ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
الأبعاد الثقافية والأيديولوجية للفرنكوفونية بالمغرب
د. محمد خروبات [*]
* محاولة في تحديد الفرنكوفونية.. ما هي؟
يقول بعضٌ إن الحركة الفرنكوفونية ترتبط بقدم تسلط فرنسا على مستعمراتها،
ويقول بعضٌ آخر إنها حركة فكرية وثقافية برزت بعد الاستقلال تحاول صهر كل
الدول التي كانت تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية في إطار واحد.
النظرة الأولى: حبست نفسها في المرحلة الاستعمارية، وهي المرحلة
التاريخية التي كان فيها بلد ما تحت الاحتلال العسكري لفرنسا، وتنحصر هذه
النظرة في لحظة الهجوم ولحظة الخروج العسكري وتحصيل ما يسمى بـ
«الاستقلال» . وسواء كانت هذه النظرة تنطلق من لحظة الهجوم صوب
لحظة الاستقلال، أو تنطلق من لحظة الاستقلال إلى لحظة الهجوم فاستنتاجها يبدو
واحداً.
النظرة الثانية: حبست نفسها في مرحلة الاستقلال، وهي المرحلة التاريخية
التي بدأ فيها بلد كالمغرب مثلاً يحس بأنه تحرر من الاستعمار العسكري الفرنسي
المباشر. وهذه النظرة تحصر نفسها بين لحظة الاستقلال إلى العهود الحالية.
وسواء عليها أكانت تنطلق من لحظة تحصيل الاستقلال إلى العهد الحالي أو العكس
فإن استنتاجها يبدو هو أيضا واحداً.
تهمنا الإشارة إلى هاتين النظرتين؛ لأنهما من أقوى الاتجاهات في تحديد
الفرنكوفونية في إطار من التاريخية والموضوعية المطلوبتين، وعند النظر يتبين
أنهما غير متعارضتين؛ فالنظرة الثانية تكمل الأولى والعكس. وللتوفيق نقول: إن
الفرنكوفونية حركة حديثة برزت بعد الاستقلال، لكنها تحتضن كل عوامل الماضي
وسلبياته، وهي جزء من الإمبريالية الابتلاعية، غير أنها مرتبطة ببلد واحد،
وبدولة غربية واحدة هي فرنسا.
* الفرنكوفونية هي حلم فرنسا في تحقيق الإمبراطورية الكبرى:
كانت الفرنكوفونية هي الأسلوب الحسن، والطريقة المجدية التي نجمت عن
الحلم الذي ساور فرنسا طيلة مدة، وهو حلم غارق في الرومانسية والخيال، ويؤمن
بتحقيق الإمبراطورية الفرنسية في إفريقيا، ويتحقق الحلم حين تتقابل فرنسا
الأوروبية مع فرنسا الإفريقية وهي التي يطلقون عليها: La france Lautre
mèr، (فرنسا الأم الأخرى) .
لكن السياسة الفرنسية التي نهجتها حكومة الاستعمار في البلدان الإفريقية لم
تحقق لا الإمبراطورية الفرنسية الخيالية، ولا الوحدة ولا الازدهار لإفريقيا الفرنسية
إنما الذي تحقق هو الزوابع الثقافية، والهزات الفكرية، والنعرات الإقليمية
الدامية، والانقلابات السياسية؛ ناهيك عن الاضطرابات الاجتماعية المتتالية. وها
هي بلاد المغرب العربي ومنها المغرب الأقصى تغلي بالتيارات والأحزاب
الفرنكوفونية، ذات الأيديولوجيات العنصرية، بحيث توضع الأيديولوجيا فوق
مصالح القطر، والإقليم، والطائفة، والدولة، والدين. وهي كلها محاولات فجة
لطمس الهوية والعروبة والتراث. وهذا كله لا يضمن الوحدة بالمعنى السياسي
للكلمة.
* الفرنكوفونية في المغرب: المراحل والمجالات والأهداف:
المراحل التي مرت خلالها الفرنكوفونية:
مرت الفرنكوفونية في المغرب بمراحل كان أولها المرحلة الثقافية، وهي
المرحلة المقصودة عندنا في هذا البحث.
لم تكن الفرنكوفونية في هذه المرحلة - باستثناء الدخلاء المعمرين - تتجاوز
الفرد والفردين، على مستوى التعليم والتلقين والتوجيه والتكوين. وكان أسلوب
التثقيف الفرنكوفوني يتم عبر جغرافيين داخل الوطن وخارجه. وبمرور الوقت
تطورت الفرنكوفونية إلى تكوين معاهد ومؤسسات قادرة على تكوين أجيال.
وتنوعت إلى نوعين: مؤسسات عامة هي في ملك السلطة الحاكمة، ومؤسسات
خاصة يديرها أحرار لكنهم تابعون وعاملون. ثم قفزت الفرنكوفونية من ميدان اللغة
والثقافة إلى ميدان السياسة والاقتصاد. والمغاربة يذكرون في تاريخ وطنهم - الذي
تعتبر هذه المرحلة جزءاً منه - لجنة البحث والتقصي التي أسسها الاستعمار،
وأطلق عليها: (لجنة الأبحاث البربرية) ، وهي لجنة ذات طابع فكري وثقافي،
يخدم الغرض العسكري والاستعماري. كان من اللازم أن نبين أن الذي أمر بتأليف
هذه اللجنة هو المقيم الفرنسي الأول: الجنرال اليوطي، وهذه الشخصية لها دلالات
في ذاكرة المغاربة [1] ، وتوحي لهم بأشياء كثيرة. كان الغرض إذاً هو جمع
الأبحاث المتعلقة بالقبائل البربرية، من جميع أنحاء المغرب، ثم تدرس هذه
المعلومات في خطوة ثانية لتستخرج منها نتائج عملية تقدم إلى الإدارة المستعمرة
لتساعدها على تنظيم القبائل البربرية وإدارتها. ولخطورة هذه اللجنة لا بد من
الإشارة إلى أعضائها المتمثلين في الهيئات، والمؤسسات، واللجان، والأشخاص
ذوي الخبرة الاستعمارية الفائقة؛ وذلك من خلال هذا النص الغني بالإيحاءات
والإشارات. يقول النص:
(تألفت هذه اللجنة في رباط الفتح، حيث القصر السلطاني، وقصر الإقامة
العامة، بتاريخ 9/1/1915م، وتألفت تحت رئاسة الكاتب العام للحماية،
وبعضوية رئيس إدارة التعليم، ورئيس إدارة الأوقاف، ومدير إدارة الاستخبارات،
ورئيس المكتب الحربي، ومدير المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية التي
أنشأها المقيم العام اليوطي لهذا الغرض سنة 1913م، وبعضوية جميع الأساتذة
الذين يدرسون في هذه المدرسة الذين انتخبهم اليوطي من خيرة دعاة السياسة
البربرية في الجزائر وتونس وفرنسا. ونظرة واحدة إلى هذه العناصر، التي
تكونت منها هذه اللجنة تكفي للدلالة على الغرض البعيد الذي كان يرمي إليه اليوطي
من السياسة البربرية في المغرب. يضاف إلى ذلك أن الإقامة العامة قد وضعت
بهذه اللجنة مبدأ «استئجار العلماء» ومن يحملون الألقاب العلمية، فاتخذت من
أساتذة المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية خدمة مأجورين، وأماتت فيهم
الضمائر الحية التي يمتاز بها العلماء ويبحثون في ضوئها حقائق الوجود.
وأصبحت كل أبحاثهم وكتبهم عبارة عن دعاية قوية باسم العلم إلى السياسة البربرية
الخرقاء) [2] .
وإلى جانب هذا يذكر المغاربة في تاريخهم الوطني الإدارة التي أنشأها
الاستعمار، وسماها بـ (إدارة الشؤون الأهلية) ؛ حيث كان الهدف منها تكوين
(جماعات بربرية) ، مع إيجاد أنظمة لها تدعى (الجمعيات القضائية) . وقد دعمت
هذه الإدارة بعدة ظهائر وقرارات، وصدر أول تنظيم لها فيما بين سنتي 1923م،
1924م، ونجحت في إنشاء نحو من ثمانين جماعة بربرية، وما زال التاريخ يذكر
إنشاء المجالس والمعاهد الفرنكوفونية، وتطور ذلك اليوم إلى صيغة حديثة
ومعاصرة، وبدأت تختار في عضويتها بعض الأسماء المغربية اللامعة، نذكر من
ذلك مثلاً (المجلس الأعلى للفرنكوفونية) الذي تأسس في فرنسا بظهير رئاسي في
شهر مارس / آذار من سنة 1984م، وكان الكاتب المغربي الطاهر بن جلون واحداً
من أعضائه. وكان هذا المجلس ثمرة لجهود متواصلة سابقة بدأت بعنصر الاتصال
الأول الذي تم بين المجتمع المغربي المدني، والقوات الاستعمارية العسكرية. ومنذ
الوهلة الأولى بدأ الاهتمام بالإقامات العصرية، والمدارس العصرية، والإدارات
العصرية، والتسيير العصري، وفي المقابل حصل تهميش ذريع لكل ما هو تقليدي؛
فالإقامات العصرية ليست كالمساكن البالية، والمدارس العصرية هي بخلاف
المدارس العتيقة، غير المجهزة تجهيزاً كاملاً، والإدارات العصرية ليست
كالإدارات التقليدية التي لا تقوى على الصمود أمام خدمات المواطنين المحدثين.
هكذا بدأ الميل إلى كل ما هو عصري وحديث. وامتد ذلك إلى الفرش
والأثاث واللباس والأكل وطرق الزينة. لا يخامر الشك أحداً في أن هذا كله هو
نتيجة فكر وثقافة، يتم توصيلهما عبر لغة، تحمل في معانيها شحناً من التأثير
البليغ. فمن خلالها حصل الامتداد؛ حيث اشرأبت الأعناق إلى تعلم لغة المستعمر
الذي (فَرْنَسَ) كل المؤسسات، وجعل من اللازم على كل مغربي يريد ولوج سلك
الإدارة المغربية، أن تجرى له اختبارات في اللغة الفرنسية، أو يكون حائزاً على
شهادة تثبت مستواه اللغوي.
ومما تجب الإشارة إليه أن الفرنكوفونية لم تعد حكراً على فئة معينة من
المتعلمين التلاميذ؛ بل امتد ذلك إلى آبائهم وأمهاتهم؛ إذ كانت سياسة المستعمر
التعليمية أن البيت إذا لم يكن ناطقاً بالفرنسية فإن هذا ينعكس سلباً على مستوى
التلميذ؛ فللرقي به، وللرفع من مستواه يستدعى أولياؤه ليأخذوا حصصاً منتظمة في
اللغة. ونجحت هذه العملية بشكل كبير، وكانت الحصص تعطى مجاناً، وبعد أن
حققت نجاحاً باهراً بدأ التنافس على التعليم الفرنكوفوني، وفتحت المدارس والمعاهد
أبوابها لتلقين اللغة بالمقابل، وهو الأمر الذي يتم اليوم وباكتظاظ شديد. وتتبع هذه
المدارس سياسة التمييز الطبقي في تسجيل الأبناء؛ بحيث لا تختار سوى أولاد
الطبقة البورجوازية، وأبناء الفعاليات العليا. أما أولاد الطبقة المتوسطة والفقيرة؛
فلا مكان لهم فيها، وهذه سياسة مفضوحة؛ فالاستعمار يركز على الرؤوس
وأصحاب القرار النافذ أكثر من غيرهم. وإذا نجح في ذلك فإنه يمسك البلد من
ناصيتها، وقد نجح فعلاً في ذلك، ولبيانه لا بد من الإشارة ولو بصفة عابرة إلى
المجالات التي تنتشر فيها الفرنكوفونية.
* المجالات التي تنتشر فيها الفرنكوفونية:
عن أي مجال نتحدث؟ هل نتحدث عن المجال الإعلامي الذي هو فرنكوفوني
في القناتين المغربيتين الأولى والثانية؟ أم نتحدث عن البحث العلمي في كليات
العلوم والطب والصيدلة، وفي المدارس العليا للتجارة والمعلوميات والهندسة، هذه
المدارس التي لا تقيم وزناً للغة العربية، والتدريس فيها لا يكون إلا بالفرنسية؟ أم
نتحدث عن كليات الآداب والعلوم الإنسانية وشُعبها، حيث تزاحم الفرنسية العربية
في كل شعبة؟ أم نتحدث عن الأنشطة العلمية الإشعاعية والتي تقام لها تغطية
إعلامية واسعة، وتقدم لها إعلانات هائلة؟
إن الفرنكوفونية تنتشر في كل المجالات تقريباً، ونشير هنا إلى المجالات
الحيوية التي تبني توجه البلد، وتحدد مساره. وأقوى هذه المجالات هو المجال
الثقافي، والمجال العلمي، والمجال الإعلامي، والمجال الإداري.
في ميدان العلوم الإنسانية تبرز الفرنكوفونية في القصة القصيرة، والرواية،
والمسرح، والترجمة، كما تبرز في علم الاجتماع، وعلم النفس، وفلسفة العلوم،
والاقتصاد، والدراسات الحقوقية والقانونية. أما في التخصصات العلمية فللفرنسية
السيادة المطلقة؛ إذ لا تنافسها سوى الإنجليزية وهي على كل حال لغة لاتينية.
وللتمكين يسرت فرنسا مأمورية التلقين من جهة أخرى، فسهلت طريقة
التسجيل في الجامعات والمعاهد الفرنسية، وهذه الظاهرة جديرة وحدها بالدراسة
والبحث. إننا لا ندري على وجه التحديد كم هي الأعداد التي تتخرج في كل سنة
من المعاهد والجامعات الفرنسية؟ ولا ندري على وجه اليقين كم عدد الطلبة
والباحثين الذين يتلقون تعليماً وتربية فرنكوفونية في المغرب، وفي فرنسا؟ ويبدو
أن العدد هائل، وهو يزداد سنة بعد أخرى. إذا كان هذا عن المجالين الثقافي
والعلمي؛ فإن للمجال الإعلامي والإداري دوراً أكبر في هذا السياق؛ فجل الجرائد
والمجلات الوطنية تكتب بالفرنسية، وتستقل القناة التلفزية الثانية بالقيام بالدور
الفرنكوفوني. وهو دور يكاد يوازي القناة الفرنسية الخامسة التي تكلفت بتوسيع
مدى الفرنكوفونية على أوسع نطاق في العالم التابع.
أما الإدارة المغربية فلغة التواصل فيها تتم باللغة الفرنسية، وجل الوثائق تسلم
للمواطنين بالفرنسية، وحتى إن القرويين الذين تخيم عليهم آثار الأمية ما زالوا
يتسلمون وثائقهم الإدارية بهذه اللغة، وهذا وحده كاف في بيان عمق تغلغل
الفرنكوفونية في المغرب المسلم، وهو يجري لأهداف لا بد من بيانها، وهو الأمر
الذي نشير إليه في النقطة التالية.
* أهداف الفرنكوفونية:
من خلال الفرنكوفونية يتم نشر التغريب وتكريس التبعية المذلة،
وبالفرنكوفونية يتم تشتيت الأسرة المسلمة باسم حرية المرأة وحقوقها وباسم حرية
الطفل وحقوقه، وبالفرنكوفونية يتم نشر الخلاعة الفكرية المنافية للأعراف،
والمخالفة للتقاليد، والمضادة للأخلاق والقيم، وباسم الفرنكوفونية يتم التضييق
على الثقافة الإسلامية الأصلية، ويتم تهميش الأطر الفاعلة في هذه الثقافة،
وبالفرنكوفونية يتم الإصلاح، وبها ومن خلالها وفي ضوئها تطور الأوضاع
الاقتصادية والثقافية والتعليمية والتربوية.
إذا كانت الفرنكوفونية قد قصدت إلى مس الشعب المغربي في وحدته
الأخلاقية والدينية، وإلى زعزعة ثقته بوحدته اللغوية، فقد قصدت أيضاً إلى المس
الصريح والواضح بوحدته الوطنية والسياسية. وتحقق بذلك ما رمى إليه
الفرنكوفونيون الاستعماريون من أمثال ريبو في كتابه: (الجماعات القضائية
البربرية) ، من أن التأثير في الوحدة السياسية إنما يحصل بالتأثير في الوحدة
الثقافية، وأن هذا التأثير (لا يتم بين عشية وضحاها، وأن هذا العمل ليس عمل
سنة واحدة، أو جيل واحد بل هو عمل يتم في عشرات السنين، وفي عدة أجيال)
[3] .
* الفرنكوفونية في المغرب: الأساليب والأبعاد:
أسلوب تدمير التقاليد والثقافة والتراث:
كان من سياسة الاستعمار أنه يمانع دائماً في بناء مراكز منظمة وإدارات
محترمة للمعاهد والمدارس ومراكز القضاء الإسلامي؛ فهي لا تريد أن تعترف بكل
ما له صلة بالإسلام، ولا سيما في ميدان التعليم والقضاء، بينما المعاهد والمدارس
ومراكز القضاء الفرنسي تنفق على أبنيتها من ميزانية المغرب بسخاء كبير، وكلها
تقع في الأماكن الاستراتيجية في كل مدينة مغربية، ويراد لهذه الأبنية أن تكون
شامخة البنيان تجمع بين جمال الهندسة الأندلسية، ومحاسن الهندسة الأوروبية،
وتكتب على أبوابها بأحرف لاتينية غليظة، ومن معادن لامعة أسماء وعناوين تلفت
النظر بنقشها عن بعد؛ وهذا كله لأجل أن تثير في زائرها شعوراً قوياً بعظمة
فرنسا، وجلال قانونها، وسيادة ثقافتها، وتدفع في المقابل إلى تحقير وازدراء
المدارس الدينية، والمعاهد والمؤسسات التقليدية الشرعية.
فنتكلم عن البنيان والعمران دون أن ننسى الإنسان؛ فالإنسان هو المقصود
بهذا كله؛ فالإنسان الذي يدخل في الحلبة الفرنكوفونية يصبح هو بدوره براقاً على
هذا الطراز، وتفتح في وجهه كل الأبواب، بخلاف أخيه التقليدي والأصيل. إنه
أسلوب من أساليب تدمير كل ما هو تقليدي وتراثي. ويتبع هذا أسلوب آخر
لمزاحمة الثقافة الأصلية في مرحلة، وفي مرحلة أخرى تدميرها والقضاء عليها.
إن سياسة فرنسا الفكرية والثقافية هي سياسة فرنكوفونية، والسياسة
الفرنكوفونية هي سياسة استعمارية. تسعى إلى إدماج المغرب المغلوب في دولة
فرنسا الغالبة. ويدرك الساسة الفرنسيون الاستعماريون أثر الفعل الفكري والثقافي
في أي إنسان. إذ يكفي أن يكون هذا الفعل هو الباعث على الجهاد ضدهم، ويكفي
أن يكون هو المحرك لمواجهتهم؛ لذلك فهم يضمرون في قلوبهم من الحقد والضغينة
على الإسلام وثقافته ما يدفعهم دائماً إلى مواجهته فكرياً وثقافياً. وقد أدركوا أن
أحسن سلاح لمواجهة هذا الفعل هو الفرنكوفونية؛ وقد تمكنوا من تيسير جميع
السبل لتعبيد الطريق أمام الفرنكوفونية لمزاحمة المؤسسات الإسلامية بمؤسسات
أخرى بديلة. وعلى مر الأيام أصبحت الثقافة الإسلامية هيكلاً لا روح فيها،
وتفننوا في تهميشها وتأخيرها عن القيام بدورها الفاعل في الحياة. ونستطيع اليوم
أن نتكلم عن الثقافة الإسلامية بشتى الأساليب، ومختلف الطرق دون أن نلحظ لها
أثراًً على كل المستويات.
* الأبعاد السلبية للفرنكوفونية في المغرب:
افتعلت الفرنكوفونية في المغرب قضايا خطيرة، وأحداثاً ما زالت نارها
مشتعلة إلى اليوم، وكان الغرض من افتعالها أمرين أساسيين:
- الأمر الأول: اختبار قوة الثقافة الإسلامية في مواجهة هذه الأحداث، وفي
الوقوف في وجهها.
- الأمر الثاني: اختبار قوة الثقافة الفرنكوفونية نفسها في درجة تأثيرها في
المجتمع المغربي، وفي درجة مواجهتها للثقافة الأصلية.
ولنعرض لهذه القضايا والأحداث على صورة أبعاد سلبية كما يلي:
البعد الأول: الأطروحة البربرية: وهي امتحان عسير أمام المغاربة، سلطه
الفرنسيون الاستعماريون، وأذكته الفرنكوفونية ونمته، وأصبح حقيقة في نفوس
بعضهم بعد أن كان خيالاً، كما تصوره البعض حقيقة واقعية بعد أن كان حلماً يراود
الواحد والاثنين. الأطروحة البربرية هي سياسة نهجها الاستعمار، وهي بالنسبة
إليه العلاج الوحيد الذي يتم به إحياء الأعراف البربربة القديمة، وإدماجها في
القانون الفرنسي. وتذهب هذه الأطروحة إلى أن البربر لم يكونوا في يوم ما
مسلمين، بل كانوا وما زالوا مسيحيين. ويحاول الفرنكوفونيون أن يوهموا أن
البربر هم وحدهم الذين بنوا الحضارة المغربية؛ فالأرض أرضهم، وحتى الفتوحات
التي قامت في أوروبا هم أصحابها [4] .
البرابرة في عرف الفرنكوفونية استعربوا لساناً ودماً وروحاً، ومن السهل جداً
إخراجهم من العروبة لإدخالهم في الفرنكوفونية، كما بدا لهم أنه من اليسير إخراجهم
من الإسلام وشريعته، وإدخالهم في المسيحية الكاثوليكية وقانون فرنسا. فإذا كان
هذا مؤشراً فعلياً، على تمزيق وحدة المغرب؛ فإنه مؤشر مهم على زرع القطيعة،
والفصل بين المغاربة وإخوانهم المشارقة، هؤلاء الذين تربطهم أواصر فكرية
وثقافية وعقدية. وأقوى من تجرد لهذا الفعل تنظيراً هو أحد أعلام الفرنكوفونيين
المدعومين من قبل الدولة الفرنسية، واسمه: جيرو Guiraud وذلك في كتابه
المعنون بـ (العدلية الشريفة: أصولها، وظيفتها، نظامها المقبل) ، هذا الرجل
وكلت إليه الحكومة الفرنسية مسؤولية إصلاح العدلية المغربية، وكانت الفكرة
الأساس التي بني عليها إصلاح القضاء المغربي تدور على أن المغاربة مسيحيون،
ويجب ألا يُحكَموا بالإسلام، ولم تبق هذه الفكرة مجرد خاطرة من الخواطر، بل
بلورها ودافع عنها دفاعاً مستميتاً. وللتغرير بالمغاربة كتب إهداء كتابه هذا إلى
(أصدقائه المغاربة) [5] .
ظل المغرب يخاصم الأطروحة البربرية الفرنسية، وكان أقوى من خاصمها
هو السلطان يوسف بن الحسن، ويقولون إنه ذهب ضحية مقاومته لهذه السياسة،
ثم ثار عليها بعده محمد الخامس ابن السلطان يوسف، وثار عليها الشعب المغربي
مباشرة بعد عودة السلطان محمد الخامس من المنفى عام 1955م، وأعلن السلطان
محمد الخامس في مهرجان شعبي عقد بمدينة الخميسات أن ما أطلقت عليه فرنسا:
(مناطق العرف البربري) هي سياسة قد أقبرت وألغيت نهائياً، ولم يبق العمل بها
جارياً في المغرب الحر الموحد والمستقل [6] ، وبدأت بعد ذلك سلسلة من النصوص
التشريعية تصدر على التوالي في الجريدة الرسمية، فكان أول ظهير شريف صدر
منها هو الظهير رقم 1 - 1 - 0 - 56 - 1 المؤرخ في 24/7/1375هـ،
الموافق 7/3/1956م، وهذا الظهير ألغى الظهير البربري الذي أصدره المقيم
الفرنسي العام هنري يونسو بتاريخ 23/12/1352هـ الموافق 8/4/1934م. ثم
توالت سلسلة من الظهائر كلها تقضي بإزالة ونسخ مقتضيات الظهير البربري.
- البعد الثاني: القضية الأمازيغية: وهو بعد من الأبعاد السلبية للفرنكوفونية،
وقد تحركت فكرة الاهتمام باللغة الأمازيغية، كلغة مستقلة في فرنسا بصفة خاصة،
وجل الذين يحركون قضية الأمازيغية اليوم هم من الذين دربوا في فرنسا. إلا أنه
يجب التفريق بين الاهتمام باللغة الأمازيغية كلغة وطنية، وبين تضخيم الاهتمام بها
لغرض مكشوف ومفضوح؛ ففرنسا لم تكن هي السباقة إلى بعث الاهتمام
بالأمازيغية، فالأمازيغية هي لغة قسم عريض من أبناء المغرب، وهناك شعور
وطني بها، هو علمي وثقافي وحضاري ساد عند فئة عريضة من أبناء المغرب
عرباً وبرابرة، على قدم المساواة. أما ما تريده فرنسا فيدخل في مقاصد الظهير
البربري؛ إذ كان من غرض حكومة الاستعمار تثبيت اللغة الفرنسية بين البرابرة،
فقد أصدرت الإقامة العامة بلاغاً رسمياً بتاريخ 22/9/1915م يلزم بجعل اللغة
الفرنسية هي اللغة الرسمية للجماعات البربرية، ولما لم تنجح هذه الخطوة مروا
إلى خطوة ثانية، وهي الفصل بين اللغة العربية واللغة البربرية، وإذكاء فكرة
الأمازيغية كرد فعل على اللغة العربية. يقول ريبو: (إذا تركنا هؤلاء البربر
يستعملون العربية فإنهم سيصيرون مسلمين، وما معنى الإسلام؟ معناه هو إيقاف
تقدمنا والوقوف في وجه مدنيتنا) [7] .
تلك هي الرغبة الاستعمارية، وذلك هو طموح الفرنكوفونية، وإننا لنأسف
لكل من يعانق هذه الأطروحة رغبة في الانسلاخ عن العروبة والإسلام، محققاً في
الوقت ذاته رغبة الآخر في تفتيت وحدة المرجعية التي كانت وما تزال الأساس
الصلب لمقاومة كل اختراق.
- البعد الثالث: التبشير بالنصرانية: عرف عن فرنسا أنها «الفتاة البكر
للمسيحية» لوفائها للمسيحية الكاثوليكية، ولا يستبعد أن تكون المسيحية وراء
الحملات الاستعمارية برمتها على بلدان المغرب العربي بصفة عامة، والمغرب
الأقصى بصفة خاصة، غير أن الذي يمكن الجزم به هو أن قواد الحملة
الاستعمارية؛ ضباطاً ومفكرين ومثقفين؛ جلهم من المسيحيين، ومما يمكن الجزم
به أيضاً أن الدعوة إلى المسيحية الكاثوليكية، نشطت بشكل كبير، وبطريقة
مكشوفة، إبان الاحتلال، ويمر ذلك عبر الأنشطة الثقافية، والتعليمية،
والمساعدات الاجتماعية. وبنمط معين من الثقافة الفرنكوفونية حاولت فرنسا
إخضاع المجتمع المغربي لأعراف جاهلية، لا صلة لها بعرف المغاربة.
وقد ظهرت معالم وآثار التبشير بالنصرانية في المغرب من خلال الأساليب
الآتية:
أ - الدعوة المباشرة إلى المسيحية بحملات واسعة شملت المدن والبوادي.
ب - استهداف النخبة المثقفة بنمط من الثقافة الفرنكوفونية؛ إذ من خلالها يتم
التبشير بالمسيحية.
ج - مضايقة الإسلام في ثقافته وعقيدته وشريعته.
د - منع كل مسيحي يريد أن يدخل في الإسلام. وقد هددت فرنسا قاضي
العاصمة المغربية (رباط الفتح) بالعقوبة أو العزل؛ إذا هو سهل إسلام مسيحي
ابتغى الإسلام ديناً [8] .
هـ - إجبار اليهود المغاربة على البقاء على ديانتهم عوض الدخول في
الإسلام.
كل أسلوب من هذه الأساليب قابل لأن يكون موضوعاً برأسه، ونكتفي فقط
بتقديم أدلة وشواهد على الأسلوب الأول، وهو الدعوة المباشرة إلى المسيحية.
نقول إذاً: إنها كانت دعوة صريحة ومكشوفة؛ فبناء على إحصاء ورد في
خريطة أصدرتها (الوكالة التبشيرية في الرباط) ووزعتها مطبوعة مجلة (المغرب
الكاثوليكي) (!) في العدد الأول الصادر في مفتتح سنتها الحادية عشرة وذلك في
شهر يونيو من سنة 1931م [9] ، جاء في هذه النشرة ما يلي:
1 - ذكر لأهم المراكز ذات الكنائس المشتملة على القسس ومساعديهم، وهي
تبلغ عشرين مركزاً موزعة على أهم مدن المغرب.
2 - ذكر للمراكز الرئيسية للأعمال التبشيرية الأهلية، وتبلغ عشرة مراكز
موزعة على عشر مدن مغربية مهمة.
3 - إشارة إلى مراكز أخرى مهمة فيها كنائس وقسس، تبلغ خمسة عشر
مركزاً، موزعة على مدن مغربية أخرى.
4 - ذكر لمراكز في جهات عسكرية أخرى، تزار ما بين الحين والآخر.
وهذا يقوي تحالف المؤسسة العسكرية مع مؤسسات التبشير بالمسيحية، وعددها
ثمانية.
5 - ذكر لمراكز أخرى دورية تبلغ تسعة عشر مركزاً، وقد أشارت الخريطة
إلى الجهات التي توجد فيها هذه المراكز، لكننا تركنا الإشارة إليها تلافياً للإكثار.
6 - ذكر لمراكز أخرى كانت في طور التكوين، وعددها ثمانية، تمت
الإشارة إلى أماكنها وهذا حسب إحصائية 1931م، ولا شك أنها تكونت وزاد
عددها بالأضعاف منذ ذلك التاريخ إلى اليوم [10] .
هذا البعد من أخطر الأبعاد التي تقوم بها الفرنكوفونية في المغرب، وهو ما
نقضت به فرنسا العهد والميثاق؛ فقد أقرت في الفصل الثاني من معاهدة الحماية مع
المغرب على (أن جميع الإصلاحات التي تقوم بها داخل المغرب الأقصى لا تمس
الدين الإسلامي بسوء في قليل ولا كثير، وأن جميع هذه الإصلاحات لا تجلب أي
ضرر على الحالة الدينية، ولا تلحق أي أذى بنفوذ السلطان) [11] .
هذا الميثاق خرقته فرنسا خروقات متعددة، ولم تلتزم به نهائياً؛ والدليل على
ذلك مضايقة المسلمين في محاربة شعائرهم الدينية، والعمل وفق شريعتهم في كل
المجالات، ثم توجت هذا العداء بالدعوة إلى المسيحية بين العرب والبربر.
- البعد الرابع: حرية المرأة: وهو الموضوع الذي يقدم بصيغ متلونة
ومتعددة؛ فقد تطور إلى ظاهرة خطيرة قسمت المجتمع المغربي إلى فئتين: فئة
تطالب بتحرير المرأة من بعض أحكام الإسلام، وهذه الفئة تريد للمرأة أن تكون
على طراز المرأة الغربية لا تحكمها قيود ولا ضوابط شرعية سوى قيود ونظرية
القانون الوضعي المتلون والمتقلب، والفئة الثانية تنظر إلى حرية المرأة من منظور
الإسلام وشريعته.
وتتباين المطالب بين الفئتين: فالأولى تطالب بحقوق المرأة على حساب
الإسلام، والثانية تسعى إلى تحقيق حرية المرأة بالإسلام. وقد عاش المغرب في
السنوات الماضية موجة من المسيرات والمسيرات المضادة، وذلك حين أقدمت
كتابة الدولة في المملكة المغربية بوضع خطة أطلقت عليها خطة إدماج المرأة في
التنمية، خالفت بها الشريعة الإسلامية بشكل سافر من وجوه كثيرة. ولم تخف
الخطة الدعم الفرنكوفوني المادي والمعنوي. وإذا كانت الخطة قد أفلست في
صيغتها العامة، فإن التيارات الفرنكوفونية اليوم تسعى إلى تصريفها جزءاً بجزء
بصورة تدريجية، وكان من أحد وجوه هذا التصريف المطالبة بإعادة النظر في
مدونة الأحوال الشخصية [12] .
موازنة بسيطة بين المطالب النسائية المعاصرة، والمساندة الرجولية لها ذات
الاتجاه الفرنكوفوني من جهة؛ مع ما تقرر نصاً في الظهير البربري، وما مورس
فعلاً في التضييق على القضاء الإسلامي والشريعة الإسلامية، من جهة أخرى؛
يبين أن الفرنكوفونية تريد أن تحقق في مغرب اليوم ما أخفقت في تحقيقه بالأمس.
وإذا كانت الصعاب المعاصرة لا تحتاج إلى برهنة وتدليل على حالتها من هذا الوجه؛
فإنه يحسن بنا أن نعرض ما جاء في الفصل الثاني من ظهير فرنسا البربري الذي
غابت معالمه ومقاصده على النخبة المثقفة اليوم. يقول الفصل الثاني: (إن
القضايا المدنية والتجارية، والمختصة بالعقارات والمنقولات؛ تنظر فيها محاكم
خصوصية، تدعى بالمحاكم العرفية، ابتدائياً أو نهائياً، طبقاً للحدود التي يجري
تعيينها بقرارات وزيرية، كما تنظر هذه المحاكم نفسها في جميع القضايا المتعلقة
بالأحوال الشخصية، أو بأمور الإرث، وتطبق في كل الأحوال العوائق المحلية)
[13] .
وعلقت اللجنة الشرقية في دفاعها عن المغرب، في عرضها المقدم إلى
المؤتمر الإسلامي العام فقالت: (وفي هذا الفصل اعتراف بخلق محاكم خصوصية
«عرفية» ابتدائية ونهائية؛ فالقبائل البربرية بهذا الفصل من الظهير أصبحت
مفصولة عن كل ما يمثل سلطة السلطان، فلا صلة لها بمحكمة الاستئناف الشرعي
التي تستأنف فيها أحكام القضاة، ولم يقتصر هذا التضييق على القضايا المدنية
والتجارية والعقارية، بل امتد حتى إلى قضايا الأحوال الشخصية، وقضايا الإرث
نفسه، وبهذا أصبح حراماً على المسلمين البرابرة أن يتناكحوا أو يتوارثوا طبقاً
للشريعة الإسلامية، وأصبح تطبيق القانون الإسلامي في أية قضية من القضايا
جريمة تعاقب عليها السلطة الاستعمارية بالسجن والنفي والتشريد) [14] ، وقبل
سنتين من استعمار فرنسا للمغرب أصدر السيد مرسيل موران Morant Marcel
كتاباً في موضوع (أبحاث عن القانون الإسلامي الجزائري) [15] ، أثبت فيه ما
يلي: (مما لا نزاع فيه أن القانون الإسلامي من عدة اعتبارات هو قانون أعلى جداً
من العرف البربري، وهو بالخصوص أكثر إنسانية من العرف، ومن الواضح جداً
أنه يعطي للمرأة مثلاً مركزاً ممتازاً، وأنه يضمن للمرأة مادياً وأدبياً منزلة في
العائلة، لا يمكنها أن تحتلها اليوم في العرف البربري) [16] نكتفي له بهذه الشهادة
على وضعية المرأة في الشرع الإسلامي؛ لأنه بعد هذا الكلام سيذكر طاقات ذوات
عدد لا حاجة لنا بها الآن.
كأن مسيو موران كان يتنبأ بكل شيء مما سيقع للمرأة المسلمة فيما بعد. لكن
ما تنبأ به قد وقع فعلاً، وكيف لا يحس بذلك وهو مقيم فرنسي، ومسؤول فرنسا
الثقافي، وأحد أعمدة الفرنكوفونية الكبار؟ إذا فرقنا بين ما جاء في فصول الظهير
البربري، وما مارسته فرنسا فعلاً من أعمال تطبيقية، وربطنا هذا كله بما وقع في
المغرب من فترة الاستقلال إلى الآن، وما يرفع اليوم من شعارات حتى في مجال
الإصلاح، وأدركنا أن للفئة الفرنكوفونية سلطة واسعة في اتخاذ القرار؛ إذ هي
تترجم ذلك فكرياً وعملياً؛ تيقناً من عمق التأثير وشدة الغزو، ولله في أمره مقاصد،
وله سبحانه عاقبة الأمور.
* الخلفية الفرنكوفونية والظاهرة الجديدة:
إذا كان الأسلاف بنوا الفرنكوفونية؛ فإن الأخلاف قد عانقوها، وطوروها،
وهم اليوم يدعون إليها باستماتة شديدة. ولن نتتبع هنا ذكر الأسماء والنعوت،
لكثرة أعدادهم، ولكن نشير إلى الظاهرة في صيغتها الحديثة عند هؤلاء مع ربطها
بهم وبأدوارهم فيها.
ينقسم المجتمع المغربي الحديث إلى قسمين رئيسيين: قسم من الذين يجيدون
اللسان الفرنسي؛ وغالبية هؤلاء هم من أصحاب الامتيازات الكبرى، لهم الحظوة
والجاه والسلطة، ويقف على رأس هذا القسم نخبة مثقفة درست في فرنسا، أو
درست الفرنسية بعمق في بلدها على يد مجموعات فرنكوفونية ذات كفاءة. وهؤلاء
هم أصحاب شهادات ودبلومات. ويلي هؤلاء طبقة من أصحاب المشاريع، أولئك
الذين احتكوا مع الفرنسيين، ومع الإدارة الفرنسية، فاستفادوا منهم الخبرة في
الأعمال التجارية الحرة. ثم يلي هؤلاء في هذا القسم طبقة من المهاجرين الذين
خالطوا الفرنسيين مخالطة عميقة، وتأثروا بهم في جميع مناحي الحياة العامة.
أما القسم الثاني فهم باقي فئات الشعب المغربي العريضة، وهذا القسم على
طبقتين: طبقة متوسطة محدودة الدخل، وهذه تتباين درجات التأثير الفرنكوفوني
عليها، وطبقة فقيرة هم من ذوي الدخل الضعيف.
وظهر من القسمين بمختلف طبقاتهما نخبة مثقفة محافظة تدرك أهداف المؤامرة
الفرنكوفونية على بلدها؛ فهي تراها البلاء الذي أصاب البلد وقسمه إلى قسمين، كما
تحمل هذه الفئة مسؤولية الاحتلال الفكري والمسخ الثقافي إلى الفرنكوفونية، وقد تنبه
لهذه الظاهرة غير واحد من الباحثين المعاصرين.
يقول الدكتور المهدي المنجرة - وهو من الوجوه المغربية التي تخاصم
الفرنكوفونية مخاصمة شديدة، على الرغم من أن ثقافته ثقافة فرنسية -: (وأكبر
استعمار يواجه المغرب الآن هو الاستعمار الثقافي والحضاري، ووجود نخبة معينة
درست في فرنسا وهي الآن تستولي على القرار في كل مكان) [17] .
لقد أدركت النخبة الواعية المخاصمة للفرنكوفونية أن المواجهة لا بد أن تكون
استراتيجية وهادفة، فبادرت إلى تأسيس جماعات، وجمعيات، وحركات دعوية
وإصلاحية وتوعوية، في مختلف المجالات، كما عمدت إلى تنظيم هجرات منظمة
إلى الغرب قصد توعية الجالية المغربية بالمهجر، وتنوير أفهامهم، وتقديم النصح
لهم. وقد أدركت المؤسسة الملكية بالمغرب هذا النقص؛ فبادرت إلى تكوين
مؤسسة خاصة لهذا الغرض، وهي مؤسسة الحسن الثاني للجالية المغربية المقيمة
بالخارج.
لقد عمل أنصار السياسة الفرنكوفونية على تحقيق كل ما عجز الاستعمار
الفرنسي المباشر عن تحقيقه. فالدعوة إلى الأمازيغية مع الفرنكوفونية الثقافية
وصلت إلى أوجها، وكذا المطالبة بتغيير أحوال الأسرة وفق المطالب النسائية التي
لها صلة بمنظمات غربية، ثم تثبيت اللغة الفرنسية والتضييق على اللغة العربية،
كل ذلك أمر أصبح مكشوفاً وظاهراً. وحتى (إصلاح) التعليم، والثقافة،
والأحوال الاقتصادية، والاجتماعية، والرياضية، والإعلامية، لا يتم إلا من
المنظور الفرنكوفوني.
إنهم يجتهدون ليل نهار من خلال العمل الحزبي، ومن خلال وسائل الإعلام
المرئية والمسموعة، ومن خلال الجرائد والمجالات المنتشرة في كل مكان، ثم من
خلال القرار السياسي النافذ الذي وصلوا إليه، من خلال هذا كله يحاولون التضييق
على الشريحة الغيورة من أبناء الوطن، عامدين إلى محاولة عزلهم عن كل قرار؛
بدعوى أن ثقافتهم ثقافة أصولية متطرفة، ثقافة لا سياسية ولا حضارية، ثقافة
عدوانية وظلامية، رجعية وإرهابية ... إلخ.
يمكن تقسيم القسم الثاني إلى جيلين: جيل احتك بالفرنكوفونيين الاستعماريين
أخذ عنهم واستفاد منهم؛ هذا الجيل كان تأثره بالفرنكوفونية مباشراً، وجيل من
أبنائهم المتأثرين بهم انقلبت عليه الحقائق، وبعدت عليه المعتقدات، فلا تظهر له
الفرنكوفونية على أنها ظاهرة استعمارية، أو استلابية، بل يتصورها أو هكذا
صوروها له على أنها ظاهرة سليمة وصحيحة، وهي الطريق الموصلة إلى
الحضارة والتقدم والعصرنة.
تتكرس الفرنكوفونية اليوم في الواقع المغربي المعاصر بأسلوبين:
- الأول: من خلال الحملات الثقافية الواسعة التي تقوم بها المراكز الثقافية
الفرنسية، المتواجدة في المدن المغربية ذات الشأن، وهذه المراكز تفتح علاقات
كبيرة وحميمية مع النخبة الفرنكوفونية في البلد، ومع المؤسسات ذات الطابع
الفرنكوفوني، وتقوم بأنشطة أسبوعية مثل تقديم كتب، أو تكريم كتاب، أو القيام
بمسرحيات، أو رحلات، أو عروض فنية في الرقص، أو الموسيقى، أو عرض
أفلام سينمائية، مع تحليلها والتعليق عليها، مع سهرات ترفيهية، وموائد مستديرة،
وندوات في موضوعات محددة ومختارة.
- الثاني: أنشطة تتم في صيغة التفاعل بين الثقافة المغربية والثقافة الفرنسية،
أو تحت صيغة حوار الثقافتين، أو التبادل بين الثقافتين؛ حيث يلاحظ طغيان
المد الفرنكوفوني على هذا النشاط، وغالباً ما يتم بتمويل من مراكز وأجهزة
فرنكوفونية، بحيث لا تكون المؤسسات المحلية إلا مستقبلة ومحتضنة لهذه الأنواع
من الأنشطة.
* الفرنكوفونية في المغرب: أشكال رد الفعل:
مسوغات رد الفعل:
الفرنكوفونية واحدة، والبلدان التي تكتسحها كثيرة ومتعددة في أوروبا
وأمريكا وإفريقيا والشرق العربي. وهذا يبين أنها تريد تذويب الشعوب وصهرها في
قالب واحد، على الرغم من التباينات الكثيرة والمتنوعة؛ فهي تجيد التأقلم مع
المناخ العام. ولكي تتأقلم مع أي بيئة هناك أسلوب واحد تعتمده: هو تدمير المناخ
الثقافي لكل حضارة في كل دولة معنية. وبالاستقراء التام فإن كل القطاعات تذوب
أولاً، وتنصهر، ولكن الثقافة تبقى آخر ما يصمد؛ فالدولة تغزى في اقتصادها،
واجتماعها، وسياستها، وإدارتها؛ لكن الثقافة تبقى آخر معقل للمحتل يعاني منه
زماناً، ولذلك فإن ما نلاحظه اليوم هو استسلام مطلق للفرنكوفونية، في كل
المجالات إلا الثقافة؛ فإنها الحرب الوحيدة التي تشن على التيار الفرنكوفوني من
خصوصيات شتى، ولا تستغرب فرنسا ولا التابعون لها من مواجهة الفكر المغربي
المسلم وصموده ضدها؛ لأن هذه المواجهة تنبع من موقع ما تريده فرنسا لنفسها،
وما يريده (الأحرار) الفرنسيون لأنفسهم.
إن مواجهة الفرنكوفونية تنبع من الغيرة على الذات، وعلى الكرامة، وتنبع
من المحافظة على الهوية، ووحدة الصف والمصير، وتنبع من الرغبة في
الاستقلال التام من كل استغلال واستعمار. والمواجهة ليست آنية ومعاصرة، أو
محدودة، تحركها جماعة بعينها، أو حركة بعينها، أو حزب بعينه، إنها قديمة
وحديثة ومعاصرة، إنها امتداد متواصل منذ أن وطئت رِجْلُ فرنسا أرض المغرب.
وعلى المنخدعين أن يدركوا الأخطار المحدقة بهم، وبوطنهم وبلغتهم وبتراثهم،
وعليهم أن يعلموا أن فرنسا ما فعلت فعلها في الاحتلال العسكري والفرنكوفوني حباً
فيهم بالذات، ولكنها فعلت ذلك حباً في مصلحتها ومنفعتها.
* موقف سلطة المخزن من الفرنكوفونية:
تحاول الفرنكوفونية أن تكسر جدار كل دولة؛ لتذوب في التبعية؛ بحيث لا
تبقى لها سلطة ولا قرار، وأن تجعل اللغة الفرنسية هي لغة التواصل الإداري،
وتجعل الشعب غريباً على إدارته وعلى بلده. فالشعب لغته عربية وليست فرنسية؛
ناهيك أن النسبة الكبيرة منه أمية، لا تعرف القراءة ولا الكتابة، فإذا خوطب باللغة
الأجنبية ازداد بعداً من الإدارة، ومن موظف الإدارة، ومن القرار السياسي، وإذا
ابتعد عن الإدارة ابتعد عن حياته الوطنية بصفة عامة. هذا هو حال الشعب
المغربي مع الفرنكوفونية.
لقد أدرك سلطان المغرب هذه الخطورة في وقتها، فقد كان جوابه الدائم في
كل مسألة من قضايا الأحكام العرفية التي جاء بها الظهير البربري، هو قول واحد:
(افعلوا ما تريدونه، لكن افعلوه بأنفسكم) . وهذا الرد كانت السلطات
الاستعمارية تعلمه من السلطان، وتدرك أن هذا هو جوابه في حالة إحراجه
والتضييق عليه. حتى إن مستشار الحكومة الشريفة كتب إلى الكاتب العام للحماية
بتاريخ 15 يونيو 1927م رسالة عليها رقم 3888 جاء فيها: (لقد ظهر أنه ليس
في الإمكان أن يدخل السلطان في هذا السبيل، وقد أعلنت لكم مرات عديدة موقف
السلطان في هذه المسائل البربرية، فهو لا يريد بأي شكل من الأشكال أن يتدخل
فيها، ولا أن يضع في قانون رسمي قراراً يهدم الشريعة، ولا أن يعلن بصفة من
الصفات تنازله عَمّا له من الحقوق بصفته إماماً وحارساً للقانون الديني، وهذه عنده
مسألة نفوذ أمام رعاياه، ومسألة شعور ديني صادق هو متعلق به شديد التعلق)
[18] وتدور الأيام فتنقلب الكفة؛ حيث تبحث الفرنكوفونية عن جذور لها في أعماق
الشعب، فيتكون لها جيش من المثقفين جلهم من أصحاب الامتيازات الكبرى؛ ومن
الغريب أن ينخرط في صفوف هذا الجيش الاشتراكيون والشيوعيون المغاربة،
هؤلاء الذين كانوا يخاصمون الفرنكوفونية بصفتها أحد وجوه الإمبريالية، نجدهم
اليوم يعانقونها بجنون ويمثلونها بامتياز.
* أزمة الفرنكوفونية في العصر الحديث:
رغم النجاح الكبير الذي حققته الفرنكوفونية في المغرب، فإنها تعاني من
هزات خطيرة، تهدد وجودها في البلاد التي تتواجد فيها، وبخصوص المغرب
يمكن أن نسجل هذه الهزات على ثلاثة مستويات:
- المستوى الأول: ظهور الحركات الإسلامية المتمثلة في الجماعات الدعوية.
فهذه الحركات ساهمت في تنامي ظاهرة الصحوة الإسلامية في عموم الشعب
المغربي بصفة عامة والفئة المثقفة بصفة خاصة. وعبر تنوعات هذه الجماعات،
وإمكانياتها في ساحة الدعوة، فإنها مجمعة على التصدي لكل تيار تغريبي،
استلابي واستعماري، كيفما كان شكله، وذلك عبر الدعوة إلى ربط الناس بالهوية،
والعقيدة، والتراث. وهي الأمور التي جاءت الفرنكوفونية لتدميرها وللتضييق
عليها. هذه المواجهة هي مواجهة انعكاسية وطبيعية؛ فمثلما أن الفرنكوفونية
تحارب هوية الشعب وثقافته؛ فلا بد من مواجهتها بالهوية الإسلامية، وبالثقافة
الإسلامية ذاتها.
هناك حقيقة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الفرنكوفونية كانت وراء ظهور
الحركة الإسلامية في المغرب التي جاءت لرد الاعتبار للهوية الوطنية؛ بدليل
طبيعة التاريخ الذي ظهرت فيه الحركة الإسلامية بالمغرب؛ حيث كان ظهورها في
السبعينيات، وهذا التاريخ يصادف مرور أكثر من عشر سنوات على استقلال
المغرب، وهي مرحلة تاريخية كافية للبرهنة على أن المغرب في عهد ما بعد
الاستقلال، لم يزل رهين الاحتلال الثقافي. فهل آل أمره غداة الاستقلال إلى
التحرر الفعلي، أم أن الاستعمار خرج جسداً وبقي روحاً.
إن الواقع يثبت أنه خرج جسداً وبقي روحاً، وروحه المتمثلة في فكره وثقافته،
وعقيدته، وسياسته، واجتماعه، وأنماط عيشه، كلها أمور خيمت على التسيير
الإداري، والسياسي والاقتصادي والعلمي والتربوي. ولوحظت تكتلات جمعوية،
وأحزاب يسارية، وأخرى مصلحية، تستفيد منها الفرنكوفونية، ويقودها
فرنكوفونيون ناجحون. ولهذا كان لا بد من إعادة الاعتبار للذات؛ لتصحيح المسار؛
فظهرت الحركة الإسلامية التي تباينت مواقفها تجاه ما يجري تبايناً تمليه ظروف
الواقع وتعقداته.
- المستوى الثاني: المد الهائل للغة الإنجليزية. هذا المد بدأ يقلص من
فاعلية اللغة الفرنسية وثقافتها، وأصبح الفرنكوفونيون يحسون بالتراجع أمام اكتساح
الثقافة الإنجليزية للساحة، لأن الجيل الجديد يفضل تعلم اللغة الإنجليزية على اللغة
الفرنسية، واللغة الفرنسية اليوم هي لغة الجيل القديم، الجيل الذي ابتلعها فتعذر
عليه أن يتخلص منها، كما تعذر عليه أن يضيف إليها لغة لاتينية أخرى.
إن النجاح الباهر الذي حققته اللغة الإنجليزية لم يكن على مستوى اكتساح
العالم الفرنكوفوني التابع لفرنسا فحسب؛ بل نجحت الثقافة الإنجليزية في جر عدد
كبير من اللغويين الفرنسيين أنفسهم؛ جرياً وراء المصطلحات العلمية. فالدراسات
تشير إلى أن في الإنجليزية تستحدث تسعة آلاف كلمة في السنة، في حين أن
الفرنسية لا تتوفر إلا على عدد محدود جداً [19] .
إذا كانت فرنسا نفسها تعاني من هذا في بلدها؛ فماذا نقول عن المغرب الذي
يحتضن هذه اللغة؟ وماذا تقول معه سائر البلدان الناطقة بالفرنسية؟ أعتقد أن الذي
زاد المغرب تخلفاً هو اعتماده على هذه اللغة، وما دامت شريحة الجيل القديم
متشبثة بالفرنسية، تقرها وتقررها؛ فإن المغرب سيبقى على قدم المساواة في
التخلف مع الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية.
- المستوى الثالث: العولمة ظاهرة عامة ولدتها أمريكا بالذات؛ لغرض
تدمير الحدود بين البلدان؛ لتصبح كل البلدان بلداً واحداً، قصد تذويب الثقافات في
ثقافة عولمية واحدة، هي ثقافة النظام الدولي الجديد.
لم تأت العولمة من فراغ، بل شوهد وجودها على مر التاريخ، عولمة نظام
اليونان، وعولمة نظام الرومان، وعولمة نظام الفرس، وأطلقوا على نظام الإسلام
في عهوده الزاهية عولمة، وهكذا. غير أن العولمة المعاصرة تختلف جذرياً عن
أنواع العولمات السابقة؛ إن هذه العولمة عولمة جارفة تذيب كل الخصوصيات،
وتحطم كل الحدود، ومن خرج على هذا النظام عد إرهابياً يجب استئصاله. وهذا
ما يجري اليوم في الشيشان وأفغانستان وفلسطين والسودان وإيران ... إلخ.
إن العولمة هي رديفة الإمبريالية، لكنها في صورة جديدة، الصورة التي كان
الأحرار من المناضلين التحرريين يحذرون من مجيئها، وينبهون على الوقوع فيها.
وهنا برز من يتكلم على نهاية التراث، ونهاية التاريخ، ونهاية الجغرافيا؛ لأن
العولمة جاءت، وجاءت بقوانينها، وقراراتها الأممية الملزمة لكل وطن ولكل شعب.
صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمه التجارة العالمية، وهيئة الأمم
المتحدة، كلها أدوات للتسلط والقمع. وتعاني الفرنكوفونية من نظام العولمة معاناة
لا تقل عن معاناة الشعوب الأخرى. فالشعوب التي ترزح تحت نير الفرنكوفونية
هي ضعيفة أمام الفرنكوفونية، لكن الفرنكوفونية أمام المد العولمي أصبحت هي
بدورها ضعيفة جداً، مقزمة ومحددة؛ فلغة النظام الدولي الجديد هي الإنجليزية؛
وهذا فيه إساءة إلى الفرنسية. ومركز هذا النظام هو أمريكا؛ وهذا فيه إهانة إلى
فرنسا. ووقعت العولمة ضداً للطموح الأوروبي بصفة إجمالية، ولا صوت للغرب
اليوم إلا في إطار العولمة التي تقودها أمريكا، وتستفيد منها إسرائيل استفادة كبيرة.
العولمة كونية، والفرنكوفونية محلية، والمغرب يعاني من الضغطين:
الضغط العالمي المتمثل في العولمة، والضغط المحلي المتمثل في الفرنكوفونية،
وتحاول فرنسا أن تحدث نوعاً من العصيان؛ بتحريض البلدان التابعة لها،
وتحذيرها من الوقوع في تيار العولمة. وهذا من متاهات الفعل السياسي، فهل
استطاعت فرنسا أن تنجو هي بنفسها من تيار العولمة؟ الجواب هو ما يجري اليوم
في العالم وتشارك فيه فرنسا على الرغم منها.
* خلاصة عامة:
المغرب بلد مسلم، وعقيدة المغاربة هي عقيدة الإسلام. بالإسلام توحدت
القبائل، والعشائر، والطوائف، والدول، والقارات. وبالإسلام عاش المغرب
والأندلس في دولة واحدة، وعاش العرب والبربر تحت راية واحدة، كما عاش
المغاربة والعرب القادمون من الشرق، والأوروبيون الأندلسيون في مجتمع واحد،
وانصهرت كل التقاليد والأعراف والعادات، وأنماط العيش، في بوتقة واحدة،
وكانت اللغة العربية هي لغة الدين، ولغة الدولة، ولغة الحضارة، والمجتمع،
والقيم. ومتى فكر المغاربة في إلغاء دور الدين، أو تأخيره عن مضامير صناعة
الحياة، وتقديم ضده عليه؛ فهذا لا يعني في النهاية سوى التفكك والتجزئة.
ويثبت التاريخ وتثبت مختلف العلوم معه - ولا سيما تلك التي استخدمها
الفرنسيون - أن الإسلام صهر القبائل العربية والبربرية، في مجتمع واحد. لا
ولاء في المغرب إلا للإسلام كدين واحد، في مجتمع واحد، تحت راية وطنية
واحدة.
إن الإجرام الذي أقدمت عليه فرنسا في محاولات للنيل من وحدة المغرب، لا
ترضاه هي لنفسها؛ فهل ترضى لنفسها أن تأتي قوة أخرى إسلامية، أو غير
إسلامية، تبث النعرات داخل المجتمع الفرنسي، وتعرض أقلياته للانسلاخ عن
حكومة الوحدة؛ مع ترك الدين واللغة والثقافة؛ بدعوى أن الشماليين هم أقرب إلى
الألمان منهم إلى الفرنسيين، وأن الجنوبيين أقرب إلى الإسبان منهم إلى الفرنسيين،
وكذلك القول بالنسبة للشرقيين مع سويسرا ... إلخ؟
إذا كانت فرنسا تقدم نفسها على أنها (المثال) في الديمقراطية وحقوق
الإنسان، و (النموذج) في الحرية والعدالة والإخاء والمساواة؛ فعليها من باب
أوْلى أن تحافظ على وحدة الشعوب كما حافظت هي على وحدتها، وعلى لسان
الشعوب كما حافظت هي على لسانها، وعلى الثقافة والمصير كما تحافظ هي
عليهما.
* وبعد:
فهذا بحث كشفنا فيه البعد الثقافي والفكري للفرنكوفونية في المغرب من خلال
أربعة محاور:
الأول: في بيان المراحل والمجالات والأهداف، والثاني: في الكشف عن
الأساليب والأبعاد، والثالث: في عرض أشكال الدعم، والرابع: في بيان أشكال
رد الفعل، مع مقدمة عامة وخلاصة.
فإذا كنا نؤكد ضرورة التفتح والاستفادة من تجارب الغير، وإذا كنا نلح على
الحوار الثقافي، والتبادل الفكري، والتلاقح الحضاري؛ فإن هذا لا يعني الذوبان
في الآخر والانصهار في معارفه وأفكاره.
__________
(*) أستاذ الفكر والحضارة الإسلامية، بجامعة القاضي عياض بمراكش المغرب.
(1) ستأتي ترجمته، وراجع بخصوص شخصيته كتاب (سمط اللآلي في سياسة المشير اليوطي نحو الأهالي) لأحد دعاة الفرنكوفونية علي الطرابلسي رئيس تحرير جريدة السعادة، تاريخ الطبع 3 صفر 1344 هـ.
(2) النص في كتاب (فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى) ص 29 - 30 يضم هذا الكتاب تحقيقات ونصوصاً وشواهد وتعليقات نفيسة، وهو في مجمله تقارير مقدمة إلى المؤتمر الإسلامي العام أعدته اللجنة الشرقية للدفاع عن المغرب؛ اعتنى به وصدَّر له وطبعه مندوب المغرب في المؤتمر الشيخ محمد المكي الناصري رحمه الله الطبعة الثانية، شركة بابل 1993م.
(3) فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى، ص33 - 34.
(4) المصدر السابق، ص 16 - 17.
(5) المصدر السابق، ص 79 (الهامش) .
(6) المصدر السابق ص 9.
(7) الجماعات القضائية البربرية، ص 237 - 239، انظر محمد المكي الناصري، ص 39.
(8) انظر: فرنسا وسياستها البربرية ص 67.
(9) نشرت هذه الخريطة في الكتاب الذي نشره الشيخ محمد المكي الناصري رحمه الله، وهو من وثائق اللجنة الشرقية للدفاع عن المغرب، المنبثقة عن المؤتمر الإسلامي العام، انظر: كتاب (فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى) ص 102-103.
(10) انظر: تعليق اللجنة الشرقية على هذا الإحصاء في المصدر السابق ص 103.
(11) فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى، ص 19.
(12) انظر: كتابنا بناء الأسرة في القيم والتحديات المعاصرة، ص 54 وما بعدها، مطبعة إيماج - البيضاء الأول غشت 2001م.
(13) فرنسا وسياستها البربرية، ص 85.
(14) المصدر السابق، ص 85، وأما المحاكم العرفية البربرية التي أنشأها الاستعمار: فهي عبارة عن محاكم فرنسية منفصلة تمام الانفصال عن حكومة المغرب الرئيسية، ومنقطعة عن جميع السلطات المغربية، وهذا باعتراف الفصلين الرابع والخامس من الظهير البربري نفسه.
(15) مرسيل موران، كان يشغل عميد كلية الحقوق في جامعة الجزائر الفرنسية، أصدر كتابه في سنة 1910م عرض فيه وضعية الإسلام في جبال أوراس.
(16) انظر كتابه (أبحاث عن القانون الإسلامي في الجزائر) ص 466، وراجع فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى ص 88.
(17) مقال في مجلة الفرقان المغربية - العدد 20 - السنة السادسة - مقال بعنوان: (الفرنكوفونية أو الاستعمار الجديد) .
(18) فرنسا وسياستها البربرية في المغرب، ص 155.
(19) مجلة الفرقان المغربية، عدد 20، ص 3.(177/40)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
الفرنكوفونية ومحنة اللغة العربية بالمغرب
أ. عبد الناصر المقري [*]
في ظل النظام الجديد تقدم الفرنكوفونية نفسها بديلاً حضارياً، ومشروعاً
سياسياً واقتصادياً وثقافياً ترعاه دولة فرنسا، وتسعى إلى توظيفه كسلاح تشهره في
وجه العولمة؛ لتضمن به بقاءها على الساحة الدولية، وتفتح من خلاله فضاءات
لإنعاش اقتصادها وتعزيز موقعها في وجه النزعة الأنجلو - أمريكية.
ويحتل نظام التربية والتعليم ضمن هذا التوجه موقعاً أساسياً كخطة تعتمدها
فرنسا لبسط فرنكوفونيتها؛ ولذلك فهي تعمل في كل المناحي، وبكل الوسائل
للنهوض بلغتها وحماية ثقافتها في مختلف مَحمياتها ومستعمراتها الإفريقية التي ترى
فيها امتداداً لوجودها.
واجه المغرب منذ حصوله على الاستقلال سنة 1956م ضغطاً استعمارياً
يرمي لإقرار وتثبيت الوجود اللغوي الفرنسي بالمغرب المستقل، وإعطاء هذا
الوجود الذي فرضته الحماية الفرنسية في عهدها صفة الشرعية والاستمرار في
ميدان التعليم والتربية وتكوين الأطر؛ فقد استطاعت فرنسا بدهائها وخبرتها
الطويلة، وبفضل تلاميذها الذين كونتهم، وعملائها الذين احتضنتهم اختراق نظم
التربية والتعليم، وانتهاج سياسة تعليمية هدفها (فَرْنَسَةُ) الأجيال الناشئة،
وإفراغُها من قيمها الدينية والحضارية ليسهل دمجها في إطار دولة (فرنكو علمانية)
منعزلة تماماً عن تاريخها وحضارتها العربية الإسلامية، وتصبح من ثمَّ أداة تحكم
في المجتمع المغربي، تعيد تكوينه وتقرر مصيره كجزء لا يتجزء من مستعمرات
التملك الإفريقي.
والواقع أن إخفاق السياسات الحكومية المتلاحقة في توطيد تعليم وطني
إسلامي مستقل، وتجاهل المبادئ الأربعة التي أجمع عليها الشعب المغربي غداة
الاستقلال، في أول لقاء عقدته اللجنة الملكية لإصلاح التعليم بتاريخ 28/9/1997م
وهي (التعريب، والتعميم، والتوحيد، والمغْرَبة) والتي يستحيل وضع (ميثاق
وطني لسياسة التعليم) بدونها، يؤكد أن الوجود الفرنسي أصبح متغلغلاً في المجال
التعليمي وأقوى مما كان عليه زمن الاستعمار، وأنه لم يتخل عن فرض نفسه
شريكاً لنا في تعليمنا وثقافتنا.
لقد عملت فرنسا على فرض نظام «ازدواجية لغة التعليم» على المغرب
غداة استقلاله، بعدما وقَّع معها على اتفاقيات سياسية، واقتصادية، وعسكرية،
وثقافية، باسم (تبادل الخبرات والمصالح) ، باعتبار أن اللغة الفرنسية تمثل
نموذجاً لسانياً كاملاً بذاته، قوامه التقنية والعلمية والعقلانية، وهو ما من شأنه أن
يساهم في بناء المغرب الجديد.. وإذا نحن ألقينا نظرة على تاريخ الاستعمار
الفرنسي، وجدناه قد ارتبط بتاريخ غزوه للبلدان التي أُفقدت سيطرتها عليها؛ فنفوذ
اللغة الفرنسية بلغ ذروته في القرن الثامن عشر؛ بحيث احتلت موقع اللاتينية
المتراجعة، وعمّ الاحتلال الفرنسي أقطار أوروبا مكتسحاً ألمانيا وإنجلترا وبولونيا
وهولندا والسويد والنروج والدانمارك وهنغاريا.
وفي هذا القرن استطاعت «لغة الملوك» كما كانوا يسمونها وقتئذ أن تغزو
روسيا القيصرية، وأن تعمل على فرنستها. يقول بيير بوري Purre Burrez
في كتابه «اللغات الدولية» : (إن بعض كبار الدولة الروسية القيصرية لم يكونوا
يحبون فرنسا، ولكنهم يعترفون بتفوقها، ويتخذون الوسائل المؤدية إلى فرنسة
إمبراطوريتهم، بمساعدة جمهور الأساتذة والتقنيين والفنانين، وهكذا أصبح السفر
إلى باريس عقيدة. وتضاعفت الكتب والصحف باللغة الفرنسية، وانتشر تقليد
الفرنسيين في اللباس وحلاقة الشعر، ونماذج السلوك، وأصبحت اللغة الفرنسية
خلال قرن لغة تخاطب جميع هؤلاء الذين لهم مكانة في الدولة، وأصبح أطفال
الطبقة البورجوازية لا يتكلمون بلغتهم الروسية إلا بصعوبة. وفي هولندا لم يكن إلا
قليل من الناس يفهمون لغتهم الهولندية، وفي هولندا النمساوية، كانت النمسا نفسها
هي التي تدعم انتشار الفرنسية التي كانت تحكم بها، ولم يكن بأقل مما حدث في
ألمانيا وإيطاليا. وكما حدث في القرن السابع عشر فإن السياسة والحروب خلال
القرن الثامن عشر لم تكن وقتئذ إلا انعكاسات لغوية وثقافية برهنت على خطورة
الدور الذي تلعبه اللغة في حياة الشعوب) [1] ، نفهم من هذا الكلام أن الفرنكوفونية
تحركت قبل الاستقلال وبعده ضمن الثوابت نفسها التي انطلقت بها السياسة
الاستعمارية لبلدان أوروبا، وأن فلسفتها هذه قد شكلت منذ زمن بعيد؛ فهي ترى أن
حضورها اللغوي والثقافي يضمن لها تلقائياً استمرار نفوذها السياسي والاقتصادي،
ولذلك نجدها قد أسرعت إلى توجيه عقول المغاربة عن طريق ترسيخ سياسة لغوية
تعليمية قائمة على فرنسة الأجيال الصامدة، هدفها الأساسي القضاء على اللغة
العربية باعتبارها لغة حضارة عريقة وتراثاً إنسانياً خالداً.
وهكذا تم تحويل المغرب تدريجياً بفضل سياسة ازدواجية اللغة إلى مغرب
فرنكوفوني بعدما حُرِم أبناؤه من الازدهار والنمو في إطار ثقافتهم العربية وهويتهم
الإسلامية.
لقد عملت هذه السياسة على فرنسة اتجاهين متكاملين يمثلان صورة (المغرب
المتفرنس) المستقل الذي يحلم الاستعمار الجديد بأن يحل محل (المغرب المفرنس)
المحمي.
الاتجاه الأول: يتمثل في مدارس البعثة الثقافية الفرنسية؛ حيث تجري عملية
فرنسة أبناء الطبقة البورجوازية بمن فيهم أبناء الأعيان ذوي الحظوة في
المجتمع، وإعدادهم لتحصيل الشهادات الكبرى، واستلام المناصب العليا في الإدارة
المغربية ليلعبوا دورهم في التنكر والعداء للحضارة العربية الإسلامية، ومحاولة
ربط المغرب إلى الأبد بمصالح الغرب الاستعمارية، ودعم «البورجوازية
المغربية» الجديدة بإطارات قيادية صالحة لتكون صلة وصل بين (الاستعمار
القديم) و (الاستعمار الجديد) .
الاتجاه الثاني: يتمثل في مدارس التعليم الرسمي العمومي الخاصة بأبناء
الشعب المغربي الذين تجري عملية فرنستهم بنسبة أقل؛ لأن دورهم في (المغرب
المتفرنس) ينحصر في أن يكونوا أعواناً للرؤساء في المكاتب الإدارية، مساعدين
في الخدمات العامة.
وهكذا اخترقت سياسة الفرنسة كل المظاهر الوطنية: الإدارة الحكومية،
التعليم ووسائل الإعلام، الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية، أسماء
وإعلانات الشوارع، بطاقات الزيارات والحفلات؛ لتتحول اللغة الفرنسية تلقائياً
إلى لغة التخاطب الرسمية بنسبة 100% بين أبناء الطبقة البورجوازية خريجي
مدارس البعثة الفرنسية، ونسبة 50% بين أبناء الطبقات الشعبية الذين درسوا
بالمدارس الحكومية أو الحرة. بهذا ندرك نوع الأجيال المغربية التي أريد تكوينها
في ظل هذه الازدواجية. ويا ليت الأمر تعلق فقط بفرنسة لغة التخاطب، ولكنه
تعدى ذلك إلى فرنسة العواطف والقيم والمقاييس والمواقف والاتجاهات ليكون
التناسب كاملاً بين الجيل الناشئ الذي تم إعداده وبين المهمة التي يراد إسنادها له
في (المغرب الفرنكوفوني) الذي يحكمه الاستعمار الجديد. يقول الدكتور عبد
العلي الودغيري في كتابه: «الفرنكوفونية والسياسة اللغوية والتعليمية
والفرنسية» : (إن الغرض ليس هو نشر اللغة أو الثقافة الفرنسيتين ولكن هو
الوصول عن طريقهما إلى التحكم في عقول ومصير مستعمريها؛ فالمسألة ليست
مسألة لغة تطل بواسطتها شعوب معينة على العالم الغربي وثقافته وحضارته، ولكنها
مسألة سياسية مخططة بخبث ومهارة وتستعمل طُعماً لاصطياد الشعوب) [2] .
وهكذا انتهت سياسة «ازدواجية لغة التعليم» لإعلان هزيمتها على المستوى
التربوي والتعليمي؛ فنسبة الذين أنهوا بمقتضاها دراستهم لا تزيد عن نسبة 2%،
كما أنها أدت إلى انخفاض مستوى التعليم في اللغتين معاً. لقد كان من العبث أن
يطلب من التلميذ أن يتكلم اللغة الفرنسية، وهو لا يستشعر أي صلة بها على
الإطلاق؛ بل يعتبرها دائماً لغة القهر والإذلال والاستعمار. والمراحل التي قطعها
المغرب في تعريب التدريس في تعليمه الأساسي والثانوي مكن من الوقوف على
حقيقة لا جدال فيها، وهي أن التعبير الفرنسي كان أحد أكبر العوائق أمام التحصيل،
وأحد أكبر أسباب الفشل والرسوب الدراسي؛ فلا غرابة إذاً أن يصل التلميذ في
آخر سفره الدراسي الطويل المملوء بالعجائب والغرائب منهوك القوى قد أخذ التعب
منه مأخذه؛ حتى إذا أراد الحصول على وظيفة من الوظائف يسوِّغ بها وجوده في
وسطه العائلي وبين أقرانه؛ فلا بد أن يستسلم قبل كل شيء للغة أسياده، مزرياً
بلغته العربية الأم، حاجباً إياها عن الأسماع، ولا يشعر بالراحة والاطمئنان إلا
بتقمص لغة مستعمره الجديد.
أما إخفاقها في المجال الاقتصادي، فيؤكده أن نسبة كبيرة من التجارة
الخارجية للمغرب، تقام مع فرنسا؛ مما يعطي مؤشراً واضحاً على أن المغرب
بفضل هذه السياسة أصبح سوقاً مفتوحة وملحقة بفرنسا.
أما بخصوص إخفاقها في المجال الديني؛ فضعف القيم الخلقية والروحية بات
واضحاً عند الأجيال الصاعدة التي أبعدت عن منابع الإيمان وتوجيهات الوحي،
فأصبحت قلوبها خواء، وأفئدتها خلاء لا يجمعها رباط ولا توحدها غاية. ولا بأس
أن ننقل هنا كلمات حسنة للدكتور فريد الأنصاري، تبين عمق الاختراق الذي
أحدثته سياسة الازدواجية هذه. يقول: (لعل أهم ما يمكن رصده في المجالين
التعليمي والثقافي هو السيطرة الفرنكوفونية على الوضع مطلقاً؛ فالتعليم لم يستطع
أن يتخلص من عقدة اللغة الفرنسية، وإنه من العار أن تكون هذه اللغة المتخلفة لا
تزال تتحكم في رقاب التلاميذ منذ عهود الاستعمار إلى يومنا هذا. وقد أصبحت
هذه اللغة المتخلفة حقاً في ركام الماضي. وها هم أهلها اليوم عالة على الكلمات
والمصطلحات الإنجليزية. ولست ههنا مفضلاً لهذه على تلك، وإنما أجزم أنه من
الخطر التربوي والنفسي على الطفل أن تحشى ذاكرته بأي لغة غير لغته الأصلية
التي تحمل هويته الثقافية والدينية في مرحلة الطفولة حتى يبلغ سن الرشد القانوني،
فيتفرغ حينئذ لما شاء بعدما يكون قد أتقن لغته استعمالاً وإلهاماً وإبداعاً ... إن
مناهج التعليم المزدوجة هذه هي التي خلقت لنا طبقة المثقفين المنحرفين والأدباء
الإباحيين؛ فلا تقرأ في المغرب من الشعر والرواية إلا ما يُمَجّدُ السقوط ويكشف
العَورات؛ حتى أصبح (الجسد) لغة في حد ذاته لا يكاد يخلو منها إبداع شعري أو
سردي. ألا ترى هذا السباق المحموم نحو التعري بين المسمين (مبدعين) ؟ فبقدر
جُرأتك على المحرَّمات والمقدَّسات والتعري بقدر ما تكون من العظماء والمجددين.
أما العالمية فهي بين أمرين: إما أن تكتب بالفرنسية، وإما أن يقيض الله من يترجم
لك إلى الفرنسية! حتى إذا طلع (السادة الفرنسيون على قدر ما (كشفت) من
مخبوء؛ يكون حينئذ من الإطراء ما يكفي لرفع مستواك إلى صف العالمية طبعاً من
خلال دائرة الفرنكوفونية. إن الأدب الفرنسي الذي يكتبه مغاربة أدب خائن بالمعنى
الوطني والحضاري للكلمة؛ إنه يكشف لهم عوراتنا، أو في أحسن الأحوال يقدمنا
لهم كمادة سياحية غرائبية مسلية لإرضاء شهوة الفرنسي المستعلية. إن اللغة
الفرنسية يا سادتي! ليست لغة وكفى؛ إنها ثقافة، بل إنها نوع خاص من الثقافة،
إنها ثقافة العهارة. من منكم قرأ (أمي) لجورج بطاي؟ أو قرأ (العشيق)
لمارجريت دوراس؟ بل سائر رواياتها؟ أو من منكم قرأ ما يكتبه هذا التشيكي
المتفرنس ميلان كونديرا؟ وهلم جراً. إن الأدب الفرنسي هو في عمومه أدب
العري، وأدب العهارة. إن المثقف المغربي المفرنس يعاني من وطء الكلمات
الفرنسية العارية التي تدعوه إلى ربط كل شيء في الحياة بالجنس. صحيح أن
هناك مثقفين لا علاقة لهم بالفرنكوفونية يتسابقون نحو هاوية الفجور، ويتبارون في
إبداء العورات، ولكني أزعم أنهم مشمولون بالظلال الفرنسية النتنة، ولو لم يكونوا
من أهل الإتقان للغة؛ لأن الفرنسية في المغرب كما قلت ليست (لغة) وكفى،
ولكنها طريقة حياة، إنها (موضة) الهرولة الثقافية بالمغرب المسلم. إن المشكل
الثقافي الأول بالمغرب إنما يكمن في هذا الانبطاح المخزي لكل ما هو فرنسي، وها
هي ذي الجهات الرسمية ما تزال أحرص ما تكون على تمجيد المنتج الثقافي
الفرنكوفوني، وها هي ذي المراكز الثقافية الفرنسية بالمغرب لا تزال تتزعم حركة
الإفساد الخلقي فيما تعرضه من أفلام ومسارح ومعارض تشكيلية ... إلخ. وإن هذا
لمن أهم العقبات التي تواجه حركة التحرر والتطهر الحضاريين من الهيمنة الغربية
الفاجرة التي تعتبر المصدر الأساسي للفجور السياسي ببلادنا) [3] .
وإننا إذا ذهبنا نبحث في خصائص اللغة الفرنسية، لندرك سر انبهار الجيل
الجديد بها الذي أصبح يتنفس من هوائها ويستظل بظلها، سنجدها للأسف أنها
تحمل من النقائص ما يجعل سوأتها مكشوفة أمام لغة القرآن؛ فصيغ الأفعال
الفرنسية - وعددها ثمانية - تحمل كل صيغة منها عدداً من الحروف الحية يبلغ
الستة أحياناً، تكتب ولا تنطق، أما الحروف الساكنة فتتبع مثنى وثلاث في أوائل
الكلمات وأواخرها بصورة مزرية لا يمكن تعليلها، أما إغفال النطق بعلامات الجمع
في الأدوات والأسماء فيطَّرد في هذه اللغة كما يطرد النطق بحروف كثيرة على غير
ما تكتب به.. هذا فضلاً عن أنها أصبحت لغة متأخرة في المجال؛ فهي عالة على
أختها الإنجليزية التي أصبحت تقتبس منها دون استحياء.. لقد أريد لناشئتنا أن
تنسلخ من لغتنا العربية وتلبس لبُوس اللغة الصليبية التي يعترف أصحابها أنفسهم
بقصورها، ولولا قوة أهلها ما انتشرت. إن الغرض واضح من هذا النشاط وهو
حفر فجوة غائرة بينهم وبين لغة القرآن، بعد أن أدرك حماة الفرنكوفونية نوع
العلاقة التي تجمعها بالإسلام، فلما كان حملها وصل القلوب الحائرة بالله، وصبغ
الحياة بأحكام القرآن، وجمع الناس على أساس مشترك؛ فهم دائبون على خنقها
وإقصائها بدعوى أنها لغة جامدة لا تجاري تطور المدنيات الحديثة، وتعجز عن
استيعاب العلوم والفنون. كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذباً. إن
التاريخ يشهد أن اللغة العربية عاشت زهاء خمسة عشر قرناً استوعبت فيها مدنيات
مختلفة، وورثت حضارات متعددة كحضارة مصر والإغريق والرومان والفرس
والهند، وهضمتها جميعاً، وأضافت إليها حضارة خالدة لا تزال آثارها ماثلة
للعيان.
إننا ننبه بكل قوة على التجني الذي يرتكب في حق لغتنا العزيزة عندما يراد
ربطها بالواقع الذي يوجد عليه العالم العربي اليوم. إن اللغة العربية لم تكن في يوم
من الأيام لغة قاصرة؛ فتنوع ووفرة مصطلحاتها وقدرتها على الاشتقاق، وإحداث
الألفاظ والعبارات الجديدة في أي ميدان من الميادين يجعلها كفيلة لتجاري اللغات
الحديثة في تطورها وارتقائها.. وها هي ذي علوم الطب والطبيعة والكيمياء تدرس
في جامعة دمشق بالعربية الفصحى، وها هم طلاب سوريا يؤكدون تفوقهم في
تخصصاتهم بالجامعات الأجنبية، ويحصدون أعلى الدرجات العلمية مقارنة مع باقي
الطلاب العرب سجيني اللغات الصليبية.
إن إماتة اللغة العربية سيتبعه حتماً موت الإسلام، والاستعمار الجديد دائب
على بلوغ هذا الهدف، وها هي ذي فرنسا تراقب عملية التعريب وتطورها بحذر
شديد وتعمل على إعاقتها؛ والغرض هو فصل مسلمي المغرب عن تاريخهم
الروحي والثقافي وإلقاء ستار كثيف على ماضيهم المشرق المجيد.
وتأسيساً على ما مضى ندرك أننا أمام حرب حضارية صليبية جديدة وظفت
فيها اللغة كسلاح جديد.. والهدف هو ربط المغرب (المستقل) بتبعية دائمة لفرنسا
عن طريق تحطيم أسس المقاومة الداخلية في عقيدة الشعب، ولغته، وفكره،
ومنهج حياته، وترويضه؛ مما يجعله يرى في فرنسا أحد نماذج الغرب المتفوق،
فيسعى إلى تقليدها، واقتفاء أثرها.
__________
(*) أستاذ التربية الإسلامية - المغرب.
(1) نقلاً عن جريدة التجديد، العدد 12 بتاريخ 14/4/1999م مقال: (بيان من علماء ومثقفي المغرب حول سياسة التعليم والغزو اللغوي الاستعماري للمغرب العربي) ، ص 4.
(2) نقلا عن جريدة التجديد: 26/4/1999، عدد 92، ص 14.
(3) الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب، ص 47 - 48.(177/50)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
اغتيال اللغة العربية في الجزائر
يحيى أبو زكريا [*]
رغم مرور أربعين سنة على استقلال الجزائر، ورغم أنّ كل الدساتير
الجزائرية السابقة المنسوخة والراهنة تقرّ أنّ اللغة الرسميّة في الجزائر هي اللغة
العربيّة إلا أنّ الطابور الخامس الفرنكوفوني الذي لا يؤمن بعروبة الجزائر وانتمائها
العربي ظلّ يعرقل تكريس اللغة العربيّة في الواقع السياسي والتربوي والثقافي
والإعلامي والاجتماعي. ومن المفارقات الجزائريّة أنّ الجزائر التي قدمت مليوناً
ونصف مليون شهيد من أجل عروبتها وإسلامها يخرج منها كاتب كمولود معمري
الذي كان يعتبر الفتح العربي للجزائر غزواً واستعماراً، أو كاتب ياسين الذي كان
يطالب رسول الإسلام محمّداً صلى الله عليه وسلم بالخروج من الجزائر، أو وزير
التربيّة الأسبق مصطفى الأشرف الذي كان يعتبر اللغة العربية أفيون الجزائر
وعاملاً من عوامل نكستها.
وبعد تولّي عبد العزيز بوتفليقة الحكم في الجزائر عيّن لجنة تربوية لإعداد
مشروع إصلاح المنظومة التربويّة التي حمّلها الفرانكوفونيون والشيوعيون والبربر
مسؤوليّة صناعة الإرهاب وإنتاج التعصّب في نظرهم، ويدّعي أعداء المدرسة
الجزائريّة أنّ اللغة العربية وجعلها لغة تدريس في المراحل التعليميّة الابتدائيّة
والمتوسطة والثانوية أفضى إلى إيجاد بذور الأصوليّة والأسلمة في نفوسهم. وعيّن
على رأس اللجنة التي تعدّ مشروعاً تربوياً جديداً شخصاً يدعى بن زاغو ومعه 160
شخصاً من المنتمين إلى تيار التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري بزعامة
سعيد سعدي المعادي قلباً وقالباً للغة العربيّة والتيارات الشيوعيّة والفرنكوفونيّة،
وتعتبر خالدة مسعودي مستشارة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والعضوة في التجمع
من أجل الثقافة والبربرية والمعادية صراحة وجهراً لعروبة الجزائر وإسلاميتها
الرئيسة الفعليّة لهذه اللجنة، وقد انتهت اللجنة من إعداد مشروعها قبل فترة، وتمّ
تقديم المشروع لرئاسة الجمهوريّة، وقد جاء في المشروع وبصريح العبارة أنّ اللغة
العربية عامل مهم من عوامل نكسة المدرسة الجزائريّة، كما أوصت اللجنة بتدريس
اللغة الفرنسية والعودة إلى الوضع السابق الذي كانت عليه المدرسة الجزائرية قبل
لمسات التعريب المحدودة التي أدخلها بعض المؤمنين بالثقافة العربية في مراحل
زمنيّة محدودة.
ولإسقاط هذه المؤامرة التي تستهدف التعريب في الجزائر قام بعض المدافعين
عن اللغة العربية في الجزائر ومنهم وزير التربيّة السابق علي بن محمّد الذي كان
يعمل على تعريب المدرسة الجزائريّة قبل أن يعمد الفرنكوفونيون في وزارة التربيّة
إلى الإطاحة به عبر تسريب أسئلة البكالوريا (الثانوية) مما اضطرّه إلى تقديم
استقالته للرئيس المغتال محمّد بوضياف. ومن خلال اللجان التنسيقيّة التي شكلها
مع بعض المدرسين والمدافعين عن مدرسة جزائريّة عربية وإسلاميّة يعمل علي بن
محمّد على الإطاحة بمشروع المنظومة التربويّة الجديد الذي يحتمل أن يبدأ تطبيقه
مع بداية السنة الدراسية المقبلة، وتأخذ هذه اللجان على رئاسة الجمهوريّة عدم
لجوئها إلى ممثلي الشعب لاستشارتهم في مثل هذا الموضوع الحسّاس، كما أنّ
اللجان المذكورة احتجّت على كون معظم أعضاء لجنة إصلاح المنظومة التربويّة
من المنتمين إلى التيار الفرنكوفوني والبربري والشيوعي، ويركّز هؤلاء على
تغريب المدرسة الجزائريّة وجعل اللغة الفرنسية هي لغة التعليم بدل اللغة العربية،
وحتى اللغة الإنجليزيّة التي هي لغة عالميّة لم يولها أعضاء اللجنة اهتماماً كبيراً،
وركزوا على اللغة الفرنسية.
والعجيب أنّ الجزائر وبعد أربعين سنة من استقلالها لم تحسم موضوع
التعريب مما جعل موضوع الهويّة يرخي بظلاله باستمرار منذ الاستقلال وإلى اليوم.
وما زالت الأقليّة الفرنكوفونيّة تفرض منطلقاتها على شعب حسم منذ 14 قرناً
موضوع انتمائه إلى العروبة والإسلام. ويعتبر المدافعون عن التعريب في الجزائر
أنّ المشروع التربوي الذي تقدمت به لجنة بن زاغو أخيراً إلى رئاسة الجمهورية
وفي حال تطبيقه سيكون بمثابة الطلقة الأخيرة على اللغة العربية في ينبوعها
وجذورها وخصوصاً أنّ الأمل كان قائماً على أن تنتج المدرسة الحاليّة جيلاً معرباً
يعيد التوازن إلى الجزائر التي ظلّت وما زالت تتأرجح بين الفرنسة والأمزغة. وقد
تعجّب المراقبون كيف فتحت لجنة بن زاغو النار على اللغة العربية وكأنّها سبب
نكسة الجزائر، علماً أنّ الفرنكوفونيين الجزائريين والذين أسعفهم الحظ في أن
يكونوا في دوائر القرار في الجزائر؛ ورغم أنّ كل المقدّرات كانت في أيديهم ومع
ذلك ظلت الجزائر تشهد التراجع تلو التراجع؛ وكان يجب أن يدركوا أنّ البناء
السليم هو ذلك البناء الذي يكون من سِنخ [1] المجتمع ومن تطلّعات الناس، وأي
استراتيجيّة لا تنسجم مع النسيج الاجتماعي والثقافي والحضاري للأمة فمآلها
الإخفاق، وربما هذا ما يفسر استمرار التشققات المذهلة في الجدار الجزائري!
* فرنسا تطالب برأس اللغة العربيّة في الجزائر:
على الرغم من الانهيارات الكبرى التي ألَمَّت بالجزائر في العشريّة الماضية
على صعيد الوضع الاقتصادي والسياسي والأمني إلا أنّ الثوابت الوطنيّة ورغم
تشكيك التحالف الفرنكوفوني البربري فيها ظلّت بمنأى عن التجاذبات السياسيّة،
وجمّد الخوض فيها حفاظاً على التحالفات السياسيّة القائمة في الجزائر بين السلطة
القائمة ومختلف التيارات السياسيّة في الجزائر. وتعتبر اللغة العربية من أبرز
الثوابت الوطنيّة التي ظلت تتلقّى الطعون تلو الطعون من فرنسا بالدرجة الأولى
وامتداداتها السيّاسية في الجزائر.
وتعود محنة التعريب في الجزائر إلى بداية الاستقلال في 5/7/1962م؛
وذلك عندما تقدّم مجموعة من النوّاب الجزائريين بمشروع إلى حكومة أحمد بن بلة
الفتيّة طالبوا فيه الحكومة بالتخلّي عن اللغة الفرنسية كلغة مسيطرة على الإدارة
والتعليم وإحلال اللغة العربيّة محلّها، وكانت صدمة النوّاب كبيرة للغاية كما يقول
أحد هؤلاء وهو عمّار قليل عندما رفضت الحكومة الفتيّة مشروع التعريب. وظلّ
التعريب مجمّداً على امتداد عهد بن بلّة، وحاول بومدين تعريب الإدارة والتعليم إلا
أنّ اللغة الفرنسية قد أصبحت سيدة الموقف في عهده في الجامعة والإدارة، وحتى
هواري بومدين شخصيّاً اضطرّ أن يستحضر أبرع الأساتذة في اللغة الفرنسيّة لكي
يتعلمّ لغة موليير.
وفي عهد الشاذلي بن جديد حققت اللغة الفرنسية في الجزائر أبرز انتصاراتها؛
ورغم أنّ البرلمان الجزائري قبل حلّه في الجزائر أقرّ قانون تعريب الجزائر
وإحلال اللغة العربية لغة السيادة في موقعها الصحيح، لكن قبل بداية تطبيق القانون
تمّ حلّ البرلمان الجزائري، وتمّت إقالة الشاذلي بن جديد. وكان أول قرار اتخذه
رضا مالك عند تعيينه رئيساً للحكومة خلفاً لبلعيد عبد السلام هو إلغاء قرار التعريب
الذي أصدره البرلمان الجزائري بحجّة أنّ الظروف الدوليّة لا تسمح بذلك، وبمعنى
آخر أنّ باريس وضعت فيتو في وجه اللغة العربية في الجزائر. وفي الوقت الذي
كانت فيه الحرب مستعمرة ومشتعلة بين الجيش النظامي وكافة الجماعات الإسلامية
المسلحة وبمختلف مشاربها الفقهيّة والفكريّة، كان الفرنكوفونيون يحصنون مواقعهم
في كل دوائر ومؤسسات الدولة الجزائرية، وكانوا معتقدين للغاية أنهم من خلال
مواقعهم المؤثرة لهم أن يلغوا بجرّة قلم ما يصبو إليه الإسلاميون. وبوتفليقة الذي
بدأ عروبياً وانتهى فرنكوفونياً وأخذ يستخدم اللغة الفرنسية حتى في حديثه مع
الفلاحين وكبار السن في المناطق النائيّة بات يحسن استعمال الورقة الفرنكوفونيّة
أحسن استعمال، فالإليزيه قصر الرئاسة الفرنسية الذي فتح مع عبد العزيز بوتفليقة
أكثر من قناة وعبر وسطاء متعددين ومعظمهم أصدقاء شخصيون للرئيس الجزائري
الحالي أوصلوا إليه أنّ باريس ستقف معه في صراعه البارد مع الجنرالات مقابل
أن يقدم تسهيلات للغة الفرنسية؛ حيث أعادت كل المراكز الثقافية الفرنسية نشاطها
بشكل مدهش في الجزائر، وبالتوازي مع هذا النشاط فإنّ اللجنة الوزاريّة التي
كلّفت بوضع خطة تربوية جديدة أوصت بضرورة إعادة الاعتبار للغة الفرنسية
ومعاودة تدريس المواد العلمية والدقيقة باللغة الفرنسية، وبالإضافة إلى جعل اللغة
الفرنسية ضروريّة في المرحلة الابتدائيّة وإلى الجامعة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه
اللجنة يسيطر عليها الفرنكوفونيون والبربر الذين قدّموا في تقريرهم أنّ اللغة
العربيّة هي التي مهدّت للأصوليّة والفكر الظلامي؛ ويقصدون به الفكر الإسلامي.
ويعتبر هؤلاء المنظّرون أنّ القضاء على اللغة العربية من شأنه إلغاء أهم عامل من
عوامل التطرف، وفي نظر هؤلاء المنظّرين فإن اللغة العربية تفضي تلقائياً إلى
دراسة النص الديني. وتجدر الإشارة إلى أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان قد
ألغى اللجنة التحضيريّة السابقة والتي كان قوامها مجموعة من الخبراء الذين يؤمنون
بدور اللغة العربية في الارتقاء بالتعليم الجزائري، وشكل لجنة جديدة قوامها
فرانكوفونيون وبربر والنتيجة التي خرجت بها هذه اللجنة أنّ اللغة الفرنسية
ضرورة استراتيجيّة للجزائر، وبها لا باللغة العربية ستعرف الجزائر طريقها إلى
التطور والازدهار، علماً أنّ اللغة الفرنسية ظلّت مسيطرة على مفاصل الدولة
الجزائريّة منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا، ولم تخرج الجزائر من كبوتها بل زادتها
انهياراً وتراجعاً في كافة الصعد. إن الصراع الدموي في الجزائر بين الجيش
النظامي وبقيّة الجماعات الإسلامية المسلحة، جعل التيار الفرانكو بربريّ يستحوذ
على جغرافيا القرار في الجزائر، ويصوغ المعالم التي يجب أن تكون عليها
الجزائر راهناً ومستقبلاًً، ولأجل هذا يبدو هذا التيّار من أشد المتحمسين لاستمرار
الحرب الأهليّة في الجزائر، وشعارهم: فليذهب دعاة الظلاميّة ولغتهم إلى
الجحيم، ولْتَحْيَ لغة فولتير في الجزائر!
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.
(1) سِنخ: أصل.(177/54)
نص شعري
شهادة صخر
أحمد الخويتم
في ظلام الليل في درب مخيفْ
(أنْسُ من يسري به وقعٌ لخطوٍ أو حفيفْ)
هزّني صوت عنيفْ صاح بي: «يا صاحبي.. عفواً.. تمهّلْ»
فإذا صخر عظيم جاثم في الأرض يبكي!
قلت: «يا ويلي! أيبكي الصخر أم عقلي تخيّلْ؟!»
قال لي الصخر: «أتعجب؟ .. حالكم والله يا إنسان أعجب»
قلت: «خيراً.. ما الذي تبغيه منّي؟»
قال: «إني قد سئمت العيش وحدي
كل صخر قد مضى يبني ويفدي
وأنا..
- منذ قضاني الله في الأرض - هنا..
ليس لي من صنعة غير التمنّي!»
قلت: «يا صخر! ألا يرضيك أن أبنيك قصرا؟»
قال: «كلا..
لست أرضى أن أكون اليوم فهرا
في قصورٍ آمناتِ..
وصحابي من صخور القدس تشكو..
بغي فجّارٍ طغاةِ
لن أزال الدهر أبكي
أو فقُدْ للقدس نصرا
أو فقل كلا.. (وإن تفعل أمت في الحال قهرا)
قلت:» يا صخر لك الرحمن.. حالي صِنْو حالكْ
ما عساني اليوم فاعلْ؟
إن قومي بعد ردح من زمان
لم يحولوا دون تقتيل الأراملْ
بَلْهَ تدمير المنازلْ
وبِدِين الشجب دانوا
فإذا قامت يهود بالمهالكْ
قام قومي نحو غربٍ أو أدانوا
ومضوا خلف الوعودِ
ويهود نقضت كل العهودِ
كيف أمضي نحو أرض جُعلت خلف السدودِ؟
أطرَقَ الصخر قليلاً ثم قال:
«يا بُني اسمع مقالي
ما لصخرٍ في حياةٍ من أربْ..
أن تخلى المسلمون اليوم عن قدسٍ
وولّوا شأنها أيدي العربْ
إِبغني بضعاً من الفتيان في طبع الرجالْ
واطرقوا رأسي وجرمي..
كسروني.. حطموني.. فتتوني
وإلى القدس احملوني
وارجموا كل العدى
وارحموا بالرجم طفلاً بتروا منه ذراعاً
أو يدا طهروا الأقصى من الأرجاسِ من كل اليهودْ»
بعد هذا..
صمت الصخر مليّا
ثم نادى «أي بُنيّا»
قلت: «سمعاً..»
قال: «إني قبل موتي لي رجاءْ..
أن تبقّى بعض شيء من جذاذي؛
سُدّ ثلماً في جدار المسجد الأقصى المجيدْ
واكتب التالي على ذاك الجدار:
[دون نَيل النصر بحر من دماءْ
كل حلّ غير هذا فهو تضييع وقتل للجهودْ
قاله الصخر الشهيدْ](177/57)
نص شعري
خل عني
محمد عبد الحكيم القاضي
جاءني يسأل: أليس لك شِعر تعبر من خلاله عن عقيدتك وآرائك في الحياة
كما يفعل الشعراء؟
فزجرته قائلاً:
خَلَّ عنِّي؛ ولا تقلْ: أين فَنِّي؟ ... إن فنِّي يصيحُ بي: لَسْتَ مِنِّي!
خَلِّ عنِّي؛ ففي ضميرِ الليالي ... قَدْ ثوى أَلْفُ ساجعٍ ومُغَنِّ
غرِقَتّ هذه الأناشيدُ في الليل ... وأَعْيَتْ ما بَيْنَ مَدٍّ وغَنِّ
أتُراها قد مزقت غيهب الزو ... رِ، وشَقَّتْ غُرُورَهُ بالمِجَنِّ؟
أن تُراها قد حَطَّمَتْ فَيْلَقَ الظلمِ ... وفلَّتْ شَوْكَ الظلامِ المُسِنِّ؟
أم هيَ الآنًَ صاحِ ما فتئت تغْري ... ظلامَ النُّهى بِصُبْحِ التَّمَنِّي؟
وتثيرُ الرُّقادَ في مَيِّتِ النَّفْسِ ... بَهَجْسٍ مُوَزَّعٍ مُسْتَكِنِّ؟
خلِّ عنِّي؛ ففي أناشيدنا العُو ... جِ رُؤَى فتنةٍ، وصورةُ مَيْنِ
أيُّ شِعْرٍ؟ وكلنا اليوم ملقى ... في كهوفٍ مُخَوِّفات، وسجن!
حاورتْنا الأيامُ، حتى سُحِقنا ... أم أَفَقْنا على شَكَاةٍ وحُزْنِ؟
وغزوْنا الأوهامَ حتى غَنِمْنا ... بَعْدَ طُولِ الجِلادِ (خُفَّيْ حُنَيْنِ) !
في تجاعيدنا تموتُ الأغاريدُ ... كأني واريتها. وَيْ كأنّي!
فتزودتُ للنهايةِ بالبَدْ ... ءِ، وآمنتُ في العُلا بالتَّدنِّي
رُبَّ عالٍ، وحتفُه في علاه ... وضعيفٍ مُوَفَّقٍ مُطْمَئِنِّ
فتعريتُ للجهادِ غريباً ... فَوْقَ جَمْرِ الرمضاءِ أو في الدُّجُنِّ
حرمتني مواجع الدهرِ زادي ... وأتانِي الأعداءُ يبغون حَيْني
وسُلبت العتادَ؛ أعزلَ فرداً ... ودعاني إلى الكريهةِ قِرْني
فتسلحتُ بالصلاةِ وبالصبرِ ... ونِعْمَ السلاحُ عند التَّعَنِّي
لا تلمني، وقد زجرتُك عني ... واعتذر لي بسابقاتي وسِنّي
فالذي أقلقَ الدجى في صباه ... أقلقتْه الدجى زمانَ التَّفَنِّي
قد منعتُ القريضَ لما تَوَجَّى ... وكمِ اسْتَقْتُهُ سحابةَ مُزْنِ
فأَصِخْ للنداءِ من خالقِ الحقِّ ... وأَذِّنْ بِهِ، ورَتِّلْ، وغَنِّ
وحد الله والرسالة والدين ... وَثلِّثْ ما شئتَ بَعْدُ وَثَنِّ(177/58)
قصة قصيرة
الموت صبراً
محمد علي البدوي [*]
في عصر الديمقراطيات الحديثة، عصر المثاليات والشفافية الإنسانية،
عصر (حقوق الإنسان) والندوات العالمية المفعمة بمثل هذه المشاعر الرهيفة
النبيلة.. يموت الإنسان في (.....) ......
كل شيء يحتضر.. الماء.. الهواء.. الشمس وقد تلفعت بحمرة الشفق،
وأخذت تتوارى في خجل، الليل وهو يبسط رداءه على شوارع المدينة،.. كانت
عقارب الساعة تزحف نحو السادسة مساء ببطء شديد عندما عاودت الطائرات
المحمومة قصفها للمدينة، بدأت صافرات الإنذار تزأر بشدة والموت يوزع هنا
وهناك نُذره.. لكن الناس صاروا لا يبالون بذلك، لقد ألفوا المنظر، ألِفوا ألسنة
النيران، وتساقط الشظايا، ... إنهم يقبلون على الحياة في نهم ظاهر ...
أخذت الأفكار تشتعل في رأسه، وراحت الصور تتلاحق أمام ناظريه قاتمة
كئيبة «.. الجثث المبعثرة، رائحة الدماء المنبعثة بين الأنقاض وقد اختلطت
بنداءات الاستغاثة، الوجوه الشاحبة بفعل الفقر والعوز، الأجساد اليابسة المتهالكة،
الأطفال وهم يتضاغون، الجوع الذي يفتك بالجميع بلا رحمة» ، ضغط على
عينيه عنوة ثم صرخ في حدّة:
- إلى متى هذا الحصار الكريه يجثم على صدورنا؟ .. يقطف أرواحنا؟
يقتل أحلامنا؟ .. لم نعد نحلم بشيء ... لم نعد نحلم بشيء ...
تحجرت الدموع في عينيه وهو يشاهد جنازة صغيرة تؤم المقبرة في صمت،
لم يجد بداً من المشاركة، جرّ رجليه خلفهم في تعب، وتساءل مع نفسه في مرارة:
- كم هي القبور التي حفرتها؟ ... كم هي الأجساد الغضة التي أودعتها؟
... الأطفال فقط يدفعون ثمن هذه الحرب الضروس.
لاحت له المقبرة من بعيد وقد نهضت خلفها الجدران الصامتة، صمت العالم
إزاء ما يحدث لهم، علق مغضباً:
- تباً جدار الصامتين.
كانت مراسم الدفن سريعة، قفل الناس بعدها إلى بيوتهم، بينما تكوّم هو عند
جدار المقبرة، وأخذ يحدق ملياً في تلك القبور التي تراصت جنباً إلى جنب ...
العشرات من أصدقائه وأقربائه قُبروا هنا ... رحلوا في صمت.. قتلهم القصف
والجوع.. والحصار الكريه..
كان الليل قد أتى على المدينة المنكوبة التي قد تدثرت بالحداد، بينما أخذت
الطائرات المحمومة تزرع الموت في كل مكان ... عندها آب إلى بيته موجعاً بعد
أن أعدَّ مقابر جديدة لاستقبال الموتى!
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(177/59)
حوار
الرئيس الشيشاني السابق سليم خان في حوار خاص مع البيان
الروس يمارسون أبشع أنواع الإبادة.. والغرب يتستر على جرائمهم
* ضيفنا في سطور:
- ولد في سنة (1952م) ، وحصل على الشهادة الجامعية في جروزني في
اللغة الروسية وآدابها، واللغة الشيشانية وآدابها، ثم أكمل دراسته في (معهد
جوركي) في موسكو.
- كان عضواً في اتحاد الأدباء السوفييت، وكتب (15) كتاباً في الشعر
والأدب والسياسة، تُرجِم بعضها إلى اللغتين الإنجليزية والتركية.
- كوَّن أيام الاتحاد السوفييتي (الحزب الديمقراطي واي ناخ) ، ولكن
الحكومة لم تعترف به، في أيام سقوط الاتحاد السوفييتي عام (1991م) كان
الحزب من أبرز روَّاد التحرير الشيشاني.
- انتخب في عام (1991م) عضواً في البرلمان الشيشاني، وفي (1993م)
عين نائباً للرئيس الشيشاني (جوهر دوداييف) ، وبعد مقتل الرئيس عام
(1996م) عين سليم خان يندر باييف رئيساً للشيشان.
- في عام (1997م) أمر بإجراء انتخابات رئاسية، فانتخب الرئيس
(أصلان مسخادوف) .
- استقال سليم خان من رئاسة الحكومة، واستمر نشاطه السياسي، وأصبح
رئيساً لمنظمة تعنى بتوحيد الشعوب الإسلامية في منطقة القوقاز كان مقرها في
جروزني، وبعد الهجوم الروسي على الشيشان خرج ممثلاً خاصاً للرئيس وللحكومة
الشيشانية الشرعية في البلدان الإسلامية.
* مدخل:
يستمر الصراع في الشيشان بين القوات الروسية والمجاهدين الشيشان وسط
تعتيم إعلامي عربي وغربي، خاصة بعد التوافق الذي بدا واضحاً بين الرئيسين
الروسي والأمريكي في زيارة بوش الأخيرة إلى موسكو، والتي دعا فيها بوش إلى
الاستفادة من الدروس التي قدمتها التجربة الأمريكية في أفغانستان، وكان بوتين
بدوره قد دعا أمريكا قبل حربها أن تستفيد من التجربة الروسية في أفغانستان.
ويتأكد هذا التوافق السياسي بعد اجتماع روما بين حلف الناتو الغربي وروسيا الذي
كان من أولياته اتفاق القوى العالمية على ضرورة (الحرب على الإرهاب!) .
وهكذا يمضي الشرق والغرب في تبادل الدروس في حرب المسلمين،
ويتواطؤون على مواجهة المجاهدين، بينما يعاني المجاهدون في الشيشان من قلة
الاهتمام العربي والإسلامي بقضيتهم، ولن نقول قلة الدعم والنصرة، بل مجرد
الاهتمام الإعلامي أصبح مفتقداً رغم أن الأداء العسكري المشرف للمجاهدين في
حربهم مع ثاني قوة عسكرية في العالم ينبغي أن يكون دافعاً للترويج الإعلامي لمن
يرفعون رؤوس المسلمين عالياً. أضف إلى ذلك أن الحرب العالمية على الحركات
الجهادية ينبغي أن تشكل دافعاً إضافياً للاحتفاء بمن بقي منهم رافعاً لواء الحق
ونصرة الإسلام.
ويسعدنا في مجلة البيان أن نلتقي الرئيس الشيشاني السابق (سليم خان يندر
باييف) لنحاوره عن بعض المستجدات الأخيرة على الساحة الشيشانية:
البيان: لعلنا نبدأ الحوار معكم بعرض موجز للوضع الحالي في الشيشان.
- الجهاد ماض من الشعب الشيشاني، ويشارك فيه معظم الناس. لكن
الحرب في غاية الصعوبة، وتزداد ضراوتها من الروس يوماً بعد يوم، وخاصة
بعد الحرب الدولية على أفغانستان، وعلى ما يسمونه بالحرب على الإرهاب، وقد
تواطأت قوى الكفر (روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي) لمواجهة المسلمين في
الشيشان.
استشهد كثير من المجاهدين، وجرح آخرون. دمَّر الروس أكثر من 70%
من البيوت والمزارع والمدارس والمصانع، وهدمت الطرق والجسور، وانتشر
الخراب في كل مكان، وامتلأت الأرض بالألغام.
الأرض الشيشانية كلها تحت الحصار الروسي، والروس يمارسون أبشع
أنواع الإبادة والوحشية، والعالم الغربي يدعمهم ويتستر على جرائمهم. لكن الجهاد
في سبيل الله ولله الحمد مستمر، والحرب القائمة حرب عصابات، وقد استطعنا -
ولله الحمد - أن نكبد الروس خسائر فادحة في كمائن عديدة، ومعنويات الجيش
الروسي محطمة، فهم يُجَرُّون إلى ساحة المعركة جراً، وأما عزائم المجاهدين فهي
مرتفعة، ومعنوياتهم عالية، وصفوفهم متماسكة، وهم مصممون على إخراج
الروس وإقامة دولة الإسلام، ونحن واثقون بأن النصر سيكون للمسلمين بعون الله
تعالى.
البيان: لكن هذه الحرب الطويلة والجراحات العديدة ألم تؤثر على صمود
الشعب الشيشاني ودعمه للمجاهدين؟
- لو لم يكن الشعب الشيشاني صامداً وقوياً لم يستطع المجاهدون المواصلة
ولو أسبوعاً واحداً. إن دعم الشعب للمجاهدين جعل الروس يعتدون بكل وحشية
على المدنيين العزّل، بل وعلى النساء والشيوخ والأطفال.
البيان: كم يقدر عدد المجاهدين الشيشان؟
- الشعب بمختلف طبقاته متعاون مع المجاهدين، أما الذين يحملون الأسلحة
ويرابطون في ساحة القتال فهم من أربعة آلاف إلى خمسة آلاف مقاتل. الشيشان
دولة صغيرة، ومتطلبات حرب العصابات مختلفة؛ فهي لا تحتاج إلى جيوش
وأعداد كبيرة، وإنما تحتاج إلى رجال أشداء مدربين تدريباً قوياً، يملكون القدرة
على المراوغة وسرعة الحركة، ويملكون أسلحة فعالة سهلة الحمل.
البيان: وما دور المجاهدين العرب؟
- المجاهدون العرب والشيشانيون تحت قيادة واحدة، وبينهم تنسيق مشترك،
وكذلك يوجد مجاهدون من القوقاز، وهذا التكاتف أكَّد البعد الإسلامي لقضيتنا،
وليس البعد القومي.
البيان: ولكن ما أثر إصابة شامل باسييف ومقتل خطاب رحمه الله؟
- شامل باسييف في صحة جيدة بعد أن قطعت رجله، وهو مستمر في
مزاولة دوره القيادي في الميدان. أما خطاب فقد كان رجلاً شجاعاً مقداماً خبيراً
بفنون القتال، ومتقناً لحرب العصابات، كان يحسن التعامل مع الناس، وكان
محبوباً من جميع الأطراف، وقدم لنا خدمات جليلة لا تنسى، وفي نهاية الحرب
الأولى لمَّا كنت رئيساً للبلاد أعطيته وساماً للبطل القومي بسبب بذله ومساعدته
لنا. ولهذا فإن قتله كان خسارة كبيرة للمجاهدين، وفقده ترك فراغاً كبيراً، وندعو
الله ألاَّ يؤثر هذا على عملياتنا الجهادية. لكنني أذكِّر هنا أن الجهاد الإسلامي لا
يرتبط بالأشخاص، ونحن متوكلون على الله، مستعينون به، ومن اختار طريق
الجهاد، وكان مخلصاً في اختياره، فإن الله سيساعده ويثبته. لقد فقدنا كثيراً من
المجاهدين خلال الحربين الأولى والثانية، ومستعدون لتقديم المزيد؛ فنحن مؤمنون
بقضيتنا.
البيان: التقارب الروسي الغربي الذي تمثل في الاتفاقية الجديدة لروسيا مع
الحلف الأطلنطي، واتفاقهم على مكافحة الإرهاب، هل له تأثير على الشيشان،
وما حجم السلبيات التي يمكن أن يحدثها ذلك التقارب؟
- التقارب الروسي الغربي ليس غريباً؛ فهم على الرغم من اختلاف
مصالحهم متواطئون جميعاً على تصفية المجاهدين باسم الحرب على الإرهاب. لقد
تأكد لنا أن حربهم على الإرهاب إنما هي غطاء للحرب على الإسلام.
إنني أؤكد أنهم هم الإرهابيون، إذا كانوا يدعون أنهم يحاربون الإرهاب؛
فإنهم يمارسون أشد أنواع الإرهاب وانتهاك الحقوق. لقد أصبح شعار: (الحرب
على الإرهاب) طريقاً لتصفية المستضعفين، وعنواناً لكبت الشعوب واحتوائها.
البيان: ما أثر الوجود الأمريكي في آسيا الوسطى، وفي جورجيا على
القضية الشيشانية؟
- التأثير الأمريكي يتصاعد، بل بدأ يتجاوز الدور الروسي. بدأت روسيا
المثقلة بهمومها الاقتصادية تبتعد تدريجياً عن آسيا الوسطى، وتفقد السيطرة أمام
القوة الأمريكية.
اخترقت أمريكا كثيراً من دول ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي، وبدأت
تشتري الأنظمة الضعيفة في آسيا الوسطى وجورجيا وأذربيجان، وتقيم قواعدها
العسكرية والاستخباراتية لتحكم سيطرتها على العالم، وأمريكا لها أطماعها
الاقتصادية والعسكرية في المنطقة، وعلى رأس اهتماماتها الحد من النفوذ الإسلامي
للشعوب التي بدأت تعود لدينها.
البيان: كيف تقوِّمون علاقاتكم بدول الجوار كداغستان وجورجيا؟
- الحكومة الداغستانية الحالية حكومة عميلة لروسيا؛ لكن علاقاتنا مع الإخوة
في داغستان علاقة حسنة، وعندما بدأ المجاهدون في داغستان عملياتهم ضد
القوات الروسية ساعدناهم، ثم توثقت الصلات بهم، ولا زال عدد من المجاهدين
الداغستان يقاتل في صفوفنا في الشيشان، ودولة الشيشان محاطة بروسيا من جميع
الجهات ما عدا قطعة صغيرة لا تتجاوز 50 كم على الحدود مع جورجيا، وهي
منطقة جبلية وعرة جداً، وفي داخل جورجيا توجد ست قرى شيشانية، وهناك
لاجئون من الشيشان.
البيان: كيف ينظر الشعب الشيشاني للحكومة الشيشانية الحالية في
جروزني؟
- الحكومة الحالية حكومة عميلة وضعيفة جداً لا تمثل الشعب الشيشاني، ولا
يحترمها أحد، وهي غطاء لإدارة جيوش المحتلين الروس.
أعضاء الحكومة أدوات طيّعة بأيدي القادة العسكريين من روسيا، يديرونهم
كما تدار الدمى الجامدة في مسرح العرائس؛ ولهذا لا أتوقع لها مستقبلاً مستقراً.
البيان: ولكن ما حقيقة المباحثات السلمية التي تجري مع روسيا؟
- لا توجد أي مفاوضات على الإطلاق بين المجاهدين والحكومة الروسية أو
الحكومة العميلة في جروزني. المجاهدون لن يقبلوا إلا بخروج الروس من أرض
الشيشان، الخروج الحقيقي الذي يمكنهم من إقامة شرع الله.
البيان: لكن هل ترغب روسيا أصلاً بالتفاوض معكم؟
- الحكومة الروسية تريد فرض إرادتها على الشيشان، ولن تقبل الحل
الإسلامي الذي يقدمه المجاهدون على الإطلاق. والمجاهدون الشيشانيون وشعب
الشيشان لا يريدون الاستسلام للإرادة الروسية، ولن يتنازلوا عن حقوقهم، ولن
يقبلوا الترويض أو الإقصاء.
البيان: إذاً ما الحل في نظركم؟
- هو طريق واحد لا شك فيه.. إنه الجهاد في سبيل الله، ولا بد أن نصبر:
[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] (العنكبوت: 69) .
البيان: لتسمحوا لنا أن ننتقل إلى التعرف على أوضاع اللاجئين الشيشانيين؟
- اللاجئون الشيشانيون ينتشرون في أنغوشيا وداغستان وجورجيا وأذربيجان
وقليل منهم في تركيا، وحالتهم الغذائية والصحية يرثى لها. ويوجد شيشانيون
كثيرون هائمون في الشيشان نفسها بعد أن دمرت منازلهم وهدمت مزارعهم، وقتل
رجالهم، وانتشرت الأرامل والأيتام والمعوقون.
الشيشانيون في الداخل أصعب حالاً من إخوانهم في الخارج، وهم يمرون
بأوضاع بائسة وحرجة جداً، ويفتقرون لأبسط الاحتياجات الإنسانية.
الأسر المستضعفة التي فقدت رجالها تتجمع وتتكاتف لتسكن في أماكن ضيقة.
ونحن نحاول مساعدتهم لكن الصعوبات تواجهنا كثيراً جداً.
أما اللاجئون في جورجيا وأذربيجان فأحوالهم الأخيرة تزداد سوءاً؛ لأن تلك
الحكومات ضيقت على المؤسسات الإسلامية الخيرية، وأخرجتها من المنطقة.
وفي المناطق الخاضعة للنفوذ الروسي تتلقى الحكومة الروسية المساعدات
الإنسانية من الدول والمنظمات الدولية بحجة تنظيمها، ولكن في الحقيقة تستخدمها
لتمويل الجيش الروسي وتغذيته..!!
البيان: كيف تقوِّمون تفاعل الشعوب الإسلامية مع القضية الشيشانية؟
- زرت بعض الدول الإسلامية، ورأيت تعاطفاً كبيراً؛ فالشعوب الإسلامية
محبة لنا، وتأتينا مساعدات يسيرة مشكورة. لكن الإعلام العربي متغافل عنا،
ولهذا ترى كثيراً من الناس لا يدركون حقيقة قضيتنا.
البيان: إذن ما هي رسالتكم التي تودون إيصالها عبر مجلة البيان؟
- نشكر جميع المسلمين الداعمين لإخوانهم في الشيشان، ونرجو منهم الدعاء.
ويجب أن يعلموا أنَّ الدين الإسلامي هو دين العزة، ولن تكون العزة إلا بالجهاد؛
فعليهم أن يعودوا إلى دينهم الحق ليس بالقول، بل بالقول والعمل. وعلى شعبنا
الشيشاني أن يؤمن حقاً بدينه، ولن يكون التحرير والنصر إلا بهذا، ولن يرفع
عنهم الذل إلا بهذا الطريق. كونوا معنا، ولا تنسوا الدعاء لإخوانكم ودعمهم مادياً
ومعنوياً.(177/60)
الإسلام لعصرنا
الاعتبار بمآلات معاصي الكفار
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
jaafaridris@hotmail.com
خلق الله الإنسان روحاً وجسداً، ذكراً وأنثى، فرداً وجماعة. وكما جعل
لجسده تركيباً معيناً ذا خصائص معينة لا يصلح لها إلا نوع خاص من الطعام
والشراب والهواء ودرجات الحرارة وغير ذلك، جعل لروحه أيضاً تركيباً خاصاً لا
يصلح له إلا نوع معين من المعتقدات والأحوال والأقوال والأعمال. ثم جعل بين
الجسد والروح علاقة تبادل وتكامل، وكذلك بين الذكر والأنثى والفرد والجماعة.
ثم جعل بين كل هذه الصور الإنسانية علاقات، ثم جعل بينها وبين عالم الملائكة
والجن والطبيعة علاقات معينة لا يعلمها على حقيقتها وبكل تفاصيلها إلا هو سبحانه:
[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (البقرة: 232) . فالله يخبرنا أن بعض أعمالنا
تؤثر في الطبيعة: [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس] (الروم:
41) ، والفساد المقصود هنا هو الفساد الطبيعي المادي لا الفساد الخلقي، بل هو
ناتج عن الفساد الخلقي المشار إليه بقوله تعالى: [بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس]
(الروم: 41) ، ولأعمالنا تأثير على الملائكة لأنها كما يخبرنا الرسول صلى الله
عليه وسلم: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» [1] ولأنها لا تدخل بيتاً
فيه صورة كما يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً. ولأعمالنا أيضاً تأثير
على الجن، ولأعمال الأفراد منا تأثير على المجتمع؛ ولذلك حرم الله أشياء مثل
السرقة والظلم والبغي. ولتصرفات الرجال تأثير على النساء كما لتصرفات النساء
تأثير على الرجال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» [2] .
ثم أرسل رسله بشرع يحقق للناس مصالحهم الروحية والجسدية، الدنيوية
والأخروية؛ لأنه شرع قائم على علم المشرِّع الخالق سبحانه علماً محيطاً بكل تلك
الخصائص والعلاقات، وما يصلح لها وما لا يصلح من تصرفات الناس الاختيارية:
[وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح] (البقرة: 220) . والذين يستمسكون بشرع
الله تعالى وإن لم يعلموا تفاصيل الأسس التي بناها الله تعالى عليها يجدون في
تجربتهم مصداق ما وعد الله به من الآثار الحميدة لهذا الشرع في حياتهم، حتى إن
قائلهم ليقول: لو علم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وكما يعرف
المؤمن بتجربته الآثار الطيبة للطاعة فإنه يعرف بتجربته أيضاً كثيراً من الآثار
السيئة للمعاصي التي لا يبرأ منها أحد، وإن اختلفوا فيما يقترفون منها صغراً وكبراً،
كيف و «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» [3] .
لكن الآثار العظيمة للمعاصي كبيرها وصغيرها إنما تظهر في المجتمعات
الكافرة الغافلة غفلة كاملة عن شرع الله عقيدة وعبادة وخلقاً وسلوكاً وحياة اجتماعية
وسياسية واقتصادية. وكلما كثرت المعاصي وكلما طال أمد مقارفتها والجهر بها
واعتيادها كان ظهور آثارها السيئة أكبر وأبين. وإنه لمما يزيد إيمان المؤمن
بصدق الرسالة النبوية وتحقيقها للمصالح البشرية أن يرى هذه الآثار السيئة
لمخالفتها.
إن الاعتبار بالواقع طبيعياً كان أم اجتماعياً منهج إسلامي أصيل ترشد إليه
كثير من نصوص الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ
انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] (الأنعام: 11) ، [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ] (النمل: 69) . وذلك أن المصالح التي
وضعت الشريعة لتحقيقها والمفاسد التي وضعت للتحذير منها ما هو أمر ظاهر
يمكن مشاهدته، ويسهل لذلك الاعتبار به. ولذلك ندب الله تعالى عباده المؤمنين
إلى الاعتبار بأحوال الكفار ومصائرهم.
ونحن نعيش في عصر عمت فيه بلوى البعد عن شرع الله في مجتمعات كاملة
كالمجتمعات الغربية. لذلك أرى أنه من واجبنا وخدمة لديننا وتحقيقاً لمصالحنا أن
نعنى بمآلات معاصيهم وندرسها ونتدبرها وننشرها بين الناس مسلمين وغير
مسلمين، بل أن نجعل هذا الاعتبار بتجارب الغربيين الكفار علماً قائماً بذاته نحشد
له جهودنا جمعاً لمواده وتصنيفاً، وتفسيراً علمياً لها، ودعوة إلى الاتعاظ والاعتبار
بها. ونحن لا نحتاج لتحقيق ذلك أن نقوم بإجراء بحوث ميدانية في المجتمعات
الغربية؛ فقد كفونا هم مؤونة ذلك. فمن حسنات منهجهم العلمي في مجال الدراسات
الاجتماعية أنهم يبحثون في الآثار المترتبة على أعمالهم، ويحاول علماؤهم أن
يكونوا في ذلك محايدين لا تصدهم آراؤهم الشخصية عن نشر نتائج ما وصلوا إليه
من دراسة وتجارب. فحياة الغربيين التي يمارَس فيها ما حرم الله تعالى ينبغي أن
تكون بالنسبة لنا كما ذكرت في مناسبة سابقة كالتجربة التي يسميها العلماء
الطبيعيون التجربة الحاكمة (experiment control) .
ما أكثر المادة العلمية المتعلقة بتأثير المعاصي على حياة الغربيين، معاصي
الزنا والشذوذ وشرب الخمر وتعاطي المخدرات واختلاط الرجال بالنساء والسفور،
بل وحتى تولي المرأة لعمل الرجال، وتولي الرجال لأعمال النساء.
ولكي يفي هذا العلم المقترح بشروط العلم فينبغي أن يكون اعتماده على
الحقائق التي اكتشفها الغربيون بالوسائل العلمية، وأن توثق هذه الحقائق بذكر
مراجعها، وأن لا يخلط بينها وبين الآراء التي يعبر عنها بعض الغربيين لمجرد
أنها موافقة لديننا، لأن الرأي ليس له سلطان الحقيقة العلمية. والحقائق العلمية التي
أعنيها تشمل كل أنواع العلوم الطبيعية والاجتماعية والنفسية. ولذلك فإنه لا بد من
أن تتضافر على جمعها جهود كل المختصين أو المهتمين بهذه العلوم. وهذا يقتضي
أن يكون هنالك مركز ترسل إليه هذه الحقائق لجمعها وتصنيفها ثم نشرها. ولما
كانت هذه الاكتشافات مستمرة فلا بد أن يكون جمعها وتصنيفها ونشرها أيضاً
مستمراً. ولهذا ربما كان الأنسب لنشرها هو المجلات، أو الكتيبات الشهرية.
قد يثير هذا الاقتراح سؤالين:
أولهما: إن ما تدعو إليه ليس بالأمر الجديد؛ فما أكثر ما كتب الإسلاميون
في مقالاتهم وكتبهم عن الآثار التي ترتبت على ما شاع في البلاد الغربية من معاص
وانحرافات. ونقول هذا صحيح. وقد كنت أنا نفسي لخصت لمجلة البيان كتاباً
لفوكوياما: (الانفراط أو التفكك الحاصل في المجتمعات الغربية) وعزوه أسباب
ذلك إلى تفكك الأسرة الذي كان بدوره ناتجاً عن تفشي العلاقات الجنسية خارج
نطاق الزوجية. وقد كتب صديقنا أستاذ علم النفس الدكتور مالك بدري كتاباً كاملاً
عن العلاقة بين مرض الإيدز والقيم المصاحبة للحداثة. لكن الذي ندعو إليه هو أن
يولى هذا الأمر عناية أكبر وأن يشارك في جمع معلوماته عدد أكبر، وأن يوضع له
منهج وضوابط تجعل منه علماً معترفاً به.
وثاني السؤالين هو: لماذا يحصر هذا العلم في ممارسات الدول الغربية؛ مع
أن الواقع هو أن كثيراً من تلك الممارسات شاعت في العالم كله بما فيه العالم
الإسلامي؟ ونقول أيضاً: إن هذا صحيح؛ لكن الغرب كان أسبق إليها، وقد داوم
عليها لمدة أطول، وصار يستعلن بها، ويدافع عنها، ويدعو إليها، بل يحاول عن
طريق الأمم المتحدة أن يفرضها على بقية شعوب العالم. ولكن مع هذا لا بأس من
تعزيز النتائج التي حدثت في الغرب بمثيلات لها في بقية بلدان العالم.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) أخرجه مسلم، رقم 876.
(2) أخرجه الترمذي، رقم 1091.
(3) أخرجه الترمذي، رقم 2423.(177/64)
آفاق
كيف: مصدر هموم
د. عبد الكريم بكار [*]
شيء مهم أن نعرف ماذا نقول، وأن نعرف ماذا نريد؛ لأن كثيراً من الناس
لا يعرفون ما الصواب الذي عليهم أن يتحدثوا عنه، ولا الأشياء التي يريدون لها
أن تتحقق. وأعتقد أن المفكر الذي تعود التفكير والتنظير والتعليل تنتهي مهمته
عندما يشعر أنه وضع النقاط على الحروف فيما يجب أن يجلوه من مسائل، وقل
نحو ذلك في الداعية الذي جعل شعاره في التبليغ: (قل كلمتك وامش) فإنه يقنع
بقول ما يود قوله. والأمة بحاجة إلى هذا وذاك؛ لكن الإصلاح يتطلب في الحقيقة
ما هو أكثر من ذلك: إنه يتطلب توفير الشروط والنظم والقوانين والأساليب
والظروف التي تساعد الناس بطريقة أو بأخرى على الاستقامة وعلى الاستجابة
لنداءات الدعاة وتوجيهات المربين ومناشدات المخلصين ...
توفير الأمور التي ذكرناها يعني توفير (بيئة صالحة) بأوسع ما تحمله هذه
الكلمة من دلالات. دعونا نقول: إنه على مدار التاريخ كان لدينا نقص مريع في
التنظير للبرامج والكيفيات والوضعيات والأطر التي تجعلنا ننتقل من مرحلة الكلام
إلى مرحلة العمل؛ في الوقت الذي نشكو فيه من فائض في القوة عما يجب فعله،
وعما يجب تركه والإقلاع عنه، وربما كان ذلك بسبب تأثير من بعض المفاهيم
الجاهلية والفلسفة اليونانية حيث الجنوح إلى الحلول النظرية وكراهة الانهماك في
التقنيات وفي الأعمال اليدوية والتنفيذية، وقد تركت هذه الوضعية أسوأ الآثار في
قدرتنا على التخطيط للبرامج العملية وفي رصيدنا من الأطر والشروط التي تحوّل
الكلام إلى خطوط حركة يومية! وكم رأينا من الدعاة الذين ينتزعون الإعجاب
عندما يتحدثون عن القيم والمبادئ والآمال والجراحات؛ لكن سرعان ما يفقدون كل
ذلك عندما يقال لهم: كيف يمكن تحويل هذه الأفكار الجميلة إلى واقع معيش؟!
السؤال عن (كيف) يشكّل مصدر همّ وقلق وإثارة للكبار الذين انتهوا من
تحديد ملامح الوضعية التي يجب أن تكون فيها الأمة، وباتوا يشعرون بضرورة
الانتقال إلى إيجاد الآليات والوسائل التي تساعد الناس على الارتقاء نحو الوضعية
المنشودة.
المصلحون المدركون لتكاليف ذلك ومشاقه لا يكفّون عن طرح الأسئلة
ومحاولة الإجابة عليها، ومن تلك الأسئلة:
- كيف نستطيع أن نحول دون استثمار التفوق المعنوي والمادي بطرق غير
مشروعة؟
- كيف يمكن أن نجمع بين مستوى جيد من الحرية الفردية والعدالة
الاجتماعية؟
- كيف نستطيع جعل الناس يبصرون الخط الضيّق الذي يفصل بين النجاح
واللصوصية، والخط الفاصل بين الزهد وبين العجز والعيش على هامش المجتمع،
والخط الفاصل بين القوة والثقة بالنفس وبين البغي والأنانية ... ؟
- كيف نستطيع أن نستفيد من تقدم الغرب دون أن نغرق في ثقافته؟
- كيف نستطيع تحقيق معنى الأمة الواحدة في ظل العولمة حيث السعي إلى
تمزيق كل الروابط التي تقوم على العقيدة؟
- كيف يمكن أن نوجه النقد إلى بعض إنجازاتنا التاريخية دون أن نشعر
بالاغتراب وتشتت الجذور؟
- كيف يمكن للخطاب الدعوي أن يجمع بين الجاذبية والالتزام؟
- كيف يمكن الحفاظ على التألّف الروحي في ظل حياة مترفة؟
- كيف يمكن أن نضبط مقادير الضغط الاجتماعي على نحو لا يؤدي إلى
شيوع النفاق والفساد الداخلي؟
إن التساؤل حول هذه الأمور هو بداية لا بد منها لتطوير حساسيتنا نحوها.
ومهما ظننا أن الأجوبة والسبل العملية التي نكتشفها جيدة وموائمة فإن التطبيق وحده
هو المحك الذي يكشف عن مدى صوابها ونجاعتها، وإن كل حل عملي وكل إطار
تطبيقي يمكن أن يفقد مع الأيام فاعليته واتزانه، ويصبح في حاجة إلى تعديل
واتزان جديد؛ وذلك لأن العناصر المشكّلة للبيئة في حالة من التغير الدائم، مما
يجعل الحلول والأطر المقترحة لا تحتفظ بملاءمتها.
لنحاول الخلاص من التلهي بشرح ما بات معروفاً للصغير والكبير،
والضرورة إلى تحويله إلى شيء ملموس يسعد الناس بالعيش في ظلاله.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
__________
(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.(177/66)
المسلمون والعالم
تفعيل صراع الحضارات..
هل يبدأ من كشمير؟
عبد العزيز كامل
لم يكن (ريتشارد أرمتياج) نائب وزير الخارجية الأمريكي مبالغاً عندما قال
عن كشمير: «إنها أخطر منطقة في العالم» !
ولأسباب عديدة سنوافق نائب وزير الخارجية الأمريكي في وصفه المثير
للحالة في كشمير، لا بحكم قربه واطلاعه على مجريات الأحداث من موقعه
بوزارة خارجية العالم فقط، بل لعوامل أخرى أظهرتها أزمات السنوات والشهور
الأخيرة:
- منها: أنه لا يوجد صمام أمان للقوة النووية التي تتبادل التهديد بها الدولتان
النوويتان الناميتان الهند وباكستان اللتان دخلتا ثلاثة حروب في ثلاثة عقود لأسباب
دينية، وهما تستنفران الجيوش بين الحين والآخر لحرب رابعة شاملة من أجل
كشمير.
- ومنها: أن الهند تسيطر عليها حكومة (أصولية) هندوسية متطرفة،
تقترب في الشبه من الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية في الوقت الراهن، وتحوُّل
الهند التدريجي عن طابعها العلماني التقليدي تحت قيادة حزب (بهارتيا جاناتا) ؛
تحاول الهند إظهاره بفرض الحكم الهندوسي الوثني على شعب كشمير المسلم.
- ومنها: أن خيار الكشميريين الوحيد أصبح هو الجهاد، بكل ما أصبح
يعكسه الجهاد اليوم من أصداء الاستنفار العالمي، والتحالف الأممي لمواجهته.
- ومنها: أن الولايات المتحدة الأمريكية في حربها العالمية المعلنة على
الإسلام باسم (الحرب على الإرهاب) جعلت من كشمير منطقة من المناطق
الرئيسة المستهدفة استهدافاً أمريكياً مباشراً؛ لأنها تؤوي جماعات مجاهدة ضمتها
أمريكا إلى قائمة الجماعات (الإرهابية) في قائمة المنظمات الستين التي أعلنتها
بعد أحداث سبتمبر 2001م.
- ومنها: أن أمريكا أضافت إلى خطر وجود المجاهدين في كشمير خطر
انتقال عناصر من تنظيم القاعدة وحركة طالبان بنشاطهم إلى هناك، بما أصبح
يعني أن مشكلة كشمير لم تعد تهم الهند فقط، بل أمريكا أيضاً، بحسب ادعاءات
رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الذي صرح في الهند أن القاعدة انتقلت إلى كشمير.
- ومنها أخيراً ... أن باكستان التي قادها قادتها العلمانيون إلى أضعف
حالاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية بعد تضحيتهم بأفغانستان؛ تنتظر دور أحد
الثيران السود في فصل جديد من الحرب الأمريكية النصرانية اليهودية ضد الإسلام؛
فباكستان التي فاجأت الغرب وإسرائيل بحيازتها للقنبلة النووية، تواجه اليوم
وضعاً صعباً يراد فيه أن يفرض عليها إما التخلي عن برنامجها النووي أو إخضاع
(القنبلة الإسلامية) لرقابة دولية يعني أمريكية أو تركها لمواجهة مصير يائس
بائس في حرب فاصلة مع جارتها العقور الهند التي ستظفر في كل الأحوال بدعم
وتأييد (العدالة) الغربية، في حين لن تصمت الصين على هيمنة أمريكا التدريجية
على شؤون آسيا.
هل يمكن أن تنطلق تلك المخاطر على العالم من كشمير؟ يحتاج الأمر أولاً
إلى استرجاع قصة تلك البقعة الملتهبة من العالم، كيف بدأت؟ كيف تطورت..
إلى أين وصلت؟
* بريطانيا.. أم المصائب!
كانت الهند إحدى المناطق التي بسطت عليها بريطانيا سيطرتها الاستعمارية
بعد البرتغاليين في القرن الثامن عشر الميلادي وقبل أن يرحل الاستعمار البريطاني
سنة 1947م، لجأ كعادته إلى زرع بؤر للتوتر والنزاع التي يمكن توظيفها فيما بعد
بما يخدم المصالح الغربية، فقسمت بريطانيا القارة الهندية على أسس دينية بعد أن
أخضعتها لأطر حكم غربية، فوُلدت دولتان أعلنتا استقلالهما عام 1948م وهما
دولة الهند الهندوسية التي قامت على معظم أرجاء القارة الهندية، ودولة باكستان
الإسلامية بقسميها الشرقي والغربي على الأطراف الشمالية للقارة الهندية، وكانت
بعض الإمارات الكبرى قد بقيت دون تحديد لمصيرها، وخُير حكامها بين الانضمام
للهند أو باكستان أو الاستقلال، ولكن الحكومة الهندية تجاهلت هذا التخيير فاحتلت
بالقوة العسكرية إمارة (جوناكره) غرب الهند، وإمارة (حيدر أباد) جنوب الهند،
وكان يحكمها أمراء مسلمون، وضمت أيضاً أكثرية إمارة كشمير في الشمال
الشرقي بأغلبيتها المسلمة التي تزيد على 82% من السكان [1] ، وكانت بريطانيا قد
فرضت على إقليم كشمير حاكماً هندوسياً، فقرر الانضمام للهند ضارباً عرض
الحائط برغبة الشعب الكشميري في الانضمام لباكستان، ولم ترض الحكومة الهندية
أيضاً بمبدأ الاستفتاء الذي قررته الأمم المتحدة لتخيير الشعب الكشميري بين
الانضمام إلى إحدى الدولتين أو الاستقلال، وعندها لم يجد الشعب الكشميري بُداً
من الانتفاض على حكم الهندوس، وهبت لنصرته القبائل الإسلامية في باكستان،
وتوجت الانتفاضة بهزيمة الحاكم الهندوسي وإقامة حكومة كشمير الحرة المؤقتة في
24 أكتوبر 1947م.
غير أن حكومة بريطانيا قررت ضم كشمير إلى الهند مرة أخرى، واعدةً
شعبها بإعطائه حقه في تقرير مصيره بعد أن تهدأ الأحوال، ولكن الأحوال لم تهدأ
منذ أكثر من خمسين عاماً، فبعد أن نصبت الهند أحد شيوخ المنافقين المدعو
(محمد عبد الله) رئيساً لوزراء كشمير، ادّعى ذلك الرجل أن الشعب الكشميري كله
راغب في النزول تحت حكم الهندوس [2] ، ولم يعد شعب كشمير واقعاً في محنة
مواجهة الهندوس المحتلين فقط، بل مضطراً كذلك لمواجهة فتنة أولياء الهندوس من
المنافقين، وبدأت بعض الحركات الشعبية تمارس حقها في الذود عن دينها وأرضها
المستباحة بدعم من الحكومات الباكستانية المتعاقبة، أما الهند أكبر ديمقراطيات
العالم كما يطلقون عليها؛ فقد أصرت على عدم تطبيق الحد الأدنى من مبادئ
الديمقراطية فيما يتعلق بشعب يريد الانعتاق من السبي «الحضاري» والخضوع
القهري لأمة تعبد البقر وتقدس الأفاعي والقرود.
كان الشعب الباكستاني دائماً في موقف التعاطف مع إخوانه المسلمين في
كشمير، راغباً في تخليصهم من أغلال الهندوس، وكانت المواقف الرسمية
للحكومات الباكستانية تعكس ذلك التعاطف من جهة، وتعكس من جهة أخرى
حرصاً سياسياً وعسكرياً باكستانياً على عدم تمكين الهند من تفتيت وحدة المسلمين
في القارة الهندية، والانفراد بالسيطرة على ذلك المثلث الاستراتيجي الواقع بين
باكستان والهند والصين، ولأجل هذه الأمور قامت ثلاث حروب بين الهند وباكستان:
* الحرب الأولى ... (تكريس التقسيم) :
وقد اندلعت هذه الحرب بين عامي 1947 - 1948م بسبب كشمير، فكلا
الدولتين الباكستانية والهندية رغبتا في أن يتم استقلال كل منهما مع ضم ولاية
كشمير، ولكن الحرب انتهت بتقسيم كشمير بين البلدين قسمة غير عادلة، فثبتت
الهند أقدامها على الجزء الأكبر والأهم من كشمير فيما يعرف بولايتي جامو وكشمير،
وأما باكستان فلم تتمكن في الحرب من بسط سلطتها إلا على منطقة (آزاد كشمير)
أو «كشمير الحرة» ، وبدأ الهندوس بممارسة حرب إبادة على المسلمين
الخاضعين لحكمها في القسم الثاني من كشمير، وأطلقت الحكومة يد المتطرفين
الهندوس للتنكيل بالمسلمين الرافضين لحكم الوثنيين، فقتل نحو مئتي ألف مسلم في
مذابح جماعية قامت في شهر أغسطس من عام 1948م، مما اضطر مئات آلاف
آخرين للنزوح إلى القسم الباكستاني من كشمير، وتمت هذه النكبة في وقت كان
العالم العربي والإسلامي مكبوباً على مشكلة نكبة بريطانية أخرى في فلسطين،
حيث مكن الإنجليز لليهود في فلسطين بمثل ما مكنوا للهندوس في كشمير، وباسم
الشرعية الدولية الظالمة، استطاعت الهند أن تضفي نوعاً من الشرعية القانونية
على ثلثي كشمير تحت اسم الحكم المؤقت لولاية (جامو وكشمير) وعاصمتها
(سرينغار) بينما بقيت «كشمير الحرة» بعاصمتها (مظفر أباد) تحت حكم
باكستان، وتلكأ العالم في النظر إلى محنة المسلمين الواقعين تحت حكم الهندوس
لعقد زمني آخر مما أعاد اشتعال الأزمة مرة أخرى.
* الحرب الثانية ... (الحرمان من النصر) :
كانت الاضطرابات الطائفية قد ازدادت بسبب الهوس الهندوسي الشعبي
والرسمي؛ فعلى المستوى الشعبي استمرت المذابح وأعمال التهجير، وعلى
المستوى الرسمي أعلنت الهند إغلاق باب التسوية السلمية للمشكلة، وألغت الوضع
المؤقت للحالة الكشميرية التي كان ينتظر الاستفتاء، وتهيأت الأجواء لحرب جديدة،
بدأتها الهند في أول يناير عام 1965م بهجوم على المواقع الباكستانية في أقصى
الشمال الغربي من كشمير، وتكرر الهجوم الهندي وتكرر صده من الباكستانيين، ثم
بادرت باكستان بهجوم كبير استطاعت خلاله الاستيلاء على مواقع هندية بدعم
أمريكي في مقابل الدعم الروسي للهند، وكان هذا أول ظهور لدور أمريكي راغب
في كسب موقع نفوذ في القارة الهندية، ولكن أمريكا والغرب كما يحدث اليوم لم
يكونوا راغبين في أن تتحول الباكستان إلى قوة بديلة بل كانوا يريدونها قوة عميلة،
فأوعزوا إلى مجلس الأمن بإصدار قرار بإيقاف الحرب وسحب باكستان لقواتها
فوراً، فاستغلت الهند القرار، وسارعت إلى شن هجوم مضاد، تمكنت خلاله من
قلب الموقف لصالحها. ولكن طرفاً آخر - وهو الصين - لم يرُق لها أن تستأسد
الهند في المنطقة وتستأثر بالمواقع الهامة فيها، فأصدرت إنذاراً للهند بإيقاف الحرب
وإلا تدخلت هي تدخلاً مباشراً فيها؛ حيث إنها لن تسمح للهند ببلع كشمير كلها
وهي تشرف على الحدود الصينية، وردت أمريكا بأن الصين لا يمكن أن تهاجم
الهند دون أن تتعرض للردع الأمريكي.
لقد أظهرت تلك الحرب التي فرضت الهند فيها شروطها ومواقفها، أن كشمير
ليست مجرد أرض نزاع على الحدود، بل إنها ساحة من ساحات الصراع المبكر
على الوجود بين الحضارات الخمس الأهم في عالم اليوم: الحضارة الإسلامية،
والحضارة الهندوسية، والحضارة الكونفوشيوسية الصينية، والحضارة الروسية،
إضافة إلى الحضارة الغربية الراغبة في إخضاع كل تلك الحضارات أو ضرب
بعضها ببعض بما لا يضر بمصالح الغرب. والواضح في تاريخ ذلك الصراع في
القارة الهندية أن الطرف الإسلامي هو المرشح دائماً للتضحية به أولاً؛ ويدل على
ذلك إجماع القوى الكبرى في العالم على تمرير مؤامرة تفكيك باكستان نفسها في
حرب ثالثة، حتى لا تتحول إلى قوة إقليمية مؤثرة في ذلك الجزء المهم من العالم.
* الحرب الثالثة ... (تشطير باكستان) :
بدأت تلك الحرب أيضاً بهجوم هندي على باكستان بهدف فصل قسمها الشرقي
عن قسمها الغربي، وخلال عمليات حربية خاطفة استمرت أسبوعين فقط، بدءاً
من 23/11/1971م استطاع الوثنيون الهندوس بدعم من الملحدين الروس وتواطؤ
من حزب المنافقين (فرع باكستان) من سلخ الجناح الشرقي لباكستان عن جناحها
الغربي تحت مسمى جديد وهو (بنجلاديش) ، حيث جندت الهند ميليشيات من
المنافقين في تحالف للشمال البنغالي، أعلن أنه يقاتل لأجل القومية المتميزة
للبنغاليين!! فكانوا شوكة في ظهر الجيش الباكستاني، وتمكن المنافقون الذين
أطلقوا على أنفسهم اسم (فدائيو بنجلاديش) من تمهيد الطريق أمام عباد البقر لغزو
باكستان الشرقية (بنجلاديش) ، فقطعوا خطوط السكة الحديد بين العاصمة دكا،
وبين الموانئ الرئيسية لقطع الإمداد، وباغتت القوات الهندية باكستان الشرقية بعد
ذلك بضربات جوية دمرت المطارات والطائرات وفرضت سيطرة جوية هندية على
الإقليم، مهدت بعد ذلك لإعلان الجنرال نيازي قائد القوات الباكستانية الشرقية قبول
الانسحاب والإقرار بالهزيمة، ولما طالب مجلس الأمن الهند بالانسحاب استخدم
الروس حق الفيتو! فخرس المجلس، وسُمح لحكومة المنافقين أن يؤتى بها من
المنفى لتتسلم السلطة بعد (الاستقلال) عن إخوانهم المسلمين، والتمتع بالهبات
والمساعدات الهندية والروسية والغربية التي رشحت (بنجلاديش) لأن تحتل
بجدارة لقب: أفقر دولة في العالم!!
فمنذ عهد (الشيخ) مجيب الرحمن وحتى عهد (الشيخة) حسينة، لم تر
بنجلاديش طعماً للكفاف والستر، فضلاً عن الرفاه والسعة، بفضل طاعة المنافقين
للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وصدق العليم العظيم في قوله: [مَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ]
(البقرة: 105) ، وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ]
(آل عمران: 118) ، وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ] (آل عمران: 149) .
* احتمالات الحرب الرابعة:
نتساءل أولاً: هل اتعظ الساسة الباكستانيون بمواقف الدول الكافرة منهم في
الحروب السابقة؟ وهل كان درس (بنجلاديش) كافياً لاستيعاب خطورة التغاضي
عن دور الدود الناخر في الداخل على سلامة الداخل والخارج؟ الحقائق في باكستان
تثبت أن في ذلك البلد رجالاً عظماء أشداء أصحاب بأس ومراس وخبرة في مواجهة
الصعاب، غير أن فيها كما في كل البلدان غيرها أشباه رجال يفسدون ما يجنيه
الأخيار من ثمار، وعلى مثل هؤلاء يراهن الأعداء المرة بعد المرة. والقصة
واحدة يحكيها القرآن للأجيال حتى لا تتكرر المخادعة: [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ
عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ
فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ
جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ
مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم
مِّنَ المُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً] (النساء: 138-141) .
نقول وفق تلك الآيات: إن خوفنا على باكستان وشعبها المسلم، وقضيته
الكبرى في كشمير لا يأتي من طرف الهندوس وأنصارهم بقدر ما يأتي من طرف
النصارى وأوليائهم؛ فمشكلة كشمير لو خلصت النوايا الغربية يمكن أن تحل، حتى
في ظل ظلم «الشرعية» الدولية حلاً معقولاً؛ فبمقدور دول الغرب أن ترغم الهند
على قبول مبدأ الاستفتاء الشعبي الذي ترفضه منذ أكثر من نصف قرن، ولكنهم لا
يفعلون ذلك، فلا يفرضون على الهند عقوبات ولا يعرضونها لحصار أو ضربات،
لإصرارها على الخروج على شرعيتهم الدولية. بل يتركون تلك الدولة العنيدة كما
يفعلون مع (إسرائيل) لكي تفرض ما تريد وترفض ما لا تريد. والإشكال الأكبر
أن العلمانيين في بلاد المسلمين لا يريدون أن يفهموا هذه الحقيقة حقيقة: عداوة
الكفار للمسلمين، ولا يحبون أن يقول لهم أحد ما يقوله الله لكل أحد من المسلمين:
[إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً] (النساء: 101) ، لهذا نخشى على باكستان
من غش النصارى وخبثهم، كما نخشى عليها من غشم العلمانيين وجهلهم؛ حيث
يتجه هؤلاء وأولئك بخطى منتظمة نحو توريط باكستان في حرب مدمرة قد تخسرها
الهند ولكن لن تكسبها باكستان في ظل سياستها العلمانية الراهنة، ولكن الفائز
الوحيد في تلك الحرب إذا جرت بحسب رغبة الغرب هم المبشرون بدمار العالم من
منظري (صراع الحضارات) ومنتظريه؛ حيث يذوب هؤلاء شوقاً إلى تفعيل هذا
الصراع على أرض الواقع، وبخاصة عندما يُحشر المسلمون في المواقع الأمامية
منه.
ورغم خفوت دقات طبول الحرب بين البلدين بعد الأزمة الأخيرة، إلا أن
إلقاء نظرة على تطورات مواقف الأطراف في الظروف الراهنة يعطي انطباعاً بأن
قضية كشمير يراد توظيفها في العديد من الأهداف، للعديد من الأطراف، وذلك
على الوجه الآتي:
* أولاً: باكستان:
يخطئ برويز مشرف مرة أخرى، عندما يظن أنه سيحيد الدور الأمريكي في
صراع باكستان مع الهند بتصديه للعمل الجهادي الكشميري وتقييد أنشطته؛ فمثلما
دفعت باكستان ثمناً باهظاً ولا تزال بسبب تضحيتها بأفغانستان؛ فإنها سوف تدفع
ثمناً أفدح لو ضحى ساستها العلمانيون بكشمير.
لقد كان عدد المعسكرات الكشميرية في باكستان قبل حرب أفغانستان خمسين
معسكراً، وكان في أفغانستان نفسها ثلاثون معسكراً، ولكن الأمر تغير بعد هذه
الحرب بسبب الدور الأمريكي الباكستاني المشترك في الحرب ضد «الإرهاب» ؛
فقد قلب برويز مشرف قواعد الموقف الباكستاني التاريخي من قضية كشمير،
بطريقة قد تكون خطراً على باكستان نفسها لا على كشمير فقط؛ فقد أفرط ذلك
المشبوه (برويز مشرف) منذ جاء في إرضاء الغرب على حساب المسلمين، حتى
كان الحق الذي شهد به الأعادي له، هو أنه يحقق بالفعل كل ما يتمناه أعداء هذه
الأمة. وقد عبر أحد الشهود وهو اليهودي اللدود هنري كيسنجر، وزير الخارجية
الأمريكي الأسبق عن ارتياح كبير لما يقوم به «مشرف» بما لم يُشهد به لأحد
آخر من الساسة والزعماء في بلاد المسلمين؛ فقد قال في مقال في صحيفة لوس
أنجلوس في منتصف شهر يونيو 2002م: «كان مشرف حليفاً قوياً في الحرب
ضد الأصولية في أفغانستان، بل وضد الأصولية الإسلامية كلها منذ 11 سبتمبر» !
ولهذا أبدى حرصه الشديد على المحافظة عليه، مغلفاً ذلك الحرص بالخوف على
مستقبل باكستان من انتقال (الإرهاب) إليها فقال: «على واشنطن أن تمنع
سقوط نظام مشرف؛ لأن بن لادن خطر في كابل، ولكنه كارثة في إسلام آباد» ! ... هل سيقوم برويز مشرف في كشمير بما قام في أفغانستان إذا قررت أمريكا بدء
جولة من حملتها الإجرامية إلى هناك؟ وهل سيملك من الشجاعة أن يقول لها (لا)
إذا وضعته أمام معادلة الجور: (من لم يكن معنا فهو ضدنا) ؟
بوسع مشرف لو أراد موقفاً مشرفاً أن يترك الكشميريين يقومون بدور
المقاومة المشروعة للمحتل الهندي دون أن يتدخل هو سلباً أو إيجاباً ممارساً سياسة
سيادية لا تقبل بالتبعية لأحد، ولكن تجربة أفغانستان دلت على أن الرجل لم يتنازل
عن سيادة بلده فقط بفتحها أمام الأجنبي بل تنازل بالنيابة عن سيادة أفغانستان عندما
شارك ضدها في عملية من أقذر عمليات الانقلاب في التاريخ المعاصر.
قد يقال إن مشرف معذور؛ لأنه يلمس بنفسه حرص الهند وأمريكا والغرب
وإسرائيل على إبطال مفعول ما يسمى بـ (القنبلة الإسلامية) في باكستان، ونقول:
إن السياسة المراهنة الراهنة لحكومة باكستان على كسب أمريكا تمثل أسرع
الخطوات للوصول إلى ذلك الهدف الخبيث المذكور؛ لأنها مساهمة تدريجية في
تقليم أظافر باكستان في مواجهة أعدائها القدامى والجدد، وحرمانها من كل أوراق
القوة في يدها، وهو الخط نفسه الذي سار فيه ياسر عرفات عندما تفرغ سبع
سنوات في ظل أوسلو لإضعاف المقاومة الإسلامية، فأوصل فلسطين إلى ما
أوصلها إليه الآن من انكشاف خطير أمام العدو اليهودي.
* ثانياً: الهند:
يسير حزب (بهارتيا) «الأصولي» الهندوسي، نحو تحويل الهند عن
طابعها العلماني المعهود؛ فسياسات هذا الحزب أشبه بسياسات حزب الليكود
الإسرائيلي في عنصريته وأسطوريته وسياساته الخرقاء، وأهدافه التسلطية
التوسعية في إنشاء دولة الهندوس الكبرى، لا تقل خطراً عن مشروع (إسرائيل
الكبرى) الذي يتبناه بقوة حزب الليكود الإسرائيلي؛ فللهندوس أطماع في الهيمنة
على ما يحيط بالقارة الهندية من سنغافورة إلى قناة السويس، ولكن بما أن الزمان لم
يعد صالحاً لتأويل هذه الأحلام في دنيا الواقع، فقد يكتفي الهندوس بحلم تحقيق
السيادة المطلقة على مجموع القارة الهندية بتخومها الشمالية الواسعة، ولكن عقبة
السلاح النووي الباكستاني تؤرق تلك الأحلام، ولهذا تسير الهند في تحالفات جادة
مع كل شياطين الأرض، من أجل إخضاع باكستان إلى الأبد، فإلى جانب
انتهازيتها في استثمار الحرب الأمريكية على الإسلام لصالحها، تنشط الهند في
تنسيق دؤوب للجهد بينها وبين دولة اليهود؛ فهناك اجتماعات دورية كل ستة أشهر
ذات أغراض أمنية عسكرية تقام بين الدولتين الأكثر تمرداً في العالم على القانون
الدولي: الهند و «إسرائيل» مع أن العلاقة بينهما لم يرفع عنها الحظر العلني إلا
بعد سماح العرب للهند بإقامة مثل تلك العلاقات الرسمية بعد مؤتمر مدريد، ومعلوم
أن اليهود، ليسوا أقل حرصاً من الهنود على تدمير القوة النووية الباكستانية، بل
لقد تسربت أنباء إبان تجربة التفجير النووي الباكستاني بأن «إسرائيل» كانت
على وشك ضرب المفاعل النووي الباكستاني بصواريخ عابرة للقارات، على غرار
ما فعلت في ضرب مفاعل (تموز) النووي العراقي، قبل قيام حرب الخليج الثانية
بعقد كامل.
نتصور أن الهند لن تفوِّت فرصة الحرب العالمية الأمريكية ضد الإسلام
لإشعال حرب ولو تقليدية محدودة مع باكستان، لأهداف عديدة، منها:
أولاً: ضرب الوجود الجهادي الإسلامي في كشمير كجزء من المشاركة
بالأصالة في تلك الحرب الأمريكية المعلنة، والساسة الهنود يكررون هنا مقولة:
نحن نتعرض لما تعرضت له أمريكا وتتعرض له (إسرائيل) ، وهم يؤكدون أن
كشمير فيها ما لا يقل عن ثلاثة آلاف مقاتل إسلامي، ولا يكفون أيضاً عن اتهام
باكستان بأنها الدولة الأم الداعمة للإرهاب؛ لأنها بزعمهم هي التي صنعت طالبان
التي دعمت القاعدة التي تهدد العالم «الحر» !! وهذه معادلة يسهل إقناع المجتمع
الدولي المقتنع أصلاً بها، وهو سوف «يتفهم» أي محاولة أو حتى أي حرب تقوم
بها الهند لهذا الغرض بشرط ألا تكون تلك الحرب معرقلة لخطط أمريكا في
أفغانستان في الوقت الراهن.
والهدف الثاني: من الحرب الرابعة المحدودة إذا وقعت؛ هو إيجاد أجواء
دولية ضاغطة على باكستان تجبرها إما على تدمير سلاحها النووي الذي هددت به
دولة الهند (المسالمة جداً) ، وإما تجيير هذا السلاح لغير صالح المسلمين، كأن
تخترع له (الشرعية الدولية) إحدى الصيغ الشيطانية لوضعه تحت سيطرة
«العقلاء» الغربيين! والهندوس ومعهم الأمريكان، يوهمون العالم بأن
السلاح النووي الباكستاني قد يقع تحت سيطرة «الخطر الأصولي» . ويريدون
من ذلك العالم أن يكون ممتناً لهم بإراحته من ذلك الخطر النووي الإسلامي.
والهدف الثالث: من حرص الهند على إشعال تلك الحرب الرابعة المحدودة
هو إجبار باكستان على اتخاذ موقف أكثر تنازلاً وتخاذلاً تجاه المسلمين في كشمير،
عن طريق إشعار المجتمع الدولي بأن هذه البقعة من العالم لا تستحق من باكستان
أن تتمسك بها إلى ذلك الحد، في حال كونها تمثل أكثر نقاط العالم التهاباً.
إن حشد ما يبلغ من 1.7 مليون جندي على الحدود بين الهند وباكستان في
الأزمة الأخيرة، لم يكن مجرد مناورة لتوازن الرعب بين البلدين، بل كان رسالة
واضحة للعالم تبين ما يمكن أن تؤول إليه الأمور لو اتخذ قرار الحرب الشاملة
بالفعل؛ فمثل هذا العدد لم يحشر في معركة منذ الحرب العالمية الثانية، مع أن تلك
المعركة لم تقم؛ فماذا لو قامت بالفعل وتطورت إلى أبعاد أخطر؟!
الهند مع كل هذا لا تريد حرباً شاملة مع باكستان في ظل التوازن النووي؛
لأنها تدرك أن خسارتها قد تخرج عن نطاق التحمل، ولكن غرور الكبر والسيطرة
قد يقنعها بأنها قادرة على إدارة عمليات (سريعة وقصيرة وفعالة) في كشمير كتلك
العمليات التي أرادتها أمريكا في أفغانستان، ولكن بما أن عمليات أمريكا في
أفغانستان لم تكن سريعة ولا قصيرة ولا فعالة، فإننا نتصور أن معركة الهندوس مع
الموحدين لن تكون أسعد حظاً؛ ففي كشمير 12 جماعة مسلحة تقاتل من أجل إنهاء
الاحتلال الوثني للبلاد، وقد سقط في قتالها الذي بدأ منذ عام 1989م نحو 33 ألف
شخص في حرب غير نظامية على أراض وعرة وجبال شاهقة، ومغامرات
التحالف المشترك بين عباد البقر ورعاة البقر لن تجد بإذن الله في كشمير إلا كما
وجد الروس في أفغانستان والشيشان، وكما وجد الأمريكان في أفغانستان، وكما
وجد اليهود في فلسطين.
* ثالثاً: أمريكا:
مراهنة الأمريكيين على باكستان في رعاية المصالح الأمريكية في القارة
الهندية وما حولها لن تدوم طويلاً رغم تمحكات برويز مشرف، فمحور الشر
الغربي قد بدأ في تشكيل ملامح محور الشر الشرقي، والهندوس هم أحد دعائم ذلك
المحور إلى جانب اليهود في فلسطين.
لقد استفادت أمريكا من باكستان كثيراً، قبل أحداث أفغانستان وأثناءها وبعدها،
ولكن فرص المزيد من الاستفادة ستتلاشى في ظل التحالف الهندي اليهودي
الأمريكي؛ لأن الهند تعرض نفسها أمام أمريكا بديلاً لباكستان، وقد بدأ عرض
الخدمات الهندوسية على الأمريكيين في وقت مبكر؛ فبعد أحداث سبتمبر بثلاثة أيام،
بعث رئيس الوزراء الهندي (فاجبايي) رسالة إلى الرئيس الأمريكي بوش،
يعلن فيها وقوفه إلى جانب أمريكا فيما هي مقدمة عليه من حرب شاملة على
(الإرهاب) ، وكانت هذه المبادرة أسبق من مبادرة «مشرف» ، وعند زيارته للهند
في شهر يونيو 2002م، أبدى وزير الدفاع الأمريكي تعاطفه مع الهند لوقوعها
«ضحية» للأعمال الإرهابية، واقترح نشر قوات برية أمريكية على حدود الهند
مع باكستان، ولكن أمريكا التي تريد كسب الهند لا تريد أيضاً أن تخسر باكستان
الآن قبل أن تنتهي عملياتها في أفغانستان وهي لا تزال تنتظر من نظام
«مشرف» المزيد والمزيد، ليس مجرد زيادة المطاردة المخابراتية والعسكرية
للمجاهدين داخل باكستان وخارجها، ولكن المطلوب فوق ذلك أن يبذل برويز جهوداً
أكبر في تحويل باكستان إلى دولة علمانية شبيهة بالنظام في تركيا تمهيداً لمجيء
أتاتورك أو كرزاي باكستاني آخر إذا لم يستوف برويز الشروط لذلك.
أمريكا التي أخفقت إخفاقاً ذريعاً في حملتها الصليبية على أفغانستان تريد أن
ترى أي انتصار آخر، ولو من أي طرف آخر على الإسلاميين المجاهدين في أي
مكان آخر، ولهذا فهي تبارك خطوات إسرائيل، وتثمن جهود الهند، وتدعم جهود
المنافقين في الخافقين ضد الصادقين؛ ولكن أمريكا تركز في الفترة الأخيرة على
كشمير، ويرى مفكروها وساستها أن الصبر لا ينبغي أن يطول على بقاء المقاومة
هناك ضد الاحتلال حتى لا تولد هناك طالبان أخرى؛ فقد قالت صحيفة الواشنطن
بوست في افتتاحيتها في (21/2/2002م) : «الخطوة القادمة في الحرب على
الإرهاب يجب أن تكون في كشمير لمواجهة جماعات الإرهاب هناك» ، وأردفت
تقول: «مارست الهند ضبط النفس بصورة تدعو إلى الإعجاب، وينبغي ألا
يحظر عليها أحد ممارسة حق الدفاع عن النفس كما تفعل أمريكا وإسرائيل» !
استقراء مثل هذه الدعوات والتصريحات يظهر أن هناك أمراً يبيت بليل ضد
باكستان وكشمير، مثل ذلك الذي يدبر للعرب وفلسطين، والظاهر أن التيار
اليميني الصهيوني النصراني المسيطر على أمريكا اليوم، يريد أن يجهز مسرح
العالم للفصل الأول من غوائية «صمويل هنتنجتون» صدام الحضارات، التي
ظن الناس أنها مجرد «نظرية» فاكتشفوا بعد أحداث سبتمبر أنها برنامج عملي
مرحلي رهيب، يريد أن يصدم سكان الأرض بعضهم ببعض، لتحقيق أكبر عملية
«تحديد للنسل» على مستوى العالم، لتجهيز ذلك العالم للربع الأول من «الألف
السعيد» !! ولكن عزاءنا ما يقول ربنا جل من قائل: [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ
كَيْداً * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] (الطارق: 15-17) .
__________
(1) يبلغ عدد سكان كشمير اليوم نحو ستة ملايين نسمة.
(2) يذكرنا هذا الموقف بالموقف السيئ لظفر الدين خان الذي لا يكف عن مهاجمة باكستان لصالح الهند، بدعوى أن كشمير أرض هندية، ويذكرنا ذلك بموقف أسوأ، وهو موقف أتاتورك أفغانستان الجديد: حامد كرزاي الذي ادعى في ختام مسرحية تنصيبه رئيساً لأفغانستان أن الشعب الأفغاني كله راغب في بقاء القوات الأمريكية في أفغانستان، حتى بعد القضاء على (الإرهاب) ! .(177/68)
المسلمون والعالم
مجلس الأعيان الأفغاني (لويه جركه)
طريق نحو السراب
جان محمد مدني [*]
كم يأسف الإنسان حينما يرى امتهان الشعوب في عقر دارهم، ومصادرة
آرائهم في زمن يدَّعى فيه مراعاة حقوق البشر، واحترام الرأي الآخر.
والأدهى والأمرُّ حينما تستقبل الكثرة الكاثرة من الناس عبر وسائل الإعلام
المختلفة ادعاءات كاذبة، وتصدقها كأنها حقيقة ثابتة.
أمريكا بعنصريتها المتأصلة وعداوتها القديمة ضد الإسلام والمسلمين، بعدما
ضاق ذرعها بتحمل الإمارة الإسلامية في أفغانستان، وبعدما أخفقت في محاولات
تضييق الخناق عليها، وبفرض الحصار تلو الحصار؛ أجلبت عليها بخيلها ورجلها،
وكل ما ملكت من عدة وعتاد، وبمباركة دولية، مستغلة أحداث 11 سبتمبر.
واعتدت اعتداء آثماً على مرأى ومسمع من العالم كل العالم على الشعب الأفغاني
المسلم المسالم الآمن، وألحقت به الدمار والخراب، وبمجرد الشبهة أو حتى بدونها
سحقت المدن والقرى، ودفنت الأحياء تحت الأنقاض، وحولت الأبرياء إلى أشلاء،
كل ذلك وهي تدعي القيم الأخلاقية واحترام حقوق الإنسان.
وبعد هذا الحيف والاعتداء بدأ المشهد الأمريكي الثاني، وشكلت حكومة عميلة
في (بون) بمبادرة أمريكية، ومباركة من الدول الأوروبية وما يسمى بالأمم
المتحدة في غياب من أهل الدار والقرار، كان منها عشرة وزراء يحملون الجنسية
الأمريكية على رأسهم رئيس الوزراء (كرزاي) ، وصُدرت إلى أفغانستان مغلفة
معقمة ولكنها غير طاهرة ولا مطهرة، وتربعت على عرشها لتكون موثقة للجرائم
الأمريكية.
وبعد مرور ستة أشهر، وإنفاق مئات الملايين من الدولارات، واستخدام
التقنية الحديثة، ومساندة دول الغرب والشرق، واستدعاء ما يسمى بقوات حفظ
السلام، وإحضار الملك السابق، بعد كل هذا أخفقت أمريكا وحلفاؤها إخفاقاً ذريعاً
في تحقيق ما أرادوا، ولم يبسطوا سيطرتهم على أفغانستان، بل تركَّز نفوذهم في
العاصمة كابل فقط، ولم يستطيعوا القضاء على المجاهدين كما زعموا.
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال: 36) .
* الوضع الإداري والأمني في البلاد:
تحكم البلاد حكومات متعددة ومتنازعة، حكومة في مزار الشريف بميليشياتها
المسلحة وإدارتها المستقلة، وحكومة في هرات، وحكومة في قندهار، وحكومة في
جلال آباد، وحكومة في كابل، وفي داخلها أجنحة متصارعة كلٌّ يحاول التخلص
من الآخر، وتحدث بينها مواجهات واشتباكات مسلحة من وقت لآخر.
وسادت الفوضى، وانعدم الأمن، وكثر السلب والنهب وقطع الطرق،
وانتشر أخذ الثارات وحب الانتقام، والنعراتُ القبلية، وعجزت القوات الأمريكية
وقوات الأمم المتحدة أن تعيد الأمن الذي كانت تنعم به البلاد أيام حكم طالبان،
وأدركت الولايات المتحدة الأمريكية أنها دخلت في نفق مظلم لا نهاية له.
لإسكات الأصوات الداخلية، وصبغ الحكومة العميلة بصبغة وطنية انعقد ما
سُمِّي بمجلس الأعيان (لويه جركه) لتوثيق القرارات المتخذة مسبقاً، وفتح
الأبواب لتنفيذ المطالب الدولية، وتحقيق مآربها.
* المآخذ على المجلس وما انبثق منه:
1 - المجلس بدءاً باللجنة التحضيرية، ونهاية باختيار الممثلين، لم يمثل
الشعب الأفغاني على وجه الحقيقة، من حيث العلماء، وشيوخ القبائل، والقيادات
الصالحة من الحضور والمرشحين.
2 - دعاة العلمنة والسفور والتغريب يمثلون أكثر من نصف المجلس رجالاً
ونساء، وقد دُعوا من الغرب لهذا الغرض، وكثير منهم يحملون الجنسيات الغربية
بدءاً من (كرزاي) ، وما استطاع المجلس طوال فترة مناقشاته الصاخبة إضافة
كلمة (الإسلامي) إلى اسم الجمهورية، وعلى هذا فقِسْ.
3 - طوال أيام انعقاد المجلس لم يناقش أيُّ موضوع مهم ومصيري للبلد غير
توثيق قرار تمديد فترة (كرزاي) المتخذ سلفاً. أما تشكيل الحكومة، وتوزيع
الحقائب الوزارية على الأعراق، وتشكيل الجيش الوطني، والوضع الاقتصادي،
ومصير أموال الدول المانحة، ومهمة ما يسمّى بقوات حفظ السلام، ومستقبل
القوات الأمريكية، ومصير الميليشيات الداخلية وتجريدها من السلاح وضمها تحت
وزارة الدفاع، فلم يفصل في شيء منها.
4 - عدم تشكيل المجلس النيابي المنبثق من مجلس الأعيان لمراقبة ومحاسبة
أداء الحكومة.
5 - التدخل الأمريكي المباشر في قرارات المجلس، وأخذ التوقيع من الملك
السابق ورباني مسبقاً، بعدم ترشيحهما لمنصب الرئاسة مقابل (كرزاي) الذي قدم
على أنه الخيار الوحيد، وكان للممثل الشخصي للرئيس الأمريكي (زلمي خليل زاد)
وهو أمريكي من أصل أفغاني التأثير الأبرز في صناعة رأي المجلس وتسيير
اتجاهه!!
6 - انتخب (قاسم يار) أميناً عاماً لمجلس الأعيان الأفغاني، وهو شيعي من
هرات، لكنه ذو توجه علماني تربى في أوروبا، وله حوالي خمس وعشرين سنة
لم يدخل إلى أفغانستان..!!
7 - ناقش أعضاء المجلس حلَّ الميليشيات العسكرية الداخلية، واتفقوا على
ذلك من حيث المبدأ، لكن سرعان ما حصل صراع طاحن بعد انفضاض المجلس
بين قوات (عبد الرشيد دوستم) وقوات (عطا محمد) أحد القواد العسكريين
لمجموعة (محمد فهيم) وزير الدفاع، مما يؤكد غلبة المصالح الشخصية، وأن
التنافس على تحقيق أعلى المصالح هو الذي يحكم كثيراً من مواقف رجال القبائل
والميليشيات الحزبية.
8 - حاول بعض المجاهدين القدامى المتعاونين مع الحلف الأفغاني الشمالي
أن يسعى لتحقيق بعض المصالح، ولكن تواطأ العلمانيون في المجلس على
محاصرتهم وتهميشهم!!
9 - المستفيد الوحيد من مجلس الأعيان الأفغاني هو أمريكا، ورجلها المنفذ
لسياستها (كرزاي) ، والشيوعيون السابقون الذين كان لهم حضور بارز في
المجلس.
10 - ما ظهر في المجلس أثناء المداولات من مهاترات كلامية، وتراشق
بالأكواب والكراسي وما تبعه من تصريحات إعلامية ناقدة، يدل على إفرازات هذا
المجلس.
* قراءة في مستقبل أفغانستان:
1 - الحكومة الجديدة التي شكلها الرئيس حامد كرزاي بعد تمديد فترة رئاسته
لا تختلف كثيراً عن الحكومة المؤقتة السابقة، فمعظم الوزراء ذوو نَفَسٍ علماني
وولاء غربي، وقد تم إقصاء أربعة وزراء محسوبين من أنصار الملك السابق
ظاهر شاه، كما تم إقصاء يونس قانوني من الداخلية، وعرض عليه لاسترضائه
عدد من المناصب مثل وزارة التربية والتعليم فاضطر لقبولها بشرط أن يعين
مستشاراً للأمن القومي وتم له ذلك، وهذا يدل على اتجاه كرزاي إلى إجراء تصفية
أخرى تضمن رضاء أمريكا التام.
2 - هناك تذمر واستياء كبيران للعرق البشتوني الذي يمثل 60% من الشعب
الأفغاني من إهمالهم والإجحاف بحقهم في تشكيلة الحكومة، وتسليم الوزارات
السيادية للعرق الطاجيكي، وسحبت وزارة الداخلية عن يونس قانوني، وعين
عليها تاج محمد وردك وهو بشتوني تربى وعاش مدة طويلة في الولايات المتحدة
الأمريكية، ومع هذا لم تسلم له الوزارة إلى كتابة هذه السطور، فلا البشتون رضوا
لأنهم لم يعطوا لهم شيئاً، ولا الطاجيك راضون أيضاً لأنهم يريدون كل شيء، وما
(كرزاي) إلا بُوق من أبواق التحالف الشمالي، والمتوقع أن تسود الفوضى،
وعدم الرضا، ولن تستطيع أمريكا السيطرة على الموقف لضعف موقفها هي في
الداخل.
3 - انقلاب (كرزاي) على الملك السابق ظاهر شاه الموعود بانتخابه رئيساً
للدولة، وتهميش دوره، واستقالة أعوانه من الوزارات، سيحدث خروقات أخرى
في حكومة (كرزاي) .
4 - يشهد التحالف الشمالي انقساماً على نفسه بسبب الأهواء وتصارع
المصالح، حيث شكل كل من محمد فهيم (وزير الدفاع في حكومة كرزاي والرجل
الأقوى في الحلف والحكومة) حزباً مستقلاً، وشكل رباني حزباً آخر، وشكل أحمد
ولي مسعود (أخو أحمد شاه مسعود) حزباً ثالثاً. ولوّح يونس قانوني بتشكيل
حزب آخر، وكل ذلك ثغرة أخرى في جدار التحالف وستؤدي إلى التناحر وعدم
الاستقرار.
5 - غالبية الشعب الأفغاني يعلم علم اليقين أن الولايات المتحدة الأمريكية
وحلفاءها لم تأت لترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، ولم تأت لتحقيق العدالة والحرية
ونحوهما من الشعارات التي يرددها ساستهم، ولم تأت من أجل تطوير أفغانستان
تقنياً وحضارياً، لكن أدرك العامة فضلاً عن الخاصة مغزى الحملة الأمريكية؛
ولهذا كثر استشهاد العامة في مجالسهم ومنتدياتهم ومساجدهم بقول الله عز وجل:
[وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً] (النساء: 89) ، وقوله جل وعلا:
[وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم]
(البقرة: 109) ، وقوله عز من قائل: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم] (البقرة: 120) .
وما فتح أبواب الخمور والسفور والفجور، وفتح المجال لكل منصِّر وفاجر
وكافر، وفتح المكاتب للإرساليات الكنسية والمنظمات الهندوسية باسم الإغاثة
والمساعدة الإنسانية، ومحاربة الدعاة والدعوة والتوعية بدعوى الحرب ضد
الإرهاب إلا دليل واضح على حربهم ضد الإسلام.
والمتوقع أن الشعب الأفغاني المسلم سيدافع عن دينه وعقيدته وعرضه
وأرضه، والهدوء العارض ليس هو النهاية، ولا قناعة به، بل هو تهيئة للمعركة.
وما العمليات الجهادية النوعية المؤثرة التي حدثت مؤخراً وسط صمت إعلامي
رهيب إلا بداية المرحلة.
6 - ستشهد أفغانستان وضعاً اقتصادياً أسوأ من ذي قبل بسبب الظروف
الأمنية، ولن يكون مصير أموال الدول المانحة إلا الإنفاق لإرضاء العصابات
وإسكاتها، وإشباع شهواتها ورغباتها.
7 - تنشط زراعة وتجارة المخدرات في غياب الحكومة المهينمة، ويتزايد
تسابق بعض أركان الحكومة وزعماء المليشيات على إنتاجها، وسيصلى بنارها
القريب والبعيد، وتبوء بإثمها أمريكا ومن يتحالف معها.
8 - الدول كل الدول في سباق محموم حتى التي لا ثاغية لها فيها ولا راغية
[**] للتدخل في أفغانستان لتحقيق مآربها، والحصول على حظ أوفر من التركة؛
فروسيا والهند وإيران والصين وغيرها، كلها تريد النصيب الأكثر من الكعكة،
والخاسر الوحيد هو الباكستان حيث بذلت كل شيء ولم تحصل على أي شيء.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة (طالب) الصادرة في كابل سابقاً.
(**) لا ثاغية لها ولا راغية: أي لا شاة ولا ناقة.(177/75)
المسلمون والعالم
دروس مستفادة من جهاد خطاب
هيثم بن جواد الحداد [*]
إن من رحمة الله بهذه الأمة أن جعلها مستعلية بإيمانها حتى لو توالت عليها
الهزائم، وتكالب عليها الأعداء: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) .
ومن أهم عوامل استعلاء الأمة بإيمانها أن ترى بين أبنائها بين فينة وأخرى
من يعيدون سير الأوائل، ويرسمون معالم التاريخ، عظماء تسير العظمة حيث
ساروا، ويدور النصر حيث داروا.
وحتى يتحقق الوعد الرباني بحفظ هذه الأمة، واستعلائها بإيمانها، يُخرِج الله
لها بين حين وآخر من يجدد فيها حياتها، فيكون منها علماء أفذاذ، وكذلك مجاهدون
أفذاذ.
ومن بين المجاهدين الأفذاذ في هذا العصر المجاهد القائد سامر بن صالح بن
عبد الله السويلم، المعروف (بخطاب) الذي اتخذه الله شهيداً نحسبه كذلك ولا
نزكي على الله أحداً في أوائل شهر صفر من عام 1423هـ من الهجرة وله من
العمر 33 عاماً، نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يسكنه فردوسه الأعلى،
وأن يلحقنا به في عليين.
هذه بعض الوقفات السريعة لاستلهام عظات وعبر من حياته، ثم من جهاده:
أولاً: لقد تعرضت الأمة لحرب ضروس على شعيرة من أخص سمات
عقيدتها، شعيرة الجهاد في سبيل الله، هذه الحرب التي جيشت لها كل القوى
المعادية للإسلام، حتى تبناها مسلمون من أهل ديننا، حاولوا بكل وسيلة طمس
معالم هذه الشعيرة في النفوس، ومحوها من حياة المسلمين، فمنعوا تدريس الأحكام
المتعلقة بها في المدارس والمعاهد، وشوهوا حقيقتها، وأسقطوا من حياة العظماء
الجوانب الجهادية من حياتهم، وجندوا بعض المنافقين ممن ينتسب للعلم لتغيير
معانيها وحقائقها.
ثم لم يكتفوا بذلك حتى وصفوا كل من يدعو لها بالإرهابي استجداء لرضى
أعداء الله، وتقرباً منهم؛ كل ذلك تعرضت له هذه الشعيرة على مدى سنوات
متوالية دون كلل ولا ملل، ثم بعد ذلك ترى هذه الأجيال التي نشأت وقد جُففت
منابع الخير عنها، واستبدلت بمنابع الفجور والرذيلة، والسخف، بإعلام ساقط
ماجن يغرس الخنا، ويبعث على حب الدنيا، ويمسخ معاني العزة والإباء في
النفوس، ترى هذه الأجيال تُخرِج من بين أبنائها شخصاً يتمرد على الذل، ويتخلى
عن حياة الدعة والراحة، وتسمو همته إلى العلياء، ويرفع راية الجهاد، ويعيد
غرس معاني العزة في النفوس.
إن أمة تعاني من هذه الجراح، ثم تخرج مثل هذا الشاب ولمَّا يتجاوز
العشرين من عمره، لهي أمة عظيمة، أمة لا تعرف الهزيمة، ولا تقبل الذل، ولن
تذعن للاستسلام.
في زمن مضى كنا نقرأ سيرة أسامة بن زيد لمَّا سيَّره الرسول صلى الله عليه
وسلم لقتال الروم وهو شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، فنقول: ذلك أحد
الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ورأوا الوحي يتنزل،
وعاشوا في أكناف عظماء الرجال أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
ثم إذا قرأنا سيرة محمد بن القاسم الثقفي الذي قاد جيشاً جراراً فتح به بلاداً
تجاوز مساحتها مساحة أوروبا الغربية، وهو ابن الثامنة عشرة، إذا قرأنا ذلك كله،
فإنما نطالع تلك الأمجاد، وكأنها حلم لا يتوقع أن يتحقق في أرض واقعنا.
فإذا أنجبت أرحام نسائنا في زمن الانكسار هذا بطلاً مثل ذلك المغوار خطاب،
فإنها تثبت للمسلمين أن هذه الأمجاد سرعان ما تعود، وأن سِيَرَ عظمائنا لم
يطوِها التاريخ، وأن جذوة الجهاد ما زالت متوقدة حية في ضمير هذه الأمة، وبين
أبنائها.
