المسلمون والعالم
الأبعاد التاريخية والسياسية
للصراع بين المسلمين والهندوس
حسن الرشيدي
«إن عدداً كبيراً من مسلمي اليوم كانوا في يوم من الأيام يدينون بالهندوسية
ومن الممكن إعادتهم مرة ثانية إلى كنف الهندوسية» .
هذا جزء من حديث موهان بهاجوات رئيس المنظمة البرلمانية الهندوسية
المتشددة، وهو يلخص به جزءاً كبيراً من الصراع المتصاعد الآن بين المسلمين
والهندوس في شبه القارة الهندية، والذي وصل في إحدى حلقاته الدامية إلى حرق
الآلاف من المسلمين في ولاية «جوجارات» الشهر الماضي كما تشير بعض
التقديرات غير الرسمية.
ويبقى السؤال الملح: هل ما شهدته المنطقة من أحداث ومن تطرف هندوسي
جزء من مخطط حكومي وسياسة رسمية، أو وقع عرضاً واستغلته الحكومة الهندية
لتحقيق أجندتها في المنطقة؟
يقول كمال ميترا شينوي رئيس منظمة «ساهمات» الهندية غير الحكومية:
«إن أعمال العنف التي شهدتها ولاية جوجارات مؤخراً كان الهندوس يخططون لها
بشكل مسبق» ، وأضاف أن أعمال العنف التي تركزت في أحمد آباد، أكبر مدن
الولاية، تم تحديد أهدافها بشكل يجعل من المعتقد أنه قد أعد لها مسبقاً.
وأضاف أن الاعتداءات شملت كذلك محالَّ يملكها مسلمون ولكنها تحمل أسماء
هندوسية؛ مما يؤكد أنها كانت أهدافاً تم تحديدها من قبل. وقال: «من غير
الممكن تحديد المتاجر المملوكة للمسلمين التي تحمل أسماء هندوسية خلال 24 ساعة
فقط، وهذا يؤكد التخطيط الدقيق لمنفذي الهجمات» .
وأشار شينوي إلى أن أعمال العنف وقعت بعد يوم واحد فقط من الهجوم الذي
تعرض له القطار الذي أسفر عن مصرع 58 شخصاً، وأن الهندوس كانوا يحملون
هواتف محمولة ومعهم عربات لينقلوا عليها ما سلبوه من بضائع.
وكانت المنظمة قد أعدت تقريرها بعد إرسال بعثة تابعة لها لتقصي الحقائق
في ولاية جوجارات.
إذن لم يكن الصراع بين المسلمين والهندوس وليد لحظة انفعالية أو موقفاً
عارضاً وسحابة صيف مرت على العلاقة بينهما، ولكن هي كما سنرى امتداد
لصراع طويل عبر عدة قرون، وإن كانت أحداثه الحالية صاحبها كثير من
المعطيات والمتغيرات على الساحة الدولية والإقليمية ساعدت في بروزه على السطح
مرة أخرى ليتصدر محور الاهتمام في وسائل الإعلام.
ولكي نتمكن من رصد هذه العلاقة بدقة بين المسلمين والهندوس، ودراسة
مضامينها وأبعادها المختلفة، والسنن التي تتحكم فيها لا بد من تفكيكها من خلال
مقاربتين:
أولاً: مقاربة تاريخية لتتبع منشأ العلاقة بين المسلمين والهندوس، وجذور
الخلاف القديم بينهما.
ثانباً: بيئة الصراع الحالي، وبروز التحالف الهندوسي اليهودي البروتستانتي.
أولاً: العلاقات التاريخية الهندوسية الإسلامية:
يمكننا تقسيم تاريخ هذه العلاقة منذ بدايتها إلى ثلاث مراحل مختلفة:
المرحلة الأولى: عند الفتح الإسلامي للهند:
بلاد الهند أو شبه الجزيرة الهندية، وتطلق هذه التسميات على بلاد الهند
وباكستان وبنجلاديش وسريلانكا الآن.
اشتهرت الهند بتصدير الوثنيات إلى دول آسيا المجاورة، ومنها إلى بقية دول
العالم مثل البوذية التي خرجت من الهند إلى الصين واليابان وغيرهما من دول
الجوار الآسيوي، وفي الوقت الذي كانت تصدر فيه الهند الوثنيات جاء إليها
الإسلام عبر الجزيرة العربية، ومع الأتراك أهل آسيا الوسطي من المسلمين عن
طريق البحر وركاب أساطيل الصيد والتجارة حتى وصل الإسلام إلى الساحل
الغربي للهند، حتى إن بعض المصادر التاريخية ترجع انتشار الإسلام في الهند إلى
زمن النبوة، وبدأت الفتوحات العسكرية أيام الدولة الأموية حيث أرسل الحجاج
جيشاً بقيادة محمد بن القاسم الثقفي فسيطر على السند، فكانت أول مقاطعة يسيطر
عليها المسلمون في شبه القارة الهندية، وفتح مدينة «ديبل» وأقام بها مسجداً،
وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي، وأصبحت «ديبل» أول مدينة عربية في
الهند؛ وهي مدينة اندثرت وكانت تقع بالقرب من كراتشي حالياً. ولكن الفتوحات
العسكرية الحقيقية لم تبدأ إلا في القرن الرابع الهجري الموافق الحادي عشر
الميلادي على يد السلطان محمود الغزنوي؛ إذ خاض حروباً شرسة ضد السكان
الأصليين حتى استطاع إعادة فتح السند، ثم توجه إلى البنجاب وكشمير ومعظم
شمال الهند، وأخضع هذه الأجزاء لحكم الإسلام.
ويقول صاحب كتاب أطلس تاريخ الإسلام: «والحق أن السلطان محمود
الغزنوي كان غازياً مجاهداً أخذ على عاتقه نشر الإسلام في بلاد الهند والقضاء على
الوثنية فيها، وبلغ في فتوحاته إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية، ولم تقل به قط
سورة ولا آية، قد حصن عنها أجناس الشرك، وبنى بها مساجد وجوامع، وأقام
بدلاً من بيوت الأصنام مساجد الإسلام» .
وبعد سقوط الدولة الغزنوية جاءت من بعدها الدولة الغورية بزعامة السلطان
محمد الغوري؛ فأعاد فتح المناطق التي احتلها الهندوس مرة أخرى، وأضاف إليها
إقليم البنغال وكانت أكبر أقاليم البوذية في المنطقة حينذاك، وأعلنها بلاداً للإسلام،
وتمكن الغوري من فتح بقية شمال الهند واتخذ من دهلي (دلهي القديمة الآن)
عاصمة له.
وإذا كان الغزنويون أصحاب الفضل في تحطيم قوى أمراء الهند وفتح معظم
بلاد الهندوستان؛ فإنهم كانوا يعدون الهند امتداداً لأملاكهم في فارس وأفغانستان،
فكانوا يعودون دائماً إلى عاصمتهم في غزنة خارج الهند. أما الغوريون فكانوا
أصحاب الفضل في تثبيت أقدام الإسلام في الهند، وكان سلاطينهم وقادتهم يقيمون
في الهند بصفة دائمة متخذين من دلهي عاصمة لهم؛ ولهذا فهم يعدون أول الدول
الإسلامية في الهند، وكما يقول صاحب كتاب أطلس تاريخ الإسلام: «وبهم يبدأ
تاريخ الهند الإسلامية» .
وتوالت الدول الإسلامية على حكم الهند من خلجيين وآل تغلق، وانتهى بها
الأمر إلى مغول الهند، وكان على رأسهم السلطان محمد بابر، ثم جلال الدين محمد
أكبر الذي بلغت في عهده الدولة الإسلامية أقصاها في جنوب الهند.
ويلاحظ في هذا السياق التاريخي السريع: أن هذه البلاد كان سكانها قبل
الإسلام ينتمي معظمهم إلى الهندوسية، ولكن من خلال حكم الإسلام تحولت أقاليم
بكاملها إلى الإسلام كإقليم البنجاب والسند والبنغال وكشمير، وبقيت الهندوسية
متوطنة في جنوب الهند وأجزاء متفرقة من شمال الهند.
ومما لا شك فيه أن دخول الهندوس الإسلام قد تراوح بين المد والجزر؛
ويرجع ذلك لعوامل كثيرة: منها ما يرجع إلى طبيعة الفاتحين وخصائص الدول
الإسلامية التي قامت في الهند، ومنها ما يرجع إلى الطبيعة الهندوسية نفسها:
فأما ما يرجع لطبيعة الفاتحين فقد تقلب على الهند أصناف شتى من الفاتحين،
فمنهم من حرص على نشر الإسلام، وتعليم السنة، ومحاربة بدع وضلالات
الوثنية الهندوسية، مثل محمود الغزنوي ذلك الفاتح العظيم الذي قاده حماسه لنشر
الإسلام، وإبلاغ كلمة التوحيد في مجتمع وثني، وكانت تلك الحملات مسبوقة بطلب
الدخول في الإسلام، وإلى هذا أشار السير توماس أرنولد في كتابه: (الدعوة إلى
الإسلام) حيث يقول: «وفي الحق أن الإسلام قد عُرض في الغالب على الكفار من
الهندوس قبل أن يفاجئهم المسلمون» .
ومن هؤلاء الفاتحين من كان همه الدنيا وجمع المال، واستقطاع الضرائب،
ومصادرة الأراضي، والتضييق على الناس في معاشهم؛ مما ألب عليه عامة أهل
البلاد هندوساً ومسلمين كالسلطان علاء الدين الخلجي، فكان هو ورجاله يستولون
على الأراضي الزراعية، وأثقل الناس بالضرائب والجبايات، ورأى أن كل
المتحصل من المال ملك خاص له، ومنهم من كان همه الزعامة وإخضاع الناس
لسلطانه حتى لو تخلى عن دينه باختراع ديانة جديدة يمزج فيها بين الإسلام
والهندوسية كما فعل السلطان جلال الدين محمد أكبر أحد سلاطين دولة المغول في
الهند، وذلك عندما أراد أن يقرب إليه الهندوس لتسهيل فتح جنوب الهند حيث
يتمركز الهندوس بكثافة، فحاول إنشاء ما يعرف بـ «الدين الإلهي» على حد
تعبيره، وحاول أن يمزج فيه بين الهندوسية والإسلام؛ فباءت محاولته بالإخفاق
وتجرأ الهندوس على المسلمين بعدها.
أما تأثير الهندوسية على دخول الهندوس الإسلام فالهندوسية ديانة وثنية
يعتنقها معظم أهل الهند، وهي مجموعة من العقائد والتقاليد التي تشكلت عبر مسيرة
طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر. والآريون الغزاة
الذين قدموا إلى الهند في القرن الخامس عشر قبل الميلاد هم المؤسسون الأوائل
للديانة الهندوسية، واختلطت ديانة الفاتحين الجديدة بالديانة القديمة للهنود، بل
مازجتها وتأثرت كل منهما بالأخرى، وفي القرن الثامن قبل الميلاد تطورت
الهندوسية على أيدي الكهنة البراهمة الذين يزعمون أن في طباعهم عنصراً إلهياً،
ثم تطورت مرة أخرى في القرن الثالث قبل الميلاد عن طريق قوانين منوشاستر،
وفضلاً عن الترهات التي تحتويها هذه العقيدة الوثنية؛ فإنه ما يعنينا هنا في بحثنا
هو ما يتعلق بهذه العقيدة من تقسيمها للهنود إلى طبقات:
1 - البراهمة: وهم الذين خلقهم الإله براهما من فمه: منهم المعلم والكاهن،
والقاضي، ولهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين
إلا في حضرتهم.
2 - الكاشتر: وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه: يتعلمون ويقدمون القرابين
ويحملون السلاح للدفاع.
3 - الويش: وهم الذين خلقهم الإله من فخذه: يزرعون ويتاجرون ويجمعون
المال، وينفقون على المعاهد الدينية.
4 - الشودر: وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم مع الزنوج الأصليين
يشكلون طبقة المنبوذين، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاثة السابقة
الشريفة، ويمتهنون المهن الحقيرة والقذرة، وهم أحط من البهائم وأذل من الكلاب
بحسب قانون «منو» ، ومن سعادة المنبوذين أن يخدموا البراهمة وليس لهم أجر
أو ثواب، وإذا مد أحد المنبوذين إلى براهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده،
وإذا همَّ أحد من المنبوذين بمجالسة برهمي فعلى الملك أن يكوي استه وينفيه من
البلاد، إذا ادعى أحد المنبوذين أنه يعلّم برهمياً فإنه يسقى زيتاً مغلياً، وكفارة قتل
الكلب والقطة والضفدع والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء.
ومن هذه الطبقة الأخيرة استمد الإسلام معظم أتباعه في الهند بالرغم من أن
العديد من ملوك الهند قد دخلوا في الإسلام كملك البنجاب وملك كشمير، ومن
الغريب أن هذه الطبقة لا تزال تعاني الاضطهاد في الهند حتى الآن. ويقول تقرير
منظمة مراقبة حقوق الإنسان الدولية: (يعيش أكثر من سدس سكان الهند أي
حوالي 160 مليون نسمة حياة غير مأمونة، ويتجنب الكثيرون في المجتمع
مخالطتهم؛ لأنهم ينتمون إلى طبقة المنبوذين الذين لا تجوز ملامستهم، إنهم أبناء
طائفة الداليت وهي تعني حرفياً المضطهدين التي تقع في الدرك الأسفل من نظام
الطبقات الهندي، ويعاني الداليت من التمييز، ولا يسمح لهم بامتلاك الأراضي،
ويرغمون على العمل في أوضاع مزرية ... وفي إطار هذا الفصل العنصري الخفي
لا تزال قرى بأكملها في الكثير من الولايات مقسمة تماماً إلى طبقات) .
وتبلغ نسبة المنبوذين في المجتمع الهندي ما يقرب من 57 % من سكان الهند؛
لذلك يبدو القلق الهندوسي المستمر من تحول هؤلاء المنبوذين إلى خانة الإسلام
كتحرير لأنفسهم من هذه الحيوانية المهينة، وأعرب عدد من القيادات الهندوسية عن
قلقهم الشديد لاستمرار تحوّل الفقراء من الهندوس إلى الإسلام والمسيحية، وطالبوا
بالتضامن بين الديانات المجوسية الثلاثة في الهند، وهي الهندوسية، والبوذية،
والسيخ لبحث أسباب تحوّل أتباعهم إلى الإسلام وترك المجوسية.
المرحلة الثانية: احتلال بريطانيا للهند:
ذاعت شهرة الهند بالغنى في أوروبا، واشتهر سلاطينها بالتسامح؛ فتوافد
عليها البرتغاليون والإنجليز، وثار نزاع بين الفريقين، ووقفت دولة المغول
الإسلامية التي كانت تحكم سيطرتها حينذاك على شبه القارة الهندية إلى جانب
الإنجليز ضد البرتغاليين، وارتكبت بذلك الخطيئة الكبرى؛ وبذلك فتح المغول
بتسامحهم مع الإنجليز الطريق لهم ليستولوا على الهند قاطبة.
ثم جاءت الخطيئة الثانية وهي قيام الحرب بين أمراء الدولة المغولية
المتنافسين على الحكم؛ مما شجع الهندوس والسيخ بالثورة على حكم المسلمين.
وفي هذه الأثناء تقدمت الجيوش الإنجليزية بتشجيع من الهندوس والسيخ
نحو الولايات الهندية التي سقطت واحدة بعد الأخرى ودخل الإنجليز دلهي
عاصمة المغول المسلمين عام 1803م.
وفي عام 1858م ثار المسلمون في وقت واحد في الهند، وخاصة في
الولايات التي يشكل فيها المسلمون أغلبية في ولايات البنجاب والبنغال ودلهي،
ودارت معركة بين الثوار والجيش الإنجليزي الذي كانت غالبيته من الهندوس
والسيخ، ولكن نظراً لتفوق الجيش الإنجليزي في المدافع والبنادق تغلبوا على
المسلمين، وأنهت بريطانيا رسمياً سلطنة المغول الإسلامية، وأعلنت شبه القارة
الهندية مستعمرة بريطانية يحكمها نائب للملك يقيم في مدينة دلهي الجديدة التي تم
بناؤها بجوار دلهي القديمة عاصمة المسلمين.
والواقع إن الإنجليز كان لهم أثر ضخم على العلاقات الهندوسية الإسلامية:
فمن أجل إحكام السيطرة على الهند ونظراً للروح الصليبية التي كانت
حريصة على الانتقام مما هو إسلامي اتخذوا سياسة معادية للإسلام؛ حتى أعلن
اللورد آلان بورو أن العنصر الإسلامي في الهند هو عدو بريطانيا الأكبر، وأن
السياسة البريطانية في الهند ينبغي أن تقوم على تقريب العناصر الهندوسية للتغلب
نهائياً على سلطان المسلمين؛ لذا حرص الإنجليز على إبعاد المسلمين عن كل
الوظائف ذات المسؤولية، ووضعوا مكانهم هندوساً أو سيخاً، وأصدروا قوانين
لتملك الأراضي الزراعية، وجعلوا فيها حق التملك شائعاً بين الهندوس وغير
الهندوس، ووضعوا أيديهم بذلك على أراض شاسعة كان المسلمون يملكونها،
وطردوا المسلمين من أراضيهم وأعطوا جباة الضرائب من الهنود حق تملك
الأراضي التي يستطيعون انتزاعها من أيدي المسلمين، كما عملوا على إلقاء العداوة
في قلوب الهندوس والسيخ نحو المسلمين، وبدؤوا في تدريب السيخ والهندوس على
القتال، واستعمال الأسلحة؛ وبذلك أصبح للإنجليز في الهند قوة قوامها مائة ألف
جندي منهم عشرون ألفاً فقط من الإنجليز.
لقد نجح الإنجليز في استمالة الهندوس لهم نتيجة تمييزهم بالوظائف الكبرى
وغير ذلك من الامتيازات، وغذوا أسباب الحقد حتى أوجدوا حالة عدوانية بين
الطرفين تحتاج إلى سنين لهدم الفجوة بين سكان المنطقة الواحدة.
وبلغ الضعف بالمسلمين أنهم طالبوا الإنجليز بإقامة دولة لهم مستقلة عن
الهندوس وهم في السابق أصحاب الأرض وملاكها، وبعد عدة قرون من تحكمهم
فيها أصبحت كل آمالهم أن يقتطعوا جزءاً من مساحة شبه القارة الهندية ليقيموا
عليها دولتهم المستقلة.
المرحلة الثالثة: عقب الاستقلال وحتى الآن:
يطلق على هذه الفترة التي شهدتها علاقات المسلمين بالهندوس بحقب المجارز
والحروب؛ فالعلاقة الهندوسية الإسلامية تبلورت من خلال محورين:
المحور الأول: وهو العلاقة بين الحكومة الهندوسية والمسلمين الواقعين تحت
حكمها.
المحور الثاني: وهو العلاقة بين المسلمين المستقلين بباكستان والحكومة
الهندوسية.
بالنسبة للمحور الأول: فمنذ الاستقلال وحتى الآن تشير كثير من التقديرات
أن المسلمين في الهند تعرضوا خلال هذه الفترة إلى نحو 40 ألف مجزرة، وتم
خلالها هدم عشرات الآلاف من المساجد، إضافة إلى هدم وإحراق ضِعْف ذلك من
منازل المسلمين ومتاجرهم، وكان كل ذلك يحدث تحت سمع الحكومة الهندية
وبصرها بل برعايتها بصورة مباشرة، وما هدم المسجد البابري التاريخي في عام
1992م، ومحاولة بناء معبد (راما) المزعوم على أنقاضه إلا دليل حي على تلك
المآسي.
وما هو أكثر من ذلك ما يتعرض له المسلمون في الهند من هجمة شرسة
تقودها أركان الحكومة، تتمثل في محاولة قلب الموازين لدى المسلمين عبر ترسيخ
قواعد الحضارة الهندوسية بدلاً من هويتهم الإسلامية، وتبديل عقائدهم الإسلامية
العريقة بأخرى هندوسية؛ وذلك من خلال حملة منظمة تقف وراءها مؤسسات
الدولة الهندية، كما تقف بجانبها منظمات هندوسية متطرفة، ودخل هذا المخطط
حيّز التنفيذ منذ عام 1947م، وشمل وسائل متعددة بدءاً بإحداث تغيير في المنهج
التعليمي، وفرض الأفكار الهندوسية عوضاً عن الإسلامية تحت ذريعة «المنهج
العلماني» ، ومروراً بتعديل المعاملات وقانون الأحوال الشخصية؛ وذلك بدمج
قوانين هندوسية وإسلامية، وانتهاءً بالقضاء على الهوية الإسلامية وإظهار الولاء
للدولة الهندوسية.
ونشرت المجلة الهندية «صوت الداليت» أي المنبوذين التي تصدر في
مدينة بنكالور الهندية في عددها الصادر في 16/3/ 1985م مقالاً حمل عنوان:
«النموذج الأسباني للقضاء على المسلمين في الهند» ؛ حيث يقول كاتبه:
«أصبح قتل المسلمين في الهند أمراً طبيعياً، فإذا ما طرحت القضية على المحافل
الدولية اعترضت الهند على ذلك معتبرةً أن ما يحدث بها هو شأن داخلي، وأن
طرحها في المحافل الدولية يعني تدخلاً في شؤونها الداخلية» .
ثم يستطرد الكاتب فيقول: «.. ومما يزيد الأمر سوءاً أن مادة التاريخ قد
حذفت كل أمجاد المسلمين في الهند، وأصبح أبطال المسلمين مثل السلطان تيبو،
جزاري بقر ومرتكبي آثام» ، وأردف قائلاً: «كما يُحرم كبار الضباط
المسلمين في الجيش والشرطة من الارتقاء في السُّلم الوظيفي، وحصر ذلك على
الهندوس، ويتم إغلاق الباب أمام المسلمين لتعيينهم في وظائف حكومية، ولا
سيما الدوائر الإعلامية» ، ويختم الكاتب مقاله بأن «قيادة المسلمين في الهند
أصبحت خاضعة وواقعة بين الهندوس، وتتبع خطهم في كثير من المجالات» ،
وتكمن أهمية هذه الشهادة في أن كاتب المقال ليس مسلماً بل هو هندوسي.
ويقول الدبلوماسي الدكتور إحسان حقّي، وكان يشغل منصب سفير
الجمهورية السورية بالعاصمة الهندية، في تقديمه لكتاب: «علمانية الهند» واصفاً
حال المسلمين فيها: «إن المسلمين في العالم، والعرب منهم خاصة، يعيشون في
برجٍ عاجي لا يعلمون شيئاً مما يجري في تلك البلاد، حيث يعاني (150) مليون
مسلم في الهند، يعيشون في ظلم واضطهاد، وسبب ذلك إما الجهل بما يدور هناك
أو عدم المبالاة بما يحدث» ، ثم يقول الدكتور: «ولكي تستر هندوستان
استعمارها عن العيون تقول إنها بلد علماني، وهي ليست بعلمانية فقط، بل هي
هندوكية متعصبة جائرة معتدية.. إن العلمانية هي غير ما هي عليه الهند تماماً،
والعلمانية لا تكون بفرض عقائد خاصة على كل الناس على حدٍ سواء كما تفعله
الهند» .
وإذا كان الدكتور إحسان حقي يقول: إن العرب لا يعلمون شيئاً عن مصائب
المسلمين في الهند ولكنهم الآن يعرفون؛ فماذا فعلوا؟ فقد صرح مندوب جامعة
الدول العربية لدى الهند بأن الدول العربية ترى أن أعمال العنف الطائفي التي
حدثت في ولاية كوجرات والتي أودت بحياة أكثر من سبعمائة شخص هي شأن
هندي داخلي، وأنها لن تقف في طريق العلاقات التاريخية القديمة بين الدول
العربية والهند! ! وأشار سفير جامعة الدول العربية لدى نيودلهي محمد حسين
القذافي إلى أن الدول العربية تقف ضد الهجمات الظالمة ضد الشعوب في أي مكان،
ولكن نحن نعلم أن مثل هذه الصدامات تقع لأسباب مختلفة في بلدان كثيرة.
ونرجع إلى المجزرة الأخيرة في ولاية جوجارات على خلفية حادث القطار
المزعوم كعينة من هذه المجازر، وفي إحدى حلقاتها قام آلاف الهندوس حوالي
الساعة الثانية صباحاً وحاصروا قرية سادرابور التي تقطن فيها أقلية مسلمة لا
يتعدى أفرادها 140 فرداً، ووضعوا حواجز حولها لمنع الشرطة من التدخل. وقام
المعتدون بعدها بتشكيل برك الماء حول منازل المسلمين، وألقوا بداخلها أسلاكاً
كهربائية ثم رموا بقنابل حارقة داخل البيوت المحيطة بالبرك المكهربة؛ بحيث
عندما يحاول السكان الهروب يصعقون بالكهرباء، ومن رجع منهم احترق حياً
داخل المنازل المشتعلة. وقد استطاع عدد قليل من السكان المسلمين الهرب عبر
النوافذ الخلفية، بينما قتلت عشرات النساء والأطفال. وذكر مصدر في الشرطة
الهندية أن عدد القتلى خلال خمسة أيام من المواجهات قد يتجاوز الألف معظمهم من
المسلمين، في وقت أصبح كل مسلم (هدفاً) للمتطرفين الهندوس حسب تصريح
أحدهم.
وقال أحد السكان المسلمين الناجين من محرقة سادرابور إنهم اتصلوا بالشرطة
قبل وقوع الهجوم؛ لكنها اكتفت بإرسال خمسة أنفار برفقة ضابط انسحبوا بعد
طمأنة السكان بأنه لن يعتدي عليهم أحد.
المحور الثاني: العلاقة بين باكستان والهند:
تراوحت هذه العلاقة بين حروب دموية، وتهديدات بالحرب، وتسابق على
التسلح وصولاً إلى النادي النووي، والصواريخ البعيدة المدى؛ فقد نشبت الحرب
الأولى التي استمرت من أكتوبر عام 1947م حتى بداية عام 1949م، وفي يناير
1949م أصدر مجلس الأمن الدولي بناء على طلب الهند قراراً يطالب الطرفين
بوقف إطلاق النار، ثم اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو لإجراء
استفتاء بين سكان الإقليم يعطيهم حق تقرير المصير، لكن الهند راوغت طويلاً في
تنفيذ القرارين الدوليين، ثم أعلنت رفضها للتنفيذ وضمها للإقليم.
وأدى استمرار الهند في احتلال كشمير ورفضها تنفيذ القرارات الدولية
المتتالية بشأن الإقليم إلى نشوب الحرب الثانية بين الهند وباكستان عام 1965م
والتي انتهت بهزيمة الجيش الباكستاني للمرة الثانية.
أما الحرب الثالثة بين البلدين فقد كانت في ديسمبر عام 1971م، ولكن
أسبابها كانت بعيدة كل البعد عن كشمير وأزمتها، فقد كانت الهند خلف هذه الحرب؛
وذلك باستمرارها في تشجيع النزاعات الانفصالية لدى زعماء الإقليم الشرقي في
باكستان مستفيدة من أخطاء الحكومة المركزية في التعامل مع أبناء القومية البنغالية،
وانتهت الحرب بهزيمة فادحة لباكستان، وانفصال إقليمها الشرقي عنها تحت اسم
«بنجلاديش» ، والتوصل لاتفاق «شيملا» في يوليو عام 1972م الذي يتضمن
مبادئ العلاقة بين الجانبين، وسبل تسوية الخلافات بينهما بالطرق السلمية،
واحترام السيادة والوحدة الإقليمية، وعدم اتخاذ أية إجراءات تغير الواقع على
الأرض، والالتزام بخط وقف إطلاق النار في الاقليم. واستهدفت الهند من الاتفاق
منع إسلام آباد من الاستعانة بالأمم المتحدة في النزاع على إقليم كشمير من منطلق
رؤية الهند له على أساس أنه شأن داخلي لها، ولم تملك باكستان سوى قبول الاتفاق
في ظل 90 ألف أسير لها في الهند.
