحتفظ بعناصر قوته
غير التقليدية بشكل شبه كامل؛ لهذا لجأت أمريكا إلى استكمال الحرب بوسائل
أخرى، وكانت الأمم المتحدة أداتها في ذلك؛ فقد أصدرت تلك الأمم بإيعاز من
الولايات المتحدة قراراً خاصاً بنزع أسلحة العراق يختلف عن كل القرارات السابقة
التي أصدرتها الأمم المتحدة لحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل، فأصدر مجلس
الأمن القرار (687) الذي أنشئ بموجبه فريق تابع لوكالة الطاقة الذرية ولجنة
خاصة تابعة للأمم المتحدة، أوكلت إليهما مهمة تفتيش وتدمير أسلحة العراق غير
التقليدية بشكل كامل، وعلى نفقة الحكومة العراقية - عفواً - بل على حساب
الشعب العراقي.
كان هذا القرار حالة استثنائية؛ فالأمم المتحدة رأت أن قراراتها السابقة
المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل لا تعطي إلا (صلاحيات محدودة) .. وأمريكا تريد
صلاحيات (غير محدودة) ، فصدر القرار (687) لينشئ وضعاً جديداً، عبَّر
عنه (رالف أكيوس) رئيس فريق التفتيش السابق بقوله: «أنشئت اللجنة الخاصة
للعراق فقط، فلدينا حرب شنت بأمر الأمم المتحدة، ولدينا قرار بوقف إطلاق نار
يوجب على العراق نزع أسلحته» وكان ذلك القرار قد نص من باب النفاق على أن
عملية نزع أسلحة العراق، هي مقدمة لعمليات مشابهة لنزع أسلحة الدمار الشامل
من منطقة الشرق الأوسط كلها!!
والآن.. وبعد مضي اثني عشر سنة على عدم التقدم خطوة واحدة من اللجان
للتفتيش في (إسرائيل) ، نرى أن ذلك (الوعد) يبدو أنه سيطبق على دول أخرى
بعد العراق باستثناء إسرائيل بالطبع فتطالب أمريكا أي دولة تريد إذلالها بالسماح
بدخول فرق التفتيش إلى أراضيها. ثم يبدأ مسلسل التهديد والوعيد، ثم الهجوم
المبيد!!
إن ما يجري الآن في العراق هو مهزلة بكل المقاييس وهي قابلة للتكرار في
بلدان أخرى عربية وإسلامية، ويشارك في صنع تلك المهزلة العالم الذي أجمع
على موافقة أمريكا على إعادة فرق التفتيش إلى العراق، وليس إلى (إسرائيل) !
إن الحجة المعلنة في ذلك هي أن العراق استخدم بالفعل أسلحة غير تقليدية.
وهنا نقول: إن دولة اليهود أيضاً استخدمت أسلحة غير تقليدية مرات عديدة
ضد العرب في حروبها معهم، فبعد ثمانية عشر شهراً فقط من خروج الأفعى
اليهودية من بيضتها، استعملت السلاح غير التقليدي؛ ففي بعض العمليات المتعلقة
بحرب 1948، استعمل اليهود السلاح الجرثومي، وأطلقوا ميكروبات الدوسنتاريا،
واستخدموا بعد ذلك في حروبهم قنابل النابالم المحرمة دولياً، وكذلك القنابل
العنقودية، وطلقات دمدم وغيرها.
وإسرائيل تتأسى في ذلك بقدوتها في الشر أمريكا التي كانت الأولى في
استعمال القنبلة النووية في مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، والتي
استعملت في حربها ضد العراق نفسه اليورانيوم المنضب الذي أصبح عامل تهديد
لسكان المنطقة لعشرات أو مئات السنين.
إن موافقة العالم أجمع على القرار 1441 القاضي بإعادة المفتشين إلى العراق
دون الإشارة - ولو الإشارة - إلى ترسانة الإرهاب المسماة (إسرائيل) لهي دليل
جديد على أن هذا العالم يحتاج إلى قيادة رشيدة بدلاً من تلك القيادة الرعناء المسماة
بالأمم المتحدة التي أصبح الإنجيليون واليهود يديرونها اليوم من البيت الأبيض
والكنيست الإسرائيلي، وحاجة البشرية اليوم إلى الإسلام العظيم بعدله وإصلاحه
أعظم من حاجتها في أي عصر مضى؛ فاللهم عجل بنصر الإسلام وعز المسلمين.(183/4)
دراسات في الشريعة
المشروعية العليا في الإسلام
وأثرها في العلاقات الدولية
د. عثمان جمعة ضميرية
drothmamjd@hotmail.com
جعل الله تعالى الإنسان كائناً اجتماعياً؛ فهو مدني بطبعه، يميل إلى اللقاء
بالآخرين والحياة معهم في مجتمع يقوم على جملة من القواعد والنظم التي تضبط
علاقته بربه، وعلاقته بالآخرين من حوله، وتضبط معالم حياته الاجتماعية
والاقتصادية والدولية؛ فهو إذن بحاجة إلى شريعة تنظم حياته وعلاقاته وارتباطاته.