التحق خطاب - رحمه الله - بالجهاد الأفغاني عام 1408هـ وله من العمر
17 عاماً فقط؛ حيث ترك دراسته في شركة أرامكو البترولية التي هي من أكبر
الشركات، والتي يحلم كثير من الشباب بالالتحاق بها، رغبة في الميزات المادية
التي تمنحها لطلابها والدارسين بها، وظل يشارك في الجهاد في أفغانستان حتى
نهاية تلك الحقبة عام 1412هـ، حين رجع خلال تلك الفترة للعلاج من إصابته
أثناء إحدى المعارك الأفغانية. لقد ظهرت طلائع حنكته وبراعته في مدينة لوجر
الأفغانية ولم يكن عمره قد جاوز الثالثة والعشرين، حيث ولي قيادة «سرية أُحُد»
التي أصبحت فيما بعد نموذجاً يحتذى به في سرايا المجاهدين، ثم انتقل بعد ذلك
إلى طاجكستان لمدة سنة واحدة؛ حتى أصيب في إحدى معاركها، وقطع أصبعان
من يده اليمنى بسبب قنبلة يدوية، واضطر للذهاب إلى الشيشان لعلاج يده فاستقر
به المقام والجهاد هناك.
كان - رحمه الله - يقول: «ماذا نفرق عن صحابة الرسول صلى الله عليه
وسلم؟ هم بشر ونحن بشر: نأكل كما يأكلون، ونشرب كما يشربون؛ ولكنهم
غيَّروا مجرى التاريخ؛ فلا بد أن نغير التاريخ كما غيروا حتى نشبههم وإن كنا لسنا
بمثلهم» .
إن هذا الشعور يعيد لأبناء هذه الأمة ثقتهم بأنفسهم، وبإيمانهم، وبحقيقتهم،
وهذا من أعظم الدروس المستفادة.
ثانياً: إن بروز هذا القائد بهذه الدرجة يعني أن ثمة رجالاً آخرين ساهموا في
نبوغه، وساعدوا على ارتقائه؛ بحيث كانوا يمدونه بكل أنواع الدعم المادي
والمعنوي. وإن معرفة ذلك يبعث العزة في النفس، والثقة بها، والتفاؤل الباعث
على العمل الجاد، وليعلم العالم كله بأنهم إن قتلوا خطاباً، فلنا راياتُ نصرٍ خالدية!
لن تُغمد أسيافها.. وليعلموا أن أرحام نساء هذه الأمة لن تعقم عن إنجاب العظماء،
ولن يتم لهم ما أرادوا وما يريدون [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) .
ثالثاً: حينما يرى أبناء هذه الأمة، الشباب منهم خاصة، هذه النماذج
المشرقة في هذه الأيام، حينما يرون شاباً لم يجاوز الثالثة والثلاثين من عمره
رهبته روسيا، بل ربما رهبه العالم كله، عَمَرَ أوقاته كلها بالطاعة، فإما هي
مجالدة للكفار، أو دعوة وتعليم وتربية وتدريب، فإنها تشحذ هممهم وترفع من
طموحاتهم، وترتقي بتطلعاتهم.
قال ابن الجوزي: «من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون
دنيء» .
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
إن ظهور مثل هذه الأمثلة يساهم وبقوة في رفع همة أبناء الأمة، حتى إذا
حصل ذلك كانت الأمة قادرة على رفع راياتها فوق قمم المعالي، وركز ألويتها في
طرق المجد.
لم تشغله مجالدة الأعداء ولا التخطيط لحربهم عن الدعوة إلى الله جل وعلا
وإعداد المجاهدين بالإيمان قبل إعدادهم بالسلاح؛ فها هو يقوم بعمل محاضن دعوية
لتكوين مجموعات دعوية جهادية على النهج الصحيح؛ فأنشأ «معهد القوقاز لإعداد
الدعاة» حيث يلزم كل شخص بالانضمام إليه قبل قبوله في الجهاد، فيخضع لدورة
علمية مكثفة تقارب الشهرين، ثم ما لبث أن تكاثر الناس عليه يريدون العلم والجهاد
حتى وصل عددهم إلى 400 طالب جاؤوا من التتر وداغستان وطاجكستان
وأوزبكستان والأنجوش وغيرها، وهذا هو الذي أفزع روسيا، ثم تطور العمل
فأنشأ - رحمه الله - داراً لتحفيظ القرآن، ووضع برنامجاً لإعداد الدعاة، وبرنامجاً
آخر لإقامة محاضرات في القرى، ودورة للتعليم الأساسي، ودورة لرفع مستوى
الدعاة، وكما قال - رحمه الله -: «رأينا أثر هذا العمل على مجاهدين في
تضحياتهم وبذلهم» .
رابعاً: الترفع عن الاختلاف من أجل المصلحة العليا؛ فقد كان - رحمه الله -
يحذر أصحابه من الخوض فيما يثير الناس في بداية جهاده في كل منطقة، بل
ويمنع أصحابه من الذهاب إلى الأماكن التي تثير حفيظة الصوفية، وكان يكره
الالتحام مع المخالفين ممن ينتسبون إلى الإسلام حتى لا يشغل المسلمين عن عدوهم
المشترك، فكان يمنع التعرض للجماعات السنية بأي سوء حتى لا يحصل التشرذم
والتفرق، ولهذا كان إذا سمع أحداً يخوض في هذا يقول له: «عجباً لبعض الناس
سلم منه الملاحدة والنصارى ولم يسلم منه إخوته المسلمون» .
إن كثيراً من شباب المسلمين اليوم لا همَّ لهم إلا كثرة الحديث، وإشغال النفس
بخلافات سطحية تافهة، والدفاع عن حزب ضد آخر، والانتصار لشيخ، والحط
من قدر آخر، وما نتيجة ذلك إلا طاقات مهدرة، وأوقات ضائعة، عمل قليل،
وكلام كثير، وكأنهم لم يسمعوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» ، بل خلافات مستطيرة، وتراجع
في الأمة.
لقد واجه خطاب كثيراً من الحساد، حتى وصفه أحد القادة الصوفيين في
الشيشان بأنه «أمير حرب خبيث» ، بل إن بعض مشايخ الصوفية بعد إخفاقهم في
استثارته وصفوه بأنه وهابي أكفر من اليهود والنصارى، وعندما كان في
طاجكستان حاول أحد القادة الطاجيك التحرش به والإساءة إليه، وحين طلب منه
معاونوه أن يرد عليه طلب منهم أن لا يشغلهم هذا القائد الحاسد عن هدفهم الأهم
وهو قتال الشيوعيين.
هكذا كان نظره البعيد المؤسس على نظرية المصلحة والمفسدة، صحيح أن
خطاباً لم يكن من أهل العلم، لكن توفيق الله جل وعلا ثم فطرته السليمة وأسسه
العلمية، وبُعده عن هوى النفس نحسبه والله حسيبه هو الذي قاده إلى هذا الرأي
الموفق الذي كان له أكبر الأثر في جعل الجهاد الشيشاني مضرب مثل في قلة
النزاعات واتحاد الكلمة، وائتلاف القلوب، وهذا الذي ساهم في تحقيق هذه
الانتصارات على الرغم من قلة العدد والعتاد.
خامساً: سمو الهمة يفعل بصاحبه الأفاعيل: لم تكن نشأة بطلنا الشاب نشأة
فيها كثير من التدين، بل نشأ كما ينشأ كثير من أبناء جيله في هذا الزمن، ذكروا
في سيرته أنه في شبابه اليافع كان يحلم بالسيارات الفارهة، والقصر الكبير،
والوظيفة العالية، ولكن سرعان ما انقلب كل ذلك.
انقلب إلى حياة مشردة بين جبال أفغانستان اليابسة، وسهول الشيشان القارسة،
لا بيت ولا مأوى، لا سيارة فارهة، ولا وظيفة عالية.
لقد باع نفسه لله فيما نحسب فكأنه يرى الجنة والنار عياناً، فاشترى الجنة
بكل ما يملك، باع متاع الدنيا كلها.
إنه الإيمان إذا تحركت شعلته في القلب، أوجد ناراً متأججة تتطلع إلى
الفردوس الأعلى، فتسترخص كل شيء في سبيل ذلك: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً
عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ
الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] (التوبة: 111) .
كان أبيَّ النفس، كريم الخصال، نبيل الطبع، يأبى الضيم، يحنو على
الضعيف، ويساعد المحتاج.
اعتاد في طفولته وشبابه أن ينفق أمواله، حتى عرف بأنه صاحب الجيب
الخالي، وهكذا ظل حتى في أحلك الظروف وأصعبها في مسيرته الجهادية؛ هكذا
هي النفس الكريمة، لا تحتاج إلى كثير جهد لتصحو من غفلتها.
وهذا هو خطاب، سمت به همته، فأدخلته في مصاف قادة الإسلام، حتى
قيل عنه: خالد عصرنا.
ليس من المستحيل على شباب المسلمين أن يخرج منهم آلاف مثل خطاب إذا
أراد الله ذلك، ولكن علينا أن نربي أبناءنا على هذه المعالي، وأن لا نيأس، بل
نغرس جذوة الإيمان وحلاوة الشهادة في نفوس أبنائنا.
سادساً: التضحية هي طريق القبول: إن دعوة الإسلام لن تجد آذاناً صاغية
إلا إذا رأى الناس من دعاتها التضحية في سبيلها، فعندئذ سيستمعون، وسيسيرون
في ركب الدعاة المجاهدين؛ أما إذا لم ير الناس إلا الكلام، فلن تنتشر الدعوة،
ولن تجد إلى القلوب سبيلاً.
وهذا من أهم الأسباب التي جعلت الناس يقبلون على خطاب ويحبونه.
قاتل في أفغانستان، ولم نسمع أنه تقاتل مع أحد الأفغان لخلاف عقدي رغم
انتشار التصوف فيهم، ثم قاتل في طاجكستان التي ساد فيها التصوف، وعندما
وصل للشيشان دعاهم للصلاة والزكاة وقراءة القرآن، ولم يدعهم إلى أي مسألة
عقدية، فلما تمكن هناك وصار حبه في قلوب الناس أنشأ المعاهد العلمية لتعليم
العقيدة الصحيحة.
هل أقبل الناس على أحمد بن حنبل إلا بعد أن ثبت في المحنة، وهل أصبح
شيخ الإسلام شيخاً للإسلام إلا بعد أن جاهد بنفسه في ساح الوغى، وألقي في
غياهب السجون مرات عديدة، وفي الأمة علماء كثيرون طواهم التاريخ لم يصنعوا
لهذه الأمة مجداً، ولم يزيحوا عنها ظلماً.
سابعاً: لا سبيل للتفاوض مع أعداء الله، ولا يمكن أن يجلس المجاهدون مع
قتلة المسلمين على مائدة واحدة لكي يخرجوا بقرارات وهمية يذوب أثرها قبل أن
يجف حبرها وهذا الدرس يُقَدَّمُ لإخواننا المرابطين في فلسطين، بل للمرابطين في
كل بقعة يذكر فيها اسم الله جل وعلا. يقول خطاب رداً على احتمال التفاوض مع
الروس: «لم نناقش هذا الأمر أبداً وليس لدينا وقت له، لا يفكّر المجاهدون في
المفاوضات كما قال شامل باساييف: سوف يكون كل شيء طبقاً للشريعة، وأي
شيء يكون هكذا سيتقبله المجاهدون، وأيّ شيء ضدّه لن يقبل، إذا غادرت
جيوشهم أرضنا كان ذلك ممكنا، لكن بينما تكون جيوشهم هنا، حتّى على متر واحد
لهذه الأرض، فإن الحرب لن تنتهي» .
وفي مناسبة أخرى قال خطاب: «لقد حاول القادة الميدانيون من قبل حل
القضية بطرق المفاوضات طبقاً لشروط دولية والنتيجة أن الحرب كانت مستمرة
بشكل آخر ضد الشعب الشيشاني وشباب القوقاز المسلم في داغستان وقرتشاي
وأنغوشيا وسائر الجمهوريات، وكما قال أخي شامل باساييف - حفظه الله -: إن
الجميع على قناعة تامة أنه لا يوجد حل إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية ومحاكمة
روسيا ومجرمي الحرب فيها ولو بعد حين» .
هذه بعض الدروس المستفادة [**] بإيجاز شديد، نسأل الله الكريم أن ينفع بها
المسلمين، وأن يحيي بها في نفوس الأمة حب الجهاد والاستشهاد.
__________
(*) المشرف الثقافي بالمنتدى الإسلامي - لندن.
(**) تمت الاستفادة في المعلومات التاريخية من موقع «مفكرة الإسلام» على شبكة الإنترنت.(177/78)
المسلمون والعالم
قضية اللاجئين الفلسطينيين
بين العرب واليهود
د. محمد مورو [*]
اعتبرت (إسرائيل) بكل حكوماتها من يمين ويسار ووسط: علمانيين
ومتدينين، وكذا كل قواها السياسية وحتى دعاة السلام المزعومين في (إسرائيل) ،
أن موضوع حق العودة للاجئين الفلسطينيين هو خط أحمر لا يمكن الاقتراب منه،
وكذا عبرت الإدارات الأمريكية المختلفة في مشروعاتها التي قدمتها للسلام بين
الفلسطينيين والإسرائيليين عن تجاهلها لهذا الموضوع، وتبنت بالكامل إصدار
حقوقهم المشروعة في العودة، وآخرها مشروع كلينتون قبيل رحيله، وإن كانت لا
تمانع في المساعدة في توطينهم في أماكن غربتهم أو تعويضهم بالمال، أو تحسين
ظروف حياتهم.
وعلى طول مسيرة المفاوضات والاتفاقات، بل وعلى طول محطات الصراع
معهم فإن قضية اللاجئين كانت هي أم القضايا وأخطرها وأكثرها إثارة للجدل،
وهذا بديهي؛ فالمشروع الصهيوني برمته قائم على اغتصاب أرض من أهلها
وترويعهم وتشريدهم وطردهم منها، ثم الاستيطان فوق تلك الأرض واستجلاب
المهاجرين اليهود من كل مكان، ومن ثم حرمان أصحاب الأرض الحقيقيين من
أرضهم وبيوتهم وبياراتهم.
وهكذا فإن استيطان يهودي في أرض فلسطين تعني مباشرة طرد فلسطيني،
وعودة لاجئ تعني مباشرة طرد يهودي من الأراضي التي اغتصبها، وهكذا فإن
قضية اللاجئين هي أم القضايا وجوهر الموضوع.
ولأنها كانت ولا تزال كذلك فإن الفكرة الصهيونية ارتبطت منذ البداية بأكذوبة
كبرى وهي: (شعب بلا أرض) يريد أرضاً بلا شعب أو أرضاً بلا شعب لشعب
بلا أرض؛ فقد قام الإعلام الصهيوني على أن أرض فلسطين خالية من البشر،
وحاولوا إقناع العالم بذلك، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير رغم أنها أكذوبة واضحة
المعالم، بل وصل الكذب إلى حد أنهم أحياناً صدقوا أنفسهم أو تبجحوا بالكذب رغم
الحقيقة الماثلة للعيان؛ فجولدا مائير الزعيمة الصهيونية المعروفة كانت تكرر أنه لا
يوجد فلسطينيون، رغم أنهم كانوا يحيطون بها من كل جانب سواء من عرب
1948م، أو غزة والضفة أو من قامت بنفسها بتهجيرهم أو قتلهم وترويعهم حتى
يهاجروا.
وبناء على تلك الفلسفة التي صاغت الفكر الصهيوني، اعتمد الصهاينة دائماً
على تخويف الفلسطينيين وترويعهم وتنظيم المذابح حتى يضطروهم إلى الهجرة،
ومن يصمد ولا يهاجر يتم مصادرة أرضه بقوانين إدارية، أو يحارب في رزقه
وعيشه، وهكذا حتى يضطر أن يهاجر.
وإذا تتبعنا المدن الإسرائيلية المعروفة الآن نجد أنها قامت على أنقاض مدن
وقرى فلسطينية، وعلى أراض تركها أصحابها أو تم مصادرتها، وليس هناك
استثناء لهذا الأمر، أما الحديث عن أن الفلسطينيين قد باعوا أرضهم طواعية إلى
اليهود؛ فهو كلام لا قيمة له؛ لأن البحوث والدراسات المحترمة أثبتت أن ذلك
مجرد حالات محدودة لا تصل إلى 6 في الألف وهي نسبة لا يعتد بها أولاً، أو
كانت أراضي مملوكة لإقطاعيين ليسوا فلسطينيين ثانياً، بل كانت لهم إقطاعيات
في فلسطين وسوريا ولبنان وربما مصر وهكذا، وثالثاً لأن السماح بهجرة اليهود
إلى فلسطين وهي المؤامرة البريطانية الكبرى هو أصل المشكلة، فلمن كان سيبيع
هؤلاء لو لم يوجد مهاجرون يهود؟
المذابح والترويع والطرد هي الأصل، وما عداه استثناء. وهكذا فإن قضية
اللاجئين تلخص قضية فلسطين كلها، والاقتراب منها يعني فتح موضوع مشروعية
قيام (إسرائيل) ذاته ومشروعية بناء كل بناية ومصنع ومدرسة وجامعة بها،
ومشروعية إقامة كل فرد فيها، فضلاً عن أنه يفتح سجل الآلام الضخمة التي عاناها
ولا يزال يعانيها الفلسطينيون، ولذا لجأ المفاوض الإسرائيلي إلى تأجيل البت في
تلك القضية في كل مرة يتم الوصول إلى اتفاق، وذلك ضمن ثلاث قضايا شائكة
هي القدس، والمستوطنات واللاجئون، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن أخطر هذه
القضايا هي قضية اللاجئين.
وصحيح أن قضية القدس ذات أبعاد تاريخية وعقائدية ولا تخص الفلسطينيين
وحدهم بل العرب والمسلمين، وتتشابك فوق خيوط إقليمية ودولية، ولكنها من
وجهة نظري قابلة للعمل بطريقة أو بأخرى، ويمكن لـ (إسرائيل) أن تقبل حلاً
ما يعطي السيادة للفلسطينيين على المقدسات الإسلامية مع بعض الضمانات، أو
حتى يمكن لـ (إسرائيل) أن تتنازل عن منطقة الأقصى للفلسطينيين، وحتى لو
أدى ذلك إلى هياج قطاع من المجتمع الإسرائيلي وهو قطاع المتشددين؛ فإنه لن
يؤدي إلى نهاية (إسرائيل) مثلاً، وكذا فإن المستوطنات يمكن الوصول إلى حل
بشأنها، لأنها أولاً لا تمثل إلا قطاعاً محدوداً من الإسرائيليين، وأنها ثانياً سوف
تكون عبئاً كبيراً على الكيان الصهيوني في حالة الوصول إلى حل وإقامة دولة
فلسطينية، فكما أنها تمثل غريقاً لتلك الدولة، فإنها أيضاً رهينة داخل البحر
السكاني الفلسطيني، وفي النهاية يمكن الوصول إلى حل ما بشأنها؛ بل لعلنا لا
نكون مبالغين إذا قلنا إن (إسرائيل) تشددت بشأن قضية المستوطنات وقضية
القدس لكي تجعل الاهتمام بهاتين القضيتين وتحديداً بقضية القدس يغطي على ما
تريده من الحصول على صك فلسطيني ينهي قضية اللاجئين، أي ينهي القضية
ويريح (إسرائيل) للأبد؛ لأن وجود كل لاجئ لم يعترف بشرعية الاستيطان
والوجود الصهيوني ويريد العودة؛ يعني أن هناك قنبلة زمنية ستنفجر في أي لحظة،
ولنا أن نتخيل قيام حركة بين المهاجرين، لا علاقة لها بالسلطة ولا بالقوى
السياسية الفلسطينية أو العربية المختلفة ولا علاقة لها بالحكومات، ولا تهتم بغير
حق العودة فقط، واستطاعت أن تثير حماس هؤلاء الـ 7 ملايين لاجئ، لكي
يتجمعوا يوماً في مكان ما الأردن أو لبنان ويزحفون بلا سلاح على (إسرائيل) ،
ألن تغرق (إسرائيل) في بحر البشر الفلسطيني؟! هذه المسيرة المليونية
الفلسطينية مشروعة تماماً، ولن تجرؤ قوة إقليمية أو دولية على قمعها أو منعها،
هذه المسيرة ليست وحدها الإجراء الممكن، بل كذلك يمكن التحرك دولياً في الأمم
المتحدة ومراكز حقوق الإنسان والتجمعات الشعبية هنا وهناك لرفع قضية اللاجئين
ولكن من منظور العودة، ولا شيء سوى العودة، إنه أمر مزعج بل مرعب
لـ (إسرائيل) ، و (إسرائيل) تدرك أن التسليم بحق العودة يعني نهاية
(إسرائيل) ؛ لأن (إسرائيل) التي تتكون من 4 ملايين يهودي + 1.2 مليون عربي
من عرب 1948م بالإضافة إلى 2.5 مليون فلسطيني في الضفة وغزة لن تتحمل
عودة 7 ملايين فلسطيني من الشتات، ولا سيما أن هؤلاء مشهورون بكثرة الإنجاب،
أي أن اليهود سيغرقون في بحر بشري فلسطيني وهو ما ينهي وجود الدولة العبرية
تماماً! وهكذا فإن حق العودة هو ما ترغب (إسرائيل) في الحصول على صك من
السلطة الفلسطينية بإنهائه، وإنهاء القضية وإغلاقها نتيجة لذلك، حتى لا يأتي يوم
بعد عام أو عشرة أعوام ويطالب الجيل التالي من الفلسطينيين بالعودة، وبذلك يظل
الوضع معلقاً فإن مطالب الأجيال لن تنتهي طبعاً وخصوصاً إذا استمر الصراع
خصباً وساخناً والدماء تسيل.
وإذا كنا قد استنتجنا أهمية موضوع اللاجئين، وجعلناه الموضوع الأكثر
خطورة، فإنه ليس من حق السلطة ولا عرفات ولا أحد التسليم بإنهاء حق العودة
للفلسطينيين؛ لأنه ليس حق الأجيال القادمة فحسب، بل هو حق المسلمين في بقاء
الأرض المباركة أرضاً إسلامية، فيجب أن لا يفرط في هذا الحق، ولا يتعارض
هذا، ويجب أن لا يتعارض أصلاً مع أهمية عودة القدس والمقدسات الإسلامية
والنصرانية في بيت المقدس؛ فهي كلها قضايا هامة بالطبع؛ بل المفروض طبعاً
عودة كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، ومن الشمال إلى الجنوب.
حق العودة هو حق بديهي، وهو حق لا يختلف عليه اثنان، وهو أيضاً ثابت
بالشرعية الدولية بالقرار رقم 194 الذي ينص على العودة والتعويض؛ أي عودة
كل اللاجئين في كل مكان إلى فلسطين، وعودة المهجرين داخل فلسطين إلى قراهم
الأصلية وبيوتهم الأصلية، ثم تعويضهم عن تلك الفترة التي قضوها في المنافي
وعن استغلال (إسرائيل) والإسرائيليين لأرضهم وبيوتهم طوال تلك المدة.
وبالطبع فإن (إسرائيل) وأمريكا، ومعهما ما يسمى بدعاة العقلانية يروِّجون
لمقولة أن ذلك مستحيل؛ لأن معنى عودة كل هذه الملايين نهاية (إسرائيل) وهذا
غير ممكن لماذا؟! وأن الإسرائيليين قد بنوا عمارات ومرافق ومدناً ومدارس
وجامعات ومصانع على الأراضي المغتصبة؛ فكيف نهدم ذلك، ونعيده إلى أصحابه؟
وأن المطالبة بالمستحيل هو نوع من العنتريات التي عفا عليها الزمن، ومن
الأفضل الحديث عن حلول واقعية؛ بمعنى توطين اللاجئين في أماكن وجودهم أو
البحث لهم عن أماكن أخرى، وتحسين ظروف حياتهم ومساهمة الأسرة الدولية في
تعويضهم وتمويل توطينهم. وظهرت في هذا الإطار مشروعات لتوطين اللاجئين
الموجودين في لبنان بها وكذا الأردن وسوريا ... إلخ ولكن الفلسطينيين الموجودين
في هذه البلدان رفضوا ذلك، ورفضت حكومات لبنان وسوريا ذلك أيضاً، وهناك
حديث عن توطينهم بالعراق مثلاً في مقابل رفع الحصار عن العراق وإنهاء عزلته
الدولية، وهل هذا المخطط هو ما يؤخر حل المشكلة العراقية حتى الآن انتظاراً
لنضوج الثمرة؟ وبالطبع فإن أحداً لن يقبل ذلك، لا الفلسطينيون ولا لبنان والعراق
وسوريا ... إلخ.
حق العودة هو جوهر القضية؛ لأنه يسحب شرعية وجود الدولة العبرية من
أساسه، وعلينا ألا نخاف من طرح الموضوع أي موضوع تفكيك دولة (إسرائيل)
وإقامة وطن حر يعيش فيه الجميع على قدم المساواة؛ ولأن الأمر كذلك فإن
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حرصت على الحصول على اعتراف بوجود
وشرعية (إسرائيل) مقابل بعض التنازلات، بل حرصت أيضاً على إلغاء ميثاق
منظمة التحرير مقابل اتفاقية أوسلو، وهذا لأنها تدرك أنه بدون الحصول على صك
الشرعية من العرب والفلسطينيين أنفسهم فإن الشعور بالأمان لدى كل المغتصبين
سيظل منقوصاً، وحتى لو اعترف العالم كله وبقي مجموعة من الفلسطينيين أو
العرب يشككون في شرعية وجود الدولة العبرية ويطالبون بتفكيكها ولا يسلمون أو
يعترفون بها، فإن ذلك يعني أن الأجيال القادمة ستجد الجذوة تحت الرماد مشتعلة أو
الجذور صالحة لم تمت وربما اندلع الطوفان من جديد.
ما بين التمسك بالحق البديهي، والالتفاف حوله تدور قصة اللاجئين منذ عام
1948م وحتى الآن؛ ففي عام 1949م صدر القرار رقم 194، وقد رفضت
(إسرائيل) هذا القرار وحاول معها حلفاؤها الدوليون الالتفاف على حق العودة،
وطُرحت مشروعات لتوطين اللاجئين في أماكن إقامتهم في المنافي، ويقدر
الباحثون عدد هذه المشروعات بـ 36 مشروعاً منذ عام 1949م وحتى الآن منها
مشروع وكالة الغوث 1952 - 1954م، ومشروع دالاس 1953 - 1956م
ومشروعات جونستون 1955 - 1961م، ومشروع أنطوني إيدن 1955م،
ومشروع أيزنهاور 1957م، ومشروع همر شولد 1959م، والمشروعات أو
المقترحات سواء كانت إسرائيلية أو من متعاطفين معها، تدور كلها حول توطين
اللاجئين في أي مكان من العالم ما عدا أرضهم الأصلية؛ فقد طرح توطينهم في
أمريكا وأوروبا وكندا وأستراليا وسوريا، ولبنان والأردن.. إلخ؛ ما عدا
فلسطين بالذات.
وحتى يتم إرضاء أو إلهاء الرأي العام العالمي فإن مساعدة الفلسطينيين
اللاجئين تتم طبعاً عن طريق وكالة غوث اللاجئين «الأونروا» التي تشكلت
باقتراح من الولايات المتحدة الأمريكية. والمساعدة هنا تكمن في تأهيلهم اقتصادياً
واجتماعياً وتعويضهم عن الأضرار أو بناء مخيمات لهم، أو تشغيلهم، ما عدا حق
العودة طبعاً، وحاولت (إسرائيل) دائماً الادعاء أن الفلسطينيين ليسوا شعباً بل هم
مجتمع من العرب يمكن أن يذهبوا ليعيشوا في البلاد العربية، وأنه ليس هناك دولة
اسمها فلسطين، وأن الفلسطينيين جاؤوا إلى تلك الأرض كرعاة فقط وهذا منذ زمن
بعيد. أما اليهود فهم شعب يتم تشكيله ويجب إعادتهم من كل مكان لتعمير تلك
الأرض التي هي بلا سكان ولا صاحب، وأنهم أي اليهود متحضرون، أما
الفلسطينيون فهمج وبرابرة هكذا يزعمون إفكاً وكذباً. ولا يخلو الموضوع من
طرائف إسرائيلية أو أشياء تثير الغيظ في الحقيقة؛ ف (إسرائيل) تزعم مثلاً أنه
يجب تعويض اليهود الذين هاجروا من البلاد العربية إلى (إسرائيل) ، ورغم أن
ذلك تم بإرادتهم أولاً، أو حتى رغم أنف تلك الدول التي ما أرادت أصلاً أن
يخرجوا منها وربما منعتهم فهربوا، وثانياً نقول لهم تفضلوا وعودوا إلى بلادكم
واتركوا فلسطين!! ومن الطرائف والعجائب أيضاً، أن جامعة هارفارد تبنت
مشروعاً يقتضي اعترافاً ورقياً إسرائيلياً بالذنب وامتناع الفلسطينيين في المقابل
باستحالة حق العودة!!
والغريب أن رفض (إسرائيل) لحق العودة الفلسطيني، أي عودة
الفلسطينيين إلى أرضهم التي طُردوا منها قسراً منذ خمسين عاماً، يترافق مع
إصرار (إسرائيل) على منح حق الهجرة التي سموها العودة إلى فلسطين لأي
يهودي في العالم: روسي أو مجري أو ألماني أو أمريكي أو عراقي أو يمني أو
حبشي أو مغربي أو إيراني رغم عدم صلة هؤلاء بفلسطين ولا أجدادهم في أغلب
الأحيان لعدة آلاف من السنين، وربما بالمرة تماماً؛ حيث إن معظم اليهود الحاليين
لا علاقة لهم ببني إسرائيل الأصليين كما ذكر ذلك أكثر من باحث مرموق.
حق العودة للفلسطينيين ثابت بالتاريخ والجغرافيا، رغم كل محاولات طمس
الهوية، وما دام هناك شعب فهناك قضية، وخاصة أن هذا الشعب يتمسك بمفاتيح
البيوت، ويحكي الأجداد للأحفاد عن مدنهم وقراهم الأصلية وبياراتهم وحقولهم،
والحق ثابت؛ لأن الاحتلال لا يلغي حق الملكية، ولأن وعد بلفور وقرارات
التقسيم وكل ما أدى عملياً أو رسمياً إلى قيام (إسرائيل) غير شرعي؛ لأن
الفلسطينيين لم يكونوا طرفاً فيه بل هم الضحية.
عدد اللاجئين وتوزيعهم في العالم يتراوح بين 7.5 سبعة ملايين ونصف
مليون نسمة، وهم موزعون أساساً في سوريا ولبنان والأردن والضفة وغزة ومصر
وأمريكا وأوروبا، ويبقى أن من الضروري كما قلنا ظهور هيئة تمثلهم ليست
سياسية ولا علاقة لها بمنظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية أو أي قوى سياسية أو
حكومات، تهتم فقط بتوثيق الخرائط والعقود والأوضاع والأرقام التي تؤكد حقوق
اللاجئين في العودة إلى فلسطين والعمل المتواصل لتأكيد حقهم في العودة لبلادهم
التي هُجِّروا منها أو هُجِّر آباؤهم وأجدادهم؛ وما ضاع حق وراءه مطالب.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي.(177/82)
المسلمون والعالم
الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى المبارك تؤكد أن:
الأقصى في خطر
نائل نخلة [*]
(قضية بناء هيكل على حساب المسجد الأقصى المبارك هي محل إجماع
قومي وديني من كل الأطراف السياسية في المؤسسة الصهيونية، وهي دائبة على
هذا المشروع بشكل تدريجي، وكل ما حدث حتى الآن من مشاريع هي عبارة عن
مؤامرات لضرب المسجد الأقصى المبارك تهدف في نهاية الأمر للوصول إلى هذا
الهدف المرسوم، الهدف الذي يتلخص في مقولة بن جوريون: «لا قيمة لإسرائيل
بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل» ) هذا ما قاله للبيان الشيخ رائد
صلاح رئيس جمعية الأقصى ورئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام
1948م.
وتشير كل الدلائل إلى الأخطار الحقيقية المحدقة بالمسجد الأقصى المبارك
والتي تشكل تهديداً واضحاً وجلياًَ لكيان المسجد الأقصى المبارك؛ فاليهود حكومة
ومؤسسات وشعباً مصممون على النيل من المسجد الأقصى المبارك وبناء هيكلهم
الثالث المزعوم، زاعمين أن المسجد الأقصى مُقام على أنقاض هياكلهم المندثرة
تحت أرضيته.
ومن الواضح جداً أن لا فرق في الكيان الصهيوني بين يسار ويمين ومعتدل
ومتطرف فيما يتعلق بالمسجد الأقصى، وبحسب الشيخ صلاح الذي تحدث عن
زيارة المجرم أرييل شارون إلى ساحات المسجد الأقصى في 29/9/2000م، تحت
حراسة 2000 جندي من حكومة باراك. يقول: «أؤكد أن (أرييل شارون)
بشكل خاص يعاني من عقدة نفسية من المسجد الأقصى المبارك، والذي أقصده أن
شارون ما زال في مخيلته التخوف والهاجس من عودة شخصية صلاح الدين الجديد
إلى الأمة الإسلامية والعالم العربي، وواضح أن هذه الشخصية ارتبطت في التاريخ
الإسلامي بالمسجد الأقصى المبارك، لا أقول ذلك رجماً بالغيب بل إحدى
الصحافيات صحفية يهودية أجرت في أحد المرات لقاء مع (أرييل شارون) ،
وباختصار كانت محررة اللقاء تسأل شارون: لماذا هذا التخوف والقلق الذي يبدو
عليك وأنت صاحب الأدوار العسكرية في المكان الفلاني وفي الزمن الفلاني، وقد
حصلت على المراتب الفلانية؟ فقال لها بالحرف الواحد: أخشى أن يظهر صلاح
الدين جديد في العالم العربي والإسلامي. فكان ردها: ولكن العالم العربي
والإسلامي هو ممزق في وضع صعب.. فكان رده: في مثل هذا التمزق ظهر
صلاح الدين في الفترة السابقة في العالم الإسلامي والعربي.
وثانياً: بالنسبة لأرييل شارون هو واضح جداً في موقفه الصريح من قضية
المسجد الأقصى المبارك عندما سئل من قبل مجموعة من الصحفيين بعد اقتحامه
الأخير للمسجد الأقصى المبارك سألوه: ما سبب دخولك إلى المسجد الأقصى
المبارك؟ فكان جوابه: أنا لا أعرف شيئاً اسمه المسجد الأقصى المبارك.
هو أصلاً لا يعترف حتى بهذا المصطلح، لا يعتبر نفسه أنه اقتحم شيئاً
محظوراً، ولا يعتبر نفسه دخل إلى مكان للآخرين، ولذلك دخول شارون إلى
المسجد الأقصى المبارك.
ويعمل اليهود من أجل تحقيق ذلك المبتغى من خلال جمعيات ومؤسسات
وحركات يهودية ونصرانية صهيونية؛ حيث تؤمن الأخيرة أن تمكُّن اليهود من
النَّيْل من الأقصى وبناء الهيكل سيعجل في قدوم المسيح المخلص الذي سيقود هذا
العالم المليء بالشرور والآثام إلى الخلاص، وتنشط هذه الجهات في مجال التنقيب
عن الهيكل المزعوم تحت باحات الحرم القدسي الشريف، والاستيلاء على البيوت
الإسلامية في البلدة القديمة في القدس، وطرد المواطنين المسلمين من الأحياء
العربية والإسلامية، إضافة إلى عملها على دعم الاستيطان في القدس وفلسطين.
ومن الواضح أن عمل هذه الجهات يحظى بدعم مالي ولوجستي من
الحكومات الصهيونية المتعاقبة، ويشار إلى أن هذه الجهات تتلقى أيضاً دعماً مادياً
كبيراً من جهات أجنبية يهودية ونصرانية تتركز معظمها في الولايات المتحدة
الأمريكية.
ولعل الأخطر في موضوع الحفريات الصهيونية هو أن أخبار سيرها أو حجم
خطورتها وتهديدها لكيان المسجد الأقصى المبارك، قد انقطع بنسبة حوالي 95%
بعد منتصف السبعينيات، فلا أحد من الشعب الفلسطيني أو من العالم العربي
والإسلامي يملك معرفة ذلك بالضبط، ويعود ذلك إلى السرية والكتمان الكامل الذي
تحظى به تلك الحفريات؛ وهناك عدد من الأسباب سنأتي على ذكرها لاحقاً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحفريات تحت المسجد الأقصى كانت قد بدأت به
جهات إنجليزية سنة 1876م بتمويل هائل من عدة جهات مثل صحيفة» تلغراف «
و» بنك ميجر «إلا أنهم توقفوا عن ذلك بعد أن ثارت ثائرة المسلمين هناك،
ولجؤوا إلى الحفر بشكل سري إلى أن اكتُشِفَ أمر ورشة حفر بريطانية سنة
1910م، واستؤنفت حفرياتهم مرة ثالثة بعد استعمارهم لفلسطين أوائل القرن
المنصرم.
أما الصهاينة فقد باشروا الحفر تحت المسجد الأقصى المبارك بعد احتلالهم
للقدس الشرقية بما فيها المسجد القدسي الشريف سنة 1967م بعد انتصارهم على
الجيوش العربية في حرب 5 حزيران من نفس العام؛ وهو ما يعكس الرغبة
الصهيونية الجامحة والإرادة الصلبة القوية في القيام بأعمال الحفريات تحت الأقصى
المبارك، وتسوِّغ بعض الجهات العاملة في هذا الحقل أعمالها الحفرية هذه بأنها
تقوم بأعمال تنقيب عادية تهدف إلى الاستفادة العلمية ودراسة التاريخ لا أكثر.
* الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى المبارك حسب المراحل التي تمت
فيها:
1 - المرحلة الأولى:
شرع البدء في هذه المرحلة في نهاية عام 1967م وبداية عام 1968م؛ حيث
تركز العمل في هذه المرحلة في جنوبي المسجد الأقصى المبارك بطول 70 متراً
من أسفل الحائط الجنوبي والمتحف الإسلامي والمئذنة الفخرية وأبنية جامع النساء.
وكان عمق هذه الحفريات 14 متراً. ومن الواضح أن هذه الحفريات قد أحدثت
تصدعات وتشققات للأبنية المذكورة.
2 - المرحلة الثانية:
وبدأ العمل بها سنة 1969م وهي استكمال للمرحلة الأولى، ويذكر أنها بدأت
من نقطة انتهاء المرحلة الأولى، وقد اتجهت هذه الحفريات شمالاً حتى وصلت باب
المغاربة مروراً بأربع عشرة بناية منها مركز الإمام الشافعي، ووصل طول هذه
الحفريات إلى 80 متراً، وقد أحدثت هذه الحفريات في هذه المرحلة تصدعات
بجميع الأبنية التي مرت من تحتها، وقامت إسرائيل بنفس العام بجرفها جميعاً
وإجلاء سكانها.
3 - المرحلة الثالثة:
وتم بها العمل في سنوات 1970م - 1974م، وتوقفت عام 1974م، ثم
استؤنف العمل بها سنة 1975م، ولا زالت مستمرة حتى كتابة هذه السطور.
ويمتد العمل في هذه المرحلة من مكان تحت المحكمة الشرعية القديمة (المدرسة
التنكزية) وتتجه شمالاً مروراً بأسفل 5 أبواب من أبواب الحرم القدسي الشريف
وهي: باب السلسلة، باب المطهرة، باب القطانين، باب الحديد، وباب علاء
الدين البصري. إضافة إلى مجموعة من الأبنية الدينية والأثرية والسكنية منها 4
مساجد وسوق القطانين ومئذنة قايتباي. وتسببت هذه الحفريات في هذه المرحلة
بتصدع الأبنية المذكورة إضافة إلى المدرسة الجوهرية ورباط الكرد والجامع
العثماني، وبلغ عمق هذه الحفريات من 10 - 14 متراً.
4 - المرحلة الرابعة:
وبدأ العمل بها سنة 1973م، وانتهى سنة 1974م؛ حيث اقتربت الحفريات
في هذه المرحلة إلى الحائط الغربي للمسجد الأقصى المبارك، ووصل عمق هذه
الحفريات إلى ما يقارب 13 متراً.
5 - المرحلة الخامسة:
وبدأ العمل بها سنة 1974م؛ حيث توسعت الحفريات تحت الحائط الغربي
للمسجد الأقصى إضافة إلى تركزها خلف الحائط الجنوبي الممتد من أسفل القسم
الجنوبي للمسجد الأقصى وسور الحرم القدسي، وقد امتدت هذه الحفريات إلى شرق
الحرم، وبلغ طولها 80 متراً.
ومن الجدير ذكره أن المرحلتين الرابعة والخامسة أدتا إلى اختراق الحائط
الجنوبي والدخول عبره إلى الأروقة السفلية للمسجد الأقصى المبارك (وذلك في
تموز سنة 1974م) في أربعة مواقع وهي:
أسفل مسجد عمر والجناح الجنوبي الشرقي للمسجد الأقصى.
أسفل محراب المسجد الأقصى بعمق 20 متراً إلى الداخل.
أسفل الأروقة الجنوبية الشرقية للأقصى.
ولا شك أن هذه الحفريات بدأت تهدد السور والمسجد الأقصى المبارك بخطر
الانهيار.
6 - المرحلة السادسة:
شرع العمل في هذه المرحلة سنة 1975م، وبدأت أعمال الحفريات تتركز
في مكان في منتصف سور البلدة القديمة وسور الحرم القدسي الشريف، وهذا
المكان يقع بين باب السيدة مريم والزاوية الشمالية الشرقية لسور البلدة القديمة.
ويذكر أن اليهود قد قاموا في سبيل إتمام عملهم هذا بمصادرة الأراضي
الملاصقة لمقبرة إسلامية هناك، كما أن هذه الحفريات لا زالت تهدد الكثير من
المقابر الإسلامية التي تعتبر من أقدم المقابر الإسلامية في القدس والتي تحوي على
رفات الصحابيين: عبادة بن الصامت وشداد بن أوس، والعديد من رجال العلم.
7 - المرحلة السابعة:
ويرجح أنها بدأت سنة 1977م، وكانت عبارة عن مشروع تعميق ساحة
البراق الملاصقة للحائط الغربي للأقصى، ووصل عمق الحفريات في هذه المرحلة
إلى 9 أمتار، وقد كانت هذه الساحة حتى عام 1967م تضم 200 عقار، ولكن
الدولة العبرية قامت بجرفها خلال عشر سنوات (1967م - 1977م) ، ومن
الواضح أن هذه الحفريات خطر حقيقي للعديد من الأبنية مثل: عمارة المدرسة
التنكزية، عمارة المكتبة الخالدية، مسجد وزاوية أبو مدين الغوث، 35 بناية
يقطنها ما لا يقل عن 200 مواطن.
8 - المرحلة الثامنة:
يذكر أن العمل قد بدأ بها سنة 1967م خلف جدران المسجد الأقصى الجنوبية،
وحملت شعار:» كشف مقابر ملوك إسرائيل في مملكة يهودا «، ولا شك أن
أخطاراً عديدة تحدق بهذه الجدران.
9 - المرحلة التاسعة:
وفي هذه الفترة أعيد فتح نفق» وارن « (على اسم الإنجليزي وارن الذي
اكتشف النفق سنة 1880م) ، ويقع ما بين باب السلسلة وباب القطانين، وقد
اقتربت الحفريات الصهيونية في هذه المرحلة إلى الحائط الغربي، وتوغلت أسفل
الحرم على طول 25 متراً شرقاً وبعرض 6 أمتار ووصلت إلى» سبيل قايتباي «.
وقد أدت هذه الحفريات كما أشير في تقرير المهندسين سنة 1981م إلى تصدع
الأروقة الغربية الواقعة بين باب السلسلة وباب القطانين.
10 - المرحلة العاشرة:
يشار إلى أن هذه المرحلة قد بدأت بالتوغل تحت أرضية المسجد الأقصى
المبارك والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم.
ويذكر أن الصهاينة قد ركزوا عملهم في هذه المرحلة تحت باحات الحرم
القدسي الشريف؛ حيث إنهم بدؤوا بتفريغ الأتربة من تحت كل باحات الحرم
القدسي الشريف، ولعل هذه الحفريات هي من أخطر المراحل؛ لأنها تقع مباشرة
تحت باحات الحرم وخصوصاً تحت الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، وقد
بدأ يظهر آثار ذلك؛ حيث أخذت بعض الشقوق تظهر جلياً للعيان في قطع الرخام
في قبة الصخرة والمسجد الأقصى.
ونستطيع أن نلخص تركز الحفريات الصهيونية جغرافياً:
- غرب المسجد الأقصى.
- جنوب المسجد الأقصى.
- جنوب الحفريات الجنوبية.
من الواضح أن حديثنا أعلاه قد تركز بشيء من التفصيل على الحفريات تحت
المسجد الأقصى المبارك وتحت أسواره وجدرانه، من حيث سنوات الحفريات
وطول الأنفاق وعمقها وسنوات البدء بها.
ولكن لوحظ أن هذه التفاصيل قد بدت شحيحة بعد منتصف السبعينيات مقارنة
بالمعلومات التي كانت تتعلق بالحفريات ما بين الأعوام 1967م - 1975م، ولعل
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: لماذا لا يتم استمرار الحديث عن نفس هذه
الحفريات بنفس الطريقة أو بنفس روح ما بعد منتصف السبعينيات؟
يقول الأستاذ أحمد فتحي خليفة، الباحث في شؤون القدس والأقصى للبيان:
1 - إن الحفريات الصهيونية ابتعدت عن عيون الناس وملاحظاتهم، كما أنها
ابتعدت عن شوارعهم وأزقتهم؛ وذلك لأن سير هذه الحفريات اتجه من تلك المناطق
السكنية القريبة من ملاحظة الناس إلى داخل الحرم، وهي نسبياً بعيدة عن
ملاحظات المواطنين.
2 - يضاف أن الصهاينة كانوا قبل عام 1975م يسمحون للباحثين والكتاب
أن يبحثوا ويطلعوا على سير عمل تلك الحفريات، أما بعد هذا التاريخ فقد منعت
المؤسسة اليهودية الحاكمة هؤلاء الكتاب والباحثين بمن فيهم من كتابهم وباحثيهم
الذين كانوا يكشفون النقاب عن هذه الحفريات من الاطلاع على أدنى حد من
المعلومات المتعلقة بالموضوع.
3 - إن ما تقوم به السلطات الصهيونية من إغلاق لبوابات الحرم بعد نصف
ساعة من انقضاء صلاة العشاء يمنع ملاحظة ومعرفة ما يدور من حفريات تحت
المسجد الأقصى.
أما الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية ورئيس مؤسسة الأقصى
لإعمار المقدسات الإسلامية، فقد أعرب عن استيائه ومرارته لعدم توفر معلومات
واضحة موثقة بالصورة والخريطة وقال:» إنه لا يوجد أحد من شعبنا الفلسطيني
أو من عالمنا العربي والإسلامي يملك الإجابة عن حجم الخطورة المحدقة بالمسجد
الأقصى «ملمحاً بعدم المعرفة العميقة بسير وخطورة الحفريات الجارية أسفل
المسجد الأقصى المبارك.
ولكن مع كل ذلك فإن هناك الكثير من الشواهد والأدلة التي تؤكد استمرار
الحفريات بالمسجد الأقصى المبارك، بل وحتى بدأت تهدد مناطق حساسة جداً مثل
مسجد قبة الصخرة المشرفة.
وأشار الباحث أحمد فتحي خليفة في نفس المقابلة أن الحفريات وصلت أسفل
باحات الحرم القدسي الشريف ولا سيما تحت المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة
المشرفة، ويستدل الأستاذ أحمد على ذلك بالتصدعات والشقوق التي بدأت تظهر
بكل وضوح على قطع الرخام المصفحة لجدران قبة الصخرة المشرفة إضافة إلى
المنطقة الشرقية الغربية وفوق المحراب مباشرة، ويجزم الأستاذ أحمد خليفة أن هذه
الشقوق تعود إلى الفراغات الموجودة تحت قبة الصخرة المشرفة. وبالطبع فإن هذه
الفراغات سببها الحفريات الصهيونية تحت قبة الصخرة وباحات المسجد.
إضافة إلى كل ذلك يشير الأستاذ أحمد إلى أن المسجد الأقصى المبارك يحوي
على 43 بئراً تتصل فيما بينها منها ما يصل عمقه إلى 20 - 25 متراً، ويرجح
الأستاذ أحمد خليفة أن اليهود قاموا بربط جميع الآبار بعضها مع بعض (أي
فتحوها على بعضها البعض) ، ويخلص إلى نتيجة مفادها أن اليهود قد سيطروا
سيطرة كاملة على الطبقة الجوفية للأقصى.
أما الشيخ رائد صلاح فقد ذكر لنا في نفس المقابلة العديد من الأدلة والبراهين
التي تؤكد بشكل لا لبس ولا ريب فيه أن المؤسسة اليهودية ماضية في تنفيذ
مخططاتها ومن هذه الأدلة:
1 - ما نقله إليه المواطنون من آل الأنصاري ومن آل الدجاني الذين يقطنون
في بيوت ملاصقة للمسجد الأقصى المبارك ما يسمعونه من أصوات اهتزازات تنبع
من تحت المسجد الأقصى المبارك.
2 - ما نقله له الحراس من مشاهداتهم للشاحنات الكبيرة وهي تنقل أتربة من
تحت المسجد الأقصى المبارك.
3 - ويذكر الشيخ رائد صلاح ما أشارت إليه صحيفة هآرتس (البلاد)
الصادرة في 11/8/1999م عما اكتشفه حاخام حائط المبكى في يوليو سنة 1981م
من نفق يتجه تحت قبة الصخرة.
4 - ما نقله له أحد العاملين في سلك الآثار الفلسطينية أن إحدى ورشات عمل
الحفريات الإسرائيلية قد تقدمت في الحفريات ووصلت حتى منطقة» الكأس «
الواقعة بين قبة الصخرة والمسجد الأقصى المبارك.
5 - ما نقله له حراس المسجد الأقصى من أنهم يسمعون أصواتاً قوية أسفل
المسجد الأقصى شبيهة بأصوات حفريات وانفجارات.
6 - ما وصل للشيخ رائد من معلومات تؤكد أن الكيان الصهيوني يستعمل
حوامض كيميائية تساعد في تفتيت الصخور.
7 - ما نقله له أحد رجالات الوقف الإسلامي في القدس أن هناك حفريات تتم
أسفل المدرسة التنكزية وتصل هذه الحفريات تحت قبة الصخرة المشرفة.
8 - ما نقله له بعض موظفي لجنة التراث في بيت المقدس من سماع أصوات
اهتزازات وضربات بالقرب من باب الرحمة؛ وذلك بتاريخ 3/2/2000م، وتبين
لاحقاً أن هذه الأصوات صادرة من رجل يتبع لتنظيم جماعة» جبل أمناء الهيكل «
كان يحفر في قبر (السادة المولوية) محاولاً فتح باب لنفق هناك.
ويشير الشيخ رائد صلاح أن المؤسسة الإسرائيلية تهدف من وراء حفرياتها
طبعاً بالإضافة إلى هدفها الاستراتيجي وهدم الأقصى وبناء الهيكل إلى السيطرة
والتحكم بجميع المباني التابعة للأقصى.
الشيخ صلاح كانت له تجربة مباشرة مع هذه الحفريات يحدث البيان عنها
قائلاً:» أنا دخلت في الزاوية الجنوبية الغربية للمسجد الأقصى المبارك..، وهذه
الزاوية تمثل مدخلاً إلى أحد الأنفاق التي بدأت المؤسسة الإسرائيلية بحفر نفق هناك
في سنوات التسعينيات، وأنا شخصياً دخلت إلى هذا النفق بعمق تسعة أمتار،
ومشيت في هذا النفق بامتداد حوالي مائتي متر باتجاه يوازي ساحة الأقصى من
الجنوب ومن الغرب، ووجدت أن هذا النفق يتفرع منه عدة أنفاق صغيرة تصل
إلى أساسات المسجد الأقصى المبارك «.
ويتابع:» ما أؤكد عليه هنا ليس هو الشيء الوحيد الموجود من حفريات في
ساحة المسجد الأقصى المبارك، وليس هو مشروع التآمر الوحيد لضرب المسجد
الأقصى المبارك، بل هناك مبادرات كثيرة تحاول جهات كثيرة أن تنفذها بهدف
الوصول إلى بناء هيكل على حساب المسجد الأقصى المبارك «.
وسألته البيان عن وجود مخطط صهيوني حقيقي لهدم المسجد الأقصى، أم أن
هناك مبالغات فيما يتعلق بهذا الجانب؟ فقال:» لا أقول هناك مخطط، هناك
مخططات، ولا أقول إن هناك فقط مخططات، بل هناك تنفيذ؛ فالآن يجري تنفيذ
بعض جوانب هذه المخططات في ساحة المسجد الأقصى المبارك، والأمثلة على
ذلك كثيرة جداً، إذا أردت أن أستعرض أمثلة سريعة:
- في عام 1996م عندما قام في حينه نتنياهو بدخول نفق سمي اسماً تضليلياً
بنفق (الحشمو نائيم) هو جزء من مخطط موجود.
- افتتاح إيهود باراك السابق لمكان تم تبليطه في الجهة الجنوبية من ساحة
الأقصى المبارك.
- جزء من هذه المخططات التأكيد الذي سمعناه في الماضي من رؤساء
حكومات إسرائيليين سابقين بما في ذلك رئيس الحكومة الحالي وبعض وزرائه على
أنهم يصرون على سيادة مطلقة على الأقصى المبارك هو تأكيد على هذه المخططات.
- تأكيد الحاخامية الدينية الأولى في شخص الحاخام (لاو) والحاخام
(دورون) على أن هناك سيادة مطلقة على الأقصى هي جزء من هذه المخططات.
- مطلب البعض ببناء كنيس في داخل الأقصى المبارك، ومطلب البعض
بتحويل المدرسة العمرية إلى كنيس وهي جزء من الأقصى المبارك.
- وجزء من هذه المخططات ما تم تنفيذه حتى الآن هو إزالة مقبرة تاريخية
كانت فيما مضى في الزاوية الجنوبية الغربية للأقصى المبارك.
- تحويل حائط البراق الذي هو جزء ثمين من الأقصى المبارك إلى ما يسمى
تضليلاً الآن بحائط المبكى وهو جزء من هذه المخططات «.
ويكشف الشيخ رائد صلاح أن بعض علماء الآثار اليهود مثل (بن دوف)
و (هرتزوك) يقولون بالحرف الواحد:» إنه بعد حفريات استمرت أكثر من ثلاثين
عاماً لم يجدوا ولو قطعة حجر تدل على وجود أثر إسرائيلي ديني في حرم الأقصى
المبارك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إسرائيل تفرض حصاراً على الأقصى؛ حيث لا
يسمح بإدخال أية مواد بنائية تساعد على ترميم الأقصى «.
وتعهد الشيخ صلاح بالاستمرار بكل المشاريع التي من شأنها تثبيت الحق
الإسلامي في القدس والأقصى، وتساعد في منع تقدم واستمرار الحفريات
الإسرائيلية.
* هل تهدد الحرم بالانهيار فعلاً؟
يقول الشيخ رائد صلاح:» هذه الحفريات لها نتائج كثيرة جداً، ومن أخطر
هذه النتائج أنها قد تهدد حرم المسجد الأقصى بالانهيار، بحيث تعطي الإمكانيات
للمؤسسة الإسرائيلية - الدينية والسياسية - أن تفرض سيطرة على ما يوجد تحت
المسجد الأقصى المبارك من تحت الأرض، ومن خلال هذه السيطرة قد تسيطر
على أماكن فوق الأرض «.
ويتابع:» هناك مدرسة اسمها المدرسة العمرية تقع في الزاوية الشمالية
الغربية للمسجد الأقصى المبارك، هذه الزاوية يطالبون الآن أن تحول إلى كنيس
يهودي، تحت هذه المدرسة هناك أنفاق تسير وتصل مباشرة إلى الصخرة المشرفة؛
فالذي يسيطر على المدرسة العمرية والذي يسيطر على هذه الأنفاق طمعه واضح
في المستقبل أن يسيطر على الصخرة المشرفة التي تقع بالضبط في وسط ساحة
المسجد الأقصى المبارك.
ومما يشار إليه أن إسرائيل قامت منذ عام 1948م وحتى الآن بهدم ما يقرب
من ألف ومائتي مسجد واقتلاع آلاف المقابر، وقامت بتحويل كثير من المساجد إلى
خمارات ومطاعم ومراقص ليلية وبيوت للدعارة وأوكار للمخدرات مثل مسجد
(عين كارم) الذي يستخدم الآن وكراً لأعمال الرذيلة، ومسجد (مجدل عسقلان)
الذي حول إلى متحف ومطعم وخمارة، ومسجد (البصة) الذي حول إلى حظيرة
أغنام، ومسجد (العفولة) الذي حول إلى كنيس يهودي، والمسجد الأحمر في
صفد الذي حول إلى ملتقى الفنانين.
أما مقابر المسلمين فقد حول بعضها إلى مزابل. أما أوقاف المسلمين فإن
ريعها يحول الآن إلى وزارة الأديان الإسرائيلية، ويصرف على خدمة الكنس
اليهودية ورواتب الحاخامات؛ فهل هي الآن عاجزة (أخلاقياً، وأيديولوجياً،
وعملياً) عن هدم المسجد الأقصى المبارك آجلاً أم عاجلاً؟
__________
(*) مراسل المجلة في فلسطين.(177/86)
المسلمون والعالم
أضواء علي تطبيق الشريعة الإسلامية في نيجيريا
رؤية من الداخل
محمد بابنجيدا محمد [*]
* توطئة:
كثر الحديث في الإعلام الغربي في هذه الأيام عن الأحداث في نيجيريا
وخصوصاً عن التوجه الإسلامي نحو تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض الولايات
النيجيرية الشمالية. وقد أثار الإعلام الغربي حملة شعواء ضد هذا التوجه الإسلامي
أو هذه اليقظة الإسلامية التي أخذت الغرب على غفلة منه. فلم تكن نيجيريا من
تلك الدول الإسلامية التي توضع في الحساب عند الحديث عما يسمى بالخطر
الأصولي الإسلامي، أو ما سمته مجلة الاقتصاد اللندنية بـ (الخوف الأساسي) [1] ،
علماً بأن بريطانيا ومن عاونها قد أحكموا التخطيط لمحاصرة الإسلام في نيجيريا
ولمنع إمكانية أي تحرك نحو إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية كما عهدته البلاد قبل
الاستعمار. وكان من أواخر قرارات بريطانيا إلغاء الأحكام الجنائية الشرعية كشرط
من شروط الحصول على استقلال الدولة في عام 1960م.
ومن ثم فلا نستغرب مدى غضب الأوروبيين والغرب عموماً ونكيرهم، بل
وحقدهم من أجل هذا التوجه.
وقد عبروا عن هذا كله في حملات إعلامية وتهديدات وتخويفات موجهة لتلك
الولايات الشرعية. وتتابعت بعد ذلك مظاهرات من هيئات الحقوق الإنسانية
وجمعيات تحرير المرأة في عدة من دول الغرب. وزادوا على ذلك جمع التوقيعات
من آلاف المستنكرين لتطبيق شرع الله، وكتبوا وأرسلوا الرسائل واستهزؤوا بكل
مظاهر تطبيق الشريعة الإسلامية في الولايات الشمالية النيجيرية.
وكل هذا ليس بغريب لدينا.
وأعتذر إلى القارئ أن أقول: إن الذي نستغربه هو هذا الصمت من قبل
الدعاة وقادة العالم الإسلامي والعربي، الصمت الذي قد يساء فهمه؛ نظراً إلى
أهمية القضية بجانب واجب الدعاة في كل مكان تجاهها.
نحن نعتبر هذه الأحداث قضية إسلامية تهم المسلمين في كل مكان، وإن
كانت تحدث في بعض أجزاء بلد في أقصى بلاد أفريقيا. إنها أحداث تحمل في
طياتها أملاً كبيراً للقضية الإسلامية. ولا نريد من هذا أن يستنتج القارئ من كلامي
أن هذا التحرك جاء كمرحلة أخيرة وفقاً لمنهج حركي محكم دقيق. بل نحن نعتبرها
كالنقاط الأولى للانطلاقة الكبرى نحو إحداث التغيرات الجذرية التي تمهد للعودة
الحقيقية إلى النظام الإسلامي الأصيل كما كانت تسير عليه هذه البلاد لعدة قرون
قبل أن يدوسها المستعمر..
فعلى هذا؛ فالمرحلة خطيرة جداً؛ إذ هي قابلة لتقلبات محيرة. وفضلاً عن
بعض الأخطاء المنهجية والفكرية وغير ذلك في الهيكل العام لهذا التحرك، وهذا
عندنا إنما يؤكد على ضرورة اعتناء الدعاة بالقضية، ولكي لا يعطى الأعداء
الفرصة لمواراتها قبل أن تنفصم.
وهذه المقالة تهدف إلى إلقاء بعض الأضواء على قضية تطبيق الشريعة
الإسلامية في نيجيريا ليتسنى لقراء مجلة البيان الأعزاء الإطلاع على حقائق الأمور
وليتيسر لهم إفادتنا بالنصح والتوجيه والدعاء لنا بالثبات والتوفيق.
* نيجيريا وأهميتها في أفريقيا:
نيجيريا دولة كبيرة تقع في غرب أفريقيا، وهي من حيث عدد السكان أكبر
دولة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ إذ يزيد عدد سكانها على مائة مليون،
والمسلمون يمتازون بأغلبية لا يقل عددهم عن 70% بينما يكوِّن النصارى
والوثنيون 30%.
ونيجيريا دولة بترولية ولها ثروات معدنية وأرض زراعية واسعة. وكل هذا
جعلها هدفاً لأطماع الدول الغربية كما أصبحت لها مكانة عظمى واعتبار كبير من
بين الدول الأفريقية؛ فكلمتها مسموعة في كل شأن يهم أفريقيا سواء الأمور
السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو غير ذلك.
ومن يتابع اللعبة السياسية التي تديرها أمريكا في أفريقيا لصالحها يدرك
بسهولة كيف تستغل هذا الموقع الاستراتيجي لنيجيريا.
* الإسلام في نيجيريا:
يرجع تاريخ دخول الإسلام في هذه المنطقة إلى عدة قرون؛ فمنذ أن دخلها
الإسلام في القرن الخامس الهجري أخذ في التقدم والازدهار حتى أصبح هو دين
الدولة. قامت حركة جهادية بقيادة الشيخ عثمان بن فودي وتحمس لها الناس من
قبائل مختلفة حتى أقيمت دولة على أساس الإسلام. عين الأمراء والقضاة في جميع
الإمارات، وهي اثنتا عشرة إمارة المكونة للدولة. ونفذت الأحكام الشرعية في كل
جوانبها.
أسست الدواوين وجمعت الزكوات ووزعت على أهلها كما أمر الشرع،
وبنيت المساجد والمدارس الإسلامية، ونشر العلم وأكرم أصحابه، ونظمت
الأسواق وعين لها رؤساء وولاة للحسبة، وروعي العدل في جميع تصرفات الدولة
حتى ساد الأمن وكثرت الأرزاق.
صارت المنطقة تجذب إليها العلماء والتجار من شمال أفريقيا ومن مناطق
إسلامية أخرى. وقامت كذلك دولة في برنو على قواعد من الإسلام. ولم يكتب
لهذه المنطقة أن تستمر على هذا الخير؛ إذ بدت بعض ملامح الانحراف لدى بعض
أمرائها. دخل الضعف والهوان في جسم الدولة، وفي بداية القرن العشرين
وبالتحديد في عام 1903م وقعت تحت سلطة الاستعمار البريطاني [2] .
* الأوضاع القانونية بعد الاستقلال:
غادر الإنجليز ساحة البلاد عام 1960م وتركوا ميراثاً إنما هو خليط من
أهوائهم، وقوانينهم؛ مما ليس بقانون إنجليزي بأكمله، وما هو بشريعة الله،
ولذلك لم ترض به الأغلبية المسلمة.
عملوا على حصر دائرة تنفيذ الشريعة في حدود ما أسموه بالأحوال
الشخصية، وألغوا الأحكام الجنائية الشرعية وبدلوها بما يوافق «العدل المطلق
والإنسانية» بزعمهم. ومع ذلك لم يتجرؤوا على اتخاذ هذا القرار إلا بعد مدة
طويلة من كيد وخديعة وعملية غسل المخ انتهاءً إلى التهديد والإجبار. ولما هاجت
أمواج روح الاستقلال وكان لا بد من أن يتخلى الإنجليز عن الساحة، رأوا من
الضروري أن يتخذوا القرارات النهائية لتعويق تنفيذ الشريعة الإسلامية على
وجهها الصحيح الكامل. ولما كان إلغاء الشريعة كلياً أمراً غير ممكن، تحيلوا
في إدخال بعض إصلاحات زعموا أنها تمكن المقاطعة الشمالية من المسايرة مع بقية
العالم، فكونت لجنة لوضع القانون أعضاؤها ما بين رجل مسلم تخرج في مدارس
بريطانيا كرئيس اللجنة أبو رنة من السودان، والقاضي شريف من باكستان،
ورجل نصراني مثل مستير أثيموجو. فماذا عسى أن تكون نتائج هذه اللجنة؟!
انتهت اللجنة إلى تقرير القانون الجنائي الذي وضعه الإنجليز لمسلمي الهند
من سنة 1862م والذي فرض بعد ذلك على السودان في سنة 1899م كما ذكره
البروفسير حارس سفيان في بحثه حول أصل القانون الجنائي في نيجيريا [3] .
قوبل هذا القانون برفض؛ ولكن الحكومة الجديدة في شمال نيجيريا تحت
رئاسة الحاج أحمد بيلو، لم يكن لها مخرج أمام مضايقات حكومة بريطانيا. وفعلاً
اعترف الحاج أحمد بيلو بأن قبول هذا القانون من الشروط التي وضعتها الدول
الغربية للتعامل معها والحصول على الدعم المالي اللازم الذي تحتاج إليه المقاطعة
الشمالية.
وأما المسلمون في المقاطعة الجنوبية وهم كثيرون وخاصة بين قبيلة اليوربا،
فلم يحصلوا حتى على هذا القليل.
وكان عدد من علماء لاجوس في سنة 1894م طلبوا السماح من الحكومة
لإنشاء المحاكم الشرعية حتى في تلك الدائرة الضيقة، ولكن رفضت السلطة
المستعمرة آنذاك، ولا يزال الوضع في الجنوب على ما كان عليه في عهد
الاستعمار؛ غير أن التحرك الجديد في الشمال قد أثار كوامن الإيمان في كثير من
مسلمي الجنوب وهم يطالبون بتحكيم الشريعة بينهم كما في الشمال.
ولما جزئت المقاطعة الشمالية إلى عدة ولايات في سنة 1976م احتيج إلى
بعض التعديلات الإدارية للمحاكم الشرعية.
كانت هناك محكمة شرعية استئنافية واحدة فقط في كادونا لجميع المقاطعة
الشمالية: فصارت بعد ذلك لكل ولاية محكمة شرعية استئنافية.
أما المحاكم الإنجليزية فكان لها محاكم استئنافية على المستوى الوطني
Federal Court of Appeal. ومطابقة لهذا الترتيب الإداري طالب المسلمون
بإيجاد محكمة شرعية استئنافية كذلك على المستوى الوطنيFederal Shariah Court of Appeal وكان هذا الطلب متعلقاً فقط بالترتيب الإداري لا كُنْه الشريعة.
وفعلاً وافقت الحكومة إبان حكم الجنرال مرتضى محمد على هذا الطلب، ولكن لما
قتل وتولى الرئاسة آنذاك الرئيس الحالي أوباسنجو تراجع عن هذا القرار.
وعندما أنشأت الحكومة المجلس الدستوري لمراجعة دستور الدولة في سنة
1977م - 1978م استعداداً للانتخابات الديمقراطية، دارت مناقشات حارة بين
طرفي الممثلين المسلمين والممثلين النصارى حول هذه القضية. ارتفعت الأصوات
وضربت المقاعد، وأثارت الصحف الغبار، وهدد النصارى بالحرب الأهلية
وتمزيق البلد وإحراقه ... إلى أن وصلوا إلى مطلبهم. اتخذت الحكومة «حلاً
وسطاً» وهو أن يكون هناك مكتب غير دائم في المحكمة الاستئنافية الفيدرالية
يتولى الاستئناف الذي يرفع من المحاكم الشرعية الاستئنافية من الولايات الشمالية.
فعند سماع الاستئناف تتكون لجنة من ثلاثة قضاة على أن يكون واحد منهم عالماً
بالشريعة الإسلامية.
والخطر الفاحش في هذا النظام هو إمكانية أن يكون الباقون أو واحد منهم
غير عالم بالشريعة، بل وربما قد لا يكون مسلماً.
ومن أجل هذا فلم يزل المسلمون يطالبون بتعديل هذا النظام في كل مرة يطرأ
النقاش حول تعديل الدستور.
وفي سنة 1999م عدل دستور الدولة ولكن لم يتغير جذرياً عن دستور
1979م، وشاء الله أن يكون هناك منفذ أو خلل في الدستور يمكن استغلاله
لتوسعة دائرة أعمال الشريعة.
ففي أساسه: إن قانون الدولة يعترف بالشريعة الإسلامية في حدود الأحوال
الشخصية. والدستور نفسه يعترف بحق المواطنين في التدين بالدين الذي يعتقدونه
من غير أن يتعرضوا لأي مانع كما في المادة 36، وزيادة على ذلك فإن المادة رقم
(أ) 277 أعطت السلطة لمجلس الولاية في أن يوسع دائرة إعمال الشريعة.
وهذا النص هو الذي استغلته ولاية زمفرا لتوسعة دائرة تنفيذ الأحكام الشرعية
لتشمل الحدود. وأصبحت الحكومة المركزية (الفيدرالية) في حيرة من أمرها؛ إذ
لا تستطيع أن تجادل في هذا التفسير في المحكمة العليا؛ إذ الظاهر أنه التفسير
الصحيح لنص القانون.
ولمزيد من الإيضاح فإن الحكومة في نيجيريا على ثلاث مراتب: أولاً:
الحكومة المركزية (الفيدرالية) ، وثانياً: حكومة الولاية وهناك ست وثلاثون
ولاية، وثالثاً: الحكومة المحلية، وهناك سبعمائة وأربع وسبعون حكومة محلية،
وقد فصل الدستور لكل حكومة صلاحياتها وسلطاتها ودائرة تنفيذها.
* تطبيق الشريعة في ولاية زمفرا:
إن الانطلاق الجديد لتوسعة دائرة تطبيق الشريعة بدأ من ولاية زمفرا. وهي
تقع في الجزء الشمالي من نيجيريا. والمسلمون يشكلون أكثر من 99% من أهل
الولاية. وهي محاطة بولايات كلها أغلبية مسلمة.
وكأن التاريخ يعيد نفسه في المنطقة؛ حيث كانت زمفرا هي القاعدة الأولى
التي انطلق منها الشيخ المجدد عثمان بن فودي قبل مائتي سنة.
وهي كذلك مولد الشيخ أبي بكر جومي - رحمه الله - أبرز علماء نيجيريا في
العصر الحديث والحائز على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام.
وولاية زمفرا تمتد على أرض واسعة وخصبة، ولذلك فإن أكثر أهلها يعتنون
بالزراعة. وفيها عدة معادن مكنوزة تحت أرضها منع من استغلالها قلة الإمكانيات
الاستثمارية.
* الحاج أحمد ثاني: الرجل والفكرة:
الحاج أحمد ثاني حاكم ولاية زمفرا شاب مسلم في حدود اثنين وأربعين عاماً
من عمره، تخرج في جامعة بايرو - كانو - متخصصاً في علوم الاقتصاد. تولى
عدة وظائف في الدوائر الحكومية، ثم ركب مطية السياسة الصعبة وخاض بحارها
المتموجة. وكان له هدف أسمى وراء ذلك، فكتب الله له الفوز على رغم أنف
المنافسين له فأصبح هو الحاكم المنتخب.
لم يكن الرجل ممن اشتهر من الدعاة، ولم يكن ممن يذكر في الصف الأول
من رجال الحركة الإسلامية، ولكن هذا لا يقدح في صدق نيته، ولا يمنع من أن
يسانده الدعاة لكي يصل إلى هذا الهدف الذي كنا نسعى إليه. والذين عرفوه من
رجال الدعوة عن قرب قبل خوضه في السياسة تلمسوا فيه الخير لما لاحظوا من
غيرته وحماسته الدينية واهتمامه بأمور المجتمع المسلم. ولكن لقلة باعه في العلوم
الشرعية فهو بحاجة إلى أن يقف بجانبه دعاة مخلصون يبصرونه بما يجب القيام به.
* إعلان التطبيق:
أعلن الحاكم أحمد ثاني بمجرد توليه رئاسة الحكومة أن حكومته ستنتهج
السياسة الشرعية بقدر ما يسمح به دستور الدولة؛ ولذلك فإنه يعزم على إعادة
تطبيق الشريعة الإسلامية على وجهها الكامل تدريجياً، وأكد أنه إنما يفعل ذلك تلبية
لرغبات مواطني الولاية، وأنه من واجب الحكومة الديمقراطية أن تلبي رغبات
الشعب.
ولأول الوهلة لم يُلق أكثر الناس لكلامه بالاً حتى بدأ سيره الحثيث نحو تنفيذ
قوله. ومن هناك حاولت الحكومة الفيدرالية التدخل لمنع هذا الاتجاه، وهددت
الحاكم بفرض حالة الطوارئ في الولاية وإرسال الجنود ليتبروا ما علوا تتبيراً.
ولكن الرجل منّ الله عليه بالثبات فلم يتزعزع ومضى إلى أمره بأقدام ثابتة.
ولحكمة سياسية عجيبة دعا الحاكم إلى حفل للإعلان الرسمي أو التقديم لبدء
تطبيق الشريعة؛ وذلك يوم السابع والعشرين من شهر أكتوبر 1999م.
شهد الحفلَ جمع غفير من المسلمين من كل ولايات نيجيريا ومن الدول
المجاورة مثل النيجر والكاميرون وتشاد، وكان اجتماعاً لم يُرَ له مثيل في نيجيريا؛
إذ حضره ما يقرب من مليونين من البشر رجالاً وركباناً.
وكان لهذا الاجتماع وقع طيب. أدركت الحكومة الفيدرالية أن أحمد ثاني ليس
وحده، وأن الأمة بأكملها متحمسة معه في تطبيق الشريعة. ومن الحكمة أن لا تقف
الحكومة مباشرة بالقوة للحيلولة بين الشعب المسلم وهذا الأمل؛ ومن ثم انتهجت
الحكومة أساليب أخرى ظاهرة وباطنة ولكنها لم تُجْدِ شيئاً. ومثال ذلك الإعلان
الذي أصدره نائب رئيس الدولة بأنه قد تم الاتفاق بين الحكومة الفيدرالية وحكام
الولايات بضرورة إيقاف هذا التوجه الجديد لتطبيق الشريعة، وأنهم جميعاً وافقوا
على الرجوع إلى تلك القوانين الموروثة من الإنجليز، فتبقى الأمور كما كانت من
قبل، وقوبل هذا الإعلان بين الجمهور الإسلامي بالرفض والنكير، وكادت الأمور
تفلت من قبضة الحكومة. ومما قوى الموقف الإسلامي أن شخصيتين إسلاميتين
ممن حكموا البلاد سابقاً وهما الحاج شيخو علي شاجاري (1979 - 1983م)
والجنرال محمد بخاري (1983م - 1985م) أنكرا وجود هذه الاتفاقية المزعومة.
فصار كلام نائب رئيس الدولة بعد ذلك كالرسم على الماء واستمر سير الشريعة
بأقدام ثابتة.
* الولايات الأخرى وأثر ولاية زمفرا:
صار للنهج الذي اتخذته ولاية زمفرا دوي في الآفاق، وقامت الجماهير
المسلمة تطالب بتطبيق الشريعة على المدى الأوسع؛ فكان الحديث عن تطبيق
الشريعة هو الموضوع الحي والقضية الساخنة.
فأصبحت منابر الجمعة وقاعات المحاضرات وساحات الاجتماعات كلها
مسخرة لتأييد قضية الشريعة. ومطالبة الحكام ومجالس الولايات باقتفاء أثر زمفرا.
وفي بعض الولايات أقيمت مظاهرات سلمية، ولجأ الناس إلى الأدعية والقنوت لكي
يلبي الحكام الطلب بتطبيق الشريعة.
تضايق بعض هؤلاء الحكام حتى صار يتهرب من حضور الاجتماعات
والحفلات الرسمية المفتوحة؛ لأن الناس يقابلونهم بهذا الطلب وجهاً لوجه. وفي
آخر المطاف كان لا بد من الاستجابة لرغبات الشعب.
فتتابعت الولايات واحدة بعد أخرى إلى أن وصل عدد الولايات التي وافقت
على تطبيق الشريعة حتى الآن إحدى عشرة ولاية غير ولاية زمفرا التي سبقت
البقية.
والولايات التي أعلنت نيتها تطبيق الشريعة هي:
1 - ولاية زمفرا.
2 - ولاية نيجر.
3 - ولاية سكتو.
4 - ولاية كنو.
5 - ولاية كاتسنا.
6 - ولاية كيبي.
7 - ولاية جيقاوا.
8 - ولاية بوتشي.
9 - ولاية برنو.
10 - ولاية يوبي.
11 - ولاية كادونا.
12 - ولاية جومبي.
* واقع تطبيق الشريعة في الولايات النيجيرية:
تختلف الولايات في مدى جديتها في تطبيق الشريعة الإسلامية؛ والكثير من
حكام الولايات لم يترجموا إعلانهم إلى التطبيق العملي الجاد.
ولذلك فإعلانهم يشبه ما عهدناه في كثير من الدول الإسلامية حيث يُنَصُّ في
الدستور أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للدستور والواقع يكذب ذلك.
وأكثر حكام الولايات سيقوا للموافقة على تطبيق الشريعة وهم في الحقيقة غير
راضين، بل قد يكون بعضهم كارهين لها؛ لكن لم يكن لهم بد من الاستجابة لرغبة
الشعب فوقعوا على الأوراق وأعلنوا الموافقة وأجريت التعديلات اللازمة في
القوانين وأسست الهيئات واللجان المشرفة على التطبيق، ومع ذلك لم يزل بعض
هؤلاء الحكام يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى.
ويستثنى من ذلك حاكم ولاية زمفرا أحمد الثاني الذي فاق الأقران بأسبقيته
وتطبيقه الجاد للشريعة. ويعقبه حاكم ولاية نيجر الحاج عبد القادر كوري.
وعلى كل حال فالنظرة الإيجابية تذكرنا بالحكمة العربية: «ما لا يدرك كله
لا يترك جله» فهذه المرحلة التي وصلنا إليها بما فيها من قصور في التطبيق،
فهي أكثر تقدماً وأوكد تمكيناً للشريعة من المرحلة السابقة. ولم تكن الأمة الإسلامية
في نيجيريا أكثر يقظة لحقوقها ولا أحسن وعياً لدينها ولا أعظم تحمساً للدفاع عن
الشريعة الإسلامية من هذا الوقت.
وأعظم تحدٍّ يواجه الدعاة في نيجيريا اليوم هو إبقاء هذه الروح، واستغلال
الفرصة لتوطئة الطريق للدعوة الإسلامية لتصل في مستقبل قريب إلى هدفها
المنشود بإذن الله.
* نجاحات تطبيق الشريعة:
يمكن لنا القول بأن هذا التوجه لتطبيق الشريعة مع ما فيه من ضعف السير
لدى بعض الحكام فإنه قد حقق بعض نجاحات على اختلاف بين جدية الولايات.
ونلخصها بالآتي:
1 - تمت مراجعة القوانين الوضعية في أكثر هذه الولايات، وجعلت في
صياغة تتفق والشريعة الإسلامية.
والفضل الأوفر في هذا يعود لمجهودات المركز الإسلامي الوطني بزاريا
National Islamic Center - Zaria. ومركز القانون الإسلامي بجامعة أحمد بيلو
center For Islamic Legal Studies A.b.u. Zaria فهذان المركزان أول من قام بهذا العمل الشاق نيابة عن حكومة ولاية زمفرا. وبقية الولايات إنما بنت على
هذا الأساس.
2 - بينما كانت الأحكام الشرعية محصورة في الأحوال الشخصية تم الآن
توسعة هذه الدائرة لتشمل الأحكام الجنائية. وقد نفذ هذا فعلاً في ولاية زمفرا حيث
قطعت يد رجل سرق بقرة، وآخر سرق عدداً من الدراجات، وجلدت شابة زنت.
وفي ولاية سكوتو حكم بالرجم على امرأة زنت؛ وهذا الذي لأجله أقيمت
علينا الدنيا ولم تقعد. توالى الضغط على حكومة الولاية وعلى الحكومة الفيدرالية.
ويبدو أن المحكمة الشرعية الاستئنافية Shariah Court Of Appeal في سكوتو راعت هذا الضغط من الدول الغربية فبرأت المرأة. برأتها لا على أنها لم تزن،
ولكن بدعوى أنها زنت قبل إعلان تطبيق الشريعة، وأنها حين اعترفت بالزنا لم
تكن تعرف معنى الزنا - وكلمة الزنا معلومة مشهورة في لغتنا لدى الكل - وأنها
عند الاستئناف تراجعت عن اعترافها بالزنا، ثم بعد ذلك لم تستطع المحكمة
الاستئنافية إلحاق البنت بأحد. ولكنه الاستسلام والانهزام أمام دعاة الكفر
والعصيان. ولم يزل الضغط مستمراً، ففي يوم 4/4/2002م عند زيارته لدولة
نيجيريا وجه رئيس الوزراء الكندي تنديده بحكام الولايات الشمالية لتطبيقهم
للشريعة، وذكَّرهم بأن نيجيريا وقعت على الإعلان الدولي لحقوق الإنسان،
والشريعة في أحكامها الجنائية تخالف ذلك. وكان قبل ذلك قد كتب وزير العدل
النيجيري إلى حكام الولايات يدعي أن تطبيق الشريعة يخالف قانون البلد، ورُدَّ
عليه من عدة جوانب إسلامية بما أفحمه، فبقي قوله أو أمره كلمة ملغاة لا قيمة لها
وهو لا يتجرأ على رفع المسألة إلى أية محكمة. ونقلت الصحف الردود المتعددة على
هذا القول الساقط من وزير العدل، ومن ذلك رد أحمد الثاني حاكم زمفرا، وعبد
القادر كوري حاكم ولاية نيجر. وكذلك رد عبد القادر أوريري الأمين العام لجماعة
نصر الإسلام، وردود أخرى كثيرة.
3 - ومن نجاحات هذا التطبيق ما حققته تلك الولايات من القيام بالإصلاحات
في الدائرة القضائية، فلم يسمح بالاستمرار في القضاء إلا لمن علم كفاءته.
وزيد في رواتب القضاة، وحرمت الرشوة، وأجريت إصلاحات على مباني
المحاكم الشرعية. وفي الحقيقة قد واجهت حكومات الولايات عدة مشاكل خصوصاً
فيما يتعلق برواتب القضاة؛ فبنص الدستور أن رواتب الدائرة القضائية كلها تأتي
مباشرة من الحكومة الفيدرالية. وكثيراً ما تتأخر الرواتب أو تأتي منجَّمة غير
مكتملة. فالولايات الجادة مثل زمفرا تعطي القضاة بعض المكافآت مما يسد
حوائجهم بغض النظر عن الرواتب الأصلية التي تأتي من الحكومة الفيدرالية.
والمخرج الأحسن من هذا كله إنما يتحقق إذا أصررنا على تعديل دستور الدولة
لإرجاع حق رواتب القضاة إلى الولايات بدلاً من الحكومة المركزية.
4 - ومن أعظم نتائج هذا التوجه لتطبيق الشريعة، بل قد نقول أعظم النتائج
تحقيق عدم كون نيجيريا دولة علمانية، وقد اعترف رئيس الدولة النصراني بذلك،
فأكد بأن نيجيريا ليست دولة علمانية لا علاقة لها بالدين، وإنما هي دولة ذات أديان
متعددة. فهذا الاعتراف بهذا يوجب الاعتراف بحق المسلمين في تطبيق الشريعة،
ونحن نقول: إن هذا الاعتراف والتطبيق لا يعني أن نيجيريا أصبحت دولة
إسلامية، وعلى هذا فتطبيق الشريعة في الولايات لا يخالف دستور الدولة الذي
يحذر من تبني دين من الأديان كدين للدولة، ونحن نأخذ بهذا التفسير ونسير معه
حسب الظروف إلى أن تصل هذه الدعوة الإسلامية إلى كل أجزاء هذه الدولة كما
كان يطمح إليه قادتنا السالفون.
5 - تأسيس وزارات للشؤون الدينية كما في ولاية زمفرا، وهيئة شؤون
الشريعة الإسلامية كما في ولايات بوشي وكاتسنا ونيجر. ولم تكن من قبل وزارة
أو هيئة مختصة بالشؤون الدينية والشرعية في أية ولاية.
6 - تأسيس هيئات ولجان لجمع وتوزيع الزكاة والإشراف على الأوقاف.
وهذا يكاد يكون حاصلاً في جميع الولايات التي تطبق الشريعة. وقد سجلت بعض
هذه اللجان نتائج طيبة في تنشئة روح التكافل الاجتماعي الإسلامي وخفض مستوى
الفقر. ولكن العقبات لا تزال كثيرة دون الوصول إلى الغاية المطلوبة.
7 - إنشاء المدارس والمراكز الإسلامية والاعتناء بإصلاح المناهج الدراسية
لتوافق روح الشريعة. ولولايتي زمفرا وسكوتو جهودٌ مشكورة في هذا النحو.
8 - منع المنكرات من شرب الخمر وبيوت الدعارة والمقامرة وإغلاق بيوت
السينما، والمعاقبة على مخالفة هذه المحظورات.
ومن الجدير بالذكر أنه مما لوحظ بيناً أن حالات الإجرام انخفضت خصوصاً
في ولاية زمفرا. ومما نقلت الصحف أن امرأة نصرانية في ولاية زمفرا شكرت
للشريعة؛ لأن زوجها الآن يرجع إلى البيت في أول الليل خلافاً لما كان يصنع
سابقاً من قضاء أكثر الليل في حانوت الخمر، وذكرت المرأة كذلك أن أهل البيت
يحصلون على قدر أكبر من المؤونة؛ لأن الزوج لا يجد الخمر حتى يصرف ماله
فيها.
9 - منع الاختلاط بين الرجال والنساء في المواصلات. والاختلاط من
الظواهر السيئة المنتشرة في الأسواق والأماكن العامة، وواجهت حكومة ولاية
زمفرا هذه المشكلة بشراء حافلات وسيارات أجرة (تاكسي) خاصة بالنساء.
ومنعت الحكومة حمل النساء على الدراجات النارية، ولم يزل بعض المبطلين
يسعون لتعطيل هذه الإجراءات الحميدة. وفي ولايتي كانو وكاتسينا أيضاً خصصت
سيارات لنقل النساء، ولكن عددها دون الكفاية. والمسألة تحتاج إلى مشاركة من
قبل الأثرياء المسلمين، كما أنها تحتاج إلى توعية عامة.
10 - وفي الجانب الاقتصادي تحققت بعض الإنجازات مثل تعيين الموازين
والمكاييل اللازمة، وقد تعود التجار على استعمال موازين غير شرعية وتطفيف
المكيال وتصرفات أخرى فيها الغش. ومحاولة الإصلاح في هذا الجانب قائمة في
أكثر هذه الولايات على درجات متفاوتة. وهناك محاولات ضعيفة في مواجهة
التعامل الربوي وإيجاد البنك الإسلامي. وقد كانت الفرصة صالحة من عدة سنوات
سابقة لتأسيس البنك الإسلامي لسماح البنك المركزي بتأسيس بنك غير ربوي.
والفرصة لم تزل قائمة، ويبقى التحدي أمام الولايات التي تطبق الشريعة في أن
تهبّ نحو هذا الواجب، وعسى أن يستجيب لهذا النداء بعض الغيورين من أغنياء
هذا البلد ومن العالم الإسلامي عموماً.
11 - ومن حسنات هذه اليقظة والتحرك لتطبيق الشريعة أن الأمة استطاعت
أن تتغافل عن الاختلافات التي تمزق شملها وتنطلق للدفاع عن الشريعة بصوت
رجل واحد إلا من شذ من الطوائف المنحرفة كالشيعة والأحمدية وهما الفرقتان
اللتان قامتا ضد هذا التوجه نحو تطبيق الشريعة. وأما التجانية والقادرية فقد وقف
أكثر علمائهم مع علماء السنة في هذا المسلك، وحصل بينهم نوع من التفاهم.
وقامت تجمعات وهيئات لمواجهة تحديات النصارى والدفاع عن الشريعة،
ويتكون أعضاؤها من أهل السنة ومن المتصوفة ولا يعني هذا التنازل عن المبدأ
والمنهج أو عدم إنكار بدع المبتدعين. ومن الهيئات التي تدافع عن الشريعة
المجلس الأعلى للشريعة تحت رئاسة د. إبراهيم دتي أحمد، والمجلس الوطني
للدفاع عن الشريعة ونشرها تحت رئاسة الأستاذ علي تكر تكر.
فالشرطة مثلاً لا تخدم مصلحة الشريعة، ولا تتابع المخالفات الشرعية بجد،
ولا تأبه بالقبض على المخالفين للمحظورات الشرعية. وذلك لكون الشرطة تحت
رقابة الحكومة الفيدرالية في تعيين رجالها ودفع رواتبهم. والشرطة كذلك تتكون من
مسلمين ونصارى كلهم تربوا تربية موحدة؛ ولذلك لا يرجى منهم أن يتحمسوا
لنجاح الشريعة.
وقد حاولت بعض الولايات التي تطبق الشريعة الخروج من هذه الورطة
بتأسيس هيئة الحسبة كما في ولاية كانو وولاية بوشي. ومن وظيفة هذه الهيئة
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلح بين الناس، والقيام بأعمال
الإغاثة، ومراقبة المخالفين للأحكام الشرعية ومحاكمتهم أمام القاضي.
وفي ولاية زمفرا أسست هيئة مكونة من ممثلي الجمعيات الإسلامية تقوم بواجب
الحسبة. والحكومة الفيدرالية تنظر إلى هيئة الحسبة بعين من الشبهة وعدم الرضى.
ومما زاد الطين بلة أن بعض القضاة أنفسهم لا يستحسنون الرجوع إلى
التطبيق الجاد للشريعة لأمور شخصية. وسبحان الله لكأن الأمر كما قال العلامة ابن
القيم في لاميته:
أو ما سمعت بأن ثلثيهم غدا ... في النار في ذاك الزمان الخالي
وزماننا هذا فربك عالم ... هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي
* المشاكل والعقبات التي تواجه تطبيق الشريعة:
نذكر على وجه موجز أهم المشاكل والعقبات التي تواجه تطبيق الشريعة في
الولايات الشمالية النيجيرية.
1 - مشكلة التنفيذ: إما لعدم جدية بعض هؤلاء الحكام، أو لعدم وجود
الكفاءات اللازمة من القضاة والشرطة، أو لسبب الضغط الخارجي.
2 - مشكلة الدستور: فالدستور لكونه من وضع البشر فهو دائماً قابل
للتغيير، وهناك محاولة الآن لتغيير الدستور بدعوى أنه وضع في العهد العسكري.
وهناك مكيدة غير خفية لتعديل تلك المواد التي اعترفت بالشريعة وإبدالها بمواد
تحصر دائرة تطبيق الشريعة. وهناك جمعيات غير حكومية ممولة من الخارج
تسعى إلى إدخال مواد في الدستور تفرض المساواة بين الرجال والنساء في كل
شيء حتى الميراث وحق الطلاق ومنع الزواج المبكر.
ومن أهم هذه الجمعيات ما تسمى بمنتدى الشعب للإصلاح الدستوري.
Citizen Forum For Constitutional Reform (C.f.c.r) . وهناك جمعيات نسائية كثيرة تنحو هذا المنحى مثل جمعية women In Nigeria (Win) وnational Council For Women Societies (Ncws) وغيرهما.
3- عدم الوعي التام بمدلول الشريعة: لم يفهم كثير من الناس حتى من
المؤيدين لتطبيق الشريعة أنها تعني أكثر من إقامة الحدود، فحصروا مدلول
الشريعة في دائرة ضيقة. وهذا الفهم الخاطئ فتح باباً لأخطاء منهجية وتطبيقية في
بعض الولايات، وحدثت تشويشات وفوضوية من قبل بعض الشباب المتحمسين
مما أساء إلى سمعة الشريعة. وتبنت الصحف وأجهزة الإعلام هذا الفهم الخاطئ
عمداً فيما يظهر لتقبيح صورة الشريعة ولإظهار السخرية بها ولكل ما يدعو إليه
الإسلام.
4- موقف الحكومة الفيدرالية السلبي: إن الحكومة تعادي الشريعة ولكنها
في حيرة من أمرها في أسلوب المحاربة. وتعتبر القضية قنبلة في وجه الدولة إذا
أسيء تناولها فإنها تنفجر، ومن ثم تمزق وحدة نيجيريا. قال المسؤولون في
الحكومة الفيدرالية إن مسألة الشريعة ألعوبة سياسية دبرتها القبائل المسلمة. وزعم
رئيس الدولة النصراني أن هذه انتفاخة جوفاء سرعان ما تتلاشى. استمرت
الشريعة في التقدم فقالوا تسلية؛ لا بأس؛ إن الشريعة الإسلامية موجودة في أصلها
في دستور الدولة كما صرح بذلك حينذاك وزير العدل النصراني كانوأ غابي. وقد
اعترف كذلك وزير العدل الهالك والحاقد على الإسلام والمسلمين ميستر بولا أيجي،
بأن الشريعة لم تخرج قط عن حدود القانون. وقد حاولوا استعمال ألسنة بعض
المسؤولين المسلمين داخل الحكومة، ولكن انقلب الأمر عليهم. وقد قال نائب
رئيس الدولة في حفلة ليلية في أحد كازينوهات لاجوس، قال: «إن الشريعة
مسألة شخصية يختارها الإنسان إن شاء، وأنا اخترت أن لا أنساق للشريعة» .
على حد قوله.
وهذا قول خطير جداً نقلته عنه الصحف النيجيرية، ولم نسمع منه تكذيباً
لذلك أو رجعة عن القول. ومثل هذا قول أحد كبار أعضاء الحزب الحاكم وله تطلع
إلى رئاسة الدولة، قال: «أنا مسلم أصلي وأصوم، وقد حججت عدة مرات.
والشريعة أمر شخصي، وقد أحضر حفلات في الكنيسة ولا أرى بذلك بأساً» ولما
أكثر الدعاة عليه الإنكار كما أنكروا على نائب الرئيس حاول الرجوع عن هذا القول
بكلمات ركيكة عفا الله عنه. ولكن المشكلة هي الفكر العلماني الذي أخذ بلبهم.
5 - العداء النصراني: وقد قابل النصارى هذا التوجه بإنكار شديد، وأثاروا
المشاجرات والفتن بين النصارى والمسلمين في محاولة لمنع الشريعة. ففي شهر
فبراير سنة 2000م هجم النصارى على المسلمين في كادونا بقتل وتخريب، ودافع
المسلمون عن أنفسهم بروح جهادية. وتابع النصارى تصرفاتهم العدائية، فقتلوا
المسلمين كذلك في تفاوبليوا في ولاية بوشي. احتجاجاً على تطبيق الشريعة في تلك
الولاية، وهجموا على المسلمين في جوس في وقت صلاة الجمعة، وأحرقوا السوق
الكبير في جوس وهو سوق يسيطر عليه التجار المسلمون.
وقد حاول المسلمون إقناع النصارى بأن الشريعة الإسلامية خاصة بالمسلمين
ولا علاقة لها بالنصارى، وأنهم لا يُلزَمون بالشريعة في صغير أو كبير.
وكلما زاد هذا البيان زاد العناد؛ ففي شهر فبراير سنة 2000م نظمت جماعة
نصر الإسلام دورة وطنية وكان من أهدافها:
- توعية الشعب حول مفهوم الشريعة الإسلامية.
- إقناع غير المسلمين بأن الشريعة لا تتعدى على حقوقهم ولا تمسهم في شيء.
- الوقوف على العقبات التي تواجه تطبيق الشريعة.
- إثبات كون الشريعة حقاً دستورياً للمسلمين.
- تعيين أحسن طرق سلمية لتطبيق الشريعة في مجتمع ذي أديان متعددة مثل
نيجيريا.
ودُعِيَ للمشاركة في هذه الدورة بعض قادة النصارى مثل القسيس بيتر باونا
ورئيس القساوسة أكبيشوب جون أونيكان.
وكان مما قال رئيس القساوسة هذا أمام جمهور من المسلمين وقادتهم: إن
النصارى يعادون الشريعة لا لأنهم يجهلون الشريعة ولكنهم يدركون تماماً ما تعنيه
الشريعة. وقال كذلك إنه من الغرور الذي لا ينفع أن يحسب أحد أن النصارى
سيرضون بتطبيق الشريعة بعد تقديم البيانات الكثيرة لهم [4] .
فالرجل صريح في تبيين عداوته للشريعة وهي عداوة لا يخمد نارها الموعظة
الحسنة ولا الترغيب [وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] (يس:
10) ، [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة:
120) .
6 - أقلام مستأجرة: وقفت الصحف النيجيرية من الشريعة موقف العداء،
وهذا ليس بعجيب؛ فجميع تلك الصحف بأيدي الكفار إلا الشذر النادر وهي اثنتان
أو ثلاث من بين عشرات من الصحف. وحتى تلك التي يمتلكها المسلمون
مثل daily Trust فقد اختارت موقف المحايد كما ذكر الأخ إبراهيم آدو كوراوا
في كتابه حول موقف أجهزة الإعلام من الشريعة. shariah And The Press In Nigeria (2000) ويردد أصحاب زوايا الصحف في نيجيريا ما يكتبه أولياؤهم
في الغرب، ولا يتحاشون الكذب والتلفيق وتشويه الحقائق وإثارة العواطف.
وممن خدموا هذا الموقف العدائي بعض الكتاب الذين يدَّعون الإسلام ولكنهم
يثيرون الشكوك حول صلاحية تطبيق الشريعة، ويحرفون الكلم عن مواضعه
ويفلسفون قول الله تعالى، ويستهزئون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويتبعون غير سبيل المؤمنين. ومن أشهر هؤلاء رجل يسمى: «لاميطو سنوسي»
وقف موقف العداء للشريعة وهو بلباقة ساقطة يظهر أنه محب للشريعة. فمقالاته
كلها تنظر إلى الشريعة بالنظرة السلبية ولم يرَ لأحمد الثاني حاكم زمفرا خيراً قط.
وهو يفسر الشريعة تفسيراً مادياً، ويحكم عليها بالظلم على الطبقات الأدنى للشعب،
وأنها تظلم المرأة؛ لأن أكثر من يفسرون الشريعة من الرجال. وادعى الاجتهاد
وهو على مستوى عال من الجهل بالشريعة. ومن أقبح ما كتب مقالته: «مذكرة
الزانية» Adultress Diary كتبها مدافعاً عن زانية حكم عليها بالرجم، واعتبر الرجم من متخلفات العصر البالي. وأتى بكلمات يستحى من ذكرها. وهو من
مكتبه في البنك قد سخر قلمه لمحاربة الشريعة ومن يسميهم بالمتطرفين
الإسلاميين.
وليس القصد هنا الرد على مقالاته؛ إذ إن جملة من الإخوة مثل الأخ أحمد
جومي والأخ بشير علي عمر والأخ إبراهيم أدو وغيرهم كثير قد كفونا المؤونة في
دحض أقواله ومفترياته وتطاوله على قول الله.
وتقف بجانب مثل هؤلاء الكتاب منظمات غير حكومية تدعي المحافظة على
حقوق الإنسان، وعدة منظمات أخرى ممولة من الدول الغربية.
* انتخابات 2003م ومستقبل الشريعة:
في السنة القادمة 2003م ستدخل نيجيريا في انتخابات لجميع المستويات
الحكومية. وقد بدأ الجو السياسي يرتفع حرارة استعداداً لتناطح المتنافسين. ومن
المتفق عليه أن موضوع تطبيق الشريعة سيكون أهم ما يُتجاذب في المناقشات
السياسية.
وقد عزم الشعب المسلم على أن لا يعطي صوته إلا لمن تحقق أنه مؤيد
لقضية الشريعة. والحالة تحتاج إلى جهود جبارة من قبل الدعاة في نيجيريا،
وتحتاج إلى تفكير عميق وتخطيط حكيم وعمل متواصل وصبر ودعاء وتوكل على
الله. والله يؤيد بنصره من يشاء. ونسأله سبحانه أن يحقق لنا آمالنا وينصر ديننا.
آمين.
__________
(*) محاضر بقسم الدراسات الإسلامية، جامعة بايرو - كانو، وعضو لجنة تطبيق الشريعة بولاية
بوشي نيجيريا.
(1) انظر عددها الصادر من شهر أغسطس 1994م.
(2) سبق أن كتبنا عن ذلك في مجلة البيان العدد 123 لشهر ذي القعدة 1318هـ ما يغنينا عن الإعادة، ولذلك نود أن نحيل القارئ إلى تلك المقالة وأخرى المكملة لها حول واقع العمل الدعوي في نيجيريا في العدد 137 لشهر المحرم 1420هـ.
(3) انظر ص 160 - 136 من كتاب: (Understanding Shariah In Nigerian) .
(4) انظر: understanding Shariah In Nigeria.(177/92)
المسلمون والعالم
حاخام يهودي يقول:
السبي الأخير لليهود على يدي أبناء إسماعيل
يوسف رشاد [*]
منذ أربعمائة وخمسين عاماً أّلف أحد علماء القبالاه «فرقة يهودية» ويُدعى
(حاييم فيطال) تلميذ ومفسر وشارح أعمال حاخامه الأعظم «هاري المقدس»
مؤلفه التفسيري: «شجرة المعرفة» شارحاً لسفر المزامير، وفي المزمور رقم
124 كتب يقول: شهدت إسرائيل السبي إلى أربع مناطق: إلى بابل بالعراق،
وإلى ماجن (بكسر الجيم والنون) بلد باليمن، وإلى اليونان (البلد المعروف الآن) ،
وإلى سدوم (قرية من قرى قوم لوط، وقيل هي أرض بحلب) . إلا أنها سوف
تشهد سبياً آخر في آخر الزمان، وهو سبي إسماعيل لها.
وإسماعيل هو ابن إبراهيم، وهو مختتن، ولكنه يُلقَّب بالرجل المتوحش [1] ،
لكنه ليس وحشياً صرفاً لأنه يختتن (يقصد أبناء إسماعيل وهم المسلمون) ولولا
عناية الله لهلكت إسرائيل في مناطق النفي الأربعة هذه هلاكاً تاماً.
إلا أن هناك سبياً خامساً وهو آخرها، لكنه سيكون أصعبها وهو سبي
إسماعيل، وسيكون سبيه أشد عنفاً مما سبقه، وستصرخ إسرائيل في عهده صراخاً
عظيماً، وسيسمعهم الرب وسيستجيب لهم [2] ، ولذلك سمي سمع الرب
(إسماعيل) ، وكانت هناك حكومة في سائر الأمم، إلا أن العرب المنتسبين إلى
إسماعيل دائماً كانوا يقيمون في خيام وفي الصحارى، ولم يكن لهم اختلاط بغيرهم
وسيكون إسماعيل رجلاً وحشياً، وسيضع يده على كل شيء وسيصير بعد ذلك ملكاً
على العالم وعلى (إسرائيل) .
* معركتنا مع يهود عقائدية:
يقول حاخام مدينة تافواع بفلسطين: «وهناك الكثيرون يحاولون إغفال
النقطة الدينية في النزاع العربي الإسرائيلي وتجاهلها تماماً، والكثيرون يخافون من
أن يكتشفوا أن هذا النزاع غير قابل للحل لو اعترفوا بالجانب الديني في الحرب
العربية الإسرائيلية التي تشن ضده، لكن هل من الممكن تجاهل الواقع؟ وهل من
الممكن أن نتجاهل وصف المنتحرين وبقية منفذي العمليات التخريبية ضد إسرائيل
لأنفسهم بأنهم شهداء» ، ولأنهم وقفوا عاجزين أمام العمليات الانتحارية يتساءل هذا
الحاخام بخبث يهود المعهود: «فهل من الممكن أن يتحقق السلام بين دين إسرائيل
وبين الدين الإسلامي؟» .
وأرد عليه مسرعاً بأنه لن يتحقق هذا السلام لأنه هو نفسه يعلم ذلك، وما هذه
المقالة التي نشرها في صحيفة هاآرتس إلا لكسب بعض الوقت أو لإعطاء الضوء
لوقف العمليات الاستشهادية عن طريق هذا الخداع بأن يهود يريدون السلام مع
المسلمين وتوراتهم تقول: «ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنه
عن أن تسمع، بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه
عنكم حتى لا يسمع؛ لأن أيديكم قد تنجست بالدم، وأصابعكم بالإثم، شفاهكم
تكلمت بالكذب، ولسانكم يلهث بالشر، ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم
بالحق، يتكلمون على الباطل، ويتكلمون بالكذب، قد حبلوا بتعب، وولدوا إثماً،
فقّسوا بيض أفعى، ونسجوا خيوط العنكبوت، الآكل من بيضهم يموت والتي تكسر
تخرج أفعى، خيوطهم لا تصير ثوباً، ولا يكتسبون بأعمالهم. أعمالهم أعمال إثم،
وفعل الظلم بأيديهم، أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدماء الزكية،
أفكارهم إثم، في طُرقهم اغتصاب وسحق، طريق السلام لم يعرفوه، وليس في
مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجّة، كل من يسير فيها لا يعرف سلاماً»
[3] .
هؤلاء هم يهود، وهذه توراتهم شاهدة على أعمالهم «فهي العدو اللدود
للسامية» [4] ، لذلك لن يتحقق السلام مع يهود؛ لأنهم من أشد أعدائنا كما قال الله
عز وجل لنا: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا]
(المائدة: 82) .
إن المعركة بيننا وبينهم هي معركة عقائدية صرفة، والذي يقول بغير ذلك فقد
جهل حال القوم وحقيقتهم؛ لأن المتتبع لنشأة هذه الدويلة منذ عام 1948م، وإلى
الآن يجد تصريحات زعماء وقادة هذه الدولة اللقيطة مأخوذة من التوراة والتلمود..
فهذا مناحم بيجن يقول في كتابه: «قصة الأراجون» : «من يمت منكم وهو
يحارب العرب فسوف يبقى خالداً في مُخيلة اليهود» .
وهناك شعار يهودي مأخوذ معناه من التوراة والتلمود يقول: «اضرب
فلسطينياً تُرهب ألف عربي، اقتل فلسطينياً يخشك العرب جميعاً، لا يهمك..
اضرب.. اقتل.. لا تهتم» .
إنها شعارات وتصريحات تنم عن حقد وكراهية وعداء لكل ما هو فلسطيني،
ولكل ما هو مسلم.
__________
(*) باحث وكاتب إسلامي.
(1) هكذا أخلاق يهود مع الأنبياء من سب وقدح بل وقتل ومسلسلهم مع أنبياء الله عز وجل معروف وواضح، كما أنهم لا يراعون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
(2) أي للمسلمين.
(3) التوراة، سفر أشعيا (الإصحاح/59) .
(4) راجع كتابنا: «التوراة العدو اللدود للسامية» .(177/101)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
الهوس الأمريكي بالإصلاح الفلسطيني
يصعب علينا أن نفهم أسباب وسر الهوس الأمريكي بإصلاح الشأن الفلسطيني
وإنشاء سلطة ديمقراطية محكومة بمبدأ الشفافية والمحاسبة. السلطة الوطنية فاسدة،
ولا يستطيع أحد أن يجادل بغير ذلك، حتى من قبل أقرب المتحمسين لها،
باستثناء قلة قليلة استفادت من هذا الفساد ووظفته لنهب قوت الفقراء والمعدمين
الذين هم الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني، ولكن لماذا سكتت الولايات
المتحدة على هذا الفساد طوال السنوات الثماني الماضية، ولم تبدأ بالضغط باتجاه
الإصلاح إلا بعد أن تبنى شارون هذا المطلب وجعله شرطاً لاستئناف التعامل مع
القيادة الفلسطينية؟ الإصلاح الذي تريده الولايات المتحدة هو الإصلاح الأمني وبما
يؤدي إلى مكافحة الإرهاب بفاعلية، أي أن المطلوب من أجهزة الأمن الفلسطينية
في ثوبها الإصلاحي الأمريكي الإسرائيلي الجديد أن تنفذ قرارات قمة شرم الشيخ
في قتل الانتفاضة، ووضع حد للمقاومة الفلسطينية، وتوفير الأمن للمستوطنين
الإسرائيليين. وبمعنى آخر أن تتولى السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية إنجاز ما
عجز أرييل شارون عن إنجازه، أي تحقيق الأمن للإسرائيليين والقضاء على ثقافة
العمليات الاستشهادية، ورد الاعتبار لثقافة السلام التي حاول الأمريكان
والأوروبيون زرعها من خلال جماعات كوبنهاغن ومفاوضات أوسلو والمؤتمرات
الاقتصادية الشرق أوسطية.
[صحيفة القدس العربي، العدد (4052) ]
ولن تروا أمناً
بعد أن كانت شركات الحراسة الخاصة في إسرائيل فرعاً تجارياً صغيراً لا
يزيد عدد العاملين فيه على 5000 عامل، تحول بعد الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة
إلى أحد أكبر الفروع التجارية. ويضم اليوم ما لا يقل عن 100 ألف عامل،
ويتزايد هذا العدد يومياً. فعلى الرغم من حالة الاستنفار الأمني المتواصلة تقريباً،
يوماً بعد يوم، والتي ينتشر بموجبها عشرات ألوف من رجال الشرطة وحرس
الحدود والمخابرات في جميع أنحاء البلاد، وخارج المدن وداخلها، وينتشر
عشرات ألوف أخرى من قوات الجيش على طول الحدود بين إسرائيل والضفة
الغربية وقطاع غزة، فإن الحكومة تفرض الحراسة الخاصة المسلحة على جميع
المدارس ورياض الأطفال والجامعات والمعاهد العليا والمطاعم وقاعات الأفراح
والمقاهي ودور العرض والمجمعات التجارية الكبرى وغيرها. ولم يعد
الإسرائيليون يقبلون دخول مطعم أو متجر لا يكون على بابه حارس مسلح،
وارتفعت الأسعار بنسبة 280%، وتختلف الأسعار حسب المناطق؛ ففي حيفا
وبئر السبع، حيث نفذ عدد قليل نسبياً من العمليات الفدائية، يبلغ سعر ساعة
الحراسة حوالي 30 شيكلاً (6.2 دولار) . أما في تل أبيب ونتانيا والقدس
حيث كثرت العمليات، فيصل سعر الساعة إلى 45 و50 شيكلاً (9.2 - 10.2
دولار) .
وقد حاولت العديد من المؤسسات والمتاجر تحميل المواطنين قسطاً من تكاليف
هذه الحراسة.
فالمدارس فرضت 10% على أهالي الأولاد والنوادي فرضت 50% من
السعر على الأهالي، والشواطئ 100%، وفي المطاعم يجبون 3 شيكلات (80
سنتاً أميركياً) عن كل زبون، وبهذا تتحول الحراسة بالنسبة لهم إلى عمل للربح
الإضافي. ولكن ليس كل المطاعم تفعل هذا. وحسب إحصائيات وزارة التجارة
والصناعة، فإن 50% منها تتحمل بنفسها نفقات الحراسة التي تبلغ 15 ألف شيكل
(3300 دولار) في الشهر عن الحارس الواحد. ويشكو الحراس أنفسهم من هذا
الاستغلال حيث إن شركات الحراسة تربح عن كل واحد منهم ضعفي راتبه على
الأقل. ولهذا فإنهم يطالبون وزارة التجارة والصناعة بأن تفرض رقابة أسعار
وتحدد لهم حقوقهم.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد (8580) ]
من يفعل مثل البابا؟!
1 - أعلن الفاتيكان أن الحالة الصحية للبابا يوحنا بولس الثاني ربما تتسبب
فى خفض عدد سفرياته المقررة فى المستقبل. وقالت شبكة (سي. إن. إن) إن
هذا جاء إثر عودة البابا من جولة في كل من أذربيجان وبلغاريا استمرت خمسة
أيام، حيث بدا خلال هذه الرحلة واهناً وغير قادر على السير بدون مساعدة.
وأشارت إلى أن البابا زار أكثر من 140 دولة فى 96 سفرة إلى الخارج وقد شهد
عام 1985م أكثر جولاته حيث زار 16 دولة فى حين جاءت أقل زيارات البابا فى
عام 1984م؛ حيث زار دولة واحدة في آسيا وهو الأمر الذي يعني إجمالاً أن البابا
قطع في سفرياته المسافة بين الأرض والقمر ثلاث مرات.
[جريدة الاتحاد، العدد (9823) ]
2 - يتساءل كثيرون عن الأسباب التي تدفع البابا يوحنا بولس الثاني للقيام
بزيارة بلدين مسلمين يكاد عدد الكاثوليك فيهما لا يذكر رغم وضعه الصحي الصعب،
وعجزه عن المشي، والخوف المستمر على حياته.
فعلى الطائرة التي نقلته إلى أذربيجان كان عدد مرافقي البابا أكثر من عدد
الكاثوليك في أذربيجان ذاتها؛ ففي هذا البلد الذي يزوره بابا من الفاتيكان للمرة
الأولى يبلغ عدد الكاثوليك 120 شخصاً من بين 7 ملايين. وقد علقت صحيفة
«كورييري دو لا سيرا» الإيطالية على ذلك بالقول: إنه كان أرخص لو تم
نقل هؤلاء إلى الفاتيكان بدل أن يقوم البابا بزيارته المرهقة إلى أذربيجان.
غير أن البابا ذهب إلى هذا البلد بعد الاعتراضات التي برزت العام الماضي
بعد زيارته لأرمينيا التي خاضت حرباً مع أذربيجان سنة 1994م حول إقليم
كاراباخ، وانتهت بسقوط 30 ألف قتيل وأكثر من مليون لاجئ، ووقوع خُمس
أراضي أذربيجان تحت سيطرة أرمينيا، فقد اعتبرت أذربيجان أنه اتخذ في ذلك
الوقت موقفاً منحازاً لأنه لم يقم بزيارتهم أيضاً.
وفي بلغاريا التي زارها بعد أذربيجان لا يتجاوز عدد الكاثوليك 60 ألف
شخص أي أقل من 1% من السكان، لكن البابا ذهب إليها ليعلن مصالحة مع
الأرثوذكس الذين كانوا يرفضون استقباله من قبل، وليؤكد للمرة الأولى أنه لا
يصدق أن محاولة اغتياله التي قام بها الشاب التركي محمد علي أقجا سنة 1981م
كانت وراءها المخابرات البلغارية كما قيل في ذلك الوقت.
[مجلة المجلة، العدد: (1164) ]
فكم عدد ترجمات القرآن؟
ذكرت جمعيات الإنجيل المتحدة أنه تم خلال عام 2000م ترجمة الإنجيل إلى
38 لغة أخرى ليصبح عدد اللغات التي ترجم إليها 2261 لغة، منها 13 لغة ترجم
إليها كاملاً، كما تمت ترجمة العهد الجديد (الإنجيل) كاملاً إلى 987 لغة منها
274 لغة إفريقية، يعقبها من حيث العدد لغات دول أمريكا الجنوبية والوسطى
(241 لغة) وتليها 221 لغة آسيوية.
وعادة ما يعيش المترجمون ظروفاً صعبة في المناطق النائية لتعلم لغة ولهجة
المنطقة التي يرغبون في ترجمة الإنجيل إليها، وعلى سبيل المثال قام أحد
المنصرين بترجمة الإنجيل (العهد الجديد) إلى لغة غرب بوبا بعد أن عاش في
المنطقة سنوات عدة ولكن هجم عليه السكان المحليون وقتلوه، فجاء من بعده جيل
جديد من المنصرين أكملوا ترجمة الإنجيل ونشروه كاملاً بعد 29 سنة.
[مجلة الكوثر، العدد (32) ]
موقف فاتيكاني صريح
أعلن الكاردينال روبرتو توتشي منظم رحلة البابا يوحنا بولس الثاني سنة
2000م إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية أن الفلسطينيين الذين ينفذون عمليات
انتحارية «إرهابيون» .
وقال لإذاعة الفاتيكان: «لا يمكن أن نسميهم انتحاريين كما تفعل الصحف
أحياناً؛ لأن التعبير استعمل لتحديد الطيارين اليابانيين الذين فجروا أنفسهم خلال
الحرب العالمية الأخيرة ضد أهداف عسكرية» .
وأضاف أن «الفلسطينيين الذين يقومون بعمليات انتحارية إرهابيون؛ لأنهم
يضربون أهدافاً مدنية» .
وأدان الكاردينال توتشي (81 عاماً) في حديثه إلى إذاعة الفاتيكان:
«الصحف والإذاعات ومحطات التلفزيون في الدول الإسلامية التي تحض
الشبان على القيام بمثل هذه الأعمال» .
وقال: «مع تفهمنا لشعور الفلسطينيين بالإحباط فيما يتعلق بحقهم بأن تكون
لهم دولتهم، يجب أن نتفهم أيضاً أسباب الإسرائيليين وقلقهم من غياب الأمن» .
[صحيفة الحياة، العدد: (14323) ]
لن نحرس في القدس
قالت مصادر من وزارة المواصلات إنها تجد صعوبة في تجنيد الشباب للعمل
في جهاز الحراسة الجديد الذي أقيم قبل عدة أشهر لتأمين السفر في المواصلات
العامة، وأضافت: «إنهم يخافون ولا يريدون العمل في القدس» .
وكانت قد عقدت في الآونة الأخيرة جلسة خاصة في وزارة المواصلات لبحث
عدة أفكار تهدف إلى كيفية جذب الشبيبة خريجي الوحدات القتالية في الجيش
الإسرائيلي للعمل في الجهاز الجديد. وتفيد مصادر من وزارة المواصلات بأنه تم
تجنيد عشرات الحراس فقط للجهاز منذ تم الإعلان عنه. وعللت بعض المصادر
إلى قيام وزارة المواصلات بـ «المماطلة» بهذا الشأن. وتأمل هذه المصادر أنه
في أعقاب سلسلة العمليات التفجيرية الجديدة، يتم الإسراع في اتخاذ الإجراءات
المناسبة لتجنيد الحراس. ويشمل تجنيد الحراس الذي من المتوقع أن يستمر حتى
شهر ديسمبر القادم إرسال الحراس للعمل في العديد من الأماكن العامة تحسباً لتنفيذ
عمليات معادية.
[موقع يديعوت أحرونوت، www.arabynet.com]
من ثمراتهم تعرفونهم..!
أظهرت إحصائية أخيرة أن معظم المواليد الجدد في إنجلترا هم غير شرعيين.
وهذه هي المرة الأولى التي يتغلب فيها عدد المواليد غير الشرعيين على نظرائهم
الشرعيين منذ بدء تسجيل الولادات في بريطانيا، كما ورد في أحدث تقرير لمكتب
الإحصاء الوطني في بريطانيا.
وتشكل الإحصائية الجديدة التي بنيت على شهادات الميلاد للمواليد في عموم
بريطانيا، إثباتاً قاطعاً على انهيار القيم الزوجية في إنجلترا؛ إذ إن عدد المواليد
غير الشرعيين هم أكثر من الشرعيين خاصة في الشمال الشرقي من إنجلترا الذي
ضرب الرقم القياسي في المواليد غير الشرعيين بنسبة 50. 5%، لكن المناطق
الأخرى في إنجلترا أيضاً ليست بعيدة عن هذه النسبة وفي بريطانيا بشكل عام،
حيث تتدنى نسبة الولادات، فإن نسبة المواليد خارج عش الزوجية في ارتفاع؛ فقد
ازدادت من 38.8% عام 1999م إلى 39.5% عام 2000م وكمقارنة فإن
المعدل الوطني للمواليد غير الشرعيين في إنجلترا حالياً هو 41.5 بالمائة مقارنة
بنسبة 28.3% قبل عشر سنوات فقط. وتشير الإحصائية أيضاً إلى أن
6790329 طفلاً ولدوا أحياء في بريطانيا عام 2000م منهم 347941 من الذكور
331088 من الإناث، بينما كان عدد المواليد عام 1999م أكثر من ذلك بعشرين
ألف مولود. وجاءت أرقام الإحصائية الأخيرة محزنة ومزعجة لجماعات الدفاع عن
القيم العائلية في بريطانيا الذين أكدوا أن المؤسسة الزوجية ليست في طريقها إلى
الموت بل إلى الانقراض الكامل.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد (8556) ]
وشعب من المجرمين
صدر تقرير عن الشرطة البريطانية يفيد بأن 11جريمة يتم ارتكابها في كل
دقيقة، ويتم إلقاء القبض على أربعة أشخاص خلال الدقيقة ذاتها. وقال التقرير إن
الجرائم التي ترتكب خلال كل 24 ساعة تجعل الشرطة تلقي القبض على 447.5
شخصاً في المتوسط.
وفي لندن العاصمة وخلال 24 ساعة يحدث 332 اعتداء، و314 حادث
سطو منزلي، و530 حادث مرور، وتتم سرقة 116 سيارة، و273 حادث سرقة،
و34 اعتداء جنسياً.
وقد أصدر هذا التقرير المثير السير جون استيفنز مدير الشرطة بالتضامن مع
مكتب المدعي العام ورابطة مساندة الضحايا، وأوضح التقرير أن نحو 500.6
جريمة قد تم ارتكابها في الأول من أيار (مايو) الماضي بسبب اشتراك العديد من
الأشخاص في مسيرات احتجاجية بمناسبة يوم عيد العمال.
وأوردت صحيفة (إندبندنت) اللندنية التي نشرت التقرير أن مدير الشرطة
قد حث القضاة على التشدد في إصدار الأحكام كما طالب بذلك رئيس القضاء،
وصرح بأنه يشعر أن هذه الأرقام التي قام بنشرها ستفزع المسؤولين في وزارة
الداخلية؛ لأن الحكومة كانت قد تعهدت بالعمل على مكافحة الجريمة وتقليل الإجرام.
[صحيفة الزمان العدد (235) ]
علماء السودان يفتون بوجوب مقاطعة البضائع
الأمريكية و (الإسرائيلية)
الحمد لله الذي حض عباده على قتال الكافرين بالنفس والمال، وبشرهم على
ذلك بالنصر والسؤدد فقال: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ] (التوبة: 14) . وصلى الله على سيدنا محمد القائل:
«جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون.. لا يخفى عليكم ما تتعرض له أمتنا في هذه الأيام من تحالف
الدولة الظالمة (أمريكا) مع دولة (يهود) لغصب مقدساتنا، وقتل أبنائنا في
فلسطين، وضرب الحصار على هذا الشعب المسلم وإعلان الحرب عليه، على
مرأى ومسمع من الشرعية الدولية المزعومة. وعليه فالواجب على الشعوب
المسلمة القيام بدورها تجاه قضيتها باستخدام كل الوسائل المتاحة وفي مقدمتها
مقاطعة البضائع الأمريكية و (الإسرائيلية) وذلك لما يلي:
أولاً: قوله تعالى: [إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم
مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]
(الممتحنة: 9) .
ثانياً: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال رضي الله عنه حين
قال لقريش: «والله! لا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم» .
ثالثاً: قال الله تعالى: [وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ] (الشورى:
39) ، ومعلوم أنّ أمريكا بغت كثيراً وضربت حصاراً شديداً على دولٍ إسلامية
وشعوب مسلمة، وما استدر عطفَها صراخُ الأطفال، ولا أنين المرضى، ولا
عويل النساء، ولا موت الآلاف.
رابعاً: إجماع العلماء على حرمة جلب المنفعة للكافر المحارب.
وعليه فيحرم على كل مسلم شراء البضائع الأمريكية و «الإسرائيلية» من
مشروبات غازية ونحوها من مطعومات وملبوسات وأجهزة وغيرها؛ فمن فعل ذلك
فقد نصر الكافرين، وأعان على أذية إخوانه المسلمين، وارتكب ذنباً كبيراً وأتى
إثماً عظيماً. والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
وقع على الفتوى: 70 من العلماء والدعاة والأكاديميين في السودان.
[المركز الفلسطيني للإعلام، www.palestine-info.info]
ألمانيا تحذر أفغانستان من العودة للشريعة
حذرت وزيرة التعاون الألمانية هايدرماري ويزكوريك زول أعضاء اللويا
جيرغا من أنهم في حال تصويتهم للعودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في
أفغانستان فسوف ينحرفون عن الطريق نحو الديمقراطية.
وقالت في بيان: يتوجب على جميع أولئك الذين يتحملون مسؤولية سياسية
في أفغانستان أن يحترموا حقوق الرجل والمرأة مضيفة أن بعودتهم مجدداً إلى
الشريعة ينحرفون بذلك عن الطريق نحو الديمقراطية ودولة القانون التي تعهدوا
السير بها خلال اتفاقات بيترسبيرغ. وأضاف البيان: لقد التزمنا في أفغانستان
بإعادة حقوق المرأة، ولن نشارك في حال رفضت هذه الحقوق. وأوضح أن
الدستور الأفغاني الجديد الذي من المفترض أن يقر خلال عامين يجب أن يتطابق
مع معايير القانون الدولي. وقدمت وزارة التعاون الألمانية مساعدة لوجستية كبيرة
من أجل عقد اجتماع اللويا جيرغا في كابول.
[صحيفة البيان، العدد (8036) ]
من سيكسب الحرب؟
قال الرئيس الأمريكي جورج بوش إن حكومة السودان لا يمكنها كسب حربها
الأهلية ضد المتمردين في جنوب البلاد وحذرها من تقديم وعود جوفاء مع مواصلة
القتال، والحرب الدائرة منذ عام 1983م بين حكومة الخرطوم في شمال السودان
الذي تسكنه غالبية من المسلمين العرب وبين المتمردين الذين يقاتلون من أجل حكم
ذاتي أكبر لجنوب السودان الذي تسكنه غالبية من المسيحيين والوثنيين أودت بحياة
نحو مليوني شخص وشردت أربعة ملايين آخرين.
وقال بوش في بيان مكتوب أصدره البيت الأبيض: يتعين أن نرى أفعالاً لا
مجرد كلمات. حكومة السودان لا يمكنها أن تقدم وعوداً جوفاء بينما تواصل شن
حرب على شعبها. وأضاف بوش قائلاً: يتعين وقف التدخل في تسليم المعونات
الغذائية. ويتعين وقف مهاجمة المدنيين، ويتعين أن تفي بشكل كامل بتعهداتها التي
قدمتها للمبعوث الأمريكي السناتور السابق جون دانفورث، ويتعين عليها أن تقبل
أنها لا يمكنها أن تكسب الحرب، ويتعين عليها أن تسعى إلى السلام.
[صحيفة القدس العربي، العدد (4048) ](177/103)
المنتدى
إلى كتائب القسام
(تحية إعجاب وتقدير)
عبد الله العزام المطيري
أشعلي النار إن كََفَاكِ القتاتُ ... كم زعيم تخر منه القناةُ
عانقي الموت يا كتائب فيا ... رب موت تكون فيه الحياة
واركبي الموج واستعدي لنصر ... يتنادى فأين أين الهواة
عشق الشبل أن يكون شهيدا ... بتراب يعيث فيه الطغاة
يا زمان الهوان رجع كلام ... مداه السيف فاستقام الحماة
ما على أرضنا نفير فهيا ... يرقب الكون صيحتي والقطاة
أي شعر يهيم فيك طريد ... يلبس الخوف مذ رماه البغاة
فتعالى أُداعب الحلم حلواً ... يوم قامت على اليهود الحصاة
أنا يا روعة الزمان سلام ... وجهاد يجود فيه الرماة
فاقذفي النوم علَّ فينا فريدًا ... يوقظ الناس إن عرانا السبات
واحملينا على الممات فإنا ... نِعم قوم إذا رعانا الرعاة
وارقبينا على التلال وقُومِي ... ثبتي القلب إن جفاه الثبات
هجر النوم مقلتيَّ فذودي ... عن بلاد أقام فيها الجفاة
كيف أقوى على المنام وقومِي ... لم يبالوا بأن تقاد الفتاة
أسأل الله أن تكون صلاحا ... يتحدى على مداه الأُباة(177/107)
المنتدى
شكوى تذوب
موسى بن راجح الرحيلي
فلسطين يا ثلمة في الجبين ... وجرحا يمزق فينا القلوب
فلسطين صبراً فإن القدير ... لا بد يوما يزيل الكروب
يسود اليهود على أمتي ... وهم حفنة ليس فيهم أريب
ورايات توحيدنا نكست ... وراياتهم قد حماها الصليب
ألا من نفوس لها همة ... تذل اليهود بقرع الحروب
فيا من خذلتم أقيموا الجهاد ... لنصرة شعب طواه النحيب
فشعب يمزق في كل يوم ... ولا ناصر منكم يستجيب
وفي كل يوم نرى نكبة ... تحل عليهم فهل من مجيب
فهيا بنا نحو موج الردى ... نموج ونصعق كل مريب
فأين الحمية يا أمتي ... وأين المدافع عند الحروب
ونوروا عليهم بحمل السلاح ... فإن السلاح قرين الخطوب
وناجوا الذين فوق عرش السماء ... بصوت ذليل وقلب منيب(177/107)
المنتدى
الإرهاب
محمد عبد السلام الباشا
عملاق العالم أمريكا ... شربت من كأس الأخطار
النار ستحرق صاحبها ... لعبت أمريكا بالنار
طيران يصدم أبراجا ... ويقول لأمريكا انهاري
هلع أو رعب داهمها ... أحداث مثل الإعصار
آلاف القتلى قد شهدت ... وانهارت كل الأسوار
يرتد الفعل على الباغي ... هذا إنذار الجبار
الله سيهدم أمريكا ... وسيهدم كل الأشرار
عاد وثمود تشابهها ... تحذير جاء من البار
كانت أمريكا عدوانا ... وستبقى بعد الإنذار
دعموا أعداء قضيتنا ... فتمادوا في قصف الدار
وأذاقوا أمتنا هولاً ... في القدس عرين الأحرار
(صبرا شاتيلا) ما غابت ... (شارون) قرين الأوزار
كانت أمريكا سمساراً ... وشريكاً قبل السمسار(177/108)
المنتدى
ردود
وصل المجلة من الاقتراحات والملاحظات , ونحن نشكر جميع الإخوة
المتواصلين معنا، والمتواصلين بالحق والخير، والمجلة تنشر في هذا العدد بعضا
من هذه الرسائل التي وصلتنا سائلين الله تعالى أن يكتب الأجر والمثوبة لكل ناصح
أمين.
* الرسالة الأولى:
إلى المسؤولين الكرام في مجلة البيان سدد الله على الحق خطاكم.
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنني كنت من المعجبين جدًّا بهذه المجلة القيمة، ولا زالت ولكن في الآونة
الأخيرة أضمحل هذا الإعجاب والشوق.. فقد لوحظ وبالتحديد بعد أحداث 11
سبتمبر، أن توسعت المجلة بشكل مكثف في نشر المقالات والأحداث التي تهتم
بالتوجه السياسي، ولا ضير في سد ثغرة في هذا الجانب وأيضًا لا بأس بالتوسع
في أصداء الحديث في حينه وبعده بقليل.. لكن أن يكون ذلك هو الدائم والأغلب؛
فكل من يرى بعين الإنصاف يرى أن هذا على حساب قضايا وزوايا مهمة فقدانها
في بعض الأعداد.
وأنتم - سدد الله سعيكم - قد وضعتم هدفا ساميا على غلاف المجلة بأنها
«جامعة» .. فكما نرغب معرفة أحوال العالم والنظرة الإسلامية حيال أحداثه،
فكذلك نطمع أن تتكرموا بتحقيق النظرة الشمولية التي جعلتموها هدفكم.
فالقضايا العلمية والدعوية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية
والأدبية والإعلامية والثقافية بل والنصوص الشعرية، نطمع ونأمل ونتمنى: أن
يُعاد النظر في دراستها بحيث تكون من - الثوابت - في مجلتنا الجامعة، مما
يضفي عليها رونق التنوع وجوامع الفوائد، ولكي يتم تحقيق هدفكم في ذكركم أنها
جامعة، فلا بد من إعطاء كل ذي حق حقه، فإن طمعتم في نشر كثير من أحوال
العالم فيقترح أحد أمرين:
1- إما أن يكون رسم الخط الذي يدون به الأحداث أصغر مما هو عليه كي
يستوعب المقالات بدون أن يؤثر على مساحات القضايا السابقة.
2- وإما أن تلحقوا بالمجلة ملحقا منزوعا يتوسع فيه.
ويقال ذلك حتى لا يُصدع رأس القارئ المتزب بسيل الأخبار والأحداث التي
تلاحقه في جُلّ النوافذ الإعلامية.
وأخيرا.. اسمحوا لي بذكر ملحوظة فوجئت بها في عدد صفر 1423هـ في
زاوية كلمة صغيرة عن ذكركم للزلزال الذي أصاب أفغانستان حيث رجحتم أن
الحدث حدث بطريقة جيولوجية، ونعلم أن ذلك سبب لكن من هو المسبب ولم؟
أليست النصوص الشرعية قد كشفت سر ذلك؟
شاكرين لكم جزيل الشكر، ورحابة صدركم في تقبل كل نقد بناء , والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الرحمن عبد الكريم
* الرسالة الثانية:
يسرنا أولاً تهنئتكم بالشكل الجديد الذي صدرت فيه المجلة مما يعني زيادة
حجم المادة المنشورة بعدما زاد قياس الصفحة، وهذا لا شك يصب في مصلحة
القارئ، كما أنني سعيد أن المجلة حافظت على دورية إصدارها الشهري؛ لأن
التأصيل الشرعي يحتاج إلى المزيد من الوقت لبناء المقال بشكل مقنع وثري.
نود إبداء ملاحظة حول تصميم المجلة، حيث كنت شخصيا أستمتع بطباعة
المجلة في السابق بلونين اثنين فقط، لأنني كنت مهتما بالمادة بالدرجة الأولى ولا
تعنيني كثيرا قضية الصور، التي تتفوق فيها الصحافة اليومية والأسبوعية، وكم
كنت أتمنى أن يتم المحافظة على هدوء التصميم حتى يظل يخدم المادة الدسمة
المقدمة ولا تؤثر على تركيز القارئ، فمثلاً في العدد رقم (175) ربيع الأول
1423هـ، لاحظت بعض الألوان تطغى على المادة (لاحظ مقدمة مقال:
الإعصار الاستشهادي، للدكتور سامي الدلال، أو المقال الذي قبله: بنو إسرائيل
والمسجد الأقصى) كما لا أجد أي سبب مقنع للتحول في بعض الصفحات من نظام
العمودين إلى نظام الثلاثة أعمدة في نفس الصفحة، كما أن ترقيم الصفحات جاء
بشكل ضخم مع إهمال ذكر تاريخ العدد وهو في رأيي مهم لمجلة تعنى بالبحث
العميق، وأتصور أن كثرة الألوان والصور المناسبة جدا لشريحة قراء الأسرة
كمجلة لكل أسرة، كما أقترح أن يتم تحديث cd المجلة الذي صدر حاويا أول 150
عددا بحيث يكون التحديث كل سنة أو سنتين أو حتى 3 سنوات، لتعم الفائدة
للإخوة الباحثين.
لؤي الفداغ
* الرسالة الثالثة:
السلام عليكم ورحمة لله وبركاته
لقد قمت بإعطاء نسخة من مقال (السهم الدرزي في ظهر العرب، للكاتب
أمير سعيد في العدد 172 شهر ذي الحجة 1422هـ لأحد الزملاء اللبنانيين
وأفادني أن هناك خطأين:
1 - أن عزمي بشارة نصراني وليس درزيا.
2 - أن عدد الدروز في لبنان يزيد عن 400.000 ألف وليس 90.000
ألف كما ذكر، الرجاء مراجعة صحة المعلومات والإفادة عن الصواب، والله
الموفق.
ذياب الغانمي
* الرسالة الرابعة:
الإخوة الأفاضل بمجلة البيان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فأود أن ألفت انتباهكم إلى الخطأ الذي وقع في العدد 175 من مجلتكم وذلك
في مقال: (صور من المعاناة لم تلتقطها عدسات المصورين) ، وبالتحديد في
(ص95) حيث ذكر الكاتب العبارة التالية: (ليحمل هو الآخر على الأكتاف إلى
مثواه الأخير) ، ولا يخفى علكيم خطأ هذه العبارة التي تتضمن إنكارًا لليوم الآخر؛
حيث إن المثوى الأخير يكون يوم القيامة إما إلى الجنة، نسأل الله من فضله، أو
إلى النار، نعوذ بالله منها، فأرجو التنبه إلى مثل هذه الأخطاء حتى لا تنعكس سلبًا
على سمعة المجلة.
عبد الله العمري
* الإخوة الأفاضل: واعي المقبل، جاسر عبد العزيز الجاسر، مبروك
الصيعري، إبراهيم العبد الله التركي، إبراهيم عبد الرحمن، علي بن يحيى
البهلكي، عبد الرحمن عبد الهادي العمري، محمد الفقيه، عبد الله بن
الحسين الشقبيل، موسى راجح الرحيلي، عبد الرحيم عبد العزيز القصير،
عواض بن علي علوان الشهري، عبد الله بن صالح العلي، علي عبد الله محمد
زيد، ساير بن هليل المسابح، عبد الرحمن القصيمي، أبو عاصم «مشاركة
بعنوان: لعلهم يعتبرون» ، أبو محمد «مشاركة: استثمار الأذكياء للنقد» :
نشكر لجميع الإخوة تواصلهم مع المجلة، ونسأل الله لهم التوفيق والسداد، ونأمل
بموافاة المجلة بعناوين للمراسلة.(177/108)
الورقة الأخيرة
زمن التحول للإداريين
د. أحمد بن عبد الرحمن الشميمري [*]
منذ زمن وكلما أردت شرح الفروق المتعددة بين المدير والقائد تجاوزت كل
تلك الدراسات الإدارية الحديثة والنظريات المعاصرة، وتبادر إلى ذهني فوراً تلك
القاعدة الشرعية الأصيلة لقبول العمل والتي تقرر أن العمل المتقبل لا بد أن يحقق
شرطين هما: الإخلاص والمتابعة؛ فالإخلاص ومنه النية معني بالكليات والرؤية
الاستراتيجية الشاملة للعمل المراد الشروع به. أما المتابعة فتتعلق بالجزئيات
التفصيلية لأداء العمل وفق ما جاء به نبي الأمة صلى الله عليه وسلم.
وعندما تختلط النية ويراد بهذا العمل غير وجه الله والدار الآخرة يحبط العمل
ويكون هباءً منثوراً ولو أحسن القائمون عليه الإنجاز وأتقنوا الأداء؛ فالوجهة الكلية
والرؤية المستقبلية أصابها قصور النظر، فارتكست إلى الجزئيات المغرقة في
الطريق الخاطئ، وفي المقابل حينما يفسد الاتباع - فيشط الأداء عن المنهج القويم
والإجراءات السليمة والتطبيقات المشروعة - يفسد العمل ولو كانت الأهداف نبيلة
والغايات سامية.
فالقائد الناجح إذن هو الذي يعي الكليات المنهجية، ويضع الاستراتيجيات
الصحيحة والحوافز البشرية المشروعة، ويدرك معنى الغايات السليمة دون
الإغراق في التفصيلات والانهماك في الجزئيات.
كما أن المدير الناجح ذلك الذي يضع الخطط التفصيلية، والمهام التنظيمية،
والواجبات التنفيذية، والنظم الإشرافية لإنجاز الأعمال بكفاءة وفعالية.
ولأننا في حاجة لكليهما في شخص واحد فقد عز هذا المطلب، وقل وجوده
في واقع مؤسساتنا الدعوية ومشاريعنا الخيرية، واتسعت الفجوة المتأصلة من جراء
البحث عن قائد أولاً، إلى خلل في النمو والتطبيق، وربما الديمومة المنشودة
للأعمال.
فكلما اتفقنا على سمو المشروع وخيريته، وعظيم نفعه وصلاحيته، تعمقنا
في مستلزماته القيادية وحدها دون غيرها، تلك المستلزمات المتعمقة في صميم
التربية والتوجيه، والمرتكزة على الرؤية الاستراتيجية وشمولية الوعي ومنهجية
الإدراك، وهذا في حد ذاته مطلب ملح؛ لكن الأشد إلحاحاً وجود الكفاءة الإدارية
القادرة على قيادة السفينة على الوجهة الصحيحة والخريطة الافتراضية الموضوعة
من قبل القيادة المحنكة.
ومن المسلَّم به في علم الإدارة وأدبياتها أن المنظمات في حاجة إلى مدراء
أكثر من حاجتها إلى قادة؛ فقائد واحد يمكنه أن يضع تصوراً ورؤية وسياسة محكمة
لمشاريع عديدة يديرها جيش من المدراء الأكفاء؛ لكنه لا يتصور أن تدار هذه
المشاريع من قبل قادة فقط دون مدراء.
إن الإخفاق الذي يصيب مشاريع الخير مرده في كثير من الأحيان إلى غياب
المهارة الإدارية والعلم الكافي بمسلَّمات ومبادئ الإدارة؛ فالنوايا الصالحة وحدها لا
تكفي لإدارة دفة العمل، كما أن الإخلاص وربما التفاني ليس سبباً كافياً لديمومة
النجاح، وفوق ذلك كله فإن المكانة والوعي العلمي والثقافي ربما كانا وبالاً على
العمل التنفيذي لا داعماً له.
* خاتمة:
ذكر جيمس كولنز في كتابه الشهير: «البناء من أجل الاستمرار» أن شركة
فورد كادت في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي أن تخرج من السوق بعد أن
تكبدت خسائر فادحة، وانتكاسة مريعة في المبيعات، وبعد الدراسات المستفيضة
والاستشارات العليا التي أجراها قائدها الملهم «فورد» مبتكر ومؤسس الشركة
العملاقة، كانت النتيجة المفاجأة للجميع أن أوصى المستشارون بإقصائه من الشركة
، وقالوا: إن الشركة لم تعد في حاجة إلى قائد أوتوقراطي، بقدر ما هي بحاجة إلى
مدير يحقق لها الاستمرار والنمو والنجاح، وبالفعل تم إقصاء فورد، ومضت
الشركة تحقق النجاح تلو النجاح حتى يومنا هذا!
__________
(*) رئيس قسم إدارة الأعمال، جامعة الملك سعود فرع القصيم.(177/110)
جمادى الآخرة - 1423هـ
سبتمبر - 2002م
(السنة: 17)(178/)
كلمة صغيرة
أرض الزيتونة.. أرض الأمل
تخطئ الحكومة التونسية كثيراً عندما تعتقد أنها بسياسة تجفيف المنابع وحربها
الصريحة على كل مظاهر التدين، وبعصاها الديكتاتورية الغليظة في ملاحقة
العلماء والصالحين، سوف تقضي على الإسلام؛ فجذور التدين ضاربة أطنابها
بعمق في أرض الزيتونة، وما أن تخف وطأة العنف الرسمي قليلاً حتى ترى كثيراً
من الشباب بدأ يعود إلى المساجد، وترى آثار الحجاب الشرعي تظهر تدريجياً في
شتى شرائح المجتمع، فيعود التشنج من جديد في المؤسسة الاستخباراتية، ويزداد
الطغيان القمعي بصورة عشوائية تنتهك كافة الحقوق، وتزدري شتى القيم والمبادئ
الإنسانية، ثم تتحول تونس إلى سجن كبير يمتحن فيه الناس، وتستباح حرماتهم،
وتصادر عقائدهم وعقولهم..!!
وتتواطأ الاتجاهات العلمانية (اللائكية) مع المؤسسة الرسمية في تغريب
الأمة ومسخ هويتها، وتستخدم آلتها الإعلامية السينمائية خاصة في محاربة الفضيلة،
وإشاعة الفاحشة، ونشر ثقافة الانحلال، وترسيخ قيم الغرب وانحرافاته الأخلاقية،
وصدق المولى سبحانه وتعالى: [وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ]
(الأعراف: 202) .
ومع ذلك كله فإننا نؤمن يقيناً بأن ليل الظلم والقهر سينجلي بإذن الله، وفي
نفوسنا أمل كبير بقرب الفرج لما نراه من ثبات أبناء تونس المخلصين، وعضهم
على دينهم بالنواجذ، قال الله تعالى: [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى
اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ] (التوبة: 32) .
إن ظاهرة التدين في مجتمعاتنا الإسلامية ليست ظاهرة عابرة يمكن وأدها
بسياط الترهيب أو التحريف، بل هي ظاهرة متأصلة في ديارنا، متجذرة في
شعوبنا.. نعم! ربما تنجح السجون في قهر الشعوب وتحطيم كرامتها؛ لكنه نجاح
هزيل عابر لا يصمد طويلاً أمام قوة الإيمان وصلابة أهل القرآن؛ ولهذا نذكِّر
أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم بالبغي والعدوان بقول الحق - جل وعلا -: [قُلْ
مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا
السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً] (مريم: 75) .(178/3)
الافتتاحية
شارون والمرحلة الأخيرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
فلم يكن أحد يتوقع أن يصل شارون إلى سدة الحكم في دولة يهود في فلسطين
على الرغم من حضوره الدائم سواء كان آمراً لكتيبة أو قائداً لجيش أو وزيراً للدفاع
أو للمستعمرات؛ لأنه في كل ما سبق ينفذ سياسة محددة تتناسب مع شخصيته.
أما آراؤه السياسية حول طرد العرب وإقامة دولة لهم شرق الأردن فهي وإن
اتفقت مع الهدف الاستراتيجي للحركة الصهيونية فإن الوقت لم يحن لتنفيذها؛ ولذا
لم يكن يتصور أحد أن يصل لقمة الهرم حتى داخل حزب الليكود، ولكن سقوط
نتنياهو المبكر وخروجه الفضائحي من الحياة السياسية فتح له المجال داخل الحزب؛
وبقدر ما كان سقوط باراك سببه الإخفاق في إيقاف الانتفاضة فإن ادعاءه القدرة
على وقف الانتفاضة هو السبب الرئيس في اختياره رئيساً للوزراء، ولسان حال
الناس هو أن من تسبب في إشعال الانتفاضة هو الأقدر على وقفها، وهذا يذكِّر
برجل الإطفاء الأمريكي الذي قبض عليه بسبب أنه يشعل الحرائق في الغابات ثم
يشارك بحماسة في إطفائها حتى يحصل على المكافآت، وحيث إن حرائق أمريكا
خرجت عن السيطرة فكذلك يبدو أن الانتفاضة مؤهلة للاستمرار على الأقل حتى
سقوط شارون الذي يتوقع أن يكون مدوياً.
وحيث إن المرحلة الحالية من الصراع يتوقع أن تفرز أكثر من شارون بل
ويمكن أن يكون هناك تيار شاروني يحاول فيه بعض القادة الصغار تقمص شخصية
شارون والبروز مثله؛ فإننا نحتاج إلى معرفة كيف برز شارون وعلا نجمه بين
اليهود ليُستدعى عند كل ملحمة، وكيف تحول العسكري الأهوج إلى سياسي محنك
يدير مجلس الوزراء كما يدير مزرعة الأبقار التي يملكها؟
لقد بدأ حياته العسكرية وبرز في ارتكاب المجازر ضد سكان القرى الفلسطينية
ثم تطور إلى ارتكاب جرائم قتل الأسرى المصريين عامي 1956، 1967م،
وكان عذر قتل الأسرى هو عدم وجود وسائل لنقلهم!!
وبين الحربين 1967 و 1973م تولى تصفية العمل الفدائي في غزة بأساليب
عنيفة، وفي حرب 1973م تولى قيادة القوة التي قامت باجتياز قناة السويس في
عملية ثغرة الدفرسوار التي لا شك في أن الضغط والتهديد الأمريكي كان له دور
كبير في الإبقاء على الثغرة واستعمالها في تقوية الجانب اليهودي في مفاوضات
الكيلو 101، وإلا فإن هذه العملية تعتبر مصيدة نموذجية، ويكفي الجيش المصري
أن يقوم بتصفية هذه القوة ليضمن انهيار معنويات اليهود؛ ولكن بدلاً من ذلك فإنه
يبدو أن هناك قراراً سياسياً لخفض معنويات المصريين المرتفعة، وقد خفف
استبسال القوات الشعبية بقيادة الشيخ حافظ سلامة من آثار العملية وخرج شارون
بطلاً، ولكن لا ننسى الجنود المجهولين الذين حموه ومنعوا رئيس الأركان المصري
من تصفية الثغرة وخروجه من الجيش بسبب ذلك، وبعد سنوات معدودة وصل
الليكود إلى الحكم لأول مرة بعد حرب 1973م، وتولى بيجن رئاسة الحكومة،
واختير شارون وزيراً للدفاع؛ وهنا كانت المغامرة الجديدة وهي غزو لبنان؛ حيث
تمكن شارون من إقناع بيجن بالموافقة على اجتياح لبنان، وكان بيجن يصرح فيما
بعد أن شارون خدعه.
وكما هي العادة فإن شارون بدأ الحرب ودمر بيروت ومخيمات الجنوب وسهل
للموارنة ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا، ولكنه ترك لغيره التعامل مع آثار الحرب،
وتم إرسال قوات أمريكية وفرنسية لتثبيت الوضع كما تريد إسرائيل، واكتفت
إسرائيل باحتلال الجنوب، وسرعان ما خرج شارون من الوزارة لاتهامه بمجازر
صبرا وشاتيلا، وتعرضت القوات الأمريكية والفرنسية في بيروت، والإسرائيلية
في صبرا لعمليات تفجير ضخمة راح ضحيتها المئات من جنود النخبة، وخرجت
أمريكا وفرنسا من بيروت، وخرج اليهود من صيدا وصور وتمسكوا بما يسمى
الشريط الحدودي، واستمر جيش اليهود ينزف في هذه المنطقة لمدة حوالي عشرين
سنة حتى خرج أخيراً يجر أذيال الخيبة، ولكن بعد أن أدى وجود هذه القوات
لظهور حزب الله.
ويمكن اختصار آثار غزو لبنان بالآتي:
1 - تراجع سلطة الموارنة والسنة وارتباطهم بسورية.
2 - خروج المنظمات الفلسطينية.
3 - افتضاح التحالف الدرزي اليهودي حتى على حساب النصارى.
4 - ظهور الشيعة؛ وكانت حرب الجنوب عاملاً في تثبيت نفوذهم في
بيروت، وكان بروز حزب الله يعني دخول إيران إلى الساحة.
5 - تحول لبنان إلى منطقة نفوذ سوري إيراني، وخروج القوات اللبنانية
وجيش لحد الجنوبي المواليين لإسرائيل من الساحة السياسية والعسكرية.
ونستطيع أن نقول إنه أياً كان الرابحون من غزو لبنان الذي رفع لواءه
شارون فإن إسرائيل خرجت من لبنان وهي تحاول الآن تثبيت حدودها الشمالية.
* شارون رئيساً للوزراء:
إن شارون بسبب الخلفية العسكرية فإنه يملك عقلية تخطيطية قصيرة الأجل
منقطعة النظير فقد استطاع أن يستميل حزب العمل المهزوم ويشركه بالحكومة،
وكان نجاحه الأهم هو أنه قد نجح في تقديم طعم ابتلعه الحزب المنافس؛ فقد قدم لهم
وزارات السيادة وهي وزارتا الدفاع والخارجية، وأصبح رئيس حزب العمل
بنيامين إليعازر وزيراً للحرب ويداً يبطش بها شارون ويهدم بها السلطة الفلسطينية
التي بناها حزب العمل، أما رئيس الوزراء السابق بيريز فهو مجرد رسول
لشارون؛ فهو يقابل عرفات وليس له حق في التفاوض معه، بل ويصرح أحد
الوزراء في التلفزيون أن مشاركته في أحد الوفود التي يرأسها بيريز هو لأجل
التأكد من تنفيذ سياسة الحكومة، أو بمعنى آخر ضبط بيريز ولا شك أن شارون قد
أحرق البديل له؛ فهل يستطيع حزب العمل الاعتراض على سياسات يقوم هو
بتنفيذها؟
إنها معادلة صعبة ولكنها مطبقة بنجاح في مجالات أخرى؛ فمثلاً عندما تقبل
الدول الأوروبية استقبال 13 مبعداً من الخليل، ويتم بذكاء توزيعهم على مختلف
الدول لهدف وحيد هو لجم هذه الدول عن الاعتراض على أي عملية إبعاد مستقبلية،
ولم تقف سياسة التوريط عند هذا الحد، بل إن عملية تصفية السلطة القديمة
واستبدالها بأخرى جديدة بدعوى الإصلاح هي فكرة شارون ولكن عهد بتنفيذها
لأمريكا وبعض دول المنطقة.
إن شارون يدمر السلطة القائمة وعلى الآخرين إقامة سلطة جديدة وأجهزة
أمنية جديدة بمواصفات إسرائيلية، ولكن لنتذكر لبنان وأنه إذا احتاج اليهود إلى
عشرين سنة للخروج من ورطة لبنان فكم يحتاجون من الوقت للخروج من الورطة
الحالية؟ وما هو الثمن الذي ستدفعه أمريكا للانسحاب من القضية!!(178/4)
دراسات في الشريعة
مسؤولية الفتوى الشرعية
ضوابطها وأثرها في رشاد الأمة
(1 ـ 2)
أ. د. محمد فؤاد البرازي [*]
إن من أنبل ما يشتغل به المشتغلون، وخير ما يعمل له العاملون نشر علم
نافع تحتاج إليه الأمة، يهديها من الضلالة، وينقذها من الغواية، ويخرج [النَّاسَ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] (إبراهيم: 1) ،
وكيف لا يكون كذلك وقد حض الله تعالى عليه بقوله الكريم: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]
(التوبة: 122) .
وأوجب على أهل العلم نشره، ونهاهم عن كتمانه، فقال تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ] (آل عمران: 187) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علم علماً فكتمه أُلجِم يوم القيامة
بلجام من نار» [1] .
ولنشر العلم وسائل كثيرة من أهمها: التصدي للإفتاء لعموم الحاجة إليه وكثرة
التعويل عليه، لا سيما في هذه الأيام التي قلَّ فيها الإقبال على العلم، واكتفى معظم
المستمسكين بهذا الدين باستفتاء العلماء عما يعرض لهم، أو يؤرق بالهم، لتصحيح
عبادة، أو تقويم معاملة، والقليل منهم من يلزم مجالس العلماء حتى يتخرج على
أيديهم، ويصبح من ثم وارثاً لعلومهم.
وما زال الإفتاء قائماً منذ فجر الإسلام، وحتى هذه الأيام، حتى خلف العلماء
كثيراً من كتب الفتاوى والنوازل التي زخرت بها المكتبة الإسلامية، كانت وما
تزال مصدراً من مصادر الإشعاع العلمي والحضاري الذي ترك بصماته في نهضة
الأمم ورقي الشعوب.
لهذا كانت منزلته عظيمة، ومكانته كبيرة؛ لأنه: «بيان حكم الله تعالى
بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول» [2] .
وقد تقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنصب العظيم، فكان له
منصب النبوة، ومنصب الإمامة، ومنصب الإفتاء.
ولما كان الإفتاء بهذه المثابة، فإن من الحري بنا أن نتحدث عن الفتوى،
ومنزلتها، والحاجة إليها.
أ - تعريف الفتوى:
الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء. والجمع: الفتاوى والفتاوي، يقال:
أفتيته فَتْوى وفُتْيا؛ إذا أجبته عن مسألته.
والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتَوْا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا
إليه في الفتيا [3] .
وفي تفسير قوله تعالى: [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ]
(النساء: 127) .
قال ابن عطية: أي يبين لكم حكم ما سألتم. قوله: [فِيهِن] أي يفتيكم فيما
يتلى عليكم [4] .
أما الفتوى في الاصطلاح، فقد عرفها العلماء بتعريفات عديدة:
- قال القرافي: الفتوى إخبار عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة [5] .
- وقال ابن الصلاح: «قيل في الفتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى»
[6] .
- وعرفها ابن حمدان الحراني الحنبلي بقوله: «تبيين الحكم الشرعي عن
دليل لمن سأل عنه» [7] .
وهذا التعريف هو الذي نختاره من تلك التعريفات، لكونه متضمناً لما قبله من
الإخبار عن حكم الله تعالى، ويزيد عليها: اعتماد الحكم الشرعي على دليل،
وكونه مشتملاً على السؤال عن الوقائع وغيرها، لهذا كان أوْلى بالاختيار من غيره.
ب - منزلة الفتوى، والحاجة إليها:
تكتسب الفتوى أهمية بالغة لشرفها العظيم، ونفعها العميم، لكونها المنصب
الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، حيث أفتى عباده، فقال في كتابه الكريم:
[وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ] (النساء:
127) ، وقال أيضاً: [يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ] (النساء: 176) ،
فقد نسب الإفتاء إلى ذاته، وكفى هذا المنصب شرفاً وجلالة أن يتولاه الله تعالى
بنفسه.
قال ابن القيم: «وأول من قام به من هذه الأمة سيد المرسلين، وإمام المتقين،
وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده،
فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ] (ص: 86) ، فكانت فتاويه صلى الله عليه
وسلم جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب» [8] .
ومن فضل الله تعالى على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، أن جمع له
منصب النبوة المقتضية لنقل الأحكام بالوحي عن الله تعالى، ومنصب الإمامة
المقتضية للحكم والإذن فيما يتوقف عليه الإذن من الأئمة، ومنصب الإفتاء بما
يظهر رجحانه عنده، فهو سيد المجتهدين [9] .
ثم خلفه في منصب الإفتاء كوكبة من صحابته الكرام، قامت به أحسن قيام،
فكانوا سادة المفتين، وخير مبلغ لهذا الدين، قال قتادة في تفسير قول الله تعالى:
[وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَق] (سبأ: 6) . قال:
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ثم جاء من بعدهم التابعون، وأتباع التابعين،
وكثير من الأئمة المجتهدين والعلماء العاملين، فأفتوا في دين الله تعالى بما آتاهم من
علم غزير، وقلب مستنير، ورقابة لله العليم الخبير، فأسدوا إلى الأمة خدمات
جليلة كان لها أثر في نشر العلم، وإصلاح العمل.
ومما يُظهر منزلة الفتوى أيضاً: أنها بيان لأحكام الله تعالى في أفعال المكلفين؛
ولهذا شبه ابن القيم المفتي بالوزير الموقع عن الملك، فقال: «إذا كان منصب
التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى
المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات» [10] .
وقال النووي: «ولهذا قالوا: المفتي موقِّع عن الله تعالى» . وقد لجأ
المسلمون إلى الاستفتاء منذ الصدر الأول للإسلام، فصدرت فتاوى سيد المرسلين،
وإمام المفتين، وخلفه في ذلك علماء الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم من
أئمة هذا الدين، وما ذلك إلا لأهمية الفتوى، وحاجة الأمة إليها، ولا سيما في هذه
العصور التي قلَّ فيها الإقبال على العلم، واكتفى الكثير منهم بالسؤال عما يعرض
لهم، أو يُشكل عليهم من أمر دينهم.
ولئن كانت حاجة الأمة إلى الفتوى كبيرة فيما مضى، فإن الحاجة إليها في
هذه الأيام أشد وأبقى؛ فقد تمخض الزمان عن وقائع لا عهد للسابقين بها،
وعرضت للأمة نوازل لم يخطر ببال العلماء الماضين وقوعها، فكانت الحاجة إلى
الإفتاء فيها شديدة، لبيان حكم الله تعالى في هذه النوازل العديدة؛ إذ لا يعقل أن
تقف شريعة الله العليم الحكيم عاجزة عن تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم المتسعة
لكل ما يحدث لهم أو يُشكل عليهم، وهي الشريعة الصالحة لكل زمان، الجديرة
بالتطبيق في كل مكان.
ج - تحريم القول على الله تعالى بغير علم:
بما أن الفتوى بيانٌ لأحكام الله، والمفتي في ذلك موقِّعٌ عن الله، فإن القول
على الله تعالى بغير علم من أعظم المحرمات، لما فيه من جرأة وافتراء على الله،
وإغواء وإضلال للناس، وهو من كبائر الإثم.
أما أنه من كبائر الإثم، فلقول الحق تبارك وتعالى: [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] (الأعراف: 33) .
فقد قرن الله تعالى القول عليه بغير علم بالفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم
والبغي والشرك، للدلالة على عظم هذا الذنب، وقبح هذا الفعل.
قال ابن القيم: «وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا
والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، وبعد أن
ساق الآية التي أوردناها قال: فرتب المحرمات أربع مراتب:
- بدأ بأسهلها وهو الفواحش.
- ثم ثنَّى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم.
- ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منها وهو الشرك به سبحانه.
- ثم ربَّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم
القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه.
ومما يدل أيضاً على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النحل: 116-117) .
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه:
هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد
أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه [11] .
هذا ما يتعلق بكونه من كبائر الإثم.
- وأما كونه إغراءً وإضلالاً للناس، فَلِما روى الشيخان من حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» إن الله لا يقبض
العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا
لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا «
[12] .
لهذا هاب الفتيا كثير من الصحابة، وتدافعوها بينهم لِمَا جعل الله في قلوبهم
من الخوف والرقابة.
- فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:» أدركت عشرين ومائة من الأنصار
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردَّها هذا
إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول «، وفي رواية:» ما منهم من أحد
يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه
الفتيا « [13] .
- وعن الشعبي والحسن وأبي حَصين بفتح الحاء قالوا:» إن أحدكم ليفتي
في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر «
[14] .
وقد كان كثير من السلف الصالح إذا سئل عن مسألة لا يعلم حكمها قال للسائل:
لا أدري، أو قال: الله أعلم، عملاً بما:
- روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه
وسلم قوماً يتمارون في القرآن، فقال:» إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا
كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، ولا يكذب
بعضه بعضاً، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم منه فكِلوه إلى عالمه « [15] .
- وقال ابن مسعود:» من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم
فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
المُتَكَلِّفِينَ] (ص: 86) « [16] .
- وروى الحافظ ابن الصلاح بسنده إلى محمد بن عبد الله الصفار أنه قال:
سمعت عبد الله بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: سمعت الشافعي يقول: سمعت
مالك بن أنس يقول: سمعت محمد بن عجلان يقول:» إذا أغفل العالم لا أدري
أصيبت مقاتله «.
وقد عقب ابن الصلاح على هذا الأثر بقوله:» هذا إسناد جليل عزيز جداً
لاجتماع أئمة المذاهب الثلاثة فيه بعضهم عن بعض [17] .
- وروى مالك مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما [18] .
- وقال عبد الرحمن بن مهدي: «جاء رجل إلى مالك بن أنس يسأله عن
شيء أياماً ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد الله! إني أريد الخروج، وقد طال التردد
إليك، قال: فأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: ما شاء الله يا هذا! إني إنما
أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه» [19] .
- وعن أبي بكر الأثرم قال: «سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول:
لا أدري، وذلك فيما قد عرف الأقاويل فيه» [20] .
- وعن الهيثم بن جميل قال: «شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمان وأربعين
مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري» [21] .
- وقد سئل الإمام مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة
خفيفة سهلة. فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قوله جل
ثناؤه: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 5) ، فالعلم كله ثقيل، وبخاصة
ما يسأل عنه يوم القيامة.
- وقال: «إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم
مسائل، ولا يجيب أحد منهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رُزقوا من
السداد والتوفيق، مع الطهارة؛ فكيف بنا الذين قد غطت الخطايا والذنوب قلوبنا»
[22] .
د - وجوب التعاون، والتحذير من التفرق والاختلاف:
فإذا كان هذا حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤال بعضهم
لبعض، والتشاور فيما بينهم مع ما رزقوا من العلم والفهم، والسداد والتوفيق، أفلا
نكون مع غفلتنا وكثرة خطايانا أكثر حاجة إلى التعاون والتآزر، لا سيما في شأن
الفتوى في دين الله تعالى، حتى لا تتفرق للمسلمين كلمتهم، ولا يختلفوا فيما بينهم،
وإن من أشنع صور التفرق والاختلاف: الشذوذ عن فتاوى علماء الأمة،
باستحداث فتاوى خاطئة في دين الله تعالى، تؤدي بالآخذين بها إلى الجرأة على
اقتحام حمى الله «ألا وإن حمى الله محارمه» [23] . وليكن معلوماً أن تتبع شواذ
العلم ليس من العلم.
- قال عبد الرحمن بن مهدي: «لا يكون إماماً في الحديث من تتبع شواذ
الحديث، أو حدث بكل ما يسمع، أو حدث عن كل أحد» [24] .
- وقال أيضاً: «لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم، ولا إماماً
في العلم من روى عن كل أحد، ولا يكون إماماً من روى كل ما سمع» [25] .
والخطير في الأمر أن يعتبر الشذوذ في هذه الأيام اجتهاداً، والجرأة على
الإفتاء في دين الله تعالى تجديداً، ثم يعرض لذلك بعبارات معسولة حتى تقبله
العقول، وتستسيغه النفوس، مع الغفلة عن قول الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النحل: 116-117) ،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أُفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على
من أفتاه» [26] .
* مسؤولية الفتوى الشرعية:
إن مهمة الفتوى خطيرة، وإن مسؤولية المؤسسات الإسلامية تجاهها جِدُّ كبيرة
لما لهذه المؤسسات من دور مؤثر في توجيه الجاليات المسلمة في المجتمعات غير
الإسلامية، فلا يجوز لها أن ترد الناس إلى المتساهل في فتواه، أو المبالغ في
دعواه؛ فهذا يدفع الناس إلى الجرأة على الدين، ورد أقوال العلماء العاملين. كما
لا يجوز لها تبني الفتاوى الخاطئة، والآراء الشاذة، وإذاعتها بين الناس بدعوى:
- التيسير تارة.
- وفهم الواقع تارة أخرى.
- والضرورة تارة ثالثة.
- والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة تارة رابعة.
فهذا منزع خطير يؤدي بالناس إلى الحيدة عن الالتزام بأحكام الشرع، والميل
لما تهواه النفس ويستسيغه الطبع.
إن اليسر الذي جاءت به الشريعة غير ما يدعو بعض الناس إليه، وإن فهم
الواقع لا يعني تطويع الأحكام الشرعية لما درج بعضهم عليه، والقول بالضرورة
لا يلجأ إليه إلا إذا تحققت شروطها، والاعتماد على الحاجة التي تنزل منزلة
الضرورة لا يصح ما لم تستجمع ضوابطها.
إن على المؤسسات الإسلامية أن تعي دورها، وتدرك مسؤولياتها، ولا تغفل
عن الواجبات الكبرى الملقاة على عاتقها، وإن من هذه الواجبات:
1 - توثيق صلتها بالمجامع الفقهية الموثوقة الموجودة في البلاد الإسلامية
التي يسهم في بحوثها وفتاواها علماء متخصصون، متفرغون للبحث العلمي
والغوص على درر المسائل، مهتمون بدراسة القضايا المستحدثة لإصدار الفتاوى
بشأنها بعيداً عن ليِّ النصوص الشرعية، أو تحميلها ما لا تحتمل من التفسيرات
القسرية. ومن هذه المجامع الفقهية الموثوقة:
- المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة.
- المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
- المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة.
- مجلس الفكر الإسلامي في إسلام آباد بالباكستان.
- وأكاديمية الفقه الإسلامي في دلهي بالهند.
2 - الرجوع في القضايا العاجلة إلى العلماء الأثبات المشهود لهم بسعة العلم،
ودقة الفهم، ومعرفة الواقع، وإدراك مقاصد الشارع الذين لا يلتقون على الأحكام
الشرعية بتعليلات وهمية، ولا يوردون على النصوص القرآنية والنبوية احتمالات
جدلية، ليقولوا بعد ذلك: «إن النص إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال» .
فلا يجوز لمسلم فرداً كان أو مؤسسة أن يتجاوز نصاً من نصوص الشرع
لقول أحد من الناس كائناً من كان.
قال الإمام الشافعي: «أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، وتواتر عن
الشافعي أنه قال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط» [27] .
* ضوابط الفتوى:
لقد سبق القول بأن الفتوى إخبار عن حكم الله، وأنها توقيع عن الله؛ لهذا
كان إطلاق القول بالحل أو الحرمة من غير ضوابط افتراءً على الله القائل في محكم
كتابه: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ] (النحل: 116) .
ويمكننا حصر أهم ضوابط الفتوى فيما يلي:
1 - الاعتماد على الأدلة الشرعية:
إن أول ما يجب توافره في الفتوى لتكون محلاً للاعتبار اعتمادها على الأدلة
الشرعية المعتبرة لدى أهل العلم.
- وأول هذه الأدلة: كتاب الله تعالى.
- وثانيها: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد
عليهما، كما لا يجوز مخالفتهما اعتماداً على غيرهما، والأدلة على ذلك من كتاب
الله تعالى كثيرة، منها:
- قول الله تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً
أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً]
(الأحزاب: 36) .
- ومنها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (الحجرات: 1) . أي لا تقولوا حتى يقول، ولا
تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي
يحكم فيه ويمضيه. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما:
«لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة» . وروى العوفي عنه قال: «نهوا أن
يتكلموا بين يدي كلامه» . والقول الجامع في معنى الآية: «لا تعجلوا بقول ولا
فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل» [28] .
وأما الأدلة من السنة فكثيرة، نكتفي منها بالحديث الآتي:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن
سحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث اللعان وقول النبي صلى الله
عليه وسلم: «أبصروها؛ فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خَدَلَّجَ
الساقين [29] فهو لشريك بن سحماء، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية.
فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:» لو ما مضى
من كتاب الله لكان لي ولها شأن « [30] .
يريد - والله ورسوله أعلم - أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت
به. ولكن كتاب الله فصل الحكومة، وأسقط كل قول وراءه، ولم يبق للاجتهاد بعده
موقع» [31] .
فالفتوى الشرعية إذن يجب أن تعتمد على كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولهذا يحسن بالمفتي أن يبين الدليل؛ لأن جمال الفتوى
وروحها هو الدليل «وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة
فيضرب لها الأمثال، ويشبهها بنظائرها، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله تعالى كذا،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ
القائل، وهذا كثير جداً في فتاويهم لمن تأملها.
ثم جاء التابعون، والأئمة من بعدهم، فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه،
وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد
وبَعُدَ العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط،
ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم
نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله
يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، والله المستعان» [32] .
هكذا قال ابن القيم - رحمه الله - تعالى منذ قرون، وقد حدثت في الناس تلك
الطبقة التي تخوف منها، فراحت تتحيل على النصوص الشرعية بتعليلات وهمية،
وتسوق ما يروق لها من تسويغات جدلية، استسلاماً لضغوط الواقع، واستعظاماً
لبعض الأحكام الشرعية، وتحاول في بعض الأحيان تأييد أقوالها بحجج واهية،
ونصوص باطلة، لا تقوم بها حجة، ولا يفرح بها فقيه النفس، ولا يطمئن إليها
تقي القلب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- وثالث هذه الأدلة: الإجماع، وهو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في
عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي في
واقعة.
والإجماع حجة شرعية يجب اتباعها، ولا تجوز مخالفتها، والحكم الثابت
بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا إلى نسخه، وليس للمجتهدين في
عصر تالٍ أن يجعلوا هذه القضية موضع اجتهاد؛ فما بالك بمخالفته ببعض الأقوال،
وآراء الرجال!!
والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (النساء: 83) .
وقوله سبحانه: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 115) .
- ورابع هذه الأدلة: القياس، وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة
ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا
الحكم.
وهو حجة شرعية على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء، كما أنه في
المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو
إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نُصَّ على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس
بها، ويُحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعاً، ويسع المكلف اتباعه والعمل
به [33] .
والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء:
59) .
ولا يحسن القياس إلا فقيه النفس، أصولي الطبع، وما لم يكن كذلك فإنه
تغلبه الغفلة، ويزلُّ من أول وهلة.
2 - وثاني هذه الضوابط: تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء:
إن الفتوى إذا تعلقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمستفتي حاجته، وحصل
منها على مراده. فإذا خرجت عن ذلك فإنها لا تسد له حاجة، ولا تحل له مشكلة،
ولا تنقذه من معضلة، ولم يشرع الإفتاء إلا للإجابة على التساؤلات، وحل ما
يعرض للإنسان من مشكلات.
غير أن المفتي إذا توقع من السائل استغراباً للحكم، فله أن يمهد له بمقدمة
حتى يسلك الحكم الشرعي إلى قلبه، فيتقبله بقبول حسن؛ ويدل على ذلك قصة
نسخ القبلة؛ فإنها لما كانت شديدة على النفوس جداً وطَّأ الله سبحانه وتعالى قبلها
عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها: أنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله،
ومنها: أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم؛ فعموم قدرته وعلمه صالح
لهذا الأمر الثاني كما كان صالحاً للأول [34] .
ويجوز أن تكون الفتوى أشمل من موضوع الاستفتاء بحيث يجيب السائل
بأكثر مما سأل عنه لفائدة يرى أنها تفيد السائل؛ فقد سأل الصحابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ماء البحر، فقالوا له: «إنَّا نركب البحر وليس معنا ما نتوضأ
به؛ أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» [35] .
فقد أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميتة البحر رغم أنهم لم يسألوا
عنها لما في ذلك من فائدة لهم في هذا البيان.
وقد بوَّب البخاري لذلك في صحيحه، فقال: «باب من أجاب السائل بأكثر
مما سأل عنه» ثم ساق من الحديث ما يدل على ذلك.
ويجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر يكون أنفع للسائل
مما سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون مدارك
السائل لا تقوى على فهم ذلك الموضوع الجلل، يدل على ذلك قول الله تعالى:
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] (البقرة: 189) .
فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفياً ثم لا يزال يتزايد فيه النور على
التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان، فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور
مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم
وهو الحج.
فإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد أجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن
كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد أجيبوا عن عين ما سألوا عنه، ولفظ سؤالهم
محتمل؛ فإنهم قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم ثم يأخذ
في النقص؟ [36] .
كما يجوز العدول عن موضوع السؤال، أو الإمساك عن الجواب، إذا ترتب
على الجواب فتنة للسائل؛ فقد قال ابن عباس رضي الله عنه لرجل سأله عن تفسير
آية: وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به؟ أي أنكرت هذا الحكم.
3 - ثالث هذه الضوابط: سلامة الفتوى من الغموض:
لما كانت الفتوى بياناً لحكم شرعي، وتحمل في طياتها تبليغه للسائل، وجب
تقديمها بأسلوب مبين، وكلام واضح قويم؛ فقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بالبلاغ
المبين، فقال سبحانه: [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (النور: 54) .
لذا كان من وضوح الفتوى: خلوها من المصطلحات التي يتعذر على
المستفتي فهمها، وسلامتها من التردد في حسم القضية المسؤول عنها.
غير أن هناك من يعمد إلى تضمين الفتوى عدة أقوال ليقحم فيها بعض الآراء
الشاذة، وينشرها في الناس بدعوى التيسير والمرونة، فيسلط الأضواء عليها،
ويلفت الأنظار إليها، ليُدخل في رُوع المستفتي أنها أقوال لا تقل شأناً عن غيرها،
وله أن يختار ما شاء منها، فيدع من ثم الأقوال الصحيحة وينأى بنفسه عنها،
ويعرض عما استقرت الأمة عليها، ويتشبث بما وجهت الفتوى الأنظار إليه؛ لأنه
قد قيل له: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يعذب على شيء اختلفت فيه الأئمة،
فيصبح الإفتاء بما تواضع أهل العلم عليه، مستهجناً تتحرج الصدور من سماعه،
وتضيق النفوس من بيانه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن آخر ما صدر من هذه الآراء الشاذة: «الفتوى الصادرة عن المجلس
الأوروبي للإفتاء والبحوث التي ختمها بنقل القول بجواز بقاء المرأة على عصمة
زوجها الكتابي إذا أسلمت وبقي على دينه، فقال: لا يجوز للزوجة عند المذاهب
الأربعة بعد انقضاء عدتها البقاء عند زوجها، أو تمكينه من نفسها، ويرى بعض
العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات الزوجية، إذا
كان لا يضيرها في دينها وتطمع في إسلامه ... إلخ» [37] .
تصدر هذه الفتوى لتنسف كل ما عزته إلى المذاهب الأربعة من عدم جواز
بقاء المرأة المسلمة عند زوجها الكتابي، أو تمكينه من نفسها، يقول المجلس:
ويرى بعض العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات
الزوجية إلخ، مدعماً ذلك ببعض الروايات، دون الإشارة إلى أن إعراض الأمة منذ
قرون طويلة عن الأخذ بتلك الروايات الشاذة حتى ولو كانت صحيحة الإسناد يعتبر
علة قادحة فيها، لا يحل نقلها إلا للرد عليها؛ فما بالك بترويجها ولفت الأنظار إليها!
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
4 - ورابع هذه الضوابط: مراعاة الحال، والزمان، والمكان:
إن من ضوابط الفتوى مراعاتها للحال، والزمان، والمكان؛ إذ قد تتغير
الفتوى بتغير الزمان والمكان إذا كان الحكم مبنياً على عرف بلدٍ، ثم تغير هذا
العرف إلى عرف جديد ليس مخالفاً لنص شرعي.
الأول: أن يكون الحكم مبنياً على عرف، كتعارف أهل بلد على ألفاظ محددة
يوقعون بها الطلاق، فتراعى هذه الألفاظ بالنسبة إلى أهل ذلك المكان، وتترتب
عليها الأحكام.
الثاني: أن يكون العرف الجديد الذي تغيرت بسببه الفتوى غير مخالف لنص
شرعي، مثل: إهمال أهل منطقة لبعض ألفاظ تعارف أسلافهم على أنها من ألفاظ
الطلاق، بحيث لو جرت على ألسنتهم لم يخطر ببالهم ولا في نيتهم أنها لفظ من
ألفاظه؛ ولذلك لا تترتب عليها الأحكام التي ترتبت عليها عند أسلافهم الذين تعارفوا
عليها؛ هذا إذا لم تكن من ألفاظ صريح الطلاق التي يقع فيها الطلاق في حالتي
الجد والهزل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» [38] .
وقد راعى الشارع أمر الزمان والمكان؛ ألا ترى أن حد السرقة هو قطع يد
السارق، إلا أنها لو وقعت أثناء غزو الأعداء وفي بلادهم فإنها لا تقطع هناك، بل
يلزم تأجيل إقامة الحد، لئلا يداخل صاحبَها حمية الشيطان فيلحق بالكفار؛ والدليل
على عدم القطع في الغزو ما ورد عن بسر بن أرطأة قال: سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو» [39] ، وعلى ذلك إجماع الصحابة.
فالمنكر إذا ترتب على إنكاره ما هو أنكر منه فلا يسوغ إنكاره، وما قول
النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثو عهد
بجاهلية لهدمت الكعبة، ولجعلت لها بابين» [40] إلا دليل صدق على ما نقول.
قال ابن القيم: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه ونور
ضريحه - يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون
الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛
لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس،
وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم» [41] .
والمعروف أن أصحاب الإمام أبي حنيفة خالفوا إمامهم في مسائل كان مبناها
على العرف، أو تغير الزمان والمكان والأحوال، لا سيما بعد وفاته، وعلل الفقهاء
هذا النوع من الاختلاف بأنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان.
والإمام الشافعي صار له مذهب جديد حين استقر به المقام في مصر، لأمور
عديدة من أهمها: تغير الزمان، والمكان، والأحوال.
ولهذا رجح الفقهاء بعض الأقوال على بعضها الآخر عند اختلافها اعتباراً
للعرف، أو الحال، أو الزمان، أو المكان.
قال الحصكفي: «قد يحكون أقوالاً بلا ترجيح، وقد يختلفون في الصحيح،
قلت: يعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف، وأحوال الناس، وما هو
الأوفق، وما ظهر عليه التعامل، وما قوي وجهه» [42] .
وعلى الفقيه مراعاة الأحوال قبل إصدار فتواه؛ إذ قد يكون الحكم مبنياً على
معنى معين ثم تغير ذلك المعنى كما في صدقة الفطر؛ «فقد جاء الحديث الشريف
بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط. وقد قال العلماء: يجوز إخراج
صدقة الفطر من الذرة أو الأرز أو غيرهما إذا كانت هذه الأصناف غالب أقوات
البلد. وعللوا ذلك بأن الأصناف الواردة في الحديث الشريف إنما جاءت؛ لأنها
كانت هي غالب أقوات أهل المدينة، ولم تأت على سبيل الحصر والتخصيص»
[43] .
والمعروف أن «الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال؛
وذلك كله من دين الله» [44] ؛ «فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم
بآبائهم» [45] .
غير أنه لا تصح مخالفة النصوص، أو تأويلها تأويلاً متعسفاً، ولا تطويعها
لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع، أو تغير الزمان والمكان؛ فهذا تحريف للكلم
عن مواضعه، واتباع لما تهوى الأنفس.
5 - وخامس ضوابط الفتوى: عدم الإجمال فيما يقتضي التفصيل:
إذا كان في المسألة تفصيل فليس للمفتي إطلاق الجواب، بل عليه أن
يستفصل السائل حتى يعطيه الجواب الموافق لمسألته؛ لأن إجمال الفتوى في مثل
هذه الحالة تجعل الحكم واحداً لصور مختلفة تختلف الفتوى باختلافها، فيجيب بغير
الصواب، ويَهلك ويُهلك، وما ذلك إلا لعدم التبين.
يدل على ذلك أن أبا النعمان بن بشير سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يشهد على غلام نَحَله ابنَه، فاستفصله النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: أكلَّ
ولدك نحلته كذلك؟ فقال: لا، فأبى أن يشهد.
ويفهم من هذا أن الأولاد إذا اشتركوا في النحل صح ذلك، وإذ لم يشتركوا
فيه لم يصح.
قال ابن القيم: «وقد استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً لما أقر
بالزنا: هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به
جنون فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: بأن أمر
باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاح استفصله: هل أحصن
أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد» [46] .