أما في الثمانينيات فقد اختلف نمط النزاع؛ حيث نشأت جبهة تحرير جامو
وكشمير، وهذه الجبهة تتكون من الكشميريين أنفسهم، وهي تطالب بالاستقلال،
ولقد ألقت بظلالها على مسرح الأحداث لتضيف اعتباراً وبعداً جديداً للقضية، فقد
بدأت العمليات المسلحة بالظهور داخل الاقليم وأسفرت عن قتل 30 ألفاً في عام
1989م، وحتى وقف إطلاق النار في نوفمبر 2000م.
في فترة التسعينيات تنامى سباق التسلح بين الهند وباكستان ووصل ذروته في
مايو 1998م من خلال التجارب النووية التي أجريت، فقد بدأت الهند بخمس
تجارب نووية في 1998م، فبادرت باكستان بدورها فوراً وقامت بست تجارب
نووية مماثلة؛ وبهذا ينتقل سباق التسلح من نمط السلاح التقليدي إلى نمط جديد هو
السلاح النووي الفتاك.
فقد كان التسلح قبل التسعينيات مقتصراً على تجارب إطلاق الصواريخ
قصيرة المدى، فمنذ عام 1994م بدأت تجارب إطلاق الصواريخ مثل «بريتفي»
الهندي و «حتف 1 و 2» الباكستاني، ثم قامت باكستان بتجربة صاروخ
«جوري 1» في 6 ابريل 1998م بعد فوز حزب بهاراتيا جاناتا المتطرف في
الهند والإعلان عن عزمه تنفيذ أجندته تجاه باكستان وقبل التجارب النووية الهندية
بـ 36 يوماً؛ علماً بأن الهند كانت قد أجرت تجربة ناجحة على صاروخ «اجني
1» الذي يصل مداه إلى 1500كم، وأعدت تجارب على «اجني 2» المعدل
والبعيد المدى والذي يمكنه ضرب جميع الأهداف الباكستانية حتى لو وضع في آخر
الهند.
ويعد صاروخ «شاهين» الذي أطلق بعد صاروخ «غوري 2» بيوم واحد
أساساً لبرنامج صاروخي باكستاني متفوق على البرنامج الصاروخي الهندي؛ وذلك
لما يميز صاروخ شاهين عن غوري، فصاروخ شاهين يعتمد على الوقود الصلب
في حين أن غوري يعتمد على الوقود السائل، فالوقود الصلب يعطي الصاروخ
عمراً افتراضياً أطول، ويسمح بتطوير صناعة صواريخ أصغر حجماً وهو ما
يجعل القدرة على التحكم والتوجه أكثر سهولة، كما أنه يسمح برد أسرع حيث يمكن
إبقاؤه في وضع الاستعداد للإطلاق، ويمكن تبديل الوقود الصلب بسهولة وبمجرد
انتهاء صلاحية الوقود الصلب، في حين تحتاج الصواريخ التي تعمل بالوقود
السائل إلى ملء خزان الوقود قبل إطلاقه وهو ما يحتاج إلى ثلاث أو أربع ساعات.
أما الميزة الثانية التي تميز صاروخ شاهين فهي نجاح سياسة باكستان في
تشكيل هيئتين لتطوير الصواريخ وإنتاجها، وهما مختبر خان للأبحاث، ومجمع
الدفاع الوطني، وكلاهما في هيئة الطاقة النووية الباكستانية، في حين أن البرنامج
الصاروخي الهندي هو مسؤولية مؤسسة الأبحاث والتطوير الدفاعي.
التحالف اليهودي الهندوسي البروتستانتي:
تنتشر منذ فترة الكتابات عن الحلف الإسرائيلي الهندي الأمريكي، وتتنوع
هذه الكتابات، وفي نفس الوقت يطعن الكثيرون فيها باعتبارها إرهاصات وخيالات
لا يتوفر في كثير منها أدلة مقنعة؛ ومن ثم لا ترتقي إلى درجة اليقين والتثبت.
ولكن عند وضع هذه العلاقات على محك السنن الربانية ومقياس المنهج العلمي
المنضبط يمكن رصد هذه العلاقات من خلال عدة أسس:
أولاً: تلاقي المصالح والأهداف:
اجتمعت الطوائف الثلاث: الهندوسية واليهودية والبروتستانتية على هدف
واحد وغاية مقصودة، هذه الغاية تحول بينهم وبين ما يطمحون فيه من السيطرة
والزعامة العالمية ويمثل الإسلام تلك العقبة الكؤود.
يقول الدكتور أليف الترابي في كتابه الشهير: «المطامع الهندوسية في العالم
الإسلامي» : إن فيلسوف الهند الشهير (بي. إن. أوك) ذكر في كتابه بعض
الأخطاء في البحوث التاريخية للهند: أن هناك دلائل عديدة يستنتج منها أن الجزيرة
العربية خضعت لسلطان الملك الهندوسي «فيكراماديتيا» كما أن هناك أدلة أخرى
تؤكد أن المعبد (الكعبة) يعود في بنائه إلى عام 58 ق. م على يد الملك
فيكراماديتيا، وعلى نفس الدليل يمكن إرجاع وجود شعار «المهاديف» أحد آلهة
الهندوس في الكعبة ذاتها وهو ما يطلق عليها اليوم اسم «الحجر الأسود» عند
المسلمين! ! إذن فهدف الهندوس هو استعادة هذه المقدسات التي اغتصبها المسلمون
منهم.
أما الهدف البروتستانتي اليهودي فأمريكا مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية
تغلغلت في تفكير مواطنيها الأفكار والتنبؤات التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى
فلسطين، ومما قوّى هذه الأفكار التجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من
أوروبا إلى أمريكا، حينما قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء
عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين.
وفي حفل أقامته على شرفه جامعة تل أبيب وضح كارتر الأمر أكثر؛ حيث
ذكر أنه بوصفه نصرانياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً أن هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة
(إسرائيل) . لقد كان (كارتر) مثالاً للرئيس الملتزم بالصلاة في الكنيسة كل أحد،
وكان عضواً في أكبر كنائس بلدته، وشماساً في مدرسة الأحد.
أما (ريجان) فقد قال في إحدى خطبه موجهاً كلامه إلى بعض اليهود
الأمريكيين: (حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات
المنبئة بمعركة (هرمجدّون) أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى
ذلك لاحقاً) ، وأخيراً بوش الابن الذي حفز الشعب الأمريكي لمحاربة القاعدة
وطالبان والجماعات الإسلامية بقوله: «إنها حرب صليبية» . لقد عبّر الكاتب
اليهودي الأمريكي (جون بيتر) عن واقع أمريكا عندما قال: (إن الرؤساء
الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد أمام قبر مقدّس) !
ثانياً: صعود المتطرفين في كل من الدول الثلاث للحكم:
معروف أن هنالك العديد من المنظمات الهندوسية المتطرفة أهمها منظمة
(آر. إس. إس) راشتريه سويام سيفك سنغ التي تعد أشهر وأكثر انتشاراً وتأثيراً
في المجتمع الهندي؛ حيث إن عدداً كبيراً من قادة الحزب الحاكم بهارتياجاناتا
ينتمون إلى هذه المنظمة. تأسست المنظمة في عام 1925م على يد مؤسسها
الدكتور كيثورام بلرام هيد كيوار الذي تقلد عدة مناصب في حزب المؤتمر الهندي
في وقت مبكر إلا أنه شعر بالإحباط الشديد بعد انتهاء حركة سوراج الهندوسية
والمتطرفة، وازداد شعوره هذا حينما وصل غاندي إلى رئاسة المؤتمر، وازداد
نشاط المسلمين في الحزب. عندئذ استقال من حزب المؤتمر وأسس منظمة (آر.
إس. إس) لرعاية الشباب الهندوس والنهوض بالدولة؛ على أساس أن الهند
للهندوس دون غيرهم من الديانات والثقافات.
أما في إسرائيل فقد صعد شارون للحكم وهو يمثل قمة من قمم التطرف في
السياسة الإسرائيلية؛ حيث صعد معه تحالف من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي
تطالب بترحيل العرب قسرياً من إسرائيل.
وفي الولايات المتحدة صعد الحزب الجمهوري لسدة الحكم وهو يمثل اليمين
الأمريكي، ويسيطر عليه التيار البروتستانتي المعروف بأفكاره التوراتية التي يريد
نقلها لعالم الواقع، كما سيطر على إدارة بوش فريق تشيني نائب الرئيس، وهو
فريق صهيوني متشدد ينظر إلى هيمنة أمريكا التي لا حد لها وعدم تقدير الآخرين
في سبيل الوصول لتلك الهيمنة؛ في مقابل فريق باول وزير الخارجية المعتدل
نسبياً عن الفريق الآخر الذي يرى ضرورة تقدير مصالح وآراء الآخرين للوصول
إلى الهيمنة المطلوبة.
ثالثاً: تشابه التكتيكات والأساليب:
نجد أن نفس الممارسات التي تمارسها الحكومات في الهند وأمريكا وإسرائيل
تتشابه، وخاصة أنها تمارس مع المسلمين الذين يقاومون مشاريع الدول الثلاث في
الهيمنة والتحكم. والمثال الأقرب على ذلك ما قامت به الهند من مطالبة باكستان
بتسليم أفراد من جماعات كشميرية تتهمهم بتدبير محاولة تفجير مبنى البرلمان
الهندي، ورفضت في نفس الوقت تقديم أي أدلة تستند عليها في اتهام جماعات
كشمير. وهذا ما فعلته أمريكا في قضية تفجيرات نيويورك؛ حيث طالبت نظام
طالبان بتسليمها قيادات القاعدة الذين اعتبرتهم المسؤولين عن هذه الأحداث،
ورفضت إعطاء أية أدلة تثبت بها مزاعمها.
وأيضاً ما تمارسه إسرائيل مع الفلسطينيين ومطالبتها إياهم بتسليم أبطال
المقاومة الفلسطينية دون توافر أدلة محددة على عملياتهم البطولية.
رابعاً: التصريحات العلنية:
1 - في سنة 1955م طالب حزب «الجان سانغ» في قرار رسمي بإقامة
العلاقات مع إسرائيل، وهو الحزب الذي سبق للمتعصبين استخدامه واجهة سياسية
قبل تطويره إلى حزب «بهارتيا جاناتا» الحاكم حالياً. وحين انتخب
«فاجباي» نائباً في البرلمان لأول مرة سنة 1957م طالب في أول خطاب
له بالبرلمان إقامة العلاقات مع الكيان الصهيوني. وحين أصبح «فاجباي» وزير
خارجية بحكومة «مورارجيديساي» دعا وزير الخارجية الإسرائيلي «موشي
دايان» إلى زيارة الهند (سراً) سنة 1978م، فزارها، وتمَّ الاتفاق خلال الزيارة
على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، إلا أن حكومة حزب جاناتا سقطت.
2 - أكد الكاتب الهندي «جبريل لان جان» في مقال له نشره بمجلة
Round Table الصادرة من نيودلهي في عدد شهر أغسطس لعام 1970م، أن
رأي رئيس الوزراء الهندي آنذاك «جواهر لال نهرو» الذي كان عليه أن يباري
باكستان في كسب صداقة الدول العربية بإخفاء الاعتراف بوجود إسرائيل رسمياً
كان رأياً صحيحاً وحكيماً، وهذه العلاقة الودية تنامت منذ اليوم الأول لقيام الدولتين؛
حيث سادت الأجواء عبارات الغزل والملاطفة، وهو ما دعا زوجة موشى دايان
أن تقول: «أعتبر الهند بلدي الثاني» .
3 - قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير: «إن الهند
وإسرائيل صديقتان وتواجهان خطراً مشتركاً وهو الإرهاب الإسلامي، ولا بد من
التعاون والتنسيق لمواجهة ذلك الخطر» .
4 - وزير الداخلية الهندي «أدفاني» أثناء زيارته الأخيرة لإسرائيل ليزيد
من عمق العلاقات الودية بين الدولتين قال: «الهند وإسرائيل كلتاهما دولتان
صديقتان وتواجهان خطراً مشتركاً، وهو الإرهاب الإسلامي، فلا بد من التعاون
والتنسيق بينهما لمواجهة هذا الخطر المشترك» ، وأضاف: «إن الحكومات
الهندية السابقة أخفت علاقاتها مع إسرائيل نظراً لعلاقاتها مع الدول العربية ومراعاة
لعواطف المسلمين الهنود، لكننا لا يهمنا هذا وسنعلنها بكل صراحة» .
5 - تحدثت صحيفة هآرتس الإسرائيلية منذ أشهر عن ضوء أخضر أمريكي
للحكومة الإسرائيلية لبيع ثلاث طائرات رادار من طراز فالكون، مزودة بتقنية
استخبارية متقدمة مشابهة لتلك الموجودة في طائرة أواكس للإنذار المبكر.
6 - في مقال نيويورك تايمز ذكر فيه أن إحجام واشنطن عن تقديم الدعم إلى
الهند في حربها ضد ما تسميه الإرهاب، يعود إلى سعي الإدارة الأميركية إلى عدم
إثارة العالم الإسلامي والمحافظة على التحالف الحالي ضد الإرهاب. لكن مساعدة
إسرائيل للهند لن تؤثر في دور الإدارة والتحالف الذي تتزعمه ضد الإرهاب.
ويعتقد بعض الخبراء بأنه جرى تبادل خبرات بين البلدين في مجالات الصواريخ
الباليستية والأسلحة النووية. وسيؤمن حصول الهند على طائرات أواكس سيطرة
جوية مطلقة لها على ساحة المعركة ضد باكستان في المستقبل.
7 - أعلن مسؤول تجاري هندي أن الاستثمارات الإسرائيلية في بلاده قد
تضاعفت خلال السنوات الأخيرة لتصبح إسرائيل هي تاسع أكبر المستثمرين
الأجانب المؤثرين في الاقتصاد الهندي.
8 - التحالف الإلكتروني بينهم؛ حيث طالب بعض أعضاء منظمة هندوسية
متطرفة، وتتلقى دعماً مالياً من المنظمات الصهيونية على الإنترنت من خلال
موقعهم الرسمي بمهاجمة المسلمين بالمثل وتدمير الكعبة، مثلما تم تدمير تمثال
الشرك وصنمه «بوذا» في أفغانستان من قِبَل حركة طالبان. ويحتوي الموقع
الذي يدعمه موقع حركة كاهانا اليهودية المتطرفة مضامين عنصرية كريهة للدين
الإسلامي، منها اتهامهم المسلمين أن ديانتهم الأصلية تعود إلى البوذية بسبب
رداء الحج والعمرة الذي يرتدونه والذي يشبه رداء كهنتهم.
9 - في افتتاحية الواشنطن بوست (20/12) ترى أن الخطوة القادمة في
الحرب على الإرهاب يجب أن تكون في باكستان قبل العراق والصومال لمواجهة
جماعات الإرهاب الباكستانية التي تتهمها الهند بالاعتداء على برلمانها. كما ترى
الجريدة ذات الهوى الصهيوني المتطرف أن الهند مارست ضبط النفس بدرجة تدعو
للإعجاب، وينبغي ألا يُحظر عليها ممارسة حق الدفاع عن النفس كما تمارسه
أميركا وإسرائيل.
10 - كشفت مجلة «إنديا توداي» الهندية عن مباحثات بين نيودلهي
وواشنطن بشأن تشكيل تحالف عسكري كبير طويل المدى. وأوضحت المجلة أن
التحالف العسكري المقترح يشمل إقامة قواعد عسكرية وميادين للتدريب على إطلاق
النار وشبكة اتصالات مشتركة ومنشآت تدريب لقواتها في الهند إلى جانب تأمين
البحرية الهندية للمصالح الأمريكية الواقعة في منطقة المحيط الهادي.
11 - في خلال شهر واحد فقط قام مسؤولون إسرائيليون بزيارة الهند ثلاث
مرات إحداها قام بها شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي الذي صرح بأن
إسرائيل تقف بجانب الهند في برامجها ضد (الإرهاب والإرهابيين) عسكرياً
وسياسياً، ومن قبله كشف السفير الإسرائيلي في الهند في مقابلة أجرتها معه صحيفة
«صنداي الهندية» الأسباب الرئيسة لهذا التحالف فقال: «إن قضية الإرهاب
الأصولي تشكل تحدياً مشتركاً للهند وإسرائيل، وعلينا أن نستأصل هذا الخطر من
جذوره» .
وهكذا في ظل ابتعاد المسلمين عن دينهم، وعن رؤية واقعهم، والمخططات
التي تحاك ضدهم يظل الأعداء يتربصون وينقضون حتى يقضي الله أمراً كان
مفعولاً.(174/54)
المسلمون والعالم
الأسرى بين قبرص وغوانتانامو
د. عبد العزيز آل عبد اللطيف [*]
مع أن ابن تيمية رحمه الله قد حقق مقولته الرائعة: «المحبوس من حُبس
قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه» ؛ حيث سُجن سبع مرات،
وتعرض لصنوف شتى من البلاء والمحن، وكان في السجن أسعد الناس قلباً
وأهنأهم عيشاً؛ مع ذلك كله فقد سعى سعياً حثيثاً في فك أسرى المسلمين واستنقاذهم،
فخرج في شهر رجب سنة 699 هـ إلى مخيم بولاي أحد قادة التتار واجتمع به
في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين؛ فاستنقذ كثيراً منهم من أيديهم [1] .
وكتب ابن تيمية رحمه الله رسالة مطولة إلى ملك قبرص «سراجسوان»
أحد ملوك النصارى في شأن أسرى المسلمين عند ذلك الملك، ضمنها دعوة إلى دين
الإسلام وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأظهر رحمته ومحبته الخير لكل أحد،
كما أشار إلى مساعيه عند التتار في فك أسرى المسلمين وأهل الذمة من النصارى.
إلى أن قال رحمه الله: «أما يعلم الملك أن بديارنا من النصارى أهل الذمة
والأمان ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة؛ فكيف يعاملون أسرى
المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين؟ ! أليس
الأسرى في رعية الملك؟ ! أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبر
والإحسان فأين ذلك؟ !» [2] .
فأنكر شيخ الإسلام على هذا الملك النصراني المعاملة السيئة لأولئك الأسرى،
مع أن وصايا المسيح تنص على اللين والإحسان، ومع أن أهل الإسلام يعاملون
النصارى الذميين والمستأمنين بالبر والعدل.
ثم قال رحمه الله: «ومن العجب كل العجب أن يأسر النصارى قوماً غدراً
أو بغير غدر ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول:» من لطمك على خدك الأيمن فأدر له
خدك الآخر «، وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده
المسلمين؛ فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص، سيما وعامة
هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء، ليس لهم من يسعى فيهم ... والله تعالى لم يأمر
المسيح ولا أحداً من الحواريين لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم ... ثم في فكاك
الأسير وثواب العتق من كلام الأنبياء والصديقين ما هو معروف لمن طلبه» [3] .
وهكذا سلك الشيخ مسلك الترهيب من غضب الله وغضب أهل الإيمان، كما
رغّب في فكاك الأسير وما فيه من الثواب، إلا أن توعد الشيخ وتحذيره لذلك
النصراني تكرر في غير موضع، ومن ذلك قوله: «ثم عند المسلمين من الرجال
الفداوية [4] الذين يغتالون الملوك على فرشها، من قد بلغ الملك خبرهم قديماً وحديثاً،
وفيهم الصالحون الذين لا يرد الله دعواتهم ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب
الرب لغضبهم ويرضى لرضاهم» [5] .
«فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم رب العباد
والبلاد كما ينتقم لغيرهم، وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حمية إسلامهم فينالون
منها [6] ما نالوا من غيرها؟ !» [7] .
ومع تعدد أوجه التشابه بين أحوال المسلمين في القرن الثامن الهجري
(عصر ابن تيمية) وبين أحوال المسلمين في هذا العصر كما نلحظه في أحوال
أسرى قبرص وأسرى غوانتانامو إلا أن أسرى قبرص لقوا اهتماماً ظاهراً،
ومواقف عملية صارمة من ابن تيمية، وأما أسرى المجاهدين بكوبا (غوانتانامو) ،
وأسرى المجاهدين الفلسطينيين في السجون اليهودية، وأسرى المجاهدين
الكشميريين في السجون الهندوسية، وأسرى المجاهدين الشيشانيين في روسيا..
وغيرهم من الأسرى المستضعفين؛ فلا بواكي لهم، فأين الاحتساب في قضيتهم؟
وأين المطالبة بحقوقهم؟ ! وأين الدعوة إلى العدل فيهم والإحسان في معاملتهم؟ !
وأين التضرع إلى الله تعالى واللجوء إليه أن يفك أسرهم ويرغم عدوهم؟ !
إن ثمة وسائل متنوعة تجاه قضية أولئك الأسرى، ولا أظن أن سرد تلك
الوسائل يعوزنا أو يعجزنا، وإنما داؤنا: وَهَنٌ في الإرادة والعزيمة. إن على أهل
العلم والدعوة والمؤسسات والحركات الإسلامية والمنظمات الحقوقية أن تسهم على
أقل الأحوال بجهد المقل وأضعف الإيمان تجاه أولئك الأسرى المضطهدين؛ فإن
نصرة أهل الإسلام من الواجبات الشرعية؛ فكيف إذا كانوا مجاهدين أو مظلومين؟ !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا
يخذله» [8] ، ولا سيما أن الغرب نفسه ممثلاً في كثير من جمعياته التي تسمى
بالإنسانية والحقوقية، والإعلاميين، وبعض السياسيين قد تذمروا من معاملة
إسرائيل وأمريكا وروسيا لأولئك الأسرى المسلمين.
أما أنتم معشر الأسرى فأعظم الله أجركم، وجزاكم الله كل خير على صبركم
وجَلَدكم، وتذكروا أن من اتقى الله تعالى جعل له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق
مخرجاً، وكان الله في عونكم.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض (1) انظر في تاريخ ابن كثير، (14/11) .
(2) مجموع الفتاوى، (28/221) .
(3) مجموع الفتاوى، (28/625، 626) .
(4) لعلها بمعنى الفدائيين.
(5) الفتاوى، (28/622، 623) .
(6) أي قبرص.
(7) مجموع الفتاوى، (28/622، 623) .
(8) أخرجه أحمد في المسند (2/68) .(174/62)
المسلمون والعالم
الشعب الفلسطيني معاناة وألم بين المعابر والسجون
هشام سلامة [*] وسمير سعيد
ناشد الأسرى الفلسطينيون في سجن «مجدو» بتاريخ 17/11/2001م،
مؤسسات حقوق الإنسان لممارسة الضغط على العدو الصهيوني لوقف المضايقات
والإجراءات التعسفية التي تمارسها إدارة السجن بحقهم، وأوضح الأسرى في
مناشدتهم أن الحكومة الصهيونية لا تزال تمنعهم من مقابلة ذويهم منذ 14 شهراً؛
مما أدى إلى ازدياد معاناتهم والتسبب في نقص حاد في الملابس والمواد التموينية،
ويبلغ عدد المعتقلين في «مجدو» نحو 1006 معتقلين، واشتكى الأسرى من
النقص الحاد في الرعاية الطبية وعلى وجه الخصوص عدم وجود طبيب أسنان في
السجون؛ علماً بأن العشرات من الأسرى بحاجة إلى علاج فوري لأسنانهم.
وأوضح الأسرى أن عدد المعتقلين الإداريين في السجن المذكور ارتفع إلى 33
معتقلاً؛ من بينهم اثنان من القاصرين، وهم أحمد قليبي وهيثم أبو الريش.
الأشقاء الثلاثة المكفوفون الأسرى:
كما يشعر الأشقاء المكفوفون (منذر، ومزهر، وشادي بدير) من بلدة كفر
قاسم داخل الخط الأخضر بارتياح شديد بعد معاناة استمرت أكثر من خمس سنوات؛
وذلك عندما وضعت المحكمة الصهيونية المركزية في تل أبيب نهاية لمعاناتهم
الناجمة عن مطاردتهم من الشرطة والأجهزة الإسرائيلية.
وأصدرت المحكمة بتاريخ 17/11/2001م حكماً بالسجن خمس سنوات
وغرامة مالية قدرها 75 ألف شيكل على منذر «24 عاماً» الذي يقبع في سجن
«نيتسان الرملة» منذ 29 شهراً، وذلك بتهمة الإرهاب المُحَوْسب، فيما حكم
على شقيقه الذي يكبره سناً مزهر «25 عاماً» بالسجن مع وقف التنفيذ مدة عام
ونصف، وغرامة مالية قدرها 25 ألف شيكل بالتهمة ذاتها، لكن بدرجة أقل،
كما قال مزهر في أعقاب صدور الحكم.
وأجلت المحكمة ذاتها النطق بالحكم بحق الشقيق الأصغر شادي «23 عاماً»
إلى جلسة خاصة وسط توقعات بعدم إدانته؛ ذلك أن تهمة «الإرهاب المحوسب»
وجهت ضده من النيابة الصهيونية العامة عندما لم يكن يتجاوز السن القانوني الذي
يسمح بمحاكمته.
وأضاف: إن ممثل النيابة العامة طلب في بداية جلسة النطق بالحكم إنزال
أشد العقوبات بالأشقاء الثلاثة، وفي المقدمة منهم منذر الذي طالب ممثل النيابة
العامة بإصدار حكم بالسجن الفعلي عليه مدة لا تقل عن 15 عاماً؛ بذريعة أنه يشكل
خطراً كبيراً على الأمن الصهيوني وأنظمة المعلومات المحوسبة، ووجهت القاضية
وفقاً لما قاله مزهر انتقادات لاذعة إلى النيابة العامة على قسوة الإجراءات التي
اتخذتها على مدار السنوات الخمسة الماضية ضد الأشقاء، والتي اعتبرتها خرقاً
وتجاوزاً لكل الخطوط الحمراء.
ويعتزم الأشقاء المكفوفون التقدم بشكوى رسمية ضد النيابة العامة والشرطة
الصهيونية على الإجراءات العنصرية التي تعرضوا لها على مدار أكثر من خمس
سنوات من الملاحقة.
وكانت الشرطة الصهيونية وجهت مجموعة من التهم إلى الأشقاء الثلاثة؛
أبرزها اختراق أنظمة الدفاع الصهيونية، وسرقة ملف لعملاء الاحتلال اتهموا
بتسريبه إلى جهات فلسطينية، إلى جانب تهمة تزويد منظمة حزب الله بمعلومات
حول نقاط ضعف الجيش الصهيوني في المواقع التي كان يحتلها بالجنوب اللبناني
قبل أن ينسحب منه، وتطوير الجهاز الخلوي الخاص بأسامة بن لادن.