ولما كان الإنسان بحكم تكوينه العقلي والنفسي، وبسبب خضوعه للهوى
أحياناً، والمصالح الذاتية والدوافع الخاصة أحياناً أخرى عاجزاً عن أن يضع لنفسه
منهجاً متكاملاً خالياً من العيوب؛ فقد تكفَّل الله تعالى بذلك، رحمةً منه وفضلاً،
وأرسل رسله وأنزل كتبه وشرائعه ليقوم الناس بالحق والعدل، وليقيم بذلك الحجة
على الناس: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ] (الحديد: 25) ، [رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] (النساء: 165) ، وجعل الله تعالى لكل أمة من الأمم سبيلاً
ونظاماً ومنهجاً يتسق وحياتها الفطرية، ويحقق لها مصالحها العاجلة والآجلة:
[لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا] (المائدة: 48) .
وهذه الصفة الربانية والصبغة الدينية للتشريع الإسلامي تأتي في قمة الفوارق
بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية التي يرتضيها البشر لأنفسهم في القديم
والحديث، ولها أثرها الكبير في خضوع المؤمنين جميعاً لشرع الله تعالى؛ لأنه
يقوم على أساس ديني، مما يضمن له حسن الامتثال؛ بخلاف القوانين الوضعية
التي تضبط إن استطاعت الظاهر من حياة الناس، ولكنها لا تستطيع أن تضبط
البواطن، ولا أن تصل إلى أعماق النفوس أو أن تعرف دخيلتها، لتقدم لها ما
يناسبها من علاج تشريعي؛ لذلك لا نجد لها من الهيبة والاحترام ما نجده للتشريع
الإلهي الذي يقوم على الوحي المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،
وهو الوحي الذي تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه.
* نظرية المشروعية المعاصرة:
ولذلك تلجأ القوانين الوضعية إلى اختراع مبادئ ونظريات، تضمن خضوع
الدولة وخضوع الناس لسلطة القانون وأحكامه، فنشأت نظرية «المشروعية» .
ولم يستعمل الأقدمون كلمة «مشروعية» كثيراً، ولكنها أصبحت في هذا
العصر ذات معنى عريض ومكانة عظيمة؛ فهي أساس النظام، وبها يُعرف أن
أمراً من الأمور حقٌّ وعدل أو باطل وظلم، وبها يُعرف أن الأمر محظور أو مباح؛
فهي في المصطلح الحديث تدل على سيادة القانون في دولة من الدول، وتطلَق
بالذات على خضوع الدولة للقانون.
وهذه السيادة تختلف في مفهومها وصفاتها في كلٍّ من النظامين الوضعيين
اللذين تخضع لهما المجتمعات العصرية، وهما: النظام الفردي (وصورته
الرأسمالية) والنظام الموضوعي (وصورته الاشتراكية) .
ففي النظام الفردي: تكون المشروعية هي ما يسنُّه البشر من النظم العليا،
وهي الدستور والقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية الممثلة في الهيئات المنتخبة
عن الشعب؛ فنظام المجتمع كله يخضع للدستور ثم للقوانين، ويجب أن تكون
اللوائح والقرارات والعقود، وكل وضع آخر، خاضعاً لهذين المصدرين.
وأما في النظم الموضوعية: فهناك مُثُلٌ عليا تسود المجتمع، ويجب أن
يخضع لها الدستور نفسه، وكذلك القوانين من باب أوْلى؛ فلا قيمة لهما إلا إذا
وافقا هذه المشروعية العليا وطابقاها [1] .
* سلبيات المشروعية المعاصرة:
وهذا المبدأ الذي نادت به القوانين الوضعية، وجعلته حلاً للحكم المطلق،
وصاغت من أجله الدساتير والقوانين، والوثائق العالمية، والمعاهدات الدولية،
والمنظمات الإقليمية، هذا المبدأ هو نفسه لون من ألوان الظلم والاستعباد والتسلط؛
لأنه يعطي فئة من البشر حقَّ التشريع والحاكمية وسنَّ القوانين التي يخضع لها مَنْ
تطبق عليهم؛ إذ من السهل عليهم أن يصوغوا من الظلم قواعد، ومن الباطل
قوانين، ويجعلوها أوثاناً عصرية..
وكل ما تَفَتَّقَ عنه العقل البشري في المجال القانوني من ضمانات لسيادة
القانون لا يقوم على دعائم ثابتة ولا أسس راسخة، وكل ما قيل عن جمود الدساتير
وعدم قابليتها للتعديل يسقط بحركة مضادة، دونما حاجة إلى إجراء تعديل دستوري
أو شعبي، وأحياناً لا يستغرق التعديل الدستوري بضعة دقائق، تلبية لرغبة
المتنفذين من أصحاب السلطة، رغم كل ما يقال عن ثبات القواعد الدستورية.