أما إذا لم تدع الحاجة إلى الاستفصال، فيحسن بالمفتي عند ذلك الإجمال.
6 - وسادس هذه الضوابط: التجرد من الهوى في المفتي والمستفتي:
إن من أهم الضوابط لسلامة الفتوى تجردها من الأهواء، سواء كان مبعثها
المستفتي أو المفتي.
- أما المستفتي: فقد يدفعه هوى متبع فيزين الباطل بألفاظ حسنة ليغرر
بالمفتي حتى يسوغ ذلك للناس، مع أن ما يسأل عنه من أبطل الباطل.
قال ابن القيم: «فكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه
في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن
له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هو أغلب أحوال الناس» [47] .
ولهذا اشترط العلماء في المفتي أن يكون متيقظاً حتى لا تغلب عليه الغفلة
والسهو، عالماً بحيل الناس ودسائسهم حتى لا يغلبوه بمكرهم، فيستخرجوا منه
الفتاوى حسب أهوائهم.
قال ابن عابدين: «وهذا شرط في زماننا، وليحترز من الوكلاء في
الخصومات، فإن أحدهم لا يرضى إلا بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكن. ولهم
مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام، وتصوير الباطل بصورة الحق؛ فغفلة
المفتي يلزم منها ضرر عظيم في هذا الزمان» [48] .
وقال ابن القيم: «ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم
وأحوالهم، ولا ينبغي أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً، فقيهاً بأحوال
الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع. وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ» [49] .
- وأما المفتي فإن تجرده من الهوى أشد لزوماً من المستفتي؛ لأنه مخبر عن
الله تعالى؛ فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفترياً على الله.
لقول الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ
لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النحل: 116-117) .
لقد عشنا في زمن سمعنا فيه فتاوى ظالمة، وآراء آثمة، فيها محادة لله
ورسوله، منها: القول بجواز ربا البنوك محاباةً لمن يطلب ذلك من أصحاب النفوذ
مع أن الله تعالى حرم الربا بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، منها قوله
سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ
وَلاَ تُظْلَمُونَ] (البقرة: 278-279) ، ورغم هذا الوعيد الشديد فقد خرج على
الأمة من أفتاها بجواز ربا البنوك، دون وجل أو خوف من ملك الملوك، أو خشية
من عذاب الله، أو رهبة من حرب آذن بها الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن القيم: «لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير
وموافقة الغرض؛ فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به،
ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه، ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق،
وأكبر الكبائر» [50] .
لهذا كان من شرائط المفتي عدم تأثير القرابة والعداوة فيه، وعدم جر النفع
ودفع الضرر من أجل ذلك المعنى؛ لأن المفتي في حكم من يخبر عن الشرع بما لا
اختصاص له بشخص، فكان في ذلك كالراوي لا كالشاهد [51] .
وقد يداخل الهوى بعض المنتمين إلى العلم «فيتعلق بالخلاف الوارد في
المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء
منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه، وحرج في حقه، وأن
الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة. وهذا
قلب للمعنى المقصود في الشريعة، فإن اتباع الهوى ليس من المشقات التي
يترخص بسببها، والخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، فليأخد الموفق في هذا
الموضوع حذره؛ فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه» [52] .
7 - وسابع ضوابط الفتوى: أهلية المفتي:
لما كان الإفتاء إخباراً عن حكم الله، وكانت الفتوى توقيعاً عن الله، فلا بد
للمتصدر للفتوى أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية.
وقد اشترط الأصوليون لتحقق هذه الأهلية شروطاً معينة، وصفات محددة،
نجملها فيما يلي: «أن يكون مكلفاً، مسلماً، ثقة، مأموناً، متنزهاً من أسباب
الفسق ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، حتى
وإن كان من أهل الاجتهاد. ويكون مع ذلك متيقظاً، فقيه النفس، سليم الذهن،
رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط [53] .
قال ابن قيم الجوزية:» قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في
الرجل يسأل عن الشيء، فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال:
يجب على الرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً
بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها «.
- وقيل لابن المبارك:» متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالماً بالأثر،
بصيراً بالرأي «.
- وقيل ليحيى بن أكثم:» متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان
بصيراً بالرأي، بصيراً بالأثر «.
قال ابن القيم بعد الأثرين السابقين: يريدان بالرأي القياس الصحيح،
والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام، وجعلها مؤثرة فيها طرداً
وعكساً» [54] .
لهذا كله ذهب أكثر الأصوليين إلى أن المفتي هو المجتهد [55] .
قال الكمال بن الهمام: «وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو
المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه
إذا سئل أن يذكر قول المجتهد، كالإمام أبي حنيفة على وجه الحكاية، فعرف أن ما
يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به
المستفتي» [56] .
وقد عبر الأصوليون عن «غير المجتهد» بالمستفتي تارة، وبالمقلد تارة
أخرى، ولهذا اختلفوا في جواز إفتائه:
- فقال أبو الحسين البصري وغيره: ليس له الإفتاء مطلقاً.
- وجوزه قوم مطلقاً إذا عرف المسألة بدليلها.
قال كاتب هذه السطور: وهذا أرفق بزماننا الذي خلا عن المجتهد المطلق
لئلا تتوقف الفتوى، وتتعاظم البلوى، ويشتد الحرج، وتتعطل مصالح الخلق.
ولا يعني هذا أن يتصدر للفتوى من حفظ بعض الأحكام، أو أجاد تنميق
الكلام.
فقد جاء في البحر المحيط نقلاً عن مختصر التقريب: «وأجمعوا على أنه لا
يحل لمن شدا شيئاً من العلم أن يفتي» [57] .
وقال الجويني في شرح الرسالة: «من حفظ نصوص الشافعي، وأقوال
الناس بأسرها، غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها، لا يجوز له أن يجتهد ويقيس،
ولا يكون من أهل الفتوى، ولو أفتى به لا يجوز» [58] .
أما الخصال التي يجب على المفتي الاتصاف بها فقد أجملها الإمام أحمد بن
حنبل بقوله: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية؛ فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على
كلامه نور.
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
والرابعة: الكفاية؛ وإلا مضغه الناس.
والخامسة: معرفة الناس» [59] .
تلك هي شروط وخصال المفتي أوردتها باختصار يتناسب مع حجم
الموضوع.
__________
(*) مدير الرابطة الإسلامية في الدانمارك.
(1) أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حديث حسن، اهـ، المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بما في الإحياء من الأخبار، الحديث 64، للعراقي.
(2) مختارات من الفتاوى والبحوث، ص 8 للشيخ جاد الحق.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(4) المحرر الوجيز، 4/241، الطبعة الأولى بقطر.
(5) الفروق، 4/53.
(6) أدب المفتي والمستفتي، ص 72.
(7) صفة الفتوى والمستفتي، ص 40، وشرح المنتهى 3/456، مطبعة أنصار السنة.
(8) إعلام الموقعين، 1/11.
(9) انظر: التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، ص 509، للإسنوي، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 99 - 109، للقرافي، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
(10) إعلام الموقعين، 1/10.
(11) إعلام الموقعين، 1/38.
(12) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، كما في الجامع الصغير، الحديث 1826 للسيوطي.
(13) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى، 6/110، والدارمي في السنن، 1/53، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 1/771 معزواً للبراء.
(14) المجموع 1/40، وأدب المفتي والمستفتي، ص 76، وكنز العمال، 5/241، وشرح السنة للبغوي، 1/305، وسير أعلام النبلاء، 5/416، وصفة الفتوى، ص 7 لابن حمدان.
(15) إعلام الموقعين، 2/184.
(16) إعلام الموقعين، 2/185.
(17) أدب المفتي والمستفتي، ص 76 - 77، وجامع بيان العلم وفضله، 2/54، والفقيه والمتفقه، 2/173، وأدب الشافعي، ص 107، والانتقاء لابن عبد البر، ص 38، 37، وكشف الخفاء، 2/ 347، والآداب الشرعية، 2/79، وبدائع الفوائد، 3/276، وترتيب المدارك،
1/146.
(18) صفة المفتي والمستفتي، ص 77، والانتقاء، ص 38، وجامع بيان العلم وفضله، 2/54، وتذكرة السامع، ص 42، والمجموع، 1/40.
(19) صفة المفتي والمستفتي، ص 79، والحلية، 3/ 323، وصفة الفتوى والمفتي، ص 8.
(20) صفة المفتي والمستفتي، ص 79، والفقيه والمتفقه، 2/174-175، وصفة الفتوى والمفتي، ص 8.
(21) صفة المفتي والمستفتي، ص 79، والانتقاء، ص 38، وترتيب المدارك، 1/146، وسير أعلام النبلاء، 8/77، وصفة الفتوى، ص 8.
(22) صفة المفتي والمستفتي، ص80.
(23) أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، كما في الجامع الصغير، الحديث/ 3856.
(24) صحيح جامع بيان العلم وفضله، رقم 1055.
(25) صحيح جامع بيان العلم وفضله، رقم 1059.
(26) أخرجه ابن ماجه، والحاكم بإسناد حسن، كما في صحيح الجامع الصغير، وزيادته، الحديث/ 6969.
(27) إعلام الموقعين، 2/ 282.
(28) إعلام الموقعين، 1/51.
(29) أي: ممتلئ الساقين.
(30) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي، كما في منتقى الأخبار المطبوع مع نيل الأوطار، 6/272.
(31) انظر: إعلام الموقعين، 2/ 280-281.
(32) إعلام الموقعين، 4/260.
(33) انظر: علم أصول الفقه، ص 52-54، لخلاف.
(34) انظر: إعلام الموقعين، 4/164.
(35) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح اهـ، منتقى الأخبار المطبوع مع نيل الأوطار، 1/ 14.
(36) إعلام الموقعين، 4/ 158.
(37) الفقرة خامساً من القرار رقم 3/ 8 من البيان الختامي للدورة العادية الثامنة للمجلس المنعقدة في بلنسية بإسبانيا تاريخ 18 - 22/7/2001م.
(38) رواه الأربعة إلا النسائي، وصححه الحاكم، اهـ، بلوغ المرام، الحديث 1075 وقال الترمذي: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، الحديث 1104.
(39) أخرجه الترمذي، الحديث 1370، والدارمي الحديث 2381، وقال الترمذي: قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وقد روى غير ابن لهيعة بهذا الإسناد نحو هذا، ويقال: بسر بن أبي أرطأة أيضاً، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي.
(40) حديث صحيح، أخرجه النسائي، والترمذي عن عائشة، كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته، الحديث 5326.
(41) إعلام الموقعين، 3/5.
(42) الدر المختار، 1/77 - 78، المطبوع مع حاشية ابن عابدين.
(43) انظر: أصول الدعوة، ص 167، 168.
(44) إعلام الموقعين، 4/205.
(45) إعلام الموقعين، 4/220.
(46) إعلام الموقعين، 4/187.
(47) إعلام الموقعين، 4/229.
(48) رد المحتار، 4/302، بتصرف واختصار.
(49) إعلام الموقعين، 4/229.
(50) إعلام الموقعين، 4/211.
(51) انظر: أدب المفتي والمستفتي، ص 106، والمجموع للنووي، 1/41.
(52) انظر: الموافقات، 4/190، للشاطبي.
(53) أدب المفتي والمستفتي، ص 86، والمجموع، 1/41.
(54) إعلام الموقعين، 4/199.
(55) البرهان في أصول الفقه، 2/1332.
(56) فتح القدير، 7/256.
(57) البحر المحيط، 6/307.
(58) شرح الرسالة، الجويني.
(59) إعلام الموقعين، 4/199.(178/6)
دراسات تربوية
العادات المحرمة وطرق علاجها
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجة [*]
* العادة المحرمة وهي الذنوب:
الكلام فيها يدور حول:
1 - التعريف بالذنوب من حيث انقسامها إلى كبائر وصغائر.
2 - بيان أن الذنوب قدر واقع لا محالة.
3 - وجوب مدافعة الذنب وعدم الاستسلام له.
4 - بيان أن الذنوب مغفورة بشرط.
5 - خطورة التهاون بالذنب ولو صغر.
1 - التعريف بالذنوب من حيث انقسامها إلى كبائر وصغائر:
دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والأئمة على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر
وصغائر [1] ، قال الله تعالى: [إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً] (النساء: 31) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«اجتنبوا السبع الموبقات» [2] ، فالكبائر هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو
لعنة أو عذاب، كما قال ابن عباس [3] ، وقال الضحاك: «هي ما أوعد الله عليه
حداً في الدنيا، أو عذاباً في الآخرة» [4] ، وهو في معنى قول ابن عباس، وهي
غير منحصرة في عدد معين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع،
غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار» [5] ، فمحصل الأمر أن
الكبيرة ما جاء فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، والصغيرة ما لم يرد فيها
شيء من ذلك، إلا أن الصغيرة إذا حصل الإصرار عليها انقلبت كبيرة، كما قال
ابن عباس.
2 - الذنوب قدر واقع لا محالة:
إن الأمراض من قدر الله تعالى الذي لا يسلم منه إنسان، فهي شر واقع لا بد
منه ولا مفر منه، فالأرض مليئة بأسباب المرض، من جراثيم وميكروبات وأحياء
لا تعيش إلا على هلاك غيرها، ولا يخلو إنسان من مرض مهما اتخذ الحيطة
والوقاية، لا فرق في ذلك بين غني أو فقير، شريف أو وضيع، كبير أو صغير،
ذكر أو أنثى ... وهكذا الذنوب قدر واقع لا بد منه؛ لأن الأرض مليئة بأسباب
الذنب، من شيطان لا همَّ له إلا غواية البشر والقعود لهم بكل صراط، ونفس أمارة
بالسوء، وهوى مضل عن سبيل الله، مردٍ في أنواع المهالك، إلى شياطين الإنس
الذين يميلون بالناس إلى الشهوات ميلاً عظيماً، ويوعدون ويصدون عن سبيل الله
من آمن يبغونها عوجاً، فمهما اتخذ الإنسان الحيطة والوقاية والحذر من الذنوب فإنه
غير سالم منها؛ لأنها قدر واقع لا يمكن دفعها بالكلية، كما لا يمكن دفع الأمراض
بالكلية، وإذا كان الأمر كذلك فهل هذا يعني التهاون بالذنوب وركوبها في كل
خاطرة وسانحة بدعوى أنها قدر واقع لا مفر منه؟
الجواب أن نقول: بالرغم من أننا نعلم أن الأمراض قدر واقع فإننا ينبغي أن
نتخذ الحيطة والحذر منها بالوقاية منها واجتناب أسبابها، وإذا ما مرضنا لا نستسلم
للمرض، بل نكافحه بالعلاج والتداوي، هذا مع أننا نعلم أن من المستحيل السلامة
من المرض، فهذا العلم اليقيني الصحيح بحقيقة المرض لم يمنعنا من علاجه
والسعي في ذلك بكل ما نملك، وهكذا ينبغي أن نتعامل مع الذنوب، نعم هي من
قدر الله تعالى، وكل إنسان مكتوب عليه حظه منها كما كتب عليه حظه من المرض،
قال تعالى: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ] (النجم: 32) ،
قال طاووس: «ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم:» إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا
العين: النظر، وزنا اللسان: النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك
أو يكذبه « [6] ، إلا أن ذلك لا يمنع من مكافحته وعلاجه والتخلص منه ومن آثاره،
لماذا؟ لأنه كما يمكن الاحتياط من المرض، كذلك يمكن الاحتياط من الذنب،
وكما أن للمرض علاجاً، فكذا للذنب علاج؛ ولأن المرض إذا ترك بدون علاج
تفاقم وأهلك البدن، وكذا الذنب إذا ترك بدون علاج تفاقم وأهلك الروح، وهلاك
الروح أشد من هلاك البدن، فالنجاة يوم الدين مترتبة على سلامة الروح لا سلامة
البدن، قال تعالى: [يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]
(الشعراء: 88-89) ، فلا بد إذن من علاج الذنب وعدم الاستسلام له، وحول
هاتين الحقيقتين نجد الشرع يدندن، فهو حين يذكر أن الذنب حقيقة مقدرة على
البشر، لا يفوته أن يذكر فضل المدافعين له والمتحامين منه، يقول عليه الصلاة
والسلام:» كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون « [7] ، ويقول:» لو لم
تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم « [8] ، وعن ابن عباس مرفوعاً:» ما من
عبد مؤمن إلا وله ذنب، يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه
حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتناً، تواباً، نسياً، إذا ذكر ذكر « [9] .
3 - وجوب مدافعة الذنب وعدم الاستسلام له:
إن الوقوع في المعصية صغيرة كانت أم كبيرة لا يعني الاستسلام، إن العبد
إذا عصى أظلم قلبه وتكدرت نفسه، وهذه فرصة للإقبال على الطاعة بصدق وندم؛
حيث يكون القلب منكسراً مخبتاً، فإحداث الطاعة في هذه اللحظة مما يقرب العبد
إلى ربه، لشعوره بحاجته إليه في العفو والمغفرة والتوبة، ولأن هذا الشعور مما
يورث الخشوع في العبادة والتطلع إلى الرحمة والذلة والمسكنة لله تعالى، وهذا ما
يريده الله من عبده ويرضيه عنه ويوجب له القبول، ودائماً ما يخطئ العصاة عندما
يقعون في الذنب فيستسلمون للشيطان بعدها، فيتركون الطاعات المفروضة
والنوافل المستحبة بدعوى أنهم عصاة، وأن الله لن ينظر إليهم، وأنهم إن قاموا
بالطاعة وهم عصاة لبسوا لباس المنافقين، فالشيطان بهذه الطريقة يحكم قبضته
عليهم، فهو الذي أوقعهم في المعصية أولاً، ثم اليأس وإهمال الطاعة ثانياً، وكان
من الحكمة أن ينتبه الإنسان إذا عصى ألاَّ يزله الشيطان ثانية كما أزله أول مرة،
وقد قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم
مُّبْصِرُونَ] (الأعراف: 201) ، فالمؤمن إذا زل تذكر عقاب الله وثوابه،
فتاب وأناب ورجع، فإذا هو أصح مما كان [10] ، فلا يدع للشيطان فرصة ليزله مرة
أخرى، ليتخيل العاصي عدواً أمامه طرحه أرضاً، هل يستسلم له ويمد له يديه
ورجليه ليضع فيهما القيد ليكون أسيراً عنده، وفيه بقية قوة يقدر أن يدفع بها، أم أنه
يحاول الخروج من تلك الأزمة بمعاودة الهجوم على عدوه أو الفرار منه؟
الواضح أن الذي يحدث أن المغلوب لا يستسلم بسهولة لعدوه، بل يصابره ويجاهده
ما دام يملك من القوة ولو أقل القليل، هذا المبدأ في قتال الناس بعضهم بعضاً،
وهو عدم الاستسلام من أول مرة، لا يطبقه أكثر الناس في حربهم مع الشيطان،
فيستسلمون له من أول هزيمة، وإلا فالواجب إذا ما وقع الإنسان في معصية ما أن
يصابر الشيطان بفعل الطاعات والتوبة، وعدم اليأس.
لما شرب قدامة بن عبد الله الخمر متأولاً جلد، فكاد اليأس يدب في قلبه
فأرسل إليه عمر يقول:» قال تعالى: [حم * تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ
* غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ]
(غافر: 1-3) ، ما أدري أي ذنبيك أعظم، استحلالك للخمر أولاً أم يأسك من
رحمة الله ثانياً؟ « [11] ، وهذا منهج نبوي، يمنح العاصين الفرصة للعودة مرة
أخرى إلى رحاب الطاعة، ويغلق دونهم أبواب اليأس، ويزرع الأمل في نفوسهم.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:» يا رسول الله! إني
وجدت امرأة في بستان، ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها،
ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم
شيئاً، فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه. فأتبعه
رسول الله بصره ثم قال: ردوه عليَّ، فردوه عليه، فقرأ عليه: [وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ]
(هود: 114) . فقال معاذ: يا رسول الله! أله وحده أم للناس كافة؟ فقال:
«بل للناس كافة» [12] .
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «ما من عبد يذنب ذنباً، فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين،
ثم يستغفر الله بذلك الذنب إلا غفر الله له» [13] .
4 - بيان أن الذنوب مغفورة بشرط:
وبما أن الذنوب قدر واقع فإن الله تعالى برحمته يغفرها تباعاً إذا لزم الإنسان
الفرائض وحافظ عليها وأقامها، كما أن الجسد الصحيح يقضي على الجراثيم التي
تهاجم الجسم بما فيها من مقاومة طبيعية سببها الغذاء الصحيح السليم دون الحاجة
إلى الدواء، فالطهارة والصلاة والصيام والحج تغفر الذنوب تباعاً، جاء في الأثر:
«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على
المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط،
فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» [14] ، وعن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «إذا توضأ الرجل المسلم خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه
ورجليه، فإن قعد قعد مغفوراً له» [15] ، ويقول عليه الصلاة والسلام:
«الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن
إذا اجتنبت الكبائر» [16] .
فهذه المفروضات تغفر الذنوب الصغائر منها لا الكبائر، فالكبائر لا بد لها من
توبة خاصة أو حسنات كبيرة كالجهاد والصدقات، لأنها كبائر، ومثل ذلك لا يغفر
بمجرد المحافظة على المفروضات، وهذا مثل بعض الأمراض المزمنة والصعبة لا
يكفي في علاجها الحرص على الوقاية والحمية والغذاء السليم، فلا بد من تدخل
خارجي ومدد يستعين به الجسم في مكافحة المرض، وكذا الكبائر لا بد لها بالإضافة
إلى المحافظة على المفروضات من توبة واستغفار وحسنات عظيمة من صدقة
وجهاد وإحسان إلى العباد، وهذه هي دلالة قوله: «ما اجتنبت الكبائر» ؛ أي أن
الكبائر لا تكفر بمجرد فعل الواجبات، بل لا بد من التوبة والكفارات إن كان للذنب
كفارة، وهذا يدل على خطر الكبائر، وعقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكب
الكبيرة أنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له [17] ، قال تعالى: [إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء] (النساء: 48) ،
ومعنى: [مَا دُونَ ذَلِكَ] ، أي الكبائر، وقال تعالى: [إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً] (النساء: 31) ، فعلق
الوعد الكريم باجتناب الكبائر، وقال تعالى: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ] (النجم: 32) ، فمدحهم على اجتناب الكبائر، وقد
وصفت الكبائر بأنها موبقات، فقال عليه الصلاة والسلام: «اجتنبوا السبع
الموبقات» [18] ، والكبائر مثل: عقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله، وقذف
المحصنات الغافلات، وشرب الخمر، وأكل الربا، وفعل الزنا، والتبرج والسفور،
والغدر والخيانة ونحوها.
5 - عدم التهاون بالذنب ولو كان صغيراً:
ولا يعني هذا التهاون بالصغائر؛ فإن الصغائر مع كونها صغائر إلا أنها إذا
اجتمعت على الإنسان أهلكته، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إياكم ومحقرات
الذنوب، فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود،
وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ
بها صاحبها تهلكه» [19] ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لا صغيرة مع
إصرار، ولا كبيرة مع استغفار» [20] ، فالصغيرة تنقلب كبيرة مع الإصرار عليها،
ودليل هذا القول قوله تعالى: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ] (آل عمران: 135-136) ، فلا ينظر العبد إلى
صغر المعصية، ولكن لينظر إلا عظم من عصى، فالكبيرة قد يقترن بها من الحياء
والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء
وعدم المبالاة والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر يرجع إلى ما يقوم بالقلب،
قال أنس بن مالك: «إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا
نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات» [21] ، فالصحابة
لعلو مرتبتهم عند الله وكمالهم كانوا يعدون تلك الأعمال من الموبقات، ومَنْ بعدهم
لنقصان مرتبتهم صارت تلك الأعمال في أعينهم أدق من الشعر، فاستصغار الذنب
يكبره عند الله، واستعظامه يصغره عند الله [22] .
النتيجة في بيان كيفية معالجة العادات المحرمة، وهي الذنوب:
1- الوقاية من الذنوب، كما يتوقى من الأمراض.
2- مدافعة الذنب وعدم الاستسلام له، كما يدافع المرض ولا يستسلم له.
3- معالجة الذنب، كما يعالج المرض، وذلك بما يلي:
* بالقيام بالطاعات الواجبة، كالصلوات المفروضة، وصيام رمضان،
والحج، لتكفيرها الصغائر ما اجتنبت الكبائر.
* بالحرص على النوافل والحسنات الكبيرة الماحية، كالجهاد والصدقات.
* ملازمة التوبة والاستغفار.
4- تعظيم الرب سبحانه، وعدم التهاون بالمعصية ولو كانت صغيرة.
* موقف المجتمع من أصحاب العادات المحرمة:
السهام موجهة نحو العاصين، زجراً وتقريعاً وربما تشهيراً.. نعم! إن الغيرة
على المحارم هي التي تدفع إلى مثل ذلك، لكن قد يكون الدافع الشماتة، وبعض
الناس يبالغ في تثريب العاصين، بل ربما سدوا أمامهم أبواب الرجوع إلى رحاب
الطاعة.. فهذه القضية من القضايا الحية التي تمر بنا كل حين، ولا شك أن
المبالغة في زجر العاصين خلاف منهج النبوة، فكيف علاج هذه المشكلة؟ وما
الطريق الصحيح لاحتواء المذنبين؟ فهم منا، ونحن منهم، وهم إخواننا ولو
ارتكبوا الكبائر من الذنوب، فإن معتقد أهل السنة والجماعة في العاصي أنه مؤمن
بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يحل كراهيته من كل وجه، بل يكره من حيث
المعصية، ويحب من حيث الطاعة، وهذا خلاف منهج الخوارج الذين يكفرون
أصحاب الكبائر ويحكمون عليهم بالخلود في النار [23] .
إن حسن التعامل مع العاصين يقوم على ثلاثة أمور:
1 - عدم الرضا عن النفس.
2 - الخوف من تقلب القلوب.
3 - اتباع المنهج النبوي في التعامل مع أصحاب الذنوب.
فأما الأمر الأول: وهو عدم الرضا عن النفس فبيانه [24] :
أن كل طاعة استكثرتها ورضيتها أيها الطائع من نفسك فهي عليك، وكل
معصية عيرت بها أخاك المذنب فهي إليك، فرضاء العبد واستكثاره لطاعته دليل
على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية لله تعالى، وعدم عمله بما يستحقه
الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به.
فجهل الإنسان بحقيقة نفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه
وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به، يتولد منهما رضاه بطاعته، وإحسان ظنه بها،
ويتولد من ذلك: من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة، من
الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.
فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد
ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها
كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية،
ولا رضيها لسيده.
وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات،
وهو أجل المواقف وأفضلها، فقال: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن
رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن
كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (البقرة: 198-199) ، وقال تعالى: [وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالأَسْحَارِ] (آل عمران: 17) ، قال الحسن: «مدوا الصلاة إلى السحر،
ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل» ، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً، ثم قال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام،
تباركت يا ذا الجلال والإكرام» [25] ، وأمره الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرسالة
والقيام بما عليه من أعبائها، فقال في آخر سورة أنزلت عليه: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ
اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] (النصر: 1-3) ، ومن ههنا فهم عمر وابن عباس
رضي الله عنهم أن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به، فأمره أن
يستغفره عقيب أداء ما كان عليه، فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك، ولم يبق
عليك شيء، فاجعل خاتمته الاستغفار، كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل
الاستغفار، وخاتمة الوضوء أيضاً أن يقول بعد فراغه: «سبحانك اللهم وبحمدك،
أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» [26] ، فهذا شأن من عرف ما
ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبودية وشرائطها، لا جهل أصحاب الدعاوى
وشطحاتهم، قال بعض العارفين: «متى رضيت نفسك وعملك لله، فاعلم أنه غير
راض به» ، ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عرضة لكل آفة
ونقص، كيف يرضى لله نفسه وعمله؟ ، بل كلما عظم المطلوب في قلبك،
صغرت نفسك عندك، وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيل المطلوب، وكلما
شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية لله تعالى، وعرفت الله، وعرفت النفس
تبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت الثقلين خشيت
عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده
وتفضله، كما في حديث أبي بن كعب: «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل
أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم»
[27] ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخِل أحداً عمله الجنة،
ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة» [28] .
أما الأمرالثاني: وهو الخوف من تقلب القلوب:
فإن الأصل في المؤمن الخوف من الرب سبحانه من عذابه، ومن مكره؛
فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فكم من رجل أصبح
مؤمناً وأمسى كافراً، وكم من إنسان عمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها
إلا ذراع فسبق عليه الكتاب فعمل بعمل أهل النار فدخلها، فلا يضمن إنسان لنفسه
النجاة وثبات الحال، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب
القلوب ثبت قلبي على دينك» [29] ، وكانت يمينه: «لا، ومقلب القلوب» [30] ،
فالمؤمن يخاف على إيمانه من التبدل، فمن الذي يقدر أن يشهد لنفسه بالجنة، وقد
كان الصحابة يخافون على أنفسهم النفاق، كما قال ابن أبي مليكة: «أدركت
ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه النفاق،
ما منهم من أحد يقول: أنا على إيمان جبريل وميكائيل» ، ويقول الحسن: «ما
خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق» [31] ، بل تجد المؤمن يقوم بالطاعات، وهو
يخاف أن ترد ولا تقبل، قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ *
وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا
آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] (المؤمنون: 57-60) ، قالت عائشة:
«هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله؟» ، قال: «لا يا
بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل»
[32] ، فالمؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً، يقول تعالى:
[أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] (الأعراف:
99) .
فهذا هو المنهج النبوي الذي يجب اتباعه في باب الطاعة: عدم الرضا عن
النفس، والخوف من تقلب القلوب، والخوف من رد الطاعات وعدم قبولها، من
سار في طاعته وحياته على هذه القاعدة فهو الناجي المتبع لنهج الأنبياء والصحابة،
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي»
[33] ، قال تعالى: [قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُم]
(الأحقاف: 9) ، فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف لمن
دونه أن يغتر بطاعاته ويأمن مكر الله تعالى؟ فإذا وقر هذا في القلب كانت النتيجة
النظر بعين الرحمة والرأفة إلى كل من تلبس بمعصية أو زلة، فإن الزلات
والمعاصي قريبة من العبد: [وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ
أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (النور: 21) ، ومن سلم منها
فبرحمة الله وفضله، ومن وقع فيها فلأن الله وكله إلى نفسه، فإذا فهم هذا فالواجب
على الإنسان أن يخاف الزلة والانتكاسة، وأن يقبل على المذنبين بقلب رؤوف
ليستنقذهم من الزلة، ويرفعهم من المحنة، فهم ضحايا أعداء الإنسانية، النفس
والهوى والشيطان، هذه الثلاثة هي مثلث الخطايا، ومأوى كل شر، ومصدر كل
سوء، فما وقع الإنسان في الخطيئة إلا بسببها، والبشرية في عناء من كيدها، ولن
ينجي منها إلا التعاون والاتحاد ضدها، لا الانضمام إليها، فمن زبر العاصين
بعنف وبالغ في التثريب فإنما يكون عوناً للشيطان، ومثله كمثل إنسان رأى أحدهم
وقد اجتمع عليه ثلاثة نفر يضربونه من كل ناحية فبدلاً من أن يمنعهم من العدوان
صار رابعهم المعين لهم، إن العاصي محتاج إلى من يقف معه في معركته مع
الشيطان وجنده، وليس بحاجة إلى من يقف مع الشيطان.
وأما الأمر الثالث وهو: المنهج النبوي في التعامل مع أصحاب الذنوب:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مناسبة يبين هذه القاعدة
المهمة في التعامل مع العصاة، كان رجل يؤتى به كثيراً ليجلد في شرب الخمر،
فأتي به مرة فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» [34] ، فقد
شهد له بالإيمان ليحملهم على محبته، ومنعهم من لعنه؛ لأنه ليس كل معصية
تستحق اللعنة؛ ولأن من الممكن أن تجتمع الحسنات والسيئات والثواب والعقاب في
الشخص الواحد، وهذا قول الصحابة وأئمة الإسلام الذين يقولون بعدم خلود صاحب
الكبيرة في النار إن دخلها [35] ، ولما رجمت الغامدية حد الزنا تناثر دمها على خالد
رضي الله عنه فسبها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال:
«مهلاً! يا خالد! فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس
لغفر له» ، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت [36] ، وقال بعد رجم ماعز:
«استغفروا لماعز بن مالك» ، فقالوا: «غفر الله لماعز بن مالك» ، قال: فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم»
[37] .
ومنع عليه الصلاة والسلام من التثريب على المذنبين إذا أقيم عليهم الحد [38] ،
وقد سار الصحابة على هذا المنهج، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
كنا مع عمر في مسير فأبصرنا رجلاً يسرع في سيره، فقال: إن هذا الرجل يريدنا.
فأناخ ثم ذهب لحاجته، فجاء الرجل فقال عمر: ما شأنك؟ قال: يا أمير
المؤمنين! إني شربت الخمر فضربني أبو موسى وسوَّد وجهي، وطاف بي،
ونهى الناس أن يجالسوني، فهممت أن آخذ سيفي فأضرب به أبا موسى، أو آتيك
فتحولني إلى بلد لا أُعرَف فيه، أو ألحق بأرض الشرك. فبكى عمر رضوان الله
عليه وقال: ما يسرني أنك لحقت بأرض الشرك. وقال: إن كنتُ لمن شرب
الخمر، فلقد شرب الناس الخمر في الجاهلية. ثم كتب إلى أبي موسى: إن فلاناً
أتاني، فذكر كيت وكيت، فإذا أتاك كتابي هذا فمُر الناس أن يجالسوه، وأن
يخالطوه، وإن تاب فاقبل شهادته. وكساه وأمر له بمائتي درهم «.
وعن يزيد بن الأصم:» أن رجلاً كان ذا لباس، وكان يوفد إلى عمر لباسه،
وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده، فسأل عنه فقيل: يتابع في هذا الشراب،
فدعا كاتبه، فقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليكم:
فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو [غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي
الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ] (غافر: 3) ، ثم دعا وأمَّن وأمَّن من عنده،
ودعوا له أن الله يقبله عز وجل، وأن يتوب عليه، فلما أتت الصحيفة الرجل
جعل يقرأها ويقول: [غَافِرِ الذَّنبِ] ، قد وعدني ربي عز وجل أن يغفر لي،
[وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَاب] قد حذرني الله من عقابه، [ذِي الطَّوْل] والطول:
الخير الكثير، [إِلَيْهِ المَصِيرُ] . فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع،
فأحسن النزع، فلما بلغ عمر رضوان الله عليه خبره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم
أخاً لكم زل زلة، فسددوه، وادعو الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا عوناً للشيطان
عليه « [39] .
إن الرضا عن النفس والأمن من مكر الله ينتج عنه الحكم للنفس بالنجاة وعلى
الآخرين بالهلاك، وهذا غاية الغرور، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال:» كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب،
والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول:
أقصر. فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. قال: خلني وربي، أبعثت عليَّ
رقيباً؟ قال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض الله أرواحهما،
فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما
في يدي قادراً؟ ! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر:
اذهبوا به إلى النار «قال أبو هريرة:» والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه
وآخرته « [40] .
* فائدة الذنب:
إن الله كتب على عباده المعصية؛ ليبتلي الطائعين بالعاصين، والعصاة
بالطائعين، كتبها وهو أعلم بعباده وما ينفعهم، وهو يعلم أن بعض الذنوب تستخرج
من النفوس ذنوباً هي أكبر، فهي كالمرض الذي به يشفي المريض من أمراض
أخرى، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:» لو لم تكونوا تذنبون،
لخفتُ عليكم ما هو أكبر من ذلك: العجب، العجب « [41] .
__________
(*) قسم العقيدة، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
(1) الجواب الكافي، ص 134، تحقيق الفواعير، مدارج السالكين، تحقيق الفقي، 1/342، وانظر: مبحثاً خاصاً بالكبائر في تفسير ابن كثير، سورة النساء، قوله تعالى: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً) (النساء: 31) ، والكبائر للذهبي، والزواجر للهيتمي.
(2) رواه البخاري في الحدود والوصايا، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها.
(3) رواه ابن جرير، انظر: تفسير ابن كثير، قوله: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (النساء: 31) ، 2/ 247.
(4) مدارج السالكين، 1/ 349، تحقيق الفقي، وانظر فيه بقية الأقوال، وفي الجواب الكافي، ص 136، وانظر: ترجيح القول المذكور في شرح الطحاوية، تحقيق الألباني، ص 371.
(5) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، انظر: تفسير ابن كثير، قوله: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه) (النساء: 31) ، 2/472.
(6) رواه البخاري في الاستئذان، باب: زنى الجوارح دون الفرج.
(7) رواه أحمد، والترمذي عن أنس، صحيح الجامع 4515.
(8) رواه أحمد عن ابن عباس، صحيح الجامع 5301.
(9) رواه الطبراني، صحيح الجامع 5735.
(10) انظر: تفسير الآية في سورة الأعراف، 3 / 538.
(11) شرح الطحاوية، ص 324.
(12) رواه مسلم في كتاب التوبة، باب: قوله تعالى: (إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود: 114) .
(13) رواه أحمد، صحيح الجامع، رقم 5738.
(14) رواه مسلم عن أبي هريرة.
(15) رواه أحمد، وانظر: صحيح الترغيب والترهيب، 182.
(16) رواه مسلم في الطهارة، باب: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة -- عن أبي هريرة.
(17) انظر: شرح الطحاوية، 370.
(18) رواه مسلم، وقد مضى.
(19) رواه أحمد عن سهل بن سعد، صحيح الجامع، 2686.
(20) مضى آنفا.
(21) رواه البخاري في الرقاق، باب: ما تقي المؤمن من محقرات الذنوب، وأحمد في المسند عن أبي سعيد، 3/3.
(22) مدارج السالكين، 1/352، 356.
(23) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق الألباني، ص 371.
(24) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 194 - 196.
(25) رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم 135.
(26) رواه النسائي في اليوم والليلة، وابن السني في عمل اليوم والليلة برقم، صحيح الجامع 6170، وانظر: الصحيحة، رقم 2333.
(27) رواه أحمد وأبو داود صحيح الجامع، رقم 5244.
(28) متفق عليه، البخاري في الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل، ومسلم في صفات المنافقين، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله.
(29) رواه الترمذي، أبواب: الدعوات، جامع الدعوات عن رسول الله، صحيح الترمذي، رقم 2792.
(30) رواه البخاري في الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، عن ابن عمر.
(31) رواه البخاري في الإيمان، باب: خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
(32) رواه أحمد في المسند، 6/159، 6/ 205.
(33) رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، الفتح، 7/264.
(34) رواه البخاري: كتاب الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة.
(35) انظر: الفتاوى، 10/742.
(36) رواه مسلم في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، رقم 23.
(37) رواه مسلم في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، رقم 22.
(38) رواه مسلم في الحدود، باب: رجم اليهود، رقم 30.
(39) مناقب ابن عمر لابن الجوزي، الباب الرابع والثلاثون: في ذكر مكاتبته، ص 131.
(40) رواه أبو داود في الأدب، باب: النهي عن البغي، حسنه الألباني في شرح الطحاوية، ص 319.
(41) رواه البيهقي في شعب الإيمان، صحيح الجامع، 5303.(178/16)
قضايا دعوية
موقف السلف من نشر أو سماع شبهات أهل البدع
عبد العزيز بن ناصر الجليل
إن نشر وقراءة وسماع الشبهات والأفكار المنحرفة سواء كانت على هيئة
حوارات، أو محاضرات، أو منتديات، أو تمثيليات.. إلخ. من غير إنكار ولا
رد: إن كل ذلك مما يجب على المسلم أن يمنع قلمه وسمعه وبصره منه لكيلا
يتشرب القلب ببعض هذه الشبهات، ولكي يحفظ المسلم وقته وعمره من أن يضيع
فيما لا ينفعه في الآخرة. ولكي لا يتحمل وزر غيره ممن يضلّون بسماعهم أو
قراءتهم لما ينشر من الشبهات.
قال الله تعالى: [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ] (النحل: 25) .
أما من كانت لديه القدرة على رد الشبهات وتفنيد الباطل وفضحه للناس؛ فإن
الأمر حينئذ يختلف ويصبح في سماع الباطل مصلحة لمعرفة من وراءه والرد عليه
وفضحه للناس وحمايتهم من خطره وشبهاته.
وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من حضور المجالس التي يخاض فيها
بالباطل، فقال: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ
الظَّالِمِينَ] (الأنعام: 68) .
وقد جعل الله عز وجل المشارك في مجالس الباطل دون إنكار لما فيها من
الأقوال الباطلة من ضمن أهل الباطل؛ وذلك في قوله تعالى: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا
فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً]
(النساء: 140) .
وإن مما يؤسف له اليوم تلك المواقف المتميعة من بعض الدعاة تجاه الأقوال
المبتدعة والأفكار المنحرفة؛ حيث مكنوا لأهل البدع والعلمنة أن يقولوا باطلهم في
مجلاتهم، ومواقعهم الإسلامية في شبكة (الإنترنت) أو في بيوتهم، ومنتدياتهم،
وألقوا سمعهم إليهم بحجة الحرية الفكرية والنقاش الحر!! حتى أضحت تلك المنابر
طريقاً للاختراق الثقافي العلماني والبدعي، وسلماً لتزيين الباطل وتلميع رموزه
ودعاته، وأخشى أن يكون أولئك ممّن قال الله فيهم: [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِم]
(الحشر: 2) . ففي هذا مخالفة لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم، ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم.
أما المخالفة للقرآن الكريم فكما مر بنا في آية الأنعام وآية النساء من النهي
عن مجالسة الخائضين في الباطل، إلا أن يبين باطلهم وينكر عليهم، في حالة عدم
القدرة على منعهم. أما أن تفتح لهم أبواب المجلات والمواقع والبيوت فهذا منكر قد
نهى الله عز وجل عنه أشد النهي.
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى في سورة الأنعام:
[وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ (الأنعام: 68) ] :
«المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات
الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله.
فأمر الله رسوله أصلاً، وأمته تبعاً، إذا رأوا من يخوض في آيات الله بشيء مما
ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل والاستمرار على
ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره. فإذا كان في كلام غيره، زال
النهي المذكور. فإن كان مصلحة، كان مأموراً به، وإن كان غير ذلك، كان غير
مفيد ولا مأمور به. وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر،
والمناظرة بالحق.
ثم قال: [وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ (الأنعام: 68) ] أي: بأن جلست معهم،
على وجه النسيان والغفلة: [فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ (الأنعام:
68) ] يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه
يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر الذي لا يقدر على إزالته.
هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان
يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار.
فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر
والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه فهذا ليس عليه حرج
ولا إثم، ولهذا قال: [وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (الأنعام: 69) ، أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله
تعالى» [1] .
ويقول الشيخ رشيد رضا - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «والصواب
من القول في الآية أنها عامة، وأن المخاطب بها أولاً بالذات سيدنا الرسول صلى
الله عليه وسلم وكل من كان معه من المؤمنين؛ فكل ما ورد عن السلف في تفسيرها
صحيح.
والمعنى العام الجامع المخاطب به كل مؤمن في كل زمن:» وإذا رأيت «
أيها المؤمن [الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا (الأنعام: 68) ] المنزلة، من الكفار
المكذبين، أو من أهل الأهواء المفرقين، [فَأَعْرِضْ عَنْهُم (الأنعام: 68) ] أي:
انصرف عنهم وأرهم عرض ظهرك، بدلاً من القعود معهم، أو الإقبال عليهم
بوجهك، [حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (الأنعام: 68) ] أي غير ذلك
الحديث الذي موضوعه الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من قِبَل الكفار، أو تأويلها
بالباطل من قِبَل أهل الأهواء، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء، وتفنيد
أقوال خصومهم بالجدل والمراء؛ فإذا خاضوا في غيره فلا بأس بالقعود معهم.
وقيل إن الضمير في» غيره «للقرآن لأنه هو المراد بالآيات فأعيد الضمير عليها
بحسب المعنى.
وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار
لهم على خوضهم، وإغراء بالتمادي فيه، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه.
والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراءٍ أو
كافر مجاهر. وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء، مزلقة في البدع واتباع
الأهواء، وفتنته أشد من فتنة الأول، فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء
من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع،
ويؤيدون الأئمة المهتدين، ويخذلون المبتدعين المضلين. ولذلك حذر السلف
الصالحون من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار؛ إذ لا يخشى
على المؤمن من فتنة الكافر ما يخشى عليه من فتنة المبتدع؛ لأنه يحذر من الأول
على ضعف شبهته، ما لا يحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه، ولا يعقل أن يقعد
المؤمن باختياره مع الكفار في حال استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم به وطعنهم فيها
كما لا يقعد مختاراً مع المجادلين فيها المتأولين لها، وإنما يتصور قعود المؤمن مع
الكافر المستهزئ في حال الإكراه وما يقرب منها كشدة الضعف، ولا سيما إذا كان
في دار الحرب. ولم تكن مكة دار إسلام عند نزول هذه الآيات. ويدخل في أهل
الأهواء المقلدون الجامدون الذين يحاولون تطبيق آيات الله وسنن رسوله على آراء
مقلديهم بالتكلف، أو يردونها ويحرّمون العلم بها بدعوى احتمال النسخ أو وجود
معارض آخر ... » [2] .
أما ما ورد في السُّنة من النهي عن سماع الباطل، والخوض في آيات الله عز
وجل فكما روى اللالكائي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن نفراً
كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا، وكذا؟
قال: فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فُقِئَ في وجهه حب
الرمان فقال: «بهذا أمرتم، أو بهذا بعثتم أن تضربوا القرآن بعضه ببعض؟ إنما
هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا. فانظروا الذي أُمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي
نهيتم عنه فانتهوا عنه» [3] .
فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم غضب أشد الغضب وأمرهم بالكف، ولم
يفتح لهم باب الحوار والمناظرة بحجة حرية الحوار والفكر!! لأنه صلى الله عليه
وسلم رحيم بأمته يخاف عليهم مما يكون سبباً في زيغهم وانحرافهم.
وأما ما جاء عن السلف رضي الله عنهم من التشديد على أهل البدع وعدم
السماع منهم، أو إعطائهم المجال لطرح أفكارهم وآرائهم؛ فالروايات في ذلك كثيرة
ومن أشهرها: موقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من صبيغ بن عِسْل:
فقد روى اللالكائي بسنده قال: أخبرنا أحمد بن علي بن العلاء قال: حدثنا أبو
الأشعث، قال: حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار، أن
رجلاً من بني تميم يقال له صبيغ بن عِسْل قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل
يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فبعث إليه وقد أعد له
عراجين النخل، فلما دخل عليه وجلس قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ.
قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه، فجعل يضربه بتلك العراجين؛ فما
زال يضربه حتى شجه، وجعل الدم يسيل عن وجهه، قال: حسبُك يا أمير
المؤمنين! فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي [4] .
فهذا هو فعل عمر رضي الله عنه مع الخائضين في الباطل المتبعين للشبهات؛
حيث لم يمكِّنهم من قول الباطل بحجة النقاش الحر وحرية التفكير!!
وكان الحسن - رحمه الله تعالى - يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا
تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم [5] .
وكان ابن طاووس جالساً فجاء رجل من المعتزلة قال: فجعل يتكلم قال:
فأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه. قال: وقال لابنه: أيْ بنيَّ أدخل اصبعيك
في أذنيك، واشدد لا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر: يعني أن القلب ضعيف.
وأختم هذه المواقف بكتاب أرسله سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز إلى الشيخ
العلاَّمة محب الدين الخطيب - رحمهما الله - ينبهه فيه سماحته حول ملحوظة
وردت في مقال نشر في المجلة التي كان يصدرها محب الدين الخطيب.
فإليك نصَّها: (من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم
العلاَّمة الشيخ محب الدين الخطيب رئيس تحرير مجلة الأزهر الغراء [6] وفقه الله
آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فقد اطلعت على الكلمة المنشورة في مجلتكم الغراء عدد ربيع ثانٍ
سنة 76 صفحة 354 للشيخ محمد الطنيخي مدير عام الوعظ والإرشاد للجمهورية
المصرية؛ حيث يقول في آخرها ما نصه: «قد علمت أن الإيمان عند جمهور
المحققين هو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا التصديق هو
مناط الأحكام الأخروية عند أكثرهم؛ لأنه هو المقصود من غير حاجة إلِى إقرار أو
غيره؛ فمن صدق بقلبه، ولم يقر بلسانه، ولم يعمل بجوارحه كان مؤمناً شرعاً
عند الله تعالى ومقره الجنة إن شاء الله» انتهى.
فاستغربت صدور هذا الكلام، ونشره في مجلتكم الغراء الحافلة بالمقالات
العلمية والأدبية النافعة من جهتين:
إحداهما: صدوره من شخصية كبيرة تمثل الوعظ والإرشاد في بلاد واسعة
الأرجاء كثيرة السكان.
والجهة الثانية: نشره في مجلتكم وسكوتكم عن التعليق عليه، وهو كلام كما
لا يخفى فيه تفريط وإفراط؛ تفريط في جانب الدين، ودعوة إلى الانسلاخ من
شرائعه، وعدم التقيد بأحكامه، وإفراط في الإرجاء يظن صاحبه أنه على هدى،
ويزعم أنه بمجرد التصديق قد بلغ الذروة في الإيمان، حتى قال بعضهم: إن إيمانه
كإيمان أبي بكر وعمر بناءً على هذا الأصل الفاسد، وهو أن الإيمان مجرد
التصديق وأنه لا يتفاضل!
ولا شك أن هذا خلاف ما دل عليه القرآن والسُّنَّة، وأجمع عليه سلف الأمة.
وقد كتبت في رد هذا الباطل كلمة مختصرة تصلكم بطيه، فأرجو نشرها في
مجلتكم، وأرجو أن تلاحظوا ما ينشر في المجلة من المقالات التي يخشى من
نشرها هدم الإسلام؛ فتريح الناس من شرها والرد عليها لأمرين:
أحدهما: أن نشر الباطل من غير تعليق عليه نوع من ترويجه والدعوة إليه.
والثاني: أنه قد يسمع الباطل من لا يسمع الرد عليه فيَغتَرُّ به، ويتَّبع قائله،
وربما سمعها جميعاً فعشق الباطل وتمكن من قلبه، ولم يقوَ الردُّ على إزالة ذلك من
قلبه؛ فيبقى الناشر للباطل شريكاً لقائله في إثم من ضل به.
عصمني الله وإياكم وسائر إخواننا من أسباب الضلال والإضلال، وجعلنا
وإياكم من الهداة المهتدين، وليكن على بال فضيلتكم ما ثبت في الصحيح عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من
تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل
آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» [7] . والله أعلم، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته) [8] .
وأقوال السلف ومواقفهم في هذا الشأن كثيرة ومعروفة. فهل بعد كتاب الله عز
وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومواقف سلفنا الصالح من كلام أو اجتهاد
لمجتهد يرى فتح الباب لأهل الأهواء ليقولوا باطلهم بحرية ثم يرد عليهم بعد ذلك
من شاء؟!
ويا ليت أن الأمر اقتصر عندهم على سماع الباطل من مواقع أهل الفساد؛
إذن لكان الخطب أهون؛ ولكن المصيبة أن يفتح بعض الإسلاميين صحفهم
ومجلاتهم، ومواقعهم، وبيوتهم ومنتدياتهم، ويدعون أهل الأهواء إليها ضيوفاً
مكرمين. يتصدرون المجالس، والصفحات، ليقولوا فيها باطلهم، ويُعْطون من
الوقت والكتابة ما لا يعطى لأهل الحق وأتباع السلف!!
إن فتح باب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن لا تعني أن تفتح الأبواب
مشرعة لكل فكر دخيل ورأي سقيم يتطاول على عقيدة الأمة وثوابتها، ولا تعني
التمكين له والاحتفاء به ونشره بين الخاصة والعامة، بل إن الواجب الشرعي
يقتضي نصرة الحق وردّ الباطل وكشف زيوفه.
وعندما ننهى عن التمكين للعلمانيين والمبتدعة في منابرنا الإعلامية فلا يعني
هذا قمع المخالف والتسلط عليه كما يزعم بعضهم، ولا أن أهل الحق أضعف من
أن يقيموا الحجة وأجبن من أن يناظروا غيرهم كما يزعم آخرون؛ ولكن لا بد أن
تحفظ الأمة بسياج من العلم والتقى يحميانها من شبهات أهل الأهواء، وأحابيل أهل
الزيغ والضلال.
ومناظرة العلمانيين ورؤوس المبتدعة لها طرائقها ووسائلها العلمية التي تحقق
المقصود بعيداً عن فتنة العامة وأنصاف المتعلمين الذين لا يقدرون هذه الأمور
التقدير الصحيح، وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: «ما أنت
محدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» .
وإنني أؤكد هنا أن الرأي الآخر الذي ينبغي أن تفتح له الأبواب، ويقدر أهله،
هو الرأي الاجتهادي الذي يسوغ فيه الاختلاف عند علماء الأمة وهو الرأي الذي
يبنى على الدليل والبرهان، وينطلق من ثوابت الأمة وقواعد الاستدلال العلمي،
والحوار في هذه الدائرة هو الذي نص الأئمة على قبوله وسعة الصدر عند وجوده،
فما زال الأئمة يجتهدون ويخالف بعضهم بعضاً في مسائل عديدة ويتحاورون
محاورة علمية تثري العلوم وتحيي الملكات.
أما الرأي الآخر الذي يتجاوز ثوابت الأمة، ويتمرد على أصولها وعقيدتها
فحقه الهجر، ويجب الرد عليه وكشف انحرافاته.
إن هذا الأمر خطير يجب الإقلاع عنه حتى لا يحمل فاعله وزر نفسه ووزر
من يضلهم بأقوال المبطلين بحجة (الرأي والرأي الآخر!) وحرية الفكر كما
زعموا.
أسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من
يشاء إلى صراط مستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تفسير السعدي، 2/33.
(2) تفسير المنار، 7/ 506، 507.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 1/129، وقال المحقق: سنده حسن.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 4 /703، وقال المحقق: هذه القصة رواها المؤلف من طريقين: الأولى: رواية السائب عزاها ابن حجر إلى (ابن الأنباري) ، وصحح إسنادها، الإصابة، 5/169، الثانية: رواية ابن يسار، ورواها الدارمي في السنن (146) .
(5) المصدر السابق نفسه.
(6) لعلها مجلة: الزهراء التي كان يصدرها الشيخ محب الدين الخطيب.
(7) مسلم (2674) .
(8) جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، ص 467.(178/22)
تأملات دعوية
الخطاب الدعوي بين العامة والخاصة
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
الدعوة الإسلامية ليست منبراً فكرياً يخاطب الخاصة والمثقفين، وليست
مجرد دعوة جماهيرية، وليست مجرد منهج تهذيب سلوكي.. إنها تتجاوز ذلك كله.
إنها دعوة للناس كلهم لأن يكونوا عباداً لله تبارك وتعالى؛ وهذا يقتضي قدراً
من الاتساع لميادين الخطاب الدعوي لا يتحقق لأي فكرة أو دعوة.
إن الصحوة الإسلامية اليوم بحاجة إلى خطاب لعامة الناس أو من يسمون
بالجماهير وبحاجة لخطاب الخاصة أو من يسمون بالنخب ولكل فئة من هذه الفئات
سمات وخصائص تميزها عن غيرها.
فخطاب العامة يحتاج إلى أن تزيد فيه شحنة العاطفة، وإلى أن يدور حول
المشكلات والقضايا التي تلامس اهتمامهم، وإلى أن يتسم الخطاب المسموع منه
بسمات الجاذبية في الإلقاء والحديث.
وخطاب الخاصة يحتاج إلى أن تزيد فيه اللغة الفكرية والعلمية الناضجة،
وأن يرتكز على الإقناع، وإلى أن يسعى إلى تشكيل الاهتمامات وإعادة صياغتها
[1] .
وتمثل سعة الانتشار وأرقام توزيع المادة مقياساً مهماً لمدى نجاح الخطاب
المقدم للعامة، بينما يخضع الخطاب المقدم للخاصة إلى معايير أخرى.
ربما يكون إدراك هذه القضية ليس أمراً شاقاً، لكن التعامل مع نتائجها هو
الأهم؛ ذلك أنه لا توجد حدود صارمة تفصل بين هذين المجالين من مجالات
الخطاب.
* ومن هذه النتائج:
- كثير من جيل الصحوة تمثل المادة المقدمة إلى عامة الناس بما فيها من
جاذبية وتفاعل مع المشاعر المصدر الأساس الذي يتعامل معه، ومن ثم فإنها تسهم
بشكل كبير في تشكيل ثقافته.
وهذا أدى إلى تضييق مجالات الاهتمام حول دائرة محدودة، وإلى زيادة نسبة
العاطفة في التفكير، وإلى سطحية في التعامل مع الظواهر والمشكلات، وغير ذلك
من الظواهر المرتبطة بنمط الثقافة، مما يفرض السعي إلى تداركه والاعتناء به.
- ثمة عناصر يقتصر نجاحها على أن تجيد خطاب الجماهير واستثارة
اهتمامها، إلا أن زخم الخطاب الجماهيري قد يدفع ببعض هؤلاء إلى الولوج إلى
دوائر أخرى وقيمة كل امرئ ما يحسن.
- صدور الآراء من أشخاص ذوي تأثير وانتشار يعطيها في الأغلب أكثر من
قيمتها العلمية، ويعفيها من كثير من خطوات التأمل والتقويم لدى فئة عريضة من
شباب الصحوة، وكثير من هؤلاء قد لا يجيدون التفريق بين الشخصيات التي تجيد
خطاب العامة، وتلك المؤهلة لأن يبرز رأيُها في قضايا الصحوة، أو قضايا الأمة
الشائكة.
- تختلط الأمور لدى طائفة من المتحدثين حديثاً مسموعاً وربما مكتوباً،
فيخاطبون العامة بلغة وعقلية الخاصة: «وما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه
عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» ، أو يخاطبون الخاصة بلغة وعقلية العامة،
وينتظرون منهم مستوى من التلقي لا يليق إلا بالعامة.
- قد نخلط في معايير تقويم الخطاب؛ فحجم الانتشار وأرقام التوزيع على
سبيل المثال من أكثر معايير نجاح الخطاب المقدم للعامة وإن كانت تؤثر فيه
اعتبارات أخرى كالدعاية والخلفية عن المتحدث بينما تقل قيمة هذا المعيار في تقويم
الخطاب المقدم للخاصة.
ومنشأ الخلط أن نقوِّم الخطاب المقدم للعامة من خلال صرامة عقليتنا الفكرية،
أو أن نقوِّم خطاب الخاصة من خلال الانتشار أو التأثير العاطفي.
إن استقرار الإيمان بالتخصص، وسعة المجالات، والفصل بين الحكم على
ذوات الأشخاص وتقويم نتاجهم، إن ذلك سيعيننا على تجاوز كثير من إشكالات
الخلط بين خطاب العامة والخاصة.
__________
(1) المقصود في ذلك ما يغلب على الخطاب، وإن كان كل منهما يحتاج إلى ما في الآخر.(178/26)
نص شعري
سفينة النجاة
عبد الرحمن بن صالح الحمادي
(.. إلى ملاحي «سفينة النجاة» الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر..
الذين أبحروا بأهل الإيمان في بحر خير الأديان بعدما قادها خيرُ رُبّان صلى الله
عليه وسلم: اصبروا واحتسبوا.. أنتم في عز ما تمسكتم بدينكم، ولن يضركم كيد
المرجفين، ولن تُرديكم سهام الحاقدين.. إلى الله.. في سفينة النجاة..) .
... تَسَامَيْ عن الحُسّادِ، وارْسَيْ على البَحْرُِ ...
... ... ... ... ... وصُوني حِمى الإسلام يا هيئة الأمْرِ ...
... سفينةَ مَن يرجو النجاةَ ببحرهِ ...
... ... ... ... ... وجسراً لِمُرتادٍ، ونوراً لِمَن يَسْري ...
... سقى نَبْتَكِ (الفاروقُ) من ماء فضلِهِ ...
... ... ... ... ... فَفُتِّقَتِ الأكمامُ عن أينعِ الزَّهْرِ ...
... وما كُنتِ في الإسلام إلا حَصانةً ...
... ... ... ... ... تًَذودُ عن الأعراض مِن راغب الشَّرِّ ...
... تُنادين للتشريع تُرعَى حُدُودُهُ ...
... ... ... ... ... لينجُوَ مَن يخشى الإلهَ مِنَ السُّعْرِ ...
... تقوم إذا ما قُمتِ كلُّ إمارةٍ ...
... ... ... ... ... وعنكِ لَعَمْري إنْ تَخَلّتْ لَفي خُسْرِ ...
... أمَا قال ربّي إننا خيرُ أُمّةٍ ...
... ... ... ... ... نُنادي بمعروفٍ وننهى عن النُّكْرِ؟! ...
... أمَا لَعَنَ الله اليهود لأنّهم ...
... ... ... ... ... رأوا مُنكراً لم يُنكروه على الجَهْرِ؟! ...
... أمَا أُمِر الرُّوحُ الأمينُ بخَسْف مَنْ ...
... ... ... ... ... يُصلِّي بلا نَهْيٍ يقولُ، ولا أمرِ؟! ...
... لَعَمْري إذا ما الناسُ ضَلُّوا سفينَهُمْ ...
... ... ... ... ... سَتَغرَقُ بالخُسران في لُجَّةِ البَحْرِ ...
... فَسيري سفينَ الخير في ظِلِّ هيئة ...
... ... ... ... ... أقامتْ على المعروف بُنيانَها الصَّخْري ...
... على سُنّة المختار كان مسيرُها، ...
... ... ... ... ... وآيُ إلهي كان نوراً إذا تَسْري ...
... وصُدِّي إذا ما المرجفون أغاظهمْ ...
... ... ... ... ... عُلُوُّكِ، بل أرخي عليهم مِنَ السِّتْرِ ...
... رَمَوْكِ بسَهْمٍ.. ما دَرَوا أنَ سهمَهُمْ ...
... ... ... ... ... على حرصهمْ ما رِيشَ؛ بل طاش في غَدْرِ ...
... فقُل للذي رامَ الحِيادَ عن الهُدى ...
... ... ... ... ... سترجعُ في جَهلٍ إلى (نُقطةِ الصِّفْرِ) !! ...
... وتَتْبَعُ نَهْجَ الجاهليّة بعدما ...
... ... ... ... ... تَبَدّلَ ليلُ الجاهليّة بالفَجْرِ ...
... إلهي! إليكَ المُصلحون تَوَجّهُوا ...
... ... ... ... ... فَخُذْ بنواصيهمْ إلى الخير والبِرِّ ...
... وأرشِدْ إلهي مَن أضَلّ طريقَه ...
... ... ... ... ... إلى سُبُل المَدِّ الكريمِ عن الجزر ...(178/27)
نص شعري
المخدوعون بالسلام
خالد الوقيت
...
حيرانةٌ تلك الخُطى ... في سيرها نحو السلام
تمشي على درب الخَطا ... عجلى ويحجبها الظلام
أنَّى الوصول إلى المرام؟ ...
حتماً تتوه وقد سرت ... في مهمهٍ مُستسعرِ
كلّ النوائب كشَّرت ... في وجهها الغض البري
تُخفي لها الموت الزؤام ...
ترجو الوصول إلى الهدف ... أنّى؛ ولا من مرشد؟
تأبى النصيح إذا هتف ... وتُصيخ نحو المعتدي
نسيتْ معاني الانهزام ...
كيف السبيلُ فأنتمُ ... أهل الحضارة والرُّقي
من لم يُعلَّمْ منكمُ ... تاهتْ خطاه وقد شقي
مهما تبجح بالكلام ...
يا ويحها ما تفعلُ ... يُعطي العدوّ زمامَها
حقاً تُراها تجهلُ ... أن الذين أمامَها
أقسى العداة على الدوام ...
طال المدى أم لم يطُلْ ... ظل اليهود هم اليهود
كل الخلائق إن تسلْ ... فعلى خيانتهم شهود
حقد وغدر وانتقام ...
لا لن يُغيِّرهمْ زمن ... كلا ولو ظنّ الغبي
فهمُ كخضراء الدِّمن ... حَسُنتْ ومنبتُها وبي
يُغرى بها القوم الطغام ...(178/28)
قصة قصيرة
فقيه جاهل
(قصة واقعية) [1]
أبو عبد الرحمن العامري [*]
في إحدى قرى المسلمين الأعاجم رجل جاوز أشد العمر بخمس سنوات ومع
ذلك لا يصلي؛ لكونه لا يعرف هل تصح صلاته أم لا؟ فأهل قريته يؤكدون له أنه
لا تصح منه صلاة مطلقاً!! ربما اشتاقت نفسه للصلاة فيدخل المسجد يريد الصلاة
معهم، فيردونه من بين صفوفهم؛ فربما صلى في مؤخرة المسجد غير متيقن
بصحة صلاته، وربما خرج ولم يصلِّ مقتنعاً بقول (فقهاء قريته) الجهلاء.
بعض المسلمين لا يصافحه إذا لقيه، والآخرون يجتنبونه أصلاً.
عاش هذا المسلم حياة تعيسة مزدرياً لنفسه، لو كان يعاني من مرض معد
لطلب علاجه مهما كلفه ثمنه لينتهي بؤسه، ولكن مشكلته أكبر من ذلك؛ فأهل
قريته يعدونه من أنواع النجاسات التي يجب أن يتنزه عنها المسلمون، وللقارئ أن
يستحضر منزلة النجاسات ليعلم مدى الاحتقار الذي كان يقابل به. ما أقسى هذا
الشعور! صار هو الذي يبتعد عن الناس ومجالستهم قبل أن يجرحوه بابتعادهم عنه.
صرخ في وجه زوجته يوماً: «دعيه؛ فلأن يعذب شهرين أهون عليه من
أن يعيش مثلي معذباً طول عمره» ، زوجته المؤلفة التي أسلمت قبل ولما تعرف
كثيراً عن الإسلام - صاح بها عندما عاتبته في كونه لم يكن هناك من حاجة لختان
ابنهما؛ فقد مرض الولد بعد الختان شهرين كاملين.
كان من رحمة الله بهذا الرجل أن مر بقريته طالب علم من بلاد العرب، بل
أن يدخل المسجد وذلك الرجل منزوٍ في آخره بحالة تلفت النظر، فيسأل عن سبب
ذلك، فيعرف قصته ويتقطع لها قلبه، وعند إقامة الصلاة دعاه من مؤخرة المسجد
وثبته في الصف الأول والرجل يرفض ويأبى، ويُحسَم الموقف بتصميم ذلك الداعية.
عيون الناس تشاهد في دهشة ماذا يجري؟! ولكن ألسنتهم لا تمتلك أن تخالف
ذلك الداعية؛ فهو عندهم منسوب إلى بلاد العرب أعرف الناس بأحكام الإسلام؛
فكيف يعترضون؟!
انقضت الصلاة والمصلون على دهشتهم يتوقعون تفسيراً لما يحدث.
شرع ذلك الداعية بالكلام، كان مما قاله لهم: «إن مسلماً لم يختتن في
صغره لظروف مر بها، ثم لم يختتن في كبره لظروف أخرى لا يكون نجساً أبداً،
وإن لم تكن له أعذار صحيحة، وإنه يجب على هذا المسلم أن يختتن من فوره وإنه
يأثم بتأخره» .
ما أن انتهى من تعليمه لهم حتى قام المصلون نحو أخيهم المبرأ من تهمة
النجاسة التي حالت بينه وبينهم دهراً يصافحونه ويعانقونه وكأنما دخل الإسلام لتوه.
هكذا يظلم الجهل الناس، بل هذا بعض ما يفعله الجهل بأهله؛ فهو أكبر
سلاح للشيطان في صدور أعدائه المؤمنين.
ما كان أحوج هؤلاء الناس إلى حديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه
وسلم تنتهي به معاناة أخيهم وهجرهم له؛ هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس» [2] .
__________
(*) مدرس بمعهد أم القرى الإسلامي بكمبوديا.
(1) حادثة وقعت بإحدى قرى كمبوديا حدثني بها حاضرها أخي الفاضل أبو الحسن الحيداني.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الغسل، باب/ عرف الجُنُب، وأن المسلم لا ينجس.(178/29)
ندوات
المنطقة العربية وتداعيات سبتمبر الأمريكية
(1 ـ 2)
إعداد: وائل عبد الغني
بسم الله الذي باسمه يستفتح كل خير ويستدفع كل شر، والصلاة والسلام على
النبي وآله وصحبه ومن تبعه وسلك طريقه إلى يوم الدين.
مرحباً وأهلاً بضيوفنا الكرام الذين يشاركوننا في ندوتنا هذه التي تطرح قضية
الساعة ونازلة العصر، والدور الأمريكي، (كعنصر حساس ومؤثر في التوجهات
السياسية العربية) في المنطقة العربية (كمجال حيوي للنفوذ الأمريكي) في ظل
تداعيات سبتمبر، والتي تحاول أن تستقرئ أهم النتائج وأخطر التداعيات،
وتحاول أن تجيب عن عدة تساؤلات حول هذا الموضوع:
إلى أي حد تغيرت أو تأثرت السياسة الخارجية الأمريكية بأحداث سبتمبر؟
وما أبعاد هذا التغير إن وجد على المنطقة العربية؟
وهل يعني ذلك تغير ثقل المنطقة بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية؟
وما التحديات التي تفرضها أو تحاول أن تفرضها السياسة الجديدة نحو
المنطقة؟
وما طبيعة الاستجابات على المستوى الفكري والمستوى العملي والتي يمكن
أن تدفع رياح الشر القادمة والقائمة عنا؟
البيان
* ضيوفنا في هذه الندوة هم:
أ. د. أحمد الرشيدي:
أستاذ العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
أ. د. حامد عبد الماجد:
أستاذ النظم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
أ. طلعت رميح:
رئيس تحرير جريدة الشعب المصرية.
أ. د. مصطفى منجود:
أستاذ النظرية السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
* مقدمات منهجية:
البيان: يبدو أن لضيوفنا الكرام ملاحظات مهمة بين يدي هذا اللقاء لرسم
إطار عام للندوة:
- أ. د. أحمد الرشيدي: أشكر مجلة البيان على هذه الدعوة الكريمة في
هذه الحلقة النقاشية، وأستهل حديثي بملاحظتين رئيستين تتعلقان بتشخيص الصورة
الراهنة للواقع العربي الإسلامي، من أجل مواجهة هذه الصورة المغلوطة التي
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية ترسخها لدى الرأي العام الأمريكي ولدى الرأي
العام الأوروبي:
الملاحظة الأولى: تتعلق بحقيقة أن ما حدث في 11 سبتمبر لا يمثل في
الحقيقة تاريخاً فاصلاً؛ فالأمريكيون مغرمون ببعض المصطلحات التي ترتبط
بصورة وثيقة بفكرة: «الماقبليات» و «المابعديات» ، وعلى هذا فإن الموقف
الأمريكي خاصة والمواقف الغربية عموماً إزاء العرب وإزاء المسلمين مواقف
معروفة على الأقل منذ الحرب العالمية الأولى وليست جديدة علينا، وما حدث في
11 سبتمبر في تقديري ربما زاد من الأمر وضوحاً، وربما كشف للبعض عمّا
كانوا يحاولون إغماض الطرف عنه.
الملاحظة الثانية: وفق تقديري.. أنا لست مع من يروجون ويرسخون في
أذهانهم لفكرة أن الولايات المتحدة هي الآن القطب الوحيد الذي يملك عصا سحرية
يوجه مسار حركة الأحداث على المستوى العالمي، وأنها ستكون كذلك على الأقل
خلال المستقبل المنظور أو المتواصل.. أرى أنه من الخطأ أن نرسم حساباتنا
انطلاقاً من هذه الفكرة؛ لأننا بذلك سنخسر معركتنا، وهذا يفرض علينا أن نستقل
في رؤيتنا وأن ننوع مصادرنا.. أن ننوع مستويات حركتنا. نعم الولايات المتحدة
الأمريكية هي قوة كبرى وهي قوة لها قدر كبير من الهيمنة. ولكن هذا لا ينفي
وجود قوى أخرى موجودة أو يتوقع وجودها خلال المستقبل القريب، وأرى أن أي
دولة مالكة للسلاح النووي تتساوى مع الولايات المتحدة الأمريكية في مسألة الردع.
- د. مصطفى: استكمالاً للجانب المنهجي الذي بدأه الدكتور أحمد وهو
جانب مهم جداً، أنطلق أيضاً من مجموعة من الملاحظات أراها على درجة كبيرة
من الأهمية بالنظر إلى الحدث ككل؛ لأنه يضع البوصلة أمامنا في أسلوب التعامل
مع هذه القضية الخطيرة:
أولى هذه الملاحظات: كانت أحداث سبتمبر نقطة انطلاق لتداعيات خطيرة
على مستوى الفكر والحركة أحدثت نوعاً من الاضطراب والبلبلة.. واختلط الكثير
من الأمور، وتداخلت كثير من المقدمات، وتوصلنا إلى نتائج ربما على عكس ما
نريد وعلى عكس ما نتوقع.. لماذا؟ لأن الولايات المتحدة كان لها الصوت الأعلى
الذي حاولت من خلاله إفهامنا أن الذي حصل ليس فقط كارثة لأمريكا فحسب وإنما
للعالم ككل.
الملاحظة الثانية: التحدي الذي تمخضت عنه الأزمة، بالنسبة للعرب
والمسلمين هو تحدٍّ متعدد الاتجاهات ومتعدد الضربات ومتعدد الأبعاد. وأظن أن
التوصيف الإسلامي الذي هو الأقرب إلى الدقة والصواب هو أن هذا ابتلاء،
وابتلاء شديد؛ لكنه ربما لم يكن الأشد في تاريخ المسلمين؛ فهم قد تعرضوا
لابتلاءات شديدة وكبيرة ربما فاقت ما حدث بعد أحداث سبتمبر، والذي يهمنا هنا
أولاً هو أن ندير الابتلاء بشكل ينفع العرب والمسلمين. ولكن قبل أن ندير الابتلاء
علينا أن يتوفر لنا إرادة الإدارة؛ وهذا يعني أن يكون لك قدر من الخصوصية وقدر
من حرية الحركة في اتخاذ قرار إدارة هذا الابتلاء، ولا يسوغ أن نقف عند مرحلة
تشخيص الابتلاء.
الملاحظة الثالثة: إن من أخطر ما يمكن أن تتمخض عنه الأحداث أن أصبح
الحاضر الغائب في تداعيات ما بعد سبتمبر هو الإرهاب الإسلامي وكأن المسألة
هكذا تتحرر رغم عدم توافر الأدلة بأن المسلمين هم المتهمون، وهذا خطير؛ لأنه
قد يوقع كثيراً من العرب والمسلمين خاصة على المستوى الفكري ناهيك عن
مستوى الحركة في دائرة الدفاع! وقد رأينا الكثيرين من القيادات الفكرية والقيادات
الحركية وهم منهمكون في نفي التهمة؛ وكأنك شئت أم أبيت مطلوب منك أن تدافع.
ولهذا فمن الخطر والخطأ أن نُستهلك في قضايا الدفاع رغم أهميته دون أن يكون
لنا لا أقول هجوم، وإنما يكون لدينا مبادرة.
الملاحظة الرابعة: أن العولمة الآن تكاد تتركز حول أن تصير أمركة
مسعورة ونهمة حكومة بداءين أساسيين: الداء الأول: هو الهيمنة، والداء الثاني:
هو الرغبة في الثأر. ولكن رغم هذه الهيمنة ورغم إرادة الثأر أنا أحسب أنها
عولمة أمريكية هشة وضعيفة، بمعنى أن هناك إمكانية لاختراق هذه العولمة
الأمريكية.. والبعض يتكلم عن السقوط الأمريكي؛ فهناك إمكانية للحركة؛ فما
أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء حتى في أشد الأدواء السياسية.
الملاحظة الخامسة: بالنسبة للتحول في السياسة الخارجية الأمريكية: يمكن
القول إنه بالفعل قد حدث تحول في كثير من أنحاء السياسات الخارجية في العالم
والسياسة الخارجية الأمريكية على وجه التحديد، ولكن السياسة الخارجية الأمريكية
ليست وليدة المصادفة أو الفجائية، لكن هم يخططون، وأظن أن ما وصلوا إليه
الآن لم يكن بضربة حظ. ولكن السياسة الخارجية لأي دولة من الدول لها ثوابت
ومتغيرات؛ والذي حدث ربما يكون أصاب المتغيرات في السياسة الأمريكية؛
بدليل أن هناك مجموعة من هذه الثوابت لم تهتز حتى في المنطقة العربية رغم ما
حدث ورغم التداعيات؛ ومن بين هذه الثوابت مسألة البترول، ومسألة الدولة
القائدة في المنطقة العربية، ومسألة موقف معين من القضية الفلسطينية، ومسألة
دعم إسرائيل: كل هذه ثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية، وهناك داخل هذه
الثوابت أمور متغيرة، وأظن أن التغير إذا كان أصاب فقد أصاب المتغيرات في
السياسة الخارجية الأمريكية.
الملاحظة السادسة: أن فكرة الحروب الصليبية التي أثارها الرئيس بوش
ليست جديدة؛ فهناك تقرير قدم في عهد الرئيس ريجان في سنة 1984م وسُمي:
«الدخول في مرحلة الحروب الصليبية الثالثة» ، هذا التقرير كان يتكلم عن
التعامل مع المنطقة العربية والإسلامية؛ ولهذا لم تكن زلّة لسان من بوش ولم تكن
مسألة طفرية. ويقال إن أول تقرير قرأه بوش بعد ولايته للحكم هو هذا التقرير
واستدعى الكثيرين ليناقشهم فيه.
الملاحظة الأخيرة: حول ما تشهده المنطقة العربية من تبديد للمفاهيم؛ وهذا
التبديد يتم على مستوى الفكر ومستوى الحركة. هذا التبديد أريد منه أن يخدم
التحول الذي حدث في السياسة الخارجية الأمريكية عبر تفريغ الألفاظ من معانيها
ودلالتها الشرعية المعرفية والمنهجية والموضوعية كما عرفناها في تاريخنا وتراثنا
وحاضرنا.
- د. حامد: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على
رسول الله ومن والاه، وبعد: في البداية أسجل اتفاقي حول النقطة المحورية بأن ما
حدث في سبتمبر لا يمثل لحظة انقطاع؛ فالمسألة السياسة لا تعرف إلا الاستمرارية؛
لكن كل ما أستطيع أن أقوله بالنسبة لهذه اللحظة أنها ربما أضافت أمرين:
1 - أن المتغيرات فيها كانت متسارعة من الناحية الكمية، وظن كثيرٌ من
الناس أنها تمثل نقلة نوعية.
2 - أن هذه اللحظة أفصحت وأبانت عن كثير من السياسات التي كان
السياسيون يحرصون على سترها في الماضي، فظن كثير من الذين لا يتعمقون
وراء الأحداث أنها جديدة.
وأضيف أنها لحظة تراكمت فيها المتغيرات وتسارعت بدرجة كبيرة قياساً
على اللحظات السابقة؛ فالحدث لم يكن هيناً، كما أفصح فيها كثير من الأطراف
عن سياساتهم بدرجة من الدرجات (أو أزالت برقع الحياء) مما جعلها لحظة أزمة
حقيقية بكل معاني مفهوم الأزمة.
سأركز على ثلاثة ملاحظات تؤكد على هذا المعنى:
الملاحظة الأولى: أن المنطقة العربية ككل ذات أهمية استراتيجية بالغة في
النظام الدولي أياً كانت القوة التي تُهيمن على النظام الدولي، ومن ثم فأي محاولة
لعزل هذه المنطقة عن النظام الدولي، أو تصور تفسير أحداثها بعيداً عن القوى
المهيمنة في النظام الدولي هي محاولة عابثة، وأتصور أن جزءاً كبيراً من سياسات
هذه المنطقة في الوقت الراهن لا يمكن أن يُفسر بمعزل عن استراتيجية الولايات
المتحدة الأمريكية، وأتصور أن هذا له على الأقل في الماضي وفي الحاضر عدة
تفسيرات:
الأول: أن هذه المنطقة تمثل الند الحضاري للغرب الذي قادته بريطانيا في
مرحلة، وفرنسا في مرحلة، وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة أخرى.
العقلية الغربية ما زالت على مستوى الشعوب والقيادات لم تنس أن هذه
الحضارة هي التي تملك البديل المحتمل لها، كما أن ذكريات الصدام المرير مع هذه
الحضارة ما زالت موجودة في الذاكرة الأوربية.
- د. أحمد: كأن أحد مسوغات هذا الموقف الأمريكي والغربي هو إحساسهم
وشعورهم بأننا أصحاب مشروع حضاري لا يقل عن مشروعهم إن لم يكن يفوقه،
ومن ثم هذا تفسير لهذا الموقف تجاه العرب والمسلمين خاصةً.
- د. حامد: نعم! وهو ما أفصحت عنه لحظة سبتمبر في الخطاب السياسي
للقيادات، وفي الوعي لدى النخب السياسية وصُنَّاع القرار، وأكدته ممارسة
المفكرين وغيرهم؛ هذا الجزء الحضاري يؤكد الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة.
الثاني: هو النقطة الدفاعية العسكرية، والذي يؤكد الأهمية الاستراتيجية لهذه
المنطقة؛ فالمنطقة العربية تمثل خط الدفاع الأول بالنسبة لأوروبا وللولايات المتحدة
الأمريكية؛ حيث إنها تفصلها عن الصين وأيضاً عن أفريقيا وآسيا.
الثالث: الجانب الاقتصادي؛ فالمنطقة العربية تبرز أهميتها الاستراتيجية بما
هي غنية به ليس فقط البترول وإنما موارد أخرى تؤكد الأهمية الاقتصادية للمنطقة
العربية. وأهمية المنطقة كمنطقة وصل بالعالم القديم ككل. كل ذلك يؤكد الأهمية
الاستراتيجية للمنطقة العربية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية فيما مضى، وزاد
إدراك ذلك وأفصح عنه أحداث سبتمبر.. هذه هي الملاحظة الأولى.
الملاحظة الثانية: وهي أيضاً قديمة جديدة وتتعلق بدور الكيان الصهيوني في
معادلة توازن المصالح والصراع والتوازن الاستراتيجي في المنطقة من قبل أحداث
سبتمبر؛ فالصراع العربي الإسرائيلي أو الصراع الإسلامي الغربي في فلسطين هو
في حقيقته امتداد لجهاد المنطقة ضد الاستعمار الغربي فيما مضى: ضد فرنسا
وإنجلترا في مرحلة من المراحل، ثم الولايات المتحدة الأمريكية التي ورثت هذا في
مرحلة ثانية؛ ولذلك فمن الطبيعي أن قوى التحرر التي حررت بلادها في موجة
التحرير الأولى هي في حقيقتها القوى التي تقف اليوم وقفة حقيقية ضد الاستعمار
الأمريكي وضد إسرائيل، هذه القوى كانت تستمد مشاريعها الجهادية والتغيرية من
الإسلام في الأساس؛ صحيح أن ثمرته سُرقت بعد ذلك، لكن عندما عاد الاستعمار
مرة أخرى في الثياب الأمريكية، وقفت هذه القوى من جديد ضد السياسة الأمريكية،
وهي تعتبر القضية المركزية لها قضية الوجود الصهيوني. أما عن سياسة الولايات
المتحدة الأمريكية في مساندة إسرائيل فإنها لم تتغير في حقيقة الأمر عما كانت
تسانده القوى، بل ربما ازدادت.
الملاحظة الثالثة والأخيرة: وهي تتكامل مع الملاحظتين السابقتين أن
تداعيات سبتمبر كما ذكرت وعلى رأسها مسألة التحكم في الإرادة العربية وتدعيم
أدوات النفوذ الأمريكي في المنطقة، ولهذا فإن السياسة الأمريكية في المرحلة
الحالية تسعى بشكل واضح للتحكم في الإرادة العربية والإسلامية من خلال مسالك
متعددة وضعت بشكل جيد، ويجب أن نرصدها بشكل علمي لتجعل كمقدمة
للتحديات التي سنتناولها.
- أ. طلعت: أشكركم على هذه الدعوة الكريمة، وسط هذه الكوكبة اللامعة
من نخبة العقول المثقفة المفكرة. ليسمح لي الأساتذة الأفاضل، بأن أطرح بعض
الملاحظات التي تأتي في معظمها تعزيزاً لما ذكروه.
الملاحظة الأولى: مع اتفاقي على فكرة الثوابت والأهداف والمرامي
الأمريكية استراتيجياً تجاه عالمنا العربي والإسلامي، ومع اتفاقي من ناحية المبدأ
على أن الاستراتيجية الأمريكية في هذه المرحلة هي امتداد لفكر استراتيجي مرتب
ومبرمج قبل وقوع أحداث 11 سبتمبر، لكن إكمال الصورة وجعل الاستنتاجات
معبرة عن مختلف جوانب الموقف يتطلب تخطي فكرة «الثبات والاستمرارية» ،
ويتطلب الإجابة عن سؤال رئيسي هو: هل تنطلق الولايات المتحدة في إطار
(الحلف الأمريكي البريطاني الصهيوني) من وضع هجومي قوي، أم أنها تنطلق
من وضع دفاعي، حتى ولو كانت تتحرك هجومياً؟ أو بتعبير أدق وبطريقة أخرى:
هل جاءت استراتيجيتها قبل وبعد 11 سبتمبر من موقع الهجوم الاستراتيجي في
منطقتنا (والعالم) بهدف تعزيز هيمنتها وانتصاراتها، أم لقطع الطريق على
تحولات استراتيجية أو ذات ملامح وأفق استراتيجي إذا ما استمرت في سيرها،
فإن النتيجة ستكون الإطاحة بهيمنتها وفرض نفسها كقطب وحيد في العالم، أو
كحكومة للعالم؟
إن لهذا السؤال أهمية قصوى في تقدير الموقف وفي تحديد استراتيجيات
المواجهة. وأنا أرى هنا أن التحالف (الأمريكي - البريطاني - الصهيوني) ،
ينطلق في مواقفه وتحركاته وخططه، من تقدير استراتيجي بتآكل سريع لوضع
هيمنة القطب الواحد عالمياً، سواء بسبب الظهور المتنامي للقطب الأوروبي
(أوروبا الموحدة) أو لتصاعد القدرات الاستراتيجية (العسكرية والاقتصادية)
للقطب الصيني، أو لشعوره بنمو أو ما يشبه الحركة داخل العالم العربي والعالم
الإسلامي، أو لمجرد أسباب ذاتية.
ومن ثم فإن الحلف الأمريكي البريطاني الصهيوني، قبل 11 سبتمبر لم يكن
يتحرك وينطلق من موقع أو استراتيجية الهجوم، لإكمال السيطرة والهيمنة (كما
كان الحال في حالة الحرب ضد العراق في عام 1990م بشكل خاص) ولكن من
موقع واستراتيجية الهجوم الدفاعي في مواجهة تراجعها كقطب مهيمن ومسيطر.
الملاحظة الثانية: إن أهمية أحداث 11 سبتمبر، وتحليلها في إطار الإجابة
عن السؤال السابق لها وجهان أو اتجاهان: الأول ما أشار إليه السادة المتحدثون،
أي فكرة ضرب الولايات المتحدة على أراضيها، والثاني الذي أضيفه، هو أنها
تأتي تطويراً للمواجهات معها ومع الحلف الصهيوني البريطاني من الخارج لتمتد
إلى الداخل في العمق الاستراتيجي، وهو ما يشير إلى الانكشاف الاستراتيجي
الأمريكي - بنفس حالة الكيان الصهيوني الآن - ويؤكد ملامح التراجع الاستراتيجي
للحلف، والنهوض والهجوم العربي والإسلامي وليس العكس.
الملاحظة الثالثة: آتي هنا إلى ملاحظة يبدو لي أنها ذات طابع خلافي؛
حيث أرى أن ثمة تغيراً حقيقياً في التوجهات الاستراتيجية الأمريكية في العالم وتجاه
العرب والمسلمين على وجه الخصوص، كانت ملامحها خافتة قبل أحداث
11 سبتمبر، وانجلت وأصبحت سافرة بعد هذه الأحداث، وأن ما نراه أمامنا
من تحركات أمريكية ليس تغيراً فقط في أسلوب المواجهة، أي استخدام القوة
العسكرية، ومن تدخل سافر في الشؤون العقدية والحضارية، وفي الأوضاع
الداخلية ... ، وإنما هو تغير يقوم على أن هذا الحلف بات يضع الصراع مع
العرب والمسلمين كهدف استراتيجي له أولوية وأكثر إلحاحاً بالمواجهة في الوقت
الراهن، ينبغي تسكين الصراعات الأخرى لمصلحة تحقيق الانتصار فيه، وإن
أبرز صفات هذا التغير الاستراتيجي هو اعتماد أسلوب المواجهة العسكرية والتهديد
بها مع العرب والمسلمين «ككل» ، و «مجموع» وليس كدول متفرقة ينبغي
كسب بعضها باستخدام الوسائل الاقتصادية لتسهيل عمليات ضرب البعض الآخر
كما كان يحدث من قبل، ويتم ذلك تحت شعار عام هو مواجهة الإرهاب
(الإسلامي) .
* وقفة مع الحدث:
البيان: ربما كان الخلاف في هذه القضية من قبيل الاختلاف الاصطلاحي،
ولهذا نريد أن ننقل الكلام إلى طبيعة الآثار التي نجمت عن هذا الحدث العظيم،
ولعل منها هو انقلاب موازين العديد من المفاهيم والتي على رأسها مفهوم الأمن
القومي.
- د. أحمد: إن ما حدث في سبتمبر لو حدث بالنسبة لأي دولة أخرى فمن
الممكن أن نقلل من شأنه؛ لكن هذا الحدث بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لا
يمكن التقليل من شأنه.
- د. حامد: لم تواجه الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب الثانية عام
1945م خطراً داخلياً، ولم تواجه حرباً ما أو عملاً ما على الأرض الأمريكية،
وكان الذهن الأمريكي غير مهيأ على الإطلاق لأن تواجه الولايات المتحدة حدثاً
بمثل هذه القوة وهذا التحدي على الأرض الأمريكية؛ وهذا هو الذي زاد من تأثير
الحدث على السياسة الأمريكية وعلى الذهنية الأمريكية؛ لم تشهد في تاريخها، ولم
تكن تتصور أنه سوف يحدث لها مثل ما حدث.
البيان: وكأن التقنية تحولت في يد الأفراد إلى قيد كبير على سياسات الدول!
- د. مصطفى: طبعاً على قدر المكان وعلى قدر المكانة كان هذا التداعي
الخطير. ولهذا ينبغي ألا نقلل من شأن الحدث لا بالنسبة للولايات المتحدة ولا
بالنسبة للتداعيات عندنا في المنطقة العربية، وأرصد أولاً أن الولايات المتحدة
وربما الغرب تحالف معها توقفوا كثيراً عند: من الذي أحدث الحدث؟ أكثر من
التوقف عند: لماذا حدث؟ وهذا في حقيقة الأمر يثير مسألة في غاية الأهمية: هل
الذي حدث سببه الإرهاب كما يزعمون؟ أو هل الذي حدث مرتبط بمسألة التوزيع
العادل لقيم الاقتصاد والسياسة في العالم؟ أو مرتبط بازدواجية الدور الأمريكي في
مسألة حقوق الإنسان؟ هل مرتبط برفض العولمة في صورتها الأمريكية؟ هل
مرتبط بالقدس والقضية الفلسطينية كما قال بعض أعضاء تنظيم القاعدة؟ هل..
هل..؟ إن هناك تعامٍياً بشكل أو آخر عن: ما السبب؟ وهذه مسألة في غاية
الأهمية إلى الآن.
* الملامح الأساسية للسياسة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر:
البيان: وكيف نقرأ التطورات التي استجدت على السياسة الخارجية للولايات
المتحدة بعد سبتمبر؟
- أ. طلعت: لعل مما يفسر ذلك أن هذه هي المرة الأولى منذ حركة بيرل
هاربر التي تُضرب فيها الولايات المتحدة على أرضها، وهو ما يعني أن نظرية
الأمن القومي الأمريكي المستقرة منذ نشأة أمريكا، قد ضربت في مقتل؛ فإن ثمة
ضرورة لإدراك حجم التأثير لهذه الضربة على الوضع الدولي لأمريكا، وحجم
الارتباك الاستراتيجي الحادث للخطط الأمريكية، وحجم الدمار الذي أصيب به
الاقتصاد الأمريكي، وحجم الهزيمة النفسية التي أصيب بها الجيش الأمريكي
والنخب الأمريكية، بعد ضرب البنتاجون ومركز التجارة وما قيل عن محاولة
ضرب البيت الأبيض.
ومن ثم فإن قراءة التحرك الأمريكي البريطاني الصهيوني، الهستيري
والمجنون لا يفسر فقط بثوابت الأهداف والمرامي، بل يفسر أيضاً بأنها وصلت حد
الارتباك في استراتيجيتها في مواجهة العالم العربي والإسلامي. إن الحالة الفاشية،
والاضطرار لتخطي كل الأساليب الديبلوماسية والخداع في التعامل مع العرب
والمسلمين، وصراعها المكشوف بصدد هذه القضية في بعض الأحيان وطرح
شعارات مثل: (معنا أو ضدنا) ليس مؤشراً على القوة الكاسحة تكنولوجياً، بل
أيضاً بأنه عنوان للارتباك والشعور المتنامي بالتراجع، بما اضطرها لاستخدام
قواها الاسترتيجية العسكرية للمواجهة مع الخصوم لعدم قدرتها تحقيق النجاح
بالوسائل الأخرى.
- د. مصطفى: لا شك أن الحدث شديد وجديد، وأحدث هزة كبيرة،
وأصاب السياسة الخارجية الأمريكية وصانعي القرار بهزة عميقة.
الذي أريد أن أرصده هنا أولاً: أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث
سبتمبر نستطيع أن تميز بين مسلكين أو قيمتين كبريين في سياستها الخارجية مع
المنطقة العربية:
القيمة الأولى: أنه صار ينظر إلى قضية المنطقة العربية وما يعتريها من
مشاكل وقضية الصراع العربي الإسرائيلي والوضع في فلسطين على أنه ليس في
أولويات السياسة الأمريكية؛ فمثلاً قضية ضرب الرئيس صدام حسين وقضية
العراق في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وقضية فلسطين وما يجري في
الأرض المحتلة قضية أصبحت في هامش الشعور بالنسبة لهم.
البيان: كأن القضية أن استرضاء العرب ومراعاة مصالحهم هو الذي لم يعد
في الأولوية!
- د. مصطفى: نعم هذا الذي أعنيه!
أما القيمة الثانية: (إن جاز تسميتها قيمة) أن هناك حيرة وتناقضاً في
السياسة الخارجية الأمريكية، وهذه الحيرة والتناقض لم يرصدها فقط المثقفون
والكُتاب العرب، وإنما رصدها من في داخل البيت الأمريكي؛ فهذا فولر على
سبيل المثال يسجل على الولايات المتحدة هذا التناقض وهذه الحيرة حول الموقف
من فلسطين: هل نضرب عرفات ونلغيه، أم نُبقي عليه لأن الصوت العربي يقول:
عرفات هو البديل وأن البدائل الأخرى ... ؟!! إلخ.
هناك اضطراب وقلق وهناك تناقض، وهذا يعطي فرصة للحركة العربية.
كيفية استثمار هذا التناقض إن جاز تسميته تناقضاً.
البيان: ربما يرجع ذلك إلى ما أشار إليه بعض المحللين من أن أمريكا تعاني
من أزمة استراتيجية بعد انتهاء الحرب الباردة، بمعنى أنه لم يعد لديها
استراتيجية واضحة وكاملة وذات هدف واحد كما كان الحال إبان الحرب الباردة،
ومن ثم فهي تتعامل مع كل طرف وفق استراتيجية مفتوحة قائمة على التجريب
أكثر منها قياماً على الرؤية المستقبلية.
- أ. طلعت: هذا يؤكد تماماً ما أشير إليه من أن الاستراتيجية الأمريكية
تعاني من حالة تخبط ودوار غير مسبوق، ومن ثم فهي تتحرك حركة مختلة تنم
عن فكر مختل، ولعل من أسباب ذلك أنها تواجه عدواً هلامياً وعقدياً، يصعب
ضربه أو اختراقه، ويمكن أن يتشكل في صور مزعجة ودون إمكان رصده، وهو
ما يعني بالتعبير العامي: «مرغمة أنف العزة الأمريكية» .
- د. مصطفى: أعود فأكمل: يمكن كذلك أن نرصد توسعاً كبيراً في مفهوم
الأمن القومي الأمريكي بصورة فجة؛ هذا التوسع يطرح عدة تساؤلات: ما تكاليفه؟
وما هي تداعياته على المنطقة العربية؟ .. وهل سوف تسهم المنطقة العربية في
تمويله؟ وهل سوف تشغل آلة الحرب الموجودة وتستخدم بعض الدول كقواعد
ومسهلات؟
المسألة تهمنا من قريب ومن بعيد؛ فما يحدث في فلسطين يمسنا، والذي
يحدث في أفغانستان يمسنا، والذي يحدث في دول (محور الشر) يمسنا، ومن
الواضح أن المنطقة العربية تؤجل كل خلافاتها وصراعاتها الداخلية كي تستجيب لما
يحدث، وهذا يفرض تحديات.
أيضاً أرصد نقطة رابعة وهي لون من تغوُّل العولمة وهي العولمة العسكرية
وما قيل إن الحرب لا تعرف الجغرافيا، ومعنى هذا أنه مسألة (Geopolitic)
كما يقولون أصبحت منزوية قليلاً، لحساب الآله التكنولوجية والصناعية الغربية
التي سوف تتخطى كل الحدود، وهذا يمثل أحد تداعيات العولمة وما يكمل مفهومها.
لم يعد مسموحاً بفكرة ما تريده أنت؟ أو أنت ترفض أم لا؟ إنما ما أريده أنا
وفقاً للتصنيف الذي يقضي بـ: (إما معي في مكافحة الإرهاب، وإما ضدي في
مكافحة الإرهاب) .
أيضاً أرصد ظاهرة أن هناك قدراً من تنسيق المواقف لا نقول التحالف بين
رجال الفكر ورجال الحركة في العقلية الأمريكية وبالذات بعد أحداث سبتمبر وهو
واضح في استدعاء فكرة مثل صراع الحضارات، وما ورد في بيان المثقفين
الأمريكيين، وهذه ظاهرة نعاني من عكسها في المنطقة العربية.
- الدكتور حامد: إذا كان لي أن أرصد كما فعل أخي الدكتور مصطفى بعض
الملامح قبل أن أجيب عن سؤال حضرتك بعض الملامح الأساسية للسياسة فيما بعد
أحداث سبتمبر فأريد أن أتطرق إلى ستة متغيرات أساسية أو ستة ملامح أساسية:
الملمح الأول: الذي لاحظته بعد أحداث سبتمبر أن هناك درجة متعاظمة أو
متعالية من سيادة منطق الخضوع للإرادة الأمريكية يتساوى بدرجات متفاوتة في
ذلك العالم العربي والإسلامي، وحتى أوروبا بالنسبة للعالم العربي والإسلامي
أستطيع أن أقول إن القرار السياسي الاستراتيجي في معظم القضايا في العالم
العربي والإسلامي تحدده الإرادة الأمريكية في الوقت الراهن، هذا واضح جداً
بالنسبة للقضية الفلسطينية، حتى إن البعض يصف بعض بلدان هذه المنطقة كأنها
مخطوفة.. بلاد مخطوفة للإرادة الأمريكية أو مستلبة أو ما شاكل ذلك.
نشرت (الليموند) منذ حوالي ستة أشهر مقالاً بعنوان: (كلنا أمريكيون)
هذه هي فرنسا! صحيح حدث بعد ذلك نوع من المراجعة في الفترة الأخيرة، لكن
الموقف الأوروبي في فترة ما بعد أحداث سبتمبر تقارب بدرجة لم يعرفها تاريخ
الحضارات الأوروبية الأمريكية خصوصاً إزاء قضايا المنطقة؛ فهناك درجة عالية
جداً من الخضوع للمنطق الأمريكي. وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم خضوع
السياسة البريطانية. السياسة البريطانية حتى الساسة البريطانيون يصفون (بلير)
بأنه «ذيل الكلب» بنفس التعبير.
الملمح الثاني: هو ازدياد دور أجهزة الأمن والمخابرات. ترصد مثلاً حجم
مبيعات آلات التخابر البسيطة والتي تباع في شوارع لندن، نجد أنها تضاعفت
حوالي 21 أو 31 مرة.. الميزانيات الضخمة التي تُخصص لأجهزة الاستخبارات
والأمن على المستوى العالمي حتى إن القضايا السياسية أصبحت تناقش داخل أروقة
المخابرات. مثلاً: كان القرار السياسي الخاص بالمنطقة العربية من قبل يصنع في
الكونجرس أو في مؤسسة الرئاسة، ثم انتقلت لوزارة الخارجية الأمريكية في فترة
من الفترات، ثم انتقلت من وزارة الخارجية إلى المخابرات الأمريكية، ولذلك من
الذي يناقش الآن قضايا السياسة الأمريكية في المنطقة، ومن الذي يرسل سواء هنا
أو هناك؟ فهذا يعكس تنامي الدور الأمني بالمعنى المباشر على حساب الدور
السياسي الأمني المؤسسي.
- د. مصطفى: أضف إلى ذلك أن هناك اختراقاً بشكل أو آخر لدور
مخابرات الأمن الأمريكي في المنطقة العربية.
- د. حامد: ليس اختراقاً. أنا أتصور أن هناك تنسيقاً من فترة طويلة..
التنسيق هذا في المرحلة الحالية وصل إلى درجة العلاقة العضوية. تراجعت
السياسة لصالح الأمن؛ وهذه تداعياتها خطيرة لماذا؛ لأن الأمن بحكم العقلية الأمنية،
والعقل الأمني غير العقل السياسي. العقل السياسي يمكن أن يُشغل بمنطق الحق
والحقوق والعدل وكذا وكذا ... لكن العقل الأمني وقتي وآني ويهمه توازن القوى
الموجودة على الأرض والمصلحة المباشرة.
الملمح الثالث: هو ارتفاع حدة وموجة العداء الشعبي للولايات المتحدة
الأمريكية بعد أن كانت تمثل نموذج العالم الحر ونموذج القيم الديمقراطية. طرح
بعد أحداث سبتمبر سؤال محوري: لماذا يكرهوننا؟ أدركت أمريكا أن الشعوب
العربية والإسلامية على خلاف الأنظمة. هناك موجة عالية من الكراهية للنموذج
الأمريكي لأمريكا؛ حتى إن حزب أمريكا أو مناصري أمريكا بدؤوا يتخفون.
الذي حدث في هذه النقطة تحديداً نوع من الالتحام بين ما يمكن أن أسميه قوى
الرأي العام العربي والإسلامي مع قوى أخرى في الغرب وفي غير الغرب لها
مواقف مناهضة للولايات المتحدة الأمريكية.
مثلاً بقايا الاشتراكيين واليساريين، مناهضو العولمة، أضرب مثلاً:
المظاهرة المليونية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية ما هي القوى التي كانت
تشارك فيها؟
لا يمثل العرب والمسلمون فيها أكثر من خمس أو سدس المشاركين والباقي
قوى أحزاب يربطها عداء الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه هي القوى الفاعلة في
الساحة الأوروبية. حتى أنا رأيت المظاهرات الموجودة في لندن، ورأيت
المظاهرات الموجودة في برلين: تشهد كلها بارتفاع موجة عداء عالمي للسياسة
الأمريكية.
ما حدث في دربن مثلاً في جنوب أفريقيا. إذن أيضاً أحد الصفات الأساسية
التي يمكن ألا تواري خضوع الحكومات والأنظمة السياسية الأمريكية أن هناك
رفضاً شعبياً حقيقياً متعدد الجذور ومتعدد المشارب للسياسة الأمريكية، وهو تنامٍ
ليس وقتياً ولكنه مستمر.
الملمح الرابع: أتصور أن السياسة الأمريكية سوف تقوم على نشر
الصراعات المنخفضة الحدة Limited wars بمعنى أنها سوف تفجر نقاط التوتر
في العالم التي كانوا يسمونها في الستينيات (حروب الوكالة) .
وأنا أتصور أن هذه سمة بدأت في أفغانستان، وتسير في فلسطين، وسوف
تستمر في الفترة القادمة. لا أتصور أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتورط
في حرب كبيرة أو مفتوحة؛ لكن سوف تلجأ للحروب منخفضة الحدة أو صراعات
منخفضة الحدة وحروب الوكالة.
وذلك له أسباب كثيرة منها أن الولايات المتحدة الأمريكية لها خبرة في
الصراعات الكبرى والصراعات متوسطة الحدة، وليس لديها خبرة في الصراعات
منخفضة الحدة.
- د. مصطفى: أنا بالطبع هنا بين أمرين:
الأمر الأول: أن هذه الحروب سوف تنفجر وهي تحاول أن تضعها في حيز
الحروب المحدودة، هل لأن هذا جزء من الاستراتيجية الأمريكية؟ أتصور ذلك.
منها إذكاء هذه الصراعات لكي يحدث نوع من الاستهلاك الذاتي للقوة الإقليمية.
شيء آخر: الذي هو تجريب صناعة السلاح، بالإضافة إلى الحرص على
عدم إقحام المواطن الأمريكي نفسه والتضحية به فيما لا فائدة بالنسبة له، وحرب
الخليج الأولى هي نوع من أنواع حروب الوكالة.
- د. حامد: الملمح قبل الأخير الذي أتصوره: أننا في طور تصفية القضية
الفلسطينية، مسألة التسوية السياسية أن هناك إرادة أمريكية تتوافق مع الإرادة
الإسرائيلية على تصفية القضية الفلسطينية، أتصور أن المنطقة العربية الآن في
أضعف مراحلها، والإرادة العربية لديها استعداد أن تقبل أي شيء؛ فأتصور أن
أمريكا وإسرائيل الآن كل ما في الأمر أنهم يعصرون هذه الإرادة وتلك القيادات
حتى تقبل بأدنى سقف ممكن وهي مهيأة، وأرجو أن أكون مخطئاً في أن هذا
الظرف هو ظرف مواتٍ جداً لهم.
العقبة الأساسية والعقبة الحقيقية هي الانتفاضة؛ منذ فترة نشرت جريدة
(الجارديان) مخططاً للتوازن بين إسرائيل والفلسطينيين من حيث القوى؛ فوضع
أوجه المقارنة من حيث الأسلحة: إسرائيل رقم مثلاً 230 والفلسطينيون صفر..
والقوات: إسرائيل رقم كذا والفلسطينيون صفر.. والقنابل النووية كذا
والفلسطينيون صفر.. وفي تلك المقارنة وضع حوالي 16 نقطة؛ فكل ما يخص
الفلسطينيين صفر. ثم وضع الاستشهاديين في المقارنة، فوضع إسرائيل صفر
ووضع أمام الفلسطينيين ما يسمى عدد لا نهائي، وعلق المحلل أن هذا هو عنصر
التوازن.
ولهذا فالشيء الأساسي الذي يعوق على المستوى الاستراتيجي من تصفية
القضية الفلسطينية هو هذا العنصر الوحيد ليس بمعنى فعله، ولكن حتى وجود
إرادة لكي يظل أحد عناصر المعادلة في المنطقة كعنصر أساسي ومستمر.
ولذلك سوف تجد في الفترة القادمة وبما يظهر تكالباً شديداً على أنه يُحجب،
يشوه، يصفى، يلوث سواء على المستوى الرسمي أو الديني، ويحصل تبديل
للمفهوم.
- د. مصطفى: مسألة الاستشهاد لم تعد قاصرة على فلسطين؛ المسألة هنا
أن النوع في الاستشهاد كثر، المسألة الثانية أن المنطقة في الاستشهاد تعددت،
وأيضاً حركة ووجهة الاستشهاد أيضاً قد تغيرت مثلما تذكر حضرتك لا تكون
الأرض المحتلة فقط هي مجال حركة الاستشهاد، بل ربما تنتقل المسألة من كونها
مجرد حركة استشهاد نحو أهداف إسرائيلية سواء مدنية أو عسكرية إلى أهداف
أمريكية وبريطانية، بل قد تتجاوز ذلك إلى أكثر. هذا السلاح لا يستطيع أن
يواجهه سلاح نووي ولا تقليدي.
- أ. طلعت: لعل الدكتور حامد يقصد بتصفية القضية الفلسطينية محاولة
الحلف الصهيوني تصفية القضية، وليس تصفية القضية.
- د. حامد: نعم!
- أ. طلعت: ولكن أرى حتى تتزن الصورة ينبغي أن يقال إن المنطقة
ليست في أضعف حالاتها، وإن القضية الفلسطينية في أقوى حالاتها رغم ما
تتعرض له من مؤامرات ومحاولات لسحقها، ولتأذن لي أن أخالفك الرأي بأن
الصهاينة (والحلف) ليسوا هم الذين يعصروننا، واختلافي هو أنني أرى أن
المشروع الصهيوني هو الذي يتعرض الآن لأخطر درجات التهديد التي لم تحدث له
منذ عام 1948م وحتى الآن، وأنه هو المعرض للتصفية والتفكيك أو لهزيمة
استراتيجية (قد لا تكون شاملة في هذه المرحلة) ، وأنه يعاني من تراجعات
خطيرة، تصاعدت وتيرتها في المرحلة الراهنة، وهذا هو دافع من دوافع التحرك
الهستيري الجنوني، للتحالف الصهيوني الأمريكي باستخدام الحرب المباشرة
والمكثفة، ولدخول الولايات المتحدة بشكل سافر ومباشر في الصراع، بما يمثل
تغييراً في استراتيجيتها السابقة في التحرك كوسيط للسلام، بل أصل لاحتمالات
إشعال حرب في المنطقة باتجاه سوريا لإعادة تعديل التوازنات في المنطقة.
فالمرحلة الأخيرة في الصراع شهدت انكسارات هامة للاستراتيجية الصهيونية
ولنظريات الأمن والقتال؛ حيث يجري القتال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة
عام 1967م، وداخل الكيان الصهيوني في الأراضي المحتلة عام 1948م وتحت
تهديد بقصف لشمال فلسطين المحتلة عام 1948م من قبل قوات حزب الله، وهو ما
وجه ضربة لنظريات نقل المعارك خارج الأراضي المحتلة، وكما ذكرت فإن
الوضع الراهن، حمل ملامح لتوازن الرعب بين العرب والكيان الصهيوني، بقدر
معقول، وتجربة الجنوب اللبناني ماثلة، بل إن الصراع الذي يجري الآن على
الأراضي الفلسطينية، كلها، هو تطور استراتيجي ولا شك يحدث للمرة الأولى منذ
عام 1948م، وباستعراض مسيرة الصراع منذ حرب أكتوبر، ومروراً بالاندحار
الصهيوني من جنوب لبنان ووصولاً للقتال على الأرض الفلسطينية، فإن الصورة
الاستراتيجية البالغة التعقيد والتركيب، تشير في النهاية إلى أن المشروع الصهيوني
يتراجع ولا يتقدم في الصراع؛ حيث وصل الكيان الصهيوني إلى ذورة مشروعه
في عام 1967م، ومن وقتها وحتى الآن - وعبر طريق متعرج - فإنه في منحنى
هابط. كما أنه وبعيداً عن لعبة الديبلوماسية والتعرجات الحادة في الصراع والشدة
البالغة القسوة فيما جرى ويجري، فإن مجرد طرح فكرة قيام دولة فلسطينية تحت
ضربات المقاومة وفي ظل استمرار وتصاعد الإرادة الفلسطينية على التحرير، فإنه
يمثل انتصاراً «من حيث المبدأ» . وإن مقاومة هذا الطرح الصهيوني والأمريكي
بأوسلو ومدريد وغزة وأريحا يظهر مدى التراجع الصهيوني، وإذا كان هذا
الطرح بطبيعة الحال لا يمثل أهداف الأمة وثوابتها، فإنه يمثل تراجعاً صهيونياً
وأمريكياً، أيما كانت أهداف هذا التراجع.
وهو أمر يتطلب تشديد الهجوم وتطويره.
- د. حامد: لكن هذا لا ينفي التهاوي على المستوى العربي والضغوط التي
تمارس أمريكياً وغربياً وبصورة يومية من أجل تخفيض الاستحقاقات العربية..
ولا أطيل، وأعود إلى الملمح الأخير الذي يمكن أن يكشف لنا عن كنه التصفية
المأمولة غربياً والتي تدور حول الجذر الذي تنبع منه ثقافة الاستشهاد وهو الإسلام
ومن يحمل فكرة الإسلام. فأنا أتصور حتى لو سموه إرهاباً، أو أي مسمى آخر
فأتصور أن العدو الأساسي في الاستراتيجية الأمريكية وفي استراتيجية الأنظمة
المتحالفة معها حتى المرحلة القادمة ينكشف عنه بدرجات متفاوتة أنه هو الفكرة
الإسلامية.
على سبيل المثال أتصور أن هذه السياسة سيكون لها ثلاثة محاور:
- د. أحمد: أعتبر أن أحداث 11 سبتمبر في تقديري كشفت عن شيئين
مهمين يجب أن نهتم بهما وهما:
الشيء الأول: هو مدى قابلية الولايات المتحدة للاختراق؛ ورغم كل ما يقال
إن قيل وسيقال عن تحذيرات أو غيرها إلا أن الولايات المتحدة اختُرِقت من داخلها
في أحصن مواقعها، وووجهت بضربات عنيفة يمكن أن تكون لأول مرة في
تاريخها، كما قال الدكتور حامد يمكن المرة الوحيدة التي تعرضت فيها الولايات
المتحدة بشكل مباشر في ضرب (بير هاربر) في اليابان، وإنما قبل ذلك وحتى
11 سبتمبر ظل المواطن الأمريكي يشعر بأنه المواطن الآمن الوحيد على مستوى
العالم.
الشيء الثاني: خاص بكشف زيف التجربة الأمريكية في الديمقراطية وحقوق
الإنسان. قضية حقوق الإنسان شعارات تُصدر للخارج، وإنما داخل الولايات
المتحدة صحيح هم يتمتعون لا شك بقدر من حقوق الإنسان، وإنما بعد الأحداث
سمعنا من فترة قريبة عن مسؤولين أمريكيين يتحدثون عن التصنت على كل شيء؛
المكالمات التلفونية، والحسابات الخاصة، وصناديق البريد الإلكتروني ...
يهمني أن أشير هنا إلى موقف الولايات المتحدة الحقيقي فيما يتعلق بقضايا
حقوق الإنسان. الولايات المتحدة الأمريكية تستخدمها كإحدى الأدوات في إدارة
سياستها الخارجية، وإنما سجل الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان هو سجل
غير مشرف بالمرة؛ كيف؟ يكفي أن نستعرض موقف الولايات المتحدة الأمريكية
من الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
الولايات المتحدة الأمريكية إما رافضة للتوقيع أو التصديق والانضمام إلى تلك
المواثيق، وإما ممتنعة تماماً عن اتخاذ موقف. وأذكر حضراتكم بالواقعة الأخيرة
التي هي انسحاب الولايات المتحدة (سحب توقيعها) على النظام الأساسي للمحكمة
الجنائية الدولية. إذن علينا أن نبرز هذا، ولو قام أحد الباحثين بالتسجيل في هذا
الموضوع فسيكشف عن حقائق مذهلة عن أن هذا الموضوع هو موضوع موجه
للآخرين لكي يستخدم استخداماً سياسياً.
- د. مصطفى: هذا وداخل الولايات المتحدة قضايا حقوق الإنسان حولها
كلام كثير (التمييز في حقوق المرأة التمييز بين الأجناس قوانين الاشتباه الأخيرة
وغير ذلك) .
- د. أحمد: وما تعرض له العرب والمسلمون أيضاً..
* موقع العرب من الاستراتيجية الأمريكية:
البيان: أنتقل إلى نقطة أخرى لنعالج تساؤلاً يطرح نفسه عند الحديث عن
تطورات ما بعد سبتمبر وتأثيرها على موقع المنطقة العربية من الاستراتيجية
الأمريكية والدولية من حيث إنها منطقة مستهدفة، هل حدث تغير؟
- د. أحمد: نحن لنا موقع أساسي ومتميز في الاستراتيجية الأمريكية
باعتبار الولايات المتحدة دولة كبرى وتحكمها ثوابت أساسية، وأيضاً لنا موقعنا
الجغرافي المتميز هذا، وإلى أننا نملك مشروعاً حضارياً نحن الوحيدون يمكن على
مستوى العالم الذين تتوافر لدينا إمكانات ترجمة هذا المشروع إلى واقع.. إمكانات
اللغة، إمكانات الدين.. إمكانات التاريخ. نحن نتحدث الآن عن أوروبا (الاتحاد
الأوربي) إحدى المشكلات أو إحدى العقبات التي يمكن أن تعترض قريباً مسيرة
الاتحاد الأوروبي هي قضية اللغة وقضية الهوية، ورغم أنهم أحدثوا اليورو
وصعود اليمين في أوروبا وهذا رد فعل لهذا.
نحن نقول إننا الوحيدون على مستوى العالم الذين لا نستخدم الترجمة الفورية
في مؤتمراتنا وفي اجتماعاتنا، نحن أقصد كعرب اللغة والدين والجغرافيا والموارد.
أنا أتصور أن هذه الإمكانات لها جانبان:
الجانب الإيجابي: أنها تسمح لنا بأن نقف على أقدامنا وأن ننشرها إذا ما
خلصت النوايا وصح لدينا العزم، ولكن هناك جانب سلبي وهو أن تجعلنا دائماً
مطمعاً للغير. هذا في تصوري فيما يتعلق بالموقع العربي في الاستراتيجيات.
- د. مصطفى: خبرتنا في التعامل مع الغرب عموماً هي خبرة متعمقة؛
فنحن نعد من أكثر مناطق العالم إن لم يكن أكثرها احتكاكاً بالغرب بصورة أو أخرى؛
فالغرب يدرك تماماً أن في انكسارنا معه لنا مبادئ ولنا قوانين ولنا تجربة في
هزيمتنا له، أيضاً لنا تجربة. فلنا مواقف ولنا مبادئ ولنا خبرة في المهادنات، في
الصلح، في الاختراق، في الاحتلال. هذه خبرة كبيرة والغرب كما قلنا وهو تكلم
عن الحروب الصليبية وفي ذهنه هذه الخبرة التاريخية؛ فهو يدرك تماماً أن هذه
الخبرة التاريخية، هذه الخبرة اللغوية، هذه الخبرة في المصادر والإمكانات، هذه
الخبرة الاستراتيجية. حينما تتضافر تكون المنطقة المقلقة التي لديها البترول وغيره
ونمط القيادات الموجودة، ونمط الشعوب.. إلخ.
فهو يدرك تماماً أن هذه المنطقة لا يمكن أن تُنسى بشكل أو آخر.
ندرك أيضاً أن رأس الحربة إسرائيل.. هذه المنطقة شئنا أم أبينا موجودة.
ما أريد أن أقوله إنه في هذه المنطقة يتكلم البعض في الاستراتيجية الأمريكية ما بعد
سبتمبر أن هذه المنطقة هي في القلب من مسألة الوجود الأمريكي في آسيا الوسطى،
والكلام عن بترول بحر قزوين والكلام عن المحور الإسلامي الموجود في إيران
والموجود في تركيا والموجود في أفغانستان و.. و.. إلخ مهم جداً جداً؛ لأن بحر
قزوين فيه بترول ومدى تأثيره على الخليج العربي، وممكن أن يشكل قوة ضغط
على منطقة الخليج العربي بل بعض المفكرين الأمريكيين يتكلمون عن استراتيجية
بديل.. للبترول والنفط العربي. فهذه المنطقة شئنا أم أبينا سواء قبل أحداث
سبتمبر أو بعد أحداث سبتمبر هي في القلب. تتغير بعض المتغيرات في السياسة
الخارجية الأمريكية لكن أنا أظن أنها من ثوابت ما تهتم به الولايات المتحدة في
علاقتها الدولية، في سياستها الخارجية في النظام الدولي في أي من تطوراته وأي
مرحلة به.
- د. حامد: بالفعل المنطقة العربية والمنطقة الإسلامية عموماً منطقة جامدة
استراتيجياً، ومنطقة في القلب؛ بحيث لا أتصور أن الاستراتيجية الأمريكية تقبل
فيها نوعاً من المساومة.. لدينا مساحتان للصراع في إطار العربية مساحة فلسطين
ومساحة منطقة الخليج.. هاتان الساحتان اللتان يمكن أن يكونا ساحات صدام مباشر..
ساحات فلسطين ومنطقة الخليج. ثم أيضاً في إطار منطقة الثبات الاستراتيجي
أستطيع أن أتكلم وفي ظل أن إسرائيل حتى الآن تعتبر أنها ليس لها حدود. مفهوم
الأمن الإسرائيلي يمتد حتى باكستان وهنا شبه محور أو شبه تحالف قائم حقيقة الآن
بين ثلاثة: (إسرائيل، والهند، وتركيا) أتصور أن لدينا أربع دول تحديداً تهم
الاستراتيجية الأمريكية، وتضع عينيها على: (مصر، العراق، إيران،الجزائر) ،
ثم باكستان تلك هي الدول الخمس التي هي ذات مكانة إقليمية. ما يهم الاستراتيجية
الأمريكية ويهم الاستراتيجية الإسرائيلية أنه لا يحدث فيها أي خلخلة، وعندها
استعداد أن تتدخل بشكل مباشر إذا حدث في هذه الأقطار تحديداً ما يهدد
الأوضاع.(178/30)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
(2 ـ 2)
الفرنكوفونية معركة قائمة.. ولكن!
لم تكن الفرنكوفونية نبتة اليوم أو الأمس، بل هي فروع شجرة خبيثة ممتدة
الجذور، تعود جذورها إلى الحروب الصليبية الأولى، ثم يمتد هذا العداء للإسلام
والمسلمين عبر التاريخ تاركاً صوراً كثيرة من العداء المستحكم حتى يومنا هذا:
- فبذور الحروب الصليبية جرى إلقاؤها في تربة فرنسية، والذي بشر بها
بابا من أصل فرنسي.
- لم يتوقف سيل المقاتلين والوافدين من فرنسا لإمداد الحملات الصليبية منذ
بدئها.
- المملكة التي أقامها الصليبيون بالشرق كانت في جوهرها مملكة فرنسية في
لغتها وعاداتها.
- كما كان لفرنسا دورها المستمر في الحملات الصليبية المتتابعة منذ الحملة
الأولى وحتى حملة لويس التاسع الفرنسي، إضافة إلى حملة الأطفال التي قادها
الفرنسي الراعي ستيفن.
- ثم حملة نابليون على مصر والشام.
- ثم احتلال فرنسا بعد ذلك ما يقرب من ثلث العالم الإسلامي؛ متمثلاً في
دول المغرب العربي، ودول الغرب الإفريقي، وجيبوتي، وجزر القمر،
وسوريا، ولبنان.
- ما نهبته من ثروات الأمة وما سفكته من دماء مئات الآلاف من المسلمين
خلال تلك الحروب، ولا سيما في الجزائر.
ثم ها هي ذي فرنسا تخرج علينا بوجهها الاستعماري الجديد، وتتسلل إلى
العالم الإسلامي تسلل الحية إلى فريستها، واللص إلى هدفه، ولكن لا لتسرق المتاع
فحسب بل لتسرق عقول أبناء الأمة، وتفترس دينها ولغتها وهويتها؛ محاولة بذلك
أن تحقق أطماعها وذاتها على مستوى السياسة الدولية بإيجاد بُعد ثقافي لها على
حساب ثقافة الشعوب التي احتلتها في السابق عسكرياً.
إن الفرنكوفونية معركة شرسة معاصرة تخوضها فرنسا ضد العالم الإسلامي
في دينه وهويته، أعدت لها عدتها، ورصدت لها الأموال، ونظمت لها المؤتمرات،
وأقامت لها المؤسسات، وجندت لها الجنود، ولكن للأسف الشديد ليس هناك من
يتصدى لها أو يوقفها عند حدها، إلا من رحم الله، وهم قليل، بل نجد من يفتح لها
الأبواب من المنافقين والضالين، ويساعدها على دق أوتادها في جسد الأمة
الإسلامية. فهل نترك عقول شبابنا ودين الأمة وعقيدتها وهويتها فريسة وغنيمة
للفرنكوفونية؟
لقد تضمن ملف الفرنكوفونية في العدد السابق عدداً من المقالات التي ألقت
الضوء على أهداف الفرنكوفونية وخطورتها؛ من الناحية الثقافية واللغوية والتربوية
والتعليمية، ومدى ما حققته في هذه الجوانب، ونكمل في هذا العدد الحديث عن
الفرنكوفونية، في عدد من المقالات التي تبين أهم الوسائط التي تتسلل عبرها إلى
الشعوب لتحقيق أهدافها؛ ألا وهي: اللغة، والإعلام، والعولمة.
__________
محتويات الملف:
- الفرنكوفونية استعمار أم استخراب؟ - د. عمر النمري.
- الفرنكوفونية والمسألة الحضارية - أ. د. زينب عبد العزيز.
- الفرنكوفونية في المشهد الإعلامي المغربي - عبد الله خلافة.(178/39)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
الفرنكوفونية استعمار أم استخراب؟
د. عمر النمري [*]
* تمهيد: اللغة والثقافة والهوية:
أردت أن أمهد للحديث عن الفرنكوفونية ببيان العلاقة الوطيدة بين اللغة
والثقافة والهوية؛ ذلك أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب والتواصل فحسب؛ بل
هي أداة لنقل الثقافة، ووعاء لجميع ما تشمله هذه الثقافة من تقاليد وأعراف وعادات،
وعقائد وتصورات، وقيم ومناهج للحياة، وطرق للتفكير، وأساليب للتعبير؛
فاللغة بهذا المعنى وعاء للثقافة والتاريخ، والمشاعر والأحاسيس، وهي الأداة
الأساسية في عملية التطبيع والتنشئة الاجتماعية التي يتم في ضوئها بناء الفرد
وإعداده بما يتلاءم وتاريخه، وانتماءه، وواقعه، ومستقبله. فاللغة إذاً ذات علاقة
وثيقة بالثقافة، والثقافة ذات رباط متين بالهوية والشخصية الوطنية؛ ومن فقد لغته
فقد هويته وتاريخه، وتعثر في بناء مستقبله. ويتأثر الفرد باللغة التى يتكلمها
ويتواصل بها أبلغ تأثير، ويمتد هذا التأثير ليشمل تفكيره وتصوراته وعقائده،
ومشاعره وعواطفه، وسلوكه وإرادته وجميع تصرفاته. ولقد وعت فرنسا هذه
الحقيقة وعملت بمقتضاها في غزوها وبغيها على دول المغرب العربي الإسلامي
وغيره من المستعمرات الفرنسية، كما يحلو لهم تسميتها، وكلمة «الاستعمار»
تحمل في ثناياها معنى الخير وإرادة الإعمار؛ وكأنما هذه الدول التي غزتها فرنسا
وبغت عليها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إنما كانت تعيش
في ظلام دامس، وجهل مطبق، وفراغ ثقافي، وتخلف حضاري كثيف، وإنما
بغت فرنسا عليها بغية تحضيرها وتثقيفها ورفع التخلف عنها؛ ويؤشر ذلك على
احتقار فرنسا لثقافات وحضارات الشعوب المستعمرة والحط من قيمتها، ووسمها
بالدونية، والتخلف؛ في مقابل شعورها بالاستعلاء، والتفوق، والرغبة في نفي
الحضارات الأخرى. ولما كانت اللغة هي أداة الثقافة والحضارة، وعنوان التمدن
والعمران كان لزاماً على هذه الدول المستعمرة في نظر فرنسا أن تتخلى عن لغتها
وثقافتها وتتعلم لغة المستعمِر وتتشرب ثقافته. ولما كانت الثورة الفرنسية إنما قامت
على أساس استبعاد الدين ودوره في الحياة السياسية والاجتماعية، بما حقق لفرنسا
التقدم والرقي كان لزاماً على هذه الدول أيضا أن تتخلى عن دينها (إسلامها) حتى
ترقى في سلم المدنية، وتنعم بإنجازات الحضارة الحديثة؛ ومن مستلزمات هذا
وذاك أن تتخلى عن لغتها الأصلية أي عن دينها وثقافتها الوطنية. وهكذا فقد شكلت
اللغة، والدين، والهوية: الشخصية والوطنية، أهم المستهدفات لبرامج فرنسا
الاستعمارية في الدول المغاربية وغيرها من المستعمرات الفرنسية. وهذا ما
سيتضح للقارئ الكريم جلياً في ثنايا الحديث عن الفرنكوفونية إن شاء الله. فهل
صدقت فرنسا في دعواها إرادة الخير للشعوب المستعمرة، ورفع التخلف عنها، أم
أنها كانت تخفي وراء ذلك أهدافاً سياسية واقتصادية واستراتيجية «استخرابية» ؟
* نشأة الفرنكفونية:
(يعتبر «أونيسيم ريكلوس» (Reclus Onesime) الجيولوجي
الفرنسي أول من نحت مصطلح «الفرنكوفونية» وذلك في العقد الأخير من القرن
التاسع عشر الميلادي. ثم أتى عليه حين من الدهر ظل خلاله مغموراً إلى أن ظهر
من جديد على الساحة السياسية وذلك سنة 1962 على يد أشد الزعماء الأفارقة
تحمساً للفكر الفرانكفوني وهو الرئيس السنغالي «ليوبولد سنغور» . غير أن
الحركة الفرنكوفونية عرفت انطلاقتها الحقيقية غداة استقلال الدول الإفريقية التي
كانت تحت السيطرة الفرنسية؛ إذ ظهرت مع بداية الستينيات كثير من المنظمات
الفرنسية الإفريقية الهادفة إلى تقوية العلاقات الثقافية والاقتصادية بين الطرفين.
وليس غريباً أن يعمل كثير من الزعماء السياسيين آنذاك مثل الرئيس التونسي
«الحبيب بورقيبة» والسنغالي «سنغور» والنيجيري «حماني ديوري»
على الدعوة إلى الفرنكوفونية بمباركة خفية من وزارة الخارجية للدولة الفرنسية)
[1] .
ويعتبر الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الأب الروحي والمؤسس الحقيقي
للفرانكفونية؛ وقد تحدث بورقيبة عن ذلك مفتخراً، في معرض حديثه عن تاريخه
ومسيرته الشخصية؛ فقال في لقاء صحفي له مع إحدى الصحف الفرنسية: «إن
مستقبلنا مرتبط بمستقبل الغرب عموماً ومتضامن مع مستقبل فرنسا خاصة ...
ونحن نتجه اليوم من جديد إلى فرنسا. إنني أنا الذي تزعمت الحركة المنادية
بالفرنكوفونية؛ فالرابطة اللغوية التي تجمع بين مختلف الأقطار الإفريقية أمتن من
روابط المناخ أو الجغرافيا» . وقال في مقابلة أخرى له مع صحيفة ليفيغارو:
« ... إننا لا نستطيع الإعراض عن الغرب، إننا متضامنون مع الغرب بأكمله،
متضامنون بصورة أخص مع فرنسا. وتدعيم الروابط مع فرنسا وبصورة أخص
في ميدان الثقافة، وفكرة بعث رابطة للشعوب الفرنكوفونية تولدت هنا» [2] .
هكذا يفتخر بورقيبة بلغته الفرنسية وأساتذته الفرنسيين وثقافته الفرنسية وبحبه
ووفائه لفرنسا الذي دفعه إلى رد الجميل بتزعم حركة الفرنكوفونية وتأسيس رابطة
الشعوب الناطقة بالفرنسية.
وقد عرفت الفرنكوفونية تكيفات عدة في صورة: بعثات، وجمعيات،
واتحادات، ومجالس عالمية، ومعاهد، وكليات، وجامعات، ومؤتمرات وقمم؛
توجت بإيجاد أمانة عامة للفرانكفونية، وتعيين ناطق رسمي سياسي وممثل لها على
الصعيد الدولي، وإنشاء الوكالة الفرنكوفونية العامة [3] .
* تطور الفرنكوفونية:
إن المتتبع للتطورات التى مرت بها الفرنكوفونية يستطيع أن يلمح بوضوح
وجود طورين أساسيين للفرانكفونية: يتمثل الطور الأول في «الاستعمار القديم» ؛
بينما يمثل الطور الثاني «الاستعمار الحديث» في غمرة الصراع بين عمالقة
العالم القديم والمتجدد، وبيان ذلك على النحو الآتي:
- طور الاستعمار القديم:
لا شك عندي في أن الفرنكوفونية إنما استهدفت تنحية اللغة العربية ومن ثم
استبعاد الثقافة الأصلية للشعوب المستعمرة؛ لا بل استبعاد الدين الإسلامي
والحضارة الإسلامية لهذه الشعوب؛ ولا سيما أن أغلب الشعوب الإفريقية تدين
بالإسلام وتنتسب إلى الحضارة الإسلامية؛ وذلك بهدف إحلال الفرنسية محلها
وتحقيق الإلحاق الثقافي والحضاري، لا بل الإلحاق الجغرافي أيضاً كعزمهم السابق
على إلحاق الجزائر بالقطر الفرنسي؛ وهذه بعض الشواهد:
1 - أرسل أول وأبرز المقيمين العامين، الجنرال ليوطي دوريته الشهرية
(تاريخ 16/6/1921) إلى ضباط المخابرات ورؤساء المناطق العسكرية والمدنية
المغربية، ومما جاء فيها: «ليس علينا أن نعلِّم العربية لمجموعات من الناس
استغنوا عنها دائماً (في إشارة إلى البربر) . إن العربية عنصر أسلمة لكونها لغة
القرآن؛ أما مصلحتنا فتفرض علينا أن نجعل البربر يتطورون خارج إطار الإسلام.
ومن الوجهة اللسانية علينا أن ننزع إلى المرور مباشرة من البربرية إلى الفرنسية،
ولهذا نحتاج إلى عارفين بالبربرية، ويتوجب على ضباط مخابراتنا أن ينكبُّوا
بعزم على دراسة اللهجات البربرية. كما يلزم خلق مدارس فرنكو بربرية حيث
نعلم الفرنسية للبربر الشباب» [4] .
2 - وقد عبر عن هذه السياسة نفسها المستشرق ديمونبين بقوله: «إنه من
الخطر بالفعل أن نسمح بتكون كتلة متراصة من السكان الأصليين تكون اللغة
والمؤسسات فيها موحدة. علينا أن نتبنى لحسابنا المقولة المتبعة سابقاً من طرف
المخزن (الدولة المغربية) :» فَرِّقْ تَسُدْ «. إن وجود العنصر البربري لهو قوة
نافعة مضادة للعنصر العربي يمكننا استغلاله أمام المخزن» [5] .
3 - ويقول بول مارتي في كتابه: «مغرب الغد» ص 338: «.. إن كل
تعليم للعربية، وكل تدخل من الفقيه، وكل وجود إسلامي، سوف يتم إبعاده بكل
قوة؛ وبذلك نجذب إلينا الأطفال الشلوح عن طريق مدرستنا وحدها، ونبعد،
متعمدين، كل مرحلة من مراحل نشر الإسلام» [6] .
4 - وبخصوص الجزائر يقول دي روفيكو: «إني أنظر إلى نشر تعليمنا
ولغتنا كأنجع وسيلة لجعل سيطرتنا في هذا القطر (الجزائر) تتقدم في إحلال
الفرنسية تدريجياً محل العربية؛ فالفرنسية تقدر على الانتشار بين السكان خصوصاً
إذا أقبل الجيل الجديد على مدارسنا أفواجاً أفواجاً» [7] .
فهل بعد هذه الشواهد من حجة لقائل بأن فرنسا إنما أرادت بتعليم الشعوب
المستعمرة اللغة الفرنسية، ترقيتها حضارياً والنهوض بها من براثن التخلف
والجهل؟
إن المحلل لهذه الشواهد، وغيرها كثير، ليلمس بوضوح أهداف
«الاستخراب» الفرنسي لدول المغرب المتمثلة في: محو اللغة العربية، والقضاء
على الإسلام في هذه الربوع، ومحو الهوية الثقافية لهذه الشعوب، والسعي إلى
إلحاقها ثقافياً وحضارياً بالحضارة الفرنسية إن كانت لفرنسا حضارة خاصة تميزها
عن بقية الدول الغربية تمهيداً لتحقيق المصالح الاقتصادية والجيوسياسية لفرنسا في
هذه البلدان؛ بل إن فرنسا والغرب عموماً لا يعترفون إلا بحضارة الرجل الأبيض
«السوبرمان» الذي ينبغي أن يقود العالم وأن يخضعه لمصلحته الشخصية؛ ولا
يمكن الاعتراف بالآخر المغاير، وبثقافته وحضارته إلا في هذه الحدود؛ أي حدود
التبعية، والذيلية، والإلحاق الثقافي والحضاري.
وقد عبر عن ذلك أحد الكتاب الغربيين بقوله: «بما أن الحضار الغربية
تسعى للقضاء على غيرها من الحضارات؛ فإنه يمكننا نعتها بكونها (لا حضارة)
Decivilisation إن الحضارة الغربية لا تقبل غيرها من الحضارات ولذا فهي
تعمل جاهدة لتخريبها ... إن الغرب عالم وحيد يدعو إلى الإنسان الوحيد والأمة
الوحيدة والحضارة الوحيدة؛ وكل ما يتعلق بالكثرة أو الإنسانية بمعنى الجمع
والكثرة يعتبر محظوراً ومرفوضاً» [8] .
- طور الاستعمار الحديث والمتجدد:
ويغطي هذا الطور سياسة فرنسا تجاه الدول المستقلة الناطقة بالفرنسية،
ويركز على سياسة فرنسا التعليمية تجاه شعوب هذه الدول، وسياسة التبادل
والتعاون الثقافي بين فرنسا وبين مستعمراتها القديمة. والمتتبع لأحداث هذا الطور
يلحظ وجود نمطين في التعامل مع هذه الدول في ضوء السياسة الفرنساوية. يرجع
النمط الأول إلى قرب عهدها بالحقبة الاستعمارية، ولا يعدو أن يكون امتداداً
لسياستها في طور الاستعمار القديم؛ من حيث التركيز على فرنسة الشعوب المستقلة،
وتنحية لغاتها الأصلية، وتعويضها باللسان الفرنسي، والسعي لإلحاقها حضارياً
وثقافياً بالمشروع الحضاري الغربي؛ بينما يبرز النمط الثاني بعد انتهاء الحرب
الباردة، وسقوط القطب الروسي، واتجاه أمريكا إلى الانفراد بقيادة العالم، والسطو
على مقدراته الاقتصادية، وصهره في بوتقة ثقافة أحادية عولمية متأمركة؛ وفيه
تخفف فرنسا من غلوائها تجاه فَرنَسة الشعوب المستقلة، وترضى وتكتقي بأقدار من
الفرنسة تضمن لها استمرارية ولاء النخب الفرنكوفونية الحاكمة، وتحقق لها جملة
من المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية في هذه البلدان في غمرة الصراع على
النفوذ ومواجهة العملاق الأنجلوفوني بقيادة أمريكا وبريطانيا.
- النمط الأول: استكمال سياسة الفرنسة:
يعبر هذا النمط عن نفسه في التدخلات السافرة لفرنسا في المشاريع والبرامج
التعليمية للدول المستقلة عنها حديثاً في المغرب العربي، وحرصها على فرض
هيمنة اللغة الفرنسية في المؤسسات التعليمية والإدارية والاجتماعية المختلفة، ولقد
وجدت فرنسا في النخب الفرنكوفونية الحاكمة خير معين على تطبيق سياسة الفرنسة
هذه؛ بحيث تحقق لها في عهد «الاستقلال» ما لم يتحقق لها في عهد
«الاستعمار» ، بل فاقه بكثير رغم الفارق الزمني بين العهدين (الجزائر:
1832 - 1962م، تونس: 1881 - 1955، المغرب: 1912 - 1956) .
وفيما يلي صورة مختصرة لما آل إليه الوضع في تونس كمثال: غلق جامع
الزيتونة وتصفية التعليم العربي الديني: «امتزجت الزيتونة بتاريخ تونس،
وحافظت على قيمتها الإسلامية العربية حتى أعطت طابعاً قومياً لتونس بتأثير
إسلامي وعربي؛ فامتد شعاعها العلمي طوال القرون، وتضافرت الدول بتونس
على الالتفاف حول هذا المعلم الثقافي العتيد عبر القرون؛ فما مرت حقبة إلا وقد
أخذ في الازدهار رغم حالات الجزر والمد لكنه لم يفقد قيمته ومهمته. وحين جاء
الاستعمار الذي ابتلع السيادة التونسية بصورة جعلته ينوي أن تكون فرنسية لكنه
تعذر عليه ابتلاعها لأن تكون كما أراد، وشَرِقَ بجامع الزيتونة فجعل محط نظره
تضعيفه ليصبح أثراً بعد عين، ولكن الثقافة الزيتونية أخذت في الانتشار. وصعب
على فرنسا القضاء عليه، بل وقف رجاله وقفة الأبطال فاسترجع جامع الزيتونة
مكانته حتى إن عدد طلابه يوم إغلاقه في 28/4/1956 قدر بـ 27 ألفاً من
الطلاب، موزعين على كامل البلاد، إضافة إلى فرعين آخرين بالقطر الجزائري
الشقيق: أحدهما بقسنطينة والآخر بالجزائر العاصمة؛ لكن بورقيبة وأعوانه ادعوا
أن عدد الطلاب قد تقلص 350 طالباً مما استوجب غلقه وتحويله إلى جامعة
مختصة بالتعليم العالي سميت بـ» الجامعة الزيتونية " ثم ما لبثت أن تحولت إلى
كلية سنة 1961 لتضم إلى الجامعة التونسية بمقتضى الأمر عدد: 110. وفي
آخر أيام الرئيس الراحل أبو رقيبة صارت معهداً تابعاً لكلية الآداب « [9] .
وفي السابع من نوفمبر 1987 نزل بورقيبة من دفة الحكم على إثر انقلاب
أبيض قاده رئيس الوزراء آنذاك الجنرال زين العابدين بن علي الذي ارتقى سدة
عرش تونس، وأذاع بيانه رقم صفر على المجتمع التونسي مبشراً فيه بعهد جديد
تصطلح فيه تونس مع هويتها ولغتها ودينها، ويستعيد فيه الزيتونة مجده ودوره
الريادي في المجتمع؛ فانبرى بقايا علماء الزيتونة لهذه المهمة، ونفضوا الغبار عن
دفاترهم وسجلاتهم، وتنادوا لاستئناف التعليم بجامع الزيتونة في 6/2/1988م.
وانتظمت الدوائر الإدارية المختلفة، واستقر التعليم كأحسن ما يكون، ولكن
أيادي الغدر سرعان ما امتدت من جديد إلى جامع الزيتونة باقتحامه، وخلع أقفاله،
والاستيلاء على سجلاته، وتجميد حسابه البنكي. ولم تُجْدِ العلماءَ مناشدتُهم
واستغاثتُهم برئيس الدولة الذي نكص على عقبيه، وارتكس إلى عهد سلفه،
وتراجع عما جاء في بيانه الأول الذي تعهد فيه بإعادة الاعتبار للزيتونة، واللغة
العربية، والهوية الإسلامية بتونس، وبشر فيه بالتعددية السياسة، ورفع المظالم
عن الناس. ولعله اكتشف بعبقريته أو بوسوسة بعض أعوانه من اليساريين
والماركسيين واضعي خطه تجفيف الينابيع أن يكون في عودة التعليم الزيتوني
سنداً قوياً لخصمه السياسي: حركة النهضة التونسية؛ فكان لزاماً عليه، في عرف
السياسة أن يحرمها من هذا الرافد القوي. وهكذا أسدل الستار على التعليم الزيتوني
مرة أخرى.» وعادت حليمة إلى عادتها القديمة «.
أما على مستوى التعليم العام فقد عمدت الحكومة بتوجيه من فرنسا إلى اعتماد
سياسة ازدواجية التعليم أي الجمع بين اللغة العربية والفرنسية في جميع المراحل
التعليمية من الابتدائي حتى الجامعي مع تقليص عدد الحصص المخصصة للغة
العربية كلما ارتفع مستوى الطالب.
وحتى لا ألجأ إلى حشو مقالي هذا بالنقول والمقتبسات الكثيرة رأيت أن
أتحدث عن تجربتي الشخصية في التعليم التونسي كشاهد على واقع الحال التي
كانت ولا يزال عليها التعليم التونسي. فأنا من مواليد عهد الاستقلال؛ حيث ولدت
بعد الاستقلال والتحقت بالمدرسة الابتدائية في حدود 1962م. لا أتذكر كثيراً عن
هذه المرحلة سوى أن التعليم كان مزدوجاً، وكانت اللغة الفرنسية تحظى بالاهتمام
نفسه الذي تحظى به اللغة العربية، وكان المعلمون الذين درسونا في هذه المرحلة
كلهم من التونسيين، وبعد حصولي على شهادة ختم المرحلة الابتدائية التحقت
بالمرحلة الأولى من التعليم الثانوي (مرحلة المتوسط في الدول العربية الأخرى) ؛
وتدوم ثلاث سنوات درست فيها المواد التالية: اللغة العربية، والتربية الإسلامية
والوطنية، واللغة الفرنسية، والتاريخ، والجغرافيا، والعلوم، والرياضيات،
والتربية الفنية، والتربية البدنية.
وإذا استثنينا اللغة العربية والتربية الإسلامية والوطنية؛ فإن بقية المواد كانت
تدرس باللغة الفرنسية ومن طرف أساتذة فرنسيين في الأغلب.
تنتهي هذه المرحلة بتوجيه الطلبة إلى أحد الأقسام التالية: شعبة الآداب، أو
شعبة العلوم والرياضيات، أو شعبة التقنية؛ ونظراً لميولي العلمية وتفوقي في
مادتي الرياضيات والعلوم فقد تم توجيهي إلى شعبة العلوم والرياضيات حيث درست
مواد المرحلة الأولى جميعها مع إضافة مادة الفيزياء والكيمياء، ومادة اللغة
الإنجليزية كلغة حية، ومادة الفلسفة في السنة النهائية. وبانتقالي إلى السنة السابعة
من التعليم الثانوي (الرابعة ثانوي في بقية الدول العربية أو الثانوية العامة)
انقطعت صلتي باللغة العربية نظراً لحذف مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية
والوطنية اللتين كانتا تدرسان باللغة العربية؛ انتقلت بعدها إلى الجامعة والتحقت
بكلية الطب بسوسة حيث انقطعت صلتي باللغة العربية نهائياً نظراً لأن المواد كلها
كانت تدرس باللغة الفرنسية. وهكذا كما ترى أيها القارئ الكريم فإن مواد المرحلة
الثانوية جميعها باستثناء التربية الإسلامية والوطنية واللغة العربية بطبيعة الحال،
كانت تدرس باللغة الفرنسية على أيدي أساتذة فرنسيين في الغالب؛ أضف إلى ذلك
قصة المعامل أو الضارب، وهو عبارة عن رقم يسند لكل مادة من المواد حسب
أهميتها العلمية أو الفكرية؛ حسب المشروع الفرنسي لفرنسة المجتمع التونسي؛
ويسند بمقتضاه رقم واحد فقط إلى مادة التربية الإسلامية بما يضعف أثرها في
المعدل الكلي للمواد الذي يقرر في ضوئه نجاح التلميذ من عدمه؛ وهو ما يزهد
الطلاب في هذه المادة فلا يقبلون على دراستها، بل ربما تغيبوا عنها لضعف أثرها
في نجاح التلميذ؛ إضافة إلى أن بعض مدرسي مادة التربية الإسلامية كانوا من غير
ذوي السيرة الحسنة والالتزام الخلقي؛ ولا أدري أكان ذلك سياسة أم مصادفة، ولا
زلت أذكر أستاذ التربية الإسلامية حيث دخل علينا الفصل بعد غياب وقد حلقت
رأسه على التمام فهي أشبه بثمرة اليقطين (القرعة باللهجة التونسية المحلية)
وتبين بعد ذلك أنه قبض عليه مخموراً وقد حلقت رأسه لقيامه ببعض الأعمال
المشينة أثناء سكره، ولا نعلم إلى اليوم أصحيح هذا على وجه الدقة أم لا؟ ولكن
الرواية الوحيدة التي شاعت في ذلك الوقت هي هذه. وهذا أستاذ آخر لمادة التربية
الإسلامية في المعهد نفسه ينهى الطالبات عن لبس الحجاب مشيراً إلى أن التقوى
في القلب لا في المظهر.
ولقد ذكر الاستاذ الشيخ محمد الهادي الزمزمي في كتابه:» تونس: الإسلام
الجريح «أن مادتي القانون الإسلامي والمواريث كانت تدرس للطلاب التونسيين
بكلية الحقوق بتونس باللغة الفرنسية بواسطة عجوز فرنسية، والحال أنها لا تعرف
علم المواريث الإسلامي أصلاً!! فكان أحد طلابها يعد لها المادة ويترجمها لها من
العربية إلى الفرنسية لتؤدي المدرِّسة (النحريرة) وظيفتها العظيمة حين عقمت
تونس المستقلة أن يكون فيها مدرِّسة مسلمة أو مدرِّس ينهض بهذه المهمة [10] .
وفي إحدى الوثائق السرية الصادرة عن السفارة الفرنسية بتونس بخصوص
وضع اللغة الفرنسية بالبلاد التونسية نجد ما نصه:» إن الفرنسية تدرس منذ السنة
الثالثة من التعليم الابتدائي بمعدل عشر ساعات في الأسبوع خلال أربع سنوات من
التعليم أي ما بين 8 إلى 11 سنة، وبمعدل خمس ساعات في الأسبوع للسنوات
الثلاث التالية، وفي المجموع فإن التلميذ التونسي يتلقى عند إنهائه للدراسة
الأساسية ما مجموعه (1700) ساعة من اللغة الفرنسية؛ وإذا قارنا ذلك بتلميذ
فرنسي الأصل فإن هذا الأخير لم يخصص لدراسة أول لغة حية، إضافة إلى لغة
الأم إلا 270 ساعة فقط [11] .
وهذا دون اعتبار الساعات المخصصة للمواد العلمية التي تدرس باللغة
الفرنسية.
وكان من ثمرة هذه السياسة التعليمية أن حافظت تونس المستقلة على اللسان
الفرنسي في جميع المؤسسات في البلاد التونسية بما فيها جميع الدوائر والمصالح
العمومية وجميع الوزارات - عدا وزارتي العدل والداخلية - حيث تدون المقررات
وتصدر المراسلات والمكاتبات باللغة الفرنسية.
هكذا كان الحال إذاً تعبيراً صريحاً وصارخاً عما عنونت له بـ «النمط
الأول: استكمال سياسة الفرنسة» ؛ فقد كشفت متابعة البرامج التعليمية عن ضلوع
الحكومة التونسية في تنفيذ خطة فرنسا «الاستخرابية» في فرنسة المجتمع
التونسي، ومحو هويته العربية والإسلامية لضمان استمرارية التبعية والتذيل
والإلحاق الثقافي بفرنسا، وتحوطاً لما يمكن أن يؤدي إليه انتشار التعليم وانخفاض
مستوى الأمية إلى النهوض من جديد وعلى أسس قومية ووطنية ضاربة في التاريخ
بما يعني عودة المد الإسلامي واستقلالية القرار والانصهار في بوتقة العروبة
والإسلام.
ولقد مثل مشروع «إصلاح التعليم» الذي قاده الوزير التونسي محمد
الشرفي مثالاً صارخاً على تبني استكمال سياسة الفرنسة التي انتهجتها فرنسا إبان
حملتها على تونس. ولقد تبين بالأدلة والبراهين مدى ارتباط مشروع إصلاح التعليم
بالتخطيط، والدعم، والرعاية الكاملة من فرنسا كما كشفت عن ذلك الوثيقة السرية
الصادرة عن سفارة فرنسا بتونس بخصوص واقع التعليم في تونس.
- النمط الثاني: سياسة الصراع على النفوذ والمطالبة بإحداث عالم متعدد الأقطاب
في مواجهة القطب الأمريكي الأوحد:
ظهرت معالم هذا النمط بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط القطب الروسي،
وانفراد أمريكا بقيادة العالم والسطو على مقدراته الاقتصادية، والسعي إلى صهره
في بوتقة ثقافة أحادية عولمية متأمركة.
وقد عبر عن هذا النموذج بوضوح الرئيس الفرنسي جاك شيراك في قمة
(هانوي) التي شاركت فيها الدول الناطقة بالفرنسية حيث تحدث عن الفرنكوفونية
باعتبارها «معطى جديداً على ساحة النظام العالمي الجديد، معبراً عن استياء
فرنسا وعدد لا بأس به من الدول من الاستفراد الأمريكي بالقرارات المصيرية كافة
وعلى الأصعدة كافة (مؤتمرات السلام، اتفاقية الغات، قمة الأرض، إلخ) ، بعد
سقوط الجبار الشيوعي وزوال الاتحاد السوفياتي» [12] وقد أكد هذا من قبله سلفه
فرنسوا ميتران حين قال: «إن الفرنكوفونية ليست هي اللغة الفرنسية وحسب ...
إذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرانكفوني، سياسياً واقتصادياً
وثقافياً، يمثل إضافة، فإننا سنكون قد أخفقنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات»
[13] كما شدد ليونيل جوسبان على القول بأن العولمة «لا يمكن أن تعني التوحيد
خلال جولته في أميركا اللاتينية» . وأعلن أن العالم معقد جداً ويمكن أن ننظر إليه
بطرق مختلفة جداً [14] .
وقد أزاح مارتن بولار في مقاله: «فرنسا والطموح الثقافي ما وراء الحدود»
[15] الستار عن تنازع اتجاهين بين المهتمين بسياسة فرنسا الخارجية تجاه
الفرنكوفونية ونشر اللغة والثقافة الفرنسية في العالم. ينزع الاتجاه الأول
(الراديكالي) إلى إعطاء الأولوية إلى البعد الثقافي التنويري، وبسط هيمنة اللغة
الفرنسية على الشعوب المستعمرة سابقاً؛ بينما يجنح التيار الثاني (الليبرالي) إلى
إعطاء الأولوية إلى البعد الاقتصادي، والترويج للغة الفرنسية كلغة حوار وتبادل
ثقافي وتواصل بين دول المنظومة الفرنكوفونية بدل السعي إلى تنحية اللغات
الأصلية لشعوب هذه الدول وإحلال اللغة الفرنسية محلها كما ينادي به أصحاب
الاتجاه الأول. وقد تجلى هذا النزاع بوضوح في المناقشات الدائرة على المستوى
الرسمي والمؤسساتي بين النخبة الفرنسية حول الوضع الراهن للمراكز الثقافية
خارج فرنسا، ومدى أهميتها الثقافية، وحول الميزانيات المرصودة لها بين داع
لرفع هذه الميزانيات ومناد بخفضها. وبدأنا نسمع عبارات من نوع: «إن صوت
فرنسا لا يصدر فقط في اللغة الفرنسية» [16] ، «وإذا ما أردنا أن تكون المراكز
الثقافية جسراً بين فرنسا والدول التي توجد فيها هذه المراكز، يجب الابتعاد عن
الثقافة المتحجرة حول أمجاد الماضي» ، وأنه «يجب أن نعرض ثقافتنا المفتوحة
على ثقافات الآخرين، وصورة فرنسا الفضولية والمتعددة الأعراق» [17] .
ولقد ختم صاحب المقال المذكور مقاله بقوله: «ولكن عن أي فرنسا نتكلم؟
... أهي فرنسا التي تتوق إلى قوتها الماضية والتي لا تتمكن من رفع رأسها أمام
العملاق الأمريكي؟ أم على العكس هي فرنسا المتعددة، التي تستقبل بحفاوة
الأجانب وثقافات الآخرين متشبثة بإحداث عولمة من نوع آخر؟ إن المطلوب
بالإضافة إلى» شبكة الأحجار والإسمنت «التي ذكرنا (في إشارة إلى مراكز
فرنسا الثقافية المنتشرة في أنحاء العالم) ، شبكة ثقافات وأفكار» [18] .
ومع هذا التحول في السياسة الفرنسية تجاه استراتيجيات الفرنكوفونية تحت
ضغط الزحف الإنجلوسكسوني، وانخرام ميزان المعادلة الدولية لصالح الاستفراد
الأمريكي بقيادة العالم؛ فينبغي ألاَّ يغيب عن ذهن القارئ الحصيف أن فرنسا شأنها
شأن الولايات المتحدة الأمريكية في العمل بسياسة الكيل بمكيالين؛ إذ في الوقت
الذي تطالب فيه فرنسا، في مواجهتها للهيمنة الأمريكية، بتعدد الثقافات وأن
«العولمة لا يمكن أن تعني التوحيد» و «أن العالم معقد جداً ويمكن أن ينظر
إليه بطرق مختلفة جداً» و «أنه لا بد من المطالبة بتنظيم جديد للعلاقات
الدولية» يقف في وجه إرادة الهيمنة الأمريكية على مقدرات العالم الاقتصادية
والانفراد بقيادته سياسياً.
أقول: ينبغي ألا يغيب عن ذهن القارئ الحصيف أن فرنسا إنما تكيل بمكيال
مناقض تماماً عندما تتحدث عن علاقاتها بمستعمراتها القديمة في منظومة الدول
الفرنكوفونية، وحينها يصبح هناك مسوِّغ لبعث مشاريع للتعليم المزدوج في الدول
المغاربية تحتل فيها اللغة الفرنسية موقع الصدارة، وتزاحم فيها اللغة الأصلية
للشعوب المغاربية، وربما عملت على تنحيتها لتحل محلها، «هذا في الوقت الذي
رفض فيه الرئيس جاك شيراك في يونيو - حزيران - 1999م اقتراحاً من رئيس
حكومته جوسبان بتعديل الدستور الفرنسي والاعتراف باللغات الجهوية الفرنسية،
وعقد مجلس الوزراء جلسة عاجلة وصاخبة أصدر فيها بياناً رفض فيه بالإجماع
اقتراح جوسبان، وخرج بيير شوفينمان وزير الداخلية ليصرح قائلاً:» إن
الاعتراف باللغات الجهوية معناه بلقنة فرنسا «. [19] وقبل ذلك ورد في توصيات
» لجنة التقصي حول سياسة اللغة الفرنسية «المكونة في 10/12/1980م بفرنسا
أنه» خارج تعليم اللغات الأجنبية، من اللازم أن تكون اللغة الفرنسية وحدها
مستعملة في الدروس والامتحانات والمباريات وعروض الأطروحات « [20] وهكذا
تصبح السياسة الثقافية الفرنسية خارج حدودها عبارة عن» وسيلة لصراع
النفوذ « [21] على المستوى العالمي.
وقد نبه إلى ذلك الكاتب المغربي» محمد بنيس «أثناء حديثه عن تحول
الفرنكوفونية إلى أيديولوجية تواجه بها فرنسا انتشار الإنجليزية على الصعيد العالمي
وتعني هذه الأيديولوجية في السياق المغربي (بتعبير بنيس) فرض اللغة
الفرنسية في الإدارة والثقافة والإعلام والاقتصاد والقطاع الخاص بجميع الوسائل
الممكنة، بهدف انتزاع المكان الجغرافي الحضاري من اللغة العربية وتجنب احتمال
انتشار الإنجليزية. والبعد المباشر لهذه الأيديولوجية سياسي واقتصادي في آن؛
إنها تهدف إلى ضمان المغرب كمنطقة مضمونة سياسياً واقتصادياً لصالح
الامتيازات الفرنسية واستمرارها ضمن منطق الهيمنة المنتصر اليوم؛ فمن ينطق
بالفرنسية يشتري ما هو فرنسي حسب شعار (الرابطة الفرنسية) [22] . وقد عبر
عن موقف مماثل د / المهدي المنجرة في مقال له بعنوان:» الفرنكوفونية وأسباب
رفضي لها «: حين قال: تعتمد الفرنكوفونية على مركَّب النقص فينا، أكثر مما
تعتمد على التعاون الثقافي الحقيقي؛ ففي الوقت الذي تأتي فيه وزيرة الفرنكوفونية
في فرنسا للدفاع عن الفرنكوفونية في المغرب العربي علينا أن نتذكر مواقف فرنسا
فيما يخص تعليم اللغة العربية لأزيد من مليون من أبناء المهاجرين.. إن الأمر لا
يتعلق بتعاون ثقافي، وبانعدام الرغبة في الانفتاح، بل بسياسة هيمنة تريد أن تتدثر
بلبوس التعاون والانفتاح [23] .
* أي مستقبل للفرانكفونية؟
يبدو أن الفرنكوفونية باتجاهيها الراديكالي والليبرالي اللذين تم الحديث عنهما
سابقاً في ثنايا هذا المقال آخذة في الانحدار والضعف.
أما الفرنكوفونية كما يفهما الراديكاليون من أنصارها والذين يشدهم الماضي
الاستعماري لفرنسا فقد تنبأ الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول بانحسارها حين سخر
من فكرة إدماج الجزائر في فرنسا، قائلاً:» إن الجزائر الفرنسية خرافة سخيفة،
ودعاة الإدماج لا يملكون أي شعور بالمسؤولية ... وفي سبيل الخروج من (علبة
الأفاعي) لا بد من قلب الأوضاع في الجزائر رأساً على عقب، ولا بد من محاولة
مكافحة «تصعلك الجزائر» [24] ، لا يجوز أن تلهينا (والكلام للجنرال ديغول)
الأساطير عن الحقائق، هل ذهبتم لرؤية المسلمين؟ هل نظرتم إلى عمائمهم
وجلابيبهم؟ ألا ترون أنهم ليسوا فرنسيين، وأن أولئك الذين ينادون بالإدماج لهم
رؤوس عصافير حتى لو كانوا من العلماء؟ (تعريض بعالم انتروبولوجي ديغولي
كبير متخصص في الحضارات، كان من غلاة المتطرفين الداعين لتذويب
الشخصية الجزائرية في فرنسا) .
حاولوا دمج الزيت في الخل، حركوا الإناء، فبعد لحظة يفترقان؛ فالعرب
عرب، والفرنسيون فرنسيون، نحن أولاً وقبل كل شيء «شعب أوروبي من
العرق الأبيض، ثقافتنا يونانية ولاتينية، وديانتنا مسيحية» . يمكن أن يتم دمج
الأفراد إلى درجة معينة فقط؛ لكن لا يمكن دمج الشعوب بماضيها وتقاليدها
وذكرياتها المشتركة عن المعارك التي انتصرت فيها أو انهزمت، وأبطالها. وهل
تعتقد أن ذلك سيحصل بين العرب والأقدام السوداء (وصف أطلق على المستعمرين
الفقراء الذين تقاطروا على شمال إفريقيا والجزائر بصفة خاصة خلال القرنين 19
و20) .
هل تعتقدون أن لديهم شعوراً بالانتماء إلى وطن واحد؟ وأنهم قادرون على
تجاوز كافة الاختلافات العرقية والطبقية والدينية؟ وهل تؤمنون بأن لديهم إرادة في
عيش مشترك؟ الواقع أن الإدماج هو دعاية سمجة، وملهاة سخيفة يخطئ من
يتصور أنهم سيخدعون الجزائريين بها! [25] .
كان هذا عن الفرنكوفونية كما يراها الراديكاليون؛ أما الفرنكوفونية كما يفهمها
الليبراليون الذين ينادون بالتخلص من الرؤية التقليدية للفرانكفونية فهي كذلك آخذة
في الذبول والزوال وشواهد ذلك كثيرة منها:
1 - سيطرة أمريكا على اقتصاديات العالم، وتحكُّم الدولار في بورصات
العالم أجمع بما في ذلك تلك التابعة للدول الناطقة باللغة الفرنسية الحصن المنيع
للثقافة الفرنسية.
2 - احتلال اللغة الإنجليزية موقع الصدارة في مجالات التكنولوجيا الحديثة
والبحث العلمي بدون منافس «فعدد الوثائق المتوفرة في شبكة الإنترنيت باللغة
الإنجليزية تصل إلى حوالي مليار ونصف مليار وثيقة؛ في حين أن الوثائق
الفرنسية لا تصل إلى 0.1% من هذا الرقم. وأكثر من 91% من خبراء
الأبحاث الفرنسية في المركز الوطني للأبحاث الاجتماعية ينشرون أبحاثهم باللغة
الإنجليزية» [26] . بل إن عدد المتكلمين باللغة الفرنسية لا يزيد عن 2.5% من
سكان العالم وهو ما وضعها في المرتبة التاسعة من حيث الانتشار على الصعيد
العلمي.
3 - لم تعد اللغة الفرنسية الجسر الأفضل للتواصل بين رجال الأعمال في
الأسواق العالمية. يقول الكاتب التونسي رشيد خشانة بجريدة الحياة بتاريخ
22/11/1997م: واعتبر رجال أعمال مغاربيون كانوا يعتمدون على اللغة الفرنسية
في أعمالهم واتصالاتهم أنها (أي اللغة الفرنسية) لم تعد الجسر الأفضل لمخاطبة
نظرائهم في البلدان والقارات الأخرى - خصوصاً أننا نسعى لإقامة علاقات مع
الأسواق الآسيوية التي ستشكل قطب الرحى في الاقتصاد الدولي مطلع القرن المقبل.
* أي مصلحة لدول المغرب العربي في التشبث بالفرنكوفونية؟
أمام هذا الانحسار المريع للفرانكفونية، وأمام هذا الزحف الهائل للغة
الإنجليزية وما تحمله معها من بشائر للمنظومة الإنجلوفونية متمثلة أساساً في أمريكا
وبريطانيا؛ خاصة بعد انخرام ميزان المعادلة الدولية لصالح أميركا بسقوط القطب
الروسي وانتهاء الحرب الباردة، وتزعم أمريكا لنظام العولمة الجديد. أقول: لم
يعد هناك أي مسوِّغ للدول المغاربية للتشبت بالفرنكوفونية، والدفاع عنها، وتبنيها
على صورتها التقليدية المعروفة. إن هذا التحول في ميزان المعادلة الدولية ليلقي
بظلاله، بدون شك، على نوع وطبيعة العلاقات الخارجية التي يمكن أن تتحقق في
ضوئها مصالح الدول المغاربية. وإنها لفرصة سانحة أمام هذه الدول للتخلص من
الهيمنة الفرنسية ولو جزئياً، في اتجاه تحقيق بعض الاستقلال عنها إن كانت تملك
قرارها لتدور بعلاقاتها الخارجية: السياسية والاقتصادية مع دوران مصالحها
الحيوية والوطنية.
لم يعد هناك أي مسوِّغ ولا أي مصلحة في الاستمرار في اعتماد سياسة التعليم
المزدوج على الإطلاق، وينبغي وضع حد لسياسة التذيل، والتبعية، والإلحاق
الثقافي والحضاري هذه. ولم يعد هناك أي حجة لكي تحافظ اللغة الفرنسية على هذه
المكانة المرموقة في المناهج التعليمية بالدول المغاربية؛ في الوقت الذي تحتل فيه
المرتبة التاسعة بين اللغات الأجنبية على الصعيد العالمي؛ مقارنة باللغة الإنجليزية
التي تحتل موقع الصدارة من حيث عدد المتكلمين بها، ومن حيث عدد البحوث
العلمية التي تنشر بها.
لقد آن الأوان لمراجعة هذه السياسة التعليمية؛ بحيث توضع اللغة الفرنسية
في موضعها الذي يليق بها بين اللغات الحية، لا أكثر ولا أقل، لتفسح المجال
واسعاً أمام اللغة الأم لتحتل محلها الطبيعي في مرحلة التعليم الأساسي من دون
منافس.
والحقيقة أن الشعوب المغاربية، بل الشعوب العربية والإسلامية، جميعها،
تشهد اليوم أوبْة صادقة إلى ثوابتها التاريخية والحضارية ممثلة في: اللغة، والدين،
والتاريخ؛ بما لا يدع مجالاً لحكامها للسير بها في الاتجاه المعاكس، لولا أن
النخب العلمانية المتفرنسة، والمتحكمة في مقدرات الدولة استطاعت بما تتوفر عليه
من نفوذ وسلطة أن تحمي سياسة ازدواجية التعليم، وأن تحفظ لفرنسا دور الهيمنة،
ومكانة الامتياز في الدول المغاربية.
لقد أصبح تعريب التعليم، والكف عن سياسة ازدواجية اللغة في مناهج التعليم
مطلباً لا مناص منه.
ومن الأفكار المغرية التي يروجها أنصار الفرنكوفونية من المراقبين
والصحافيين الفرنسيين والكنديين أن تتحول المنظمة الفرنكوفونية إلى مجموعة من
الدول تجمع بينها مصلحة مشتركة تتمثل في الدفاع عن الاستثناء الثقافي بما يعنيه
من تنوع ثقافي، وتعددية لغوية في مواجهة الاجتياح الإنجلوفوني لحفظ مكانة اللغة
الفرنسية كلغة عالمية؛ ولبناء مجتمع عالمي لا يقوم على التماثل الثقافي الذي
تفرضه العولمة الأمريكية.
وعلى الرغم من بريق هذه الفكرة وإغراءاتها ببناء تكتل دولي في مواجهة
التماثل الثقافي الذي يدعو إليه النظام العالمي الجديد بقيادة أميركا؛ والذي يعني في
الحقيقة هيمنة الثقافة الأمريكية ورفعها إلى مرتبة العالمية والأممية.
على الرغم من وجاهة هذه الفكرة، إلا أنها في الحقيقة تصب في مصلحة
فرنسا، وتستصحب في خفاياها هيمنة فرنسية على هذه المجموعة الفرنكوفونية
لتستقوي بها على التكتل الإنجلوفوني.
وليس من العسير على المرء أن يكتشف أن التكتل الحقيقي الذي تنتمي إليه
فرنسا هو الاتحاد الأروبي، كما أن التكتل المناسب لدول المغرب العربي هو التكتل
العربي الإسلامي لا الكتلة الفرنكوفونية بزعامة فرنسا.
لقد دفع الظلم والصلف الأمريكي دول العالم إلى التموقع في تكتلات متعددة
على أساس الهوية الثقافية، والاقتصاد، والجغرافيا؛ في محاولة لتعديل ميزان
القوى العالمي المائل حالياً لصالح أميركا، ولمواجهة الصلف والحيف الأمريكي.
ولا مناص لدول العالم إذا ما رامت أن تبني حضارة إنسانية ذات صبغة أممية
عولمية من أن تعترف بتنوع الثقافات، وتعدد الهويات الدينية واللغوية لشعوب
العالم، وأن تفتح باب الحوار بين الحضارات على مصراعية ليدلي كل منها
بعطاءاته المتنوعة، في اتجاه بناء حضارة عالمية تتكامل فيها العطاءات بشتى
أنواعها الثقافية والحضارية، والروحية والمادية.
إن العولمة القسرية التي تقودها أمريكا ويشاركها فيها التجمع الغربي بمعنى
من المعاني لا يمكن أن تقود إلى حضارة إنسانية ينعم فيها بنو البشر بالعدل والسلم
الدائمين، إن عولمة من هذا القبيل تقوم على القوة، والقهر، والاضطهاد، والقمع
الدموي، والقمع المعنوي بما تروجه من أكاذيب وأغاليط وخدع؛ لا يمكن أن تقود
العالم إلى شاطئ الأمان.
إن الطريق الوحيد لبناء حضارة إنسانية عالمية يمر بالضرورة عبر الحوار
الفكري متسلحاً بقوة المنطق وحجج العقل لا قوة الساعد وصدأ الحديد.
__________
(*) كاتب تونسي مقيم في بريطانيا.
(1) . S Chikh, MElmandjra, B Touzani, Maghreb et Francophonie Ed Economica Paris 1988, p 19 نقلاً عن د / عبد الله الشارف في كتابه: أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب، منشورات نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان، الطبعة الثانية، 2000 م، ص49.
(2) محمد الهادي مصطفى الزمزمي، تونس: الإسلام الجريح، ص 44.
(3) لمزيد من التفاصيل حول نشأة الفرنكوفونية وتطور مؤسساتها راجع كلاً من: د / إدريس الكتاني، ثمانون عاماً من الحرب الفرنكفونية ضد الإسلام واللغة العربية، منشورات نادي الفكر الإسلامي، الرباط، ط 1، 2000م، ص 197، ومجلة المجتمع الكويتية بتاريخ 2/12/1997م نقلاً عن موقع إسلام ويب على شبكة الإنترنت حسب الرابط التالي:
http://www.islamweb.net/html/1001/capture1.htm#3
وجريدة الرياض، الثلاثاء 25 ذو الحجة 1421 العدد 11957 السنة 37.
(4) Paul Marty le madroc de demain Paris: Comite de Afrique francaise, 1925, pp: 338-339 نقلاً عن د / إدريس الكتاني، مرجع سابق، ص 198.
(5) R. Gaudefroy, Demonbynes, loeuvre francaise en mattiere d`ensiegnemrnt , paris, S.N, 1928, p119 نقلا عن د / إدريس الكتاني، مرجع سابق، ص199.
(6) المرجع نفسه، ص 65.
(7) Yvonne Turin, Affrontments cultuirels dans l`algerie coloniale: Ecoles,medicines,religion, 2 edition, Alger, enterprise nationale du livre, 1983, pp:40-41 نقلاً عن د / إدريس الكتاني، مرجع سابق، ص 199.
(8) R.Jaulin, la decivilisation politique et pratique de l`ethnocide, edition complexe, bruxelles, 1974, p 65 et 83 د / عبد الله الشارف، مرجع سابق، ص73.
(9) راجع البيان الرسمي لعلماء الزيتونة حول التمسك بالتعليم الأصلي الزيتوني، نشره محمد الهادي الزمزمي في كتابه: «تونس: الإسلام الجريح» ، ص 405.
(10) محمد الهادي الزمزمي، مرجع سابق، ص 422.
(11) نشر هذه الوثيقة محمد الهادي الزمزمي في كتابه: «تونس: الإسلام الجريح» ، ص242 - 247.
(12) راجع ذلك في الشبكة الإسلامية على الإنترنت حسب الرابط التالي:
http://www.islamweb.net/html/1001/capturel.htm#4
(13) د / إدريس الكتاني، مرجع سابق، ص 196.
(14) مارتين بولار، فرنسا والطموح الثقافي ما وراء الحدود، لوموند ديبلوماتيك، النسخة العربية:
http://www.mondiploar.com/
(15) المرجع السابق:
http://www.mondiploar.com
(16) مدير الهوائيات في اللغات الأجنبية، نقلاً عن المرجع السابق.
http://www.mondiploar.com
(17) ماري بونيل، المسؤولة عن إحياء قسم البرامج الوثائقية في الإدارة العامة للتعاون الدولي والتنمية، نقلاً عن المرجع السابق.
(18) المرجع السابق:
http://www.mondiploar.com
(19) عثمان سعدي، اتفاقية اليونسكو ومنظمة الفرانكفونية أمام الجامعة العربية، جريدة الشرق الأوسط عدد 20/2/2002م.
(20) Rencontre international sur l;application des legislation linguistiques dans les pays francophonies. 10-11 mai 1982 نقلا عن: د / إدريس الكتاني، مرجع سابق، ص 208.
(21) مستشار الدولة الفرنسي جاك ريغو في تقرير له حول تحديد محاور السياسة الثقافية، نقلاً عن مارتن بولار، مرجع سابق.
(22) راجع مقاله على الشبكة الإسلامية:
http://www.islamweb.net/html/1001/capture4.htm#1
(23) نشر المقال في جريدة العلم بتاريخ 22/4/1993م، ص12 حسب ما نقله إدريس الكتاني في كتابه: ثمانون عاماً من الحرب الفرانكفونية ضد الإسلام واللغة العربية، ص 74.
(24) رغم هذه النظرة الثاقبة وهذا الإدراك العميق لخصائص الشعوب الذي أعرب عنه الجنرال ديغول فواجه فكرة إدماج الجزائر في فرنسا واستعاض عنها بمقاومة «تصعلك الجزائر» ، لم يجده بديله الدموي حيث نالت الجزائر استقلالها عن جدارة 1962م، بفعل ثورة يندر لها المثيل قدم فيها الشعب الجزائري أزيد عن مليون ونصف مليون شهيد، وكما تنبأ ديغول لن تجد فرنسا اليوم سياسة الفرنسة؛ فها هو الشعب الجزائري يهب من جديد ويثور مرة أخرى في وجه دعاة الفرانكفونية الجزائريين الذين انقلبوا عن الديمقراطية وصادروا إرادة الشعب الجزائري وتسببوا في حرب شبه أهلية راح ضحيتها عشرات الآلاف من أبناء الشعب الجزائري المناضل، وسيأتي اليوم الذي سترفع فيه راية الإسلام عالية في الجزائر إن شاء الله، وستنعم الجزائر باستقلالها الثاني وتتصالح مع هويتها العربية والإسلامية، طال الأمد أم قصر.
(25) نشر هذه الآراء المفكر السياسي آلان بيرفيت صديق الجنرال ديغول في كتاب له صدر في فرنسا عام 1994م بعنوان «كذلك كان ديغول» ، راجع: د / إدريس الكتاني، مرجع سابق، ص166 - 167.
(26) في حوار مع عالم المستقبليات المغربي البروفسور المهدي المنجرة، راجعه على شبكة الانترنت على الرابط التالي:
http://www.elmandjra.org/ELMANDJRA.htm(178/40)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
الفرنكوفونية والمسألة الحضارية
أ. د. زينب عبد العزيز [*]
الفرنكوفونية لغة تعني ما يتعلق باللغة الفرنسية في كل استخداماتها الجغرافية.
وإنسانياً تعني من يتكلم عادة اللغة الفرنسية بصفة دائمة طبيعية أو على الأقل في
بعض الظروف والمناسبات الاجتماعية، سواء كلغة أم، أو كلغة أجنبية ذات طابع
مؤسسي أو تعليمي. كما تطلق للإشارة إلى جماعات يتحدثونها في منطقة ما؛ إذ
يقال: «المغرب الفرنكوفوني» أو «إفريقيا الفرنكوفونية» .
وباستثناء فرنسا، صاحبة اللغة التي تنسب إليها؛ فهناك ثلاثة بلدان على
حدودها تتحدث بها هي: بلجيكا، ومقاطعة لوكسمبورج، وسويسرا.
وقد كانت منطقة فال آوسْطْ بإيطاليا تتحدثها أيضاً؛ إلا أن اللغة الإيطالية قد
استعادت مكانتها أيام الفاشية.
أما البلدان المتحدثة بالفرنسية خارج هذه المناطق مثال منطقة كيبيك في كندا،
أو في المحيط الهندي وجزر الكاريبي وجنوب شرق آسيا وإفريقيا شمالها
ووسطها أو الشرق الأوسط فترجع جميعها إلى عهد الاستعمار سواء في موجته
الأولى أو الثانية؛ فما أن بدأت موجة الاستعمار الأولى منطلقةً من أسبانيا
والبرتغال وهولندا حتى انطلق الاستعمار الفرنسي بدوره بحثاً عن مكان له وسط
الغزاة لأسباب اقتصادية وتبشيرية أيضاً.
ويبدأ تاريخ اللغة الفرنسية خارج فرنسا مع الحروب الصليبية؛ فمنذ القرن
الحادي عشر أصبحت اللغة الفرنسية تمثل منهجاً نفعياً ظل سارياً حتى القرن السابع
عشر، ولعب دوراً أساسياً في التبادلات الاقتصادية بين أوروبا ومدن البحر الأبيض
المتوسط، إلا أن المصالح الاستعمارية المتضاربة بين إنجلترا وفرنسا قد كان لها
وقعها لوقف الامتداد الفرنسي الذي تحددت أماكنه حتى في الأمريكتين.
أما في سوريا ولبنان، وكان التبشير قد سرى فيهما أكثر من غيرهما، فقد
انغرست فيهما اللغة الفرنسية واستتبت منذ القرن السابع عشر. ومع تزايد الوجود
السياسي المرتبط بالموجة الاستعمارية الثانية (فيما بين 1815 - 1939م) ؛ فقد
أصبحت اللغة الفرنسية بمثابة دعامة أساسية لنقل نمط الحياة الغربي الذي سرعان
ما امتد إلى مصر منذ ذلك الوقت، وبين 1815م امتد الاستعمار الفرنسي إلى
إفريقيا تسانده بعثات التبشير ليبدأ بالسنغال، ثم الجزائر عام 1930م حيث أصبحت
الفرنسية هي لغة السلطة الحاكمة، ثم تمت السيطرة على الجابون، والكونغو،
والسودان، والنيجر، وداهومي، وسرعان ما أخذت اللغة الفرنسية مكانتها
المؤسسية في بلدان الساحل وإفريقيا الغربية والاستوائية.
وقد وصل اتساع الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في عام 1939م إلى
مساحة اثني عشر مليوناً من الكيلو مترات، وضمت ثمانية وستين مليوناً من البشر،
وكانت تعد ثاني إمبراطورية استعمارية في العالم بعد الإمبراطورية الاستعمارية
البريطانية، إلا أنها بدأت تتصدع بفضل حركات التحرير ابتداء من نهاية الحرب
العالمية الثانية، أما هذه المستعمرات الشاسعة فقد بدأ تكوينها اعتماداً على دعامتين
أساسيتين تواكبان الأحداث السياسية والعسكرية وهما: التجارة والبعثات التبشيرية.
وكان الوجود التبشيري من القوة في كل هذه المستعمرات حتى بدأ الصراع
الديني بين دول الاستعمار ذاتها؛ إذ لم تشأ فرنسا أن تترك السيادة الكاثوليكية في
العالم لأسبانيا؛ فقد كانت المستعمرات تمثل أحد الشروط الأساسية للازدهار
الاقتصادي الفرنسي.