إدارة سجن الرملة تنقل معتقلاً إلى العزل الانفرادي:
قالت مصادر حقوقية داخل الخط الأخضر تعنى بقضايا الأسرى في سجون
الاحتلال أمس إن إدارة سجن الرملة أدخلت مهندساً كيماوياً تعتقله إلى قسم العزل
الانفرادي؛ وذلك رغم تردي حالته الصحية جراء التحقيق العنيف والمتواصل معه.
وذكرت جمعية أصدقاء المعتقل والسجين في الناصرة في بيان لها أن قوات
الاحتلال اعتقلت المهندس الكيماوي مازن مصطفى ملصا من مدينة البيرة على
معبر الكرامة لدى محاولته دخول الضفة الغربية، ونقلته إلى سجن الرملة؛ حيث
أمضى في زنازين العزل والتحقيق 143 يوماً، ومن ثم تم نقله إلى العزل
الانفرادي.
وأفادت الجمعية أن محاميها «توفيق بصول» تمكن من زيارة مازن ملصا
الذي أبلغ المحامي أنه يعيش أوضاع اعتقال غاية في السوء؛ حيث تمنعه إدارة
السجن من التحدث مع زملائه الأسرى، وترفض تزويده بالملابس والغيارات
الداخلية، وتشدد الخناق عليه لدرجة أنها حولت حياته إلى جحيم لا يطاق. وقال
بصول: إن إقدام إدارة الرملة على عزل المعتقل ملصا في زنزانة انفرادية يفتقر
للحد الأدنى من الشروط الآدمية، ولا تدخلها أشعة الشمس ولا الهواء؛ مما يتنافى
والاتفاق الذي توصل إليه الأسرى مع مصلحة السجون العامة في أعقاب الإضراب
الأخير، ويقضي جزء منه بإنهاء ظاهرة العزل الانفرادي بعد الانتهاء من التحقيق
مع المعتقل.
الأسيرات يعانين من نقص في الملابس:
من جهة أخرى قال بصول إنه زار الأسيرات في سجن الرملة والتقى الأسيرة
أحلام التميمي التي أطلعته على معاناتهن الناجمة عن ممارسات الإدارة.
وقالت أحلام التميمي: إن إدارة السجن أعادت مؤخراً زميلتها «آمنة منى»
من معتقل «أبو كبير» إلى سجن «الرملة» مشيرة إلى أن الأسيرات
اللواتي زاد عددهن من عشرة إلى 13 أسيرة يعانين من نقص حاد على صعيد
الملابس بمختلف أنواعها.
8 - معتقلات صهيونية غير صالحة حتى للحيوانات:
في تقرير خطير جداً عن الأوضاع السائدة في ثمانية معتقلات صهيونية أن
«المعتقلين في» بيتح تكفا «و» ريشون لتسيون «والقسم العام في معتقل
» هكيشون «وقسم الذين يجب حمايتهم في» أبو كبير «غير جديرة بأن تعيش
فيها الحيوانات، ويجب إغلاقها على الفور» .
وقال التقرير أيضاً: «تداس حقوق الإنسان للمعتقلين في (إسرائيل) بأقدام
فظة بسبب ظروف الاعتقال القاسية التي يعيشون فيها. الاكتظاظ في المعتقلات
يجبر معتقلين كثيرين على النوم على الأرض، وتكون الفرش أحياناً مبللة بالمياه
بسبب تسرب مياه من الأنابيب، والغرف ذات رائحة كريهة، عفنة، والإضاءة
سيئة. أما الظروف الصحية فأدنى من أي مستوى يمكن أن توجه انتقادات له، كما
يعاني المعتقلون من حرارة خانقة، وتصدر شبكات التهوية ضجيجاً يصم
الآذان» .
وقال التقرير: إنه يوجد في معتقل «أبو كبير» 40 شاباً يفكرون بالقيام
بعمليات استشهادية، ويحتجز هؤلاء لأشهر في غرف مثل الأقفاص، ويكبل
بعضهم بالأصفاد بهدف تهدئتهم وكبح جماحهم.
معاناة الشعب الفلسطيني اليومية على الحدود والمعابر والحواجز في ظل
انتفاضة الأقصى وما بعد أوسلو:
قطاع غزة:
حسب الاتفاق الموقع بين الجانبين الصهيوني والفلسطيني فإن المرور بين
قطاع غزة وفلسطين المحتلة سيكون عن طريق واحد أو أكثر، وكذلك مرور
القوافل الصهيونية والسائحين بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة قد يكون أيضاً عن
طريق نقاط العبور التالية: نقطة عبور «كيسوفيم» ، نقطة عبور «كيريم
شالوم» ، نقطة عبور «إيلاي سيناي» .
وينص الاتفاق على أن يكون هناك ضابط اتصال فلسطيني في نقاط العبور
الموجودة على الجانبين.
إن معاناة المواطنين الفلسطينيين منذ اتفاق أوسلو على هذه الحواجز مستمرة،
وتزادد يوماً بعد يوم، وفي انتفاضة الأقصى أصبح الوضع مختلفاً تماماً؛ حيث
قامت قوات الاحتلال بتقسيم أوصال قطاع غزة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قطعت الطريق بين مدينة غزة والجنوب عند حاجز
«نتساريم» أي جنوب مدينة غزة، والذي أطلق عليه لاحقاً «مفرق الشهداء»
لكثرة سقوط عدد الشهداء عنده وخاصة في الأيام الأولى؛ حيث بلغ عدد الشهداء
حوله في الأسابيع الثلاثة الأولى 25 شهيداً بينهم الطفل محمد الدرة، وسائق
الإسعاف بسام البلبيسي.
القسم الثاني: من مفرق الشهداء حتى مستوطنة «كفار دارووم» على مدخل
مدينة دير البلح.
القسم الثالث: هو مدينتا «رفح» و «خان يونس» .
وبذلك يصبح القطاع مقسماً ثلاثة أجزاء إضافة للمستوطنات الموجودة والتي
تبلغ مساحتها 100 كيلو متر مربع داخل حدود القطاع التي هي في الأصل 360
كيلو متر مربع فقط، فأين سيتحرك حوالي مليون ونصف مليون إنسان في هذه
المنطقة، هذا إذا ما أضفنا الحصار والحواجز والقصف الليلي والعشوائي المستمر
منذ اندلاع انتفاضة الأقصى؟ !
فالحواجز تستخدم لابتزاز الناس والتضييق عليهم، وهناك العديد من الحالات
المأساوية التي حدثت على هذه المعابر منها: حالات اختناق غاز، وحالات
إجهاض، وحالات وفاة للمرضى الذين يمنعون من الوصول للمستشفيات بالسرعة
المطلوبة رغم ركوبهم في سيارات الإسعاف التي تتعرض للتفتيش والابتزاز، وعدم
السماح لها بالعبور إلا بعد ساعات، وكذلك تعمد إيقاف الناس على الحواجز
والمعابر بالساعات، وكثير منهم كان ينام على هذه الحواجز أو يعود من حيث أتى
هذا إن سمح له.
فالحواجز والمعابر الداخلية لا تسمح بالحركة لأحد إلا بشق الأنفس،
بالإضافة إلى الاستفزازات التي يمارسها المستوطنون، والسيارات التي تنقلهم،
والحراسات على هذه الحواجز والمعابر من نقاط رئيسية للعدو الصهيوني ومراكز
تجمع وانطلاق، وقد شكلت نقاط تماس ومواجهة رئيسية للعدو الصهيوني في
انتفاضة الأقصى.
المعابر:
جاء في نص الاتفاق بين الجانبين الصهيوني والفلسطيني: «إن إسرائيل
مسؤولة خلال الفترة الانتقالية عن الأمن الخارجي بما في ذلك على طول الحدود
المصرية والأردنية؛ فإن عبور الحدود ينبغي أن يحدث طبقاً للترتيبات المتضمنة
في هذه المادة، وتهدف هذه الترتيبات إلى إيجاد أسلوب ييسر دخول وخروج
الأشخاص والسلع؛ مما يعكس الواقع الجديد الذي أتاحه إعلان المبادئ الإسرائيلي
الفلسطيني، ويقدم في الوقت نفسه الأمن الكامل للجانبين» .
ومن ضمن نصوص الاتفاق أن تطبق الترتيبات على نقاط العبور التالية:
نقطة عبور اللنبي، نقطة عبور رفح. وكذلك «يطبق الطرفان الترتيبات نفسها
بالتعديلات اللازمة على الموانئ البحرية، والمطارات، ونقاط العبور الدولية
المتفق عليها مثل جسر الملك حسين ودامية» .
وجاء في الاتفاق أنه «سيكون هناك مبنى في كل نقطة عبور يضم جناحين:
الجناح الأول: يخدم السكان الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية
والزوار إلى تلك المناطق. ويسمى الجناح الفلسطيني.
والجناح الثاني: يخدم الإسرائيليين وغيرهم. ويسمى الجناح الإسرائيلي.
وستكون هناك منطقة تفتيش إسرائيلية مغلقة، ومنطقة تفتيش فلسطينية مغلقة،
كما سيأتي فيما بعد» .
إن هذا النص من الاتفاق الموقع بين الجانبين لا يخدم إلا المصلحة الأمنية
الصهيونية؛ حيث ركز الاحتلال الصهيوني من خلال هذه المعابر الحق له في
تعقب ومراقبة كل من يدخل لهذه الحدود، وله الحق في الاعتقال فقد اعتقل المئات
من القادمين سواء من معبر رفح أو مطار غزة أو جسر الملك حسين، وله الحق في
مراقبة ومساءلة كل من يدخل هذه الحدود، وأهمها أهالي الأسرى والشهداء
والجرحى؛ حيث يقومون بمضايقتهم المستمرة واستفزازهم هذا إذا خلا الأمر من
الاعتقال، وكذلك مضايقة المواطنين وخصوصاً كبار السن منهم والنساء وإيقافهم
بالانتظار بالدور.
ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى قام الاحتلال الصهيوني بإغلاق هذه المعابر
لفترات طويلة، وكذلك المطار، ولا يسمح بالتنقل إلا لفئات محددة من الناس،
وأحياناً كثيرة لم يسلم من المضايقات أعضاء السلطة، ومنهم من أهين أيضاً على
هذه المعابر.
الضفة الغربية:
أما في الضفة الغربية فالأمر مختلف تماماً عن قطاع غزة؛ فكل مدينة من
مدن الضفة الغربية محاطة بطريق التفافي إضافة لحاجز عسكري أو أكثر على
مدخل كل مدينة، وأحياناً أكثر من حاجز مثل مدينة رام الله؛ حيث يوجد على كل
مداخلها حواجز فالمدخل الشمالي ومدخل بيتونيا والمدخل الجنوبي بين القدس ورام
الله، فالمدينة محاطة بكل مداخلها، فالحاجز الشمالي يسمى بحاجز الموت من كثرة
الإصابات عليه ومن كثرة الجرحى؛ حيث مثل هذا الحاجز منذ اندلاع الانتفاضة
نقطة تماس خطيرة جداً لا تخلو يومياً من المواجهات مع قوات الاحتلال، وقد
أصيب العديد من الشبان إصابات تسببت في إعاقات دائمة لهم؛ حيث يركز الجنود
على هذا الحاجز إصاباتهم في المناطق الحساسة من الجسم، وقد استشهد عدد كبير
أيضاً على هذا الحاجز؛ مما دفع الناس لتسميته بحاجز الموت، وهكذا حاجز
حوارة في مدينة نابلس أيضاً، وكذلك جنين والخليل وبيت لحم والقدس وطولكرم
وأريحا، فكل هذه المدن محاطة بطرق التفافية إضافة للعديد من المستوطنات،
فيكاد لا يكون مرتفع في الضفة الغربية لا يوجد عليه جنود احتلال؛ فقد بلغ عدد
المستوطنات في الضفة الغربية حوالي 200 مستوطنة؛ بينما بلغ عددها في القطاع
الصامد حوالي 18 مستوطنة غير الكرافانات التي يقيمها المستوطنون من حين
لآخر. وقد قطعت الضفة الغربية إلى عدة أجزاء صغيرة لدرجة يصعب معها التنقل
من مدينة لأخرى إلا بموافقة الاحتلال، وقد حاول المواطنون جهدهم فتح طرق
جانبية صغيرة يمشونها بالأرجل إلا أن الاحتلال يضايقهم عليها ويغلقها أيضاً.
وتركيبة المستوطنات وطريقة بنائها هي أشبه بالخنادق والدشم، ومواقع
التصدي للهجومات العنيفة؛ فهذه المستوطنات التي تقسم الضفة الغربية لعدة أقسام
وتحيطها إحاطة كاملة ما هي إلا لتضييق الخناق على المواطنين من أجل أن يتركوا
أرضهم ويهربوا. ولكن شعبنا الصامد عوَّدنا على الصمود في وجه هذه المخططات
الصهيونية؛ فلموقع الضفة الغربية الاستراتيجي أهمية بالغة على المستوى
الصهيوني؛ حيث يستطيع أي إنسان من رام الله أو بعض مدن الضفة الغربية أن
يصل لعمق الاحتلال مشياً على الأقدام بظرف دقائق؛ فهذا الذي أربك الاحتلال،
وجعلهم يقدِّمون في بداية انتفاضة الأقصى الحواجز المقامة على الخط الفاصل بين
حدود 1967م و 1948م خمسة كيلو مترات داخل الضفة الغربية؛ ليكون أقرب
لمدن الضفة وخصوصاً بعد تنفيذ إحدى العمليات الاستشهادية على أحد هذه الحواجز
والتي راح ضحيتها عدد من جنود الاحتلال بين قتيل وجريح.
ولو أردنا عمل إحصاءات بالمعاناة على المعابر والحدود لاحتاج كل معبر
وكل حاجز لدراسة لوحده، تتضمن عدد الشهداء والجرحى وموت عدد من كبار
السن وعدد من النساء اللائي أجهضن على هذه الحواجز، وأبلغني مجموعة
من المسافرين من مدينة نابلس إلى جسر الملك حسين للأردن أن الطريق أخذ
تسع ساعات؛ وذلك بسبب الحواجز الصهيونية المنتشرة، وقد عانوا أشد
المعاناة لوصولهم إلى الحدود لكي يستطيعوا السفر للأردن. وكذلك معبر رفح؛
فالمواطنون يأخذ الطريق منهم يوماً كاملاً من مدينة غزة لعبور رفح كي يدخلوا
مصر، ومن يصل مساء فإنه لا يستطيع الدخول إلا في اليوم التالي؛ مما يضطره
إلى أن ينام على الحدود، وطبعاً المعاناة تكون مضاعفة؛ حيث ينام الأطفال والنساء
في غرفة صغيرة تكاد لا تسعهم؛ لأن عودتهم تحتاج إلى يوم، وهكذا دواليك فالكل
يفضل البقاء والنوم على الحدود عن العودة مرة أخرى، وكل ذلك مع أن الطريق من
غزة إلى رفح لا تتجاوز الـ 35 كيلو متراً ولا يحتاج لأكثر من نصف ساعة؛
فتأخذ يوماً مشحوناً بالإهانات والمضايقات على الحواجز والمعابر والطرق
الرملية، وبرغم كل هذه المعاناة أحياناً تتوج الرحلة كلها بالرفض عند معرفة أن هذا
المواطن اعتقل سابقاً أو أن أحد أقربائه له علاقة بالمقاومة أو شهيد أو أسير؛ فهم
يقومون بمضايقة المواطنين، ويعرضونهم للتحقيق والمساءلة وأحياناً الاعتقال،
فلقد قام الاحتلال باعتقال المئات من على الحواجز المنتشرة في الضفة والقطاع
والمعابر الرئيسية والمطار، هذا ناهيك عن مضايقة المارة بشكل يومي، ومنعهم
أحياناً من اجتياز هذه الحواجز.
__________
(*) باحث فلسطيني، ومدير موقع (صابرون) على الإنترنت. info@sabiroon.org(174/64)
المسلمون والعالم
أبعاد المقاطعة الإسلامية لليهود ولمن يدعمهم
مفلح بن علي الشمري
بدأت تظهر نتائج المقاطعة وتعترف بها الشركات المعنية وصنَّاع القرار في
السياسة الأمريكية والخبراء؛ حيث ذكروا أنهم لا يخشون من النتائج الوقتية
للمقاطعة فقط ولكن كما يقول الخبراء الأمريكان إن الخطر الحقيقي يكمن في نشأة
طلاب المدارس والأطفال على الكراهية لكل ما هو أمريكي، وهذه نظرة لم ينتبه
لها كثير ممن دعا لهذه المقاطعة، بل ولا من استهان بها ودعا إلى الكف عنها؛
بزعم سيطرة الشركات الأمريكية على السوق العالمية بأسرها.
أقول لو لم ينتج عن هذه المقاطعة إلا التعبير عن إرادة الشعوب الإسلامية ولا
أقول العربية حتى يكون العمق الاستراتيجي أوسع، والمقاطعة أكبر، والتأثيرت
أبلغ لكفى، ولن أتحدث عن النِّسب والأرقام التي أشارت إليها التقارير؛ وإنما أسلط
الضوء على الآثار والأبعاد التي نتوقعها ونرجوها من إعادة تفعيل المقاطعة
وتوسيعها لأمة ربط صنَّاع سياستها مستقبلهم ومصالحهم بدولة اليهود / المسخ؛
الذين ينتفعون هم ودولهم بما يتعاملون به معنا من تجارة واقتصاد (ضاربين)
عرض الحائط بشعور المسلمين. وإليك أخي القارئ الكريم شيئاً من ذلك:
أولاً: أن فيها تحقيقاً لقوله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ]
(الأنفال: 60) ومما لا شك فيه أن الاقتصاد في هذا العصر من أقوى الأسلحة،
وسلاح المقاطعة استخدم قديماً وحديثاً.
فقديماً: استخدمته قريش ضد النبي صلى الله عليه وسلم فيما يسمى حصار
الشِّعب «شعب أبي طالب» ، واستمر ثلاث سنوات، وكان تأثيره على المسلمين
بالغاً.
وهدد به ثمامة بن أثال قريشاً عندما منع الحنطة من بلاد نجد، حتى جاءت
قريش وناشدت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لثمامة أن يبيعهم الحنطة، لما
قال رضي الله عنه: «والله لا يأتيكم حبة حنطة حتى يأذن رسول الله صلى الله
عليه وسلم» ، وشواهد التاريخ كثيرة.
وأما حديثاً: فقد استخدمت المقاطعة عالمياً في الحرب العالمية بين المتحاربين
واستخدمت مؤخراً ضد العراق وأفغانستان والسودان.
واستخدمها العرب قبل معاهدات السلام ضد الشركات المتعاونة مع إسرائيل،
فكانت المقاطعة العربية بعبعاً يهدد الشركات في جميع أنحاء العالم؛ حتى تداعت
هذه المقاطعة بفعل حيل اليهود وألاعيبهم بما يسمى بعملية «السلام» .
وقد جاءت هذه المقاطعة المباركة شعبية؛ فهي ليست على مستوى الحكومات
بل انطلقت من العلماء والخطباء والمفكرين وأبناء الشعوب الإسلامية، وهذا ما زاد
من قوتها؛ فهي لا تخضع لقرار سياسي ولا ارتباط حكومي؛ مما جعل دوائر
الاستخبارات الغربية واليهودية تفزع فزعاً شديداً منها، ولا تعرف طريقة لإيقافها
إلا بالضغط على اليهود لتخفيف ما يفعلونه بإخواننا في الأرض المباركة، وهم وإن
كانوا غير جادين في ذلك الضغط الآن؛ فلا بد لهم منه في نهاية المطاف.
وإن مما يغيظهم أنها مقاطعة فعالة وشاملة وغير معقدة؛ فلا أوراق ولا مراقبة
للأسواق والأفراد؛ وإنما هي موجودة عند كل فرد مسلم يعي حقيقة ما يجب عليه
تجاه دينه، وعندما يضطر لشيء لا يوجد له بديل يأخذ على قدر حاجته.
ثانياً: أن فيها تحقيقاً لقوله تعالى: [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]
(الأنفال: 60) ، ويتضح ذلك من ترابط المسلمين وتعاونهم؛ حتى وصل الحال إلى
أهل الفن والطرب، وهم على ما عندهم من تقصير وخطأ فإن منهم من قام بمثل
هذه الأدوار، ولن يعدم أجره من الله وحسابه على ربه، ونقول هذا لأننا ننتظر من
أهل الخير والصلاح وقفة أكثر إقداماً على نصرة المسلمين وقضاياهم.
ثالثاً: أن فيها تحقيقاً لقول الله تعالى: [وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ] (الأنفال: 60) ، ومن أجل هذه المقاطعة وردّة فعل الشعوب الغاضبة
في طول البلاد الإسلامية وعرضها أوقفت كثير من الدول المكاتب التي تسمى:
«التمثيل والتنسيق والتطبيع» ؛ خشية غضب هذه الجماهير المسلمة.
وكذلك فيها ردع لكل من يفكر أن يتعامل مع إخوان القردة والخنازير من
الشركات الغربية والشرقية.
رابعاً: ظهور الوعي الإسلامي والاقتصاد النوعي، وهو أن يفكر الإنسان في
منشأ أي بضاعة ويختار الدول التي هي أخف عداوة في المرحلة الأولى، ثم في
المرحلة النهائية لا يشتري إلا ممن لا يعادي المسلمين بل يحرص على نصرتهم
ودعمهم، وهذا والحمد لله بدأ يترسخ لدى طبقة واسعة من المسلمين.
خامساً: يعدُّ كما يقول بعض أهل العلم «تسجيل موقف للشعوب الإسلامية»
وهذا في البداية لأنه لم يكن معلوماً مقدار التأثير، وبعد مضي عدة أشهر بدأ يتضح
أنه أكثر من تسجيل موقف؛ فهو سلاح فعال ولكن يحتاج إلى وقت، وإعادة تنظيم،
وتفعيل وتذكير دائم في زحمة الأحداث والمشاغل اليومية للفرد المسلم؛ ولذا
ينبغي أن تأخذ الجمعيات والمؤسسات الراية ومواصلة العمل حتى تنجح المقاطعة
بإذن الله.
سادساً: المعركة لم تنته بعد! فلا تضع سلاحك أخي المسلم! نعم! يجب ألا
تتوقف المقاطعة، وقد تكون هناك استراحة محارب ولكن كما هو معروف أن
الصراعات والحروب تخضع لعامل مهم بعد توفيق الله ألا وهو «الصبر» .
نحتاج إلى الصبر أكثر حتى تعلن تلك الشركات والحكومات نفورها من دولة اليهود
واحترامها للشعوب الإسلامية، والأمة بإذن الله قادرة على ذلك؛ ولكن يجب على
أصحاب الأقلام ووسائل الاتصال ألا يتوقفوا عن تعبئة الأمة وحشد طاقتها في هذا
السبيل، وبيان الأحاديث والآثار والنصوص الدالة على عظم ما يفعلون، وكما قال
العلامة الألباني تعليقاً على قوله تعالى: [ِإن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ]
(محمد: 7) ؛ قال: «هو الإيمان والاتباع لا القوة» ؛ فالله جل جلاله يريد
منا صدق الإيمان، وإنَّ مِنْ صدق الإيمان نصرة إخواننا بما نستطيع.
سابعاً: معرفة العدو الحقيقي المستتر بجلباب أو بغير جلباب وهو ما يسمى:
«راعي عملية السلام» ؛ وذلك ما حذر منه الخبير الأمريكي حينما قال: «من
آثار المقاطعة أن ينشأ أطفال المدارس على كراهية كل ما هو أمريكي» . وماذا
ينتظرون منا وهم الذين يدعمون اليهود ويمكنون لهم بكل ما يستطيعون، وهل
تستطيع دولتهم البقاء ساعة بدون دعم أمريكا ونصرتها! !
إن هذه المعرفة يجب أن يتبعها ويكملها إعادة صياغة الأخبار والأحداث
وتسميتها بمسيماتها، وذلك في الإعلام الإسلامي وخاصة في مواقع الجماعات
العاملة في الأرض المباركة؛ وذلك كما يلي: «قصفت إسرائيل بالطائرات
الأمريكية الصنع، وقتلت بالسلاح الأمريكي، واستخدمت الدبابات الأمريكية
الحديثة، وقامت ببناء المستعمرات على أنقاض بيوت الفلسطينيين بالمال
والمساعدات الأمريكية» ، وهكذا حتى يترسخ لدى كل فرد أن اليهود يُعاوَنون
ويُدعَمون من قِبَل هذه الدولة «الراعية للسلام» ، وحتى يعلم العالم بما فيهم
الأمريكان أن مقاطعتنا وعداوتنا لهم بسبب دعمهم للمغتصب المحتل.
ثامناً: يجب أن ندرك أن هذه المقاطعة ما زالت محدودة، وتأثيرها سيكون
أكبر مما نتصور لو تكاتف الجميع على تفعيلها والدعوة إليها في أوساط فئات
المجتمع، والطلب من الشعوب الإسلامية كافة المشاركة فيها، ولا تقتصر فقط على
العرب وفي بعض الدول دون بعض.
تاسعاً: يجب ألا نظن أن سلاح المقاطعة هو الوحيد الذي يجلب النصر على
الأعداء بل لا بد من الأخذ بجميع الأسباب، ولكن هذا السلاح في متناول الجميع،
ويفعله كل مسلم بما يمليه عليه إسلامه ودينه؛ فالمسألة مسألة دين ونصرة، يجب
أن يدركه هذا الجميع حتى من اعترض في البداية على المقاطعة.
عاشراً: وأخيراً؛ يجب ألا يتوقف دورنا على الامتناع عن شراء بعض
السلع الأمريكية فقط، ونظن أن هذا غاية ما يريده إخواننا منا، بل لا بد من الدعاء
لهم بظهر الغيب، ولا بد من إمدادهم بكل وسيلة تعينهم على عدوهم، ومن رأى
مشاهد الأطفال والشباب والرجال وهم يركضون هنا وهناك يجب ألا يتبادر إلى
ذهنه أنهم يفرون.. لا والله! بل إنها مجابهة ومراوغة لعدو شديد البأس، شديد
الغيظ والحنق على المسلمين، أخبرنا الله عنه في كتابه جلا وعلا.
ولو أرادوا الفرار لما خرجوا من بيوتهم، ولما فتحوا صدورهم العارية أمام
تلك الوحوش الضارية.
وأهمس في أذن كل تاجر ومقتدر أن كل فرد في فلسطين من المسلمين بحاجة
إلى الدعم؛ فعلى أي شيء تتثبت وأنت ترى البيوت تُهدم، والرجال يُقتلون،
والجرحى يملؤون المستشفيات؟ ! فقدم لهم ما تستطيع ولا تبخل؛ فإن «من جهَّز
غازياً في سبيل الله فقد غزا» [1] . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 2843.(174/68)
المسلمون والعالم
بوركينا فاسو.. وآمال المستقبل
متوكل فياما - يعقوب سعيد جابي
* دولة (بوركينا فاسو) اسمها السابق (فولتا العليا) (upper volta)
تقع في قلب غرب إفريقيا، وهي دولة داخلية لا سواحل لها، بعيدة عن المحيطات
والبحار، وهي إحدى أفقر دول العالم حسب إحصائية الأمم المتحدة، وتعتمد على
المساعدات الخارجية.
حدودها: يحدها من الشرق جمهورية النيجر، ومن الغرب كوت ديفوار
«ساحل العاج» ، ومن الشمال مالي، ومن الجنوب غانا، وتوغو، وبنين.
مساحتها: تبلغ مساحتها 274. 200 كم2، وحصلت على الاستقلال في
أغسطس 1960م، وكانت مستعمرة فرنسية منذ عام 1895م.