وما قيل عن الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)
كان في عالم الواقع أثراُ بعد عين، إلى جانب ما قيل عن الرقابة القضائية (رقابة
دستورية القوانين) .. قد يكون حبراً على ورق، عندما نفتقد ذلك المستوى الرفيع
من الذين يوكل إليهم ذلك.. وهذا كله ينتقص هذه المشروعية من أطرافها بوسائل
متعددة، فلا تجد هذه المشروعية لها سبيلاً إلى عالم الواقع، وما نجده من استعباد
القويّ للضعيف، والدولة الكبرى للصغرى، والثورات العسكرية، وإنكار حقوق
الإنسان.
كلُّ هذا الذي تقدّم: أمثلةٌ صارخة على أن هذا المبدأ في القانون الوضعي إنما
هو صرخة في واد، أو فكرة مجنحة في عالم الخيال ... يحاولون الوصول إليها فلا
يستطيعون [كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً]
(النور: 39) .
* هذه هي المشروعية الإسلامية:
فإذا عدنا إلى الإسلام دين الله الخالد الذي أتم الله به علينا النعمة، ورضيه لنا
ديناً؛ حيث قال: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة: 3) ؛ فإننا نجد أن القرآن الكريم قد أرسى قاعدة الشرعية
على أصول ثابتة؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي له الحكم ابتداءً، هو
المشرع، وهو الحاكم: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاه] (يوسف:
40) .
وقد نزع الله تعالى سلطة التشريع من البشر، ولم يمنح هذه السلطة لأحد منهم:
[أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] (الشورى: 21) .
فالله سبحانه وتعالى هو الذي أنزل هذه الشريعة وهذا المنهج الخالد: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) . حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما
هم في الحقيقة لا يشرِّعون وإنما يتلقون الوحي من الله عز وجل، ولكن الوحي قد
يكون وحياً متلواً أو غير متلو؛ فقد قال الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم:
[وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى] (النجم: 3) .
* العلماء لا يشرعون:
وأما العلماء والفقهاء المجتهدون فإنهم لا يشرّعون، وإنما يستنبطون الأحكام
من النصوص الشرعية ضمن قواعد الاجتهاد وتفسير النصوص، وإن كان بعض
المعاصرين من العلماء يطلقون لفظ «التشريع» على بعض الأحكام الاجتهادية مما
لا نص فيه مما يتصل ببعض جوانب الحياة. وليس من غرضنا في هذه العجالة أن
نبحث في صحة هذه التسمية والإطلاق أو عدم صحتهما.
ولأن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالأمر والنهي والحكم؛ فقد حكم بالكفر
على الذين جعلوا لأنفسهم حق التشريع من دون الله أو مع الله بالتحليل أو التحريم؛
فقال عن اليهود والنصارى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ] (التوبة: 31) . وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه
الآية لعدي بن حاتم عندما قدم عليه ليُسْلِم، كما جاء في حديثه الذي يقول فيه:
«أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا
عدي! اطرح هذا الوثن من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في
» سورة براءة «، فقرأ هذه الآية: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ
اللَّهِ] (التوبة: 31) ، قال: فقلت: يا رسول الله! إنَّا لسنا نعبدهم. فقال:
أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت:
بلى! قال: فتلك عبادتهم» [2] .
وقد اعترف المشركون أنفسهم بأنهم وقعوا في الشرك؛ لأنهم توجهوا بالشعائر
لغير الله، وحللوا وحرموا من دون الله، فقال الله تعالى عنهم: [وَقَالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ
مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (النحل:
35) وبذلك يتهاوى كل ما يقال عن سلطة الأمة في التشريع، أو حكم الشعب
للشعب باسم الشعب، وهو ما أُطلِقَ عليه اسم «الديمقراطية» ، وغير ذلك من
الشعارات الزائفة.
* ما هي المشروعية ومدلولاتها؟
وإذا أردنا تحديد المشروعية الإسلامية العليا التي يتقيد بموجبها كلُّ ما يصدر
عن المكلَّف من قول أو فعل أو تصرُّف؛ فإننا نجد أنفسنا أمام معنى لغوي استُمِدَّ
منه المعنى الشرعي، (وفي كل التعريفات نجد ذلك) ؛ فالمشروعية مشتقة من
الفعل (شرع يشرع) وهو فعل يفيد البدء في السير على أساس منظم، أي على
أساس من التنظيم المسبق. ومنه: الشارع وهو الطريق المعدّ للسير، والمشروع:
هو الفكرة المنظمة، والتشريع: وهو القاعدة العامة المنظِّمة (بكسر الظاء) وكذا
منه الشرع والشريعة والمشرع أو الشارع.