ومنذ أن فقدت فرنسا مكان الصدارة كقوة عظمى في أوروبا انتقلت هذه
الزعامة إلى اللغة الفرنسية وآدابها وهو ما يوضح سر تمسك فرنسا بما تبقى لها من
مستعمرات، حتى وإن كانت قد تحررت عسكرياً، كما يوضح سر اهتمامها
بالجزائر خاصة؛ فمما له مغزاه أن تضع فرنسا احتلال الجزائر تحت إمرة وزير
الداخلية الفرنسية، بينما كانت كل من تونس والمغرب تحت إمرة وزير الخارجية
الفرنسية.
ويرجع تمسك فرنسا بالجزائر حتى يومنا هذا إلى أنها بمثابة المدخل الحيوي
الأرضي لمستعمراتها في غرب إفريقيا.
أما مصطلح الفرنكوفونية، فقد قام الجغرافي الفرنسي أونيزيم ركلوس
Reclus Onesume باشتقاقه عام 1871م، وهو مكون من مقطعين: فرنكو
(من فرنسا) وفوني (من صوت) ، ونادراً ما تصادف هذا المصطلح قبل عام
1930م رغم اشتقاقه عام 1871م، إلا أنه أخذ في الانتشار منذ عام 1960م، وقد
تم انتشاره عام 1962م عندما بدأت فرنسا إحياء النزعة الأدبية الإفريقية لبعض
حكامها كالزعيم سنجور، أو حمامي دوري، أو بورقيبة، أو بعض الحكام
الآسيويين كالزعيم سيرمانوك؛ إذ أفردت مجلة إسبري Esprit عدداً خاصاً عن
اللغة الفرنسية والمتحدثين بها وآدابهم، وانطلقت الكلمة.
كما بدأ تكوين جمعيات وتخصيص اعتمادات لمختلف وسائل الإعلام الفرنسية،
وإنشاء الجامعات المتحدثة بالفرنسية أو تلك التي تحتل الفرنسية فيها مكانة
واضحة، وإنشاء العديد من المنظمات ومنها منظمة «الأوبلف» عام 1966م،
ووكالة التعاون الثقافي والتقني في بلدة ثايومي عام 1969م والتي تضم في
عضويتها واحداً وأربعين دولة ... والأمر الذي يوضح مدى أهمية الفرنكوفونية
ولواحقها بالنسبة لفرنسا هو قيام الحكومة الفرنسية عام 1984م بإنشاء مجلس أعلى
للفرنكوفونية، وفي عام 1988م قامت بإنشاء وزارة للفرنكوفونية. ومنذ 1971م
كانت فرنسا قد وحدت كل الكنائس الفرنكوفونية في مستعمراتها السابقة والحالية
لتتمكن من التصدي لما يطلقون عليه اليوم: «الديانات غير المسيحية» .
ويوضح إحصاء عام 1992م أن هناك مائتي مليون وأربعة ملايين نسمة
يتحدثون باللغة الفرنسية، أي أن هذه اللغة لم تعد قاصرة على الشعب الفرنسي،
بل إن الفرنسيين أنفسهم أصبحوا يمثلون أقلية صغرى بين المتحدثين بلغتهم! ومما
تقدم يمكن إدراك مضمون معنى الفرنكوفونية بمردوده المتعدد الجوانب، ومدى
ارتباطه بالجانب السياسي الاستعماري، والجانب الثقافي والفرنسي الثقافي،
والجانب التبشيري واقتلاع الهوية للشعوب التي تم استعمارها.
ولا يتسع المجال هنا لتناول الانعكاسات المؤثرة على اللغة الفرنسية نفسها من
حيث التداخلات الواقعة عليها من مختلف اللغات المحلية وتأثير هذه اللغات على
المفردات وعلى قواعد اللغة الفرنسية، إلا أن الأمر الواضح حالياً هو تسرب العديد
من المفردات الأمريكية والإنجليزية ولهجاتها العامية أو الدارجة، كما لا يسع
المجال لتناول مختلف الجوانب المرتبطة بالفرنكوفونية كالجانب السياسي
الاستعماري، أو الجانب التبشيري واقتلاع الهوية، رغم أهميته؛ فقد قامت البعثات
التبشيرية بالاستعمار لحسابها الشخصي، بل قامت بما هو أسوأ؛ إذ غزت وأبادت،
وصادرت واستولت، وأفسدت واحتلت، وساهمت في اقتلاع هوية العديد من
الجماعات الإنسانية؛ كما استغلت نظام العبودية وسلطة النفوذ الكنسي لفرض
التنصير الإجباري. ولن نتناول سوى الجانب الثقافي والفرنسي الثقافي؛ إذ إن
مصطلح الفرنكوفونية أصبح يتضمن معنى الآلة الحربية التي تساعد على الحفاظ
على المستعمرات السابقة بعد أن حصلت على حريتها ولو شكلاً.
وإن كان التحرر من الاستعمار يعني مجمل محاولات الشعب الذي تم
استعماره للتخلص من نير ذلك الاستعمار وتصفية وجوده العسكري، إلا أنه مرتبط
- من ناحية أخرى - بالجانب الثقافي. ويوضح الكاتب ألبير ممّي في كتابه عن
«صورة المستَعْمَر» مختلف المحاور التي تتضمنها عملية التحرير هذه وأهمها
المطالبة بالحقوق الاقتصادية والثقافية والدينية إضافة إلى العدالة الاجتماعية. ومن
الملاحظ أن مجال الاستثمار يتحول في الواقع إلى استعمار اقتصادي يزيد الهوة بين
الطبقات في نفس المجتمع، كما يزيد هذه الهوة بين البلدان الغنية المستعمرة
والبلدان الفقيرة التي تم اعتصار خيراتها أو هي لا تزال تنزفها.
ويمثل مجال الثقافة ركيزة من أهم الركائز التي لا يتخلى عنها الاستعمار؛
فعندما تتحرر الشعوب عادةً ما تحاول التحرر من الاستعمار الثقافي أيضاً، وتبدأ
عملية البحث في تراثها لتعاود اتصالها وارتباطها بالجذور.
وتأكيد الهوية الدينية يمثل جزءاً من تأكيد الذات للشعوب المتحررة من
الاستعمار؛ لذلك يحاول المستعمر ويجاهد في عملية التصدي للدين بحكم أن الدين
يمثل أكبر قوى يمكنها توحيد صفوف الشعب، وهو ما يوضح من ناحية أخرى،
انتشار البعثات التبشيرية وتزايد نشاطها المحموم في المستعمرات السابقة حالياً.
والنطق بمجال الثقافة في هذا السياق يتضمن بلا شك ذكر مجال الغرس
الثقافي؛ لأنهما وجهان لعملة واحدة، وقد تم اشتقاق مصطلح الغرس الثقافي منذ
1880م بين علماء الأجناس في أمريكا الشمالية، وإن كان البريطانيون يفضلون
عبارة «التبادل الثقافي» التي لا تحمل معاني ترتبط بالاستعمار والتبشير، وكأن
هذا «التبادل» يتم بصورة متكافئة!! أما الفرنسيون فيفضلون عبارة «التداخل
الثقافي للحضارات» ومن هنا ندرك أن كل هذه العبارات والمسميات ليست إلا
تنويعة على مضمون واحد ثابت لا يتغير هو الاستعمار بكل توابعه، إلا أن
المصطلح الأمريكي «الغرس الثقافي» هو الذي ساد واستقر بكل ما يحمل من
غطرسة وفكرة التفوق الغربي الذي عليه أن يسود ولو بالقهر، ولو بالعمد أو
الغرس على حد قول المسمى.
وسرعان ما تحولت عملية الغرس الثقافي إلى علم له مذاهبه ومناهجه منذ
منتصف القرن التاسع عشر وخاصة مع مطلع القرن العشرين؛ وذلك بإنشاء
المدرسة المعروفة باسم: (الدوائر الثقافية) ، وكيفية اقتلاع ثقافة الحضارات الأم
لإحلال ثقافة المستعمر وحضارته، ولهذا المصطلح تاريخه ووضعه الحالي
والتخطيط لمستقبله؛ واستعراض تاريخه يوضح كيف أن عملية الغرس الثقافي هذه
يمكن أن تتم بصورة شاملة لبلد ما بفضل تبادل الجماعات الدينية والاقتصادية، أو
بصورة عدائية مفروضة، أو في شكل صراعات بين الأقليات والشعوب التي
تحتضنها.
وتبدأ عملية الغرس الثقافي بنوع من الصراع من جانب الثقافات المحلية التي
سرعان ما تخضع للضغوط المفروضة بصورة مباشرة عن طريق الاستعمار وتقدم
فعاليات الإمبرياليات التجارية والثقافية والتبشيرية، وسهولة التنقل والأسفار
وإمكانيات وسائل الإعلام التي تم توظيف غالبيتها لهذه الأغراض؛ فيكفي مثلاً أن
تتم عملية تغيير وسائل الإنتاج وتقنيات العمل في دائرة ما حتى ينتقل هذا التغيير
إلى المجال الأسري والعلاقات السلطوية والقيم الدينية، ومع فصل ما هو ثقافي عما
هو اجتماعي تبدأ عملية الامتصاص للهوية الأصلية.
واحتكاك الثقافات لا يتم بين ثقافة وأخرى بصورة مبهمة أو بشكل مجرد،
وإنما يتم من خلال أفراد يحملون ثقافات مختلفة، وهؤلاء الأفراد خاضعون لمراكز
اتصال وأجهزة سيطرة ومؤسسات لها قواعدها وعملها ومعاييرها ومنظماتها،
اعتماداً على إدخال مفاهيم المستعمر والغرس الثقافي في الإجراءات السياسية
والاقتصادية وإدخال مقومات الغرس الثقافي في الكوادر الاجتماعية والقومية
والدولية؛ فالتنمية الاقتصادية تتضمن عملية غرس ثقافي تحمل قيم المجتمع الغربي
ومعاييره التي يصدرها.
ويوضح روجيه باستير في كتابه المعنون: «مشكلات تداخل الحضارات
وأعمالها» كيف تتم عملية السيطرة والتخطيط وتوجيه الغرس الثقافي، وكيف تتم
كلها من خلال العلوم الاجتماعية التي تتبع متطلبات ومصالح الدول الكبرى، وكيف
يعتمد علم الأجناس الاجتماعي حالياً على دراسة كيفية التداخل بين الحضارات حتى
يتم الاستعمار بصوره الثقافية الجديدة، لكن لا تتكرر «أخطاء» الماضي التي
أدت إلى حركات المطالبة بالتحرر، وكيف تقوم فرنسا حالياً بعملية الغرس الثقافي
المخطط في البلدان التي احتلتها بأن تتم عملية الغرس في اتجاه واحد هو فرض
التغريب ومصالح الغرب بواسطة حكام هذه البلدان وبواسطة أصحاب القرار فيها،
وبأن تستعين بنظريات علمية تخدم مصالحها حتى من خلال استعمال مصطلحات
جديدة، ثم يوضح أن هذه الاستراتيجية تعتمد على أن كل ثقافة مكونة من عدة
ملامح ثقافية، وهذه الملامح مرتبطة بشبكة تقوم بالربط بينها، وأن المجال الثقافي
يسيطر على المجال الاجتماعي من خلال تبديل القيم والمفاهيم والعادات التراثية
حتى يمكن تعديل المؤسسات والبنيات والتصرفات الآدمية. كما تقوم بخلق
احتياجات جديدة وخاصة بخلق كوادر جديدة لكي تتم عملية التغيير بأفراد من الداخل
وهي نفس الفكرة التي كان المستشرق زويمر قد قالها في مطلع القرن الماضي بأن
الإسلام لن يُقتلع إلا بأيدي مسلمين من الداخل. ويؤكد روجيه باستير في هذا الصدد
قائلاً: «إن الغرس الثقافي المخطط الذي تقوده سياسياً الجماعات المسيطرة يعد
بمثابة القانون العام لعصرنا الحالي» .
ومما تقدم ندرك أن اللغة الفرنسية دعامة أساسية لنقل نمط الحياة الغربي
الفرنسي؛ وأن الاستعمار السياسي والاقتصادي والتبشير قائم على اللغة التي هي
هنا الفرنكوفونية؛ وأن فرنسا تتزعم فرض الكاثوليكية رغم زعمها العلمانية وفصل
الدين عن الدولة؛ وأن إحياء النزعة الأدبية الإفريقية والزنجية باللغة الفرنسية هو
نوع من الاستدراج لتثبيت الفرنكوفونية، وقد بدأت بتشجيع بعض الحكام والزعماء
ليكونوا قدوة لشعوبهم؛ وإنشاء ترسانة من الجامعات الفرنسية خارج أراضيها
والخاضعة لنفوذها مثل «جامعة سنجور» بالإسكندرية، وإنشاء منظمات ووكالات
لتدعيمها؛ وإن تتويج هذه الترسانة بمجلس أعلى ثم بوزارة بأسرها لدليل صارخ
على معنى الفرنكوفونية ومغزاها وأهدافها. وإن التداخل الواضح بين الفرنكوفونية
والاستعمار والغرس الثقافي المخطط والتبشير ليس بحاجة إلى مزيد من الأدلة؛
وليس من المبالغ فيه تعريف الفرنكوفونية بأنها بمثابة الآلة الحربية التي تساعد
فرنسا على الاحتفاظ بمستعمراتها؛ فإن الاستعمار لا يتخلى أبداً عن المجال الثقافي
حتى وإن تخلى عن الأرض المحتلة، وإنه يتصدى للدين على أنه أكبر قوى يمكنها
تجميع الشعب أو الشعوب، وهو ما تراه يتم حالياً بصورة علنية أو شبه علنية من
حيث محاولة اقتلاع الإسلام بفعل مخطط الفرنكوفونية من جهة، وبفعل القرار الذي
تم اتخاذه في المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965م لاقتلاع الإسلام في عقد
التسعينيات حتى تبدأ الألفية الثالثة وقد تم تنصير العالم.
فإذا ما تذكرنا أن معظم البلدان التي احتلتها فرنسا بلدان إسلامية أو وثنية،
وأن الوثنية لا تعنيها في كثير أو قليل؛ لأنها تقوم بتنصير أتباعها بشتى الوسائل،
لأدركنا خلفيات كثيرة غائبة أو مغيبة، ولأدركنا ضرورة وأهمية المطالبة بالحقوق
الاقتصادية والثقافية والدينية والعدالة الاجتماعية، ولأدركنا أهمية وضرورة أن
نتمسك بإسلامنا، وألا نعاون على اقتلاعه عن المنبع كما يتم حالياً بشتى المسميات،
وخاصة ضرورة المطالبة بأن يقتصر تعليم اللغة الفرنسية بحيث تظل لغة تعامل
إنساني متكافئ المستويات، والأكثر أهمية من هذا وذاك: أن نكف عن تنفيذ
مخططات الفرنكوفونية بأيدينا.
__________
(*) أستاذة الحضارة الإسلامية، جامعة القاهرة.(178/49)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
الفرنكوفونية في المشهد الإعلامي المغربي
عبد الله خلافة [*]
توطئة:
لقد ظلت قضية التغلغل الفرنكوفوني في الإعلام المغربي باهتة، بالمقارنة مع
المجالات الأخرى ذات التجلي الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، وقد يكون هذا
المعطى راجعاً إلى بدهية الوجود الفرنكوفوني داخل المشهد الإعلامي المغربي؛
باعتبار المغرب أحد أهم (إيالات) النفوذ التقليدي للهيكل الفرنكوفوني الفرنسي،
والمؤهل الوحيد للعب دور الوسيط في علاقات فرنسا مع مستعمراتها القديمة
بإفريقيا، ومع الدول العربية الأخرى.
طبيعة هذا التغلغل الفرنكوفوني يدفع المتتبع للحقل الإعلامي المغربي إلى
القول، أو إلى الحسم بأن الإعلام المغربي بتمظهره المكتوب، أو السمعي، أو
السمعي البصري في عمومه إعلام فرنكوفوني الهوية والوجود. هذا في غياب
إعلام إسلامي أصيل يدافع هذا التغلغل، وإن كانت بوادر وجوده بادية، لكن في
جنس وحيد: هو الإعلام المكتوب. أي عبر الصحف والمجلات الإسلامية. وقد
ساهم الفاعل السياسي في كل مراحله؛ في تكريس هذا الوضع نحو الفرنكوفونية
والحداثة، على حساب الهوية الإسلامية والأصالة، دون استحضار إسلامية الدولة
والشعب بالمغرب.
ثم مع تطور وسائل الاتصال؛ فقد أصبح للإعلام سلطة فاعلة في تشكيل
الرأي، والموقف، بوسائله المتطورة التي تأسر الكبير قبل الصغير، وتكاد هذه
السلطة تفوق باقي السلط.
فإذا كان الغرب - وهذا ليس من قبيل الشعور بعقدة النقص، أو القابلية
للاستعمار - قد حسم حدود تدخل لوبيات الضغط والتأثير في توجيهه للفوز فقط
بموقف الدعاية في مرحلة من المراحل؛ فإن الإعلام المغربي، كجزء من الإعلام
العربي والإسلامي، لم يتخط بعد مرحلة الوصاية سواء الحزبية أو الحكومية. هذا
الوضع هو ما دفع أحد الإعلاميين المغاربة - الأستاذ يحيى اليحياوي - إلى الدهشة
والاستغراب لعدم تزحزح الإعلام المغربي؛ تأثراً بالمستجدات والتطورات
المعلوماتية الهائلة التي يعرفها العالم في الوقت الحاضر، وتأثراً بالتحولات العميقة
في المجتمع؛ بفعل التطور الديمغرافي والثقافي. يقول الأستاذ يحيى اليحياوي:
(المشهد الإعلامي المغربي عصي على الفهم؛ فهو جزء من شيء؛ إذ لم يستطع أن
يفرض نفسه كجهاز مستقل بذاته، كما أنه مغلق؛ إذ لم يتأثر بالتحولات الاجتماعية
والتقنية المتطورة، وأتمنى أن يساهم قانون الصحافة الجديد في حل هذا الإشكال)
[1] .
* هل هناك فرنسية دون فرنكوفونية؟
ما من مرة يتم فيها تناول الوجود الفرنكوفوني، في أي مجال من المجالات
سواء الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو الإعلامية - محطة البث - إلا
ويتم طرح هذا السؤال كوصفة فرنكوفونية للتمويه، باعتبار الفرنسية ليست هي
الفرنكوفونية؛ بل تعني لغة الانفتاح على العالم، وليست استعماراً جديداً، وفي
المقابل يتم التغاضي عن تساؤلات مشروعة من قبيل:
- لماذا تم تهميش الإسبانية في الشمال المغربي وإحلال الفرنسية مكانها؟
رغم أنها لغة مستعمر أيضاً، كما أنها تمكن من الانفتاح على شريك اقتصادي قريب؟
ثم لماذا لم يتم اعتماد الإنجليزية من باب أوْلى؛ باعتبارها لغة مهيمنة في
المجال العلمي، وجسر تواصل بين الاختراع والتحديث، على مستوى الأشياء
والمجتمع المغربي؟
إذن فنحن لسنا أمام لغة فرنسية بريئة واللغة كما عند اللسانيين حمَّالة قيم
ومضامين بل نحن أمام أيديولوجية فرنكوفونية. يقول الشاعر والكاتب المغربي
محمد بنيس: (هناك فرق بين اللغة والثقافة الفرنسيتين، والفرنكوفونية. فإذا
كانت اللغة والثقافة الفرنسيتان تعنيان اللغة والثقافة الوطنية، والخطابات المنتجة
بهذه اللغة من طرف فرنسيين، فإن الفرنكوفونية تعني أولاً: استعمال الفرنسية من
جانب غير الفرنسيين، وتعني ثانياً: لغة البلاد التي تخلت عن لغاتها المحلية!)
[2] .
ويتابع الناقد المغربي توضيح هذا، ويقول: (ويتجلى الجانب الأيديولوجي
للفرنكوفونية في فرض الفرنسية، في الإدارة والثقافة والإعلام، بجميع الوسائل،
وانتزاع المكان الجغرافي للغة العربية، وتجنب الإنجليزية؛ لضمان المغرب
كمنطقة مضمونة لصالح الامتيازات الفرنسية؛ فمن هو فرنسي يشترك فيما هو
فرنسي) [3] .
في نفس الصدد يؤكد الشاعرالمغربي عبد اللطيف اللعبي، وهو واحد ممن
تخلوا عن الكتابة بالفرنسية في إنتاجاتهم: (الفرنكوفونية نقطة ارتكاز للاستراتيجية
الاستعمارية الجديدة. إنها بمثابة انبعاث للامبراطورية الفرنسية يعود على الفرنسية
بامتيازات بيروقراطية) [4] .
هذا الوصف المؤدلج والمموه؛ للفرنكوفونية يدفع الكاتب المغربي محمد بنيس
إلى إبراز التناقض الجلي بين الفرنسية كلغة والفرنكوفونية كأيديولوجية. وذلك
بقوله: (الفرنكوفونية تمنع عني الفرنسية كثقافة؛ بدعمها للإنتاج الاستهلاكي
الهزيل؛ فهي لا تهتم بانفتاحي على الثقافة الفرنسية أو الكونية، بل ما تفكر فيه هو
سيادتها اللغوية، كما تمنع عني عربيتي كمغربي) [5] .
* الوضع الثقافي بالمغرب توجه فرنكوفوني بامتياز:
أهم ما يميز مشاريع التنمية بالمغرب، سواء الاقتصادية أو السياسية أو
الإعلامية، هو ارتهانها إلى اللغة الفرنسية كحامل لخطاب التواصل؛ فلغة المنافسة
للحصول على المناصب العليا، والمصيرية، هو إجادة وكفاءة لغوية فرنسية.
فالجريدة، أو شريط الأفلام، والرواية، والكتاب المصوغ بالفرنسية، هو صاحب
الحظوة، والمستأهل لدعم الفرنك الفرنسي، فيتم التنويه والإشهار بصاحبه في كل
محفل؛ فكم من فيلم أو رواية فاقت شهرتها الآفاق، على الرغم من ركاكتها؛ لأنها
أنجزت بلغة فرنسية، أو أن أصحابها تتلمذوا على مفكرين فرنسيين؛ فكل ما يتعلق
بإدارة المال والمقاولة والربح، فالفرنسية وسيطه اللغوي، مثال هذا برنامج:
«مشاريع» بالقناة الأولى المغربية الذي لم يستطع فكاكاً عن الفرنسية، رغم أنه
موجه لشعب تفوق نسبة أميته في العربية - لغته الوطنية - أكثر من 50%.
يقول الأستاذ موليم العروسي: (إذا أنصتنا إلى الخطاب الرسمي نجد أن
مؤسسات الدولة العليا معربة، بينما خطاب المؤسسات المالية والصناعية ومراكز
صنع القرار الفعلي المتعلق بمصير البلاد في بنيته العميقة، وفي إجرائيته فرنسي
محض.. فلو كانت فرنسا تساعد على تثقيف المغاربة، وتعرفهم على الحضارة
الفرنسية بنية حسنة، مفادها إخراجهم من ظلمات الجهل، فإن هناك من الفرنسيين
من سيستفيد من هذا اقتصادياً وتجارياً، وكذلك بالنسبة لثقافة أمريكا، فلا فرق بين
الكتاب والفيلم والكوكاكولا والهومبورجر) [6] .
هذا الوضع الاعتباري للفرنسية كآلية فرنكوفونية، يؤكد وضعها المريح داخل
النسيج الثقافي المغربي والإعلامي كجزء منه، وضع آمن من كل زعزعة أو
انتفاضات ضد هذا التغلغل؛ إذ نجد الفرنسية مقدمة في الدرجة الأولى على العربية،
رغم كون هذه الأخيرة لغة الدستور الرسمية، ورغم صراخات وصيحات كثير
من المفكرين والمثقفين لمواجهة هذا الوضع كمثال كتاب الدكتور إدريس الكتاني
رئيس نادي الفكر الاسلامي بالرباط المسمى: «ثمانون عاماً من الفرنكوفونية ضد
الإسلام واللغة العربية» وما ذكره من ذلك في سياق مناقشته لقضية التعريب
بالتعليم المغربي.
* المشهد الإعلامي المغربي بين الوصاية والاستقلالية:
يشمل المشهد الإعلامي المغربي جل الوسائط الإعلامية المعروفة من مكتوبة،
وسمعية، وسمعية / بصرية. لكن هذا التنوع لا يعكس استقلالية هذه الوسائط،
وتنزهها عن توجيه الماسك بتسيير الشأن العام داخل المغرب.
فالإعلام المكتوب في مختلف تلوناته ظل حبيس الاتجاه الحزبي، بعيداً عن
المهنية المجردة، والاستقلالية؛ فكل ما يخدم الحزب والحكومة من أفكار ومواقف
يجب أن ينشر، وكل ما يمس بذلك يجب أن يهمش ويقصى.
فالجريدة أو المجلة هي بمثابة بوق، ولسان حزب معين، أو حركة ما، أو
تنظيم ما. كل ذلك حسب وضعه الحكومي تأييداً ومعارضة!
فالصحفي المتزلف يكون مدللاً، والمشاكس مآله الطرد. فإذا كان الأمر
مقبولاً فترة الاستعمار بضرورة خدمة الإعلام للمطلب الوحيد الذي هو استقلال
البلاد، لكنه الآن وارتباطاً مع تطور الإعلام وولوجه مدار المهنية مطالب، أكثر
من أي وقت مضى، بفك هذا الارتباط، ليبقى خادماً لزبنائه القراء في أمانة الخبر،
وموضوعية التعليق، والصدق في التحليل. هذا من جهة الوصاية الحزبية أو
التنظيمية الوطنية، أما تلك الفرنكوفونية فهي ليست مقصودة بهذا التوجيه؛ لأنها
ابن غير شرعي للإعلام المغربي.
أما الإعلام السمعي، والسمعي / البصري؛ فقد ظل لعقدين من الزمان
خاضعاً للهاجس الأمني؛ حيث كان وزير الداخلية مهيمناً على وزارة الإعلام،
بشكل غير مباشر، وذلك بكون بعض مدرائها من أطر الداخلية لا الإعلام، ثم
كانت الهيمنة المباشرة بعد ذلك لما عين وزيراً للداخلية والإعلام معاً!
تلك الوضعية دفعت أحزاب المعارضة السابقة، والماسكة بزمام التسيير في
حكومة اليوم، إلى المطالبة بفك هذا الارتباط، خلال المناظرة الوطنية الأولى
للإعلام: (29 - 31/3/1993م) ، على أن تنص توصياتها على رفع الوصاية
الحكومية عن وسائل الإعلام العمومية خاصة الإذاعة والتلفزة وضمان استقلالهما [7] .
لكن فور تسلمها مقاليد الشأن الحكومي تنصلت من هذه المطالبة بتغييبها
للوجوه المعارضة لسياستها، فإذا كان محمد الأشعري - الناطق الرسمي باسم
الحكومة - قد أكد في خطاب له عقب تسلمه لوزارة الإعلام والاتصال أن مشروعه
هو: «الدفاع عن استقلالية الإعلام عن الحكومة وعن جميع الضغوطات» فإن
طرد صحافِيَّيْن أجريا مقابلة مع زعيم نقابي بالكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وكذا
توقيف ثلاث جرائد: (لوجرنال، دومان، والصحيفة) ، فيما يعرف برسالة الفقيه
البصري واليوسفي، كشف سوءة ذلك التصريح، وجعل منه حبراً على ورق!
* الإعلام المغربي من الوصاية إلى التغلغل الفرنكوفوني:
يتميز مجال الإعلام المغربي كغيره من مجالات الفعل والتأثير (الثقافية،
السياسية، الاقتصادية) بخضوعه لازدواجية الوسيلة والتوجه، فهو مولود مهجن،
متنازع التكوين، بين عربية أصيلة وهوية إسلامية من جهة، وفرنسية حداثية
فرنكوفونية من جهة ثانية. فقد ارتبطت نشأته الأولى بتقليد صحف المستعمر سواء
في المنطقة الخليفية: (أي منطقة النفوذ الإسباني) ، أو السلطانية: (منطقة النفوذ
الفرنسي) ، فقد انطلقت البداية الأولى مع التجارب الإعلامية بتطوان وطنجة مثل:
جريدة الصباح، والمصباح، أو ما كان يسمى بصحافة الشمال التي كان يتزعمها
الزعيم عبد الخالق الطريس، والتي كانت متأثرة بالاتجاه السفلي [8] .
بعد ذلك، وخلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي (القرن العشرين) ،
ظهرت جريدة «العَلَم» لسان حزب الاستقلال سنة 1944، وكانت وقتئذ الأهداف
الوطنية، وفضح المستعمر، ودفعه للخروج من البلاد؛ هي الدافع لإنشاء جريدة
بلسانين عربي وفرنسي. فالنشأة ارتبطت بالسياسي لا بالجانب الاجتماعي أو الديني
تعتمد كاتباً وطنياً راجح الفكر، جزل الأسلوب، متين اللغة، فإذن؛ كانت هذه
الصحف (أقرب إلى نشرات داخلية للحزب الذي تتحدث بلسانه، وتعبر عن مواقفه
معارَضة وتأييداً حسب الموقع من تسيير الشأن العام) [9] .
* مظاهر التغلغل الفرنكوفوني في الإعلام المكتوب:
مع تراكم التجارب في مجال الإعلام المكتوب، لم تعد الساحة المغربية
الإعلامية تحتوي على جرائد وطنية بلسان مزدوج فحسب: عربي وفرنسي، مثاله:
العَلَم وشقيقتها الحزبية: Lopinion، والاتحاد الاشتراكي وشقيقتها الحزبية:
liberation، وبيان اليوم وشقيقتها الحزبية: ALbayan، بل تطور الأمر مع
وجود متنفسات لظهور صحف فرنسية فقط مثل:journal, le hui, Aujourd
Demain، وجل هذه الصحف تعيش على دعم فرنسي في تسييرها.
وللإشارة فقد بلغ حسب إحصاء سنة: 2000م، الغلاف المالي المرصود
للصحف الفرنسية بالمغرب ما قدره: 169. 4 ألف فرنك فرنسي [10] من ضمن
المساعدات التي تقدمها فرنسا إلى المغرب في مجال التعاون الثقافي واللغوي.
* مظاهر التغلغل الفرنكوفوني في الإعلام السمعي:
يعرف الإعلام السمعي بكونه واحداً من أنظمة الاتصال المفتوح، ساهم في
تطوره انتشار النظرية القائلة: (إن الموجات الهوائية تنتمي إلى الشعب) [11] .
هذه النظرية مكنت مجموعات ذات اهتمامات خاصة، اقتصادية، وسياسية
من تحقيق نجاح كبير في حصولها على حق الاتصال بالراديو أو (الترنزستور) .
بالنسبة للمغرب يمكن التمييز بين عدة محطات:
أولاً: إذاعة وطنية مركزية بالرباط العاصمة، تتخذ العربية لسان حديثها.
ونظراً لقلة فنييها، وارتهانها إلى وسائل تقليدية جعلها غير منفتحة على الشعب،
ولا يمكنها ذلك لتعدد الطيف الاجتماعي المغربي، من عربي إلى أمازيغي إلى
فرنكوفوني. ولذلك فهي تستعين على أداء مهمتها الإعلامية بالاعتماد على إذاعات
وطنية جهوية، مثل إذاعة طنجة، وإذاعة تطوان بالشمال، وإذاعة الدار البيضاء،
وإذاعة العيون في الجنوب، وإذاعة وجدة في الشرق، وإذاعة فاس بالوسط.
ثانيا: في الضفة الأخرى من الإعلام السمعي تتحرك إذاعة «ميدي 1»
بطنجة. Mediteranie Radio وهي مؤسسة إعلامية فرنكوفونية أسست من
طرف شركة (سورفاراد: Sorferad) التي تمتلك فيها فرنسا نسبة 99% من
أسهمها. وقد أوكلت هذه الشركة أمر تسييرها إلى أكبر شركة فرنسية، مساهمة
داخلها بـ 54% وهي شركة: «أومنيوم الشمال الإفريقي» ، وتتوصل هذه
الإذاعة بدعم مالي يقدر بـ 248.4 ألف فرنك فرنسي حسب إحصاء 2000م
[12] .
ويستفيد تقنيو هذا القطاع من دعم يقدر بـ 405 ألف فرنك فرنسي، وتحظى
أخبارها بمتابعة هامة بالمقارنة مع تلك الوطنية، وتقدم الجزء الأكبر من موادها
الإخبارية والترفيهية باللغة الفرنسية، بما يقارب 70%.
ويظهر مدى التغلغل الفرنكوفوني في هذه الإذاعة إذاعة ميدي 1 في انعدام
لغات أخرى (إنجليزية، إسبانية) كوسائط لغوية. وغياب هذه اللغات يؤخر
انفتاح المجتمع المغربي على حضارات أخرى، ويتركه رهين الأفق الفرنسي
الضيق. يقول خبير المستقبليات المغربي الدكتور المهدي المنجرة - وهو مدير
سابق للإذاعة والتلفزة المغربية - حول النفوذ الفرنكوفوني في إفريقيا، والمغرب
جزء منها: (إن هذا التصور الجيوسياسي الثقافي للفرنكوفونية سهَّل المحافظة على
إفريقيا [يعني لصالح فرنسا] ، وأخر تكتلها؛ فهو يروج لتنمية التخلف بإفريقيا،
ويشجع التسول بالصدقة الملفوفة داخل غطاء المساعدات) [13] .
ويضيف نقلاً عن تقرير (بور تولو) المنشور من طرف مركز التوثيق
الفرنسي: (إن كل فرنك تقدمه فرنسا للمساعدة العمومية تحصل على ست فرنكات
كمقابل له في التجارة) [14] .
فالإصرار على تركيز الفرنسية يؤخر الاستفادة من التقنية الحديثة التي
اعتمدت الإنجليزية حاملاً لغوياً لها. ولأجل هذا الإصرار الفرنسي على فرض
الفرنسية في مناطق نفوذها التقليدية كالمغرب؛ نجدها تسعى إلى الأخذ بمبدأ
الاستثناء الثقافي في ملف (الغات) أي: منظمة التجارة العالمية. فهي كما يقول
الدكتور إدريس الكتاني في كتابه: «ثمانون عاماً من الفرنكوفونية ضد الإسلام
واللغة العربية» : (لا تحترم لغة المغرب العربية، وتمنع الازدواجية اللغوية
والثقافية، وتعتبرهما خطراً على الوحدة الفرنسية) [15] .
* مظاهر التغلغل الفرنكوفوني في الإعلام السمعي - البصري:
مع تطور الإعلام السمعي - البصري بظهور التلفزيون، تم اعتماد الصوت
والصورة في الأخبار، والتوصيل للمعلومة بأنواعها (السياسية، والرياضية،
والترفيهية) هذه الثنائية للإعلام السمعي - البصري جعلته، كجزء من وسائط
الإعلام، مصدرَ أكثر من تصور ورؤية، ومصب أكثر من مصلحة.
يقول الأستاذ يحيى اليحياوي (متخصص في الإعلام) : (التلفزة فضاء
لتجاذب المصالح والرهانات. من يرى أنه مصدر إزعاج وفضح؛ يحاول رهنه
ورهن الفاعلين فيه، ومن يرى فيه سبيلاً للفعل من نوعية، وتثقيف، ونشر قيم؛
يدعم استقلاله) [16] .
وقد أرجع الأستاذ اليحياوي سبب تأخر فعله في المجتمع المغربي إلى قضايا
أربع: منها عدم الرغبة في حسم القضية الثقافية واللغوية. يقول: (القضية الثالثة
الثقافية والإشكالية اللغوية: فوجود تعدد لغوي يفرض التساؤل: أي ثقافة نريد؟
حداثية أم أصيلة؟ أي لغة نريد؟ أية رموز للتخاطب؟ الهوية والخصوصية؟ ...
ويزداد التعقيد باستحضار ضروب الأدلجة والتنميط المندرجة في سياق الفرنكوفونية
والحق في الاختلاف) [17] .
ويتساءل المؤلف في الكتاب نفسه: (وإلا فما العبرة من طغيان اللغة الفرنسية،
في حين لا تقدم اللغات الأصلية، إلا في إطارها الفولكلوري، في نشرات يتيمة؟
فحسم الإشكال الثقافي اللغوي يعد عائقاً أيضاً) [18] .
هذا التجذر الفرنكوفوني في اللغة والثقافة المغربيتين، يفرض مراجعة
الامتياز اللغوي الفرنسي، كمحتل سابق، خاصة مع تنامي المطلب الأمازيغي
الساعي إلى جعل الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية التي نص عليها دستور
البلاد. هذا، وقد شكل الإعلام السمعي البصري وعلاقته بالفرنكوفونية محور عدة
دراسات [19] .
فالقناة التلفزية المغربية الثانية المسماة بـ «دوزيم» 2 M، تفوق المواد
المقدمة فيها بالفرنسية نسبة 70 بالمائة، وقد ساهمت فرنسا في دعم القطاع السمعي
- البصري المغربي عموماً بمبلغ مالي يقدر بـ 561.2 ألف فرنك فرنسي،
حسب إحصاء سنة: 2000م [20] . وقد تم تأسيسها بموجب اتفاقية بين الدولة
المغربية وشركة «سورفاراد» (Sorferad) في 20 فبراير 1988م،
وابتدأت بث برامجها في مارس 1989م. لكن إشرافها على الإفلاس دفع الحكومة
المغربية للتدخل لإنقاذها؛ بشراء حصة من أسهمها. وفرضت على كل المغاربة
تغطية مصاريف ذلك، عن طريق ضرائب في فاتورة الكهرباء! وشمل هذا
الإجراء حتى أولئك الذين لا يستفيدون من خدمات الربط، من أهل المناطق النائية
عن التغطية، وكذا طبعاً حتى من لا يملك جهاز التلفزيون!
أما القناة الأولى المغربية (إ. ت. م) 1 M، فالمظهر الفرنكوفوني قليل
نسبياً؛ إذ يمثل 30% من المواد المقدمة في شكل أفلام سينمائية، ونشرة إخبارية
واحدة، وبعض البرامج، مثل البرنامج الشهير: «مشاريع» .
* هل يوجد إعلام إسلامي بديل عن هذا التغلغل الفرنكوفوني؟
على الرغم من توفر الساحة المغربية على تنظيمات وفعاليات إسلامية، فإنها
لا تتوفر على قاعدة إعلامية صلبة قادرة على مزاحمة هذا التغلغل داخل المشهد
الإعلامي، إذا ما استثنينا توفر هذه التنظيمات على وسيط إعلامي، من نوع وحيد
وهو المكتوب، مثل: جرائد: التجديد، والمحجة، والفتوة، وميثاق الرابطة،
والسنة ... وبعض المجلات نحو: الفرقان، ورسالة المعاهد، والمنعطف والمشكاة
... إلخ. لكن الفاعل الإسلامي لا يتوفر على إعلام حاضر قوي، يؤهله لمنازعة
الإعلام الفرنكوفوني ومزاحمته؛ لأنه حديث النشأة، ضعيف الإمكانيات.
كما أنه لا يزال رهين نظرته الأحادية، والموجهة نحو السلطة، والحكومة،
والاهتمام بالحزب، أو التنظيم، مع افتقاده لمرتكزات مادية قوية، تضمن
استمراره.
هذا بالنسبة للإعلام المكتوب. أما السمعي، والسمعي - البصري فهو من
اللامفكر فيه في الوقت الحاضر.
لكن بالمناسبة، لا يمكن بخس بعض الغيورين جهودهم المحمودة، في مقاومة
هذا التغلغل الفرنكوفوني خاصة مواقف «رابطة علماء المغرب» ، التي تأسست
سنة 1960م؛ فقد أصدرت هذه الرابطة بلاغاً «بإيقاف إذاعة خطب الكنائس»
وهو برنامج كان يذاع كل يوم أحد، بالفرنسية، كإحدى وسائل التبشير في الدولة
المغربية المسلمة! [21] .
كما دعت في توصية للجنة الإعلام في مؤتمرها العاشر، بمدينة مكناس
بالمغرب، في فبراير 1987م إلى: (مقاومة الغزو الإعلامي المضاد للأهداف
الإسلامية، ومواجهته بأسلوب يعتمد على الأسس العلمية والإعلامية التي تساعد
على إحداث نهضة ثقافية محصنة ومتبينة) [22] .
وهذه مواقف تدل على يقظة مبكرة وشعور بخطورة الغزو الفرنكوفوني، لكن
قوة هذا اللوبي جعلها سجينة توصيات لا قرارات عملية!
يبقى أمر ملح: وهو أنه لا بد لتجاوز هذا التغلغل من ضرورة تكاتف الجهود
الإعلامية الإسلامية، دون السقوط في الحزبية، والنظر إلى ما آلت إليه صحف
الأحزاب السابقة، على مستوى الإعلام المكتوب.
أما بالنسبة للإعلام السمعي، والسمعي - البصري، فقد سهل انتشار وتطور
شبكات المعلومات، والأطباق اللاقطة، سواء بالمرموز أو بالواضح؛ في التخفيف
من قوة التأثير الفرنكوفوني، المكرس للتبعية والإلحاق. هذا الهروب إلى الأمام
دون مباشرة الفعل؛ لا ينفي ضرورة التفكير في بديل وطني ذي هوية إسلامية
محترمة، ومتطلبات مهنية منافسة.
وهذا ليس بعزيز على الله تعالى، إذا خلصت النيات. والله من وراء القصد
وهو يهدي السبيل.
__________
(*) صحفي بجريدة التجديد المغربية.
(1) تصريح الأستاذ يحيى اليحياوي خلال برنامج «مدارات» بالقناة المغربية الأولى، حصة يوم الأربعاء: 13/2/2002م.
(2) جريدة الشرق الأوسط للندنية عدد 24/2/1998م.
(3) محمد بنيس: المرجع السابق.
(4) موقع إسلام أون لاين في الإنترنيت، بحث لفظة «فرنكوفونية» .
(5) صحيفة الشرق الأوسط اللندنية عدد 24/2/1998م.
(6) موقع إسلام أون لاين في الإنترنيت، بحث لفظة «فرنكوفونية» .
(7) جريدة «التجديد» المغربية: ع 176 ليوم 2 يونيو 2001م.
(8) جريدة «الحدث» المغربية عدد: 7 سنة 2000م.
(9) المرجع السابق.
(10) المصدر: جريدة «التجديد» المغربية عدد 176 الثاني يونيو 2001م.
(11) مجموعة من المؤلفين الأمريكانيين: وسائل الإعلام: صحافة، إذاعة، تلفزيون، ترجمة ميشيل تكلا، مكتبة الوعي العربي، مطبعة الاستقلال، القاهرة: 1984م.
(12) جريدة «التجديد» المغربية ع: 176.
(13) الدكتور المهدي المنجرة: الحرب الحضارية الأولى: ص 211، مستقبل الماضي وماضي المستقبل، طبعة 1 لسنة 1991م.
(14) المصدر السابق: ص 224.
(15) المصدر: جريدة «التجديد» المغربية، ع 144 ليوم 10 فبراير 2001م.
(16) يحيى يحياوي: العولمة ومجتمع الإعلام، منشورات جريدة الزمن رقم 23، ص 20-21.
(17) المرجع السابق، ص 127.
(18) المرجع السابق، ص 128.
(19) اعدت جريدة «التجديد» المغربية ملفاً خاصاً بالقناة الثانية المغربية، لمزيد الاطلاع ينظر: التجديد عدد 176.
(20) «التجديد» المغربية عدد 176.
(21) محمد بن شقرون: مواقف وآراء علماء المغرب من فترة التأسيس 1960م إلى المؤتمر العاشر بمكناس سنة 1987م: ص 95.
(22) المصدر السابق، ص 560.(178/53)
دراسات في السيرة والتاريخ
عندما يحكم الإسلام.. وعندما تحكم الجاهلية
رؤية إسلامية للأحداث المعاصرة على ضوء السيرة النبوية
د. منير محمد الغضبان
ghadban14@hotmail.com
الجاهلية التي نتحدث عنها اليوم هي جاهلية القرن الحادي والعشرين التي
مثلها النظام الأمريكي، وهو الذي يزعم أنه يمثل أقصى ما وصلت إليه البشرية من
تقنين لقضايا الحرية، وقضايا حقوق الإنسان؛ وتمثال الحرية شاهد عليها بأنها هي
أم الحريات في الأرض، وقد آلت على نفسها أن تحارب الإرهاب وتلاحقه في كل
مكان في الأرض، ولو احتملت الحرب خمسين عاماً؛ فلا يضرها ذلك.
أما حكم الإسلام فنعرض له من خلال فتح مكة على يدي رسول رب العالمين
محمد عليه الصلاة والسلام.
أمريكا هي الأقوى اليوم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقوى آنذاك،
وسيتم هذا العرض والمقارنة في قضايا سبع محددة.
* القضية الأولى: الدولتان تعرضتا لاعتداء:
فالولايات المتحدة الأمريكية تستيقظ على هجوم عليها صباح الثلاثاء الحادي
عشر من سبتمبر؛ حيث تنقضُّ طائرات مدنية على برجي التجارة فتدمرهما تدميراً
كاملاً، وتضرب البنتاغون مقر وزارة الدفاع الأمريكية، وتكون الضحايا البشرية
قرابة أربعة آلاف شخص من القتلى كما تقول الإحصائيات الرسمية. والخسائر
المدنية بعشرات الآلاف من المليارات تصيب الاقتصاد الأمريكي في قلبه.
في المدينة المنورة عاصمة دولة الإسلام يصل وفد خزاعة حليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليعلن لمحمد أن قريشاً وحليفتها قبيلة بكر قد انقضوا على
خزاعة ليلاً وقتلوهم رُكَّعاً وسُجَّداً؛ إذ يقول وافد خزاعة وسيدها عمرو بن سالم:
... يا رب إني ناشد محمدا ...
... ... ... ... ... ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا ...
... قد كنتمُ ولداً وكنا والدا ...
... ... ... ... ... ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا ...
... فانصر هداك الله نصراً أعتدا ...
... ... ... ... ... ... وادعُ عباد الله يأتوا مددا ...
... في فيلق كالبحر يجري مزبدا ...
... ... ... ... ... ... إن قريشاً أخلفوك الموعدا ...
... ونقضوا ميثاقك المؤكدا ...
... ... ... ... ... ... وجعلوا لي في كداء رصدا ...
... وزعموا أن لست أدعو أحدا ...
... ... ... ... ... ... وهم أذل وأقل عددا ...
... هم بيتونا بالوتير هجدا ...
... ... ... ... ... ... وقتلونا ركعاً وسجدا [1]
إذن هو اعتداء سافر من حلفاء قريش وقريش نفسها التي هادنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم على إيقاف الحرب معه عشر سنين، ونقض لهذه الهدنة.
* القضية الثانية: التثبت من هوية المعتدين:
لقد أعلن الإعلام الأمريكي للوهلة الأولى أن الطائرات لم يكن فيها أحد من
الركاب العرب، ثم عاد فذكر أن في هذه الطائرات تسعة عشر عربياً هم الذين
نفذوه. ثم أعلن أن الشيخ أسامة بن لادن هو المتهم الأول بالتخطيط له. كما ذكر
الإعلام الأمريكي أن هناك أربعة آلاف محقق يدرسون أربعين ألف دليل للتعرف
على هوية المنفذين للهجوم. وقياساً على تفجير المدمرة كول فقد استغرقت
التحقيقات عامين كاملين ولم يصدر بعد التقرير النهائي عن الهجوم.
وأعلن مدير التحقيقات الأمريكية في22/2/2000م عن كشف كثير من
المعلومات والأدلة الجديدة في تفجير المدمرة كول الذي حدث في شهر 3/2000م،
وقياساً على هذه الدقة في التحقيق فيحتاج حادث الأبراج لأربع سنين على الأقل
للتثبت من هوية المنفذين والمخططين. لكن العالم فوجئ بإعلان أن التسعة عشر
هم المنفذون، وأن المدبر للعملية هو أسامة بن لادن بعد أقل من أسبوع واحد،
وأعلنت أمريكا الحرب على بن لادن، وطالبت دولة طالبان بتسليمه من دون تقديم
أي دليل على أنه هو الذي خطط ونفذ الهجوم على الأبراج والبنتاغون. وأعلنت
دولة طالبان استعدادها لتسليمه إلى محكمة عادلة لو قدمت أمريكا الأدلة على ذلك.
فرفضت أمريكا العرض الأفغاني، وأعلنت الحرب على دولة طالبان ما لم تسلم
دولة أفغانستان بن لادن إليها خلال مدة معينة هي أقل من شهر. هذا في دولة
الجاهلية الحديثة التي تمثل أعلى مستويات العدالة والحرية في الأرض كما تزعم؛
فماذا في دولة النبوة؟
لقد جاء الوحي من السماء بنقض قريش للعهد؛ فقد روى محمد بن عمر «أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة صبيحة كانت وقعة بني نفاثة وخزاعة
بالوتير: يا عائشة! لقد حدث في خزاعة أمر. فقالت عائشة: يا رسول الله!
أترى قريشاً تجترئ على نقض العهد الذي بينك وبينهم، وقد أفناهم السيف؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينقضون العهد لأمر يريده الله تعالى. فقالت: يا
رسول الله! خير؟ قال: خير.
ورغم ذلك فقد بعث يتثبت من صحة الأمر من قريش أنفسهم: قال عبد الله
بن عمرو رضي الله عنهما: إن ركب خزاعة لما قدموا على رسول الله وأخبروه
خبرهم قال: فمن تهمتكم وظنتكم؟ قالوا: بنو بكر. قال أكُلُّها؟ قالوا: لا، ولكن
بنو نفاثة قصرةً ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي، قال: هذا بطن من بني بكر،
وأنا باعث إلى أهل مكة أسألهم عن هذا الأمر ومخيرهم بين خصال ثلاث.
فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث: بين أن يَدُوا قتلى خزاعة، أو
يبرؤوا من حلف بني نفاثة، أو يُنبذَ إليهم على سواء.
فأتاهم ضمرةُ رسولُ رسولِ صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بالذي أمره رسول
الله به، فقال قرظة بن عبد عمرو الأعمى: أما أن ندي قتلى خزاعة؛ فإن نفاثة
فيهم عُرام (قوة الشراسة) فلا نديهم. وأما أن نتبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة
من العرب تحج هذا البيت أشد تعظيماً له من نفاثة وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم،
ولكن ننبذ إليه على سواء. فرجع ضمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
من قولهم» [2] وأدرك أبو سفيان خطورة إعلان الحرب على محمد، وعدم البراءة
من بكر، وعدم دفع ديات خزاعة، فقال: «ما الرأي إلا جحد هذا الأمر؛ والله
ليغزونا محمد إن صدقني ظني وهو صادقي، ولا بد من أن آتي محمداً فأكلمه أن
يزيد الهدنة ويجدد في العهد» [3] .
وجاء دور الموقف السياسي: جاء أبو سفيان المدينة، ودخل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فقال: يا محمد! إني كنت غائباً عن صلح
الحديبية فاشدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«فلذلك جئت يا أبا سفيان؟» قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«هل كان قِبَلَكم مِنْ حَدَثٍ؟» قال: معاذ الله! نحن على عهدنا وصلحنا يوم
الحديبية لا نغير ولا نبدل. فأعاد أبو سفيان القول على رسول الله فلم يرد علينا
شيئاً « [4] .
إن أبا سفيان هو القائد الأعلى لقريش؛ وبناء على جواب قريش بإعلان
الحرب كان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتقله ويقتله؛ فهو رئيس
دولة مكة، وهو ينكر نقض العهد، وهو في حالة حرب مع المسلمين بعد هذا
النقض. فجحد ما جرى كله. وجاء الجواب النبوي: إنه إذ لم يكن هناك حدث؛
فنحن على الصلح.
وأدرك أبو سفيان إخفاق سفارته؛ وإخفاق سياسة التجاهل، وعاد إلى مكة،
فقال له قومه: ما وراءك، هل جئت بكتاب من محمد أو زيادة في مدة ما نأمن به
أن يغزونا محمد؟ فقال: والله لقد أبى عليَّ، وفي لفظ: لقد كلمته فلم يرد عليَّ
شيئاً.
ولم يعتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان ولم يقتله حتى لا تنكشف
المخططات النبوية في قرار غزو مكة وفتحها بعد أن نبذت له على سواء.
* القضية الثالثة: الحرب الجاهلية والحرب الإسلامية:
هذه هي حرب أمريكا في أفغانستان بدون تقديم أدلة، وبدون إثباتات: تضع
هدفها الأكبر قتل بن لادن رئيس تنظيم القاعدة، والقضاء على تنظيم القاعدة، وقتل
رئيس دولة طالبان والقضاء على الدولة كلها؛ لأنها لم تتخل عن ابن لادن.
يقول الأستاذ أحمد منصور واصفاً هذه الحرب: أخذت الولايات المتحدة
الأمريكية زمام القانون بيدها في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي،
وأصبحت هي الخصم والحكم في مواجهة كل من تعتقد أنه يهدد أمنها ومصالحها
دون حاجة إلى أدلة أو إثباتات، فقامت بحرب طاحنة في أفغانستان أزالت فيها نظام
طالبان عن السلطة، وولت نظاماً جديداً حليفاً لها، ونتج عن حملتها العسكرية على
أفغانستان تدمير عشرات القرى، ومقتل آلاف الأفغان من المدنيين وتشريد عشرات
الآلاف، عدا القتلى من تنظيم القاعدة وحركة طالبان؛ وذلك وفق تقارير عديدة
أهمها التقرير الذي أصدره البروفسور الأمريكي (مارل دبليو هيرولد) من جامعة
» ديوها مبشير «حول القتلى المدنيين الأفغان والذي قدرهم من بداية الهجوم
الأمريكي في السابع من أكتوبر وحتى الثالث من ديسمبر الماضي فقط بأنهم 3767
قتيلاً من الأطفال والنساء والعجائز والعزل، ولا يزال القصف الأمريكي مستمراً
حتى الآن. والآن تدور في الأفق سيناريوهات عن أهداف أخرى وعلى رأسها
العراق والصومال. هذه هي حرب الأشهر الأربعة وهذه ثمارها المرة في الشعب
الأفغاني فماذا عن فتح مكة؟
أ - وقع أبو سفيان أسيراً بيد محمد صلى الله عليه وسلم؛ وأبو سفيان هنا
مثله مثل أسامة بن لادن لو أنه وقع أسيراً في يد القوات الأمريكية أو الملا عمر
رئيس دولة طالبان. وبدلاً من أن يمثل به أو ينزل به أشد أنواع التعذيب قبل
التنكيل به وقتله، ويضع رأسه على الرمح يعلن بذلك انتصاره على قريش،
ويصلبه أو يمثل بجثته. نستمع معاً إلى هذا الحوار:
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا
إله إلا الله؟
أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! إنه لو كان
مع الله إله، لقد أغنى عني شيئاً بعد. لقد استنصرتُ إلهي، واستنصرتَ إلهك؛ فو
الله ما لقيتك مرة إلا نصرت علي؛ فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً لقد غلبتك.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا أبا سفيان ألم يأنِ لك أن تعلم أني
رسول الله؟
أبو سفيان: بأبي أنت وأمي يا محمد ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أمَّا
هذه؛ فوالله إن في النفس منها شيئاً حتى الآن ... وظاهر كلام ابن عقبة ومحمد بن
عمر في مكان آخر أن أبا سفيان قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول
الله من غير أن يعرض ذلك عليه أحد.
قال أبو سفيان، وحكيم بن حزام: جئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا
يعرف إلى أهلك وعشيرتك (أي لفتح مكة) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أظلم وأفجر: قد غدرتم بعهد الحديبية،
وظاهرتم على بني كعب (خزاعة) بالإثم والعدوان في حرم الله تعالى وأمنه.
قال حكيم وأبو سفيان: صدقت يا رسول الله! قالا: يا رسول الله لو كنت
جعلت جدتك ومكيدتك لهوازن؛ فهم أبعد رحماً وأشد عداوة لك.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو ربي أن يجمع لي ذلك كله:
فتح مكة، وإعزاز الإسلام، وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم وذراريهم؛ فإني
لأرغب إلى الله تعالى في ذلك.
أبو سفيان وحكيم: يا رسول الله! ادع الناس بالأمان: أرأيت إن اعتزلت
قريش وكفت أيديها: آمنون هم؟ رسول الله: نعم.
العباس: يا رسول الله! إن أبا سفيان وجه الشرف والفخر فاجعل له شيئاً.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن
دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن) [5] .
وأثمرت المفاوضات عن إعطاء الأمان لدولة مكة وشعب مكة إذا كفوا عن
القتال، ودخلوا بيوتهم.
غير أن فريقاً من المتطرفين رفضوا هذه المفاوضات، وكانت قيادتهم لعكرمة
بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، وهند بنت عتبة زوجة أبي
سفيان، فواجهوا فصيل الجيش الإسلامي الذي يقوده خالد بن الوليد، ووقعت
الحرب لعدة ساعات، ثم انهزم جيش مكة وفرت قياداته، وقتل منهم أربعة
وعشرون رجلاً من قريش، وأربعة من هذيل؛ ومع ذلك أجرى رسول الله صلى
الله عليه وسلم حساباً لخالد على حربه.
رسول الله: لِمَ قاتلت وقد نُهيت عن القتال؟
خالد: يا رسول الله! هم بدؤونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا
السلاح، وقد كففت ما استطعت، وقد دعوتهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما دخل
فيه الناس فأبوا حتى إذا لم أجد بداً قاتلتهم فظفَّرنا الله تعالى عليهم فهربوا في كل
وجه.
رسول الله: كفَّ عن الطلب.
خالد: قد فعلت) [6] .
* القضية الرابعة: آثار الحرب على أفغانستان:
على الرغم من أن أفغانستان تصنف ضمن الدول الأكثر فقراً في العالم إلا أنها
تعرضت لأقسى حربين من أكبر قوتين في العالم خلال عقدين من الزمان؛ بحيث
لم يبق شبر من أراضيها إلا وزرع بصاروخ أو قنبلة أو لغم، وأكملته الحرب
الأهلية في تدمير ما تبقى من مظاهر الحياة الإنسانية في هذا البلد البائس.. إن
إعادة بعث أفغانستان من الركام بعد 23 عاماً من الخراب والتدمير والصراعات
تبدو من المهمات الصعبة إن لم تكن المستحيلة نتيجة كبر حجم المشكلة؛ فقد تسببت
هذه الحروب في تشريد نحو 6 ملايين أفغاني بالإضافة إلى مليون مشرد داخل
أفغانستان، كما يتهدد الجوع نحو سبعة ملايين آخرين؛ بينما دُمرت الطرق
والمؤسسات والمنازل.
ويقول تقرير البنك الدولي: (إن المؤسسات الاقتصادية للدولة الرئيسية مثل
البنك المركزي والخزانة والضرائب والجمارك والإحصاءات والخدمات والأمن
والقانون والنظام الفضائي في حالة ضعف شديدة أو غير موجودة في الأصل.
وكدليل على تردي الأوضاع الاقتصادية فإن نسبة الوفيات بين الأطفال تصل 49%
وهي من أعلى النسب في العالم، كما أصابت الألغام الزراعة بالشلل التام؛ إذ
سيجد كل عائد إلى أفغانستان أكبر نسبة من المعاقين في العالم؛ مع سقوط ما يصل
إلى 500 ضحية شهرياً بسبب الألغام ومخلفات القنابل.
وتقول الأمم المتحدة إن ما يتراوح بين خمسة وعشرة ملايين لغم ما زالت
مزروعة في أفغانستان عدا تلك التي ستخلفها الغارات الأمريكية) [7] ، ونحن نعلم
أن هذه آثار حرب ثلاثة وعشرين عاماً في أفغانستان، وليست آثار حرب أربعة
أشهر. لكننا نعلم كذلك أن القنابل التي استعملت في هذه الحرب لا مثيل لها في
تاريخ البشرية، ونعلم أن الحرب التي شنتها أمريكا من أجل شخص في أفغانستان
إنما شنت على دولة بهذه المواصفات، وشعب بهذه المواصفات. وأضخم الجرائم
الأمريكية على الإطلاق هو الجانب الاجتماعي؛ إذ غذّت وأججت الأحقاد والثارات
في أبناء الشعب الأفغاني؛ حيث سندت فريقاً وطائفة وحزباُ على آخر؛ فهي تدمر.
وتحالُف الشمال يقتل ويحتل ويمثل وينكل وكل هذا لمصلحتها. وعقوبة هذه
الدولة أنها آوت بن لادن ولم تسلمه لها؛ فمن أجل شخص يُدمّر شعب وتحطم أمة.
فماذا عن نتائج فتح مكة عند إمام الأنبياء في معركة الثأر والانتقام ممن
أخرجوه وحاربوه وطاردوه وقادوا الجيش لاستئصال شأفته، واحتباس دينه
وصحبه؟
1 - حادث سرقة واحدة لأخت أبي بكر الصديق لم يعرف صاحبها» فقام أبو
بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشدكم بالله والإسلام طوق أختي؛ فوالله ما جاء أحد، ثم
قال الثانية والثالثة فما جاء به أحد، فقال: يا أخية احتسبي طوقك؛ فوالله إن
الأمانة في الناس اليوم لقليل « [8] .
2 - حادث سرقة آخر قامت به امرأة قرشية مخزومية ضبطت متلبسة
بجرمها، وجرت محاولات ووساطات كبرى لتفادي عقوبتها بقطع يدها.
وروى البخاري عن عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه.
قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها تلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
أتكلمني في حد من حدود الله؟ قال أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان
العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله. ثم
قال: أما بعد؛ فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه،
وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد؛ والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت
محمد سرقت لقطعت يدها. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة
فقُطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت. قالت عائشة: فكانت تأتيني بعد
ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) [9] .
3 - حادثة قتل واحدة لثأر قديم: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم
لخزاعة التي قُتل منها أربعة وعشرون قتيلاً غدراً ونُهبت أموالها حق الثأر لنفسها
ساعة محددة من النهار فقال:» كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة
العصر، فخبطوهم ساعة وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان بعد الفتح بيوم أقبل خراش بن أمية فحمل على جندب بن الأدلع الهذلي،
فطعنه في بطنه فمات. فجعلت حشوته تسيل من بطنه، فسمع بذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معشر خزاعة! ارفعوا أيديكم عن القتل؛ فقد والله
كثر إن نفع. إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل
بذحول الجاهلية. فقد قتلتم قتيلاً لأدِيَنَّه. فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير
النظرين إن شاؤوا فدِيتُه كاملة، وإن شاؤوا فقتله. ثم ودى رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة. قال ابن هشام: مائة ناقة. وبلغني أنه
أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم « [10] .
4 - بيوت المسلمين المهاجرين جميعاً كانت في مكة، وهي حقهم المغتصب؛
ومع ذلك فقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم استردادها، بل نزل خارج مكة.
فقد روى البخاري وغيره عن أسامة بن زيد أنه قال:» يا رسول الله! أين
تنزل غداً؟ تنزل في دارك؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دار « [11]
وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال
والنساء بمكة، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انزل في بعض بيوت مكة
غير منازلك، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:» لا أدخل البيوت «
[12] ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً بالحجون لم يدخل بيتاً،
وكان يأتي المسجد لكل صلاة من الحجون» [13] .
5 - «الثلاثة والعشرون الذين قتلوا في مكة كان هناك من قتل في الحرب
والمواجهة مع خالد وخراش الذي سبق ذكره، وكان هناك مجرمو حرب فثلثهم
كانوا بالمدينة، فارتدوا عن الإسلام وهربوا إلى مكة وقتلوا بعض القتلى. وآخرون
كانوا من عتاة المجرمين ومن بينهم ثلاثة نسوة ارتدت إحداهن وكانت اثنتان منهن
تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عددهم ثلاثة عشر أسلم ثمانية
منهم واستؤمن لهم، وقتل منهم خمسة» [14] .
6 - هدمت أصنام المشركين فقط؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم فتحها وحول الكعبة ثلاثمائة وستون
صنماً مرصعة بالرصاص، وكان هبل اعظمها، وفي يد رسول الله صلى الله عليه
وسلم قوس وقد أخذ بسِيَة القوس فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما مر
بصنم منها يشير إليه ويطعن في عينيه ويقول: [جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ
البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] (الإسراء: 81) فما يشير إلى صنم إلا سقط لوجهه، وفي
لفظ لقفاه من غير أن يمسه» [15] .
7 - عفا رسول الله عن فضالة بن عمير الليثي من بني بكر الذي حاول
اغتياله ومسح صدره ودعاه إلى الإسلام فأسلم.
8 - أما موائد الفاتحين الكبرى، والسرادقات الضخمة التي أقيمت لطعام قائد
الجيش الفاتح فها هي: روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لأم هانئ (ابنة عمه) يوم الفتح: هل عندك من طعام
نأكله؟ قالت: ليس عندي إلا كسر يابسة (خبز يابس جاف) ، وإني لأستحي أن
أقدمها لك، فقال: هلمي بهن. فكسَّرهن في ماء وجاء بملح، فقال: هل من أدم؟
فقالت: يا رسول الله! ما عندي إلا شيء من خل، فقال: هلميه، فصبه على
الطعام وأكل منه، ثم حمد الله، ثم قال: يا أم هانئ! لا يفقر بيت فيه خل» [16] .
* القضية الخامسة: أسرى الحرب:
وندع الحديث عنها في حرب الجاهلية الحديثة إلى جمعية أصدقاء الإنسان
الدولية:
أعربت منظمة أصدقاء الإنسان الدولية عن استيائها الشديد للأسلوب الذي
تعامل به القوات الأمريكية أسرى الحرب الذين احتجزتهم في أفغانستان، ثم رحلتهم
إلى قاعدة (جوانتانامو) ، وشبهت المنظمة التي تتخذ من فيينا مقراً ملابسات
ترحيل الأسرى، وطريقة احتجازهم برحلات أساطيل الرقيق البحرية من أفريقيا
إلى أمريكا منذ منتصف القرن الخامس عشر مشددة على أنها تراقب بقلق بالغ
عمليات نقل أسرى الحرب وظروف احتجازهم.
وأضافت المنظمة في بيان لها: لقد استدعت معاناة هؤلاء الأسرى خلال
عملية نقلهم وطبيعة الظروف التي يحتجزون فيها لدى أصدقاء الإنسان الصور
المشينة لعمليات شحن المستعبدين الأفارقة من مواطنهم الأصلية إلى بلاد الاستعباد
بواسطة بعض القوى الغربية، والآن تتم عمليات النقل والاحتجاز لأسرى حرب
أفغانستان تحت مسمى مكافحة الإرهاب والمحافظة على قيم السلامة والحرية.
وقال البيان: إن أصدقاء الإنسان يتساءلون عن طبيعة الجرم الذي ارتكبه
هؤلاء الأسرى، وطبيعة التهم الموجهة إليهم، وبناءً على فرضية ضلوع مجموعة
ما في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م في مدينتي نيويورك وواشنطن؛
فهل يسوِّغ ذلك اعتقال مئات البشر ونقلهم واحتجازهم بطريقة همجية بعيدة عن القيم
العرفية الحضارية؟
وأعربت (أصدقاء الإنسان الدولية) عن استيائها؛ لأن اعتقال هؤلاء
الأسرى واحتجازهم في أوضاع مهينة، وكذلك إبادة ما يربو على 600 أسير في
قلعة جانجي بالقرب من مدينة مزار شريف الأفغانية في 25 و 26/9/2001م من
قبل القوات الأمريكية والبريطانية والمليشيات الأفغانية المحلية هناك لتشكل خروقاً
خطيرة للقانون الإنساني الدولي تستوجب التحقيق فيما إذا كانت تساوي جرائم
الحرب وأشارت أيضاً إلى أن تسلُّم الولايات المتحدة لستة من حملة الجنسية
البوسنية من السلطات البوسنية بتاريخ 18/1/2002م بعد قرار المحكمة العليا
للاتحاد الفيدرالي البوسني الكرواتي الإفراج عنهم لعدم تقديم أدلة تصلح لمحاكمتهم
ليشكل ذلك خرقاً واضحاً من قبل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة
البوسنية لقرارات القضاء التي تستوجب الاحترام والتنفيذ.
وفي الصفحة المقابلة لهذا التقرير نجد الخبر التالي: صرح الجنرال عبد
الرشيد دوستم نائب وزير الدفاع الأفغاني بأن لديه زهاء أربعة آلاف أسير من قوات
طالبان، ولا أحد يدري عن أوضاعهم وأحوالهم وحياتهم ومعاناتهم [17] .
فماذا عن أسرى الحرب في فتح مكة؟ ليس لدى المسلمين أسير واحد في هذه
الغزوة، وحتى لا تبقى الصورة غائمة عن معاملة أسرى الحرب تجدنا مساقين
لعرض معاملة أسرى بدر السبعين كما ورد في السيرة النبوية.
وندع الحديث هنا للمباركفوري صاحب الرحيق المختوم يلخص لنا هذه
المعاملة:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في
الأسرى. فقال أبو بكر: يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني
أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم
الله فيكونوا لنا عضداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت:
يا رسول الله! والله ما أرى رأي أبي بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب
لعمر فأضرب عنقه وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن
حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه. حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة
للمشركين. وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلتُ وأخذ
منهم الفداء.
وأنزل الله تعالى: [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (الأنفال: 67-69) .
والكتاب الذي سبق من الله هو قوله تعالى: [فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء]
(محمد: 4) ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسرى؛ ولذلك لم يعذبوا. وإنما نزل
العتاب؛ لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، ثم إنهم قبلوا الفداء من
أولئك المجرمين الذين لم يكونوا أسرى حرب فقط، بل كانوا أكابر مجرمي الحرب
الذين لا يتركهم قانون الحرب الحديث إلا ويحاكمهم. ولا يكون الحكم في الغالب إلا
في الإعدام أو بالحبس حتى الموت.
واستقر الأمر على رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة
آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم. وكان أهل مكة يكتبون، وأهل
المدينة لا يكتبون. فمن لم يكن عنده فداء دُفِعَ إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة
يعلمهم. فإذا حذقوا فهو فداء.
«ومنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدة من الأسرى، فأطلقهم بغير
فداء. ومنَّ على ختنه (زوج ابنته) أبي العاص بن الربيع بشرط أن يخلي سبيل
زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال، بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة
أدخلتها بها على أبي العاص. فرقَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة،
واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يخلي سبيل زينب فخلاها، فهاجرت ... » [18] ونعرض صورة واحدة
فقط من طبيعة معاملة الأسرى لأحدهم وهو أبو عزيز بن عمير. يقول: كنت في
الأسارى يوم بدر فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: استوصوا
بالأسارى خيراً؛ فإن كان ليقدم إليهم الطعام؛ فما يقع بيد أحدهم كسرة إلا رمى بها
إليّ ويأكلون التمر فيؤثروني. فكنت أستحي فآخذ الكسرة فأرمي بها إليه فيرمي بها
إلي « [19] وأما سبايا هوازن اللاتي تجاوزن ستة آلاف سبية كن قد شاركن جيش
هوازن وحضرن الحرب معه انتهى أمرهن بأن منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليهن بدون فداء بعد أن صرن بيد المسلمين. ومن تمسك بسبيه من المسلمين وعده
رسول الله صلى الله عليه وسلم بست جمال من أول غنم يغنمه [20] .
* القضية السادسة: التعامل مع المدنيين:
وحرب القرن الحادي والعشرين إنما كانت ذريعتها في تدمير أفغانستان من
أمريكا هو سقوط القتلى من المدنيين الأبرياء في برجي التجارة الذين بلغوا بضعة
آلاف.
يقول الأستاذ منير شفيق في مقال له: مع إعلان الحرب العالمية على
الإرهاب ركزت إدارة بوش على الضحايا البريئة من المدنيين الذين سقطوا في
هجمات نيويورك وواشنطن حتى كاد الإرهاب يعرف بأنه قتل مدنيين. والأمر
نفسه تكرر بالنسبة إلى الإسرائيليين وفقاً لخطاب وزير الخارجية كولن باول في
كنتاكي 19/11/2001م فاعتبرت الانتفاضة والمقاومة في كل من فلسطين ولبنان
إرهاباً، وحتى الرئيس الفلسطيني اتهم بالتواطؤ والإرهاب. أما قتل المدنيين
الفلسطينيين واللبنانيين والأفغان ومن وصله أو سيصله الدور من العرب والمسلمين
وغيرهم من بلدان العالم الثالث فالقاتل هنا لا يسمى إرهابياً؛ فهو يمارس حق الدفاع
عن النفس.
وقد لفت وزير العدل الأمريكي الأسبق ورئيس مركز العمل الدولي رمزي
كلارك في قناة الجزيرة برنامج بلا حدود في 9/1/2001م إلى أن أمريكا شنت 75
تدخلاً عسكرياً رئيسياً منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد بطشت في حربها
ضد الأسبان بالمدنيين وأثخنت في التدمير.
وفي حرب فيتنام قتل أكثر من مليون، وسقط في حروب كوريا 5.3 مليون مدني،
وسلَّط الضوء على القصف ضد المدنيين الأفغان ضحايا الحرب الراهنة وعلى
معاملة أسرى غوانتانامو كما ركز على مئات الآلاف من الأطفال العراقيين الذين
ماتوا بسبب الحصار.
ونشر نعوم تشومسكي مقالة حول الحرب الجديدة ضد الإرهاب في موقعه
على الإنترنت بتاريخ 18/10/2001م أجاب خلالها على خمسة أسئلة، وقد
عززها بأمثلة على ما اقترفته أمريكا من جرائم بحق المدنيين في عشرات البلدان،
فشدد بداية على أن الحرب الني يشنها بوش على أفغانستان عرَّضت ما بين ثلاثة
إلى أربعة ملايين مدني للمجاعة والموت. وهؤلاء لا علاقة لهم من قريب أو بعيد
بمن وجهت الحرب ضدهم مستنتجاً أننا أمام إبادة بشرية.
وباختصار: إن من تأمل السجل التاريخي يفهم بعمق لماذا لا تطرف عينا
بوش ورامسفيلد بينما الطائرات الأمريكية تدك المدنيين في أفغانستان وفلسطين؟
ولماذا هما متفاهمان كل ذلك مع شارون وبيريز وإيلعازر وموفاز حول سياسات
الاغتيالات والتدمير والاعتداء على المدنيين؟ [21] .
هذا عن المدنيين عند زعيمة الجاهلية الحديثة زعيمة العالم الحر. فماذا عن
المدنيين في فتح مكة، والذين أغلقوا بيوتهم طلباً للأمن، وكانوا في المسجد طلباً
للأمن يستمعون لرسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم خطبته.
راويتنا هنا امرأة صحابية هي زينب بنت أبي تجراة قالت: أنا أنظر إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت، فوقف على الباب وأخذ
بعضادتي الباب فأشرف على الناس وبيده المفتاح، ثم جعله في كمهِ. وقد ليط بهم
حول الكعبة فهم جلوس. قال: الحمد لله صدق وعده، ونصر عبده، وهزم
الأحزاب وحده. ماذا تقولون؟ وماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: نقول خيراً.
ونظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف:» [لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] (يوسف: 92) . اذهبوا فأنتم الطلقاء « [22] ،
فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا الإسلام.
لقد كان هؤلاء جميعاً محاربين لكنهم عندما سمعوا نداء الأمان التزموا بيوتهم
أو المسجد أو دار أبي سفيان، فأصبحوا مدنيين لا يمسون بسوء. ورأينا كيف أن
رجلاً واحداً فقط هو الذي قُتِلَ بعدما توقفت الحرب ووداه رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وألغى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرة الثأر والانتقام نهائياً في تحركه
وهجومه، وحرض على حياة مكة وسلامتها، ورد على مقولة سعد بن عبادة:
» اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاَ «. بمقولة النبوة
الشهيرة:» اليوم يوم المرحمة، اليوم تعظيم الحرمة، اليوم أعز الله قريشاً «.
* القضية السابعة: خطاب الرئيس الأمريكي:
وهو الخطاب الذي ألقاه في الكونغرس بمناسبة مرور سنة على حكمه مساء
الثلاثاء 29/1/2002م، ونشهد تحليلاً قيماً له للأستاذ حسن منيمنة ننتقي مقتطفات
من هذا التحليل. يحدد الخطاب أهداف الحرب عبر صيغتين: تسرد الأولى منها
الدول والمنظمات المستهدفة. وباستثناء كوريا الشمالية فإن كافة الأطراف المستهدفة
إما عربية أو إسلامية» العراق، إيران، حماس، الجهاد الإسلامي، حزب الله،
جيش محمد، أبو سياف؛ بالإضافة إلى القاعدة «. وإذا جاء إدراج كوريا الشمالية
ليثير الاستغراب دولياً ويذكر في هذا الصدد فإن معظم لوائح المنظمات الإرهابية
الصادرة عن السلطات الأمريكية تتضمن أقلية ضئيلة من المنظمات غير المسلمة،
بما يضفي على اللوائح من وجهة نظر شعبية أمريكية طابعاًَ من المصداقية
والموضوعية من دون أن يبدد الواقع الذي يتفق عليه معظم الأمريكيين ضمناً من أن
الخطر الإرهابي هو أولاًَ خطر إسلامي.
أما الصيغة الثانية التي يعتمدها خطاب» حال الاتحاد «في تحديد أهداف
الحرب فهي التي تؤكد الطبيعة العقائدية للمواجهة. وذلك عبر إعلان المبادئ غير
القابلة للتفاوض وفق نص الخطاب والذي تعتزم الحكومة الأمريكية العمل بها في
مختلف أرجاء العالم» حكم القانون، الضوابط على سلطة الدولة، احترام النساء،
الملكية الشخصية، حرية التعبير، المساواة امام القضاء، التسامح الديني «.
يمكن بالطبع نقد استعمال بوش لهذه المبادئ من حيث الانتقائية في اختيارها
ومن حيث اعتبار الحكومة الأمريكية ضمناً الجهة المخولة الحكم على سلامة
تطبيقها. فحق تقرير المصير، والحق بعدم النزوح تحت الاحتلال الأجنبي
مثلاًَ ليسا مدرجين على هذه القائمة. والولايات المتحدة ليست بصدد الاعتراض على
التجاوز اليومي الفادح الذي تقدم عليه الحكومة الإسرائيلية لمعظم هذه المبادئ.. ولا
يغيب عن ذهن المستمع الأمريكي لخطاب الرئيس بوش أن المعني بطرح المبادئ
غير القابلة للتفاوض هو العالم الإسلامي؛ ذلك أن المجتمع الأمريكي في صورته
الذاتيه قد تجاوز موضوع مساواة المرأة مع الرجل ومسألة التسامح الديني. فإدراج
هذين المبدأين هو تعبير وحسب عن القصور المفترض في الثقافة الإسلامية..
فالحرب على الإرهاب من وجهة نظر معظم الأمريكيين ليست بالطبع حرباً
صليبية، ولا علاقة للمسيحية بها. لكنها رغم ذلك بالإضافة إلى كونها حرباً دفاعية
مشروعة هي حرب عقائدية بين مفهوم مستنير متطور، وآخر ظلامي متخلف
للحاكمية والعدالة الاجتماعية. وتأكيد خطاب الرئيس حول إصراره على دعم
الرجال والنساء من الذين يعتنقون المبادئ الأساسية التي تلتزم بها الولايات المتحدة
في مختلف أرجاء العالم بما في ذلك العالم الإسلامي. ويقدم خطاب بوش
للمستمع الأمريكي في استخلاص العبر من مجريات الأحداث في أفغانستان تأكيداً
على أن القيم والمبادئ الأمريكية ولا سيما الحرية والعدالة هي الأسمى.
ومن كان لديه شك في ذلك فعليه أن ينظر إلى أفغانستان؛ حيث استقبل
الشارع المسلم سقوط الطغيان بالغناء والاحتفال ومن نص الخطاب.
وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن مراراً في أعقاب هجمات الحادي عشر من
أيلول أنه أضحى يعتبر مواجهة الإرهاب هدفه الأول مشدداً على أن الحرب لن
تقف عند حد أفغانستان، وأنها قد تمتد إلى أمد طويل [23] .
لا أدري كيف تجتمع الحرية والإرهاب في آن واحد؟ فهو يريد أن يحقق
الحرية بإرهاب العالم.
ولا أرى تعريفاً للإرهاب أوجز من قوله: من لم يكن معنا فهو ضدنا. فإما
أن تسير في ركاب أمريكا وقيمها ومبادئها، وإما أنك إرهابي يجب أن تحارب؛
لأنك ضد معسكر الحرية.
خلاصة الخطاب تأليه أمريكا قيماً وسلوكاً وحرباًَ، والعالم كله يجب أن يسير
بعصاها النووية.
فماذا عن عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وانتصاره
ليكون السيد الأول في الجزيرة العربية؟
لقد كان الفعل قبل الكلام؛ فقد أطلق الحرية لأعدائه وخصومه قائلاً لهم:
» اذهبوا فأنتم الطلقاء «.
وجاء بعدها ليحدد المبادئ العليا التي تنطلق منها البشرية.
1- إعلان التوحيد:
» لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم
الأحزاب وحده « [24] .
2 - إلغاء الجاهلية وآثارها:
» ألا إن كل رباً في الجاهلية أو دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدميَّ
هاتين. وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث إلا سدانة البيت وسقاية الحاج « [25] .
فقد أعلن المبدأ، وأعلن تنفيذه مباشرة، فأسقط دم ابن عمه ربيعة بن الحارث
» وفي رواية: وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب «فيسقط ربا عمه
العباس مع دم ابن عمه ربيعة.
لو كان الرئيس بوش صاحب مبدأ حقيقة؛ وكما أعلن أنه سيحارب الدنيا
ليحكم القانون لوضع نفسه تحت تصرف الأمم المتحدة لتحاكمه على الآلاف من
المدنيين الذين أزهقهم في أفغانستان هو وجيشه وكبار قادته. ولكنه الهوى البشري
يقابله الوحي النبوي، وليس الإلغاء في الإسلام للإلغاء والسيطرة؛ فسدانة البيت
وسقاية الحاج من بقايا حنيفية إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوم أن أمره ربه أن
يؤذن للناس في الحج.
3 - دية قتيل الخطأ:
» ألا وفي قتيل العصا والسوط والخطأ شبه العمد الدية مغلظة مائة ناقة منها
أربعون في بطونها أولادها « [26] . وذلك لتغليظ حرمة الدم فلا يتساهل فيه.
4 - إلغاء الفوارق الطبقية، ووحدة البشرية:
» ألا وإن الله تعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها. كلكم لآدم
وآدم من تراب «ثم تلا هذه الآية: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]
(الحجرات: 13) » [27] .
فالناس كلهم من أصل واحد. يتفاوتون بقربهم من ربهم أو بعدهم عنه. وليس
الأمر الضابط على سلطة الدولة فقط كما يقول الرئيس الأمريكي؛ بل الضوابط
على سلطة الخلق جميعاً بحيث لا يطغى فرد على فرد بنسب أو جاه أو مال. إنما
الكفاءة والبر التقي الكريم.
لقد كان يعلن هذه المبادئ في بيت الله الحرام، وفي سلطان قريش التي تفخر
على العرب جميعاً بأنسابها، وفي عشرة آلاف من العرب وبجوارهم ألفان من
قريش، ويسقط كل الفضل العربي أو المصري أو اليمني أو القرشي؛ يعلن هذا
ضد عواطف جيشه كله الذي يفخر بانتمائه العربي ويعتز بنسبه، ويخوض
الحروب والأهوال من أجل كرامة القبيلة وسيادتها.
ولم يكن إعلان هذا المبدأ نتيجة ثورة شعبية مثلت أكثرية جيشه اضطر
لمجاراتها من الفرس والروم، بل أعلن ذلك أمام قريش ومَنْ وراءها من العرب:
«إن الله أذهب عنهم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. كلكم لآدم وآدم من تراب»
[28] .
5 - حرمة مكة والبيت الحرام، واعتبار السلم أساس العلاقات الدولية:
«ألا إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ووضع هذين
الأخشبين؛ فهي حرام بحرام الله، لم تحل لأحد كان قبلي ولن تحل لأحد كائن بعدي،
لم تحل لي إلا ساعة من نهار يقصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا
ولا ينفَّر صيدها، ولا يعضد عضاها، ولا تحل لقتطها إلا لمنشد، ولا يختلى
خلاها» فقال العباس وكان شيخاًَ مجرباً: إلا الإذخر يا رسول الله؛ فإنه لا بد منه
للقبر وظهور البيوت. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: إلا
الإذخر؛ فإنه حلال « [29] فرمز السلام في الوجود ومعقله هو مكة والبيت الحرام
حيث يأمن الطير فلا يصاد، والحشيش فلا يقطع، والشوك فلا يقلع. بَلْهَ الإنسان
إنه مركز السلام والأمن في الوجود.
* كلمة أخيرة وتقويم موضوعي:
فماذا جرى في حرب الجاهلية في القرن الواحد والعشرين في تقويم عام لها
مع مبادئها؟ ندع للكاتب السعودي خالد الدخيل وصفه بقوله:
أ - دور إسرائيل واليهود:
» التأثير اليهودي على بنية الخطاب الثقافي السياسي الأمريكي يتجاوز ذلك
إلى التناقض مع منطلقات الديموقراطية الإسرائيلية؛ فنقد إسرائيل يعتبر من
المحرمات الذي قد يصل إلى نوع من العداء للسامية. حتى عضو الكونغرس في
واشنطن لا يملك الجرأة على توجيه النقد للسياسة الإسرائيلية، أو للقوة السياسية
والمالية الضخمة التي يتمتع بها اللوبي الصهيوني في العاصمة الأمريكية. هذا النقد
يعني الدخول في القائمة السوداء لهذا اللوبي، وكل من تجرأ على ذلك حتى لو لم
يكن معادياً للسياسة الإسرائيلية لن يتمكن من كسب معركة الترشيح للحزب؛ دع
عنك الفوز في الانتخابات. وإذا كانت هذه حال من يعمل في المجال السياسي؛ فلك
أن تتصور حال من يعمل في المجال الإعلامي. هذا هو ثمن فقدان الاستقلال الذي
تراجعت بسببه الحرية وتوارت معها المصداقية، مصداقية الخطاب الذي يصدر
عنه الإعلام، ومصداقية الموقف الذي يعبر عنه رجل السياسة؛ ويخطئ
الأمريكيون إذا اعتقدوا أنهم بذلك يساهمون في تحقيق المزيد من الحرية، والمزيد
من السلام. إنهم يدفعون العالم نحو المزيد من العنف ونحو المزيد من الإرهاب «
[30] .
ب - عسكرة جديدة للعالم:
وهذا ما يتحدث عنه الأستاذ منير شفيق بقوله:» وباختصار فإن أمريكا
راحت تفرض أجندتها على العالم الآن. ولكي يتحقق ذلك أصبحت دول العالم
ترزح تحت الابتزاز، وعاد التهديد بالتدخل العسكري مسلطاً على رؤوس الكثيرين
أي ثمة مسعى أمريكي لفرض حال الطوارئ عالمياً تحت حكم البنتاغون، وهو ما
يترجم قول بوش: من ليس مع أمريكا فهو مع الإرهاب. ولم يقتصر الانقلاب
الذي أحدثته عمليات خرجت عن كل سياق على اهتبال الفرصة من قبل أمريكا
لفرض حكم عسكري على العالم، وإنما امتداد إلى الداخل الأمريكي والداخل
الأوروبي من جهة التوسع في التشريعات التي تحد من الحريات المدنية
والديمقراطية وحقوق الإنسان مثل قوانين المراقبة، والتوقيف إلى أجل غير مسمى،
والتنصت والتفتيش واستباحة الإنترنت ومراقبة الحسابات الشخصية، وهو الأمر
الذي يعطي للأجهزة الأمنية صلاحيات تفوق ما أعطي للجنة مكارثي في أوائل
الخمسينيات. فالذي يشهده عالم الغرب اليوم مسح ما كان يفاخر به من جهة
الحريات المدنية وحقوق الإنسان، ولا أحد يعرف مداها. أيضاً من ناحية تأثيرها
في الأوضاع الداخلية من دول العالم الثالث؛ فقد سقطت ورقة التوت عن تصدير
أمريكا لشعار الديمقراطية وحقوق الإنسان للعالم كله ليعود الوجه الحقيقي لأمريكا،
أمريكا الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ولكن: هل يمكن أن يعزى هذا كله
لما حدث في ذلك اليوم، أم كان هذا هو المخبوء الذي وجد ذريعته ليخرج إلى
السطح؟ ؟ « [31] .
ج - فوضى شاملة يختفي في غبارها كل الأقطاب:
ويحدثنا عنها الكاتب المصري عبد الله الأشعل فيقول:» عندما انتهت
الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة هي التي حسمت نتائجها سواء في
ساحات القتال في مراحلها الأخيرة، أو في وضع اللمسات الأخيرة على مصير
المهزومين وعلى شكل النظام الدولي الجديد. أما في أفغانستان فقد اختلطت الأوراق
كما اختلط الحق بالباطل، وارتد المجتمع الدولي مسافة قرنين من الزمان بعدما
استبشر الجميع منذ ميثاق روما في تموز - يوليو - 1997م الذي قرر إنشاء
المحكمة الجنائية الدولية الدائمة ووضع لها تشريعاً جنائياً أدرج فيه أحدث جرائم
النظام العام الدولي، وبعدما وصلت الجرائم الدولية إلى مراتب العصور القديمة
وهمجية الشعوب السابقة على عصر الحضارات.
صور الارتداد:
وأما صور الارتداد فهي لا تقع على ما يبدو تحت حصر؛ فمن ناحية اندفع
الجميع وراء واشنطن من دون وعي. فالحرب في أفغانستان حرب عالمية بين
معسكرين: الأول تقوده الولايات المتحدة ووراءها العالم. أما المعسكر الآخر فهو
الفضاء الأفغاني. فتشكل مسرح الإبادة التاريخي الذي ساهم فيه العالم كله ...
والصورة الثانية بربرية المجتمع الدولي كله ضد شعب بعينه بدون جريرة؛ وكأن
إبادة الشعب الأفغاني أتعس شعوب الأرض بأحدث أنواع الأسلحة هو تطهير لمصير
البشرية واسترداد لكرامتها المهدورة. من ناحية ثانية تخلت الولايات المتحدة عن
كل مبادئها. فأباحت الاغتيال والقتل والإبادة، واستخدام كل الأسئلة المحرمة.
وضربت أسوأ مثال على الفوضى، وكان أخلص زبائنها إسرائيل أكثر الأطراف
إعجاباً بسلوكها؛ حيث تشابهت مأساة شعبي فلسطين وأفغانستان، بل اعتبرت
أعمال الإبادة الإسرائيلية امتداداً للجهاد الأمريكي في أفغانستان. وقررت إسرائيل
أن كلا الشعبين اليهودي والأمريكي في خندق واحد وهما ضحايا الإرهاب
الفلسطيني والأفغاني. وإذا كانت واشنطن هزمت في فيتنام فإن قيم المجتمع الدولي
قد هزمت كلها في أفغانستان، وإذا كانت الحرب العالمية الثانية أسفرت عن نظام
القطبية الثنائية التي لم تلبث بعد خمسة وأربعين عاماً أن انتهت إلى قطب واحد؛
فإننا لا نستبعد أن يعقب الحرب العالمية الثالثة فوضى شاملة يختفي في غبارها كل
الأقطاب « [32] .
وأخيراً: ندعو الجاهلية الأمريكية التي أعادتنا إلى القرون الخالية أن تصطف
بجوار الجاهلية العربية قبل خمسة عشر قرناً. ونترك الساحة لشريعة الله في
الأرض، مرددين قول الله تعالى الخالد: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة: 50) .
__________
(1) البداية والنهاية، ابن كثير، ج 4، ص 310، ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.
(2) المغازي، للواقدي، ج 2، ص 786، وهو في فتح الباري، ج 8، ص 317.
(3) المغازي، للواقدي، ج 2، ص 788.
(4) المغازي النبوية، للزهري، ورجاله رجال الصحيح، 87، 88.
(5) السيرة النبوية، لابن هشام، 2/4/36، والمغازي، للواقدي، ج 2، ص 816، ومجمع الزوائد، للهيثمي، وقال فيه: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
(6) المغازي، للواقدي، ج 2، ص 839، وفتح الباري، ج 8، ص 323.
(7) المجتمع الكويتية، العدد 1484.
(8) السيرة النبوية، لابن هشام، 2/4/37، ورجالها رجال الصحيح، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع.
(9) البخاري، ح 4304.
(10) المغازي، للواقدي، ج2، ص 844، وغيره.
(11) البخاري، ح/ 4284.
(12) البخاري، ح/4284، وفتح الباري، ج 8، ص 324.
(13) انظر تفصيل ذلك في فتح الباري، ج 8، ص 323، 324.
(14) مسلم، ح/ 1781، والبخاري، ح 4287.
(15) السيرة النبوية، لابن هشام، م 2، ج 4، ص 46.
(16) مجمع الزوائد للهيثمي، ج6، ص 176، قال فيه: رواه الطبراني في الصغير، وفيه سعدان بن الوليد ولم أعرفه.
(17) المجتمع الكويتية، العدد 1487، 22/2/2002م.
(18) الرحيق المختوم، للمباركفوري، 255، 256، وهي مبثوثة في الصحاح.
(19) أسد الغابة، لابن الأثير، ج 5، ص 354.
(20) انظر فتح الباري، ح 4318، وشرحه، 350، 351.
(21) الحياة، العدد 14200، الأحد/3/2002م.
(22) المغازي، للواقدي، ج2، ص 835، والسيرة النبوية، لابن هشام، ج2، ص 412، والطبري، ج2، ص 161.
(23) الحياة، العدد 14200، الأحد، شباط، 2002م.
(24) المغازي، للواقدي، ج2، ص 835، والسيرة النبوية، لابن هشام، ج2، ص 161، وتاريخ الطبري، ج2، ص 412.
(25) المصدر السابق.
(26) (27) المغازي، للواقدي، ج2، ص 835، والسيرة النبوية، لابن هشام، ج2، ص 161، وتاريخ الطبري، ج2، ص 412.
(28) سنن الترمذي 47/ كتاب تفسير القرآن، حديث رقم 3270، عن ابن عمر بلفظ:» عُبِّيَّة الجاهلية «.
(29) المغازي، للواقدي، ج2، ص 835، والسيرة النبوية، لابن هشام، ج2، ص 161، وتاريخ الطبري، ج2، ص 412.
(30) الحياة، العدد 14084، 7/11/2001م.
(31) الحياة، العدد 14200، 3/2/2002م.
(32) الحياة، العدد 14156، 19/12/2001م.(178/58)
حوار
حوار مع فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف
إلغاء قانون التنصير في ـ السودان ـ كان له ثمار مرة
* ضيفنا في سطور:
- أبو عمر عبد الحي بن يوسف، من مواليد القاهرة عام 1384هـ الموافق
1964م.
- تخرج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في كلية الشريعة عام
1406 ـ 1407هـ.
- أتم الدراسات العليا في جامعة الخرطوم عام 1418هـ 1998م.
- يعمل الآن رئيساً لقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم.
- كما أنه إمام وخطيب مسجد حي الدوحة بالخرطوم.
- اشتهر فضيلته بالجرأة والصدع بالحق، وله جهود مشكورة في الدعوة
والتربية.
البيان: كيف تقوِّمون واقع الدعوة الإسلامية في السودان؟
- واقع الدعوة الإسلامية في بلادنا يبشر بخير كثير إن شاء الله إذا توافر
شرط الإخلاص مع حسن التوجيه والتسديد؛ حيث إن الأبواب مشرعة أمام الدعاة
ليباشروا مهمتهم في المساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية مدنية
وعسكرية، وقد يعجب كثير من الناس لو علموا أن الحديث في المساجد - عندنا -
لا يحتاج إلى إذن ولا رخصة؛ بل كل ما هنالك أن يكسب الداعية ثقة أهل المسجد
ليقول بعدها ما يشاء، كما أن خطب الجمعة ليست مملاة ولا موجهة بل حرية
المنبر مكفولة، ولذا قد تجد تبايناً في تناول الموضوع الواحد ما بين مسجد ومسجد،
وقد ينتقد الإمام بعض الظواهر والممارسات دون أن يتعرض لمساءلة وهذه نعمة
نحمد الله عليها، ونسأله أن يديمها علينا.. وأحسب أن هذه الحرية تحتم على الدعاة
أن ينطلقوا في تبليغ دعوتهم بإقامة الندوات والمحاضرات وتنظيم الدروس العلمية
المتخصصة وإقامة الدورات الشرعية للرجال والنساء. ومما يُحمد في هذه البلاد أن
أنشطة الدعاة في المساجد لا رقابة عليها؛ فلك أن تقيم حِلَقاً لتحفيظ القرآن للناشئة
يصحبها بعض المسابقات والبرامج الترفيهية، وكذلك في مواسم الخير - كرمضان -
لك أن تعتكف وأن تدرّس، وقد سهل هذا الجو نوعاً من التواصل بين الدعاة نتج
عنه بعض الفتاوى التي اجتمعت فيها كلمتهم واتحد رأيهم مثلما حصل في أحداث
فلسطين وأفغانستان؛ حيث صدرت فتاوى جماعية عن علماء ودعاة السودان،
ومثلما كان حين تطاول بعض الأدعياء على مقام الصحابة الكرام رضي الله عنهم،
فصدرت فتوى ألزم على أثرها بإعلان توبته. والحمد لله.
البيان: إذن ما هي في نظركم أكبر معوقات الدعوة الإسلامية في السودان؟
- المعوقات موجودة؛ لكن التغلب عليها بعون الله ممكن، ولعل من أهم
المعوقات:
1 - النقص الحاد في الطاقات الدعوية المؤهلة بالعلم الصحيح والمنهج السليم.
2 - تراجع الجامعات الشرعية كجامعة أم درمان التي أصابها ما أصاب
أترابها كالأزهر حيث ألحقت بها كليات العلوم التجريبية مما أثر على رسالتها
وصرف الاهتمام عنها كواحدة من أهم روافد تأهيل الدعاة في البلاد، كما أن
الكليات الشرعية لا يقبل فيها إلا من عجز عن اللحاق بركب الأطباء والمهندسين
والصيادلة والقانونيين.
3 - ضعف خلاوي القرآن بحيث تعنى في الغالب بتحفيظ القرآن الكريم،
ولكونها لا تتبع ذلك بدراسة العلوم الشرعية الضرورية، والمتخرج في تلك
الخلاوي تقصر همته غالباً عن التدرج في تلقي العلوم النافعة والتزود منها.
4 - وجود صوارف تصد الناس عن الحق وتشغلهم ببنيات الطريق كالتشيع
والتصوف الغالي والمدارس العقلانية التي تتدثر بالإسلام وهي له كارهة.
5 - من أعظم المعوقات عدم اعتماد المال اللازم لتحريك الدعاة، كما أن همة
المحسنين متجهة دائماً لبناء المساجد، دون التفات لكفالة الدعاة الذين بدعوتهم
وعلمهم تعمر تلك المساجد ويكثر روادها.
البيان: النقص الحاد في الطاقات العلمية الذي أشرتم إليه ما السبيل لعلاجه؟
- أتصور والعلم عند الله أن العلاج يكون في عدة محاور:
أولها: إعادة هيبة العلم الشرعي بترغيب الناس فيه وبيان فضله، وأن
حملته هم ورثة النبيين ومصابيح الهدى، لا كما صورتهم القصص والروايات
وأقاويل أهل النفاق بأنهم أرغب الناس بطوناً وأكثرهم كلاماً وأجبنهم عند اللقاء.
ثانيها: إقامة كلية أو أكثر متخصصة في العلوم الشرعية يُقبل فيها من كان
راغباً في هذا العلم الشريف مهما كان تخصصه ويُنتقى لها أفاضل الطلاب الذين
يحملون هَمَّ الدعوة والبلاغ وفيهم أدب والتزام، وبذلك نتخطى عقبة سياسة التعليم
التي تستوعب في الكليات الشرعية غالباً من لا هَمَّ إلا الشهادة والوظيفة.
ثالثها: تعاهد الدعاة بإمدادهم بالكتب وأمهات المراجع، وتزويدهم بالأشرطة
النافعة والدوريات العلمية المحكمة، والتواصل معهم بالدورات الشرعية المتخصصة
التي تجدد المعلومات وتقوي الطاقات.
رابعها: على الدولة أن تهيئ الأسباب المعنية لهؤلاء على التفرغ لما بذلوا
أنفسهم إليه من عطاءٍ مجزٍ تحصل به كفايتهم ويتعففون به عن سؤال الناس، ولا
يضطرون معه إلى التماس سبل العيش في مجالات أخرى.
خامسها: أرى لزاماً على أهل العلم المغتربين في السعودية والخليج أن
يتقوا الله ويرجعوا إلى قومهم لعلهم يحذرون، خاصة أن كثيرين منهم لا ضرورة له
في الاغتراب، وإني أقول لهم: سيسألكم ربكم عن أقوام ضلوا بسبب الجهل فماذا
أنتم قائلون؟!
البيان: ما تقويمكم لتجربة الحركات الإسلامية العاملة في السودان؟
- لا شك أن لهذه الجماعات جهوداً مقدرة مشكورة في الدعوة إلى الإسلام
بشموله، والتحذير من العقائد الشركية من البدع والخرافات، وتبصير الناس بدينهم،
فجزى الله القائمين عليها خيراً، وأحسن إليهم كما أحسنوا إلى خلقه، وغفر لهم
التقصير والزلل، لكنَّ ثمة أموراً تستدعي التنبيه والملاحظة:
أولها: أن كثيراً من هذه الجماعات طبعت المنتسبين إليها بتعصب أعمى
للجماعة؛ بحيث لا يرون خيراً في سواها، ويكون تقويمهم للأشخاص والهيئات
بحسب قربهم أو بعدهم من جماعتهم، ويتبع ذلك تشيع لآراء شيوخ الجماعة وقادتها؛
فالحق ما قالوا والصواب ما رأوا؛ وكأن الأحوال السياسية في أمة الإسلام قد
ألقت بظلالها على الجماعات الدعوية والأحزاب الإسلامية، وهذا الذي قلته ينسحب
على كثير من الجماعات العاملة في غير السودان.
ثانيها: لم تفلح هذه الجماعات في إقامة جسور حوار وتواصل فيما بينها؛
بحيث يتعاونون على البر والتقوى، ويوالي بعضهم بعضاً في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ومن المؤسف أنه قد يتعرض بعض الدعاة لمحن فلا يجدون
من إخوانهم في الجماعات الأخرى نصرة ولا مؤازرة، بل ربما يجدون خذلاناً
وتحريضاً.
ثالثها: بعض الجماعات تدّعي العصمة في الاجتهاد وهذا غير مسلّم ويتبع
ذلك بلسان الحال لا المقال ادعاء عصمة الأشخاص، مع أنهم قد يشتدون في النكير
على أتباع المذاهب أو الطرق الأخرى مثلاً فوقعوا فيما أنكروه على غيرهم.
رابعها: بناءً على ما سبق ونتيجة لتربية قاصرة، نبتت في بلادنا وفي
غيرها نابتة ليس لها من مؤهلات سوى سلاطة اللسان مع الأحياء والأموات،
والتشنيع على كل من أخطأ في زعمهم مع الادعاء بأن هذا هو المنهج الحق وهو
مسلك العلماء الأولين وحاشهم وظهر بعض الغلاة ممن يكفرون الأمة عامتها
وخاصتها.
خامسها: فقدت جماهير الشباب الثقة في كثير من تلك الجماعات نسبة
للانقسامات التي وقعت؛ فقلما سلمت جماعة من أن تصبح شطرين وثلاثة، ولعل
الحل يكمن في أن يتعاون الدعاة إلى الله على لَمِّ الشتات على ثوابت الإسلام،
وجمع الكلمة الموحدة لصف المسلمين دون التزام بعنوان يقيد حركتهم ويمنع
وحدتهم. ونسأل الله أن يصلح حال هذه الأمة.
البيان: هل لفضيلتكم أن يحدثنا عن واقع الدعوة الإسلامية في جنوب
السودان؟
- حقيقة أنا ما زرت الجنوب إلا مرة ألقيت فيها بعض الدروس والمحاضرات،
لكنني أقول: إن الدعوة في الجنوب كانت ممنوعة عمداً، وبسياسة اتبعها
المستعمر الإنجليزي النصراني الماكر؛ حيث أقام في الجنوب ما عرف بالمناطق
المقفولة التي يحظر على أهل الشمال دخولها، فعزل أهل الجنوب عن أهل الشمال،
وفي الوقت نفسه سمح للمنصِّرين بل سهَّل لهم وهيأ الأسباب لنشر باطلهم وترويج
الإفك بين أهل الجنوب، حتى أوجد من بينهم صنائع لا ترى إلا ما يراه المنصرون
ولا تعتقد إلا ما يعتقدون ... وبعد رحيل المستعمر الغاصب خلفته حكومات علمانية
لم تكن الدعوة من أولوياتها ولا اهتماماتها؛ بل حصرت القضية في مفاوضات
سياسية حول قسمة السلطة بين الجنوب والشمال، دون أن تدرك أن المشكلة أعمق
من ذلك بكثير بسبب الحقد الذي زرعه المستعمر في نفوس أهل الجنوب تجاه أهل
الشمال، ولعل ممارسات شمالية ساعدت على ذلك، مثلما حصل ظلم أحياناً من
أهل الشمال لأهل الشمال في حكومات متعاقبة.
أقول: إن الدعوة في الجنوب ضعيفة مثلما هي في الشمال والسبب الأكبر في
ذلك أمران: أولهما: ضعف الإطار الدعوي المؤثر، وثانيهما: ضعف الإمكانات
المادية؛ فالدعوة إلى الله في زماننا - كما لا يخفى - ما عادت قاصرة على خطبة
أو كتاب، بل لا بد من علم ينشر ومدارس تبنى ومستشفيات تقام، ودواء وغذاء
وكساء يبذل، وشبهات تزال، ودونك أحوال المنصرين الذين يتحركون بإمكانات
هائلة فيها الطائرات والمستشفيات المتحركة والكتب والمعلومات، مع توفير المنح
الدراسية والبعثات الجامعية، وما إلى ذلك من جهد يقف وراءه أحياناً دولة
كالفاتيكان، وأحياناً منظمات كنسية مدعومة دولياً تعادل ميزانية بعضها ميزانية
بعض الدول الإفريقية، ولها تأثير في مراكز صنع القرار كمنظمة التضامن
المسيحي على سبيل المثال؛ فأنَّى للدعوة الإسلامية مثل هذا الجهد والبذل، وليس
من دولة ترعاها وتحوطها؟ لكن هذا لا يلغي دور بعض المنظمات والدعاة وفقهم
الله الذين عملوا وما زالوا، وتأتينا الأخبار في كل حين بأن فئاماً من أهل الجنوب
يدخلون في دين الله أفواجاً، ولقد لقيت بعضاً ممن هداه الله فإذا هو على حال طيبة
وعقيدة راسخة أسأل الله له الثبات.
البيان: إزاء هذا الضعف الدعوي نشطت المنظمات التنصيرية مستغلة
الواقع السياسي للجتوب؛ فمن المعروف أن التنصير كان ممنوعاً في الشمال
السوداني؛ فما حاله الآن؟
- لقد عرف الساسة كلهم أجمعون أن بعثات التنصير لا يراد من ورائها إلا
الشر للبلاد والعباد، وأن جلّ همها يتركز في تهيئة الدعم المادي والمعنوي لحركة
التمرد الصليبي التي يقودها قرنق، ومن المؤسف أن بعض المثقفين ممن غلبت
عليهم النزعة العلمانية ما فطنوا لذلك إلا في وقت متأخر حتى لاحظ بعضهم مؤخراً
أن قرنق حين دعا إلى ليلة سياسية في العاصمة البريطانية ما اختار لها إلا قاعة
تابعة لإحدى الكنائس في واحد من أغلى أحياء لندن، وهو الذي يخدع شركاءه من
أهل الشمال بالدعوة إلي فصل الدين عن الدولة، وما عاد خافياً على أحد أن سند
حركة التمرد في الغرب والولايات المتحدة يتمثل في المنظمات المسيحية الأصولية،
وبعض هذه المنظمات يعتبر الحركة الشعبية فصيلاً في حملة صليبية، وما فتئ
المنصرون يطلقون الأراجيف حول الوضع في السودان، ويتعمدون الكذب حين
يزعمون أن النصارى مضطهدون، أو أن الرق يمارس واقعاً في الأسواق، ونحو
ذلك من فِرى تضحك منها الثكلى.
والقناعة بذلك - عند الساسة - قديمة، حتى دفع ذلك إلى طرد المنصرين
الأجانب في عهد الفريق إبراهيم عبود الذي حكم السودان في الفترة من 1958 -
1964م وسن قانون التنصير الذي يحول دون بناء الكنائس أو تجديدها إلا بإذن
الحكومة، ولما عقد مؤتمر حوار الأديان عام 1994م الذي أعقب زيارة بابا
الفاتيكان عمدت الحكومة كبادرة حسن نية كما قيل إلى إلغاء قانون التنصير، فكان
لذلك ثمار مُرة يلمسها كل الناس؛ حيث بنيت الكنائس بغير حساب في الشمال
والشرق والوسط والغرب؛ بل في قلب العاصمة بعضها بترخيص وأكثرها عنوة،
وانتشرت معارض ما يسمى بالكتاب المقدس، حتى أقيم في بعض الجامعات تحت
شعار «إنجيل لكل طالب» بل بلغت الجرأة بهم إلى حد توزيعه في وسائل
المواصلات وأماكن الازدحام في الأسواق وغيرها، وانتقل المنصرون إلى مرحلة
استفزاز المسلمين استغلالاً للضعف الحاصل فعمدوا إلى إقامة مسارح متنقلة
تصحبها شاشات عرض ومكبرات صوت في بعض الأسواق، مما دفع بعض
الشباب الغيورين للاصطدام بهم عن طريق الدعوة إلى الإسلام بالأسلوب نفسه،
وفي الزمان والمكان ذاته، فتدخلت الشرطة في الوقت المناسب ومنعت النصارى
من ذلك العمل المقيت.
أقول آسفاً: قد حدث في السودان ما لم يكن يخطر ببال أكثر الناس تشاؤماً؛
حيث تنصر بعض أهل الشمال، وقد جيء لي ببعضهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولعل الحكومة تدرك أكثر من ذي قبل أنه مهما بلغ حجم التنازلات فإن القوم لا
يزدادون إلا غروراً واستكباراً، وليس لمطالبهم سقف، وها نحن نرى بأعيننا أن
أمريكا وبريطانيا والفاتيكان وغيرهم من رعاة الصليب ما رضوا عنا ولا شهدوا
لنا ولا أنصفونا، بل الحال كما قال ربنا: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
البيان: إذن هل كان لإلغاء قانون منع التنصير آثار سيئة على الشارع
السوداني؟
- اللهم نعم! ومن أخطر تلك الآثار طمس عقيدة الولاء والبراء، حتى إنك
لتجد الشاب الطيب الصالح الذي يذهب إلى أرض الجنوب مجاهداً لربما يجادلك في
كون النصارى مؤمنين أو غير مؤمنين؛ لأن بعض شياطين الإنس ممن ينتسب إلى
الدين لبَّس عليهم بنصوص موهمة كقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] (البقرة: 62) ، وقوله تعالى:
[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] (المائدة: 82) ،
وأن الله أباح لنا التزوج بنسائهم مع أنه قال: [وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ]
(البقرة: 221) ، وهكذا خطفت الشُّبَه قلوب أولئك الشباب، ولكن الدعاة
الصادقين بذلوا جهودهم وما زالوا حتى زيَّفوا تلك الشبهات، وبينوا كيف أن أولئك
القائلين تعمدوا الكذب على الله والتلبيس على عباده.
ومن الآثار السيئة كذلك أن الناس ما عادوا ينكرون، بل لا تتمعر وجوههم إذا
رأوا من يوزع الأناجيل أو مطويات تدعو إلى التنصير في وسائل المواصلات؛
وإن تعجب فعجب حال كثير من المسلمين حيث يخرجون في أعياد النصارى
كالكريسماس وشم النسيم فرحين مستبشرين يهنئ بعضهم بعضاً وكأنهم في يوم فطر
أو يوم نحر؛ وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل. لكن هناك جوانب مشرقة والحمد
لله تتمثل في دخول بعض النصارى في الإسلام عن قناعة، وقد مر على الناس
زمان لا تكاد تدخل مسجداً في يوم جمعة إلا وجدت شخصاً أو أكثر يعلنون إسلامهم
وينطقون بشهادة التوحيد، ونسأل الله المزيد.
البيان: تحدثت بعض وسائل الإعلام ووكالات الأنباء عن ضغوطات أمريكية
أخيرة ومفاوضات مع (الحركة الشعبية لتحرير السودان) و (مجلس الكنائس
العالمي) تقضي بموقف جديد من العلمانية والعلاقة بين الدين والدولة؛ فهل
الشارع السوداني يدرك خطورة هذه المرحلة؟
- الضغوط الأمريكية على أشدها منذ مجيء حكومة الإنقاذ، وهي تزداد
ضراوة يوماً بعد يوم، وما عاد أمرها خافياً؛ حتى إن الوجه النصراني الكالح بدا
للعيان حين أراد الرئيس الأمريكي أن يعيِّن مبعوثاً خاصاً للسودان فما اختار إلا
قسيساً متعصباً، وهو دانفورت الذي ما جاء كوسيط للسلام كما قيل بل من يومه
الأول وهو يملي شروطاً ويضع قيوداً ويريد للناس أن يخضعوا.
أما الشارع السوداني فالناس أحد صنفين: إما مسلم يعيش هَمَّ الإسلام يرجو
نصره ويخاف ضياعه، فهو يدرك أن الأمر جد، وأن القوم ما يريدون إلا القضاء
على الدين وتغييب أحكامه وتغيير شريعته [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن
دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) ، وعزيز على هذا الصنف من الناس أن
تذهب تلك الدماء الزكية التي روِّيت بها أرض الجنوب من رجال مؤمنين وشباب
صالحين، ويخشى هؤلاء أن تثمر تلك الضغوط إذعاناً في ظل صمت عربي مريب،
وإهمال تام للشأن السوداني، فلا نسمع من الجامعة العربية إلا بيانات متفرقة
عباراتها باردة لا تمثل في الواقع شيئاً.. وصنف آخر من الناس.. وهم كثيرون..
عضهم الفقر بنابه وتتابعت عليهم المحن، وأصيبوا بخيبة أمل من طول أمد الحرب،
فصاروا يلهثون وراء الحل ولو كان على حساب الدين، والأحزاب العلمانية
تروج لمشروع كهذا بل يتحدث قادتها بالصوت العالي أن حل مشكلة السودان يكمن
في العلمانية منهجاً وسبيلاً، وقد جهل هؤلاء أو تجاهلوا أن هذا الحل سيزيد الأمر
تعقيداً، ولو كانت العلمانية تصلح لأفلحت في وقاية المسلمين في الهند الذين
يذبحون باسم العلمانية على أيدي الهندوس، ولأفلحت في أندونيسيا أو لبنان أو
غيرها من البلاد التي ترفع العلمانية شعاراً لكن الخاسر الوحيد هم المسلمون.
البيان: الدعوات الدولية والنصرانية بفصل الجنوب السوداني تزداد حدتها
في هذه الأيام.. فهل تتوقعون أن تسفر هذه الدعوات عن إجراءات عملية؟
- نَعَم! قد تسفر عن إجراءات عملية في ظل تواطؤ دولي وغياب إسلامي،
وما خبر تيمور الشرقية عنا ببعيد، ولو حدث هذا نسأل الله ألا يقع فسيكون خطراً
ماحقاً على المنطقة بأسرها، وما زالت الحكومة ترفع صوتها محذرة دول الجوار
من مصير كهذا، وأن الضرر سيكون على الجميع، لكن دول الجوار جعلوا
أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم خشية غضب الأمريكان، فصار السودان
كالنذير العريان، وأصبحت المفاوضات مع التمرد بإشراف صليبي كامل متمثل في
أمريكا والنرويج ودول الإيغاد، وكفَّ العرب أيديهم ظانين أنهم بمنأى عن هذا
الخطر.
ولك أن تتصور أن حركة التمرد قد تحدثت قبل حين مؤيدة إسرائيل في
ضربها للفلسطينيين؛ فكيف لو صارت تلك الحركة دولة؟ كيف ستكون علاقتها
بإسرائيل؟ ثم إنها ستتحكم بمنابع النيل، وستكون آبار البترول تحت سلطانها،
ولعلها تقيم حلفاً صليبياً مع الحكام النصارى في إثيوبيا وإرتيريا وكينيا وغيرها
من دول الجوار.
البيان: كان لفضيلتكم برامج إعلامية متعددة في التلفزيون السوداني، كيف
تقوِّمون هذه التجربة؟
- لا شك أن التلفاز من نعم الله على العباد في هذا الزمان، والتي يجب
استخدامها في طاعة الله والدعوة إلى شرعه والتبشير بدينه، لكن الواقع المشاهد أن
أهل الفساد قد سبقوا إليه وسخروه في الصد عن سبيل الله، وأغلب من سيطروا
على هذا الجهاز في بلاد المسلمين قاطبة هم ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين
آمنوا، وقد شُغِل الدعاة حيناً من الدهر بالبحث في حِلِّ المشاركة من عدمه،
وأحسب أن هذا الخلاف من الممكن تجاوزه مع عميق احترامي للقائلين بالتحريم؛
لأن التلفاز عاد من أقوى الوسائل تأثيراً في الأمة سلباً وإيجاباً، ورب كلمة أو
صورة تقلب الموازين وتشوه التعاليم، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن «بين يدي الساعة سنوات خدّاعات يُصدَّق فيها الكاذب ويكذّب فيها الصادق،
ويخوَّن الأمين ويؤتمن الخائن، ويتحدث فيها الرويبضة قيل: ما الرويبضة يا
رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتحدث في أمر العامة» [1] .
بنظرة سريعة في الأجهزة الإعلامية نرى الرويبضات قد اعتلوا المنابر،
وتصدوا للجليل والحقير من أمر الأمة؛ فهل يترك الدعاة هؤلاء الذين لا يتورعون
حتى عن الحديث في القضايا الشرعية والمسائل العقدية بلا أثارة من علم ولا هدي
ولا كتاب منير؟
أقول: يجب تجاوز الخلاف والنظر بعد ذلك بإخلاص في السبل الفاعلة التي
تكفل الانتفاع بهذا الجهاز الخطير مع تجنب مفاسده، وذلك يتحقق في نظري بالآتي:
1 - أن يختار الدعاة من بينهم من يكونون على معتقد صحيح وعلم نافع
للولوج في التلفاز وتقديم برامج متميزة فيه مع مراعاة الجدة وتحري القبول لدى
المشاهد.
2 - أن يتحرى مقدّمو هذه البرامج كل ما يرغِّب المشاهد مما هو مباح وأن
يزينوا برامجهم للناس بالحق، مثلما يزخرف أهل الباطل باطلهم.
3 - أن تكون الضوابط الشرعية مرعية أولاً وأخيراً فلا يسمح الداعية الموفق
لنفسه بالظهور في برامج تفقده وقاره لدى المشاهد، كأن يُرى جالساً إلى مذيعة
متهتكة تسأل وهو يجيب، أو أن يتخلل فقرات البرنامج مقطوعات موسيقية ونحو
ذلك مما يعاب.
4 - أن يسعى الدعاة بعون المحسنين في إقامة قنوات خاصة تبث من خلالها
قيم الدين، وتعالج قضايا الناس بنظرة شرعية صحيحة خالية من المؤثرات التي لا
يسلم منها غالباً من يتحدث أو يفتي في القنوات الرسمية.
وإلى أن يتحقق ذلك فإن على الدعاة الذين يظهرون على الشاشة أن يخلصوا
لله في أعمالهم وأن يتحروا رضاه سبحانه، وإياهم وإرضاء الناس عامتهم وخاصتهم
بتمييع الأمور وتشقيق الكلام، وعليهم كذلك بالصبر على ما يلاقون في تلك
الأجهزة أحياناً من عنت أو سخرية؛ فقدوتهم الأنبياء والمرسلون: [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ
اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ المُرْسَلِينَ] (الأنعام: 34) .
البيان: علمنا أن برامجكم وكذلك بعض البرامج الإسلامية الأخرى قد أوقف
بثها؟
- التلفزيون السوداني كغيره للفساد فيه نصيب مفروض، إلا أنه يبقى وللآن
من أقل القنوات سوءاً، وقد كان للبرامج الدينية حظ مقدر في تجميل صورته
وإضفاء مسحة وقار عليه؛ حيث كانت هذه البرامج أكثر حرية من مثيلاتها في
قنوات أخرى، وغابت في موادها غالباً عبارات النفاق للحكام مما أكسبها قبولاً لدى
المشاهدين في الداخل والخارج رغم أن مادتها العلمية أحياناً لا تسلم من قصور،
ولا سيما أن بعضها مباشر غير مسجل، وبُعيد شهر رمضان أوقفت ستة برامج
دينية دعوية وهي: معالم الطريق - الدين النصيحة - تذكرة - وجه النهار -
ديوان الإفتاء - وحي القرآن، ولم يطرح بديل لها حتى الساعة؛ فهل في القضية
توجيه سياسي يأتي إنفاذاً لمطالب أمريكية بتجفيف منابع الإرهاب بزعمهم بعد
أحداث سبتمبر؟ هذا ما ينفيه المسؤولون، ويؤيد ذلك أن البرامج الملغاة دعوية
تربوية لا تمس الواقع السياسي إلا أحياناً يسيرة وحياً أو من وراء حجاب، أم أن
إلغاء تلك البرامج يمثل أمنية لبعض العقلانيين والعلمانيين في أجهزة الإعلام ممن
يرتدون ثياباً إسلامية، لكنهم يكرهون العلم الشرعي وحملته الذين يكثرون من
الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة، ويريدون تأسيس منهج طالما أريد طمسه
وتشويهه، منهج يقوم على تقديس نصوص الوحيين، وتقديم النقل على العقل،
وتقدير أقوال الأئمة المتقدمين دون نسبة العصمة لأحد منهم، لعل الاحتمال الثاني
في ظني هو الراجح والله أعلم؛ لكني أقول: إن التلفزيون السوداني بغير البرامج
الدينية لا طعم له ولا لون ولا رائحة، بل لا مسوِّغ لوجوده أصلاً إذا لم تكن
رسالته نشر الدعوة وتعليم الناس الخير.
البيان: الصراع بين الفضيلة والرذيلة مستمر، ويأخذ صوراً متعددة،
والمجتمع السوداني من المجتمعات المحافظة ولله الحمد والمنة، لكن يبدو أن
بعض المظاهر السلبية بدأت تظهر بصورة لافتة للأنظار.. فما سبب ذلك في رأي
فضيلتكم؟!
- في السودان كانت هناك شرطة تسمى شرطة النظام العام تعادل في مهامها
هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت معنية بمحاربة الفساد المتمثل
في التبرج والرقص المختلط والخمور والمسكرات بأنواعها، ومراقبة حفلات
الزواج بمنع استمرارها بعد الحادية عشرة ليلاً، وتكمل مهمتها هيئة قضائية تسمى:
«محكمة النظام العام» أحكامها فورية في قضايا الخمور والفواحش، ولقد آتت
أُكُلها في فرض الوقار وضبط السلوك في الشارع العام، لكن المنافقين والمنافقات
ساءهم ذلك وغاظهم فمكروا مكراً كباراً، وسخَّروا بعض رموزهم في الصحافة
وغيرها ينشرون سيئات النظام العام مع تضخيمها وتهويلها، ويسترون الحسنات
عامدين، وفي غفلة من أهل الحق استطاعوا تصوير الأمر للمسؤولين وكأنه رأي
عام، فألغيت شرطة النظام العام، مما أثر هذا الواقع المر الذي تعيشه حيث انتعش
أهل الباطل، وراجت سوق الفساد، ولم يعد ثمة قانون حازم يحول دون العري
والتفسخ، لكنني أقول: ليس إلغاء شرطة النظام العام هو العامل الفرد في شيوع
الفساد، بل ثمة روافد أخرى تتمثل في المسلسلات الساقطة التي أصبحت تعرض
بواقع أربع مسلسلات في كل يوم وليلة، أضف إلى ذلك مجلات المجون التي تزين
أغلفتها صور الغانيات؛ فهذه بعض الأسباب لكنها لا تلغي تقصير الآباء، وإهمال
الأولياء، وأهم من هذا كله ضعف رقابة الدولة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر
يضربون بها ظهور الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن
كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها» [2] .
قال أهل العلم: حيث ما حللت بلداً فوجدت النساء بها عاريات فاعلم أن
السلطان ظالم، ولهذا قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين صورة الظلم المتمثل في
ضرب ظهور الناس، والصورة الأخرى المتمثلة في تغييب شرع الله بالسماح
للنساء بالتبرح والسفور.
البيان: يذكر بعض المراقبين أن التشيع بدأ يأخذ منحى خطيراً في السودان؛
فما مدى صحة ذلك؟
- من العجائب والعجائب جمة أن أهل السودان كانوا: إما مسلم مالكي وإما
كافر دهري، أو وثني أو نصراني أو غير ذلك من ملل الكفر؛ فما كان الناس
يعرفون فرقاً ومذاهب، حتى نجم رأس النفاق بظهور التشيع في صورة جمعيات
نسائية أو مستشفيات أو معاهد، ثم بدؤوا في التسلل إلى طبقات المجتمع كافة في
الجامعات والمدارس وبعض الصحف مستغلين حاجة الناس للمال أولاً، وجهلهم
بحقيقة الشيعة ثانياً، فولجوا إلى المتصوفة من باب حب آل البيت ومدح النبي
صلى الله عليه وسلم وآله حتى أفلحوا في كسب ودهم، بل تشيع بعضهم، وما لبثوا
إلا يسيراً حتى كشفوا عن وجههم القبيح فظهرت على ألسنة أتباعهم ومناصريهم
عبارات الكفر في سب الصحابة الكرام وذكرهم بالسوء، حتى انبعث أشقاها رجل
يتزعم فصيلاً في طريقة صوفية خرج على الناس برسالة أطلق عليها عنوان:
«أحبابي» صب فيها الرفض صباً، وسال من فيه ما يكشف عن حقيقته؛ حيث
اتهم الشيخين أبا بكر وعمر بالكفر، ورمى طلحة بالسوء، مع ركاكة في
الألفاظ والمعاني، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وعرف الناس أن وراء
الأكمة ما وراءها حتى تبرأ منه ومن مقالته كبار شيوخ الصوفية وفيهم بنو
عمومته فاضطر إلى إعلان التوبة والاعتذار عما قال، فأصيب الشيعة الروافض في
مقتل؛ لأن مسكينهم لم يتخير وقتاً مناسباً لإظهار ما أخفوا من ضلال وخبال، لكن
القوم لهم أبواب ومداخل فيجلبون على الناس بخيلهم ورجلهم. ونسأل الله أن
يكفينا شرورهم.
__________
(1) رواه ابن ماجه، ح/ 4036.
(2) رواه مسلم، ح/ 2128.(178/68)
المسلمون والعالم
ما وراء مشروع الدولة المؤقتة
حسن الرشيدي
«هذه التسمية تمثل تعبيراً يساء فهمه ويعطي انطباعات خاطئة» .
هذا جزء من حديث قاله وزير الخارجية المصري أحمد ماهر في مكالمة
تليفونية لكولن باول وزير الخارجية الأمريكي؛ حيث صرح ماهر للصحفيين
بتفاصيل هذه المكالمة المطولة التي بين فيها ماهر على حد قوله الموقف المصري
من مشروع الدولة المؤقتة، وأنه أبلغه أن مثل هذه التسمية تمثل تعبيراً يساء فهمه،
ويعطي انطباعات خاطئة.
فما التعبير الذي يساء فهمه؟ وما هي الانطباعات الخاطئة التي تحدث عنها
الوزير إجمالاً ولم يفصح عن تفاصيلها؟ وهل لها علاقة بما يتم تدبيره للمنطقة؟
للكشف عما يدور لا بد من منهج يراعي مسارين:
- المسار الأول: المقصود من مصطلح الدولة المؤقتة.
- المسار الثاني: خلفيات الحديث عن هذه الدولة.
* مصطلح الدولة المؤقتة:
إن علم السياسة يعرِّف الحد الأدنى من الدولة بأنها تتضمن ثلاثة عناصر
رئيسة: حدوداً (أرضاً) ، وشعباً، وسيادة (بالمفهوم الغربي) . فهل يقصد
بمصطلح الدولة المؤقتة دولة كاملة في العرف السياسي الذي يتضمن الأرض
والسيادة والشعب؟
أول من تحدث عن هذه الدولة هو أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي،
بل كانت على رأس برنامجه الانتخابي عندما تنافس مع باراك على رئاسة الوزراء
باعتبار أن هذا هو المخرج والطرح الذي يقدمه شارون لإنهاء المعضلة الفلسطينية
بالنسبة لإسرائيل.
ولكن لم يذكر هذا اللفظ مباشرة، إلا أنه ذكر ما يعرف باسم: (مرحلة
انتقالية طويلة الأمد) ولكن: ما طول هذه المرحلة الانتقالية طويلة الأمد في عرف
شارون؟
نشرت صحيفتا معاريف وهآرتس العبريتان أنباء عن قبول شارون فكرة
الدولة المؤقتة على أن تقام في غضون عشر سنوات، كما ذكرت هآرتس أنه أبلغ
الإدارة الأميركية ضرورة التوصل إلى حلول مرحلية أولها اتفاق حول وقف العنف
والتحريض، ثم إجراء إصلاحات جذرية تليها مفاوضات سياسية تشمل اعترافاً
إسرائيلياً بدولة فلسطينية من دون رسم حدودها، ثم مفاوضات حول هذه الحدود،
وأضافت أن شارون أبلغ الرئيس بوش قبوله اقتراح إقامة دولة فلسطينية مؤقتة؛
لكنه لن يعلن موافقته هذه على الملأ في ظل تزايد ما تسميه الصحيفة: الإرهاب.
وتتحدث يديعوت آحرنوت عن مواضيع مفتوحة للمفاوضات مثل: هل يسمح
لنفس الدولة المؤقتة بإقامة علاقات دبلوماسية؟ وهل يجوز لها إبرام معاهدات مع
دول أخرى؟
إذن فالدولة المؤقتة هي أصلاً فكرة شارون الذي يستند بدوره إلى آراء اليمين
الإسرائيلي القائمة على ضرورة إلغاء أوسلو وعدم إقامة دولة فلسطينية على أساسها
والتي تعطي الفلسطينيين 12% من الضفة؛ حيث يريد شارون ابتلاع الضفة
الغربية وفق المفهوم اليميني القائم على أن حدود إسرائيل الكبرى تشمل الضفة
بكاملها؛ ولذلك عمل شارون وبالتدريج على إلغاء أوسلو وإعادة تقنين مفهوم السلام
الذي يعطى بموجبه للفلسطينين دولة على 12% من الضفة؛ فكانت فكرة الدولة
المؤقتة بديلاً لأوسلو وإعادة تقنين وتحديد لنفوذ السلطة الفلسطينية.
ثم تبلورت هذه الفكرة في تفاهمات بيريز - أبو العلاء، وقد وافقت عليها في
حينه القيادة الفلسطينية باستثناء صائب عريقات.
وتتحدث هذه التفاهمات عن دولة تقام خلال ثمانية أسابيع على أراضي (أ،
ب) وربما يحدث انسحاب ثالث كنبضة ثالثة كانت مقررة في اتفاقات أوسلو وطابا
والقاهرة وواي ريفر وشرم الشيخ، وجرفتها التطورات العاصفة، ثم تفاوض
هذه الدولة على حدودها النهائية. أما الخلاف الذي نشأ في حينه، فهو أن المطلب
الفلسطيني يتلخص في ضرورة الإقرار المسبق بأن حدود الرابع من حزيران
1967م هي الحدود النهائية من حيث المبدأ للدولة العتيدة، ويتم بعد ذلك تعديلات
حدودية متبادلة متساوية في القيمة والمساحة.
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي، شيمعون بيريز قد أدلى بتصريحات حول
هذا المشروع، وأوضح أن فكرة الدولة الفلسطينية المؤقتة لم تفهم كما يجب، وأنه
استوضح الأمر لدى المسؤولين في واشنطن، وفهم أن الدولة الفلسطينية لن تكون
مؤقتة؛ فهي من اللحظة الأولى لإعلانها ستكون دولة مستقلة مثل سائر الدول ذات
السيادة، وأما الأمر المؤقت في الموضوع فهو حدود هذه الدولة، وقال بالحرف
الواحد: فلكي لا ننتظر حتى إنهاء مفاوضات الحل الدائم لإعلان الدولة، بسبب
الخلافات الجوهرية بيننا حول الحدود، يجري الحديث عن إعلان الدولة على حدود
مؤقتة 42% حسب الاقتراح الأميركي الذي هو في الأصل اقتراح رئيس الحكومة
الإسرائيلية أرييل شارون على أن يبحث في أمر الحدود النهائية خلال المفاوضات.
وأعرب بيريز عن توصله مع مسؤولين فلسطينيين بينهم أحمد قريع أبو علاء
رئيس المجلس التشريعي منذ فترة إلى اتفاق لم ترفضه الحكومة الإسرائيلية ولم
توافق عليه بعد.
وأضاف: نتوقع أن تنطلق الدولة الفلسطينية خلال ثمانية أسابيع، ولكن
بدون حدود نهائية؛ موضحاً أن الدولة ستكون مؤقتة بحدودها وليس بصفتها دولة.
ولكن شارون يصر على أن بيريز قد سرق منه الخطة، وقام بتعديلها، وباع
النسخة المقلدة لأبي العلاء.
وعلى ما يبدو فإن مشروع الدولة الفلسطينية يتجاذبه طرفان داخل الدولة
الإسرائيلية:
الطرف الأول: هو اليمين الإسرائيلي، وهذا الطرف يرى في مشروع الدولة
خطراً عليه، ويعمل على نسف هذه الفكرة من أساسها. وبعض اليمين يجاهر علناً
بهذه الفكرة، وبعضهم يماطل في قيام الدولة على أمل أن تُتناسى مع الأيام وعلى
رأس هذا الفريق شارون، وفي هذا السياق تقول صحيفة يديعوت آحرنوت
الإسرائيلية: من اعتقد قبل أوسلو أن مثل هذه الدولة ممكنة ولا تشكل خطراً على
وجود إسرائيل يجب أن يشطب هذه الإمكانية إلى الأبد في أعقاب كارثة أوسلو،
ومع ذلك فإن مصطلح دولة فلسطينية أصبح شائعاً إلى درجة أن الكثيرين يعتقدون
أنه حقيقة قائمة، وتبرز الصحيفة هدف شارون من الالتفاف على فكرة الدولة فتقول:
وحتى لو كان رئيس حكومة صهيوني ومقاتل من أجل استقلال إسرائيل يأمل خطأ
أن عرض الأفق السياسي الذي يشمل مثل هذه الدولة سيمنحه المزيد من الوقت،
فإننا لن نستطيع قبول خطته، حكومته لن تدوم، وحزبه لن يؤيده، وعدوه في
الداخل سينفذ خطته بعد التخلص منه، ومن الجدير أن يعلن وبأول فرصة يوفرها
العرب له ان الدولة الفلسطينية لن تقام أبداً، والأفضل أن يبحثوا عن أفقهم السياسي
في مكان آخر، وليس على حساب وجودنا.
وأهم مقومات فكر اليمين الإسرائيلي يرتكز على مفهوم إسرائيل الكبرى
بحدود لا نهائية تمتد وتتسع مع الوقت لتشمل أرض الميعاد في النبوءة التوراتية من
النيل للفرات، كما يقوم هذا الفكر على مشروع الترانسفير وهو ترحيل الفلسطينيين
للأردن، ويقول شارون في هذا السياق: وإلا فلماذا أنشئت مملكة الأردن إذن؟
أما اليسار الإسرائيلي فيرى ضرورة وجود نوع من الكيان الفلسطيني له
شروط ومواصفات معينة والتي عبر عنها إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي
الأسبق الهالك في الثمانينيات بقوله: أحسن شيء للخلاص من الانتفاضة أن نسلم
القمع إلى فئة فلسطينية تقتلهم. هذه هي الفلسفة الإسرائيلية من قيام دولة فلسطينية،
وأردف هذا الكلام بمؤتمر صحفي قائلاً: خير وسيلة صنع سلطة فلسطينية تقوم
بعمل الشرطي وتحمي أراضينا، ونضع الفلسطيني بوجه الفلسطيني.
ويقوم الفكر اليساري الإسرائيلي على مفهوم إسرائيل العظمى أي نواة
عسكرية قوية لها حدود تشمل فلسطين قبل 1967م بالإضافة لمعظم أراضي الضفة
الغربية وتهيمن على منطقة الشرق الأوسط كلها: هيمنة اقتصادية وعسكرية
وسياسية وإعلامية وثقافية.
أما المفاهيم الأمريكية بالنسبة لهذه الدولة فلقد تحدث كولن باول وزير
الخارجية عن دولة فلسطينية مؤقتة في لقائه مع صحيفة الحياة تقوم على أربعين في
المئة من الضفة الغربية وثلثي قطاع غزة اعتباراً من مطلع العام المقبل، مع ترك
القضايا المعلقة للمفاوضات، وإيجاد حلول لها خلال فترة زمنية محددة.
وتشترط الخطة الإصلاحات الفلسطينية للاعتراف بالحكومة الفلسطينية
المؤقتة، وتفرض رقابة خارجية وحتى تدخل في موضوع إصلاح أجهزة أمن
السلطة التي يشرف عليها أجهزة أمن أميركية وبريطانية ومصرية إضافة لرقابة من
البنك الدولي والدول المانحة على المساعدات المالية للسلطة.
وقال مارتن إنديك، السفير الأميركي لدى إسرائيل: لن تكون دولة يعاد
تشكيلها مثل أفغانستان أو دولة في طور التكوين مثل تيمور الشرقية، فكلا البلدين
عليه وصاية دولية غير رسمية.
وقال آلان بيكر المستشار القضائي في البيت الأبيض إنه من غير المفهوم ما
هي الدولة الفلسطينية المؤقتة؟ وأضاف أنه حتى لو أصبحت السلطة الفلسطينية
كياناً صاحب سيادة، فالأمر لن يسلب إسرائيل حقها في الدفاع عن نفسها في
المناطق (أ) الخاضعة لحكم السلطة الفلسطينية.
وقال بول وليامز: إنها فكرة جديدة، وهي تحمل قدراً من المخاطر، لكنها قد
تكون أفضل حل ممكن للشرق الأوسط الآن، وكان وليامز يعمل محامياً في وزارة
الخارجية الأميركية، وحالياً يشغل منصب بروفيسور في القانون الدولي بالجامعة
الأميركية. وأضاف قائلاً: لكن سيكون ممكناً للآخرين مثل حركة نمور التاميل في
سري لانكا، أو الباسكيين في إسبانيا، أو الشيشانيين في روسيا، أو الأكراد
العراقيين أو عشرات المنظمات الأخرى أن يتلفتوا حولهم، ويطرحوا السؤال التالي:
إذا كان الفلسطينيون قد حصلوا على دولة مرحلية، فلماذا لا يتم ذلك بالنسبة لنا
أيضا؟
وفي أكتوبر عام 2001م صدر عن مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى
التي كان يرأسها مارتن إنديك كتاب أشرف على تحريره روبرت ستالوف تحت
عنوان: (بعد عرفات: مستقبل السياسات الفلسطينية) .
في هذه الدراسة يُجمِع ستالوف والعديد من الباحثين الإسرائيليين والأميركيين
على أن الصورة يمكن أن تكون على النحو الآتي:
بعد عرفات لن يرتدي خلفاؤه البزة العسكرية، بل البذلة الغربية وربطة العنق،
وأحياناً الكوفية والعقال. وهذا سيكون رمزاً معبّراً عن نهاية مرحلة وبداية مرحلة
جديدة.
* لكن ما السمات المحتملة لهذه المرحلة؟
الباحثون يقولون إن المخاوف من احتمال سقوط الأراضي الفلسطينية بين
براثن الفوضى، مبالغ فيها؛ فعلى رغم أن السلطة الفلسطينية ليست دولة بالمعنى
الشرعي أو الرسمي، إلا أن لها سمات مشتركة مع باقي الدول العربية المعاصرة:
فهي سلطوية، وشديدة التمركز، وفردية السلطة.
وهكذا، وعلى رغم وجود عشرات آلاف قطع السلاح في الضفة الغربية
وغزة، إلا أن معظمها تحت سيطرة المنظمات الحكومية أو شبه الحكومية، أما
حركتا حماس والجهاد، فلا تملكان سوى مئات قليلة منها.
كما أنه ليس في فلسطين تراث من الحروب الأهلية أو مواجهات واسعة
النطاق. قد تحدث اغتيالات او انقلابات، لكن ليس حروباً أهلية؛ فحين تواجه
النخب الحاكمة مخاطر التعرض للإطاحة بها تلتف حول نفسها وتنشط للحفاظ على
الاستقرار بأي ثمن.
في الأوضاع الفلسطينية الراهنة، الأراضي مقسّمة عملياً بين القوات
الإسرائيلية، والمستوطنات، والبنى التحتية للطرقات، وإذا ما غاب عرفات،
فسيتنافس القادة السياسيون والأمنيون للسيطرة على المناطق التي يتمتعون بنفوذ
أكبر فيها، لكنهم سيعملون أيضاً للمحافظة على تماسك السلطة الجماعية الفلسطينية.
ويتوقع، تبعاً لذلك، أن تبرز (قيادة وطنية) من شخصيات سياسية وأمنية،
وفي المرحلة الأولى سيكون النفوذ العلني للسياسيين؛ لكن السلطة الحقيقية ستنتقل
بالتدريج إلى القادة الأمنيين بعد نهاية المرحلة الانتقالية.
شعارات القيادة الجديدة ستكون الوحدة، والمساءلة، والشفافية، والمشاركة
والديموقراطية؛ لكن هذا سيكون مجرد حبر على الورق على الغالب.
وعلى رغم أن هذه القيادة لن تقدم لإسرائيل تنازلات سياسية أكثر مما قدّم
عرفات، إلا أنها ستكون جاهزة لتقديم تنازلات أمنية لإسرائيل عبر الأميركيين.
والحصيلة: السيناريو المحتمل بعد عرفات (وفق الكتاب) لن يكون حمام دم
جماعياً، ولا استقراراً كاملاً، ولا تقدماً على جبهة السلام مع إسرائيل؛ لكن لا
حرب معها أيضاً؛ فالهم الأول والأساسي للدولة الجديدة سيكون المحافظة على
سلطتها.
وحسم بوش في خطابه الشهير أمر الدولة المؤقتة عندما قال: إن الولايات
المتحدة ستؤيد قيام دولة فلسطينية تكون حدودها وجوانب معينة من سيادتها مؤقتة
إلى حين الاتفاق عليها في إطار تسوية نهائية في الشرق الأوسط.
أما في الجانب العربي فالصورة غامضة أو هناك تعمد لإخفاء ما يجري أو ما
يخطط له.
يقول علي جبراوي أستاذ العلوم السياسية في جامعة بير زيت بالضفة الغربية:
نحن سمعنا بحكومة مؤقتة، لكننا لم نسمع من قبل بدولة مؤقتة؛ فماذا يعني ذلك؟
هل يعني أنها دولة ستستمر في التنامي حتى تصل إلى حدود 1967م، أو
ستكون دولة كانتونات؟ لا أحد يعلم.
وأعلن الرئيس مبارك خلال لقائه رؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية
على هامش الاحتفال بعيد الإعلاميين: ربما كان المقصود أن تكون هناك حدود
مؤقتة.
وقال ماهر إنه لم يسمع أبداً عن وجود دولة مؤقتة في العالم.. قد توجد
حكومة مؤقتة أو أشياء أخرى مؤقتة، أما دولة مؤقتة فهذا شيء لم أسمع به أبداً،
وأضاف ماهر: إن مثل هذا الطرح يعني أن مثل هذه الدولة قد توجد اليوم أما غداً
فلا تكون؛ وشدد على أن هذا الطرح شيء غير مفهوم ولم يسمع به أحد.
* أمريكا ولعبة الدولة المؤقتة:
عندما اختفى الاتحاد السوفييتي من المسرح الدولي في أوائل التسعينيات
وانتهت معه الحرب الباردة التي ظلت تحكم العالم على مدى أربعة عقود من خلال
نظام القطبية الثنائية سارع مؤرخون ومحللون أمريكيون إلى تسجيل هذه اللحظة
التاريخية باعتبارها إعلاناً عن تفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، وتبلورت مفاهيم:
اللحظة الفريدة، والعملاق الوحيد، والأمة المقضي عليها بأن تقود.
وتلخصت كل هذه المفاهيم في مفهوم عريض يقول إنه إذا كان القرن
العشرون قرناً أمريكياً فإن القرن القادم سيكون أمريكياً كذلك.
ولكن 11 سبتمبر جاء ليقلب موازين ويضع نهاية عصر وبداية عصر جديد
ليس عصر الهيمنة الأمريكية بل عهد العربدة الأمريكية، وما حصل في أفغانستان
يمثل نموذجاً فريداً لقدرة الإدارة الأميركية على أن تتصرف بالعالم وتوجهه وفق
مصالحها الخاصة ولو على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها، وازدادت رغبة
الأمريكيين في لعب دور جديد في العالم عبر تفعيل العديد من التحالفات، وبهدف
تأمين استقرار النظام الدولي الجديد الذي يمثل الموقع الأمريكي حجر الزاوية فيه.
ولفت انتباه الإدارة الأميركية إلى أن هناك مناطق خلل استراتيجية يجب أن
تعالج ويجب أن يوضع حد لها.
وعلى رأس هذه المناطق الشرق الأوسط؛ ولكن لماذا تريد الولايات المتحدة
إعادة ترتيب أوضاعها من جديد؟
لا شك أن منطقة الشرق الأوسط ذات موقع استراتيجي مؤثر في العالم كله،
كما أنها مهد الديانات السماوية، وتعج بمختلف القوميات والأديان والأعراق؛
إضافة إلى أنها محط أطماع الإمبراطوريات والممالك منذ القدم، والسيطرة عليها
تتطلب قوة غير عادية؛ ولذلك فإن الذي يحقق الهيمنة عليها فكأنه قد سيطر على
العالم كله.
والسبب الأخطر الذي يدفع بالولايات المتحدة إلى الاهتمام بهذه المنطقة هو
التحالف بين الإدارة الحالية وبين اليمين الأمريكي الذي يسعى بكل قوة إلى تمكين
دولة اليهود في فلسطين تمهيداً لإقامة الهيكل الثالث ونزول مسيحهم المزعوم ليقود
نصارى العالم.
ومن المعلوم أن الحدود السياسية لهذه المنطقة قد رسمت مع بدايات القرن
العشرين؛ حيث كانت الهيمنة البريطانية هي التي تقود العالم الغربي لفرض
مشروعه على العالم الإسلامي ووضع نهاية للحروب الصليبية بإعلان استسلام
المنطقة بالكامل للنفوذ النصراني وعلى رأسه الإمبراطورية البريطانية.
ومن خلال اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا جرت ولادة أسس
النظام العربي القائم حالياً في المنطقة وإن اختلفت أشكاله من حدود لحدود، ومن
قطر لآخر، وكان هذا النظام بأسسه وأشكاله يحقق للغرب حلم السيطرة الدائمة على
المنطقة بأقل قدرات عسكرية ممكنة، وفي نفس الوقت يمنع بروز أي قوة إسلامية
تناهض الهيمنة الغربية النصرانية بجميع أشكالها على الشعب العربي المسلم.
ولكن مع تغير الأيام ومرور السنين تبدلت كثير من المفاهيم وموازين القوى،
فأصبحت الولايات المتحدة على رأس القوى الغربية في العالم، وشاخ النظام
العربي وصار أقل قدرة على الإمساك بزمام الأمور، وبرزت الصحوة الإسلامية
وباتت الأمل للشعوب العربية لتنهض من جديد وتخلصها من مآسيها التي أفرزها
النظام العربي القائم، وتجلت تلك التغيرات في أحداث 11 سبتمبر الماضي وخروج
مجموعة من 20 شخصاً غير المخططين والمساعدين الآخرين لتهز الهيبة الأمريكية
في عقر دارها، وانهالت وسائل الإعلام الأمريكية بحملة ضارية على النظم العربية
التي أصبحت لا تسيطر على شعوبها برغم تحالفها مع الهيمنة الأمريكية.
ولذلك تزداد التكهنات بأن الولايات المتحدة تعمل على إعادة رسم خارطة
الشرق الأوسط تمهيداً لقيام نظام إقليمي جديد تكون الغلبة فيه لإسرائيل، وتفرض
التبعية على غيرها من الدول.
ويبقى السؤال الأخطر: ما هي أهم ملامح هذه الخارطة الجديدة؟ فالتفاصيل
الأساسية لا شك أنها مغيبة عن المسلمين، وأقصى ما يمكننا تتبعه هو خطوط
أساسية وأسس لما ينبغي أن يكون عليه النظام العربي الجديد في التصور الأمريكي؛
لذلك نحاول استنباط هذا التغير من خلال تتبع ما يرسمه الاستراتيجيون ومراكز
البحوث والدراسات المؤثرة في السياسة الأمريكية وربيبتها في المنطقة إسرائيل.
وتبدو الأطروحات الأمريكية حول الدولة المؤقتة الفلسطينية والتسريبات
المستمرة والسيناريوهات المطروحة لضرب العراق أولى الإشارات لهذا النظام
العربي الجديد الذي تريده أمريكا للمنطقة.
وفي هذا السياق يقسم زيجنيو بريجنيسكي المستشار الأسبق للأمن القومي
الأمريكي في كتابه: (ساحة الشطرنج الكبرى) الأهداف المرحلية المنتظرة
للاستراتيجية الأمريكية من أجل تحقيق الهيمنة على ثلاثة مستويات زمنية: أهداف
قصيرة المدى تغطي السنوات الخمس المقبلة، وأهداف متوسطة تمتد حتى عشرين
سنة أو أكثر، ثم أهداف بعيدة المدى.
ويميز بريجينسكي بين هذه المستويات الزمنية المنسقة بدقة ويعتبر أنها ليست
منفصلة، بل تمثل سلسلة ذات حلقات متصلة.
وهو يقول عن الهدف القصير المدى إنه الهدف الذي يدعم القوى
الجيوبوليتيكة السائدة على الخريطة العالمية، ويستهدف هذا الدعم تكريس النفوذ
الأمريكي مع التركيز على قارتي أوروبا وآسيا، وعلى أوليات العمل السياسي
والدبلوماسي بهدف منع ظهور أي تحالف معاد يمكن أن يتحدى الزعامة الأمريكية.
أما الهدف المتوسط المدى فهو يتركز حول ضرورة توجيه السياسات
الأمريكية للتحالف مع شركاء استراتيجيين لها يمكن من خلال دور القيادة الأمريكية
أن يشكلوا نظاماً للأمن أكثر تعاوناً في قارتي أوروبا وآسيا وفي الشرق الأوسط.
أما الهدف الطويل المدي فهو الهدف الذي يسعى إلى إيجاد قاعدة من
المسؤولية العالمية المشتركة التي تلعب فيها الولايات المتحدة الدور القائد،
والشركاء البارزون على هذا المستوي هم في الجانب الغربي فرنسا وألمانيا،
والهدف المركزي في هذه المرحلة هو توسيع رأس الجسر الأوروبي الديمقراطي.
وفي الجانب الشرقي الصين التي أصبحت تشكل للولايات المتحدة أهمية
محورية متصاعدة، وتعتبر المشاركة الصينية ضرورة لتكون الاستراتيجية
الأمريكية العالمية؛ وذلك من خلال تحقيق إجماع سياسي صيني أمريكي.
إذن ومن خلال تصور بريجنيسكي فإنه يريد شركاء استراتيجيين في هذه
المنطقة يستطيعون الإمساك بزمام الأمن لصالح أمريكا في المنطقة.
وبالطبع فإن إسرائيل هي المرشحة للقيام بالدور الأكبر في تلك المنظومة
الأمنية؛ حيث سمح حلف الأطلنطي لأفرايم هالا رئيس المخابرات الإسرائيلية أن
يشارك قبل أسابيع في اجتماع قيادته في بروكسل، هو الذي قدم وعداً علنياً بأن
تتكفل إسرائيل بمنع مساعي دول في الشرق الأوسط، ضرب لها مثلاً بإيران
وليبيا والعراق وسوريا، بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، مطعماً وعده بتحذير من
الإرهاب الإسلامي، وهجماته الانتحارية التي تمثل خطراً جسيماً على دول الحلف.
أي أنه سيقوم هو الآخر بضربات عسكرية إجهاضية فوق تخوم الإقليم،
ولكنها ستكون لصالح الحلف، أكثر من كونها لصالح إسرائيل.
وهذا هو الملمح الأول للتغير في المنطقة، أي أن الولايات المتحدة قد حددت
غاية هذا النظام القادم أن يكون أمنياً بالدرجة الأولى؛ وهذا يفسر زيارات جورج
تينيت رئيس المخابرات الأمريكية المتكررة للمنطقة وإصراره أن يكون التغيير
الأول في السلطة الفلسطينية أمنياً.
وفي سياق آخر كتب شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي كتاباً بعنوان:
(تصميم المستقبل) تحدث فيه عن شرق أوسط جديد فيه عمالة عربية رخيصة،
ومال الخليج ونفطه، وموارد ومياه؛ وكل ذلك تحت إدارة صهيونية كاملة وهيمنة
إسرائيلية إمبراطورية يضمنها تفوق نوعي وكمي في السلاح والتكنولوجيا والدعم
الغربي مع تغييب كامل لحق أهل المنطقة في أرضهم ومواردهم وثرواتهم.
أما الفلسطينيون فقدم لهم بيريز في كتابه دويلة منزوعة السيادة هشة تابعة
لإسرائيل تماماً، ومن ثم مخلب لها إن لزم الأمر حين يحاول بعض المتمردين في
تلك الإمبراطورية الإسرائيلية الاستقلال أو ما يشبه ذلك.
وهذا هو الملمح الثاني للنظام العربي: تطبيع كامل مع اليهود وتبعية
اقتصادية لإسرائيل.
وفي مقال نشره آلان وودز منذ عدة أسابيع وهو مفكر غربي تلقى آراؤه
رواجاً كبيراً على مستوى النخبة السياسية في الغرب قال فيه إن الشرق الأوسط لن
يستقر إلا إذا أصبحت أقلياته من يهود وأقباط وأكراد وغيرهم متساوين في الحقوق
مع الأغلبية الساحقة من العرب المسلمين.
وهذا بُعد جديد يراد فرضه كأحد مكونات النظام العربي الجديد: تضييع
الهوية وإذابة العقيدة بحجة المساواة بين المسلم وغيره.
ولكن أخطر ما في مشروع النظام العربي، الذي يجد له صدى في هذه الأيام
هو التهديد والتلويح بتغيير القيادات العربية غير المستجيبة للمشروع الأمريكي أو
التي تبدي نوعاً من المعاكسة للتوجهات الأمريكية؛ وما الإصرار على تغيير
عرفات وصدام إلا بداية لهذا التوجه وإنذاراً لبقية قيادات النظام العربي وما الحملة
التي تشنها الأجهزة الرقابية في مصر على الفساد إلا لتصب في هذا الاتجاه.
يقول نبيل عبد الفتاح الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام: إن
العامل الدولي يكمن في الحديث عن تغييرات سياسية كبرى في المنطقة بدأت
بالضغوط الامريكية وعملية الإصلاح المالي والسياسي للسلطة الفلسطينية بقيادة
مصر.
ورأى عبد الفتاح أن الحديث مرجعه الأساسي الاتهامات بالفساد المالي وهي
موجهة أيضاً للعراق وسورية؛ ومن ثم فإن الإجراءات المصرية هي محاولة
لاستباق أي نقد أو اتهام قد يوجهه الغرب إلى مصر يشكك في مصداقية السلطات.
إن مؤامرة الدولة المؤقتة ليست سوى بداية لمشروع أمريكي كامل للمنطقة بدأ
بفلسطين، وسيمر قريباً بالعراق، ولن يقف عند هذا الحد، بل سيتعداه لدول
الشرق الأوسط كلها بحيث تتوافق مع مفردات الهيمنة الأمريكية تمهيداً لتنفيذ
المشروع الصهيوني وتحقيق النبوءات التوراتية.(178/76)
المسلمون والعالم
الأبعاد القيمية وأثرها على التنمية في ماليزيا
عبد الحليم بن صالح البراك [*]
halemsb@hotmail.com
(في أحد الأيام الربيعية قام أحد رجال الأعمال اليابانيين بزيارة أحد أساتذة
التأمل المعروفين لمناقشة علاقة فلسفة التأمل بالإدارة؛ واتباعاً لأساليب اللباقة
اليابانية الاجتماعية قام أستاذ التأمل بتقديم الشاي الأخضر للضيف، وعندما كاد
الكوب يمتلئ بالشاي، استمر بالسكب فيه، حتى بدأ الشاي يتدفق من الكوب بغزارة،
رفع رجل الأعمال حاجبيه من الدهشة.. فأجاب هذا الأستاذ: لا تستغرب يا
سيدي إذا امتلأ الكوب بالشاي؛ فلن يستوعب المزيد منه، وهذا شأنك أنت كشأن
الكوب الممتلئ تماماً، فإنك ممتلئ بالأساليب الإدارية، والأفكار المسبقة؛ فكيف
تريد مني أن أريك المزيد من أفكاري؟ ما لم تفرغ كوبك أولاً..) .
بهذه النظرة بدأت ماليزيا رحلتها التنموية لتحقق نهضة نموذجية على جميع
الأصعدة، ولقد تنازلت ماليزيا عن أساليب التعليم البريطانية وأفرغت الكوب تماماً
لتتبنى أساليب التعليم اليابانية لاقترابها قيمياً من ماليزيا؛ فحققت ماليزيا أرقاماً
مذهلة بعد أن كانت دولة زراعية تنتج المطاط الخام وخيرات أرضها الأخرى ليعود
إليها خاماً مصنعاً وبأغلى الأثمان، شأنها شأن أي دولة ثالثية، فقد رأى الماليزيون
أن أفضل نظام تعليمي يتناسب مع قدراتهم هو النظام الياباني، وهو ما عبر عنه
رئيس وزراء ماليزيا بأنه الاتجاه بالتعليم شرقاً (بدلاً من الانتظار لما يقدمه الغرب
من وعود) على حد تعبير رئيس وزراء ماليزيا، الدكتور مهاتير محمد مضيفاً:
(إن الدول الغربية عموماً لا تقدم شيئاً بالمجان) لذلك قررت ماليزيا إقامة الشراكة
الاستراتيجية مع اليابان تعليمياً واقتصادياً، حتى وصلت مساهمة الشركات اليابانية
في ماليزيا إلى 23% من إجمالي الناتج القومي الماليزي.
لقد حققت ماليزيا ما تصبو إليه من تنمية؛ فها هي وحسب كتاب المنافسة
السنوي الذي يصدره المعهد الأمريكي الدولي لتطوير الإدارة وهي مؤسسة مرموقة
عالمياً أكدت أن ماليزيا تحتل المركز الثاني عالمياً كأفضل اقتصاد تنافسي بالعالم بعد
الولايات المتحدة الأمريكية تلتها سنغافورة، ثم لوكسمبورغ. وهذا الكتاب يستند إلى
244 عامل قياس تم استخدامها في التقرير، وفي يوليو 1997م احتلت ماليزيا
المرتبة رقم 17 في تجارة العالم أي قبيل الأزمة الاقتصادية، لحظتها، كان مايكل
كامديسس المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي قد قال في مؤتمر دولي عقد في
لوس أنجلوس: «إن ماليزيا تعتبر مثالاً جيداً لدولةٍ المسؤولون فيها على دراية
تامة بالتحديات المتمثلة في التغلب على الضغوط الناتجة عن معدلات النمو العالية
والاحتفاظ بنظام مالي جيد وسط حركة تدفق كبيرة لرأس المال وسوق منتعش للعقار
والأملاك» .
وفي سنة 1995م أكدت التقارير بأن ماليزيا أصبحت عاشر دولة صناعية في
العالم، بل وحققت نمواً سنوياً قدره 6.5% سنوياً بعد الأزمة الآسيوية، أي في
عام 2000م، بل وحققت إنجازاً بأن أصبح السكان تحت خط الفقر 6.8%
ومعدل التضخم بلغ مستوى مقبولاً وهو 2.8% ونسبة بطالة متدنية وصلت إلى 3 %
فقط.
لا شك أن وراء هذه الإنجازات التنموية سيل من الخطط والأعمال كان من
أبرزها: تخطيط استراتيجي فعال ومنظم، وتقنية اقتصادية رسمت بعناية،
ومجموعة من القيم الاجتماعية كرست مفاهيم العمل والإنتاج، ولعلنا نتعرض
لبعض المفاهيم والقيم الاجتماعية التي أصَّلت الأرضية الخصبة للتنمية في ماليزيا.
يؤكد خبراء التنمية على (الارتباط الثقافي والاجتماعي للتنمية، وأن الرخاء
الاقتصادي هو أحد مظاهر وجود تنمية حقيقية في بلد ما..) هذا ما يقوله الدكتور
محمد الجوهري.. مضيفاً: (إن مشاكل التنمية والتخلف يجب أن ينظر إليها في
إطار اجتماعي وثقافي عريض..) ، ويقول ريتشارد باسكال وأنتوني آثوس
صاحبا كتاب فن الإدارة اليابانية: (إن المجتمع النامي يتطلب انطلاقاً وتغييراً
وتجديداً في اللغة والمفاهيم وفي طرق العمل، فلا بد من توفر حركات تتصف
بالإبداع، ومن ظهور هذه الحركات بين الفينة والأخرى، فأي مجتمع في بيئة
متغيرة سيؤول إلى الإخفاق إذا لم يتوصل إلى ابتكارات إدارية من شأنها أن تكسر
الأطر الموروثة من المفاهيم والنماذج القديمة من السلوك والمظاهر السلبية للقيم
المثبطة للعمل) .
لا شك في أن استراتيجيات التنمية المختلفة كثيراً ما تعتمد على الجوانب
الاجتماعية والقيمية وسلوك الأفراد والجماعات في توطين التنمية، وجعلها جزءاً لا
يتجزأ من منظومة التنمية الاقتصادية. فما هو مفهوم القيم؟ هي أحكام معيارية لها
اتصال بالواقع يتمثلها الفرد من خلال التفاعل والمعايشة مع المواقف المختلفة،
ويشترط أن تنال هذه الأحكام الرضا والموافقة من جماعة اجتماعية معينة أو من
المجتمع. وهي أحكام مكتسبة من الظروف الاجتماعية ينشرها الفرد ويحكم بها
على الأشياء، ويعتبرها جديرة بالاهتمام لاعتبارات اجتماعية وسيكولوجية
واقتصادية، ولعلنا نتحدث عن مجمل تلك القيم التي ساعدت الرجل الماليزي،
المزارع البسيط بالأمس، ليعتلي في بلده أعلى ناطحات سحاب في العالم ومن
موارده الذاتية.
فإذا كانت بعض الأمم تعتز بمجموعة من القيم كالاستقلالية وروح التحدي
والمثابرة والاعتماد على النفس كالرجل الأمريكي الذي مكنته هذه القيم من غزو
العالم بمنتجاته، وثقافة منتجاته، فلا شك بأن لدى الآسيويين (من يابانيين وغيرهم)
منظومة قيم مكنتهم من تحقيق ما تمكنوا من الحصول عليه من تنمية وتقدم،
وندرك أيضاً أن القيم اليابانية ترتكز على حب العمل والتركيز الشديد على عنصر
الجودة، كما نحب أن نشير إلى أن هناك منظومة قيم خاصة بالماليزيين تحديداً،
ربما يشتركون مع غيرهم فيها، لكنها بالتأكيد تم توظيفها لصالح التنمية؛ فلقد
منحت تلك القيم الأمل القوي للماليزيين نحو الحلم المشروع (رؤية 2020م)
الهادف إلى جعل ماليزيا دولة صناعية يحقق فيها الفرد دخلاً لا يقل عن دخل الفرد
الأمريكي كما أوردها التنمويون الماليزيون؛ فلقد واجهتهم مجموعة من التحديات
هي ما ذكرها الدكتور مهاتير محمد:
- التحدي الأول يتمثل في قيام أمة ماليزية موحدة، يحكمها الشعور بالمصير
الواحد المشترك. وهذه الأمة لا بد أن تكون في سلام مع نفسها ومتكاملة جغرافياً
وعرقياً وتعيش في انسجام.
- التحدي الثاني هو خلق مجتمع ماليزي متحرر سيكيولوجياً وآمن ومتطور
قوي الإيمان والثقة بنفسه، وفخور بوضعه وبما أنجز، وضخم بما فيه الكفاية
لمواجهة كافة الصعوبات.
- التحدي الثالث هو بناء مجتمع ناضج ديمقراطياً يمارس نوعاً من أنواع
الديمقراطية الماليزية النابعة من المجتمع والملبية لمتطلباته والتي تصلح لأن تكون
نموذجاً تحتذي به الدول النامية.
- التحدي الرابع هو بناء مجتمع تسوده الأخلاق والقيم، المواطنون فيه
أقوياء في دينهم وقيمهم وتحكمه أسمى مستويات الأخلاق.
- التحدي الخامس هو بناء مجتمع ناضج متحرر متسامح يكون فيه
الماليزيون من مختلف الألوان والأعراق.
- التحدي السادس يتمثل في بناء مجتمع علمي تقدمي قادر على الابتكار
ويتطلع دائماً إلى الأمام.
- التحدي السابع هو بناء مجتمع يهتم بالآخرين يأتي فيه المجتمع قبل الفرد،
ويكون فيه محور رفاهية الناس ليس الدولة أو الفرد.
- التحدي الثامن هو ضمان وجود مجتمع تسوده العدالة الاقتصادية.
- التحدي التاسع هو إيجاد مجتمع تسوده الرفاهية، اقتصاده يتميز بالمنافسة
الكاملة والديناميكية والضخامة والمرونة.
ومن أبرز تلك القيم الاجتماعية التي حققتها ماليزيا وساعدت في تحقيق
تنميتها:
* الاستثمار في الأطفال والتعليم:
فقد ذكر تقرير أصدرته وكالة رعاية الأطفال التابعة للأمم المتحدة (اليونسيف)
ونشر في مايو 2001م أن ماليزيا واحدة من عدة دول آسيوية مارست الاستثمار
الناجح في الأطفال وتربيتهم من سن صفر وحتى ثلاث سنوات من خلال برامج
مدروسة ومخططة؛ وذلك من خلال تحقيق الرعاية الصحية والتعليمية في سن
مبكر جداً؛ إذ قال أحد خبراء اليونسيف بهذا الموضوع وهو د. سانتوش مهروترا
كبير الخبراء فيها: (معجزة العقل الصغير تبدأ في السنوات الأولى؛ فكل دولار
واحد تنفقه على الطفل فإن ذلك يحقق عائداً مقداره 7 دولارات، وماليزيا واحدة من
تلك الدول التي أدركت هذا الأمر جيداً..) .
أما بخصوص التعليم فقد أنفقت ماليزيا وبشهادة رئيس وزرائها الدكتور مهاتير
محمد إنفاقاً كبيراً على التعليم فاق الـ 20% من ميزانيتها، وفاق أيضاً إنفاق
الحكومة الماليزية على وزارة الدفاع.
وكان الدكتور طارق السويدان قد ذكر أن ماليزيا في عام 1995م قامت بعمل
مؤتمرات وطنية لاستراتيجية التعليم خلال عشر سنوات تغيرت على أساسها
المناهج وطرق التدريس والبعثات الدراسية الخارجية، ونظم الهجرة والاستثمار،
باعتبار أن التعليم وسيلة لهدف ما وليس غاية بحد ذاته.. الأمر الذي حقق لها بعد
عشر سنوات من ذلك التاريخ أن أصبحت عاشر دولة صناعية بالعالم كما ذكرنا آنفاً.
* القيم الاجتماعية الأسرية والفردية:
الأسرة بعد الطفل هي حجر الزاوية في ترسيخ مجموعة من القيم، وأهمية
العائلة تكمن باعتبارها الوحدة الأساسية لنظم القيم والأمان الاجتماعي في ماليزيا،
كما يقول الدكتور السيد أمين الشلبي.
لذا فإن القيم الآسيوية نابعة من المجتمع والأسرة، والمجتمع الماليزي يقدر
ويجل إجلالاً كبيراً الأسرة، ويعول عليها كثيراً في ترسيخ تنميته، وتعتبر
متطلبات ومصالح المجتمع ذات اعتبار لدى الفرد والمجتمع، أكثر من تقديره
لمصالح الفرد، أو حقوقه في الحرية الشخصية المطلقة.
فقيام الرجل الماليزي بمسؤولياته تجاه أسرته ومجتمعه يأتي قبل حقه في
المطالبة بمزاياه الفردية؛ فهذا من أساس القيم الماليزية.
وإذا ما تمادى الفرد بالتعدي على حقوق المجتمع فإن ذلك الشخص يكون فعلاً
قد سرق من حقوق الأغلبية ويسعى بكل أنانية لخدمة مصالحه الخاصة، وهذا ما
هو مرفوض في ظل القيم الآسيوية الماليزية.. فالانضباط الاجتماعي، والعمل
العائلي يعتبر جزءاً من منظومة قيم العمل في ماليزيا.
* القيم الإسلامية وأثرها في التنمية الماليزية:
إن المجتمعات الآسيوية تنمي أشكالها الخاصة في الحكم بالحفاظ على تقاليدها
في التوافق في الرأي واحترام السلطة كأساس ومنطلق إسلامي؛ فلقد حافظت
ماليزيا على المعدل المنخفض للجريمة، كما أكد ذلك الدكتور السيد أمين شلبي في
صحيفة الأهرام المصرية.
كما يتميز الشعب الماليزي بالمسالمة وتقدير السلطة، وبما أن نسبة 54% من
الشعب الماليزي مسلم فإن الثقافة الإسلامية تدعم مجموعة من القيم التي رجحت
الكفة التنموية لصالح الماليزيين كالصدق والإخلاص والرعاية الأسرية وغيرها.
خاصة إذا علمنا أن الإسلام يدعم الأخلاق التنموية كإجادة العمل، كما في قوله
صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» [1] ، وكذلك
التركيز كما في القرآن الكريم على عمارة الأرض عمارة إسلامية خالية من الإفساد؛
وذلك باستخلاف الإنسان فيها كما في قوله تعالى: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة]
(البقرة: 30) . بل الأمر أكثر شدة عندما ركز الإسلام على أن الإنسان مطالب
بالعمل النافع حتى آخر لحظة من حياته: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة،
فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها» [2] .
لذلك ينقل محمد سليم العوا رئيس مركز الدراسات الآسيوية بالقاهرة عن أنور
إبراهيم الإسلامي الشهير وأحد مهندسي التنمية في ماليزيا قوله: «إن التحدي الذي
يواجه الإسلام هو ترويض قوى الطائفية والقبلية التي تعيش بداخله، والتي تشكل
مع الاستبداد أكبر المعوقات أمام نشأة مجتمع متحضر داخل الأمة، فإن تخلف
المسلمين يعود، في نظر أنور إبراهيم إلى عوامل داخلية بالأساس، وللتعامل مع
تلك العوامل فإنه من المهم أن ننطلق من الواقع، وأحد عناصر هذا الانطلاق هو
رفض مفهوم التحديث بالمعنى العلماني الغربي، وبناء نموذج للتنمية يقوم على
الاستفادة من المهارات التكنولوجية الغربية مع عدم التضحية بالقيم الثقافية الإسلامية
فإذا استطاعت آسيا أن تتمكن من المهارات الصناعية للغرب، ومع ذلك تحتفظ
بقيمها الثقافية، فإنها ستكون في موقع يسمح لها ببناء حضارة أعظم من أي حضارة
عبر التاريخ. هذا ما قاله محاضر محمد في كتابه (صوت آسيا) ، وهو قول
ينطبق على السياق الماليزي. ففي هذا السياق يشكل الإسلام القيمة الثقافية الكبرى.
فإذا استطاعت ماليزيا أن توفق بين استيعاب التكنولوجيا الغربية وتطويرها في
إطار الاحتفاظ بالقيم الثقافية الإسلامية، فإنها تكون قد حققت نموذجاً طيباً للتنمية» .
أما الدكتور مهاتير محمد وهو الأب الروحي للنهضة الماليزية فيقول:
«يعتقد محاضر أنه ينبغي على المسلمين التمسك بالإسلام والنهوض من خلاله.
ولكن هذا التمسك ينبغي أن يكون بالأهداف العامة للإسلام، وليس لنموذج معين؛
ذلك لأنه لا يوجد نموذج أو تفسير واحد للإسلام صالح للتطبيق في كل الأحوال،
ومن ثم فإن التمسك بالإسلام يعني السعي لتحقيق أهدافه من خلال آليات لا تتعارض
معه. ويشمل ذلك الاستفادة من القيم الروحية والأخلاقية من الشعوب الأخرى
وفي مقدمتها الشعوب الشرق آسيوية، ومن أهم تلك القيم ... » ؛ لذلك ليس غريباً
أن تكون منطلقات النهضة والتنمية في ماليزيا ذات أصول إسلامية سواء على
مستوى المجتمع أو على مستوى القيادة والسلطة؛ خاصة إذا علمنا أن نسبة
المسلمين في ماليزيا تبلغ ما يزيد عن 54% من إجمالي عدد السكان، ولا شك
في أن هذه الأغلبية للمسلمين قد شكلت دعامة وأرضية خصبة لمجموعة من القيم
الإسلامية الأصيلة التي غذت التنمية الصناعية في ماليزيا.
* القيم الاقتصادية ودور الحكومة الماليزية في تأصيل القيم التنموية:
لقد بذلت الدولة الماليزية جهوداً حثيثة لرفع مستوى نصيب الماليزيين
الملاويين (سكان ماليزيا الأصليين) فيما يختص في مستوى الدخل تحديداً وذلك
عن طريق محاولتها الجادة دعم مستوى القيم لديهم؛ وذلك عن طريق رفع مستويات
التعليم بمراحله المختلفة (العالي والمتقدم) وكذلك الصحة لديهم، دون أن يؤثر ذلك
على نصيب الماليزيين الآخرين من الصينيين أو الهنود، كما سعت الحكومة
الماليزية لرفع الوعي تجاه النقود بأنها ليست وسيلة استهلاكية وحسب بل هي إحدى
المدخلات الأساسية للتنمية كالادخار والاستثمار تحديداً كما سعى المسؤولون
الماليزيون نحو إحياء العقلية التجارية الآسيوية عن طريق رفع المهارات الآسيوية
التجارية والإدارية التي تعتبر مفاتيح إعادة بناء الاقتصاد، وتحقيق الرفاهية.
وخلال العقدين الماضيين لعبت هذه المهارات دوراً حاسماً في نهضة ماليزيا
لكي تصبح دولة متطورة بالكامل، وهو ما خططت له ماليزيا بالفعل، فتبنت ذوي
المهارات التجارية؛ كما بادرت بفتح باب الهجرة بطريقة مدروسة، وقامت بإنشاء
وزارة لمتابعة السلوك التجاري وسعت لتطويرها.
وإذا كان بعض الناس يقولون إنه لا ينبغي للحكومات أن تساعد ذوي
المهارات والعقلية التجارية، وأن علينا أن نبقى بعيداً عنهم ونتركهم يمارسون
نشاطهم لوحدهم في ظل قوى السوق؛ فقد علق الدكتور مهاتير محمد على هذا
الموضوع قائلاً: «لا أحد ينكر حاجة هؤلاء إلى مساحة ليتحركوا بحرية، ولكن
من المؤكد أن الحكومات يمكن أن تعمل شيئاً لخلق الجو الملائم والصحيح، وبما أن
28% من أرباح الشركات تذهب للحكومة الماليزية في شكل ضرائب شركات، فقد
كنت أقول باستمرار إن الدولة بالفعل شريك بنسبة 28% في أية شركة صغيرة
كانت أم كبيرة. نحن نستطيع وسوف نعمل على مساعدة الشركات الصغيرة
والأفراد الذين لديهم الشجاعة والتصور الكامل لإنشاء أعمالهم التجارية الخاصة بهم.
وهذه مهمة ملحة في الوقت الحالي حيث يعاني الجو الاقتصادي العام من الفوضى» .
ووجدت دراسة ديفيد هيتشكوك المدير السابق لإدارة شؤون آسيا في وكالة
الإعلام الأمريكية أن القيم الاجتماعية الست الأكثر رواجاً بين سكان شرق آسيا
(وماليزيا واحدة من الدول المستهدفة بهذه الدراسة) هي: وجود مجتمع منظم
ومرتب، ووجود تجانس اجتماعي، ضمان محاسبة المسؤولين الحكوميين،
الانفتاح على الأفكار الجديدة، حرية التعبير، احترام السلطة. وأعتقد أن القيم
سالفة الذكر لا تحتاج لكثير تفصيل.
لقد كانت أبرز قيم العمل اليابانية التي مالت ماليزيا لاحتوائها إبان تبنيها
لاستراتيجية التنمية اليابانية تشمل كذلك الإخلاص والالتزام بالجودة والمواعيد
المحددة لتسليم السلع؛ فقيم العمل اليابانية المتميزة تعامل بكل تقديس في ماليزيا
وليست هي عنصراً ثقافياً تقليدياً مغروساً في المجتمع فحسب، بل تمثل نظاماً للقيم
جرى صقله وتهذيبه بعناية شديدة؛ فالمهارات الاستثنائية والتقنية المتقدمة
والانضباط والنظام وقيم وأخلاقيات العمل جميعها صفات تستحق أن تنقل ويستفاد
منها، فآسيا (وماليزيا واحدة منها) بفضل مواردها البشرية غير المحدودة،
ومقدرة الماليزيين على الاجتهاد في العمل سلوك أصيل، والتميز في الجهد البشري
الخارق عندما يتم تحفيزه، وسعي الماليزيين لتحقيق الجودة المتعددة؛ كل تلك القيم
عملت ماليزيا على اعتناقها وحققت الإنتاجية الشاملة، ومن ثم تهيأت فرص الرخاء
والرفاهية الاجتماعية للشعب الماليزي.
* أبرز القيم على مستويات الإدارة العليا لماليزيا:
تخلصت ماليزيا من مبادئ سيئة جداً، تسعى إليها بعض الدول كنوع من
المحافظة على الثراء أو على مستويات الدخول العالية والنمو دون أن تكون لها
مساهمة تستحق مع جيرانها، فلم تكن تعتمد على نوازع عدوانية مثل مبدأ (أفقر
جارك) حتى يتحقق لك الغنى والانفراد والسيطرة السياسية والاقتصادية. بل باتت
تنظر إلى الجار أنه شريك أصيل في ظل التكامل الاقتصادي، ولا أدل على ذلك
من مساعدتها الجريئة والسريعة لتايلاند عندما انهار الياهت التايلندي.. أو الدخول
في صراعات عرقية أو إقليمية معتبرة ذلك أحد نقاط النزيف في المشروع التنموي؛
فالشعب الماليزي شعب بطبيعته مسالم لا يميل للعنف بأي حال من الأحوال؛ فبعد
الاستقلال لم تشهد ماليزيا أي نوع يذكر من الاضطرابات عدا ما حدث عام 1969م
رغم التنوع والتباين العرقي القوي، كما سعت ماليزيا وبكل قوة لترسيخ مبدأ
الاستثمار في الموارد البشرية وتنميتها واعتبارها الهدف الاستراتيجي في عملية
التنمية وتطوير تلك القوى البشرية وتنمية قاعدتها، والسعي نحو تأصيل المبادئ
القيمية في تلك القوى وتوجيه الموارد البشرية نحو أهداف الخطط التنموية.
هذه بعض من منظومة القوى القيمية التي مارستها ماليزيا الآسيوية لتحقيق
هذه المعدلات من التنمية، وهذا بجانب الأرقام المذهلة من الإنتاج ومعدلات النمو
المشجعة، والأكيد أن هذه القيم ليست هي كل القيم الماليزية بل بعض منها سخرت
بطريقة إيجابية وفعالة في دعم التنمية، وتكمن دعوتنا للاستفادة من التجربة
الماليزية في الوطن العربي لوجود نقاط التقاء وتشابه بيننا وبين ماليزيا، وهو ما
يدفعنا وبكل قوة لدراسة تلك التجربة والاستفادة منها، ولعل أبرز تلك النقاط هو
اشتراكنا في منظومة من القيم الإسلامية التي تكرس العمل والإنتاج وتحث عليه،
وكذلك نقص العمالة المحلية، ووجود المواد الخام الأساسية في التصنيع، وكذلك
تقارب في تعداد السكان، وغيرها من أوجه التشابه المختلفة.
__________
(*) مدرس بقسم الإرشاد والاقتصاد الزراعي كلية الزراعة والطب البيطري، جامعة الملك سعود
بالقصيم، وعضو جمعية الاقتصاد السعودية.
(1) رواه البيهقي بسند جيد.
(2) رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني في الجامع 1424.(178/82)
المسلمون والعالم
مستقبل (إسرائيل)
بين التحليل السياسي والمنطق الديني
د. عبد العزيز عبد الغني صقر [*]
إن الحديث عن مستقبل (إسرائيل) هو حديث عن مستقبلنا أيضاً، ولسنا في
حاجة للتأكيد على أن كل ما له صلة بتطورنا السياسي ورخائنا الاقتصادي يرتبط
بشكل أو بآخر بوجود (إسرائيل) أو غيابها وبحالة الحرب أو السلام في المنطقة.
ومن هنا تأتي محاولتنا لاستشراف مستقبل (إسرائيل) كجزء من عملية تخطيط
مستقبلنا السياسي العربي.
والحقيقة أن ثمة مشكلة تواجه كل من يحاول التنبؤ بأوضاع المنطقة في
المستقبل من منطلق تقاليد وآليات علم المستقبليات، وتكمن هذه المشكلة في صعوبة
أو استحالة إخضاع الشأن الإسرائيلي للمنطق العلمي؛ ذلك أن (إسرائيل) ترتبط
اسماً ووجوداً وفكراً ونظاماً وممارسة بالمنطق الديني الذي يستعصي على التحليل
العلمي، ولا يمكن معالجته باستخدام أدوات التفسير ومناهج التحليل السياسي التي
أرستها التقاليد العلمية.