عدد السكان: يبلغ عدد سكان بوركينا فاسو [1] 12 مليون نسمة، وسكانها
ينتمون إلى عناصر عديدة منهم الموش، والساموغو، والفولاني، والمانديج
«الديولا» ، والدغارا، ولوبي، وبوبو.
مصادرها الاقتصادية: اقتصادها يعتمد على الزراعة وتربية المواشي،
ونسبة دخل الزراعة مثلاً 58% من مجموع الدخل، وتربية المواشي 33%،
والإنتاج الصناعي والمعدني 8. 5 % من مجموع الدخل.
مناخها: من الطراز المداري؛ فصيفها مطير، وشتاؤها جاف، يقل المطر
في الجنوب الغربي ويزداد في الشمال الشرقي، وترتفع الحرارة في الصيف
وتتعرض لهبوب الرياح في فصل الشتاء.
المدن الرئيسة: أوغادوغو العاصمة، وبوبو جولاسو، وكودوغو،
ووهيغويا، وبانفورا، وديدوغو.
عدد المناطق: خمس وأربعون، وكانت من قبل ثلاثين منطقة ثم جُزئت إلى
45 منطقة من قِبَل النظام الحاكم عام 1999م من أجل كسب الأصوات في
الانتخابات.
توزيع الأديان في بوركينا فاسو:
المسلمون في بوركينا فاسو أكثرية وليسوا أقلية [2] منذ فجر الاستقلال؛ ففي
إحصائية قامت بها الإدارة الوطنية للإحصائيات والمؤشرات السكانية في عام
1991م كانت نسبة المسلمين 52. 3 %، ونسبة النصارى الكاثوليك 17. 5 %،
والبروتستانت 3. 5 %، ونسبة الوثنية 25. 9 %، والديانات الأخرى 0. 2
%، ونسبة اللادينية 0. 8 %. وعدد المناطق ذات الأغلبية المسلمة 22 إقليماً،
والمناطق ذات الأغلبية المسيحية إقليمان، والمناطق ذات الأغلبية الوثنية عددها
ستة أقاليم، وتتعادل نسبة المسلمين مع المسيحيين في أربعة أقاليم.
وفي آخر إحصاء سكاني في 1998م تمهيداً لانتخابات الرئاسة لعام 1999م،
كانت نسبة المسلمين 65%، والكاثوليك في حدود 8%، والبروتستانت 7%،
والوثنيين 19%.
بوركينا والإسلام:
دخلها الإسلام عن طريق التجارة في القرن الحادي عشر الميلادي؛ وذلك
عندما امتدت طرق التجارة بين تمبكتو وجني في مالي، وفي حوض النيجر إلى
شمال الغابات الاستوائية [3] .
وتميزت ثلاث مناطق بدخول الإسلام في بوركينا [4] في الشمال
(Liptako) مع الفولانيين، والمنطقة الوسطى في دولة الموسى (MOAGA) ،
والمنطقة الغربية، وتعتبر أسرة الحاكم «ناباد لوغوا» أول أسرة اعتنقت الإسلام،
ثم انتشر الإسلام عن طريق الدعوة والموعظة الحسنة، وأصبح الإسلام ملتحماً
بتراث الأفارقة، ولم يشعر الإفريقي أن الإسلام يقطعه عن ماضيه وعن مجتمعه،
وكفل للمسلمين جميع حقوقهم دون نظر إلى لون أو جنس، وجعل الناس سواسية
كأسنان المشط، وهذا بخلاف المسيحية التي اعتبرت الإفريقي عبداً وباعته في
السوق.
وفي الستينيات التحق مجموعة من الشباب بجامعة الأزهر، وتبعتها
مجموعات إلى الجامعات السعودية، ثم توالت جموع الطلبة إلى كل من الكويت،
وقطر، والإمارات، والجزائر، وسوريا، وتونس وليبيا، والسودان وغير
ذلك، ونال كثير منهم الألقاب العلمية المختلفة، ويوجد في بوركينا عدد كبير من
هؤلاء الذين يقومون بخدمة الإسلام والمسلمين في مجالات التدريس والخطابة
والإمامة والوعظ، والفتوى، وكان لهم دور في تصحيح مسار الجمعيات المحلية
وتوجيهها، ولكن مشاركتهم في بناء الأفراد والأشخاص والمجتمع ضعيفة؛ لأنها لم
تكن تحمل برنامجاً ولا عناصر معدة لهذا العمل، وكانت أعمالهم مبعثرة يجتمعون
لها بين فترة وأخرى.
وبالجملة فإن الدعاة المخلصين لهم دور بارز في إنعاش الدعوة والنهوض بها
الدعوة الصحيحة إلى الكتاب والسنة، ولكن الواقع الأليم الذي خلَّفه النظام الغربي
والعلماني والغزو الفكري يقلل من دور العاملين في الإصلاح الاجتماعي.
وفي العقد الأخير بدأت الصحوة الإسلامية الرشيدة تأخذ مجراها الطبيعي في
تصحيح المفاهيم وتوضيح الأهداف وتصويب المسيرة، وذلك عن طريق:
1 - دروس المساجد وخطب الجمعة المترجمة إلى اللغة المحلية.
2 - توزيع المصاحف المترجمة معانيها إلى اللغة الفرنسية.
3 - التعليم في المدارس العربية النظامية.
4 - لبرنامج الدين الإسلامي في التلفاز ولجمعية الموظفين إسهام كبير في هذا
وكذلك الدعوة في الإذاعة.
5 - تنظيم الدورات، ولمؤسسة اقرأ الخيرية جهود في هذا المجال وذلك
بالتعاون مع الجمعية الإسلامية، ولجمعية الدعوة الإسلامية العالمية دور مشكور في
هذا المجال أيضاً؛ فالمؤسسات الدعوية في بوركينا تشمل: المساجد، والمدارس
الإسلامية، والجمعيات المحلية، والهيئات الخارجية.
وهذه صيحة نداء إلى المؤسسات ذات المنهج السلفي لتضافر الهمم، وبذل
الجهود في تغذية الدعوة في بوركينا فاسو، ودعمها وتصحيح مسارها.
التعليم العربي والمدارس العربية:
بدأ التعليم الإسلامي في بوركينا فاسو بدخول الدين الإسلامي في البلاد، لكنه
كان في حيز من الركود؛ حيث لم يتطور، وكان محصوراً في الكتاتيب والمدارس
القرآنية وحلقات المساجد، وعند وصول الاستعمار 1895م حارب المستعمرون
اللغة العربية ونصبوا لها العداء، وقاموا بتعذيب العلماء والأعيان، وكانوا يرفعون
العمل الجبري عمن يتنصر، ووضعوا العقبات أمام الذين كانت لديهم رغبة في
الالتحاق بالدول العربية للاستزادة من العلم. وبالجملة فقد وضعوا عراقيل شتى
تعوق نشر اللغة العربية في إفريقيا، وأتاحوا الفرص لتعليم الفرنسية، وذللوا
الصعوبات في سبيل نشرها، وقدموا المغريات للمسلمين لإرسال أولادهم إلى
المدارس الفرنسية ومنَّوْهم بالوظائف والمناصب العالية في الدولة [5] .
المدارس الإسلامية:
المدرسة دار تربية وتعليم، ومهد للتكوين والإعداد، وتعتبر من أهم
المؤسسات الدعوية التي يجب على المسلمين الاعتناء بها والحرص عليها من أهل
الخير والفضل والخبرة، والمبادرة بالمساهمة في تسيير المدارس، وتوجيهها
وتزويدها بالمناهج والكتب والمدرسين.
ولبعثة الأزهر دور عظيم في إنعاش اللغة العربية في بوركينا حيث يقومون
بالتدريس والوعظ وتأطير وتأزير المدرسين، وهم موزعون في العاصمة،
وبوبوجولاسو، وياكو.
وأول مدرسة نظامية أسست قبل فجر الاستقلال مدرسة السلام عام 1958م،
ثم توالت بعدها المدارس العربية بعد الاستقلال مثل مدرسة الجمعية الإسلامية في
العاصمة، وبوبو جولاسو، ومدرسة في نونا وأخرى في توغان، وهناك مدارس
أخرى راقية مثل مدارس الجمعية الإسلامية، ومدرسة السلام وفروعها، ومعهد
الإمام مالك، والمعهد العلمي، ومدرسة ابن تيمية، ومدرسة أهل السنة المحمدية،
وغيرها وكلها أهلية، ويزيد عدد المدارس في بوركينا فاسو على 400 مدرسة،
وفيها أكثر من ثمان وسبعين مدرسة معترفاً بها لدى الحكومة [6] ، والحكومة تسعى
الآن لتطويرها ووضع منهج موحد لجميع المدارس وإلزامهم تدريس اللغة الفرنسية.
المدارس الإسلامية اليوم في بوركينا فاسو أخذت ثوباً جديداً، وتتطورت من
حيث الكم والكيف، وأصبح الإقبال يتزايد عليها بفضل الله ثم بفضل الثمار التي
أعطتها في إعداد مواطنين صالحين يحبون دينهم ووطنهم.
ومن أهم المشكلات التي تواجهها المدارس الإسلامية ما يلي:
1 - فقدان المدرس الكفء.
2 - فقدان الكتب المقررة المناسبة.
3 - ازدحام الطلاب في الفصول.
4 - مشكلة الرواتب بالنسبة للمدرسين، وعجز أولياء الطلاب عن تسديد
الرواتب الشهرية.
5 - عدم وجود برنامج موحد في المناهج الدراسية.
6 - عدم وجود الوسائل التعليمية وكذلك فقدان دور الإدارة المدرسية من
إشراف وتنظيم.
7 - الافتقار إلى معهد لتكوين وتدريب المعلمين.
8 - غياب التنسيق بين المدارس.
9 - فوضوية نظام الامتحانات في بعض المدارس.
الجمعيات الإسلامية في بوركينا فاسو:
في الستينيات كانت الصورة الخارجية لفولتا العليا بوركينا فاسو حالياً أنها
دولة نصرانية، وأنها الدولة المدللة في غرب إفريقيا لدى الفاتيكان [7] ، ومع مرور
الأيام بطلت هذه الدعاوى، فبدأ الإسلام ينتشر بكثرة المعتنقين، وبدأت الصحوة
تدب في عروق المسلمين، وبدأ التنظيم في صفوف الجمعيات الإسلامية ووضع
استراتيجية للعمل الإسلامي.
وفي إحصائية لوزارة الداخلية في 15/6/1992م، تبين أنه توجد 22 جمعية
إسلامية في بوركينا فاسو، وأكبرها:
1 - الجمعية الإسلامية، ولها وجود في كل المناطق.
2 - جمعية أهل السنة المحمدية.
3 - الجمعية التيجانية.
4 - جمعية الموظفين الإسلامية المسماة: «لجنة الدراسات والبحوث
والتكوين الإسلامي CERFI» .
5 - رابطة خريجي جامعات ومعاهد المملكة العربية السعودية.
6 - رابطة مثقفي العربية.
7 - جمعية إثبات الوحدة الإسلامية.
8 - جمعية الطلاب المسلمين في بوركينا A. M. B.
الهيئات الإسلامية في بوركينا فاسو:
بدأ ظهور الهيئات الإسلامية في بوركينا منذ أكثر من عشر سنوات، وذلك
عن طريق فتح مكاتب تقوم بتسيير أعمالها، أو اختيار مشرف يشرف على الأعمال
التي تتبناها من الهيئات العاملة في بوركينا:
1 - مكتب لجنة مسلمي إفريقيا.
2 - مكتب الجمعية الإسلامية العالمية للدعوة.
3 - مكتب منظمة الدعوة الإسلامية العالمية «السودان» فتح في 2000م.
4 - مشرف لجمعية إحياء التراث الإسلامي ووزارة الشؤون الإسلامية
والأوقاف والدعوة الكويت.
5 - مشرف لمؤسسة الحرمين الخيرية.
6 - مستوصف صغير لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية.
7 - مستوصف لرابطة العالم الإسلامي.
كما أن الشيعة فتحوا مكتباً في العاصمة والمدينة الثانية منذ ثلاث سنوات.
وللأحمدية مكتب في العاصمة ولهم نشاط واسع النطاق.
8 - لجنة الدعوة الإسلامية انبثقت من لجنة مسلمي إفريقيا يوم كان مديرها
بوركينابي، وتتلقى دعماً من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، وبيت
الزكاة الكويتي، ومن قطر، ومن الإمارات العربية المتحدة، وقد بنت هذه اللجنة
خمسين مسجداً، وخمس مدارس، ومستوصفين، وورشتين للخياطة وما يقارب
مائتي بئر، وكفالة ثلاث مائة يتيم.
مجالات العمل المقترح للمؤسسات في بوركينا فاسو:
1 - بناء مركز إسلامي، حيث سيكون الأول من نوعه في بوركينا، وكذلك
إنشاء حلقات قرآنية، وتشغيل مدارس، ومركز الأيتام.
2 - إقامة الدورات التأهيلية للمعلمين والأئمة.
3 - إقامة المخيمات الطلابية كل عطلة صيفية، والتركيز على طلبة الجامعة
الفرنسية.
4 - بناء مكتبة عامة للمطالعة.
5 - إنشاء مدرسة إسلامية وتوفير المناهج والكتب لطلابها.
6 - كفالة مدرسين في العلوم الإسلامية.
7 - كفالة الأيتام وبناء مراكز لهم.
8 - بناء مساجد وحفر الآبار.
9 - بناء مستوصف إسلامي.
10 - إقامة مخيمات مكافحة العمى.
11 - إنشاء معهد للتدريب المهني.
12 - تنفيد مشروعات إنتاجية تمول عبرها الأنشطة.
التحديات:
وجهت الكنيسة عنايتها وهمتها إلى التعليم وخاصة المهني والفني، ويوجد في
حوزتهم 27 ثانوية فنية في البلاد، وسبع ثانويات للدولة.
ويلاحظ شدة إقبال الناس على مدارسهم لانعدام مدارس مهنية في البلاد. وهذه
المدارس تستقطب ثلة من أبناء المسلمين، ورسالتها الأولى الدعاية لصالح
النصرانية.
وللبعثات التنصيرية دور في استقطاب الطبقة من خريجي مدارسها ومعاهدها
وحتى من أبناء المسلمين الذين أرسلوا إلى مدارسهم منذ فجر الاستقلال.
التنصير في بوركينا فاسو:
إن النصرانية التي هزمت في بلادها تجد الملجأ والمأوى في بلاد المسلمين،
ويعملون مسفرين ومقنعين أحياناً أخرى، ويدخل المنصر بلاد المسلمين بصفة
طبيب أو مهندس أو مسشار فني، ومن ثم يبدأ ينفث السموم في المجتمع.
ويستعملون في التنصير شتى الأساليب والضغوط، ويرفعون علناً شعار:
«اخلع عنك رداء الإسلام نرفع عنك وطأة الجوع والفقر» [8] .
وللتنصير في بوركينا فاسو تواجد كبير وإمكانات ضخمة يعملون من خلالها
في المجتمع، ويقومون بتقديم المساعدات للسكان كالعلاج، وبناء المستوصفات،
وبناء المدارس، وتوفير اللوازم المدرسية، وتوزيع الغذاء والملابس، وبناء
المشاريع الزراعية، وتوليد الكهرباء في المدن الصغيرة وبيعها للسكان عن طريق
الاشتراكات. واستفاد النصارى من سياسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تجاه
الدول الفقيرة التي هي سياسة تخصيص الشركات والمصانع، فأرغمت الدولة على
بيع بعض الشركات، فبادر طبقة من رجال الأعمال النصارى لشراء الشركات
والمصانع.
يُقدم بعض المصانع نشرات علنية لصالح المسيحية، ويُعمق الرموز الدينية
النصرانية في إعلاناتها وتصميمها عند رسم اللوائح وغيرها.
من المنظمات التبشيرية العاملة في بوركينا فاسو:
1 - مكتب الدراسات والاتصالات BUREAOU DETUDEES
ETDE LIAISON (B. E. L) .
2 - منظمة كاريتاس CARITAS.
3 - هيئة الإغاثة الكاثوليكية CATHOLIC RELIEF SERVICE
(CATHWEL) .
4 - المجلس العالمي للكنائس CONSEIL OECUMENIQUE DES
EGLISES (COE) .
5 - المكتب الإنجيلي للتنمية: OFFICE DE
DEVELOPPEMENT EVAGELIQUE.
6 - الإغاثة العالمية WORLD RELIEF.
إن النصارى في بوركينا فاسو يملكون أكبر قسط من وسائل الإنتاج، وتنفيذ
مشروعات إنتاجية تضمن لهم تمويل أنشطتهم مما يوفر لهم فائضاً كبيراً، ويملكون
شركات مقاولات للبناء وحفر الآبار، وورشات مزودة بأحدث المعدات لصيانة
السيارات، ومع كل هذا يُعتبر تأثير المنصرين محدوداً مقارنة بالجهود والمساعدات
التي يقدمونها [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ
تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال: 36) .
من السبل المثلى للتصدي للغزو النصراني على الأمة الإسلامية:
1 - دراسة أساليب النصارى في كيفية جذب عواطف الشعوب، وتتبع جميع
أنشطتهم ونوعية المساعدات التي يقدمونها في بقاع المعمورة.
2 - السعي لتخفيف حدة البطالة في الشعوب الإسلامية، ووجود مهن للشباب
لأن الفقر أدى ببعض النفوس الضعيفة من المسلمين إلى تغيير دينهم.
3 - منافسة النصارى في الأعمال الخيرية من بناء المستوصفات
والمستشفيات الإسلامية.
4 - الاهتمام بالأقليات الإسلامية، ووضع خطط في سبيل النهوض بهم.
من أهم الوسائل التي تكون خطوات عملية ومنهجاً نسير عليه:
1 - نشر الوعي الإسلامي في المجتمعات، وعرض الإسلام عرضاً نظيفاً،
والاهتمام بالمناطق النائية، وهذه المناطق موضع اهتمام النصارى.
2 - وضع خطط لبناء المدارس الإسلامية وإمدادها بالمناهج الدراسية
الصحيحة.
3 - وجود لجنة في البلاد الإسلامية تُتابع وترصد جميع أنشطة النصارى
ووسائل أعمالهم في جميع الميادين.
4 - من أساليب عرض الإسلام ومستلزماته بناء الإذاعات الدعوية الموجهة،
والكنيسة التي سبقتنا في توفير وسائل التنصير بين المسلمين في إفريقيا لن تقوم لها
قائمة، ولن تتمكن من الصمود أمام العرض المخلص للإسلام.
5 - وضع خطط صادقة للارتقاء بأوضاع الدعاة وتمويلهم مادياً ومعنوياً.
6 - التكامل الصادق بين الأقطار الإسلامية بإنشاء البنوك والأسواق
الإسلامية، وسيكون رافد خير للمسلمين الذين يعيشون تحت وطأة الفقر والجهل
والتخلف والحرمان.
وبعد: فإن النصارى ومن لف لفهم يعملون من أجل هدم الإسلام، ويقيمون
شركات ومؤسسات من أجل تنفيذ خططهم الإجرامية؛ فلا بد أن يقوم أبناء هذا
الدين الإسلامي بالذود والدفاع عن الإسلام في هذه المعركة العنيفة، ولا بد أن
نحاربهم بالسلاح نفسه؛ فلا يفل الحديد إلا الحديد.
إن نسبة ارتفاع المسلمين في بوركينا فاسو وتقبُّل الناس مذهب «منهج»
أهل السنة والجماعة، وعدم ترسخ العقائد الشيعية والأحمدية والصوفية والبهائية
وانتشار الوعي بين المسلمين لعلامة خير تُبشر بمستقبل إسلامي زاهر في بوركينا،
والخير لن ينقطع من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما دام على الأرض من يوحد
الله ويؤمن به سبحانه، وسيكون فيها بإذن الله من يبذل العطاء ليتواصل الخير،
وإننا ننادي الهيئات الخيرية لمضاعفة الجهد في العمل الإسلامي، ونحن متفائلون
بمستقبل مشرق للإسلام في بوركينا فاسو ما دام هناك مسلمون مخلصون يبذلون كل
غال ونفيس لرفعة هذا الدين، والله سبحانه لا يترهم أعمالهم.
جعلنا الله وإياكم منهم، والله من وراء القصد.
__________
(1) التسمية فيها مبالغة ومعناها: دولة الرجال الكُمل والنُزهاء، اشتقت التسمية من لهجتين، ولعل التسمية جاءت تحدياً للاستعمار على أثر الانقلاب الذي تولى كبره مجموعة من الضباط الثوار الماركسيين في أغسطس 1983م.
(2) الأقليات المسلمة في إفريقيا، سلسلة دعوة الحق الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي.
(3) انظر: الأقليات المسلمة في إفريقيا، سلسلة دعوة الحق.
(4) Pénétration de LصIslam au Burkina Faso LصAppel no 018 Nov 1997، وانظر: حزام المواجهة حرب التنصير في إفريقيا.
(5) التعليم العربي في إفريقيا الواقع والحلول، عبد الرحمن كوني.
(6) انظر: CARE FOUR AFRICAIN -No Special 3/1/1990, Sid waya No 1458/ Javier 1990.
(7) L ,ISLAM EN HAUT VOLTA G AUAOUUN.
(8) حزام المواجهة حرب التنصير في إفريقيا.(174/70)
المسلمون والعالم
متطرف صهيوني:
سيأتي اليوم الذي سيزال فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة
فماذا نحن فاعلون؟
يوسف رشاد [*]
في برنامج يبثه التلفزيون الصهيوني باسم «بولوتيكان» قال رئيس حركة
صهيونية سرية متطرفة تطلق على نفسها اسم «حركة بناء هيكل سليمان» :
«إن المسجدين هما مبنيان غير مناسبين أقيما في مكان غير مناسب، وسوف
يُزالان من هنا. وليس هناك يهودي متدين يشك في ذلك» .
وحينما سأله مقدم البرنامج: «هل سيزالان بيد شخص؟ أجاب الحِبر
الصهيوني رئيس العصابة ويُدعى عتسيوني:» لست أعلم إن كان ذلك سيتم على
يد إنسان أم على يد عنصر آخر. وأنا أعتقد أن اليهودية ديانة كُلِّفنا بتطبيقها
وتنفيذها باعتبارنا رسل الله وخلفاءه على الأرض «! وأردف مقدم البرنامج:
» لكنك أعلنت من قبل عن أسفك لمحاولة نسف المسجدين! «، فأجاب حبر
التطرف:» هذا غير دقيق؛ ذلك أنه من المستحيل إبداء الأسى إزاء هذا
المبدأ؛ لأن المسجدين سوف يزالان حتماً، وسوف يأتي اليوم الذي سيزالان فيه
حتماً «.
وعاود مقدم البرنامج سؤاله:» بيد إنسان أم بطريقة قانونية؟ «فأجاب حبر
التطرف هذه المرة بصراحة ودون مواربة:» بيد إنسان وينبغي أن تكون إزالتهما
مهمة دولة (إسرائيل) الأولى، لقد قامت (إسرائيل) لكي تحقق حلم الأجيال،
وتعد إزالتهما أولى مراحل تنفيذ هذا الحلم وتحقيقه «. ثم ختم مقدم البرنامج حواره
فسأله:» وهل تعمل في هذا الاتجاه الآن؟ «فأجاب حبر التطرف:» نعم «.
وكان حبر التطرف هذا قد خطط هو وأفراد عصابته منذ حوالي خمسة أعوام
لتفجير المسجد الأقصى عن طريق وضع شحنات ناسفة أسفله، وقد ألقت الشرطة
الإسرائيلية القبض عليه بعد أن أمسك به حراس المسجد الفلسطينيون، وحوكم
محاكمة صورية ثم أفرج عنه الكيان الصهيوني بعد بضعة أشهر من سجنه بعد أن
» أبدى ندمه على ما فعل «.
بعد إذاعة هذا البرنامج تقدم أحد أعضاء حركة» ميريتس «اليسارية
العلمانية بشكوى رسمية ضد هذا الحبر طالب فيها بإلقاء القبض عليه والتحقيق معه
» لأنه يحرض على ارتكاب جرائم بالمسجد الأقصى من شأنها أن تلحق (كارثة
قومية) ، وأن تشعل حريقاً دينياً وسياسياً يهدد أمن المواطنين الإسرائيليين «.
وبالطبع فإن هذا العضو لم يتقدم بهذه الشكوى حباً في المسجد الأقصى أو
عرب القدس وإنما خوفاً وهلعاً مما سيحدث إثر هذا العمل الطائش، ولا أدل على
ذلك من زيارة المأفون شارون هو وجنود الاحتلال الصهيوني إلى ساحة المسجد
الأقصى؛ إذ اندلعت على إثر هذه الزيارة الانتفاضة الثانية التي أرعبت كل يهود
في الأراضي المحتلة.
وبعد إذاعة البرنامج سالف الذكر انبرت الصحف الصهيونية للدفاع عن حبر
التطرف مرددة المزاعم نفسها وتخاريف المتطرفين الصهاينة وأساطيرهم، فتحت
عنوان:» بقايا سيادة واعتراف عالمي «كتبت صحيفة» هآرتس «تقول:» لو
كان من الممكن القيام بعمليات حفر من أسفل بوابة المغاربة وحتى داخل المسجد
الأقصى، أو اختراق هذه المسافة بأشعة الليزر لبدت بقايا هيكل سليمان اليهودي
الذي دُمر منذ 1930 عاماً، فأنقاضه موجودة هناك، لا تحت مئذنتي الأقصى وقبة
الصخرة، وإنما بينهما «.
ثم تقول الصحيفة:» إن كبار الفلسطينيين الذين شككوا في ذلك في كامب
ديفيد يعلمون أن هيكل سليمان موجود هناك بين المئذنتين فعلاً؛ ولذا فإنهم لن
يجازفوا بالموافقة على إجراء مثل عمليات الحفر هذه «.
إن ما قاله عتيسوني (المتطرف) ليس جديداً؛ فهناك حركات وجماعات في
الشعب اليهودي أفقدها التطرف ودعوى رؤية هيكل سليمان صوابها إلى حد تهديد
هذه الجماعات بالقيام بأعمال عنف لبناء الهيكل وبالقوة.
فهذه الجماعات والحركات أرقها ولا يزال يؤرقها الحظر الذي فرضه
الحاخامات في كل الأجيال على الدخول في منطقة الأقصى حتى لو كان الهدف هو
اختصار الطريق الذي حال دون قيام الجماهير الدينية بالصلاة في المنطقة.
إن الغالبية من الشعب اليهودي ومن المتدينين يحيون ذكرى خراب هيكل
سليمان سنوياً بالصوم والبكاء والعويل يوم التاسع من أغسطس من كل عام.
إنه يمكن أن نفقد القدس في حرب، لكن لا يستطيع أي حاكم عربي التوقيع
على صك تنازل عنها وإلا كان ذلك إيذاناً بإنهائه.
وهذا ما تعلمه ويجب أن يتعلمه عرفات؛ لذا لم يوقع على صك التنازل عن
القدس في كامب ديفيد الثانية؛ لأنه يعلم مآله إذا فعل ذلك.