وتطلق المشروعية عند علماء الفقه الإسلامي على الدليل الشرعي الذي يدل
على حكم من الأحكام التكليفية الخمسة، فنقول مثلاً: الدليل على مشروعية البيع
قوله تعالى: [وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ] (البقرة: 275) .
ومضمون المشروعية الإسلامية هو التضامن في تنفيذ ما أمر الله تعالى به،
وفي منع ما نهى الله تعالى عنه [3] ؛ فقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً
وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *
وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 102-104) . وقال أيضاً: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2) .
ويمكن أن نقول: إن مضمون المشروعية الإسلامية هو الحفاظ على مقاصد
الشريعة العامة، وهي الضروريات والحاجيات والكماليات ... إذ هو مقصود
الشريعة [4] .
وبذلك تتقيد جميع الأحكام بهذه المشروعية الإسلامية العليا، ويمتد نطاقها
ليشمل علاقة الدولة بالأفراد، وعلاقة الأفراد ببعضهم.
ومن هنا أيضاً تتميز أحكام العلاقات الدولية والتنظيم الدولي الإسلامي عنها
في ظل القانون الدولي الحديث؛ حيث تقوم في الإسلام على هذا التضامن؛ فإن
وحدة الأمة الإسلامية التي تسكن دار الإسلام إنما تظهر فيها أحكام الشريعة
الإسلامية، وهذه الوحدة المتماسكة لا يجوز أن يقوم بينها وبين غيرها علاقة
الحرب إلا لأجل إعلاء كلمة الله تعالى؛ فلا يجوز أن تشن على سائر البلاد حرباً
بقصد الاغتناء الاقتصادي أو فتح الأسواق أو تأمين المواصلات أو غير ذلك، وإنما
الهدف الوحيد الذي يسوِّغ الحرب هو الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى؛ ولذلك قال
عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن الرجل يقاتل حميَّةً ويقاتل رياءً: أيُّ ذلك في
سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [5] .
* الالتزام الذاتي بقواعد العلاقات الدولية:
وتؤدي هذه المشروعية أيضاً: إلى أن تقوم أحكام العلاقات الدولية (بين
المسلمين والكافرين) على الالتزام الذاتي بقواعد العلاقات الدولية كجزء من قانونهم
الداخلي، أي ولو بدون معاهدة أو عرف دولي، وبصرف النظر عن قوة الدولة
الإسلامية وسيادتها وقدرتها على الدول الأخرى؛ فالقانون الدولي الإسلامي يستند
إلى أساس ثابت للإلزام شأنه في ذلك شأن أي قانون إسلامي آخر في البلاد، وحتى
الالتزامات المفروضة بمقتضى معاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف «دولية» فإن
لها نفس الأساس. فهو التزام ذاتي سببه التكليف الشرعي باعتبار أن أحكام الشريعة
الإسلامية خطاب ملزم للمسلم في ذاته، فهو يطبق أحكام وقواعد السِّيَر في مجالها،
كما تطبق أي قاعدة شرعية أخرى في مجالها. وكلها على وجه الالتزام وعلى وجه
حكمها الشرعي من الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهية أو التحريم؛ فإنه على
سبيل المثال إذا طلب العدو الهدنة أو الذمة فيجب إجابته إلى ذلك فرضاً بنص
القرآن الكريم على ذلك: [وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ
اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَه] (التوبة: 6) ، [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ] (الأنفال: 61) . وفي الحديث الصحيح عن سليمان بن بريدة عن أبيه في
الدعوة إلى الإسلام قبل القتال: « ... فإن هم أبوا الإسلام فاسألهم الجزية، فإن
أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» [6] .
وكذلك اعتبار عقد الأمان ملزماً لنا وحدنا دون من يُعقَد معهم من المشركين،
وكذلك لا ننتهز فرصة ضعف للإجهاز عليه، ولا يجوز للمسلمين قتل الصبي أو
المرأة في الحرب إلا في أحوال خاصة كما لو اشتركوا فعلاً بالقتال، استثناء من
القاعدة العامة، ولا يجوز الغدر بهم حتى ولو غدروا هم [7] . وهذا الالتزام الخاص
منشؤه أننا مخاطَبون بأحكام الشريعة دونهم، وهم ليسوا مخاطبين بفروعها ولا
يلتزمونها [8] ، فالتزامنا بها التزام أصيل وناشئ عن خضوعنا لله تعالى في كل
أعمالنا.
وقد كانت الدولة الإسلامية في أوج قوتها وعنفوان سيادتها تلزم نفسها بأدق
آداب الإسلام في القتال والمعاهدات، ولو لم يلتزمها من تحاربهم، إلا إذا ساغ في
الشرع رد العدوان بمثله [9] .
وأساس الإلزام بهذه الأحكام وسائر الأحكام أنها أوامر الله سبحانه وتعالى
لعباده؛ فهو وحده الحاكم الآمر الواجب الطاعة، وهو مقتضى الإيمان بالله وتوحيده
وعبادته، ولذلك اتفق العلماء على أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد
يستحق أن ينفذ حكمه على الخلق إلا مَنْ كان له الخلق والأمر سبحانه وتعالى.