هذه الطبيعة الدينية للكيان العبري تفسّر أمرين:
الأمر الأول: هو إخفاق كافة المفاوضات العربية الإسرائيلية حتى الآن،
بسبب اختلاف منطق ولغة الحوار بين الطرفين؛ فبينما يرتكز الجانب العربي إلى
أسس وحجج سياسية ترتبط بالحقوق التاريخية والشرعية الدولية والاتفاقات
والمعاهدات المبرمة بين الطرفين في كامب ديفيد ومدريد وشرم الشيخ وغيرها،
نجد الجانب الإسرائيلي يتحدث عن الوعد الإلهي وحائط المبكى وهيكل سليمان
والعداء للسامية، ويلتزم بإجازة السبت، ويرتدي مفاوضوه القُبّعة اليهودية أو
الحاخامية، ويتلقّون الدعم الغربي النصراني بدعوى التراث الديني المشترك ... ،
وهكذا يجري الحوار بين طرفين لا يفهم أحدهما لغة الآخر، وكأنه حوار بين كفيف
يستخدم لغة الكلام وأصمّ يستخدم لغة الإشارة، فأنّى يتفاهمان!
أما الأمر الثاني: المترتب على الطبيعة الدينية للدولة العبرية فهو عدم إمكانية
التنبؤ بمستقبل (إسرائيل) السياسي من خلال أدوات وأساليب التحليل العلمي
المستقبلي التي تسمح وحدها بتقديم صورة حقيقية لحدود وآفاق المستقبل المتوقّع،
وهو الأمر الذي يلقي بظلاله أيضاً على مستقبلنا العربي الذي أصبح هو الآخر يتَّسم
بالغموض ويستعصي على التحليل العلمي ومن ثم يصعب تشكيله أو تخطيطه أو
التحكّم في تطوره.
إن استكشاف مستقبل أي مجتمع سياسي من منطلق علمي عقلاني إنما يتحدّد
في ضوء ثلاث مجموعات من المتغيرات:
1 - متغيرات تدور حول الواقع القومي لهذا المجتمع، بمعنى أوضاعه
الداخلية.
2 - متغيرات خاصة بالواقع الإقليمي المحيط بهذا المجتمع، بمعنى أوضاع
ورغبات ومصالح المجتمعات المحيطة المؤثرة والمتأثرة.
3 - متغيرات ترتبط بالإطار الدولي، بمعنى موقف القوى الكبرى المتحكمة
في السياسة الكونية أو العالمية.
وهكذا يرتبط التحليل المستقبلي بمتغيرات واقعية حقيقية لا موضع فيها
للوعود والحوائط والهياكل و «الطواقي» ، كما أنه تحليل متعدد المستويات؛ إذ
يفرض نقاء الصورة المتوقعة لمستقبل مجتمع ما تحليلاً شمولياً متكاملاً يعتمد على
قاعدة علمية من البيانات والمعلومات الواقعية التي تغطي الواقع القومي والإقليمي
والدولي الذي يرتبط به هذا المجتمع.
فأين المجتمع الإسرائيلي من كل ذلك؟
لو تجاهلنا كل الادعاءات الإسرائيلية المرتبطة بالدين، وافترضنا جدلاً أن
الدولة العبرية قد تحوّلت إلى دولة قومية علمانية يمكن إدراجها (مادة) للبحث
السياسي في نطاق التحليل المستقبلي، لأمكننا حينئذ وحينئذ فقط أن نتوقّع لا بشأن
دولة (إسرائيل) فحسب وإنما أيضاً بشأن المستقبل العربي كله.
إن الأمر لا يتطلب أكثر من جمع وتصنيف وتحليل وتفسير المعلومات التي
ترتبط بمستويات التحليل الثلاثة التي أشرنا إليها آنفاً أي المستوى القومي والإقليمي
والدولي والانطلاق من ذلك لتصوير السيناريوهات الممكنة التي تتمخض عنها
عملية التحليل:
- فعلى المستوى القومي، يمكن الارتكاز إلى بعض المتغيرات مثل: قوة
الاتجاهات العلمانية داخل (إسرائيل) وفي الحركة الصهيونية، وعمليات الهجرة
المضادة إلى خارج (إسرائيل) ، وآثار الانتفاضة، واختلال الكم لصالح العرب،
والانحلال الاجتماعي والأوضاع الاقتصادية والعنصرية في (إسرائيل) .
- وعلى المستوى الإقليمي، نستطيع الإشارة إلى مجموعة من المتغيرات
مثل: افتقاد (إسرائيل) لمساندة بعض الدول كتركيا، وإيران، والحبشة، وتغيّر
بعض القيادات العربية، وتنامي مشاعر العداء ضد السلوك الاستفزازي والتعصبي
الإسرائيلي، والتغيرات في الجامعة العربية، والتكتلات السياسية والاقتصادية التي
تجسّد الاتجاه نحو التجانس الإقليمي والتكامل العربي الإسلامي.
- وأخيراً على المستوى الدولي، يمكن رصد مجموعة من المتغيرات مثل:
استمرار التحيز الأمريكي اللا معقول لـ (إسرائيل) ، والتعاطف الدولي مع
الطرف العربي وبخاصة من جانب القوى الجديدة كالصين واليابان وغرب أوروبا
باستثناء بريطانيا فضلاً عن دول العالم الثالث، وازدهار الصهيونية كظاهرة دولية
عن طريق السيطرة على دوائر المال في أوروبا وأمريكا وروسيا، وانصراف
القيادات الصهيونية إلى امتلاك الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الاقتصادية
غير الحكومية بعيداً عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والعنصرية التي ترتبط
بها الحياة داخل إسرائيل.
جميع هذه المتغيرات ودون الدخول في تفاصيلها تقود إلى عدد من التصوّرات
المستقبلية، ومن أهمها:
1 - عودة اليهود إلى الشتات وتلاشي الصهيونية كظاهرة قومية.
2 - استيعاب اليهود داخل دولة فلسطينية علمانية قومية.
3 - استيعاب الفلسطينيين داخل دولة إسرائيلية علمانية قومية.
4 - استمرار (إسرائيل) كدولة شرق أوسطية إلى جوار دولة فلسطينية
مستقلة.
5 - قيام دولة فلسطينية إسرائيلية ثنائية القومية.
هذه التصورات ترتبط كما ذكرنا بتخلي الإسرائيليين عن عملية خلط السياسة
بالديانة اليهودية، وقبولهم الدخول في حوار مع العرب من منطلقات سياسية بحتة،
أما إذا استمروا في استخدام المنطق والمقولات الدينية في الحوار والحركة، فإنه لا
يمكن التعامل معهم والوصول إلى حل للمشكلة إلا بارتكاز العرب أيضاً في حوارهم
وحركتهم إلى المنطق الديني الإسلامي الذي يمكنه وحده في هذه الحالة التعامل مع
المشكلة وحسمها وذلك من منطلق مفهوم الجهاد، وحينئذ لن يكون هناك سوى
تصوّر واحد لمستقبل إسرائيل السياسي، وهم يعلمونه جيداً.
__________
(*) أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة رئيس جمعية «العلم للجميع» العربية.(178/88)
المسلمون والعالم
خيارات السلطة الفلسطينية
بين الإصلاح السياسي والروى السلمية الأمريكية
باسل يوسف النيرب
بإعلان الحكومة الإسرائيلية إقامة جدار فاصل بين الأراضي المحتلة عام
1967م والمناطق المحتلة عام 1948م، وبخطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش
حول السلام في الشرق الأوسط في 25/6/2002م عاش الشارع الفلسطيني المزيد
من الهموم التي أثقلت على هموم الحصار والتجويع هماً آخر في سبيل الحرب
والاستقلال، وما بين شارون الصامد سياسياً إلى الوضع الاقتصادي الإسرائيلي
المنهار ينظر الشارع الإسرائيلي إلى أداء رئيس وزرائه المنتخب ذي الجماهيرية
العالية الذي أعلن خطته للسلام.
أغلب هذه الخطط بل كلها تصب في مصلحة إسرائيل، ولن تعطي المجال
للطرف الفلسطيني من التقاط أنفاسه ليستمر في الانتفاضة.
* جدوى الإصلاح الفلسطيني:
بدأ الإصلاح الفلسطيني إسرائيلياً، ثم أخذت السياسة الأمريكية على عاتقها
مطالبة السلطة الفلسطينية بالإصلاح، ثم باشرت السلطة الفلسطينية دورها بالقيام
بالإصلاحات بحجة المطالبة الشعبية بالإصلاح الداخلي.
في هذا الصدد لا بد من التأكيد على أن حملة السور الواقي التي قامت بها
قوات شارون في الضفة الغربية في مارس 2002م قد عرت وجه السلطة الحقيقي
التي أخفقت في الدفاع عن «مكتسباتها المتوهمة» بعد أوسلو، ومنها الوضع
الهش لسلطتها في المناطق التابعة لها مباشرة المسماة: مناطق «أ» .
إن موضوع الإصلاح الداخلي بدأ فلسطينياً عام 1999م عندما قامت مجموعة
العشرين في بيان صادر في 27/9 بالمطالبة بإصلاحات داخلية، وكان هذا البيان
قد أيده ما يزيد عن 200 شخصية فلسطينية حزبية ومستقلة. وجاء البيان بعنوان:
«الوطن ينادينا» ، ودعا إلى الإصلاح الحقيقي ليعالج الفساد والإذلال والاستغلال،
وتجنب الشعب الفلسطيني الاستسلام للمؤامرة، وقد قوبل البيان بحملة قمع طالت
من أيده ووقع عليه، وتعرض الموقعون إلى الإقامة الجبرية والتشويه السياسي،
وطالب البعض بتقديمهم للمحاكمة. أما دعوات الإصلاح الحالية فقد طالبت مجلس
الوزراء والأجهزة الأمنية وضبط حركتها وجعلها في جهاز واحد تحت قيادة واحدة.
تتمحور الإصلاحات التي أطلقتها السلطة الفلسطينية بعد تنامي الدعوات
الإسرائيلية والأمريكية لها فيما يلي:
- توحيد الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
- إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية.
- استحداث منصب رئيس وزراء فلسطيني له اليد العليا في تنفيذ توجيهات
السلطة.
- شفافية اقتصادية ورقابة على الأموال حتى لا تذهب إلى مقاومة إسرائيل.
ومع أن مطالب الإصلاح كانت فلسطينية منذ ما يقارب ثلاث سنوات إلا أن
الهدف الإسرائيلي الحالي من وراء هذه الفقاعة هو أن تكون الإصلاحات وخاصة ما
يمس الأجهزة الأمنية دوراً يكمل عمل قوات شارون في الضفة والقطاع، ويقمع
أي عملية في مهدها قبل الإقدام عليها وبأيدي فلسطينية. وقد لا يقبل الرئيس
عرفات بالإملاءات الأمريكية والإسرائيلية كاملة حول عملية الإصلاح؛ ولكن بدون
أدنى شك سيكون من مصلحة إسرائيل دائماً الاستجابة ولو لمطلب واحد من
المطالب التي تطول بها القائمة الإسرائيلية، وخاصة بعد الصفقات المدحضة التي
قام بها الرئيس عرفات إزاء أزمة المحاصرين في كنيسة المهد أو حتى في محاكمة
قتلة رحبعام زائيفي لفك حصاره في رام الله، والقبول بالتراجع عن لجنة تقصي
الحقائق في مخيم جنين؛ كل هذه التراجعات التي قادها عرفات وغيرها تصب دائماً
في القناة الإسرائيلية لإجهاض حلم الحرية والاستقلال الفلسطيني.
* إما رؤية بوش أو دبابات شارون:
أعلن الرئيس الأمريكي في خطاب الرؤية الأمريكية للسلام تحميل الجانب
الفلسطيني مسؤولية العنف الدائر في المنطقة؛ فالفلسطينيون تحت الحصار،
والإسرائيليون مستمرون في العيش بحالة من الرعب من جراء العمليات ضد
إسرائيل، كما تناول خطاب الرؤية حاجة عملية السلام في الشرق الأوسط إلى قيادة
فلسطينية جديدة حتى يمكن للدولة الفلسطينية المرتقبة أن تقوم.
وحدد بوش في خطابه أنه عندما تقوم القيادة الفلسطينية الجديدة بإجراء
ترتيبات أمنية مع إسرائيل فإن الولايات المتحدة سوف تدعم قيام الدولة الفلسطينية.
كما نوه في خطابه إلى الدور المرتقب لكل من الولايات المتحدة والدول
الأوروبية وصندوق النقد الدولي في دعم وتشجيع الشفافية والرقابة المستقلة على
المؤسسات التابعة للاقتصاد الفلسطيني مما يحقق الشفافية والرقابة المستقلة، وطالب
الدول العربية بالتطبيع الكامل مع إسرائيل، وفي ذات الوقت طالب إسرائيل بإنهاء
الاحتلال باعتبارها من أكثر البلاد ديمقراطية.
وتوقع بوش في خطابه أن تقوم الدولة الفلسطينية المؤقتة بعد ثلاث سنوات
بعد أن تكون قد أتمت عملية الإصلاحات الداخلية.
هذا فحوى الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي. وقبل الدخول في موقف
الأطراف المعنية «الإسرائيلية والفلسطينية» لا بد من التأكيد على أن الخطاب
حمل رخصة لاستمرار عملية القتل على يد شارون أو القبول بالإصلاحات على
الطريقة الأمريكية الإسرائيلية.
* فلسطينياً:
مع أن الجانب الفلسطيني أعطى موافقة على رؤية بوش بشكل متسرع، فقد
رحبت القيادة الفلسطينية بالخطاب إما للخروج من حالة الحصار السياسي التي
تعاني منها القيادة الفلسطينية أو القبول بأي مشروع هش للسلام حتى لا يكون
الطرف الفلسطيني وحيداً في الساحة، ولا يتركها لشارون الذي يلتقط أي مبادرة
لتحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية الإخفاق.
إلا أن الجانب الفلسطيني الشعبي والمؤسسات الأخرى من نقابات وأحزاب
ورجالات من المجتمع المدني اعتبرت أن رؤية بوش أحد أشكال التآمر على هبة
الأقصى. وقد اعتبر بعض رجالات ومسؤولين في السلطة الفلسطينية أن ما تضمنه
خطاب بوش من تغيير القيادة الفلسطينية كشرط لإقامة الدولة هو تدخل في الشأن
الفلسطيني، واعتبر العديد من مسؤولي السلطة أن ياسر عرفات لم يأت من الخارج
بل هو منتخب من الشعب، والبرلمان الموجود منتخب أيضاً من الشعب الفلسطيني.
ومع أن وقع الشارع العربي يكاد يجمع على رفض رؤية بوش؛ لأنه تبنى
رؤية شارون فيما يتعلق باستمرار العدوان على الشعب الفلسطيني، وحتى في
الحديث عن شكل ومعنى وحدود الدولة الفلسطينية التي ستقام بعد ثلاث سنوات،
والرفض قائم لأن خطاب بوش يحمل في طياته القضاء على هبة الأقصى وتكريس
الاحتلال واعتباره احتلالاً «ديمقراطياً» كما أن الرفض لهذه المبادرة أو الرؤية
قائم؛ لأن الإدارة الأمريكية تحاول التدخل السافر في خيار الشعب وإجباره على
تبديل القيادة بانتخاب قيادة بديلة أو حتى تعيين قيادة جديدة من خلال طرح أسماء
تكون خليفة للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
كما جاء خطاب بوش بصورة أوامر للقيادة الفلسطينية، وكان واضحاً
الانحياز الأمريكي إلى الجانب الإسرائيلي من خلال تفهم دورها في مكافحة
الإرهاب، ومطالبة إسرائيل بأمور بسيطة لا ترتقي إلى مطالب الشعب الفلسطيني،
ويعطي الضوء الأخضر لإسرائيل باستمرار مسلسل العدوان والانحياز المطلق
لصالح إسرائيل.
ويعد خطاب بوش مخيباً للآمال كما كان متوقعاً فهو لم يتطرق إلى مسائل
القدس واللاجئين والمستوطنات، وهي قضايا رئيسة لا يمكن إغفالها في أي طرح
سياسي للحل في الشرق الأوسط.
* إسرائيلياً:
مع حالة التناغم الأمريكي الإسرائيلي أعلن شارون موقفه من خطاب بوش
والذي جاء في بيان صادر عن رئاسة الحكومة جاء فيه: «فقط بعد التوقف التام
للإرهاب والعنف والتحريض على العنف، وعندما تقوم السلطة الفلسطينية
بإصلاحات حقيقية تتضمن قيادة جديدة سيكون من الممكن بحث كيفية التقدم على
المسار السياسي» .
واعتبر وزير الاتصالات الإسرائيلي يرفين ريفلين أن خطاب الرئيس
الأمريكي حول الشرق الأوسط كان يمكن أن يكتبه مسؤول في الليكود، وقال:
«في إمكاني أن ألقيه في الكنيست» .
كما وصفت صحيفة يديعوت آحرونوت الرئيس الأمريكي بأنه عضو في
الليكود، واعتبرت صحيفة هآرتس أن خطاب الرئيس بوش يعد انتصاراً
لدبلوماسية أرئيل شارون الذي تمكن خلال زياراته وقد بلغت ست زيارات من إقناع
بوش بإقصاء الرئيس عرفات.
هذا وقد تناولت أروقة السياسة الإسرائيلية أنه يجب تقليد بوش وسام
الصهيونية بعد الخطاب.
وكتب المعلق السياسي الإسرائيلي ناحوم برنييع فقال: من ناحية سياسية يبدو
وكأن شارون يمكنه أن يطالب بأي شيء؛ فمخطط بوش لم يطالبه بأي شيء الآن.
يجب أولاً استبدال السلطة الفلسطينية، وترسيخ مبادئ الديمقراطية وسلطة القانون
والاقتصاد الحر؛ وبعد ذلك تقوم الدولة الفلسطينية المؤقتة التي ستفاوض إسرائيل
حول الحدود الآمنة المتعارف عليها.
وختاماً في هذا الشأن يعد خطاب بوش كما وصفه أفيجدو ليرلمان ضوءاً
أخضر لشارون ليقوم بالمزيد من المخطط الذي يزمع تنفيذه، وبالتأكيد لا أحد
يعرف ما يدور في عقل شارون إلا أنه وبشكل عام لن يخرج عن حلم إسرائيل
الكبرى.
* الجدار الفاصل:
تعد فكرة الجدار الفاصل فكرة تراثية توراتية؛ فهي ليست جديدة على الشعب
اليهودي ففي التوراة التي نجدها مليئة بالحديث عن أسوار أورشليم وأريحا، ولا
داعي لذكر نصوصها هنا، ولكن الانغلاق اليهودي معروف في التاريخ؛ فمن
جدران أريحا وأورشليم ومن ثم تحولهم إلى مهاجرين في أصقاع الأرض ظهرت
فكرة الجيتو التي لا تختلف كثيراً عن السور الواقي.
وبإعلان مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر إقامة الجدار الأمني الفاصل بين
الضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948م تعالت الصيحات الرافضة داخل
الكيان الصهيوني إما بحجة أن هذا الجدار يقضي على وحدة أرض الآباء والأجداد،
ومثَّل هذا التيار الديني المتشدد إسحاق ليفي من الحزب القومي الديني، وتيار آخر
اعتبر أن هذه الخطوة وما تشكله من فصل أحادي يعترف الجانب الإسرائيلي
بالحدود للدولة الفلسطينية القادمة.
يمتد السياج الأمني لمسافة 300 كم على خط حدود 1967م، ويتراوح
عرض الجدار الأمني الفاصل ما بين 5 - 15 كم بعد خط الحدود الدولي، ويتشكل
الجدار من مناطق عازلة وحواجز وغرف مراقبة وكاميرات لرصد الحركة على
الجانبين إضافة إلى الأسلاك الكهربائية، وقد يكون النموذج الأمني الذي أقامه
الجيش الإسرائيلي على الحدود اللبنانية الفلسطينية الأقرب إلى الحلم الشاروني
الحالي، وفي الخطوة الأولى للجدار سيمتد مسافة 100 كم، وتقدر المصادر
الإسرائيلية تكلفة إنشاء الكيلو متر الواحد بحوالي مليون دولار أمريكي.
ولا بد من التنويه هنا أن الجدار الشاروني الأمني سيمتد داخل الأراضي
الفلسطينية، ولن يقضم أي مستوطنة؛ فقد تمت مصادرة 970 دونماً من الأراضي
الواقعة تحت نفوذ سلطة بلدية أم الفحم، و700 دونم في المناطق الشرقية من أم
الفحم، وسيقسم منازل ويجعلها خارج السور الأمني.
فلسطينياً: يشكل هذا الجدار خنجراً آخر في صدر من يحاول عبور تلال
الضفة الغربية ليهرب من حالة الحصار الخانق ليعود مع ساعات الليل الأولى إلى
منزله في الضفة الغربية بعد يوم عمل شاق في مناطق 1948م الفلسطينية.
إسرائيلياً: يكاد المجتمع الإسرائيلي يجزم بأن الجدار الأمني لن يضع الحل
للعمليات الاستشهادية؛ والمثال الشاهد على هذا حالات قصف المستعمرات الشمالية
وخطف جنود الاحتلال في المناطق اللبنانية التي كانت محتلة ولم ينفعهم الجدار
الأمني، وكل التجهيزات الأمريكية والصهيونية لرصد تحركات المقاومة في جنوب
لبنان، وانتهى الأمر في الجدار إلى الانهيار وخروج الجيش الإسرائيلي بشكل مذل.
لقد تناولت صحيفة هآرتس هذا السياج في افتتاحيتها، وقالت: سيقع على
عاتق قوات الأمن مهام إضافية منها تخصيص قوات للحفاظ على الأمن في منطقة
السياج وحماية المستوطنات بشكل مكثف.
وأضافت الصحيفة: سيقضم السياج قطعاً من الأرض على الجانب الفلسطيني
داخل الخط الأخضر، وسيحرف في أماكن معينة للإحاطة بتجمعات إسرائيلية؛ أما
في منطقة القدس فمن المتوقع أن يفاقم السياج عندما يصل إلى هناك المشاكل
السياسية والديمقراطية.
يجب أن نأمل في أن يقلل السياج من الثمن الدموي الذي لا يطاق والذي يتم
جبايته يومياً تقريباً من المواطنين الإسرائيليين الآمنين، إن هذا الجدار لن يستطيع
خلق إغلاق تام، والبديل أمام خبراء الأمن هو إقامة حرب احتلال متواصلة يتم
خوضها في عمق المناطق الفلسطينية، وسيعمل هذا الجدار على الفصل بين كيانين
قوميين وجغرافيين. ويشكل الجدار الأمني ليس فصلاً بين الفلسطينيين
والإسرائيليين، ولكن بين الإسرائيليين أنفسهم بين سكان مناطق 1948م
والمستعمرات في الضفة الغربية، مما يضيف تناقضاً آخر إلى جملة التناقضات
التي تعج بها «الدولة» .
* شارون الصامد:
مع أن شارون لم يتمكن من الوفاء في تحقيق الوعود الانتقامية التي قطعها
إبان فترة حكمه؛ إلا أن بقاءه في سدة الحكم أحد الظواهر الأكثر غرابة في تاريخ
الحياة السياسية الإسرائيلية.
شارون سياسياً على الأقل صامد إلى ما بعد الانتخابات الفلسطينية المتوقع
إجراؤها في بداية عام 2003م، ولكن هل الصمود السياسي الذي تحظى به
الحكومة الإسرائيلية الحالية كفيل ببقاء استقرار الأوضاع اقتصادياً واجتماعياً؟
يعاني المجتمع الإسرائيلي حالياً من تفاقم ظاهرة البطالة التي ارتفعت بنسبة
10%، وزاد عدد الفقراء في المجتمع، وتعاني كافة القطاعات من خسائر
اقتصادية من جراء حالة الحرب التي تعيشها المناطق الفلسطينية إضافة إلى اتساع
ظاهرة العنف داخل الأسر.
ولمواجهة هذه التحديات عمدت الحكومة إلى تقليص موازنة 2002م بنسبة
3 %، وتقليص الزيادة المقررة في الموازنة العسكرية، وزيادة العجز في
الموازنة ليصبح 2.85 مليار دولار.
كما تراجعت السياحة بنسبة 48%، وتراجع الاستثمار الأجنبي في السندات
الإسرائيلية بنسبة 98%، وفرضت الحكومة الإسرائيلية ضريبة القيمة المضافة
بنسبة 1%، وفرضت المزيد من الضرائب على العمل أي أن الاقتصاد يعاني من
ركود عميق.
وأمام صورة التخبط الاقتصادي التي يعاني منها شارون في إدارة الائتلاف
الحاكم جاءت له الصفعة من حزب شاس الذي حاول الخروج من الائتلاف الحاكم،
ولكنه عاد ليوافق على السياسة التقشفية الاقتصادية التي تبناها شارون، وكان
حزب شاس قد عارض الخطة التي طرحها شارون لتخفيض الميزانية الإسرائيلية
بمليارات الشيكلات لمكافحة التضخم الاقتصادي.
أمام هذا الانهيار الاقتصادي الذي تعاني منه (إسرائيل) لا بد من التأكيد أن
حالة من عدم الاستقرار تنتاب القطاعات الحزبية التي تحاول جاهدة الصمود ولكنها
تتخبط سياسياً.
فخلال المؤتمر العام لحزب الليكود ظهر شارون وكأنه أحد الرجالات المحبين
للسلام والداعم لقيام دولة فلسطينية على عكس نقيضه نتنياهو الذي رفض قيام
الدولة علناً وصراحة، وفي ذات السياق محاولات أحزاب اليسار تأييد إقامة دولة
فلسطينية والخروج من المناطق المحتلة (الضفة والقطاع) .
وفي هذا الجانب نورد هذا الاستطلاع الذي يُظهر ميل المجتمع الإسرائيلي
إلى اليمين والتأييد الجارف لسياسات شارون في كل عملياته العسكرية؛ فقد قامت
شركة ماركت ووش باستطلاع للرأي نشر في صحيفة معاريف بتاريخ 6/7/2002م
شمل 590 أكد 61% منهم أنهم راضون عن أداء شارون في المجال العسكري،
و69% ضد التفاوض مع السلطة الفلسطينية، و 58% مع طرد الرئيس ياسر
عرفات من رام الله، ونالت سياسة شارون الاقتصادية نسباً متدنية جداً.
* رؤية شارون للسلام:
غداة إعلان شارون ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء نشرت صحيفة هشوفيه
بتاريخ 2/2/2001م خطة شارون للسلام وجاء فيها: القدس الموحدة عاصمة أبدية
لإسرائيل، لا سيادة إلا السيادة الإسرائيلية على غور الأردن، لا لعودة اللاجئين،
ولا لتفكيك المستوطنات، إقامة الدولة الفلسطينية على 42% من الضفة الغربية.
وفي مؤتمر قيسارية الاقتصادي في 4/7/2002م أعلن شارون عن رؤيته
للسلام، وقال حتى لا تبقى المنطقة في وضع سلبي وتحتمل التأويلات، وقدم
اقتراحه للسلام كما يلي:
- إبعاد عرفات عن السلطة بأي وسيلة.
- إعطاء أرض للفلسطينيين أقل أو أكثر من 40%.
- إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح.
- إخلاء بعض المستوطنات المعزولة.
- عدم إخلاء منطقة غور الأردن لمنع التواصل الإقليمي العربي.
شارون الآن وبعد شعوره بالنجاح من جراء العمليات الانتقامية التي يقوم بها
الجيش الإسرائيلي في المناطق التي أعاد الجيش احتلالها يشعر أنه قضى على
البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، وأنهك المجتمع الفلسطيني اقتصادياً وبشرياً من
جراء حالة الحصار، والعديد من الشهداء والجرحى في صفوفه يشعر أنه بإمكانه
فرض ما يريد من الحلول على الشعب، ولكن هل سيقبل الشعب الذي رفض زيارة
شارون إلى المسجد الأقصى بالحلول التي يقدمها شارون بين الحين والآخر؟
بالتأكيد لا؛ لأنَّه يدرك أنَّ القضية ليست قضية أرض فحسب، بل هي قضية
دين؛ والبرهان العمليات النوعية بعد عملية الطريق الحازم الإسرائيلية.(178/90)
المسلمون والعالم
فتح ملف جنرالات الجزائر في باريس
يحيى أبو زكريا [*]
كان النظر في الدعوى التي رفعها وزير الدفاع الجزائري الأسبق خالد نزار
المسؤول حسب اعترافاته في مذكراته عن وقف المسار الانتخابي الجزائري في
كانون الثاني - يناير سنة 1992م على الملازم في القوات الخاصّة الجزائريّة
الحبيب سوايديّة الذي ألف كتاباً بعنوان: (الحرب القذرة في الجزائر) عقب لجوئه
إلى فرنسا وفراره من القوات الخاصّة الجزائريّة، وفي كتابه الذي صدرت منه
مئات آلاف النسخ باللغة الفرنسيّة يتهم الحبيب سوايدية جنرالات الجيش الجزائري
ومنهم الجنرال خالد نزار بإصدار أوامر لقتل المدنيين، وذبح مئات الجزائريين،
ونسبة كل ذلك للإسلاميين. وقد أثار هذا الكتاب زوبعة كبيرة في الجزائر وأوروبا
باعتبار أن مؤلفه شارك شخصيّاً في المذابح التي يدعي أنّ الجيش الجزائري اقترفها
في حق الجزائريين المدنيين. وكانت المؤسسة العسكرية في الجزائر قد حكمت
بعشرين سنة سجناً على الحبيب سوايديّة؛ لأنه أفشى أسراراً تتعلّق بالجيش
الجزائري ونشرها خارج الجزائر.
وقد حشد الجنرال خالد نزار لهذه المحاكمة كل الضبّاط والشخصيّات السياسية
التي تحسب على تيار استئصال الحركة الإسلاميّة في الجزائر؛ بينما حشد الحبيب
سوايديّة شخصيات جزائريّة سبق لها أن اعترفت بدور الجيش الجزائري في
المذابح الجزائريّة واغتيال الرئيس الجزائري الأسبق محمّد بوضياف. ومن المتوقّع
أن يدلي حسين آيت أحمد بشهادته في هذه المحاكمة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك عشرات الجزائريين المقيمين في فرنسا رفعوا
دعوى على الجنرال خالد نزار بتهمة تعذيبهم في معسكرات الاعتقال في الجزائر أو
تعذيب أقاربهم من الإسلاميين. وقد أعادت هذه المحاكمة التي بدأت في الأوّل من
تمّوز وإلى الخامس منه فتح كل الملفات الثقيلة التي ترتبط على وجه التحديد بالفتنة
الجزائريّة التي بدأت في سنة 1990م وما زالت مستمرّة إلى يومنا هذا. وفي
الوقت الذي يرتكز فيه محامو خالد نزار على الضرورات التي دفعت خالد نزار
وزير الدفاع والرجل الأقوى في الجزائر في ذلك الوقت إلى إلغاء المسار الانتخابي
ومنع قيام دولة إسلاميّة في الجزائر وهو ما توافق عليه فرنسا جملة وتفصيلاً، فإنّ
الملازم حبيب سوايديّة ومعه بعض الضبّاط الجزائريين الفارين إلى أوروبا يعتمدون
في ادعائهم على شهادات خاصّة ووقائع عاشوها بشكل شخصي. والغريب أنّ هذه
الملفات الثقيلة يتمّ فتحها في فرنسا التي أزهقت ذات يوم أرواح ملايين الشهداء
الجزائريين، وفي الذكرى الأربعين لاستقلال الجزائر ولسان حال فرنسا: ألم يكن
من الأجدى لو بقيت الجزائر في يد فرنسا؟
وتجدر الإشارة إلى أنّه بعد استقلال الجزائر في 5/6/1962م ألَّف الرئيس
الجزائري الأسبق محمّد بوضياف الذي اغتيل في 28/6/1992م في الجزائر كتاباً
بعنوان: (الجزائر إلى أين؟) وبعد أربعة عقود ما زال السؤال ساري المفعول،
وما زالت الأجوبة تتوالى على هذا السؤال دون أن تعرف الجزائر طريقها باتجاه
السلامة الكاملة. والواقع أنّ الإجابات عن هذا السؤال كانت كثيرة ومتشعبة، كما
أنّ الإجابات التي تطرقت إلى المسؤول عن الكوارث السياسية والأمنيّة التي حلّت
بالجزائر وصناعة الموت كثيرة أيضاً. وكتاب: (الحرب القذرة) للضابط
الجزائري الحبيب سوايديّة الذي يتهم فيه المؤسسة العسكريّة باقتراف مجازر فظيعة
ضد مدنيين في الجزائر ليس الوحيد في هذا الموضوع؛ فقد أصدر الضابط السابق
في المخابرات الجزائريّة هشام عبّود الذي كان يعمل بقسم التحاليل والتقييم في
المخابرات الجزائرية عندما كان على رأسها الأكحل عيّاط وبعدها عمل مديراً
لمكتب مدير المخابرات الجزائريّة بعد الأكحل عيّاط محمّد بتشين الذي بدوره أصبح
المستشار الأمني لزروال في وقت لاحق - أصدر كتاباً يحمل عنوان: (مافيا
الجنرالات) وقد أثار زوبعة كبيرة كالكتاب الذي أثاره كتابا: (الحرب القذرة في
الجزائر) لسوايديّة و (من قتل من في بن طلحة؟) ليوسف نصر الله. وفي كتابه
يحمّل هشام عبود المحلل في الاستخبارات الجزائريّة سابقاً الجنرالات - وقد عدّ
اثني عشر جنرالاً منهم مسؤوليّة الضلوع في معظم قضايا الاغتيالات والاضطرابات
السياسية والأمنيّة، ونفس هذا الضابط كشف لجريدة لونوفال أوبسرفاتور الفرنسيّة
أنّ الجنرال العربي بلخير رئيس ديوان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة حاليّاً أصدر
شخصيّاً الأمر باغتيال المعارض الجزائري المحامي علي مسيلي في فرنسا، وكان
عبّود الذي يعيش لاجئاً سياسيّاً في باريس قد سرب معلومات خطيرة للصحافة
الفرنسية عن الأدوار التي اضطلعت بها الأجهزة الأمنيّة في الجزائر في قضايا
خطف المعارضين واغتيال النشطاء السياسيين. وبالتوازي مع حركة نشر الغسيل
الجزائري في الخارج قام النقيب هارون وهو ضابط جزائري سابق والناطق باسم
حركة الضبّاط الجزائريين الأحرار في الخارج الجزائري بكشف العديد من الأسرار
المرتبطة بمشهد الدم المتواصل في الجزائر. وفي تصريحه لجريدة النصر
الجزائرية الصادرة في مدينة قسنطينة شرقي الجزائر اتهم القيادي في جبهة الإنقاذ
الإسلاميّة عبد القادر بوخمخم الجنرال المتقاعد خالد نزار بأنّه المسؤول عن
الأحداث التي تعيشها مناطق القبائل؛ وفي تحليله لمستجدات الوضع الجزائري قال
بوخمخم: إن التحركات القبائليّة لم تكن عفويّة، بل كانت مرتبة بشكل مسبق.
وفي السياق ذاته يذهب سياسي جزائري إلى القول بأنّ الأحداث الأخيرة في
الجزائر هي عبارة عن احتقان شديد داخل مراكز القوة، وقد عودتنا الأحداث
الجزائرية - يقول هذا السياسي الجزائري - أنّ الاحتقان بين مراكز القوة يتمّ
التنفيس عنه عبر مذبحة هنا وهناك، واغتيال هنا وهناك، وتفجير في هذه المنطقة
أو تلك. ومن أسباب استمرار الفتنة الجزائريّة هو نشوء مراكز القوة، وكثرة
الجهات التي تبادر إلى رسم القرار، وفي هذه الحالة ضاع القانون. وعلى سبيل
المثال كانت جهة معينة توافق على إطلاق سراح سجين سياسي معيّن فتقوم جهة
أخرى بإعادة اعتقاله أو خطفه أو اغتياله. وقد قال أحد الضبّاط الجزائريين إنه مع
وجود الجماعة الإسلاميّة المسلحة بقيادة عنتر الزوابري فلا أحد يتساءل عن هويّة
القاتل؛ قال ذلك عندما كان عنتر الزوابري زعيم الجماعة الإسلاميّة المسلحة على
قيد الحياة. وبدورها الجماعة الإسلاميّة المسلحّة عندما كان يتزعمها عنتر الزوابري
أثارت الكثير من الألغاز؛ فالزوابري الذي شارك في الحرب الأفغانيّة وعاد إلى
الجزائر بعدها وجرى سجنه في سجن رقّان الصحراوي مع عشرين ألف معتقل من
أنصار الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، ثمّ أطلق سراحه ليجد نفسه أميراً للجماعة
الإسلاميّة المسلحة بعد قتل أمرائها السابقين أثار العديد من التساؤلات والاستفهامات
والحديث عن اختراقها أمنيّاً بات في حكم المؤكّد؛ ومهما كانت حقيقة تركيبتها؛ فقد
ساهمت هذه الجماعة في صناعة الموت في الجزائر بشكل كرنفالي. وقد لعبت
الميليشيات التي قامت السلطة الجزائريّة بتسليحها والتي جاوز عدد أفرادها 500
ألف في المساهمة أيضاً في صناعة الموت؛ والأخطر فيما لو بدأ انتشار الأسلحة
في المناطق القبائليّة؛ وقد بدأ ذلك حسب معلومات مؤكدة.
إنّ المشرفين على صناعة الموت في الجزائر ومهما كانت مواقعهم ومراكزهم،
ومهما كانت مشاربهم الأيديولوجيّة والفكرية، ومهما كانت أهدافهم يعتبرون أنّ
عدوهم الأساس هو الاستقرار وعودة المياه إلى مجاريها في الجزائر؛ لأنّه ومن
خلال الاستقرار يتأتّى للجميع إعادة فتح الملفات، وإعادة قراءة ما جرى في
الجزائر برويّة وتؤدة؛ ومعنى ذلك تعرية كل الذين كانوا ضالعين في صناعة
الموت في الجزائر. وبروز ظاهرة الاتهامات والاتهامات المضادة بين رسميين
وخبراء في الأجهزة الأمنيّة دليل على أنّ الفتنة الجزائريّة هي دونكيشوتيّة في كثير
من أبعادها؛ ولهذا يتعذّر على كثيرين في الجزائر وخارجها فهم منحنيات الصراع
الدامي في الجزائر والمدموغ بدمغة (سرّي للغاية!!!) .
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(178/94)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
حصانة للقتلة
اعتمد مجلس الأمن قراراً يضمن لمدة سنة الحصانة لجميع الأميركيين
المشاركين في عمليات حفظ السلام في العالم أمام المحكمة الجنائية الدولية. وتبنى
المجلس بالإجماع قراراً يؤكد استمرار عمليات حفظ السلام التي تقوم بها الأمم
المتحدة والتي كانت مهددة من قبل الولايات المتحدة التي تطالب بالحصانة لرعاياها
المشاركين فيها. وتغطي هذه الحصانة التي وردت في القرار رقم 1422 جميع
رعايا الدول التي لم توقع معاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية سواء كانوا
من العاملين في قوات حفظ السلام أو في غيرها. وأعطيت هذه الحصانة لمدة سنة
إلا أن مجلس الأمن عبر عن نيته تجديدها طالما لزم الأمر ( ... ) في الأول من
تموز (يوليو) من كل سنة لمدة جديدة تبلغ 12 شهراً، وأعلن السفير الأميركي
جون نيغروبونتي في اختتام الاجتماع وقد بدا التوتر عليه أن هذا القرار (يحترم
الذين قرروا الاحتكام إلى المحكمة الجنائية الدولية ويحمي لمدة سنة الذين لا يريدون
الاحتكام إليها) . وأضاف: (سنستفيد من هذه السنة لإيجاد حماية إضافية تكون
أفضل وهي التي يستحقها المواطنون الأميركيون في رأينا) . إلا أنه حرص على
التحذير بأن الولايات المتحدة تعتبر أن قيام المحكمة الجنائية الدولية باعتقال أي
مواطن أميركي سيكون (عملاً غير شرعي له عواقب وخيمة) . وكانت الولايات
المتحدة هددت في حال لم تحصل على حماية لرعاياها بوقف كل عمليات حفظ
السلام في العالم مع انتهاء ولاية كل منها عبر رفض التجديد لها.
[صحيفة الحياة، العدد (14360) ]
المقاومة الجديدة!!
س: كوزير للداخلية لا بد أن رأيك سيكون مهماً في موضوع العمليات
الانتحارية التي باتت تثير جدلاً في الشارع الفلسطيني.. ما هو موقفك من هذه
العمليات؟
- أعتقد أن مثل هذه العمليات، في المحصلة لا ينتج عنها أي مكاسب كما
يتصور البعض.. في عمل المقاومة يتحقق مكسب كبير من خلال مكاسب صغيرة،
والمكسب الكبير هو مكسب تراكمي ولكن باعتقادي وقناعتي فإن هذه العمليات لا
تشكل ذلك العمل التراكمي حتى تجلب في النهاية مكسباً كبيراً. يجب على كل
القوى السياسية والفصائل المختلفة أن تتحول إلى العمل السياسي حول السلطة
الفلسطينية والقيادة الفلسطينية بغض النظر عما إذا كانت مؤيدة أو معارضة للسلطة..
في المحصلة يجب أن تعمل جميع الأحزاب والقوى في إطار المصلحة الوطنية
العامة وأن ننتهي من الميليشيات وما شابهها، يجب أن ننتهي منها نهائياً.
هناك استراتيجية سلام نحن ملتزمون بها، والسلطة الفلسطينية أعلنت هذه
الاستراتيجية مرات ومرات وهي ملتزمة بها، ورغم كل ما جرى حتى الآن من
نشاط عسكري في الأرض الفلسطينية من ضربات إسرائيلية للبنية التحتية
الفلسطينية وغيرها فإن استراتيجية السلام هي المعتمدة لدى القيادة الفلسطينية، وما
دام الأمر كذلك فلا بد أن تهيمن هذه الاستراتيجية على النشاط السياسي والنشاط
العام لهذه المنظمات أو هذه الأحزاب والقوى السياسية.. عليها أن تعمل في إطار
هذه الاستراتيجية وليس أن تناقضها أو تدمرها أو أن تعمل بطرق تؤدي إلى ردات
فعل من الطرف الإسرائيلي تؤدي إلى وضع السلطة الوطنية في مآزق صعبة على
الصعد المحلية والإقليمية والدولية. أنا لا أدعو إلى وقف المقاومة وإنما أدعو إلى
مقاومة مدنية شاملة وفي الإطار السياسي للسلطة الوطنية الفلسطينية، بمعنى آخر
في إطار استراتيجية السلام وفي إطار العمل السياسي الذي نقوم به.. علينا أن
نعمل من أجل هذا العمل لتحقيق الأهداف التي نناضل من أجلها في أحسن نتيجة
ممكنة.
[صحيفة الزمان، العدد (1255) ]
لن ينفعكم الفرار إلى الوشم
تنتشر بين الشباب الإسرائيلي ظاهرة جديدة، هي وشم أجسادهم برسومات
يعتقدون أنها ستجلب لهم الحظ وتمنع تعرضهم إلى الخطر إذا ما كانوا عرضة
للعمليات.
ويقول أورن ليفي (29) ، صاحب أستوديو «التنين الأزرق» في مدينة
كريات شمونة: «يصل إليَّ في الأشهر الأخيرة عشرات الشبان طالبين مني وشم
أجسادهم برسومات تحميهم من الخطر» . ويضيف: «هؤلاء الشبان يحدثونني
عن الحظ الذي يتمنونه لأنفسهم، عن تخوفهم من العمليات ومن السفر في الباصات.
وقد وصل إليَّ بعضهم بعد موت رفاقهم في عمليات مختلفة. رغبات جميعهم
متشابهة، إنهم يطلبون وشماً يمنحهم الحظ، تماماً كالشخص الذي يحتفظ بكتاب
التوراة في جيبه» .
كانت إحدى الفتيات التي التقيناها في الأستوديو، وقالت: «انظر ما الذي
يحدث لنا في دولتنا. العمليات تقع في كل يوم تقريباً، وأنا التي أضع وشماً لأول
مرة في حياتي، أبحث عما يساعدني في التغلب على الخوف. أبحث عن شيء
يجلب لي الحظ، وينقذني إذا ما تعرضت إلى عملية، معاذ الله» .
على كتف إلينور حفر ليفي رسماً لنجمة داود المكسورة تتوسطها دمعة كبيرة.
«ربما يفسر ذلك تماماً ما حدث لنا خلال السنة الأخيرة. آلامي وآلام الكثير من
الشبان في البلاد هي آلام حقيقية. إننا نبحث عن شيء يحافظ علينا، من جهة،
ويشكل من جهة أخرى، رمزاً نتضامن معه» ، تقول الشابة، وتضيف: «أنا
أومن بنجمة داود لكنها مكسورة في هذه الأيام التي نواجه فيها العمليات، وتتوسطها
دمعة. ربما أرجع إلى هنا في المستقبل، إذا تحسنت الأوضاع، لأكمل رسم
النجمة وأزيل الدمعة» .
عند مدخل أستوديو ليفي ينتظر الكثير من الشبان، وكل واحد منهم يبحث
عما ينقذه. الكثير منهم يطلبون وشم نجمة داود، كما رسمتها إلينور، وبعضهم
يخرج وقد حفر على جسده وشم نجمة داود النازفة.
[موقع يديعوت أحرونوت - www.arabynet.com]
تـ (شريف) العلمانية!!
قال بسام أبو شريف مستشار الرئيس ياسر عرفات إنه بدأ خطوات تشكيل
حزب فلسطيني جديد مشيراً إلى أنه سيكون حزباً علمانياً ويتصدى للحركات
الإسلامية التي يتنامى دورها داخل المجتمع الفلسطيني، وأنه سوف يطلق على
الحزب اسم (الحزب الديمقراطي الفلسطيني) . وأوضحت مصادر مقربة أن
د / حنان عشراوي، ود / إياد السراج وعدداً من المسؤولين والقيادات السياسية
في السلطة الفلسطينية ضمن 80 شخصية معظمها من نابلس ورام الله ستنضوي
تحت لواء الحزب الجديد.
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد (8065) ]
نحر أهل السنة مستمر
أثار مقربون من نور محمد ناروئي، الزعيم البلوشي الإيراني الذي يعتبر من
الشخصيات السنية البارزة في إيران وقتل في مطلع شهر يوليو الماضي في مدينة
كويتا الباكستانية، عاصمة إقليم بلوشستان الباكستاني، شبهات حول دور الأجهزة
السرية الإيرانية في عملية الاغتيال. وقد قتل ناروئي في هجوم مسلح حيث اقتحم
مجهولون بيته وأطلقوا النار عليه وعلى زوجته فمات هو في الحال بينما تخضع
زوجته للعلاج في المستشفى. واشتهر ناروئي، وهو من أبرز الشخصيات السنية
المعارضة للنظام الإيراني، بمواجهاته مع الحرس الثوري الإيراني في بلوشستان
الإيرانية، واضطر إلى الفرار إلى أفغانستان إثر تعرضه لمحاولات اغتيال،
وأمضى سنوات في مدينة هيرات القريبة من الحدود مع إيران. وبعد سقوط نظام
طالبان وسيطرة زعيم الحرب إسماعيل خان المقرب من إيران على هيرات انتقل
ناروئي إلى كويتا. ويقول أقاربه إن أجهزة الحرس الثوري الإيراني تقف وراء
اغتياله، مشيرين إلى مقتل اثنين آخرين من زعماء البلوش أخيراً، هما محمد عمر
خان ونبي صالح زهي اللذان تقول المصادر البلوشية إن الحرس الثوري دبر
عمليتي قتلهما.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد (8618) ]
مدارس ضد الإرهاب
صرح وزير الداخلية الباكستاني حيدر معين الدين أن الحكومة الباكستانية
بصدد إنشاء مدارس ضد الإرهاب في البلاد لتعزيز سيادة القانون وشن حملة توعية
لتحسين أداء الحكومة في حربها ضد الإرهاب. وقال معين الدين الذي كان يتحدث
إلى برنامج في الإذاعة الباكستانية إن قضية الإرهاب غاية في التعقيد، ولذلك نعمل
في عدة مسارات، وسيستغرق هذا العمل بعض الوقت بطبيعة الحال. وأضاف أن
إطار خطة مكافحة الحكومة للإرهاب يتضمن مشاركة بعض الخبراء من داخل
وخارج باكستان لتدريب عناصر الشرطة ووكالات الاستخبارات الباكستانية من
المقاطعات الأربع في باكستان. بالإضافة إلى ذلك أصدرت وزارة الداخلية
توصيات إلى وزارة التعليم بتضمين بعض النصوص المرتبطة بمكافحة الإرهاب
بالمناهج الدراسية المختلفة. وقال الوزير معين الدين إن وزارة الداخلية تعمل على
تنظيم قوانين التحركات عبر الحدود، وإنشاء قاعدة بيانات للمواطنين الأجانب على
أرض باكستان، وأن باكستان تتفاوض مع الولايات المتحدة لاعتماد 30 مليون
دولار لتفعيل خطة الحكومة الباكستانية. وأشار معين الدين إلى إصدار الجوازات
الباكستانية الجديدة العام المقبل قائلاً إن هذه الخطوة ستسهم في مكافحة الإرهاب
بشكل كبير.
[صحيفة الوطن السعودية، العدد (661) ]
الإرهاب البحري
قامت طرادتان تابعتان للقوات البحرية الإسبانية بمهام مراقبة طالت 725
سفينة، من مجموع 13 ألفاً تم تفتيشها من طرف التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب
المتمركز في بحر العرب. وقام بعض جنود البحرية في منتصف (يونيو)
الماضي بعملية تفتيش في المنطقة المحاذية لعدن، استهدفت مركباً متوسطاً، اشتبه
في نقله لإرهابيين حسبما أوضحت مصادر من طاقم الطرادة المذكورة. وأشار قادة
من القوات البحرية إلى أن المراقبة البحرية تركز على السفن التي تربط جنوب
شبه الجزيرة العربية بالقرن الإفريقي، حيث توجد عدة سفن من العالم الثالث
تستعمل أعلام دول أخرى (على حسب الضرورة) . ويشار إلى أن حوالي 60
سفينة تعود إلى 16 دولة من عدة قارات من بينها زهاء عشرين من الولايات
المتحدة، تعمل في إطار عملية (الحرية الدائمة) لمكافحة الإرهاب، من أجل
مراقبة السفن التي تبحر في المياه الواقعة بين البحر الأحمر والقرن الإفريقي وبحر
العرب بالإضافة إلى الخليج العربي. ويتوزع الأسطول على قوات من الضفادع
البشرية والغوص والتموين والعمليات الخاصة والدوريات من بين قوات أخرى تقوم
بمهام المراقبة وتحديد هوية السفن العابرة وتفتيش المراكب التي تثير الشبهات
بخصوص تهريب الأسلحة أو الإرهاب.
[صحيفة الزمان، العدد (1250) ]
بدأ التقسيم
دخل مسار تقسيم السودان مرحلة النهاية إثر الاتفاق المعلن بين حكومة
الخرطوم وجيش تحرير شعوب السودان بقيادة جون غرانغ والذي يفضي إلى تنظيم
استفتاء حول تقرير المصير بعد فترة انتقالية تدوم ست سنوات. الاتفاق الذي تم
بوساطة إفريقية هيئة تمثل حكومات حركة النمو الجهوي في شرق إفريقيا وبرعاية
أمريكية فصل من الآن في مسألة تطبيق الشريعة في الجنوب التي تعد ملغاة بينما
سيتولى جيش تحرير جنوب السودان تسيير مقاطعات الجنوب إلى أن يتم الاستفتاء.
ويطرح التساؤل هنا عن طبيعة التنازل غير المنطقي من خلال منح المتمردين
السلطة الانتقالية التي كان يفترض أن تتولاها أطراف إفريقية أدت مهمة الوساطة.
موقف الحكومة السودانية لم يفاجئ الكثيرين خاصة أن الخرطوم بدأت تحضر مناخ
التسوية منذ فترة وكان الرئيس الجنرال البشير قد دعا قبل أقل من شهر إلى إحلال
«السلام في إطار سودان موحد» ، ليخلص إلى التنازل المسبق عن السيادة. ولا
يستدعي كثير تخمين لتحديد دوافع الحكومة السودانية التي عانت العزلة الدبلوماسية
المفروضة من واشنطن الواقعة تحت ضغط مجموعات التنصير المنتشرة في أمريكا
وكندا وشركات البترول التي تخشى أن تخسر سباق التنافس على عقود الاستغلال
للثروة الجديدة في السودان. والراجح أن الحملة والضغط لن يتوقفا ما دامت
الخرطوم أبانت عن نقطة ضعف لا ترحم، وهي استعدادها للتنازل وكأنها تريد
التخلص من «عبء ثقيل» بأي ثمن، وربما تمثل الشرط القادم في المطالبة
بتعويضات لسكان الجنوب لنهب خزينة الخرطوم العاجزة أصلاً.
[مجلة العصر الإلكترونية، www.alasr.ws]
11 مليون جاسوس أميركي
أثار قرار الإدارة الأميركية، بالسماح للجهات المعنية باستخدام 4% على
الأقل من الشعب الأميركي، أي أكثر من 11 مليون مواطن، كجواسيس محليين
ومخبرين يعملون لصالح الاستخبارات، غضب وقلق جماعات حماية الحرية
المدنية بالبلاد. فقد تم الإعلان عن القرار في صورة برنامج نشر على موقع وزارة
العدل على الشبكة العالمية يفيد بأنه بدأ في شهر أغسطس استقطاب مليون أميركي
من أكبر عشر ولايات في أميركا للعمل والتدريب في المرحلة الأولى للبرنامج الذي
يهدف لاستخدام المدنيين في نقل معلومات عن «الأنشطة المريبة» في البلاد.
وحين يكتمل تنفيذ البرنامج سيرفع هذا العدد إلى 11 مليون شخص. وهذه الخطوة
التي تأتي في إطار الإجراءات التي اتخذتها إدارة بوش بعد أحداث الحادي عشر من
سبتمبر للسيطرة على الحالة الأمنية في البلاد، تعني أن الولايات المتحدة سيكون
لديها نسبة من المخبرين السريين المدنيين تفوق تلك التي كانت شرطة ألمانيا
الشرقية تمتلكها في ذروة حقبة الحرب الباردة. ويشير الموقع إلى أن الذين سيتم
استقطابهم سيكونون من المتطوعين الذين سيبحث عنهم بين أوساط العمال الذين
يكونون في وضع «يسمح لهم بأن يتعرفوا على الأحداث غير العادية والإبلاغ عن
الأنشطة المشبوهة» ، وسيكون هؤلاء من بين سائقي القاطرات وعمال البريد،
وجامعي التذاكر في الترام والقطارات وأمثالهم. ويتلقى هؤلاء المخبرون
المفترضون تدريبات ومواد وأجهزة معينة للإبلاغ في أقرب فرع تابع لمكتب
التحقيقات الفيدرالي في المنطقة التي يوجدون بها. ويصف مسؤولون من اتحاد
الحريات المدنية الأميركي الخطوة بالخطورة الشديدة، قائلين: «نعرف كلنا أن
مثل تلك التقارير لا يمكن الاعتماد عليها لأن البعض أحياناً يلجأ إلى تلفيق التهم
لمجرد لفت الانتباه أو لتسوية حسابات شخصية» .
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد (8064) ]
تحرير المرأة شرط للتقدم
أكدت الأمم المتحدة أن الدول العربية تمتلك إمكانيات القضاء على الفقر بين
شعوبها على نحو سريع، لكنها تحتاج إلى تثوير قضية تحرير المرأة والدفع باتجاه
تحقيق المزيد من الحريات السياسية، إلى جانب تطوير وتنمية أنظمة التعليم.
وأشارت المنظمة، في تقريرها السنوي حول التنمية العربية لعام 2002م، إلى أن
لدى الدول العربية «الموارد الكافية للقضاء على الفقر المدقع في أقل من جيل
واحد، وأن الالتزام لا الموارد هو العائق» . وقالت ريما خلف هنيدي المشرفة
على الفريق الذي كلف وضع التقرير، وهو أول تقرير من نوعه يؤلفه باحثون
عرب للمنظمة الدولية، إن تحقيق المساواة للنساء، وتوسيع رقعة العلم، ورفع
سقف الحريات السياسية لها أسبقية على أي شيء آخر في هذا السياق. الدول
العربية واقعة في مصيدة الظلامية والتأخر، والاكتفاء بحريات سياسية مقيدة،
وتعريض المرأة لأشكال مختلفة من القمع المتشدد، وتجاهل تدهور مستويات التعليم.
[مجلة المشاهد السياسي، العدد (331) ]
أليس فينا معتصم؟
أكد نادي الأسير الفلسطيني أن عدد الأسيرات الفلسطينيات المحتجزات في
سجن الرملة الإسرائيلي للنساء ارتفع إلى 35 أسيرة بينهن قاصرات، في حين كان
عدد الأسيرات قبل اندلاع انتفاضة الأقصى لا يزيد على 5 أسيرات فقط. وقد
بلغت حالات الاعتقال للنساء الفلسطينيات خلال الانتفاضة وحتى الآن حوالي 60
حالة أفرج عن جزء منهن، بعد إخضاعهن للتحقيق في معتقل المسكوبية، في حين
لا يزال العديد منهن رهن الاعتقال. ولاحظ محامي نادي الأسير الفلسطيني مأمون
الهشيم الذي زار معتقل النساء والتقى بعدد من الأسيرات، وجود قاصرات
أعمارهن أقل من 18 عاماً في المعتقل، ينتظرن وقد أصدرت المحاكم الإسرائيلية
حكماً بالسجن الإداري بحق أسيرتين بعد إخضاعهن للتحقيق، وهذه أول مرّة
تتعرض خلالها الأسيرات للاعتقال الإداري، خلال الانتفاضة الحالية. وناشدت
الأسيرات المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان التدخل الفوري والسريع
لإنقاذهن من الوضع المعيشي السيئ في سجون الاحتلال في ظل حرمانهن من
الزيارات، خاصة أن العديد منهن أمهات تركن خلفهن أطفالاً صغاراً.
[صحيفة البيان، العدد (8069) ](178/96)
بأقلامهن
القوامة
وأثرها في استقرار الأسرة والمجتمع
رهام أديب الزعبي
ينطلق المنهج الإسلامي في بناء الأسرة من خلال نظرة الإسلام لها؛ لأنها
الأساس في بناء المجتمع واستقراره؛ فالأسرة كما نعلم هي اللبنة الأولى في بناء
المجتمع؛ إذا صلحت صلح المجتمع بأسره، وإن فسدت فسد كله.
لقد أحاط الإسلام الأسرة بسياج من النظم والتشريعات حدد بموجبها الحقوق
والواجبات لكل من الزوجين، ووزعت الاختصاصات بما يتفق مع القدرة الجسمية
والحاجة النفسية لكل منهما. فهذه النظم والتشريعات تجمع ولا تفرق، تبني ولا
تهدم، تصلح ولا تفسد، وبذلك يتحقق للمجتمع المسلم الطمأنينة والاستقرار والنأي
عن التفكك والانهيار.
إن من القواعد المهمة التي يستقر عليها بناء الأسرة هي القِوامة التي أوكلها
الله سبحانه وتعالى للرجل بقوله: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ] (النساء: 34) ،
هذه القِوامة التي حاول أعداء الإسلام ودعاة التغريب من أبناء جلدتنا استغلالها في
تحريض المرأة المسلمة عليها مُدَّعين أن المرأة المسلمة تعيش حياة قهر واستبداد
وذل وخضوع واستغلال من قِبَل الرجل، وأنها مقيدة لا تستطيع الحراك إلا بإذنه
وبأمره. فحرضوها وشجعوها على التمرد بدعوى رفع الظلم عنها، وإطلاق
حريتها، ومساواتها بالرجل سواء بسواء.
لقد أصبح واضحاً ومكشوفاً ولم يعد خافياً على أحد اللهم إلا على ذي بصيرة
عمياء أو ذي قلب قد ختم الله عليه أن هذا التحريض ما هو إلا دعوة للتمرد على
أحكام الدين وتشريعاته لتحطيم قواعد المجتمع الإسلامي وأسسه الثابتة، وتدميره من
خلال تقويض دعائمه التي من أهمها على الإطلاق الترابط الأسري والاجتماعي.
نحن نرى أنه لا بد للمؤسسات والشركات التجارية من وجود مدير أو رئيس
لها يدير شؤونها، وما على العاملين بها إلا السير وفق توجيهاته الإدارية. والأسرة
أليست هي الأخرى مؤسسة وبحاجة إلى رئيس يقوم بالإشراف عليها؟ وكيف يمكن
للأسرة أن تستقيم ولها رئيسان يتنازعان أمرها؟ ومن أحق بهذه الرئاسة: المرأة أم
الرجل؟ وهل قوامة الرجل على الأسرة إلغاء لشخصية المرأة كما يدَّعي المنحرفون؟
إن الخصائص التي منحها الله - سبحانه - للرجل من قوة وشجاعة ورباطة
جأش وتحمل للمشاق والصعاب تتناسب وهذه المهمة التي أوكلها الله إليه؛ فهي
تجعله أقدر على القوامة وإدارة الأسرة والسير بها إلى بر الأمان. أما المرأة فهي
تفتقد لتلك الخصائص الموجودة عند الرجل وهي غير مؤهلة للقوامة؛ لأنها زُوِّدت
بخصائص تتناسب ومهمتها في هذه الحياة وهي حضانة النشء وتربيته ومنحه ما
يحتاجه من رقة وعطف ولين، وغير ذلك مما تتميز به المرأة عن الرجل.
فالله - سبحانه وتعالى - قد خلق المرأة والرجل، وزودهما بالصفات الجسمية
والنفسية التي تتناسب ومهمة كل منهما.
يقول صاحب الظلال - رحمه الله -: «إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء
شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني، ولا إلغاء وضعها المدني،
وإنما هي وظيفة داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة وصيانتها
وحمايتها» [1] .
فمسألة القوامة مسألة خطيرة لا يجوز أن تتحكم بها أهواء البشر ونزواتهم،
ولها من الأهمية ما يدعو إلى الإصرار عليها من قِبَل الرجل وعدم التفريط بها؛
فهي مسؤولية كبيرة ألقيت على عاتقه وسيُسأل عنها يوم القيامة. يقول صلى الله
عليه وسلم: «ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يَحُطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة
الجنة» [2] . وقال: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.. والرجل راع في
أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها..»
[3] .
فلا يجوز للرجل المؤمن المسلم أن يخضع لدعوات التغريب وأعداء الإسلام
الحاقدين والاستجابة لهم ليثبت أنه رجل عصري ومتحرر، وأنه من أنصار المرأة
والحفاظ على حقها؛ فهذا لا يجوز؛ لأن الذي شرع القوامة هو الخالق سبحانه
وتعالى، وهو أعلم بمن خلق وما يصلح لهم وما لا يصلح: [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] (الملك: 14) .
إن أكثر المشكلات والخلافات الأسرية والعائلية والاجتماعية تنشأ بسبب تنازل
الرجل عن حقه في القوامة وتسليمها للمرأة. وما نشاهده اليوم من نشوز كثير من
النساء وتمردهن ما هو إلا نتيجة لسلبية الرجل وتخاذله في هذه المسألة.
فلو أدرك الرجل خطورة تخليه عن القوامة ونتائجها السيئة التي ستعود عليه
في المستقبل وعلى أسرته لعض عليها بالنواجذ.
كم نرى من رجال ملتزمين دينياً إلاَّ أن زوجاتهم أو بناتهم سافرات متبرجات
كاسيات عاريات. يقول صلى الله عليه وسلم: «سيكون في آخر أمتي رجال
يركبون على السروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المسجد نساؤهم كاسيات
عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن؛ فإنهن ملعونات» [4] .
كم من الرجال من نجده يعيش همّاً بالليل وذلاً في النهار نتيجة تراكم الديون
عليه من جراء طلبات زوجته التي لا تنتهي ولا تتناسب مع دخله المادي؛ وذلك
لإسكاتها وإرضائها أو خوفاً منها؛ فمن الذي دفعها إلى هذا؟ أليس هو تخلي زوجها
عن حقه في القوامة؟
وكم مِن النساء مَنْ حاولت أن تسلخ زوجها عن والديه وتخلق الفتنة وتزرع
الفرقة بينه وبين أشقائه لتبعده عنهم وتلصقه بوالديها وإخوتها وأقاربها؛ تسلط
الأضواء على كل خطأ يصدر عن أهل زوجها وتغض الطرف عن محاسنهم. ولو
كان الأمر يتعلق بأهلها لانعكس الأمر تماماً. ومن المؤسف حقاً أن مجتمعنا يعاني
الكثير من هذه الأمور. إن السكوت عن هذه الأمور وتجاهلها دون السعي لإيجاد
حل لها سيؤدي حتماً إلى العداوة والبغضاء بين أفراد العائلة الواحدة. وفي اعتقادي
أن السبب الرئيس في هذه المسألة يعود إلى سلبية الرجل وضعف شخصيته وتنازله
عن حقه في القوامة.
إن المرأة إذا كانت تعاني من ضعف الوازع الديني ولا تعي ما لها من حقوق
وما عليها من واجبات سوف تحاول إخضاع زوجها لها بشتى الطرق والأساليب؛
فإذا وَجَدَت تنازلاً واحداً منه سعت إلى المزيد حتى تتم لها السيطرة التامة والتحكم
فيه كما تشاء، ثم تفرض سيطرتها على المنزل بكامله ويصبح الزوج المسكين
عندها مجرد بنك لا أكثر ولا أقل.
فمن المسؤول عن ذلك؟! واللهِ إنه الرجل وليس أحداً غيره. يقول صاحب
الظلال - رحمه الله -: «لعل من الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط
وفساد ومن تدهور وانهيار، ومن تهديد بالدمار والبوار في كل مرة خولِفَتْ فيها هذه
القاعدة فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة، واختلطت معالمها، أو شذت عن قاعدتها
الفطرية الأصلية» [5] .
وهنا سؤال يطرح نفسه: هل هناك دور للمرأة في استقرار الأسرة؟
نعم! إن دور المرأة لا يقل أهمية عن دور الرجل؛ لأنه مكمل له؛ وينجلي
دورها هنا في طاعة الزوج في المعروف، ولو لم يكن لطاعة الزوج أثر إيجابي
بالغ لما حض عليه وأرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن
الهوى إن هو إلا وحي يوحى؛ فقد وردت أحاديث كثيرة تحض على هذا الأمر
ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها،
وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة
شئت» [6] . وقال أيضاً: «أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة»
[7] .
وفي المقابل إذا باتت المرأة وزوجها غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح
[8] . وطاعة الزوج تكون في غير معصية الله سبحانه وتعالى؛ إذ «لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق» [9] .
وتكون طاعته في حضوره وفي غيابه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يعلم
خائنة الأعين وما تخفي الصدور، [فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ
اللَّه] (النساء: 34) .
إن طاعة الزوج واحترامه وتقديره يساعد على تنمية المحبة في قلبه لزوجته،
والعطف والحنان عليها مما يشعرها بالاطمئنان والأمان الذي سينعكس على أفراد
الأسرة جميعهم مما يساعد على تماسكها ويبعدها عن التفكك والانهيار.
ولتعلم المرأة المسلمة أنه ليس من مصلحتها إطلاقاً ولا من مصلحة أبنائها،
بل ولا من مصلحة ذويها أن تحاول سلب زوجها القوامة؛ فإن تمادت في ذلك
واستطاعت السيطرة والتحكم في طفولة الأبناء فسوف تتلاشى سيطرتها عليهم في
عمر المراهقة، هذا العمر الذي يتميز بالتمرد والعصيان؛ فهم في حاجة ماسة إلى
سلطة قوية وحازمة وهذا ما تفتقده النساء عموماً؛ لأنه ليس من طبيعتهن القوة
والحزم وإنما اللين والعطف والحنان.
فلتعد المرأة المسلمة إلى ظلال الشرع الحنيف الذي يحميها وأسرتها من تلك
الفتن التي عصفت بالمجتمع الإسلامي تحت مسمى حقوق المرأة ومساواتها بالرجل
وتمردها على كل القيم والأخلاق الفاضلة الكريمة.
وليعلم كلٌّ من المرأة والرجل أن الأساس الذي يقوم عليه التشريع للناس
وتحقيق مصالحهم وسعادتهم في هذه الحياة هو ما أمر الله به سبحانه وتعالى وأذن به،
وليس ما أمر به أعداء ديننا الحنيف.
قال تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ
لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب: 36) .
فلا بد من تعاون المرأة والرجل سوياً للحفاظ على كيان الأسرة وأمنها؛ وذلك
من خلال سد كل الثغرات التي تؤذيها؛ ولا يتحقق هذا الأمر إلا بالالتزام الكامل بما
أمر به الشرع وأرشد إليه حتى يكونا القدوة الحسنة والمحضن الآمن والمستقر
لأبنائهما؛ لأن القدوة الحسنة الصالحة هي الأساس المتين لتربية جيل فاعل وبنّاء
في المجتمع؛ فإن فَعَلا ذلك يكونا قد قاما بأداء ما عليهما من الحقوق والواجبات التي
أوجبها عليهما الإسلام، ويكونا قد شاركا بجهدهما في تكوين الأسرة الصالحة بكل
الخصائص والمقومات التي دعا إليها ديننا الإسلامي الحنيف مما يسهم في بناء
مجتمع متميز بآدابه وسلوكه وقيمه ومبادئه العظيمة، وتكون القدوة الصالحة لباقي
المجتمعات ويتحقق فينا قوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] (آل عمران: 110) .
ولا بد من كلمة أخيرة أود أن أوجهها إلى الرجل وهي أن مفهوم القوامة في
البيت ليس معناها إلقاء الأوامر والتحكم الجائر أو القهر والاستبداد أو الظلم أو
الاستعباد لمن تحت رعايته.
يقول تعالى: [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف] (النساء: 19) ، ويقول صلى الله
عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهله» [10] .
وقال تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21) .
فمن الواجب على الزوج المسلم أن يكون عطوفاً حنوناً ومحباً لأسرته، ليِّناً
في المواقف التي تتطلب اللين، حازماً في المواقف التي تستدعي الحزم.
ومن مستلزمات القوامة أن يكون الزوج قدوة حسنة في التزامه الشرعي
وسلوكه حتى يستطيع أن يؤثر فيمن تحت رعايته. يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ]
(الصف: 2-3) .
ويقول تعالى أيضاً: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (البقرة: 44) .
فإن استطاع الرجل أن يحقق تلك الصفات فإنه - بإذن الله - يتمكن من
الوصول بأسرته وبمجتمعه إلى بر الأمان.
وعندئذ يظهر للجميع أثر القوامة الشرعية التي كلَّفَ الله - سبحانه وتعالى -
بها الرجل لتحقيق استقرار الأسرة الذي ينعكس أثره على المجتمع الإسلامي كله.
__________
(1) عند تفسير الآية 14 من سورة النساء، ج2، ص 652.
(2) البخاري، ح/6617.
(3) البخاري، ح/844، 2232، 2368.
(4) مسند أحمد، ح/6786.
(5) عند تفسير الآية 14، من سورة النساء، ج2، ص 651.
(6) مسند أحمد، ح/1573، وسنن الترمذي، ح/1573.
(7) الترمذي، ح/1081.
(8) مسند أحمد، ح/1829.
(9) مسند أحمد، ح/1041، 19735.
(10) رواه الترمذي، ح/3830.(178/100)
مصطلحات ومفاهيم
دراسات في التعددية الثقافية
Multicultura lism
أ. د. محمد يحيى [*]
من المجالات البحثية الجديدة في محيط العلوم الإنسانية توجُّهٌ ظهر وتطور
على مر عقد التسعينيات تحت اسم lism Multicultura وهو ما يمكن ترجمته
بدراسات التعددية الثقافية أو التنوع الثقافي. ويستند هذا الفرع في المباحث الثقافية
الفكرية (وكذا الفلسفية والأدبية والاجتماعية) إلى نطاق آخر من الأبحاث كان قد
نما في عقدي السبعينيات والثمانينيات في الغرب ولا سيما في بريطانيا، وإلى حد
أقل في الولايات المتحدة تحت مسمى «الدراسات الثقافية» . وكان هذا المجال
الأخير يسعى وبتأثير فكري يساري أو حتى ماركسي واضح إلى توسيع مجال
الدراسات الأدبية والفكرية والتقليدية بحيث تدخل في نظرها الجوانب الاجتماعية
والاقتصادية الأوسع تحت اسم أو مصطلح «الثقافة» الذي يفترض أنه ينتظمها
كلها، وإذا كان مجال الدراسات الثقافية قد بدأ وهو متأثر بالتوجه اليساري الغربي
الواضح وفي رد فعل لسيطرة الفكر الليبرالي أو اليميني هناك على الأبحاث الأدبية
والثقافية، إلا أنه طور بعد ذلك توجهاته الخاصة التي جمعت بين اليسار وبين
التيارات الفكرية الفلسفية الجديدة التي كانت قد أخذت تؤثر في حياة الغرب العقلية
في تلك الفترة مثل حركات ما بعد البنيوية والتفكيكية، ودراسات الحقبة ما بعد
الاستعمارية، والحركة التاريخية الجديدة.
وكان للحركتين الأخيرتين على وجه الخصوص الدور الأكبر أو التأثير الأوقع
في نشوء ونمو مجال دراسات التعددية الثقافية الذي ينطلق من مبدأ ملاحظة تعدد
وتنوع الثقافات ليس فقط على مستوى العلم ككل وإنما كذلك داخل سياق الحضارة
الغربية ذاتها؛ بل وداخل البلد الواحد أو الثقافة الفرعية الواحدة. ويفهم هذا المجال
الثقافة على مستويات عدة تندرج من العموم إلى الأخص كما يراها على أنها تشمل
العديد من الظواهر الاجتماعية وليس الأدبية أو الفكرية أو اللغوية فقط. وينطلق
مجال دراسات التعددية الثقافية في هذا المبدأ ليصول ويجول في بحث شتى ظواهر
التفاعل والعلاقة والتأثير المتبادل بين مختلف الثقافات التي توجد داخل مجال واحد
قد يكون الدولة القطرية أو الإقليم الجغرافي أو المستوى الاجتماعي الطبقي المعني
أو الفترة التاريخية الواحدة أو الأعمال الأدبية والفكرية لكاتب أو كتاب منخرطين
في حركة واحدة أو ينتجون بأسلوب معين، وإذا كان هذا المجال في المباحث يبدو
واسعاً إلى حد يسمح تقريباً لكل شيء بأن يندرج تحته طالما يعنى بعلاقة ما بين
ثقافتين أو أكثر في ظل مفهوم متوسع للثقافة؛ فإن هذا قد يعود في الجانب الأكبر
إلى مناخ النسبية الفكرية، بل والتشتت الفكري أو التوسع والنزعة الاستيعابية التي
أصبحت تميز الفكر الغربي عموماً مع التسعينيات؛ حيث تتجاور شتى المدارس
الفكرية حتى المتناقضة في مبادئها مع بعضها، وتتبادل التأثير والتفاعل، وتتعايش
حتى في فكر الباحث الواحد؛ ولكن على الرغم من هذا التوسع الذي يقرب من
التشتت والاضطراب فإن هناك توجهات ومبادئ واضحة تحكم نشاط دراسات
التعددية الثقافية حتى وإن كان من الناحية النظرية على الأقل أولها وأبرزها هو
الرغبة في التعامل مع ظاهرة العولمة الطاغية التي تتخذ شكل هيمنة وسيطرة
وتغوُّل ثقافة واحدة هي الثقافة الغربية عموماً، وعلى الأخص مكونها الأمريكي
المعاصر في أحد أشد مظاهره شراسة وسطحية وتوسعية على سائر المجال الثقافي
في العالم كله؛ مع تنحية وإقصاء ومحو شتى الثقافات الأخرى المغايرة حتى وإن
كانت داخل الحضارة الغربية نفسها؛ ناهيك عما يحدث لثقافات العالم الثالث.
وينطلق قسم كبير من مباحث دراسات التعددية الثقافية في توجه معلن أو مضمر
لمتابعة ظاهرة الهيمنة الثقافية الغربية الأمريكية وكشفها، وتبيان شتى الآليات التي
تعمل بها والعناصر التي تتألف منها وتبعث فيها القوة، ويفهم من هذا أن المغزى
الذي يتمخض عن هذه الدراسات يدفع إلى الحفاظ على هوية ووجود تلك الثقافات
الأخرى، وإبراز قيمتها وأهمية استمرار وجودها في سياق الحفاظ على التعددية
والتنوع الثقافي في عالم ينبغي ألا يتحول إلى ضيعة تحتكرها العولمة المتغولة في
هيمنتها الكاسحة وإقصائها للغير. وصحيح أن هذه الروح تسود بين عدد من
الباحثين في هذا المجال ولا سيما بعض المنتمين منهم إلى بلدان من العالم الثالث
مثل الهند أو دول إفريقية معينة؛ غير أن الروح الغالبة تظل متأثرة بالمنظور
الغربي حتى وهي تعلن أنها تحارب الأحادية الثقافية في المنظور الغربي.
ذلك أن الحديث عن تعددية ثقافية على شتى المستويات والسياقات والاعتراف
بها وكشف تعرضها للزوال على يد حركة العولمة وطغيان الثقافة الغربية الأحادية،
ومن خلال أحد أشد أشكالها سطحية (النموذج الأمريكي) لا يؤدي بالضرورة إلى
فهم هذه الثقافات وتقييمها على النحو الصحيح والمرغوب على الأقل من وجهة نظر
أصحابها، بل إن المتتبع لبعض الدراسات المؤلفة في هذا المجال البحثي الجديد
يلاحظ أن النظرة إلى هذه الثقافات الأخرى وبالذات الإسلام لا تزال متأثرة بالتوجه
الغربي القديم الذي يحط من شأنها عموماً، ولا يراها إلا من خلال الأعين الغربية،
ولا يتصور لها وجوداً إلا معدلة ومنقحة ومطورة في سياق وخلفية ومناخ عام
عالمي هو نفسه المجال الغربي الثقافي برؤاه ومنطلقاته القيمية ذاتها، وهذه النقطة
الأخيرة على جانب كبير من الأهمية وبالذات فيما يتعلق بالثقافة الإسلامية؛ فنحن
نسمع هذه الأيام كثيراً ونقرأ وبترحاب وارتياح عن دراسات كثيرة حول الإسلام
بأقلام غربية يقال إنها تنصفه وتنتقد المواقف الفكرية الغربية التي تشوه صورة
الإسلام وتعاديه؛ غير أن هذه الدراسات المنطلقة من منظور مجال التعددية الثقافية
لا تدافع عن الإسلام بطبيعة الحال، وإنما هي في أفضل الأحوال تنظر إليه من
رؤية فولكلورية (إن جاز التعبير) وترمي فيه ثقافة أخرى قديمة بدائية بائدة أشبه
بثقافات بعض الشعوب الإفريقية والآسيوية يتعرض مثلها للاجتياح والضياع تحت
وطأة العولمة الثقافية التي يقودها الغرب. وإذا كانت هذه الدراسات تبدي التعاطف
مع الثقافة الإسلامية في تعرضها لتلك الهجمة الغربية فهذا هو التعاطف الذي تحظى
به سائر الثقافات الفولكلورية (الشعبية) ، والمنطق الذي يحكم دراسات التعددية
الثقافية في هذا الصدد هو أنه يحق لتلك الثقافات المغايرة لثقافة الغرب أن توجد
وتنشط؛ لكنها وبالذات القديمة والفولكلورية منها لن تستطيع ذلك بالفعل إلا في حالة
واحدة فقط وهي حالة أن «تواكب» العصر الجديد (العولمي الغربي) وتستعمل
أدواته هو لكي تستطيع العيش في ظل سيطرته التي لا ينكرها أحد. وفي واقع
الأمر فإن هذا المنطلق الذي يحكم عمل مجال دراسات التعددية الثقافية فيما يتعلق
بالإسلام والثقافة الإسلامية بالذات يعيدنا بضعة عقود أو حتى قرن كامل وأكثر إلى
الوراء، وبالتحديد إلى القرن التاسع عشر؛ حيث بدأنا نسمع ذلك الشعار المألوف
وهو ضرورة تحقيق عصرنة الإسلام لكي يتماشى مع «العصر» الحديث؛ ذلك
هو شعار العلمنة والتغريب الذي تستَّر كثيراً وراء دعوات بريئة مثل التجديد
والتطوير والتحديث وما أشبه، ولعله من المفارقة أن نفس الموقف يتكرر دون كبير
تغيير من خلال مجال درس حديث هو التعددية الثقافية بعد أن كان قد ظهر أصلاً
من خلال مباحث الاستشراق والفكر الغربي الليبرالي في القرن التاسع عشر.
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(178/103)
في دائرة الضوء
حوار الأديان من منظور يهودي
يوسف رشاد
بادئ ذي بدء فإن كاتب هذا المقال الذي نحن بصدده ليس كاتباً صحفياً
متخصصاً ولا مفكراً من المفكرين اليهود؛ وإنما هو المستشار القانوني الحالي
للحكومة الصهيونية، وأحد غلاة التطرف اليميني الصهيوني، ومن ثم لم تخل
دعوته لإجراء حوار مع العالم الإسلامي على حد تعبيره والتي أطلقها من خلال
صحيفة هاآرتس الإسرائيلية من دوافع صهيونية خبيثة، خاصة في هذا التوقيت
الذي يعاني فيه العالم الإسلامي من التفكك والعشوائية في اتخاذ القرارات وتكالب
أهل الباطل عليه؛ فهل حان الوقت لتنفيذ المخطط الصهيوني الكامل في المسجد
الأقصى؟ وهل تعكس طبيعة العلاقات بين اليهودية والنصرانية الكهنوتية حالياً،
والحوار القائم بينهما الآن رغبة صادقة من الكاتب الصهيوني للتوصل إلى حلّ ومن
ثم الوقوف أمام ما يسمونه بالأصولية الإسلامية؟ وما هو تصوره لما سيسفر عنه
هذا الحوار لو أجري؟
أسئلة كثيرة تطرحها هذه الدعوة ولا نجد لها إجابة محددة في هذا التقرير.
يقول الكاتب الصهيوني: منذ فترة ونحن يخالجنا إحساس بأن أحد التحديات
التي تواجه دولة (إسرائيل) هو إجراء حوار مع العالم الإسلامي، وربما كان
الواجب يحتم علينا أن نتشجع أكثر في هذا الاتجاه منذ سنوات، إلا أن ذلك لم
يحدث، وكان من الطبيعي أن يكون لذلك أسباب ربما كان بعضها يكمن في
الإحساس بالريبة المطلقة إزاء الحوار مع الأصولية الإسلامية، وربما كان بعضها
الآخر يكمن في الصراع العنيف الذي يخوضه اليهود ضد العنف وإراقة الدماء
اللذين يرتكبان باسم الإسلام، وعلى رأسهما (إرهاب المنتحرين) ! وبخلاف ذلك
فإن هناك اتجاهات أخرى تقف في وجه (إسرائيل) من جانب عناصر إسلامية
متطرفة كثيرة تحول بيننا وبين هذا الحوار من بينها عناصر موجودة بالوسط
العربي في (إسرائيل) . بيد أن ذلك لا ينبغي أن يُنسينا حقيقة أساسية هي وجود
عالم إسلامي كبير قدّر علينا التاريخ أن نعيش في حوار معه. إن التاريخ الإسلامي
في العلاقات مع اليهود (ولم يقل إن تاريخ العلاقات الإسلامية مع اليهود) لم يكن
بصراحة ذا لون واحد. حقاً كان اليهود في السنوات التي عاشوا فيها في ظل
الإسلام قد حظوا باستيعاب ملائم، كما حدث في الإمبراطورية العثمانية بعد طرد
اليهود من إسبانيا، ومع أنهم كانوا في وضع «أهل الذمة» إلا أنهم عوملوا وهم
على هذا النحو بتسامح نسبي. نفس الشيء حدث أيضاً إبان سيطرة الإسلام على
القدس والتي تشير شهادات ووثائق المحكمة الإسلامية في العصر الإسلامي إلى
نزاهة في معاملة اليهود.
حقاً إن ظهور التطرف الإسلامي وتأثيره على الاعتدال الإسلامي، والمظاهر
القاسية والصعبة، كالانتحار في سبيل السماء، لم يسهل قيام مثل هذا الحوار،
وفي نظري فإن ظاهرة الانتحار تعد تحريفاً للإسلام؛ ذلك الدين الذي يحتوي على
كثير من المكونات البشرية والثقافية الغزيرة.
ويستطرد هذا الخبيث قائلاً: والسؤال المطروح على بساط البحث حالياً هو:
هل هناك احتمال لإجراء حوار مع عناصر إسلامية يكون مرتكزاً على التسامح
وعلى مصالح مشتركة في السلام والازدهار؟ إنني لست متأكداً من ذلك؛ لكن من
واجبنا أن نحاول؛ فذلك من شأنه أن يجذب اهتمام عناصر بالعالم الإسلامي
والعربي، وعناصر أخرى بالعالم طبعاً.
ويذكر أن معاهدة السلام التي وقعتها كل من إسرائيل والأردن في عام 1994
م تتضمن بنداً تمت صياغته بعد محادثات جرت بين الأمير عبد الله وبيني وحظي
بمباركة الملك حسين ورئيس الحكومة آنذاك إسحاق رابين، ثم صادق عليه بعد ذلك
كل من الكنيست والبرلمان الأردني، وهذا نص الاتفاق: [بند 9 (3) ] «يعمل
الطرفان معاً على دفع وتطوير العلاقات الدينية بين الأديان السماوية الثلاث بغية
العمل معاً من أجل التوصل إلى تفهم ديني والتزام أخلاقي وحرية العبادة الدينية
والتسامح والسلام» .
وهذا البند لم يطبق، ولم يعمل به لأسباب مختلفة، بيد أن الرسالة والغاية من
وراء هذا البند كانتا واضحتين وكانتا بمثابة مُثل دينية وسياسية وأخلاقية. لقد حدث
تقدم كبير في العلاقات بين النصرانية واليهودية في هذه الاتجاهات، ومن ثم فإنه
ليس ثمة مجال في رأيي لليأس في كل ما يتعلق بالإسلام.
لقد تركز جزء من المفاوضات التي جرت في كامب ديفيد في صيف عام
2000م حول القدس وجبل المسجد الأقصى، وكان هناك إحساس في هذه
المحادثات أن الفلسطينيين لا يعترفون إطلاقاً بالرابطة التي تربط (إسرائيل) بجبل
المسجد الأقصى، وهو إحساس اندهش له حتى الرئيس كلينتون بحكم معرفته بالعهد
القديم، وهذا مجال يمكن التوصل إلى تفاهم بشأنه يكون مرتكزاً على بدهيات
ومسلَّمات تاريخية روحية كانت معروفة ومعترفاً بها أيضاً في العصور الماضية.
إن تحت يدي صفحات من دليل المسجد الأقصى الذي كان قد أصدره المجلس
الأعلى للشؤون الإسلامية في عام 1929م والتي تشير إلى الخلفية التاريخية للمسجد
الأقصى وقد جاء فيها: «إن علاقة المسجد بهيكل سليمان لا تحتمل أي جدال» .
وتلك أيضاً النقطة التي قيل فيها حسب الاعتقاد الكوني والإيمان العالمي:
«وبنى داود هناك مذبحاً للرب، وقرّب القرابين والأضاحي» (سفر التكوين)
لقد كُتب هذا في عصر لم يكن بسيطاً في حد ذاته، ولكنه مثل تفهماً واقتناعاً
منذ سنوات عديدة بلا منازع فيما يتعلق بالجذور التاريخية التي أخذت تطمسها
بمضي الوقت التطورات السياسية وكذلك العنف.
وليس هناك سبب يدعو إلى عدم العودة إلى هذه التفهمات، وهذا الجهد يتفق
بالنسبة لنا وقيم دولة (إسرائيل) كدولة يهودية وديمقراطية، وهناك حاجة إلى بذل
جهد فكري عميق لتحقيق هذا الغرض يشترك فيه العلماء الدينيون والمفكرون
والأكاديميون والقضاة من (إسرائيل) وخارجها.
وعلى حد علمي هناك شخصيات في العالم الإسلامي سوف تكون مهتمة بهذا
الموضوع، وفي هذا الوقت بالذات، حيث تعتري الكآبة علاقات العالم الغربي مع
الإسلام، حتى وإن كان الغضب الحقيقي موجهاً ومنصرفاً إلى المتطرفين به؛ فإن
ثمة مجالاً لقيام إسرائيل بفتح كوة والتفكير في إجراء حوار معه.
ثم ذكرت صحيفة هاآرتس الصادرة بتاريخ 27/12/2001م تقول: «إن
الأدباء والمفكرين اليهود اعتادوا الآن على التذكير بأنه كان للشعب الإسرائيلي خبرة
وتجربة في حياة التعايش والتسامح تحت الحكم الإسلامي أفضل من خبرتهم تحت
(الحكم المسيحي) ؛ فالكتب الجديدة التي صدرت عن النصرانية مؤخراً تشير إلى أن
هناك عداءً ثيولوجياً مبدئياً لليهودية موجودة بهذه الكتب؛ في حين أن الإسلام يرى
أن اليهودية كدين أقل دونية ووضاعة لكن من الممكن احتماله. ومن الناحية
التاريخية فإن هناك حقائق كبيرة وكثيرة تؤكد ذلك، إلا أن يهود الشتات وخاصة في
الولايات المتحدة التي توجد بها مجموعات إسلامية كبيرة لا يمكنهم تجاهل حقيقة أن
الأصولية الإسلامية هي التهديد الرئيسي والكبير الذي يتعرضون له حالياً.
إن التطرف الإسلامي يصنف اليهودية في العالم لا مع الصهيونية فقط وإنما
مع دولة (إسرائيل) ؛ فاليهودية بالنسبة للإسلام المتشدد تعني الصهيونية ودولة
إسرائيل أيضاً، وعلى الرغم من سقوط» طالبان «فإن الإسلام المتطرف هو
الذي يحدد اليوم علاقة الإسلام باليهودية، وفي المقابل، فإن معظم المؤسسات
المسيحية تسعى إلى تحسين العلاقات مع اليهودية.
إن الأدباء اليهود مشتاقون إلى العصر الذهبي (عصر الثقافة اليهودية في
الدول الإسلامية) ولكن الإسلام اليوم، وليس المتطرف فقط، هو الذي يوفر البنية
الدينية للعنصرية العربية المعادية للسامية.
إن الثقافة الغربية هي ثقافة نصرانية، وفي المنظور التاريخي، فإن الصدام
الفكري المبدئي لليهودية هو مع المسيحية لا مع الإسلام؛ بيد أن الأصولية
الإسلامية هي الآن بالفعل في مرحلتها العدوانية» .
إن الدعوة التي تبنتها بعض الصحف الإسرائيلية والمتمثلة في دعوة الإسلام
(الرسمي) للحوار مع اليهودية والنصرانية الكاثوليكية أو الإنجيلية هي دعوة لها
مغزى معين ودلالة واضحة، وقد انبثق عن هذه الدعوة المؤتمر المشبوه الذي عُقد
في الإسكندرية يومي الإثنين والثلاثاء من منتصف شهر يناير من عام 2002م؛
وذلك بناءً على اقتراح الحاخام اليهودي مايكل مليكور نائب وزير الخارجية
الصهيوني والذي شارك فيه من الجانب اليهودي الحاخام «إلياهو بقشي دورن»
كبير حاخامات (إسرائيل) والشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، وامتنع بابا
الكنيسة الأرثوذكسية «شنودة» عن الحضور.
وفي ظل الغموض الذي أحاط بهذا المؤتمر المشبوه إلا أن الحاخامات
الصهاينة استطاعوا جر المشاركين إلى تبني وجهات نظرهم، ومما قاله الحاخام
بقشي في ختام المؤتمر بعدما شكر الدكتور محمد سيد طنطاوي وأثنى على فتاواه:
«أنا أكن الاحترام والتقدير لما أبداه الشيخ محمد سيد طنطاوي ومعه رجال الدين
المسلمين من شجاعة وعزيمة في إفتائهم الحاسم الذي يقضي بأن قتل الأبرياء يتنافى
وأصول الدين، وهو ليس فريضة بل جريمة وتجديف لاسم الله، إن هذا الإفتاء
الذي يتنافى وإفتاءات أخرى تشجع المنتحرين على قتل الأبرياء، يجلب الاحترام
والتقدير للديانة الإسلامية وينقذها من السمعة الخطيرة كديانة غير إنسانية وخطرة.
نحن نناشد جميع رجال الدين من جميع الديانات المؤمنة بالرب الواحد الرحمن
والأمين، أن يحذوا حذو الشيخ سيد طنطاوي وأن يحذروا من الخطر الذي يهدد
العالم، أي من الأعمال الإرهابية ومرتكبيها» .
نخرج من هذا أن هدف المؤتمر الذي عُقد في الإسكندرية وهيأت له قبل ذلك
الصحافة الإسرائيلية كما أوضحنا هو الخروج بفتوى تدين العمل المشروع الذي
يقوم به أبطال المقاومة الفلسطينية، وبكل لؤم وخبث ومكر اليهود أرادوا توريط
شيخ الأزهر بتبني موقفهم من العمليات الاستشهادية التي يقوم بها أبناء الشعب
الفلسطيني؛ ولكن شيخ الأزهر لم يوقع على الوثيقة النهائية؛ لأنه يعلم خباياهم،
وهو الذي قال في رسالته التي نال عليها درجة الدكتوراه:
* يجب أن نوقن بأن الأيام دول، وأن ما أصابنا بفلسطين من الممكن تداركه،
متى تحلينا بالإيمان الصادق وبالعزم القوي وبالتصميم على استعادة أرضنا
المقدسة، وباتخاذ الوسائل الكفيلة بذلك.
* يجب على الأمة الإسلامية والعربية، أن توحد قيادة المعركة وأن تسلمها
لأيد أمينة مخلصة، وأن تحوطها بالتأييد إذا أحسنت واستقامت، وأن تنأى بها عن
الخلافات والمنازعات التي قد تحدث بين الزعماء والملوك والرؤساء، أريد أن
أقول: إن إنقاذ فلسطين من السرطان الصهيوني يحتاج إلى جيش موحد القيادة
محدد الهدف معد إعداداً كاملاً وقوياً من جميع النواحي، مؤمن بقدسية المعركة التي
يخوضها، بعيد عن التأثر بخلافات السياسيين الذين بيدهم مقاليد الحكم في البلاد
العربية.
* يجب أن تبذل الأمة العربية والإسلامية قصارى جهدها في التذكير بقضية
فلسطين، وأن تقوم وسائل الإعلام المختلفة في كل دولة بالدعاية الواسعة لها.
* يجب أن تقف الأمة الإسلامية والعربية من الدول التي ناصرت الصهيونية
موقفاً قوياً حاسماً.
* يجب أن تعمل الدول العربية والإسلامية على تقوية الفدائيين الفلسطينيين
من كل النواحي، وأن تختارهم من العناصر المأمونة والمؤمنة بربها وبدينها
وبوطنها، وأن تعطيهم من الإمكانات ما يجعلهم يستطيعون أن يزلزلوا كيان
الصهيونيين، عن طريق (حرب العصابات) ؛ لأن هذه الحرب من شأنها أن تهدد
أمن إسرائيل واستقرارها واقتصادها وجميع مرافقها. وتكون هذه الحرب كمقدمة
للمعركة الفاصلة التي يجب على الأمة الإسلامية أن تخوضها ضد إسرائيل حتى
تطهر الأرض المقدسة من اليهود.
* يجب أن تخوض معركة فلسطين المقبلة على أساس من الجهاد الديني
وليس على أساس النعرة الوطنية وحدها.
* يجب على الأمة العربية والإسلامية (قبل ذلك وبعد ذلك) ، إذا أرادت أن
تعيد فلسطين، أن تعود هي إلى تعاليم الإسلام فتطبقها على نفسها تطبيقاً كاملاً وأن
تحارب الرذائل فيها.
هذه هي الأسس التي وضعها شيخ الأزهر منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً
أو يزيد في خاتمة رسالته: (بنو إسرائيل في القرآن والسنة) ، فليراجعها من شاء
وليتخذها أبناء الأمة الإسلامية عامة وإخواننا في فلسطين خاصة جزءاً من المنهج
الإسلامي لاستعادة أرضنا المقدسة، كما أهدي هذا البرنامج الذي خطه الدكتور
محمد سيد طنطاوي بيده إلى حاخامات اليهود والقائمين على أمور بلداننا العربية
والإسلامية.(178/105)
المنتدى
من ثمرات المنتدى الإسلامي
صحيح..
إضافة دعوية جديدة للمنتدى الإسلامي
في الطريق الدعوي ذاته تبنى المنتدى الإسلامي مؤخراً واحدة من أدق وأسهل
ترجمات معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية التي أطلق عليها اسم (صحيح) .
وتأتي هذه الخطوة التي نرجو أن يبارك الله عز وجل فيها لحرص المنتدى
الإسلامي على تبليغ دين الله عز وجل للشرائح التي تتحدث بالإنجليزية سواء من
المسلمين أو غير المسلمين، ولعل الأحداث التي يعيشها العالم اليوم تثبت بجلاء
أهمية تسخير الجهود لتوضيح الإسلام بصورته المشرقة بعيداً عن تشويه وتحريف
وسائل الإعلام المغرضة، ولأن كلام الله عز وجل أفصح ما يعبر عن الإسلام فإن
المنتدى الإسلامي بحمد الله بدأ في تنفيذ مشروع خيري يهدف لطباعة
(500.000) نسخة من الترجمة وتوزيعها في أمريكا وأوروبا.
الكشف على أكثر من أحد عشر ألف مريض
نعمة البصر نعمة عظيمة لا يقدرها حق قدرها إلا من فقدها، وفي إفريقيا
حيث الجهل والفقر وكثرة الأمراض قد يفقد أحدهم بصره بسبب مرض بسيط
ولكنهم لا يستطيعون علاجه.
ومن منطلق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالسهر والحمى» ، فقد نظم المنتدى الإسلامي بالتعاون مع مؤسسة البصر الخيرية
العالمية وهي منظمة إسلامية مخيمين لمكافحة العمى وذلك في دولتي مالي ونيجيريا،
وقد استغرق المخيمان 14 يوماً تم فيها الكشف على (11500) مريض،
وأجريت العمليات لـ (933) مريضاً، وتم زراعة عدسات لـ (784) مريضاً،
ووزعت نظارات على (2400) شخص.
18 مسجداً و 16 بئراً ينشئها المنتدى الإسلامي
في 10 دول إيماناً من المنتدى الإسلامي بالدور الفاعل للمساجد في المجتمع
المسلم واستمراراً لما يقوم به من إنشاء المساجد وتعميرها، فقد أنشأ المنتدى خلال
الأشهر الثلاثة السابقة (18) مسجداً في عشر دول في أفريقيا وآسيا.
ويعاني كثير من المسلمين في أنحاء متفرقة من العالم من ندرة الماء النقي
الصالح للشرب، ولذا فقد حرص المنتدى على التخفيف من معاناتهم وذلك بحفر
(16) بئراً في أربع دول أفريقية هي: السودان، ومالي، ونيجيريا، وتوجو.
قافلة المنتدى الإسلامي تخاطر لإنقاذ مرضى الكوليرا
في الصومال
رغم وعورة الطريق وخطورته إلا أن رعاية الله كانت مع أفراد قافلة المنتدى
الإسلامي الإغاثية التي انطلقت إلى مدينة كاسمايو 500 كيلو متراً جنوب العاصمة
الصومالية مقديشو، فنجاهم الله من قُطَّاع الطرق أكثر من مرة حتى وصلوا إلى
كاسمايو، وأقاموا المخيم الطبي الذي تم فيه علاج (847) مريضاً من وباء
الكوليرا بعد أن انسحبت مؤسسات نصرانية من المنطقة بسبب المخاطر وتعرض
بعض أفرادها للاختطاف من قبل اللصوص وقطاع الطريق فغادرت المنطقة دون
أن تقدم شيئاً يذكر.
كما تم علاج (399) مريضاً في العاصمة مقديشو في 15/2/1423هـ
ليكون مجموع من شملهم علاج القافلة (1246) مريضاً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن قافلة مكتب المنتدى الإسلامي في جيبوتي هي
القافلة الوحيدة التي سيرتها مؤسسة إسلامية إلى هذه المنطقة.
المنتدى الإسلامي يشارك في معرض: (كن داعياً)
شارك المنتدى الإسلامي في معرض (كن داعياً) الثالث الذي تنظمه وزارة
الشؤون الإسلامية والأوقاف بالرياض في الفترة من 23/3/1423هـ وحتى3/4/
1423هـ.
كذلك تميز جناح المنتدى بإجراء سحب على ثلاثة آبار يتم حفرها باسم
الفائزين في المناطق التي تعاني من الجفاف في قارة أفريقيا.
وقد شارك في هذا السحب أكثر من (5000) زائر، فاز به كل من: أحمد
العجلان، عدنان التابعي، ونورة العبد الجبار.
وقد كان الإقبال بفضل الله كبيراً على المعرض عامة وجناح المنتدى
الإسلامي بخاصة.
المنتدى وشباب لندن
في ظل المخاوف التي تقض مضاجع المهاجرين المسلمين في لندن على
مستقبل أبنائهم الديني وهويتهم الإسلامية، نظم مكتب المنتدى الإسلامي في لندن
رحلة تربوية لـ 40 طالباً من طلاب حلقات تحفيظ القرآن الكريم بالمنتدى إلى
منطقة ويلز، عاش خلالها هؤلاء الشباب جواً مفعماً بالإيمان تخللته الدروس
الشرعية والمسابقات الثقافية والبرامج الترفيهية.
الجدير بالذكر أن هذه الرحلة هي حلقة في سلسلة برامج تربوية يقيمها مكتب
المنتدى في لندن تهدف إلى تأهيل الشباب لحمل رسالة الإسلام والدعوة إلى الله،
نسأل الله أن يبارك في الجهود ويحقق الأهداف.
المنتدى والفقراء..
في دولة ينطق فيها الفقر ويئن فيها المرض من كثرة المرضى سيَّر مكتب
المنتدى الإسلامي في مالي قافلة طبية إغاثية دعوية شملت عدداً من القرى شارك
فيها (16) داعية و (6) أطباء، ووزع فيها ما يقارب (60) طناً من المواد
الغذائية، وتم علاج أكثر من (2000) شخص.
وبالإضافة إلى الأثر العظيم التي تركته هذه القافلة في نفوس إخواننا المسلمين
هناك فقد منّ الله على (60) شخصاً بالإسلام، نسأل الله أن يحسن إسلامهم، وأن
ينفع بهم.
قسيسان كبيران و 168 مسلماً جديداً في بنين
في شهر ربيع الأول عام 1423هـ تحركت قافلة دعوية من مكتب المنتدى
الإسلامي في بنين إلى الجنوب الغربي من (مالانفيل) واستمرت أربعة أيام للقيام
بواجب الدعوة إلى الله عز وجل بالإرشاد والتوجيه والإقناع بالأدلة العقلية والأدلة
من الكتاب والسنة حتى فتح الله عليهم قلوباً غلفاً وآذاناً صماً؛ فكان من ثمرات هذه
القافلة دخول نور الإيمان إلى قلوب (168) ممن كانوا وثنيين فأصبحوا بفضل الله
ونعمته إخواناً لنا في الدين والعقيدة منهم (130) في قرية بامبونكور و (38)
في قرية باسي، وكذلك أسلم اثنان من كبار القساوسة بعد مناظرات شديدة مع الشيخ
سعد عبد الرحمن؛ نسأل الله تعالى أن يتقبل منه ومن طلابه الذين شاركوه في هذه
القافلة، وأن يحسن إسلام هؤلاء الجدد، وأن ينفع بهم الإسلام والمسلمين.
63 طالباً
يشاركون في المخيم التربوي الرابع في توجو
أقام مكتب المنتدى الإسلامي في توجو مخيمه التربوي الرابع في الفترة من
14-20/1423هـ بمقر المدرسة الإسلامية في مدينة (بافيلو) وقد شارك فيه
(63) طالباً من طلاب المدارس الفرنسية الذين تفاعلوا بصورة جيدة مع برنامج
المخيم الذي تضمن فقرات متعددة ومنوعة ثقافية وتربوية وترفيهية لتحقيق أهدافه
التي تتلخص في بث روح المحبة وتوثيق العلاقات بين الطلاب وتنمية قدراتهم
ومهاراتهم وتعويدهم على خدمة الآخرين، واختتم المخيم بحفل وزعت فيه الجوائز
العينية والمالية على الطلاب المتميزين.(178/108)
الورقة الأخيرة
فكر ابن تيمية بين متنازعيه
د. جمال بادي [*]
jmbadi@hotmail.com
هناك ظاهرة فكرية معاصرة تحتاج إلى رصد وفهم وتحليل وتقويم حتى لا
تتضاعف تداعياتها ولا تتفاقم سلبياتها. إنها ظاهرة تعدد الاستدلال بكلام الإمام ابن
تيمية من طرف مدارس فكرية متباينة المشارب والتوجه، مختلفة المدارك والمناهج
الاستدلالية.
ومن أهم سلبيات هذه الظاهرة الفكرية المعاصرة حيرة كثير من الشباب المسلم
من القراء حيال وجهات النظر العلمية المتضاربة في مسائل دقيقة كالتكفير والتبديع
والتفسيق مثلاً، والتي يستدل كل صاحب رأي فيها بأقوال ابن تيمية.
ومن سلبياتها محاولة تمرير الأقوال الشاذة، والآراء الدعوية الجانحة،
والمواقف الخاطئة عبر قناة الاستدلال بأقوال ابن تيمية.
كما أن من سلبياتها أيضاً: تشويه البناء الفكري السامق الذي شيد أركانه ابن
تيمية، وترتب إصدار الأحكام الخاطئة في حقه، مما قد يؤدي إلى عزوف الناس
عنه جملة ومن ثم عدم الإفادة منه.
* أسباب الظاهرة:
أولاً: الأسباب التي تعود إلى طبيعة فكر ابن تيمية وأهمها:
1 - تميز فكر ابن تيمية بالموسوعية وتعدد الموضوعات التي ناقشها أو
خاض غمارها.
2 - تميزه بالواقعية بتقرير القضايا التي تمس حاجة الناس وتنطلق من
واقعهم.
3 - كثرة مؤلفات ابن تيمية وسعة انتشارها وتوفرها في الأسواق (من ذلك
توافرها أخيراً على الأقراص الإلكترونية المدمجة) .
4 - معالجته لكثير من الإشكاليات العلمية في عصره التي لا يزال لها صدى
أو وجود في وقتنا المعاصر.
5 - صعوبة وندرة وجود رأي ابن تيمية كاملاً بكل تفصيلاته وتفريعاته
وجزئياته في مكان واحد من المصنف الواحد بَلْهَ في سائر مؤلفاته للوصول إلى
رؤية شمولية. ولعل هذا من أسباب قبول عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه في
مسائل معينة في فكر ابن تيمية في عدد من جامعات العالم الإسلامي.
6 - وجود أكثر من رأي لابن تيمية في المسألة المعينة، ورجوعه عن بعض
أقواله السابقة مع بقاء الرأيين في مؤلفاته المنشورة. ومن أمثلة ذلك: حكم صلاة
النوافل ذوات الأسباب في أوقات الكراهة وهي مسألة فقهية، ونحو ذلك.
7 - استطرادات ابن تيمية وتفريعه للمسائل الجزئية لشحذ الذهن، مما يحتاج
إلى صبر وأناة وإبقاء النقاش في المسألة مستحضراً في الذهن، أو تجاوز
للاستطرادات مع المحافظة على تسلسل الأفكار وعدم تجاوز جزئية في ذلك
التسلسل مما يخل باستيعاب الموضوع.
8 - استعمال ابن تيمية لمعايير ومقاييس خاصة في التعامل مع المسائل
المعينة مثل مسألة الإيمان، أو في التعامل مع المخالف والحكم عليه كما في مسألة
الأسماء والأحكام.
هذه المعايير تكون مخالفة للمعهود الفكري لصاحب النسق الآخذ عن فكره،
مما ينتج عنه التعامل مع ذلك الفكر دون استيعاب من قبل المستدل.
ثانياً: الأسباب التي تعود إلى المستدل بكلام ابن تيمية:
1 - وجود التوافق الجزئي بين رأي المستدل وبين رأي الإمام ابن تيمية،
مع وجود الاختلاف في التفصيلات.
2 - عدم فهم الظروف الزمانية والمكانية التي نشأ أو تولد فيها النص المستدل
به وألف فيها الكتاب. فهناك: الاستقطاب المذهبي والصراع الفكري والتعصب
للطوائف والشيوخ والمذاهب، وهناك المناظرات العلمية الآنية المبنية على التحدي،
وهناك المناظرات العلمية مع السابقين من أئمة الطوائف، وهناك الإجابة عن
سؤال خاص ورد من بلد بعينه في مسألة خاصة، وهناك التعامل مع النوازل
والمستجدات، ونحو ذلك.
3 - الانتصار للرأي أو الفكرة أو المذهب بأي صورة كانت.
4 - القصور في التصور والفهم، ومن ذلك عدم الإلمام بجزئيات الموضوع
أو المسألة المطروحة للدراسة. وقد يكون قصوراً في الآليات والوسائل: نحو
القصور في مناهج البحث وأصول الاستدلال، أو القصور في استيعاب اللغة أو
مصطلح الحديث أو أصول الفقه أو المنطق ونحو ذلك.
5 - عدم استيعاب المنهج السلفي، والظروف والتحديات والمراحل التي مر
بها، وطبيعة كل مرحلة من تلك المراحل، وتطور المواقف تجاه بعض المسائل
والتحديات بل واختلافها أحياناً مع ثبات أصول المنهج.
6 - محاولة البحث عن سبل بناء مصداقية التوجه لدى أصحاب الآراء
الناشئة، وهي ظاهرة تحتاج إلى رصد ودراسة وتحليل وتقويم في حد ذاتها.
* صورة الظاهرة:
وهذه الظاهرة لها العديد من الصور ومن أهمها:
1 - الاستدلال بأقوال ابن تيمية بعد تجزئتها وفصلها عن سياقها التي وردت
فيه للانتصار للرأي ووجهة النظر باعتباره شخصية علمية مرموقة.
2 - التقاط الفكرة التي طرحها ابن تيمية ثم إعادة صياغتها في قالب معد
مسبقاً يظهر من الوهلة الأولى للقارئ الغر غير الحصيف توافق الفكرة مع الإطار.
3 - نقل كلام ابن تيمية ثم فهمه وتفسيره وفق أصول ومنهج الاستدلال
والنظر الخاص بالمستدل والمستشهد فيعطي مدلولاً موافقاً لما أراده المستدل مع
مخالفته لأصول ومنهج استدلال ابن تيمية نفسه.
4 - نقل كلام ابن تيمية بالمعنى لا بالنص مع التحوير والتعديل والحذف
والإضافة؛ مما من شأنه أن يغير المدلول تماماً ليتوافق مع رأي الناقل المستدل.
5 - هناك ما يسمى بالتسليم الجدلي للخصم أي قبول رأي الخصم جدلاً لا
واقعاً، ثم نقضه أو نقده، فيؤخذ التسليم الجدلي على أنه موافقة للخصم قصداً أو
تقصيراً لذهول أو نحوه.
6 - الأخذ بلازم قول ابن تيمية، مع عدم قول ابن تيمية بذلك اللازم إما
سكوتاً فلا يتسنى لنا الحكم بذلك، وإما لنصه في مكان آخر بعدم القول بذلك اللازم
وفوات ذلك الأمر على المستدل أو تقصُّد المستدل الظهور بهذا المظهر.
7 - قول ابن تيمية بحكم في مسألة معينة لوجود علة قد يغفل عنها المستدل
فيعمم الحكم رغم زوال تلك العلة عما يستدل له.
والصور لهذه الظاهرة كثيرة جداً؛ وقد أحببت التنبيه على بعضها وأهمها مما
تسنى لي ملاحظته ليقاس عليها في استظهار صور أخرى وهو فن جليل.
والمقصد هو محاولة وضع حد لهذه الظاهرة السلبية في الفكر الإسلامي
المعاصر سعياً نحو تنقيته مما علق به من الشوائب والكدر فينتبه المسلم عند قراءة
الكتب المعاصرة وما أكثرها من الوقوع في شرك هذه الظاهرة وهو لا يشعر.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(*) دكتوراه في أصول الدين من الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، أستاذ مساعد في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.(178/110)
رجب - 1423هـ
أكتوبر - 2002م
(السنة: 17)(179/)
كلمة صغيرة
تحد جديد!
في بداية أحداث الحرب الأمريكية على أفغانستان أعلنت وزارة الدفاع
الأمريكية عن تأسيس مكتب (التضليل الإعلامي) الذي يهدف إلى تزويد القنوات
الإخبارية ووكالات الأنباء العالمية بمعلومات إخبارية مغلوطة وموجهة لخدمة
المصالح الأمريكية؛ ساخرة بكل الشعوب، ومستفزة لكل المتشدقين بالديمقراطية
والحرية الإعلامية.
وقد عدَّ أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية إعلان وزارة الدفاع عن
هذا المكتب حماقة سياسية تضعف من التأثير الأمريكي على الرأي العام العالمي،
مؤكداً أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء دون أن تعلن عن كل شيء، وبعد أيام ألغي
المكتب فيما زعموا..!!
ثم ها هي ذي الولايات المتحدة الأمريكية إمعاناً منها في الغزو الإعلامي تبدأ
بث قناة إذاعية باللغة العربية (إذاعة سوا) ، رصد لها (30 مليون) دولار لمدة
ستة أشهر، وتهدف إلى تحسين صورتها عند العرب، وردم الهوة الثقافية مع
صغار السن في الشرق الأوسط، كما جاء على لسان (نورمان بايتتز) صاحب
فكرة إنشاء القناة.
وقد أدلت نائبة وزير الخارجية الأمريكي (شارلوت بيرز) التي تتولى مهمة
الترويج للولايات المتحدة الأمريكية في الخارج بإفادة أمام لجنة العلاقات الخارجية
في مجلس الشيوخ الأمريكي، قالت فيها: إن الإذاعة حققت نجاحاً، وإن على
الولايات المتحدة أن تفكر في بث تلفزيوني للشرق الأوسط عبر الأقمار الصناعية.
كما أدلى (نورمان بايتتز) بإفادة أمام اللجنة واصفاً المعلومات التي تلقاها عن تأثير
إذاعة (سوا) بأنها مدهشة..!!
وندرك يقيناً بأنه لن تجدي المساحيق وعمليات التجميل في إخفاء معالم الوجه
الأمريكي القبيح الذي نضحت بُثُوره بالفساد؛ ومع ذلك فإن الخبرات الأمريكية في
غسيل الأدمغة، وتزييف الحقائق ربما تجد طريقها عند بعض الجهلة والسذج؛
خاصة أن الإذاعة ركزت في خطابها وطريقة عرضها وإيقاعها على صغار السن
من الشباب!
إن هذا الاختراق الجديد لوعي الأمة يجعلنا نؤكد مرات عديدة دور الدعاة
والخطباء والمصلحين ومختلف وسائل الإعلام الإسلامية في إحياء الوعي وتوضيح
واقع الأمة، وخطورة التحديات التي تواجهها. قال الله تعالى: [وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
المُجْرِمِينَ] (الأنعام: 55) .
ولئن كان الإعلام هو الأداة الرئيسة في صناعة الرأي، وتشكيل الأخلاق
الفكرية والاجتماعية؛ فإن تقصير الإسلاميين في تملك أدواته وتعلم فنونه جعل
تأثيرهم ينحسر، ويختزل في شرائح محدودة من المجتمع.
إننا أمام تحد كبير يوجب علينا أن ننهض إلى مستوى المسؤولية، ونفكر
بطريقة أكثر حيوية، ونسخر كل طاقاتنا في تبصير الأمة ومواجهة أعدائها،
وفضح إسفافهم وفجورهم الإعلامي؛ فهذا العصر عصر الأقوياء، ولا مكان فيه
للضعفة المتواكلين..!!
[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:
139) .(179/3)
الافتتاحية
الإرهاب (نهج أمريكي)
وهذا هو الدليل
الحمد لله مذل الجبارين وناصر المؤمنين، والصلاة والسلام على رسولنا
الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الحرب التي تشنها أمريكا على الإسلام والمسلمين بعد أحداث 11
سبتمبر 2001م بدعوى محاربة الإرهاب ليست وليدة تلك الأحداث المؤلمة، وإنما
هي نتيجة طبيعية لتراكمات تاريخية في العلاقات الإسلامية النصرانية، رسخها
كثير من المستشرقين والمنصرين لا سيما بعد الحروب الصليبية.
إلا أن العلاقات بين أمريكا بعد قيامها والإسلام كانت شبه راكدة حتى أواخر
الأربعينيات من القرن الماضي؛ حيث مرت العلاقات بين الطرفين بمنعطفات كثيرة
وحملت في طياتها تصورات مغلوطة من الجانب المعادي وبخاصة بعدما شاركت
الحركة الإسلامية وبفعالية في حرب فلسطين عام 1948م، وفعلت باليهود الأفاعيل،
فبدأت أمريكا تحسب الحساب لهذا التيار، ولم تتردد في مناصرة ضباط ثورة 23
يوليو المصرية عام 1952م، لا سيما في حملتها الظالمة ضد التيار الإسلامي
والفتك به، مما جعل الكاتب الشهير (محمد جلال كشك) وهو يقوِّم هذه الثورة بأن
يسمي دراسته عنها: (ثورة يوليو الأمريكية) .
وما حدث بعدها بسنوات من الجهاد الأفغاني ضد الجيش السوفييتي الذي
دعمته بشكل واضح لا لسواد عيون المجاهدين وإنما ليفتكوا بعدوها اللدود (الاتحاد
السوفييتي) وهو ما أسهم فعلاً في سقوطه التاريخي. وبعد تلاشي عدوها التقليدي
بحثت عن عدو جديد فلم تجد سوى الإسلام بعدما أكد ذلك العديد من الدراسات
والأبحاث الأكاديمية الأمريكية أمثال كتابات (سبوزيتو) و (دجيرجان) وهو ما
تأكد فيما بعد من خلال (نظرية صراع الحضارات) و (نهاية التاريخ) اللتين
جعلتا من الإسلام العدو القادم؛ مما رسخ هذا التصور المعادي للإسلام؛ ومن هنا
شجعت أمريكا بعض الدول على استئصال الدعوة الإسلامية الفاعلة في الساحة
العربية والإسلامية، وتغاضت عن الممارسات غير الإنسانية وغير (الديمقراطية)
حيال الحركة الإسلامية بهدف إنهائها!
ولا يخفى أنه بعد ذلك الحادث الجلل ألصقت الاتهامات بالإسلاميين
وبالجمعيات الخيرية والدعوية بزعم أن لها صلة بـ (القاعدة) ؛ ويكفي ذلك تهمة
لإلغاء تلك الجمعيات واتخاذ الإجراءات الظالمة حيالها.
وفي الحرب التي شنتها أمريكا على الإرهاب أُزهقت فيها ألوف مؤلفة من
الأرواح البريئة، ومن المهازل أن هذه الحرب القائمة فرض على الجميع القيام بها،
وطولبوا بتأييدها وإلا اعتبروا في صف الإرهاب، وهم تبعاً لذلك أعداء لأمريكا
وللدول المتحضرة!! هكذا بكل صفاقة.
ولا شك أن هذه الدعوى غير صحيحة؛ فالحق ليس ما تقوله أمريكا وليس ما
تحدده الإدارة الأمريكية؛ فادعاءاتهم الباطلة جعلت المسؤول عن متابعة الإرهاب
يقدم استقالته بعد إخفاقه في الوصول إلى الأعداء الحقيقيين كما حددتهم أمريكا،
والتي ما زالت تتهرب من توضيح معنى محدد للإرهاب مع الإصرار على عدم
التفريق بين الإرهاب وحق تقرير المصير وحق الدفاع عن النفس وهو ما أكدته
الأديان السماوية والنظم الوضعية.
ولا نعرف بعد هذه الحرب الهمجية التي ألغيت فيها دولة قائمة ودمرت فيها
مدن وقرى كاملة يقطنها آلاف الأبرياء فضلاً عن هدم الكثير من المشافي والملاجئ
ومستودعات الإغاثة وأبرز صور الهمجية في هذه الحرب والتي توضح وبجلاء
الإرهاب الأمريكي مذبحة (مزار شريف) والتي قتل فيها حوالي ألف أسير بتواطؤ
الأمريكان والشماليين وهذا ما ظهر في فيلم تسجيلي بثته مؤخراً (N. N. C)
وهذه الحرب المجنونة لا تعني سوى أن قادتها والقائمين بها إنما هم الإرهابيون حقاً
وهم المستحقون للمحاكمة الدولية أمام المحاكم المختصة كما حوكم النازيون
والصرب في العصر الحالي.
ولا نحسب أن هناك من يُطلَق عليه (محور الشر) أكثر من (أمريكا ودولة
العدو الصهيوني) فحينما نستعرض التاريخ الإرهابي لأمريكا نجده متمثلاً بكل
معانيه وبكل أساليبه في التاريخ الأمريكي والصهيوني؛ فالعدو الصهيوني تاريخه
الإرهابي معروف للجميع، أما أمريكا فمنذ نشأت في (العالم الجديد) وهي في
حرب إرهابية ضد السكان الأصليين من الهنود الحمر الذين استأصلت الألوف
المؤلفة منهم بالحديد والنار وبالأوبئة الجرثومية، وهذا معروف ومسجل تاريخياً
يدين هذه الدولة المتغطرسة.
وبعد أن استقر الشعب الأمريكي الوافد من شتى الدول الغربية عملوا بكل
بشاعة على جلب الرقيق من إفريقيا واستعبدوهم، فعاشوا في ظروف غير إنسانية
وعاشوا في عزل عنصري لسنوات طويلة وقد صوَّرهم الروائي الأمريكي الزنجي
(إليكس هيلي) في روايته الشهيرة (الجذور) ، وشاهدها العالم ممثلة بكل ما فيها
من إجرام بشع في حق الإنسانية، وعاشوا مع ذلك في أجواء عنصرية مع أسيادهم
البيض.
وبالرغم من تحريرهم المزعوم على يد الرئيس الأمريكي (إبراهام لنكولن)
إلا أن الحقيقة غير ذلك؛ فالرجل لم يعرف في يوم من الأيام المساواة بين الأجناس،
بل عارض وبشدة الحقوق المتساوية للسود، كما كانت خطته التي عمل على
تحقيقها هي إرسال الزنوج إلى إفريقيا وهايتي وأمريكا الوسطى، وهذا جزء مما
أفصح عنه الكاتب (دي لوفرنيتو) في كتابه: (الوجه الحقيقي للنكولن) [1] .
وكانت الصيحة الأولى لحرب الإرهاب الأمريكي المعاصر تلك التي أعلنتها
الإدارة الأمريكية عام 1981م على لسان وزير الخارجية آنذاك (إلكسندر هيج) ،
ومن ذلك الحين أصبح كل من يعارض السياسة الأمريكية يوصف بالإرهاب وتشن
ضده الحرب، ومن أجل ذلك تم تسخير العديد من الدول والمنظمات الدولية لتبني
هذا المفهوم الظالم للإرهاب القائم على الضرب والحصار للأنظمة المخالفة لمحاولة
إسقاطها سواء من الداخل أو الخارج، حيث كانت (وكالة الاستخبارات المركزية
الأمريكية) هي الذراع الإرهابي لأمريكا، والتي جعلت من أمريكا الوسطى
والجنوبية ميداناً لعملياتها التجسسية منفذة السياسة الأمريكية التوسعية، فكانت هي
صاحبة الأمر والنهي المطلق في سياسة الحكومات التي تقيمها سواء بالترغيب أو
الترهيب، حيث كانت وراء الكثير من الانقلابات العسكرية المقاومة لآمال الشعوب،
كما في كولومبيا أو الأرجنتين أو غرينادا أو تشيلي أو نيكاراجوا وغيرها التي
قتل فيها الألاف من الناس ظلماً وعدواناً.
وكان لأمريكا في حربها الإرهابية تلك في إفريقيا نصيب؛ حيث أسقطت
الكثير من الرؤساء في غانا، وغينيا، وموزمبيق.
وفي آسيا كان لها سجل حافل بالإرهاب في حروبها في فيتنام، ولاوس،
وكمبوديا، بدءاً من عام 1964م؛ حيث بدأ التدخل الأمريكي المسلح في الهند
الصينية، ومع معاناتها الأمرَّين والهزائم لم ينقذها إلا انسحابها من فيتنام عام
1970م في عهد الرئيس نيكسون.
وفي إيران قادت حربها ضد حكومة مصدق لتعيد الشاه عميلاً لها في حكم
إيران؛ حيث أعاد ضخ البترول لها، وأعاد الشركات الأجنبية لاحتكار البترول
حتى سقط في ثورة الخميني عام 1979م.
* الإرهاب المزدوج:
ولا نجد مثالاً للإرهاب المزدوج مثل التحالف الأمريكي الصهيوني الذي ظهر
بصورة فجة وبشكل بشع في الآونة الأخيرة؛ حيث استغلته الصهيونية أبشع
استغلال بدعم اليمين الأمريكي المتطرف الذي ينظر لـ (إسرائيل) من منظور
أيديولوجي، ويعتبرها الحليف الديمقراطي الوحيد لأمريكا؛ ولذا جاء التيار الديني
المحافظ ليؤكد أن لـ (إسرائيل) الحق بأن تفعل بالسلطة الفلسطينية ما فعلته
أمريكا بدولة طالبان، وأن أي ضغوط أمريكية على (إسرائيل) لوقف حملتها ضد
ما يسمونه (الإرهاب الفلسطيني) يعني أن الإرهاب انتصر وحقق أهدافه!!
وتجلى هذا التحالف الدنس بالتأييد الأمريكي للعدو الصهيوني، ووقوفها في
صف (إسرائيل) ورفض إدانتها على إجرامها في حق الشعب الفلسطيني، ولا
سيما في إدانة العدو في إجرامه في مذبحة جنين، والذي كان محل مقت بعض
الدول الكبرى مثل الصين وروسيا، ومحل استهجان الكثير من الدول الأوروبية،
فضلاً عن إدانة الشعوب العربية والإسلامية، بل إن هناك أفراداً ومنظمات أمريكية
استنكرت هذا التحالف المشبوه، ووجدنا بعض الأقلام الأمريكية التي شجبت هذه
العلاقة المنحازة، مثلما كتب (ستيفن جرين) في كتابه: (الانحياز: علاقات
أمريكا السرية بإسرائيل المتحفزة) والذي بين فيه ما تم من تزييف للوعي الأمريكي
بحقائق الصراع في الشرق الأوسط، وأن العلاقات (الأمريكية الإسرائيلية) تقدم
أنموذجاً غير مألوف أو مسبوق في التاريخ، وهو ما يشكل وضعاً غير طبيعي،
وأن هذه العلاقة تسير في اتجاه واحد يخدم المصالح الإسرائيلية أساساً على حساب
المصالح الأمريكية، ومثله كذلك (نعوم تشومسكي) و (بول فندلي) وغيرهم،
بل إن (هنتنجتون) صاحب (نظرية صراع الحضارات) قال عن هذه السياسة:
«إنها ستحول أمريكا مع الوقت إلى دولة وحيدة تعاني من العزلة الدولية؛ حتى لو
تملكت ترسانة عسكرية ضخمة، ووزعت إعاناتها هنا وهناك فستظل قوة مكروهة،
بل ستتحول إلى دولة شريرة كما تصف غيرها» .
هكذا تظهر أمريكا دولة إرهابية منذ نشأتها في سياساتها البراجماتية النفعية
التي ترى أن المصلحة هي وحدها المعول عليها، ولو على حساب الأخلاق
والقوانين المعتبرة؛ ولذلك وجدناها ترفض التحديد الدقيق لمعنى الإرهاب حتى لا
تدان بموجبه، والأعجب من ذلك أن أمريكا كما تغاضت عن الإرهاب الصهيوني
تغاضت أيضاً عن إرهاب آخر لا يقل همجية عنه وهو الإرهاب الهندوسي الذي
توجهه الهند لمسلميها؛ مع أن المسلمين فيها أكبر أقلية في العالم حيث يتجاوزون
100 مليون مسلم، لكن لا قيمة لهم ما دام أنهم مسلمون.
هكذا ترى أمريكا الإسلام، وهكذا ترى المسلمين، لكن يأبى الله إلا أن يفضح
المفهوم الأمريكي للإرهاب المفصل على مقاسات خاصة لكي يخدم مصالحها
الاستراتيجية والاقتصادية ليس إلا، وهذا المفهوم الاستعماري حيث ووجه باستنكار
حتى من حلفائها وحتى أبنائها لمواقفها المنحازة.
واستمراراً للإرهاب الأمريكي نجد أمريكا هذه الأيام تعد العدة وتستبق الزمن
لضرب العراق بدعوى الإطاحة بنظام صدام حسين، وهي تهدف لأمور أكبر من
ذلك بكثير يعرفها كل مطلع على الواقع.
ونحن أعرف من أمريكا بمن هو (صدام حسين) الطاغية الذي سام شعبه
سوء العذاب في حربين كبيرتين هدمتا قدراته ودمرتا اقتصاده وجعلت شعبه يعيش
عيشة ضنكاً، ونعتقد أن الحرب المعلنة على العراق ليس كما يُزعم لهدف محدد
إنما لضرب قوة العراق التي تشكل خطراً على ربيبتها (إسرائيل) ؛ ولتكون سوقاً
لبيع السلاح من ناحية، ولتجريب الأسلحة الجديدة من ناحية أخرى، ولتكون
المنطقة محل حرب جرثومية ستعاني منها لسنوات طويلة، ولها آثارها السلبية
والخطيرة مما لا يخفى، ولذلك حينما ناورت الحكومة العراقية بدعوة فرق التفتيش
للعودة وفق خطة محددة رفضت أمريكا ذلك مصرة على إعلانها الحرب على هذا
البلد المسلم بدون وجه حق.
وفي سبيل البحث عن سند قانوني لتلك الحرب المعلنة أتت بسبب يضحك
حتى الثكالى، وهو الزعم بأن (صدام حسين) متورط في علاقات مع دولة طالبان
وتنظيم (القاعدة) ؛ مما يشير إلى دوره في أحداث 11 سبتمبر، والمعروف أن
صدام حسين أعدى أعداء الحركات الإسلامية؛ ولذلك وجودها محرم في العراق؛
فهو يعتبرها الخطر الأكبر المهدد لنظامه؛ فكيف يتهم بعلاقة من هذا القبيل؟!
هذه وقفات من الإرهاب الأمريكي الرسمي الذي عم وطم، ونال الكثير من
دول العالم وشعوبه من شروره بما هو معروف، والعزاء أن جبروت أمريكا
والعنجهية التي تسير بها سياستها الإجرامية في حق الشعوب المضطهدة ستنتهي
بسقوط مدوٍّ لها بإذن الله كما سقط سلفها الاتحاد السوفييتي وهذا ليس رجماً بالغيب
بل إن بوادر هذا السقوط تلوح في الأفق؛ من عقدة العظمة والتعالي، واتهامها
لغيرها بأنهم محور الشر وهي للشر أقرب، وموالاتها للصهيونية في تأييد باطلها
وإجرامها، والدعوات القائمة لمقاطعة منتوجاتها من قبل الشعوب المسلمة، وخراب
الذمم لدى الكثير من شركاتها الكبرى التي بدأت تترنح وتعلن إفلاسها واحدة بعد
الأخرى مما أدى إلى تزايد العاطلين بالآلاف.
إن تداعي هذا الكيان المتغطرس ليس بمجرد أمانٍ لمن يكرهونها لإجرامها في
حق الشعوب التي تأبى الانقياد لها والسير في ركابها رغبة أو رهبة لكنه صرخات
العديد من أبناء هذه البلاد الذين ساءتهم سياستها الإرهابية وعنجهيتها السياسية؛ وما
عليك يا أخي الكريم سوى الاطلاع على كتاب وثائقي تحت عنوان: (الولايات
المتحدة.. الدولة السوقية) للصحفي الأمريكي (وليم بلوم) الذي عمل ببلده في
مواقع حساسة جداً، وخبرها عن كثب، فألف كتابه هذا الذي تناول فيه (276)
وثيقة، وقدم مئات الحجج والبراهين على طيش أمريكا ونزقها؛ ففي الجزء الأول
تناول فيه علاقة الحب والكره بين بلاده والإرهابيين ومنتهكي حقوق الإنسان،
وبيان الاغتيالات التي تنفذها بلاده ضد الآخرين، وفي الجزء الثاني تناول الكاتب
استعمال أمريكا لأسلحة الدمار الشامل من قصف ويورانيوم منضب وقنابل وأسلحة
بيولوجية وكيمياوية خارج حدودها وحتى داخل حدودها! كما قاله المؤلف. وفي
الجزء الثالث: وهو جوهر الكتاب وفيه يتحدث عن تاريخ أمريكا من (1945 -
2000م) وتزويرها للانتخابات وتلاعبها فيها عن طريق (المخابرات المركزية) ،
وبيان دورها في الأعمال ضد إرادة الدول في هيئة الأمم، وما تقوم به من تنصت
على الآخرين.. إنه سجل أسود حافل بالمظالم [2] .
فأنى لها أن تبقى على الوجود مع هذه المظالم والمآسي؟ وهو ما يؤكد النهاية
المحتمة بإذن الله.
هذه لمحات وإشارات في هذا العدد، وهي تحتاج إلى المزيد من الدراسات
الموسعة والمؤصلة بما تقر به العيون.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(1) انظر: صحيفة الحياة، العدد (10888) .
(2) بتصرف عن صحيفة التجديد الغربية، عرض للكتاب تحت عنوان: (الكتاب الذي لا يريد المستكبرون أن يقرأوه) إلى عددين صدرا في 24/2/1423، و 8/3/1423هـ.(179/4)
دراسات في الشريعة
مقاطعة بضائع الكفار
نفرة شرعية
هاني بن عبد الله بن محمد بن جبير [*]
الحمد لله وحده، وبعد:
فقد (فوجئ العالم الإسلامي في هذا العصر بتفوق عدوه عليه في ميادين شتى،
ولو أن هذا التفوق كان في مجال السيف والرمح والكر والفر، فلربما كنا نستطيع
أن ندفع عن أنفسنا شره ونحول دون انتصاره علينا، بل قد نهزمه فنسترد ما ضاع
منا. ولكنه كان ولا يزال تفوقاً غير متكافئ؛ فالعدو على اختلاف توجهاته يملك من
وسائل القوة ما يضمن له التحكم والقهر، وبسط النفوذ وإملاء الإرادة في الوقت
الذي أصبحنا فيه عالة عليه في كل شيء، مما يجعلنا نصنّف أنفسنا قبل أن يصنفنا
غيرنا بأننا متخلفون. ونتيجة لذلك فنحن (عالم التبعيّة) الواقع تحت التأثيرات
الخارجية وقانون التوازن الدولي. إن الصدمات العنيفة التي كان من المفروض أن
تولِّد فينا ردود أفعال مناسبة لم تتوقف هزاتها وتحدياتها، ولقد بقينا مدة طويلة دون
أن تكون مواجهاتنا لها في المستوى المطلوب) [1] .
ويبقى الأفراد الغيورون يلتفتون صوب كل اتجاه بحثاً عن سبيل مواجهة أو
طريق نجاة أو وسيلة إنقاذ إيماناً منهم بأنه لا بد من أن يستنفد المرء كل طاقته ولا
يدّخر منها شيئاً لتبرأ ذمته ويستحق وعد الله تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة:
214) .
ولما كان الاقتصاد في هذا الزمن ذا تأثير كبير وفعال على مواقف الدول
واتجاهاتها؛ فقد بدأت الدعوة إلى (مقاطعة) البضائع والمنتجات التي تصدرها
الدول التي تحارب المسلمين أو تقف معها؛ لتكون وسيلة ضغط عليها لتوقف (أو
تخفف) من موقفها المعادي للمسلمين.
وكان لهذا النداء تجاوباً كبيراً من الشعوب المسلمة التي لا حول لها ولا قوّة،
ولا تعرف كيف تعمل، ولا كيف تنتصر.
حتى قال بعضهم إن (سلاح المقاطعة) هو السلاح الوحيد المؤثر في سجل
المواجهة مع إسرائيل في وقتنا الحاضر [2] .
وفي الحقيقة إن المتابع لمجريات الأحداث يلمس لهذه المقاطعة آثاراً كبيرة
تدفع بعض الشركات إلى التبرُّؤ من دعم الدولة اليهودية، أو إلى تعهدها بدفع
تبرعات لجهات فلسطينية، إلى غير ذلك.
وقد انتشرت في الساحة الإعلامية عدة فتاوى تقول: إن «كل من اشترى
البضائع الإسرائيلية والأمريكية، من المسلمين فقد ارتكب حراماً، واقترف إثماً
مبيناً، وباء بالوزر عند الله والخزي عند الناس» [3] .
وحقيقة أن الغيرة الإسلامية تشتعل في النفس إذا رأت ما يحل بالمسلمين وما
يدبر لهم على أيدي أعداء الله.
إلا أن موقف الموقِّع عن رب العالمين وهو يتلو قوله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ] (النحل: 116) .
موقفٌ لا تؤثر فيه العواطف ولا يغلبه الحماس عن تأمل نصوص الوحيين،
وإعمال قواعد الشرع وأدلته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «كما أن الله نهى نبيّه أن
يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر فكذلك في آخره؛
فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم. وكثير من الناس إذا
رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام: جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل
المصائب وهو منهي عن هذا بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين
الإسلام، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى،
وأن ما يصيبه فهو بذنوبه، فليصبر إن وعد الله حق، ويستغفر لذنبه، وليسبح
بحمد ربه بالعشي والإبكار» [4] .
وفي هذه الورقات القليلات نظرات شرعية عاجلة لموضوع (المقاطعة) ،
حاولت فيها الوصول لحكم شرعي فقهي فيها.
* أولاً: تعريف المقاطعة الاقتصادية:
المقاطعة مفاعلة من القطع. يقال: قطعه يقطعه قطعاً.
والقطع: إبانة بعض أجزاء الجرم من بعضٍ فصلاً [5] .
والقطع والقطيعة: الهجران ضد الوصل [6] .
والبضاعة: السلعة، وأصلها القطعة من المال الذي يتجر فيه، وقيل جزء
من أجزاء المال تبعثه للتجارة [7] .
والسلعة: ما تُجر به والمتاع، وجمعها: سِلَع [8] .
قال في المنجد الأبجدي: (المقاطعة: عدم التعامل مع شخصٍ أو شركة أو
مؤسسة أو دولة، ومنه مقاطعة بلد لمنتجات وحاصلات بلدٍ آخر) [9] .
وقال في المعجم الوسيط: (المقاطعة: الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصادياً
أو اجتماعياً وفق نظام جماعي مرسوم) [10] .
وشاع استعمال المقاطعة في الامتناع عن شراء منتجات من يحارب المسلمين
أو يعينهم دون الامتناع عن البيع؛ وذلك لأن أهل الإسلام صاروا مستهلكين، وقل
الإنتاج فيهم.
* ثانياً: قواعد ومقدمات:
وهي سبع أسردها تباعاً..
الأولى: جواز معاملة الكفار.
الأصل أنه يجوز معاملة الكفار بالبيع والشراء سواء كانوا أهل ذمّة أو عهد أو
حرب [11] إذا وقع العقد على ما يحل، ولا يكون ذلك من موالاتهم [12] .
عن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي صلى
الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: أبيعاً أم عطيّة؟ أو قال: أم هبة؟ قال: لا، بل بيع. فاشترى منه
شاةً [13] .
وقد بوّب البخاري على هذا الحديث في صحيحه: باب البيع والشراء مع
المشركين وأهل الحرب.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي بأن يكاتب، والمكاتبة أن
يشتري العبد نفسه من سيده، وكان سيده يهودياً [14] .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قُبض رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإن درعه مرهونة عند رجل من يهود على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها
رزقاً لعياله [15] .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من
يهودي طعاماً إلى أجل [16] .
وسواء في ذلك أن يسافر المسلم لبلد الكفار وديار الحرب أو يجيء الكافر
لبلاد الإسلام ليبيع أو يشتري.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري
منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر - رضي الله عنه - في حياة
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وغير
ذلك من الأحاديث» [17] .
عن الحسن قال: كتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -:
أن تجار المسلمين إذا دخلوا دار الحرب أخذوا منهم العُشر. قال فكتب إليه عمر:
خذ منهم إذا دخلوا إلينا مثل ذلك: العشر [18] .
قال الحافظ ابن حجر: «تجوز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم على
المتعامَل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم» [19] .
هذا هو الأصل العام في معاملة الكفار.
يستثنى من هذا الأصل مسائل؛ منها:
أنه لا يجوز أن يبيع المسلم للكفار ما يستعينون به على قتال المسلمين. لقوله
تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان] (المائدة:
2) .
قال ابن بطال: «معاملة الكفار جائزة، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب
على المسلمين» [20] .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن معاملة التتار، فأجاب:
(يجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم في معاملة أمثالهم ...
فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كبيع الخيل والسلاح لمن
يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لا يجوز.. في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«لعن في الخمر عشرة: لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها،
والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها» [21] . فقد
لعن العاصر وهو إنما يعصر عنباً يصير عصيراً، والعصير حلال: يمكن أن يتخذ
خلاً ودبساً وغير ذلك) [22] .
وسواء كان ذلك وقت الحرب بين المسلمين والكفار أو وقت الموادعة والهدنة
بينهم.
قال السرخسي: ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع [23]
والسلاح والحديد؛ لأنهم أهل حرب، وإن كانوا موادعين؛ ألا ترى أنهم بعد مضي
المدة يعودون حرباً للمسلمين، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات ما
خلا الكراع والسلاح؛ فإنهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين فيمنعون من حمله
إليهم، وكذلك الحديد؛ فإنه أصل السلاح. قال الله تعالى: [وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ] (الحديد: 25) [24] .
وهذه المسألة من معمولات سد الذرائع المفضية إلى المفاسد، ومن أمثلة قاعدة
الوسائل لها أحكام المقاصد.
الثانية: وسائل التعامل مع الكفار.
شراء بضائع الكفار يتخذ في هذا العصر صوراً متعددة، وله وسائل لا بد من
معرفتها ليتم الحكم عليها من خلالها. ولعله يمكن حصرها في الصور الآتية:
1 - الشراء المباشر من الكافر الذي يبيع أو يصنع أو ينتج السلعة، وهذا آكد
ما يشمله حديثنا.
2 - الشراء من خلال وسيط (سمسار) ؛ حيث يكون لديه علم بعدد من
المصانع والشركات المنتجة، فيقوم بالتنسيق والتقريب بين المشتري وبين المنتج
أو المصنع، ويتولى كتابة وثيقة البيع بين الطرفين، وكل ذلك مقابل نسبة يستلمها
الوسيط من الشركة أو المصنع المصدّر [25] .
وهنا تكون الأموال مدفوعة للبائع الأصلي فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من
الشراء والتضرر بالمقاطعة.
3 - الشراء من (وكيل بالعمولة) إذ يستورد البضائع باسمه ولحسابه هو،
وتجري معاملاته باسمه أو بعنوان شركة ما، ثم ينقل الحقوق والالتزامات إلى
موكله تنفيذاً لعقد الوكالة المبرم بينهما مقابل أجرة تسمى: (عمولة) [26] .
والفرق بينه وبين الذي قبله أن هذا يستورد البضائع ويبقيها لديه معروضة
ليبيعها باسمه هو، ويتم التعاقد معه أو مع شركته، ثم بعد ذلك يسلم للمنتج أو
المصنع قيمة المبيع ويطالبه بالالتزامات. أما الأول فإنه وسيط فقط يربط بين
الطرفين، ثم تنتهي مهمته. وفي هذه الحالة تكون الأموال أيضاً مدفوعة للبائع
الأصلي؛ فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة، إلا
أن المقاطعة تضر بهذا الوكيل أيضاً لتحمله تخزين وعرض البضائع.
4 - شراء بضائع أصلها من صنع الكفار، وجرى تصنيعها داخل بلاد
المسلمين على يد شركة مسلمة تأخذ امتياز تصنيعها من الشركة الأصلية مقابل مبلغ
مالي يدفعه صاحب امتياز التصنيع للشركة الأصلية بشكل دوريّ. وهنا يستفيد أولاً
من البيع: الشركة المسلمة وتتضرر هي أولاً من المقاطعة. أما الكافر فيكون
ضرره غير مباشر من خلال ما قد يعرض لصاحب امتياز التصنيع من الاستغناء
عن حق الامتياز المذكور فيتوقف عن مواصلة دفع ما يقابله.
5 - الشراء من مسلم اشترى بضائع صنعها الكفار أو أنتجوها؛ فهنا
المتضرر من المقاطعة أولاً المسلم الذي اشترى البضاعة. مع أن المقاطعة تضر
الكافر إذا امتنع التاجر المسلم من شراء منتجاته مرة أخرى لعدم رواجها.
الثالثة: أنواع بضائع الكفار.
البضائع عموماً سواء باعها كفار أو مسلمون، إما أن تكون ضرورية أو
حاجيّة أو تحسينية [27] .
ولا شك أن بينها فرقاً كبيراً؛ فالشرع جاء بالتفريق بين الضروري وغيره،
وأباح المحرم عند الاضطرار قال تعالى: [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] (الأنعام: 119) .
وقعّد أهل العلم قاعدة: «لا محرم مع اضطرار» [28] . مستندين لنصوص
متوافرة من أدلة الشرع تقررها. ومعلوم أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة إذا كانت
عامّة [29] .
وعليه فإننا لا بد أن نفرّق بين بضاعة ضروريّة لا غنى عنها كالدقيق مثلاً،
أو حاجيّة عامة كبعض المراكب وبين التحسينيات من أنواع الألبسة والكماليات
ونحوها.
ومن شواهد ذلك في موضوعنا ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - أنّه كان يأخذ من النبط من القِطْنيّة (وهي الحبوب التي تطبخ) العُشْر،
ومن الحنطة والزيت نصف العشر؛ ليكثر الحَمْل إلى المدينة [30] . فقد خفف عمر
رضي الله عنه ما يأخذه منهم للمصلحة في ذلك؛ فإن في الحنطة معاش الناس.
ومن هذا نقول: إنّه يخفف في أمور الضرورات والحاجيات العامة ويراعى فيها ما
لا يراعى في غيرها.
قال الشاطبي: «الأمور الضرورية إذا اكتنفها من خارج أمور لا تُرضى
شرعاً فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة
من غير حرج» [31] .
الرابعة: سد الذرائع.
سد الذرائع من الأدلة المستعملة عند أهل العلم. والمراد بها منع الجائز لئلا
يتوصّل به إلى الممنوع [32] .
ونتيجة إعمالها: تحريم أمرٍ مباح لما يفضي إليه من مفسدة.
وأداء الوسيلة إلى المفسدة: إما أن يكون قطعياً أو ظنيًّا أو نادراً.
فإن كان قطعياً: فقد اتفق العلماء على سدّه والمنع منه سواء سُمّي سَدَّ ذريعة
أو لا [33] .
وإن كان نادراً فقد اتفق العلماء أيضاً على عدم المنع منه، وأنّه على أصل
المشروعيّة.
وأما إن كان ظنياً فقد اختلف أهل العلم فيه هل يمنع أو لا؟ [34] .
وقد أطال العلامة ابن القيم في الاستدلال على صحة قاعدة سد الذرائع،
واستشهد عليها بتسعة وتسعين دليلاً [35] .
ولعل الصحيح في هذا القسم الأخير أنه يُنظر فيه إلى المصلحة والمفسدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم
غالباً فإن الشرع يحرمها مطلقاً. وكذلك إذا كانت تفضي وقد لا تُفضي، لكن الطبع
متقاضٍ لإفضائها. وأما إن كانت إنما تفضي أحياناً؛ فإن لم يكم فيها مصلحة
راجحة على هذا الإفضاء القليل وإلا حرمها أيضاً» [36] . وسيأتي لهذا مزيد بيان.
والمقصود أن الشرع راعى الوسائل والطرق التي يسلك منها إلى الشيء
وتتوقف الأحكام عليها؛ فطرق الحرام والمكروهات تابعة لها.
وإذا نهى الشرع عن شيء فنهيه يستلزم النهي عن كل ما يفضي إليه ويوصل
إليه [37] .
ولذا فقد نبه أهل العلم على أنه يجب على المفتي والمجتهد أن لا يحكم على
فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل من
مصلحة أو مفسدة تنشأ عنه. فلا يأذن بفعل ولو كان فيه جلب مصلحة إلا أن ينظر
في مآله لئلا يكون استجلاب المصلحة فيه مؤدياً إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد
عليها [38] .
قال ابن كثير: «الشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما
أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» [39] .
الخامسة: قاعدة المصالح والمفاسد.
لا شك «أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد
وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما،
وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما» [40] .
ونظرنا في المصالح والمفاسد ينحصر في ملحظين:
الأول: أن الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة، فإنه
يُنْهى عنه؛ وذلك لأن الشريعة مبنيّة على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما
عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة؛ ولذا سدّت ذرائع مفضية إلى الإضرار والفساد
في شواهد كثيرة من الكتاب والسنة [41] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه
مصلحة راجحة يُنْهى عنه كما نُهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من
المفسدة الراجحة وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك، وليس في قصد
الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوّع في غير ذلك من الأوقات.
ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب؛ فسوّغها كثير منهم في هذه الأوقات،
وهو أظهر قولي العلماء؛ لأن النهي إذا كان لسدّ الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة
وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها، فتفوت
مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة بخلاف ما لا سبب له؛ فإنّه
يمكن فعله في غير هذا الوقت، فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة
توجب النهي عنه» [42] .
وفي المقابل فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة
راجحة كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع
به، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال. فهذه
صور جائزة لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة [43] .
الثاني: أن المصالح والمفاسد يكفي فيها الظن الغالب؛ وذلك أن المصالح
والمفاسد لا يعرف مقدارها إلا بالتقريب؛ أما تحديدها بدقة فغير ممكن غالباً.
قال العز بن عبد السلام: «أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها
وتحديدها، وإنما تُعرف تقريباً لعزّة الوقوف على تحديدها» [44] . ولذا يقوم الظن
الغالب فيها مقام العلم.
قال الشاطبي: «وإذا كان الضرر والمفسدة تلحق ظنًّا، فهل يجري الظن
مجرى العلم.. أم لا..؟ اعتبار الظن هو الأرجح لأمور: أحدها: أن الظن في
أبواب العمليات جار مجرى العلم؛ فالظاهر جريانه هنا. والثاني: أن المنصوص
عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى: [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] (الأنعام: 108) . فإنهم قالوا: لتكفن
عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك.. والثالث: أنه داخل في التعاون على الإثم
والعدوان المنهي عنه» [45] .
السادسة: الإضرار الاقتصادي طريق من طرق الجهاد المشروع.
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم التضييق والضغط الاقتصادي بتلك
السرايا والبعوث التي سيّرها لمهاجمة قوافل قريش التجارية؛ فقد بعث النبي صلى
الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص فقال: «اخرج يا سعد حتى تبلغ الخرّار؛ فإن
عيراً لقريش ستمر بك» [46] .
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه يعترض عيراً
لقريش في غزوة بواط [47] . كما خرج لغزوة العشيرة لاعتراض قافلة لقريش في
طريقها إلى الشام، ولما عادت خرج يريدها [48] . وغزوة بدر إنما كان سببها طلبه
عير أبي سفيان [49] .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال: «هذه عير قريش
فيها أموالهم؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» فانتدب الناس [50] . إلى غير ذلك
من شواهد كثيرة، وكما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب فقد
استعمله أبو بصير لما خرج إلى سيف البحر ولحق به أبو جندل بعد صلح الحديبية،
واجتمع إليهما عصابة ممن أسلم من قريش لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلى
الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم [51] . بل وأبلغ من ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن تضيق عليهم معيشتهم.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه، فقال: «اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع
يوسف» فأصابتهم سنة حصّت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة، وكان يقوم
أحدهم فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجَهْد والجوع، فأتاه أبو سفيان
فقال: أيْ محمد! إن قومك هلكوا؛ فادع الله أن يكشف عنهم [52] .
السابعة: ارتباط المقاطعة بإذن ولي الأمر.
لا شك أن من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة وجوب السمع
والطاعة لولاة أمور المسلمين في المعروف.
وأعمال الرعيّة منها ما يشترط لفعله إذن الإمام، ومنها ما لا يشترط له إذنه.
والمقاطعة بشكلها المعاصر مما لا يظهر لي ارتباطه بإذن ولي الأمر؛ بدليل
حديث ثمامة الآتي نصّه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن
أُثال سيّد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال عندي خير: إن تقتل تقتل ذا
دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟
فأعاد عليه مقالته؛ حتى كان من الغد أعاد عليه مقالته، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل
المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. يا محمد! والله
ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك؛ فقد أصبح وجهك أحب الوجوه
كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله
إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا،
ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة
حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم» [53] . زاد ابن هشام:
«فانصرف إلى بلاده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يُخَلّي إليهم حمل
الطعام ففعل» [54] .
والشاهد من الحديث أن ثمامة منع الحمل إلى مكة وهو نوع من المقاطعة
الاقتصادية لهم مع أنه لم يتقدمه إذن نبوي بذلك، وإنما قاله حميّة لله ورسوله لما
قالوا له: صبوت، كما هو ظاهر الحديث.
* ثالثاً: حكم المقاطعة الاقتصادية:
لا شك أن التعامل التجاري والاقتصادي الحاصل في هذا الزمن يباين
التعاملات التجارية في الأزمان السابقة؛ فهو الآن أوسع وأشمل وأيسر، ولا شك
أن ارتباط الاقتصاد بالسياسة وتأثيره على التوجهات السياسية والنزاعات الحزبيّة
صار أكبر وأقوى.
ولذا فإن بحث هذه المسألة بالتوسع في النظر فيها هو من خصائص هذا
العصر.
والذي يظهر أن حكم المقاطعة يختلف باختلاف الأحوال، وإليك التفصيل:
الأول: إذا أمر بها الإمام:
إذا أمر الإمام بمقاطعة سلعة معينة أو بضائع دولة من دول الكفر فإنه يجب
على رعيته امتثال أمره؛ قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء: 59) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «اسمعوا وأطيعوا إن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة» [55] .
وليس للإمام أن يأمر بذلك إلا أن يرى في ذلك مصلحة عامّة لا تقابلها مفسدة
أو ضرر أرجح منه؛ وذلك أن الأصل في تصرّفات الولاة النافذة على الرعية
الملزمة لها في حقوقها العامة والخاصَّة أن تبنى على مصلحة الجماعة، وأن تهدف
إلى خيرها. وتصرّف الولاة على خلاف هذه المصلحة غير جائز [56] .
ولذا قعَّد أهل العلم قاعدة: تصرّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة [57] .
ولعلَّ في قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه - إذ نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم المسلمين عن كلامه وصاحبيه [58] شاهداً لأمر الإمام بالمقاطعة.
الثاني: إذا لم يأمر بها الإمام:
إذا لم يأمر الإمام بالمقاطعة فلا يخلو الحال من أمرين:
1 - أن يعلم المسلم أنَّ قيمة ما يشتريه يعين الكفار على قتل المسلمين أو
إقامة الكفر. فهنا يحرم عليه أن يشتري منهم؛ وذلك لأن الشراء منهم والحال ما
ذكر مشمول بالنهي عن التعاون على الإثم والعدوان، ومشمول بقاعدة سد الذرائع
المفضية إلى الحرام. وإذا علم المسلم أن أهل العلم حرَّموا بيع العنب لمن يتخذه
خمراً، وبيع السلاح لأهل الحرب أو وقت الفتنة خشية استعماله لقتل المسلمين،
وحَرَّموا إقراض من يغلب على الظن أنه يصرف ماله في محرم [59] ؛ فكيف إذا
كان عين الثمن الذي يشتري به يُقتل به مسلم أو يعان به على كفر؟!
سئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة هل يجوز
لمسلم شراؤه فقال: لا يحل ذلك له لأنه تعظيم لشعائرهم وشرائعهم. وسئل في
أرض لكنيسة يبيع الأسقف منها شيئاً في إصلاحها؟ فقال: لا يجوز للمسلمين أن
يشتروها من وجه العون على تعظيم الكنيسة [60] .
وسئل الإمام أحمد عن نصارى وقفوا ضيعة للبيعة أيستأجرها الرجل المسلم
منهم؟ قال: لا يأخذها بشيء لا يعينهم على ما هم فيه [61] .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن [62] : «الكافر الحربي لا
يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال، ونحوه، والدواب
والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار
الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به» [63] .
وعلى كلٍ فالنهي عن التعاون عن الإثم والعدوان يشمل هذه الصورة وغيرها
وهي آية محكمة.
هذا حكم ما لو علم ذلك يقيناً سواء باطلاع مباشر، أو خبر موثوق به، أو
غير ذلك. وغلبة الظن تجري مجرى العلم كما سبق.
2 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام من قتال
المسلمين أو إقامة الكفر؛ فهذا باق على الأصل العام وهو جواز البيع والشراء
وسائر المعاملات.
فإن الأصل في البيوع الإباحة سواء منها ما كان مع المسلمين أو الكفار. كما
سبق. وحيث لم يوجد ناقل عن هذا الأصل فلا يتغير الحكم ولكن يرتبط به الحالة
الآتية:
3 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام؛ لكن في
مقاطعتهم مصلحة، ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يكون الحديث عنه.
ولبيان حكم هذه الحالة فإني أحتاج لتقسيمها إلى قسمين:
أ - أن يتم الشراء من الكافر مباشرة أو من خلال سمسار أو وكيل بعمولة.
وإذا أردت الوصول للحكم الشرعي في هذا القسم فإني بحاجة لتقرير مسلَّمات
شرعيّة توصلنا للنتيجة: فالأصل جواز التعامل مع الكفار ولو كانوا من أهل
الحرب، وأن وسائل الحرام حرام. ولا يحكم على فعلٍ حتى يُنْظر في مآله وعاقبته.
ولا يباح مما يفضي إلى مفسدة إلا ما كانت مصلحته أرجح. ولا يحرم مما يفضي
إلى مصلحة إلا ما كانت مفسدته أرجح. ولا مانع من استعمال الإضرار المالي
جهاداً لأعداء الله ولو لم يأذن به الإمام.
وعليه فإن كان في المقاطعة والحال ما ذكر مصلحة فإنه يُنْدب إليها على أنه
يراعى مدى الحاجة للبضائع كما سبق.
ب - أن يتم الشراء من مسلم اشترى البضاعة أو صاحب امتياز. ولبيان
الحكم فإني مع تذكيري بما سبق من مسلَّمات فإني أذكر بأن المنتج الكافر يأخذ مقابل
منحه امتياز التصنيع، وهو يأخذه سواء قلَّ البيع أو كثر، فالمقاطعة إضرار به
وبعمالته وبالمساهمين معه في رأس ماله، وكذا الحال بالنسبة لمن اشترى بضاعة
من الكافر وصارت من ماله فالمقاطعة إضرار به.
ولذا فإن القول بندب المقاطعة فيه ثِقَل لوجود المفسدة والضرر الكبيرين، ولا
يقال فيها إن المفسدة خاصة والمصلحة عامة؛ وذلك لأن المسلم سيكون هو
المتضرر، ولأنَّ نفع المقاطعة مظنون وتضرر الشركة مقطوع به، والمقطوع يقدم
على المظنون.
وعلى كلٍّ فاعتراض المفسدة قد يمنع القول بندب المقاطعة في هذا القسم،
والله تعالى أعلم.
وأنبّه هنا إلى أن من قاطع البضائع والسلع المنتجة من دول الكفار بنيّة حسنة
كتقديم البديل الإسلامي أو زيادة في بغض الكفار فإنه إن شاء الله ممدوح على فعله
مثاب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «المباح بالنيّة الحسنة يكون خيراً، وبالنيّة
السّيئة يكون شراً، ولا يكون فعل اختياري إلا بإرادة.. فإذا فعل شيئاً من المباحات
فلا بد له من غاية ينتهي إليها قصده، وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه وإما أن
يقصد لغيره فإن كان منتهى مقصوده ومراده عبادة الله وحده لا شريك له وهو إلهه
الذي يعبده لا يعبد شيئاً سواه وهو أحب إليه من كل ما سواه؛ فإن إرادته تنتهي إلى
إرادته وجه الله، فيثاب على مباحاته التي يقصد الاستعانة بها على الطاعة، كما
في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» نفقة الرجل على أهله
يحتسبها صدقة [64] « [65] .
وبعد! فإن جميع ما سبق إنما هو نظر فقهي مجرد يحتاج تنزيله على وقائعه
إلى نظرين: فقهي يحقق المناط، وواقعي يعرف الحال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل
الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم
النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ رأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم
في الدنيا « [66] .
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب.
__________
(*) القاضي بالمحكمة الكبرى بجدة.
(1) تضمين من (الثقة بالله أولاً) ، للدكتور عبد السلام الهراس، ص 3.
(2) تذكير النفس بحديث القدس (3 /514) .
(3) انظر: مجلة القدس، العدد، 24، ص 18.
(4) مجموع الفتاوى، (18/295) .
(5) لسان العرب، (8 /276) ؛ القاموس المحيط، ص 971.
(6) لسان العرب، (8/280) .
(7) لسان العرب، (8/15) ؛ القاموس المحيط، 942.
(8) لسان العرب، (8/160) : القاموس الفقهي، 180.
(9) المنجد الأبجدي، 987.
(10) المعجم الوسيط (2/746) ورمز لها بمحدثة، والمراد أنها لفظ استعمله المحدثون في العصر الحديث، وشاع في لغة الحياة العامة.
(11) أهل الذمة: هم الكفار الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة بأمانٍ مؤبّد، والعهد هو عقد بين المسلمين وأهل الحرب على ترك القتال مدة معلومة، والمعاهدون هم أهل البلد المتعاقد معهم، وأهل الحرب هم أهل البلاد التي غلب عليها أحكام الكفر ولم يجر بينهم وبين المسلمين عهد، وأما المستأمِن فهو الحربي الذي يدخل دار الإسلام بأمانٍ مؤقت لأمرٍ يقتضيه، انظر: الدر النقي، لابن عبد الهادي (1/290) ؛ المبدع (3/313، 398) ؛ كشاف القناع (3/100) .
(12) انظر: الولاء والبراء في الإسلام، محمد سعيد القحطاني، 356.
(13) صحيح البخاري، 2216.
(14) أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به في باب شراء المملوك من الحربي في كتاب البيوع، وقد وصله أحمد في مسنده (5/443) ؛ وانظر: فتح الباري (4/480) ؛ ومجمع الزوائد (9 / 335) .
(15) أحمد في مسنده (5 / 137) ؛ الدارمي (2582) ؛ الترمذي (1214) ؛ النسائي (4651) ؛ ابن ماجه (2439) بإسناد على شرط البخاري، إرواء الغليل (5/231) .
(16) صحيح البخاري (2068) ؛ صحيح مسلم (1603) .
(17) اقتضاء الصراط المستقيم (2/15) .
(18) سنن البيهقي كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي ومن الحربي إذا دخل بلاد الإسلام بأمان، برقم 19283.
(19) فتح الباري (9/280) .
(20) فتح الباري (4/410) .
(21) أحمد (2/71) ؛ البيهقي (8/287) ؛ الحاكم (4/144) ، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1529.
(22) مجموع الفتاوى (29/275) .
(23) اسمٌ للخيل.
(24) المبسوط (10/88، 89) وانظر المقدمات لابن رشد (2/154) ، نهاية المحتاج (3/390) ، والمحلى لابن حزم (9/65) ؛ فتح القدير، لابن كمال الهمام (5/461) .
(25) انظر: الوساطة التجارية في المعاملات المالية، الدكتور الأطرم، 484.
(26) انظر: النظام التجاري بالمملكة السعودية، المادة 18؛ معجم المصطلحات القانونية، لخليل شيبوب، مادة: كمسيون، وكالة.
(27) الضروري هو ما يسبب فواته اختلال نظام الحياة، والحاجي هو ما يسبب فواته الضيق والحرج على الناس، وأما التحسيني فهو ما يسبب فواته خروج حياة الناس عن العادات الكريمة، الموافقات، للشاطبي (2/8، 11) .
(28) الأشباه والنظائر، للسيوطي 93، وابن نجيم 85.
(29) الأشباه والنظائر، للسيوطي 97، وابن نجيم 91.
(30) موطأ الإمام مالك، كتاب الزكاة برقم 621؛ السنن الكبرى، للبيهقي، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا تجر في غير بلده، برقم 19279؛ مصنف عبد الرزاق، كتاب أهل الكتاب، باب: في صدقة أهل الكتاب (6/99) ، وانظر في هذه المسألة: المغني (13/235) والقِطْنيّة بكسر القاف والتشديد واحدة القطاني كالعدس والحمص ونحوهما، انظر: النهاية في غريب الحديث (4/85) .
(31) الموافقات (4/210) .
(32) الموافقات، للشاطبي، (3/257) .
(33) الموافقات (4/200) ، وانظر تفصيل ذلك في قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية، لمصطفى مخدوم، 370 فما بعدها.
(34) إحكام الفصول، للباجي، 690؛ شرح الكوكب المنير، للفتوحي (4/434) .
(35) إعلام الموقعين (3/137 - 159) .
(36) الفتاوى الكبرى، (3/257) .
(37) إعلام الموقعين، (3/135) ؛ القواعد والأصول الجامعة، لابن سعدي، ص 14.
(38) انظر: الموافقات (4/194) .
(39) تفسير القرآن العظيم (3/351) .
(40) تضمين من مجموع الفتاوى (20/48) .
(41) الموافقات (2/364) ، ومن الأمثلة التي ذكرها: النهي عن البناء على القبور، وسفر المرأة بلا محرم، والخلوة بالأجنبية، وتحريم الزينة على المرأة في عدة الوفاة، وميراث القاتل، وغير ذلك.
(42) مجموع الفتاوى (1/164) .
(43) الفروق، للقرافي، (2/62) ، الفرق الثامن والخمسون.
(44) القواعد الصغرى، ص 100.
(45) الموافقات، (2/ 360) .
(46) مغازي الواقدي، (1/11) ؛ السيرة لابن هشام (2/287) ؛ طبقات ابن سعد (2/7) .
(47) السيرة لابن هشام، (2/284) ؛ طبقات ابن سعد (2/908) .
(48) السيرة لابن هشام، (2/284) ؛ طبقات ابن سعد (2/9) .
(49) صحيح مسلم 1901، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(50) السيرة لابن هشام، (2/284) وصرح فيه ابن إسحاق بالسماع؛ والبيهقي في الدلائل (3/31) ؛ وذكره الحافظ في فتح الباري (6/334) وسكت عنه.
(51) صحيح البخاري، 7231.
(52) صحيح البخاري 4823؛ صحيح مسلم 2798.
(53) صحيح البخاري، 4372؛ صحيح مسلم، 1764.
(54) السيرة النبوية، لابن هشام (2/381) معلقاً، وذكره ابن القيم في زاد المعاد (3/277) .
(55) صحيح البخاري، 7142.
(56) المدخل الفقهي العام، للزرقا (2/1050) .
(57) الأشباه والنظائر، للسيوطي 134؛ وابن نجيم، 124.
(58) صحيح البخاري، 4418؛ صحيح مسلم، 2769.
(59) نهاية التدريب نظم غاية التقريب، 104.
(60) بواسطة اقتضاء الصراط المستقيم (2/19) .
(61) اقتضاء الصراط المستقيم (2/10) .
(62) هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً، ولد عام 1225هـ سكن مصر وأخذ عن علمائها وعلماء الدعوة السلفية، له عدة مؤلفات، ممن تلقى عنه الشيخ حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، توفي سنة 1292هـ.
(63) الدرر السنيّة (8/340) .
(64) صحيح البخاري 5351؛ صحيح مسلم 1002.
(65) مجموع الفتاوى (7/43) .
(66) الاختيارات الفقهية 311.(179/8)
دراسات في الشريعة
رجب بين الاتباع والابتداع
محمد بن سعد العيد
إن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الشرائع لأجل
أن يُعبد ويوحد، قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:
56) .
وقال تعالى: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ] (النحل: 36) .
وهذه العبادة لا تسمى عبادة إلا إذا كانت خالصة لرب العالمين، وموافقة لأمر
الرسول الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ حيث قال تعالى: [فَمَن كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] (الكهف: 110) .
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: «إن العمل إذا كان خالصاًَ ولم يكن
صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل؛ حتى يكون خالصاً
صواباً، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة» [1] .
والمتأمل في حال بعض المسلمين يجد أنهم أحدثوا عبادات بدعية، وأخذوا
يتعبدون الله بها ظناً منهم أنها من الدين وليست كذلك، وهذا راجع إلى أمور منها
الجهل، والتعصب الأعمى لما عليه الأهل والعشيرة، والتقليد، واتباع مشايخ
الضلالة، والمصلحة التي يحصل عليها بعض من يفعل هذه البدع أو يشرف عليها.
ومن البدع التي تحدث في كل عام واتخذها الناس من العبادات ما يُفعل في
شهر رجب من الأمور المنكرة، وسنذكرها فيما يلي، ولكن نقدم بمقدمة نعرِّف فيها
برجب وسبب التسمية بهذا الاسم.
* أولاً: معنى رجب وسبب التسمية:
رجب في اللغة مأخوذ من رجِبَ الرجلَ رجبَاً، ورَجَبَه يرجُبُه رَجْباً ورُجُوباً،
ورَجَّبه وترجَّبه وأَرْجَبَه؛ كلُّه: هابه وعَظَّمه، فهو مَرْجُوبٌ.
ورجب: شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا
يستحلون القتال فيه، والترجيب التعظيم، والراجب المعظم لسيده [2] .
* ثانياً: بعض ما يفعل فيه:
1 - الاحتفال بليلة السابع والعشرين منه، ويسمونها ليلة الإسراء والمعراج:
قال الإمام ابن باز - رحمه الله -: «وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء
والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير
ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة
في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من
العبادات؛ فلم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
رضوان الله عنهم لم يحتفلوا بها ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها أمراً
مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول أو الفعل، ولو وقع
شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة رضي الله عنهم إلينا» [3] .
2 - صلاة الرغائب:
أ - صفتها: وردت صفتها في حديث مكذوب على المصطفى صلى الله عليه
وسلم، وإليك الحديث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر
أمتي..» إلى أن قال: «وما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس في رجب،
ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة، يعني ليلة الجمعة، ثنتي عشرة ركعة يقرأ في
كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، و {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ثلاث مرات، و {قل
هو الله أحد} اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ صلى
عليّ سبعين مرة، ثم يقول: اللهم صلّ على محمد النبي الأمي وعلى آله، ثم يسجد
ويقول في سجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة، ثم يرفع رأسه
فيقول: رب اغفر لي وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت العزيز الأعظم سبعين
مرة، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى
حاجته، فإنها تقضى» .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما من عبد ولا أمة
صلى هذه الصلاة إلا غفر الله تعالى له جميع ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وعدد
ورق الأشجار، وشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته، فإذا كان في أول ليلة
في قبره جاءه بواب [4] هذه الصلاة، فيجيبه بوجه طلق ولسان ذلق، فيقول له:
حبيبي أبشر! فقد نجوت من كل شدة، فيقول: من أنت؟ فو الله ما رأيت وجهاً
أحسن من وجهك، ولا سمعت كلاماً أحلى من كلامك، ولا شممت رائحة أطيب من
رائحتك، فيقول له: يا حبيبي! أنا ثواب الصلاة التي صليتها في ليلة كذا في شهر
كذا، جئت الليلة لأقضي حقك، وأونس وحدتك، وأرفع عنك وحشتك، فإذا نفخ
في الصور أظللت في عرصة القيامة على رأسك، وأبشر فلن تعدم الخير من
مولاك أبداً» [5] .
قال ابن الجوزي - رحمه الله - بعد إيراد الحديث السابق: «هذا حديث
موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اتهموا به ابن جهيم ونسبوه إلى
الكذب، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت
عليهم جميع الكتب فما وجدتهم» [6] .
وقال الشوكاني - رحمه الله -: «هو أي الحديث موضوع. ورجاله
مجهولون، وهذه هي صلاة الرغائب المشهورة، وقد اتفق الحفاظ على أنها
موضوعة» [7] .
ب - حكمها: قال الإمام النووي - رحمه الله -: «فإنها بدعة منكرة، من
بدع الضلالة والجهالة، وفيها منكرات ظاهرة، قاتل الله واضعها ومخترعها، وقد
صنف الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها، وتضليل مصليها ومبتدعها، ودلائل
قبحها وبطلانها وتضليل فاعلها، أكثر من أن تحصر» [8] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وأما صلاة الرغائب فلا
أصل لها بل هي محدثة فلا تستحب لا جماعة، ولا فرادى؛ فقد ثبت في صحيح
مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة
بصيام، والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من
السلف والأئمة أصلاً ... » [9] .
وقال أيضاً: «صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين، لم يسنها رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا استحبها أحد من أئمة الدين كمالك،
والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث، وغيرهم.
والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث..» [10] .
وسئل أيضاً عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا؟ فأجاب: «هذه
الصلاة لم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا
التابعون ولا أئمة المسلمين، ولا رغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا
أحد من السلف، ولا الأئمة، ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها. والحديث
المروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة
بذلك؛ ولهذا قال المحققون: إنها مكروهة غير مستحبة، والله أعلم» [11] .
وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: «وهذه الصلاة أي الرغائب بدعة
عند جمهور العلماء، وممن ذكر ذلك من أعيان العلماء والمتأخرين من الحفاظ أبو
إسماعيل الأنصاري، وأبو بكر ابن السمعاني، وأبو الفضل ابن ناصر، وأبو
الفرج ابن الجوزي وغيرهم. وإنما لم يذكرها المتقدمون؛ لأنها أُحدثت بعدهم،
وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة؛ فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها» [12] .
3 - صيام شهر رجب كله أو بعضه اعتقاداً أن في ذلك فضيلة خاصة به:
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: «لم يرد في فضل شهر رجب، ولا
في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث
صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي
الحافظ، رحمه الله» [13] .
وممن سبق الحافظ ابن حجر الإمام ابن القيم حيث قال: «وكل حديث في
ذكر صوم رجب، وصلاة بعض الليالي فيه، فهو كذب مفترى» [14] .
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يضرب أيدي الرجال في رجب
إذا رفعوا عنه طعامه، حتى يضعوا فيه ويقول: إنما هو شهر كان أهل الجاهلية
يعظمونه [15] .
وذكر الإمام الطرطوشي أنه يكره صيام رجب على ثلاث أوجه:
1 - أنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام، حسب العوام ومن لا
معرفة له بالشريعة، مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان.
2 - أو أنه سنة ثابتة خصه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصوم كالسنة
الراتبة.
3 - أو أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام سائر الشهور،
جارٍ مجرى صوم عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من
باب الفضائل لا من باب السنة والفرائض، ولو كان من باب الفضائل لبينه
الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله ولو مرة في العمر، كما فعل في صوم
عاشوراء وفي الثلث الغابر من الليل.
ولما لم يفعل بطل كونه مخصوصاً بالفضيلة، ولا هو فرض ولا سنة باتفاق،
فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه، فكره صيامه والدوام عليه حذراً من أن يلحق
بالفرائض والسنة الراتبة عند العوام.
فإن أحب امرؤ أن يصومه على وجه تؤمن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتى لا
يعد فرضاً أو سنة، فلا بأس بذلك [16] .
4 - الاعتمار في رجب اعتقاداً بأن فعلها في هذا الشهر فضيلة:
لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في رجب أو خصه
بعمرة دون غيره، فلا فضل للعمرة في رجب على غيره من الشهور كما يظنه
بعض الناس.
والمحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه اعتمر بعد الهجرة أربع عمر،
كلهن في ذي القعدة:
الأولى: عمرة الحديبية، سنة ست للهجرة فصده المشركون عن البيت.
الثانية: عمرة القضية في العام المقبل.
الثالثة: عمرته من الجعرانة، لما خرج إلى حنين ثم رجع إلى مكة، فاعتمر من
الجعرانة داخلاً إليها.
الرابعة: عمرته التي قرنها مع حجته» [17] .
وذكر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - أن العلماء أنكروا
تخصيص شهر رجب بكثرة الاعتمار [18] .
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز التويجري [19]- حفظه الله -: «والذي
يترجح عندي والله أعلم أن تخصيص شهر رجب بالعمرة ليس له أصل؛ لأنه ليس
هناك دليل شرعي على تخصيصه بالعمرة فيه، مع ثبوت أن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يعتمر في رجب قط. ولو كان لتخصيصه بالعمرة فضل لدل أمته عليه
وهو الحريص عليهم كما دلهم على فضل العمرة في رمضان ونحو ذلك» .
وما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما حينما سئل فقيل له: يا أبا عبد
الرحمن! اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال: نعم! فأنكرت عائشة
رضي الله عنها ذلك، وابن عمر يسمع، فما قال لا، ولا نعم، بل سكت، ولو
كان لتخصيصه فضيلة لذكرته عائشة رضي الله عنها [20] [*] .
__________
(1) انظر: جامع العلوم والحكم، ابن رجب، 72.
(2) القاموس المحيط، 113، ولسان العرب، 1/ 411 - 412، مادة (رجب) .
(3) رسالة التحذير من البدع، ص7.
(4) لعل صواب الكلمة هو ثواب.
(5) رواه ابن الجوزي في الموضوعات، 2 / 124 - 125.
(6) المصدر السابق، 2 / 125.
(7) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، 48.
(8) صحيح مسلم بشرح النووي، 8 / 20.
(9) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23 / 132.
(10) المصدر السابق، 23 / 134.
(11) المصدر السابق، 23 / 135.
(12) لطائف المعارف، ابن رجب، 228.
(13) تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، ابن حجر، 23.
(14) المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ابن القيم، 96.
(15) أورده ابن دحية في كتابه (أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب) ، 113 وصححه الألباني في إرواء الغليل، 4 / 113 - 114، ح 957.
(16) الحوادث والبدع، الطرطوشي، 110 - 111 (بتصرف يسير) .
(17) زاد المعاد، ابن القيم، 2 / 90 - 91 (بتصرف يسير) .
(18) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، 6 / 131.
(19) مؤلف كتاب البدع الحولية، والنقل من كتابه، 238.
(20) انظر: الأدب في رجب، ملا علي القاري، 49 - 51.
(*) ذهب جملة من أهل العلم إلى الاعتمار في رجب كما في لطائف المعارف، وابن القيم قد أشار إلى المفاضلة بين الاعتمار في رجب والاعتمار في رمضان (زاد المعاد ج2/95) فالمسألة فيها خلاف وتحتاج إلى مزيد تحرير.(179/17)
دراسات في الشريعة
مسؤولية الفتوى الشرعية
ضوابطها وأثرها في رشاد الأمة
(2 ـ 2)
أ. د. محمد فؤاد البرازي [*]
في الحلقة السابقة أشار الكاتب إلى أن التصدي للإفتاء بشروطه وضوابطه من
أهم وسائل نشر العلم، كما عرف الفتوى لغة واصطلاحاً، ثم ذكر أهميتها والحاجة
إليها، وعرج بعد ذلك على مسؤولية الفتوى وضوابطها من خلال اعتمادها على
الأدلة الشرعية، وذكر طرفاً من الفتاوى الشاذة، كما لفت النظر إلي الخصال التي
على المفتي الاتصاف بها.
ومما يجب التنبه له أن المفتي ليس الذي تتحقق فيه تلك الشروط والخصال
فحسب، بل هو الذي يستصحب معها مواصفات أخرى تعتبر مكملة لما سبق،
نجملها فيما يلي:
1 - فهم مقاصد الشريعة: إن مراعاة مقاصد الشريعة أمر تشهد له قواعد
الشريعة، وقد كانت هذه المقاصد محل اعتبار لدى الأئمة المجتهدين، والعلماء
المحققين، ولهذا وجدنا جمهور أهل العلم يقررون أن الأحكام بمقاصدها، على
تفاوت بينهم في مدى الأخذ بهذا المبدأ؛ ذلك أن نصوص الشريعة وأحكامها معللة
بمصالح ومقاصد وضعت لأجلها، فينبغي عدم إهمالها عند تقرير الأحكام.
2 - معرفة مواضع الاختلاف: إن البصير بمواضع الاختلاف، العالم
بمدارك العلماء، المتأمل في أدلتهم، الواقف على استنباطاتهم، حري به أن يتبين
له الحق في النوازل العارضة، والوقائع المتجددة، فيفتي بأقواها حجة، وأقومها
محجة.
وقد تضيق بالناس الأحوال، وتتكافأ فيها الأقوال، فيختار منها ما يُصلح
حالهم، ويخرجهم من حرجهم.
لهذا جعل كبار العلماء العلم معرفة الاختلاف، حتى قال قتادة: «من لم
يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه» .
- وقال عطاء: «لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكونه عالماً باختلاف
الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه» .
- وعن مالك: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له:
اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا؛ اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،
وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
- وقال يحيى بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا
يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليَّ.
- وعن سعيد بن أبي عروبة: من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالماً.
قال الشاطبي بعد هذه الأقوال: «وكلام الناس هنا كثير، وحاصله: معرفة
مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف، ومعرفة ذلك إنما تحصل بالنظر، فلا بد
منه لكل مجتهد، وكثيراً ما تجد هذا للمحققين في النظر» [1] .
3 - القصد والاعتدال: إن «المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل
الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا
يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا: أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ ذلك
أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط؛ فإذا
خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن
المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضاً فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.
- قال سعد بن أبي وقاص:» رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على
عثمان بن مظعون التبتل « [2] .
- وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة:» أفتَّان أنت يا معاذ! « [3] .