إن هذا الكلام ليس مجرد خبر نشرته الصحف الإسرائيلية ولكنه مخطط من قِبَل
الدولة اليهودية يستهدف هدم المسجد الأقصى، واليهود عندما يخططون ينفذون،
وبالفعل فالأنفاق التي حفرت تحت المسجد الأقصى وفي مدينة القدس وبدعم من
مليارديرات اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد استهلت جمعية» عتيريت
كوهانيم « (زينة كهان المعبد الثالث) الذي سيقام بعد هدم الأقصى الصهيونية
المسيحانية الخمسين عاماً الثانية في عمر الصهيونية، والتي نطلق عليها» عصر
ما بعد الصهيونية «بحملة ضخمة بين الصهاينة بالكيان الصهيوني وصهاينة
الولايات المتحدة وأوروبا عبر أفرعها في هذه الدول للاكتتاب وجمع التبرعات
لتنفيذ مخططها الجديد لإزالة الأحياء والمنازل العربية بالحي الإسلامي والبلدة
العتيقة بالقدس الشرقية تارة بحجة إجراء حفائر أثرية للبحث عن بقايا وآثار الوجود
اليهودي القديم في هذه المنطقة، وتارة أخرى بحجة شراء المنازل العربية وتخليص
» التراث اليهودي «من أيدي السكان العرب. وهدف هذه الحفريات تحت المسجد
الأقصى وقبة الصخرة هو خلخلة أساسات الأعمدة في المسجد؛ ومن ثم يسهل
انهياره، ولقد تم حفر العديد من الأنفاق؛ إذن فاليهود جادون في هدم المسجد
الأقصى وقبة الصخرة.. فماذا نحن فاعلون؟
أنبكي على أطلاله بعد أن يهدمه لا قدر الله أولاد الأفاعي ونقول كما قال
الشاعر:
مزجنا دماءً بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم [1]
وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شُبًَّت نارها بالصوارم [2]
وكما قال الشاعر الآخر:
لتبك على القدس البلاد بأسرها ... وتعلن بالأحزان والترحات
لتبك عليها مكة، فهي أختها ... وتشكو الذي لاقت إلى عرفات
لتبك على ما حلّ بالقدس طيبة ... وتشرحه في أكرم الحجرات
إن حالنا الآن وما نحن فيه من ذل وانكسار ليذكرني بقول الشاعر الذي يرثي
ضياع القدس إبان الحروب الصليبية [3] :
أعيني لا تَرْقي من العبرات ... صِلي في البُكا الآصال بالبُكُرات [4]
لعل سيول الدمع يطفئ فيضها ... توقد ما في القلب من جمرات [5]
ويا قلب أسعر نار وَجْدِكَ كلما ... خبت، بادّكار يبعث الحسرات [6]
ويا فم بُح بالشجو منك لعله ... يروّح ما ألقى من الكُرُبات [7]
إن الفارق بيننا وبين إخواننا في الزمن الماضي أن دموعهم كانت نضية طرية
وأما دموعنا فجفت ورقأت، هم لبوا نداء الجهاد فحرروا المسجد الأقصى من
براثن الفرنجة الصليبيين، أما نحن فتم غسيل أدمغة الشعوب العربية ونجح مخطط
اليهود الذي كتبوه في بروتوكولاتهم:» سنلهي الجماهير بأنواع شتى من الملاهي
والألعاب والمزجيات للفراغ والمجامع العامة وهلم جراً، وسرعان ما سنبدأ الإعلان
في الصحف داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى في كل أنواع المشروعات
كالفن والرياضة وما إليها «. وقد كان لهم ما أرادوا وأصبحت الجماهير العريضة
من أبناء أمة الإسلام في ملهاة عن دينها وقرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم
لدرجة وصلت بأحد الصحفيين السفهاء أن يكتب مانشيت جريدته يقول قبل مباراة
مصر والمغرب:» اللهم ثبت أقدام لاعبينا وزلزل الأقدام من تحت لاعبي المغرب،
اللهم انصرنا نصراً عزيزاً مؤزراً «؛ فخذلهم الله. هذا هو الحال الذي وصلت
إليه الشعوب العربية والإسلامية.
فهل إذا هُدِمَ الأقصى لا قدر الله ستهب الشعوب العربية والإسلامية وتثب وثبة
رجل واحد لنجدة إخوانهم في القدس؟ أم أن ذنوبنا ستجعلنا نستسلم لذلك الواقع لا
قدر الله.
لكن يجب على المسلمين أن يجعلوا اليهود يدفعون ثمن ذلك التهور إن تم ثمناً
غالياً؛ بحيث تسقط كل المعاهدات الاستسلامية، وتقفل كل السفارات والمكاتب
الصهيونية، ومن يرفض ذلك فهو أخ لليهود ومتواطئ معهم، ويجب أن يعامل
مثلما يعامل اليهود متى ما كان من الجبن والخور بحيث لا يحرك ساكناً مع هدم هذا
المكان المقدس، وليعلم يهود أنه لثمن ربما لا يحلمون به.
__________
(*) كاتب وباحث، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمي.
(1) السواجم: سجمت العين الدمع، وأعين سواجم: أي تذرف الدموع المراجم: جمع مرجم وهو القبيح من الكلام.
(2) شُبت: سُعّرت، اشتدت الصوارم: جمع صارم وهو السيف القاطع.
(3) هو ابن المجاور: وزير العزيز عثمان بن صلاح الدين وخليفته على مصر، وأنشد هذه القصيدة سبط ابن الجوزي على ملأ من الناس عام 626 هـ بين يدي السلطان الناصر داود حزناً على ضياع القدس (راجع السلوك للمقريزي، 1/233) .
(4) رقأ الدمع يرقأ: إذا سكن وجف وانقطع بعد جريانه البُكرات: جمع بكرة وهي الصباح الباكر.
(5) فيضها: غزيرها جمرات: حزن شديد يشبه الجمر.
(6) الادّكار: التذكر.
(7) الشجو: بث الحزن.(174/74)
مرصد الأحداث
يرصدها:حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
تشيني.. وزير إسرائيلي!
في خطوة غير مسبوقة في التاريخ الإسرائيلي، شارك نائب الرئيس
الأمريكي ديك تشيني في جلسة خاصة للمجلس الوزاري الأمني المصغر للحكومة
الإسرائيلية. وكانت تلك جلسة مثيرة للغاية.
والمجلس المذكور يتخصص في بحث الأوضاع الأمنية والسياسية السرية،
ويلتئم عادة في صبيحة كل يوم أربعاء، وكذلك في حالات الطوارئ. وهو يضم
ستة وزراء حالياً، هم رئيس الوزراء أرييل شارون، ونائباه شيمعون بيريس
(وزير الخارجية) ، وسلفان شالوم (وزير المالية) ، وقادة الأحزاب: وزير الدفاع
بنيامين بن اليعزر (حزب العمل) ، وزير الداخلية ايلي يشاي شاس) ، وزير
الإسكان نتان شيرانسكي (حزب اليهود الروس) ، وكان عضواً فيه أيضاً افيغدور
ليبرمن، وزير البنى التحتية الذي استقال من الحكومة، وخرج حزبه اليميني
المتطرف من الائتلاف. ويحضر الجلسات عادة قادة الأجهزة العسكرية
والمخابرات.. افتتح المجلس رئيس الوزراء شارون، فرحب بالضيف ديك
تشيني، وأشاد بتصريحاته في إسرائيل التي قال فيها: إنه جاء ليذكر العالم بأن
الولايات المتحدة ملتزمة بأمن إسرائيل، وأن هذا الالتزام ثابت لا يتغير. وشدد
بشكل خاص على قول تشيني إن العلاقات الإسرائيلية الأمريكية تقوم على مصالح
وقيم مشتركة.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8513) ]
مسيحي ماركسي إسرائيلي! !
مسيحي، يساري، فلسطيني، يحمل الجنسية الإسرائيلية، ويمثل التجمع
الوطني الوحدوي الديمقراطي في الكنيست الإسرائيلي، ويحث الفلسطينيين على
مقاومة الاحتلال الإسرائيلي؛ زار سوريا عدة مرات والتقى هناك الزعماء
الفلسطينيين المنشقين على سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني؛ وفي مقدمتهم جورج
حبش الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وخالد الفاهوم الرئيس
السابق للمجلس الوطني الفلسطيني.
وفي النهاية قررت إسرائيل تقديمه إلى المحاكمة بتهمة التحريض على
الإرهاب والعنف؛ وذلك بعد أن رفعت عنه الحصانة البرلمانية. ومنذ ثلاثة أعوام
أعلن بشارة ترشيح نفسه لمنصب رئيس وزراء إسرائيل؛ لأنه ليس في القوانين
الأساسية لدولة إسرائيل ما يمنع أي فلسطيني إذا كان يحمل الجنسية الإسرائيلية من
أن يرشح نفسه لرئاسة الحكومة إذا استطاع أن يجمع توقيعات 50 ألف ناخب من
اليهود أو المسلمين أو المسيحيين أو الدروز تزكي هذا الترشيح.. ولم يكن من
الصعب عليه أن يجمع هذه التزكيات من أنصاره العرب واليهود على السواء. إلا
أنه لم يلبث أن انسحب من المعركة لصالح إيهود باراك، قبل يومين فقط من موعد
إجراء الانتخابات، حيث كان لا يزال يرى بعض الأمل في أن باراك وحزب العمل،
سيستطيعان الوصول إلى تسوية سلمية للأزمة. وبعد الانسحاب من المعركة على
رئاسة حكومة إسرائيل رشح نفسه لعضوية الكنيست الإسرائيلي ونجح، فكان واحداً
من 13 نائباً عربياً في برلمان إسرائيل، يمثلون أحزاباً شتى. أما قبل دخوله إلى
الحياة البرلمانية فإنه كان متفرغاً للعمل الأكاديمي حيث تولى تدريس الفلسفة في عدة
جامعات أبرزها جامعة بيرزيت في مدينة نابلس، وكان يلقي المحاضرات باللغتين
العربية والعبرية. وترجع أصوله إلى الريف الفلسطيني، فقد جاء أبوه من قرية
ترشيحا حيث كان يتزعم تنظيماً لعمال الزراعة، وأمه من قرية الرام القريبة من
القدس، وكانت تعمل بالتدريس، أما زوجته السيدة رنا فهي من قلب مدينة القدس،
وجاء مولده مع العدوان الثلاثي على مصر، وبعد أن أكمل تعليمه الثانوي في
الناصرة التحق بجامعة حيفا لدراسة الفلسفة وعلم النفس، ثم طار إلى ألمانيا لكي
يحصل على الدكتوراه في الفلسفة الماركسية.
[مجلة الأهرام العربي، العدد: (259) ]
الرحمة البريطانية! !
يتهم البعض الغربيين بعدم الإنسانية؛ لأنهم في حروبهم ضد العالم الثالث
كانوا وما زالوا يبيدون القرى بمن فيها من المدنيين..! وهذا غير صحيح،
والدليل على ذلك أن بعض المتطوعين البريطانيين استأجروا رافعة متخصصة،
ونقلوها إلى منطقة تكثر فيها الغابات وقاموا بمد حبال مصنوعة من مواد طبيعية
لتكون جسراً تعبر عليه الفئران فوق الطريق؛ لأنهم لاحظوا أنها عندما تعبر
الطريق القروي الأرضي، تقتلها عجلات السيارات في منطقة براندون وود في
إقليم ووركشاير في إنجلترا، ولا سيما أن هناك نوعاً من الفئران اسمه «دور
ماوس» يعيش في المنطقة.
نرجو أن تستخدم الفئران من نوع الدور ماوس الجسر الجديد الذي كلف آلاف
الدولارات من إيجار معدات وساعات عمل ترى هل هناك جمعية غربية مستعدة
للتبرع بمد حبل من غزة إلى الضفة الغربية يمر فوقه الفسلطينيون لزيارة أهاليهم
حتى لا تدوسهم الدبابات الإسرائيلية؟ فقد مات في الطريق الرابط بين المنطقتين
من الفلسطينيين أكثر بكثير من عدد الفئران التي لقيت حتفها في منطقة براندون
وود.
[مجلة الكوثر، العدد: (29) ]
حقوق الإنسان.. اليهودي
تعهدت كندا بالدفاع عن إسرائيل في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة
مما أسمته «هجمات سياسية غير عادلة وأحادية الجانب ضد الدولة اليهودية» .
وقال وزير الخارجية الكندي بيل جراهام: نحن سنعمل بالتشاور مع إسرائيل
للتصدى لأي محاولة لإعادة التشهير بها كما حصل في مؤتمر الأمم المتحدة ضد
التمييز العنصري العام الماضي في ديربان «جنوب إفريقيا» .
واللافت أن كندا اختارت دور الولايات المتحدة التقليدي كمدافع عن إسرائيل
في مؤتمرات حقوق الإنسان في جنيف، بعد أن أخفقت الأخيرة في الفوز بمقعد في
اللجنة التي تضم 56 دولة العام الماضي للمرة الأولى منذ تشكيل اللجنة عام 1947م
وللولايات المتحدة وإسرائيل حالياً صفة مراقب في المؤتمر، فيما تملك كندا حق
التصويت الكامل كعضو في اللجنة.
[صحيفة البيان، العدد: (7947) ]
خطايا القساوسة
اعترف بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني بأن سحابة من الشكوك تغطي معظم
كهنة الكنائس الكاثوليكية، بعد سلسلة الفضائح الجنسية التي لطخت صورة الكنيسة،
وشجب الذين خانوا نعمة ما أسماه برسالة الكهنوت.
وفي رسالته السنوية قبل عيد الفصح (القيامة) ، قال البابا إن الكهنة «يتألمون
شخصياً وبعمق لخطايا بعض من إخواننا الذين خانوا نعمة الرسالة بالإذعان إلى
أفحش أشكال سر الإثم» .
وقال البابا: «ينجم عن هذا فضيحة ثقيلة تلقي ظلاً قاتماً من الشك على كل
الكهنة الأتقياء الآخرين الذين يؤدون خدمتهم بأمانة ونزاهة وبتضحية بطولية
كثيراً» .
إن الكنيسة ينبغي أن تظهر اهتمامها بالضحايا وتعمل جاهدة «للتجاوب بحق
وعدل مع كل من هذه المواقف الأليمة» . يذكر أن الكنيسة الكاثوليكية تعرضت في
السنوات الأخيرة لعدد من الفضائح الجنسية في بلدان عديدة مثل أيرلندا وبريطانيا
وفرنسا والنمسا وأستراليا، ومسقط رأس البابا بولندا. وفي إحدى أكثر تلك
الفضائح ذيوعاً وافقت إبراشية رئيس الأساقفة الكاثوليك في بوسطن على دفع
تعويضات بقيمة 30 مليون دولار للعشرات من الأشخاص الذين تعرضوا للتحرش
بهم على يد كاهن سابق، واعترف مسؤولو الكنيسة أن المتهم «جون جيه.
جوجان» قد نقل من موقع إلى آخر قبل تصاعد شكاوى الوالدين من تعرض
أطفالهم لاعتداءات جنسية.
وحكمت محكمة في ماساتشوسيتس على جوجان «66 عاماً» بالسجن لمدة
تصل إلى 10 سنوات لتحرشه بصبي يبلغ من العمر 10 سنوات في التسعينيات.
ورفض قاض دعوى أخرى تتعلق باغتصاب مزعوم لطفل لتأخر الادعاء في التقدم
بها.
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد: (7948) ]
كل هذا الحقد! !
مجلة ناشيونال ريفيو (national Review) وهي واحدة من أكبر
المجلات الأمريكية المعبرة عن صوت الاتجاه السياسي المحافظ في أمريكا، كتب
أحد محرريها وهو «ريتش لوري» على موقع المجلة الإلكتروني: أقترح أن
تضرب مكة بقنبلة نووية، وهذا سوف يرسل «إشارة» للمسلمين.
وقد جاءت كتابات ريتش لوري رداً على رسائل تلقاها من بعض القراء حول
رد فعل أمريكا المناسب في حالة تعرضها لهجوم نووي؛ إذ ذكر أن الرسائل
احتوت على «تأييد كبير لضرب مكة بقنبلة نووية» ، وأضاف أن «بغداد
وطهران هما الأقرب لتلقي الضربة النووية الأولى. وأنه لو كان لدينا قنابل نظيفة
تضمن حصر الدماء في نقطة الهجوم لوضعنا غزة ورام الله على القائمة أيضاً.
ويجب أن نحذر دمشق والقاهرة والجزائر وطرابلس والرياض من خطر الإبادة
الفورية إذا أظهروا أية علامة (اعتراض) » .
كما أضاف لوري أن «مكة متطرفة، بالطبع، بالطبع، ومن ثم قد يموت
بعض الناس ولكن ذلك سوف يرسل إشارة» . وحاول لوري نفي انحيازه الديني
بالإشارة إلى أن الديانات الكبرى «عانت كوارث من قبل» ، موضحاً أن «الوقت
حالياً هو وقت الجد» ، وأنه يجب التحرك الآن «قبل أن يقع آلاف الضحايا
الأمريكيين» ، كما أشار لوري إلى عامل الردع النفسي الذي سيساور المسلمين
الراديكاليين إذا علموا أن الأمريكيين شديدو الغدر لدرجة قد تدفعهم إلى تحويل
مدينتهم المقدسة إلى تلال من الحطام.
كما شارك في النقاش الذي دار على موقع المجلة الإلكتروني حول هذه
القضية أحد كتاب الموقع والذي كتب يقول: «أعتقد أن بغداد وطهران والرباط
يجب أن يشكلوا القائمة جميعهم، وربما أيضاً دمشق، وبالنسبة لمكة.. فإن (فكرة)
تدميرها شعور جيد، ولكننا بذلك سوف نُغضب كل مسلم على الكرة الأرضية
لعصور وعصور» .
موقع مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية كير
www.cair-net.org
دعم الفجار
ذكرت وكالة إيتار تاس المولدوفية أن السلطات المولدوفية ألقت القبض على
مجموعة ضخمة من «العاهرات» المحليات في مطار مولدوفيا الدولي بكشينيوف؛
كُن في طريقهن إلى مواقع الجنود الأمريكيين في أفغانستان.
وفي الوقت نفسه، قال رئيس قسم مكافحة الجريمة المنظمة بوزارة الداخلية
المولدوفية الجنرال نيديريتس أن رئيسة المجموعة أكدت أنها تعاقدت مع إحدى
الشخصيات المهمة التي وعدت بعائد مادي مغر مقابل سفر العاهرات بغرض تقديم
المساعدة إلى الجنود الأمريكيين الذين يحاربون ضد الإرهاب في أفغانستان.
وذكرت الوكالة أن السلطات المولدوفية تقوم بالتحقيق حالياً لمعرفة الشخصية
المهمة التي تطوعت بتنظيم عمليات الدعم لقوات التحالف الدولي المناهض
للإرهاب، وكانت منظمات نسائية أفغانية قد أبدت تخوفها بعد استيلاء تحالف
الشمال على كابول على ما يتهدد المرأة الأفغانية من انتهاكات حقوقية، وصورت
أن فترة حكم حركة طالبان رغم حرمانها المرأة من بعض الحقوق أرحم من فترة
حكم تحالف الشمال. وأوضحت أن تحالف الشمال الذي تربع على عرش السلطة
في أفغانستان له سوابق غير مشرفة في مجال قطع الطرق، واختطاف النساء،
وممارسة الرذيلة، وعمليات الاغتصاب، والدعارة المنظمة؛ بما يعكس الأوضاع
السيئة التي ربما تواجه بها النساء في المجتمع الأفغاني في ظل الوجود المبالغ فيه
لأعضاء التحالف الشمالي في الحكومة الأفغانية المؤقتة.
وانطلاقاً من سجل تحالف الشمال غير المشرف والملطخ بانتهاكات حقوق
المرأة والممارسات المشينة التي نالت من كرامتها، تكهن مراقبون أن يكون
المسؤول الذي قام بعملية التنسيق مع رئيسة شبكة الدعارة من أعضاء تحالف
الشمال البارزين.
[صحيفة السبيل، العدد: (423) ]
الرئيس صديقي
غادر المنصر الأمريكي فرانكلين جراهام، صديق الرئيس الأمريكي جورج
بوش، منزله في مقاطعة كارولينا الشمالية، متوجهاً بطائرته الخاصة إلى جنوب
السودان، ليقيم قاعدة خاصة على بعد 40 كم من مناطق القتال، ويقدم الدعم
للمسيحيين هناك ضد حكومة الخرطوم حسب زعمه.
ونقلت صحيفة (أخبار اليوم) السودانية عن القس الأمريكي زعمه أن
الحرب في جنوب السودان ليست مسألة إنسانية فقط وإنما هي حرب بين
الأصوليين الإرهابيين المسلمين الموالين لأسامة بن لادن والمسيحيين الطيبين الذين
يحبون الله وأمريكا!
كذا: بينما ترى الإدارة الأمريكية أن مناصرة بعض المسلمين لإخوانهم إرهاباً
يستحق الاعتقال والحبس، نجد القس الأمريكي يعلن على رءوس الأشهاد مساندته
للوثنيين والنصارى في جنوب السودان عبر القاعدة التي أنشأها هناك.
[مجلة المجتمع، العدد: (1491) ]
دعوة للإنقاذ
تعاني المدارس والمعاهد الإسلامية الأهلية بجنوب تايلاند خلال هذه السنة
الجديدة من مشاكل عديدة بسبب تزمت وتشدّد الحكومة البوذية، حيث ألغت كل
المناهج الموجودة وطالبت بتطبيق منهج جديد يبدأ تطبيقه خلال الدخول الدراسي
الجديد في شهر مايو المقبل.
والمحيّر فعلاً هو دعمها للمواد الأكاديمية على حساب الدراسات الإسلامية؛
حيث كان حظ القسم الديني 11 ساعة سنوياً، خلافاً للمنهج الملغى الذي كان نصيبه
648 ساعة سنوياً. وبعملية حسابية بسيطة يكون نصيب تدريس المواد الشرعية
دقيقتين يومياً، يدخل الأستاذ ليلقي السلام ثم يخرج! !
وأمام هذا الوضع الخطير تقف المدارس الإسلامية الأهلية البالغ عددها 137
مدرسة ومعهداً بالولايات الأربع (جالا، فطاني، وناراتيوات، وستول بجنوب
تايلاند) حائرة ماذا تفعل وخائفة من تسلط الحكومة التايلاندية التي كشرت عن
أنيابها، وعاجزة عن أن تفعل أي شيء، أما أولياء أمور التلاميذ البالغ عددهم
87563 تلميذ وتلميذة بالولايات الأربع بجنوب تايلاند، فيقفون موقف المتفرج عما
تسفر عنه هذه الهجمة الشرسة على التعليم الديني، لضعف إدراكهم لمخططات
الأعداء، وكيدهم المتواصل على هذه الأمة وأبنائها، أما الأساتذة البالغ عددهم
3597 أستاذاً وأستاذة، فهم الآخرون مهددون بالطرد.
وحيال هذا الوضع الصعب ترفع هذه المدارس والمعاهد الدينية الأهلية
بالولايات الأربع بجنوب تايلاند صوتها إلى كل المسلمين في بقاع الأرض بإمدادها
بالدعم المعنوي والمادي، كي تتمكن هذه المدارس والمعاهد الإسلامية الأهلية من
أداء رسالتها الحضارية في مجال التربية والتعليم، سائلين الله جلت قدرته أن يوفق
الجميع لما فيه صلاحنا في الدنيا والآخرة.
[أحمد صبيحي، صحفي مقيم في تايلاند، رسالة بريدية لمجلة البيان]
أجداد للإيجار! !
تدرس الحكومة البريطانية خطة مثيرة تقضي بدفع أجر للأجداد والجدات
الذين يمضون وقتاً في رعاية أحفادهم، بهدف تشجيع الآباء والأمهات على العودة
إلى سوق العمل، وينظر وزير العمل والتعويضات الاجتماعية اليستير دارلينج
حالياً في تجربة رائدة تجري في نوتنجهام شاير يدفع مجلس البلدية بموجبها للأجداد
والأعمام أو العمات والأخوال أو الخالات أجراً يصل إلى 25 جينهاً إسترلينياً
أسبوعياً عن كل طفل لقاء توفير الرعاية الأسرية للأطفال في غياب آبائهم أو
أمهاتهم، وقال مسؤولون في الحكومة إن دارلينج يعي أن الحكومة ربما لن تؤيد دفع
أجر للأجداد والجدات، لقاء خدمة يسر العديد منهم في تقديمها من غير مقابل مادي،
لكن دارلينج يريد من الحكومة بذل جهود أكبر لمساعدة الآباء العزاب والأمهات
العازبات الذين يقولون إنهم عاجزون عن الالتحاق بدورات التدريب المهنية؛ لأنهم
لا يقدرون على تحمل تكاليف استئجار حاضنات مرخصات.
وقد لاقت خططه الأخيرة تأييداً من قِبَل جمعية «هموم الهرم» ؛ حيث قالت
الناطقة باسم الجمعية: إن الأجداد والجدات سيرحبون بأي مبادرة تقر بالدور
الحيوي الذي يلعبونه في رعاية الأطفال.
وأشارت الناطقة إلى أن حوالي مليون جد وجدة يقومون بمهام حضانة أحفادهم
لمدة تصل إلى 15 ساعة أسبوعياً، مضيفة أن العديد من الأمهات والآباء ربما
يضطرون إلى ترك العمل لولا مساعدة آبائهم وأمهاتهم في رعاية أطفالهم.
[صحيفة الحياة، العدد: (14245) ]
إصرار على الحرب
أنهى قائد القوات الأمريكية في أفغانستان الجنرال تومي فرانكس جولة سريعة
في منطقة القرن الإفريقي شملت الصومال وإثيوبيا وجيبوتي وكينيا وإريتريا
واليمن. وفي جيبوتي التي كانت محطته الأخيرة التقى فرانكس بالقادة العسكريين
الفرنسيين والألمان الذين ترابط قواتهم في ميناء جيبوتي استعداداً للحملة الجديدة في
المنطقة التي تشير أغلب المؤشرات إلى أنها قد تبدأ من الصومال، وقد تمتد حسب
بعض المصادر إلى اليمن وجزر القمر.
وسبق فرانكس إلى المنطقة المبعوث الأمريكي إلى الصومال جلين وراين
الذي قام بجولة داخلية لمختلف المناطق الصومالية، وأجرى لقاءات مع الحكومة
الانتقالية وحكام ولايات الحكم الذاتي في شمال وشرق البلاد، في إطار الزيارات
المكثفة التي قام بها خبراء عسكريون أمريكيون ومحققون من وكالة الاستخبارات
المركزية للمحافظات الصومالية. واعتبر المراقبون أن زيارة الجنرال فرانكس تأتي
خاتمة لهذه السلسلة من الاستطلاعات لبلورة الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة
تجاه الخطوة التي تتخذها حيال الصومال.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8512) ]
أهو ثمن للبقاء؟ !
في مقابلة خاصة أجراها الجنرال برويز مشرف مع صحيفة (نيوز)
المعروفة بميولها الأمريكية القوية وحماسها لاعتراف باكستان بـ (إسرائيل) ، قال
الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف إنه «لا اعتراض لدى باكستان لانضمام
إسرائيل والهند للتحالف الدولي ضد الإرهاب» . ولكنه قال إن «باكستان لن
تسمح للهند باستخدام الأجواء الباكستانية أو الأراضي الباكستانية في معركة التحالف
الدولي على اعتبار أنها دولة معادية لباكستان» ، وهذا يعني ضمناً أنه لا اعتراض
لديها بأن تستخدم «إسرائيل» الأجواء أو الأراضي الباكستانية.