* الوقائع التاريخية مشاهدة:
ثم جاء الواقع التاريخي مَعْلَماً شاهداً صادقاً على ذلك، والوقائع الدالة على
ذلك كثيرة تَعزُّ على الحصر، نجتزئ منها بثلاثة أمثلة:
أولها: فيما يتصل بالقاعدة العامة فيمن تُوَجَّه إليهم العمليات الحربية؛ ومن لا
يجوز أن نقتلهم في الحرب، والعمدة في ذلك، بعد النصوص القرآنية والنبوية،
هو وصية الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فقد بعث أبو بكر
الصديق يزيد بن أبي سفيان على جيش، فخرج معه يمشي وهو يوصيه، فقال:
«يا خليفة رسول الله! أنا الراكب وأنت الماشي؛ فإما أن تركب وإما أن أنزل.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أنا بالذي أركب ولا أنت بالذي تنزل؛ إني
أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله. ثم قال: إني موصيك بعشر فاحفظهن:
1 - إنك ستلقى أقواماً زعموا أنهم قد فرَّغوا أنفسهم لله في الصوامع، فَذَرْهُمْ
وما فرَّغوا أنفسهم له.
2 - وستلقى أقواماً قد حلقوا أوساط رؤوسهم من الشعر، فافلقوها بالسيف
يعني الشمامسة.
3 - ولا تقتلن مولوداً (صبياً) .
4 - ولا امرأة.
5 - ولا شيخاً كبيراً (هَرِماً) .
6 - 7 - 8 - ولا تقطعنَّ شجراً بدا ثمره إلا لنفع، ولا تحرقنَّ نخلاً ولا
تغرقنَّه، ولا تقطعنَّ كرماً. (وفي لفظ: لا تخربنَّ عامراً، ولا تغرقنَّ نخلاً ولا
تحرقنَّه» ، وفي آخر (لا تعقرنَّ شجرة إلا شجراً يمنعكم قتالاً أو يحجز بينكم وبين
المشركين) .
9 - 10 - ولا تذبحن بعيراً أو بقرة ولا شاة، ولا ما سوى ذلك من المواشي
إلا لأكل «. وفي رواية:» ولا تهدموا بِيعة «. وفي أخرى:» ولا تغلنَّ، ولا
تجبننَّ، ولا تفسدنَّ ولا تعصينَّ «. وفي رواية ثالثة:» ولا تغلنَّ، ولا تجبننَّ،
ولا تفسدنَّ ولا تعصينَّ « [10] .
الثاني: حكم القاضي المسلم حاضر بن جُمَيْعٍ على جيش المسلمين في
الخروج من سمرقند [11] بعد فتحها دون إنذار؛ تحقيقاً لهذا العدل المطلق؛ فلما
استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال أهل سمرقند لسليمان بن أبي
السري عامل عمر على تلك البلاد: إن قتيبة بن مسلم قد غدر بنا وظلمنا وأخذ
بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف؛ فائذن لنا فليفِدْ منا وفد إلى أمير المؤمنين
يشكو ظلامتنا؛ فإن كان لنا حق أُعطيناه؛ فإن بنا إلى ذلك حاجة. فأذن لهم،
فوجَّهوا منهم قوماً فقدموا على عمر، فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها
المسلمين على غدر. فكتب عمر إلى سليمان بن أبي السري: إن أهل سمرقند قد
شَكَوْا إليَّ ظلماً أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم. فإذا
أتاك كتابي فأجلِسْ لهم القاضي، فلْينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخْرِجْهم إلى
معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم القاضي
حاضر بن جُمَيْع الناجي، فحكم بإخراج المسلمين إلى معسكرهم، وأن ينابذوهم بعد
ذلك على سواء، فيكون صلحاً جديداً أو ظفراً عنوة. فقال أهل سمرقند: قد خالطنا
هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمنونا وأمنَّاهم؛ فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب ولا ندري
لمن يكون الظفر، وإن يكن لنا قد كنا اجتلبنا عداوة في المنازعة، فنرضى بما كان
ولا نجدد حرباً. فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا [12] .
والثالث: حادثة أخرى فريدة، حين ردّ أبو عبيدة رضي الله عنه على أهل
الذمة في بلاد الشام ما جُبِي منهم من الجزية والخراج؛ لأنه كان قد اشترط لهم أن
يمنعهم ويدافع عنهم، وهو لا يقدر على ذلك لما رأى تجمُّع الروم، وقال لهم:
» إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه بلغنا ما جُمِع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم
علينا أن نمنعكم، وإنَّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم
على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قال لهم ذلك وردُّوا
عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم. فلو كانوا
هم لم يردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يَدَعوا لنا شيئاً « [13] .