- وقال:» إن منكم منفِّرين « [4] .
- وقال:» سددوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة،
والقصدَ القصدَ تبلغوا « [5] .
- وقال:» اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن
أحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل « [6] .
- ورد عليهم الوصال، فقال:» لا تواصلوا « [7] .
فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق:
- أما في طرف التشديد فإنه مهلكة.
- وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً؛ لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب
العنت والحرج بغَّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة،
وهو مشاهد [8] .
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال، كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة،
والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى؛ لأن اتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة.
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتوى» بإطلاقٍ مضاداً للمشي على
التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً. وربما فهم بعض الناس أن ترك
الترخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطاً، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة
وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك « [9] .
4 - فهم الواقع والفقه فيه: إن من واجب المفتي أن يكون بصيراًَ بزمانه،
عارفاً بأوانه، فاهماًَ لواقعه، حتى تكون فتاواه مبنية على تصور سليم، واستنباط
قويم.
وقديماً قال أهل العلم:» الحكم على الشيء فرع عن تصوره «.
والمفتي الذي لا يعرف الواقع الذي يفتي فيه، يخطئ في كثير من فتاويه،
ويعرض الناس إلى النفرة من الدين، والبعد عن محجة المتقين.
قال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا
بنوعين من الفهم:
- أحدهما: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن
والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
- والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في
كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن
بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً.
فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله كما
توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه.
ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا
أضاع على الناس حقوقهم ونسب ذلك إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله [10] .
وعلى هذا: فالفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب
استطاعته، لا من يُلقي العداوة بين الواجب والواقع،» فلكل زمان حكم، والناس
بزمانهم أشبه منهم بآبائهم « [11] .
غير أنه لا تصح مخالفة النصوص، ولا تأويلها تأويلاً متعسفاً، ولا تطويعها
لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع، فهذا تحريف للكلم عن مواضعه، واستسلام
لضغوط واقع غير إسلامي، نتيجة ضعف النفس، وعجز الإرادة.
وثامن هذه الضوابط: مراعاة القواعد الشرعية المؤثرة في الفتوى، كسد
الذرائع، والحيل، والضرورات.
- أما الذرائع، فقد قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية:» الذريعة: ما كانت
وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى
فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن لها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة:
الفعل الذي ظاهره مباح، وهو وسيلة إلى فعل محرم « [12] .
وقد قسم القرافي الذرائع إلى ثلاثة أقسام:
- فالقسم الأول: ما أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه، كالمنع من سب
الأصنام عند من يعلم حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها، وكحفر الآبار في طرق
المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم فيها.
- والقسم الثاني: ما أجمعت الأمة على عدم منعه، كالمنع من زراعة العنب
خشية الخمر، وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنى، فإنه لم يقل به أحد.
- والقسم الثالث: ما اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ كبيوع الآجال عند
المالكية؛ كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر؛
فمالك يقول: إنه أخرج من يده خمسة الآن، وأخذ عشرة آخر الشهر؛ فهذه وسيلة
لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلاً بإظهار صورة البيع لذلك.
والشافعي يقول: ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز
ذلك [13] .
فالفتوى الشرعية تأخذ في اعتبارها ذلك كله، لا سيما ما يفضي إلى الحرام.
- وأما الحِيَل، فمعناها: إظهار أمر جائز ليتوصل به إلى محرم يبطنه»
[14] .
قال الشاطبي: «وحقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم
شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر» [15] .
ويفهم من كلام الشاطبي: أن الحيل يشترط فيها القصد من المكلف، وقد
صرح بذلك؛ حيث قال: «ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية»
[16] .
فالفرق بين الذريعة والحيلة:
- أن الذريعة ما تفضي إلى المحرم بدون قصد من الفاعل، كسبِّ الأوثان
فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره؛ فإنه ذريعة إلى سب
والده.
- أما الحيلة فهي ما يفضي إلى المحرم بقصد من الفاعل، مثل ما يحتال به
من المباحات في الأصل فراراً من الواجب، كبيع النصاب في أثناء الحول فراراً
من الزكاة.
فالفتوى تأخذ في اعتبارها ذلك كله، فتسد الذرائع حتى لا يتوصل بسببها إلى
المحرم حتى ولو كانت جائزة في الأصل مثل سب الأوثان؛ أما لو سلمت من
المحذور فإنها تبقى على حكم الأصل.
كما أن الفتوى تأخذ في اعتبارها إبطال الحيل لما يترتب على هذه الحيل من
خرم قواعد الشريعة، والتحلل من التكاليف الشرعية، فتلغى معاملةً للمكلف بنقيض
قصده.
ولا ينتبه لذلك إلا مفتٍ يقظ لا تخدعه تلك التمويهات، ولا يغره بريق
العبارات.
- أما قاعدة الضرورة الشرعية فينبغي مراعاتها أيضاً؛ لأنها قاعدة متفق
عليها تقوم على أدلة من الكتاب والسنة، ولكون تطبيقاتها مما تضطر إليها الأمة.
وقد قعَّد لها العلماء قاعدة هامة تقول: «الضرورات تبيح المحظورات» ،
كما قرنوها بقاعدة أخرى مقيدة لها هي: «الضرورات تقدر بقدرها» .
ولن أبسط القول في هذه القاعدة الهامة؛ لأن الموضوع لا يحتمله؛ غير أني
أردت الإشارة إليها لتراعى في الفتوى عند تحقق شروطها، وهي:
أ - أن تكون واقعة لا منتظرة بأن يتحقق أو يغلب على الظن وجود خطر
حقيقي على الدين، أو النفس، أو العقل، أو النسل، أو المال.
ب - وأن تكون ملجئة بحيث يخاف الإنسان هلاك نفسه، أو قطع عضو من
أعضائه، أو تعطل منفعته إن ترك المحظور.
ج - وأن لا يجد المضطر طريقاً آخر غير المحظور.
فمتى تخلف شرط من هذه الشروط انتفى القول بالضرورة.
ورغم اتفاق أهل العلم على هذه الشروط إلا أن المجلس الأوروبي للإفتاء
والبحوث قد تجاوزها، فأفتى بجواز القروض الربوية لشراء المساكن في غير
البلاد الإسلامية بدعوى اعتماده على قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» رغم
عدم تحقق شروطها السابقة، واستناداً لما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد
بن الحسن الشيباني من جواز التعامل بالربا وغيرها من العقود الفاسدة بين المسلمين
وغيرهم في غير دار الإسلام [17] .
أما استناد المجلس على قاعدة الضرورة فغير منضبط لعدم تحقق شروطها
السابقة، وعليه فإن فتواه خاطئة:
- ما دام الإنسان يجد بيتاً يسكنه عن طريق الإيجار.
- أو كان لديه مال يشتري به المسكن.
- أو لم يكن لديه المال ولكنه وجد من يقرضه قرضاً حسناً.
- أو وجد وسيلة شرعية أخرى تعينه على الشراء كبيع المرابحة الذي تكون
فيه الزيادة في الثمن مقابل الزيادة في الأجل.
وأما استناد المجلس إلى ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن
الحسن الشيباني فلا يصح أيضاً، لعدم انطباق تلك الحالة على مذهب الأحناف الذي
يشترط لجواز التعامل بالربا مع غير المسلمين شروطاً عديدة.
واستدلال بعضهم بحديث: «لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب» ، لا
يفرح به عارف بالحديث؛ لأنه ضعيف لا تقوم به حجة، ويكفي ما قاله الإمام
الشافعي فيه: «هذا ليس بثابت، ولا حجة فيه» ا. هـ.
وإنما قلنا بحرمة الاقتراض بالربا في هذه الحالة لعدم تحقق شروط الضرورة،
ولعموم الأدلة القاضية بتحريم الربا التي لم تفرق بين دار ودار، ولا بين مسلم
وغيره.
فليأخذ العاقل من تقواه لفتواه، ومن دنياه لأخراه، قبل [أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا
حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ] (الزمر: 56) .
وبهذا نكون قد أتينا على أهم ضوابط الفتوى حتى تكون معتبرة شرعاً،
ومقبولة طبعاً.
* أثر الفتوى في رشاد الأمة:
إذا كانت الفتوى مؤصلة تأصيلاً شرعياً سليماً من التنطع، معافى من التسيب،
بعيداً عن الأقوال الشاذة، نائياً عن الأدلة التالفة، مراعى فيه رضى الحق،
وملاحظاً به مصالح الخلق، فإن الفتوى تترك في الأمة آثاراً طيبة نجملها فيما يلي:
أ - إزالة الجهل: إن سؤال المستفتي وإجابة المفتي نوع من المدارسة العلمية
يتعلم فيها السائل أحكام الدين، وهو نوع من العلم الذي حض الله تعالى على
تحصيله في كتابه الكريم؛ حيث قال: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا
فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة: 122) .
وقال تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) .
كما أن الآيات الأولى التي نزل بها الوحي على رسول الله صلى الله عليه
وسلم كانت حضاً على العلم؛ لأنه ينير العقول والبصائر، ويستنهض الهمم
والضمائر، ويزيل الجهل، ويصقل العقل، وترتقي به الأمة، ويعلو شأنها.
لقد قامت مدرسة النبوة على التوحيد الذي يحفظ العقل من الخرافة كما قامت
على العلم الذي يصون الإنسان من الجهالة، فتخرج منها رجال كانوا منارات هداية
للسائرين، ومشاعل علم ومعرفة للقاصدين.
فبالفتاوى الكثيرة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه،
وبالرعاية الإيمانية والعلمية التي أحاطهم بها، نشأ خير جيل عرفته الإنسانية في
تاريخها فيه من مجتهدي الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن
مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.
نعم تخرج من تلك المدرسة جيل فريد متسلح بالعلم، بعد أن كان يغط في
جهالة عمياء لا يعرف قراءة ولا كتابة! وكانت فتاوى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتوجيهاته عاملاً من عوامل تعليم الأمة ورفع الجهل عنها.
ب - تصحيح المسار للفرد والمجتمع: فالفتوى السليمة تجعل المستفتي على
الجادة القويمة، وتبعده عن البدع الذميمة، فتصحح مساره لئلا يزل، وتحذره من
البدع لئلا يضل؛ وفي ذلك صلاح الفرد، وسلامة المجتمع.
قال الله تعالى: [وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ
وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] (سبأ: 6) .
ج - توثيق صلة الأمة بعلمائها: إن الفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها،
وتربطهم بولاة الأمر في شؤون دينها، وما أحوج الأمة إلى ذلك التلاحم الذي يقود
ركبه حملة أشرف رسالة!!
إن الأمة التي تبقى وفية لعلمائها تسمع لقولهم، وتطيع أمرهم، وتأخذ
بنصحهم هي أمة مؤهلة للفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة؛ وكيف لا يتم لها الفوز
والله تعالى قد أرشدها لطاعته، فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء: 59) .
فقد فسر الجمهور أولي الأمر بالأمراء، وفسرها بعض السلف وعلى رأسهم
ترجمان القرآن الكريم ابن عباس - رضي الله عنه - بالعلماء.
أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عطاء في قوله
تعالى: [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] قال: طاعة الرسول: اتباع الكتاب
والسنة. [وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] : قال: أولي الفقه والعلم [18] .
والظاهر أن الآية تشمل أولي الأمر الدنيوي وهم ولاة الأمر، كما تشمل أولي
الأمر الديني وهم أولو الفقه والعلم.
د - تبصرة طالب العلم: إذا وفق الله تعالى طلبة العلم إلى استفتاء العلماء
المتمكنين العاملين المخلصين؛ فإن آفاق المعرفة تتفتح أمامهم ينهلون من معينها،
ويرشفون من حقائقها، فتتنور بصائرهم، وتنضج معارفهم.
وقديماً دل لقمان الحكيم ولده على منبع الخير حتى ينهل منه، فقال له: «يا
بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب الميتة بالحكمة كما
يحيي الأرض الميتة بوابل السماء» [19] .
وبمقدار ما يكون العالم متمكناً، وطالب العلم نهماً، تكون النتائج أوفر،
والعوائد أكثر.
فمن ظفر بعالم متمكن، عامل بعلمه، مسدد في فهمه، فقد حِيزَ له خير عميم،
وفضل عظيم.
هـ - إعانة المسلمين على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الصحيح:
إذا سلمت الفتوى من الشذوذ، وتجردت عن تنطع المتنطعين، وتسيب المتسيبين،
ثم أعطيت للمستفتي على أنها توقيع عن رب العالمين، فإنها تكون خير عون على
أداء التكاليف الشرعية كما أمر الله تعالى في قوله الكريم: [وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ] (الزمر: 55) .
وكلما كانت الفتوى سديدة، ومعتمدة على الأدلة الصحيحة، فإنها تكون أدعى
إلى حمل الناس على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله،
وفي ذلك إحياء للسنن، وإماتة للبدع.
* الآثار السيئة لأخذ الفتوى عن غير أهلها:
إن الفتوى دين، وهي كما سبق توقيع عن رب العالمين؛ وبذلك لا يصح
أخذها إلا من الفقهاء المتمكنين، والعلماء العاملين؛ فما كل من شدا العلم صار
عالماً، ولا كل من اعتزى إليه بات بحق الفتوى قائماً، وقديماً قال محمد بن سيرين
- رحمه الله تعالى -: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم» [20] .
فالفتاوى الخاطئة، أو الصادرة عن غير أهلها تترك آثاراً سيئة، وأضراراً
في الفرد والمجتمع فادحة، منها:
أ - التعدي على حدود الله: فما أفدح الخطب حين تنتهك حرمات الله بفتاوى
جائرة تنسب إلى دين الله.
- قال الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ]
(النحل: 116) .
- وقال عز شأنه: [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] (الأعراف: 33) .
- وعن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها،
وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا
عنها» [21] .
ب - الجرأة على دين الله: إن أخذ الفتوى عن غير أهلها يسوق المستفتي
إلى الجرأة على دين الله؛ فلا تبقى لله تعالى في قلبه رقابة، ولا إلى الحق تعالى
في نفسه إنابة، فيرتكب ما سأل عنه بفتوى جائرة، ثم يتدهده من قلة الخشية،
وظلمة المعصية من ذنب إلى آخر حتى تهوي به أهواؤه في مكان سحيق.
ج - شيوع الباطل وإلباسه لبوس الحق: وذلك من التلبيس على الخلق،
والطمس لمعالم الحق: [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن
يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَناًّ إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ
شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ] (يونس: 35-36) .
د - الضلال عن صراط الله العزيز الحميد: إن الخير كل الخير في اتباع
سلف الأمة، ومنهجهم القائم على الكتاب والسنة، وفي ذلك صلاحها في الدنيا،
ونجاتها في الآخرة، ورحم الله من قال: وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في
ابتداع من خلف فإذا تقلد الإنسان العلم عن غير أهله ضل عن الطريق؛ فقد روى
الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض
العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم
فضلوا وأضلوا» [22] .
هـ - الانصراف عن العلماء العاملين، والفقهاء المتمكنين: وما أكثر هذه
الظاهرة في هذه الأيام؛ حتى صرنا نرى العامة تُشَيِّخ كل من طرَّ عذاره، أو ارتفع
في الناس مناره، بَلْهَ من علا بالوعظ صوته، أو من أثر فيهم حاله وسمته،
فيتخذونه في أمور دينهم مفتياً، ولحل خصوماتهم قاضياً، مما أدى إلى التسور على
الدين، والافتراء على أئمة المسلمين، حتى بات صوت الحق في بعض الأجواء
نشازاً، ولا يجد إلا إلى الله تعالى ملاذاً.
قال ابن القيم: «تالله إنها فتنة عَمَّت فأعمت، ورمت القلوب فأصْمَتْ، ولما
عمت بها البلية، وعظمت بسببها الرزية، فإن طالب الحق من مظانه لديهم مفتون،
ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون» [23] ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
* المقترحات:
بناءً على ما سبق بيانه، ورغبة في معالجة الآثار السيئة لأخذ الفتوى عن
غير أهلها، فإنني أتقدم بالمقترحات الآتية:
1 - العودة في القضايا الكبرى والمسائل الشائكة إلى المجامع الفقهية في العالم
الإسلامي، مثل:
- المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة.
- المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
- المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة.
- مجلس الفكر الإسلامي في إسلام آباد بالباكستان. وقد دونت أبحاثه باللغتين
الأوردية والإنجليزية.
- وأكاديمية الفقه الإسلامي في دلهي بالهند، وقد أصدرت بحوثاً قيمة باللغة
الأوردية في كثير من النوازل بأقلام كبار علماء الأحناف بالهند، بلغت سبعة
مجلدات.
ونوصي هذه المجامع المباركة بزيادة عدد الأعضاء من العلماء الذين يعرفون
واقع الجاليات الإسلامية في بلاد غير المسلمين، لمعالجة قضايا الجاليات في غير
البلاد الإسلامية.
2 - الرجوع في المسائل الأخرى إلى العلماء الأثبات المشهود لهم بسعة العلم،
ودقة الفهم، ومعرفة الواقع، وإدراك مقاصد الشارع.
3 - تشكيل لجان فتوى من ثقاة أهل العلم الذين تقدمت مواصفاتهم آنفاً،
لتكون إلى جانب الجهات الأخرى الموثوقة مرجعاً سريعاً للجاليات الإسلامية،
تطرح عليها إشكالاتها، وتجد لديها حلاً لمعضلاتها.
4 - عقد ندوات فقهية يقوم عليها فقهاء متخصصون، يتمتعون بثقة الأمة
وعلمائها، يبحثون في مشكلات الجاليات الإسلامية، ويقدمون لها حلولاً واقعية.
5 - عقد دورات علمية يرشح لها من عرفت بالعلم كفايته، وتحققت فيه
معرفته، وتوافرت له صلاحيته، واستفاضت في الناس أهليته.
6 - تأليف كتاب في فقه الأقليات الإسلامية يضم بين دفتيه إجابات شرعية،
وحلولاً عملية لما تحتاج إليه الجاليات الإسلامية، يقوم بتأليفه لجنة من أهل العلم
تعرف واقع تلك الجاليات، وتدرك حكم الله تعالى في تلك المعضلات.
هذا ما أردت قوله؛ فإني [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ
بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] (هود: 88) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب
العالمين.
__________
(*) مدير الرابطة الإسلامية في الدانمارك.
(1) انظر: الموافقات، 4/ 116 - 117، للشاطبي، وانظر: تلك الآثار السابقة في صحيح جامع بيان العلم وفضله، ص 319 - 321.
(2) أخرجه أحمد، 1/183، والبخاري الحديث 5074، ومسلم 9/ 176 بشرح النووي، والترمذي الحديث 1003، وابن ماجه الحديث 1838.
(3) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، والأربعة، وابن حبان، والطبراني، والبيهقي، كما في بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، 5/242.
(4) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرهم، كما في بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، 5/ 238.
(5) أخرجه أحمد، حديث 7454، والبخاري، حديث 6755، وأبو داود حديث 2014، والترمذي حديث 709.
(6) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، كما في الجامع الصغير، الحديث 1439.
(7) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم كما في بلوغ الأماني، 10/84، للبنا.
(8) جاء في تحفة الأحوذي عند شرح حديث الترمذي، رقم 219: وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لا تبغِّضوا الله إلى عباده» .
(9) الموافقات، 4/ 188 - 190، للشاطبي.
(10) إعلام الموقعين، 1/ 77 - 88.
(11) إعلام الموقعين، 2/ 220.
(12) الفتاوى الكبرى، 3/ 356.
(13) انظر: الفروق، 2/ 32 - 33.
(14) إعلام الموقعين، 3/ 172.
(15) الموافقات، 4/ 145، للشاطبي.
(16) الموافقات، 4/ 146، للشاطبي.
(17) انظر: القرار رقم 2/ 4 من البيان الختامي للدورة الرابعة المنعقدة في دبلن بإيرلندا، تاريخ 27 - 31/10/1999م.
(18) المحرر الوجيز، 4/ 110.
(19) صحيح جامع بيان العلم وفضله، رقم 399.
(20) أخرجه مسلم في المقدمة، والدارمي، رقم 425.
(21) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره، كما في رياض الصالحين، حديث 1832، والأربعين النووية، حديث 30.
(22) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، كما في الجامع الصغير للسيوطي، الحديث 1826.
(23) إعلام الموقعين، 1/ 8.(179/20)
قضايا دعوية
بلاغ الرسالة القرآنية.. معالم في المنهج الدعوي
منهج التعرف إلى الله والتعريف به
(1 ـ 2)
د. فريد الأنصاري [*]
* مقدمة:
قد لا يخطر على بال الداعية إلى الله أن يسأل نفسه وهو يدعو إلى الله: «ما
معنى الدعوة إلى الله» ؟ هذا سؤال أساس وضروري؛ لأن بالجواب عنه ينضبط
العمل الدعوي، ويستقيم. وأحسب أن إهمال تحقيق عقيدة التوحيد في المجال
الدعوي لدى بعض الحركات الإسلامية، بأقسامه الاستقرائية، كما بينه علماء
السلف، من توحيد للربوبية، وتوحيد للألوهية، وتوحيد للأسماء والصفات، هو
من أخطر المزالق التي تقود إلى الانحراف عن المنهج. فالجواب عن سؤال: «ما
الدعوة إلى الله؟» لا يكون إلا بالانطلاق من عقيدة التوحيد أساساً.
إلا أن الجدير بالذكر أن الوقوف عند حدود استظهار أقسام التوحيد، دون
الغوص إلى عرض مقاصده، في منهج الدعوة إلى الله، هو أيضاً من أخطر
المزالق التي تقود إلى الانحراف عن المنهج؛ إذ سريعاً ما يغيب عن الداعية في
غمرة الانخراط الاجتماعي الهدف الأسمى الذي يتحرك من أجله، فتجف عباراته،
وتنضب دعوته، فلا يبقى لها أثر في النفوس، ولا محبة في القلوب. وبيان ذلك
- بحول الله - هو كما يلي:
* في التعريف القرآني بالله:
إن أول مقاصد القرآن الكريم هو تعريف الناس بالله، هذا الرب العظيم
المتكلم بالقرآن جل جلاله؛ ولذلك جاء تعريف الله لذاته سبحانه بأسمائه الحسنى؛
مباشرة بعد التنبيه على عظمة هذا القرآن. كأنه قال لك: اعرف القرآن أولاً
لتعرف الله. أوَ ليس هو تعالى المتكلم بالقرآن؟ قال جل جلاله يصف ذاته: [هُوَ
اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (الحشر: 22-24) فاقرأ وتدبر.
لقد كان أوْلى بالإنسان أن يسأل نفسه: من أنت؟ .. نعم! أنت هذا الإنسان
الذي وجد نفسه فجأة في هذا الكون الفسيح، الممتد عرضه إلى حدود الغيب
المجهول..!
كون عجيب وغريب لم يستطع الإنسان المعاصر رغم ما اكتسب في مجال
العلوم الكونية، والفلكية، والطبيعية من معارف أن يسبر أغواره الرهيبة.
بل ها هو ذا ما يزال واقفاً على شاطئ الكون ينظر في حيرة: أين ترسو حدود
الضفة الأخرى؟
ثم تأتي الرسالة من رب الكون إلى هذا الإنسان.. وكان أوْلى به أن ينظر
أول ما ينظر إلى مرسلها، ويسأل أول ما يسأل عن مصدرها حتى يتحقق منه يقيناً.
وإذن! دعني أبدأ لك بالدعوى فأقول: إننا مع الأسف لا نعرف الله!
نعم! إن وضع المسلمين اليوم يؤكد هذه الحقيقة المؤسفة؛ ومن هنا وجب
التعريف به.
أما المعرفة بالله فدرجات ومراتب، وما أحسب هذا الشرود الرهيب عن باب
الله في هذا الزمان إلا دليلاً قاطعاً على الجهل العظيم الذي يكبل الناس أن يبحثوا
عن ربهم الذي خلقهم؛ مما يصنفنا دون أدنى مراتب المعرفة بالله. تَرَاخَيْنَا عن
سلوك طريق المعرفة به في الرخاء، فبقينا هَمَلاً، أو لَقضى في مزبلة التاريخ!
وبقيت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا دون وفاء؛ فكان لها مفهومها
المخالف في واقعنا: «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة» [1] .
لو كان الناس يعرفون الله حقاً لرأيت الحال غير الحال؛ ولرأيتهم يسابقون في
أداء حق الخالقية.
وبيان ذلك بالمثال الآتي، ولا مُشاحَّة في الأمثال: إذا قدر الله أن يكون إنسان
ما جاهلاً بوالديه لسبب من الأسباب كليهما أو أحدهما، لكنه نشأ محتضناً بحضن
بعض المحسنين، حتى شب وكبر ثم اكتشف الحقيقة: وهي أن هذا الذي رباه ليس
أباه، وأن هذه التي أرضعته ليست أمه التي ولدته؛ فإنه حينئذ يدخل في غربة
شديدة، قد تذهب بعقله كله، أو بعضه، إلا أن يعتصم بالله؛ والسبب في ذلك أنه
فقد المعرفة بمن كان له سبباً في الخروج من عالم العدم إلى عالم الوجود، ودخل
في جهل عظيم بنسبه وأصله، وانقطعت بين يديه سلسلة سنده التي تربطه إلى
شجرة المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه.
وهنا بصورة تلقائية لا إرادية يدخل في سلسلة من البحث والأسئلة في كل
مكان، وحيثما اتفق، يسأل سؤالاً واحداً: من أبي؟ أو من أمي؟ سؤالان يؤولان
إلى معنى واحد هو: من أنا؟
إن البحث عن الذات فطرة في الإنسان، ولن تُعرف الذات إلا بمعرفة سبب
وجودها؛ إذ المعلولات مرتبطة بالعلل وجوداً وعدماً، ومن ثَمَّ جهلاً ومعرفة. وهنا
يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة غضبه من كثرة أسئلتهم المعنتة.
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث طويل أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قام فيهم خطيباً، فكان مما قال: «من أحب أن يسأل عن
شيء فليسأل عنه! فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي
هذا! قال أنس: فأكثر الناس البكاء، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يقول: سلوني! فقال أنس: فقام إليه رجل، فقال: أين مُدخلي يا رسول الله؟ قال
النار! فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة!
قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني! سلوني! فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا
بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. قال: فسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أولى والذي نفسي بيده! لقد عرضت عليَّ الجنة والنار آنفاً، في
عرض هذا الحائط، وأنا أصلي، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر!» [2] .
فتأمل هذا المشهد: كيف لم يجرؤ أحد من الصحابة أن يسأل شيئاً؛ إذ رأوا
أمارة الغضب عليه صلى الله عليه وسلم، إلا رجلان: أحدهما سأل عن مدخله،
فأجابه: النار، والعياذ بالله! والآخر انتهز الفرصة رغم هول الموقف فقال:
«من أبي؟» فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: «أبوك حذافة» .
إن الإحساس بانقطاع النسب عقدة اجتماعية، سببها الإحساس بالجهل بالذات
اجتماعياً، لا وجودياً؛ ولذلك فقد جاء في رواية مسلم لهذا الحديث: «فأنشأ رجل
من المسجد كان يُلاحَى فيدعى لغير أبيه فقال: يا نبي الله! من أبي؟» أي أنه
كان إذا خاصمه أحد من الناس؛ سبه وعيره بنسبته إلى غير أبيه! فكان ذلك يحزنه
ويعقده، فلم يستطع أن يكتم رغبته الجامحة في معرفة حقيقة نسبه، رغم ما شهد
من رهبة اللحظة، وخوف الصحابة من غضب النبي صلى الله عليه وسلم! وكم
شهدنا من الناس من أنفق ما أنفق من الأموال والأعمار من أجل اكتشاف والده، أو
أي أحد من عشيرته، أو أي خيط مهما بعد أو ضعف من خيوط نسبه، أو من له
صلة بذلك من الناس، عساه أن يصله بحقيقة نفسه، ولو توهماً!
غريب أمر هذا الإنسان! كيف يجهد لمعرفة حقيقته الاجتماعية، ولا يجهد
ذلك الجهد وأقصى لمعرفة حقيقته الوجودية؟
إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداء عميقاً يترجم الرغبة
في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود. ألا ترى أن الإنسان مفطور على شكر من
وصله بمعروف؟ بلى! إذن: لِمَ لا تسأل عمن خلقك؟ لا تسرع في الإجابة! لا
تقل لي: إنني أعرف الله؛ فأنا مسلم، فما هذا الذي نريد؟
أنت مخلوق. هذه حقيقة وجودية؛ فلا أحد منا جاء إلى الوجود بإرادته
وقراره. من هنا كان الواجب الأول عليك أن تبحث عن الله الخالق، بهذه الصفة،
أعني صفة الخالقية؛ لأنها سبب مجيئك إلى الكون؛ وإلا كنت عدماً. ولذلك كان
أول حق لله رب الناس على الناس وجب عليهم أداؤه ابتداء: هو حق الخالقية.
أليسوا مخلوقين؟ بلى! إذن تعلق بذمة كل مخلوق أن يشكر الخالق، من حيث هو
عز وجل خلقه.
و «الخلق» مفهوم من أغرب مفاهيم القرآن العظيم، ومن أكثرها استعصاء
على الفهم والإدراك؛ فهو دال عموماً على: التكوين والإنشاء؛ إبداعاً واختراعاً.
أي أنه خلق الخلق على غير مثال سابق، فتأمل هذه الحقيقة أولاً: «على
غير مثال سابق» إنه تعالى فَطَرَ خلقه، وأنشأهم ولم يسبق له في ذلك نموذج
يحتذى؛ فسبحانه وتعالى من خالق عظيم! فلقد كان تعالى ولم يكن قبله شيء، هو
الأول بلا بداية، وهو الآخر بلا نهاية، جل شأنه، وتعالى جده، ولا إله غيره.
تأمل كيف كان خلق الكون؟ كيف كان العدم، وما العدم؟ ثم كان الوجود بأمر
[كُن فَيَكُونُ] (البقرة: 117) . ثم تأمل كيف كان خلق آدم عليه السلام: كيف
صنع الله من الطين بشراً سوياً؟ يفيض جمالاً وحيوية. عجباً، عجباً! كيف كانت
كتل الطين في جسم آدم تتحول إلى شرايين، وشعيرات دموية، وعظام ولحم طري؟
عجباً، عجباً! كيف تحول الصلصال في محاجره عليه السلام بصراً يبرق،
ويشع بنور الحياة، ويرى الألوان والأشياء، ويسيل بالدموع فرحاً وحزناً؟ عجباً،
عجباً! كيف تَخَلَّقَ الترابُ في جمجمته دماغاً مائعاً مارجاً متكوناً من ملايين الخلايا
اللطيفة الحساسة، تجري شعيراتها بالدم الدفاق، وتختزن ملايين المعلومات
والذكريات، وتتأهب للتفكير في أدق الخطرات والنظرات؟ عجباً، عجباً!
ثم تأمل: كيف جعل من الطين والماء نباتاً جميلاً، فصارت له أزهار تملأ
الأنوف عبيراً أخاذاً، وثماراً تملأ القلوب بهجة وجمالاً؟ ذلك هو (الخلق) الذي
تحدى به ربُّ العالمين كلَّ العالمين، فقال: [أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ
تَذَكَّرُونَ] (النحل: 17) ، وقال جل جلاله: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 73-74) .
وهذه حقيقة قرآنية كبرى تترتب عليها أمور كبيرة في حياة الإنسان، وجوداً
وعدماً؛ ذلك أنه كلما نادى الله الناس في القرآن بالاستجابة لأمره التعبدي، ناداهم
من حيث هو (خالقهم) ، هكذا بهذه الصفة دائماً، وهو أمر مهم فيما نحن فيه من
طريق المعرفة بالله.
أي أنه تعالى يسألهم أداء حق الخالقية، هذه الصفة العظيمة لذاته تعالى التي
بها كنا نحن الناس هنا في الأرض نتنفس الحياة.
تدبر قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة:
21-22) .
وتدبر قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء] (النساء: 1) ، وقوله سبحانه:
[وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ] (الشعراء: 184) .
هاتان آيتان كلِّيتان من القرآن العظيم، تعلق الأمر فيهما بالعبادة والتقوى،
وما في معناهما من الانتظام في سلك العابدين، وفلك السائرين إلى الله رب العالمين،
إثباتاً لحق الله من حيث هو خالق لشجرة البشر.
ولا يفتأ القرآن يُذَكِّر بهذه الحقيقة، باعتبارها مبدأ كلياً من مبادئ الدين
والتدين، وأنها العلة الأولى منه؛ وذلك نحو قوله تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) . فكثيراً ما يردد الناس هذه الآية، ولكن
قليلاً جداً ما يتدبرونها. إنها آية كونية عظمى.. إنها مفتاح من مفاتيح فهم القرآن
العظيم، وباب من أبواب معرفة الربوبية العليا. تأمل قوله تعالى: [مَا لَكُمْ لاَ
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً] (نوح: 13-14) . انظر كيف ربط
حقه تعالى على عباده بمبدأ خلقهم أطواراً.. فكلما ازداد الكفار تعنتاً ازداد القرآن
إفحاماً لهم، في بيان تفاصيل الخلق. فتلك حجة الله البالغة إجمالاً وتفصيلاً.
تدبر معي هذه الآيات واحدةً واحدة.. قال عز وجل في حق الكافر الذي أنكر
البعث على محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بطحين عظام ميتة نخرة، ونفخ فيها
فتطاير غبارها من يده، فاستهزأ متسائلاً بما حكاه عنه القرآن الكريم، قال:
[وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا
أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم
بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ] (يس: 78-81) .
وتأمل كيف أن تلك كانت هي حجة موسى الذي صنعه الله على عينه، في
رده على فرعون؛ إذ تعنت في إنكاره. قال عز وجل: [قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى
* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] (طه: 49-50) .
إنه تعريف للربوبية ولحقوقها في عبارة من أوجز العبارات الربانية المسطورة
في القرآن الكريم.. فتدبر.. [الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] .
وجاءت الحجة الربانية في بيان الأطوار الوجودية للإنسان في قوله تعالى
أيضاً: [قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ]
(عبس: 17-23) .
وقال في سياق التمهيد لقصص بعض الأنبياء، ودحض حجج المنكرين
للبعث: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا
العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ] (المؤمنون: 12-16) .
تأمل: ما بال هذا البيان والتفصيل لقضية الخلق؛ لولا أنها قضية كونية
كبرى، ينبني عليها ما ينبني من مصير وجودي في حياة الإنسان، هذا المخاطب
بها ابتداء؟
وانظر إلى هذا السؤال الإنكاري الرهيب عن الوظيفة الوجودية للإنسان؛ إذ
تمتع بمنة الخلق، ثم غفل عنها وتناساها.. انظر وتدبر جيداً، واقرأ، وأعد
القراءة مرة، وأخرى؛ لعلك ترى.. قال جل جلاله: [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ
سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى] (القيامة: 36-
40) .
وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات حق الخالقية
لله الواحد القهار؛ كانت هي عينها حجته في الدعوة إلى التوحيد ونفي الحق الوهمي
للشركاء، وذلك كما في قوله تعالى: [اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ]
(الروم: 40) ، وقال: [أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ] (الأعراف:
191) . وقال: [أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] (النحل: 17) . إنه
قول ثقيل جداً، فتدبر.
ومن أثقل الآيات القرآنية، وأعمقها دلالة على الموقع الوجودي للإنسان من
الخلق قوله تعالى: [هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً *
إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ
إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الأَبْرَارَ
يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً] (الإِنسان: 1-5) .
إن «قضية الخلق» تمثل مفتاح فهم الربوبية، والمعنى الوجودي والوظيفي
للإنسان. ولولا خشية الإطالة لبينت لك من خلال كل سور القرآن بدون استثناء
أنها المبدأ الكلي الذي على أساسه خاطب الله الإنسان بكل أمر ونهي، بل إنها تمثل
البنية الأساس لخطابه الذي عليه يتفرع كل شيء، مما قرره في العقيدة والشريعة
على السواء.
* أي ظلام أشد من التصور العبثي للحياة:
إن هذا الحق بقدر ما هو متعلق بذمة الإنسان لربه الذي خلقه، فإنه يستفيد
منه معنى عظيماً لوجوده. إن إحساسه بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه
الوجودي الذي ضاعت فيه أفكار الكفار من العالمين. أو بعبارة قرآنية: يخرجه
[مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] (البقرة: 257) .
وأي ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! أو كما قالوا: «إن هي إلا أرحام
تدفع، وأرض تبلع!» فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة، وهو يرى أنما
غايتها إلى العدم المطلق والفناء الرهيب الذي ما بعده من حياة؟ فأي لذة يجدها في
متعها وهو يعتقد أنها إلى زوال قريب؟ ذلك ما يقوده غالباً إلى الشره المتوحش في
تناولها، أو إلى العزوف القَلِق ثم الانتحار! ألا ما أشد وحشة الكفر والضلال!
فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به آخرون.
إن معرفة الله من ههنا تبدأ: الشعور بالفرح به تعالى رباً خالقاً، والأنس
بجماله عز وجل إلهاً رحيماً؛ فيمتلئ القلب شوقاً إليه تعالى، ثم تنشط الجوارح
للسير إلى بابه الكريم، والعروج إلى رضاه، عبر مدارج السالكين، ومنازل
السائرين. فيجد الإنسان الأنس كل الأنس كلما ازداد معرفة بالله جل جلاله.
وإنما مدارج المعرفة به تعالى أن ينطلق المسلم من توحيد الربوبية الذي ينفتح
بابه على العبد أول ما ينفتح من الشعور بحق الخالقية كما قررناه؛ ذلك أن الرب
إنما هو رب من حيث هو مالك للمربوب؛ ذلك معناه العام في اللغة وفي الشرع.
قال ابن منظور: «الرَّبُّ: هو الله عزّ وجل هو رَبُّ كلِّ شيءٍ: أَي مالكُه،
وله الرُّبوبيَّة على جميع الخَلْق، لا شريك له، وهو رَبُّ الأَرْبابِ، ومالِكُ المُلوكِ
والأَمْلاكِ. ولا يقال الربُّ في غَير اللهِ، إِلاّ بالإِضافة. ورَبَّهُ يَرُبُّهُ رَبّاً: مَلَكَه»
[3] .
فرب الدار: مالكها، وربة البيت: سيدته، ورب السيارة: صاحب السيادة
عليها. إلا أن «المالكية» الحقة إنما تقع في الواقع على من يملك أصل الاختراع
والإبداع، إنشاء وتطويراً؛ ذلك هو المالك الحقيقي للشيء، وذلك هو الله سبحانه
وتعالى في ربوبيته للكون والخلق أجمعين. إنه مالك كل شيء خلقاً وإبداعاً،
وزيادة ونقصاً، وإحياء وإماتة، وبدءاً وإعادة، وبعثاً ونشوراً. وما كان ذلك كله
ليكون لولا أنه هو عز وجل الذي خلق. ومن هنا كان أول وصف لذاته تعالى نزل
على محمد صلى الله عليه وسلم في بدء تعريفه بالله رباً: [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ] (العلق: 1) فهو الرب إذن، وأول ما وصف به نفسه تعالى أنه [الَّذِي
خَلَقَ] ؛ لأن الربوبية إنما ترجع في حقيقتها إلى هذا المعنى كما بيناه آنفاً. ومن
هنا اطراد هذا المبدأ في القرآن الكريم، حتى لا تكاد تخلو سورة منه، بدءاً بالفاتحة
[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] (الفاتحة: 2) ؛ حتى سورة الناس [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ] (الناس: 1) . فالقرآن كله إذن قائم على ترسيخ مفهوم الرب في قلوب
المربوبين، عسى أن تستجيب فطرهم لأداء حق الربوبية، بتوحيد الألوهية عبادةً
لله رب العالمين.
وخلاصة الأمر أن الخالق مالك، وأن المالك رب؛ ذلك أنه تعالى خلق فملك،
وملك فرَبَّ. فهذه معانٍ بعضها يحيل على بعض، حتى كان لفظ (الرب)
جماعها؛ فجمع بذلك كل أوصاف الكمال والجمال والجلال، من الأسماء الحسنى
والصفات العلى. ولننصت الآن في ذلك إلى القرآن العظيم؛ حيث يقول الله عز
وجل معرفاً بذاته سبحانه: [هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى]
(الحشر: 24) ، فقوله تعالى: [هُوَ اللَّهُ] جملة اسمية من مبتدأ وخبر، فيها
معنى الجواب عن سؤال تقديره: سؤال السائل عن الرب (من هو؟) ، فقال:
[هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ] ، أي (الرب هو الله) ؛ لأن الضمير (هو) لا
بد أن يعود على معاد سابق، كما قال الله حكاية لحوار فرعون مع موسى وهارون:
[قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى]
(طه: 49-50) . وكما في قوله تعالى من سورة الإخلاص: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]
(الإِخلاص: 1) .
فكانت الإحالة - في نهاية الأمر - في تعريف الرب على (الأسماء الحسنى) ،
بعدما ذكر عز وجل بعضها؛ فقد جاءت الآية المذكورة من سورة الحشر في سياق
التعريف بالله عز وجل من خلال بعض أسمائه، وذلك قوله تعالى: [هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (الحشر: 22-24) .
فالأسماء الحسنى هي مدخل التعريف بالله رباً، وهو توحيد الربوبية، كما في
هذه الآيات، وهي كذلك مدخل التعريف به إلهاً، وهو توحيد الألوهية، كما في
قوله عز وجل من سورة الأعراف: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأعراف: 180) .
ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله الحسنى: «إن لله
تسعة وتسعين أعطى مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة. إنه وتر يحب الوتر»
[4] وفي رواية: «من حفظها دخل الجنة» . وزاد الترمذي والحاكم وغيرهما
في الحديث تفصيلاً في عد هذه الأسماء [5] .
قلت: إن جماع توحيد الربوبية يؤول إلى إثبات الأسماء والصفات لله رب
العالمين، إثبات إيمان وتسليم، لا ينحرف به تأويل، ولا يزيغ به تعطيل، ولا
يخرمه تشبيه أو تجسيم. فهو تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]
(الشورى: 11) . فلا ينسب شيء من الخلق والتدبير في الكون إلا له سبحانه،
وحده دون سواه، ولا يعتقد شيء من النفع والضر، والعطاء والمنع، والحياة
والموت يصل الكائنات من غيره تعالى. فكل الأسماء الحسنى والصفات العلى دلت
على تفرده سبحانه بمقتضياتها من الفعل والأمر، لا دخل لأحد من خلقه في ذلك إلا
بإذنه تعالى. تدبر ثم تدبر قوله عز وجل: [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ] (البقرة: 255) .
ذلك هو توحيد الله في ربوبيته أي في مالكيته للكون وخالقيته له، وذلك هو
المنطلق السليم، والأساس القويم لتوحيد الألوهية، كما ذكرنا، وبقدر تصفية ذلك
يكون السير في طريق المعرفة الربانية، والرقي في مدارج الإيمان لأداء حق
الخالقية؛ حيث إن توحيد العبودية، أو الألوهية كله لا يخرج عن معنى السير إلى
الله رغباً ورهباً، من حيث إنه تعالى موصوف بصفات الكمال والجمال. وبهذا
السير تتحقق للعبد رتب المعرفة به تعالى، ويكتسب الجديد من منازل الإيمان،
ومقامات الإحسان، سيراً في طريق عبادته تعالى على نهج السنة النبوية؛ استجابة
لقوله تعالى: [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] (الحجر: 99) .
وهنا نعود إلى حديث الأسماء الحسنى؛ حيث يتبين أن قول النبي صلى الله
عليه وسلم: «من أحصاها أو من حفظها دخل الجنة» إنما المقصود بالإحصاء
(الحفظ) عينه، كما هو في صحيح البخاري في «باب إن لله مائة اسم إلا
واحداً» ، وقد ذهب أغلب العلماء كما سترى - بحول الله - إلى أن (الحفظ)
هنا هو بمعنى حفظ المقتضيات من الأفعال والتصرفات، لا حفظ العبارات، كما
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»
[6] .
والمقصود بحفظ المقتضيات: توقيع كل أعماله وتصرفاته بما تقتضيه دلالاتها
من حدود والتزامات.
فمثلاً إذا انطلق العبد في طلب رزقه، واكتساب قوته فإنما يفعل ذلك باسمه
تعالى: (الرزاق) ، ومعناه أن يعتقد ألا رزق يصل إليه إلا ما كتب الله له، ثم إنه
لا مانع له منه وقد كتبه الله له، ويكون لهذا إن صح اعتقاده فيه أثره الإيماني،
يجتهد كل يوم في تحصيله، فلا يساوم في دينه مقابل مال، عطاءً أو حرماناً؛ إذ
وجد في معرفته باسم الله الرزاق أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وهو
قصد من مقاصد حفظ (الاسم) من أسمائه الحسنى: الثبات على ذلك أمام الفتن،
لا تزحزحه المضايقات ولا المناوشات، ولا التهديدات، ولا تذهب به الوساوس كل
مذهب، بل يسكن إلى عقيدته مطمئناً، آمناً من كل مكروه، إلا ما كان من قدر الله،
موقناً أن الله لا يريد به إلا خيراً. فذلك أمر المؤمن الذي ليس إلا لمؤمن،
والمؤمن أمره كله له خير كما في الحديث الصحيح؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام:
«عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن
أصابته سرَّاء شكر؛ وكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر؛ فكان خيراً له»
[7] .
إنها عقيدة السلام والأنس الجميل بالله. وبقدر ما تسكن النفس إلى اسمه تعالى
(الرزاق) يذوق العبد من معنى (الحفظ) جمالاً حميداً، وأنساً جديداً، فتعلو القدم
بذلك في مراتب العبودية، وتوحيد الألوهية مقامات أخرى. والربانيون في (حفظ)
كل اسم من أسمائه الحسنى بهذا المعنى مراتب ومنازل. وبذلك يمتلئ القلب حباً
لجمال أنواره وجلال إفضاله تعالى، فيزداد شوقاً إلى السير في طريق المعرفة
الربانية التي كلما ذاق منها العبد جديداً ازداد أنساً وشوقاً، فلا تكون العبادة بالنسبة
إليه حينئذ إلا أنساً، وراحة، ولذة في طريق الله؛ إذ تنشط الجوارح للتقرب إليه
تعالى بالأوقات والصلوات، والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكرات، والدخول في سائر أعمال البر الصالحات. ولك في أسماء الله الحسنى
من كل ذلك مسالك تقربك إلى الله سبحانه، وتوصلك إليه.
هذا هو الفهم الأليق بحديث الأسماء الحسنى، وهو ما ذهب إليه أغلب شراح
الحديث عند تعرضهم لذلك؛ ومن هنا قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: «وقال
الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط؛ لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد
العمل بها. وقال أبو نعيم الأصبهاني: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو
التعداد، وإنما هو العمل، والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها» [8] .
وقال أيضا: (وهو أن يعلم معنى كلٍّ في الصيغة، ويستدل عليه بأثره
الساري في الوجود، فلا تمر على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني
الأسماء، وتعرف خواص بعضها. قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء. قال:
وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن؛ بما يقتضيه كل اسم
من الأسماء) [9] .
ذلك هو الشأن بالنسبة لسائر أسمائه الحسنى: الرحمن، الرحيم، الملك،
القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن ... إلخ. فكلها (حسنى) بصيغة التفضيل
المطلقة هذه، أي لا شيء أحسن منها؛ فهي تبث النور والسلام والجمال في طريق
السالكين إليه تعالى بحفظها، وتملأ قلوبهم إيماناً وإحساناً. كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم في الحديث: «إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب
عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها» [10] .
وههنا لنا لطيفة من لطائف الأسماء الحسنى، نذكرها بحول الله؛ رفعاً للغبش
الذي قد يدور بخلد بعضهم، أو مما قد يلقيه الشيطان في خاطر العبد الذي لم يذق
بعدُ جمال بعض الأسماء، من مثل أسمائه تعالى: (الجبار، والمتكبر، والقهار) .
إن أول شيء يجب التذكير به أن هذه الأسماء كسائر أسمائه تعالى قد وصفها الله
عز وجل في القرآن بأنها (الحسنى) على التفضيل، وفي هذا لطائف كثيرة؛
فبالنسبة إلى خصوص معاني التكبر والكبرياء والقهر والجبروت من أسمائه تعالى
فهي مما يشين الإنسان، ويلقي به في دركات الذم والنقص؛ لو اتصف بها،
وتخلَّق بأحوالها. لكنها في ذات الله تعالى جلال وجمال، ونور وكمال، فهي
(الحسنى) . نعم قد ورد الوعيد في حق من اتصف بها من الناس، كما في الحديث
القدسي: «قال الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحداً
منهما قذفته في النار» [11] .
وبيان ذلك أن الله - عز وجل - قصر ذلك الوصف عليه تعالى، ولم يأذن
لأحد من خلقه في اكتسابه، وهو عز وجل وحده يليق به ذلك لجلال قدره، وعظمة
ملكه وسلطانه؛ فهو الملك الحق العدل، لا ينافي شيء من ذلك عدله ورحمته، بل
إن وصف القهر والجبر والكبرياء في ذاته مصدر رحمة لعباده المؤمنين، وهذا من
لطائف المسألة؛ حيث إن المؤمن حينما ينتسب إلى الله عبداً، فإنه يكتسب من نسبة
العبودية عزة ومنعة؛ إذ هو محمي من الظلمة والفجار؛ باسم الله الجبار القهار.
وأنت حينما ترى في الأرض عبداً جاهلاً متكبراً؛ تدرك بسرعة أنه ينتحل ما ليس
له، كيف يصدق تجبره وكبرياؤه، وقد قال الله فيه: [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً]
(النساء: 28) ؟ فكبرياؤه تلك إنما هي صورة من ورق! إنها مرض نفسي، فهي
تعبير عن الشعور بالنقص إزاء كمال حاوله فلم يصله: من الناحية الاجتماعية، أو
المالية، أو السلطانية، أو أي جهة أخرى. فقد يكون الإنسان غنياً ذا ثروة طائلة،
فإذا تكبر دل ذلك على نقص من جهة أخرى، ربما ظن أن ماله يغنيه من كل وجه،
فلما أدرك أنه لا يسد له حقيقة الكمال استكبر فطغى وتجبر وظلم! إنك أيها العبد
المنتسب بخضوعك وعبوديتك إلى كبرياء الله الحق تشعر أن الكبرياء مما ينتحله
الخلق كذب وافتراء، بل مرض يستحق صاحبه الحسرة والإشفاق! تماماً كما تشفق
على من ألقى بيده إلى التهلكة بالكفر والضلال، على غرار قوله تعالى: [يَا
حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ] (يس: 30) فالجاهل قد يرى الجبار من الناس أسداً يزأر في
وجوه الخلق، وعبد الله إنما يراه أسداً من ورق، أو دمية (كرتونية) تحكي لعبة
الأسد. والمتكبر من الخلق هو أول من يشعر في نفسه بضعفه، وعجزه، وفشله
في أن يندمج في المجتمع، ويتواضع أمام الخلق. وما أصدق قول الشاعر في هذا:
ملأى السنابل تنحني بتواضع ... والفارغات رؤوسهن شوامخ
وأنت إذ ترى ما لا يرى الجهلة تستريح.. فقد عرفت أنما الكبرياء
والجبروت لله الواحد القهار؛ فكانت بذلك أسماؤه الحسنى: الجبار والمتكبر والقهار،
ونحوها من أسماء الجلال برداً وسلاماً على قلوب عباده الصالحين تبعث النور
والجمال.. ولا عجب؛ فهي من (الأسماء الحسنى) حقاً وصدقاً. و [قُلْ صَدَقَ
اللَّهُ] (آل عمران: 95) ، والله خير الصادقين.
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس المغرب.
(1) رواه الحاكم، والطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي، وعبد بن حميد، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم: 2961 نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
(2) متفق عليه.
(3) لسان العرب، مادة: «ربب» ، طبعة دار صادر بيروت.
(4) متفق عليه.
(5) رواه الترمذي والحاكم في المستدرك.
(6) رواه أحمد والترمذي والحاكم بسند صحيح.
(7) رواه أحمد، ح/ 18460.
(8) فتح الباري: 11/ 226، نشر دار المعرفة بيروت: 1379هـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب.
(9) فتح الباري: 11/ 227.
(10) رواه الطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2163.
(11) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4311.(179/26)
البيان الأدبي
لمحات في أدب الطفل
إبراهيم بن سعد الحقيل
عرفت البشرية منذ وجودها أدب الطفل وإن لم يكن مكتوباً فهو من أنواع
الأدب المختلفة، يعبر عن الأمة: عقيدتها، وهويتها، وآمالها، وأساليب عيشها.
والإسلام ذو عناية بالطفل قبل أن يكون إلى أن يكون، وبعد أن يكون إلى أن
يبلغ مرحلة التكليف، وكانت عناية القرآن الكريم بالطفل ظاهرة، واهتمام رسولنا
الكريم صلى الله عليه وسلم به ساطعة.
وسنلقي الضوء في هذه العجالة على الأدب الخاص بالطفل؛ من منظورنا
نحن أهل التوحيد والسنة لا من منظور غيرنا المستعار.
* ما أدب الطفل؟
إن أفضل تعريف وأيسره هو: أن كل ما كُتب وصُوِّر وقُرئ ليقرأه ويراه
ويسمعه الطفل فهو أدب للطفل.
ونحن ماذا نريد من أدب الطفل؟ إننا نريد منه أن يحقق لنا عدداً من الأهداف
الكثيرة التي تدخل تحت أربعة أهداف رئيسة هي:
1 - أهداف عقدية.
2 - أهداف تعليمية.
3 - أهداف تربوية.
4 - أهداف ترفيهية.
وذلك التقسيم لكيلا تتداخل الأفكار، وإلا فكل الأهداف تدخل تحت الهدف
العقدي؛ لأننا أمَّةٌ عقيدتنا تشمل جميع شؤون الحياة الكبيرة منها والصغيرة.
1 - الهدف العقدي:
أهل كُل أمَّة كتبوا أدبهم مستمدين ذلك من عقائدهم، فتجد آثار تلك العقائد
ظاهرة في آدابهم جليَّة، وبما أن ديننا الإسلام خاتم الأديان والمهيمن عليها وجب
علينا أن يكون هذا الأدب معبراً عن تلك الحقيقة، فنجعل عقيدتنا تصل إلى الأطفال
عن طريق الربط بينها وبين جميع حواسهم وملاحظاتهم ومداركهم؛ لأنه لا خوف
من ذلك؛ فعقيدتنا لا تصطدم بشيءٍ من الحقائق العقلية، فتكون كلمة التوحيد
موجودة في ذلك الأدب حتى تنمو معه.
ولقد حرص الإسلام على أن يكون أولَ ما يطرق سمع الصبي الشهادتان،
وكان سلفنا أول ما يحرصون عليه أن يتكلم الطفل بالشهادة، فتنمو معه ويزداد حبُّه
لها.
يقول الغزالي: «اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى
الصبي في أول نشوئه ليحفظه حفظاً لا يزال ينكشف له معناه في كِبَرِه شيئاً فشيئاً»
[1] .
لا بد من ترسيخ حب الله سبحانه وتعالى ومعرفة قدرته، وأنه خالق الإنسان
ومسيِّر الكون، وأن المرجع والمآل إليه، فينشأ الطفل غير مشوش التصور
وضعيفه، تهزُّه أول كلمة شك، أو ينساق وراء الجهل، فيقع في الشرك أو البدع
المهلكة.
وما أجمل تلك الأناشيد التي تمجد الخالق وتحث على التدبر في مخلوقاته، أو
تلك القصص والصور التي تزيد الطفل يقيناً بعظمة الخالق وقدرته، فيزداد حباً
لربه ويقيناً بعقيدته التي تدعوه إلى التضحية في سبيل الله كما فعل سلفه الصالح.
ومن تلك الأهداف العقدية محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء
والرسل، وذلك عن طريق السيرة النبوية وقصص الأنبياء المستمدة من القرآن
الكريم والسنة الكريمة لا من الإسرائيليات، فما أروع تلك القصص عندما تكون
تفسيراً مبسطاً لقصص الأنبياء والمرسلين التي وردت في القرآن، فيزداد ارتباطه
بالقرآن، ويعلم علم اليقين أنه المصدر السابق لتلك القصص، وأنه لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه، فيكون ذلك درعاً للدفاع عندما يصل إليه المشككون،
كما يصبح له ذلك طريقاً لتعلم القرآن وقراءته ومحبته والارتباط به.
ومن الأهداف كذلك تحبيب الأطفال بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة
حقه، ووجوب طاعته؛ ففي عرض سيرته مجملة أو مقسمة خير مرسخ لتلك
المحبة، والتركيز على صلته بأصحابه وعرض محبتهم له وفدائهم له، وما أكثر
تلك المواقف القصصية في سيرته وسيرهم.
كما تعرض لهم علاقته مع أهل بيته، وليكون الطفل على دراية بدور الأم
والأب والأولاد، فلا يكون ذلك غرضاً يرمى به عند الأقلام المسمومة.
ولا بد في أدب الطفل من استلهام كل أمرٍ عقدي من القرآن الكريم؛ حتى
يعرف الطفل عن طريق تلك الآداب أن القرآن مصدر عقيدته لا يدخله شك ولا
شبهة ليكون ذلك خير دفاع في نفسه في وجه تيارات الكفر والضلال، فينشأ الطفل
قادراً على التكيف لا تتنازعه الأهواء، ويكون أكثر اتزاناً؛ لأن العقيدة الصحيحة
غُرست في قلبه وفكره بتمثلهم لها عن طريق تلك الآداب.
يقول الإمام الغزالي: «ويرسل إلى المكتب مبكراً فيتعلم القرآن وأحاديث
الأخيار، وحكايات الأبرار ليُغرَس في نفسه حب الصالحين» [2] .
وليس الأمر في ذلك بحشو أدب الطفل بتلك الأسس حشواً، بل تكون أسساً
يركز عليها ذلك الأدب. فقد تكون القصة أو التلوين أو الفيلم أو الأنشودة في بابها
أو تحوي بين ثناياها تلك الأسس لتصل إلى الطفل مقرونة بشيء من المحسوسات؛
لتكون أسرع رسوخاً في ذهن الطفل، مبسطة حتى يمكن لعقل الصغير إدراكها،
وفي القرآن الكريم أمثال لذلك من ضرب الأمثال على التوحيد، وعظمة الخالق،
وقصص النبيين.
2 - الهدف التعليمي:
لا بد أن يضيف الأدب إلى أهله شيئاً قد يكون مفيداًَ أو ضاراً؛ وأُمَّةُ الإسلام
يجب أن يضيف أدبها أيًّا كان نوعه ما يفيد سوادها ومن ذلك أدب الأطفال الذي
يجب أن يستغل حب الأطفال للاستطلاع والمعرفة.
يقول عبد الفتاح أبو مِعال [3] : «ولما كان الإحساس بالحاجة إلى المعرفة
عند الأطفال جزءاً من تكوينهم الفطري لأن غريزة حب الاستطلاع تنشأ مع الطفل
وتنمو معه، ومحاولة الطفل التعرف على بيئته تعتبر من العوامل الهامة التي إذا
عولجت بحكمة؛ فإن ذلك يؤدي إلى تنمية ما يمكن أن يكون لديه من إمكانات
وقدرات» .
ومن ذلك أن يكون هذا الأدب يدرب الطفل على قراءة القرآن، وإجادة تلك
القراءة مع فهم مبسط لمعاني ما يقرأ لكي يتذوق القرآن ويفهم ما يقرأ.
وفي القرآن رصيد ضخم للمعارف بأنواعها مما يفتح عقل الطفل ويزيد تعلقه
بكتابه؛ ففي بعض سور القرآن كسورة الفيل، والمسد، والشمس، قصص مبسطة
وقصيرة تناسب الأطفال. وكلما تقدم الطفل كان الأدب مراعياً لذلك التقدم، كما
يتعلم عن طريق الأدب ما يُقوّم لسانه من لغته العربية، فيزداد تعلقاً بها ومحبة لها،
مع مراعاة القاموس اللفظي للطفل، ولذلك لا يستطيع كل أديب الكتابة للأطفال.
وليكن الأدب محفزاً الطفل على اكتشاف كل جديد، ومعرفة خفاياه من علوم
دنيوية تحيط به كمكونات جسم الإنسان وآليته، وخلق الحيوانات والأرض والأفلاك
وغيرها، ليعرف إبداع الخالق وعظمته مع ربط ذلك بالقرآن الكريم الذي يحوي
الكثير منها.
كما يعلمه الأدب علوم الإنسان كالتاريخ والجغرافيا والفيزياء والحاسب الآلي
والأقمار الصناعية؛ ليشبع في نفسه حب المعرفة ولتنمية ما لديه من هوايات
لتصبح مهارات يتميز بها.
قال محمد بريغش: «وأدب الطفل يعين على اكتشاف الهوايات والحصول
على المهارات الجديدة، ويعمل على تنمية الاهتمامات الشخصية عند الطفل» .
ويمكن تشجيعه على استعمال تلك المعارف في حديثه مع غيره، وفي إلقائه
ومخاطبته للجمهور، ولنعلم مدى فائدة تلك الآداب للطفل لننظر إلى الأفلام
المتحركة المدبلجة أو المنتجة؛ فلغتها الفصحى علمت أكثر الأطفال هذه اللغة
المحببة، وأصبح السواد الأعظم من أطفالنا المتابعين لها يعون ويفهمون لغتهم
الفصحى وإن لم يستطيعوا الكلام بها بشكل جيد، وظهر أثر ذلك في كتاباتهم،
فزادت مفردات الفصحى وأساليبها، وأثَّرت في حديثه وكتابته.
3 - أهداف تربوية:
إن التربية التي يتلقاها الطفل عن طريق الأدب ليست بأقل مما يتلقاها في
مدرسته أو على يد والديه أو عن طريق مجتمعه؛ لأن الطفل عندما تكون هذه
التربية بالأدب أياً كان نوعه يقرؤها أو يسمعها أو يراها؛ فإنها ترسخ في ذهنه؛
فابن عباس رضي الله عنهما عندما أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم بالوصية
الجامعة كان غلاماً، ورغم ذلك طبق تلك النصيحة ونقلها إلى غيره من الناس،
وطبعت حياته بطابعها الإيماني.
فالطفل بطبعه ميال إلى تقليد غيره من الكفار بالحسن وبالقبيح؛ فالتربية لا بد
أن تراعي ذلك الجانب؛ فإنه عندما يرى فيلماً أو يقرأ أو يسمع قصة يتمثل أو
يحاول أن يتمثل دور البطل أو الشخصية التي تناسبه فيها، فيحاول قدر الإمكان
تقليدها؛ لذلك وجب علينا أن نستفيد من ذلك وخاصة في الأدب المرئي للطفل؛
لأنه أسهل طريق للتربية لا يحتاج إلى كبير جهد وعناء.
إذن يجب أن يكون هذا الأدب مربياً للطفل على الأخلاق الحسنة الفاضلة
متصفاً بالتوحيد؛ فما أحسن تلك الأفلام المتحركة أو غيرها التي تصور طفلاً ينشأ
على الفطرة الإلهية موحداً متصفاً بأخلاق حسنة وصفات نبيلة يتمثلها الطفل ويعجب
بها أيما إعجاب، وما أكثر ما بلينا بتقليد أطفالنا لكل بطل أجنبي بسبب قصور أدب
الطفل المرئي لدينا، إن لم نقل انعدامه، فجلب لنا جيلاً منفصلاً عن أمته، بل
وعن محيطه الصغير ممن هم أكبر منه سناً، وما أعظم تأثير قصص أبناء
الصحابة والصغار الصالحين؛ لأنه سيتمثل تلك المواقف لتصبح جزءاً من تكوينه.
لا بد أن تكون الأهداف التربوية في هذا الأدب أهدافاً سامية منتقاة من تاريخ
أمتنا، لا بد أن ننمي فيهم عن طريق أدبهم روح الجهاد وبذل النفس والمال في
سبيل ديننا؛ لأن التربية الأنانية وحب الذات قادنا لنكون أمة كغثاء السيل الذي
أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، كما ننمي فيهم روح المبادرة والقيام بالأعمال
المفيدة، بل أن ننمي فيهم انتظار المعجزات التي لن تكون، ونربي بهذا الأدب
الاعتماد على القرآن والسنة لتصديق أمر ما بدلاً من تحكيم غيرنا الذي قادنا لنؤمن
بالخرافات والخزعبلات، فانتشر كثير من المسلمين بين القبور والقباب، وضاعت
هممهم بين الأناشيد والأذكار الصوفية، ونجعل هذا الأدب يطبعهم بطابع العزة
والأنفة وعدم الانحناء أمام ملذات الدنيا، ويصور لهم أن الحياة خير وشر وسعادة
وعناء، حتى نبعدهم عن اليأس والضغوط والتشاؤم، ولا زلنا نتذكر تلك القصص
المفزعة عن السحالي والوحوش والعفاريت التي جبلتنا على الخوف والرهبة من كل
شيء، فلا بد أن يكون هذا الأدب منمياً لأطفالنا على حب الجهاد وعدم الخوف؛
لأن تلك التربية قادت المسلمين لأن يكونوا أيتاماً على مأدبة اللئام.
4 - الهدف الترفيهي:
لا بد أن يكون هذا الهدف داخلاً في الأهداف السابقة؛ لأن الطفل يحب
التسلية والترفيه ويمل من الجد؛ فعندما نقدم له العقيدة والتعليم والتربية عن طريق
الترفيه فلا بد أنه سيُقبل عليها وتنغرس في ذهنه أكثر مما لو كانت خالية من
التسلية والترفيه.
ولا أدل على ذلك من تعلق التلاميذ بالأفلام المتحركة، رغم أهميتها في
التعليم والتربية إلا أننا نجعلها للترفيه.
قال عبد الفتاح أبو مِعال: «والفيلم المصور المسجل بالصوت والمصاحب
للحركة يساعد الأطفال على إيصال المادة التعليمية إلى جميع فئات الأطفال؛ فهذه
العناصر: الصوت والصورة والحركة، تقوي سرعة البديهة والذاكرة، وتغرز
القدرة على الفهم والحفظ» [4] .
لكن طلب تلك التسلية والترفيه للطفل لا يصرف هذا الأدب إليه خاصة بدون
نظر إلى الأهداف السابقة؛ لأنها المهمة وهو الوسيلة، لننظر إلى واقعنا حينما
صرفنا أطفالنا نحو التسلية؛ فكثير من آداب الطفل نقصد بها التسلية والترفيه لكنها
غرست في نفوسهم ما يصادم الدين والأخلاق؛ لأنه لا يوجد أدب ترفيهي منعزل
عن الأهداف الأخرى؛ فالطفل عندما يلون قصة أو يشاهد فيلماً أو يقرأ فإنه يستمتع
بذلك ويتسلى به، ولكنه يكتسب من تلك التسلية قيماً ومفاهيم إن صيغت بما نريد
أفادت، وإن صاغها غيرنا قد تفيد ولكنها تضر أيضاً، فهي كالخمر والميسر حينما
قال عنهما الله تعالى: [وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] (البقرة: 219) .
* واقع أدب الطفل:
هل حققنا هذه الأهداف؟ لا شك أننا لم نحقق للطفل تلك الأهداف ما عدا هدفاً
واحداً هو الهدف الترفيهي. لماذا؟ لأنه هدف لا يحتاج إلى عمل وعناء وفكر كبير،
نقوم بحشو الخيال الكاذب في قصة أو خلافها ثم نعطيه الطفل رغم خطورته.
يقول باحث [5] : «هناك فارق بين الخيال من جانب، وبين الكذب وعدم
الصدق من جانب؛ فالأطفال يحبون سماع الحكايات التي يعتقدون أنها ممكنة
الحدوث وهم لا يرفضون الأحداث الخارقة» .
أو نقوم باستيراد ما يطرح لنا من مزابل الأمم الأخرى النصرانية (أمريكا)
والوثنية (اليابان) وغيرهما ونسرع به إلى أطفالنا؛ فنحن نقصد به الترفيه،
وغيرنا له أهداف أخرى يغرسها فيه.
يقول حازم العظم: «إن معظم ما تنشره دور النشر للأطفال مترجم أو مؤلف
بغير خبرة كافية؛ فالأدب الخاص قليل ويمر بأزمة وجود، وهذه الأزمة أتاحت
لبعض الناشرين في غيبة الرقابة والنقد: البحث عن مجلات وكتب الأطفال الرائجة
[أقول والأفلام المتحركة ولعب الكمبيوتر] فقدموها لأطفالنا مترجمة بالصور نفسها
بغير تمحيص، مع أنها تحوي قيماً تربوية غير ملائمة لعقيدتنا وقيمنا الروحية، أو
مرفوضة حتى في البلاد التي تصدر عنها» [6] .
ويقول عبد التواب يوسف: «والأطفال لدينا اليوم ضاقوا بسذاجة الكتب التي
تسمى: (كتب الأطفال) ، وضاقوا ببساط الريح وسندريلا وغيرها» [7] .
بل بُلينا بمن يكتب قصصاً للأطفال تهدي إلى الخوف والجبن بدل أن تهدي
إلى الشجاعة والجهاد، وتدعو إلى الركون إلى الحظ كقصص السحرة والشياطين
والعفاريت.
يقول الدكتور محمد شاكر سعيد: «إن كثيراً مما كتب للأطفال في واقعه
ليس صالحاً للأطفال لتجاوزه مستويات الأطفال، أو لتجاوزه الجانب التربوي
المناسب للأطفال، أو لعدم تضمنه قيماً أخلاقية تسهم في تربية الأطفال وتنشئتهم»
[8] .
ولاحظ حازم النعيمي في تحليله لقصص مجلة عربية للأطفال فقال: «إن
كثيراً من هذه القصص يسيطر عليها اتجاه ينقص دور المرأة في مجتمعنا العربي،
كما أن الأفكار الواردة فيها تعبر عن تبني مفاهيم خاطئة عن قدرات المرأة ووظيفتها
الاجتماعية وسماتها الشخصية وسلوكها» [9] .
وأدب الطفل مجال واسع لنشر التبعية الثقافية والإعلامية؛ إذ يستخدمه
الاستعمار لغزوه الثقافي والإعلامي، ويتلقى الطفل المنتوجات الأدبية والفنية
الغزيرة في شتى الفنون والوسائط بقصد التأثير على تكوين الناشئة، والترويج
للنمط الثقافي التابع.
لذلك أفرز لدينا مفاهيم خاطئة أنتجت انفصالاً بين الطفل وعقيدته ومجتمعه؛
لأنه يرى ما يصادم ما يقال له وفي النهاية يكون عقل الطفل مجالاً للصراع.
كما يركز كثير من كتاب الأطفال على النزعة الفردية التي تسير الحدث دون
ذكر للمجتمع المحيط بالبطل؛ مما يجعل الطفل معتزاً بذاته ميالاً للانفراد برأيه
مهملاً آراء الآخرين.
وكما أن الكتابة موهبة فهي أوضح في الكتابة للصغار؛ لأنك تتعامل مع
مصدق لما يراه أو يسمعه أو يقرؤه، ولقد بُلي المسلمون بحفنة من الجشعين الذين
لا يحتسبون لله شيئاً مما يعملون، فلم يشجعوا أصحاب المواهب في الكتابة للأطفال،
ولم يسمحوا لهم بالنزول إلى الميدان؛ مما جعل الكتاب المتخصصين نادري
الوجود.
ولكننا نلحظ منذ عقد من الزمن أن جيل الشباب المسلم بدأ بنشر ما كتبه
المتخصصون قبل ردح من الزمن وبنشر الجديد مما كان له أطيب الأثر؛ حيث
يجد الأب المسلم ما يطلب في كثير من الأحيان لأطفاله، ولا بد أن نعي أننا
نصارع عدواً شرساً له باع طويل في التعامل مع أدب الطفل إن لم نشمر ساعد الجد
لم نلحق به، ناهيك عن أن نسبقه.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) إحياء علوم الدين، ج 1، ص 94.
(2) المصدر السابق، ج 3، ص 57.
(3) مجلة التوثيق التربوي، وزارة المعارف السعودية، عدد 36، ص 86.
(4) المصدر السابق، ص 85.
(5) هو عبد التواب يوسف من أوائل المبرزين في الكتابة للطفل، نقلاً عن أدب الطفل في ضوء الإسلام، لنجيب الكيلاني، ص 166.
(6) الكتابة للأطفال، للدكتور محمد شاكر سعيد، ص 12.
(7) أدب الطفل في ضوء الإسلام، نجيب الكيلاني، ص 165.
(8) المصدر السابق، ص 38.
(9) المصدر السابق، ص 39.(179/34)
قصة قصيرة
وانطفأت شمعة الأمل
أم أسامة [*]
في وسط صحراء مخيفة.. كثيفة الظلام.. بعيدة عن أضواء المدينة.. مكان
مهجور.. لا يوجد فيه سوى الأتربة المتطايرة.. والأحجار المتناثرة.. والتلال
البعيدة.. في ذلك المكان كانت نهايتي.. فهل تعرف من أنا..؟
أنا فتاة في عمر الزهور.. أغرتني صاحبتي ببريق لامع من بعيد.. بريق
الحياة الزوجية.. حيث طلبتني للزواج من أخيها.. فسرت معها بطريق لا أعرف
نهايته.. فأصبحت تتحدث عنه بالقصص والحكايات.. فأعجبت به قبل أن أعرفه
أو أعرف صدق هذه الكلمات ... وبعد فترة قصيرة طلبت مني أن أهاتفه ليسمع
موافقتي ويتقدم لخطبتي.. فوافقت دون تفكير.. وبعيداً عن الأنظار.. أجد نفسي
أمسك سماعة الهاتف.. أتحدث معه.. وكانت هذه أول خطوات اللعب بالنار..
حيث أصبحت المكالمة تجر الأخرى.. فنجح في تسلق جدران قلبي.. وأصبحنا
نرسم طريق حياتنا.. ولكن من بين تلك المكالمات فاجأني بطلب رؤيتي ودون علم
من أهلي وبعيداً عن منزلي.. فرفضت في البداية.. ولكن بعد محاولاته الطويلة..
ووعوده الموثوقة.. وإلحاح أخته المستمر.. الصديقة التي زينت لي هذا الطريق
.. عند هذا كله وافقت..
وافقت في وقت أصبحت به أسيرة لرغباته.. وافقت في وقت حطمت به
أبواباً مغلقة.. وتدرجت بسلم الآثام.. وسرت به بخطى سريعة.. وافقت في وقت
كانت رقابة أهلي تشكو من أوجاع دائمة.. وكسور يصعب جبرها.. تشد أعينها..
وتصم آذانها.. ويلفها رداء الإهمال..
وافقت في وقت نسيت به كلام الشاعر الذي يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
نعم وافقت وكانت هذه الخطوة من أخطر خطوات اللعب بالنار.. فبعد خروج
أهلي من المنزل.. واعتذاري عن الذهاب معهم.. بأسباب اختلقتها.. وعند اقتراب
ساعة اللقاء.. أحسست بخوف شديد وخفقان متزايد.. فحاولت تهدئة روعي..
بأنها أول مرة أخرج بها.. ولكن الذي سأخرج معه سيكون زوجاً لي يوماً ما.. فَلِمَ
هذا الخوف؟! .. وفي هذا الوقت يقترب من باب منزلي.. وأجد نفسي أفتح باب
سيارته لأستقر فيها.. وفي وقت بدأ بحديثه المعطر بقصائد شعره.. أجد نفسي
بعيدة عن أضواء المدينة.. في طريق مظلم.. فكلمته عن تأخري..
وطلبت منه إرجاعي إلى منزلي.. فرفض وهو يضحك استهزاءً مني.. فقلت له:
أين وعودك الموثوقة.. وعهودك المغرية؟ .. ولكنني أتفاجأ بالرد وهو يقول:
وهل صدقتني بأن أتزوج ممن تسمح لنفسها بالخروج مع شخص لا تعرفه؟ ..
حينها أصابتني صدمة كبيرة.. وأنا أرى تحول الحمل الوديع إلى ذئب مفترس..
فأين وعودك أيتها الصديقة؟ .. أين الطريق الذي رسمته لي؟ .. الطريق الذي
نثرت فيه الورود.. وجعلت حوله الأنهار تجري.. وتطفو عليها أوراق الأزهار..
وتنبت حولها الحشائش الخضراء.. والطيور تغرد من فوقها؟ .. أين الشموع التي
جعلتني أمسك بها؟ .. ولكنني أتفاجأ بتحول النهر إلى مستنقع للرذيلة.. تطفو عليه
الضفادع.. وتعلوه الخفافيش.. وتتحول الورود إلى أشواك.. والشموع إلى شعلة
من النار تحرقني.. حينها بدأت بالصراخ.. ولكن من يسمعني في هذا المكان؟
وفي ساعة تحطمت فيها جميع الأحلام.. في وقت لم أملك فيه سوى دموع
تنزف.. وصوت عالٍ ينادي بمن حولي.. ولكنها لم تنجح في تخفيف معاناتي..
فلا أحد يرد على ندائي.. سوى صدى صوتي الذي يقول: هذا ما جنته يداكِ.. ثم
أجد نفسي وسط تلك الصحراء المخيفة.. حيث ينتهي أجلي بطعنات سكينة..
بعد أن سقاني من مر كأسه وولى هارباً..
فالآن يا أرضُ أقترب من ثراك لألفظ أنفاسي الأخيرة.. ومع كل زفرة من
زفرات موتي أخرج حروفاً.. أنحتها على جسدي.. فقلمي سكيني.. وحبري دمي
.. حروف تجتمع لتسطر قصتي.. فاحذري أختاه.. ولا تكوني زهرة قطفت من
بين الزهور.. وفقدت رائحتها.. ثم رميت في وسط الطريق لتسحقها الأقدام..
ليتني أستطيع جمع أوراقي المبعثرة.. لأحكي فيها تجربة قاسية دفعت حياتي ثمناً
لها.. وتبقى رمزاً لكل فتاة تعيش في وسط صراعات.. وكيف يجرها التيار إلى
طريق شائك لنهاية مسدودة.. ليتني أستطيع إخبار أهلي بحالي.. فالآن يا أمي
شمعة منزلك انطفأت.. وأنا التي أطفأتها بيدي.. فابنتك كانت أسيرة لأهوائها..
فلا تبكيني يا أمي؛ فأنا لا أستحق دموعك.. والآن أودعك لأسترسل في نوم عميق
.. نوم لا يوقظني منه صوتك الحنون.. ولا ضحكات أخي الصغير.. نوم لا أملك
قبله سوى أن أقول..
أرى العُمْرَ قد ولى ولم أدرك المنى ... وليس معي زاد، وفي سفري بُعْدُ
وقد كنت جاهرت المهيمن عاصياً ... وأحدثت أحداثاً وليس لها رَدُّ
وأرخيت خوف الناس ستراً من الحيا ... وما خفت من سري غداً عنده يبدو
أنا عبد سوء خُنْت مولاي عهده ... كذلك عبد السوء ليس له عَهْدُ
فكيف إذا أحرقت بالنار جثتي ... ونارك لا يقوى لها الحجر الصلدُ
أنا الفرد عند الموت والفرد في البلى ... وأبعث فرداً فارحم الفرد يا فردُ
__________
(*) كلية الدعوة، جامعة الإمام.(179/38)
نص شعري
نصر الله آت
عز الدين فرحات [*]
...
ما انتهينا
ليس ما قد ضاع ضاع.
إنما الدنيا صراع.
بين حق وخداع.
إن نصر الله آت
فاستعدُّوا يا أُباة
واستفيقوا يا غفاة
إن وعد الله دوماً
سوف يعطينا الثبات.
قالها طفلٌ صغير
دون خوفٍ أو خنوع
في ربا القدس الجليل
عطَّرت كل الربوع:
إن مجداً صاغه الإسلام
خالد.
إن يكن في جنده أمثال
«خالد» .
وأبى الطفل الخضوع.
وأبى ذلَّ الركوع.
رغم ما يلقاه من بطش اليهود
رغم ما عاناه من ذل القيود
يقذف الأحجار في وجه اليهود
علَّمَ القُوَّادَ آيات الصمود
يرفع الصوت يدوي كالرعود
تالياً آيات (أنفالٍ) و (هود) .
قد عرفنا دربنا
كل أمجادي هنا
في كتاب الله
والتاريخ شاهد.
فاقرؤوا القرآن دوماً
«وأعِدُّوا» .
ولهذا اليوم يا قوم
استعدوا
فاستفيقوا يا غفاة
واستعدوا يا أباة
إن نصر الله آت
إن نصر الله آت
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(179/40)
نص شعري
أي ذنب قتلك؟
زينب بنت عبد الله السعود
إلى أطفال يموتون في العراق
بُرْعُمَ الطهر تُرى.. من سحقك ...
بُرْعُمَ الجود ترى.. من جوعك ...
بالحصار المر قل: من غيبك ...
ملأ الأجواء سماً خنقك ...
من كساك الخوف ثوباً سربلك ...
وصلاك النار، من؟ من مزقك ...
قل حبيبي إن قلبي ذا معك ...
«يسكب الدمع ويرعى مضجعك» ...
حار يا موؤود حتى سألك: ...
ليت شعري أي ذنب قتلك؟ ...
أهو الأمن الذي أوجب لك ...
إنما مجلسه من خذلك ...
أم هو الحق الذي قد وُعدك ...
فإذا ما كنت خصماً نكرك ...
أم ترانا نحن من قد ضيعك ...
فرت الآذان كيلا تسمعك ...
أغفت الأعين تخشى رؤيتك ...
فإذا بالنعي يطوي مصرعك ...
يكتم الآه يواري جدثك ...
كل من في الأرض.. كل أسلمك ...
صامت وحدك تبكي مربعك ...
لم يعد من سامع كي ينطقك ...
إنما تروي الحكايا مقلك! ...(179/40)
قصة قصيرة
التوبة الصادقة
محمد مفتوح
زيد، قبل أن يتوب ويرجع عن غيه.. كان من شر ما خلق.. يشرب «أم
الخبائث» ، ويسميها «أم المسرات» ، و «أم ليلى» ، يغتاب أصدقاءه،
وينعتهم بالإرهابيين، والمجرمين.. لكنه لما عاشرهم ورافقهم، وعرف حقيقة
أمرهم، سماهم الأخيار.. أمسى لا يفارق مسجد الحي مبتهلاً، مستغفراً، متهجداً..
دفن ماضيه.. قص شاربيه المعقوفين، وأعفى لحيته، فانتشرت على امتداد
وجهه الأبيض البشرة، فزاده جمالاً ووقاراً.
حين رجعت والدته من السفر، تلك المرأة الخمسينية العمر، لم تزل خطوط
الجمال والهيبة ترتسم على وجهها المائل إلى السمرة..
نقرت الباب بدقات خفيفة:
- طق، طق، طق..!
أسرع زيد، وفتحه على مصراعيه.. ما كادت العجوز الحاجة «حليمة»
ترى ابنها، حتى فغرت فمها الضيق، وهي تخاطب نفسها، حتى أوشكت أن تُجن:
- ربما أخطأت المنزل..!!
وسرعان ما عرف زيد ما يجيش بخلدها، فقطع شريط تفكيرها، وشفتاه
ترتعدان:
- تفضلي، يا أماه البيت بيتك..
هكذا تكلم زيد، بكلمات معسولة، تخرج من فوق لحيته، ومن بين شفتين
كشقي ثمرة ناضجة يانعة.. لكن الأم لم تصدق الرؤية، فأعادت البصر كرتين.
لكن لما سمعت عمرو يزأر، كقسورة، من داخل البيت:
- من ببابنا يا زيد؟
- إنها الوالدة يا أخي عمرو..!
دخلت العجوز البيت بخطى ثقيلة، وكأن رجليها لا ترغبان في حملها..
فحملقت في جدران غرفته التي أصبحت مطلية باللوحات القرآنية، المكتوبة بالخط
الكوفي.. لم تخاطب نفسها بنفسها هذه المرة.. بل غمغمت:
- سبحان مغير الأحوال..!!
قبل أن تنطق، ابتسمت، فتمددت عضلات وجهها الموشوم:
- أين هي صور المطربين، والمطربات؟
لم تتمالك نفسها، فأطلقت زغرودة، اهتزت لها أركان البيت، وصرخت
بأعلى صوتها الأجش:
- «لقد ظهر الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً..»
فنبس عمرو:
- لقد أحرق كل شيء: الكتب الصفراء، حتى بدلته الرومانية، وربطة عنقه
المشجرة.. تالله إنها التوبة الصادقة.
وأضاف مبتسماً:
- ألم تشمي رائحة المسك؟ ألم تنظري إلى عباءته الخضراء؟
وأخيراً نطق زيد:
- الحمد لله، عفا الله عما سلف..!
وأخذ المصحف بيديه الطاهرتين، فطفق يرتل سورة «التوبة» وهو يبكي!!(179/41)
ندوات
تداعيات سبتمبر.. التحدي والاستجابة
(2 ـ 2)
إعداد: وائل عبد الغني
في الحلقة السابقة رأى أحد المحاورين أن أي دولة مالكة للسلاح النووي
تتساوى مع الولايات المتحدة الأمريكية في مسألة الردع، وبين بعضهم أن الحاضر
الغائب في تداعيات ما بعد سبتمبر هو الإرهاب الإسلامي المزعوم.
ودارت الندوة في شؤون شتى نبهت إليها المواقف التي اتخذتها الولايات
المتحدة تجاه العالم الإسلامي خاصة، كما تطرقت إلى موقع العرب من
الاستراتيجية الأمريكية، وفي هذه الحلقة يتابع المحاورون محاور أخرى مهمة.
- البيان -
* ضيوفنا في هذه الندوة هم:
أ. د. أحمد الرشيدي:
أستاذ العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
أ. د. حامد عبد الماجد:
أستاذ النظم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
أ. طلعت رميح:
رئيس تحرير جريدة الشعب المصرية.
أ. د. مصطفى منجود:
أستاذ النظرية السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
البيان: فرضت أحداث سبتمبر عدداً من التحديات على المنطقة العربية؛
بينما سعرت من لظى مجموعة أخرى وضعت المنطقة على مفترق طرق.. كيف
ستكون التحديات، وبماذا ستكون الاستجابات؟
أ. طلعت: الحديث عن التحديات قد يمثل صورة من التحدي في حد ذاتها إذا
ما شكلت عنصر خصم من الوعي بالتحدي الذي يعد وسطاً بين التغافل والانهزامية،
وأعني ألا يصيب ذكر التحديات العصب المدرك في الجسد الإسلامي بحال من
الارتباك أو الوهن، ولهذا أرجو ألا يتحول الحديث حول التحديات في حس القارئ
إلى نوع أخطر من التحدي؛ لأن أكبر تحدٍّ هو التحدي النفسي الذي ينشأ عن
استعظام المخاطر، أو الوقوف على أطلال الحركة دون أن نطور ردود أفعال
تتناسب مع الأحداث إن لم تتفوق عليها.
الولايات المتحدة أدركت ذلك جيداً بعد الحادث مباشرة ووسعت من دائرة
الإرهاب النفسي الموجه نحو الشعوب العربية والإسلامية، وأخشى أن يوضع
كلامنا في هذه القضية لنوع من العون للجهود الأمريكية في هذا الباب، ربما
نجحت الولايات المتحدة في تحقيق بعض النجاحات على مستوى النخب؛ لكن
بالنسبة للشعوب العربية فإن الأمر كان قد تحول إلى موجة كراهية عارمة وربما
بوادر يقظة كان يمكن أن تستثمر لإحباط المخطط الأمريكي الصهيوني، وأخشى أن
تتسرب مع الوقت.
د. حامد: قبل أن أتحدث عن التحديات أطرح ثلاث برقيات عاجلة في هذا
الصدد:
الأولى: لدينا نوع من التحديات التي يمكن القول إنها تشكل مباراة صفرية؛
بمعنى أنه هو تحدٍّ حالّ وضروري وأساسي.. أو هو تحدي وجود!
وفي المقابل هناك نوع آخر من التحديات يمكن أن يقبل المساومة وأنصاف
الحلول التي تمثل هامش مناورة وهامش تبدلات سياسية.
الملاحظ أن مستوى التحديات من النوع الأول زادت معدلاته بعد أحداث
سبتمبر.
الثانية: أن التحدي يفترض أن نميز بين العدو الرئيسي في التحدي والعدو
الثانوي؛ أقصد مصدر التحدي.
الثالثة: أن التحدي لم يعد مقصوراً أو مقتصراً على النظم السياسية أو
المجتمعات، وإنما أصبح التحدي يواجه بنفس الدرجة وربما أعمق قوى التغيير
داخل المجتمعات العربية.
ومن هنا سأذكر بعض التحديات التي يمكن تصنيفها وفقاً لهذه المحكات
المنهجية الثلاثة: أنا أرى أن التحدي الأساسي الذي يواجه الدولة والمجتمع
والحركات عموماً هو تحدي غياب الرؤية، وغياب المشروع والهوية؛ فكل
الأنظمة تعاني من غياب الرؤية (ماذا تريد بالنسبة لشكل الدولة وصورة المجتمع
وهوية الكيان ... ما هو المجتمع الذي تريده؟) .
هناك أزمة قيادات سواء على مستوى الفكر والسياسية والتنظيم. هناك أزمة
مؤسسات، هناك أزمة تنموية وإصلاحية بكل الأبعاد.. هناك حالة من الشلل
والجمود السياسي المنتشر في الأقطار العربية؛ بحيث إن السياسة شاخت أو كما
يعبر البعض: «أنظمة أصابها الكِبَرُ والكِبْرُ في نفس التوقيت» .
د. أحمد: وفق تصوري لا يمكن الحديث عن التحديات الجديدة دون الأخذ
في الاعتبار التحديات القائمة فعلاً والتي يمكن تصورها على ثلاثة مستويات للتحليل:
المستوى الأول: تحديات نابعة من البيئة الداخلية لكل دولة عربية أو دولة
إسلامية على حدة (أو تحديات على المستوى الوطني) .
المستوى الثاني: تحديات على المستوى العربي.
المستوى الثالث: تحديات نابعة من البيئة الدولية العالمية.
فعلى المستوى الأول: هناك التحدي الأكبر وهو مسألة الحريات، وقد ألقت
الأحداث الأخيرة بظلال كئيبة عليه؛ فما لم يأمن الإنسان في بلادنا العربية على
حريته وعلى أمنه وعلى يومه وعلى غده، فهل يتوقع منه خير؟
أيضاً قضية بعض الدول العربية التي تُواجه بتهديدات تكاد تهدد وجود الدولة
ذاتها. مثلاً: حالة الدولة في الصومال، حالة الدولة في السودان مع اختلاف
الدرجة، حالة الدولة في العراق، العراق يكاد يكون الآن دولة لا تملك السيطرة
على فضائها؛ فهذا التهديد لوجود الدولة في ذاتها واستمراريتها كدولة أنا أتصور أن
هذا تهديد من نوع جديد لم نواجهه من قبل.
والقضية الأخرى هي قضية تفسخ التكامل الوطني داخل الدولة واستثمار
ورقة الأقليات، هذه القضية بدأت تمس وجود الدولة؛ وهذا ممكن أن نلمسه بشكل
أوضح في حالة السودان، ممكن أن نلمسه أيضاً في حالة العراق، ممكن أن نلمسه
في حالة الجزائر. هذا التحدي تعاظم بشدة بعد الأحداث الأمريكية.
هناك سياسات اقتصادية وتعليمية وثقافية أصبحت تنفذ وفق إملاءات ووفق
برامج محددة، وهذا يلفت الأنظار إلى فشل مشروعات التنمية في بلادنا العربية في
النهوض، وارتباطها بالاقتصاديات الدولية، وهو ما أدى إلى أزمات سيولة وبطالة
خانقة. بالنسبة للتعليم أصبحنا نرى اليوم نشراً للنموذج الأمريكي في التعليم في
مقابل إضعاف التعليم الوطني وتسطيح مستواه، وهذا يلقي بظلاله على مسألة
الهوية بأبعادها الدينية والثقافية والاجتماعية؛ بل حتى في التعليم الوطني أصبحنا
نرى توسعاً في التعليم باللغة الإنجليزية في مقابل خنق اللغة العربية.
أما على المستوى العربي فحالة التشرذم هي في ذاتها تحدٍّ، وضعف
المؤسسات الإقليمية وقصورها في تقليل النزاعات العربية والسعي نحو التكامل رغم
توافرالإمكانات والدواعي وطول الخبرة هو تحدٍّ آخر، والمشاريع الوافدة هو تحدّ
جديد قديم، نعم هذه التحديات ليست ناشئة تبعا لأحداث سبتمبر! لكن لا ينبغي
نسيانها؛ لأنها تولد تحديات جديدة مع تطور الأحداث، كما أنها تفرض قيوداً على
الاستجابات من جهة ثانية.
أما على مستوى البيئة العالمية: فإن اليمين الأمريكي في ظل أحداث سبتمبر،
وعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية قد وجد الظرف المناسب لتحقيق خيار
الهيمنة الأمريكي على حساب الخيارين الآخرين وهو خيار المشاركة القطبية في
قيادة العالم، والانكفاء على الداخل تحت مسمى جديد هو حرب الإرهاب في ظل
صمت عالمي أو موافقة. واستثمر هذا الوضع لصالح فكر الهيمنة الذي بدوره
يفرض قيوداً وتحديات ومطالب على المنطقة لصالح الطرف الأمريكي وحلفائه
الدائمين، وأصبحت الولايات المتحدة كما يعبر البعض: «لقد اختُزلت الأمم
المتحدة في مجلس الأمن.. واختزل مجلس الأمن في الولايات المتحدة» . ولا شك
فإن التحركات الأمريكية على المستوى العالمي وحالات التقارب الروسي الأمريكي،
واكتمال أركان الحلف الإسرائيلي الهندي التركي تحت المظلة الأمريكية، والسعي
نحو آسيا الوسطى لتهميش دور المنطقة العربية اقتصادياً على المستوى العالمي؛
كل ذلك يلقي بتحديات جديدة.
د. مصطفى: في الحقيقة يمكن قراءة خريطة التحديات بأكثر من طريقة
والنظر إليها من أكثر من زاوية، وقد ركز الدكتور أحمد على الوجهة في التحديات
على أنها داخلية أو إقليمية أو دولية، أما أنا فسأركز قليلاً على الموضوع، وقد
رصدت من تلك التحديات عشر تحديات أساسية، والخطورة ليس في عرض تلك
التحديات، ولكن الخطورة في بعض المدركات المرتبطة بهذه التحديات. وأركز في
هذه التحديات على ما استجد بعد سبتمبر:
لدينا أولاً: التحدي الديني: ويرتبط هذا النوع بالفهم المغلوط للإسلام وربط
الإسلام بالإرهاب، ورسم إطار أمريكي لدورالمؤسسة الدينية، أيضاً في مسألة
التعليم الديني وتفريغه من مضمونه الأساسي. التحدي الديني في التضييق على
المؤسسات الدينية كدور تحفيظ القرآن، والمعاهد الدينية كما حدث في باكستان
مؤخراً وحدث من قبل في مصر واليمن. هذه التجربة ستعمق وتعمم على مستوى
دول المنطقة والعالم الإسلامي.
التحدي الثاني: التحدي الأمني: يتمثل في عدد من المقررات الأمريكية على
مستوى التعاون الأمني على مستوى العالم بالإضافة إلى تجاوز كل حدود
الخصوصية السياسية والأعراف الدولية والإقليمية الخاصة بممارسة كل دولة السيادة
على أراضيها، فقد أصبحنا كل يوم نسمع عن جديد في هذا الأمر: إثارة قلاقل في
دول قد تصل إلى حد التفتيت أو التقسيم، بالإضافة إلى الملاحقات الأمنية للعرب
والمسلمين على مستوى العالم، وكأنه قد أصبح مقرراً الآن أن الإسلام هو الوجه
الآخر للإرهاب.
أ. طلعت: تصريحات الساسة الأمريكيين في الفترة الأخيرة كلها تتواطأ
بالفعل على هذا المعنى بدءاً من بوش إلى تشيني ورامسفيلد ورايس وغيرهم.
د. مصطفى: أضف إلى ذلك ثورة قوانين الاشتباه والهجرة التي تمت على
مستوى العالم الغربي، وسلسلة الإجراءات الموسعة التي اتخذت بالفعل في هذا
الباب.
التحدي الثالث: التحدي السياسي: الدكتور أحمد أشار إلى مسألة الحريات،
وتوسع منطق الأقليات في المنطقة العربية والتخريب في الهوية. القرار السياسي
العربي على المستوى القطري وعلى المستوى الإقليمي أصيب بنوع من الترهل،
ولم يعد يملك زماماً للمبادرة بحيث إنه أصبح محاصراً بالاتهامات، وعليه أن يدافع،
وقد رأينا حالة الإخفاق العربي على مستوى القضية الفلسطينية.
التحدي الرابع: التحدي النفسي: وأقصد به تحدي التعامل النفسي في المنطقة
العربية، وهذا التحدي النفسي لا يقابل بحرب نفسية فقط، ولكن هناك حرب نفسية،
وهناك دعاية، وهناك تسميم سياسي، وهناك كل الكلام الذي تكلم عنه الدكتور
حامد ربيع - رحمه الله -.
التحدي الخامس: التحدي الإعلامي: وبراعة الإعلام الغربي في تسويق
الأخبار وإقناع الرأي العام بما يريد الساسة الغربيون، والتأثير على المستوى
العالمي، بينما إعلامنا نحن الآن في مناطق فراغ، وقد رأينا على سبيل المثال
كيف صورت N N C وغيرها من الفضائيات أحداث سبتمبر وكأن العالم كله
انجرح، والعالم كله ضرب وتصوير حالة الضرب والمآسي التي حدثت، وفي
نفس الوقت الذي تحدث فيه إسرائيل أكثر من ذلك، ولكنهم عندهم آلة إعلامية،
وهذه الآلة الإعلامية تعمي على ما قامت به إسرائيل، في الوقت الذي نملك فيه
عشرات القنوات الفضائية على المستوى العربي، ولا نملك استراتيحية إعلامية
موجهة لا نحو الداخل ولا نحو الخارج لتقول لهم ما هو الإسلام. كيف تخاطب
مثقفين؟ كيف تخاطب دوائر المعلومات؟ كيف تخاطب صُناع السياسات؟ كيف
تخاطب الناس هناك في الغرب؟
التحدي السادس: التحدي الاجتماعي: والتحدي الاجتماعي له أكثر من وجه:
المسلمون المسجونون لدى الولايات المتحدة، المضارون من الحروب الأمريكية،
آثار السياسات الأمنية والتعليمية والتشريعية.. مسألة الثقافة، مسألة القيم الجديدة
التي يحاولون أن يغزوا بها المنطقة وما يمكن أن ينجم عنها على المستوى
الاجتماعي. يمكن أن نلمح من وراء ذلك كله آثاراً خطيرة على المستوى
الاجتماعي في العالم العربي.
التحدي السابع: التحدي المؤسسي: فالمنطقة العربية تفتقر إلى العمل
المؤسسي المنظم سواء على مستوى العمل المشترك على المستوى القومي أو على
المستوى القطري ببعديه الأهلي والرسمي، المؤسسات الموجودة لا تفي
بالاستجابات المطلوبة والتحديات تفرض علينا عملاً مؤسسياً مكثفاً ومتخصصاً
ليواكب التحديات المفروضة، والاستجابات على هذا النحو ضعيفة للغاية، بل
يجري تكبيل مثل هذه المؤسسات على المستوى المدني عبر سن القوانين التي تحد
من حركتها وتجعلها تدور في إطار ضيق لا يتناسب مع حجم الأحداث، في حين
أنه تتاح الفرصة لكل مؤسسات المجتمع المدني الأمريكي أن تتكلم وتتفاعل مع
واقعها وقضاياها.
التحدي الثامن: التحدي التعليمي: أظن أننا كلنا متفقون على أن المطلوب
الآن هو نظام تعليمي مستأنس يُخرج مواطناً صالحاً بالمفهوم الأمريكي. والتحدي
التعليمي ليس بتفريغه من مضمونه الديني فقط، وإنما بمنهجية حشو الرأس؛
بحيث يتخرج من التعليم تسيطر عليه ثقافة السطحية.. ثقافة الهشاشة الموجودة في
عالمنا.. ثقافة الفيديو كليب.
التحدي التاسع: التحدي الاقتصادي: والأرقام عن التداعيات الاقتصادية التي
أصابت العالم العربي من جراء أحداث سبتمبر مهولة تكشف عن الخسائر في
معدلات النمو.. الخسائر في الصادرات، الخسائر في الاستثمارات، الخسائر في
حجم السياحة وفي حجم البطالة، في العملات الوطنية، في الدولار.. في أشياء
كثيرة جداً.
التحدي العاشر: التحدي التقني: والمشكلة ذات اتجاهين: الأول أن الولايات
المتحدة ويتبعها الغرب بدأت بفرض سياج من الحظر حول التقنيات الحديثة التي
تنقل إلى العالم الإسلامي والعربي؛ بحيث خفضت سقف المسموح به للتصدير
بالذات إلى العالم العربي والإسلامي مما يزيد من الهوة، ومن جهة ثانية فإن
التحديات تملي استنفاراً على المستوى التقني؛ لأن المواجهة عبر التقنيات الحديثة
زادت من تعقيد الأمور، وهو ما يصعب تحقيقه فعلاً.
أ. طلعت: لا شك أن المسألة التقنية بالغة الخطورة وبالذات على مستوى
قدرات الدول، ولكن تجربة الحركات الجهادية تجربة مبهرة ترينا كيف يتغلب
العامل العقيدي على الجانب التقني، وهذا يعيد لإنسان العقيدة اعتباره من جديد في
المواجهة، بالإضافة إلى محاولات الاستفادة من الخبرات المتاحة عربياً؛ وهو ما
أحدث قفزات نوعية في قدرات الانتفاضة على الاستمرار والمواجهة.
د. مصطفى: يقال الآن إن ضعف الإمكانيات التقنية يحد من قيام بعض
الدول القائدة بدورها القيادي، بل إن أثر الناحية الاقتصادية أو الناحية السياسية
يهون بجوار الجانب التقني.
أ. طلعت: أود أن أشير إلى بعض التحديات:
الأمر الأول: نظراً لأن المشروع الصهيوني في المنطقة في أخطر أزماته؛
فإن نقطة التوازن في المنطقة أصبحت في صالح العرب بفضل الانتفاضة، وهذا
ما يقلق الولايات المتحدة، ومن ثم يتوقع الخبراء بأن تتبنى الولايات المتحدة
ضربة عسكرية تعيد للكيان الصهيوني زمام المبادرة وتحقق له الردع من جديد،
والمرشح الأول لمثل هذه الضربة سوريا من أجل إيقاف الدول العربية عن دعم
فصائل المقاومة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة.
الأمر الثاني: أن الولايات المتحدة نشطت على المستوى الفكري والثقافي
والسياسي في تبني شخصيات واتجاهات داخل الدول العربية من أجل إيجاد عناصر
ضغط وتسميم سياسي، وتمدهم بالمال والدعم المعنوي والخبرات، وقد بدأت بالفعل
في تبني بعض فصائل اليسار سراً ومنهم التروتسكيون على وجه التحديد، وقد
بدؤوا بالفعل تنظيم صفوفهم من أجل العمل داخل الدول العربية بدعم مطلق من
أجهزة أمريكية وتمويل مفتوح لملء الفراغ الذي يتركه التضييق على القوى
الإسلامية والوطنية لصالح الرؤى الأمريكية.
الأمر الثالث: وهو تحدّ يكشف لنا عن منطق التراجعات العربية المستمرة،
وهو في منطق التعامل مع التحديات على المستوى العربي، وقد كشفت أحداث
سبتمبر إلى حد كبير أن التعامل العربي مع كثير من التحديات الاستراتيجية يتم
بمنطق التكتيك، وهو منطق لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج مرغوبة أو محمودة.
الأمر الرابع: أن التساهل الأمريكي مع روسيا في قضية الانضمام لحلف
الأطلنطي، وتوقيع الاتفاقيات الأخيرة حول خفض التسليح وغض الطرف عن
جرائمها في الشيشان، وكذلك التودد إلى الصين (الاستجابة لاعتراضها بشأن
القصف النووي في أفغانستان غض الطرف عن قضايا حقوق الإنسان داخلها ...
إلخ) ، ومحاولة تسوية النقاط الملتهبة مع أوروبا (قضايا الجمارك على الصلب
قضايا صناعة الطيران ... إلخ) وتوسيع وتيرة التحالف مع الهند وغيرها وغيرها
إلى كافة أنحاء العالم، كلها مؤشرات على تبديل الأولويات الاستراتيجية، باتجاه
عدو يحتل أولوية عاجلة على الأقل، ألا وهو العرب والمسلمون، والملاحظة الأهم
على هذه الاستراتيجية هو أنها تتبنى خيار الصراع المباشر والشامل مع الدول
العربية والإسلامية دفعة واحدة (لا يتعارض ذلك مع اختلاف الدرجات) باستخدام
القوة العسكرية أو التهديد بها، وهذا يعني أن التحدي هذه المرة شامل وضاغط على
العرب جميعاً ودفعة واحدة.
البيان: من خلال تجليات الأحداث بدا واضحاً أن التحديات بالأصالة أو
الوكالة كلها تصب في حصار الحركات الإسلامية باعتبارها العنصر الأهم في
المنطقة في مقاومة الهيمنة الأمريكية الصهيونية؛ فكيف يمكن قراءة التحديات
التي تواجه العمل الإسلامي بأشكاله المختلفة داخل المنطقة؟
د. حامد: في الواقع الحركة الإسلامية تأتي على رأس قوى التغيير الحقيقية
في المنطقة باعتبارها المؤهلة حقيقة لمجابهة المخاطر التي تواجه المنطقة.
بالفعل هناك تحديات موجهة إلى الظاهرة الإسلامية سواء في بُعدها الشعبي
(التدين الشعبي) أو في بُعدها المؤسسي (المؤسسات التي تعمل للإسلام) أو في
بُعدها الحركي (الحركات والجماعات الإسلامية) هذه التحديات يمكن ترتيبها في
ثلاثة مستويات:
مستوى تحديات نابعة من السياق العالمي وأبرزها أربعة تحديات:
1 - التحدي على مستوى الخضوع للهيمنة الأمريكية والغربية:
بحيث أضحى واضحاً وماثلاً للعيان أن القرار الاستراتيجي العربي والإسلامي
عامة تحدده الولايات المتحدة الأمريكية، أو يتم في إطار ضغوطها في معظم
القضايا المصيرية والقضايا الأساسية؛ وقضية الصراع مع الكيان الصهيوني مثال
بارز.. المبادرات الأخيرة تؤكد ذلك ولو جزئياً، وملف الظاهرة الإسلامية
واستراتيجية التعامل معها يعد أحد هذه الملفات الأساسية المدرجة في علاقة الظاهرة
الإسلامية في المنطقة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبرها إجمالاً من أقوى
التهديدات للهيمنة والمصالح الأمريكية في المنطقة خاصة بعد أحداث سبتمبر.
2 - التحدي على مستوى عملية التسوية السياسية مع الكيان الصهيوني:
والذي يمتلك رؤية واستراتيجية ثابتة للتعامل مع قضايا منطقة الخليج العربي،
وهو يدرك على نحو واضح أن عدوه الحقيقي هو الظاهرة الإسلامية ذات الامتداد
الشعبي والإدراك القيادي الصهيوني الذي يعكسه في أنصع صوره شارون في
الوقت الحالي يعتبر الظاهرة التي توصف بالإرهابية هي العدو المشترك لإسرائيل
والولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة الحاكمة في المنطقة، والمثال الواضح
الموقف من حركات المقاومة مثل حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله.
3 - التحدي على المستوى السياسي الداخلي؛ أي موقف الأنظمة السياسية
الحاكمة من الظاهرة الإسلامية:
كانت معظم الأنظمة السياسية الحاكمة في المنطقة إلى ما قبل أحداث سبتمبر
وبتفاوت بينها في (الدرجة) تعتبر الظاهرة الإسلامية خطراً أمنياً، ولكن بعدها
وفي إطار الاستراتيجية والضغوط الأمريكية يمكن القول إنها ارتفعت بها لتصبح في
الوقت الحالي وإلى المدى المنظور مستقبلياً هي النقيض الأساسي و «العدو
الرئيسي» حالياً؛ ولذلك فإن وجودها الاجتماعي والسياسي يدور حول «السماح
الفعلي المحسوب» ..
4 - التحدي الفكري والمعلوماتي النابع من الإطار الدولي (ازدياد الدور
الأمني والمخابراتي والعسكري للأمن الغربي الأمريكي) :
يعتبر التنميط والأمركة أحد مظاهر العولمة وجوانبها والنقيض لفكرة الأمة
والعالمية ولو في أحد أهم مستوياتها وهي أحد مرتكزات ممارسات الظاهرة
الإسلامية، ومن آثارها إضافة إلى عملية التنميط تذويب الهوية الوطنية والقومية
وفي نفس الوقت إبراز منطق الأقليات العرقية والدينية وهو ما يمثل تحدياً من نوع
آخر للظاهرة الإسلامية في المنطقة العربية عموماً وفي منطقة الخليج على نحو
خاص وهو ما يتطلب نوعاً محدداً من الاستجابة.. كما أن الثورة الاتصالية تفرض
تحدياً من نوع آخر يتعلق بمدى إمكانية استفادة الظاهرة الإسلامية من الثورة
المعلوماتية، والتي تفرض تحدياً من نوع آخر يتعلق بـ «نوعية المعلومة»
وإمكانية السيطرة عليها أو احتكارها، وكذلك مضمون المعلومة ذاته ومن يحدده
ويمتلكه.. إلخ.
أما المستوى الثاني فعبارة عن التحديات النابعة من السياق المجتمعي الذي
تعمل فيه الظاهرة الإسلامية، ويمكن تقسيمها لأربعة كما يلي:
1 - حقيقة مدى انتشار وشعبية الظاهرة الإسلامية وتراجعها:
إذ لم يثبت حتى الآن بشكل علمي أن قطاعات واسعة من الرأي العام رغم
تدينه التقليدي ومحافظته في المنطقة العربية عموماً وفي منطقة الخليج العربي
كنموذج قد وصلت إلى قناعة فعلية باعتبار الظاهرة الإسلامية وما تقدمه هو البديل
المطلوب للاستجابة لاحتياجاتها، أو هو الممكن للإصلاح والتغيير، والمؤشرات
المتوفرة بهذا الصدد من خلال العمليات الانتخابية حتى الآن تدل على أن الحركة
تحوز في أحسن الأحوال من 20% - 25% في الكويت مثلاً من تعاطف قطاعات
الأمة، وعلى أية حال فإنه لا يمكن أن يتم إصلاح أو تغيير على أساس الاهتمام
والتعاطف فقط، كما أن المراهنة على مواقف ثابتة للرأي العام أو خصائص دائمة
أمر تعوزه الأدلة العلمية، الوضع بالنسبة لشعبية الظاهرة الإسلامية هناك لم توضع
على المحك؛ لأنه لم تجر انتخابات، وليست هناك معاهد أو مراكز لقياس الرأي
العام ومعرفة توجهاته الأساسية بالنسبة للحركة الإسلامية في المنطقة.
2 - نخبوية الظاهرة الإسلامية وتآكلها:
تعد الظاهرة الإسلامية قوة منظمة في مجتمعاتها إلا أنها بـ «مقاييس الكم
والوضع» ما تزال نخبة محدودة مركزة في طبقات اجتماعية وفئات اجتماعية،
وأوساط ثقافية محددة، وهذه ذات سمات معينة من حيث خصائصها وقدرتها على
التغيير، وأيضاً من حيث الإمكانات والفعالية، وقطاعات واسعة من هذه النخبة
مستوعبة وموظفة فعلياً لصالح مشاريع أخرى قد تكون منافسة أو مناقضة للظاهرة
الإسلامية، وكل ذلك ينبني عليه أنها بإجمال تعاني من ضعف حقيقي لا يمكنها من
الاستجابة المطلوبة.
3 - تغلغل الظاهرة الإسلامية:
وإن لم يكن بقدر كاف في مؤسسات الأمة الطبيعية كالمساجد والأوقاف،
والجامعات الدينية التقليدية الممثلة لرمزية الفكرة الإسلامية مثلاً، والتي ترتبط بها
جماهير الأمة تلقائياً، وإن كانت قد قدمت للأمة مشاريع تتواصل مع أبنيتها
الأصيلة والطبيعية لم تزل تحتاج إلى مزيد من الجهود. أما وجود الظاهرة في
القطاعات المحدّثة، والأبنية التحديثية من مؤسسات الدولة الحديثة فهي ما زالت
ضعيفة إلى حد ما.
4 - عدم قيام الظاهرة الإسلامية بالدور الريادي أو القائد في المجتمع:
قدمت الظاهرة الإسلامية نفسها في المنطقة العربية باعتبارها قيادة للإصلاح
وللتغيير في مجتمعاتها وفق شعارات عامة فضفاضة، وكانت هناك درجات من
القناعة بذلك في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، وقد بدأت الظاهرة تتبلور
في العقدين الأخيرين التي جربت فيها الظاهرة الإسلامية ولو جزئياً عبر درجات
مختلفة من المشاركة أو المغالبة لم تنجح الحركة فيها في تقديم نماذج واقعية حقيقية
للإصلاح وللتغيير المأمول منها، ولكن الظاهرة السياسية في منطقة الخليج العربي
قدمت جزئياً نماذج لنجاحات فعلية.
تلكم التحديات ماثلة أمامنا جاءت أحداث سبتمبر لترسخ وتعمق للتحدي وفق
السياقين العالمي والمحلي.
أما المستوى الثالث: فهو التحديات النابعة من داخل الظاهرة الإسلامية،
ويمكن إجمالها في سبعة محاور أساسية تعبر عن تأمل ومتابعة لأحوال هذه
الظاهرة وهي:
1 - غياب «الرؤية» وعدم تكامل المشروع الإصلاحي:
أو عدم بلورة الحالة الإسلامية لمشروعها التغييري وصياغته صياغة (تناسب
العصر) تقبل التنفيذ سواء كان المشروع السياسي أو حتى المشروع التربوي.. أو
كل مشاريعها الحقيقية. وهذه ملاحظة في الصميم لم تقدم حركة إسلامية حتى
الوقت الراهن مشروعاً إصلاحياً قابلاً للتطبيق. هناك جهود ولا أنكر ذلك؛ لكن لم
ينجز مشروع حتى الآن ولم يقدر لأي حركة أن تجدد أو تقدم مشروعاً.
وحتى يوضع كلامي في محله الصحيح أفرق بين أمرين:
أولهما: الفعل الإصلاحي من ناحية، والرؤية الحاكمة له والمحددة لمساراته
والمنظمة لاتجاهاته من ناحية أخرى؛ فلا يمكن أن ينكر محلل جاد أن هناك بدرجة
من الدرجات أفعالاً حضارية وإصلاحية تقوم بها الظاهرة الإسلامية؛ ولكن
الإشكالية أنها لا تنبع من رؤية محددة، ومن ثم فلا تصب في النهاية في خدمة
أهداف واضحة ومحددة، بل إن هذا الغياب يجعل من طاقاتها - للمفارقة - موظفة
في أهداف ومشاريع مناقضة، ولتسويغ سياسات قد تكون معادية للظاهرة الإسلامية
ذاتها.
وثانيهما: التمييز من الناحية العلمية بين المشروع الإصلاحي المتكامل من
ناحية، والبرامج المحددة على مستوى الأفراد والجماعات الصغيرة التي تحوزها
الظاهرة الإسلامية في معظم الأقطار التي تمارس فيها العمل.. لا يعني ذلك أنه
ليست هناك أفكار عامة حول الرؤية معظمها مستمد من التراث الإسلامي ويحتاج
مراجعة حقيقية. وبإجمال: الظاهرة الإسلامية لم تضع مشروعها الإصلاحي
والتغييري بلغة محددة وواضحة صالحة للاستجابة للتحديات.
2 - الأزمة القيادية داخل الظاهرة الإسلامية (التحدي القيادي) :
يلاحظ أن القيادات الحالية في معظم مستويات الظاهرة الإسلامية وإن كان
بدرجة أقل بالنسبة لمنطقة الخليج تعاني أزمات تتعلق بشرعية الإنجاز (الشرعية
وفق اصطلاح الفكر السياسي) الذي تحققه، وكفاءة الأداء في الأدوار؛ «فالإنجاز
الفعلي» للظاهرة الإسلامية يكمن في الالتزام ببناء مؤسسات شورية حقيقية وليست
شكلية وورقية على النمط الذي تقيمه الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي.
3 - الأزمة التنظيمية والإدارية داخل الظاهرة الإسلامية (التحدي المؤسسي) :
وهي أزمة حقيقية ساهمت في صنعها عوامل واقعية ليس هنا مجال التعرض
لتحليلها وهي ذات مستويات متعددة جوهرها تحول الظاهرة الإسلامية في معظم
البلدان والمناطق إلى حالة إدارية تنظيمية طغى الجانب التنظيمي على بقية الجوانب
الأساسية في ممارسات الظاهرة الإسلامية؛ فإذا أضفنا إلى ذلك وجود حالة من
«الجمود التنظيمي» في أبنيتها؛ مما أدى إلى ضعف حلقات الاتصال بين
المستويات المختلفة داخل إطارها التنظيمي، وكذلك ضعف عملية التماسك الداخلي
والمعاناة من أمراض المركزية المفرطة، بالإضافة إلى تقليدية أساليب العمل داخل
مؤسسات الظاهرة الإسلامية وعدم تطورها وفق التغييرات المعاشة.. إلخ؛ مما
يعني في التحليل الأخير عدم وجود «تقاليد مؤسسية» داخل الظاهرة الإسلامية
لصالح الفردية والشللية في بعض الأحيان؛ ناهيك عن عدم تحديد العلاقة بين حجم
المؤسسة وحجم العمل الفعلي ووظيفته في إطارها. هذا التحدي التنظيمي والإداري
بالغ الأهمية؛ لأن العامل التنظيمي والإداري أداة نقل المشروع عبر الظاهرة
الإسلامية إلى أرض الواقع العملي والفعلي.. ومن ثم فإن وضعيته هذه أضعفت إلى
حد كبير مقدرة الظاهرة الإسلامية على الاستجابة.
4 - تناقض الرؤى داخل الظاهرة الإسلامية بصدد أهدافها وأساليبها في
الإصلاح (التحدي التنموي والإصلاحي / التكامل القوي للهوية) :
ثمة مجموعة من التصورات المختلفة والرؤى المتناقضة وغير المتناسقة عن
ملامح الإصلاح، وكذلك الكثير من الرؤى المختلفة في تصور طبيعة الصراع
والتحديات التي تواجه الظاهرة الإسلامية، ومن ثم أساليب التعامل معها والاستجابة
لها، وهذا التحدي قد يخفت تحت ضغوط التحديات الخارجية الواقعة على جسد
الظاهرة الإسلامية، ولكنه موجود على كل الأحوال، ويمكن أن يظهر في لحظات
تاريخية، ويتفجر في سياقات معينة.
5 - انخفاض مستوى جودة في الأجيال الجديدة العاملة في إطار الظاهرة
الإسلامية (تحدي تهميش الأجيال الشابة) :
تعاني الأجيال الجديدة التي تم استيعابها للعمل في إطار الظاهرة الإسلامية في
سنوات العقد الأخير خاصة كما يظهر في العديد من المؤشرات من مشكلات حقيقية
لا تكمن فقط في تراجع الناحية الكمية الواضح ولكن إضافة إلى ذلك فإن نوعية
ومستوى العضوية الجديدة هو الآخر يشهد انخفاضاً وتراجعاً حقيقياً ربما يرجع ذلك
إلى عدم وضوح الأسس التي يتم عليها التجنيد، والتصعيد، وعدم تطور البرامج
التربوية والأنشطة وملاءمتها، وكذلك عدم فعالية الأشكال التنظيمية للظاهرة
الإسلامية التي يتم من خلالها تنفيذ هذه البرامج والأنشطة عملياً، والتي تحتاج
بشكل حاد إلى المراجعة والتجديد، وبالطبع فإن ذلك يتم في سياق مجتمعي في
المجتمعات العربية والإسلامية ويتجه نحو الانحدار العام.
6 - غياب أو عدم احترام التخصص داخل الظاهرة الإسلامية (تحدي
الجمود السياسي) :
تبدي الظاهرة الإسلامية في أدبياتها النظرية احتراماً كبيراً لقضية التخصص؛
إلا أن الممارسة داخلها في معظم مؤسساتها حتى في الأنشطة التي تعتبر بطابعها
تخصصية لا تحترمه في غالب الأحيان، ورغم أنها حفلت بالكفاءات المتميزة في
معظم المجالات الفكرية والعملية إلا أنها كما يبدو من عدم التجديد في خطابها
الإعلامي والتربوي، وكما يظهر في فقر الأدبيات الجادة الصادرة عنها تشهد
تراجعات ملحوظة على هذا الصعيد؛ فقد سيطر على معظم مؤسساتها العقل
الإجرائي والبيروقراطي المجدب، وأصبحت الظاهرة الإسلامية طاردة للكفاءات
الحقيقية من أبنائها تحت حجج وعناوين مختلفة، وفي ظل تسويغات فضفاضة
كثيرة، وهكذا تفقد الظاهرة الإسلامية بعضاً من أخلص أبنائها لصالح بقاء طبقات
من العملات الرديئة ومن ذوي الكفاءات المنخفضة مما يقعدها عن مواجهة التحديات
فتصبح مسؤولة عن إصلاح البيت من الداخل قبل المناداة بإصلاح المجتمع.
7 - غياب القيادات الفكرية المرجعية داخل الظاهرة الإسلامية:
تعاني الظاهرة الإسلامية نقصاً كبيراً من ذلك الجيل القائد على المستوى
الفكري والمرجعي وهو ما عبر عنه البعض بأنها أضحت جسداً كبيراً ليس له عقل
فكري قائد ناضج ومجمع على مستوى الجسد الكبير، وإن كنا نرى أنه قد فات زمن
المرجعيات الفردية الفذة المجتهدة، وأصبحت الحركات الإصلاحية توجده عبر
مؤسسات ومراكز متخصصة للبحث والتفكير المستقبلي وهو ما لم تعرفه،
والتجارب التي حاولتها لم تستطع أن تثبت جدارتها أو قدرتها على الصمود والبقاء
ناهيك عن الإنتاج والإبداع والحركة، ومن ثم أخذت عوامل التآكل تفعل فعلها في
الظاهرة الإسلامية دون أن تقوم بتعويض حقيقي لصالح الكيان.. تتفاعل هذه
التحديات وتتجلى في الكثير من المظاهر التي تلخصها حالة الظاهرة الإسلامية عامة.
فما هي الاستجابات التي تواجه بها التحديات، وإلى أي مدى تتناسب معها
ومع طبيعة الأهداف؟ وإلى أي مدى تعتبر الظاهرة الإسلامية مؤهلة لمجابهة هذه
التحديات؟
نذكِّر بأن الواقع الحالي كما ظهرت بعض مؤشراته متراجع، كما أن
الممارسات تشهد تخبطاً حقيقياً على معظم المستويات، ولعل نقطة البداية هي
التشخيص السليم للواقع، وإيجاد الوعي الحقيقي العلمي بطبيعة المنطق الصراعي
المواجه للظاهرة الإسلامية، والتحديات لكي تستجيب لها عملياً، وتحدد أشكال
الاستجابة ووسائلها المختلفة.
د. أحمد: هل هذا مرتبط بأحداث سبتمبر؟
د. حامد: قد يكون غير مباشر؛ لكن لا يمكن أن نغفل أنه زاد بعد سبتمبر،
زاد الانحدار. يعني كل المظاهر المرتبطة بالمشروع الأمريكي زادت بعد تلك
الأحداث وبدأت نغمته تزيد في المجتمع.
د. مصطفى: إذن بِمَ تفسر يا د. حامد صعود الانتفاضة بهذا الشكل،
وارتفاع التجاوب الشعبي معها على مستوى العالم في حدود الإمكانات المتاحة
ومسألة المقاطعة مثال لذلك؟
د. حامد: أنا أرصد ولا أفسر.. أنا معك، ولكن أنا أتكلم عن التيار العام
(ministry the) في كل الأقطار العربية تقريباً.
د. مصطفى: يظل التساؤل مطروحاً: هل هذا مرتبط بأحداث سبتمبر؟
د. حامد: لا، لا أقول مرتبط، ولكن ربما أسفرت عن زيادة وتيرة التراجع.
د. مصطفى: وربما العكس!
د. حامد: ربما العكس في المجتمعات الغربية؛ أما في المجتمعات التي تعد
ساحة الصراع؛ فلدي مؤشرات تقول إن الأمر يسير في الاتجاه الذي أتحدث عنه.
أنت لديك حزمة سياسات بدأت قبل أحداث سبتمبر؛ وتلك الحزمة طبختها
كثير من الأنظمة العربية، وبعد أحداث سبتمبر كثفت منها وزادت من وتيرة هذه
المظاهر، وأضرب مثالاً: مسألة تجفيف المنابع؛ وتلك بدأت منذ فترة، ولكن بعد
أحداث سبتمبر أنا لديَّ حالات تطبيقية تم التنسيق فيها، والنتيجة المباشرة لها
تنعكس على أولادك وأولادي؛ لأنهم يجففون هذه المرة من العمق، وفي نفس
الوقت يعمل على مستوى الشباب بالدعاية المضادة، والمتمردون جداً يتم التعامل
معهم أمنياً؛ فهو يملك بدائل للحركة في وقت تنزع هذه الأدوات منك، حتى لو أن
عندك الإرادة فليس عندك الأداة. أنا لست متشائماً أبداً ولكن أقول إن الناس التي
تدرس وتخطط دائماً ما ترى القوى المؤهلة للتغيير أو التي تحمل مشروعاً بديلاً أو
مشروعاً للتغيير وهي إما أن تخترقها.. والقوى الإسلامية عصِّية إلى حد ما عن
الاختراق، وليس كما في القوى اليسارية لأسباب ليس لي دخل بها. والأمر الآخر
هي أن تحرفها عن مسارها وتلك جُرّبت وممكن أن تصلح مع الأفراد، ولكن لا
تصلح مع الجسد الأساسي؛ ومن ثم أتصور أن هناك حزمة سياسات كما تشير
التقارير لا بد أن تُجرب وتطبق وتُقيَّم؛ بحيث تقود فترة من الفترات إلى أن تلك
قوى التغيير على الأقل تتكيف مع الوضع بأن تقبل أن تظل فيه: أن تظل تحت
السيطرة وحركتها مرصودة؛ بحيث لا تقدر على التغيير؛ فهنا هو يصادر على
المستقبل والتطور السياسي لتلك المنطقة.
أنا كنت مثلاً ألاحظ مجتمعاً كالمجتمع المصري يقدر أن يقوم بأشياء حتى في
ظل الانتفاضة؛ لكن هو في النهاية يرسم له حدود الحركة.. تحرك.. لكن تحرك
في الإطار الذي لا يخل بمعادلة التوازن القائمة والتي ترتبط بالنظام السياسي نفسه،
وترتبط بإسرائيل، وترتبط بالولايات المتحدة الأمريكية، وأيضاً بمدى قبول الناس
تحركات منخفضة المستوى.
ومن هنا يجدر أن يطرح تساؤل: هل هي دخلت في إطار اللعبة؟ ومن هنا
أرى أن الذي تفعله حماس والجهاد هذا هو الاستثناء عن القاعدة (قاعدة الخضوع)
أنت الآن أمامك أمران في فلسطين: مشروع المقاومة، ومشروع للتسوية.
مشروع التسوية يسانده عرفات وتسانده الأنظمة، ومشروع المقاومة هناك
حركتان أو ثلاثة والباقي جميعاً ضده، ولكن الخطورة في تساؤل: هل تبلور
مشروع للمقاومة على مستوى العالم العربي؛ بحيث إنه يُساند مشروع المقاومة في
فلسطين؟ ربما المقاطعة جزء من هذا المشروع، لكن لا أعتقد أن هناك مشروع
مقاومة، والأنظمة تخشى، وأحد عناصر خشيتها من فكرة الاستشهاد ليس فقط أن
تكون منهجاً للتعامل، وأحد مظاهر تخوفها من المقاومة أن تنتقل عدوى المقاومة
إلى الداخل لديها ولو أحرزت حتى بعض النجاحات الجزئية، وفي سبيل ذلك لديها
استعداد للتحالف مع كل ...
فهنا مشكلة قوى التغيير في البلاد العربية في أنها لم ترتفع إلى مستوى الفهم
في مشروع المقاومة، وأن مشروع المقاومة كما يقولون إن قضية فلسطين هي
القضية المحورية التي تحدد حتى مستقبل الأنظمة العربية، يعني لننظر في 1948م
ماذا حدث؟ حدث تطور داخل الساحة الفلسطينية، ثم بعدها جاءت التغيرات،
وأخشى أن يقال إن سقف فهم الحركات الإسلامية سقف منخفض جداً، ولا يستطيع
الارتفاع إلى مرتبة فهم تلك الأحداث.
أ. طلعت: في رأيي أن التطور الذي حدث في فكر وحركة التوجهات
الجهادية نحو حروب التحرير بدلاً من التركيز على الأوضاع الداخلية والتحرك
الانقلابي يعد تطوراً إيجابياً للحركة الإسلامية عموماً.
د. مصطفى: قبل أن ندخل في الحديث حول الاستجابات أود أن أختم
ببعض المُدركات التي يجب أن نأخذها في اعتبارنا عندما ننظر إلى تلك التحديات:
أول أمر: أن هناك جبهات عديدة تفتح هذه التحديات بعد أحداث 11 سبتمبر.
هناك أكثر من جبهة فُتحت بعد أحداث سبتمبر بعضها يأتي من (إسرائيل) ،
وبعضها يأتي من أمريكا، وبعضها يأتي من تفاعلات وتداعيات أحداث سبتمبر
أيضاً.. هذه التحديات تتداعى معاً.
إن كل تحدٍّ من هذه التحديات كثيف ويلقي بظلال شديدة على عالمنا العربي.
إننا نفتقد وعي التحدي؛ ومعنى ذلك أن ندرك أن هناك تحدياً، وأن هذا التحدي
يجب أن يواجه بشكل أو بآخر.
أيضاً إننا نواجه هذه التحديات ونحن في حالتي حرب: حرب معلنة وسافرة
من إسرائيل، وحرب مؤجلة ربما من الولايات المتحدة الأمريكية.
أيضاً أنت تواجه هذه التحديات وأنت متهم، فتصبح قدرتك على الحركة في
مواجهة هذه التحديات جزءاً من هذه القدرة مسلوباً ومحشوداً أصلاً لمواجهة التهمة،
وربما يؤدي هذا خاصة في ضوء قلة الإمكانيات أو في ضوء عدم تحديد الأولويات
إلى تأجيل التعامل مع التحديات؛ وتأجيل التعامل مع التحديات قد يصل في بعض
الأحيان إلى عدم القدرة على مواجهاتها.
الاستجابات (كيف نواجه التحديات؟) .
د. أحمد: هناك اتفاق عام على أن هناك تحديات على المستويات كافة سواء
من حيث الجهة، أو من حيث النوعية، أو من حيث طريقة التناول.
أنا هنا أرى أنه لا ينبغي ادخار أي جهد أو إهمال أي سبيل يمكن أن يغتنم في
دفع هذه التحديات، أو تقديم نوع من الاستجابة لتداعيها بداية من إيصال صوتنا
إلى الرأي العام الدولي سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، عن طريق
البعثات الخاصة (البعثات الدبلوماسية) .. نتحرك على مستوى الحكومة الرسمي
وعلى مستوى الشعوب، وكلنا يعلم قدر القيود التي تمارس على الأوساط الرسمية،
والمفترض أن الحكومات تعي أننا جميعاً في مركب واحد، وليس هناك انفصام بين
الشعوب وبين حكوماتها.
هناك أيضاً القنوات الفضائية، يقال أيضاً إنه من بين المشكلات الأساسية
التي نواجهها أن الإعلام الصهيوني والغربي فعلاً نجح في تصوير الفلسطينيين على
أنهم هم القتلة وهم الإرهابيون: طبعاً لأنك أنت تركت له السلاح، ولا يوجد إعلام
عربي فعال.
د. مصطفى: حادثة محمد الدرة، كان يمكن أن تستثمر بشكل خطير، وإنما
هم في أي حادث صغير يقومون بتسليط الأضواء على طفل أو امرأة يهودية
أصيبت ويقولون هذا هو الإرهاب..!!
مخيم جنين كان ممكن أن يكون مادة إعلامية لا حصر لها في الحركة، ونحن
للأسف الشديد اعتمدنا على أن تأتي لجنة من الأمم المتحدة ثم حددوا شروطها
وانتهى الأمر.
د. حامد: كان ممكناً أن توظف حادثة جنين تلك دعائياً، وتوظف إعلامياً
وسياسياً، وكان فيها عناصر العمل الناجح:
أولاً: لديك جريمة ولديك قتلى متلفزون، أي أنهم تم تصويرهم بالستالايت
الأمريكي والفرنسي، والصور كلها موجودة وتقدر على شرائها من شركات تجارية
وتقدر أيضاً على شرائها من أمريكا.
ثانياً: لديك الفاعل، والمجرم الأصلي معروف ومصور أيضاً: شارون
وقواته.
ثالثاً: لديك الفاعل بالاشتراك (الأمريكي) علامات القذائف وعلامات
الأسلحة واضحة في الصورة.
رابعاً: لديك آثار الجريمة بداية من التترس بالدروع البشرية نهاية بالمقابر
الجماعية التي دفنوا فيها الناس أحياء.
لديك عناصر جريمة مكتملة الأركان، وليس لديك إلا أن توظفها، ولكن كما
قال الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -: (نحن محامون فاشلون لقضايا عادلة) !
د. أحمد: نعود مرة أخرى لقضية الإصلاح المؤسسي والحريات والحقوق
التي كفلتها الشريعة للإنسان، هذه أنا شخصياً مقتنع بها على أنها مدخل أساسي
للإصلاح على أن تبدأ من الداخل؛ لأننا مهما تحدثنا عن أن هناك ضغوطاً خارجية
إلا أنه يبقى التحرك داخلياً هو الأساس.
نقطة أخرى التي هي قضية الاعتماد على الذات اقتصادياً وغذائياً حتى
نتخلص من أثر التبعية.
أيضاً قضية تنويع الأدوار، ويكون هناك نوع من أنواع العمل بروح الفريق
كدول عربية، ولكن علينا ألا نضع أوراقنا جميعاً في سلة واحدة.
ما المانع أن أنفتح على روسيا، وأن أنفتح على الصين، وأن أنفتح على
أوروبا أو بعض الدول الأوروبية؟
في تقديري أيضاً أن المحكمة الجنائية الدولية يمكن الاستفادة منها ولو مستقبلاً
إذا ما قدر لها أن تقوم كآلية.
د. مصطفى: استكمالاً لما ذكره الدكتور أحمد دعنا نقول إن مسالة توزيع
الأدوار مسألة مهمة، وتوزيع خطة التحرك وفق مبدأ توزيع الأدوار مسألة في غاية
الأهمية أيضاً، وأنا في ذهني مجموعة من المعايير ومجموعة من المبادئ لتوزيع
الأدوار.
دعني أتحدث أولاً عن مبادئ توزيع تلك الأدوار:
وأول مبدأ: هو أن تتوافر لدينا إرادة توزيع الأدوار بمعنى أن تكون الأدوار
مصنوعة من داخلك وليست مفروضة عليك وكما يقول الشاعر العربي:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها ... هواناً بها فهي على الناس أهون
لا بد أن تدرك أن لديك إمكانية، ولديك إرادة في تسخير هذه الإمكانية، وهذا
يعطيك القدرة على أن تحدد البدائل كما قلت في ضوء توازنات، ضرورات،
أولويات، هذه هي إرادة توزيع الأدوار، واستعادة هذه الإرادة هو أولاً بضغط
شعبي واعٍ.. ثم بإعادة مصالحة مع النخبة المثقفة.. وإحسان ظن النخبة السياسية
بالناس؛ وبهذه النخبة، ثم بعد ذلك شجاعة المبادرة وشجاعة الخروج من هذا
الطوق المفروض.
المبدأ الثاني: عدم إعفاء أحد من الأدوار.. على الأقل على المستوى الرسمي
ولكن في ضوء [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا] (البقرة: 286) .
المبدأ الثالث: أنه لا تُعطى الأدوار إلا لمن يتحمل المسؤولية: أقصد إذا كان
المبدأ أن يشارك الجميع، وإذا كان هناك من يخذلنا فيجب أن يُستبعد.
المبدأ الرابع: أن يكون هناك نوع من أنواع التخصص في توزيع الأدوار في
ضوء المسؤولية المشتركة هنا، والتخصص في توزيع الأدوار هو تخصص تكاملي
في إطار منظومة تكاملية معروفة: من أين تبدأ، وإلى أين تنتهي؟!
المبدأ الخامس: أن تُوزع الأدوار لمن يكون له نفس طويل في مجابهة
التحديات.
المبدأ السادس: أن يتناسب الدور مع المكان والمكانة التاريخية والحضارية.
المبدأ الأخير: هو تحديد موقع المؤسسات الفاعلة في العالم العربي.
هل هذه المؤسسات تقود العمل العربي بتوزيع أدوار؟ أم هي تابعة لتوزيع
الأدوار في الواقع العربي؟
أنا أظن أنها وُجدت لكي تقود وليس لكي تُقاد، والوضع آل إلى أنها تُقاد وتقاد،
كما نرى كل تلك التداعيات وللأسف الشديد قبل أن نوجه الاتهامات للمؤسسات
العربية سواء قطرية أو القومية لا بد أن أبحث في الإمكانات المتاحة أمامها، وألا
ننسى الظروف التي تكونت على أساسها ومن ورائها والإرادات التي تحركها..
ليس عيباً أن نعيد النظر في مثل هذه المؤسسات، ونعيد النظر في دورها وتفريغ
هذا الدور في الواقع العربي.
هذه هي المبادئ؛ فما هي المعايير في توزيع الأدوار؟
المعيار الأول: أنه ليس مطلوباً مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن
في نفس الوقت ليس مطلوباً الاستجابة الضرورية لكل ما تريده الولايات المتحدة
الأمريكية. أنت في مرحلة الآن محتاجة لأن تُرتب البيت من الداخل.
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أنى يُستجاب له وقد غُذّي من حرام،
ومطعمه حرام، وملبسه حرام..؟» لا أريد أن أقول إننا كذلك، ولكن قياساً على
ذلك الحديث هناك خلل كبير في كل شؤون حياتنا، وهذا الخلل متى تداركناه
فسنوفر السنَّة الإلهية [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) .
المعيار الثاني: لم يعد هناك مفر أو إمكان للحياد من آثار ما بعد سبتمبر؛
ولهذا فالظرف يتطلب عملاً عربياً إيجابياً.
المعيار الثالث: أنه يُسمح بدور للنخبة الفكرية العربية، وأنا أركز على هذه
المسألة؛ لأن القضية ليست قضية الأفراد، ولكن نحتاج هنا الخبرة العربية:
مراكز دراسات، ومراكز بحثية، مؤسسات ثقافية، ولكن دورها في منظومة
توزيع الأدوار يحتاج إلى حسن الظن من قبل الحكومات.
أيضاً أنا أريد أن أقول أخيراً إنه لا بد أن نستغل فرص وإمكانات الخارج،
والمتاح على الأقل لنا في كثير من دول العالم التي أظهرت تعاطفاً معنا، وقد
رصدت بوادر تغيير في المواقف الرسمية وقد لا تكون على مستوى الطموح، إنما
دعنا نشغل المتاح.
هناك تغير في بعض المواقف الشعبية، هناك نخب فكرية وهناك حوار بين
المؤسسات الإسلامية والحكومات الغربية، هناك إمكانات لبعض القيادات المسلمة
في كثير من دول المهجر بدأت تتكلم ويستضيفونها في الفضائيات.
هناك إمكانية الآن لاستغلال ما يقال عن تناقض النموذج الغربي. والأمر في
النهاية في مسألة بدائل واستراتيجيات الدفاع مرتبطة في كل هذه المبادئ، وكل هذه
المعايير التي تحدثت عنها لا تتحرك هذه المعايير وهذه المبادئ إلا من خلال تحديد
البوصلة.
تحديد البوصلة تقول: من أنت؟ ثم ما هو إدراكك للتحديات؟ ثم ما هو حجم
هذا الإدراك؟ وما هي وسائلك للتعامل مع هذا الإدراك؟ وما هي إمكاناتك؟ ما
الذي تريده من الآخر في التعامل مع هذه التحديات؟ ومن هو الآخر أصلاً؟ ثم في
النهاية: ما الذي يريده الآخر منك؟ وحدود ما تستطيع أن تتنازل، وحدود ما لا
يمكن أن تتنازل عنه؟
أ. طلعت: إن إبقاء بعض الحكومات العربية على بعض أوراق اللعبة داخل
الأراضي المحتلة في يدها يتيح لها قدراً من المناورة، والتملص من بعض الضغوط
الأمريكية، حيث تضطر الولايات المتحدة أمام انفلات الأمور داخل الأراضي
المحتلة لأن تستجدي هذه الحكومات من أجل أن تسكت الانتفاضة، ومن ثم تحقيق
بعض المكاسب والصلاحيات داخل المنطقة.
ومن هنا فإن مواصلة دعم حركات المقاومة بصورة من الصور أو حتى
السماح لبعض الهيئات الأهلية بدعمها بصورة أو بأخرى، أو لنقل مجرد السكوت
عن الدعم وعدم اعتراضه، يمثل مساحة جيدة للمناورة والتحرك ينبغي ألا تهدرها
الأنظمة من أجل إرضاء الولايات المتحدة؛ لأن إنهاء اللعبة معناه إنهاء جميع
اللاعبين لصالح التمدد الإسرائيلي في المنطقة العربية.
من ناحية ثانية يمكن للسياسة العربية أن تلعب على تناقض المصالح فيما بين
الولايات المتحدة ومنافسيها المتمثلين في الصين والاتحاد الأوروبي، ولدينا عدد من
التجارب، والتجربة الإيرانية خير شاهد على ذلك، شاهد على أن ثمة فجوة تتسع
بين المصالح الأمريكية (والحلف مع البريطانيين والصهاينة) والمصالح الكلية
لأوروبا، وقد قوض الأوروبيون بالفعل أي مفعول لقانون داماتو.
وتطور الموقف من قضية العراق شاهد آخر؛ فما بين عامي 1990م -
2002م حدث تغير مهم في الموقف الأوروبي من العراق وبشكل معاكس للموقف
الأمريكي.
إننا لا نقصد بطبيعة الحال أن ثمة تنافراً وصراعاً يستوجب الحرب، لكننا
نقصد أن الدور الأوروبي في ظل أوروبا الموحدة، يجعل من أوروبا قطباً صاعداً
في التوازن العالمي بقدرته الاقتصادية وملامح دوره العسكري، وخاصة إذا
تطورت القوة الأوروبية العسكرية باتجاه أعمق من تشكيل قوة تدخل سريع، وأن
هذا القطب يسعى إلى مصالحه الخاصة في العالم، بالصراع مع الولايات المتحدة،
دون خوف من قطب آخر تحميه منه الولايات المتحدة كما كان حال الاتحاد
السوفييتي سابقاً.
إن هذا الوضع لم تستفد منه فقط كلٌّ من إيران والعراق، بل ساهم في إعطاء
فرصة حركة لروسيا، لتصعيد موقفها ولو بقدر محسوب بالنسبة لإيران والعراق،
لتنمية مصالحها هناك.
وفيما يتعلق بالقطب الصيني الصاعد في التوازن الدولي، ثمة شواهد كثيرة
لمعالم الصراع مع الولايات المتحدة، جاءت نتائجها الاستراتيجية غالباً لصالح
تنامي قدرة هذا القطب.
هنا يجب الإشارة بداية إلى أن الصين بلد أو قطب لا تصلح معه استراتيجية
الحرب والحصار كذلك، بحكم الوزن الاستراتيجي السكاني والعسكري والاقتصادي،
أما شواهد التحسن التدريجي لوضع الصين في الموقف؛ فمنها أن الصين أبطلت
حقيقة الحلف الأمريكي الصهيوني في إحياء النزعة العسكرية اليابانية بدرجة تخلق
توازناً في المنطقة مع الصين تمكنت من تفعيل دورها من خلال تقويم الوضع
الاستراتيجي لحليفها باكستان بعد منحها القدرات النووية (أو كما يقال بأن القنبلة
النووية الباكستانية تتحدث اللغة الصينية) ، ونجحت في عقد عدد من الاتفاقيات مع
دول الجوار (الهند - روسيا) مما أفسد محاولة عزل وحصار الصين، كما أنها
نجحت ولا شك في معاركها الوطنية ذات الأبعاد الاستراتيجية بشأن المناطق السابقة
انتزاعها من جسدها الجغرافي والسياسي، والذي يجب أن يقال هنا، هو أن كل
تصاعد في قدرة الصين، أو أوروبا إنما يخصم من رصيد القطب الأمريكي في
محاولته فرض الهيمنة الوحيدة على العالم.
د. حامد: بالنسبة للاستجابات التي تتناسب مع حجم التحديات المذكورة لدي
بصورة تفصيلية اثنا عشر مشروعاً على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي
على المستوى الإقليمي وعلى المستوى الدولي.
وأقترح ما هو مضمون المشروع والجهة التي يُناط بها ويقع على عاتقها حمل
أمانة هذا المشروع والمدى الزمني الذي هو ممكن أن يتحقق فيه، وبدأت بالتحديات
الداخلية باعتبار أنك لا تستطيع أن تواجه على المستوى الإقليمي أو على المستوى
الدولي ما لم تصلح بيتك من الداخل، وبدأت بصيغة الرؤية نفسها والمشروع
الغائب.
وسأذكر طرفاً من هذه المشاريع بصورة إجمالية، ولعلها تتاح فرصة أخرى
للحديث حول هذه المشاريع تفصيلاً، وقد وزعت المشاريع على مستويات التحديات
الثلاثة التي أشرت إليها:
أولاً: الاستجابات على التحديات الداخلية التي تواجه الظاهرة الإسلامية:
اعتقادنا أن الأولوية التي يجب أن توجه إليها الاستجابة الفعلية «السريعة»
هي التحديات الداخلية النابعة من الظاهرة الإسلامية في المنطقة ذاتها دون أن يعني
ذلك إهمال التحديات النابعة من البيئة المحلية، أو الإقليمية، أو الدولية، ولكننا
نعتقد أن المقدرة على الاستجابة للتحديات «الثانية» مرتبط بالمقدرة على
الاستجابة للتحديات «الأولى» ؛ فالتحديات السبعة الداخلية تتطلب استجابات سبعاً
أيضاً محددة وهي:
أ - المشروع الأول: صياغة «الرؤية» و «المشروع» الإصلاحي: الذي تنطلق منه جهود العمل وهذا يتطلب الآتي:
أ - صياغة الرؤية الكلية الموجهة للعمل الإصلاحي. والرؤية منطق معين له
فلسفة وجوهر محدد مهيمن؛ واعتقادنا أن ما تم إنجازه يدخل في باب تحديد الرؤية
أكثر من كونه يقدم مشروعاً عاماً للإصلاح والتغيير، وهذا الأخير يحتاج المزيد من
الدراسات على مستوى المنطقة ككل حتى نتمكن من بلورته: ويشمل محورين
يحتاج كل منهما مزيداً من التعميق والتدقيق والبحوث والدراسات وهما:
أ - محور العلاقة بالدولة والتنسيق معها.
ب - محور المجتمع الأهلي أو المدني، ثم مناطق التفاعل والتلاقي بين
المحورين.
المشروع الثاني: مشروع التعامل في الأزمة القيادية الإشكالية التنظيمية في
الظاهرة الإسلامية:
وضع آليات لاختيار قيادات العمل، وتحويل الظاهرة الإسلامية إلى مجموعة
من المؤسسات المتخصصة؛ وذلك للتغلب على الأزمة القيادية ونعتقد أن هذه
الأزمة في منطقة الخليج العربي أقل من غيرها من المناطق، ومع ذلك تظل قضية
بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل الحركة ذاته، ومن ثم فإن هذا الملف ينبغي أو
يخضع لدراسة موضوعية ومحايدة تضع المعايير والقواعد وتشرف على آليات
التنفيذ. وسوف يسهم ذلك ولو جزئياً في خلق نوع من الاستجابة على التحدي
التنظيمي والإداري والذي بدوره ينبغي أن يخضع لدراسة فحواها ما يلي:
- الحفاظ على حجم أمثل للمؤسسات والنواحي الإدارية؛ بحيث لا تهيمن على
بقية الأنشطة، ومن ثم تقضي عليها.
- وضع سياسات تنظيمية تتفادى وتحل مشكلة الجمود.
المشروع الثالث: مشروع صياغة الرموز والقيادات الدعوية في الظاهرة الإسلامية:
وهو أحد أهم أجنحة نجاح استراتيجية العمل الإصلاحي والتغييري في
المرحلة المقبلة لمجابهة التحديات المستقبلية على المدى المتوسط والطويل.
والإعداد الخاص بتصور الموضوع على المستوى النظري يجب أن يعهد به
لمركز مختص في مثل هذه الدراسات المتعلقة بصناعة وتشكيل قادة الرأي العام.
المشروع الرابع: مشروع رفع الوعي السياسي في الأجيال الجديدة، وإيجاد
شخصيات متخصصة:
هناك أبجديات أساسية بالنسبة للظاهرة الإسلامية في المنطقة يجب أن يتم
تحديدها بداية، ثم إفراغها في صورة مشاريع أو بالأصح دورات إدارية وسياسية
تدريبية، وذلك لرفع إن لم يكن خلق الوعي الإداري والسياسي لدى الفئات أو
الشرائح المهمة في الأجيال الجديدة.
ومن جانب آخر ضرورة خلق مجموعات علمية متخصصة في كافة مجالات
وفروع الدراسات تكون بمثابة القيادات المرجعية العلمية في الموضوعات والقضايا
المختلفة في المجال الدعوي والسياسي والإعلامي.
ثانياً: الاستجابة على التحديات على المستوى الدولي والإقليمي:
رغم الأولوية التي أعطيناها منهجياً للاستجابات على التحديات التي يفرزها
المستوى الداخلي؛ فإن الاستجابة على التحديات التي يفرضها المستوى الدولي
والإقليمي هي الميدان الحقيقي لاختبار مدى النجاح في الاستجابة على هذا المستوى
الداخلي نتيجة لعمق وعنف هذه التحديات التي تتطلب استجابة مدروسة، ويمكن أن
نبلور هذه الاستجابات على هذا المستوى في أربعة مشاريع أساسية وهي:
أ - المشروع الخامس: مشروع كيفية التعامل مع الهيمنة الأمريكية والغربية
في المنطقة العربية:
- بدون شك فإنه بعد أحداث سبتمبر صارت الظاهرة الإسلامية في المنطقة
العربية عموماً ومنطقة الخليج العربي خاصة موضع تهديد حقيقي وشديد، وبالتالي
فإنه عليها أن تمتلك مشروعاً مستقبلياً للتعامل مع هذا التهديد بمنطق وروية،
وبشكل مرحلي والذي نراه في إطار هذا المشروع: دراسة حجم الوجود العسكري
والأمني الأمريكي في بلدان المنطقة وعدم الإعلام عن موقف صريح في الوقت
الراهن من هذا الوجود لأن الخسائر المترتبة سياسياً على إعلان مثل هذا الموقف
أكثر من المكاسب والمنافع المترتبة عليه.
- دراسة الرؤية الأمريكية والغربية للتعامل مع مناهج التعليم الديني وغير
الديني ومحاولة إبداع إسلام أمريكي يلتقي مع الحداثة الغربية والأمريكية، وإعداد
رؤية لكيفية التعامل مع هذا الوضع على مستوى الظاهرة الإسلامية في كل قطر من
الأقطار ثم على مستوى المنطقة ككل، ولا ننسى أن هذا التعليم بوضعه الحالي
يحتاج للتجديد ولكن من منطلقات شرعية واستجابة لمتطلبات واقعية وليس مجرد
استجابة لمطالبات خارجية.
- دراسة الرؤية الأمريكية والغربية لمحاولة حصار العمل الإغاثي والخيري
الإسلامي في مشاريعها المختلفة والتي تعتبر المجال الحيوي لأعمالها وأنشطتها.
- دراسة حجم ونوعية التسلل الأمريكي والغربي للنسيج الاجتماعي في
المنطقة ككل ولكل دولة من الدول على حدة وذلك لتفتيته، وإيجاد الميوعة والتحلل
فيه، وتقوية النزعة الاستهلاكية وذلك من خلال العديد من الأدوات والمسالك
والحفلات، والمهرجانات ...
- وباختصار في منطق مواجهة هذه الهيمنة والحصار الأمريكي، لا بد وأن
يكون يبدو ثقافياً حضارياً ذو عمق ديني إسلامي، وأن يبتعد عن منطق المواجهة
السياسية سواء المباشرة أو غير المباشرة (مع الأنظمة أو القوى التي تساندها
أمريكا والغرب) لأن مثل هذه المواجهة في ظل هذه الأجواء سوف تكون خاسرة
بالنسبة للظاهرة الإسلامية.
ب - المشروع السادس: مشروع كيفية التصدي للوجود الصهيوني في
المنطقة العربية:
وهذا المشروع نعتقد أنه يمكن أن يصلح إبرازه على أنه هو الخطر الأساس
على المنطقة ومهاجمة السياسة الأمريكية من خلاله، وتستطيع الحركة من خلال
التصدي لهذا الوجود في المنطقة أن تركز على عدة محاور:
1 - بيان خطر التغلغل الصهيوني الاقتصادي والتجاري في المنطقة؛ وذلك
بشكل رسمي أو غير رسمي.
2 - بيان الدعم الأمريكي لـ (إسرائيل) والصهيونية في المنطقة؛ والتكامل
في منطق سياسة الطرفين.
3 - بيان ضرورة دعم مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي،
وحشد التأييد الشعبي باستمرار وبكل صورة دعماً للانتفاضة الفلسطينية.
ج - المشروع السابع: الاستجابة على مستوى تحديد العلاقة مع النخب
الحاكمة في المنطقة:
ونلفت الانتباه إلى ضرورة رسم صور مستقبلية لفهم طبيعة كثير من النخب
السياسية والاقتصادية (الجديدة) المهيمنة في تلك الدول، وتحديد كيفية العلاقة
معهم؛ إذ إنه ثمة اعتقاد بأن هذه النخب بحكم طبيعة تكوينها، مصالحها،
وارتباطاتها سيكون لها في المستقبل سياسة مختلفة نوعاً عن السياسة السائدة في
الوقت الحالي تجاه الحالة والظاهرة الإسلامية في المنطقة، ومن ثم لا بد أن تكون
الاستجابة على مستوى تحديد العلاقة مختلفة نوعاً، وكمّاً، في مجموعة من
السياسات للاستجابة لهذه الأوضاع.
د - المشروع الثامن: الاستجابة على مستوى التهديد الفكري والمعلوماتي
لظاهرة العولمة.
ثالثاً: الاستجابة للتحديات النابعة من السياق المجتمعي الذي تعمل فيه
الظاهرة الإسلامية:
تشمل الاستجابة لهذه التحديات جعل الحركة متغلغلة في نسيج المجتمع،
وبلورة وجودها الفعلي والاجتماعي، ودفعها للقيام بأدوارها الفعلية.
ويمكن أن تتخذ الاستجابة صورة المشاريع الأربعة الآتية:
1 - المشروع التاسع: تجذير الظاهرة الإسلامية في الواقع الاجتماعي
والاقتصادي لبلدان المنطقة:
ويدور المشروع حول نقل الإيمان من كونه قناعة فردية إلى عمل جماعي إلى
حركة اجتماعية واسعة وواعية.
2 - المشروع العاشر: توسيع قاعدة النخبة داخل الظاهرة الإسلامية، وزيادة
كفاءة وفعالية هذه النخبة وإمكانيات داخلها:
أي عمل دعوي أو سياسي تقوم به الحركة في هذه المنطقة أو في غيرها لا
يتم إلا من خلال نخبة محددة الملامح والأبعاد؛ ويهدف هذا المشروع إلى:
أ - تحديد طبيعة وحجم النخبة القائدة في الحركة.
ب - تحديد خصائص هذه النخبة.
ج - تحديد إمكانيات وقدرات الفعل لدى هذه النخبة؛ ومن ثم وضع مجموعة
من الخطط والبرامج للقيام بالتالي:
1 - توسيع نطاق النخبة، وجعلها قدر الإمكان ممثلة لطبيعة المجتمع الذي
جاءت منه.
2 - معالجة السمات والخصائص السلبية والضارة، وتقوية الإيجابية.
3 - زيادة إمكانيات المقدرة على الفعل السياسي والحضاري لدى هذه النخبة.
4 - تحديد عدة مستويات متوازنة ومتراكبة للنخبة حسب أهميتها، وحسب
كل قضية من القضايا.
3 - المشروع الحادي عشر: ربط الحركة - قاعدة ونخبة - بالمجال الحيوي
للأمة العربية والإسلامية ككل:
يهدف هذا المشروع إلى وضع الظاهرة الإسلامية في المنطقة كما أسلفنا القول
في إطار فكري للأمة ككل بالتحديات التي تجابه هذه الأمة.
4 - المشروع الثاني عشر: مشروع دفع الظاهرة الإسلامية في المنطقة للقيام
بأدوار رائدة في التصدي لقضايا المنطقة ككل..
واعتقادنا أن النجاح في هذا لمشروع رهين بنجاح المشاريع السابقة الأخرى.
هذا تصور عملي لبعض الاستجابات، وتبقى الاستجابة الأهم هي التفاعل مع
هذه الأفكار تهذيباً وتقريباً، وإضافة وتصويباً ونقداً، وفق منهجية التسديد والمقاربة.
أشكركم على إتاحة هذه الفرصة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
البيان: تداعيات الحادي عشر من سبتمبر كثيرة، والحديث ذو شجون،
ويتطلب معالجته من زوايا مختلفة، ولولا خشية الإطالة على قرائنا الكرام
لانتقلنا إلى محاور مختلفة، لكن نرجو أن يسهم ضيوفنا الكرام بدراسات تفصيلية
في هذا الموضوع لنشرها بإذن الله في البيان. شكر الله لضيوفنا، ونفع الله
بعلمهم الجميع.(179/42)
المسلمون والعالم
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العالم
حسن الرشيدي
«إذا انتظرنا إلى أن يتحقق التهديد فسننتظر طويلاً» .
هذا قول بوش أمام البرلمان الألماني يستعجل إطلاق ما أسماه باستراتيجية
الضربات الوقائية، وهي استراتيجية جديدة تحاول الولايات المتحدة أن تتبناها
لتحقق بها مزيداً من التوسع والهيمنة في العالم.
هذه النزعة ازدادت ضراوة مع وصول بوش الابن للإدارة، ولكنها بدأت
تتبلور مع نهاية الحرب الباردة عندما راحت تتفشى طروحات الهيمنة المكشوفة
والاعتماد على القوة المتفوقة كواحدة من أهم أدوات السياسة الخارجية الأمريكية،
ولم يخف الرئيس بوش وطاقمه في الإدارة منذ البداية نزوعه إلى احتضان هذا
التوجه، بل انتماءه لهذا الخندق حين سارع لرفع لواء التفرد والتفوق باعتبارهما
حقاً وامتيازاً خاصين بالولايات المتحدة لكونها القوة العظمى الوحيدة على الساحة
الدولية، وتجلى ذلك في رفض واشنطن الانضمام لعديد من الاتفاقيات الدولية، أو
الانسحاب من عدد منها.
ولذلك فإن فهم هذه التغيرات في السلوك الأمريكي في العالم والتغيرات التي
تطرأ على استراتيجيات توجيه الدفة العالمية مهم لاستيعاب الحقائق والأحداث
السياسية استيعاباً شاملاً عميقاً ومعرفة إلى أي الاتجاهات تتمدد.
ولعل التهديدات الأمريكية بضرب العراق هي خير تطبيق لتلك الاستراتيجية
الجديدة؛ ولذلك يلزم المتابع لما سيجري في العراق بل ما يتم التخطيط له بالنسبة
لهذه المنطقة في العالم الإلمام بهذه الاستراتيجية.
ولإدراك أبعاد هذه الاستراتيجية لا بد من اتباع منهج تحليلي يضع في حسبانه
عدة محاور:
أولاً: معنى الاستراتيجية.
ثانياً: الاستراتيجيات الأمريكية قبل بروز الاستراتيجية الجديدة لمعرفة مدى
التطور في الفكر الاستراتيجي الأمريكي.
ثالثاً: معنى استراتيجية الضربات الوقائية، ومتى بدأت الإدارة الأمريكية في
تبنيها، والظروف المصاحبة لانطلاقها، وأثرها على الموقف الدولي.
* الاستراتيجية:
وإذا كانت الاستراتيجية تتمثل في التعرّف على أفضل طريقة لبلوغ الهدف
والتوصّل إلى أنجع طريق يؤدي إليه في أحسن الظروف الممكنة من خلال استغلال
نقاط القوة والتغلّب على مناطق الضعف فإنّها أيضاً تتطلّب القيام بخيارات حول
أقوى الأفكار التي ستمثل المحور الأساسي للجهود التي ستخضع إليها الأهداف
والوسائل والأولويات.
بينما يجري تعريف الاستراتيجية في أدبيات كثيرة على أنها فن توظيف
عناصر القوة للأمة أو الأمم لتحقيق أهداف الأمة أو التحالف في السلم والحرب،
وهو أيضاً فن القيادة العسكرية في ساحة المعركة، ومن هنا نجد الربط بين
الاستراتيجية وقوة الدفاع.
وفي تعريف لمركز الدراسات الاستراتيجية ومقره جنيف ينظر للاستراتيجية
على أنها نظرة عمل لتصميم وبناء حاضر يتيح إنجاز أهداف في المستقبل؛ بمعنى
أنها تستوعب مستقبلها فتشرع إليه من حاضرها؛ فهي عملية إيجاد معطيات للواقع
وهنا بالذات تظهر الحاجة إلى التحليل والتأمل وملاحقة الظواهر وإخضاعها للربط
المتفاعل وليس الربط المجزأ والآلي.
ولذلك فإن الاستراتيجية تعنى بحقيقتين جديدتين هما: الأهداف المتوخاة،
والقدرة.
* استراتيجية الصراع:
وهي تعني أيضاً أن أفضل تصرف يقوم به طرف مشارك في صراع ما كان
مبنياً على تصرفات الطرف الآخر؛ فهي تركز على أن تصرفات طرف إنما يبنيها
على توقعاته وتنبؤاته لما ستكون عليه تصرفات الطرف الآخر، وبناء على تلك
التنبؤات يصوغ استراتيجيته ويحدد تصرفاته ويتخذ قراراته من أجل التأثير في
تصرفات وقرارات الخصم؛ فجوهر الاستراتيجية إذن يقوم على التأثير في قرارات
الخصم وخياراته؛ وتحقيق ذلك إنما يتم بالتأثير في توقعاته لما ستكون عليه
قراراتنا أي قرارات الطرف الأول؛ وذلك بمواجهته بدليل مقنع بأن سلوكنا سيقرر
في ضوء سلوكه؛ وعناصر الاستراتيجية بناء على ذلك التعريف هي فهم المسألة
موضوع الصراع وتحديد أطرافها ومحاولة إدراك مصالح كل طرف.
* الاستراتيجيات الأمريكية قبل الحرب الباردة:
وبناء على تلك التعريفات السابقة فقد كانت الاستراتيجية الأميركية قبل عام
1947م لا تستند إلى أسس ثابتة، وكانت مزيجاً من الخطط العسكرية التي دافعت
عن فكرة إقامة دولة فيدرالية تلم الولايات المشكِّلة لها تحت جناح دستور وهيكل،
ودخلت أمريكا الحرب العالمية الثانية خلواً من أية استراتيجيات سوى الانضمام إلى
ركب الدول الكبيرة، فاشتركت في الأحلاف التي قامت ضد المعسكر النازي آنذاك؛
فمبادئ مثل القدر المرموق أو المصلحة الذاتية المستنيرة، ومبدأ منرو وخطاب
مسيرة الراية ومبدأ الحرب العادلة فهذه المسميات أقرب إلى فكر متعمق في الوجدان
الأمريكي كميراث عن الآباء المؤسسين أكثر من اعتباره فكراً استراتيجياً مؤسسياً
سياسياً.
* الاستراتيجيات الأمريكية في الحرب الباردة:
ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة في وضع
الانفراد بالهيمنة على العالم كهدف نهائي تسعى إليه، ومن خلاله توجه
استراتيجياتها الدولية، فقدم جورج كينان عام 1947م أولى هذه الاستراتيجيات التي
تركزت على نظرية الاحتواء.
وأهم أسس هذه الاستراتيجية كانت مواجهة ما وصفه صانعو السياسة
الأميركية بالتهديد الذي كان الاتحاد السوفييتي العامل الأهم والعدو الأخطر بالنسبة
لراسمي أسس هذه الاستراتيجية.
وقد سادت استراتيجية الاحتواء في السنين التي تلت الحرب العالمية الثانية،
وعدت الاستراتيجية الأمريكية الرئيسية في حقبة الحرب الباردة، وقد تعاملت هذه
الاستراتيجية مع العالم في حقبة ثنائية الأقطاب: الولايات المتحدة وحلفائها ضد
الاتحاد السوفييتي وحلفائه، وكانت تهدف لمنع الاتحاد السوفييتي من توسيع مدى
تأثيره ليس فقط في نطاق الولايات المتحدة وحلفائها، وإنما أيضاً في نطاق الدول
غير الحليفة معها أيضاً، ولدعم هذه الاستراتيجية أوكلت الولايات المتحدة للقوات
العسكرية وقف التوسع الشيوعي في كوريا وفيتنام، وتحت هذه الاستراتيجية
واجهت الولايات المتحدة قيادات التمرد الشيوعي في عدد من دول العالم المتطورة،
كما دعمت المجاهدين الأفغان في حربهم ضد الجيش السوفييتي الذي احتل أفغانستان
في الثمانينيات، ونجد في تعريف السياسيين الأميركيين لهذه النظرية أن السياسة
الخارجية ارتبطت بالاستراتيجية الأميركية في تحقيق هدف واحد هو القضاء على
المد الشيوعي، ولكن المد الشيوعي بحد ذاته كان هدفاً فرعياً؛ لأن الهدف الحقيقي
للاستراتيجية الأمريكية كان الحفاظ على مصالحها في بقاع العالم المختلفة، وليس
غريباً أن نجد صناع السياسة الأميركية يضعون على جدران مكاتبهم خرائط تضم
أكثر من أربعين بلداً تمثل المصالح الأميركية مثلما تمثل ما أسمته الولايات بمناطق
الديون القومية بمعنى المناطق التي التزمت تجاهها أمريكا بالدفاع عنها دفاعاً عن
مصالحها هي.
سعى الرؤساء الأميركيون وفق هذه الاستراتيجية إلى إيجاد تحالفات
استراتيجية لضمان تحقيق المصالح الأمريكية بعيداً عن سياسة الحروب وسباقات
التسلح، وسعت الولايات المتحدة منذ الخمسينيات لوضع سياسة قومية متماسكة،
تماشياً مع مبدأ ترومان إلى توضيح استراتيجية الاحتواء والاعتراف بالحرب الباردة
كوضع من أوضاع العلاقات الدولية، وقام أيزنهاور بتحديد تلك الاستراتيجية،
واعترفت الإدارة الأميركية منذ كيندي حتى جونسون بالاستراتيجية الاندفاعية التي
هدفت للتوازن النووي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وهو مبدأ نيكسون
الذي تابع الرئيس فورد الالتزام به في التفاوض مع الخصوم المحتملين، وطرح
مبدأ الشراكة مع الأصدقاء والحلفاء.
ثاني هذه الاستراتيجيات التي وظفتها الولايات المتحدة في حربها الباردة كانت
استراتيجية الردع التي سادت لفترة طويلة منطق الفعل السياسي الأميركي؛ وعليها
بنيت الترسانة الضخمة التي جاءت نتيجة للحرب الباردة وسباق التسلح النووي.
واستراتيجية الردع تعتمد على منطق الرد بهجوم مدمر على فعل عسكري
نووي يهدف للتدمير، ووفق ويدي وولت الخبير الاستراتيجي الأمريكي فإن
استراتيجية الردع هي ركوب الموجة إذ يقول: عندما تواجه تهديداً خارجياً كبيراً
فإن الدول إما أن توازن موقفها أو تركب الموجة، ويعني بركوب الموجة الانحياز
إلى مصدر الخطر.
وهناك مصطلح آخر يندرج تحت مفهوم الردع هو الإكراه، ويعرفه بول
هاث وبروس راسيت بأنه: محاولة من صانعي القرار في دولة ما لإجبار صانعي
القرار في دولة أخرى على التجاوب مع مطالب الدولة الأولى.
أما الإكراه فيعرفه جاك ليفي بأنه استخدام التهديدات لحث الخصم على فعل
شيء، أو التوقف عن فعل شيء، وليس الامتناع عن فعل شيء لم يقم به بعد،
وهو بذلك يدرج مفهوم الإكراه داخل استراتيجية الاحتواء.
طورت أمريكا فكرة استخدام الاستراتيجية العسكرية للتدمير الذي قد يصيبها
جراء معارض أو معاد لهذه الأهداف، وافترضت قدرةً لإحداث إصابات ودمار
صناعي ترد على أي هجوم نووي استراتيجي، وهي فكرة نشأت في الستينيات،
وأخذت فيما بعد صيغة الردع أو استراتيجية الردع التي سادت المنطق الاستراتيجي
الأميركي لعقود مضت وستبقى سائدة لعقود قادمة.
ولا يعني حديثنا عن هذه الاستراتيجيات بأنها كانت في أيام الحرب الباردة
أنها أصبحت الآن بعد انتهاء الحرب الباردة في طي النسيان، ولكنها لا زالت في
خدمة المصالح بالإضافة إلى الاستراتيجية الجديدة وهي الضربات الوقائية.
* النظرية الأمريكية الجديدة في المنطقة (الضربات الوقائية) :
ثمة تعريفات عدة لمفهوم الضربات الوقائية أو الحروب الاستباقية تبعاً للدولة
التي تستخدمها في إطار سياساتها العامة.
والثابت أن الضربات الوقائية ليست جديدة في الفكر الاستراتيجي العالمي،
ولها تطبيقاتها القديمة والحديثة على السواء، والعدوان الإسرائيلي على ثلاث دول
عربية في يونيو 1967م فسر إسرائيلياً بأنه ضربة وقائية لإجهاض المخططات
العربية في إنهاء وجود الدولة العبرية.
كما أن ما يحدث حالياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة على يد قوات
الاحتلال، أياً كان الاسم الذي تحمله، كالسور الواقي أو الطريق الحازم أو
الاغتيالات المنهجية أو عمليات الإحباط المسبق، كلها تعبر عن استراتيجية
الضرب والعدوان المسبق على الخصم بهدف إنهاكه والسيطرة على حركته التامة.
وفي أثناء الأزمة التي هددت بحرب نووية بين الهند وباكستان في الفترة
الماضية تعالت أصوات هندية كثيرة باتباع أسلوب الضربات الوقائية ضد ما
يعتبرونه معسكرات للإرهاب الكشميري، وتغيير الوقائع على الأرض حتى لا
تستفيد منها باكستان أو القوى المتحالفة معها.
ولكن في الولايات المتحدة يحدد مفهوم الضربة الوقائية بأنه ذلك النوع من
النشاطات العسكرية الهادفة إلى تحديد وتحييد أو تدمير أسلحة الدمار الشامل التي
يمتلكها الآخرون قبل ان يتمكنوا من استخدامها.
ويصف الأميركيون أنصار هذا المفهوم الحرب التي يبشّر بها هذا التعبير
بأنها دفاع وقائي أو ردع متمدد لكن خصومه يقولون إنه مجرد نسخة جديدة من
ديبلوماسية البوارج الحربية.
وتقول كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي في تعريفها لهذه
الاستراتيجية الجديدة هي استباق فعل التدمير الذي يمكن أن يقوم به عدو ضدك.
وفي موسوعة نيوستاندرد الأميركية يحال التعبير إلى بند حق امتلاك
الأراضي بوضع اليد في التاريخ الأميركي وهو ما يرد أيضاً في قاموس المورد
لمنير بعلبكي، حيث يعني حق الشفعة أي حق الأولوية في الشراء أو الاستيلاء
على شيء واحتلاله قبل الآخرين.
* متى بدأت صياغة هذه الاستراتيجية الجديدة؟
قبل عام من الآن أطلق برنامج الأمن العالمي الذي أنشأ ضمن مركز الدراسات
الاستراتيجية في واشنطن، حيث ركزت مجموعتان من الدراسات والأبحاث على
السبل الكفيلة بتحقيق ضمانات ضد التهديد عبر الحدود الذي أكد عليه مراراً الرئيس
الأميركي جورج بوش منذ ما قبل دخوله البيت الأبيض.
وضعت هذه الدراسات ما سمي بالاستراتيجية الجديدة التي لم نسمع عنها إلا
بعد اندلاع ما يسمى حرب الإرهاب رغم أن هذه الدراسات أنجزت قبل أحداث
سبتمبر، واستندت أهداف هذه الاستراتيجية بشكل رئيسي إلى ما جاء في تقرير
جورج تينيت رئيس المخابرات الأميركية السابق لسنة 2000م؛ حيث حدد بشكل
رئيسي مصادر القلق الأميركي الذي مثله مفهوم فضفاض له اليوم وعنوان كبير هو
الإرهاب؛ فالدراسات حددت مصادر الخطر ضد أميركا بالإرهاب، انتشار أسلحة
الدمار الشامل، تراجع دعم الحلفاء، وتطور القدرات القتالية لدى دول كثيرة ومنها
من تطمح لدخول النادي النووي، وكما نرى هي ليست جديدة قدر كونها أخرجت
من جعبة الجمهوريين لبناء سياسة لمن ليس لديه سياسة واضحة.
وقالت صحيفة واشنطن بوست في 10/6/2002م، إن إدارة الرئيس
الأميركي جورج بوش تصيغ سياسة عسكرية رسمية تتبنى مبدأ الضربات الوقائية
ضد من تصفهم بالإرهابيين والدول المعادية لواشنطن التي تملك أسلحة دمار شامل.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين بارزين في الإدارة قولهم إن المبدأ الاستراتيجي
الجديد يبعد كثيراً عن سياسة حقبة الحرب الباردة التي قامت على الردع والاحتواء
وسيكون جزءاً من أول استراتيجية للأمن القومي تضعها إدارة بوش التي من
المتوقع أن تنشر تفاصيلها في وثيقة خلال الخريف المقبل.
وقال أحد المسؤولين في تصريحات للصحيفة إن الوثيقة الرسمية ستضيف
ولأول مرة تعبيرات الوقائي والتدخل الدفاعي كخيارات رسمية لضرب دول معادية
أو جماعات تبدو عازمة على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين يضعون الخطوط الرئيسية للاستراتيجية
الجديدة قولهم: إن الولايات المتحدة اضطرت للذهاب إلى أبعد من الردع بعد
هجمات 11 سبتمبر نظراً للمخاطر التي تشكلها الجماعات الإرهابية والدول المعادية
التي تؤيدها، وقال مسؤول رفيع إن طبيعة العدو تغيرت، وطبيعة المخاطر تغيرت؛
ولذلك يجب أن يختلف الرد.
وكان الرئيس بوش قد طرح فكرة الضربة الوقائية أمام البرلمان الألماني في
مايو أيار الماضي، ثم تحدث عنها بشكل موسع عندما تحدث عن التوجه
الاستراتيجي الأميركي في خطاب ألقاه بالأكاديمية العسكرية الأمريكية أول شهر
يونية بمناسبة تخرج دفعة من طلبتها، قائلاً إن قادة المستقبل العسكريين الأمريكيين
يجب أن يكونوا مستعدين لتوجيه ضربات وقائية في الحرب على الإرهاب وللتعامل
مع تحذيرات غير مسبوقة من إمكانية حدوث هجمات كيماوية أو بيولوجية أو نووية
من الإرهابيين والطغاة، وإذا ما انتظرنا حتى يتحول التهديد إلى أمر واقع،
فسنكون قد انتظرنا طويلاً؛ إذ علينا أن نحول المعركة إلى الخصم، نشوش عليه
خططه ونواجه أسوأ التهديدات قبل أن تبزغ.
وشهد البنتاجون في شهر يونيه 2002م مناقشات مطولة حول مبدأ جديد
للسياسة الخارجية واستراتيجية الولايات المتحدة في العالم يبنى على تصور أن
العدو الجديد هو الإرهاب الذي ضرب في نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001م
بديلاً عن العدو القديم الاتحاد السوفييتي السابق والذي بنيت السياسة الخارجية طوال
سنوات الصراع والمواجهة معه.
أما المبدأ الجديد الذي تجري مناقشته داخل الهياكل السياسية الأمريكية فيقوم
أساساً على ضرب العدو الجديد بما يسمى الضربات الوقائية والتدخل الدفاعي، ولما
كان العدو وهو الإرهاب ليس دولاً أو كيانات قائمة على أرض لها عنوان معروف
فهو يوسع من دائرة الأهداف التي يرمي إلى توجيه ضرباته الوقائية وتدخله الدفاعي
ضدها لتشمل ما يقرر أنه دول ترعى الإرهاب وتحوز أسلحة نووية وكيميائية
وبيولوجية.
وهو بذلك لا يضع على الجانب الآخر من خط المواجهة الذي يريد أن يقيمه
أطرافاً معادية للولايات المتحدة، ولم يحدث أن قامت بأعمال إرهابية ضدها أو حتى
تربطها أي صلة بمنظمات الإرهاب التي هاجمت نيويورك وواشنطن، لكنه يدرج
على هذا الجانب من خط المواجهة كل من يقدر أنهم يمكن ولو فرضاً أن يشكلوا
مستقبلاً تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة، فيستهدفهم بما يسميه الضربات
الوقائية أي أن تتم قبل أن يكون قد حدث من جانبهم تهديد فعلي للأمن الأمريكي.
وهذا المبدأ قد يمثل تطويراً أو ربما تأكيداً للفكرة التي سبق أن شرحها أمام
الكونجرس في فبراير الماضي جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية عن
العدو المحتمل أي الجهات والمنظمات التي لم يظهر عليها اتجاهات للقيام بأعمال
إرهابية أو عدائية للولايات المتحدة؛ لكن قد يحدث في المستقبل أن تؤثر فيها سلباً
إجراءات أو سياسات أمريكية مما يحول توجهاتها لاحقاً ضد الولايات المتحدة.
ولما كان هذا المبدأ له آثاره الخطيرة، وأنه يصطنع أعداء من قبيل التقدير
وليس اليقين على أساس أن هناك عدواً مؤكداً فإن المناقشات في البنتاجون ما زالت
تجري بين مؤيدين ومعارضين لهذه الاستراتيجية.
وأوضح وزير الخارجية الأميركي باول في لقاء مع مجموعة من الصحفيين
الاستراتيجية الجديدة لإدارة بوش القائمة على توجيه ضربات وقائية على إرهابيين
ومنظمات إرهابية ودول معادية للولايات المتحدة، ربما تشمل ضغوطاً مالية
واقتصادية وسياسية، لكنه شدد على أن القوة إذا استخدمت فإنها ستكون حاسمة،
كما أكد على أهمية إقناع العالم بضرورة اللجوء إلى القوة بتقديم المعلومات اللازمة.
وأشار باول في ذلك اللقاء إلى الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي
العراقي في عام 1981م، كمثال للاستراتيجية الوقائية.
وقال رامسفيلد في 19/6: ليس صحيحاً أن البنتاغون بات على وشك توجيه
ضربات وقائية؛ معترفاً بالمقابل أن مجلس الأمن القومي والبيت الأبيض يقومان
بإعادة صياغة الاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة. وأضاف: «يمكنكم أن
تسموا ذلك دفاعاً، وهو ما أقوم به، أو وقاية، مضيفاً في الوقت نفسه أن
للأمريكيين الحق في الذهاب لضرب مصدر الإرهابيين مثل القاعدة حين يعلمون
أنهم يتآمرون لقتل مدنيين أبرياء، ولهذا السبب اتخذت الولايات المتحدة القرار
الصائب بشنّ حملة عسكرية ضد دولة متورطة بالإرهاب وتهدد الأمن الأمريكي
وهي أفغانستان» .
ومن ضمن عناصر هذه الاستراتيجية الجديدة قضية إقامة الدرع الدفاعية
الصاروخية التي كانت وما زالت الهاجس الذي يؤرق بوش ويعده إنجازه الذي يجب
ان يتم قبل رحيله، وما زاد سوى أن أمريكا نجحت في إيجاد مسوِّغ لإقامته بعد أن
رفض العالم ذلك وأضافت إليه عنصر الرعب من احتمالات كثيرة قد تحدث وقد لا
تحدث.
وفي شهر يونية (حزيران) الماضي أقر الكونغرس الأميركي هذه
الاستراتيجية، ويرمي بها تأمين تغطية مسبقة لأي عملية عسكرية أميركية خارج
الولايات المتحدة بحجة تأمين وقاية مسبقة للمصالح الأميركية، وعدم تعريض
الولايات المتحدة لخطر وقوع هجمات مماثلة لتلك التي وقعت في 11 سبتمبر
الماضي.
وقال عضوان جمهوريان بارزان في مجلس الشيوخ الأمريكي إن الرئيس
جورج بوش باستطاعته تسويغ توجيه ضربة إجهاضية إلى العراق، وهو ما فسّره
المراقبون بأنه موقف يمثل اختلافاً عن الدعوات المتزايدة من كثير من المشرعين
الأمريكيين مؤخراً بمن فيهم أعضاء في الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه بوش.
وقال ريتشارد لوجار وفريد تومبسون عضوا مجلس الشيوخ إن بوش لديه
بالفعل أسباباً كافية للعمل ضد الرئيس العراقي صدام حسين، واستعان العضوان في
تأكيد رأيهما بأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر الماضي التي تعرضت لها
الولايات المتحدة.