تأتي هذه التصريحات للجنرال مشرف في وقت تكثر فيه التكهنات حول نية
باكستان الاعتراف بـ «إسرائيل» وانتهاج السياسة العلمانية في البلاد.
[صحيفة السبيل، العدد: (423) ]
لا تحتاج إلى تكأة!
لم تخرج الصين عن «قاعدة» الحرب على «الإرهاب» ؛ حيث وظفت
منذ بداية الحملة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر مسوغات الولايات المتحدة
لتصفية حسابات قديمة مع مسلمي المقاطعات الغربية الشمالية للبلاد بدعوى
«ممارسة الإرهاب» .
وقد اتهمت منظمة العفو الدولية في تقرير لها صدر مؤخراً الحكومة الصينية
باعتقال الآلاف من مسلمي الأيجور منذ الحادي عشر من سبتمبر، وكانت بعض
عناصر الأيجور قد شنت حملة تفجيرات على نطاق ضيق في المنطقة خلال
السنوات القليلة الماضية إلا أن منظمة العفو قالت: إن معظم المعتقلين لم يفعلوا
شيئاً على الأرجح خلافاً لممارسة شعائر دينهم أو الدفاع عن معتقداتهم. ومع نفي
بكين التهم الموجهة إليها إلا أنها تفادت إثارة حالات محددة ذكرتها المنظمة، ويقول
التقرير إنه على الرغم من أن إقليم شينجيانج الذي يتمتع بالحكم الذاتي، لم يشهد
أعمال عنف ملحوظة خلال السنوات الماضية إلا أن السلطات الصينية اعتقلت
الآلاف خلال الأشهر الستة الماضية، كما فرضت قيوداً على حرية العبادة والتعبير
عن المعتقدات الثقافية، وأكثر من ذلك اتهمت المنظمة قوات الأمن الصينية بإعدام
عدد من الأشخاص وحكم على آخرين بالسجن.
تقول الصين إن عدداً كبيراً من مسلمي الأيجور على علاقة بأسامة بن لادن،
وتلقوا تدريباً في أفغانستان التي تشترك في الحدود مع شينجيانج.
ومن بين ما أشارت إليه منظمة العفو الدولية قيام السلطات الصينية بممارسة
ضغوط على تلاميذ المدارس لمنعهم من صيام شهر رمضان. كما أشارت المنظمة
في تقريرها إلى أن منظمات أخرى لحقوق الإنسان وجهت الاتهامات نفسها للحكومة
الصينية، وتشن عناصر من الأيجور الذين كانت لهم جمهورية خاصة بهم قبل
استيلاء الشيوعيين على الحكم في بكين عام 1949م حملة ضد الحكومة الصينية في
محاولة لإعلان دولتهم المستقلة التي يعتزمون تسميتها تركستان الشرقية.
موقع مجلة العصر
www.alasr.ws
الترحيب الجورجي
أبدى الرئيس الجورجي إدوارد شيفردنادزه استعداد بلاده للأخذ في الاعتبار
بدء عملية أمنية مشتركة مع الولايات المتحدة «لاجتثاث الإرهابيين المختبئين»
في منطقة بانكيسي (شمالاً) قرب حدودها مع الشيشان، ورفض في الوقت نفسه
أي عمليات عسكرية مشتركة مع روسيا في هذه المنطقة الحدودية، وحمل بعنف
على وزير الخارجية الروسي إيغور إيفانوف.
ونفى الرئيس الجورجي بشدة احتمال أن تكون بلاده عازمة على القيام
بعمليات مشتركة مع القوات الروسية في وادي بانكيسي، التي يعتقد أن نحو ثمانية
آلاف شيشاني لجؤوا إليها، وأكدت موسكو مراراً أن المقاتلين يستخدمونها قاعدة
لتنفيذ عملياتهم في الشيشان. تزايدت الضغوط على جورجيا للحد من الجريمة
وضمان الأمن، وخصوصاً بعدما صرح القائم بالأعمال الأمريكي في تبليسي
فيليب ريملير لصحيفة جورجية بأن «عشرات الإرهابيين من أفغانستان موجودون
في المنطقة» ، وأقر المسؤولون الجورجيون أخيراً أن بعض العرب والأفغان الذين
حاربوا في الشيشان مختبئون فعلاً في وادي بانكيس.
[صحيفة الحياة، العدد: (14216) ](174/78)
مقالات معربة
قواعد الأخلاق في الغرب اهتزت بعد أحداث
الحادي عشر من سبتمبر
بقلم: روبرت فيسك
صحيفة الإندبندنت البريطانية
ترجمة: أحمد المكاشفي [*]
تزدهر في هذه الأيام زراعة نبات الخشاش في حقول أفغانستان، نعم! يحدث
ذلك مع تورط الأمريكيين أكثر فأكثر في الفخ الأفغاني؛ فمن الواضح أن أمراء
الحرب وقادة العصابات الذين يديرون الحكومة الأفغانية المؤقتة التي يدعمها الغرب
عازمون على تزويد الأسواق العالمية بمحصول جديد من المخدرات. وقد سبق أن
حذرت الأمم المتحدة من ذلك لكن تحذيراتها تلاشت في غمرة صيحات «الحرب
ضد الإرهاب» التي طغت على ما عداها من أصوات، فكان من نتائج ذلك أن
أصبحت طرق المرور السريع الخربة في أفغانستان تمور بالفوضى واللصوص
والقتلة وقطاع الطرق. أما قوات حفظ السلام الدولية قليلة العدد والعدة فهي في حالة
يرثى لها؛ إذ إنها عاجزة عن بسط سيطرتها على أنحاء العاصمة كابل، فضلاً عن
بقية أقاليم أفغانستان. كما تنحصر سيطرة حامد كرزاي رئيس الحكومة الأفغانية
المؤقتة وسلطته في دائرة ضيقة تكاد لا تتجاوز الأحياء المحيطة بمقر حكومته.
ولا يبدي الأمريكيون الذين أصبحت الحرب ضد الإرهاب أكبر همهم، وبعد
أن اكتشفوا أن أعداءهم في أفغانستان عازمون على منازلتهم، لا يبدون أي اكتراث
لنزاع آخر أشد خطورة تدور رحاه على بعد ألفي ميل إلى الغرب من كابل، في
شوارع مدن القدس ورام الله وتل أبيب ونابلس وجنين وغزة وأزقتها. ومن
علامات هذا التجاهل أنه عندما يجتاح الجيش الإسرائيلي مخيمات اللاجئين ويقتل
عشرات الفلسطينيين؛ تناشد الولايات المتحدة إسرائيل بضبط النفس، لكن حين
يفجر انتحاري فلسطيني نفسه في أحد شوارع القدس فيقتل عدداً من الإسرائيليين؛
تسارع الولايات المتحدة إلى إدانة ياسر عرفات واتهامه بالإخفاق في وضع حد
للإرهاب واعتقال مرتكبي أعمال العنف من الفلسطينيين. وفي غضون ذلك ينهمك
أرييل شارون في تدمير السجون ومراكز الشرطة الفلسطينية حتى يمنع عرفات من
تطبيق مقررات اتفاقية السلام الفلسطينية الإسرائيلية.
كما تلتزم واشنطن الصمت حين يصرح شارون علناً أن على إسرائيل أن
تقتل المزيد من الفلسطينيين. وقد لا يكون هذا الصمت الأمريكي عن تجاهل وعدم
اهتمام، بل ربما أن مرده إلى قناعة الإدارة الأمريكية بأن هذا الرجل «شارون»
الذي حملته لجنة تحقيق إسرائيلية حكومية المسؤولية الشخصية عن قتل 1700 من
المدنيين الفلسطينيين في بيروت في عام 1982م يقف معها في خندق واحد في
معركتها ضد الإرهاب. يبدو أن خللاً قد أصاب بوصلة الأخلاق الأمريكية جراء
حوادث الحادي عشر من سبتمبر؛ بحيث لم يعد بوش يرى بأساً بتصرفات شارون
الإجرامية.
والحق أن معطيات الواقع تشير إلي أن كل الدروس التاريخية التي أفرزتها
الأزمات في أفغانستان والشرق الأوسط يجري تجاهلها تماماً الآن. ألم تسمع
عزيزي القارئ إلى ما صرح به كلينتون خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل حين أنحى
باللائمة على عرفات؟ ! أم لم يصل إلى سمعك ما صرحت به زوجته الخرقاء
هيلاري كلينتون إبان زيارتها الأخيرة لإسرائيل، حين حمَّلت ياسر عرفات
المسؤولية عن حوادث العنف التي تقع؟ ! كما أعلنت أنها ومن منطلق وضعها
كسيناتور أمريكي ستقف بقوة إلى جانب الشعب الإسرائيلي. نعم إلى جانب الشعب
الإسرائيلي! ! ونحن نتساءل هنا: ما الذي يضر هيلاري لو وقفت بقوة إلى جانب
الفلسطينيين الأبرياء أيضاً؟ ! ألأن دينهم مختلف؟ ! أم لأنهم يكتبون من اليمين
إلى الشمال؟ ! أم لأن لون عيونهم مختلف؟ !
وهكذا يجري تحويل مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي إلى جزء لا
يتجزأ من «الحرب ضد الإرهاب» . والحق أن لغة هذه الحرب تزداد سذاجة
وتبسيطاً بمرور الأيام؛ فنحن اليوم مطالبون بأن نردد بطريقة ببغاوية بلهاء
عبارات وكلمات من شاكلة: «ثأر، دورة العنف، محور الشر، القنبلة مدمرة
المخابئ، وقنبلة الديزي كاتر..» إلخ، ولا تلوح في الأفق القريب نهاية لهذا
السلوك الطفولي.
أما آخر ما استجد من مصطلحات القتل فتتمثل في كلمتي «ترحيل»
و «إعادة توطين» ؛ فقد وردت هاتان الكلمتان في أثناء مقال نشرته مؤخراً صحيفة
«يو إس تودي» ، يقول كاتب المقال: «يكمن الحل الناجع للقضية الفلسطينية
في الفصل التام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإعادة توطين الفلسطينيين في
الأردن؛ حيث يشكل الفلسطينيون بالفعل نسبة 80% من مجموع السكان» . كما
أجري استطلاع للرأي في إسرائيل لتحديد عدد الإسرائيليين الذين يؤيدون خيار
حل القضية الفلسطينية بطرد العرب من ديارهم، إي والله! ! العرب
وليس المستوطنين اليهود الذين يقيمون بطريقة غير مشروعة في الأرض العربية
المحتلة.
إنه بحق أمر غريب ومحيّر، فالترحيل والطرد من ضروب التطهير العرقي
والتطهير العرقي من جرائم الحرب كما ينص القانون الدولي. وإذا كانت
الصحف الأمريكية لا تمانع من نشر مثل هذه الآراء المتطرفة وترويجها، وإذا
كانت آراء الإسرائيليين تُستطلع لمعرفة حجم التأييد الذي يلقاه خيار ترحيل
الفلسطينيين؛ فلماذا بربك يُحاكم ميلسوفيتش في لاهاي؟
إننا والحق يقال على أعتاب سقوط أخلاقي مريع، تأمل مثلاً في التخفيف
الذي طرأ على لهجة آخر تقرير أمريكي عن حقوق الإنسان في العالم. ففي
تقريرها عن حقوق الإنسان في العالم عام 2000م ذكرت الحكومة الأمريكية أن
المحاكم العسكرية في مصر لا تضمن حصول المتهمين المدنيين على محاكمات
عادلة أمام محاكم مستقلة. إلا أن هذه الجملة حذفت من ذات التقرير عام 2001م،
وسبب ذلك بالطبع هو أن جورج بوش نفسه منهمك الآن في تشكيل محاكم عسكرية
لمحاكمة الأسرى المحتجزين في قاعدة غوانتانامو دون توفر أي ضمان لحصولهم
على محاكمات عادلة.
وبالإضافة إلى تعمدهم تحريف طبيعة الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين
يمارس المسؤولون الأمريكيون الكذب الصريح في غالب ما يصدر عنهم من
تقارير وتصريحات عن الحرب في أفغانستان. إليك ما قاله الجنرال فرانكس،
رئيس القيادة المركزية الأمريكية، في معرض تعليقه على قتل 16 أفغانياً عن
طريق الخطأ في منطقة «هازار كادام» الأفغانية، يقول فرانكس: «لن أصف
تلك الحادثة بأنها وقعت نتيجة لخطأ أو إخفاق» . وهو تصريح يدل على أحد
أمرين: فإما أن فرانكس لم يطلع على الحقائق، أو أنه رجل حقير لا يقيم وزناً
لأي مُثُل أخلاقية. كما رفض رئيسه دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي استخدام
كلمة «خطأ» أو حتى كلمة «تحري» في حديثه عن مقتل الآلاف من الأفغان
الأبرياء جراء القصف الأمريكي؛ وذلك لما تتضمنه هذه الكلمات من إشارة إلى
احتمال «اتخاذ إجراء رسمي أو عقابي في حق مرتكبي ذلك الخطأ» . وإذا كان
كبار العسكريين الأمريكيين يمارسون هذا القدر من الخداع والتضليل فليس
بمستغرب إذن أن يفتح الإسرائيليون نيران دباباتهم ومدافعهم الرشاشة على مخيمات
اللاجئين الفلسطينيين، أو أن يطلقوا الصواريخ المدمرة على سيارات تحمل أطفالاً
فلسطينيين بحجة أن إسرائيل تطالب برؤوس آبائهم، ودون أن يصدر عن واشنطن
ما يفيد الشجب أو الاعتراض.
لقد آن الأوان لأوروبا أن تتحرك؛ وذلك بعقد مؤتمر قمة تشارك فيه جميع
الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للتداول بشأن هذه الأزمات الخطيرة. إن علينا
نحن الأوروبيين أن نعمل على توسيع صلاحيات قوات حفظ السلام الدولية
المرابطة في كابل وحجمها وإمكانياتها؛ بحيث تتمكن من نزع أسلحة المليشيات
الأفغانية، ثم نترك أمريكا لتغرق، إن شاءت، في مستنقع حرب العصابات،
وحالة شبه الاحتلال التي تفرضها على أفغانستان حالياً. كما يتعين علينا أيضاً
مطالبة إسرائيل بتعويض مبلغ عشرة ملايين دولار التي جاد بها دافعو الضرائب
الأوروبيون، والتي بددها الجيش الإسرائيلي بتدميره للمنشآت والبنى التحتية
الفلسطينية التي ساهم الأوروبيون في تمويلها.
وما دام أن الأمريكيين يرفضون التحدث إلى ياسر عرفات؛ فمن واجبنا نحن
أداء هذه المهمة. وإذا كانت أمريكا لا تأبه كثيراً لهذه الحرب الضروس التي تدور
رحاها بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ فمن واجب الأوروبيين التحرك بقوة لإيقافها.
فمثلما أننا نطالب بتمويل السياسات الرعناء والمفلسة التي تنتهجها حكومة
الولايات المتحدة من حر مالنا؛ فمن حقنا أيضاً أن نطالب بأن يكون لنا حق إبداء
الرأي في هذه السياسات. لكن ما يبعث الأسى في النفس هو أننا عوضاً عن ذلك
نرى أن بعض الحكومات الأوروبية، كالحكومة البريطانية، تغذي أوهام وشطحات
جورج بوش؛ وذلك بتأييد خطته الحمقاء لمهاجمة العراق.
وفي نهاية هذه الكلمة أقول إنني بدأت أحس بأن أحداث الحادي عشر من
سبتمبر قد طفقت تتحول شيئاً فشيئاً إلى لعنة أبلغ ضرراً وأشد بشاعة من الدمار
الذي ألحقته الهجمات الانتحارية بمبنى البنتاغون ومركز التجارة العالمية، كما
يوشك الأثر العميق الذي خلفته تلك الأحداث في نفسية الأمريكيين أن يطمس كل
مبادئ الأخلاق وقواعدها في أمريكا. كما أنني أتساءل هنا قائلاً: تُرى، هل تريد
أمريكا أن تجعل من الفوضى التي تضرب أفغانستان، والقتل المستمر في الشرق
الأوسط نصباً تخلّد به ذكرى ضحايا حوادث الحادي عشر من سبتمبر من
الأمريكيين؟ !
__________
(*) مدير تحرير مجلة الجمعة الصادرة باللغة الإنجليزية عن المنتدى الإسلامي ماديسون، أمريكا.(174/82)
في دائرة الضوء
واقع العالم الإسلامي
(2 - 2)
د. أحمد بن عبد الله الزهراني [*]
في العدد الماضي أشار الكاتب إلى إخلال العالم الإسلامي اليوم بالكليات
الخمس التي أجمعت عليها الشرائع وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال،
والعرض. ثم ذكر أن من سنن الله تعالى في خلقه استمرار الصراع بين الحق
والباطل حتى قيام الساعة، وقد أفاض في الحديث عن شعيرة الجهاد واستمراريته
بنوعيه: جهاد الكلمة، وجهاد السيف.
- البيان -
إنهم اتبعوا سنن الغرب القائم، ومالت أعناقهم وأفئدتهم إليه فأعطوه العهود
والمواثيق على المتابعة وعدم المخالفة، ودخلوا معه في عقد الندوات والمؤتمرات،
واستجابوا له في دفع الميزانيات، واستجلاب انتاجياته كما تلقفوا أفكاره وثقافاته،
وساروا في ركابه ليل نهار، ولجؤوا إليه في السراء والضراء، فاحتكموا إليه في
الخلافات، ونصبوا لهم جميعاً صنماً طاغوتياً يحتكمون إليه، ويحكم بينهم
ويرضون ويسلمون له بذلك، وأصدروا ميثاقاً عاماً أسموه «ميثاق هيئة الأمم
المتحدة» عام 1945م جاء في مقدمته: «نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا
على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي جلبت أحزاناً على
الإنسانية مرتين من خلال جيل واحد يُعجز وصفها، وأن نؤكد من جديد إيماننا
بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم
كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها
تحقيق العدالة، واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر
القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في
مكان أفسح من الحرية، وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح،
وأن نعيش جميعاً في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحافظ على السلم
والأمن الدوليين، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها أن
تستخدم الأداة الدوليّة في تطوير الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعاً وقد
قررنا أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض.
ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين في مدينة سان
فرنسيسكو الذين قدموا وثائق التفويض المستوفية للشروط قد ارتضت ميثاق الأمم
المتحدة هذا، وأنشأت بمقتضاه هيئة دولية تسمى: هيئة الأمم المتحدة» [1] .
ولقد اشترك في هذا الميثاق بما فيه من العُجَر والبُجَر مائة وتسعة وخمسون
دولة؛ مع دفع مساهمات مالية سنوية تعتبر ميزانية سنوية لهيئة الأمم، ومع الأسف
انتظمت دول العالم العربي والإسلامي في سلك تلك الهيئة، ومن أقدم دول العالم
العربي دخولاً في هذه الهيئة: سوريا، والعراق، ولبنان، ومصر؛ حيث كان
تاريخ دخولها في بداية عقد هذه الهيئة عام 1365هـ 1945م.
ثم اليمن الشمالي التي دخلت عام 1367هـ 1947م.
ثم الأردن وليبيا عام 1375هـ 1955م
ثم تونس، والسودان، والمغرب عام 1376هـ 1956م.
ثم الجزائر عام 1382هـ 1962م.
ثم الكويت عام 1383هـ 1963م.
ثم اليمن الديمقراطية عام 1387هـ 1967م.
ثم دولة الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وعمان، وقطر، عام
1391هـ 1971م.
وعلاقة هذه الدول بهيئة الأمم وبالمنظمات الدولية الأخرى علاقة مودة، ودعم
ومؤازرة منطلقة في ذلك كله من مقاصد الميثاق الأممي لهيئة الأمم المتحدة.
إن ميثاق هيئة الأمم والمنظمات الدولية الأخرى يتعارض مع مبادئ الإسلام وقيمه،
ومع غايات الجهاد الإسلامي وأهدافه كل التعارض؛ فهو ميثاق جاهلي يعارض
المبادئ والقيم الإسلامية يجب الكفر به وعدم الإيمان به، إنه نصب نفسه مصدراً
لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها، كما جاء في الفقرة الرابعة من المادة الأولى، وكما
جاء في الفقرة الرابعة والخامسة من المادة الثانية. بل يريد من الدول غير العضوة
فيه أن تسير وفق مبادئه؛ كما جاء في الفقرة السادسة من المادة الثانية [2] .
وقد أخذ التعهد على الأعضاء المشتركين في قبول قرارات مجلس الأمن
وتنفيذها، كما جاء في المادة الخامسة والعشرين من الميثاق الأممي [3] .
كما أخذ التعهد عليهم بأن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن كل ما يلزم من
القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدوليين،
ومن ذلك حق المرور، كما جاء في المادة الثالثة والأربعين الفقرة الأولى [4] .
ومن خبث هذا الميثاق الأممي أن صنع له محكمة قضائية سماها «محكمة
العدل الدولية» ، وجعل لها نظاماً منبثقاً من ميثاق هيئة الأمم، كما في المادة
(92) ، وأخذ التعهد على كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة أن يقبل بحكم تلك
المحكمة في أي قضية هو طرف فيها، كما جاء في المادة الرابعة والتسعين منه [5] .
كما أصدر وثيقة [الإعلان العالمي لحقوق الإنسان] عام (1948م) جاء في
ديباجته ما نصه: «ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد
إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء من
حقوق متساوية، وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن ترفع
مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت
بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات
الأساسية واحترامها. ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى
للوفاء التام بهذا التعهد، فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان على أنه المستوى الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم؛ حتى يسعى
كل فرد وهيئة في المجتمع واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم إلى
توطيد احترام هذه الحقوق والحريات، عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات
مطردة قومية وعالمية؛ لضمان الاعتراف بها، ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين
الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانه» [6] .
وبناء على هذا التصور الجاهلي جاء في المادة الثانية من نظامه ما يلي:
«لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون
أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين،
أو الرأي السياسي، أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو
الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر دون أية تفرقة بين الرجال والنساء» [7] .
انظر إلى هذا الكفر الصراح الذي ألغى المبادئ الإسلامية وألزم الإنسانية
بشرعة الكافر وقانونه الجاهلي من خلال التعليم والتربية وغير ذلك.
لقد فرق الإسلام بين المسلم وبين الكافر وجعل لكل منهما أحكاماً غير
الآخر، وحذر المسلم من العيش مع الملحدين الكافرين، وأمر بمجاهدتهم وقيام الحد
على من ارتد عن الإسلام، كما جعل للأنثى أحكاماً تفارق فيها أحكام الرجل،
وليس هذا مجال تفصيل ذلك، ولكن نقول لهم كما قال ربنا سبحانه: [قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو
يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ] (الأعراف: 158) .
وقوله تعالى: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ] (الممتحنة: 4) .
يقول د. محمد محمد حسين رحمه الله: «ها هنا مسألة دقيقة يشكل فهمها
على كثير من الناس، وهي عالمية الإسلام وإنسانيته، والخلط بينها وبين الدعوات
العالمية والإنسانية بمعناها المقصود في الليبرالية والعلمانية التي تسقط الدين من
حسابها جملة ولا تقيم له وزناً، فعالمية الإسلام تعني أن دعوته موجهة إلى البشر
كافة، وليست محصورة في جنس بعينه، كاليهودية التي هي ديانة عنصرية خاصة
ببني إسرائيل مغلقة عليهم بوصفهم شعب الله المختار، فالمسلمون على اختلاف
أجناسهم وألوانهم إخوة في الدين، سواسية في الحقوق والواجبات، لا تفرقة بينهم
بسبب الجنس أو اللون.
وإنسانيته تعني أنه يدعو إلى العدالة بين خلق الله على اختلاف مللهم
وأجناسهم ومعاشرتهم بالمعروف؛ مع رعاية حق الضعيف والمريض والشيخ الهرم
والطفل الصغير ورجل الدين. ولكن المسلمين مع ذلك كله يظلون» أمة واحدة من
دون الناس «كما جاء في نص كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه بين
المسلمين واليهود عندما قدم إلى المدينة. وهم مطالبون بالتمسك بشعائرهم وسننهم
ومناسكهم التي تميزهم بطابع خاص، ومنهيون عن التشبه بغيرهم في أزيائهم أو
عاداتهم، حتى لا يفقدوا هذا الطابع المتميز المستقل، ومطالبون بالحفاظ على
استقلالهم وسيادتهم والدفاع عنها حتى الموت. وللمسلم على المسلم من الحقوق
والواجبات ما ليس لغير المسلم» [8] .
وقد جعلت هيئة الأمم السلم والأمن الدوليين هما المنطلق لها في الميثاق الذي
أصدرته ووقع عليه جميع الأعضاء؛ فمن أخل بالسلم والأمن الدوليين يجب
الوقوف ضده واتخاذ التدابير اللازمة لمنعه [9] .
والغرب له رصيد تجربة قديمة مع جيوش وجحافل الجهاد الإسلامي؛ ولذلك
يخافون من ظهور الجهاد الإسلامي لأنه يقوض عروشهم ويكسر شوكتهم.
يقول الدكتور وهبة الزحيلي: «يخاف الغربيون لا سيما الإنجليز من ظهور
فكرة الجهاد في أوساط المسلمين حتى لا تتوحد كلمتهم فيقفوا أمام عدوانهم؛ ولذلك
يحاولون الترويج لفكرة نسخ الجهاد، وصدق الله العظيم إذ يقول فيمن لا إيمان لهم:
[فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ] (محمد: 20) .
ولقد قابلت المستشرق الإنجليزي» أندرسن «في مساء الجمعة 3/ 6/1960 م
فسألته عن رأيه في هذا الموضوع فكان من نصيحته لي أن أقول: إن الجهاد
اليوم ليس بفرض بناء على مثل قاعدة» تتغير الأحكام بتغير الأزمان «؛ إذ إن
الجهاد في رأيه لا يتفق مع الأوضاع الدولية الحديثة؛ لارتباط المسلمين بالمنظمات
العالمية والمعاهدات الدولية؛ ولأن الجهاد هو الوسيلة لحمل الناس على الإسلام،
وأوضاع الحرية ورقي العقول لا تقبل فكرة تُفرض بالقوة» [10] .
إن الغرب جلب بخيله ورجله لتشويه الإسلام وشعائره وخاصة شعيرة الجهاد
وأثار حولها كثيراً من المغالطات والشبهات؛ لكي يقضي على هذه الشعيرة في
نفوس المسلمين [11] ، وصدق الله القائل: [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 32-33) .
والقائل: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف: 8-9) .
لقد نجح الغرب في القضاء على شعيرة الجهاد الإسلامي في نفوس المسلمين
فنصب لهم الكمين القاتل بإنشاء المنظمات والمعاهدات الدولية، وطلب منهم
الانضواء تحت مظلات تلك المخططات الجاهلية؛ فاستجابوا له فسامهم سوء
العذاب من الذل والهوان، وصدق الله العظيم القائل: [وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً
فَسَاءَ قَرِيناً] (النساء: 38) . والسبب وراء هذه الدوافع من العدو الغادر والله
أعلم خوفه من صيحات «الله أكبر» التي ذاق طعم سيوفها في المعارك التي وقعت
بين الفريقين، فأخذ يمكر ويفكر ويعد العدة لتشويه هذه الشعيرة الغالية عند الله وعند
عباده المؤمنين، بل يسعى إلى إلغائها بالكلية.