* سلبيات العلاقات الدولية الوضعية:
هذا؛ بينما تقوم العلاقات الدولية الوضعية في القديم والحديث على الأنانية
وحب الذات، ولا تقيم وزناً للقيم الأخلاقية ولا المبادئ الإنسانية ولا المعاهدات
والمواثيق الدولية؛ فقد دانت الدول الغربية والأوروبية بتعاليم فيلسوفها مكيافيلي،
فيما أودعه بكتابه» الأمير «الذي ذهب فيه إلى أن» لا وجه لتطبيق قواعد
الأخلاق في أمور الدولة «، وأباح فيه للأمير أن يتظاهر بالرحمة والإنسانية
والتدين، ويفعل عكس ذلك متى دعت إليه المصلحة.
وكان يدعو إلى تكوين دول أكبر من الإمارات الصغرى للوقوف في وجه
الدين الإسلامي [14] .
واتخذ الملوك والقواد العسكريون مبادئ مكيافيلي شعاراً لهم، وسار الزعماء
الغربيون المعاصرون على المنهج نفسه؛ فاتجهت ميول الساسة نحو الفوضى
الأخلاقية، وقامت على أساس الغش والخداع والوقيعة والدسائس. فغدت الحروب
في غاية القسوة والغدر والجور، وأصبحت المعاهدات والمواثيق الدولية حبراً على
ورق، أو لا تساوي الحبر الذي كتبت به. ثم قامت تلك الدول الغربية الاستعمارية
قديماً وحديثاً باستغلال الشعوب الضعيفة واستنزافها، كما تقوم ببسط سيطرتها
ونفوذها على الدول الضعيفة والصغيرة، وإفساد عقيدتها وأخلاقها، وبعد ذلك تملي
إرادتها عليها، بشكل ظاهر مباشر أو بشكل مستتر خفي، وهو لون من ألوان
الاستعمار الصليبي الجديد باسم جديد وتحت شعار جديد؛ شأنها في ذلك شأن الأناني
في علاقته مع الناس، مما يثير الصراع ويفشي الظلم، ويسوِّغ الغدر، ويبرر
الواسطة مهما كانت بالغاية الأنانية التي تستهدف المصلحة الخاصة مهما كان
الضرر الذي تلحقه بالغير.
وواقع العلاقات الدولية اليوم شاهد ناطق بذلك، وما قضايا المسلمين في بقاع
كثيرة من العالم ببعيدة عنا. ومن أقرب الأمثلة على ذلك: الحروب التي اصطلى
المسلمون بنارها وغدر قوادها وهمجيتهم وإفسادهم: في البوسنة والهرسك، وفي
الشيشان، وفي الفلبين، وفي الحبشة، وفي الصومال، وفي زنجبار، وفي الهند،
وأخيراً في حرب الدول المتحالفة من قوى الصليبية العالمية ضد المسلمين في
أفغانستان.
وأما الحال في فلسطين فهي وصمة عار في جبين الغربيين الذين يدّعون
الحضارة والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ويرفعون الشرعية الدولية
والمبادئ الإنسانية، ويتغنون بقواعد القانون الدولي العام.
* وشهد شاهد من أهلها:
ولعله من المناسب بعد هذا الذي أشرنا إليه: أن نستدعي شاهداً من أبناء
الحضارة الغربية المعاصرة؛ من أساتذة القانون الدولي والعلاقات الدولية، ليدلي
بشهادته حيال الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية في الحضارة الغربية
المعاصرة، وهي شهادة فوق الشبهات؛ لأن صاحبها من أبناء تلك الحضارة ويعيش
في كنفها، وهو أيضاً في موقع المسؤولية العلمية في هذا الجانب؛ ذلكم هو
البروفيسور (جوزيف فرانكل) ، في كتابه:» العلاقات الدولية « (ترجمة
الدكتور غازي القصيبي) . وفيه ينتهي القارئ إلى أن العلاقات الدولية المعاصرة
ترتكز أساساً، إن لم يكن كلياً، على أساسين اثنين: المصلحة الوطنية، والقوة.
1 - المصلحة الوطنية:» المصلحة الوطنية هي المفتاح الأساسي في
السياسة الخارجية، ويرتد هذا المفهوم في جوهره إلى مجموع القيم الوطنية، تلك
القيم النابعة من الأمة والدولة في نفس الوقت، غير أن هذا المفهوم لا يخلو من
غموض.. وإذا كان من الصعب بيان المقصود بالمصلحة الوطنية بفكرة مجردة؛
فإن من المستحيل أن نجد إجماعاً على ما تعنيه في قضية معينة.
إن الجدل المتكرر حول السياسة الخارجية يتركز حول التفسيرات المختلفة
لمتطلبات المصلحة الوطنية..