وأوضح لوجار عضو مجلس الشيوخ عن ولاية إنديانا أنها أسلحة للدمار
الشامل في يد طاغية يمكن أن يستخدمها.
وكان ديك آرمي رئيس الأغلبية من الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي
قد أثار عاصفة عندما انشقّ عن صف بوش بقوله إن الولايات المتحدة ليس من
شأنها شن هجوم على العراق دون سبب كافٍ، وقد انضم كارل لفين عضو مجلس
الشيوخ عن الحزب الديمقراطي ورئيس لجنة القوات المسلحة فيه إلى آرمي
باعتراضه على شنّ هجوم على العراق بغير مسوغ وبقوله لمحطة إن. بي. سي
التلفزيونية إن صدام لا يشكل خطراً كبيراً على الولايات المتحدة.
لكن لوجار الذي يحتل مكاناً بارزاً في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ
قال إن بوش بوسعه إيجاد المسوغ لضرب العراق على الرغم من أن الإدارة
الأمريكية لم تتوصل إلى هذا بعد، وأضاف في مقابلة مع محطة سي. بي. إس
التلفزيونية يتعين على الرئيس أن يتخذ حجة في هذه الحالة بالتحديد بأن انتظار
حدوث استفزاز يُعدّ بمثابة دعوة لكارثة هائلة، مشيراً إلى أن هناك معلومات كافية
عن القدرات الكيماوية والبيولوجية للعراق بما يسوغ إطاحة طاغية بوسعه استخدامها
.. قبل أن تستخدم.. وتخميني أن هذا هو السبب الذي ستستند إليه الحرب في نهاية
الأمر.
وقالت كاي بيلي هتشنسون وهي من الأعضاء الجمهوريين أيضاً بمجلس
الشيوخ إن بوش أوضح بما يكفي أننا لا نستطيع انتظار أن يطلق صدام سلاحاً
للدمار الشامل على أحد جيرانه أو على قوات أمريكية.. علينا توجيه ضربة وقائية،
مضيفة لمحطة سي. إن. إن التلفزيونية: هذا إجراء يمثل سابقة للولايات
المتحدة في أن تشنّ هجوماً بهدف الدفاع.
وقال تومبسون عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تنيسي وعضو لجنة
المخابرات بالمجلس: إن الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة على الإرهاب
والتي شنها بوش رداً على الهجمات التي وقعت في نيويورك وواشنطن، وأسفرت
عن مقتل ثلاثة آلاف شخص تتضمن منع مثل تلك الهجمات قبل وقوعها، وأضاف
لمحطة فوكس التلفزيونية: يتعين أن يكون جزء مما نفعله هجومياً، وعندما نعلم أن
هناك شخصاً مثل صدام الذي أظهر قدرته في الماضي على استخدام أي شيء في
حوزته.. نحن نعلم أن لديه أسلحة بيولوجية، ونعلم أن لديه أسلحة كيماوية ونعلم
بغير شك أنه يعمل لتطوير أسلحة نووية.. بعد أن تتوافر لدينا معلومات بأن لديه
القدرة خاصة النووية؛ فعلينا مسؤولية التعامل مع هذا بصورة جدية، ويبدو لي أنه
سيكون علينا في نهاية الأمر أن ندخل العراق، ونفعل شيئاً بهذا الشأن.
وهكذا فوجئ العالم بأن المؤسسة السياسية الأمريكية بشقيها التنفيذي
والتشريعي أصبحت تنظر بمقياس استراتيجي واحد يتمثل في الضربات الوقائية.
ولكن ما الذي حمل أمريكا على اتخاذ تلك الاستراتيجية الجديدة؟
منذ انتهاء الحرب الباردة سادت توقعات كثيرة بأن يدخل الأمن سياق العولمة
بعد العولمة الاقتصادية والتقنية والعولمة في بعدها العسكري والسياسي، وسبب هذا
الاعتقاد أنه لا يوجد نظام اقتصادي محلي أو عالمي يمكن أن يعمل دون حماية قوة
عسكرية وقوة سياسية تقوده ومناخ آمن؛ لذا فإن طرح العنصر الأمني أو ما يعرف
بالضربات الوقائية أصبح ضرورة ليكتمل مشروع العولمة مع أدواته الأخرى
السياسية والعسكرية، التكنولوجية والمعلوماتية، الاقتصادية، والاتصالات.
وجاءت أحداث 11 سبتمبر واحتشدت جميع الدول تقريباً في العالم لمساندة
أمريكا، ولكن بتراجع التأييد للولايات المتحدة بعد أن خفتت الدعوات للانتقام الذي
قادته الأخيرة ضد ما أسمته بالإرهاب، وحيث أفرزت الحرب ضد الإرهاب في
مرحلتها الأولى آثاراً سياسية خطيرة انعكست على واقع النظام الدولي مخلفة خيبات
أمل على جانبي هذه الحرب، سواء كانت في الجانب الأميركي أم في الجانب
الدولي المقابل.
ويبدو واضحاً أن الأمريكيين لم يحققوا الشيء الكبير الذي شمله إعلانهم هذه
الحرب، فلا هم استطاعوا القضاء على تنظيم القاعدة، ولا هم استطاعوا فرض
الاستقرار في القلب الآسيوي المشتعل والذي كان في الثمانينيات ساحة صراع بينهم
وبين السوفييت ونعني هنا أفغانستان.
ولذلك سعى جورج بوش الرئيس الأميركي بإطلاق ما أسماه بسياسة جديدة
واستراتيجية عسكرية تستند إلى تحرك عسكري وقائي بهدف منع أي تهديد
بالإرهاب أو تدمير الدول الأعداء لأميركا وسياساتها.
وفي حملة دعائية كبيرة هدفت لحرف الانتباه عن القضية الفلسطينية وإعادة
التركيز على حرب أميركا ضد العراق والدول التي أسمتها الولايات المتحدة بالمارقة
تم التسويق لهذه الاستراتيجية الجديدة، ونسبت إلى جورج بوش الرئيس الأميركي
الذي أشار في أكثر من مرة إلى أنه يريد وضع نظام أمني جديد يتناسب مع مكانة
الولايات المتحدة الجديدة وعالمها الجديد بمتغيراته التي تفترض وجود من يهدد الأمة
الأميركية كما يقول بوش.
* أثر هذه الاستراتيجية على الموقف الدولي:
أخطر ما في هذه الاستراتيجية الجديدة أنها استبدلت مفهوم التسوية بمفهوم
القوة، ومفهوم العدالة بمفهوم الحصار، وأباحت لنفسها تدمير الآخر بحجة أنه
يشكل خطراً قد يكون واقعاً وقد لا يكون.
ويمكن للإدارة الأميركية الحالية، أو أي إدارة لاحقة، أن تتذرع بهذه
الاستراتيجية لتوجيه ضربة وقائية ضد أي دولة بحجة أنها تقوم بالتحضير لهجمات
ضد الولايات المتحدة، أو أنها تقوم باحتضان أو إيواء أو تمويل منظمات إرهابية،
أو لمجرد أنها مدرجة على لائحة الإرهاب الاميركي.
وانطلاقاً من استراتيجية الضربات الوقائية، أصبح بمقدور الرئيس الأميركي
توجيه ضربات عسكرية ضد ما تسميه واشنطن بمحور الشر متى يحلو له الأمر،
كما أصبح بمقدور أرييل شارون أن يتحين الفرصة السانحة للمشاركة في
استراتيجية الضربات الوقائية والإفادة منها بهدف توجيه ضربات خاصة به ضد
لبنان وسوريا بغطاء أميركي، وبحجة التهديدات التي تشكلها المنظمات الفلسطينية
ضد أمن إسرائيل.
كما أن هذا المبدأ يعكس تراجعاً عن إحدى أولويات السياسة الخارجية
للولايات المتحدة التي كانت قد استقرت في عهد الرئيس جورج بوش الأب بعد
نهاية الحرب الباردة، وزوال الاتحاد السوفييتي عام 1989م وتبلورت أكثر في
عهد خلفه كلينتون، وهي اعتبار الاستقرار الإقليمي مصلحة حيوية ومصلحة أمن
قومي للولايات المتحدة، وأن هذا يتحقق عن طريق حل الأزمات والنزاعات
الإقليمية بينما من شأن تطبيق هذا المبدأ زعزعة الاستقرار الإقليمي، وتراجع
أولوية حل النزاعات والأزمات؛ لأنه مبدأ يخلق أزمات جديدة من خلال ما يسمى
بالضربات الوقائية، والتدخل الدفاعي، أي أن الاستقرار الإقليمي يتحول من
أولوية عاجلة، إلى هدف مؤجل.
لقد شكل هذا التحول الذي عبر عنه الرئيس بوش تطور مهماً وخطيراً في
الآن ذاته؛ فهو في جانب يعكس حجم التغيير الذي أصاب الفكر الاستراتيجي
الأمريكي بعد هجوم 11 سبتمبر الدامي، وفي جانب آخر يوضح المدى الذي باتت
الولايات المتحدة مقبلة عليه في علاقاتها الخارجية.
ونتج عن ذلك قبل ذلك منذ أسابيع قليلة ذلك التسريب المتعمد لخبر توقيع
الرئيس بوش أمراً رئاسياً يتيح لوكالة المخابرات الأمريكية العمل في العراق من
أجل إسقاط نظام الحكم فيه، حتى لو وصل الأمر إلى اغتيال الرئيس صدام نفسه.
ومثل هذه الأساليب التدخلية ليست أمراً جديداً في السياسة الأمريكية من
الناحية التاريخية؛ فقد كانت موجودة من قبل، واستخدمت في حالات شهيرة مثل
حالة إيران زمن الرئيس مصدق، وفي تشيلي نهاية السبعينيات، وحالات أخرى
في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
بيد أن الولايات المتحدة نفسها تخلت عنها طواعية في ولاية الرئيس فورد
الذي أصدر أمراً رئاسياً منع الاستخبارات الأمريكية من التدخل لتغيير نظم الحكم
في الدول الأخرى أو اغتيال الزعماء، أو غير ذلك من الأساليب الخفية.
هذه النقلة ستجبر المؤسستين العسكرية والاستخبارية الأميركية على تنفيذ
تبدلات واسعة في تركيبتهما وسياساتهما وذلك على مستويين:
الأول: مستوى المفاهيم حيث سيتطلب الأمر تغيير العقلية العسكرية
الأميركية التي تعتبر الهجمات المفاجئة عملية غير مشرّفة.
والثاني: مستوى العتاد؛ لأن الهجمات الوقائية تحتاج إلى أنواع جديدة من
الأسلحة لجعل القوات الأمريكية أكثر مرونة في الحركة وأكثر قدرة على الفتك
السريع.
وبدأ البنتاغون بالفعل وضع الدراسات حول كيفية شن حروب من دون إنذار
مسبق تتجاوز بكثير مفهوم الغارات الجوية السريعة، وتعطي دوراً كبيراً للقوات
الخاصة الأمريكية وحتى للمارينز والوحدات البرية.
وعلى رغم أن المبدأ يضع استخدام الأسلحة النووية في آخر سلم أولوياته،
إلا أنه لا يستبعدها تماماً بصفتها فكرة لا يمكن التفكير بها؛ إذ يمكن للقوات
الأميركية كخيار أخير أن تستعمل أسلحة نووية تكتيكية محدودة القوة الحرارية
لضرب مخابئ ومستودعات الأسلحة البيولوجية والصاروخية.
والأهم من هذا وذاك أن الاستراتيجية الجديدة ستلغي مفهوم شن حربين
إقليميتين في وقت واحد على نمط حرب الخليج الثانية لمصلحة مفهوم أوسع بكثير:
القدرة على الحركة العسكرية في 60 دولة في آن وإن كان ذلك بمستويات منخفضة
الوتيرة.
وهذا لا يعني فقط العراق الذي سيكون حتماً الهدف الأول لها أيضاً، ولا
احتمال استهداف أهداف أخرى في بعض الدول العربية التي تمتلك برامج أسلحة
دمار شامل، بل أولاً وأساساً عن احتمال حدوث تطابق كامل بين التوجهات
الاستراتيجية الأميركية الجديدة، والتوجهات الإسرائيلية القديمة المتعلقة بمبدأ
الهجوم الوقائي. وهذا التطابق قد يحدث لسببين:
الأول: أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية تستند منذ 50 عاماً، ولا تزال، إلى
فكرة الحرب الاستباقية أو الوقائية، وهي طوّرت من أجل هذا الغرض سلسلة
طويلة من قواعد العمل، وأنماط الأسلحة، وغرف التخطيط التي يمكن أن تفيد منها
للغاية المؤسسة العسكرية الأميركية.
والثاني: أن معظم الحروب الوقائية الأميركية الجديدة ستحدث على الغالب
على امتداد الرقعة الجغرافية الشرق أوسطية؛ وهنا سيكون دور إسرائيل كبيراً،
إما في شكل حروب وقائية تقوم بها هي نفسها لمصلحة واشنطن، وإما في صيغة
حروب، عسكرية أو استخبارية مشتركة مع الولايات المتحدة.
وهكذا نرى الفروق بين الاستراتيجيات الأمريكية قبل 11 سبتمبر وما بعده،
فاستراتيجية الاحتواء كانت تقوم على أساس التعايش مع الخطر النووي للاتحاد
السوفييتي السابق والعمل على منع توسيع دائرته.
أما استراتيجية الردع فكانت تتركز في ترتيب الدفاعات الأمريكية للتأكيد على
الرد الأمريكي الساحق المدمر، ومن ثم منع الخصم من الإقدام على أي عمل معاد.
أما استراتيجية الضربات أو الهجمات الوقائية فهي تعطي الولايات المتحدة
حق العدوان تحت زعم أو غطاء الدفاع عن النفس.
ولكن ما موقف المسلمين إزاء هذه الاستراتيجيات التي يجري نسجها في العلن
وليس في الخفاء؟ وما هي استراتيجيتهم الوقائية لمواجهة الضربات الوقائية
الأمريكية؟ ... لا شك أن هذا هو التحدي الأخطر؛ فماذا أعددنا له؟(179/56)
المسلمون والعالم
أنصار الإسلام في تورابورا العراقية
(1 ـ 2)
أحمد فهمي
في العاشر من أغسطس 1919م وقَّع الحلفاء الأوربيون معاهدة سيفرز
«sevres» مع الأتراك المنهزمين، وفرضت المعاهدة ضمن بنودها بنداً خاصاً
بإقامة دولة للأكراد «كردستان» .. لكن القرار أثار غضب الفرنسيين على نحو
مفاجئ، وأدى في نهاية الأمر إلى إلغائه كلية من المعاهدة.
ويأتي هذا التصرف العجيب من فرنسا متناسباً مع دولة عريقة في استعمارها
تعلم يقيناً أن الاستعمار مرحلتان: تبدأ المرحلة الثانية عندما تنسحب الجيوش
العسكرية، وتسمى مرحلة الاستعمار عن بُعد، هذه واحدة، والثانية، أن الفرنسيين
يدركون تماماً أن هذه المنطقة الاستراتيجية تفتقر للحفاظ على المصالح الغربية إلى
قوم يناضلون من أجل دولة، أكثر من افتقارها لدولة جديدة، لذا كان من
الضروري أن تنهض السياسة الأوروبية لترسيخ واقع سياسي من نوع خاص..
يحتوي على نقيضين يشكل تعارضهما وبقاؤهما معا مصدراً دائماً للتوتر
والاضطراب في المنطقة، هذان النقيضان هما رفض ومنع إقامة دولة كردية،
وتحفيز الأكراد على المطالبة بدولة كردية.
هذه السياسة الغربية المعقدة تجاه الأكراد، كان لا بد أن تثمر واقعاً عجيباً
يستعصي على الاستيعاب أو الفهم لأول وهلة؛ فالأكراد اليوم ومنذ أكثر من عشر
سنوات يعيشون وكأنهم دولة مستقلة، ولكنهم ليسوا كذلك؛ بل لا يتمتعون رسمياً
بمجرد الحكم الذاتي، ووفقاً للتسلسل المنطقي لمفردات السياسة والهيمنة الأميركية
المعلنة لا يوجد ما يمنعهم من تأييد وتدعيم دولة كردية في شمال العراق، ولكن
أميركا لم تفعل ذلك، ولن تفعله في الفترة القريبة على الأقل والله أعلم فالدور
الكردي في إثارة التوتر في المنطقة لم ينته بعد، ولا تزال هناك فصول معدة
للتداول على المسرح السياسي تحتاج إلى التواجد الكردي المأساوي أحياناً، والتهديد
الأميركي بدعم دولة كردية في العراق، له تأثير فعّال في سَوْق الأنظمة أكثر من
إقامتها بالفعل، وقد عبر رئيس الوزراء التركي بولنت أجاويد أكثر من مرة عن
تخوفه من أن تسمح أميركا للأكراد بدولة شمال العراق، وصرح أن حكومته تبدي
قلقها من التحركات الأميركية في المناطق الكردية، وقال أجاويد: «هناك دولة
أمر واقع قائمة في شمال العراق، ونحن لا يمكننا السماح لها بتجاوز ما هي عليه
حاليًا» .
ورغم أن الشعب الكردي يُظن به بعد هذه السنين الطوال استيعاب أبعاد لعبة
التوازنات الخبيثة هذه، إلا أن حزبيه العلمانيين لا يبدو أنهما يقودانه وفق
مقتضيات ما تراكم فهمه عبر الأجيال، وكل ما أفلحا في تحقيقه أن أفرزا صراعاً
كردياً كردياً شكل بدوره عائقاً سياسياً في طريق إقامة دولة موحدة، وحوَّلا القضية
الكردية إلى سلعة رخيصة يشتريها الجميع، لكن دون مقابل.
وبعد أن ألقى الأكراد رحالهم بين أيدي الأميركيين في السنوات الأخيرة، فإن
المحنة لم تنته، والخوف من صدام لم ينقض، وبعد تجنيد الحزبين الرئيسيين
العلمانيين لحساب المخابرات الأميركية، لم يعد هناك من يهتم بالمصلحة الكردية،
اللهم غير الأحزاب والحركات الإسلامية التي تعمل وسط إطار سميك من الترقب
والقيود، وقد نجحت السياسة الأميركية في تفتيت الشعب الكردي، وترسيخ مفاهيم
القبلية والحزبية بين أبنائه، بدرجة تعوق تكوين قرار كردي موحد، إلا في مواجهة
«إرهاب» الإسلاميين.
ومن المعروف أن الأميركيين لا ينفعون من يتحالف معهم إلا بالقدر اليسير،
وبالنسبة للأكراد فقد شجعهم الأميركيون بعد حرب الخليج مباشرة كي ينتفضوا على
صدام، ثم تركوه ينتقم منهم، بينما القوات الأميركية تطوق العراق من أطرافه،
وبعد انتهاء المذبحة، أرسلت الإدارة الأميركية مندوبيها ليتفرجوا على آثارها،
وأرسلت طائراتها لتلقي بالطعام على المشردين الناجين، ثم بعد ذلك كله يقول
فنسنت كانيسترارو رئيس سابق لمكافحة الإرهاب في وكالة الاستخبارات الأميركية:
«بالنسبة للأكراد لم نحصل على شيء مضمون من جهتهم حتى الآن، وهم
حذرون جداً بخصوص دعمهم للولايات المتحدة» .
ومن بين الركام الحزبي الكردي تبدو الحركات الإسلامية بتجردها المعروف،
وإخلاصها للقضية الكردية الأكثر قدرة على تحقيق ما عجزت عنه الأحزاب
العلمانية.
ولكن بقدر ما يشكل التواجد الإسلامي مبعث أمل للأكراد، فإنه يمثل صوتاً
نشازاً بين الجوقة المنتشرة في المنطقة، يسعى المخرج الأميركي إلى إسكاته ...
ولكن هناك وجهة نظر أخرى تقول إن السياسة الأميركية ربما يكون من المفيد لها
أن تسمح بتنامٍ محدود لنوعية معينة من الخطر الإسلامي، كي تستغلها في وقت ما
كأحد ذرائع التدخل، وهذه الرؤية تنطبق بالضرورة على الحركات الجهادية،
والتي يُروَّج أنها على علاقة بتنظيم القاعدة الذي احتل مكانة العدو الأول للولايات
المتحدة، برغبة منه، ومن الإدارة الأميركية كذلك.
ووفقاً لهذا التصور فإن جماعة أنصار الإسلام الكردية، أصبحت تمثل هدفاً
أميركياً سواء بالسكوت عنها، أو التعامل معها، عسكرياً وسياسياً، عن طريق
حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الموالي لأميركا، وفي الآونة الأخيرة صار
الحديث عن أنصار الإسلام رائجاً إعلامياً، بغرض تسويقها كفرع عراقي للقاعدة
يتلقى دعماً مباشراً من العراق، ومن إيران، ومن بن لادن، ومن ... إلخ، ورغم
أن الجماعة محدودة العدد والانتشار الجغرافي، فإن تأثيرها في نطاق سيطرتها يبدو
مثيراً للانتباه، وللإعلام كذلك، من حيث محاولتها محاكاة النمط الطالباني الإسلامي
في أفغانستان مع الفارق ومن تبنيها الجهاد كوسيلة لتطبيق مبادئها، ومعاداة النمط
العلماني الغالب، والمتمثل في الحزبين الكرديين الرئيسيين: الديمقراطي
«البرزاني» ، والاتحاد الوطني «الطالباني» ، ومع توقع دخول مواقع
الجماعة وتجمعاتها ضمن الأهداف المحتملة للضربة الأميركية ضد العراق، فإن
تناول هذه الجماعة، يصبح أمراً لازماً؛ إذ أصبحت عنصراً أساسياً ضمن لعبة
التوازنات التي تديرها أميركا في العراق، والتي يشارك فيها أطراف كثيرون قسراً
واختياراً.
* من هم «أنصار الإسلام» ؟
في أوائل التسعينيات اندمجت الحركة الإسلامية الكردية مع حركة النهضة
لتكونا معا حركة الوحدة الإسلامية، ولكن مع مرور الوقت، بدأ الشقاق والخلاف
ينتشر في صفوف الحركة الجديدة، حتى حدث الانهيار في عام 2001م؛ حيث
انقسمت الجماعة إلى عدة حركات أبرزها: الجماعة الإسلامية الكردستانية،
وجماعة جند الإسلام، وغيرهما، وأعلنت جند الإسلام عن نفسها في بداية سبتمبر
من نفس العام، وضمت في صفوفها الإسلاميين الذين ينادون بالجهاد ضد الكافرين،
وكان من بينهم من سبق له الجهاد في أفغانستان حتى وقت قريب، وتردد أن
بعضهم لا يزال يحتفظ بعلاقات قوية مع من بقي من المجاهدين في أفغانستان،
وكان قائد الجماعة هو أبو عبيد الله الشافعي، من أصل كردي، وكان ينتمي سابقاً
إلى حركة الوحدة الإسلامية في محافظة أربيل حتى عام 1994م، حيث سافر إلى
أفغانستان، ويقول حازم اليوسفي ممثل الاتحاد الوطني الكردستاني في القاهرة إن
اسمه الحقيقي وريا هوليري، وأنه انضم إلى تنظيم القاعدة أثناء وجوده في
أفغانستان.
وسيطرت الجماعة على شريط القرى الممتد بين حلبجة والأخدود الجبلي
على الحدود مع إيران، وحسب بعض التقديرات فإن عددها تسع قرى من بينها
الطويلة وبيارة التي يتمركز فيها قائد الجماعة، ويسمي بعض الأهالي هذه المنطقة
الجبلية «تورا بورا العراق» ، وكانت في الأصل تابعة لنفوذ حركة الوحدة
الإسلامية، ولكن استولى عليها الاتحاد الوطني لما بدأ الضعف يدب في صفوفها،
قبل أن تعقد مهادنة صلح بين الطرفين بوساطة إيرانية.
وتدعي مصادر الاتحاد الوطني أن من بين أعضاء الجماعة هناك نحو ثمانين
من العرب الأفغان، من أصل مغربي وسوري وأردني وفلسطيني ومصري،
وهناك أيضاً ستون من أصل عراقي تلقوا تدريبات في أفغانستان، حسب ادعاء
مصادر الحزب العلماني، أما عددهم الإجمالي فمختلف فيه إلى حد كبير، ولكنه لا
يتجاوز عدة مئات، وربما يتجاوزون الأربعمائة.
وقد حاولت الجماعة أن تطبق الأحكام الإسلامية في المناطق التي تسيطر
عليها، حيث مورست الحسبة على نطاق واسع، فكانت تأمر بغلق المتاجر في
أوقات الصلاة، وتحرم الموسيقى وبيع الخمور، وتعمل على نشر المدارس الدينية،
وتدعو إلى التجهز للجهاد ضد الكفار، وتحث النساء على الالتزام بالحجاب
الشرعي.
ونشب قتال بين الجماعة والاتحاد الوطني الكردستاني الذي اعتبر الجماعة
تهديداً لمناطق سيطرته ونفوذه، وخاصة أن النمط الإسلامي في الحياة قابل للانتشار
بدون قتال عن طريق المحاكاة والتأثر بين القرى الكردية المتجاورة، وقد تكبد
الاتحاد الوطني في المعارك الحامية خسائر جسيمة في الأرواح، على الرغم من
كونه الأقوى عدة وعتاداً، وحسب بعض التقديرات فقد بلغت خسائر الوطني 1086
قتيلاً وجريحاً خلال 73 يوماً من القتال المستمر، مقابل 47 قتيلاً وجريحاً في
صفوف جند الإسلام.
وفي شهر ديسمبر من العام 2001م، حدث اندماج آخر بين جند الإسلام،
وجماعة التوحيد الإسلامية وجماعة ثالثة، وتغير اسمها إلى أنصار الإسلام،
وأصبح الملا كريكار من أبرز قادتها، وحاولت عقد هدنة وتصالح مع الاتحاد
الوطني، وحدثت لقاءات ووساطات، أسفرت عن وقف القتال، ولكن الأمور
تدهورت مرة أخرى بعد محاولة اغتيال برهم صالح رئيس وزراء الوطني؛ حيث
اتهم الأنصار بتدبيرها، واندلع القتال مجدداً بين الفريقين.
وحسب المصادر المتاحة فإن الملا كريكار اسمه الأصلي نجم الدين فرج،
ويحمل جنسية نرويجية؛ حيث طلب اللجوء إليها قبل سنوات، ويحمل الملا
كريكار كذلك رؤية إسلامية سلفية، ويرفض الديمقراطية، وقال في حديث صحفي
نادر: «الديمقراطية تستند إلى أربعة مبادئ مرفوضة في الإسلام؛ فبالنسبة
للإسلام: الديمقراطية من البداية إلى النهاية هي بدعة» ، ولا يعرف مكان إقامته
في الوقت الحالي، ويقول البعض إنه ربما يكون في النرويج، ولكن نفى
المسؤولون هناك ذلك، وكان كريكار التقى جلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني
أثناء محاولات وقف القتال بين الطرفين.
وبالعودة إلى لعبة التوازنات التي تديرها الإدارة الأميركية في المنطقة، يمكن
تحديد عدد من اللاعبين على الساحة الكردية، سنتناول علاقة كل منهم بجماعة
أنصار الإسلام، ويأتي في مقدمتهم الولايات المتحدة، اللاعب الأول، والأكراد،
والعراق، وإيران، والحركات الإسلامية الأخرى، وتنظيم القاعدة افتراضاً.
* أمريكا وأنصار الإسلام:
تتبع الإدارة الأميركية أسلوب إيجاد المسوغ في تمرير سياساتها في كثير من
دول العالم، وهذا الأسلوب المعقد يعطي نتائج أولية ظاهرية عكسية في كثير من
الأحيان، أو هكذا تبدو للبعض، ولأن كثيراً من الشعوب والجماعات تحمل إرثاً من
الكراهية للسياسة الأميركية، يحلو لها أن تفسر كل موقف عدائي ضد الولايات
المتحدة، على أنه عجز أميركي عن مواجهته، وهم بذلك يمثلون الطرف المقابل،
لمن يعتقدون أن أميركا بيدها مقاليد الأمور، وأنها تحقق أهدافها في إدارة العالم،
بنسبة انتخابات العالم الثالث 99.9%، والحقيقة أن الواقع بعيد عن هذا وذاك؛
فالإدارة الأميركية تضع كثيراً من الخطط والرؤى والسياسات، يُحبَط كثير منها،
وينجح بعضها، والذي نريد أن نقوله إن سياسة أميركا تجاه العراق مثال واضح
على استخدام هذا الأسلوب؛ فالمعطيات العسكرية والسياسية أثناء حرب الخليج
وبعدها، لم تكن تحول مطلقاً بين أميركا وعزل صدام عن الحكم، ولكنها لم تفعل.
لماذا؟ لأنها تحتاج إلى شخصية مركبة مثل صدام حسين، لكي يقدم تسويغات كافية
طيلة أكثر من عشر سنوات لتدخل أميركي مستمر في المنطقة، لم تكن تحلم به من
قبل.
وعلى الجانب الكردي، فإن الصراع بين صدام والأكراد كان لا بد له أن
يظل مستعراً، ولهذا ترك الأميركيون الأكراد يصطلون بنيران صدام بعد حرب
الخليج مباشرة، ولمَّا يفرحوا بانتفاضتهم بعد، وذلك لكي تبقى الجراح دوماً ساخنة
غير ملتئمة، تحتاج إلى تدخل الجرَّاح الأميركي، وهذا هو الأهم.
وبعد هجمات سبتمبر، وتحول تنظيم القاعدة ليحتل المركز الأول على قائمة
المسوغات الأميركية للتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، لم يكن من الصعب
على العقلية الأميركية المخططة أن تصل بين صدَّام والقاعدة هكذا بجرة قلم لتنشئ
تحالفاً وهمياً بين الطرفين، متجاوزة بذلك عوائق وعقبات وجبالاً وهضاباً من
العقائد والأفكار والرؤى والتصورات والمناهج، وفي ظل عقلية الفسيفساء العربية
كان من الممكن تمرير هذه الحجة بلا عناء كبير، وبعد ذلك يصبح من السهل أن
توجد العلاقة بين صدام وجماعة أنصار الإسلام، ومن الأسهل أن يقال إن أنصار
الإسلام فرع جديد للقاعدة في العراق.
وفي الوقت الحالي يتبادل الاتحاد الوطني والمخابرات الأميركية تهيئة أنصار
الإسلام، لتكون مسوغاً كافياً، وجاهزاً، ضمن القائمة العراقية، وسيأتي ذلك
بالتفصيل عند الكلام عن العلاقة بين الجماعة والأحزاب الكردية، وقد صرح أكثر
من مسؤول أميركي حسب النيويورك تايمز بالقول إنه «من مصلحة الاتحاد
الوطني الكردستاني طرح هذه المسألة - جماعة الأنصار - لأنها قد تساعد في تقديم
الحجة لهجوم أميركي يقضي على الرئيس العراقي صدام حسين» ، وأمام
الكونجرس الأميركي وقف جورج تينت مدير المخابرات، ليقول إنه «رغم
الاختلاف الأيديولوجي بين العراق وتنظيم القاعدة، فإن كراهيتهما المشتركة
للولايات المتحدة تدعو للافتراض بإمكانية وجود تعاون تكتيكي بينهما» .. وقد
راجت في الفترة الأخيرة التصريحات التي أدلى بها عملاء مزعومون للمخابرات
العراقية، كانوا يقومون بمهام تنسيقية مع القاعدة والأنصار، وكذلك أعضاء
مزعومون في جماعة الأنصار، وذلك بعد اعتقالهم جميعاً من قبل سلطات الاتحاد
الوطني، وتصب هذه التصريحات في اتجاه تقديم وصف تفصيلي لعلاقة مفتعلة بين
الأطراف الثلاثة.
ونشرت مجلة نيويوركر تقريراً احتوى تفريغاً لكمٍّ كبير من هذه التصريحات
التي قال مراسل الصحيفة إنه تم الإدلاء بها بدون إكراه هكذا، وقد احتفى مسؤولون
أميركيون بهذا التقرير، وقال جيمس وولسي مدير المخابرات السابق إنه تقرير
«شديد الروعة» ، وقال: «ظلت سي آي إيه طوال السنوات الأخيرة غير
مكترثة كما يجب بالتحدي العراقي، وأعتقد أن ذلك معيب، ولو تعرضت للهزيمة
نتيجة للتقرير الأخير الذي نشرته المجلة، وحرره جيف غولدبيرغ، فلا بد من
توجيه التحية للسلطة الرابعة يعني الصحافة» ، وقال مسؤول آخر ذو خبرة في
الشأن العراقي: «هذا التقرير يعد هاماً للغاية كما يبدو، ومن المحتمل أن يبادر
صدام حسين بالسعي لزعزعة الأوضاع في المناطق الكردية باستخدام جماعة
جند الإسلام» .
ويعتبر المسؤولون في إدارة الرئيس الأميركي بوش أن القاعدة أصبحت
مسوغاً عالمياً للتدخل، تحت مسمى الحرب على الإرهاب، ويسعى البنتاجون إلى
تمرير موافقة من الكونجرس على مشاركة سرية لقوات خاصة بمكافحة الإرهاب في
بلدان أجنبية، ويقولون إنه في بعض الأحيان سيكون من الضروري أن تجري
العمليات بدون إخبار الحكومات المحلية نفسها، بمواقع هذه القوات؛ لأن الحرب
ضد الإرهاب كما يقولون، صارت بلا حدود.
* صدام حليف الإسلاميين!!
يقول أحد كبار مسؤولي الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري:
«إن تبدلاً واضحاً حدث في تفكير صدام حسين خلال الأعوام الخمسة الماضية،
من حيث تحول بغداد من العلمانية المتشددة، إلى دعم الإسلاميين» ، ويأتي
هذا الادعاء ضمن سيل من الإطلاقات التي تأتي بلا برهان، يرسلها العلمانيون
الأكراد في توصيف وتصنيف الجماعات الإسلامية الكردية، ومن أنشأها، ومن
يدعمها، ويقول هؤلاء أيضاً إن مخابرات صدام بارعة جداً في التغلغل بالجماعات
الصغيرة، ولذلك ليس من الصعب عليها أن تخترق جماعة مثل أنصار الإسلام،
تتكون من عدة مئات، ورغم أن هذا الادعاء ممكن من الناحية النظرية، إلا
أنه لا يمكن إطلاقه دون دليل، وقد اعترف الأميركيون أنفسهم في وقت ما أنهم لا
يجدون أي دليل على علاقة بين القاعدة وصدام حسين، وبينما تذكر الصحف
الأميركية أن مسؤولين كباراً في وزارة الدفاع جابوا العالم بحثاً عن أدلة على هذه
العلاقة فلم يجدوها؛ فإنهم أبدوا احتفاء كبيراً بتقرير صحفي كتبه مراسل لأحد
المجلات، واعتبروه فتحاً كبيراً، وأنه بمثابة الحلقة المفقودة؛ لأنه يتحدث عن
اعتراف أدلى به مجهولون يدَّعون الانتساب إلى جماعة الأنصار، وقالوا فيه إن
صدام يمولها، ويدربها.
وتدعي المصادر الكردية أن العلاقة بين القاعدة والعراق تعود إلى عام 1989م
وأنها تطورت بعد حرب الخليج الثانية؛ حيث قام أيمن الظواهري بزيارة سرية
لبغداد، بعد عامين من الحرب، وأن هناك اتصالات تم رصدها مع أسامة بن لادن،
وادعى الاتحاد الوطني أنه اعتقل عميلين عراقيين كانا يقومان بمهام الوسيط بين
القاعدة والأنصار والمخابرات العراقية، وقد أدلى هذان العميلان عن طيب خاطر
بتفاصيل كثيرة عن طبيعة العلاقة، وحدداها، حتى وصل الأمر إلى القول إن قادة
الأنصار يتلقون رواتب ثابتة من المخابرات العراقية، وقالوا إن هناك شخصاً
مؤثراً جداً في الجماعة، هو أبو وائل، وهو في الأصل ضابط عراقي، وأنه قام
بدور كبير في التنسيق مع القاعدة في أفغانستان، ولكن مصيره أصبح مجهولاً بعد
الحرب الأميركية هناك.
وتتلخص العلاقة المزعومة بين صدام وجماعة أنصار الإسلام في تقديم الدعم
المالي والعسكري، والتدريب في مدارس المخابرات الخاصة، مقابل إثارة القلاقل
في مناطق الاتحاد الوطني، وتنفيذ بعض عمليات الاغتيال.
وفي الواقع تبدو الاتهامات بوجود هذه العلاقة هزيلة جداً:
فأولاً: الهوة سحيقة بين صدام حسين وتنظيم مثل القاعدة أو الأنصار؛
فمنطلق القاعدة والأنصار يرتكز على مفاهيم سلفية، لا يمكن بأي حال أن تتقارب
مع شخصية مثل صدام، والادعاء بتبدل إسلامي للرئيس العراقي غير صحيح،
ويكفي إثبات التضارب بين دعوى قدم العلاقة مع القاعدة عام 1993م، وبين
إرجاع التبدل الإسلامي المزعوم لصدام إلى ما قبل خمس سنوات فقط.
وثانياً: وفقاً للاتهامات الموجهة للجماعة، فإنها تتلقى الدعم من القاعدة،
والعراق، وإيران، وبذلك تصبح الجماعة الوحيدة التي أجمعت عليها أغلب
الأطراف، وهو ما لم يحدث لغيرها أبداً، فهل يعقل ذلك؟
ثالثاً: رغم أن تبني الجماعة للنهج الجهادي يبرزها بقوة على الساحة، إلا
أنها تبقى في نهاية الأمر جماعة محدودة التأثير، والقدرات، على الأقل في الوقت
الحالي، استناداً إلى عدد أتباعها، مقارنة بجماعات أخرى والحزبين العلمانيين
الرئيسيين.
رابعاً: تحمل الجماعة، مثل أغلب الإسلاميين الأكراد، إرثاً من الذكريات
الدموية مع أجهزة صدام، ويكفي مأساة حلبجة التي حدثت لكونها في الأساس
خضعت لسيطرة الإسلاميين، ومن الصعب أن تغيب المذبحة في غياهب النسيان
من أجل تحالف وهمي وقتي مع الجزار الأكبر، ويعلم الإسلاميون يقيناً أنه في حال
تمكن صدام من السيطرة على مناطق الأكراد مرة أخرى، فسيكون دمهم أول ما
يراق بالسلاح العراقي.
خامساً: ليس من مصلحة صدام أبداً أن يحتفظ بعلاقة مع تنظيم القاعدة، أو
أي تنظيم آخر يشتبه في تبعيته للقاعدة، ولو كان هذا الادعاء صحيحاً، لما كان
الموقف الأميركي تجاه هذه القضية، بهذا الضعف.
وهذا النفي لعلاقة مدعاة مع صدام ليس دفاعاً عن جماعة الأنصار، ولكنه
دفع لهذه الدعوى التي ربما ينخدع بها من لا يجيد نظم الأمور في نصابها.(179/64)
المسلمون والعالم
بشراكم أهل فلسطين
حمدي طنطاوي محمد [*]
في كل يوم، وفي كل ليلة، يسقط شهيد، ويهدم بيت، وتشرد عائلة، وتقام
مستوطنة. وقد يتساءل البعض: ما ضر هؤلاء وهم فتية آمنوا بربهم، وجاهدوا
في سبيله، وابتلوا من أجل دينه.. والله المنتقم، والله الجبار، العزيز القهار، لو
أراد أن يعزهم، وينصرهم، ويذهب بأس عدوهم لكان، لكنه لم يكن؟
وفي الإجابة على ذلك كلام كثير منه قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة] (التوبة: 111) .
ومنه ما أعده الله للشهداء من المنازل العالية، والقصور الراقية، ومنه
تمحيص الله عباده المؤمنين، وتخليصهم من شوائب الذنوب، وعلائق المعاصي.
فما أهون أعداء الله على الله، بل ما أهونهم على عباد الله، ولكن لله في خلقه
شؤون.
* لولا بقية من المؤمنين:
غير أن ما يعنينا من هذا هو أنه ما زالت بقية من خلق الله تستطيع الدفاع
عن دينه، والذب عن أوليائه. أوَ ما قد علمت فقه عبد المطلب حينما قال لأبرهة:
«للبيت رب يحميه» . فما كان هناك بقية من الناس تدفع عن بيت الله. أما
وللأقصى بقية من خلق الله تدفع عنه، فلا معنى لأن ننتظر أمراً من السماء ينزل
بهم.
ألا وإن تلك الفئة التي تدفع عن بيت الله، وعن دين الله في تلك البقعة، لم
يقتصر دفعها على تلك البريَّة من الأرض وحدها، بل إنها تدفع بأس الله وغضبه
عن الدنيا بأسرها، يعلم هذا من فقه قوله تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) .
يقول الإمام الطبري: «ولولا أن الله يدفع ببعض الناس، وهم أهل الطاعة
له، والإيمان به، بعضاً، وهم أهل المعصية لله، والشرك به ... لفسدت الأرض،
ولهلك أهلها، بعقوبة الله إياهم، ولكن الله ذو مَنٍّ على خلقه، وتطوُّل عليهم،
بدفعه البر من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي، بالمؤمن عن الكافر.
فيدفع الله معالجة أهل الكفر والنفاق، العقوبة على كفرهم ونفاقهم، بإيمان المؤمنين
به، وبرسوله، الذين هم أهل البصائر والجد في أمر الله، وذوو اليقين بإنجاز الله
إياهم وعده، على جهاد أعدائه، وأعداء رسوله، من النصر العاجل، والفوز
الآجل بجنانه تبارك وتعالى» [1] .
ومن ذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد: «لولا دفاع الله
بالبر عن الفاجر، ودفعه ببقية أخلاق الناس، بعضهم عن بعض، لفسدت الأرض؛
بهلاك أهلها» .
وروى عبد بن حميد عن قتادة: «يبتلي الله المؤمن بالكافر، ويعافي الكافر
بالمؤمن» [2] .
* مواصلة أهل فلسطين المقاومة، وانخذال الناس عنهم:
رحم الله تلك الفئة؛ لكأني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء
فيهم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى
يأتي أمر الله، وهم كذلك» [3] .
فكم مرة خذل هذا الشعب من العالم بأسره، يشهد عليه شيوخ ركع، وأطفال
رضع، ونساء؛ ما لكل أولئك حول ولا طول. يشهد عليه مذابح دير ياسين سنة
1948م، وقرية «بيت جالا» سنة 1952م، ومجزرة «قبية» سنة 1953م،
ومذبحة «غزة» و «شاطئ طبريا» سنة 1955م، ومذبحة «حوسان»
و «غزة الثانية» ، ومذبحة قلقيلية «و» كفر قاسم «سنة 1956م، ومذابح
» العدوان الثلاثي «سنة 1956م، و» تل الزعتر «سنة 1976م، و» صبرا
وشاتيلا «سنة 1982م، و» حرق المسجد الأقصى «سنة 1969م،
و» اقتحامه «سنة 2000م، وما كان من هدم، وقتل، وتخريب، في» طولكرم،
ورفح، ونابلس، ورام الله، وجنين، وخان يونس «سنة 2002م.
تشهد عليه قرارات» مجلس الأمن «المتعاقبة، والتي كتبها على لوحة من
» الفَخَار «، أقصد» الفُخَّار «، مما دعاه أن يوصد عليها قفصاً من حديد،
مبطناً بسياج من نحاس، داخل هذا السياج أزيز من رصاص، خوفاً عليه من
الكسر، قرار سنة 1948م، 1967م، 1968م، 1969م، 1971م، 1979م،
1980م.
تشهد عليه معاهدة السلام المصرية التي كان فيها اعتراف صريح بدولة
إسرائيل سنة 1979م.
تشهد عليه: جميلة الأقرع، وعائشة أبو الحسن، وعزبة محمد سلامة،
وحلوة زيدان، تشهد عليه: زيبة عطية، ودلال المغربي، ورابعة أحمد،
وتغزيد البطمة، وعزيزة حسين، تشهد عليه» وفاء علي إدريس «.
* بشرى النبي صلى الله عليه وسلم للفئة المؤمنة ووعد ربه لهم:
ألا فاستبشري يا تلك العصابة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا
تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من
جابههم، ولا ما أصابهم من البلاء، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول
الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس « [4] ، أما وقد نصرتم
أمر الله، ووعده الذي قطعه على نفسه في قوله: [َكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ]
(الروم: 47) .
يقول الفخر الرازي:» أي: نصر المؤمنين كان حقاً علينا..، وفيه تأكيد
البشارة؛ لأن كلمة (على) تفيد معنى اللزوم، فإذا قال حقاً أكد ذلك المعنى [5] .
فإن قلتم: أين النصر، وعدو الله طالت يده، واستشرى خبثه وقبح فعله، فعلا
وطغى وبغى؟ قلنا: أوَ ما كان في انهزام موسى لفرعون نصر له، أوَ ما جرته
هزيمته إلى أن أوقعت فرعون وقومه، غرقاً في اليم؟ هي سنة الله، وهو عدل الله
وانتقامه لمن آذى أولياءه تبارك وتعالى، ألا وإن الله جاعل في هزيمتكم نصراً.
* عجائب القدر مع الحجر:
وإني لأنظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولعدوهم قاهرين» ،
ويثنيني العجب مما رواه الطبري في تفسيره [6] ، وتاريخه، من أن نبي الله داود
عليه السلام الذي يتمسح به صهاينة إسرائيل لما خرج لمقاتلة جالوت، ألبسه
طالوت سلاحه، فكره أن يقاتله بسلاح، وقال: «إن الله إن لم ينصرني عليه، لم
يغن السلاح، فخرج إليه بالمقلاع، وبمخلاة فيها أحجار، ثم لما برز له، قال له
جالوت:» أنت تقاتلني؟ «قال داود:» نعم! «. قال:» ويلك! ما خرجت
إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! لأبدِّدَنَّ لحمك، ولأطعمنك اليوم الطير
والسباع، فقال له داود: «بل أنت عدو الله شر من الكلب» فأخذ داود حجراً
ورماه بالمقلاع، حتى نفذ في دماغه، فصرع جالوت وانهزم، واحتز داود رأسه «.
وكأني بداود عليه السلام وقد بعث برسالة مفادها: أن هؤلاء أعداء الله، وإن
ادعوا التمسح بي، فإني مع صاحب الحجر: إن نصر الله لا يتوقف على نوعية
السلاح، إن مقاتلة عدو الله مهما كانت مهابته أهون على ولي الله من هشاشة كلب،
إن تخصيص الأحجار بالذات فيه استئناس واستصحاب، ومشاركة وجدانية،
وإني لو كنت معكم، لقاتلتهم بالحجر، كما تقاتلونهم، إن فيه محض بشارة، بأن
صاحب الحجر، هو الغالب، وهو المنتصر، وأن تاج الملك لا بد أن يؤول إليه،
كما آل لداود عليه السلام.
ويعرف هذا من فقه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا تقوم الساعة،
حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء
الحجر والشجر، فيقول الحجر، أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي
خلفي، تعال فاقتله! « [7] ، يوم ينطق الله الحجر، أو الشجر، فيقول: يا مسلم،
كم لطخني هذا اليهودي، بدم الأبرياء والضعفاء، كم آذاني نجسه وقبحه، كم
آلمني ظله وقربه، تعال فاقتله، وخلصني منه، فإني لم أكلف بقتله.
يعرف هذا من فقه قوله تعالى: [وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا] (الإسراء: 8) ، بعد
ما ذكر قوله: [لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْن] (الإسراء: 4) ، إذ بعث الله عليهم
في المرة الأولى عدوهم وذكر أنه جالوت الجزري فاستباح بيضتهم، وسلك خلال
بيوتهم، وأذلهم وقهرهم؛ جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد؛ فإنهم كانوا قد
تمردوا، وقتلوا خلقاً كثيراً من الأنبياء والعلماء؛ وروي عن سعيد بن المسيب:
» لما أفسدوا في المرة الثانية، سلط الله عليهم عدوهم «بُخْتَنَصَّرَ» ، فخرب
بيت المقدس، وقتلهم، ثم أتى دمشق، فوجد دماً يغلي على كِبَا [8] ، فسألهم: ما
هذا الدم؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا، قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً «
قال ابن كثير:» وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه
قتل أشرارهم وعلماءهم، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ معه خلقاً
منهم أسرى من أبناء الأنبياء، وغيرهم، وجرت أمور، وكوائن يطول ذكرها «
[9] .
وهي دم كل نبي، ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال:
أيها الدم! أفنيت بني إسرائيل، فاسكن بإذن الله، فسكن» [10] .
* وإن عدتم عدنا «عودة وميعاد» :
أوَقد عادوا بالفساد مرة ثالثة؟ وقد أوعدهم الله بالعودة عليهم، وهي عودة
باقية إلى قيام الساعة، يعرف ذلك من فقه قوله تعالى: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَاب] (الأعراف: 167) ، عودة
تفنيهم عن آخرهم، فلا تبقي لهم باقية، عودة تبهج قلوب المؤمنين، وتشفي صدور
الموحدين؛ فعن قتادة في قوله تعالى: [وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا] (الإسراء: 8) ، قال:
«عاد القوم بشر ما يحضرهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث، من نقمته،
وعقوبته، ثم كان ختام ذلك أن بعث عليهم هذا الحي من العرب؛ فهم في عذاب
منهم إلى يوم القيامة» [11] .
أما الوعد، فأنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، منها:
«لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة» ،
«فينزل عيسى بن مريم» [12] .
وقوله: «والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً،
فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير» [13] .
* حقيقة المعركة:
من هنا تعلم أن اجتماع أهل الملل والنحل على مقاتلة أهل فلسطين والغلبة
عليهم، ما هو إلا جزء من رصيد الأعداء الكبير، وتاريخهم الطويل ضد الإسلام
وأهله، وحرصهم الدفين على هدم أركانه، وزعزعة بنيانه؛ فليست هي الأرض
ولا المال، إنما هو ذاك الدين الذي منّ الله به على شعب فلسطين، ذاك الدين الذي
طالما جرت عليه معارك طواحن، وفتن ملاحم، وهي سنة الله في خلقه، صراع
دائم بين الحق والباطل، قد تعلو راية الباطل مرة، لكنها أبداً لن تدوم؛ فالعاقبة
ليست له، وعلى الباغي تدور الدوائر، قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار، وإن
الله ناصر دينه، لا محالة فاعل، ومعز جنده ومنصف أولياءه وإن قل الزاد وعزت
الراحلة، ومذل رؤوس أعدائه وإن استشرى الزاد وروجت الراحلة، وليعلون دين
الله ولترفعن رايته رغم أنف الكافرين، وشرك المشركين، «وليبلغن هذا الأمر ما
بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله هذا الدين، بعز
عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» [14] .
__________
(*) باحث بمركز القبلة للموسوعات والبحث العلمي، مصر، المنيا.
(1) جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، 2/646.
(2) الدر المنثور، للسيوطي، 1/321.
(3) رواه مسلم في كتاب الإمارة، رقم 1920.
(4) المعجم الأوسط، للطبراني، 1/53، ح 47، وفتح الباري، 13/294، 295.
(5) التفسير الكبير، للإمام الفخر الرازي، 9 / 108.
(6) جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، 2/639.
(7) رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة رقم 2922، يقول الإمام ابن عثيمين: (الشجر والحجر ينطقه الله الذي أنطق كل شيء، أحجار تنطق، لماذا؟ لأن القتال بين المسلمين، وبين اليهود، أما بين العرب واليهود، فهذا الله أعلم من ينتصر؛ لأن الذي يقاتل اليهود من أجل العروبة، فقد قاتل حمية، وعصبية، ليس لله عز وجل، ولا يمكن أن ينتصر ما دام قاتل من أجل العروبة، لا من أجل الدين والإسلام إلا أن يشاء الله، ولو كان القتال من أجل الإسلام وباسم المسلمين، ما قامت لليهود قائمة، ولكن من جهل العرب صاروا يقاتلون اليهود من أجل العروبة) شرح رياض الصالحين، لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، 4/ 487 489.
(8) الكبا: القماش.
(9) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 8/ 438، وتفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، 7 / 2318، والتفسير الكبير، للفخر الرازي، 2/ 519، والبداية والنهاية، لابن كثير، 2/ 39.
(10) البداية والنهاية، لابن كثير، 2/ 55.
(11) جامع البيان في تأويل القرآن، 8/41.
(12) صحيح، رواه أحمد في مسنده، 4/ 429.
(13) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب قتل الخنزير، ح 2222.
(14) صحيح، رواه أحمد في مسنده، 4/ 103.(179/68)
المسلمون والعالم
المهاجرون الإرتريون في السودان
وتجدد المعاناة
إسماعيل عمار
تعد الهجرة أمراً عسيراً على النفس البشرية لما لها من آثار نفسية ووجدانية
وعاطفية؛ فالبعد عن الوطن ومراتع الصبا له شجون وشؤون يصعب محوه من
دائرة الذكريات.
إلا أن الهجرة قد تكون مطلباً شرعياً عندما يواجه المسلم عوائق تمنعه من
إقامة دينه، فيترك الأرض والأهل والأحباب حماية للدين وصوناً للعقيدة. قال
تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ
فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 97) ، ولذلك هاجر الصحابة رضوان الله عليهم إلى
الحبشة والمدينة عندما أذاقتهم قريش المر، وضيقت عليهم في أمور دينهم ودنياهم
فكانت الهجرة فرجاً ومخرجاً.
لقد عانى الشعب الإرتري من ويلات التسلط والاضطهاد نتيجة لتعاقب
الاحتلال الإيطالي والبريطاني، وأخيراً الإثيوبي على أرضه؛ مما جعله عرضة
لهدر موارده الطبيعية وطاقاته البشرية، واتخذ الاحتلال من أشلاء هذا الشعب
المستضعف سلماً يرتقي به نحو تحقيق مآربه السياسية والاقتصادية، وكان من أشد
ما مر على المسلمين في إرتريا فترة الاحتلال الإثيوبي؛ وبخاصة عهد هيلا
سيلاسي؛ حيث أذاقهم جميع صنوف الإذلال والاضطهاد والتنكيل والتشريد منطلقاً
من أهدافه الصليبية، وأحقاد أسلافه اليهود؛ حيث كان يدعي امتداد نسبه إلى النبي
سليمان عليه السلام.
وقد فجر المسلمون الثورة الإرترية المسلحة عام 1961م لتخليص البلاد من
براثن الصليبية، فاشتدت الوطأة على الشعب الأعزل؛ حيث سعى الإمبراطور
الإثيوبي إلى اتباع سياسة الأرض المحروقة، فأُجبر الإرتريون على ترك أراضيهم
بعد أن بلغ السيل الزبى، وعبر أول فوج من المهاجرين الحدود الإرترية السودانية
في فبراير عام 1967م، بعد أن أحرقت قراهم ومزارعهم ولم يبق لهم غطاء
يستظلون به من حر الشمس وقر البرد والأمطار، وقد بلغ عددهم ثلاثين ألفاً، ثم
توالت بعد ذلك الهجرات تشتد حيناً وتهدأ حيناً حتى جاوز عددهم مليون لاجئ، ولم
يتغير الوضع بسقوط نظام هيلا سيلاسي واستلام الشيوعيين زمام الأمر في إثيوبيا،
بل زاد الأمر سوءاً؛ نظراً لاشتداد المعارك بين الثورة الإرترية والنظام الإثيوبي،
والجفاف الذي أصاب بعض المناطق الإرترية في الثمانينيات، وها هو اليوم أيضاً
بعد مرور عشر سنوات تقريباً من استقلال إرتريا لا تزال الهجرة مستمرة،
وأصبحت العودة إلى الوطن أملاً صعب المنال.
ويمكن تلخيص الأسباب التي أدت إلى الهجرة قبل انتهاء الاحتلال الإثيوبي
في النقاط الآتية:
1 - أسباب دينية وثقافية:
بعد أن ضم هيلا سيلاسي إرتريا إلى إمبراطوريته بالتآمر مع الولايات
المتحدة بدأ في تنفيذ سياساته المعادية للإسلام واللغة العربية، وسعى إلى طمس
الهوية الإسلامية من خلال التضييق على المؤسسات الدينية كالمساجد والمعاهد
والمدارس العربية؛ حيث لم يعترف بشهادات هذه المعاهد والمدارس، وبالإضافة
إلى ذلك منع تدريس اللغة العربية في المدارس الحكومية، وحظر الصحف العربية
وأمر بمصادرة الكتب العربية التي تأتي إلى إرتريا من الدول العربية، فأحس
المسلمون بغربة دينية وثقافية في ديارهم، فاضطروا إلى البحث عن مكان يجدون
فيه العلوم الشرعية والثقافية الإسلامية، فاتجهوا إلى السودان وغيرها من الدول
العربية والإسلامية.
2 - أسباب أمنية:
يمثل الأمن ركيزة مهمة من ركائز الاستقرار والتنمية، والعمود الفقري لعملية
البناء الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ولما فقد الأمن اختار الكثير من الإرتريين
الخروج من هذا المأزق والهجرة خارج البلاد؛ فقد عانوا من الإرهاب الصليبي
الذي بدأ في الأربعينيات من قبل نصارى إرتريا بالتنسيق مع قوات الأمن الإثيوبية
بغية ضم إرتريا إلى إثيوبيا.
ولما تفجرت الثورة الإرترية في 1961م اشتد تأزم الوضع الأمني،
وتعرضت قرى المسلمين (مثل عونا وعد إبراهيم وإمبيرمي.. وغيرها) للمذابح
والإبادة والقصف الجوي، وأعلنت حالة الطوارئ في المدن، وفرض حظر التجول
بعد السادسة مساء.
ثم أتت حملات التجنيد الإجباري التي قامت بها كل من إثيوبيا والثورة
الإرترية على حد سواء، وبالغت الجبهة الشعبية الإرترية في ذلك فانتزعت
الحرائر من خدورهن باسم الواجب الوطني والخدمة الوطنية، فما كان من الشعب
إلا أن يهاجر حماية لنفسه وعرضه وماله.
3 - أسباب سياسية:
شهدت إرتريا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية صراعاً سياسياً تمثل في
المطالبة بالاستقلال الذي نادى به المسلمون، والمطالبة بالانضمام إلى إثيوبيا الذي
تزعمه النصارى؛ مما أوجد ضغوطاً على المطالبين بالاستقلال بعد ضم إرتريا
قسراً إلى إثيوبيا، وتعرض الكثير منهم للسجن والتعذيب والإبعاد، وهاجر الكثير
منهم إلى خارج إرتريا هرباً من هذا الجحيم، ومواصلة للنضال السياسي من خارج
البلاد.
4 - أسباب اقتصادية:
تعمد الاحتلال الإثيوبي إضعاف الاقتصاد الإرتري بنقل المصانع الإرترية إلى
داخل إثيوبيا، ووضعه المعوقات المانعة من قيام مؤسسات اقتصادية كبيرة في مدن
إرتريا، فلم يبق للمسلمين الذين استبعدوا من الوظائف الحكومية أيضاً إلا المهن
التجارية والزراعية والرعوية المتواضعة، وقد تأثرت هذه الأعمال أيضاً بحالة
الحرب التي عاشتها إرتريا، بالإضافة إلى الجفاف الذي ضرب أغلب مناطق
إرتريا في 1983 - 1985م، فاضطر الناس إلى البحث عن ما يسدون به رمقهم،
ويتمكنون من الحصول على لقمة العيش الكريمة.
* وضع المهاجرين الإرتريين بالسودان:
دأبت الحكومة السودانية على استقبال اللاجئين الجدد في معسكرات استقبال
مؤقتة ريثما يتم نقلهم إلى المعسكرات الثابتة التي تحتاج إلى تجهيز المساكن
والمرافق العامة المختلفة، ويواجه الإرتريون في معسكرات الاستقبال هذه معاناة
بالغة القسوة نظراً لعدم توفر المرافق الصحية وتأخر المعونات الغذائية فيها،
وعندما يتم نقلهم إلى المعسكرات الثابتة تبذل بعض الجهود الصحية والتعليمية
والاقتصادية من قبل مفوضية اللاجئين والهيئات الخيرية.
وبالرغم من ذلك فإن وضع المهاجرين يواجه مشكلات بالغة التعقيد؛ ففي
مجال التعليم نجد أن المدارس الابتدائية في بعض المعسكرات غير مؤهلة لأداء
رسالتها التعليمية من ناحية تأهيل الفصول الدراسية ووجود وسائل تعليمية تعين
المدرس والطالب على حد سواء في إنجاز مهماته؛ مما أدى إلى عزوف الطلاب
عن التعلم واتجهوا إلى البحث عن أعمال تعينهم على تحسين وضعهم المعيشي.
وفيما يخص الأمور الصحية فإن المراكز الصحية في مناطق المهاجرين غير
قادرة على الوفاء بحاجات السكان من ناحية توفر الأدوية والمعدات الطبية مما
يكلفهم الذهاب إلى بعض المدن لتلقي العلاج المناسب، وقد انحسرت المعونات فيما
بعد الاستقلال نظراً لتوقف المنظمات التطوعية التي كانت تعمل في وسط
المهاجرين بحجة استقلال إرتريا وانتهاء الحرب التي كانت قائمة بين الثورة
الإرترية وإثيوبيا.
* تجدد المعاناة بعد الاستقلال:
كان من المؤمل أن تتلاشى معاناة الهجرة والتشرد عن الشعب الإرتري عشية
استقلال إرتريا عن الاحتلال الإثيوبي، وكان الإرتريون يحلمون قبل التحرر أن لا
يتجاوز مكوثهم في الأراضي السودانية بعد الاستقلال يوماً واحداً، إلا أن الواقع كان
غير ذلك، وذهبت أحلامهم أدراج الرياح.
في بدايات الاستقلال عاد عدد غير قليل من الإرتريين إلى ديارهم طوعاً
بطريقة فردية نظراً لبلوغ عامل الشوق إلى أرض الأجداد لديهم مبلغه، فلم ينتظروا
مساعدات المنظمات الدولية وترتيبات الحكومات المعنية، بل آثروا العودة إلى
الديار مهما كلفهم ذلك من جهد مادي أو متاعب جسدية.
ثم بدأت بعض الترتيبات الخاصة بتنظيم العودة الطوعية للاجئين بالتنسيق
بين السودان وإرتريا ومفوضية اللاجئين وأطلق عليه (المشروع الرائد) ، ونظراً
للخلافات التي وقعت بين النظام في أسمرا ومفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة
حيث طلبت إرتريا ربط عودة اللاجئين بالتوطين وببرامج شاملة لاستيعابهم،
وأصرت على العودة الانتقائية، وتسجيل اللاجئين تحت إشرافها، ولم تقبل
المفوضية بذلك فلم يتمكن هذا المشروع إلا من إعادة الدفعة الأولى فقط التي تتكون
من 25000 لاجئ في نوفمبر عام 1994م، وحتى هذه الدفعة لم يتم توطينها
بصورة مثلى؛ حيث لم يقدم لهم من المسكن والغذاء وغيره إلا الشيء اليسير الذي
لا يسد الرمق، وتوقف المشروع بعد ذلك؛ حيث أغلق النظام الإرتري مكتب
المفوضية في أسمرا، وطرد العاملين فيها في مايو 1997م، ثم جاءت الحرب
الإرترية الإثيوبية الجديدة التي اندلعت في مايو 1998م، وبلغت أشدها في مايو
ويونيو 2000م، فأوقفت جميع أعمال العودة، بل تجددت الهجرة والمعاناة مرة
أخرى، وتدافع اللاجئون الذين قارب تعدادهم مائة ألف لاجئ إلى الأراضي
السودانية وعلى وجوههم عظم حجم المأساة؛ حيث تشتتت الأسر بطريقة عشوائية
فلا يدري والد عن ولده وزوجته شيئاً، وهم كذلك، وتوفي الكثير منهم في الطريق
بسبب العطش والجوع والمرض، ووصل من وصل إلى معسكرات اللاجئين في
حالة من الإعياء الشديد، وهذه المعسكرات هي:
1 - معسكر قلسا:
ويقع جنوب مدينة كسلا السودانية على بعد 30 كيلو متراً، ووصل إليه
حوالي (32000) مهاجر، يسكنون في خيم البلاستيك المتلاصقة، وفي وضع
صحي وغذائي سيئ تتفطر لرؤيته القلوب الرحيمة والضمائر الحية؛ حيث توزع
عليهم المواد الغذائية عبر طوابير طويلة.
2 - معسكر اللفة:
ويقع جنوب غرب مدينة كسلا على بعد 30 كيلو متراً، وبلغ عدد المهاجرين
فيه حوالي (37000) مهاجر، معظمهم ممن أتى من مدن غرب إرتريا.
3 - معسكر الشجراب:
ويقع جنوب غرب كسلا على بعد 120 كيلو متراً، وهو من المعسكرات
القديمة، وبلغ المهاجرون الجدد فيه حوالي (25000) مهاجر منهم (300) من
الجنود الإرتريين؛ مما زاد الضغط على الإمكانات الضعيفة التي كانت في هذا
المعسكر من قبل.
والعادة أن تسارع المنظمات التابعة للأمم المتحدة، ومنظمات تطوعية
وتنصيرية بتقديم المساعدات العاجلة في مثل هذه الأحوال، وفي الوضع الحالي
للاجئين الإرتريين فإن المنظمات الإسلامية في هذه المرة زاحمت المنظمات
التقليدية القديمة، وأسهمت بشكل واضح في تخفيف المعاناة سواء من جانب تقديم
المواد الإغاثية أو بناء المساجد، وتكوين مراكز تحفيظ القرآن الكريم؛ مما أثلج
صدور الغيورين على الدين الإسلامي.
* مشروع العودة مجدداً:
قبل أن تصل الحرب الإرترية الإثيوبية إلى محطة السلام النهائية سارع
النظام في إرتريا إلى العمل على إعادة هؤلاء المهاجرين الجدد، وجند وسائل
إعلامه ومفوضية اللاجئين الإرترية وغيرهم من مسؤولي حكومته لإنجاح هذا
المشروع، وبالرغم من الجانب الإنساني الذي أظهره النظام لهذا المشروع فإن
المحللين يرون أن النظام في أسمرا لم يؤرقه الجانب الإنساني لهؤلاء اللاجئين، بل
الهدف ينحصر في تأمين القوى البشرية لحروبه المتكررة، وتسخير ما يقدم باسمهم
من الإغاثات إلى خزينته؛ حيث أبدى أفورقي امتعاضه من تقديم المساعدات
للهاجرين عن طريق السودان، كما أنه يخشى من تأثر المهاجرين بالثقافة الإسلامية
التي ظل يعمل طيلة السنوات العشر الماضية على طمسها في إرتريا.
وبالرغم من عودة بعض المهاجرين بطرقهم الخاصة ووفق هذا المشروع، إلا
أن غالبية المهاجرين وقفوا ضد هذا المشروع وأبدوا اعتراضهم على ذلك، ووجهوا
كثيراً من الأسئلة التي أحرجت وفد الحكومة الإرترية ورئيسة مفوضية اللاجئين،
وبخاصة عن ضمانات العودة التي لا تتفق واتفاقية جنيف؛ حيث لا يتوفر في
إرتريا اليوم الأمن والسلام؛ حيث الاتفاق بين إرتريا وإثيوبيا لم يزل هشاً،
وحملات التجنيد الإجباري تتواصل، والاغتيالات ما زالت تلاحق المواطنين حتى
الذين هاجروا إلى داخل السودان كما حدث في معسكر الشجراب؛ لذلك كان الإقبال
على مراكز التسجيل ضعيفاً؛ مما يوحي بعدم نجاح هذا المشروع كما خطط له.
* الهجرة ما لها وما عليها:
من العسير جداً أن تجد شراً محضاً أو خيراً محضاً، بل الغالب أن يغلب
الخير أو الشر على الشيء؛ فيأخذ حكم الغالب عليه وصفته؛ لذلك فإنه من الصعب
جداً وصف هجرة الإرتريين إلى السودان بالشر المحض رغم ما كابده الشعب
الإرتري من العناء والضنك ما الله به عليم، كذلك لا يمكن القول بأنها كانت خيراً
محضاً، إلا أنه يمكن الإشارة إلى أهم الآثار الإيجابية التي نتجت عن هجرة
الإرتريين:
1 - الأثر الثقافي:
لما كان اللاجئون خليطاً بين أهل المدن وأهل القرى والبادية؛ فإن الكثير
منهم لم تكن الفرصة مواتية له لتلقي التعليم في قريته أو باديته، ولما هاجر إلى
السودان سنحت له فرصة التعليم في المدارس والمعاهد العربية والإسلامية التي
أنشأتها المنظمات الخيرية والحكومة السودانية وغيرها، مما ساعد المهاجر على
تلقي علوم إسلامية شرعية، وتكوين ثقافة إسلامية مميزة أبعدتهم عن الأفكار
المستوردة، وقادتهم إلى حمل همِّ الدعوة ومشاعل التغيير نحو الإسلام.
2 - الأثر الاجتماعي:
بالرغم من المعاناة التي يتحملها المهاجرون من الناحية الاجتماعية من فقد
الرباط الاجتماعي، وتباعد الأسرة الواحدة، وتعرض بعضها لفقد العائل بسبب
انتشار الأمراض والأوبئة، وفقد البعض الآخر لانتمائه نحو مجتمعه نظراً لطول
زمن الهجرة وتأثره بالبيئة السودانية، وبخاصة ساكني المدن؛ فإن من الإيجابيات
الاجتماعية لهجرة الإرتريين حدوث انفتاح اجتماعي بين القبائل والعشائر الإرترية،
تمثل ذلك في إتاحة فرصة التزاوج والتصاهر والتعاون بينهم، والإحساس بوحدة
الهدف والمصير.
3 - الأمن والاقتصاد:
يمكن القول بأن المهاجرين قد وجدوا في السودان ملاذاً آمناً من الحروب
المتواصلة التي أنهكت قواهم وأقضت مضجعهم، وأمنوا على أعراضهم من انتهاك
قوى الشر لها بدعوى الخدمة الوطنية الإلزامية التي أفسدت الكثير من بنات
المسلمين.
وبالرغم من فقد المهاجرين الكثير من ممتلكاتهم المالية والعينية نتيجة تركهم
لها في إرتريا فراراً بأنفسهم، فإن الكثير منهم تعرف على مهن جديدة وطرق كسب
الرزق التي تعينه على تجاوز صعوبات الحياة مما لم يكن له علم بها من قبل، وقد
أتيحت للكثير منهم الفرص لتخطي حاجز الحدود والوصول إلى دول الخليج
وأوروبا بغرض العمل؛ مما ساعدهم على تحسين وضعهم المعيشي ومعاونة أهليهم
في الداخل والمهجر.
وعلى كل فإن مأساة المهاجرين الإرتريين ما زالت مستمرة، وهي بحاجة إلى
وقفة جادة وصبورة من قبل أهل الخير والإحسان من الشخصيات الإسلامية
والمنظمات الخيرية المسلمة؛ لتعينهم على تجاوز محنتهم في توفير المواد الغذائية
والعلوم الشرعية الضرورية التي تصلح لهم دينهم ودنياهم، وبخاصة أن أغلب
المهاجرين الإرتريين الذين يعيشون في السودان هم من المسلمين.(179/72)
المسلمون والعالم
حول الاستفتاء الشعبي للرئاسة
باكستان.. ألم تصل سن البلوغ بعد؟
ولي خان المظفر [*]
من الطبيعي أنه لا يمكن أن توجد مماثلة تامة، وموافقة كاملة، ومطابقة كلية
بين فكرين أو بين رأيين، فأنت تفكّر حول شيء لخلفيات، والآخر يفكر حول
الشيء نفسه لأسباب أخرى؛ فكل تصور حينما يتصور أو يطرح للمناقشة تختلف
فيه المخيلات والأذهان، ولو بقليل، وهذا هو السبب الحقيقي لاختلاف الآراء.
فالمجتمعات الجمهورية والبيئات الديمقراطية يحق فيها لكل فرد أن يختلف
عن الآخر، ويُظهر رأيه المناقض له، ولا يُعدُّ هذا عيباً أو جريمة أو جُناحاً،
ولذلك ترى في الدول الجمهورية الكبرى اختلاف عامة الناس وبخاصة عن كبار
مسؤولي الدولة في الحكومة، حتى الوزراء والرؤساء، ويستخدم المخالف سائر
وسائل الإعلام والإبلاغ ما أمكن له منها.
فانطلاقاً من هنا أود أن ألفت أنظار قرائنا الأعزاء في أنحاء العالم بإشارات
إلى مسرحية الاستفتاء الشعبي (Referendum) للرئاسة في باكستان يوم 30
إبريل الماضي.
هذه المسرحية قُدمت للمرة الثالثة في باكستان على شاشة السياسة العسكرية:
1 - قدمها الجنرال أيوب خان سنة 1960م، وادعى أنه قد أحرز النجاح
بنسبة 93% من بين جميع الأصوات الملقاة في صناديق التصويت.
2 - ثم قام بتقديمها الجنرال ضياء الحق، ونادى أنه حصل على 97% من
النسبة المئوية عام 1984م.
3 - وأخيراً جاء دور الجنرال برويز مشرف الذي يزعم أنه تقدم على سابقيه
في الفوز بالنسبة المئوية، وهي 98% في استفتاء أبريل الماضي.
مع أن كل واحد من هؤلاء الجنرالات أزاح حكومة وعزل حاكماً إصلاحاً
للنظام السياسي حسب دعمهم فاستولوا على كراسي الحكومة لأوقات محددة إقامة
للانتخابات الشعبية حسب قولهم لكن لما نالوا سمعة الرئاسة، وتملق المرتزقين
السياسيين ومجاملة الإداريين الحكوميين عزموا على البقاء على كرسي السلطة
والركوب على فرس الأمر والنهي، فاحتالوا في ذلك حِيَلاً، وسوغوا تسويغات،
وزينوا أعمالهم الدراماتيكية كصنائع وطنية، متمسكين بأهداب الحكم والاقتدار كل
تمسك، رافضين وراءهم الدستور الوطني، والقيم الخلقية، والأعراف الدولية،
والمناهج السياسية، والمواثيق الشعبية، إلى أن افتضحوا وخجلوا، وصاروا عظة
وعبرة لمن بعدهم، وما استقالة أيوب، ولا اغتيال ضياء الحق من العارفين ببعيد!
المشكلة العظمى والمصيبة النكراء أنه لا يتعظ أحد من الحكام بمصير من
سبقه في الحكومة ومن عقبه ممن تقدمه في السلطة؛ وإلا فميدان تاريخ السياسة لهذه
الدولة مليء بالصرعى، والقتلى، والجرحى، والمنهزمين. فدونك على سبيل
المثال الرئيس غلام محمد سنة 1951م الذي سيطر على الحكم بعد اغتيال لياقة
علي خان، ورشح الخواجة ناظم الدين لرئاسة الوزراء، ثم أسقط حكومته سنة
1953م سخطاً عليه، وانتخب محمد علي بوغره رئيساً للوزراء، فلما أراد هذا
الأخير تقليل اختيارات الأول شعر به فألغى المجلس الوطني إنهاء لحكومة بوغره
سنة 1954م، فوصل إسكندر مرزا إلى دهليز القصر الرئاسي، فشرد الغلام
وتسلط على كرسي رئاسة البلاد، فانتخب شوهدري محمد علي للوزارة العظمى،
ثم أبعده بعد سنة وأجلس على ذلك الكرسي محمد حسين السهروردي، ثم بعد سنة
زحزحه وجاء بآي تسندريغر وعزله بعد 69 يوماً، واستبدله بفيروز خان نون،
ولم يطمئن قلبه هنا فأشار على الجنرال أيوب خان أن ينفذ الحكم العسكري
(Law Martial) في البلاد استحكاماً لغطرسته على الرئاسة عام 1958م، ولكن
سرعان ما ظهر أن الثاني كان جائعاً مثله، فدحر الأول عن قصر الرئاسة ذليلاً،
وظهر على جبين باكستان كديكتاتور جديد، وفعل ما فعل سابقوه من الاستهزاء
برأي الشعب، وتذليل كبار قادة السياسة، وتغيير بعض القوانين الإسلامية في
الدستور الوطني، وإيقاع الدولة في الحروب مع جيرانها و ... و....، لكن متبنيه
الجنرال يحيى خان الذي قام بفصل عضو من الدولة عنها (بنجلاديش) حال بينه
وبين الرئاسة عام 1969م، وأمره بإخلاء القصر الرئاسي، ثم هذا الأخير فوض
النظام الإداري إلى ذو الفقار علي بوتو الذي وعده على إبقاء رئاسة الدولة له سنة
1971م، فلما استحكم إدارياً رمى بالجنرال من سرير الحكم، وأخذ مكانه،
وتغطرس في أرض الله تعالى، حتى رغب في تغيير البلاد من جمهورية إسلامية
إلى شيوعية اشتراكية، فجاء الجنرال ضياء الحق وأعدمه عام 1977م، ونبذ
محمد خان جونيحو عن الوزارة العظمى بعد انتخابه، وقام بالاستفتاء الشعبي لتمديد
فترته الرئاسية، فعين غلام إسحاق خان رئيساً للبلاد من نافذة مجلس الشيوخ فحذا
حذو السابقين حتى قدّم بي نظير كأول وزيرة عظمى في البلاد الإسلامية التي كانت
تتصور أنها سوف تكون ملكة للدولة طول الحياة، فلما أسخطته فنفاها من إسلام
أباد إلى كراتشي في لمحة واحدة، وجاء بعدها بنواز شريف متبني ضياء الحق
سياسياً، ثم بفاروق اللغاري الذي ألغى المجلس الوطني لحكومة بي نظير التي
نصبته رئيساً للبلاد، وجاء بنواز بصفقة سرية حول تمديد فترة الرئاسة له، فأخلفه
الثاني الوعد بعد مجيئه إلى السلطة حتى أجبره على الاستقالة مستبدلاً به محمد
رفيق تارر، فصعد على رأس نواز سدة الحكم في هذه الدولة المنكوبة، فبدأ بعزل
رئيس القوات يوماً، وكبير القضاة يوماً آخر، ويغير وزيراً بوزير، وسفيراً بسفير،
وجنرالاً بجنرال، وله أعمال من دون ذلك كان لها عاملاً حتى أراد أن يعزل
رئيس القوات الجديد (برويز) الذي نصبه هو بنفسه، فلم يتمكن، ووصل الأمر
إلى ما وصل، حتى ذاق مرارة السجن مدة طويلة وليس هو فقط، بل أفراد أسرته
جميعاً، إلى أن رآه الشعب على شاشة التلفاز باكياً في السجن حيناً وناعباً في
المحكمة حيناً آخر، وأخيراً غُرِّب من الوطن ونُفي من البلاد صفر اليدين، وسُلبت
أمواله، وقبضت قصوره وعقاراته.
والآن ترون في الملعب الجنرال برويز وحيداً فريداً، الذي خلع صانعه
الأكبر نواز وأخذ زمام الدولة بيده، وسمّى نفسه باسم غريب في سياسة هذه البلاد
رئيس السلطة التنفيذية (Executive Chief) ، ثم بعد عام أشار عليه أخدانه
أنه لا تليق بكم إلا رئاسة الدولة، فأمر تارار أن يربط عفشه وينتقل إلى مولده دار
لاهور، وعلى هذا المنوال لم يقتنع، حتى أعلن عن عقد استفتاء شعبي حول
رئاسته لمدة خمس سنوات مقبلة، وأنفق عليه 500 مليون روبية باكستانية لهذا
الشعب الفقير، ونجح أم لم ينجح؟ والناس أسهموا في التصويت أم لم يشتركوا؟
وهل التزويرات ظهرت فيه كالسابق أم لا؟ وهل عدت وكالات الأنباء المحلية
والخارجية طرق الانتخاب شفافة أم مزورة؟ وهل أكرهت الإدارات الحكومية حتى
محاكم العدل في المجال أم لم؟ وما إلى ذلك من الجوانب الأخرى؟
هذه تساؤلات أجوبتها منشورة ولا تزال تنشر يومياً في الجرائد والصحف
المحلية والعالمية، نحن لا نريد أن نُطيل الكلام بذكرها إلا أننا حينما نلقي نظرة
عابرة على تاريخ الدولة فنرى مشاهد دراماتيكية، ومناظر مسرحية وصراعات
بهلوانية، مرحلة إثر مرحلة، وما أحسن ما قاله المتنبي، وما أجمله انطباقاً على
حكام دولتنا واحداً تلو الآخر:
تملكها الآتي تملُّك سالبِ ... وفارقها الماضي فراق سليب
فباكستان لم تصل سن الرشد سياسياً بعد، ولذا فإنها تفقد الاستقرار السياسي
منذ تأسيسها إلى اليوم؛ فهي أشبه ما تكون بمدرسة تدريبية لمختلف الأنظمة
السياسية، كالنظام الرئاسي، والوزاري، والجمهوري والعسكري والديكتاتوري،
ولم يكمِّل فيها أحد مدته الدستورية من رئيس ولا وزير، بل ومن المؤسف أنه لم
يخرج أحدٌ من قصرها الرئاسي ولا من دار وزارتها العظمى سالماً آمناً، معززاً
مكرماً، لأجل استغلالهم الشخصي، واستهلاكهم الذاتي دائماً، ولذا هي اليوم مهددة
من كل الجوانب داخلياً وخارجياً، رغم وجود شعب أبيٍّ غيور مجاهد.
فالآمال التي عُلقت بها للمسلمين في أنحاء العالم لم تثمر ولم تنتج كل الثمار
وكل الإنتاج؛ فنسأل الله العلي القدير العفو والغفران، وأن يرزقنا صلاحنا، قبل
أن نكون مصداقاً للآية الكريمة: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) [**] .
__________
(*) نائب رئيس التحرير لمجلة الفاروق، ومدير معهد اللغة العربية والدراسات الإسلامية، بالجامعة الفاروقية بكراتشي.
(**) نحسب أن عهد الرئيس الأسبق ضياء الحق مع ما فيه من سلبيات هو من أحسن العهود التي نالت فيها باكستان القوة والوجاهة غير أن المحاولة الإجرامية لاغتياله - رحمه الله - قد قضت على الأمال الطيبة التي كان المسلمون ينتظرونها لهذا البلد الإسلامي، وسبق للمنتدى الإسلامي أن أصدر دراسة وثائقية عن ضياء الحق وعهده فيها الكثير والكثير من الإيجابيات عن ذلك العهد ومن ذا الذي لا يسيء قط ومن له الحسنى فقط.(179/76)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@hotmail.com
الدولة المارقة
إن جورج بوش فعل شيئاً لإرساء أسس ومعايير للضربة الوقائية «ونحن
مدينون له» بتلك القاعدة بقوله: «من أجل مستقبل الحضارة يجب ألا نسمح
لأسوأ قادة العالم بتطوير ونشر أسلحة الدمار الشامل، لابتزاز بلدان العالم الحرة» .
واستطرد بوش ليحدد هؤلاء الأعداء للبشرية، ويصفهم بالنظم المارقة التي
تنوي تطوير أسلحة الدمار الشامل، والحكومات التي تسجن خصومها بدون
محاكمات، والتي تعجز عن ادعاء الشرعية الديمقراطية في أوطانها.
من الواضح أن بوش في سلسلة خطبه الأخيرة قد ذكر تلك النظم المارقة
بالاسم، لكن الأكثر وضوحاً هو توصيفه وتحديده لسمات الدولة المارقة، وهو ما
يعنينا.
فالحكومة التي تنفق بسخاء على أشد أسلحة الدمار فتكاً وتدميراً، وتخطط
الآن لزيادة ميزانيتها العسكرية بمعدل يفوق كل ميزانيات الدفاع في أوروبا، هذه
الحكومة المارقة تقبع في واشنطن. فهي ليست معنية فقط ببناء ترسانات عسكرية
لم يشهد لها العالم نظيراً، بل تنسحب وحدها من كل المعاهدات والاتفاقيات
المخصصة للحد من انتشار التسلح النووي، وترفض فوق ذلك القبول بأي رقابة
دولية لمنشآتها النووية الكيماوية.
يجلس بوش على دست حكومة وسلطة بلا شرعية ديمقراطية ورغماً عن
الأغلبية، وفي يديها تمسك بقيادة قطاع ضئيل من الشعب ساعية لممارسة توارث
الحكم.
وتمثل خطب بوش الأكثر عدوانية ضد أي من معارضيه وأعدائه الذين
يضعهم خلف جدران السجون بدون محاكمات أو التمتع بحق الدفاع القديم قدم
حضارة الإغريق.
حقاً، هذه الدولة المارقة لها تاريخ طويل وباع أطول في التدخل في شؤون
جيرانها، وغزو أراضيهم.. خذ على سبيل المثال بنما، هاييتي.. إلخ. لكن منذ
حربها الطويلة والمخزية في فيتنام تقوقعت داخل حدودها. هذه الدولة المارقة،
بنظامها الغريب البغيض، مستعدة لتسميم شعبها بالفساد الرأسمالي، وقتله
بالاحتباس الحراري؛ فلقد أظهرت واشنطن تصميمها وعزمها على فرض هيمنتها
وتنفيذ ما تراه، وأظهرت استعدادها لاستخدام أسلحة الدمار والقصف الجوي التي لا
تعرف فرقاً بين العسكريين والمدنيين. هذه الدولة المارقة ليست صديقة للديمقراطية،
أعلنت رفضها للتعامل مع زعيمين منتخبين في العالم الإسلامي محمد خاتمي في
إيران، وياسر عرفات في فلسطين. والأخير يعتبر الوحيد في العالم العربي الذي
انتخب بحضور مراقبين أوروبيين غربيين. هذه الدولة المارقة تسلح وتحمي
إرهاب الدولة وعمليات الاغتيال الإسرائيلية، ونصبت أسوأ أمراء الحرب
والعصابات في أفغانستان، ووفقاً لتقارير مخابراتها ساهمت في انقلاب فاشل أطاح
لفترة وجيزة بهوجو شافيز من رئاسة فنزويلا.
[الكاتب البريطاني أدريان هاملتون، صحيفة البيان الإماراتية، العدد (8089) ]
الثمن
علم في العاصمة التركية أن مجلس الشيوخ الأمريكي أقر تقديم مساعدة مالية
إلى تركيا بقيمة 228 مليون دولار؛ وذلك عن دورها في قيادة قوات حفظ السلام
الدولية في أفغانستان (إيساف) وذلك في أعقاب مصادقة مجلس النواب عليه يتم
بعده تسليم قيمة المساعدة إلى تركيا.
وتتألف المساعدة المالية من قسمين الأول بقيمة 28 مليون دولار خاصة
بالمصاريف العسكرية لإيساف والبقية كدعم اقتصادي لتركيا.
وتأتي هذه المساعدة ضمن مشروع عرضته إدارة بوش على الكونغرس
الأمريكي في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) لمكافحة الإرهاب قيمته 9.28
مليار دولار لمواجهة مصاريف العمليات العسكرية الخاصة بمكافحة الإرهاب
ومساعدة الدول الداعمة لهذه العمليات وبينها، إضافة إلى تركيا، كل من إسرائيل
وأفغانستان وباكستان وقرغيزيا وأوزبكستان وطاجكستان وأندونيسيا.
وتشير بعض المصادر التركية إلى احتمال تقديم واشنطن مساعدات أخرى إلى
تركيا قبيل الحملة المحتملة ضد العراق.
[صحيفة الزمان، العدد (1271) ]
يذبحون رجالهم
اتهمت إحدى المنظمات العالمية لحقوق الإنسان السلطات العسكرية الروسية
في جمهورية الشيشان بالقيام بحملة إعدامات في الجمهورية تهدف إلى الحد من
أعداد السكان الذكور في الجمهورية التي تسعى للانفصال عن روسيا.
وادعت المنظمة التي تطلق على نفسها اسم فيدرالية هلسنكي العالمية أن
الرجال في الجمهورية يتم اختطافهم وقتلهم بشكل منظم خلال عمليات التفتيش التي
تنفذها القوات الخاصة الروسية هناك.
وجاءت الاتهامات في بيان للمنظمة من تصريحات صادرة عن السلطات
المعينة من قبل روسيا في الشيشان، وتضمنت المطالبة بوقف ما وصفته بالأعمال
الوحشية تجاه المدنيين وإلى إجراء تحقيقات في حالات عديدة من الاختفاء القسري
التي لا يتم تفسيرها. القوات الخاصة الروسية تتمتع بقيود مخففة. ويقول كبير
ممثلي المنظمة إن هناك ما بين خمسين وثمانين جثة يتم اكتشافها كل شهر عقب
العمليات التي تقوم بها القوات الروسية الخاصة. وإن الغالبية العظمى منها لشباب
وفتيان.
وتضيف المنظمة أنه إذا ما أخذ في الاعتبار أن عدد سكان الشيشان أقل من
نصف مليون مواطن فإن حجم عمليات القتل يعد غير مسبوق. ولم يصدر أي
تعليق عن المسؤولين الروس إلا أن الإدارة الشيشانية التابعة لروسيا تقول إنه لا
يوجد أي سبيل لمحاسبة المسؤولين عن تلك العمليات على الرغم من وجود قواعد
تحتم على أفراد القوات الروسية الخاصة التعريف بهوياتهم بصورة واضحة
لمرافقيهم من المسؤولين الشيشانيين المحليين.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد عين مؤخراً مبعوثاً خاصاً لشؤون
حقوق الإنسان في الشيشان فيما يعد اعترافاً ضمنياً منه بوجود انتهاكات لحقوق
الإنسان في البلاد. وقد تعهد المبعوث وهو من أصل شيشاني بوقف علميات
الاختطاف من خلال تعزيز السلطات الشيشانية المحلية.
[موقع هيئة الإذاعة البريطانية - www.bbcarabic.com]
استغنوا عن الذل!
حذرت واشنطن الدول التي ستنضم إلى الاتفاقية الخاصة بالمحكمة الجنائية
الدولية التى أنشئت في يوليو الماضي بأنها ستقطع عنها كل مساعدة عسكرية
أميركية إذا لم تلتزم بعدم تسليم أي أميركي ليحاكم أمام هذه المحكمة وفق ما ذكرت
صحيفة «نيويورك تايمز» .
وأشارت الصحيفة إلى أن التحذير يأتي في إطار قانون مكافحة الإرهاب
الجديد الذي وقعه الرئيس الأمريكي، وقد تم إبلاغه إلى السفراء المعنيين.
وأوضحت الصحيفة أن جميع البلدان التي تقيم علاقات مع الولايات المتحدة
تستفيد بشكل أو بآخر من مساعدة عسكرية من جانب واشنطن تكون أحياناً على
شكل دورات تدريب للكوادر أو شراء تجهيزات.
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد (8089) ]
قريباً إلى التفكك
وجدت دراسة أجرتها جامعة هارفارد الأمريكية أن حالات الفصل العنصري
بين الأطفال المنحدرين من أصول لاتينية وأفريقية ازدادت خلال عشر السنوات
الماضية في الولايات المتحدة.
وبينت الدراسة التي أطلق عليها «مشروع الحقوق المدنية» أنه بعد نحو
50 عاماً تقريباً، أي منذ أن منعت المحكمة العليا الأمريكية الفصل العرقي في
المدارس الأمريكية عاد مرة أخرى في معظم المدارس التي شملتها الدراسة.
وتضع الدراسة باللائمة على عاملين ساهما في اتساع الهوة العرقية، هما
الفقر والسياسة الحكومية.
ووجدت الدراسة أن أسوأ حالات الفصل العنصري لا تزال شائعة في
الولايات الجنوبية، حيث وقعت أعنف المعارك التي خاضها دعاة الحقوق المدنية
خلال الخمسينيات والستينيات. ودرس المشروع 185 مدرسة من أكبر مدارس
الولايات على مدى 14 عاماً. وتوصلت الدراسة إلى نتائج عامة، وهي: إن
اختلاط الطلاب السود بالبيض لم يزد إلا في أربع مدارس من مجموع 185 مدرسة
التي شملتها الدراسة، وأن اختلاط الطلاب المنحدرين من أصول لاتينية بالبيض
ازداد في ثلاث مناطق فقط، كما أن الفصل العرقي بين الطلاب البيض والسود
ازداد في 53 منطقة.
ويقول الباحثون إن نتائج التعداد العام للسكان لعام 2000م بين أن الولايات
المتحدة أصبحت متعددة الأعراق أكثر من أي فترة مضت، لكن معظم الأقليات فيها
تعيش في مناطق فقيرة مما يفاقم من حدة الفصل العرقي في المدارس.
[موقع هيئة الإذاعة البريطانية - www.bbcarabic.com]
حضارة كندية
بعد أن استأنف وزير العدل الكندي مارتن كوشون قرار إحدى محاكم مقاطعة
أونتاريو بتعريف الزواج على أنه اتحاد شرعي وطوعي بين (رجل وامرأة)
حصراً بأنه يناقض الدستور الكندي، أعلنت الحكومة الكندية أنها ستشكل لجنة
برلمانية لاستشارة الأهالي حول قضية الزواج بين مثليي الجنس.
وقال رئيس الوزراء جان كريتيان إثر اجتماع مع أبرز وزرائه: (نريد أن
نشكل لجنة لاستشارة الكنديين وخبراء حول القضية) ، واعتبر الوزير الكندي أنه
من الضروري أن تؤدي الحكومة دوراً فاعلاً في القضية وألا تتركها للمحاكم وحدها.
وحتى الآن، سمحت عشر مقاطعات كندية بينها كيبيك وأسكتلندا الجديدة
السماح بالارتباط المدني بين أشخاص من الجنس نفسه ومنحهم الحقوق نفسها التي
تعطي للأزواج من جنسين.
[صحيفة الزمان، العدد (1283) ]
مدد الباب العالي!!
قالت تركيا إنها توصلت إلى اتفاق تبيع بموجبه خمسين مليون متر مكعب من
المياه سنوياً إلى إسرائيل لمدة عشرين عاماً.
وتعد تركيا أقرب حلفاء إسرائيل في العالم الإسلامي، حيث وقَّعت الدولتان
اتفاقات تعاون عسكرية عام 1996م أجرتا بموجبها تدريبات عسكرية مشتركة،
وتعاونتا في مشروعات دفاعية أثارت انتقادات شديدة من الدول العربية وإيران.
وقالت وزارة الخارجية التركية في بيان: «اتفق الجانبان على أن تشتري
إسرائيل خمسين مليون متر مكعب سنوياً لمدة عشرين عاماً» . وأضاف البيان أن
وزير الطاقة زكي جاكان اجتمع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون واتفقا
على الصفقة أثناء زيارة رسمية قام بها لإسرائيل استغرقت يومين. وقال البيان إن
الجانبين شكلا لجنة مشتركة لمناقشة نقل المياه من تركيا إلى إسرائيل، مضيفاً أن
اللجنة ستعقد أول اجتماعاتها في العاصمة التركية أنقرة، لكنه لم يحدد موعد
الاجتماع. وتسعى إسرائيل التي تعاني من أزمة مياه، لشراء مياه الشرب من تركيا
لتخفيف النقص الحاد في إمدادات المياه الذي تعاني منه. ويمكن لتركيا تصدير
180 مليون متر مكعب من المياه سنوياً من نهر ماناوجات باستخدام سفن شحن
عملاقة.
[موقع يديعوت أحرونوت - www.Arabaynet.com]
حرب عالمية رابعة!!
قال جيمس وولزي المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية (سي. آي.
إيه) إن الحرب العالمية الرابعة بدأت في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، عندما
نفذ الخاطفون الانتحاريون الهجمات على مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومقر
وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بالقرب من العاصمة واشنطن.
وأضاف في كلمة له أمام ندوة عقدت في واشنطن: «إننا نخوض حرباً
عالمية، وإننا في حرب عالمية رابعة بدأت في الحادي عشر من سبتمبر» وبعد أن
أشار إلى أن الحرب العالمية الثالثة، كانت الحرب الباردة التي ربحتها الولايات
المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، أكد وولزي أن الحرب الرابعة
لم يسبق لها مثيل في التاريخ، ولكن الولايات المتحدة ستكون قادرة على مواجهة
هذا التحدي، أي النصر في الحرب ضد الإرهاب في العالم.
وقال: إن على الولايات المتحدة أن تبعث برسالة إلى العالم مفادها أن أمريكا
ليست في حملة للدفاع عن النفس، وإنما هي في حملة مقدسة لحماية قيم ومثل
الديمقراطية.
وأشار وولزي إلى أن العراق هو الخصم الأساسي للولايات المتحدة في هذه
الحرب الجديدة. وكرر دعوته الإدارة الأمريكية إلى استخدام القوة العسكرية ضد
العراق. وقال: «إنه لا يمكن التعامل مع العراق إلا بالقوة العسكرية» . وشبه
عراق اليوم بألمانيا هتلر في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، وقال: «إنه
لا معنى للانتظار، وأن الحالة ستزداد سوءاً» إذا لم يتم تغيير النظام العراقي.
وحث على استخدام القوة ضد الرئيس العراقي صدام حسين، ونظامه حتى إذا لم
يتوفر دليل على تورطه في تفجيرات سبتمبر.
وقال: «إن دعم (العراق) العام للإرهاب سبب كاف لاستخدام القوة ضده» ،
مشيراً إلى ما تردد عن علاقة نظام بغداد ومسؤولين عراقيين بأعضاء في شبكة
«القاعدة» ومنها ما قيل عن اجتماع تم بين محمد عطا أبرز الخاطفين وضابط
استخبارات عراقي في براغ قبل وقوع التفجيرات.
كما أشار إلى محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب)
أثناء زيارته للكويت.
وقال: «إن الولايات المتحدة في حاجة إلى حشد ما بين 100 ألف إلى 200
ألف جندي حتى تحقق النجاح في غزو العراق» .
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد (8641) ]
من لأسرى المسلمين؟!
أكد حقوقيون ومنظمات لحقوق الإنسان في إسرائيل أن الظروف التي يعيشها
آلاف السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية مضنية وقاسية وغير إنسانية.
وتحدث نوعام ليبل الناطق باسم المنظمة الإسرائيلية لحقوق الإنسان عن
«الظروف السيئة التي يعيشها السجناء الفلسطينيون، مشيراً إلى معسكر عوفر
في قضاء رام الله الذي يضم» جرحى كثيرين ومرضى يشكون باستمرار «.
وقال:» استأنفنا لدى محكمة العدل العليا لإدخال أطبائنا للاطلاع على
الوضع لكن طلبنا جوبه بالرفض، ولا ندري بالضبط ماذا يجري هناك «.
وكانت إسرائيل حوَّلت ثلاثة معسكرات للجيش إلى مراكز اعتقال للفلسطينيين
في 1988م خلال الانتفاضة الأولى، هي مجيدو في شمال إسرائيل وعوفر الذي
أغلق وأعيد فتحه بعد الاجتياح الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في 29 مارس
الماضي وكتسيعوت (أنصار 3) في صحراء النقب الذي أعيد فتحه حديثاً.
وأوضح ليبل أن سجن كتسيعوت» سيئ للغاية «موضحاً أنه» حار جداً
جداً في النهار، وبارد جداً في الليل، وتنتشر فيه الزواحف السامة وحشرات
الصحراء «.
وأشار إلى أن الخيمة الواحدة» تكتظ بنحو عشرين معتقلاً أو أكثر،
والفرشات توضع على لوح من الخشب على الأرض ولا مجال للحركة أو
الاستراحة أو وضع الحاجيات «.
وأكد أن» المعتقلين ما زالوا يرتدون الملابس نفسها منذ يوم اعتقالهم؛ لأن
الجيش الإسرائيلي لا يسمح بإدخال الملابس «، بينما لا يحصل السجناء على
» مواد لتنظيف أنفسهم «.
وأشار إلى وجود» حمام واحد على شكل صندوق يتسع لشخص واحد
يستخدمه المعتقلون كمرحاض وحمام لعشرين شخصاً «.
كما تحدث عن» نوعية الطعام السيئة وكميته القليلة «، موضحاً أن» وجبة
إفطار لخمسة أشخاص تتكون من حبة بندورة وخيارتين وحبة فلفل أصفر «.
وعبر عن قلقه لوجود عدد كبير من الجرحى والمرضى في كتسيعوت» لا
يحصلون على العناية الطبية اللازمة «.
أما زيارات الأهل فلا وجود لها؛ بينما هناك» أشخاص في عوفر
وكتسيعوت لم يستطع محاموهم زيارتهم حتى الآن «، على حد تعبير ليبل.
ووصف المحامي محمد برغال الظروف في كتسيعوت بأنها» رهيبة «،
مشيراً خصوصاً إلى» مشكلة في مولد الكهرباء الذي يعمل بشكل سيئ والإضاءة
الخافتة جداً والتهوية السيئة «.
وقال برغال لوكالة فرانس برس إن الذين يحتاجون إلى علاج من السجناء لا
يحصلون على شيء سوى حبة دواء مفعولها أقل من حبوب الفاليوم تعطى كعلاج
سحري لكل الأمراض.
وأشار إلى» انتشار الأمراض الجلدية بين السجناء الذين ينامون على فرشات
لا تتجاوز سماكتها خمسة سنتيمترات، بسبب الأغطية القديمة المصنوعة في
1982م واستخدمها الجيش الإسرائيلي في الماضي ولم يتم غسلها على ما يبدو «.
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد (8096) ]
أليسوا أبناءكم؟!
قال رئيس نادي الأسير الفلسطيني إن أبرز ما يظهر خلال حملات الاعتقال
في الانتفاضة الحالية اعتقال الأطفال من سن 14 إلى 18 عاماً؛ حيث تهدف
إسرائيل من وراء ذلك إلى ضرب جيل كامل، وهذا مخطط لتدمير الحياة
الاجتماعية والتعليمية للفتيان. ويحرم هذا الاعتقال الأطفال من مواصلة مسيرتهم
التعليمية.
وفيما يتعلق بما يتعرض له الأطفال من التعذيب على أيدي المحققين ذكر أن
الأطفال يتعرضون لشتى أنواع التعذيب مثل الشبح طوال الليل وهم مقيدو الأيدي
ومعصوبو الأعين، والعزل في زنازين انفرادية والكي بالسجائر ورشهم بالماء
البارد والساخن مما أدى إلى نقل عدد منهم إلى المستشفيات.
وأضاف قائلاً إن المشكلة التي تواجه الأطفال بعد انتهاء التحقيق هي
احتجازهم في مراكز مع السجناء الجنائيين من أصحاب قضايا المخدرات والقتل
والاغتصاب وهو ما حول حياتهم إلى رعب، وسبب لهم آثاراً نفسية كبيرة؛ حيث
تعرض الأطفال إلى الضرب بالسكاكين على أيدي السجناء اليهود وسرقة ممتلكاتهم
الشخصية.
وبيّن أن إدارات السجون رفضت الطلبات التي تقدمت بها مؤسسات حقوقية
لوضع الأطفال في مراكز توقيف خاصة بهم بعيداً عن الجنائيين.
وقال إن ما يضاعف من معاناتهم هو حرمان عائلاتهم من الزيارة منذ ما يزيد
على العامين بسبب القيود التي فرضت عليهم والمتمثلة برفض سلطات الاحتلال
إعطاءهم أذونات دخول إلى إسرائيل.
[صحيفة الرياض، العدد، (14262) ](179/78)
الباب المفتوح
الشاطبي
ونهوضه بالاجتهاد
الزبير مهداد
لعل من أسباب تردي العقل المسلم القول بسد باب الاجتهاد الذي أعلنه بعض
المقلدين، وكان من نتائج ذلك تخلف المسلمين وعدم قدرتهم على تصحيح أخطائهم
في عباداتهم ومعاملاتهم، وتسرب الخرافات والبدع والفهوم الخاطئة عن العقيدة؛
لأن سد باب الاجتهاد معناه إلغاء العقل المسلم وتجميده ومنعه من مسايرة الحياة
ومستجداتها والتصدي لمشاكلها ونوازلها. فالاجتهاد بوصفه مصدراً تشريعياً أغنى
وأعطى الكثير وأجدى على المسلمين أيام نهضتهم، وضمن للشريعة صلاحيتها لكل
زمان ومكان. فالإسلام رفع الحَجْر والوصاية عن العقل وأطلقه من قيوده،
وحرضه على التفكير والتأمل.
لذلك حرص الشاطبي على تجديد العقل المسلم حتى يصبح قادراً على تحمل
مسؤوليته في التفكير، وعلى ممارسة حقه في الاجتهاد، ويحتل مكانته التي بوأه
إياها الإسلام، ويعود بالفقه إلى عصره الذهبي، ويسترجع المكاسب العظيمة التي
حققها في العصور السابقة.
يرى الشاطبي أن الاجتهاد ضرورة من ضرورات الحياة؛ لأنه مرهون
بالتكليف؛ فلا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف، وذلك عند قيام الساعة، وهو
فرض لازم للأمة الإسلامية، ويقوم به الفرد المؤهل الذي تتوفر فيه شروطه
واستكمل أدواته وتهيأت له أسبابه؛ فهو لا يتبع أهواء الأفراد؛ فالحكم الشرعي لا
يقوم على ما يستحبه المجتهدون دون دليل، أو يوافق أهواء الحكام أو المستفتين
ويستجيب لحاجاتهم؛ وإنما ينبني على المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار،
والتي تحافظ على مقصود الشارع [1] .
فمن الشروط التي ينبغي أن تتوفر في المجتهد بعد البلوغ والعقل والعدالة:
1- فهم مقاصد الشريعة وكمالها.
2 - التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
درجات الترقي في العلم:
لبلوغ الشرطين سالفي الذكر يمر الفقيه بمراحل ثلاث يترقى عبر درجاتها
حتى يصل إلى رتبة الرسوخ التي تؤهله للاجتهاد والإفتاء والتربية؛ هذه الدرجات
يعرضها الشاطبي متسلسلة على الشكل الآتي: مرتبة التقليد، مرتبة الاستدلال،
مرتبة التحقيق.
1 - مرتبة التقليد: ويصنف فيها طالب العلم الذي لم يحصل بعدُ على كماله،
وهذه الرتبة تقوم على التصديق لا البرهان، وفي هذه المرحلة ينتبه عقل المتعلم
إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه، وينشأ هذا عن شعور بسرِّه وحكمته
بمعنى ما حصل، لكنه مجمل بعدُ، وربما ظهر له مفصلاً في بعض أطراف
المسائل جزئياً لا كلياً، وربما لم يظهر بعدُ، فهو ينهي البحث حتى نهايته، ومعلمه
عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة، ويرفع عنه أوهاماً وأشكالاً تعرض له
في طريقه؛ بحيث يهديه إلى مواقع إزالتها في الجريان على مجراه، مثبتاً قدمه
ورافعاً وحشته، حتى يتسنى له النظر والبحث عن الصراط المستقيم.
فهذا الطالب حين بقائه هنا ينازع الموارد الشرعية وتنازعه، ويعارضها
وتعارضه، طمعاً في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها، ولم تتخلص له
بعد [2] .
يحث فيها الطالب على العلم بالترغيب، وإن اقتضى الحال بالترهيب والزجر
والعقاب، وجميع أهل العلم يمرون بهذه المرحلة قبل الانتقال إلى المرحلتين
التاليتين [3] .
صاحب هذه الرتبة مقلد لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه؛ لأنه لم
يتخلص له مسند الاجتهاد، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره فيما يجتهد
فيه؛ فاللازم له الكف عن الاجتهاد والاكتفاء بالتقليد [4] .
2 - مرتبة الاستدلال: أو رتبة الخروج عن التقليد بالوقوف على البراهين
التي يشهد لها النقل ويصدقها العقل، وصاحب هذه المرتبة يتقبل ما قام عليه
البرهان، ويكتسب وصف العلم دون أن يكون عالماً؛ لأن مواقفه تبتعد أحياناً عن
واقع علمه.
لا يتوفر فيه شرط فقه النفس؛ أي لم يصر الفقه سجية ملازمة له بعد؛ فهو
في مسيرته العلمية انتهى إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان
الشرعي؛ بحيث حصل له البرهان ولم يعارضه شك. بل قد تصير الشكوك إذا
وردت عليه كالبراهين على صحة ما في يده.
وصاحب هذه المرتبة لا يصح منه الاجتهاد وهو كذلك؛ لأنه غير متمكن فيها
غير حاكم لها، فهو محكوم عليه فيها، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على
عدم رسوخه فيها [5] .
هؤلاء لا يكفي معهم الاعتماد على الجزاء والعقاب فحسب، إنما لا بد من
تحفيزهم بالعادات الحسنة والمراتب اللائقة حسب ما ينسجم مع طبيعة مرتبتهم [6] .
3 - مرتبة التحقيق والرسوخ: ويرتب فيها الذي صار له العلم وصفاً من
الأوصاف الثابتة الأمور البديهية.
هذا هو العالم المجتهد الراسخ في العلم؛ لا يروي الفقه، لكن يعطي الفتيا
لاكتسابه ملكة الإبداع والاجتهاد من خلال تعامله مع قضايا الشرع حفظاً واستقراء
واستنتاجاً، يمكنه من إدراك المقصود الشرعي الذي تنزل عليه الفتوى حسب
مقتضيات الأحوال والأوقات [7] .
تفكيره مبدع؛ فهو لا يقف عند الحفظ والتكرار، وإنما يستند إلى الاستدلال
والاستنتاج، كما هو الشأن في الفكر الرياضي [8] .
لا خلاف في صحة الاجتهاد ممن بلغ هذه الطبقة (يستحق الانتصاب للاجتهاد
والتعرض للاستنباط) ؛ لأنه متمكن فيها حاكم لها غير مقهور فيها؛ فهي تحت
نظره وقهره، وهو صاحب التمكين والرسوخ؛ فبعدما تدرج في الرتبتين وتحقق
بالمعاني الشرعية المنزلة على الخصوصيات الفرعية؛ بحيث لا يصده التبحر في
الاستبصار بطرف عن التبحر بطرف آخر؛ فهو لا يجري على عموم واحد منهما
دون أن يعرضه على الآخر، وفي خاصته أمران:
أحدهما: أنه يجيب السائل بما يليق به في حالته على الخصوص، إن كان له
في المسألة حكم خاص.
والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات.
يسمى صاحب هذه المرتبة الرباني والحكيم والراسخ في العلم والعالم والفقيه
والعاقل؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به،
وقد تحقق العلم وصار كالمجبول عليه، وفهم عن الله مراده [9] .
ودرجة الاجتهاد هذه تحصلت له؛ لأنه اتصف بوصفين: أحدهما: فهم
مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل
الشريعة، وفي كل باب من أبوابها؛ فقد وصل له وصف هو السبب في تنزله
منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.
أما الثاني فهو كالخادم للأول؛ فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف
محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً؛ ومن هنا كان خادماً للأول لأنه المقصود،
والثاني وسيلة.
لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالماً بها مجتهداً فيها. وتارة يكون
حافظاً لها متمكناً من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها. وتارة
أخرى يكون غير حافظ إلا أنه عالم بغايتها، وإن كان له افتقار إليها في مسألته التي
يجتهد فيها [10] .
لم يفرق الشاطبي بين العالم والمربي، بل جعلهما لمسمى واحد، لكن ليس
أي عالم؛ فقد جعل الشاطبي لقب المربي مرادفاً للعالم الرباني وهو الفقيه الراسخ
في العلم الذي تفرغ للعلم، فأعطاه عمره كله حتى رسخ في صلبه، وهذا هو الذي
يحمل لقب الرباني؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل واحد حقه
حسبما يليق به، وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه وفهم عن الله
مراده [11] .
وهكذا جعل الشاطبي العالم الراسخ في العلم مربياً حكيماً بسبب وصف العلم
الشرعي الذي تحقق له [12] .
__________
(1) الاجتهاد، مظهر الأصالة والمعاصرة في الفكر الإسلامي، يوسف الكتاني، مجلة دعوة الحق، الرباط، عدد: (281) 1411هـ، ص 63.
(2) الموافقات، ج 4، ص 224.
(3) الموافقات، ج 1، ص 69، ج 4، ص 119.
(4) الموافقات، ج 4، ص 224.
(5) الموافقات، ج 4، ص 225، 232.
(6) الموافقات، ج 1، ص 70.
(7) الموافقات، ج 1، ص 71، وأيضاً: منهج التربية والتعليم عند الإمام الشاطبي، عبد الجليل بادو، مجلة المربي، تطوان، عدد 4، 1994م، ص 8.
(8) منهج التربية والتعليم عند الإمام الشاطبي، عبد الجليل بادو، مجلة المربي، تطوان، عدد 4، 1994م، ص 8.
(9) الموافقات، ج 4، ص 232.
(10) الموافقات، ج 4، ص 107.
(11) الموافقات، ج 4، ص 232.
(12) التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، فريد الأنصاري، الدوحة، وزارة الأوقاف، 1416هـ، (سلسلة كتاب الأمة: 48) ، ج 2، ص 133.(179/82)
في دائرة الضوء
أمريكا تطويها السنن
دروس عجاب من آيات الكتاب..
أضواء على الأسباب في إنزال العقاب
د. سامي محمد صالح الدالال
إن المتأمل في حال الولايات المتحدة يكاد لا يشك أنها قد تتعرض إلى عقاب
إلهي مدمر، شديد الوطأة، عظيم التأثير، واسع الانتشار، يتناول الناس والحيوان
والجمادات، ربما تنهار بسببه الأبنية والمنشآت، أو تتشرذم وحدتها إلى كيانات،
والله تعالى أعلم بما هو آت!! .
ما ذكرته أعلاه لا يدخل في باب الكهانة ولا التنبؤات، بل هو ما تقتضيه
السنن الربانية وما نزل في ذلك من الآيات، في إيقاع العقوبة الإلهية بمن تحققت
فيه الصفات: من تكبر وتجبر وافتئات.
ولعلنا نبين حال هذه الدولة الآن قبل أن ينزل عليها وابل العذاب من الرب
الشديد العقاب.
* أسباب التدمير الإلهي:
نعدد فيما يلي الأسباب التي لأجلها تستحق الولايات المتحدة التدمير الإلهي.
1 - الكفر والصد عن سبيل الله بعد إقامة الحجة:
إن الولايات المتحدة هي دولة أهل كتاب؛ فالمسلمون فيها لا يتجاوزون 5%
وهم (أي الأمريكيون) مأمورون كغيرهم من عموم أهل الكتاب بتوحيد الله تعالى،
وتنزيهه عن الولد، وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم ركبوا رؤوسهم
ولم يستجيبوا لدعوة ربهم. قال تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ
اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) . وقد تولوا؛
وليس لهم في توليهم حجة، بل قد قامت عليهم البينة، كما قال تعالى: [لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ
يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ] (البينة: 1-3) وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا
نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» [1] .
وقد تبين لكل أحد، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 1002م، أن دعوة
الإسلام قد دخلت بيت كل أمريكي ابتداءً من رئيسها وإدارته إلى الأفراد العاديين من
الشعب الأمريكي؛ فالحجة عليهم قائمة. ولم تكتف الولايات المتحدة بالكفر بالإسلام
بل وضعت كل إمكاناتها للصد عن سبيل الله بكل وجه استطاعته. فلهذا اندرجت
في سنة الله في إهلاك الكافرين والذين هم عن سبيل الله من الصادين. قال تعالى:
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ] (آل عمران:
4) . وقال تعالى: [فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]
(آل عمران: 56) . وقال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن
سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ] (الأنفال: 36) . وقال تعالى: [فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ نَكِيرِ] (الحج: 44) . وقال تعالى: [الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ
أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ] (محمد: 1) . فكل من يكفر ويصد عن سبيل الله مستحق للعقاب
الشديد من الله تعالى، ولن تغني عنه قوته وسطوته شيئاً إذا جاء أمر الله تعالى.
قال الله عز وجل: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ
شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (آل عمران: 116) .
2 - التأله:
لقد ادعت أمريكا لنفسها من القدرات ما لا يليق إطلاقه إلا على الله تعالى؛
فهي تمارس علاقاتها مع كافة دول العالم على طريقة فرعون عندما قال: [يَا أَيُّهَا
المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي] (القصص: 38) . وعندما قال: [أَنَا رَبُّكُمُ
الأَعْلَى] (النازعات: 24) . وعندما قال: [مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ
سَبِيلَ الرَّشَادِ] (غافر: 29) . فلما وقع للولايات المتحدة مثل هذا الادعاء، ليس
بلسان المقال، بل بلسان الحال، كان لا بد أن تتعرض لعقاب الملك الديان؛ ذلك
أن خطابها مع كافة حكومات وشعوب المعمورة كان منطلقاً من جوف هذا الشعور
المملوء بالغطرسة والتجبر، وكأنها تقول إنها تعز من تشاء وتذل من تشاء، كما
وقع ذلك حين خاطب الرئيس الأمريكي بوش رئيس باكستان مشرف بقوله: أمامك
خياران: إما أن تدخل في حلف الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب، وإما أن
نعيد باكستان إلى العصر الحجري!! وحالها أيضاً كحال النمرود عندما قال لإبراهيم
- عليه الصلاة والسلام -: [أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت] (البقرة: 258) كيف؟ قال:
آتي بإنسان حي فأقتله، وآتي بإنسان محكوم عليه بالقتل فأعفو عنه. وهكذا تفعل
الولايات المتحدة؛ فمن تريد قتله سلطت عليه آلتها الحربية الجبارة من أمثال
الطائرات B 52 أو صواريخ توماهوك (كروز) فأبادته وأحالت أرضه يباباً،
ومن أرادت إبقاءه حياً عفت عنه. هكذا هو منطوقها ومفهومها. أي كما يفعل الإله.
فسبحان الله تعالى عما يدعيه المتألهون. فبسبب ممارستها ما لا يحق لأحد أن
يقوم به إلا الإله الحق استحقت أن يحيق بها العذاب الإلهي، كما حاق بفرعون
عندما ادعى الألوهية. قال تعالى: [فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ]
(الذاريات: 40) . وقال تعالى: [وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا
يَعْرِشُونَ] (الأعراف: 137) .
3 - الذنوب:
صحيح أن الذنوب قد تقع من أي إنسان أو أمة، إلا أن الولايات المتحدة هي
أبرز من يقود العالم نحو الموبقات، ومن أهمها الاقتصاد العالمي القائم على البنوك
الربوية والبورصات المالية، ثم ما تنفذه من مخططات لتغيير السلوك السوي لدى
بني الإنسان من خلال إنتاجها للأفلام الإباحية وأفلام الجريمة، المفعمة جميعها بكل
ألوان الانحرافات التي تخطر على بال الإنسان أو لا تخطر. وقد تولت هوليود كبر
هذه الطامات العامة الشاملة. هذا إضافة لفرض آرائها الضالة وأفكارها الشاذة في
السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها على معظم دول العالم مع تدخلها في الشؤون
الداخلية لتلك الدول ومحاولة تغيير هويتها وخصوصياتها تحت مسمى «العولمة» .
هذا فضلاً عن تهديداتها باستعمال القوة ضد أي دولة تتمرد على السير وفق
المخطط الذي تضعه لها ملوِّحةً للجميع بتواجد قواتها في كافة القارات وجميع
المحيطات وفي الفضاء وآفاق السموات، وأنها لن تتورع عن استخدامها ضد كل
من يقف حائلاً دون تحقيق مصالحها الأنانية الخاصة بها دون غيرها. ولم تكتف
الولايات المتحدة بذلك، بل أخضعت جميع الأنظمة الحاكمة في العالم لتتبنى
الديمقراطية كأسلوب لممارسة الحكم، وأن الدول التي لا تفعل ذلك تعتبر دولاً مارقة.
فلهذه الذنوب العظيمة، وغيرها كثير جداً، مما لا يتسع المقام لذكره وتعداده فإن
هذه الدولة المتجبرة المتكبرة قد وضعت نفسها في موضع من يستحق أن ينزل عليه
الغضب الإلهي والعقاب الرباني، حيث إن سنة الله تعالى قد جرت على هذا النحو
في كل من يقترف أمثال هذه الموبقات في الأمم السالفات. قال تعالى: [فَكُلاًّ
أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا
بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]
(العنكبوت: 40) . وقال تعالى: [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ] (آل عمران: 11) . وقال تعالى: [أَلَمْ
يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ
عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
قَرْناً آخَرِينَ] (الأنعام: 6) . وقال تعالى: [أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ] (غافر: 21) . وقال تعالى:
[فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا] (الشمس:
14-15) .
فهذه الآيات تبين سنة الله في أخذه الأمم والدول بذنوبهم التي يقترفونها،
محادين في ذلك لما جاءهم من الله تعالى على ألسنة أنبيائه ورسله. وإن الولايات
المتحدة ليس لها عهد عند الله تعالى خاص بها لتستثنى من هذه السنن المضطردة؛
فلذلك يصيبها ما يصيبها بما اقترفت أيديها من الذنوب المهلكات.
4 - الظلم:
لا يختلف اثنان على الحجم الهائل للظلم الذي أوقعته أمريكا على الدول
والشعوب والأفراد؛ فهي إضافة للظلم الذي تمارسه من خلال تدخلاتها وضغوطها
السياسية، فإنها تضيف إلى ذلك استعمال قواها العسكرية. إن ذكر مسلسل الظلم
الأمريكي للبشرية يمتد عبر قرون وذلك منذ إنشائها. فقد مارس المهاجرون الأوائل
إليها جميع ألوان التنكيل والقتل والتشريد بالسكان الأصليين لتلك البلاد ممن أطلق
عليهم الهنود الحمر. وأما في العصر الحديث فإن الولايات المتحدة هي الدولة
الوحيدة في العالم التي استخدمت السلاح الذري الرهيب مرتين ضد دولة واحدة هي
اليابان في كل من هيروشيما ونغزاكي؛ حيث أبادت الملايين من البشر. ثم بعد
الحرب العالمية الثانية استمرت في ممارسة هذا المسلسل الإجرامي الدامي إما بشكل
مباشر كما فعلت في فيتنام والعراق ولبنان وكوسوفا والصومال وإيران، وكما
لا تزال تفعله الآن في أفغانستان وفي دعمها لإسرائيل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً،
أو بشكل غير مباشر كما تفعله في دعمها للعدوان الروسي الغاشم على بلاد الشيشان،
وكما تفعله في استخدامها للأمم المتحدة لتمرير مخططاتها الإجرامية بحق الدول
والشعوب، كالذي حصل لتيمور الشرقية. ولأنها استمرأت الظلم فأصبح جزءاً لا
يتجزأ من ممارساتها المتعجرفة فإنها شرعت باستخدام قوتها ونفوذها للتأثير في
أسعار البترول وفي تجميد أو مصادرة أموال دول وشركات ومؤسسات وأفراد،
وفي اصطناع حروب بين الدول لإنعاش حركة الصناعة الحربية في معاملها. ولم
تكتف أمريكا بذلك بل مدت ظلمها إلى الأفراد الإسلاميين والجماعات الإسلامية
متذرعة بحجج لا أدلة لها فيها، كما فعلت بالشيخ عمر عبد الرحمن الذي أودعته
سجونها دون توفير أدنى متطلبات الحقوق الإنسانية له رغم كبر سنه ومعاناته لعدد
من الأمراض. وكما فعلت في تأليبها للأنظمة الحاكمة في كثير من بلاد العالم على
الجماعات الإسلامية لتقزيم أنشطتها أو إيقافها بالكلية مع اصطناع وتلفيق التهم لها
بالتآمر ليودع أفرادها السجون، ولتمارس ضدهم مختلف وسائل التعذيب. وبعد
أحداث 11 سبتمبر 2001م التي عجزت الحكومة الأمريكية عن تقديم أدلة مقنعة
أنها من صنع القاعدة، أعلنت الولايات المتحدة مشروعها الظلامي والذي اسمته
الحرب على الإرهاب، ولا تقصد من ذلك في الحقيقة سوى ضرب حركات الجهاد
الإسلامي أو من يدعمها، فشنت هذه الحرب الضروس الظالمة على طالبان وشعب
الأفغان؛ وذلك في إطار مسلسل يتناول الشيشان وكشمير والفلبين وفلسطين
وغيرها من الدول والجماعات والتنظيمات. ولقد جمعت أمريكا تحت عباءتها معظم
دول العالم ليصبح الظلم ظاهرة عالمية مدعومة بما سموه بالشرعية الدولية، تمارسه
هذه الدولة العاتية ومعها حلفاؤها من أعضاء الاتحاد الأوروبي وروسيا واليابان
ودول أخرى ضد الشعوب الإسلامية المستضعفة، بغية القضاء على دينها
وامتصاص ثرواتها والهيمنة على ممتلكاتها واستثماراتها والسيطرة على أراضيها.
إنه ظلم عالمي قادته الولايات المتحدة الأمريكية لم يشهد له العالم مثيلاً على مر
قرونه وتعاقب دهوره، فاستحقت لأجل ذلك كله، مما ذكرته ومما لم أذكره (وهو
كثير جداً جداً) ، أن ينزل عليها غضب الملك الحق الواحد القهار. وما كان
لأمريكا أن تنجو من هذه العقوبة؛ وذلك بسبب ظلمها الفادح وجورها الصارخ،
ولأن عقوبة الله تعالى للظالمين، سواء كانوا أفراداً أو شعوباً أو دولاً أو أمماً، هي
سنة جارية مضطردة مستمرة، لا تزول ولا تحول. ولأن هذه التصرفات الظالمة
لم تقتصر على الحكومة الأمريكية فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى الشعب الأمريكي
نفسه، حيث دلت الاستفتاءات التي أجريت في شهر رمضان 1422هـ أن 85%
من الشعب الأمريكي يؤيدون حكومتهم في حربها الظالمة الغاشمة المدمرة على شعب
أفغانستان المستضعف. فلذلك فإن عقاب الله تعالى لا يقتصر على الحكومة
الأمريكية فحسب بل يمتد في قوته وعنفه ليشمل هذا الشعب الظالم المتكبر.
قال تعالى: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود:
117) . وقال تعالى: [وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ] (القصص:
59) . وقال تعالى: [إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ]
(العنكبوت: 31) . وقال تعالى: [فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ]
(إبراهيم: 13) . وقال تعالى: [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم
مَّوْعِداً] (الكهف: 59) .
فأحد أسباب هلاك الأمم والدول أن أهلها ظالمون. وإذا وقع عذاب الله عليهم
فإنه لا يتناول الشعب فقط، أي بني الإنسان، في تلك المدن أو الدول، بل هو
شامل لكل ما فيها من حضارة وعمارة؛ فالإهلاك يقع عليهم جميعاً كما قال تعالى:
[فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ
مَّشِيدٍ] (الحج: 45) . قال الضحاك: أي قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها
[2] . وقال تعالى: [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن
سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ] (هود: 82) . أي يعذبها الله تعالى عذاباً قاصماً، كما قال عز
وجل: [وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ] (الأنبياء:
11) . فيصبحون عبرة للمعتبرين. قال تعالى: [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ] (يونس: 39) . إن عقوبة الأمم الظالمة تكون إما برجز ينزل عليهم
من السماء، كنيازك أو صاعقة، كما قال تعالى: [فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً
مِّنَ السَّمَاء] (البقرة: 59) . وكما قال: [فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم] (النساء:
153) . أو بإغراقهم بالطوفان، كما قال تعالى: [فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ]
(العنكبوت: 14) . وكما قال: [وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ]
(المؤمنون: 27) ، أو بإرسال الصيحة عليهم، كما قال تعالى: [وَأَخَذَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ] (هود: 67) . أو بالريح كما قال
تعالى: [كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ
اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] (آل عمران: 117) . أو أي عقوبة أخرى، كما قال
تعالى: [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] (الشعراء: 227) . وكما قال
تعالى: [وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (النمل: 50-52) ، أو كما قال تعالى: [وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا
بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] (الأعراف: 165) .
5 - البطر:
وهو كفر النعمة. وكفرها يكون إما بجحد المنعم بها وإما بعدم شكره أو
باستخدامها في غير ما خلقت لأجله - كصناعة الخمر من العنب، وكالمتاجرة
بالجنس، وكتصنيع السلاح لإخضاع الأمم ظلماً وعدواناً، وكتوجيه الأبحاث العلمية
فيما فيه ضرر على الإنسانية كالاستنساخ البشري، وما أشبه ذلك.
إن المتفحص لأسلوب ومنهج حياة الأمريكيين يرى أن جميع هذه الطامات
الكفرية موجودة فيهم، كل بحسبه، لكنهم جميعاً مشتركون في انتهاج البطر أسلوباً
لحياتهم، ومعلوم أن البطر سبب من أسباب هلاك الأمم. قال تعالى: [وَكَمْ أَهْلَكْنَا
مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ
الوَارِثِينَ] (القصص: 58) . قال ابن كثير: بطرت معيشتها، أي طغت
وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق، كما قال تعالى:
[وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ
مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ] (النحل: 112-113) ، وقوله [وَكُنَّا
نَحْنُ الوَارِثِينَ] أي رجعت خراباً ليس فيها أحد [3] .
ومن أنواع البطر التباهي بالقوة والجبروت واستخدام ذلك للتعدي على الإسلام
وعلى الداعين إلى الله وللصد عن سبيل الله. وهو ما تفعله أمريكا، وتشجع وتؤيد
حلفاءها على فعله واقترافه. قال تعالى: [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم
بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] (الأنفال:
47) ، فهذه أمريكا قد جالت في البحار والأجواء والبراري بحاملات طائراتها
ومدمراتها وبطائراتها وصورايخها، وبدباباتها ومدرعاتها متباهية بذلك أمام شعوب
العالم ومرهبة لهم ليسمعوا لها ويطيعوا. وحالهم كحال قريش عندما خرجوا لملاقاة
النبي صلى الله عليه وسلم في بدر؛ إذ قال أبو جهل: لا والله! لا نرجع حتى نرد
ماء بدر وننحر الجزر ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، فكان عاقبة ذلك أن
هزمهم الله تعالى شر هزيمة، وأنزل بهم أمحق عقاب فتشرذموا بين قتيل وأسير
وفار مذعور، فانكسرت شوكتهم وحزنت نفوسهم. ولذلك نقول إن هذا الصولجان
الحربي الذي رفعته الولايات المتحدة في وجه أمم الأرض، بطرة به، قد يحل به
من العقاب الإلهي ما يعطل مفعوله ويخمد أنفاسه فيصبح كخردة الحديد (سكراب) .
وكانوا قد أعدوه للبطش بالدول والشعوب، تماماً كما وصف الله تعالى حال عاد
عندما قال لهم نبيهم هود - عليه السلام -: [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ *
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ] (الشعراء: 128-
130) .
فهلاَّ اعتبرت الولايات المتحدة بعبر التاريخ، ونظرت في حال الأمم السالفة
التي مارست البطش ضد عموم البشر فكان ذلك سبباً لإهلاكهم! قال تعالى:
[فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ] (الزخرف: 8) . وقال تعالى:
[وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي البِلادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 36-37) .
وقال تعالى: [وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً]
(مريم: 98) . وقال تعالى: [كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ
مَنَاصٍ] (ص: 3) قال ابن عباس: «ليس بحين نداء ولا نزاع ولا فرار»
أي «نادوا النداء حين لا ينفعهم» .
6 - الترف والإسراف:
معلوم لدى جميع قاطني المعمورة أن أعظم دولة تعيش حالتي الترف
والإسراف هي الولايات المتحدة الأمريكية. إنه ترف وإسراف في كل شيء، في
المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب والأثاث والترفه (السياحة، الرياضة،
الأفلام سينما أو فيديو أو تلفزيون، الإنترنت، وغيرها كثير ... ) ، ومما
يساعدها على ذلك أن معدل دخل الفرد فيها هو أكبر معدل بين جميع دول العالم.
وقد بين الله تعالى أن من أسباب إهلاكه الأمم ترفهم وإسرافهم، قال تعالى: [وَكَمْ
قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم
مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ *
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ]
(الأنبياء: 11-15) . وقال تعالى: [وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً
وَرِءْياً] (مريم: 74) . وقال عز وجل: [قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ *
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ] (الذاريات: 32-
34) . وقال تعالى: [وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى] (طه: 127) .
إن الشعب الأمريكي بسبب ما هو فيه من الترف والإسراف استشعر لنفسه
التميز دون بقية شعوب الأرض. وهذا هو شأن المسرفين على مدى التاريخ؛ إذ
كان ذلك هو أحد أسباب تصدي الملأ لأنبيائهم، كما قال تعالى: [وَقَالَ المَلأُ مِن
قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ... ] الآية، إلى أن
قال: [فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] (المؤمنون:
33 - 41) . وكما قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا
إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] (سبأ: 34) ، وكما قال تعالى: [وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ] (الزخرف: 23) . فكما تصدى المترفون لأنبيائهم، كذلك هو
حال الأمريكان المترفين الآن؛ فإنهم يتصدون للحق وللإسلام في جميع أنحاء العالم،
ولذلك فإنهم قد أتوا فعلاً من الأفعال التي يهلك الله تعالى بها الأمم. قال تعالى: [وَإِذَا
أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً]
(الإسراء: 16) .
7 - الاستكبار والغرور:
لسنا بحاجة إلى سَوْق النقولات الكثيرة التي صرح بها المسؤولون الأمريكيون
المتعاقبون والتي تدل على شدة صلفهم وعتو استكبارهم وعظم غرورهم. إن
الحرب العالمية الثالثة التي أعلنتها أمريكا ضد ما سمته الإرهاب ما هو إلا تعبير
عن هذه الغطرسة والتكبر والتجبر. إن الشعب الأمريكي وحكومته في عجرفتهم
وفي استكبارهم على الحق وعلى أمم الأرض ساروا على نفس منوال الأقوام الذين
تصدوا لأنبيائهم ورسلهم، والذين جاء وصفهم في القرآن في آيات كثيرة منها: قال
تعالى: [قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ] (الأعراف: 76) .
وقال تعالى: [ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ] (المؤمنون: 45-46) .
وقال تعالى: [قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ] (الأعراف:
88) .
وقد قادت الولايات المتحدة الاستكبار العالمي باسم الأمم المتحدة والشرعية
الدولية ضد المستضعفين المسلمين، وخاصة حربها ضد طالبان ومن معهم من
شعب الأفغان، فاستحقت التأهيل لأن ينزل بها عقاب الله تعالى الساحق الماحق.
تلك هي سنة الله تعالى في المتجبرين والمتكبرين، إنه ينزل بهم عقابه الأليم لذنبهم
الجسيم وبما حادوا عن منهاجه القويم. قال تعالى: [وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيما] (النساء: 173) .
وقال تعالى: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ *
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ] (فصلت: 15-16) .
وقال تعالى: [وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ] (إبراهيم: 15) أي:
استنصرت الرسل ربها فنصرهم. وقال تعالى: [كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] (غافر: 35) .
8 - الإجرام:
الولايات المتحدة هي بيت الجريمة في العالم، وذلك على المستويين الداخلي
والخارجي. فنسبة وقوع الجرائم في داخلها هي أعلى نسبة بين جميع شعوب
الأرض. وكذلك نسبة ممارستها الجريمة بحق كافة البلدان وسكانها هي أيضاً أعلى
نسبة في المعمورة. وتستجمع أمريكا لنفسها الحظ الأوفى من تنوع الجرائم، سواء
على مستوى الأفراد أو الدول. غير أن أبرز ما فيها هو سعة مساحة ممارسة
الإجرام الوحشي على مستوى شعوب الدول الأخرى. فهي لا تتورع لحظة، في
سبيل تحقيق مصالحها الذاتية، عن استعمال جميع أنواع أسلحة الفتك والقتل
الجماعي، بما في ذلك السلاح الذري أو القنابل الحارقة أو القذائف والصواريخ
الماحقة أو الغازات السامة أو غير ذلك مما هو متخم في ترسانتها من مختلف
الأنواع التي تؤدي إلى المجازر العامة. كما أنها أيضاً لا تتوانى في استعمال
الحصار الاقتصادي ضد أي دولة لا تستجيب لرغباتها أو تتردد في تنفيذ طلباتها،
بقصد تجويع شعب تلك الدولة وإنهاكه اقتصادياً مما يقود إلى إضعافه وإلى تقليص
إمكاناته الخدماتية وانتشار الأمراض والأوبئة بين أفراده. ويدخل في مفهوم
الحصار الاقتصادي لديها مصادرة أموال تلك الدولة أو تجميدها. وقد أصبح هذا
اللون من الإجرام خلقاً راسخاً لدى قيادة الولايات المتحدة؛ إذ مارسته ضد العراق
وإيران وأفغانستان وليبيا وغيرها من الدول الإسلامية. وهي في كل ذلك تنطلق
من حقد دفين على الإسلام وأهله. ولسنا بصدد تعداد أنواع الجرائم الكارثية التي
اقترفتها تلك الدولة الآثمة، فضلاً عن الجرائم التي لا تزال تبوء بها أو تلك التي
في غياهب جعبتها. ولكن [وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِه] (فاطر: 43) .
قال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ
إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] (الأنعام: 123) .
ورغم أن المجرم ينبغي له أن يتوقع نزول العقاب به في أية لحظة، إلا أن
هذه الدولة الآثمة غطت عينيها وأشاحت بوجهها عن كل ذلك، متجاهلة قول الله
تعالى: [سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ]
(الأنعام: 124) ، وقوله تعالى: [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا
يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المُجْرِمُونَ] (يونس: 50) . وقوله تعالى: [وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ
القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) ، وقوله تعالى: [إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ]
(السجدة: 22) .
كما أن الولايات المتحدة لم تلتفت إلى التاريخ لتستقي منه العبر وتأخذ منه
المواعظ؛ فكم من الدول العظيمة قد دمرها الله تعالى بسبب إجرامها الفاحش. قال
تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ] (النمل:
69) . وقال تعالى مبيناً عاقبة جريمة قوم لوط: [وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ] (الأعراف: 84) . وقال تعالى مبيناً ألوان العذاب
التي أنزلها على قوم فرعون بسبب إجرامهم: [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ]
(الأعراف: 133) . وذكر الله تعالى عذابه الذي أنزله على عاد قوم هود
بسبب إجرامهم: [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ
هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ
يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ] (الأحقاف: 24-25) .
فلو أن الولايات المتحدة، حكومة وشعباً أصغت أذنها للحق لعلمت أن الإسلام
هو الحق المبين، غير أنها ركبت رأسها واستمرأت الجريمة والإجرام، فحاقت بها
دعوات المظلومين المضطهدين الذين عانوا من إجرامها وظلمها، كما دعا موسى -
عليه السلام - على فرعون وقومه فيما حكى الله تعالى عنه إذ قال: [فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ
هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ] (الدخان: 22) . فماذا كانت النتيجة؟ . قال تعالى:
[فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا
مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ]
(الدخان: 23-29) . فهي سنة جارية أن الله تعالى يهلك المجرمين، كما قال عز
وجل: [أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ]
(الدخان: 37) ، ولما كانت الولايات المتحدة قد وقعت فيما وقعت فيه الأمم التي
قبلها من الجريمة والإجرام كان لا بد أن تدفع ضريبة ذلك؛ إذ لا استثناء قد حازته
من رب العالمين لتكون خارج مسار السنن الإلهية في إهلاكه للمجرمين.
9 - الفسق:
رغم أن حجة الله تعالى قد قامت على الحكومة الأمريكية وكذلك على شعبها
إلا أنها واظبت على ركوب رأسها فرفضت الهداية وكفرت بالإسلام، فاستحقت أن
يلحق بها وصف الفسق من هذا الوجه. قال تعالى: [وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ] (البقرة: 99) . وأما الفسق بمعنى الفجور وارتكاب
المعاصي فحدث ولا حرج. وقد ذكرت شيئاً منه عند الكلام عن الذنوب. فالأمة
الأمريكية أمة فاسقة عقدياً وسلوكياً، وإن حالهم كحال الذين قال الله تعالى عنهم:
[وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ] (الأعراف: 102) .
وبسبب فسقهم اتبعوا قياداتهم وزعماءهم دون أن يكلفوا أنفسهم معرفة وتمييز الحق
من الباطل، فصار شأنهم كشأن قوم فرعون الذين قال الله تعالى عنهم: [فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ] (الزخرف: 54) . وقد مضت سنة الله
تعالى في الأولين في إهلاك الفاسقين، وهي جارية كذلك على وجهها في الآخرين،
وليس لأمريكا عند الله تعالى عهد أن يسلها من سنته كما تستل الشعرة من العجين؛
فلا نشك لحظة أنها ستلحق بالغابرين. قال تعالى: [فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] (البقرة: 59) . وقال تعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا
أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً]
(الإسراء: 16) . وقال تعالى: [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ] (الأنعام: 49) . فإهلاك الله تعالى لأمريكا بسبب ما ذكرناه آت في
وقته إلا أن يهتدوا. قال تعالى: [بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ] (الأحقاف:
35) .
10 - الفساد والإفساد:
كأي دولة، لا يمكن أن تعترف الولايات المتحدة بالفساد أو الإفساد، قال
تعالى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] (البقرة:
11) ، وهذا مخالف للحقيقة [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] (البقرة:
12) .
لم تكتف الولايات المتحدة بالفساد في داخل أراضيها، بل مدت ذلك إلى كل
أنحاء العالم، إفساداً في السياسة وفي الاقتصاد وفي الثقافة والفكر وفي الأخلاق
والسلوك وفي الاجتماع وفي الإعلام، وفي كل مرفق من مرافق الحياة.
لقد أضحت أمريكا المعتمد الرئيسي لكل من يريد أن يحقق مآربه الشيطانية
عن طريق الفساد والإفساد، ولم تتورع عن استخدام آلتها الحربية الهائلة لتضغط
على شعوب الأرض ليقبلوا فسادها ويبشوا لإفسادها!! فتراها تأمر بالمنكر وتنهى
عن المعروف، وصار حالهم كحال عاد [الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الفَسَادَ] (الفجر: 11-12) وانطبق عليهم قوله تعالى: [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي
الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ] (البقرة: 205) ، وقوله تعالى:
[وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] (الرعد: 25) . فهؤلاء
[الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ] (الشعراء: 152) والذين دوماً يقال
لهم [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا] (الأعراف: 85) والذين أبوا أن
ينخرطوا في القوم الذين قال الله تعالى عنهم: [فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ
أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ] (هود: 116) ، هؤلاء ماذا ينتظرون
من الله تعالى؟ هل ينتظرون أن يكون مآلهم كالمؤمنين؟! حاشا وكلا! ! قال تعالى:
[أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ] (ص: 28) . إذاً ماذا ينتظرون؟ نحن نقول لهم: لا تنتظروا إلا سنة
الله تعالى الجارية في أخذ المفسدين وإهلاكهم. قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ
عَمَلَ المُفْسِدِينَ] (يونس: 81) . وقال تعالى: [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
المُفْسِدِينَ] (الأعراف: 103) .
11 - الضلال:
نعم! إن أمريكا ومن كان على شاكلتها هم الضالون، هم النصارى الذين
ندعو في كل ركعة الله تعالى أن لا نسلك سبيلهم، ولا ننتهج نهجهم [اهْدِنَا
الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]
(الفاتحة: 6-7) .
لقد تبدلوا الكفر بالإيمان، والله تعالى يقول: [وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ
ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] (البقرة: 108) ، وأشركوا بالله، وزعموا أن له ولداً، والله
تعالى يقول: [وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً] (النساء: 116) .
وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، والله تعالى يقول: [وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً] (النساء: 136) .
وكفروا وصدوا عن سبيل الله، والله تعالى يقول: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن
سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً] (النساء: 167) ، ويبذلون جهدهم ليشتروا
الضلالة وليحرفوا المسلمين عن الصراط المستقيم، والله تعالى يقول: [أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ]
(النساء: 44) ويتخذون من الإعلام الماجن وسيلة لإضلال الناس، فينطبق عليهم
قوله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] (لقمان:
6) ، ولا نسترسل أكثر من ذلك في بيان ألوان وأنواع ضلالهم وضلالالتهم،
وواقع الحال أنهم: [وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] (آل عمران: 69) .
إن هذه الدولة التي ضلت في عقيدتها وأخلاقها، وأرادت أن تنشر هذا
الضلال والإضلال في كل أنحاء البسيطة، لا بد أن تنال جزاءها العادل وتجري
عليها سنة الله تعالى في إهلاك الضالين والمضلين، كما قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ] (ص: 26) .
12 - المكر:
إنه التخطيط في الخفاء، وهو ما برعت به الـ C.I.A (وكالة
المخابرات الأمريكية) . فما من دولة إلا ولها فيها عيون وجواسيس يتحسسون
الأخبار، ويراقبون التحركات، ويتلصصون على الخصوصيات، ويسجلون
الأصوات، ويلتقطون الصور الواضحات، ويدفعون الرشاوي لكبار وصغار
الشخصيات، ويوقعون بين مختلف الأحزاب والجماعات والفئات، ويدبرون
المؤامرات، ويخططون للحروب والانقلابات، ويقيلون ويعينون الرؤساء
والزعامات، ويقدمون الهدايا وملايين الدولارات لكل من تعاون معهم في الملمات،
ومن نكص كالوا له ألوان التهديدات، يمارسون ذلك في كافة البلاد والأقطار والدول،
ما كان حكمه ملكياً أو كان معدوداً في الجمهوريات ... كل ذلك وغيره أكثر، هو
ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق مكر إدارتها وتنفيذ المخابرات.
لقد انصب معظم المكر الأمريكي في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد سقوط الاتحاد
السوفييتي على الكيد للعمل الإسلامي من خلال إعلان الحرب العلنية والخفية على
رموزه ومؤسساته، وقامت من خلال الدس والعس بنشر جواسيسها في كل مكان،
واستخدمت الزعماء والأحزاب في تنفيذ مؤامراتها وإنزال كيدها على كل ما يمت
للإسلام بصلة. وليست حربها المعلنة على طالبان أفغانستان إلا وجهاً واحداً سافراً
مما تعده للمستقبل فيما يخص الإسلام والمسلمين. لقد نسجت هذه الدولة المتجبرة
على نفس منوال الذين حاربوا الله ورسوله من قبلها. قال تعالى: [وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعاً] (الرعد: 42) . غير أن المسار الماكر الذي اختطته
الولايات المتحدة لنفسها في حربها على الإسلام ما هو إلا مكر بأنفسهم من حيث
الحقيقة. قال الله تعالى: [وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] (الأنعام:
123) . وقال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا
يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] (الأنعام: 123) . حتى وإن كان مكرهم
يتضمن في طياته ومخططاته استعمال أعظم القنابل التي لو ألقيت على الجبال
لأزالتها كالقنابل الذرية والهيدروجينية أو ما هو أشد منها، فإن ذلك لا يغني عنهم
من الله شيئاً. قال تعالى: [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ
لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ] (إبراهيم: 46-47) فأين مكر الولايات المتحدة من مكر الله تعالى. قال عز وجل:
[وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (آل عمران: 54) ، وقد غاب عن
هؤلاء المخططين الأمريكيين المستكبرين أن من سنة الله تعالى أن جعل عاقبة مكر
السوء ترجع على صاحبها. قال تعالى: [فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً *
اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ
سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر: 42-
43) . فما هي سنة الله تعالى في الماكرين الأولين والتي ستطوي الولايات المتحدة
في طياتها بعد حين إن شاء الله تعالى؟ إنها أمران:
الأول: سرعة مجيئها. قال تعالى: [إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ
مَكْراً] (يونس: 21) .
الثاني: شدة عذابها وتدميرها. قال تعالى: [سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ
عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ] (الأنعام: 124) . وقال تعالى:
[وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا
دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ] (النمل: 50-52) .
لقد تصرفت الولايات المتحدة، على مدار الساعة والأيام والسنين والعقود في
مكرها بالأمم، وكأن هذه الأرض ليس لها إله سميع خبير بصير عليم قادر جبار
متكبر منتقم، واستبعدت أن يأتيها بأس الله تعالى ليلاً أو نهاراً جزاء وفاقاً على
مكرها القبيح الذي تفوح منه روائح الإجرام والغطرسة والعتو. قال تعالى:
[أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ]
(الأعراف: 97-99) .
13 - أسباب أخرى:
لقد اقترفت الولايات المتحدة كثيراً جداً من الطامات والموبقات تتركز معظمها:
1 - في محاربة الإسلام وأهله.
2 - في دعمها المتواصل لدولة الكيان اليهودي.
3 - في انتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان وتدخلها في خصوصياته على مستوى
الأفراد والدول، والمسلمين منهم خاصة.
ولذلك فإن المقام لا يتسع للاستفاضة في ذكر كل ما أوقعت نفسها فيه من
إدراج كيانها في مساق السنن الإلهية في إهلاك الأمم؛ فهناك أسباب أخرى غير
التي ذكرناها وهي عديدة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - التولي عن الاستجابة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
وهذا أمر معلوم، ولو لم يكن إلا هو لكفى في نزول العذاب بها قال تعالى:
[لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ]
(الغاشية: 22-24) . وقال تعالى: [وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] (التوبة: 74) . وقال تعالى:
[وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه] (التوبة: 3) .
2 - نسيان ما ذُكِّروا به:
قال تعالى في وصف حالهم: [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ] (المائدة: 14) . فاستحقوا العذاب، ومنه العداوة
والبغضاء فيما بينهم. قال تعالى: [فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ]
(المائدة: 14) . وقال تعالى: [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] (الأنعام: 44-45) .
3 - العتو:
وهو عظم الاستعلاء بالباطل، وقد حازت منه الولايات المتحدة الحظ الأوفى؛
ولذلك فهي مستحقة لنزول الغضب الإلهي والعقاب الرباني بسبب ذلك. قال تعالى:
[وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا
عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً] (الطلاق: 8-9) .
وذلك أنهم [اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُواًّ كَبِيراً] (الفرقان: 21) .
4 - قسوة القلب:
تلك خاصية تخص الأفراد بسبب قلة أو انعدام ذكرهم الله تعالى. لكن الرزية
تكون أعظم إذا أصبحت هذه الخاصية سمة لكل أو معظم أفراد المجتمع؛ فإذا ما
حصل ذلك، كما هو كائن الآن في الولايات المتحدة إذا استثينا المسلمين فإن هذا
المجتمع أصبح مستحقاً للعذاب الإلهي. قال تعالى: [فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ
اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (الزمر: 22) . وقال تعالى: [فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم
بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ... ] إلى أن
قال تعالى: [حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ]
(الأنعام: 43 - 44) .
5 - السخرية والاستهزاء:
لقد اتخذت كثير من المجامع الأمريكية الإسلام ونبينا محمداً صلى الله عليه
وسلم وأحكام الله تعالى التي تعبد الله تعالى بها عباده المؤمنين، والتي نزلت آياتها
المحكمات في كتابه المبين كالصلاة والحجاب والإرث وغيرها، مادة:
1 - للسخرية: قال تعالى: [وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] (البقرة:
212) .
2 - وللاستهزاء: قال تعالى: [فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا
عِنْدَهُم مِّنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] (غافر: 83) . وقال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] (المائدة: 57-58) . وقال تعالى:
[وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ
يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
مُّهِينٌ] (الجاثية: 7-9) . فمن فعل ذلك كان مستحقاً أن ينزل عليه عذاب الله
تعالى. قال تعالى: [فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ] (الأنعام:
10) . وقال تعالى: [وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ] (الرعد: 32) .
6 - العدوان:
بات العدوان والاعتداء على الغير سمة من سمات الولايات المتحدة الأمريكية،
وقد ذكرنا عدداً من اعتداءاتهم على الشعوب الإسلامية وغيرها، والله تعالى يقول:
[وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (المائدة: 87) . وفي تعاليم دينهم أن
من لطمك على خدك الأيسر فأدر له الأيمن! فضربوا بذلك عرض الحائط؛ فهم
لهذا مستحقون لعذاب الله تعالى. قال تعالى: [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ] (البقرة: 229) . ولفظها عام وإن كانت على حكم مخصوص، وقد
بينا العقوبة الإلهية للظالمين.
7 - العلو والاستعلاء:
لقد حكم فرعون وملؤه مصر وكانوا متعالين. قال تعالى: [ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى
وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً
عَالِينَ] (المؤمنون: 45-46) . وقال تعالى: [وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ
وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ] (يونس: 83) . وقال تعالى: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي
الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً] (القصص: 4) . وقد حذرهم موسى - عليه السلام -
من هذا الاستعلاء على الله والتكبر على عباده، فقال لهم: [وَأَن لاَّ تَعْلُوا عَلَى
اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ] (الدخان: 19) . فإذا كان هذا الوصف، وهو
العلو والاستعلاء، قد ألحق بفرعون؛ فكيف تكون درجة هذا الوصف عندما يلحق
بالولايات المتحدة التي استعلت على جميع أمم الأرض؟ لقد استعلت أمريكا على
أمور كثيرة من الخير والصلاح، ومن أهمها الإيمان رغم إقامة الحجة عليها كما
بينا، وما سبب ذلك إلا ما قاله الله تعالى: [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً
وَعُلُواًّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ] (النمل: 14) . فكما طوت سنة الله
تعالى فرعون لعلوه وتعاليه، كذلك تطوي هذه السنة الولايات لعلوها واستعلائها.
8 - افتراء الكذب على الله تعالى:
لقد جاء الحق إلى الشعب الأمريكي. والحق هو الإسلام، فعلموا به، وأقيمت
الحجة عليهم كما بينا، لكنهم ردوا هذه الدعوة الربانية التي وصلت إليهم، وردهم
لها هو تكذيب بها وافتراء على الله تعالى. قال تعالى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ] (الأنعام: 21) . وقال تعالى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ] (العنكبوت: 68) . فاستحقوا
لذلك عقوبة الله تعالى. قال عز وجل: [إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ
يُفْلِحُونَ] (النحل: 116) . وقال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ
غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ] (الأعراف:
152) ودل التعقيب بقوله: [وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ] أن الغضب والذلة جزاء
للافتراء على الله تعالى من حيث العموم، وليس مخصوصاً بمن اتخذوا العجل.
9 - اتباع الهوى والشهوات:
قال تعالى: [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ] (القصص:
50) . وهؤلاء الأمريكان قد فعلوا ذلك.
وقد بينا كيف أن العقوبة الإلهية تنزل في الضالين، وهي نازلة كذلك في
الذين يتبعون الشهوات الذين يبغون للمؤمنين الانحراف والميل عن الطريق المستقيم
قال تعالى: [وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً] (النساء:
27) . فالعاقبة لهم أنهم يلقون غياً، قال تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا
الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ] (مريم: 59) .
10 - الجاهلية:
وصف الله تعالى من يعبد غيره بالجهل. قال تعالى: [قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ] (الزمر: 64) ، ووصف أعمال الكفار بأنها
صادرة عن جاهلين. قال تعالى: [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي
الجَاهِلِينَ] (القصص: 55) . ووصف من لا يحكم بحكم الله تعالى بأن حكمه
حكم الجاهلية. قال تعالى: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ
يُوقِنُونَ] (المائدة: 50) وبين الله تعالى أن مبعثهم النفسي مستمد من حمية
الجاهلية. قال تعالى: [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ]
(الفتح: 26) .
وهذه الأوصاف الأربعة الملحقة بالجاهلين والجاهليين تنطبق كلها على
الولايات المتحدة نستثني منهم المسلمين مما يعرضهم إلى عقوبة الله تعالى على ما
بيناه وفصلناه سابقاً.
* الخلاصة:
لقد اجتمعت في الولايات المتحدة جميع الأسباب التي تجعلها في موقع
استحقاق التدمير الإلهي والعقوبة الربانية، وهي اثنان وعشرون وصفاً (ليس على
سبيل الحصر) :
(1) الكفر والصد عن سبيل الله بعد إقامة الحجة.
(2) التأله.
(3) الذنوب.
(4) الظلم.
(5) البطر.
(6) الترف والإسراف.
(7) الاستكبار والغرور.
(8) الإجرام.
(9) الفسق.
(10) الفساد والإفساد.
(11) الضلال.
(12) المكر.
(13) التولي عن الاستجابة لله تعالى.
(14) نسيان ما ذُكِّروا به.
(15) العتو.
(16) قسوة القلب.
(17) السخرية والاستهزاء.
(18) العدوان.
(19) العلو والاستعلاء.
(20) افتراء الكذب على الله تعالى.
(21) اتباع الهوى والشهوات.
(22) الجاهلية.
إن مجمل الذي ذكرته يقع ضمن ضوابط:
الأول: قال تعالى: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ
يَسْتَقْدِمُونَ] (الأعراف: 34) . أي متى ينزل العذاب وكيف ينزل، أمره إلى
الله وحده وهو محدد في سابق علمه عز وجل.
الثاني: قال تعالى: [لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] (آل عمران: 128) فإنزال العقوبة الإلهية على الولايات المتحدة
هو بحسب مشيئة الله: إن شاء أنزله، وإن شاء أخره، وإن شاء أن يهديهم هداهم
وتاب عليهم. فليس لأحد أن يتألى على الله تعالى بشيء أو أن يتقدم بين يديه بغيب؛
فلله الأمر من قبل ومن بعد.
الثالث: لو كان في علم الله تعالى أنه سينزل بهم عقابه، فلا بشر يعلم كيف
سيكون: هل بكارثة سماوية أو أرضية تدهمهم، أو بتفكيك فدراليتهم فيجعل بأسهم
بينهم، أو بتدمير اقتصادهم فيضنك عيشهم، أو بأي شيء آخر فيلقون مصيرهم؛
فالله تعالى أعلم بخلقه وهو ربهم.
نسأل الله تعالى أن يهدي أمم الأرض كلها إلى اتباع سبيل الرشاد الذي جاء به
خير العباد، ليتحقق لهم السداد، والفوز بالكرامة في الدنيا والنجاة يوم المعاد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) مختصر تفسير ابن كثير، 2 / 549.
(3) مختصر تفسير ابن كثير، 3 / 20.(179/84)
في دائرة الضوء
كتاب " الإسلام وأصول الحكم "
وذرائعية العلمانيين
قراءة جديدة لكتاب قديم
حسن محمد الغزواني
تقديم:
يحرص العلمانيون في بلاد المسلمين على الترويج لبعض أفكار كتابٍ أثار
ضجة كبيرة وجدلاً حاداً، هو كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول
الحكم» .
وعلى الرغم من الضعف المنهجي الواضح في أبحاث الكتاب وتجنيه الفاضح
على الحقيقة، فإن العلمانيين لا يفتؤون يوظفونه في مواجهتهم لدين الأمة والدعاة
إليه، مثلما يوظفون بعض الكتابات الصادرة عمن تميز بالشذوذ الفكري من الذين
انتسبوا إلى الأزهر في مرحلة من مراحل حياتهم، كما حدث مع خالد محمد خالد
وكتابه «من هنا نبدأ» [1] ، ومع طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي» وغير
ذلك.
وقد نلمس في كثير من هذه الكتابات التي شذت الفكرة ونقيضها؛ بحيث يجد
المناصر والمخالف بغيتهما فيها، يكفي أن يعمد أحدهما إلى انتقاء فقرة من هنا أو
نص من هناك من إحدى تلك الكتابات؛ حتى يجعل صاحبها في صفه.
لكن هذه التناقضات لا ينبغي أن تكون مانعاً في نظر العلمانيين من الإلقاء بتلك
الكتابات في وجوه خصومهم الفكريين، ما دام يمكنهم تحقيق بعض «المكاسب
الأيديولوجية» من ورائها.
والغريب أن من العلمانيين من لم يطلع على الكتاب أصلاً، ومع ذلك نجده
يبيح لنفسه أن يصف الكتاب بـ «الطليعي الرائد» ، وأنه يتضمن «منهجاً
عقلانياً عاماً في التفكير، يتسم بالنظرة التحليلية والنقدية والتاريخية» ، وأن
«أبرز الاجتهادات والظواهر وأشدها عقلانية وجسارة تمثلت» فيه [2] .
وللحقيقة فإن حرص كثير من العلمانيين على تفنيد شعار «الإسلام دين
ودولة» بكل الوسائل، قد يدفعهم حتى إلى وسيلة التحالف مع السلطة التي
ينتقدونها، وتغيير وظيفة المعارضة لأجل ذلك التحالف إلى وظيفة متعاون مع النظام
الحاكم في بلدها، كما هي فكرة السياسي التونسي خميس الشماري [3] .
* السعي لإسقاط الخلافة:
وعودة إلى كتاب الشيخ علي فنقول إنه ظهر سنة 1925م، بعد سنة واحدة
فقط من إسقاط الخلافة، وتعود أسباب الضجة التي أثيرت حوله، في جزء كبير
منها، إلى ذلك التوقيت، ثم إلى صاحب الكتاب نفسه من حيث انتسابه إلى الأزهر
وانخراطه في سلك العلماء. على أن مما تجدر الإشارة إليه أن الكتاب صدر في
سياق عام طبعته حملة استعمارية ضد الخلافة، وكانت الحملة بمسعى إنجليزي
أساساً.
كانت أولى المحاولات الساعية لهدم الخلافة لرجل يُدعى «ويلفريد سكاون
بلنت» (wilfred Scawn Blunt) ، وهو رجل رومانطيقي كان يكره تمدن
القرن التاسع عشر الميكانيكي، استقال من السلك الدبلوماسي سنة 1869م، وجال
في البلاد العربية والإسلامية بداية من عام 1873م، فزار إسطنبول والجزائر
والقاهرة، كما طاف صحراء سوريا والصحراء العربية مع زوجته (1877 -
1879م) ، ثم استقر بعد ذلك في مصر سنة 1880م للتعرف على الإسلام والتمكن
من أساليب العربية. وهناك التقى بمحمد عبده، كما التقى بالأمير عبد القادر
الجزائري أثناء وجوده بالشام، أما الأفغاني - رحمه الله - فلم يلتق به إلا في لندن
سنة 1882م بعد أن سمع عنه في مصر، وكانت له وساطة لم تفلح بين أحمد
عرابي وغلادستون في أزمة (1881 - 1882م) .
كتابه «مستقبل الإسلام» (لندن 1882م) سلسلة مقالات ركز فيها على
الدعوة إلى نزع الخلافة من يد العثمانيين وإسنادها إلى العرب، على أن تحول من
قوة سياسية إلى سلطة روحية «بابوية» ؛ إذ إصلاح الأمة الإسلامية متوقف في
نظره على العرب؛ حيث إن مستقبل الإمبراطورية العثمانية غامض في نظره،
ومن الممكن أن يترك الأتراك الإسلام إذا ما احتُلوا من طرف روسيا أو النمسا!
ويدعو «بلنت» في كتابه أيضاً إلى إعادة فتح باب الاجتهاد، ولن يكون ذلك
على يد العثمانيين؛ لأن طبيعة حكمهم لا تتفق حسب رأيه مع الاجتهاد، وهذه
الأفكار، خاصة ما يتعلق منها بالخلافة، طرحها «بلنت» على محمد عبده،
فقوبل طرحه بالرفض، كما أكد ذلك الشيخ رشيد رضا - رحمه الله - في تاريخه
عن أستاذه محمد عبده.
بعد محاولة «بلنت» قام ثلة من مجندي الاستعمار البريطاني الذين كونوا
«المكتب العربي» بالقاهرة تحت رئاسة «هوغارت» (Hogarth.G.D)
بهدف التجسس والتنسيق أمثال: بل، فيلبي، لورنس العرب ... فقاموا بالعمل
على بث الرغبة في تكوين دولة عربية لا تمت إلى الخلافة بصلة.
فنجد «جرترود بل» (Gertrude bell) (1868 - 1926م) مثلاً
قامت بدراسات أثرية لسنوات عدة بالمنطقة العربية، وكانت مساعدة للسيد برسي
كوكس (Percy cox) المندوب السامي البريطاني بالعراق، كما عملت بكل ما
تمتلكه من نفوذ على تولية «فيصل» صنيعة بريطانيا عرش العراق لخدمة
مصالح بلدها (1921م) ، لُقِّبتْ في بغداد بملكة العراق غير المتوجة، لجأت إلى
«شِنْشنة تعرف من يهود» خاصة: استثارة النزوات الفاجرة عند الداعرين
والخسيسين من رجال السياسة وغيرهم، في سورية بفيلا جميلة نعتت بين الفجار
باسم «مرتع العزوبة» ، وكان الهدف: التجسس وتحقيق مصالح بلدها [4] ومن
أقوالها عن العرب إن «العربي عبر القرون كلها لم يشتر حكمة من التجربة، فهو
غير آمن أبداً، ومع ذلك فإنه يتصرف وكأن الأمان خبزه اليومي» [5] .
أما توماس إداورد لورنس (lawrence.E.T) (1888 - 1936م)
فقد كان ضابطاً بالمخابرات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، لقبته
الصحافة هو الآخر «ملك العرب غير المتوج» ، وهو الذي أقنع شريف مكة
بإعلان الثورة ضد الخلافة العثمانية، بعد أن مناه بتقليده شارة الخلافة، كما قاتل
ضدها إلى جانب القوات العربية واستطاع الدخول مع قوات فيصل إلى دمشق سنة
1918م. يقول عن سكان الإمبراطورية العثمانية: «لم تكن جميع الأقاليم
الخاضعة للإمبراطورية لتساوي لدي صبياً إنجليزياً واحداً ميتاً» [6] .
في خضم هذه المحاولات أصدر توماس أرنولد (Arnold.T)
(1864 - 1930م) كتابه «الخلافة» سنة 1924م، وضمنه عدة أفكار منها:
- اعتبار نظام الحكم الإسلامي وضمنه الخلافه نظاماً استبدادياً مطلقاً وجائراً.
- اعتبار معظم الأحاديث التي أخذ منها نظام الخلافة أحاديث موضوعة كشف
وَضْعَها علماء الغرب!
- اعتبار سلطة الحاكم في الإسلام مطلقة، وتتم بالتعيين من الله سبحانه، ومن ثم
فليس للرعية إلا الطاعة سواء عدل الحاكم أم جار!
تلك كانت بعض محاولات الإنجليز في محاربة فكرة الخلافة، وهم في ذلك
إنما كانوا يحاربون مركز الدائرة التي تتقاطع عندها آمال المسلمين، كما كانوا
يحاربون فكرة الوحدة الإسلامية التي كانت تثير لهم المشاكل مع مسلمي الهند،
ولذك اعتبر اللورد كرومر (Evelyn Baring) بأن المقصود من الجامعة
الإسلامية هو «اجتماع المسلمين في العالم كله على تحدي قوات الدول المسيحية
ومقاومتها، فإذا نظرنا إليها من هذا الوجه، وجب على كل الأمم الأوروبية التي لها
مصالح سياسية في الشرق أن تراقب هذه الحركة مراقبة دقيقة» [7] .
تزامناً مع هذه الظروف ظهر كتاب الشيخ علي عبد الرازق.
هناك حدث آخر هز الساحة السياسية الإسلامية آنذاك، وهو إسقاط الخلافة
فعلاً من طرف كمال أتاتورك في 3/3/1924م، وهو حدث أحزن المسلمين وخلف
استياءً عميقاً لديهم، وبخاصة لدى مسلمي الهند الذين كانوا يعلقون آمالاً واسعة على
الخلافة الإسلامية لتحريرهم من قيد الاستعمار الإنجليزي.
هذا بالنسبة لظروف ظهور الكتاب.
أما صاحب الكتاب نفسه، فهو رجل أزهري، كان قاضياً شرعياً بالمنصورة،
ثم أصبح وزيراً للأوقاف فيما بعد في عهد الملك فاروق، درس سنتين بأكسفورد
بإنجلترا لكنه لم يتم دراسته بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، كان ينتمي
لحزب الأحرار الدستوريين المتشكل عام 1922م من بقايا حزب الأمة الداعي إلى
التعاون مع المحتل الإنجليزي، ولم يكن حزب الأمة بدعاً في ذلك من كثير من
الأحزاب الليبرالية في الوطن العربي في تميزها بالتعاون مع المحتل والدعوة إلى
الاكتفاء بإصلاح شؤون الشعب عن طريق التعليم أساساً، شعارها الأساس هو
«تحقيق الاستقلال رهين ببناء الأمة وتحديثها» .
وقد ناصر الشيخ عليّاً حزبُه حزب الأحرار الدستوريين الذي يستحيل إنكار
صلاته الوثيقة بالمحتل الإنجليزي، كما يستحيل إدراجه ضمن الأحزاب المناصرة
لحق الشعب في الحرية والتعبير عن رأيه؛ فهو الحزب الذي بارك في إبريل
1925م وهو نفس تاريخ ظهور الطبعة الأولى من كتاب «الإسلام وأصول الحكم»
إصدار الحكومة التي كان يشارك فيها قانوناً يحظر على الموظفين الاشتغال بأمور
السياسة، وهو نفسه الذي قبل مرسوم تقييد حرية الصحافة الذي أصدرته الحكومة
... إلخ ولذلك نجد الشيخ علي عبد الرازق، انسجاماً مع توجهات حزبه، «يقول
بوجوب ارتباط مصر وإنجلترا برباط الصداقة، ويذهب في ذلك مذهب
المتطرفين» [8] ، حسبما يقول عنه صديقه في الحزب محمد حسين هيكل.
* العلمانيون: خطاب التبني وتناقضات الشيخ:
يقف العلمانيون بمختلف توجهاتهم موقف المناصر، بل المتبني لما جاء في
كتاب الشيخ علي عبد الرازق. إن أحدهم، مثلاً، يرغب في مواجهة خصومه
الفكريين من وراء استدعاء نصه فيقول: «فهو أي الكتاب يتمم أحاديثنا اليوم عن
الديمقراطية، ويقف في خندق مواجهة المبشرين بكونية الإمام وجاهلية القرن
العشرين» [9] ، بل هناك من غالى حينما ذهب إلى أن الأفكار الواردة في الكتاب
قد تؤدي إلى تهديد وحدة نظرة الإسلام إلى الكون!! إذ إن هذا «التحليل الجريء
لطبيعة السلطة في الإسلام يهدد الوحدة الأساسية لفكرة الدولة الإسلامية ومن ورائها
وحدة النظرية الأساسية إلى الكون» [10] .
ونظراً لأفكار الكتاب الشاذة، نجد المدافعين عنه من أصحاب الشذوذ الفكري
أو المواقف المريبة، منهم: محمد حسين هيكل، الكاتب المتحمس للتغريب،
وصاحب «حياة محمد» الدراسة «الذاتية» للسيرة بدون معجزات، وسلامة
موسى «الكاتب الذي يكتب ليحقد ويحقد ليكتب» كما وصفه العقاد، ومجلة الهلال
التي وصفت صاحب الكتاب بأنه من «علماء الأزهر المبرزين» ، وأنه ممن
يسلك سبيل «الاجتهاد والاستنباط» [11] ، ثم مجلة المقتطف التي رأت أنه
سيترتب على ما كتبه الشيخ ما ترتب على ما كتبه «لوثر» من «ارتقاء ديني
وأدبي ومادي» [12] .
لكن متى كتب الكتاب؟ إن نظرة فاحصة تبين أن كتابة صفحاته تمت قبل
ظهور أزمة الخلافة بسنوات طويلة، يصرح الشيخ نفسه بذلك فيقول: «شرعت
في بحث ذلك كله منذ بضع سنين» [13] ، ويقول: «أما بعد: فإن تلك الورقات
هي ثمرة عمل بذلت له أقصى ما أملك من جهد، وأنفقت فيه سنين كثيرة العدد»
[14] ، ويصرح بأنه كتب إحدى صفحات الكتاب «يوم كانت الخلافة في تركيا،
وكان الخليفة محمد الخامس من الخلفاء ... » [15] ، وفترة حكم الخليفة محمد رشاد
الخامس كانت بين 1909م، 1918م.
والغريب أن الشيخ علي عبد الرازق يستشهد في ص 123، بكتاب الخلافة
لتوماس أرنولد الصادر سنة 1924م، وفي الصفحة التي بعدها يقول: «وما كان
لأمير المؤمنين محمد الخامس سلطان تركيا أن يسكن اليوم يلدز لولا تلك الجيوش
التي تحرس قصره» [16] ، ثم يعلق على كلامه هذا في الهامش بما مر ذكره، أي
بقوله: «كتبنا ذلك يوم كانت الخلافة في تركيا ... » .
معنى هذا الكلام أن الشيخ علي عبد الرازق كتب الصفحة 129 قبل الصفحة
128، بل قبل الصفحة 123 بسنوات!! فكأنما كتب الكتاب منذ وضعت إنجلترا
فكرة العمل على إسقاط الخلافة موضع التنفيذ، ثم أُرجئ نشره ريثما يوجد من يقبل
ذلك باسمه.
ومن عجب أن يرى أحد العلمانيين، على الرغم من ذلك الاضطراب الزمني
في كتابة بعض الصفحات كما مر، أن الكتاب تميز «بحس تاريخي لم تتمكن من
تجاوزه لا كتب المنتقدين ولا المحاكمة التي أخرجت مؤلفه من زمرة العلماء» [17] .
ثم إن النظرة الفاحصة في الكتاب تمكننا أيضاً من وضع اليد على العديد من
التناقضات التي تفقأ العين لدرجة أن الناظر في الكتاب لا يستطيع الجزم بالرأي
الحقيقي لصاحبه، فمثلاً:
- في ص 148 يقول: « ... وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة
والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين،
وما يكون لنا أن نفهم، إلا أنه كان في سبيل الملك وتكوين الحكومة الإسلامية»
لكنه ينقض هذا الكلام في ص 149 حينما يقول: «فأما أن المملكة النبوية عمل
منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في
مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك رأي
صالح لأن يُذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفراً ولا إلحاداً» ، ثم يتراجع عن
هذا الرأي في نفس الصفحة قائلاً: «ولكنه على كل حال رأي نراه بعيداً» .
- في ص 147 قال: «أول ما يخطر بالبال مثالاً من أمثلة الشؤون الملكية
التي ظهرت أيام النبي صلى الله عليه وسلم مسألة الجهاد ... وظاهر أول وهلة أن
الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله،
وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان وتوسيع الملك» ، ثم في ص 166 ينقض هذا
الكلام قائلاً: «ولا يريبنك هذا الذي ترى أحياناً في سيرة النبي صلى الله عليه
وسلم، فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك والدولة، فإنك إذا تأملته لم تجده
كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان عليه صلى الله عليه وسلم أن
يلجأ إليها تثبيتاً للدين، وتأييداً للدعوة، وليس عجيباً أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم
الوسائل» .
- في ص 154 قال: «لم يبق أمامك بعد الذي سبق إلا مذهب واحد ...
ذلك هو القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة
للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس
مملكة، بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها» ، ثم قال في ص
156 مناقضاً هذا الكلام: «من أجل ذلك كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم
بمقتضى رسالته سلطاناً عاماً، وأمره في المسلمين مطاعاً، وحكمه شاملاً، فلا
شيء مما تمتد إليه يد الحكم إلا وقد شمله سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا
نوع مما يتصور من الرياسة والسلطان إلا وهو داخل تحت ولاية النبي صلى الله
عليه وسلم على المؤمنين» . ثم يعود مرة أخرى إلى تأكيد قوله السابق في ص
154، متراجعاً عن نقيضه الذي ذكره قبل قليل، وذلك حينما يقول في ص 157:
«ولاية الرسول على قومه ولاية روحية ... وولاية الحاكم ولاية مادية.. تلك
ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض،
تلك للدين وهذه للدنيا، تلك لله وهذه للناس، تلك زعامة دينية، وهذه زعامة
سياسية ويا بُعد ما بين السياسة والدين» .
- في ص 158 قال: «وفي سبيل هذه الوحدة الإسلامية ناضل عليه السلام
بلسانه وسنانه ... حتى بلغ رسالته وأدى أمانته، وكان له صلى الله عليه وسلم من
السلطان على أمته، ما لم يكن لملك قبله ولا بعده» ؛ لكنه يدير ظهره لهذا الكلام
بعد أسطر قليلة فقط من نفس الصفحة حينما يقول: «ظواهر القرآن المجيد تؤيد
القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له شأن في الملك السياسي، وآياته
متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني
السلطان» .
إن الفكرة الأساسية التي يريد الكتاب إثباتها ليست هي أن الإسلام «رسالة لا
حكم، ودين لا دولة» ، كما قال صاحبه، فإن ذلك شطر واحد فقط من الفكرة
ينقصها شطرها الثاني الذي هو أن الإسلام «رسالة وحكم ودين ودولة» كما
يتضح من خلال عدة فقرات في الكتاب، وقد مر بعض منها، أي أن الإسلام في
نظر الشيخ علي فيه سياسة وليست فيه سياسة!! وهو تناقض عجيب لا يستقيم إلا
في ذهن من أصيب بلوثة من منهج بولس، لا من تعرض لنفحات منهج رب
العالمين.
* العلمانيون والشيخ علي: خطاب المضاهاة:
إن محاولة علي عبد الرازق تدعونا إلى عقد مقارنة بين ما جاء في كتابه من
آراء وبين آراء علمانيين آخرين، تلك المقارنة تكشف عن تشابه في المنهجية
والمواقف أحياناً كثيرة؛ إذ المنطلق واحد والهدف واحد:
1 - فعند العلمانيين يتم الانطلاق الآن من المفاهيم المسيحية وإسقاطها على
الإسلام. إن (عزيز العظمة) مثلاً يعتبر المؤسسة الدينية في الإسلام كهنوتاً أو
«كنيسة دولة» كما سماها [18] ، والشيخ علي تصيبه لوثة مقايسة الإسلام على
المسيحية كما سبق، فيصرح: «كل ما جرى في أحاديث النبي صلى الله عليه
وسلم من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة إلخ ... لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه
المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر» [19] .
2 - وعند العلمانيين: الأخذ الآن بالعلمانية ضرورة تمليها «العالمية»
و «الاستفادة من الغير» ؛ إذ هي أي العلمانية عند عزيز العظمة مثلاً
«كالعالمية أصبحت في القرن الأخير جزءاً بنيوياً من حياتنا السياسية
والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، خصوصاً في نهاية القرن العشرين» [20] ،
وبالنسبة للشيخ علي ليس هناك ما يمنع المسلمين «أن يسابقوا الأمم الأخرى ...
وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن
ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم» [21] ، لكن هذه «العالمية»
وتلك «الاستفادة» لا تعني شيئاً آخر سوى إدماج تاريخ الأمة في تاريخ الغير،
ونفي ذاتها وفكرها وحضارتها لمصلحة ذات الآخر وفكره وحضارته، وهكذا
فلئن تم تحكيم شرع الله فهي «الثيوقراطية» ! ولئن وجدت مؤسسة للعلماء فهو
الكهنوت! وإذا كان العظمة مثلاً لا يرى في وجود تخصص في الدين سوى
الكهنوت، فإن الشيخ علي لا يجد في الإسلام أي مانع من وجود الخلافة «بمعنى
الحكومة في أي صورة كانت الحكومة ومن أي نوع! مطلقة أو مقيدة، فردية أو
جمهورية، استبدادية أو دستورية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو
بلشفية!» [22] .
3 - وعند العلمانيين الآن يتم تأصيل كثير من أفكارهم باللجوء إلى الطوائف
المنحرفة عقيدة وسلوكاً في التاريخ الإسلامي. فهذا أحدهم، مثلاً، يرى حركة
«القرامطة» حركة تجديد، وداعية تغيير للواقع، وفهماً للتراث فهماً عقلانياً،
يقول: «إذا ما ظهرت حركات تجديد تدعو إلى تغيير الواقع أو إلى إعادة فهم
التراث فهماً عقلانياً قيل: علمانية وإلحاد ... في حين أن تراثنا القديم قد قدم لنا هذا
النمط الفكري عند أصحاب الطبائع من علماء الكلام، وعند ابن رشد من الفلاسفة،
كما أن عديداً من الثورات في تاريخنا القديم مثل ثورة الزنج وثورة القرامطة قد
نشأت بدءاً بالواقع من أجل تغييره تغييراً جذرياً» [23] . وهذا آخر، وهو أحد
دعاة النزعة الأمازيغية بالمغرب، يصف ملوك البرغواطيين «قرامطة المغرب»
«بالعلم والفضل» ، مع جزمه «بأن موقفهم من اختيار دين مخالف ولغة مخالفة
لما كان يحمله العرب إنما يرجع إلى موقف سياسي إيديولوجي معارض من جهة،
وإلى شعور بالهوية المتميزة والخصوصية الثقافية من جهة ثانية» [24] . وعلى
الخط نفسه كان يسير الشيخ علي عبد الرازق، فيرثي المرتدين أن مسهم الظلم
وجحيم الظلام: «كم نشعر بظلمة التاريخ وظلمه، كلما حاولنا أن نبحث جيداً فيما
رواه لنا التاريخ عن أولئك الذين خرجوا على أبي بكر فلقبوا المرتدين، وعن
حروبهم تلك التي لقبوها حروب الردة!» [25] .
4 - وفي كتابات بعض العلمانيين جهل فاضح أو تضليل مكشوف! تكلمت
«يسارية» مرة مثلاً عن الإرث في شريعة الله سبحانه، فقالت وهي تحاول
إثبات تساوي المرأة والرجل في الميراث في الإسلام، ما يلي: «إذا لم يكن
للشخص الميت أولاد وكان والداه الوارثين الوحيدين، فإن حصة أمه تساوي
ضعف حصة أبيه، وحصة الأخت تساوي حصة الأخ ... » !! [26] . أما
الشيخ علي عبد الرازق فإنه يعتقد مثلاً أن القرآن الكريم يقبل بحكومة استبدادية أو
بلشفية فيرى أنه «لا بد لأمة منظمة مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها
ولسانها، من حكومة تباشر شؤونها، وتقوم بضبط الأمر فيها، قد تختلف
أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية واستبدادية، وبين جمهورية وبلشفية
وغير ذلك» ، ثم يختم هذا الكلام بقوله: «ولعل الكتاب الكريم ينحو ذلك
المذهب أحياناً» [27] ، ويورد أحاديث عن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم
لعلي وأبي موسى ومعاذ رضي الله عنهم إلى اليمن، ومنها حديث بعث علي
رضي الله عنه إلى خالد «ليقبضن الخمس» ثم يقول الشيخ: «فبعث علي إلى
اليمن يرويه أحدهم أنه تولية للقضاء، ويرويه الآخر أنه كان لقبض الخمس من
الزكاة» [28] مع أن المقصود خمس الغنيمة كما قال شراح الحديث، فليس في
الزكاة خمس إلا في الركاز، وحول موضوعه بعض اختلاف بين العلماء ليس هذا
مقام بسطه، ومنطلق كلامهم ما أخرجه مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الركاز الخمس» [29] .