يقول د. البوطي: «ولن تعجب من الدوافع إلى حصر كل همهم في مشروعية
الجهاد بخصوصه، إذا علمت بأن أخطر ركن من أركان الإسلام في نظر أعدائه
يخيفهم ويرعبهم إنما هو (الجهاد) » !
فهم يدركون أن هذا الركن إذا استيقظ في نفوسهم وأصبح ذا أثر في حياة
المسلمين في أي عصر من الزمن فلن تقف أي قوة بالغة ما بلغت من الأهمية في
وجه الدفع الإسلامي؛ ولذا ينبغي أن يكون البدء في القيام بأي عمل بغية إيقاف المد
الإسلامي من هذه النقطة ذاتها « [12] .
لقد وضع العدو الغادر مقدمات ووسائل لإلغاء مبدأ الجهاد في نفوس المسلمين
بل جوّز فكرة النسخ للجهاد بالكليّة، وتشبعت الدول بتلك الفكرة الخاطئة، كما
اتفقوا جميعاً على محاربة من ينادي به ويدعو إليه، ووصموه بالإرهاب والتطرف
والانشقاق والمروق من الدين والإجرام، وأسرجوا خيولهم في مطاردة عناصر
الجهاد والقضاء عليهم.
إن طوفان الغرب قد تسلط على عالمنا الإسلامي فاخترق جدرانه الحسية
والمعنوية فاستوطنها بثقافته وإرسالياته وممثلياته ومعاهداته ومنظماته الكافرة،
فصار عالمنا الإسلامي لا يتحرك إلاّ في إطاره، وبتوجيهه وأمره.
جاء في المادة الخامسة والخمسين من ميثاق هيئة الأمم المتحدة ما يأتي:
» رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلميّة
وديّة بين الأمم، مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق
بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها؛ تعمل الأمم المتحدة
على:
أ - تحقيق مستوى أعلى للمعيشة لتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكل فرد،
والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي الاجتماعي.
ب - تيسير الحلول للمشكلات الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما
يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.
ج - أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع؛
بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء؛ مع
مراعاة فعلية لتلك الحقوق والحريات.
المادة السادسة والخمسون: «يتعهد جميع الأعضاء بأن يقوموا منفردين أو
مجتمعين بما يجب عليهم من عمل بالتعاون مع الهيئة لإدراك الأهداف المنصوص
عليها في المادة الخامسة والخمسين» [13] .
نعوذ بالله من الكفر وأهله، وصدق الله القائل: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ
وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ
الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة: 120) .
والقائل: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم
مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ]
(البقرة: 105) .
والقائل: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن
يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (البقرة: 217) .
والقائل: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ
مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (البقرة: 109) .
إن العالم الإسلامي وصل إلى حالة من التخلف والفرقة والشتات والضعف
والهوان قبل سقوط الخلافة وبعد سقوطها. ومقابل هذا الضعف والشتات والافتراق
انتعش الغرب الأوروبي، وربط شتات أحزمته وانقض على عالمنا الإسلامي فغزاه
في عقيدته، وثقافته وأخلاقه وتعليمه، وسياسته واقتصاده ونظمه وتشريعاته،
وربط معه العهود والمواثيق، وتربص به حتى قيده وحاصره ووعده ومناه، وفتح
له الأبواب لكي ينهل من معينه الملوث ويشرب منه زبده المحطم، ويمشي في ذيل
قافلته المسمومة بعد أن كان قائداً له في يومٍ من الأيام.
يقول سيرج لاتسن [14] في وصف الاستعمار الجديد: «لم يعد تعظيم الغرب
في خلق تواجد ملموس، أو في قوة تذل الناس بخشونتها وعجزها؛ لكنه يقوم على
قوى رمزية هيمنتها المعنوية أكثر مكراً إلا أنها أقل قابلية لإثارة المنازعات، وهذه
العوامل الجديدة للهيمنة هي: العلم، التقنية، والاقتصاد، والتصور، والخلاف
الذي تقوم عليه، لقد أصبحت التقنية وسيلة لخلق إيماني عالمي، فهي الأثر المادي
والتواجد المتطور للآلة الجديدة (العلم) . ولقد ساهم المبشرون المسيحيون
المنصرون كثيراً في نشر هذه العبارة الدنيوية» .
ويقول أيضاً في وصف الغزو الثقافي: «تنطلق موجات فيض ثقافية ذات
مذاق متميز من أقطار مركز الحضارة الغربية، وتغمر الكرة الأرضية في شكل
صور وكلمات وقيم أخلاقية، وضوابط قانونية ونظم سياسية، كما تتدفق نحو العالم
الثالث معايير للخبرات والضوابط الفنية التي أبدعتها وحدات خلاقة؛ وذلك عن
طريق وسائل الإعلام من صحافة، وراديو، وتلفزيون، وأفلام، وكتب،
وأسطوانات، وأجهزة فيديو.
إن هذا الفيض المتدفق من الإعلام لا يمكنه إلا أن يشكل رغبات المستقبلين له
وحاجاتهم وأنماط سلوكهم وعقلياتهم ونظم التعليم عندهم وأساليب حياتهم، إن هذه
الدعاية الماكرة وهي منحة لا تقاوم تشهد على الحيوية الفياضة للمجتمعات فائقة
التنمية، إلا أنها تخنق كل الإبداعات الثقافية عند المستقبلين السلبيين لتلك الرسائل
الإعلامية ... إن الإنسان يمكنه أن يتحدث هنا عن هيمنة ثقافية تمارسها الدول
الغنية، وأنه عن طريق المنح وليس غصباً أن أصبح مركز الحضارة في الغرب
يمارس سلطة غير عادية من الهيمنة والسيادة» [15] .
ويقول الشيخ بكر أبو زيد شفاه الله وعافاه في كتابه القيم (المدارس العالمية)
ص 5، 6:
«أما بعد: فإن المسلمين بعد انحلال وحدتهم عام (1342هـ) عاشوا بين
نازلتين حربيتين استعماريتين:
الأولى: استعمار الكفار لبلاد المسلمين في معركتهم الحربية الدموية وسلاحهم
المصلت على رقاب المسلمين؛ حتى احتلوا عامة ديار الإسلام ولم يبق منها رقعة
إلا دخلها الاستعمار سوى حرم الإسلام قلب جزيرة العرب فقد حماها الله منه؛ إذ لم
يحتلها استعمار كافر منذ طلوع فجر الإسلام حتى يومنا هذا بحمد الله تعالى، وأمام
هذا الاستعمار كان المسلمون بحمد الله صوتاً واحداً ضده، واستمرت جهودهم في
الجهاد والدفاع حتى أنقذ الله البلاد والعباد من استيلاء الكافرين، وكتب الله عليهم
الجلاء من بلاد المسلمين.
أما الثانية: فإن أعداء الله عباد الصليب وغيرهم من الكافرين أنزلوا
بالمسلمين استعماراً من طراز آخر: هو (الاستعمار الفكري) وهو أشد وأنكى من
حربهم المسلحة؟ فأوقدوها معركة فكرية خبيثة ماكرة وناراً ماردة وسيوفاً خفيفة
على قلوب المسلمين باستعمارها عقيدة وفكراً ومنهج حياة؛ ليصبح العالم الإسلامي
غربياً في أخلاقه ومقوماته، متنافراً مع دين الإسلام الحق، وكان أنكى وسائله
جلب (نظام التعليم الغربي) والمدارس الاستعمارية الأجنبية العالمية إلى عامة بلاد
العالم الإسلامي، ولم يبق منها بلد إلا دخلته هذه الكارثة سوى حرم الإسلام قلب
جزيرة العرب فقد حماها الله منها» .
ولقد أبانت المبشرة أثا مليجان عن هذا التوجه الغربي في قولها: «إن
المدرس أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي، وهذا التأثير يستمر
حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً ما قادة أوطانهم» .
وتقول عن كلية البنات بالقاهرة: «في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات
آباؤهن باشاوات وبكوات، وليس ثمة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد
من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي، وليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام
أقصر مسافة من هذه المدرسة» .
ويقول المبشر تكلي: «يجب أن نشجع إنشاء المدارس، وأن نشجع على
الأخص التعليم الغربي، إن كثيرين من المسلمين قد زُعزع اعتقادهم حينما تعلموا
اللغة الإنجليزية، إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي مقدس
أمراً صعباً جداً» .
يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله معقباً على هذا القول الماكر: «وهذا
واضح كل الوضوح في أن أمر التعليم على الصورة التي أرادوها، والتي أرادها
دنلوب وأمثاله هي نزع اعتقاد الشباب المسلم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه
صلى الله عليه وسلم والذي عبر عنه وليم جيفورد بلجروف فيما ذكرته آنفاً:
» متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي
يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلاّ محمد وكتابه «وخسئ المبشر
التالف» [16] .
ومصداق هذا ما كتبه المنصرون عن نشاط الجمعيات التنصيرية ودورها
الفعّال في بلاد العالم الإسلامي.
يقول المسيو ساتليه: «ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنياً قبل كل
شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من
فائدته، ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي
يقوم الرهبان المبشرون وغيرهم بها؛ لأن لهذه المشروعات أغراضاً اختصاصيّة،
ثم ليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على
الحكومة وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد؛
فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه، وهو غرض
لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية نظراً لما
اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة، وأنا
أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيّز الفعل ليبثّ في دين الإسلام التعاليم المستمدة
من المدرسة الجامعة الفرنساوية» [17] .
ويقول أيضا: «إن إرساليات التبشير الدينية التي لديها أموال وفيرة وتدار
أعمالها بتدبير وحكمة تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإسلامية من حيث إنها تثبت
الأفكار الأوروبية» . ثم يقول: «ولا شك أن إرساليات التبشير من بروتستانتية
وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس معتقديها، ولا يتم لها
ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية فتنشرها اللغات الإنجليزية
والألمانية والهولندية والفرنسية بحيث يحتك الإسلام بصحف أوروبا، وتتمهد السبل
لتقدم إسلامي مادي، وتقضي إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية
الإسلامية التي لم تحفظ كيانها إلا بعزلتها وانفرادها» . ثم يقول: «إنه مهما
اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث خططهم في الهدم؛ فإن نزع
الاعتقادات الإسلامية ملازم للجهود التي تبذل في سبيل التربية النصرانية.
والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإسلام سيمهد السبل لإعمال المدنية الأوروبية؛
إذ من المحقق أن الإسلام يضمحل من الوجهة السياسية، ولن يمضي غير زمن
قصير حتى يكون الإسلام في حكم مدينة محاطة بالأسلاك الأوروبية» .
يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله معلقاً على كلامه: «تأمل! ! هذا كلام
دارس خبير ينبغي أن تقرأه لفظاً لفظاً لأنه تخطيط شامل في ألفاظ قليلة» [18] .
ولقد حذر الشيخ محمود رحمه الله كثيراً من معاول الهدم الثلاثة التي هي
الاستشراق، والاستعمار، والتنصير، وهي وإن اختلفت في المسميات فالآثار
واحدة، والأهداف واحدة، والغايات واحدة، والوسائل واحدة وإن تنوعت؛ حيث
يقول: «فهذه الثلاثة متعاونة متآزرة متظاهرة وجميعهم يد واحدة؛ لأنهم إخوة
أعيان أبوهم واحد وأمهم واحدة ودينهم واحد وأهدافهم واحدة ووسائلهم واحدة ...
مرة أخرى لا تنسى ما حييت أن هذه الثلاثة إخوة أعيان لأب واحد وأم واحدة لا
تفرق قط بين أحد منهم» [19] .
ولقد نجحت معاول الهدم الماكرة الخبيثة في بث إرسالياتها ومنصريها
ومدرسيها، وتشييد مدارسها في أقطار العالم الإسلامي؛ فغيروا من بنيته العقلية،
وأفسدوا روحانيته، ومسخوا هويته الإسلامية رويداً رويداً إلا من رحم الله، وجلبوا
عليهم بخيلهم ورجلهم فشاركوهم في الأموال والأولاد والإعلام والتعليم والتقنية
والتخطيط؛ حتى أصبحنا نلهث ونلهف خلفهم في ميادينهم العلمية والعملية.
يقول محب الدين الخطيب رحمه الله عندما وصل إلى العاصمة «إستنبول»
«هال صاحب الترجمة عند وصوله إلى هذه البيئة الجديدة أن جميع أبناء العرب
من سوريين وفلسطينيين وعراقيين وحجازيين وغيرهم يجهلون قواعد لغتهم
وإملاءها فضلاً عن آدابها وثقافتها، ويتكلمون حتى فيما بينهم باللغة التركية،
وليس فيهم إنسان واحد له رسالة سامية في الحياة، ولا لأحدهم مطمع إلا أن يحذف
الكلام والكتابة باللغة التركية ويندمج في أهلها، ثم يكون مستعبداً للوظيفة التي
يرجو أن يحصل على المنزلة من طريقها» [20] .
ويقول عن تغريب مصر الفكري والثقافي: «وكان جوّ القاهرة الفكري
والثقافي في ذلك الحين متشبعاً برطوبة الأخذ بثقافة الغرب بكل ما فيها من خير
وشر وجد وهزل، وأكثر القائمين على الأندية والعاملين في الصحافة والمترددين
على الأندية والمجتمعات يعدُّون كل نزعة إسلامية رجعية وجموداً، وكان العالم
الإسلامي أصيب حينئذ بظهور الدعوة الكمالية إلى الفصل بين الدين وشؤون الدنيا،
وتردد صدى ذلك في مصر على صفحات كتاب» الإسلام وأصول الحكم «لعلي
عبد الرازق، وأنصاره الكثيرين في حزب الأحرار الدستوريين، وجمعية الرابطة
الشرقية، ونادي القلم، وفي كلية الآداب التي أعلن زعيمها طه حسين:» آن
للقرآن أن يقول، وللتوراة أن تقول ... والعلم غير مقيد بما يقولان «» [21] .
وقد أحدث الغزو الثقافي والفكري صراعاً بين أبناء العالم الإسلامي حين تنكَّر
بعضهم لبعض، وكفَّر بعضهم بعضاً، وتحزب بعضهم ضد بعض، وقتل بعضهم
بعضاً؛ كل ذلك من دسائس الاستعمار الخفية وأساليبه الماكرة الخبيثة، فشتت وحدة
المسلمين، ولوّث ثقافتهم، وأفسد عقولهم، وجعلهم شيعاً كل حزب بما لديهم
فرحون.
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: «كنا يومئذ في زمان صراع، وذلك منذ
نحو من خمسين سنة، نشأت طفلاً في صراع ثقافي، وصراع اجتماعي، وصراع
فكري، وصراع ديني، وصراع سياسي، وكان لكل صراع طابعه وألفاظه وكتّابه
وجماهيره، قلّت أو كثرت، وتمادت بي الأيام حتى عقلت، وذلك في مطلع الثورة
التي شملت مصر والسودان في سنة 1919م، وأظن أنه قد بقي في ذاكرتي شيء
من الألفاظ التي كانت تدور في هذا الصراع الضخم ... وعاصر هذا الصراع
صراع آخر بين الحضارة الغازية، وهي الحضارة الأوروبية المسيحية الوثنية،
وبين بقايا الحضارة الإسلامية العربية المتمثلة في السلفيين، وأهل البدع، وأهل
الأهواء من كل لون ونحلة، وكان هذا الصراع قائماً في الميادين كلها، في الميادين
الاجتماعية، والفكرية، والثقافية، والدينية، والسياسية جميعاً، وكان محرك هذا
الصراع هو الغازي المحتل بمدارسه وفرائضه التي فرضها علينا في مجتمعنا برمته؛
أعني أنه كان يستخدم وسائله السياسية الظاهرة، وهي هيئة» الاستعمار «
ووسائله الخفية، وهي» التبشير «بالمعنى الذي شرحته مرات، ودللت على أنه
ليس أمراً دينياً، بل كانت وسائله الثقافية والسياسية هي الغالبة عليه؛ لأنهم وجدوا
أن الثقافة التي ينتسبون إليها نابعة من الكنيسة في جميع أطوارها وممثلة للدين
المسيحي وللوثنية التي تسربت في خلاله على طول القرون، فالإلحاح على نشرها
نشراً منظماً عميقاً نشر لخلاصة المسيحية الأوروبية الوثنية بلا تحد كتحد الدعوة
إلى الدين صراحة وبلا مواربة، وهذه الخطة نفسها هي من نتاج النظام الكنسي
الذي عاشته الحضارة الأوروبية في جميع أطوارها السالفة» [22] .
إن هذا الطوفان من الغرب هدفه الأول والأخير القضاء على الإسلام في عقر
داره ومهد رسالته حتى لا ترفع له راية للجهاد تقوض عروش الباطل، وتنير
الطريق للمضللين وتنشر العدل في ربوع المعمورة وتخرج الناس من الظلمات إلى
النور، فنثر الغرب كنانته الموبوءة في بلاد الإسلام، فقدَّم رجلاً وأخَّر أخرى،
وفكَّر وقدَّر ثم فكَّر وقدَّر، وأرسل سهامه الملوثة والمتمثلة في معاول الهدم الثلاثة:
«الاستشراق، والتنصير، والاستعمار» ذات الوجوه الثلاثة المتماثلة، ولكل
معول أساليبه المتنوعة وأهدافه ووسائله وغاياته إلا أنها ذات غاية واحدة، وأعظم
شيء حققه في عالمنا الإسلامي زعزعة العقيدة في نفوس المسلمين، وتنحية
الشريعة عن واقع الحياة، وإحلال القانون محلها، وتشويه المفهومات والمبادئ
الشرعية في نفوس المسلمين، وصنع رجالاً على وفق ما يريد، ينفذون له كل
أساطيره القديم منها والجديد.
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: «فانظروا إلى ما فعل بنا أعداؤنا
المبشرون المستعمرون! لعبوا بديننا وضربوا علينا قوانين وثنية ملعونة مجرمة،
نسخوا بها حكم الله وحكم رسوله، ثم ربوا فينا ناساً ينتسبون إلينا، أُشربوا في
قلوبهم بغض هذا الحكم، ووضعوا على ألسنتهم كلمة الكفر: أن هذا حكم قاس لا
يناسب هذا العصر الماجن عصر المدنية المتهتكة! وجعلوا هذا الحكم موضع
سخريتهم وتندرهم، فكان عن هذا أن امتلأت السجون في بلادنا وحدها بمئات
الألوف من اللصوص، وبما وضعوا في القوانين من عقوبات للسرقة ليست برادعة
ولن تكون أبداً رادعة، ولن تكون أبداً علاجاً لهذا الداء المستشري» [23] .
نعم لقد أقصيت الأحكام الشرعية في حياة الناس في عالمنا الإسلامي بسبب
كيد الغرب الصليبي للإسلام والمسلمين، ووضع الخطط والأهداف والمراحل
الزمنية لتنفيذ ما يريد، كما وضع الوسائل المتعددة والمتنوعة لتحقيق أهدافه وتنفيذ
برامجه، ويبدو والله أعلم أن الغازي الصليبي «نابليون» هو أول من بدأ يتلاعب
بالشريعة في العصر الحاضر، عندما وصل إلى بلاد الإسلام «مصر» عام
1798م حيث خطا عدة خطوات، ثم تتابعت الخطوات بعده فيمن تولى من الإنجليز
والمسلمين؛ حيث أنشؤوا مدارس لدراسة تلك القوانين الكافرة، وأرسلت البعثات
إلى بلاد الكفر من أجل ذلك، حتى أبرزوا قيادات من أبناء المسلمين درست تلك
القوانين ورضيت بها وصارت تدافع عنها بل وتسعى لتحقيقها في أوساط المسلمين،
كما عقدوا المؤتمرات والندوات في داخل البلاد الإسلامية وخارجها لدراسة القانون
والفقه الإسلامي حتى يتم التواؤم بينهما، وأنه لا تعارض بين الأمرين [24] .
يقول سيد عبد الله علي: «لما كانت هذه القوانين دخيلة على أخلاقنا وعاداتنا
وقواعد ديننا لا سند لها في وجودها في بلادنا، وكان من أحدثوها يريدون لها الدوام
أنشؤوا لها مدرسة الحقوق لتفرخ وتربي عقولاً تهيئها لاعتناق هذه القوانين والدفاع
عنها، فتم لهم ذلك، ولكي يُقبل الناس عليها حرصوا كل الحرص على تقليد
خريجيها مناصب القضاء والنيابة، بل والمناصب الرئيسية في الدولة؛ فسار هذا
الحال على هذا المنوال ليومنا هذا، فنسي الناس بل والمتخرجون من جامعة
الحقوق قوانين بلادهم، وظنوا أن الدين الإسلامي للصلاة والزكاة والحج!» [25] .
ولقد نجح الغرب الكافر في أمور كثيرة في عالمنا الإسلامي من أهمها:
1 - تقليص وحدته الجغرافية بعد أن كان وحدة واحدة أصبح دويلات متنافرة
بل متناحرة، وزرع بينهم العداوة والبغضاء تحت سمعه ورعايته؛ وذلك بزرع
الحركات الهدامة كالبهائية والبابية والقاديانية والإسماعيلية وغيرها، وزرع
القوميات العربية وغيرها، والجمعيات والأحزاب السرية في قلب العالم
الإسلامي [26] .
2 - تسلط على أفكارهم بواسطة أمرين مهمين: الأول: التعليم. والثاني:
الإعلام بجميع وسائله المتعددة [27] .
3 - نجح في سن قوانين زينها لهم وهو يهدف من وراء ذلك إلى إقصاء
الشريعة الإسلامية؛ فتقبلوا قوانينه وأُشربوها وطبقوها [28] .
4 - سيطر على ثروات بلاد العالم الإسلامي، وأرهق دوله المغفلة بالديون،
ومن كان من دول العالم الإسلامي لديها ثراء اقتصادي فهو متحكم فيه لا يصرفون
منه إلا وفق رؤية الغرب وبأمره؛ ففي حالة نزاع بين دوله بعضهم ضد بعض فإن
الغرب الكافر يصدر أمراً بتجميد أرصدة تلك الدول، ولا يسمح لها أن تأخذ من
رصيدها شيئاً، كما حدث في أزمة الكويت والعراق فإن مجلس الأمن جمد أرصدة
الكويت ولم يسمح لها أن تصرف دولاراً واحداً.
5 - كما نجح الكافر من خلال إرسالياته المتعددة والمتنوعة في تشكيك
المسلمين في عدم صلاحية الشريعة الإسلامية لتطور الحياة، وأنها سبب في
تأخرهم وعدم تطورهم وتقدمهم، وأنه لا بد من الفصل بين شؤون الدين وشؤون
الدنيا [29] .
6 - ونجح الغرب الكافر في فك الترابط والتكاتف والتعاون بين دول العالم
الإسلامي؛ بحيث لو اعتدى على أي دولة من دول العالم الإسلامي فلا تستطيع
دولة أو الدول الأخرى أن تعينها أو تقف ضده، بل وصل الغرب الكافر إلى كسب
أصوات بعضهم ضد بعض، وما نراه ونسمع به ونقرؤه اليوم في واقعنا أكبر دليل
على ذلك.
7 - ونجح الغرب في رصد العمل الإسلامي فأخذ الحيطة والحذر من تمدده،
وكتب التقارير السرية عنه، وأخذ في تجفيف منابعه، ورصد تحركاته؛ فأخذ
يحذر منه، ويشوه حامليه والداعين إليه، واستعان في ذلك بالمنتسبين من أبناء
جلدته، والمتكلمين بلغته.
إن هذه الصورة المختصرة التي عرضناها لواقع العالم الإسلامي اليوم لهي
صورة محزنة ومؤثرة في النفوس، وإن القلب ليحزن، والعين لتدمع، ولا نقول
إلا ما يرضي ربنا: [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 147) . ومع هذا كله فإنني أذكّر
نفسي وإخواني المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن المستقبل للإسلام، وأنه سيبلغ
ما بلغ الليل والنهار، وأن الأزمة كلما اشتدت انفرجت، وأن الأحداث مهما كانت
لا تزيد المؤمنين إلا إيماناً وثباتاً على المبادئ في طريقهم إلى الله، ولنا في رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من إخوانه الأنبياء عليهم السلام الأسوة الحسنة،
وأن الابتلاء سواء كان تمحيصاً أو عقاباً سنّة من سنن الله لعباده [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر: 43) .
قال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم
مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) .
وقال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 142) .
وقال تعالى: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل
عمران: 139) .
وقال تعالى: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف: 9) .
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى أي
جمع وضم لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي
لي منها» [30] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا
يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل،
عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» [31] .
وقال أيضاً: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن
يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها
الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها
إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا
شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت» [32] .
__________
(*) عميد كلية القرآن الكريم سابقاً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(1) كتاب: السعودية وهيئة الأمم المتحدة، ص 125، 126.
(2) المصدر السابق، ص 127، 128.
(3) المصدر السابق، ص 137.
(4) المصدر السابق، ص 173.
(5) المصدر السابق، ص 164، 165.
(6) الاتفاقات الدولية الكبرى، د عبد الفتاح مراد، ص 109، 110.
(7) المصدر السابق.
(8) حصوننا مهددة من داخلها، ص 405 406.
(9) انظر كتاب: السعودية وهيئة الأمم المتحدة، ص 142 الفصل السابع (الإجراءات الخاصة بأوقات تهديد السلم والإخلال به) انظر: المادة (39/40/41/42/43) .
(10) آثار الحرب في الفقه الإسلامي، ص 95، تعليق.
(11) انظر حول هذا كتاب: أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد على الطوائف الضالة د العلياني (الباب الثالث والرابع) ، وكتاب: افتراءات حول غايات الجهاد , د محمد نعيم , وكتاب: ردود على أباطيل حول الجهاد , لعبد الملك البراك , وكتاب: فقه السيرة , للبوطي، ص 134 136.
(12) فقه السيرة، ص 133.
(13) السعودية وهيئة الأمم المتحدة، طلال محمد نور عطار، ص 149، 150.
(14) خبير بشؤون العالم الثالث، ومستشار بكلية الحقوق بجامعة ليل بفرنسا، ومعهد دراسات التنمية الاقتصادية.
(15) كتاب: تغريب العالم، ص 24، 28؛ نقلاً عن كتاب: التغريب طوفان من الغرب، للواء أحمد عبد الوهاب، ص 9 11.
(16) كتاب: أباطيل وأسمار، ص 253 255.
(17) مقدمة كتاب: الغارة على العالم الإسلامي، ص 13.
(18) أباطيل وأسمار، ص 186.
(19) المتنبي: رسالة إلى ثقافتنا، ص 49 50.
(20) مذكرات محب الدين الخطيب، ص 101.
(21) مذكرات محب الدين الخطيب، ص 170.
(22) كتاب: أباطيل وأسمار، ص 2 50 504.
(23) عمدة التفسير، 4/ 146، حاشية.
(24) من أراد أن يعرف تلك القوانين، وكيف تم إقصاء المحاكم الشرعية فلينظر كتاب «الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية» ، ص 64 146.
(25) كتاب: المقارنات التشريعية، ص 13 , نقلاً عن كتاب: الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية، ص 101.
(26) انظر: (حصوننا مهددة من داخلها) ، ص 345 377، و (المؤامرة الكبرى على بلاد الشام) من: ص 148 211، و (حاضر العالم الإسلامي) لشكيب أرسلان، 4/ 71 156.
(27) انظر: أباطيل وأسمار، لمحمود شاكر.