ليس من الضروري أن نعرِّف المصلحة القومية تعريفاً ضيقاً يستبعد
الاعتبارات الخلقية والدينية وما على شاكلتها، وإنما تقتضي فاعلية هذه المصلحة،
غير أن هذا لا يعني أنه ليس بوسعهم البتة الاتفاق على شيء ما، بل على العكس
كثيراً ما يتفقون، وإن كان هذا الاتفاق ينطلق أيضاً من مصالحهم الوطنية، فإذا
وافق سياسي على تقديم تنازلات فإنه لا يفعل ذلك إلا إذا اقتنع أن عمله سيعطي
دولته بعض المزايا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة..
إن فكرة المصلحة الوطنية مبنية على وجود قيم في الجماعة الوطنية؛ هذه
القيم التي يمكن أن تعتبرها من نتاج ثقافتها ومعبراً عن روح تجانسها ... غير أن
العلاقة بين هذه القيم وبين الأهداف السياسية المحددة تتطلب شرحاً أكبر. إن القيم
تنتمي إلى مجال «ما يجب أن يكون» وليس من الضروري أن تترجم إلى أهداف
سياسية محددة ... إن النظم القيمية يعوزها اليقين عامة، بل إنها أحياناً تتضمن قيماً
متضاربة، وهو ما يثير مشكلة: أيٌّ من هذه القيم الواجب التطبيق في الحالات
المفروضة؟ ... وقد تتعقد الأمور أكثر من ذلك، وقد يستهدف الساسة التضليل من
وراء تصرفاتهم، بل إنه طبقاً لنظرية فرويد لا يعرفون بالضبط حقيقة الدوافع التي
تسيِّرهم، وأخيراً فإن الثقافات المختلفة لا تعطي الأهمية لنفس القيم.. ولقد كان
الإنسان يسعى طوال تاريخ الفكر السياسي إلى تصوير قيمة عليا تتخذ معياراً عاماً
لتصرفاته؛ وللأسف فإن مجرد وجود نظريات متناقضة في هذا الموضوع يعني
الشك في إمكانية أن تكون أي منها صحيحة كل الصحة. ومعيار المصلحة الوطنية
رغم شعبيته شديد الغموض.. وعندما تصطدم قيمتان أو أكثر فيما بينها فإن الأهمية
النسبية لأي منها يجب أن تقدر وترسى ... وهذا التصنيف للقيم ليس سهلاً؛ لأن
التركيز على أهميتها يتراوح من حالة إلى أخرى، وكثيراً ما تحكمه العواطف ... «.
ولا بد أن يستنتج القارئ من الشرح السابق صعوبة تعيين المصلحة الحقيقية
الوطنية، وأنه ليس من الضروري أن تكون محكومة بمعايير موضوعية، كما
يستنتج قابليتها للمرونة والتكيف في يد صانع القرار، وسيكون في إمكانه نتيجة
لذلك أن يقيِّم مدى أهلية المصلحة الوطنية لأن تكون أساساً قوياً للعلاقات الدولية.
2 - القوة:» إن مشكلة القوة تدخل جميع أنواع العلاقات الدولية: في
الحروب والمنافسات تدخل القوة بمعناها العسكري، وفي التعاون يدخل التهديد
بالقوة لقمع أحد الأطراف. يدور عالم السياسة كله حول ممارسة القوة والبحث عنها.
غير أن القوة في السياسة الدولية أوضح بكثير وأقل قيوداً من القوة في السياسة
الداخلية. ولهذا فكثيراً ما تسمى السياسة الدولية بسياسة القوة ... ولقد أدى
الدورالهام الذي تلعبه القوة في العلاقات الدولية إلى نشوء مدرسة فكرية تفسر
العلاقات الدولية على ضوء مفهوم القوة ... ولكن بالرغم من أن القوة تلعب دوراً
هاماً في السياسة الدولية فإنها في الأساس وسيلة لتحقيق قيم وطنية، والسياسة
الدولية لا تحددها القوة التي تملكها الدولة فحسب، وإنما تحددها بدرجة أكبر القيم
التي تعتنقها هذه الدول، ومفهوم المصلحة والوطنية التي تحكم سلوك الدول لا يقف
عند اعتبارات وحدها « [15] .
وبهذه الشهادة ننهي المقال. [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21)
__________
(1) المشروعية في النظام الإسلامي، لأستاذي الدكتور مصطفى كمال وصفي، رحمه الله، ص 5 - 6.
(2) أخرجه الترمذي، 8/ 492 - 494، والطبراني: 14/210 - 211.
(3) مصلحة النظم الإسلامية، الدكتور مصطفى كمال وصفي، ص 158، المشروعية، الدكتور علي جريشة، ص 15 - 17.
(4) الموافقات، للشاطبي، 2/ 8 30، المستصفى، للغزالي: 1/ 287، إعلام الموقعين، لابن القيم، 2 / 5 - 7.
(5) أخرجه البخاري في الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا: 6/27 - 28، ومسلم في الإمارة، باب من قاتل --- برقم (2810) : 3/512 - 1513.