5 - وفي كثير من كتابات العلمانيين اليوم سوء أدب مع الله عز وجل أو مع
الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلقد سبق لحسن حنفي مثلاً أن اقترح في «التراث
والتجديد» استبدال كلمة «الله» بكلمة «الإنسان الكامل» ! بدعوى أنه «مع
أن علماء أصول الدين يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله، فإنهم في الحقيقة
يتحدثون عن الإنسان الكامل؛ فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكَبَّر إلى
أقصى حدوده!» [30] . وحاول أحد العلمانيين أيضاً إثبات جواز تزويج المرأة نفسها
بدون ولي اعتماداً على حديثي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية وأم سلمة
رضي الله عنهما بدون ولي. فقال بعد أن ساق الحديثين: «لم يكن الأمر يتعلق بأن
الرسول صلى الله عليه وسلم ولي السيدة صفية والسيدة أم سلمة لهذا تزوجهما من
غير ولي لأنه وليهما، لقد عالج الأئمة المسلمون هذا الأمر، وأبدوا رأيهم بخصوص
جواز أو عدم جواز أن ينكح الولي وليته من نفسه قياساً على الحاكم والشاهد؛
فالحاكم لا يحكم لنفسه، والشاهد لا يشهد لنفسه» [31] . ومنع الولي من الزواج من
موليته هو رأي الإمام الشافعي - رحمه الله - قياساً منه للولي على الشاهد والحاكم،
فقد يميل الولي إلى مصلحته وحظ نفسه فيتزوج موليته دون أن يكون كفؤاً لها مثلاً،
مثلما قد يميل الحاكم إذا حكم لنفسه، وكذلك الشاهد في شهادته، وهذا الميل غير
متصور في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه صلى الله عليه وسلم فوق
الأكفاء، ولذلك جعل الشافعي - رحمه الله - الأصل في زواج الرسول صلى الله عليه
وسلم أنه على الخصوص حتى يثبت العموم، بخلاف كلام العلماني السابق الذي
يستبطن اتهاماً للمعصوم صلى الله عليه وسلم بمحاباة نفسه، وهو سوء أدب مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستدرك الرجل بخصوصيات النبي صلى الله عليه
وسلم، بل تلك سنة سنها لنا جميعاً ولا سيما إذا تكرر الفعل أكثر من مرة « [32] .
وفي كتاب الشيخ علي لوثة وثنية يأباها دين التوحيد الخالص؛ إذ يصف الرسول
صلى الله عليه وسلم بما لا يليق إلا بالله سبحانه وهذا سوء أدب مع مقام النبوة حينما
جعل الرسالة تقتضي لصاحبها» حق الاتصال بكل نفس اتصال رعاية وتدبير،
وحق التصريف لكل قلب تصريفاً غير محدود « [33] .
6 - وكثير من العلمانيين لا يعرفون من الحديث سوى الواهي، أو الموضوع؛
فكم منهم من يلهج لسانه بحديث:» خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء «،
وحديث» طلب العلم فريضة على كل مسلم «، أو حديث» الساكت عن الحق
شيطان أخرس «، وهي أحاديث لا أصل لها، حتى إذا ما ذكروا حديثاً صحيحاً،
فإنما ليوهنوه دون دليل ولا حجة، خذ لذلك مثلاً من الأمازيغية السياسية يتعلق
باتهام داعية من دعاتها للفقهاء» بإقحام عدد هائل من الأخبار الموضوعة التي تشيد
بقريش وتبوئها الصدارة والإمارة « [34] . ويذكر في الهامش حديثين أحدهما
للبخاري وهو:» لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان « [35] ، والثاني
لمسلم، وهو:» الناس تبع لقريش في الخير والشر « [36] ، معتبراً حديث:
» الأئمة من قريش «عبارة تتكرر في كتب الفقهاء مع أنها حديث.
أما الشيخ علي عبد الرازق فإنه يذكر مجموعة أحاديث صحيحة ومنها ما ذكره
داعية الأمازيغية السياسية ويشكك في صحتها قائلاً:» لا نريد أن نناقشهم في
صحة الأحاديث التي يسوقونها في هذا الباب، وقد كان لنا في مناقشتهم في ذلك
مجال فسيح، ولكننا نتنزل جدلاً إلى افتراض صحتها كلها « [37] والأحاديث
المقصودة هي:
-» الأئمة من قريش «، ويصدره بصيغة التمريض» روي «إشعاراً بضعفه
مع أن الحديث صحيح [38] .
-» تلتزم جماعة المسلمين «، وهو جزء من حديث متفق عليه عن حذيفة بن
اليمان [39] .
-» من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية «وهو حديث لمسلم
[40] .
-» من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء
آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر «، وهذا أخرجه مسلم أيضاً وغيره من حديث
طويل [41] .
ويطول بنا البحث إن نحن ذهبنا نستقصي أوجه التشابه بين ما أورده الشيخ
علي في كتابه، وبين ما يورده العلمانيون دفاعاً أو دعوة لعلمانيتهم، يكفي أن نقول
إن الخطاب يضاهي الخطاب، ولا عجب فإنما الطيور على أمثالها تقع!
__________
(1) تراجع خالد محمد خالد عما جاء في الكتاب المذكور حينما أصدر كتاباً آخر ينقض فيه أفكاره تحت عنوان:» الدولة في الإسلام «.
(2) هذا كلام لرجل تحاشى ذكر اسمه، نشر مقالاً تحت عنوان» الإسلام وأصول الحكم «لعلي عبد الرازق في جريدة» الأحداث المغربية «عدد 220 بتاريخ 23/3/1420هـ 7/7/1999م، وذكر فيه أنه اعتمد على مقال قديم للمفكر المصري محمود أمين العالم.
(3) Adil Hachad: La déwoiratisation --- un fiége tendu al' offosition, dons l' geldomadoire moraeoin '' Tenps jrésent '' no26 février 1998.
(4) نذير حمدان،» مستشرقون سياسيون جامعيون مجمعيون «، مكتبة الصديق السعودية، الطبعة الأولى، 1408هـ، 1988م، ص 48.
(5) ذكره إدوارد سعيد في» الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء «ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى، 1981م، ص 237.
(6) المصدر السابق، ص 248.
(7) ذكره طارق البشري في: المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، ص 112.
(8) ذكره، الدكتور محمد عمارة في دراسته لكتاب علي عبد الرازق» الإسلام وأصول الحكم «، المؤسسة العربية للدراسات، الطبعة الأولى، 1972م، ص 13.
(9) كمال عبد اللطيف، مفهوم العلمانية في الخطاب السياسي العربي، الحدود والآفاق، مجلة الوحدة، عدد 38/32، أبريل، مايو 1987م، شعبان/ رمضان 1407هـ، ص 64.
(10) ماجد فخري، دراسات في الفكر العربي، ص 282، مأخوذ عن: د / حسين سعد، بين الأصالة والتغريب في الاتجاهات العلمانية عند بعض المفكرين العرب المسلمين في مصر، الطبعة الأولى، 1993م، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ص 102.
(11) (12) الإسلام وأصول الحكم، لعلي عبد الرازق، دراسة محمد عمارة، ص 23، ص 24 من الدراسة (13) المصدر السابق، ص 111.
(14) المصدر السابق، ص 112.
(15) المصدر السابق، ص 129، هامش 1.
(16) المصدر السابق، ص 129.
(17) كمال عبد اللطيف، مرجع سابق، ص 64.
(18) عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992م، ص 79، ص 62.
(19) الإسلام وأصول الحكم، مرجع سابق، ص 126.
(20) عزيز العظمة، مرجع سابق، ص 10.
(21) الإسلام وأصول الحكم، ص 182.
(22) المصدر السابق، ص 136.
(23) حسن حنفي، التراث والتجديد، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1981م، ص 77.
(24) أحمد عمير، الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي، الطبعة الأولى، 1988م، القنيطرة، طبعة 95/ 98.
(25) الإسلام وأصول الحكم، ص 178.
(26) جريدة» النشرة «المغربية، عدد 211، من 6 - 12 مارس 2000م، من حوار مع خديجة صبار، عضو المكتب الإقليمي للقطاع النسائي للاتحاد الاشتراكي، حزب يساري يقود الحكومة الحالية بالمغرب.
(27) ص 134 من كتابه.
(28) ص 142.
(29) أخرجه مالك في الموطأ في الزكاة، باب زكاة الركاز.
(30) حسن حنفي، مرجع سابق، ص 108.
(31) سعيد لكحل، مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية بين التشريع المساند والتشنيع المعاند، منشورات المنظمة، الطبعة الأولى، دجنبر 2000م، ص 11.
(32) سعيد لكحل، حقوق المرأة بين إقرار المسلمين، وإنكار الإسلاميين، جريدة المنظمة، عدد 786 بتاريخ 1/10/ 1420هـ - 8/1/2000م.
(33) الإسلام وأصول الحكم، ص 176.
(34) أحمد عمير، مرجع سابق، ص 26.
(35) أخرجه البخاري في الأحكام، باب الأمراء من قريش، حديث 7139.
(36) أخرجه مسلم في الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، حديث 1819.
(37) ص 124.
(38) الحديث أخرجه أحمد (3/129و 3/ 183، 4 / 421، وقد قال الهيثمي في» المرجع «.
(2/192) رجال أحمد ثقات.
(39) أخرجه البخاري في الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، حديث 7084، ومسلم في الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، حديث 51.
(40) أخرجه مسلم في الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، حديث 68.
(41) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، حديث 46.(179/94)
قضايا ثقافية
محمد أركون ومشروعه النقدي!
محمد بوراس [*]
يبرز اسم محمد أركون في ساحة الفكر العربي المعاصر بشكل قلق ومثير
للجدل؛ بوصفه أحد أصحاب المشاريع الفكرية ذات الهاجس النقدي التي تروم تقديم
قراءات جديدة للتراث الإسلامي بنصوصه المختلفة، إلى جانب أسماء كثيرة كمحمد
عابد الجابري، وحسن حنفي، وطيب تيزيني، وغيرهم.. وتشكل الملامح
الكبرى لمشروعه الفكري داخل ما يسميه: «الإسلاميات التطبيقية» والتي تهدف
إلى إحداث قطيعة جذرية مع الدراسات الإسلامية التقليدية التي تطبعها الرؤية
السكونية؛ بحيث لم تستطع الارتقاء إلى مستوى التجاوب مع أسئلة العقل النقدي..
وذلك بالاعتماد على مجموعة من المناهج والأدوات المنتجة في إطار التطور الذي
عرفته العلوم الإنسانية في الغرب، وخصوصاً المنهج التفكيكي الحفري بمفهومه
الفوكوي (نسبة إلى ميشيل فوكو) ، كأساس للقراءة النقدية للتراث.. ولهذا فإن
الهدف الأساسي لأبحاث أركون هو تأسيس أو بناء نظرية جديدة في التعامل مع
التراث تقوم على نقد بنيته التكوينية وآلياته المعيارية، ثم ضرب مقوماته الأصيلة
عن طريق إخضاعه للنموذجية الغربية في التفكير.. وهي النظرية التي تحكم نسقية
المشروع الأركوني واستراتيجيته النقدية كما تترجم عنها أعماله الفكرية منذ رسالته
الجامعية عن «مسكويه فيلسوفاً ومؤرخاً» (1970م) ، ثم مؤلفاته التالية مثل:
«قراءات في القرآن» (1983م) ، و «محاولات في الفكر الإسلامي»
(1973م) ، و «الأنسية العربية في القرن الرابع الهجري» (1982م) ،
و «نقد العقل الإسلامي» (1984م) : و «الإسلام: الأخلاق والسياسة»
(1987م) ، وغيرها من البحوث والدراسات المتناثرة هنا وهناك.. ونحن لن ندعي
الإحاطة بكل ما كتبه أركون في هذه القراءة التي نعتبرها أولية وتمهيدية في أفق
إنجاز دراسة تحليلية شاملة مستقبلاً بإذن الله تعالى؛ بل كل ما نطمح إليه هنا هو
إضاءة بعض الجوانب الأساسية من الأطروحة الأركونية واختياراتها النقدية التي
تعكس توجهاً فكرياً عاماً لتيار فلسفي أصبح لمقولاته صدى خطير في واقعنا
الثقافي المعاصر.
1 - معالم مشروع نقدي:
ينطلق محمد أركون كما قلنا في كل أعماله من منظور نقدي قائم على تصور
معين للتراث الإسلامي ونتاجه الفكري؛ فمشروعه كما يقول يرمي إلى «إعادة
كتابة جديدة لكل تاريخ الفكر الإسلامي والفكر العربي» [1] .
والمقصد الأساسي لهذه العملية هو تتبع المساحات الخفية التي ظلت بعيدة عن
مجال النقد والتفكير، وكل ما يدخل ضمن دائرة ما يسميه «اللامفكر فيه»
المستحيل التفكير فيه، ولعل هذا هو المحور الأساسي الذي يدور عليه المشروع
الأركوني في جملته. يقول: «إن معظم الأسئلة التي ينبغي طرحها على التراث
تدخل في دائرة» اللا مفكَّر فيه «أو» المستحيل التفكير فيه «، هذا يعني أن
السؤال المطروح ليس هو: ما هي الأشياء والموضوعات التي فكر فيها الفكر
العربي المعاصر، وهل فكر بشكل جدي وصحيح أم لا؟ وإنما هو: ما هي الأشياء
التي لم يفكر فيها حتى الآن؟ وما هي الموضوعات التي لم يطرقها؟» [2] .
أي أن سلطة الهاجس النقدي بمفهومه الشمولي هي التي تؤسس مفاهيم
الخطاب الأركوني وتصوغ طروحاته في شكل أسئلة لا تقدم لها غالباً إجابات
واضحة ومحددة، وهنا تبرز إحدى الخصائص الأساسية لهذا الخطاب باعتباره
يستتر تحت عباءة البحث عن «اللا مفكر فيه» داخل التراث، في حين أنه
يمارس نوعاً من الإجهاض المتعمد لعناصره الإيجابية في مقابل إحياء كل الجوانب
السلبية التي لفظها التاريخ؛ ولهذا فهو يقول: «ينبغي للتراث الكلي أن يتعرض
لتفحص أركيولوجي صبور وعميق من أجل العثور على أجزائه المجهضة
والمستبعدة والمحتقرة، وإعادة كتابة تاريخها أو تركيبها إذا أمكن، وليس فقط من
أجل التركيز على صيغه الثابتة أو اتجاهاته الراسخة المرتبطة إلى حد كبير بالدولة
الرسمية والدين الرسمي» [3] ، وبعبارة أخرى: إنه يعمل على «خرق
الممنوعات وانتهاك المحرمات» التي «أقصت كل الأسئلة التي كانت قد طرحت
في المرحلة الأولية والبدائية للإسلام، ثم سُكِّرت وأغلقت عليها» [4] .
وإذا تساءلنا عن ماهية التراث الذي يريد ممارسة آليته النقدية عليه، كان
الجواب أنه «مجموعة متراكمة ومتلاحقة من العصور والحقب الزمنية. إن هذه
القرون المتطاولة متراتبة بعضها فوق البعض الآخر كطبقات الأرض الجيولوجية أو
الأركيولوجية، وللتوصل إلى الطبقات العميقة، أي القرون التأسيسية الأولى.. لا
بد من اختراق الطبقات السطحية الأولى والوسطى.. لا بد لمؤرخ الفكر كما يقول
» فوكو «أن يكون أركيولوجي الفكر» [5] ؛ ليتبين بوضوح أن مفهوم التراث
غير مفصول في أبعاده الكاملة عن المنهج الذي يتبناه قبلاً؛ بحيث يبدو أن استعارته
لمفهوم الحفر الأركيولوجي هو الذي بلور هذه الصفة الجيولوجية للتراث، ليعطي
إحساساً بالجمود والسكونية يسريان في تلافيف الطبقات المكونة له.. ولعل هذه
الصورة تبدو أكثر وضوحاً عندما نتعرف على التركيبة الداخلية لهذه الطبقات، أي
العناصر الثاوية تحت مسمى التراث كما يفهمه أركون؛ فهو يقول: «ولكن هذه
الفصول المكتوبة من قبل باحثين متخصصين ليست إلا عبارة عن وصف للمعارف
المتراكمة المتعلقة بكل موضوع أتى به التراث كالشعر الجاهلي، والنثر العربي
البدائي، والرسالة النبوية، والقرآن والحديث والسيرة والشعر الأموي والتأثيرات
اليونانية والفارسية على الأدب العربي» [6] .
إذن؛ فالتراث حسب هذه الرؤية بنية تراكمية تشكلت عبر أجيال متلاحقة،
وتتكون من مزيج من المعارف المتداخلة بطريقة لا يفصل فيها بين الإلهي والبشري،
وهو ما يعطيه مضموناً ثبوتياً يقتضي إنتاج قراءة تفكيكية لمكوناته الداخلية؛
وعلى ذلك فإن المنهج يتحدد انطلاقاً من التصور الأركيولوجي للمعرفة؛ باعتبار أن
صفة التراكم التي تميز التراث تفرض التعاطي مع منتجاته المعرفية بشكلها
المتداخل والأفقي في حدود معطيات هذا التصور والمنهج الذي ينتجه.
وإذا كانت ممارسة القراءة النقدية تستلزم التسلح بآليات منهجية محددة يستطيع
من خلالها القارئ الوصول إلى نتائج وخلاصات معينة، فإن أركون في اهتمامه
بمثل هذه القراءة حريص على الطابع المنهجي أكثر من حرصه على الوقوف على
النتائج والخلاصات النهائية، أي أن كتاباته تتضمن مشاريع في البحث بما تقدمه
من خطاطات أكثر مما تعطي من إجابات عن الأسئلة التي تطرحها؛ فهو يقول:
«سوف أكتفي بالتنصيص على بعض المبادئ الحادة والقاطعة بهدف
إثارة الاعتراضات والتحفظات، ومن ثم التفكير والمناقشة النقدية، أكثر مما تهدف
إلى تقديم نتائج وإجابات جاهزة» [7] ، فإذا بحثنا عن ملامح المنهج النقدي الذي
يطبقه في دراسته للفكر الإسلامي وتراثه، فإننا نكاد لا نظفر بمعالم محددة
يمكنها أن تساعدنا على القبض عليه في صورته الثابتة؛ فهو وإن كان في شكله
العام منهجاً حفرياً تفكيكياً، إلا أنه يوظف مجموعة من الأدوات ويستخدم ركاماً من
المناهج، تبدو معها كتاباته وكأنها معرض متنقل لما أنتجه الفكر المعاصر وما
ابتكره العقل الغربي؛ ولذلك فهو لا يفتأ يلحُّ على ضرورة التسلح بالأدوات
المنهجية التي تبلورت منذ الخمسينيات في مجال العلوم الإنسانية بشتى فروعها
من التاريخ واللسانيات والأنتربولوجيا وعلم النفس بجميع مدارسه وعلم الأديان
المقارن، والسيمولوجيا، ثم الابستمولوجيا والفلسفة، لتجد مؤلفاته حافلة بأسماء
كثيرة من قبيل: ماركس، وفرويد، وستراوس، وباشلار، وألتوسير، وبارث،
وفوكو، وبلاندياي، وديريدا، وبورديو، وريكور، وبروديل، وغودولي،
وغيرهم، إضافة إلى تكثيفه لمجموعة من المفاهيم المنتجة داخل المجال الحيوي
للفكر الغربي منها: رأس المال الرمزي، الزمن الطويل، التقطيع الميثي،
التاريخية، الخطاب السيميائي، اللا مفكر فيه، المكبوت، البنية العميقة،
الابستيمي، مديونية المعنى ... إلخ.
وهذا ما يجعل خطابه مسكوناً بهاجس التغيير بدعوى تجديد آليات الفكر
الإسلامي وربطه بفتوحات الحداثة الفكرية، عن طريق الاستفادة من المناهج
الجديدة؛ حيث يقول: «ينبغي علينا إعادة تشكيل علم الربوبية، وعلم ثيولوجيا
الوحي، وعلم ثيولوجيا التاريخ، وثيولوجيا الأخلاق وفلسفة القانون، إلخ.. ولكي
ننجز كل هذا العمل بشكل مُرْض نحتاج أولاً إلى تشكيل علم لسانيات حديث للغة
العربية، وتشكيل نظرية متماسكة للتأويل وتشكيل علم سيميائيات الخطاب الديني،
ثم تشكيل نظرية للرمز وأنتروبولوجيا سياسية؛ مع نظرية متكاملة عن المشروعية
العليا والسلطات التنفذية والديالكتيك الذي يربط بينهما. كل هذا نحتاجه وكل هذا لا
يزال ينقصنا في الساحة الإسلامية وفي الناحية العربية. وهذا يشكل بحد ذاته
برنامجاً ضخماً لمن يريد أن يعيد التفكير في الإسلام بالمعنى الجذري الاستراتيجي
للكلمة» [8] .
وبإزاء هذا التحديد لا نملك إلا أن نطرح الأسئلة الآتية: هل ننتظر تشكل كل
هذه العلوم والنظريات من أجل إعادة التفكير في الإسلام؟ ولماذا؟ هل الإسلام
والتفكير فيه يحتاج لكل هذا الركام من المعارف والمنهجيات التحليلية؟ ثم ما هو
الأساس المنطقي الذي يمكنه إقناعنا في حالة تشكل هذه العلوم بأن ما نتوصل إليه
عن طريقها هو الحقيقة النهائية؟ وما الذي سيستفيده الإسلام والفكر الإسلامي من
ذلك؟ وما الهدف النهائي لكل ذلك؟ إن الروح النقدية بجميع مستوياتها تسيطر
بشكل خطير على سيرورة الخطاب الأركوني وتوجهه بكيفية آلية عبر متاهاتها
الغامضة لينبثق عنها ما يمكن اعتباره توتراً نقدياً من الدرجة الأولى غايته نسف
أساسيات العقل الإسلامي وكل ما أنتجه من تراث فكري؛ فالمطالبة بإعادة تشكيل
مناهج النظر والقراءة بالكيفية التي تتلاءم ومنتجات الفكر الأوروبي المعاصر،
إضافة إلى كونها تعبر عن نوع من الهزيمة الفكرية والاستلاب الثقافي فإنها تساهم
في تأكيد الصورة الثبوتية والمنغلقة للإسلام وتراثه؛ من حيث إنه يحتاج إلى أدوات
خارجية ومفصولة عنه حتى يمكن التفكير فيه بطريقة «علمية» ؛ أي أنه لا يملك
أدواته الخاصة المنتجة ذاتياً انطلاقاً من تفاعل عناصره الداخلية بالشكل الذي يفجر
القوى الكامنة فيه ويبرزها، في سبيل صياغة منهج إسلامي متكامل وواضح المعالم،
ينطلق من النص كفاعلية ويجعل من قاعدة الاجتهاد مدماكاً لتفعيل حركية الوعي
بأشكاله المختلفة، ثم يرتقي بالفكر إلى درجة من العقلانية تسقط فيها الحدود بين
المثال والواقع، وتزول التقسيمات المفتعلة بين العقل والنقل، وبين المادة والروح،
وبين الظاهر والباطن.. وهو الشيء الذي يرفضه أركون من خلال حديثه عن
العقل الإسلامي وتركيبته الداخلية وكيفية نشأته وطرائق اشتغاله في التاريخ
والمجتمع من خلال دراسته التحليلية لرسالة الشافعي؛ حيث خلص إلى أن العقل
الإسلامي الكلاسيكي تفرع إلى عقول إسلامية متنافسة، ثم تحول فيما بعد إلى عقل
إسلامي أرثوذكسي صلب ومغلق على ذاته [9] . وهذا يعني نزع صفة العقلانية عن
هذا العقل ومنتجاته الفكرية انطلاقاً من انغلاقه الأرثوذكسي وتشبعه بمفاهيم وقيم
موروثة عن عصور سيادة اللاهوت والتصورات الميثولوجية! ولأن الهدف
الرئيسي عند أركون من الدراسة الأنثروبولوجية الدينية للتراث الإسلامي هو
«توضيح التنافس المستمر بين المعرفة الأسطورية والمعرفة العقلانية
وروابطها المتغيرة والمتحولة» [10] ، فلا بد أن تأتي تأكيداً لهذه الخلاصة النظرية
التي تقول: «إن الفكر العربي الإسلامي لا يمكنه الانفتاح على العقلانية الحديثة
بشكل فعلي ودائم وناجح إلا بتفكيك مفهوم» الدوغمائية «ومفهوم» الأرثوذكسية «
الخاصين بتراثه هو بالذات، وما دام المؤمن سجين نظام الإيمان، وما دام
الإيمان الأرثوذكسي سجين المقولات الميثولوجية القروسطية، وغير قادر على فتح
كوة أو ثغرة على الخارج، أي على العقلانية العلمية والفكر التاريخي فسوف يراوح
مكانه» [11] .
وهكذا فإن هذه الممايزة بين شكلين من أشكال المعرفة التي يتقاطع فيها
الأسطوري بالعقلاني بطريقة تنافسية، يسوغ أي انزياح نقدي في اتجاه تحطيم أحد
الشكلين لصالح الآخر.. وما دام أن العقلانية تبقى هي الخيار الوحيد أمام الفكر
الإسلامي لتحقيق انطلاقته، فلا بديل سوى تحطيم أساسيات المعرفة الأسطورية
داخل بنيته.. ولئن كان أركون يستعمل مصطلح التفكيك تعبيراً عن آلية منهجية في
النقد والقراءة، فينبغي صرفه إلى معنى التحطيم والتدمير كما تبلور على يد كل من
هايدجر ونيتشه ودريدا، أما العقلانية فلا ريب أنها تعني عقلانية الغرب كما
اتضحت معالمها منذ ما سمي بـ (عصر الأنوار) ، وهي تقوم على استبعاد
المرجعية الدينية وتقويض اليقين الغيبي ومعطيات الوحي، وبناء على ذلك فإن
الفكر الإسلامي الذي تحكمه الرؤية الأسطورية القروسطية كما يرى أركون مدعو
للدخول في الحداثة الفكرية بكل أبعادها انطلاقاً من الانفتاح على العقلانية المعاصرة
من جهة، وتحطيم الموروث الديني من جهة أخرى!
والملاحظ هنا أن أركون لم يأت بجديد يتميز به عمن سبقوه من دعاة التغريب؛
إنه نفس الخطاب الذي أنتجته الصدمة الأولى مع الغرب، يتكرر في ثوب جديد،
بلغة أكثر حداثة لا تميزها سوى زخارفها اللفظية وتعبيراتها المفخمة مع ذلك الركام
من المفاهيم والمصطلحات العسيرة الهضم.. فالطريق إلى «الحداثة» التي يريد
أركون وغيره إدخال الإسلام وأهله فيها، يمر عبر التحرر من سلطة النص الذي
تكونت في ظله ثوابت العقل الإسلامي ومحدداته التي تشكلت منها بنية النظام
المعرفي داخل بناء الثقافة الإسلامية، والتي يحدد أركون أهم خصائصها فيما يلي:
1 - الخلط بين الميثي (الأسطوري) والتاريخي.
2 - التدعيم القطعي للقيم الأخلاقية الدينية انطلاقاً من القرآن والسنة.
3 - التأكيد اللاهوتي لتفوق المؤمن على غير المؤمن، والمسلم على غير السلم.
4 - حصر وظيفة العقل في الاجتهاد وتأويل الوحي (النص المقدس) .
5 - تقديس اللغة، والتركيز على قدسية المعنى المرسل من قبل الله.
6 - التأكيد على تعالي المقدس وتجاوزه التاريخية [12] .
وهو تحديد يقوم على إبراز مجموعة من الثنائيات المتضادة: الأسطورة /
التاريخ، الإيمان / الكفر، العقل / الوحي، التعالي / التاريخية.. من أجل إعطاء
تفسير لما يسببه «الابيستمي الإسلامي» ، أساسه رفض طابعه التقديسي، ومن ثم
تجاوزه بوصفه خطاباً ومنظومة قيم، إضافة إلى تقديم تصور جديد للعلاقة بين
المنظومات الفكرية التي تشكلت تاريخياً داخله.
من هنا فأركون مثلاً لا يميز بين السنة والشيعة رغم ما بينهما من اختلاف؛
لأنهما بكل بساطة يستخدمان نفس المبادئ والقواعد والآليات، أي أنهما يعتمدان
نفس النظام المعرفي، ونفس العقلية الدوغمائية ونفس المفهوم الآحادي للحقيقة،
ونفس استراتيجية الرفض التي تبديها كل فرقة إزاء الأخرى [13] .
وعلى ذلك فإن توجهه النقدي محايث للتحديد السابق، إن لم نقل إنه ينطلق
منه كمقدمة لإنجاز مشروعه في نقد العقل الإسلامي.. وإذا كانت «المشكلة مع
التراث كما يرى أركون أنه لا توجد حدود واضحة بين الميثوس واللوغوس» [14] ؛
فمن الطبيعي أن تتوجه إرادته في تفكيك هذا التراث إلى محاولة كشف هذه الحدود،
انطلاقاً من إعادة إنتاج آليات نقدية تستجيب للتطورات المعرفية التي يشهدها هذا
العصر بكون هدفها الأساسي هو تحرير العقل الإسلامي من الأساطير العديدة التي
تشوبه [15] .
ويبقى هذا الهاجس التحريري طاغياً على المضمون العام للمشروع الأركوني
باعتباره «استراتيجية معرفية للفتح والتحرير» أي «فتح العقليات المغلقة
وتحريرها» [16] ، ومن هنا فهو لا يفتأ يبشر باليوم الذي تنتصر فيه الحداثة
الفكرية؛ حيث يتم الخروج من الحالة الثبوتية التي وصل إليها الإسلام بعد تحوله
إلى أرثوذكسية، أي «من طاقة تغييرية انبثاقية إلى تصور ثابت وثبوتي للحقيقة»
[17] .
بناء على ما تقدم، فإن التصور الأركوني في جملته يبقى سجين معايير مسبقة
وجاهزة عن «الحداثة» و «العقلانية» ، تنتصب مثل أصنام جامدة! وهو
تصور يرتكز أساساً على محاكمة غير عادلة لمنتجات الفكر الإسلامي الذي نشأ في
إطار تاريخي معين، وتطور ضمن سيرورة خاصة، وتشكلت مفاهيمه من خلال
تفاعله مع النص القرآني وعبر اندماج تكاملي بين معطيات الوحي ونتاج التجربة
الإنسانية؛ وذلك من خلال منتجات فكر آخر تحكمه قوانين تاريخية مختلفة في
نشأته وتطوره، وله مفاهيمه الخاصة وتجربته المغايرة.. وتلك هي المغالطة
الكبرى التي يقع فيها كل المفكرين الذين يمثلون تيار «الحداثة الفكرية» وأركون
أشهرهم.
2 - القرآن في ميزان النقد!!
إن تعامل محمد أركون مع النص القرآني ينطلق من اعتباره جزءاً من التراث
الذي يستلزم القراءة النقدية، وإعادة كتابة تاريخه وفق محددات المشروع الذي
يتبناه.
بمعنى أن القرآن ليس أكثر من نص تشكَّل تاريخياً ضمن شروط معينة كغيره
من النصوص التي يحفل بها الموروث الفكري للحضارة الإسلامية، مثله في ذلك
مثل الشعر الجاهلي أو الشعر العباسي أو غيرهما من منتجات الفكر الإنساني عبر
العصور المختلفة.. وهو ما يعني نزع القداسة عنه باعتباره نصّاً إلهياً له
خصوصيته؛ من حيث إخضاعه للنقد التفكيكي والقراءة الحفرية عن طريق توظيف
كل المناهج الممكنة من أجل «فرض قراءة تاريخية» عليه [18] ، ومن ثم
إخضاعه «لمحك النقد التاريخي المقارن، وللتحليل الألسني التفكيكي، وللتأمل
الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وتحولاته وانهدامه» [19] . وكل ذلك
بهدف «استنطاقه عن مشروطيته وحدثيته، كاشفاً عن تاريخيته الأكثر مادية
ودنيوية، والأكثر يومية وعادية، بل الأكثر شيوعاً وابتذالاً» [20] .
وهكذا فإن موقفه من القرآن لا يتميز في شيء عن موقفه من التراث عموماً،
وهو وإن كان يعتبر «أن الدراسة العلمية للمقدس لا تعني الانتقاص منه أو المس
به، وإنما تعني فهماً أفضل لكل تجلياته وتحولاته، وتحذيراً لبعض الفئات أو
بعض الأشخاص من التلاعب به لمصالح شخصية أو سلطوية» [21] ؛ فإنه لا
يخفي نزعته التشكيكية في دراسته هذه، بل إنه يقول في نفس السياق: «ويمكنني
أن أقول بأن المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان
للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس الذي كان سائداً أيام النبي» [22] ..
وبناء على ذلك فهو يشكك في الرواية الإسلامية لقصة جمع القرآن، حيث يقول:
«راح الخليفة الثالث عثمان (أحد أعضاء العائلة المعادية لعائلة النبي) يتخذ
قراراً نهائياً بتجميع مختلف الأجزاء المكتوبة سابقاً والشهادات الشفهية التي أمكن
التقاطها من أفواه الصحابة الأُوَل. أدى هذا التجميع عام 656م إلى تشكيل نص
متكامل فرض نهائياً بصفته المصحف الحقيقي لكل كلام الله كما قد أوحي إلى محمد.
رفض الخلفاء اللاحقون كل الشهادات الأخرى التي ترى تأكيد نفسها (مصداقيتها) ؛
مما أدى إلى استحالة أي تعديل ممكن للنص المشكل في ظل عثمان» [23] ، بل
إن هذا التشكيك يمتد إلى طريقة تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن وكيفية
نقله عنه حفظاً وكتابة؛ حيث ينتقد الرواية الرسمية القائلة بأنه «عندما ينقل محمد
سورة قرآنية فإنه عندئذ ليس إلا أداة بحتة للتوصيل والنقل دون أي تدخل شخصي،
وأنه فقط يتلفظ بكلام الله، وهو إذن الناطق بكلام الله في اللغة العربية، كان
هناك شهود وصحابة يحيطون به في أثناء ذلك، وقد حفظوا عن ظهر قلب السور
واحدة بعد الأخرى، ويطيب للتراث المنقول أن يذكر أنه في حالات معينة فإن
بعض السور كان قد سُجِّل كتابة فوراً على جلود الحيوانات وأوراق النخيل أو
العظام المسطحة.. إلخ.. واستمر هذا العمل عشرين عاماً» [24] .
وبعد إثارة هذه الشكوك حول ما نقل من روايات عن حقيقة كتابة وجمع
القرآن سواء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عهد خلفائه وخاصة
عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فإنه ينتقل إلى تحديد ما يعتبره مهام عاجلة تتطلبها
المراجعة النقدية للنص القرآني، فيقول: «ينبغي أولاً إعادة كتابة قصة تشكُّل هذا
النص بشكل جديد كلياً، أي نقد القصة الرسمية للتشكيل التي رسخها التراث
المنقول نقداً جذرياً، هذا يتطلب منا الرجوع إلى كل الوثائق التاريخية التي أتيح لها
أن تصلنا سواء كانت ذات أصل شيعي أم خارجي أم سني. هكذا نتجنب كل حذف
تيولوجي لطرف ضد آخر، المهم عندئذ هو التأكد من صحة الوثائق المستخدمة.
بعدها نواجه ليس مسألة إعادة قراءة هذه الوثائق فحسب، وإنما أيضاً محاولة البحث
عن وثائق أخرى ممكنة الوجود كوثائق البحر الميت» [25] .
وإذا تساءلنا عن الدواعي الحقيقية والمنطقية لمثل هذه المراجعة، وهل هناك
ما يجعلها ضرورة «علمية» ؟ وجدنا أن الدافع الأساسي لهذا التوجه إنما هو
محاولة توحيد الرؤية حول الأديان التوحيدية، باعتبارها تجسد ظاهرة الكتاب
الموحى، وما ينشأ عن ذلك من تشكيل متخيل مشترك لدى المجتمعات الكتابية
محوره «هو الكلام المتعالي والمقدس والمعياري لله» حيث «اعتاد الجميع على
إبراز الأديان التوحيدية بصفتها وحياً معطى أو نزولاً لله في تاريخ البشر بحسب
ذلك المجاز القرآن (التنزيل) الذي يجد مقابلاً له في العقيدة المسيحية القائلة
بتجسيد الله الأب في يسوع المسيح الابن. إن هذا الوحي المعطى متعالٍ ومقدس
ويهدي البشر في تاريخهم الدنيوي لكي يحصلوا في نهاية المطاف على نجاتهم في
الدار الآخرة» [26] .
فإذا كانت التوراة والأناجيل قد تعرضت للنقد والتفكيك وطبقت عليها كل
المناهج المعاصرة في قراءة النصوص، فإن القرآن باعتباره يشترك معها في نفس
الخصائص العامة لكل كتب الوحي، لا ينبغي أن يخرج عن القاعدة، ويجب
إخضاعه لنفس المعايير النقدية، من أجل الوصول إلى نفس النتائج؛ ولذلك نرى
أركون يتأسف لأن الديانتين السابقتين قد شُكِّك في كتابيهما «أما الإسلام، ومن ثم
القرآن، فقد بقي في منأى عن انقلابات الحداثة وشكوكها» [27] .
ولعل في قيامه بالمراجعة النقدية للقرآن ما يلبي حاجته إلى إيجاد مجال حيوي
لاستخدام ترسانته المعرفية المتراكمة من العلوم الاجتماعية والإنسانية!
إن القراءة النقدية التي يباشرها أركون للنص القرآني تدخل ضمن تصور
خاص لظاهرة الوحي يحاول من خلاله أن ينزع عنه طابعه المقدس باعتبار أن هذه
القداسة إنما هي رداء تم إضفاؤه عليه عن طريق تحويله إلى «نص مثبت ومحدد
في مصحف مغلق راح يُستغل ... باعتباره مجموعة من الصيغ المعيارية التي تحدد
المفكَّر فيه على المستوى المعرفي، وتحدد المؤسسات والقانون على المستوى
السياسي والقضائي» [28] ، وهو تحويل تم عبر «عملية الأسطرة التي طالت
الحدث التاريخي التأسيسي الأول وحولته إلى حدث أسطوري» [29] ، والمقصود
بهذا الحدث التأسيسي الأول هو نزول الوحي.. وهذا ما يجعل القرآن يبدو كأنه
نوع من الأسطورة [30] .. والأسطورة كما يعرفها تعبير عن معنى مثالي مفتوح
وفق تاريخية تعتمد الترميز الفني الذي يختلط فيه الخيالي بالعقلاني [31] ..
فالخطاب القرآني في رأيه نموذج للتعبير الميثي (الأسطوري) ، يقول: «إن
الحكايات التوراتية والخطاب القرآني هما نموذجان رائعان من نماذج التعبير الميثي
(الأسطوري) » [32] . وإذا كان أركون قد أشار في بعض حواراته إلى أن ترجمة
كلمة (Mythe) ليست أسطورة، وأن مترجم كتابه «الفكر العربي» عادل
العوا قد أخطأ حينما ترجم جملة:
(Le Coran est un discours de Structure mythique)
بعبارة: «القرآن خطاب أسطوري البنية» ، وأنه ما قصد ذلك بل قصده أن
يقول: «إن القرآن قصصي البنية» [33] ، ورغم تأكيد تلميذه ومترجم مؤلفاته هاشم
صالح على أن «كلمة أسطورة في استخدامات أركون لها مأخوذة بمعناها
الوصفي الأنتروبولوجي وليس بأي معنى سلبي» [34] .. فإن القارئ لكتاباته يستنتج
العكس؛ حيث تأتي دائماً لتعبر عن المقابل السلبي للعقلانية والفكر العلمي،
مرادفة للمتخيل والمثالي واللا معقول.. فهو مثلاً يعول من بين أهداف دراسته
للتراث «توضيح التنافس المستمر بين المعرفة الأسطورية والمعرفة العقلانية
وروابطها المتغيرة والمتحولة» [35] .
فإذا بحثنا عن الجانب الذي يمثله النص القرآني داخل هذا التصنيف المعياري،
وجدنا من القرائن ما يثبت أن هذا النص باعتباره جزءاً من التراث حسب رؤية
أركون يعبر عن معنى أسطوري يتجسد من خلال خطابه المثالي وبنيته الفكرية التي
تترجم عن نوع من التعالي وتجاوز التاريخ؛ ولذلك فمما يعيبه أركون على
المستشرقين «تقديمهم للقصص القرآني والحديث النبوي والسيرة على أنها
تشكيلات استدلالية وعقلانية في حين أنها مدينة للمخيال الذي يبلور الأساطير
الخاصة بأصول كل فئة أو ذات جماعية، وتساهم في تأسيسها وإنجاز هويتها»
[36] .. إضافة إلى هذا فإنه يحاول أن يضفي الطابع الأسطوري على معطيات
التجربة الإسلامية وقيمها المختلفة انطلاقاً من إقامة نوع من التقابل بين فكر
أسطوري وآخر علمي، فيقول: «إن الفكر الأسطوري أو الأيديولوجي هو وحده
القادر على التحدث باسم المعايير الإسلامية» الموضوعية «، وبلورة هذه المعايير
بشكل مطمئن وواثق من نفسه؛ ذلك أن التفكير العلمي يرى أن هذه المعايير غير
موجودة بل تنتظر أن يتم البحث عنها وترسيخها أو تسويغها باستمرار» [37] ،
وهذا يعني أن هذه المعايير التي تبلورت من خلال الخطاب القرآني أصلاً لا يمكن
أن تعبر عن حقيقتها إلا عبر نموذج أسطوري ينجلي في الواقع بشكل طبيعي
ومقبول؛ لأنها تحمل في داخلها بذور هذا النموذج؛ فهي ذات مضمون وبنية
أسطورية تتشكل عبرهما تمظهراتها الخارجية؛ ومن ثم فهي لا تقبل أي تكييف
علمي لبلورة مفاهيمها أو صياغة صورتها الواقعية.
وهكذا يتبين أن أركون في تحليله لعلاقة الأسطوري بالمقدس يزاوج بينهما
انطلاقاً من أن أحدهما يعبر عن الآخر، أو أنهما يعبران عن شيء واحد، على
اعتبار أن تشكلهما كان متلازماً، أي أن كلاً منهما تشكل تاريخياً من خلال الآخر
وبه، ومن ثم لا يمكن الفصل بينهما.. ولعل هذا هو الأساس الذي يَبْنِي عليه
قراءته لمجمل التراث الإسلامي بنصوصه وأشخاصه وأحداثه.
أما بالنسبة لحديث أركون عن وقوع الخطأ في ترجمة كلمة (Mythe)
الفرنسية ففيه نوع من المراوغة؛ لأنه في الحقيقة لا يوجد مقابل عربي لهذه اللفظة
غير «أسطورة» أو «خرافة» أو «وهم» [38] ، ثم إن هذه الكلمة أصلها
(Mythos) الإغريقية التي تعني المقابل الطبيعي لـ (Logos) أي العقل،
وهو الأصل الذي تستمد منه معناها في اللغة الفرنسية المتداولة.. وبذلك فإن أي
مترجم متخصص مهما كان متمكناً لا يستطيع أن يخترع كلمة أخرى تؤدي المعنى
الذي يقصده أركون على فرض صدقه.
ونحن نجد أن مترجم جل أعماله هاشم صالح لا يخرج عن هذه القاعدة؛ ومع
ذلك فهو يعتمد هذه الترجمات ولا يحتج عليها بأي شكل من الأشكال، وحتى إذا
طالب بعدم الحكم عليه انطلاقاً من النص العربي مهما كانت الترجمة أمينة، باعتبار
أن المصطلحات الحديثة تثير الكثير من الإشكالات؛ فإن هذا لا ينفي كون
المضمون الذي تحمله كتاباته والوجهة التي تتخذها تحليلاته في قراءة النص القرآني
تدعم ذلك المعنى السلبي في توظيف مصطلح «الأسطورة» (Mythe) .
إن انجذاب الخطاب الأركوني نحو تأسيس منهج نقدي جذري في التعامل مع
الظاهرة القرآنية يقوم أساساً على الشك المطلق إنما يرمي في النهاية إلى هدم
مصداقية النص كمنطلق لهدم الدين؛ فهو يقول: «لا يوجد في الحالة الراهنة
للأمور أية مشروعية روحية أو أي معيار» موضوعي «، أو أي مؤلف ضخم
ومتميز يتيح لنا أن نحدد بشكل معصوم الإسلام الصحيح» [39] ، وفي هذا دلالة
عميقة على نفي موثوقية النص كأساس لإثبات نسبية الحقيقة الدينية، ومن ثم
إعطاء المشروعية لكل عمليات النقد والتخطيء والمراجعة والتصحيح وما يستوجب
الحكم بالنقص أو وجود الخلل والخطأ.. وفي السياق نفسه تفرض ضرورة التجاوز
للخطاب والقانون الذي يقدمه (الشريعة) ، انطلاقاً من «أن القرآن كما هي
الأناجيل ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا
يمكن أن تكون قانوناً واضحاً» [40] ، وفي هذا إشارة إلى استحالة تطبيق هذا
القانون؛ لأنه مبني على فروض مفارقة أكثر من كونه مقاربة للواقع، ولعل هذا ما
يفسر قوله: «إن القرآن يتكلم عن الدين المثالي الذي يتجاوز التاريخ، أو إذا ما
شئنا يشير إلى التعالي» [41] ؛ أي أنه خطاب قائم على مبدأ تجاوز الواقع من
خلال إعطاء الأسبقية للمثال، وتأسيس رؤية للتعالي تجعله نوعاً من الأسطورة.
وإذا كان القرآن كما قدمنا قد أخضع لمطرقة النقد الأركوني وقراءته التفكيكية
المسلحة بمنهج الشك المطلق؛ فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد إلى
غيره من الأصول الفكرية للإسلام مثل الحديث والقياس والإجماع؛ فالحديث عنده
قد تعرض «لعملية الانتقاء والاختيار والحذف التعسفية التي فرضت في ظل
الأمويين! وأوائل العباسيين أثناء تشكيل المجموعات النصية (كتب الحديث)
المدعوة بالصحيحة، لقد حدثت عملية الانتقاء والتصفية هذه لأسباب لغوية وأدبية
وتيولوجية وتاريخية» [42] ، ثم إن هذا الحديث، إضافة إلى الإجماع والقياس
وحتى القرآن «مبادئ غير قابلة للتطبيق» [43] !!
والخلاصة: إن شيئاً في الحقيقة لم يسلم من نقد أركون؛ فقد شمل التراث
الإسلامي جملة وتفصيلاً: القرآن، والسنة، وأصول الفقه، والمذاهب، والتاريخ،
وامتد إلى الصحابة، والفقهاء والأئمة، وطال العلماء وأفكارهم ومؤلفاتهم.
__________
(*) بني ملال - المغرب.
(1) الإسلام: الأخلاق والسياسة، ص 174.
(2) الوحدة، ع 20، ص 25.
(3) الوحدة، ع 13، ص 31.
(4) الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ص 31.
(5) الوحدة، ع 20، ص 32.
(6) الفكر العربي المعاصر، ع32، ص22.
(7) نقد العقل الإسلامي، ص33.
(8) الإسلام: الأخلاق والسياسة، ص 185.
(9) نقد العقل الإسلامي، ص 65 - 99.
(10) الوحدة، ع60، ص17.
(11) الوحدة، ع 20، ص32.
(12) نقد العقل الإسلامي، ص50.
(13) تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 150، الوحدة: ع 13، ص 30 - 40.
(14) تاريخية الفكر الإسلامي، ص 209.
(15) الفكر العربي المعاصر، ع 29، ص 83.
(16) الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ص 13.
(17) مواقف، ع 59/60.
(18) الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ص 51.
(19) تاريخية الفكر، ص 56.
(20) الفكر الإسلامي، ص 91، الإسلام: أخلاق والسياسة، ص 91.
(21) مواقف: ع 59/60، ص 20.
(22) نفسه، ص 20.
(23) تاريخية الفكر الإسلامي، ص 288.
(24) المصدر السابق، ص 288.
(25) المصدر السابق، 290 - 291.
(26) الوحدة، ع 96، ص 8 - 9.
(27) الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ص 278.
(28) تاريخية الفكر الإسلامي، ص 211.
(29) الوحدة، ع60، ص 46.
(30) الوحدة، ع13، ص 31.
(31) المصدر السابق، ص 31.
(32) تاريخية الفكر الإسلامي، ص 210.
(33) اختلاف (مجلة مغربية) : ع413، ص 70.
(34) الوحدة، ع13، ص31.
(35) تاريخية الفكر الإسلامي، ص17.
(36) المصدر السابق، ص 15.
(37) الوحدة ع 13، ص 31.
(38) قاموس المنهل، مادة Mythe.
(39) الوحدة ع 13، ص 31.
(40) تاريخية، ص 154.
(41) الوحدة، ع13، ص31.
(42) المصدر السابق، ص 32.
(43) تاريخية، ص 297.(179/102)
الورقة الأخيرة
على رسلكم يا أهل المنامات
د. عبد العزيز آل عبد اللطيف [*]
من المناسب في مطلع هذه المقالة أن نذكر أن الإمام الشاطبي ساق هذه القصة،
وهي أن شريك بن عبد الله القاضي - رحمه الله - دخل على الخليفة المهدي،
فلما رآه قال: عليّ بالسيف والنطع، قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في
منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني، فقصصتُ رؤياي على من عبّرها،
فقال لي: يظهر لك طاعة ويضمر معصية، فقال له شريك: والله! ما رؤياك
برؤيا إبراهيم الخليل - عليه السلام -، ولا أن معبرك بيوسف الصديق - عليه
السلام -، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحى المهدي وقال:
اخرج عني [1] .
ومع أن الرؤيا الصالحة من المبشرات لا سيما في آخر الزمان إلا أن أهل هذا
العصر غَلَب عليهم الانهماك في الرؤى والمنامات، فصار سؤالهم عن أحلامهم آكد
وأهم من السؤال عن دينهم، كما تزايد عدد المعبّرين وصاروا يتصدرون المساجد
والمجالس والقنوات الفضائية والمجلات، وغالى بعض المعبرين فجزم بأمور دقيقة،
وقطع بأمور غيبية مستقبلية [2] ، كما لو كان له رئي من الجن!
ومع إجلالنا لبعض أهل التعبير من أهل العلم والديانة إلا أن طائفة من
المعبّرين قد تقحمتْ هذا المسلك المتشعب، وخاضتْ في بحر لجيّ، ورحم الله
الإمام مالك بن أنس لما سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ قال: أبالنبوة يلعب؟ [3] .
فربما سئل أحد المعبرين عن كمّ هائل من الرؤى والمنامات فلا يترك شاردة
ولا واردة إلا فسّرها، فأين هؤلاء عن الإمام محمد بن سيرين - رحمه الله - الذي
كان يُسأل عن مائة رؤيا فلا يجيب فيها بشيء إلا أن يقول: اتق الله، وأَحْسِن في
اليقظة فإنه لا يضرك ما رأيت في المنام. وكان يجيب من خلال ذلك ويقول: إنما
أجيبه بالظن، والظن يخطئ ويصيب [4] .
وكثير من أصحاب المنامات لا يميّزون بين الرؤيا الصالحة والرؤيا الفاسدة،
فقد ذكر العلماء كابن الصلاح أمارات للرؤيا الفاسدة، كأن يرى مستحيلاً، أو يرى
في المنام ما قد رآه في اليقظة، أو يرى ما قد حدثته به نفسه في اليقظة، ويكون
مما قد يفكر به قبل النوم بمدة قريبة.. ونحو تلك العلامات [5] .
ومنهم من يرِّتب أحكاماً شرعية على تلك المنامات، والحق أنه لا يجوز
إثبات أحكام شرعية بها، فالرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلا
أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوّغتها عمل بمقتضاها،
وإلا وجب تركها والإعراض عنها [6] .
والمقصود أن لا نستغرق في عالم الأحلام، ولا نستسلم للمنامات هروباً من
واقع، أو تنصلاً من واجبات وتبعات، أو استرواحاً لعالم المُثْل! بل يتعين
الاشتغال بما ينفع من تحصيل علم نافع، وعمل صالح، ودعوة إلى الله، وجهاد
في سبيله؛ فهل نحن فاعلون؟
__________
(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
(1) الاعتصام، 1/ 261.
(2) وقع لبعض السابقين شيء من ذلك كما ذكر ابن رجب أن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي قد برع في معرفة تعبير الرؤيا، فكان الناس يتحيرون منه إذا عبّر الرؤيا، لما يخبر الرائي بأمور جرت له، فربما أخبر باسمه وبلده ومنزله، وكان جماعة من العلماء يقولون: إن له رئياً من الجن! (ذيل طبقات الحنابلة، 2/ 336) .
(3) انظر: فتح الباري، 12/363.
(4) الآداب الشرعية، لابن مفلح، 4/ 101.
(5) انظر: فتاوى، ابن الصلاح في مجموعة الرسائل المنيرية، 4/ 7.
(6) الاعتصام للشاطبي، 1/ 260، وانظر: الآداب الشرعية، لابن مفلح، 4 / 95.(179/110)
المنتدى
مشروع نشر ترجمة معاني القرآن
Project for Publishing English Meaning of the Qur'an
أخي الفاضل: قارئ مجلة البيان ... ... حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسر المنتدى الإسلامي أن يزف إليكم بشرى تبنيه واحدة من أدق وأسهل
الترجمات الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم والتي أسميناها (صحيح) . ولا شك أن
كلام رب العالمين يعد من أفضل الوسائل لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام ولذلك
فإن المنتدى الإسلامي يعتزم - بعون الله - إقامة مشروع دعوي يستهدف غير
المسلمين الناطقين بالإنجليزية وذلك بنشر وتوزيع ترجمة: (صحيح) للقرآن
الكريم. ولثقتنا أن هذا الخبر يثلج صدر كل غيور على الإسلام أحببنا أن نبشركم
به.
والله يحفظكم ويرعاكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... د. عادل بن محمد السليم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين عام المنتدى الإسلامي(179/113)
شعبان - 1423هـ
نوفمبر - 2002م
(السنة: 17)(180/)
كلمة صغيرة
ثرواتنا المهدرة ... حتى متى؟!
ما يحدث في عالمنا العربي من عدم استغلال الخيرات التي منحها الله لأمتنا
على مستويات عديدة منها الظاهر ومنها الخفي، ومن هذا الخفي نزيف العقول التي
تترك أوطانها في عالمنا لأسباب عديدة وتهاجر إلى الغرب فيحتضنها ويرعاها
ويستفيد منها أيما استفادة ويضيفها إلى رصيد قوته.
فتشير الإحصاءات المأخوذة من الدراسات التي قامت بها جامعة الدول العربية
ومنظمة العمل العربية ومنظمة اليونسكو وبعض المنظمات الدولية والإقليمية
المهتمة بهذه الظاهرة إلى الحقائق التالية:
- يساهم الوطن العربي في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية.
- أن 50% من الأطباء و 23% من المهندسين و 15% من العلماء من مجموع
الكفاءات العربية المتخرجة يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة،
وكندا بوجه خاص.
- أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم.
- يشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا حوالي 34% من مجموع الأطباء
العاملين فيها.
- أن ثلاث دول غربية غنية هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تصطاد 75%
من المهاجرين العرب.
- بلغت الخسائر التي منيت بها البلدان العربية من جراء هجرة الأدمغة العربية 11
مليار دولار في عقد السبعينيات.
وقد تزايدت هجرة العقول العربية في العقود الثلاثة الأخيرة لأسباب كثيرة
منها عدم توفير الظروف المادية والاجتماعية التي تؤمن مستوى لائقاً من العيش
بالإضافة إلى ضعف الاهتمام بالبحث العلمي، وعدم وجود مراكز البحث العلمي
المطلوبة؛ إلى جانب المشاكل السياسية والاجتماعية، وعدم الاستقرار التي تعاني
منها أقطار عربية مختلفة، وقدرت خسارة العرب بسبب هجرة العقول العربية بـ
1.57 مليار دولار سنوياً كما ورد في دراسة حديثة صدرت في دمشق.
ومما يلفت النظر في الوطن العربي أنه مع ازدياد معدلات هجرة العقول
العربية إلى الغرب يزداد اعتماد غالبية البلدان العربية على الكفاءات الغربية في
ميادين شتى بتكلفة اقتصادية مرتفعة ومبالغ فيها في كثير الأحيان.
وبعبارة أخرى فإن البلدان العربية تتحمل بسبب هذه الهجرة خسارة مزدوجة
لضياع ما أنفقته من أموال وجهود في تعليم وإعداد الكفاءات العربية المهاجرة،
ومواجهة نقص الكفاءات وسوء استغلالها والإفادة منها عن طريق استيراد الكفاءات
الغربية بتكلفة كبيرة.
إن الحقيقة المرة تكشف أن العالم العربي الذي ينفق على السلاح 60 مليار
دولار (يخزن في المستودعات) لا ينفق على البحث العلمي إلا 600 مليون دولار
فقط (يهدر بعضها في المصروفات الإدارية!!) ، وبينما تنفق الجامعات العربية
1% فقط من ميزانياتها على البحث العلمي، تنفق الجامعات الأمريكية 40% من
ميزانياتها على قطاع البحث العلمي!!
لا شك أن هناك أسباباً عديدة وراء هذه الظاهرة المؤسفة، ولا شك أيضاً أن
استمرارها وعدم التنبه لها ومعالجة أسبابها سوف يزيد هذا النزيف ويضاعف من
حالة (الأنيميا العلمية والعقلية) التي توهن من قوانا وتجرنا بالتبعية خلف عدونا.
فمتى نستغل طاقاتنا حتى لا تهاجر بمسوغات جلها غير معقول ولا مقبول؟(180/3)
الافتتاحية
ولا تهنوا ولا تحزنوا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فقد صدر في منتصف جمادى الثانية (منتصف أغسطس الماضي) تقرير في
الولايات المتحدة الأمريكية يسمى (تقرير ستراتفور) ، ذكر أن التحدي الحقيقي
الذي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية ليس تنظيم القاعدة، ولكنه حالة الاستياء
الشديدة المنتشرة في شتى شرائح المجتمعات العربية والإسلامية من السياسات
الأمريكية التي زادت من حدة الكره، وأحيت كوامن التحدي.
ويفسر التقرير الإصرار الأمريكي على ضرب العراق على الرغم من
معارضة معظم دول العالم، وبخاصة الحليفة منها لأمريكا، بأنه يهدف إلى خلخلة
النفسية الإسلامية وإصابتها بالإحباط واليأس، وإشعارها بالعجز الشديد عن إمكانية
تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة في العاجل أو الآجل، أو معارضة مشاريع
الأمركة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية.
وفي الاحتفالية الأولى لذكرى الحادي عشر من سبتمبر سعى الإعلام الأمريكي
لإبراز التفوق الأمريكي على العالم، وأنه لا يزال الأقوى والأقدر على مواجهة
الإرهابيين، وأكد وزير الدفاع الأمريكي في حوار له مع قناة (S.B.C)
الإخبارية أن الحرب النفسية جزء لا يتجزأ من أهداف الحملة الأمريكية على
الإرهاب، من أجل تأكيد الهيمنة الأمريكية، وإيجاد فراغ نفسي يُعجِز الآخرين عن
التقدم أو المعارضة..!!
وصرّح قائد القوات الأمريكية في أفغانستان في الاحتفالية نفسها أمام جنوده
في قاعدة (باجرام) : بأن القوات الأمريكية نجحت في إسقاط حكومة طالبان،
وتدمير مراكز القاعدة، ولكنَّ أهداف المرحلة القادمة تقتضي قطع جذور الإرهابيين
من أصولها حتى لا يخطر ببالهم في الحاضر أو المستقبل مواجهة الحضارة
الأمريكية!
ولا شك في أن من أشدِّ العوارض التي قد تسقط الأمة وتجعلها لقمة سائغة بيد
أعدائها المتربصين بها من كل مكان: داء اليأس والقنوط، وإذا سرت هذه الروح
في الجسد أهلكته، وراح يجرُّ أثقالاً إلى أثقاله، حتى لا يقوى على الحركة، ثم
يصبح بعد ذلك أسيراً للانكسار والمهانة، وهذا ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية
في حربها الشريرة!
لقد مرَّت الأمة بموجة استعلاء أمريكية عارمة، ونزعة استبدادية طغت شرقاً
وغرباً، ومع ذلك كله فإننا نرى في الأحداث العالمية المتصاعدة أفقاً مضيئاً عامراً
بالأمل، يحدو المخلصين من أبناء هذه الأمة المعطاءة إلى النهوض بجد للعمل
والبذل والعطاء.
إننا نرى الباطل يزداد طغياناً وبطشاً وغدراً، ولكننا في الوقت نفسه نرى في
طغيانه وبطشه وغدره بداية نهايته، وصدق المولى جل وعلا: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ
الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ
المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) .
نعم! لا نريد أن نسرف في التعلق بالأماني الكاذبة، والتطلُّع إلى السراب
الخادع، ولكننا في الوقت ذاته لا نريد أن نكون منكسي الرؤوس في مستنقعات
الهزيمة، ومواطئ الذل والمهانة، ولا نريد أن نغالط أنفسنا ونركز على الخسائر
فقط، ونرى واقع الأمة كله بتشاؤم وإحباط..!!
والأمل الذي نراه ليس مجرد عناد ومكابرة وتحدٍ وقفز على الواقع، وإنما هو
عقيدة راسخة نؤمن بها. قال الله تعالى: [وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ
مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف: 87) ، وقال تعالى: [وَمَن يَقْنَطُ
مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ] (الحجر: 56) .
كما أنه ظاهر ولله الحمد في واقع الناس ظهور الشمس في رابعة النهار؛ فقد
ازداد الوعي بحقيقة الصراع بين المسلمين واليهود والنصارى، وازداد انتشار
الصحوة الإسلامية، وانفتحت أبواب من الخير كثيرة، على الرغم من شدة حملات
التغريب والإفساد.
إن اليأس حيلة العاجز الذي يُؤْثِرُ الانسحاب والانعزال، ويفقد طريقه إلى
النهوض من جديد، وهو أعظم خدمة نقدمها لأعدائنا.
قال الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: «والذي ييأس في الضرِّ من عون
الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخيَّة، وكل رجاء في الفرج، ويستبد به
الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء ... ألا
إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا
بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر، والكفاح للخلاص إلا
بالاستعانة بالله، وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ومضاعفة
الشعور به» [1] .
وتأمَّلْ تربيةَ القرآن العظيم للصحابة رضي الله عنهم فبعد الانكسار الذي
أصابهم في غزوة أحد، وفقدهم لبعض الأجلَّة من أصحابهم كحمزة بن عبد المطلب،
ومصعب بن عمير رضي الله عنهما نزل عليهم قول الحق تبارك وتعالى ولمَّا
تجفَّ دماؤهم بعدُ: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]
(آل عمران: 139) .
إنها العزة والشموخ التي يبنيهما الإيمان في النفس؛ فالمؤمن الحق لا تزلزله
المحن، ولا تهده المكائد، بل يدعوه ذلك كله إلى مزيد من العطاء والبذل والتضحية
لدين الله تعالى ويبقى راسخاً سامقاً بعقيدته؛ ولهذا قال الله عز وجل بعد ذلك بآيات
قلائل: [وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ *
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (آل عمران:
146-148) .
إنها تربية تملأ القلب بمعين من القوة لا يضعف ولا ينهزم، فمن تربى على
حياض الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام فلن يتطرق الوهن إلى قلبه؛ بل تراه
صابراً ثابتاً وإن أحاطت به المحن من كل جانب.
نعم! ربما يألم ويتعب، لكن يهوِّن ذلك كله رجاؤه الصادق بما عند الله تعالى:
[وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ
مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] (النساء: 104) .
إن من أولويات الدعاة والصالحين في هذه المرحلة الحرجة أن يشيعوا الأمل
الصادق في نفوس الناس؛ الأمل الذي يدعو إلى الثبات على الدين والعض عليه
بالنواجذ، والعمل لنصرته والذب عن حياضه، ويجب علينا أن نؤمن يقيناً بأن
نصر الله تعالى لن ينزل على أوليائه بمعجزة خارقة، ولكن بسنَّة جارية يمتحن فيها
العباد ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
ولا شك أن هذا لن يتحقق بموعظة تتلى أو خطبة تلقى فحسب؛ ولكن
بقدوات صالحة قوية في دين الله، ذاقت حلاوة اليقين، وصدَّقت بموعود الله الذي
وعد به أولياءه المتقين.
قال الله تعالى: [فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ
فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ
لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ
أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 4-7) .
__________
(1) في ظلال القرآن، ص 2413.(180/4)
دراسات في الشريعة
أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين
(1 ـ 2)
د. عثمان جمعة ضميرية [*]
drothmanjd@hotmail.com
من الظواهر التي يلاحظها المتابعون للأحداث السياسية والفكرية في حياتنا
المعاصرة: كثرة الندوات والمؤتمرات الوطنية والإقليمية والدولية التي يشارك فيها
المسلمون وغير المسلمين، أو ينفرد بعقدها أحد الطرفين دون الآخر. ولن نقف
هنا لنبدي رأياً في مثل هذه المؤتمرات والدوافع الكامنة وراءها والفائدة المترتبة
عليها. وإنما نشير إشارة عابرة إلى المنهج الذي ينهجه المؤتمرون والمتحدِّثون؛
ففي مثل هذه الندوات والحوارات كثيراً ما يقف المتحدث موقف المدافع عن الإسلام،
فيلجأ إلى التسويغ أمام بعض الهجمات المغرضة على الإسلام والمسلمين، وقد
يدفعه ذلك إلى شيء من التكلّف والتمحُّل في تفسير النصوص وتعليل الحوادث
والوقائع، أو تبنِّي بعض الآراء التي قد لا تتفق مع ما هو مقرر في الأحوال العادية
أو مع ما يمكن قوله فيها. ولو أردت أن أضرب بعض الأمثلة على ذلك لوجدتها
في هذا الاهتمام الكبير بالحوار، في الوقت الذي يقوم فيه الطرف الآخر بالهجوم
علينا من كل جهة ومحاربتنا بكل وسيلة مع التظاهر بالدعوة إلى الحوار والتسامح
والانفتاح ... ومن الأمثلة أيضاً: ما ذهب إليه بعض الأساتذة والباحثين في تقرير
الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وتقسيم العالم إلى دار الإسلام
ودار الحرب، والكلام على دار العهد وطبيعتها.
ونعرض في هذه المقالة قضيةً واحدة من هذه القضايا التي انتشر القول فيها
يميناً ويساراً، حسب المنهج والدوافع، وهي: القاعدة العامة أو الأصل العام في
علاقة دار الإسلام بدار الحرب (الدولة الإسلامية بالدولة غير المسلمة) .
فالبحث محصور في هذا الجانب دون الجوانب الأخرى كالعلاقة بين المسلمين
وغير المسلمين الذين يعيشون على أرض الدولة الإسلامية.
ونبيّن أولاً معنى كلمة الأصل ليتحرَّر البحث، ثم نتبع ذلك بفقرات موجزة
لبيان المسألة والآراء فيها، لنصل إلى ما نراه صواباً موافقاً للأدلة الشرعية، بغض
النظر عن حال الضعف التي تسيطر على الأمة الإسلامية، فتجعل القول الصواب
وكأنه خطأ أو محض خيال. والله المستعان، وبه التوفيق.
* أولاً: معنى كلمة الأصل:
تطلق كلمة «الأصل» في اللغة العربية على معنيين:
(أحدهما) : أساس الشيء الذي يبنى عليه غيره، من حيث أنه يبتنى عليه،
بناء حسيّاً أو معنوياً.
(والثاني) : منشأ الشيء، أو ما أُخذ منه الشيء مثل: القطن أصل
المنسوجات؛ لأنها تنشأ منه وتؤخذ. ثمَّ كثر استعماله حتى قيل: أصلُ كلِّ شيء:
ما يستند ذلك الشيء إليه؛ فالأب أصل للولد، والنهر أصل للجدول. كما يطلق
أيضاً على ما يتوقف عليه الشيء، وعلى المبدأ في الزمان، أو على العلة في
الوجود [1] .
ثمَّ نقل علماء الشريعة كلمة «الأصل» إلى معانٍ أُخَر، مشتركاً اصطلاحياً،
فأصبح يطلق بإطلاقات متعددة وهي:
أ - الأصل بمعنى الدليل. وهذا ما تعارف عليه الفقهاء والأصوليون؛ حيث
يقولون: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. أي: دليلها.
ب - الأصل بمعنى الراجح، أي: الأَوْلى والأحرى من الأمور. مثل قولهم:
الأصل في الكلام الحقيقة «. أي: الراجح عند السامع هو المعنى الحقيقي دون
المعنى المجازي، وقولهم: الكتاب أصل بالنسبة إلى القياس. أي: راجح.
ج - الأصل بمعنى المقيس عليه الذي يقابل الفرع في القياس، كما في قولهم:
الخمر أصل النبيذ، بمعنى أن الخمر مقيس عليها والنبيذ مقيس.
د - الأصل بمعنى القانون والقاعدة الكلية التي تُرَدُّ إليها الضوابط
والاستثناءات، وتتفرع عنها الأحكام.
هـ - الأصل بمعنى المستصحَب، فيقال لمن كان متيقناً من الطهارة ويشك
في طروء الحدث: الأصل الطهارة. أي: تستصحَب الطهارة حتى يثبت حدوث
نقيضها؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
و الأصل بمعنى القاعدة المستمرة. ومن الأمثلة على هذا المعنى قولهم:
أكل الميتة على خلاف الأصل. أي: خلاف الحالة المستمرة والقاعدة العامة [2] .
ولا ينافي هذه الأصالة أن يتخلف الأصل في موضع أو موضعين.
فهذه المعاني لكلمة الأصل معانٍ اصطلاحية تناسب المعنى اللغوي؛ فإن
المدلول له نوع ابتناء على الدليل، وفروع القاعدة مبنيَّة عليها، وكذا المرجوح
كالمجاز مثلاً له نوع ابتناء على الراجح، وكذا الطارئ بالقياس إلى المستصحب.
والذي نريده في هذا المقام هو المعنى الأخير لكلمة» الأصل «وهو القاعدة
المستمرة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة» الأصل «بإطلاقاتها ومعانيها لا تعني
حكماً تكليفياً من الوجوب والحرمة ... فإذا قلنا: الأصل في العلاقة بين المسلمين
والحربيين هو الحرب أو السلم أو الدعوة، فإن هذا لا يعني أننا نصدر حكماً تكليفيّاً
على هذه العلاقة بأنه واجب أو حرام مثلاً. وإنما نبيِّن فقط القاعدةَ العامة التي تحكم
هذا العلاقة والصِّلات بين المسلمين وغيرهم من الأمم والدول غير المسلمة.
* ثانياً: أصل العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين:
ونبدأ بذكر نبذة مما جاء في كتاب» السِّير الكبير «للإمام محمد بن الحسن
الشَّيْبَاني وهو أول من أفرد للعلاقات الدولية كتاباً قائماً برأسه، وهو أبو القانون
الدولي في العالم لنستخلص منها موقفه من هذه المسألة ورأيه فيها لنقارنه بآراء
أخرى. قال - رحمه الله -:» وإذا لقي المسلمون المشركين؛ فإن كانوا قوماً لم
يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم، وإن كان قد بلغهم
الإسلام ولكن لا يدرون أنّا نقبل منهم الجزية، فينبغي ألاّ نقاتلهم حتى ندعوَهم إلى
إعطاء الجزية. به أَمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر
ما ينتهي به القتال. قال الله تعالى: [حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]
(التوبة: 29) ، إلا أن يكونوا قوماً لا تُقبل منهم الجزية كالمرتدين وعبدة الأوثان
من العرب فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. فإذا أَبَوا الإسلام قوتلوا من غير
أن يعرض عليهم إعطاء الجزية « [3] .
* ثالثاً: طبيعة الدعوة الإسلامية:
وحتى يكون الكلام أكثر وضوحاً في هذه المسألة؛ فإنه ينبغي أن نتعرف على
طبيعة الدعوة الإسلامية والنصوص التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم، وعندئذ
يتحدَّد أصل هذه العلاقة.
إن الدعوة الإسلامية التي أنزلها الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم دعوة عالمية ورسالة خاتمة للرسالات السابقة. أراد الله تعالى لها أن تكون
دعوة إنسانية موجهة للبشر جميعاً، لا تخاطب أقواماً بأعيانهم ولا جنساً بذاته،
رضيها الله تعالى للناس ديناً، فكانت هي» الدين «الكامل الذي أتمَّ الله تعالى به
علينا النعمة فقال: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِينا] (المائدة: 3) .
وقد تواردت النصوص الشرعية بدلالتها القاطعة على عموم رسالة الإسلام
وعالميتها منذ بداية الدعوة وهي لا تزال محصورة في شعاب مكة المكرمة،
وأصحابها لا يزالون يتخفَّوْن في دار الأرقم بن أبي الأرقم وسط المجتمع الجاهلي
الواسع؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة. قال تعالى:
[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] (سبأ: 28) . [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) . والخطاب موجَّهٌ للناس جميعاً: [قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو
يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ] (الأعراف: 158) .
والقرآن الكريم أنزله الله تعالى ليكون ذكراً للعالمين جميعاً، وليس لأمة بعينها:
[إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ] (التكوير: 27) . [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى
عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] (الفرقان: 1) . [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن
رَّبِّكُمْ] (النساء: 174) بل هو بلاغ لكل من يبلغه خبره وينتهي إليه أمره في
عصره وفي سائر العصور إلى يوم القيامة: [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ
وَمَن بَلَغَ] (الأنعام: 19) . والجنُّ والإنس في هذا الخطاب سواء: [يَا مَعْشَرَ
الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ] (الأنعام: 130) .
وأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عموم بعثته وعالمية دعوته فقال:
» أُعطيت خمساً لم يُعْطهنَّ أحدٌ قبلي: كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت
إلى كل أحمر وأسود - وفي لفظ: إلى الناس عامة - وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تحلّ
لأحد قبلي، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً؛ فأيّما رجل من أمتي أدركته
الصلاة صلَّى حيث كان، ونُصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأُعطيت
الشفاعة « [4] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطيت جوامع
الكَلِم، ونصرت بالرّعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً،
وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتِم بي النبيون « [5] .
ثمَّ وجَّه الدعوة لأهل الكتاب بخاصة فقال:» والذي نفسي بيده لا يسمع بي
أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثمَّ يموت ولم يؤمن بي إلا كان من أصحاب
النار « [6] .
ومما يشير إلى عالمية دعوته عليه الصلاة والسلام وعموم رسالته: أن
المعجزة الكبرى التي أيَّده الله تعالى بها مع ما أيّده به من معجزات كانت معجزة
خالدة دائمة تختلف عن معجزات الأنبياء السابقين، عليهم الصلاة والسلام؛ حيث
كانت تنقضي معجزاتهم المادية بوقوعها، ولا يبقى أثرها قائماً، ولهذا كانت
الشرائع قبل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إنما خُصَّ بها قوم دون قوم، وكانت
شريعته عامة لجميع الناس.
ولما كان هذا كله إنما فضل فيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فضلهم في الوحي
الذي استحق به اسم النبوة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام منبِّهاً على هذا المعنى
الذي خصَّه الله تعالى به:» ما من نبيٍ من الأنبياء إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه
آمن عليه البشر، وإنِّما كان الذي أُوتِيتُه وحياً أوحى الله إليَّ، فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعاً يوم القيامة « [7] .
فهذه الدعوة الأخيرة الخاتمة الناسخة للدعوات السابقة رسالة مفتوحة إلى الأمم
كلها، وللأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان، فناسب
أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للقريب والبعيد، لكل أمة ولكل جيل.
والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثمَّ تبقى بعد ذلك قصة
تروى لا واقعاً يُشْهد [8] .
وإن مما يدل على عالمية الإسلام، وأنه خطاب موجَّه للإنسان بما هو إنسان
دون النظر إلى جنسه أو لونه أو إقليمه: أن الإسلام هو نظام الكون كله؛ فإن كلَّ
ما في هذا الكون من أصغر ذرة فيه إلى أكبر جرم من الأجرام السماوية، إنما
يخضع لله سبحانه وتعالى خضوعاً اضطرارياً؛ فقد اتجهت إرادة الله تعالى إلى هذا
الكون فأوجدته، وأودعه سبحانه قوانينه التي يتحرك بها، والتي تتناسق بها حركة
أجزائه فيما بينها كما تتناسق حركته الكلية سواء بسواء. قال سبحانه وتعالى:
[إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ] (النحل: 40) . [وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً] (الفرقان: 2) .
وهذا الإنسان كذلك في جانب من جوانب وجوده منقادٌ لقانون الفطرة مجبول
على اتّباعه. وفي جانب آخر أوتي حرية الاختيار والرأي والعمل. وحتى يتم
التناسق بين هذين الجانبين من جهة، وبين وجوده كله ووجود الكون ونظامه من
جهة أخرى، حتى يتم هذا وذاك لا بُدَّ أن يخضع الإنسان لله سبحانه وتعالى
ويستسلم له ويدين بشرعه. وهكذا يكون الإسلام دين البشرية كلها، بل دين
الموجودات كلها، تلك التي تخضع لله سبحانه وتطيع: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ
وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ]
(الإسراء: 44) . [أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ] (آل عمران: 83) .
ومما يؤيد عموم دعوة الإسلام للبشرية جميعها مما يتصل بهذا الجانب الذي
أشرنا إليه: أن الواقع العملي لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته جاء
يترجم عن هذه الدعوة العالمية. فبعد أن كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه
على القبائل في موسم الحج وفي المواسم الأخرى، يدعوهم إلى الإسلام، وبعد أن
انتقل بالدعوة إلى المدينة الطيبة وأعلى الله دينه ومكَّن له في الجزيرة العربية ...
بعدئذ بدأ صلى الله عليه وسلم يبعث بالكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء وزعماء
العالم يدعوهم إلى الإسلام، فكتب إلى هرقل عظيم الروم، وكتب إلى كسرى عظيم
فارس، وكتب إلى نجاشيّ الحبشة، وكتب إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية،
وكتب إلى غيرهم من الملوك والزعماء [9] .
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإبلاغ هذه الدعوة، فصدع بالأمر ودعا
الناس جميعاً إلى دين الله تعالى: [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ]
(الحجر: 94) . [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) . [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ] (المائدة: 67) .
وهذه الدلائل كلها تقوم شاهداً عدلاً وحجة قاطعة على أن الإسلام دعوة للناس
جميعاً منذ اللحظة الأولى التي بعث الله تعالى فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم
وأمره بالقراءة باسم ربه» الذي خلق «؛ إذ موضوعها هو» الإنسان «وهي
موجهة كذلك» للإنسان «بما أنه إنسان، والكلُّ في هذا سواء.
واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في القيام بهذه الدعوة إنفاذاً لأمر ربه تبارك
وتعالى حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً. وحمل الرسالةَ خلفاؤه من بعده،
وأعلى الله كلمته وأظهر دينه على الأديان كلها [10] .
* رابعاً: علاقةُ دعوةٍ ينبثق عنها أصلُ العلاقة الدولية:
ومن ذلك كله يمكن أن ندرك أن علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى
على اختلاف ألوانها ولغاتها وأديانها ليست في حقيقتها علاقة سلم ولا علاقة حرب
ابتداءً، وأن الأصل ليس هو السلم مطلقاً، وليس هو الحرب مطلقاً،» وإنما هي
علاقة دعوة؛ فالأمة المسلمة أمة دعوة عالمية تتخطى في إيمانٍ وسموٍّ وعفوية كل
الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى، سواء كانت
هذه الحدود والحواجز جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية ... وهي بذلك تفتح
أبواب رحمة السماء لأهل الأرض أجمعين « [11] .
وإنما تكون العلاقة بعد ذلك علاقة سلم أو حرب، ويكون الأصل هو السلم أو
الحرب، بعد تحديد موقف الأمم والدول الأخرى من دعوة الإسلام قبولاً أو رفضاً.
ولذلك يقول الدكتور الغنيمي:» إن علاقة الدولة الإسلامية بأيٍّ من دول دار
المخالفين تتوقف على سياسة تلك الدول الإسلامية. وتلك لعمر الحق بدهية من
بدهيات السياسة الدولية. فإن هي نهجت منهج الموادعة والمسالمة كان حكمها هو
ما قررت الآية الكريمة: [لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ]
(الممتحنة: 8) . وعندئذٍ لا يطلب من المسلمين أن يمارسوا إكراهاً على هؤلاء؛
لأن الإقساط يتنافى مع الإكراه « [12] .
بل إننا نقول: إن الإكراه يتنافى دائماً مع الإقساط، وحتى في الحرب لا
يجوز أن يقع إكراه على قبول الدين.
ونقول أيضاً: إن وقفت دار المخالفين من الدعوة الإسلامية موقف الرفض
والعداء والحرب فإن حكمها هو ما قررته الآية الكريمة التي جاءت تالية للآية
السابقة وهي قوله تعالى: [إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم
مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]
(الممتحنة: 9) .
وقرر الإمام محمد بن الحسن - رحمه الله تعالى - أنه إذا لقي المسلمون
المشركين وكانوا لم يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم؛
لقوله تعالى: [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] (الإسراء: 15) . وبه
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، فقال:» ... فادعوهم إلى
شهادة أن لا إله إلا الله « [13] . ولأنهم ربما يظنون أنَّا نقاتلهم طمعاً في أموالهم
وسبي نسائهم وذراريهم. ولو علموا أنّا نقاتلهم على الدين لأجابوا إلى ذلك من غير
أن تقع الحاجة إلى القتال. وفي تقديم عرض الإسلام عليهم دعاء إلى سبيل الله
بالحكمة والموعظة الحسنة، فيجب البداية به [14] .
ولذلك يقول العلاَّمة أبو القاسم السِّمْنَانِيُّ الحنفي (499 هـ) :» وكل من لم
تبلغه الدعوة إلى الإسلام - فالسنة أن يُدعى إلى الإسلام ويعلم ما يدعى إليه -
ونبين له شرائعه وفرائضه وأحكامه، فإن أسلم كُفَّ عنه وخلِّي وشأنه، ودعي إلى
التحول إلى دار الإسلام والكون فيها، فإن لم يُجِبْ إلى ذلك كله دُعي إلى الجزية،
فإن بذلها كفّ عنه، وإن امتنع استعين بالله وقوتلوا على اسم الله وملة رسول الله
صلى الله عليه وسلم « [15] .
ويقول الكاساني (ت 587 هـ) : إن كانت الدعوة لم تبلغهم فعلى المجاهدين
الافتتاح بالدعوة إلى الإسلام باللسان، لقول الله تبارك وتعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) .
ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة؛ لأن الإيمان وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدعوة
بمجرد العقل فاستحقوا القتل بالامتناع، لكن الله تبارك وتعالى حرَّم قتلهم قبل بعثِ
الرسول عليه الصلاة والسلام وبلوغِ الدعوة إياهم، فضلاً منه ومِنّةً، قطعاً لمعذرتهم
بالكلّية ... ولئلا يبقى لهم شبهة عذر [فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آيَاتِك] (القصص: 47) . كما يجب تقديم هذه الدعوة كذلك؛ لأن القتال ما
فرض لعينه وذاته، بل للدعوة إلى الإسلام. والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي
القتال، ودعوة بالبيان وهو اللسان، وذلك بالتبليغ. والثانية أهون من الأولى؛ لأن
في القتال مخاطرة بالروح والنفس والمال. وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك،
فإذا احتمل المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها [16] .
وهذا يعني: أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الحرب في هذه الحال
هو السلم. ويبقى هذا قائماً إذا كان قد بلغهم الإسلام ولكن لا يدرون أنا نقبل منهم
الجزية ونعقد لهم الذمّة. فينبغي ألاّ نقاتلهم حتى ندعوهم إلى ذلك، وبهذا أمر النبي
صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال، وفي هذا التزام
بعض أحكام المسلمين والانقياد لهم في المعاملات فيجب عرضه عليهم إذا لم يعلموا
به [17] .
ويحول هذا العلاقة إلى حرب فيما عدا ذلك» فإن كانوا قوماً لا تقبل منهم
الجزية كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو
السيف. فإذا أَبَوا الإسلام: قوتلوا من غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية « [18] .
وروى الإمام محمد أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:» كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو القتل «وقال:
بهذا كان يأخذ أبو يوسف [19] .
وكذلك: من تقبل منهم الجزية إذا عرض عليهم الإسلام ولم يقبلوه،
وعرضت عليهم الجزية فلم يقبلوها أو يلتزموا بها، فإن العلاقة بهم علاقة حرب.
لذلك قال الإمام محمد بن الحسن:» فينبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى إعطاء
الجزية. وهو آخر ما ينتهي به القتال «يعني: فإن لم يلتزموا ذلك فقد وجب علينا
قتالهم.
* خامساً: مذهب جمهور الفقهاء:
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين هو الحرب
والقتال، وأن السلم ليست إلا هدنة يستعدُّ بها لاستئناف القتال والاستعداد له [20] .
فلا ينبغي موادعة أهل الشرك إذا كان بالمسلمين عليهم قوة؛ لأن فيه ترك القتال
المأمور به. وإن لم يكن بالمسلمين عليهم قوة فلا بأس بالموادعة؛ لأنها خير
للمسلمين، ولأن هذا من تدبير القتال. وحينئذ تكون الموادعة جهاداً معنىً؛ لأن
المقصود وهو دفع الشر حاصلٌ بها.
وإن السلم المطلق لا يكون إلا بإسلامٍ أو أمانٍ أي بالدخول في دين الإسلام أو
الرضا بعهد الذمّة. ولذلك قالوا: يقاتَل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو
يعطوا الجزية، ويقاتَل من سواهم من الكفار حتى يسلموا.
وقالوا: إن الجهاد لإعلاء كلمة الله وقتال الكفار الذين امتنعوا عن الإسلام
وأداء الجزية وهم ممن تُقْبل منهم واجب كفائي على المسلمين كل سنة وإن لم
يبدؤونا بالقتال.
وإن دعت الحاجة إلى القتال في كل عام أكثر من مرة وجب ذلك عليهم.
ولهذا لا تجوز المهادنة مع الأعداء إذا كانت الهدنة مطلقة لم تقيد بمدة [21] ؛ لأن
الإطلاق يقتضي التأبيد، وذلك يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، وهو غير جائز [22] .
قال الإمام محمد بن الحسن في» السِّير الكبير «:» الجهاد واجب على
المسلمين، إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يُحتاج إليهم؛ لقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ] (التوبة: 123) . ولقوله:
[وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] (الحج: 78) ؛ حتى لو اجتمع المسلمون على
تركه اشتركوا في المأثم. وفي مثل هذا يجب على الإمام النظر للمسلمين؛ لأنه
منصوب لذلك نائب عن جماعتهم. فعليه ألاّ يعطل الثغور، ولا يَدَع الدعاء إلى
الدين، وعليه حثُّ المسلمين على الجهاد، ولا ينبغي أن يَدَع المشركين بغير دعوة
إلى الإسلام أو إعطاء الجزية إذا تمكن من ذلك «.
هذه خلاصة ما جاء من نصوص عند العلماء المتقدمين، وهو ما نصّ عليه
أيضاً المتأخرون من العلماء المحققين، فقال الشوكانيُّ:» وأما غزو الكفار
ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية، أو القتل، فهو معلوم
من الدين بالضرورة الدينية، ولأجله بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه، وما زال
رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله سبحانه وتعالى إلى أن قبضه إليه
جاعلاً هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤونه. وأدلة الكتاب والسنة في هذا
لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها. وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا
المقاتلة: فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة على كل حال مع
ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم في ديارهم … « [23] .
وقال السيِّد صدِّيق حسن خان عن جواز الصلح مع الكفار:» ذهب الجمهور
إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين؛ لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة
الكفار، فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها. ولكنه لما وقع ذلك
من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلاً على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح
عليها. ولا تجوز الزيادة عليها، رجوعاً إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار
ومناجزتهم الحرب ... « [24] .
ولذلك يرى أستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي - رحمه الله - أن علاقة
المسلمين مع غير المسلمين لا تقوم على وجهها الإسلامي إلا إذا كان للمسلمين هيبة
تكفل لهم قيام الأحكام الشرعية وحسن تطبيقها؛ فإن تطبيق الشريعة الإسلامية في
المحيط الدولي يتطلب عزاً وكرامة وهيبة، فيكون لتسامحها ومرونتها أثره في
حسن الدعوة وحسن التمثل بالمسلمين. وبدون ذلك فإن التحدُّث بالعزة الإسلامية
يحمل على الاستخفاف فتطمع فينا الدول، وينتهزون ذلك ويستغلونه لمصالحهم كما
حدث بالنسبة لمعاهدات الامتيازات التي أولاها العثمانيون وهم في قوتهم للأوربيين،
فكانت أول مسمار في نعش هذه الدولة.
ومن أهم ما يوجبه الإسلام أن نقوم ببثِّ الهيبة الإسلامية كل سنة بإظهار القوة
العسكرية الإسلامية على الحدود؛ فإن القيام بالغزوات الآن محفوف بالقيود الدولية،
لذلك يجب على الأقل بثُّ الهيبة على الحدود بعد تحرير أراضي المسلمين والجهاد
لنصرة أقلياتهم المغلوبة، وهو عمل يسهل مع مضي الوقت وزيادة النفوذ الدولي،
وإن يكن صعباً في البداية، كما يجب القيام بالدعوة والتوعية بصورة فعَّالة موازية
للحرب المضادة على الأقلِّ [25] .
* سادساً: الأدلة على الأصل في العلاقات:
واستدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه بأدلة من القرآن الكريم، والسنة
النبوية، ومن الواقع العملي في السيرة النبوية، ومن المعقول:
أ - فمن القرآن الكريم: عموم الآيات الموجبة للجهاد والقتال التي لم تقيِّد
الوجوب ببداءة الكفار لنا بالقتال. قوله تعالى:
1 -[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
المُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوَهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ
القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ
جَزَاءُ الكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفَُورٌ رَّحِيمٌ] (البقرة: 190-192) .
فقد أمر الله تعالى بقتال الكفار وأهل الشرك الذين يناصبون المسلمين القتال
ويتوقع ذلك منهم؛ فهم بحالة من يقاتلوننا فعلاً؛ لأن جواز دفع المقاتَلِ عن نفسه ما
كان محرَّماً قط حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما المراد به: الذين يقاتلونكم
ديناً، ويرون ذلك جائزاً اعتقاداً، ولم يرد به حقيقة القتال [26] .
ويؤيد ذلك أن الله تعالى أخبر أن هذا شأنهم دائماً فقال: [وَلاَ يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) .
أما الذين ليس من شأنهم القتال: كالنساء والصبيان والرهبان؛ فإن هؤلاء لا
يجوز قتلهم لئلا يكون ذلك عدواناً؛ إذ إن العدوان يكون بقتلهم وقتل من أعطى
الجزية من أهل الكتاب والمجوس. فإن انتهوا عن الشرك والكفر بالله وعن قتال
المسلمين، بأن دخلوا في الإسلام أو قبلوا الخضوع لأحكامه بالتزام الجزية وعقد
الذمّة لهم، فإن الله يغفر لهم ما قد سلف.
ثمَّ أمر الله تعالى بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين حتى لا يكون شرك
بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون
العبادة والطاعة لله وحده دون غيره [27] .
وهذا ما ذهب إليه حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما،
وذهب إليه عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل من علماء السلف،
وهو ما رجَّحه الإمام الطبري وجمهور المفسرين رحمهم الله تعالى [28] .
وقال الشوكاني:» فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غايةٍ هي ألاّ تكون فتنة،
وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروجُ عن سائر الأديان المخالفة
له؛ فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحلَّ قتاله « [29] .
2 - وقال تعالى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً
وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]
(البقرة: 216) .
قال الطبري - رحمه الله -:» يعني بذلك: فرض عليكم القتال والقرآن
الكريم يستعمل معه هذا الفعل «كُتب» لبيان الطلب والفرضية في مواضع كثيرة
وعنى بذلك أنه مفروض على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقط
فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين. ولا تنافي هذه الفرضية أن الجهاد فيه «كُرْهٌ
لكم» أي: شاقٌّ عليكم، من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال ومشقة
النفس وخطر الروح « [30] .
3 - وفي سورة التوبة آيات كثيرة ناطقة بهذا، كقوله تعالى: [فَإِذَا انسَلَخَ
الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ
كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
(التوبة: 5) .
وعموم الآية الكريمة يقتضي قتل سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم،
وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، إلا أنه تعالى خصَّ أهل الكتاب بإقرارهم
على الجزية كما سيأتي في الآية الثالثة وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من
مجوس هجر [31] ، وتقدم في الحديث الصحيح عن بريدة صلى الله عليه وسلم أنه
كان إذا بعث سرية قال:» إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا
فادعوهم إلى الجزية، فإن فعلوا فخذوا منهم وكُفُّوا عنهم « [32] ، وذلك عموم في
سائر المشركين فَخُصَّ منه من لم يكن من مشركي العرب بالآية، وصار قوله تعالى:
[فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] خاصاً في مشركي العرب دون غيرهم [33] .
فإن تابوا ورجعوا عمّا هم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم والتزام الفرائض والاعتراف بوجوبها، فعندئذ خلُّوا
سبيلهم. أي: دَعُوهم فليتصرفوا في أمصاركم ويدخلوها [34] . وبذلك تنتهي حالة
الحرب معهم.
4 - ثمَّ أمر الله عزَّ وجلَّ بقتال المشركين جميعاً فقال: [وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ
كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً] (التوبة: 36) ففي هذه الآية الكريمة أمر بقتال الذين
يقاتِلون، فعُلم من ذلك أن شرطَ القتالِ كونُ المقاتَل مقاتِلاً أي ممن يمكن أن يقاتل،
فهو شرط للقتال وليس علة له [35] .
قال الجصَّاص: إن الآية الكريمة تحتمل وجهين: أحدهما: الأمر بقتال
سائر أصناف أهل الشرك إلا من اعتصم منهم بالذمة وأداء الجزية. والآخر: الأمر
بأن نقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين. ولما احتمل الوجهين كان عليهما؛ إذ
ليسا متنافيين؛ فتضمن ذلك الأمرَ بالقتال لجميع المشركين، وأن يكونوا مجتمعين
متعاضدين على القتال [36] . وذلك أن جماعة المشركين كافة يرون قتالكم كافة
مجتمعين متعاضدين، فاجتمعوا أنتم أيها المسلمون لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم
بنظير ما يقاتلونكم.
وعلى كل حالٍ فمعنى الآية الكريمة: قاتلوهم بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة؛
فهم يقاتلونكم جميعاً، لا يستثنون منكم أحداً ولا يُبْقون منكم على جماعة [37] ؛
وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم لا انتقاماً ولا عصبية، ولا للكسب كدأبهم في قتال قوِيّهم
لضعيفهم؛ فأنتم أوْلى بأن تقاتلوهم لشركهم.
5 - أما قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ فقد جاءت الآية الكريمة
التالية بشأنهم؛ حيث قال الله تعالى: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] (التوبة: 29) .
وكان نزول هذه الآية الكريمة والآيات التالية لها في السياق حين أمر الله
تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فكانت تمهيداً لغزوة تبوك ومواجهة
الروم وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب.
وقيل: نزلت في شأن بني قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم النبي
صلى الله عليه وسلم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل
الكتاب بأيدي المسلمين.
وفي هذه الآية الكريمة تحديد للعلاقات مع أهل الكتاب من الكفار خاصة،
بعد أن حددت الآيات السابقة في السورة نفسها طبيعة العلاقات بين المسلمين
والمشركين؛ فإن الجميع قد أطبق عليهم هذا الوصف، وهو الكفر، فإن الكفر وإن
كان أنواعاً متعددة مذكورة في القرآن والسنة بألفاظ متفرقة، فإن اسم الكفر
يجمعها.
وقد أبان الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الفرض في أهل الكتاب ومن دان
دينهم قبل نزول القرآن كله: أن يقاتَلوا حتى يعطوا الجزية أو يُسْلِموا [38] .
وسياق الآية الكريمة يلهم أن الأوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم
الموجهة إليهم الغزوة التي نزلت الآية تمهيداً لها، وأنها إثبات حالة واقعة بصفاتها
القائمة. فهذه الصفات لم تذكر هنا في الآية الكريمة على أنها شرط لقتال أهل
الكتاب، وإنما ذكرت على أنها أمور واقعة في عقيدة القوم وواقعهم، وأنها
مسوِّغات ودوافع للأمر بقتالهم. ومِثْلُهم في هذا الحكم كلُّ من تكون عقيدته وواقعه
كعقيدتهم وواقعهم. وقد حدَّد السياق من هذه الصفات القائمة:
أولاً: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: أنهم لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله.
ثالثاً: أنهم لا يدينون دين الحقِّ.
ثمَّ بيَّن السياق في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا
يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، وذلك بأنهم:
أولاً: قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وأن
هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين؛ فهم مثلهم في هذا
الاعتقاد الذي لا يعدُّ صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم. وأن
هذا مخالف لدين الحق. وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء. فهم بهذا مشركون لا
يدينون دين الحق.
ثالثاً: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم؛ فهم محاربون لدين الله. ولا
يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً.
رابعاً: يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال اليتامى بالباطل؛ فهم إذن لا
يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان المقصود رسولهم أو
محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الصفات كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام
والروم، كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرَّفت المجامع الدينية دين
المسيح (وقالت ببنوة عيسى وبتثليث الأقانيم على كل ما بين المذاهب والفِرَق من
خلاف يلتقي كله على التثليث على مدار التاريخ حتى الآن) [39] .
وإذن فهو أمر عام يقرر قاعدة مطلقة في العلاقة مع أهل الكتاب الذين تنطبق
عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم ...
ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها
لتُتْرك بلا قتال، كالأطفال والنساء والشيوخ والعَجَزَة والرهبان الذين حبسوا أنفسهم
في الأديرة ... بوصفهم غير محاربين فقد منع الإسلام أن يقاتَل غير المحاربين من
أية ملَّة وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية؛ لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على
المسلمين، ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء؛ فلا محل لتقييد
هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً. فالاعتداء قائم
ابتداءً، الاعتداء على ألوهية الله، والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله؛
والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله سبحانه، والدفاع عن كرامة الإنسان في
الأرض، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء ولا مفرَّ من مواجهة
طبائع الأشياء.
وهذا كله هو ما فهمه المفسرون من الآية الكريمة؛ فإنهم أجمعوا على أن قوله
تعالى: [مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ] (التوبة: 29) يعني اليهود والنصارى الذين
لا يدينون دين الإسلام. ولم يقيّدوا جواز قتالهم بأن يكونوا من المعتدين، ولم
يفهموا أن كلمة» مِنْ «في الآية للتبعيض، فيكون هناك أهل كتاب يؤمنون بالله
واليوم الآخر ويدينون دين الحق بعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام ويكون هناك
فرقة أخرى لا تؤمن بالله ... وهي التي أباح الإسلام قتالها، ولذلك قالوا: إن قوله
تعالى: [مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ] بيان لقوله: [الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ] (التوبة: 45) أي: من الموصوفين بهذه الصفات الأربع من أهل
الكتاب؛ فالصفات الأربع راجعة إلى الضمير المذكور أولاً. والمقصود تمييزهم من
المشركين في الحكم؛ لأن الواجب في المشركين القتالُ أو الإسلام، والواجب في
أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية [40] .
ولذلك لا نجد مستنداً صحيحاً لما ذهب إليه بعض الكاتبين من أن» صياغة
النص في آية التوبة السابقة واستعمال كلمة «من» بمعنى بعضهم أو فريق منهم
ظاهرةُ الدلالة على أن الأمر بالقتال ليس موجهاً ضدَّ (كل) أهل الكتاب بصفتهم
هذه، بل فقط ضدَّ فريق منهم تميز بصفة عدوانية ونكرانية للقيم الإنسانية
الأساسية ... وأن النص إنما يخص فريقاً من أهل الكتاب قد ارتد فعلاً عن العقيدة
المسيحية [41] ، عقيدة الإيمان بالله وبالبعث، وأصبح يعبد القوة في صورتها
العدوانية ويستعبد الناس بها، وإن اتخذوا العقيدة المسيحية الشكلية قناعاً لسلطانه،
أو أنه يخص فريقاً منهم دعا إلى إنكار وجود الله أو إلى إلغاء الدين « [42] .
6 - وقال الله تعالى: [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ
وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] (محمد: 35) . ففي الآية الكريمة حثٌّ للمؤمنين على الجهاد
وتحريم للتثاقل والجبن عن قتال المشركين والضعف، أو الدعوة إلى الصلح
والمسالمة ابتداءً، فمنع الله تعالى المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم
بحربهم حتى يسلموا، أو يلتزموا حكم الإسلام بعقد الذمّة؛ فالمسلمون هم الغالبون،
وآخرُ الأمر لهم وإن غُلِبوا في بعض الأوقات [43] .
يقول العلامة محمد صدِّيق خان في تفسير هذه الآية الكريمة:» أي: لا
تضعفوا عن القتال وتدعوا الكفار إلى الصلح ابتداءً منكم؛ فإن ذلك لا يكون إلا عند
الضعف. قال الزجَّاج: منع الله المسلمين المؤمنين أن يدعوا الكفار إلى الصلح،
وأمرهم بحربهم حتى يسلموا. واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو
منسوخة؟ فقيل: إنها محكمة وناسخة لقوله تعالى: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]
(الأنفال: 61) . وقيل: منسوخة بهذه الآية «.
ثمَّ قال:» ولا يخفى أنه لا مقتضى للقول بالنسخ؛ فإن الله سبحانه نهى
المسلمين في هذه الآية أن يدعوا إلى السّلم ابتداءً، ولم يَنْه عن قَبول السّلم إذا جنح
إليها المشركون؛ فالآيتان محكمتان ولم تتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى
دعوى النسخ أو التخصيص. وجملة [وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ] مقررة لما قبلها من النهي.
أي: وأنتم الغالبون بالسيف والحجة « [44] .
7 - وقال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ] (التوبة: 123) .
يقول الله - تعالى ذكره -: قاتلوا مَنْ وَلِيَكُم من الكفار دون من بَعُد منهم،
فابدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم داراً، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون
المخاطبين بهذه الآية الكريمة يومئذ: الروم؛ لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، وكانت
أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن
الفرض على أهل كل ناحيةٍ قتالُ مَنْ وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم
يضطّر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. فإن اضطروا إليهم، لزمهم
عونهم ونصرهم؛ لأن المسلمين يدٌ على مَنْ سواهم [45] .
قال الإمام أبو بكر الرازي الجصَّاص:» خَصَّ الأمر بالقتال للذين يلونهم من
الكفار، وقال في أول السورة: [فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] (التوبة:
5) وقال في موضع آخر: [وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّة] (التوبة: 36) فأوجب
قتال جميع الكفار، ولكنه خصَّ بالذكر الذين يلوننا من الكفار؛ إذ كان معلوماً أنه لا
يمكننا قتال جميع الكفار في وقت واحد، وأن الممكن منه هو قتال طائفةٍ، فكان
قتال مَنْ قَرُب منهم أَوْلى بالقتال ممن بَعُد؛ لأن الاشتغال بقتال مَنْ بَعُد منهم مع
ترك قتال من قَرُب لا يؤمَنُ معه هَجْم [46] من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم
وبلادهم إذا خلت من المجاهدين. فلذلك أمر بقتال من قرب قبل قتال مَنْ بَعُد،
وأيضاً: لا يصح تكليف قتال الأبعد؛ إذ لا حدَّ للأبعد يُبْتَدَأ منه القتال كما للأقرب.
وأيضاً: فغير ممكن الوصول إلى قتال الأبعد إلا بعد قتالِ مَنْ قَرُبَ وقَهْرِهم وإذْلاَلِهم.
فهذه الوجوهُ كلُّها تقتضي تخصيص الأمر بقتال الأقرب « [47] .
فالآية الكريمة تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك، وهي الخطة التي
سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بصفة عامة، فسارت
عليها الفتوح الإسلامية، تواجه مَنْ يلون» دار الإسلام، ويجاورونها، مرحلة
فمرحلة، فلما أسلمت الجزيرة العربية أو كادت ولم تَبْقَ إلا فلول منعزلة لا تؤلِّف
قوة يُخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد
الروم، ثمَّ كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس ... والأمر
بقتال الذين يَلُون المسلمين من الكفار، لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين
ولا على ديارهم.
وندرك أن هذا هو الأمر الأخير الذي يجعل «الانطلاق» بهذا الدين هو
الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد، وليس هو مجرد «الدفاع» كما كانت الأحكام
المرحلية أول العهد بإقامة الدولة الإسلامية في المدينة.
ويريد بعض الذين يتحدثون عن العلاقات الدولية في الإسلام أن يتلمسوا لهذا
النص النهائي الأخير قيداً من النصوص المرحلية السابقة، فيقيدوه بوقوع الاعتداء
أو خوف الاعتداء! والنص القرآنيُّ بذاته مطلق، وهو النص الأخير. وقد عوَّدنا
البيان القرآني عند إيراد الأحكام أن يكون دقيقاً في كل موضع، وأن يتخير اللفظ
المحدَّد، ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص،
إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص « [48] .
ب - ومن السنة النبوية: استدل الجمهور بحديث ابن عمر رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك
فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله « [49] .
فقد أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى
يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويلتزموا أحكام الإسلام. واللام في
كلمة» الناس «للجنس فيدخل في هذا: المشركون وأهل الكتاب الملتزمون للجزية
إن لم يسلموا. ولكن خرج أهل الكتاب من هذا العموم بدليل آخر هو آية التوبة
السابقة، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث. ويدل عليه رواية النَّسَائي:» أُمرت
أن أقاتل المشركين « [50] . ولهذا قال الطِّيبيُّ: هو من العام الذي خُصَّ منه
البعض؛ لأن القصد الأوليّ من هذا الأمر حصول المطلوب، كقوله تعالى: [وَمَا
خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) فإذا تخلف منه أحد في بعض
الصور لعارضٍ، فإن ذلك لا يقدح في عمومه. ألا ترى أنَّ عَبَدَة الأوثان إذا وقعت
المهادنة معهم تسقط المقاتلة وتثبت العصمة، ويجوز أن يعبَّر بمجموع الشهادتين
وفعل الصلاة والزكاة عن إعلاء كلمة الله تعالى وإذعان المخالفين، فيحصل بذلك
في بعضهم بالقول والفعل، وفي بعضهم بإعطاء، وفي الآخرين بالمهادنة [51] .
__________
(*) أستاذ العقيدة الإسلامية بجامعة أم القرى في الطائف.
(1) انظر:» معجم مقاييس اللغة «: 1/ 109،» المعجم الوسيط «: 1/ 20.
(2) انظر معاني كلمة الأصل هذه في:» التلويح على التوضيح «للتفتازاني: 1/ 9.
(3) انظر:» السِّير الكبير «مع شرح السَّرْخَسِيّ: 1 / 75 - 77.
(4) أخرجه البخاري: 1/ 436، ومسلم: 1/ 370.
(5) أخرجه مسلم، في الموضع السابق، ص (371) .
(6) أخرجه مسلم: 1/134.
(7) أخرجه البخاري: 6/3، ومسلم 1/134، واللفظ له.
(8) انظر:» في ظلال القرآن «للأستاذ سيد قطب: 19/2584.
(9) انظر:» زاد المعاد «: 3/692 - 697،» مجموعة الوثائق السياسية «، ص (146) وما بعدها.
(10) ولذلك كان من العجب والغريب بعد معرفة هذه الأدلة والشواهد، ما يلهج به بعض المستشرقين ممن عنوا بدراسة السيرة النبوية ودعوة الإسلام، من إنكارهم هذه الصفة العالمية للإسلام، حيث يقول وليم موير مثلا:» إن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما بعد، وإن هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، ويذهب كذلك كايتاني إلى هذا الرأي، انظر: «الدعوة إلى الإسلام» تأليف توماس أرنولد، ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين، ص (49 - 50) ، وهذا نموذج لتفكير المستشرقين ومناهجهم وأساليبهم يشير إلى أن بعضهم يقول ما لا يعقل أو يفكر بأدوات تفكير لا يفكر فيها إلا أمثالهم، فكيف جاءت فكرة عالمية الإسلام فيما بعد رغم الآيات المكية والواقع العملي للدعوة؟ وهل كان هرقل وكسرى والنجاشي عرباً يوجه إليهم النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة على أنهم عرب؟! .
(11) «ما هي علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى؟» د / أحمد محمود الأحمد، ص (7 - 8) .
(12) انظر: «قانون السلام في الإسلام» د / محمد طلعت الغنيمي، ص 104، وراجع: «الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي» د / عبد الله إبراهيم الطريقي، ص 26.
(13) أخرجه مسلم: 3/ 1357.
(14) انظر: «شرح السِّير الكبير» للسرخسي: 1/ 75 - 76.
(15) «روضة القضاة وطريق النجاة» للسمناني: 3/1237، تحقيق د / صلاح الدين الناهي.
(16) «بدائع الصنائع» للكاساني: 9/4304 - 4305 بتصرف يسير.
(17) انظر: «شرح السِّير الكبير» : 1/76، وراجع «المبسوط» : 10/7، «البدائع» : 9/ 43059.
(18) «السِّير الكبير» : 1/76 - 77 و 189، مع شرح السَّرْخَسِيّ، وانظر: «تفسير القرطبي» : 16/273 حيث قال: «حكم من لا تقبل منه الجزية أحد أمرين: إما المقاتلة، وإما الإسلام؛ لا ثالث لهما» .
(19) انظر: «كتاب السِّير» للشيباني، ص (222) بتحقيق د / مجيد خدوري، «شرح السِّير الكبير» : 5 / 1708.
(20) جعل الأستاذ ظافر القاسمي هذا المذهب نظرية لفريق من الباحثين المتأخرين، وناقش ذلك من خلال ردِّه على الشيخ صالح بن سعد اللحيدان في كتابه: «الجهاد في الإسلام» فأوهم الأستاذ القاسمي أن هذا مذهب الباحثين المتأخرين، بل مذهب فريق منهم، بينما نجد أن هذا مذهب عامة الفقهاء المتقدمين، ولم نجد كما سيأتي لأيٍّ منهم ما يخالف ذلك، إلا ما روي عن سفيان الثَّوْرِيّ رحمه الله في الجهاد الدفاعي وعدم وجوب البدء بالقتال إن لم يقاتلونا، وإن كان هذا في غير ما نحن فيه؛ لأنه رحمه الله لم يحرم الجهاد أو يمنعه، بل هو ينفي وجوب البدء إن لم يقاتلونا، وقد وضعه بعض الكتَّاب في غير موضعه وأنطقوا الإمام سفيان رحمه الله بما لم يقل به، انظر: «الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام» تأليف ظافر القاسمي، ص (160) .
(21) وهذا أحد القولين في مذاهب العلماء، وفي قول آخر أنه يجوز ذلك وهو الذي نصَّ عليه الشافعي في «المختصر» ، والمذكور عن أبي حنيفة: أنها لا تكون لازمة بل جائزة، فإنه جوَّز فسخها متى شاء، وهذا القول الثالث مال إليه ورجحه ابن قيم الجوزية واستدل له بجملة أدلة، انظر: «أحكام أهل الذمّة» : 2/ 476 - 490، وهذه المسألة جديرة ببحث مستقل.
(22) انظر نصوص العلماء وأقوالهم في: «المبسوط» : 10/2 - 3، «الكافي في فقه أهل المدينة» لابن عبد البر: 1/466 المجموع شرح المهذب «: 18/47 - 48،» المغني «: 10 / 381 - 383.
(23) انظر:» السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار «للشوكاني: 4/158 - 159، وهو بحروفه في» الروضة الندية «لصديق حسن خان: 2/ 479 - 480، وقارن بـ» أحكام أهل الذمّة «: 2/ 476 - 490.
(24) انظر:» الروضة الندية «22/ 479 - 480.
(25) انظر:» مصنفة النظم الإسلامية «د / مصطفى كمال وصفي، ص (339 - 341) .
(26) ولذلك لا يصح قول الدكتور محمد كامل ياقوت في كتابه» الشخصية الدولية في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية «ص (388) :» إن الآية انصبت على تقرير مبدأ تحريم الحرب والقتال إلا في حالة وحيدة، حالة الدفاع ضد عدوان قائم وفي حدود هذا الدفاع، واعتبرت تعدي حدود الدفاع الشرعي عدواناً حرَّمه الشرع --- وإن النصوص لا تجيز إلا قتال المعتدين، ثمَّ لا تجيز قتال المعتدين إلا إلى الحد الكافي لحسم عدوانهم دون التمادي في القتال «.
(27) يقول علماء اللغة العربية: إن» حتى «تدخل على الفعل المضارع فينصب بعدها بأن مضمرة وجوباً؛ وذلك مشروط بأن تكون دلالة الفعل بعدها على الاستقبال، لذلك يقول العلاَّمة جمال الدين محمد بن مالك الطّائي الجياني في كتابه» شرح الكافية الشافية «: 3/1542:» إنَّ (حتى) ينتصب الفعل بعدها بـ «أن» واجبةَ الإضمار، والغالب كون ما بعدها في النصب غايةً لما قبلها، كقوله تعالى: (لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (طه: 91) ، وقد تكون للتعليل وعلامتها أن يَحْسُن في موضعها (كي) --- ولا يكون الفعل في الحالين إلا مستقبلاً «، وفي ضوء هذا التوجيه اللغوي النحوي يفهم أن المراد من قوله تعالى: (وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة) (البقرة: 193) الاستمرار في القتال حتى تمتنع الفتنة مستقبلاً؛ فهي إذن ليست في موضع الدلالة على أنه لا يكون قتال إلا إذا وقعت الفتنة على المسلمين، والله أعلم، وانظر أيضاً:» شرح ابن عقيل على الألفية «: 2/45 (المكتبة التجارية) .
(28) انظر:» تفسير الطبري «: 3/ 561 - 574،» تفسير مجاهد «: 1/ 98،» تفسير البغوي «: 1/212 - 214،» تفسير القرطبي «: 2/347 - 354،» أحكام القرآن «للجصَّاص: 1/260 - 261،» أحكام القرآن «لإلْكِيا الهراس: 1/121،» تفسير أبي السعود «: 1/240،» تفسير ابن كثير «: 1/ 227 - 228.
(29) » فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير «للشوكاني: 1/ 191.
(30) » تفسير الطبري «: 4/295 - 299، وانظر:» تفسير البغوي «: 1/ 245 - 246.
(31) انظر:» صحيح البخاري «: 6/ 2579، وراجع» نصب الراية «للزيلعي: 3/ 448 - 449.
(32) أخرجه مسلم: 3/ 1357.
(33) انظر:» أحكام القرآن «للجصَّاص: 3/ 81.
(34) انظر:» تفسير الطبري «: 14/ 134 - 135،» تفسير البغوي «: 4/ 13 - 14، ... » تفسير القرطبي «: 8 / 72.
(35) انظر:» الصارم المسلول على شاتم الرسول «لابن تيمية، ص (282) .
(36) انظر:» أحكام القرآن «للجصَّاص: 3/111، وراجع» الطبري «: 41/ 241 - 242.
(37) » في ظلال القرآن «: 3/ 1652.
(38) انظر:» أحكام القرآن «للشافعي: 2/53، وله أيضاً» اختلاف الحديث «ص (56 و157 - 158) .
(39) انظر:» تفسير الطبري «: 14/198،» البغوي «: 4/ 33 - 34.
(40) انظر:» تفسير الطبري «: 14/198،» البغوي «: 4/33،» المحرر الوجيز «: 6/ 456،» أحكام القرآن «للجصَّاص: 3/91،» أحكام القرآن «لابن العربي: 2/919،» تفسير المنار «لرشيد رضا: 10/340.
(41) ليس هناك عقيدة مسيحية وعقيدة يهودية منزَّلة من عند الله تعالى، وإنما هي عقيدة واحدة ودين واحد بعث الله تعالى به جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو دين الإسلام وعقيدة الإسلام منذ آدم إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه الكريم في آيات كثيرة، كما في سورة البقرة (130 - 133) وآل عمران (67) والأنعام (162 - 163) والأعراف (126) --- إلخ، وانظر:» الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى «ص (11) وما بعد، لكاتب هذا المقال.
(42) انظر:» الشخصية الدولية في القانون والشريعة الإسلامية «د / محمد كامل ياقوت، ص (405 - 406) .
(43) انظر:» تفسير الطبري «: 62/63،» تفسير البغوي «: 7/29،» زاد المسير من علم التفسير «لابن الجوزي: 7/413،» تفسير ابن كثير «: 4/182،» أحكام القرآن «للجصَّاص: 3/ 393.
(44) » نيل المرام في تفسير آيات الأحكام «للسيد محمد صدّيق خان، ص (353 - 354) .
(45) انظر:» تفسير الطبري «: 14/574 - 575.
(46) قال في» المعجم الوسيط « (2/974) :» هَجَم المكانَ ونحوه هَجْماً: اقتحمه «.
(47) » أحكام القرآن «للجصَّاص: 3/ 162.
(48) انظر:» في ظلال القرآن «: 3/1736 - 1737 بتصرف، وعن القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على منهج الإسلام في الحركة والجهاد انظر أيضاً: 1564 - 1583 و 1620 - 1630.
(49) أخرجه البخاري: 1/75، ومسلم: 1/ 53.
(50) أخرجه النَّسَائي 7/75، وأبو داود: 3/334، والبيهقي: 3/ 92.
(51) انظر:» الكاشف عن حقائق السنن «للعلامة حسين بن محمد الطيبي، ورقة (17) .(180/8)
قضايا دعوية
بلاغ الرسالة القرآنية.. معالم في المنهج الدعوي
منهج التعرف إلى الله والتعريف به
(2 ـ 2)
د. فريد الأنصاري [*]
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن أن أول مقاصد القرآن الكريم هو تعريف
الناس بالله، وأن المعرفة بالله درجات ومراتب، وأن الذات لن تعرف إلا بمعرفة
أسباب وجودها، وأن مفهوم الخلْق دال عموماً على التكوين والإنشاء، وأن الذي
ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداءً عميقاً في معرفة من أسدى إليه نعمة
الوجود، وأن المراد من إحصاء الأسماء الحسنى هو العمل بها، وفي هذه المقالة
يتم الكاتب ما يراه من منهج التعرف إلى الله والتعريف به.
- البيان -
* مفهوم الحياة والتعريف بالله:
هل تعرف: ما الحياة؟ هذا المعنى اللطيف الغريب العجيب الذي يوصف به
كل كائن حي في هذا الوجود، ما دامت نسمتها الغريبة تسري بجسده، حتى إذا
فارقته تلك النسمة؛ فارق الحياة، أو بالأحرى فارقته الحياة؛ فصار ميتاً، ولم يعد
معدوداً من أحياء هذا الكون.
مهم جدا أن تستحضر أن (الحياة) بكل ألوانها وتجلياتها مصدرها واحد: هو
(الحي) سبحانه. فليس عبثاً أن يعلمنا الله أن من أسمائه الحسنى هذين الاسمين
العظيمين: (الحي) و (المحيي) . فهو الحي بذاته سبحانه، المحيي لغيره. ولا
حياة لأحد سواه إلا بأمره. فسبحانه وتعالى من رب عظيم، وله الحمد في الأولى
والآخرة.
وقد وصف الله جل جلاله (الحياة) في القرآن الكريم بصفتين متقابلتين:
الأولى هي (الدنيا) والثانية هي (الآخرة) . وذلك نحو قوله تعالى: [أَرَضِيتُم
بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ] (التوبة: 38) ،
وقوله سبحانه: [وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ]
(الرعد: 26) .
فالحياة إذن طبقتان: الأولى تنتمي إلى عالم الشهادة، وهي حياتنا هذه التي
نحيا بها، والثانية تنتمي إلى عالم الغيب، وهي الحياة الآخرة.
وقد علمت أن الإيمان بالآخرة في الإسلام من حيث هي (حياة) ركن من
أركان الإيمان الستة التي وجب على كل مسلم أن يعلمها، ويؤمن بها. ولنبدأ الآن
رحلة التدبر لهذا المعنى في الرسالة القرآنية.
ذلك أنه ما قُرِن بالإيمان بالله شيء في الكتاب والسنة مثل الإيمان باليوم الآخر.
فهو أصل من أصول الرسالة القرآنية، ومقصد من مقاصد البلاغ الإلهي. وما
كان ذلك ليكون لولا أن فيه حكمة ما. وهو ما نحاول اكتشاف بعض أسراره في
هذه الإشارات بحول الله.
وأما الآيات فلنذكر منها أمثلة تدل على ما سواها؛ فذلك في القرآن أكثر من
أن يحصى لفظاً ومعنى. ونحوه قول الله تعالى في حق المؤمنين الصالحين من
سائر الملل: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]
(البقرة: 62) ، وقوله عز وجل في حق المنافقين: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ] (البقرة: 8) . وقال في حق أهل الكتاب
الذين عرفوا الحق فأسلموا: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] (آل عمران: 113-
114) ، وقال في سياق التشريع: [ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ
الآخِر] (البقرة: 232) ، وقال سبحانه في حق العابدين من عُمَّار المساجد:
[إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ] (التوبة: 18) ، وقال
سبحانه في التنبيه على التأسي بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: [لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً]
(الأحزاب: 21) ، ومعلوم أن مثل هذا في القرآن كثير.
وأما السنة فقد تواتر فيها هذا المعنى بهذه الضميمة: «الإيمان بالله واليوم
الآخر» ، تواتراً معنوياً كلياً؛ فمن ذلك قوله عليه السلام: «من أحب منكم أن
يزحزح عن النار ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر» [1] ،
وقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو
ليسكت» [2] ، وقوله أيضاً: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريراً
ولا ذهباً» [3] . ونحوه في السنة الصحيحة كثير جداً.
والغاية عندنا إنما هي بيان طبيعة هذه العقيدة في الإسلام، واكتشاف بعض
أسرارها؛ إذ رغم أن المسلمين اليوم يؤمنون باليوم الآخر، إلا أن آثار ذلك في
حياتهم قليل جداً؛ بسبب عدم الإحساس بحقيقته في وجدانهم، وضعف السير إليه
خلال آياته؛ لاكتشاف مشاهده الإيمانية من خلال مشاهده القرآنية. وهذا عمل
إيماني وجب على كل مسلم أن يسعى لاكتسابه؛ حتى يجد ما وجد الصحابة من هذه
الحقيقة القرآنية العظمى. ويلتقط واحداً من أعظم مضامين رسالة الله رب العالمين
إلى الناس أجمعين. إن الله جل جلاله يخبرك يا صاحِ بخبر [فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى]
(طه: 13) ! وافقه عن الله ما يقول؛ فإن الأمر يهم وجودك، ومصيرك أنت
بالذات! اقرأ، وأنصت، وتدبر قوله تعالى: [إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ
مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ
السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (يونس: 24-25) .
ههنا لمفهوم (الحياة) حقيقتان: حقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الأخرى.
فأما الحياة الدنيا فأهم خصائصها الجوهرية أنها فانية؛ فهي محكوم عليها بـ
(الفناء) ، وقد ضرب الله لها في الآية السالفة مثلاً: وهو دورة الحياة والموت في
الطبيعة؛ إذ ينزل ماء الحياة في فصل الخريف وفصل الشتاء، غيثاً يبعث النبات
من أعشاب وزروع، فتبتهج الأرض بالربيع الزاهر، وتحتفل بموسم الجمال،
أشجاراً وأطياراً وأنهاراً، وزخرفة تعلو الروابي والبساتين والسهول؛ فتكون أشبه
ما تكون بالحسناء المتزينة بشتى التلاوين وفنون الصنعة؛ حتى تكون في أسحر
أحوال الإغواء والإغراء. ذلك أن الزخرفة الصارخة تلقي على قلب الإنسان شباكاً
سحرية، فتستوعب كل وجدانه وتفكيره، فلا يرى شيئاً بعد ذلك إلا من خلالها؛
حتى إذا جاء الصيف، وأنضجت الزروع حبوبها كان الحصاد مآلها، فلا ترى لها
في الأرض أثراً إلا هشيماً من حصيد؛ تماماً كما تتناثر أوراق الأشجار عند
الخريف، لَقىً ذابلاً تذروه الرياح بكل البطاح، فتعوي ريح الفناء بالوديان والقيعان
لتكنس كل أثر للحياة، وكأن الأشجار المتحطمة الأغصان ما أورقت قط ولا
أزهرت، وكأن الأطيار الراحلة في الأفق البعيد ما عششت ههنا ولا غردت [كَأَن
لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْس] (يونس: 24) .
ولنا في هذا المثال الرباني الحق عِبرتان كلتاهما ترجع إلى حقيقة كونية
عظمى: الأولى تتعلق بمفهوم المكان، أي طبيعة بناء الكون، والثانية تتعلق
بمفهوم الزمان، أي طبيعة حركة العمر.
فأما الحقيقة الأولى، أي مفهوم المكان؛ فهو راجع إلى أن هذا البناء الكوني
الممتد ما بين السماء والأرض ليست له طبيعة خالدة؛ لأن تكوينه الابتدائي كان
كذلك، أي أنه بني على هذا الوِزان، وهو أن يحيا إلى حين، لا إلى الأبد. فكل
المكان من حيث هو مكان قائم على مبدأ الفناء. فحركة أجرامه ومدارات فضاءاته،
كلها سائرة إلى نهايتها. ومن هنا كانت حياة هذا الكون الحالي إنما هي (الحياة
الدنيا) . فهي حياة. نعم! لكنها إلى حين، إنها (دنيا) : أي قريبة الأجل، لا
خالدة، ولا حتى ممتدة امتداداً طولياً حقيقياً، بالنسبة إلى امتداد (الحياة الأخرى) .
وكم أخطأ الناس في هذا الزمان في فهم معنى (الدنيا) ؛ إذ ظنوا أنها دالة على
الجمال، والغنى والرفاه؛ حتى جعلوا من أسماء بناتهم (دنيا) . وما هذا التعبير
بدالٍّ على المدح، بل له دلالة قدحية ناقصة. فالدنيا بهذا السياق خاصة من الدنو
والدناءة، وهي معنى نازل لا علو له. ولذلك قيل لسيئ الأخلاق: دنيء. أي له
أخلاق منحطة قريبة من الأرض. فالدنيا: حياة قريبة من الفناء، لا لذة حقيقية فيها
ولا متعة، ما دام كل شيء فيها إلى فناء. فهي دنيا. ومن هنا سمت العرب أبناءها
قبل الإسلام وبعده (خالداً) و (خالدة) ؛ إذ رغبوا قبله في الخلود الدنيوي، وهو
محال؛ لأن الضدين لا يجتمعان، ثم رغبوا بعده في الخلود الأخروي السعيد، وهو
ممكن بإذن الله.
إن بناء الكون الدنيوي له ساعةٌ ينهار فيها، ثم يفنى بإرادة الله، فلا يبقى
شيء إلا الله الواحد الأحد. وهذه الساعة هي (الساعة) بتعبير القرآن؛ ذلك
الحدث الكوني العظيم. سألتك بالله أن تتدبر قوله عز وجل: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِ لاَ هُوَ ثَقُلَتْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: 187) ، ومثله قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ] (الحج: 1-2) . والساعة: هي القيامة، والواقعة، والقارعة،
والصاخة ... إلخ من الأسماء التي عبر فيها الرب العظيم عن لحظة نهاية الكون
الدنيوي. فالكون الدنيوي إذن تكوين ابتدائي، والكون الأخروي تكوين استئنافي.
قال جل جلاله: [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ
وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ] (الأنبياء: 104) ، وقال سبحانه: [أَوَ لَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
(العنكبوت: 19-20) ؛ ولذلك قال تعالى: [ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]
(الأعراف: 187) كما أوردناه قبل.
إن الساعة إذن هدم وبناء: هدم لكون الدنيا، وبناء لكون الآخرة. إنها تحول
كوني عجيب من طبيعة إلى أخرى، يحدث في لحظة واحدة، كاللمحة من البصر!
كما في قوله تعالى: [وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ
البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (النحل: 77) . وقال: [وَمَا
أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ] (القمر: 50) .
إن الكون الدنيوي خَلْقٌ فانٍ، ومعمار إلى زوال. هذه هي الحقيقة الأولى.
أما الحقيقة الثانية، أي مفهوم الزمان؛ فهو مرتبط في دلالته بالمكان، بل
إنما الزمان وليد حركة المكان. فالمكان الفاني لا ينتج عنه إلا زمان فان. كما أن
المكان الخالد لا ينتج عنه إلا زمان خالد. ومن هنا كان العمر البشري مهما توهمنا
أنه طال قصيراً جداً. ويكفينا في ذلك حقيقة واحدة: هي أن الشهوات الدنيوية كلها:
لذتها تنتهي ببدايتها! كل شوق إلى المزينات الدنيوية يموت بمجرد الحصول
عليها؛ فلذة الطعام الشهي الجميل إنما تشعر بها قبل أن تأكله، وعند بداية الأكل،
ثم يبدأ بعد ذلك خط التلذذ في الهبوط حتى درجة الشبع، فالتخمة، حتى يصير
اللذيذ بعد ذلك ممجوجاً قبيحاً، وقد كان قبل قليل في غاية اللذة. وقس على ذلك كل
المتع الدنيوية، مما زين للناس، من مثل الوارد في قوله تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ] (آل
عمران: 14) . إن طبيعة الشهوات الدنيا أنها فانية، لا تكاد تبتدئ حتى تنتهي!
وإنما جمال المتعة هو الخلود فيها. هذا هو الجمال الحق، وتلك هي الحياة الحق؛
ولذلك قال بعده مباشرة ينسخ قبح الزوال بجمال الخلود: [قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن
ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ
مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] (آل عمران: 15) . قضية العمر
أو الزمان راجعة إلى هذا المعنى، فالفرق فيه ما بين الوهم والحقيقة؛ هو بالضبط
فرق ما بين الفناء والبقاء.
وما أجمل قول الله الملك السلام في آيتي (يونس) مما أوردنا قبل للتدبر:
[إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ
عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ] (يونس: 24-25) . تدبر قوله في آخر الكلام: [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ
السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] .
إنه معنى جميل جداً؛ فقد جاء مقابلاً لما ذكر من أمر الحياة الدنيا وزخرفها
الفاني، ومآلها الحصيد. إذ كل ذلك مُوحٍ بالخوف والخراب؛ لأن دار الدنيا هي
دار الخراب؛ فكل نفس تعلقت بها إنما تعلقت بالوهم، وهذه حقيقة رهيبة تملأ
القلب هولاً وفزعاً، إذا كان لهذا الإنسان القارئ أو المستمع للخطاب الرباني قلب
فعلاً [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) ،
فمقابل ذلك الشعور بما صوره القرآن لك من مآل مأساوي للحياة الدنيا، مكاناً
وزماناً؛ ينفح الله روحك بالبشرى: [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ] . السلام الحق
الجميل الممتد بلا نهاية، يملأ عرض السماوات والأرض؛ ولكن فقط لمن آمن
واهتدى. ولذلك قال: [وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] . فلا جنة بلا
هداية. عمر ممتد بلا نهاية، وزمان بلا حساب، يغرف من جمال الله خلوداً إلى
الأبد. ذلك هو السلام. قال عز من قائل: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *
نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ] (فصلت: 30-32) .
* الحياة بين الطول والعرض:
إن الإنسان عندما يتدبر هذه الحقائق القرآنية العظيمة يرى بأم عينيه أن العمر
الدنيوي مجرد حلم، وأن مفهوم (الحياة) إنما يتجلى بصورة حقيقية في الآخرة،
حتى لكأن ما دون الآخرة ليس بحياة! وتلك آيات القرآن العظيم ناطقة بهذا. قال
عز وجل: [وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ] (العنكبوت: 64) . فلفظ {الْحَيَوَانُ} صيغة دالة في العربية على
الامتلاء، كقولك (فيضان) بدل (فيض) ؛ إذا كان قد بلغ السيل الزبى، والتقى
الماء على أمر قد قدر، فجرف كل شيء، فيقال حينئذ: (فيضان) . فلفظ
(حيوان) هو بمعنى الامتلاء حياة، بل هو فيضان الحياة. تلك هي طبيعة الحياة
الآخرة تفيض بالحيوية والحياة، وتمتد نعمها التي لا تنفد على عرض الكون، فلا
يعرف لها نهاية، خلوداً مؤبداً، إلى ما شاء الله. ويبقى ما دون ذلك من (حياة)
أشبه ما يكون بطعم الصياد الذي يغري الفريسة لتقع على المتعة الوهمية؛ فتكون
من الهالكين. فهي (متاع الغرور) حقاً، كما قال عز وجل في سياق آخر: [كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] (آل عمران: 185) .
والكافر لا يرى ذلك إلا بعد هلاكه. فما أعجب تعبير القرآن في هذا! إذ
يقول الله تبارك وتعالى: [وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ
الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي] (الفجر: 23-24) . فحسرة الكافر
وندمه إنما هو لكونه لم يقدم لحياته. ويقصد الحياة الآخرة، ولكنه لم يصفها بـ
(الآخرة) ؛ للدلالة على أنها هي وحدها حياته؛ إذ أدرك الآن عياناً أن ما سبق من
حياته الدنيا ليس بحياة. فندم على تفريطه في حياته الحقيقية: الآخرة. ونتيجة
الأمر أنه ما حيي إلا من حيي في الآخرة وللآخرة. وأما الدنيا فهي بالنظر إلى هذا
المعنى ليست بحياة؛ إلا مجازاً. فإذن لا طول للحياة الدنيا ولا بقاء لها مكاناً وزماناً.
بل هي مجرد خدعة للإنسان إن لم يستثمرها للحياة الحقيقية: الآخرة. إنها لو
تدبرت عمر في أيام.. فلا طول. وإنما الطول مفهوم يدل على الحصر؛ إذ ما
سمي طولاً إلا لقابليته للعد والقياس، وكل معدود محدود. ومن هنا وصف الله
الجنة بالعرض دون الطول. وذلك بعدما قرر عز وجل طبيعة الحياة الدنيا، فقال
على سبيل الجزم والتحذير: [اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ
مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (الحديد: 20-21) .
لقد ابتدأ الخطاب في الآية بهذا الأمر الجازم: (اعلموا..!) والعلم إدراك
الشيء على ما هو عليه في الواقع قطعاً ويقيناً، أي بلا تردد ولا شك، ولا ظن.
(اعلموا..) هكذا قطعاً.
وجاء المثال القرآني العجيب مرة أخرى بصيغة أخرى: مثال الزرع؛ إذ
ينبهر الفلاح بخضرته وجماله وسنبله، فلا يلبث أن يصير حقله الجميل حطاماً، أو
حصيداً كأن لم يغن بالأمس! فكذلك الدنيا كلها بزينتها وأموالها وأولادها.. [وَمَا
الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] . وهنا جاء المقابل الأخروي هذه المرة في القرآن
الكريم بصيغة فريدة.. لا مثيل لها، جاء طلب المسابقة إلى المغفرة والجنة،
ووصف الجنة بما قال عز وجل: [عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] فوصفها
بالعرض دون الطول. ذلك هو الزمان الأخروي السعيد، والعمر الجميل المديد.
تلك هي الحياة.. (خالدين فيها أبداً) . إن (الطول) - كما ذكرنا - مفهوم محدود
معدود. والجنة لا حد لها، ولا عد. إنها (الحيوان) . فلا يليق بوصفها من ألفاظ
الامتدادات إلا (العرض) ؛ إذ بالعرض تعيش اللحظة الواحدة أكثر من مرة. أما
الطول فلا يتيح لك من اللحظة الواحدة إلا خطوة واحدة، تخطوها إلى أمام؛
لتصبح بعد ذلك من (الماضي) ، فلا يمكنك أن تسبح في النهر مرتين، كما قال
الحكماء. وأما العرض فهو امتداد أفقي في الزمان الفسيح؛ إذ تتمتع بالمتعة الواحدة
أبداً، وتعيش الشعور الواحد أبداً، وتغرف من اللحظة الواحدة معنى الخلود.
صورته في الدنيا هي (بركة العمر) ؛ حيث يبارك الله العمر القصير ولا يكون
العمر إلا قصيراً ويزكيه؛ فينجز المؤمن فيه من الصالحات ما يمكنه بإذن الله من
الخلود في الجنة. وصورته في الآخرة: حياة سعيدة مطلقة في الزمان، سابحة في
الجمال، تنعم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فما أبلد من يستنزف طول عمره على حساب عرضه! ولا يسابق إلى هذا إلا
من عرف الله ابتداء، ثم اكتشف هذا المعنى اللطيف (للحياة) ، وذاق جماله،
فسابق إليه. وإنما [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] .
فكيف السبيل إلى ذلك، وكيف المسير؟ ذلك هو البلاغ الرابع من بلاغات الرسالة
القرآنية. فيه بيان طريق العمل، ورسم معالم السلوك. حتى إذا وجدت ما وجدت،
وعرفت من ربك ما عرفت، أبت عليك معرفتك، وما فاضت به عليك من جمال
الأخوة الكونية؛ إلا أن تسعى بهذا الخير إلى الناس كل الناس.. داعياً إلى الله
ومعرفاً به. لا يمكن لعارف بالله حقاً إلا أن يكون داعية إليه. وهل يستطيع المحب
أن يكتم من محبته شيئاً؟ إن الوجدان ليضيق عن كتمان جمال تشرق أنواره على
الكون كله! .. ولا يمكن للنور إلا أن ينير!
* إن الدعوة إلى الله إنما هي تعريف بالله.. فتأمل!
فكيف إذن يكون التعريف بالله؟ ذلك ما تبينه آيات الدعوة إلى الله من سورة
(فصلت) ، ذات (القواعد العشر) . إنها خلاصة القول فيه، وجماعه؛ فقد فصلت
المنطلقات تفصيلاً، وحددت الغايات تحديداً، وضبطت الوسائل ضبطاً. إنها منهج
متكامل بذاتها في الدعوة إلى الله. وإن الناس اليوم لو أخذوا بها وحدها في هذا
الشأن لكفتهم. اقرأها أولاً، ثم لنتعاون معاً على تدبرها آية آية إن شاء الله؛ عسى
أن نصل إلى رسم منهاج قرآني للدعوة إلى الله. قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي
كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي
أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] (فصلت: 30-36) .
هذه هي القواعد العشر في الدعوة. فأحصِ معي أصولها من خلال هذه
الآيات واحدة واحدة، وتدبر:
1 -[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ] .
2 -[ثُمَّ اسْتَقَامُوا] .
3 -[تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا] عدها واحدة إلى قوله تعالى:
[نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ] .
4 -[وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّه] .
5 -[وَعَمِلَ صَالِحاً] .
6 -[وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] .
7 -[وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ] .
8 -[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] .
9 -[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] .
10 -[وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] .
هذا هو الظاهر الجلي، ولكن يجوز أن تجد أكثر؛ فالقرآن بحر زاخر
بالكنوز، لا يحصي معانيه إلا الله جل جلاله.
- أما القاعدة الأولى: فهي أن (قول: ربنا الله) إعلان للتوحيد. تدبر..
إنه (قول) . وهذا شيء مهم في حد ذاته، (فقوله) ذلك إعلان له، ودعوة إليه،
وترسيخ له في المجتمع. ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله: أن
يقول له في الإسلام شيئاً لا يسأل عنه أحداً بعده؛ فقال له صلى الله عليه وسلم:
«قل آمنت بالله فاستقم» [4] ، وفي رواية أخرى: «ثم استقم» . هكذا (قل)
تصريحاً لا تلميحاً، إعلاناً وإشهاراً لا تورية وتقية، [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن]
(النحل: 106) . فإنما أصل الدين إعلان توحيد الله، ورفع راية (لا إله إلا
الله) . فارفعها يا صاحِ عالياً عالياً، ارفعها فوق كل راية؛ حتى لا تظهر فوقها
راية، [وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] (الأنفال: 39) . قل: «آمنت بالله» حيثما
حللت وارتحلت، قلها في كل مكان.. أعلن تدينك ولا تخفه، أشهر سلوكك
الإسلامي، وانتماءك الحضاري، وصبغتك الربانية، وكونك من أمة محمد صلى
الله عليه وسلم. عش بهذا المنطق، وبهذا الشعور واعتز به، ولا تخجل «إنك
على صراط مستقيم» . إنه مبعث الفخر إذا افتخرت الأمم بتفاهاتها المادية،
وخزعبلاتها الفكرية، هذا دين رب الكون كله فاعتز به. [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) . [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ] تلك هي القاعدة الأولى، فاحفظها بوجدانك؛ فقد جعلها الله أول شرط
الفلاح. فاعرف ربك وعرِّف به على ما فصلنا في البلاغ الثاني من هذا الكتاب،
تكن قد قلت: ربنا الله.
- وأما القاعدة الثانية: فهي الاستقامة على قولك ربنا الله.. [ثُمَّ اسْتَقَامُوا] ،
أي الالتزام بما أقررت، والوفاء بما شهدت به على نفسك، وشهد به عليك الله،
والملائكة، والناس أجمعون. ذلك صراط مستقيم أقررت به، فاستقم عليه عقيدةً
وسلوكاً، ظاهراً وباطناً، خوفاً ورجاء؛ تكن من الصادقين؛ ذلك أن الاستقامة على
توحيد الله معرفةً وتعريفاً في ربوبيته وألوهيته، وما تفرع عن هذه وتلك، من
معان رفيعة سامية، كعبادته تعالى بما له من أسماء حسنى وصفات عُلا، إثباتاً لها،
ودعاءً بها، وسيراً إليه في أنوارها.. كل ذلك وما في معناه من مقتضياته يجعلك
مسلماً حقاً، ويحقق وعد الله فيك من الأمن في الدنيا والآخرة. وبيانه كما يلي:
- القاعدة الثالثة: التبشير وعدم التنفير. وذلك ببناء الكلام في الدعوة إلى
الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ على قصد تحبيب العباد في رب العباد.
إذ على ذلك ينبني مفهوم الخوف والرجاء. انظر كيف بشر الله من استقام على
ذلك بالجنة وبالولاية الربانية الحقة، والنجاة من غضبه وعذابه. إنه شعور جميل
جداً. شعور بالأمن الروحي، والسلام الوجداني، يفيض بالقلب المؤمن الصادق.
إن العبد ليجد جمال الكرم الإلهي في نفسه، ونور رحمته ينبعث من صدقه، في
توجهه وسيره إلى الله، مع خوفه من زوال ذلك؛ مما ينشط حركة سيره، وسرعة
إقباله على ربه رغباً ورهباً. فـ (البشرى) هي أعظم ما يحب الإنسان أن يسمع
في حياته. وهي أرفع منازل الدعوة إلى الله، وأرقاها غاية ووسيلة. إلا أنه معلوم
شرعاً وعقلاً أن البشرى لا تتحقق إلا إذا لابسها خوف عدم حصول المرتجى.
فالتخويف أساس لتحقيق التبشير؛ ولذلك قلما ذكر الترغيب في القرآن إلا ذكر معه
الترهيب؛ فهما حقيقتان متلازمتان. إلا أن ضابط ذلك وجماعهما هو التحبيب. أي
لا يجوز أن يُفَرِّط المرء في أحدهما، أو يُفْرِط بما يؤدي إلى تنفير النفس عن
المقصود، وتيئيسها من الله والعياذ بالله. بل يجب أن يكون التخويف على قدر ما
يحبب العباد في رب العباد؛ فههنا ميزان من الحكمة قلَّ من يحسنه من الناس.
ولذلك قال ابن القيم - رحمه الله -: «ويندرج الخوف والرجاء في الحب» [5] .
فاجعل التبشير بالخير في الدنيا والآخرة جوهر خطابك للناس، واجعل النذارة
له مصدقة؛ حتى لا تتواكل الأنفس، وتتراخى عن أداء حق الله. واقصد إلى
تعريف الخلق بالله؛ فإنهم إن عرفوه حقاً أحبوه؛ فتعلقوا بعبادته آنئذ خوفاً وطمعاً.
ففي الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً وأبا موسى إلى
اليمن؛ قال: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» [6] ،
وفي مسلم: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم وَمُعَاذاً إلى الْيَمَنِ. فَقَالَ» ادْعُوَا النّاسَ، وَبَشّرَا وَلاَ تُنَفّرَا، وَيَسّرَا
وَلاَ تُعَسّرَا « [7] .
ومن ألطف النصوص في هذا المعنى ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال:» إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: «إن رحمتي سبقت
غضبي» [8] . فهذا رب العالمين يعلمنا أن نجعل خطاب الرحمة سابقاً في دعوتنا،
ونجعل لذلك النذارة خادمة للبشارة؛ لأن الكل مشمول بقصد المحبة. وما أجمل
وصف الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، في ذلك، وهو سيد الدعاة إليه: [لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ]
(التوبة: 128) . فأشد الناس خوفاً من الله هو أشدهم محبة له. بهذا المنطق وجب
أن تبني خطابك أيها الداعية؛ فما تفرد النذير في موطن من الكتاب والسنة إلا لحكمة
خاصة.
- القاعدة الرابعة: الدعوة إلى الله لا إلى ذات الهيآت والمنظمات. تدبر
قوله تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ] ، فهو أولاً متفرع عن (القول)
الأول: [قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ] وفي سياقه. فإعلان التوحيد بالتعرف على الله
والتعريف به، أمر متضمن لما نحن فيه: (قول الدعوة إلى الله) فليس الداعي
الحق إلى الله إلا معرفاً به؛ ولذلك كان هذا أحسن ما يعلنه العبد في طريق عبادة الله
في الأرض: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ... ] . ثم هو (دعوة إلى الله) على غرار قوله
في سياق آخر مما سبق بيانه: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .
فهي دعوة إلى (الله) جل جلاله وجماله، توحيداً وتفريداً وتجريداً؛ رغبة
ورهبة.. فتدبر.. لا ضير أن تنظم عملك ضمن أي تنظيم دعوي، ما دامت
أصوله العقدية سليمة، وما دام منهجه الدعوي مستقيماً على الكتاب والسنة، ولكن
احذر أن يختلط عليك الأمر، فتدعو الناس إلى التنظيم بدل دعوتهم إلى الله، فتكون
قد اتخذت التنظيم آنئذ وثناً يعبد من دون الله الواحد القهار. اجعل الله غايتك على
كل حال. واتخذه هدفاً لدعوتك: تتعرف عليه وتعرف به؛ تكن أحسن القائلين في
الدين. اجعل تنظيمك أو جماعتك خادمة لله، ولا تجعل الله خادماً لتنظيمك أو
جماعتك، فتدبر.. تلك لطيفة من لطائف قوله تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا
إِلَى اللَّه] (فصلت: 33) . وقد فصلنا الكلام في هذا المعنى بكتابنا (البيان
الدعوي) ، معززاً بأدلته الوافية هناك، فارجع إليه إن شئت، والله الهادي إلى
الحق، ولا حق سواه.
- القاعدة الخامسة: في أن العمل الصالح أساس الدعوة إلى الله، وعلى
رأسه الصلاة. ولذلك قال: [وَعَمِلَ صَالِحاً] عطفاً على إحسان القول. فلا قول
حسن إلا إذا انبنى على عمل صالح، ثم انبثق عنه عمل صالح. فويل لمن ناقضت
أفعاله ما أظهر للناس من أقواله. إن الاستقامة التي اشترطت على الذين قالوا ربنا
الله هي هنا قد سيقت مساقاً دعوياً ظاهراً، بمعنى أنه يجب أن تنتبه إلى أن الداعي
إلى الله يدعو بقوله وبفعله، كما أن المفتي يفتي الناس بقوله وبفعله أحب أم أبى؛
فسلوكه الفعلي مناط اتباع؛ تلك سنة الله في الخلق. فاجعل عملك صالحاً حتى
تكون به مصلحاً؛ ويأجرك الله مرتين.
- القاعدة السادسة: إعلان الانتماء لكل المسلمين، والحرص على عدم
تفريق وحدتهم العامة. [وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) فـ (من)
هذه تفيد التبعيض كما هو معلوم عند اللغويين. والمعنى: أنك واحد من المسلمين،
جزء من كل. فالدعوة إلى الله هي دعوة إلى الله، وانتماء عام لكل المسلمين. وفي
ذلك راحة من مضايق الهيآت والجماعات. فما أجمل أن تجيب الداعي إلى الله
إذا سئلت: (من أي جماعة أنت؟) فتقول: (من المسلمين) ؛ ذلك الحق من رب
العالمين، (فماذا بعد الحق إلا الضلال) !
- القاعدة السابعة: [وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَة] . هذا مبدأ ثابت من
مبادئ القرآن، فاثبت عليه. لا يستوي الخير والشر، لا يستوي الحق والباطل،
لا يستوي المعروف والمنكر، لا يستوي الكلام الطيب والكلام الخبيث. ونتيجة
ذلك دعوياً: لا تستوي الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، والدعوة إليه بالتي هي
أخشن. لا يستوي في ميزان الله من يقرب الناس من الله ويعرفهم بجماله وجلاله،
ومن ينفرهم عنه ويجهلهم بقدره، وإن ظن أنه بذلك يحسن صنعاً، فلا تغتر به.
هذا كتاب ربنا واضح في المسألة وضوح الشمس في رابعة النهار، وتلك سنة نبينا
قاطعة بأن المنهج الدعوي الإسلامي إنما هو ما اتسم بالحلم والأناة، والتيسير على
الناس في طريق تعريفهم بحقوق ربهم. ذلك هو الحق الثابت أبداً: [وَلاَ تَسْتَوِي
الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَة] .
- القاعدة الثامنة: دفع الشر بالخير. وهي تفسير للقاعدة السابقة، وبيان لها،
وتحقيق خاص لمناطها العام: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] . فالعلاقة بين القاعدتين هي العلاقة بين المبدأ الكلي والتطبيق
الجزئي؛ كما هي العلاقة بين المطلق والمقيد؛ وذلك مثلاً حيث يواجهك الخصوم
في الدعوة إلى الله من أهلك وعشيرتك، أو حكومتك، أو يحاصرونك؛ فاقتد
برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تلتفت إلى غيره، إياك أن تغلبك الرغبة
الجامحة في الانتقام؛ لا يستفزنك تحرشهم، ولا يثيرنك جهلهم وعنتهم، وخاصة
أن مناط الأحكام في الدعوة في هذا الزمان غالب أمره أنه يتنزل في بلاد المسلمين،
ويخاطب من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فكيف تنزع إلى العنف
الجاهلي؟ حاشا الجهاد في سبيل الله إنك إن تفقد منهج القرآن، وتخطئ سنة
الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله؛ تفقد صفة الداعي إلى الخير؛
والله أمرك أن تدعو إلى الخير، كما بينت لنا الآية قبل: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْر] (آل عمران: 104) ، وتفقد صفة الداعي إلى الله، فلا تكون داعية
إلا إلى نفسك. حذارِ من التشنج، حذارِ من الغضب لنفسك. ما دمت قد جعلت
نفسك لله فاجعل الكل لله، ولا تتحرك في الدعوة إليه تعالى إلا بما تقدر أنه لله.
[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (فصلت: 34) تلك مقدمة مسلَّمة في منهج الله،
نتيجتها واضحة حاسمة، هي: [فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]
(فصلت: 34) . تلك هي الحكمة المذكورة بوضوح في قوله تعالى: [ادْعُ إِلَى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] (النحل: 125) . عجيب كم ضل كثير
من الدعاة مع الأسف عن منهج الله لما هجروا القرآن إلى غيره من الأهواء،
مستجيبين لردود الأفعال. ألا ما أوضح القرآن، لو يدَّكرون.. [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: 17) ، ولكن الضلال عمى. اقرأ يا صاحِ مرة
أخرى.. وتدبر: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ] . ذلك هو الأصل في المنهج الدعوي، وما سواه جزئي حادث، ولكل
حادث حديث. وإنما العبرة عندنا في هذا الكتاب تقعيد الأصول.
- القاعدة التاسعة: في الصبر على الأخذ بالمنهج القرآني؛ ذلك أنه يحمل
النفس على معاشرة الناس فيما تكره من تحمل الأذى في الله، ودفع الشر بالخير،
ودفع الجَهَلَةِ بالحكمة والموعظة الحسنة، ودفع العداء بالتي هي أحسن. كل ذلك
شديد على النفس؛ لأنها جبلت على محبة ذاتها، والانتقام لها؛ ولذلك قال في
القاعدة التالية: [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] . فدرِّب
نفسك على الصبر حيث يجب الصبر، وعلِّمها كيف تكبح جماحها؛ حتى لا ترد
الجهلَ بالجهل، والشرَّ بالشر، فتزيغ عن الصراط المستقيم.
- القاعدة العاشرة: الحذر من الشيطان. وههنا لطيفة من اللطائف؛ ذلك أن
بعض المسلمين قد يغيب عنه في فتنة الانغماس الاجتماعي أن الشر من الشيطان.
حقيقة كبرى قد تنسى.. اذكر هذا جيداً وجدد إيمانك به. إن الشيطان الملعون خَلْقٌ
من خَلْقِ الله، بل هو شر خلق الله، إنه ليس وهماً ولا خيالاً، إنه حقيقة.
إنه يسعى لتضليل عباد الله، وأنت واحد ممن يستهدفه الشيطان بغوايته، وكل
الناس معرض له. فتدبر.. يجب أن تعرف الشيطان وحيله الخبيثة؛ فالمؤمن
الكيِّس الفطن هو من يسأل عن الشر مخافة أن يلحقه؛ فاسأل عنه حتى تعرفه؛
فإنك إن تجهل به تقع في أحابيله. والله عز وجل عرفنا به في غير ما آية من
القرآن، فقال تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ
يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا
جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ] (الأعراف: 27) . وقال عز وجل في
وجوب اتخاذ الشيطان عدواً: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] (فاطر: 6) وقال: [لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ
عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ
وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً
مُّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ
يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً] (النساء: 118-121) .
* اعرف عدوك تنتصر عليه!
اعرف الشيطان حتى تعرف طبيعة العلاقة بينه وبين المسلم عموماً، وبينه
وبين الداعية إلى الله خصوصاً. إنك إذ تدعو إلى الله تقوم بهدم ما بناه إبليس اللعين؛
فتزداد عداوته لك أضعافاً مضاعفة، ولكنك إن اعتصمت بالله واستعذت به فلن
يصل إليك، فلا سلطان له على عباد الله الصالحين.
إن أسهل ما يمكن أن يزرعه في قلبك هو أن يشغلك بالحسن دون الأحسن،
فإذا استجبت له نزل بك دَرَكة، فدَرَكة؛ حتى يجعلك من الغاوين. ومن هنا قال
عز وجل من بعد ما أرسى قواعد المنهج الدعوي: [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] (فصلت: 36) .
لقد كان السياق في الحض على الصبر، والثبات على منهج الدفع بالتي هي
أحسن، وعدم الاستجابة لاستفزاز خصوم الدعوة: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ
ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] (فصلت: 34-35) . فقال بعد ذلك مباشرة: [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] (فصلت: 36) فجاءت
القاعدة العاشرة في الاستعاذة من نزغ إبليس اللعين؛ خاتمة للقواعد العشر في
المنهج القرآني للدعوة؛ حتى يستشعر الإنسان استقامة ما هو عليه من صراط،
وصواب ما سار عليه من سبيل، وأنه ماضٍ في ذلك على بصيرة يدعو إلى الله.
فمهما حصل من اختلال طارئ، أو ابتلاء سابق؛ فاثبت على منهجك لا تغير ولا
تبدل ما دمت تنهل من القرآن، كتاب الله رب العالمين، وكلما ألقى الشيطان في
روعك من الوساوس ما ألقى؛ [فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] .
* خاتمة:
أحسب أن تلك قواعد وضوابط تضع الداعية على منهج التعرف إلى الله جل
جلاله، والتعريف به. وإن الحركة الإسلامية إذ يكون ذلك هو غايتها، في سائر
أوجه نشاطها الإسلامي؛ فإنها تأمن كل أشكال الشرود والانحراف بين أفرادها
والمتعاطفين معها، إلا ما شاء الله، وتضمن بإذن الله لتوجهها السلامة من الزيغ
عن المقاصد التعبدية، والنجاة من الانجراف إلى المقاصد الدنيوية والمكاسب
الحزبية الضيقة، في أي مجال كانت أنشطتها، سواء في المجال السياسي أو
الاجتماعي أو النقابي أو الإعلامي ... إلخ. ذلك أن توسل العبد بكل أشكال أنشطته
للتعرف على الله والاشتغال بالتعريف به يملأ قلبه جمالاً إيمانياً قلَّما يجتمع معه حب
الشهوات، وابتغاء الضلالات، مما يجنب الحركة الإسلامية كثيراً من الويلات
والزلات. ولا نجاة إلا لمن عصمه الله منها.
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس المغرب.
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.
(3) رواه أحمد والحاكم بسند صحيح.
(4) رواه مسلم.
(5) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم: 1/ 421، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق زكريا علي يوسف.
(6) متفق عليه.
(7) رواه مسلم.
(8) رواه البخاري.(180/18)
دراسات تربوية
الشخصية والتدين
د. محمد عبد الله الصغير [*]
* تصور الناس للتدين:
تختلف رؤية الناس للتدين وتعاليم الدين بحسب عوامل كثيرة (تربوية
وإعلامية وغيرها) فمنهم:
- من يتصور أن الدين مجموعة قيود وضوابط تحدّ من حرية الإنسان فكراً
وسلوكاً، وهؤلاء منهم من يلتزم بالدين وهو ضجِر متبرم لكنه لا يستطيع الخروج
على المألوف الاجتماعي من حوله، ومنهم من ينفر من الدين ويُنفِّر غيره ويصرِّح
بذلك علانية، ومنهم من ينافق فيظهر خلاف ما يبطن، ولا يبين حقيقة تصوره إلا
لمن يثق به من أشباهه.
- من يتصور أن الدين مجموعة تعاليم روحانية تهدف فقط إلى السمو بالنفس
والترفع عن قيود الأهواء والشهوات، وهؤلاء منهم من يلتزم بهذه الطقوس
ويمارسها بطريقة صوفية بحتة، ومنهم من يستخف بها ولا يعتد بها، وأغلب
هؤلاء من العقلانيين الذين انحسرت عندهم العاطفة لحساب العقل والتفكير، ومنهم
من يرى أن الشخص له الحرية في ممارسة هذه التعاليم الروحانية متى شاء لكن
يجب ألا يكون لذلك أي متعلقات سلوكية وفكرية في أمور الدنيا؛ فالدين عندهم
علاقة خاصة بين الفرد وربه، ولا تتعدى مجال فروض العبادة؛ وهؤلاء هم
أصحاب الاتجاه العلماني على اختلاف توجهاتهم الفرعية.
- من يتصور أن الدين منهج سياسي متطرف متزمت لا يقبل التفاهم ولا
يحسن التحاور ولا همّ له سوى بسط سلطانه في الأرض بالقوة والقهر والتشديد
(حتى في حق الأبرياء والأطفال والنساء والشيوخ ... ) ، وهذا التصور هو الذي
يحرص اليهود والنصارى وأشباههم على ترويجه عن الدين الإسلامي، ويبدو أن
له قبولاً في بعض أوساط المسلمين وغيرهم، وقد أفصحت أحداث التفجيرات في
أمريكا (أحداث 11 سبتمبر 2001م) عن ذلك بوضوح.
- من يتصور أن الدين تراث وثقافة وتاريخ قومي للأمة العربية؛ فمن
حرص عليه فإنما يحرص على تراثه وتاريخه وثقافة أمته وماضيها سواء حُمد على
ذلك أم لم يحمد، وإن لم يحرص على ذلك وتأثر فكراً وسلوكاً بثقافة أي أمة أو بلد
فإنه حُرٌّ في ذلك سواء حُمد على ذلك أم لم يحمد.
* الإسلام والنفس:
الإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله تعالى للبشر وجعله شاملاً لأمور
دنياهم وآخرتهم بتوازن وتكامل ووضوح وحكمة ودقة لا يمكن أن تصدر إلا ممن
خلق النفس البشرية ويعرف خباياها وخفاياها كما قال تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] (الشمس: 7-8) .
وقد شمل الخطاب الشرعي (في القرآن والسنة) جوانب الحياة الإنسانية كلها
للفرد والمجتمع (المشاعر، والتفكير، والإدراك والسلوك، والتوافق النفسي
والاجتماعي، والعلاقات الأسرية، والمعاملات البشرية على اختلاف أنواعها) ،
واهتم الإسلام بتلبية الحاجات الأساسية للنفس البشرية (نفسية أو عضوية) ،
كالنوم والطعام والجنس مما هو موافق للفطرة الإنسانية، وجعل لحياة الفرد معنى
سامياً وهدفاً عالياً، وبيّن له أن الدنيا مكان امتحان وابتلاءات شتى، وستأتي بعدها
فترة الحساب والثواب والعقاب؛ فليست الدنيا نهاية المطاف.
كما اهتم الإسلام بتهذيب الغرائز والشهوات الإنسانية، ووجّه الناس إلى ضبطها
بحكمة ضبطاً داخلياً من أعماق النفس وصميم الضمير، وليس لأجل مجاراة
المجتمع أو خوف انتقادات الناس، وليس هذا الضبط كبتاً وحرماناً للنفس بل هو
سُموٌّ بها عن التدني والفساد الفردي والجماعي، ويتضح هذا عند تأمل أحوال أولئك
الذين أطلقوا العنان لشهواتهم وغرائزهم دون ضوابط، والنظر في عواقب مآلهم؛
فإنهم انطلقوا يطلبون السعادة في غير اتجاهها؛ فما وجدوا إلا التعاسة والألم النفسي
والتعب الجسدي. هربوا من الرق الذي خُلقوا له فبُلوا برق النفس والشيطان [1] .
* أثر التدين في الشخصية:
- في الضمير:
إن للتربية الدينية أثراً مهماً في تكوين الضمير داخل النفس؛ فإذا كانت
التربية الدينية متزنة في توجيهاتها للناشئ، وجمعت بين الترغيب في الخير
والثواب عليه وبين الترهيب من الشر والعقوبة عليه بحكمة؛ فإن الضمير ينمو
نمواً سليماً في نفس الناشئ، ويؤثر إيجابياً في شخصيته، وينعكس على علاقته
بنفسه والآخرين؛ فيقوى بذلك عنده الجانب الخلقي، ويبرز في تصرفاته ويكون
دعامة قوية في نضج شخصيته وتماسكها.
أما إذا برزت الشدة والقسوة والترهيب الديني على حساب الرفق والحكمة
فإنها تؤثر سلباً على شخصية الناشئ؛ إما بتكوين ضمير متضخم يقمع النفس عن
الانطلاق السليم في الحياة وعن التفاعل الصحيح مع الآخرين، أو بتكوين ضمير
متبلد ضعيف ضامر غير مبالٍ، ولهذا شواهد من حالات أبناء وبنات بعض الأسر
المتدينة التي أفرطت في القسوة فأضرت بأبنائها وبناتها.
وإذا حصل العكس وبرز التهاون والتراخي والغفلة أو المبالغة في الترغيب
الديني، وغابت روح الحزم والترهيب المناسب فإن الضمير الديني يكون ضعيفاً
ولا سيما الوازع الداخلي الذي يكف النفس عن هواها؛ وشواهد ذلك في العيادات
النفسية كثيرة، وفي المجتمع اليوم من ذلك شيء كثير؛ فكم من فتيات وشباب
مائعة أخلاقهم ضعيفة ضمائرهم وأهلهم ذوو دين وخلق لكنهم متهاونون متساهلون
غافلون.
- في الأمن النفسي:
الأمن النفسي مطلب لكل فرد وأسرة ومجتمع وأمة، وقد لبت التشريعات
الإسلامية تحقيق هذا المطلب بأكثر من طريقة؛ فقد حرص الإسلام على الأمن
النفسي للطفل والمرأة والكبير حرصاً بالغاً باحترام وتقدير، خصوصاً أنهم أحوج
من غيرهم (من الرجال الأقوياء) إلى الأمن، وهذا ينعكس على استقرار شخصية
الطفل فيما بعد وعلى المرأة وتربيتها لأولادها.
والتدين يشعر الشخص بشيء من الأمان على مستقبله الأخروي إذا استعد
بصالح الأعمال (وإن لم يضمن له دخول الجنة) ، بخلاف المقصر في دينه فإنه
عرضة للقلق الداخلي على مستقبله الدنيوي والأخروي، وينعكس ذلك على
شخصيته وتعامله مع نفسه وغيره. [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] (الرعد: 28) .
إن التدين الصحيح يخفف على النفس المخاوف الدنيوية، ولا يفزعها
بالمخاوف الأخروية إلى درجة القلق النفسي المرضي، وإنما يحثها بذلك حثاً رفيقاً
إلى حيث الأمان الحقيقي طويل الأمد، كما يبعث في النفس التفاؤل، ويعمل على
نبذ التشاؤم واليأس والقنوط، وهو ما يسيطر على بعض الشخصيات الكئيبة، وفي
الوقت ذاته يحذر من الانسياق وراء الفرح وما قد يتبعه من تصرفات تكون عاقبة
أمرها خسراً، وهذا ما يوجد عند الشخصيات الاندفاعية (كالمحتالة والنرجسية
والحدية) .
- في الهوية الذاتية والثقة بالنفس:
كثير من الناس الذين كانوا يعانون ضعفاً في المعنويات وشعوراً بالإحباط،
بسبب بعض النقص في المقومات الاجتماعية (التعليم - الوظيفة - النسب....)
أو المادية أو غير ذلك تزول عنهم تلك المعاناة (أو تخف بدرجة كبيرة) عندما
يسلكون طريق التدين السليم وصراطه المستقيم، فيشعرون بعزة الانتماء لدين الله
والدخول تحت مظلة العزة الإيمانية، ولهذا أثر نفسي إيجابي كبير ينعكس على حياة
الشخص كلها وعلى علاقاته، ومن أمثلة ذلك: حالات أولئك الذين استطاعوا ترك
المسكرات والمخدرات واعتزالها وأهلها بمجرد استقامتهم على الدين، وشعورهم
بالثقة النفسية الجديدة والهوية الذاتية الصحيحة.
- في التكيف مع الأزمات النفسية:
إن من أهم جوانب الشخصية قدرتها على التكيف مع الأزمات النفسية
والضغوط والإحباطات التي تكاد لا تخلو منها الحياة مهما كانت الظروف الفردية
والاجتماعية.
إن التدين السليم يعين بشكل كبير على حسن التكيف مع الأزمات النفسية؛
بدءاً من تقبل المصائب واحتساب أجرها عند الله (عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر)
كما قال تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 165) ، وقوله تعالى:
[وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى: 30) ،
وعلى عدم الاستسلام للواقع المر، والركون لليأس والقنوط من رحمة الله، إضافة
إلى الحرص على بذل الأسباب المشروعة دينية كانت أو دنيوية مع توكل صحيح
على الله تعالى (دون تواكل أو اعتماد على النفس دون الله) .
مما يُلحظ في مواقف بعض المتدينين عند الأزمات والضغوط النفسية أنهم
يهملون الأسباب الحسية (إما عجزاً أو جهلاً أو غير ذلك) ؛ مما يعوق تكيفهم مع
الأزمات، وقد ينسبون تصرفاتهم تلك إلى الدين وهم غير مصيبين في ذلك.
وفي مقابل هؤلاء فإن مما يلحظ في مواقف بعض المقصرين في تدينهم أنهم
يهملون الأسباب الإيمانية عند مواجهة الأزمات النفسية والاجتماعية؛ مما يؤثر
سلباً في تكيفهم مع تلك الأزمات.
- في الاهتمامات والهوايات وقضاء الأوقات:
هذه من جوانب الشخصية التي يؤثر فيها التدين بصورة واضحة؛ فالتدين
الصحيح يوجه الاهتمامات والهوايات وقضاء الأوقات فيما يعود بالنفع الدنيوي
والأخروي على الشخص وعلى غيره؛ فالتدين يؤثر إيجابياً في مهارة إدارة الوقت،
وترتيب الأولوليات، والتوازن في توزيع الأوقات على الاهتمامات [2] .
إن كثيراً من المقصرين في أمور دينهم يُضيع الواحد منهم وقته سدى في
اهتمامات أو هوايات هامشية تكون على حساب مصالح ومنافع كثيرة في حياته
الشخصية والاجتماعية، وينعكس ذلك على شخصيته بالإهمال والفوضوية
الشخصية، ومن ذلك انهماك كثير من الشباب والفتيات في متابعة بعض التوافه في
الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ، أو غيرها من وسائل الإعلام [3] .
- في المهارات الاجتماعية:
للتدين السليم دور مهم في تحسين نوعية التواصل الاجتماعي للشخص مع
الآخرين من حوله، ويشمل ذلك عدة جوانب منها:
- إفشاء السلام وإظهار البِشر والتبسم.
- زيارة الإخوان وصلة الأقارب والأرحام.
- الابتعاد عن الغيبة والنميمة والتجسس والتباغض.
- التحلي بالحلم والعفو.
- التحلي بآداب الزيارة والطعام ونحو ذلك.
- في تنمية الصفات الإيجابية:
يحث التدين السليم النفس على استخراج ما فيها من صفات إيجابية وتفعيل
دورها لمصالحها الدنيوية والأخروية، ولما يترتب على ذلك من مصالح متعدية
النفع إلى المجتمع، ويشمل ذلك العديد من الصفات ومنها:
- علو الهمة واستثمار الأوقات.
- الرفق والأناة والحياء والمروءة والإيثار.
- الحزم وكف النفس عن الهوى والشهوات.
- التراحم والتواد والمواساة والنجدة.
- في تهذيب الصفات السلبية:
للتدين دور كبير في تهذيب الصفات السلبية في الشخصية، وذلك أن الدين
الإسلامي فيه الكثير من التوجيهات والإرشادات المتعلقة بتهذيب الصفات والطباع
السلبية في الشخصية على اختلاف أنواعها (سلوكية ومزاجية وفكرية ... ) . ومن
أمثلة تلك الصفات:
- العجب والكبر والأنانية.
- الكذب والاحتيال والمكر والغدر.
- الظلم والعدوان والبهتان والغضب.
- الخجل والذلة.
- التشدد والتنطع والرهبانية.
- الغل والحقد والحسد.
* خلاصة:
فالتدين السليم له في الشخصية أثر كبير إيجابي متعدد الأوجه؛ ولهذا شواهد
واقعية لا نزال نطالعها في التاريخ والواقع، أما في التاريخ فهؤلاء هم الصحابة
الكرام يدخل الواحد منهم الإسلام ويهتدي بهديه؛ فإذا بشخصيته تتهذب وتقوى
وتتزكى وتستنير بنور الله فتسمو في نفسها وتلين لمن حولها، [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (الجمعة: 2) .
وأما في الواقع فما أكثر الذين دخلوا الإسلام (بعد اقتناعهم به) وعبّروا عن
أثره عليهم في الأخلاق والسلوك، وفي مجتمع المسلمين أيضاً ما أكثر أولئك الذين
كانوا بعيدين عن تعاليم الدين ِثم عادوا إليها ووجدوا لذلك عظيم الأثر في شخصياتهم
وأخلاقهم ونجاحهم الشخصي والاجتماعي، وفي العيادات النفسية شواهد لتلك
الحالات؛ وذلك أن طريق العودة كثيراً ما يبدأ بأزمة نفسية تجعل الشخص يعيد
النظر في واقع حياته وأخلاقه ويصحح مساره قبل انتهاء الطريق [4] .
* أثر الشخصية في التدين:
إن لطباع الشخصية أثراً في اتجاه الشخص نحو التدين أو ابتعاده عنه، وفي
طريقة تدينه، وكلما كان الشخص أكثر استقراراً واتزاناً في شخصيته كان توجهه
نحو التدين وتمسكه بتعاليم الدين وآدابه أكثر قوة وتعقلاً ورزانة وهدوءاً.
وإذا كان في الشخصية بعض الاعتلال والخلل وعدم الاستقرار؛ فإن ذلك
ينعكس على اتجاه الشخص نحو التدين وطريقته فيه بقدر ما في الشخصية من
اعتلال.
الشخص الميال إلى المبالغة في العقلانيات على حساب العواطف:
- قد ينفر من التدين وأهله لأنه يبالغ في محاكمة التعاليم الدينية وتمحيصها
بعقله، ويجعل المرجع في القبول والرفض عقله القاصر؛ ولذا فقد ينكر بعض ما
هو ثابت في الدين؛ لأنه يرى أنه مخالف للعقل، وقد يتكلف تأويلات وتفسيرات
عقلية لتتماشى مع العقل فيما يراه هو (علماً بأن العقل الصريح الخالي من الهوى
والشبهات والشهوات لا يتعارض مع ما جاء في الشرع من نقل صحيح) .
- قد يقبل التدين، ولكن ينحصر عنده التدين في دائرة المعرفة؛ فتجده
يعرف الكثير من أحكام الدين ومفاهيمه معرفة عقلية مجردة من العواطف
والسلوكيات، وبعض هؤلاء قد يكونون بارعين في الحديث عن الدين وتعاليمه
وفهمه [5] ، ولديهم القدرة على المجادلة والتحاور والنقاش بنفس طويل، والتنظير
لكثير من الأمور الدينية بكلام نظري برّاق.
الميال إلى المبالغة في العواطف على حساب العقل:
فهذا قد يبدي عاطفة جارفة وحماساً كبيراً نحو الدين ولكن لا يواكب ذلك
معرفة جيدة بأحكام الدين، ولا سلوك ملتزم بقواعده، وهذا النوع ينتشر في الشباب
حديثي التدين، وصغار السن.
هذا يميل مرة مع التدين (ولا سيما عندما يحس بالكآبة والإحباط النفسي) ،
ومرة يبتعد عن التدين (ولا سيما إذا شعر بالاكتفاء والاستغناء النفسي) ، [كَلاَّ إِنَّ
الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى] (العلق: 6-7) ، وبعضهم تغلب عليه
شهواته فينغمس في المسكرات أو الزنا باحثاً فيهما عن المتعة واللذة غير عابئ
بالعقوبة.
النفعي المصلحي الأناني المحتال:
هذا يستثمر التدين فيما يحقق له المصالح والمنافع الشخصية ولا سيما في
المجتمعات التي تحترم الدين وأهله؛ مما يجعل الشخص يسعى إلى كسب ثقة الناس
ومودتهم؛ من خلال التظاهر بالدين أو المبالغة في التمسك ببعض جوانب الدين فيما
يبدو للناس؛ فهو يسعى إلى كسب الدنيا (مال - جاه - شهوات) بالدين، ويغلب
على هؤلاء الاحتيال بالحجج الدينية واستثمار المفهومات والتعليمات الدينية في
تحريك مشاعر الآخرين وعقولهم وتصرفاتهم نحو ما يخدم به مصلحته الخاصة،
وسرعان ما ينخدع الناس به؛ لأنهم يحترمون الدين وأهله.
الميال إلى العناد والتحدي والحسد:
هذا إذا تدين فإن سلوكياته مع الآخرين (حتى مع المتدينين ولا سيما الأقران)
تتأثر بتلك الصفات السلبية في شخصيته؛ فقد يرفض النصيحة (ولو كان على
خطأ) ، وقد يصرّ على رأي أو تصرف خاطئ لأجل التحدي والحسد لشخص آخر،
وقد يتهجم على غيره من المتدينين ويكرس جهوده لمنافستهم وحسدهم ونحو ذلك،
فيسلم منه أعداء الدين ولا يسلم منه المتدينون الذين يحسدهم.
المعجب بنفسه المتكبر على غيره:
وهذا مولع بلفت الأنظار إليه وتلميع نفسه والارتفاع في أعين الناس والتميز
عن الأنداد وسبقه لهم؛ لأنه معجب بنفسه (بمظهره وكلامه وأفكاره واقتراحاته
وممتلكاته وشهاداته وعلمه وحفظه وفهمه وأخلاقه ... ) ، وكل ذلك ينعكس سلباً
على تدينه، وإن كان لبعض ذلك آثار إيجابية أحياناً [6] .
وكثيراً ما تقوده هذه الصفات إلى خلافات مع الآخرين خصوصاً المشابهين له
في العجب والكبر والمتصفين بالعناد والتحدي والحسد.
وبعض هؤلاء يجتمع فيه العجب والكبر والمكر والمراوغة والأنانية فيحرص
على الوصول إلى مواقع التسلط والنفوذ من خلال التدين، ويستغل ذلك في تلميع
نفسه. وقد يصده كبره عن اتباع الحق وعن الاعتراف بالخطأ فيجحده كبراً وعلواً
ونفسه مستيقنة به، وكثير من هؤلاء لا يبالي باستدماج حسنات غيره وقد يكذب من
أجل ذلك.
صاحب الضمير المتضخم المبالغ في الدقة والحرص:
هذا ميال إلى التدين بطبعه؛ فنفسه تنساق إلى الدين انسياقاً ولكنه قد يوغل
فيه بشدة فيكلف نفسه وغيره ما لم يأمر به الله؛ فقد يبالغ في بعض المستحبات
فيجعلها في رتبة الواجبات ويحاسب نفسه وغيره على ذلك، وهكذا المكروهات قد
لا يميزها عن المحرمات فيبالغ فيها فيحاسب نفسه وغيره على هذا الأساس، وقد
يكون صلفاً جافاً فظاً في تعامله مع غيره ولا سيما من هم أقل منه تديناً حتى لو
كانوا من أهله وأقاربه وجيرانه؛ ولذا فقد يُنفِّر الآخرين من التدين (ولا سيما أولئك
الذين لا يميزون بين تعاليم الدين وبين تشدد وفظاظة بعض المتدينين) . وقد
يستخدم بعض المسوغات الدينية لتسويغ تصرفاته [7] ، ويضعف رجاؤه ويعوقه
خوفه.
ومنهم طائفة تبالغ في التشديد على نفسها إلى درجة الوسوسة في بعض
العبادات والمعاملات [8] ، ثم محاسبة النفس على تلك الوسوسة؛ ومن ثم الدخول
في متاهة نفسية عريضة.
صاحب الغلظة والقسوة:
تنعكس شخصية هذا على تدينه في كونه لا يتأثر كثيراً بالرقائق والترهيب
وذكر النار والعذاب، ويغلب عليه النظر في جوانب الغلظة في المعاملات
والخصومات والعقوبات، ولا يقيم وزناً كبيراً لجوانب المشاعر، والتعاطف
والتآلف بين المسلمين.
صاحب الرأفة الشديدة:
يتأثر كثيراً بالترهيب (إشفاقاً على نفسه) ويتفاعل مع آلام الآخرين، ويميل
إلى التعاطف معهم ومواساتهم قولاً وفعلاً.
قد يتساهل مع من تحت يده (زوجة - أبناء = بنات) وإن وقعوا في
مخالفات دينية كبيرة؛ لغلبة الرأفة عليه وعدم قدرته على العقوبة.
الميال إلى الاستسلام والمجاملة:
هذا يتأثر بمن يؤثر عليه؛ فإن كانت المؤثرات حوله تدعوه إلى التدين تأثر
بها ولو مجاملة أو استسلاماً لمن حوله (ولا سيما الوالدين) ، وقد لا يمتد تدينه إلى
أعماق نفسه وربما قلّ تدينه إذا ابتعد عن المؤثرات التي تدعوه إلى التدين.
وإن كانت المؤثرات من حوله تدعو إلى الاتجاه المعاكس (ولا سيما
الأصحاب) فإنه يسايرهم في ذلك وإن كان غير مقتنع باتجاههم، وقد يقع في
مشكلات أخلاقية أو مخالفات دينية لأجل مجاملة من حوله.
الميال إلى الريبة وسوء الظن:
تؤثر هذه الصفات سلباً في تدين الشخص؛ فهو يبالغ في سوء الظن في
الناس دون سبب يدعو لذلك، وقد يُسقط عليهم ما يجول في أعماق نفسه من سوء
أو عيب أو تقصير، وغالباً ما يبالغ في الغيرة على المحارم إلى درجة سوء الظن
الضارة بمحارمه والمؤثرة سلباً على علاقاته الأسرية.
وهكذا الأمر في كل علة شخصية، فإن لها أثراً على جانب من جوانب التدين
يختلف حجماً وشدة باختلاف نوع العلة وشدتها، وباختلاف الظروف المؤثرة
الأخرى.
__________
(*) أستاذ مشارك، الطب النفسي، كلية الطب، جامعة الملك سعود.
(1) صاروا عبيداً لشهوات أنفسهم وأهوائها، وأكثر ما يتضح ذلك في المدمنين على المسكرات والمخدرات، وما يتبعها من البلايا والخبائث، وكثير منهم لديهم معاناة نفسية متعددة (همّ وغم وقلق وأرق ---) رغم توفر المال والجاه ومتطلبات الحياة السعيدة.
(2) قد يفرط بعض المتدينين في ذلك ويبالغ في توجيه كل أنشطته إلى جوانب عبادية بحتة على حساب جوانب دنيوية له فيها منفعة مهمة تعينه في أمور حياته، فهذا قريب من الرهبانية المنهي عنها.
(3) ويوجد مؤثرات أخرى غير التدين تؤدي دوراً مهماً في ذلك كالذكاء والتربية والأصدقاء.
(4) أوضحت بعض الدراسات النفسية التي أجريت على المجرمين السود في سجون أمريكا أن لاعتناق الإسلام دوراً حسناً في الانضباط الأخلاقي والسلوكي لهؤلاء المجرمين؛ مما جعل بعض الأجهزة الأمنية هناك ترحب بدخول هؤلاء في الإسلام.
(5) انظر: مجلة النفس المطمئنة، عدد 65، أنماط التدين، د / محمد المهدي.
(6) بعضهم يأتي بأفكار واقتراحات تنفع الآخرين سواء كانت دينية بحتة أو ذات طابع ديني اجتماعي.
(7) كثير من الآباء والأمهات (والأزواج والزوجات) يشكون من بعض هذه التصرفات فيمن حولهم من أفراد الأسرة ويعانون من آثارها في الأسرة.
(8) الوضوء والصلاة والطلاق وغير ذلك، وهؤلاء كثيراً ما يُلحّون على بعض العلماء بأسئلة متكررة متقعرة، حتى إنهم يُضجرون أهل العلم (ومن أهل العلم من يستخدم خدمة إظهار رقم الهاتف المتصل، فإذا أزعجه بعض هؤلاء ترك الإجابة عليه لشدة تنطع السائل) .(180/26)