(6) أخرجه الإمام مسلم في الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم: 3/ 1357 - 1368.
(7) لحديث (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) أخرجه أبو داود في البيوع باب الرجل يأخذ حقه: 5/185.
(8) أجمع العلماء على أن الكفار مخاطبون بالإيمان وأصول الدين، واختلفوا في تكليفهم بالفروع على مذاهب؛ فمنهم من قال هم مخاطبون بها، ومنهم من نفى ذلك، ومنهم من قرن بين الأوامر والنواهي، فقال: يخاطَبون بالنواهي دون الأوامر، انظر: بالتفصيل هذا الخلاف وما يترتب عليه في (أصول السرخسي) : 1/ 73 - 78، (تيسير التحرير) : 2/ 148 - 150.
(9) انظر: (مصنفة النظم الإسلامية) ، ص 282 - 321، (المشروعية في النظام الإسلامي) ، الدكتور كمال وصفي، ص 51 - 52، (دولة الإسلام والعالم) ، الدكتور محمد حميد الله، ص 14.
(10) أخرج هذه الوصية بسند مرسل: الإمام مالك في (الموطأ) : 2/447 - 448، وسعيد بن منصور: 2/ 241، وعبد الرزاق: 5/ 199، وابن أبي شيبة: 12/383 - 384، وابن زنجويه في (الأموال) : 1 / 478 - 479، والبيهقي: 9/ 85 و 89 و 90، وأبو بكر المروزي في (مسند الصديق) ، ص 61 - 62، والبغوي في (شرح السنة) : 11/ 48 - 49، ولكثير من فقراتها شواهد من الأحاديث الصحيحة.
(11) سمرقند بلد مشهور في جمهورية أوزبكستان، على بعد (130) ميلاً جنوب شرق بخارى، فتحت في عهد معاوية صلحاً على يد سعيد بن عثمان بن عفان، ثم أعاد فتحها قتيبة بن مسلم في عهد خلافة الوليد سنة (93هـ) ، انظر: (معجم البلدان) : 3/ 246 - 250.
(12) انظر: (تاريخ الطبري) : 6 / 568 - 569، (فتوح البلدان) للبلاذري: 3/ 519، (الكامل) لابن الأثير: 4/ 162، وهذا الحكم الذي أصدره القاضي المسلم ضد جيش المسلمين المنتصر لا تجد له نظيراً في التاريخ كله؛ إذ لا نجد جيشاً يخرج من بلد احتله بحكم أصدره أو يصدره قاض في الجيش الذي احتل البلد، بل إنهم ليباركون ذلك الاحتلال ويسعون إلى مزيد من السيطرة، هذا الحكم الذي ينطق بالعدالة والسمو والرفعة يعتبره المستشرق القذر (فان فلوتن) حكماً ينطوي على خبث!! فيقول في كتابه: (السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات) : (ولما ارتقى عمر بن عبد العزيز عرش الخلافة شكا إليه أهل سمرقند تلك الحالة الجائرة، فأمر أحد قضاته بالنظر في هذه المسألة، فقضى بينهم بحكم يكاد يخفي ما انطوى عليه من الخبث حتى على أشد الناس نزاهة، وذلك أن يتقابل الفريقان من العرب ومن أهل سمرقند تحت أسوار المدينة، وأن يؤخذوا بالقوة أو أن تعقد معهم محالفة جديدة، ومعنى ذلك أنه إذا انتصر العرب (وهو ما كان راجحاً؛ فإن سكان سمرقند كانوا لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم في أسوارهم) عاملوا أهل سمرقند معاملة من فتحت بلادهم عنوة، ومن الجلي أن حكم ذلك القاضي لم يغير تلك الحالة في شيء) ، وما أظن هذا المستشرق كان يفكر بعقله وهو يكتب هذا الكلام والافتراء، فقد أشار إلى مرجعه في ذلك، وهو الطبري والبلاذري، وقد رأينا أنه ليس في هذين المرجعين أن يتقابل الفريقان تحت أسوار المدينة كما زعم فلوتن وإنما فيه خروج الجيش المسلم من المدينة، وهذا يعني أن أهل سمرقند يتحصنون في حصونهم ويمكنهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولعله أصبح واضحاً أن الخبث ينضح من كلام الخبيث فلوتن وليس من حكم القاضي المسلم، ومن العجيب أن مترجمي كتاب فلوتن لم يعلقا على هذا ولو بكلمة واحدة، بل هما يكيلان المديح والثناء للمؤلف على كتابه هذا.
(13) انظر: (الخراج) لأبي يوسف، ص 149 - 150.
(14) راجع إن شئت: أصول العلاقات الدولية، لكاتب هذا المقال: 1/ 200 - 216.
(15) نقلاً عن: العلاقات الدولية بين منهج الإسلام والمنهج الحضاري المعاصر، ص 6 - 8.(183/6)