(28) انظر: كتاب الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية، د عمر الأشقر.
(29) انظر: تفصيل هذا في كتاب (حاضر العالم الإسلامي) لشكيب أرسلان، 3/ 343 364.
(30) رواه مسلم وأحمد وأهل السنن إلا النسائي.
(31) رواه ابن حبان وغيره.
(32) ابن أبي عاصم، ومسند أحمد رقم (17939) ، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 6 8.(174/84)
في دائرة الضوء
الإسلام والغرب تعاون أم مواجهة؟
د. محمد مورو
هناك الآن أكثر من اتجاه بشأن العلاقة بين الإسلام والغرب، أو الإسلام
وأمريكا باعتبارها الممثلة الكبرى للحضارة الغربية.
فهناك الغرب وأمريكا وبعض القوى المحلية عندنا تدعونا إلى الالتحاق
بالركب الحضاري الغربي، والاندماج في الحضارة الغربية والتخلي عن ديننا
وحضارتنا وقيمنا، أو على الأقل قصر علاقتنا به على العبادة الفردية ودعوى
الضمير، وهؤلاء يقولون إنه قد ثبت أن الحضارة الغربية حضارة عظيمة ويجب
أن تسود العالم، أو يقولون إنه لا أمل ولا فرصة للمواجهة ومن الأفضل أن ننصاع
لها، وهؤلاء فيما أحسب مخادعون؛ فلا الحضارة الغربية حضارة عظيمة، ولا
هي حضارة ذات أخلاق، ولا هي قدر مقدور لا يمكن الفكاك منه، فهؤلاء بالتحديد
يدعوننا إلى الاستمرار في أداء دور الضحية والذبيحة؛ وخاصة بعد أن شحذ
الجزار سكينه وأصيب الآكلون بنهم شديد، وفضلاً عن أننا سنكون مجالاً للنهب
فإنهم يطلبون منا أن نتخلى عن قيمنا وذاتيتنا ومبادئ ديننا وحضارتنا؛ وهذا بالطبع
مرفوض.
واتجاه آخر يقول إن الحضارات تتفاعل بعضها مع بعض أو تتزاوج، وإن
الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية؛ أي أنها استفادت من كل
الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة
الإنسانية كلها، وهذا الرأي خطير وبراق ولكنه خطأ، ولكي نعرف أنه خطأ ينبغي
علينا أن نفرق بين أمرين أحدهما «التفاعل والتزاوج» والآخر «التعاون» ؛
فالتفاعل والتزاوج لا يتم إلا بين حضارات أو إبداعات حضارية من عائلة واحدة
مثل الحضارة الرومانية واليونانية والإغريقية والجرمانية والسكسونية وهكذا..
وهذا التفاعل والتزاوج لا يتم بين حضارات من عائلات مختلفة؛ أي مختلفة نوعاً
وكماً، فلا يمكن مثلاً الحديث عن تمازج وتزاوج حضاري بين حضارة تقوم على
الوثنية كالحضارة الغربية وأخرى تقوم على التوحيد كالحضارة الإسلامية، والأمر
هنا أشبه بعمليات التطعيم التي تتم في النباتات، فلا بد لكي تنجح عملية التطعيم
هذه أن تكون بين أنواع معينة من النباتات تنتمي إلى عائلة واحدة، أو عائلات
متقاربة، ولكن هذا التطعيم يخفق تماماً إذا ما تم بين شجرتين لا تنتميان إلى عائلة
أو عائلات نباتية متقاربة.
وفي الحقيقة فإن إمكانية التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة
الغربية أمر مستحيل؛ لأن أي دراسة متعمقة للأساسات التي قامت عليها كل من
عائلة الحضارة الإسلامية وعائلة الحضارة الأوروبية لا تترك مجالاً للشك في أن
لكل منهما طريقاً مختلفاً وسياقاً خاصاً؛ ولهذا يهدف الحديث عن التواصل
الحضاري أو التفاعل أو التزاوج الحضاري إلى الإلحاق والتبعية الحضارية
باعتباره جزءاً أساسياً في عملية الإلحاق الاقتصادي والثقافي والسياسي والسيطرة
العسكرية.
وينبغي في هذا الصدد أن نلتفت إلى مجموعة من النقاط؛ فالداعون إلى
الاندماج في الحضارة الغربية ينسون نقطة أساسية، وهي أن الحضارة الغربية لن
تقبل الاندماج بها، وأن يصبح غيرها جزءاً منها يستمتع بالحقوق الحضارية معها،
إنهم فقط يعنون بالاندماج أن نظل تابعين، وأن نظل مجالاً للنهب دون مقاومة،
ففرنسا مثلاً التي أدمجت الجزائر فيها وجعلتها جزءاً من فرنسا لم تقبل أن تعطي
الجنسية الفرنسية للجزائريين مثلاً، ولم تقبل أن يكون لهم حقوق الانتخاب نفسها
التي للفرنسي مثلاً!
والداعون إلى التزاوج والتفاعل الحضاريين مع الحضارة الغربية ينسون
الظروف المشبوهة التي ظهرت فيها مثل هذه الدعوة، فهذا الموضوع لم يطرق
بعيداً عن غايات ذات علاقة بالصراع الدائر بين القوى الاستعمارية والشعوب
المقهورة والمستضعفة، فعندما طرح منظرو أوروبا هذا الموضوع كانوا في أغلبهم
يرمون إلى سيادة الحضارة الأوروبية على العالم بكل ما تحمل من فلسفات وقيم
ومعايير ومفهومات؛ وذلك من خلال الترويج للحضارة الأوروبية وضرب
الحضارات الأخرى، أو طمسها، أو الإنقاص من قدرها أو خلطها بما يلغيها،
وهو أمر يؤدي بالشعوب إلى فقدان هويتها ومقومات شخصيتها الأساسية، وإلى
ضرب عوامل وجودها المادي والثقافي المستقل، فتصبح مكشوفة أمام طغيان
المستعمرين ثم تتحول إلى تابع ذليل تلتقط الفتات، وتقف على العتبات دون السماح
لها بالدخول إلى صدر البيت.
والشيء الوحيد الممكن في العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية
ولو من الناحية النظرية هو «التعاون» على أساس استقلال كل منهما، وعلى
أساس انفراد كل منهما بخصائصها الذاتية المتميزة دون أن تحاول السيطرة أو ظلم
أو نهب الأخرى، والإسلام بالطبع يرحب بالتعاون ويدعو إليه في إطار الاحترام
المتبادل والعلاقات المتكافئة، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية التخلي عن النهب
والظلم والعنصرية والعنف من أجل هذا التعاون؟ !
لنأخذ مثلاً مجال العلوم الطبيعية، وهذه الأطروحة تنقسم إلى قسمين: قسم
خاص بالحقائق العلمية والمكتشفات العلمية، وقسم خاص بتوجيه هذه العلوم في
اتجاه معين؛ أي لإنتاج سلعة ضرورية مثلاً أو كمالية؛ للقضاء على مرض أو
لنشر مرض، لإنتاج أدوات تسعد الإنسان أو لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، لإصلاح
البيئة والمحافظة عليها أو لتخريبها وتلويثها.
أي أن هناك شقاً علمياً وشقاً قيمياً، والحضارة الإسلامية مثلاً عندما كانت
متقدمة علمياً، كانت توجه هذه العلوم لإسعاد الإنسان وتلبية حاجات كل البشر، بل
كانت تسعى سعياً لنشر العلوم ولا تحجبها عن الآخرين؛ لأن حبس العلم جريمة في
الفقه الإسلامي. أما الحضارة الغربية فإنها عندما تقدمت علمياً استخدمت منجزات
العلم في تحقيق أكبر وسائل النهب وقهر الشعوب الأخرى وظلمها، بل إنها أيضاً
تحجب العلم عن الشعوب الأخرى، بل تحاكم من يجرؤ على نقل شيء منها لبلاده
«قضية الدكتور المهندس عبد القادر حلمي مثلاً» ، بل تغتال كل من ينجح علمياً
في البلاد الأخرى.
على أي حال من الناحية النظرية يمكن التعاون في الاستفادة من العلوم
الطبيعية ونقلها، دون ربط ذلك بغايات وأهداف استخداماتها؛ أي في الشق العلمي
دون الشق القيمي، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية ذلك وهي التي تغتال العلم،
وتحرم نقل العلم وتحاكم من يفعل ذلك، بل تضرب أي نهضة علمية في أي مكان
خارج دائرتها الحضارية؟ !
نؤكد مرة أخرى أن الإسلام يحض على التعاون، ويحرص عليه، ولكن
التعاون ليس الاندماج والتزاوج والإلحاق، التعاون يقوم على استقلال حضاري
كامل؛ فالحضارة الغربية عندما نقلت العلوم الطبيعية من الحضارة الإسلامية أخذتها
دون شقها القيمي، أخذتها وهضمتها ووجهتها وفقاً لمعاييرها الحضارية، وجهتها
للتدمير والتلويث والإفساد وتحقيق أكبر قدر من آليات النهب، أما نحن فمن
المفروض أن نأخذ العلوم الطبيعية من الغرب دون شقها القيمي فنهضمها، وتصبح
جزءاً من شخصيتنا الحضارية المستقلة فنوجهها طبقاً لمعاييرنا وقيمنا الحضارية في
إسعاد الإنسان وتحقيق الرفاهية لكل البشر وليس لنا وحدنا.
هل هناك فرصة للتعاون مع الغرب؟
قلنا: إنه لا يمكن ولا نقبل لا الإلحاق الحضاري مع الغرب، ولا التزاوج
والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية؛ لانتمائهما إلى عائلتي
حضارتين مختلفتين، ولأن هذا في النهاية يعني التحول إلى تابع ذليل يظل خاضعاً
للنهب والسيطرة. وقلنا إن العلاقة الصحيحة بين الحضارة الإسلامية والحضارة
الغربية هو التعاون على أساس الاستقلال الحضاري الكامل والشخصية الحضارية
المستقلة؛ ولكن هل هناك فرصة للتعاون؟ هل يقبل الغرب هذا التعاون؟ هل
تاريخنا معه يسمح بذلك؟ وهل تركيبة الحضارة الغربية تسمح بذلك؟
إن تركيبة الحضارة الغربية تقوم على النهب والقهر والعنصرية، ورخاء
ورفاهية أهل الحضارة الغربية جاء من نهب ثروات الشعوب الأخرى واسترقاق
أهلها، ولكي تستمر هذه الرفاهية لا بد أن يستمر النهب والقهر، فهل أهل
الحضارة الغربية مستعدون للتوقف عن النهب والقهر؛ والعنصرية؟ هل هم
مستعدون للتخلي عن رفاهيتهم القائمة على ثروات الآخرين من أجل التعاون معنا أو
مع غيرنا؟
أعتقد أن ذلك صعب، بل يبدو مستحيلاً، ومن ثم فإمكانية التعاون بشروطها
الصحيحة صعبة أيضاً، بل تبدو مستحيلة، حتى إذا حدثت المعجزة وتخلى أهل
الشمال عن القهر والعنف والعنصرية؛ فماذا يبقى من الحضارة الغربية؟ إنهم
يسقطونها تماماً، إنهم يفقدونها سماتها الأساسية؛ أي يقبلون الاندماج في نمط
حضاري آخر، وفي حالة دخولهم في النمط الحضاري الإسلامي مثلاً، فإننا لن
نعاملهم معاملة التابع، بل معاملة الإسلام التي تقول إنهم أصبحوا مثلنا تماماً لهم ما
لنا وعليهم ما علينا.
وإذا كانت تركيبة الحضارة الغربية لا تسمح بالتعاون إلا بانتفاء خصائص
الحضارة الغربية ذاتها، ومن ثم فالتعاون هنا صعب ويكاد يكون مستحيلاً، ورأي
أهل الحضارة الغربية فينا وموقفهم منا لا يسمح بقيام مثل هذا التعاون؛ فهم
ينظرون إلينا نظرة صليبية عنصرية حاقدة لا تقبل بأقل من تدمير حضارتنا تماماً.
وفي قول لا يخلو من الدلالة يقول المعلق السوفييتي فاسلييف: «إن أمريكا الآن
تنظر إلى العالم الإسلامي بوصفه إمبراطورية الشر الجديدة التي حلت محل الاتحاد
السوفييتي السابق الذي كان إمبراطورية الشر القديمة، والتي تركزت كل الجهود
الأمريكية خلال أكثر من أربعين عاماً للقضاء عليها» .
وهذا المعلق السوفييتي فاسلييف استخدم في الحقيقة المصطلح المستخدم دائماً
من قبل الأوروبيين والأمريكيين تجاهنا؛ فالبابا أوربان الثاني الذي فجر الحروب
الصليبية قال في مجمع كلير مونت في سنة 1095م: «إن إرادة الرب تحتم على
المسيحيين تخليص بيت المقدس من أيدي إمبراطورية الشيطان» ، وعندها خر
الكهنة الحاضرون راكعين تحت قدمي البابا!
والبارون دي كارافو يقول: «أعتقد أن علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق
العالم الإسلامي وتحطيم وحدته الروحية مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات
السياسية والعرقية، دعونا نمزق الإسلام بل نستخدم من أجل ذلك الفِرَق المنشقة
والطرق الصوفية، وذلك لكي نضعف الإسلام؛ لنجعله عاجزاً إلى الأبد عن صحوة
كبرى» [1] .
ويقول بوجين روستو اليهودي: «إن الحوار بين المسيحية والإسلام كان
صراعاً محتدماً على الدوام، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب؛ أي
خضعت الحضارة الإسلامية للحضارة الغربية، والتراث الإسلامي للتراث المسيحي،
وتركت هذه آثارها البعيدة في المجتمعات الإسلامية» [2] .
يقول لورانس براون: «لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد الاختبار
لم نجد مسوغاً لهذا الخوف، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر
الأصفر وبالخطر البلشفي إلا أن هذا التخويف كله لم نجده كما تخيلناه، إننا وجدنا
اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهِد لهم عدونا اللدود، ثم رأينا
البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر» الصين، اليابان «فإنها ليست خطيرة
لهذه الدرجة، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع
والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي» [3] .
ويقول مورو بيرجر في كتابه «العالم العربي» : «لقد ثبت تاريخياً أن قوة
العرب تعني قوة الإسلام؛ فليدمروا العرب ليدمروا بتدميرهم الإسلام» [4] .
ويضيف مورو بيرجر: «إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية
ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب، بل بسبب الإسلام، ويجب
محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب؛ لأن قوة
العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره» [5] .
ويقول ج. سيمون: «إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر
وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية» [6] .
ويقول سالازار دكتاتور البرتغال السابق: «إن الخطر الحقيقي على
حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم» ! ولما سأله
أحد الصحافيين: ولكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم عنا، أجابه: «أخشى أن
يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا» [7] .
ويقول ريتشارد هرير دكمجيان: «إن قلة فقط خارج نطاق العالم الإسلامي
كانت قادرة على توقع انبعاث إسلامي في البيئة المعاصرة، وإن ضعف البصيرة
في مجال التصور الذي أحدثته المادية الغربية والماركسية قد أعمى بقوة كل العلماء
ورجال الدين الذين مالوا إلى استبعاد قوة الإسلام أو التقليل من شأنها» [8] .
ويحذِّر المفكر الألماني باول شمتز قائلاً: «سيعيد التاريخ نفسه مبتدئاً من
الشرق، عوداً على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في
الصدر الأول للإسلام، وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته
العسكرية، وستثبت هذه القوة وجودها، إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها
والاستفادة منها، وستقلب موازين القوى لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها
من تيارات القوى العالمية» [9] .
ويقول المفكر الإنجليزي هيلد بيلوك: «لا يساورني أدنى شك في أن
الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين، وتتماسك أطرافها تماسكاً قوياً، وتحمل
في طياتها عقيدة مثل الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب بل ستكون أيضاً
خطراً على أعدائه» [10] .
وما بين الحقد على الإسلام، وكراهيته، والدعوة إلى تدميره والقضاء عليه
أو التخويف منه ومن خطره التي تسود الروح الفكرية الأوروبية على اختلاف
مدارسها؛ هل هناك فرصة للتعاون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية؟
الإجابة: هذا صعب بالطبع.
وإذا تركنا كل ما سبق والتفتنا قليلاً إلى التاريخ، نجده مفعماً بالصراع الدامي
الذي خاضته الحضارة الأوروبية ضد الإسلام للقضاء عليه، وخاضه الإسلام دفاعاً
عن نفسه، ونشراً لقيمه، وإنقاذاً للعالم من الظلم والطغيان.
خاض الإسلام معارك شرسة ضد الحضارة الأوروبية المتوحشة منذ اللحظة
الأولى، واستطاعت جيوش الإسلام أن تنتصر في اليرموك وعمورية
وحطين، ثم بدأت أوروبا تستعيد المبادرة فظهرت الحروب الصليبية بدءاً من سنة
1095م وحتى 1294م في المشرق العربي، أما في المغرب العربي فإن الإسلام
استطاع أن يفتح إفريقيا والأندلس.
واستمرت المعارك مع الحضارة الغربية في الأندلس ثمانية قرون، وفي بلاد
المغرب العربي ألف عام [11] قبل دخول الأندلس وأثناء الحكم الإسلامي للأندلس
وبعد سقوط الأندلس، ولم يتوقف الصراع مع الحضارة الغربية لا في الشرق ولا
في الغرب، ففي الشرق ظهرت الخلافة العثمانية واستطاعت أن تنقذ العالم
الإسلامي من السقوط، ودخلت في معارك طاحنة مع أوروبا انتهت بفتح
القسطنطينية 1453م على يد محمد الفاتح، وانتشرت جيوش الإسلام في أوروبا
مرة أخرى تعاود الهجوم، وتعرضت الخلافة العثمانية إلى ضغط رهيب انتهى
بسقوطها، وقبل ذلك بقليل بدأت أوروبا حملتها الصليبية الثانية على العالم والمسماة
باسم الاستعمار بدءاً من هجوم نابليون 1798م وانتهاء بسقوط معظم بلاد العالم
الإسلامي في قبضة الاحتلال الأوروبي، وفي المغرب العربي ظلت أوروبا ترسل
حملاتها الصليبية إلى المغرب بعد سقوط الأندلس، فتعرضت الجزائر وحدها إلى
100 حملة صليبية في أقل من 300 عام؛ بعضها برتغالي والآخر فرنسي أو
إنجليزي أو إسباني أو ألماني أو بلجيكي بل وأمريكي، وانتهى الأمر بسقوط
الجزائر في يد الاستعمار الفرنسي عام 1830م، ثم تبعها المغرب وتونس.
إذن فبرغم أننا لا نرفض التعاون مع الحضارة الأوروبية في إطار الاستقلال
الحضاري لكل منا، فإنه لا التركيبة الحضارية الغربية تسمح بذلك، ولا رأي
قادتها فينا وأهدافهم تجاهنا تسمح بذلك، ولا تداعيات التاريخ القديم والحديث تسمح
بذلك؛ وعليه لكي نعيش، ولكي لا نخضع ونذوب وننتهي لا بد من المواجهة.
حرب شاملة في مواجهة حرب شاملة:
إذن فالمعركة حتمية، ولا سبيل هناك إلا المواجهة، أو الموت، حتى
المواجهة مع الهزيمة ربما تعطينا الفرصة في الصمود والحفاظ على البذور صالحة
تحت التربة؛ لتعود من جديد لتثمر في مرحلة أخرى، ولكن الانصياع والخضوع
لا يعني فقط خسائر هائلة في الحاضر بل يعني تدمير المستقبل؛ لأنها تطال البذور
الكامنة تحت التربة.
والمعركة هنا معركة حضارية شاملة، أي سياسية واقتصادية واجتماعية
وعسكرية وثقافية، والغرب يستخدم معنا كل الوسائل السياسية والعسكرية،
والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية أيضاً، وما دام الغرب يشن علينا حرباً شاملة
فلا بد من مواجهته بحرب شاملة: نواجهه بالكفاح؛ حتى إذا سلمنا بصحة مقدمة
هؤلاء وهي أن الغرب وأمريكا أقوياء بدرجة لا يمكن مواجهتها، فإن النتيجة التي
توصلوا إليها خطأ؛ لأن معنى مثل هذه القوة الهائلة للغرب وأمريكا أن الخضوع
لهم سيؤدي إلى النهاية والموت والاندثار، وأن الخضوع لن ينقذنا ولن يحقن دماءنا،
بل إن الخضوع سيتسبب في خسائر أكثر من المواجهة حتى لو كانت غير متكافئة،
على الأقل فالمواجهة سوف تقلل الخسائر، وسوف تسمح للبذور الكامنة تحت
التربة بالبقاء بعيداً عن يد الغرب؛ فتعود لتثمر في فرصة أخرى مستقبلية.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارة الغربية تحمل في داخلها الكثير من نقاط الضعف
التي ينبغي الصمود واستثمارها أو الصمود وانتظار أن تؤدي تلك المواقع الضعيفة
في جسد الحضارة الغربية إلى انفجار داخلي، فالإنسان في الحضارة الأوروبية مثلاً
يفتقد التوازن بين حاجاته المختلفة، ويفتقد التوازن في علاقاته مع الجماعة، وهذا
يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية، والجريمة، والانحراف والشذوذ الجنسي،
وزيادة استهلاك الخمور والمخدرات إلى حدود أصبحت تهدد حياة مئات الملايين من
سكان أوروبا وأمريكا، وهو ما يمكن أن يؤدي على المدى المتوسط أو الطويل إلى
انهيار الحضارة الغربية من داخلها.
أضف إلى ذلك أن الرغبة في تحقيق أقصى قدر من النهب وعدم التورع عن
استعمال أقصى قدر من العنف، ومع تزايد قوة الأسلحة الفتاكة يجعل العجلة
العسكرية تدور بلا توقف؛ مما يجعلها في النهاية قابلة للانفجار من داخلها أو
بالتصادم بعضها مع بعض، وإذا كانت الحرب العالمية الثانية التي نشأت بسبب
التنافس على الربح بين دول كلها تنتمي إلى الحضارة الغربية إذ كانت قد أدت إلى
قتل 62 مليون إنسان معظهم من الأوروبيين؛ فكم يا ترى سوف يقتل في المعركة
المسلحة والحرب الشعبية؟
وعلينا أن نواجهه بالوسائل السياسية، ونواجهه برفض الخضوع لوسائل
النهب التي يمارسها من خلال بناء نمط اقتصادي مستقل وغير تابع يعتمد على قوانا
الذاتية، ويقطع تماماً خيوط التبعية مع الغرب، ونواجهه أيضاً بتصفية كل مراكز
الثقافة المغتربة وكل أشكال الاختراق الثقافي، ونواجهه بثورة ثقافية شاملة تعتمد
على تأكيد قيمنا الحضارية، ونواجهه بالوحدة ورفض التجزئة التي فرضها علينا،
ونواجهه بتعبئة شعبية شاملة، ونواجهه بحرب حضارية شاملة في مواجهة حرب
حضارية شاملة.
ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة خطيرة، وهي أن أخطر هذه المواجهات هي
على الجانب الثقافي؛ لأن الاختراق الثقافي يدمر حياتنا من الداخل، ويقلل قدرتنا
على المواجهة، ويضرب فينا قيمنا الإيجابية مثل الجهاد والوحدة والرفض،
ويجعلنا عاجزين عن المواجهة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولا
بد أن ننتبه إلى أنه ما دامت الحرب حضارية وشاملة فليس من المعقول مثلاً أن
نستخدم قيماً ووسائل واستراتيجيات مستمدة من الغرب لمحاربته بها، ومهما كانت
برَّاقة فإنها لن تجدي في مواجهته، فكيف أواجهه على أرضيته الثقافية والحضارية؟
لا بد أن أواجهه بأساليب وتكتيكات وقيم ووسائل واستراتيجيات مستمدة من ذاتنا
حتى تظل قادرة على الاستمرار.
هناك من يروجون أنه لا قدرة ولا سبيل إلى مواجهة الغرب وأمريكا، وأن
توازن القوى مختل تماماً لصالحهم، وأنه لا داعي للمواجهة لأنها لن تفيد، وأنه من
الأفضل الخضوع أو البحث عن سبيل للتفاهم، وإذا كنا ندرك أنه لا سبيل للتفاهم
فإن المتاح وفقاً لمنطق هؤلاء هو الخضوع فقط، مع العلم أن القدرات التدميرية
لتلك الدول أصبحت هائلة بالمقارنة بمثيلتها أثناء الحرب العالمية الثانية، وبالإضافة
إلى ذلك فإن الرغبة في الربح دون وازع أخلاقي ولا مراعاة للتوازن البيئي يمكن
أن تؤدي إلى كارثة تهدد كوكب الأرض بأكمله.
ويلخص الأستاذ منير شفيق في كتابه: «الإسلام في معركة الحضارة» نقاط
الضعف في الحضارة الغربية كما يلي:
«1 - التطور العام غير المتوازن بالنسبة إلى مختلف المجالات؛ فقد تكثف
في المجالات المادية، واختل على مستوى العلاقات الإنسانية والأخلاقية؛ مما
يؤدي في النهاية إلى الإسراع بسقوطها؛ لأن حالها يصبح كحال الذي يقف على قدم
واحدة، فمهما بلغت قدمه من القوة إلا أنها ضعيفة حين يتعرض الجسد كله إلى هزة
قوية.
2 - اتسعت الهوة بين أصحاب تلك الحضارة والغالبية العظمى من شعوب
العالم؛ مما دفع بها إلى مواجهة قوى لا قبل لها بها، فالأقلية الظالمة مهما قويت
وتمكنت تظل ضعيفة أمام قوة الأغلبية المظلومة صاحبة الحق، فالتضاد مع حقوق
غالبية الشعوب ومصالحها يؤدي إلى انهيار تلك الحضارة مهما طال الزمن.
3 - التآكل الداخلي يشكل سمة أساسية مميزة لمجتمعات الحضارة الفرنجية
سواء أكان ذلك على مستوى المجتمع منفرداً أم على مستوى صراع تلك المجتمعات
فيما بينها، إن الصراع على امتلاك القوة والسيطرة والتنازع لامتلاك الثروة يؤديان
بالإسراع بعملية التآكل الداخلي.
4 - إن إطلاق الغرائز والنزعات البهيمية وانتشار الفساد والانحلال قد يصل
في تلك الحضارة إلى ضعف داخلي شديد يجعلها غير قادرة حتى على الاستفادة من
قوتها المادية؛ مما قد يكرر صورة الجندي الروماني الذي ربط بالسلاسل لكي لا
يفر في معركة اليرموك، على الرغم من الكثرة العددية للرومان في تلك المعركة،
وقوة دروعهم، وطول رماحهم، ومضاء سيوفهم، وفراهة خيولهم.
وقد يقول قائل: إن الحضارة الغربية يمكن أن تعالج نقاط ضعفها أو تتخلص
منها ومن ثم تجدد نفسها، وهذا القول يعكس جهل أصحابه بطبيعة الحضارة الغربية
وجوهرها، وطبيعة نقاط الضعف فيها وجوهرها؛ لأن نقاط الضعف هنا هي من
صميم الحضارة الغربية وجوهرها وليس عارضاً عليها ولا ناشئاً من عوامل جانبية
أو إهمال من القواد أو غيرها؛ إنها تنبع من داخلها ومن صميمها بطريقة تلقائية
وحتمية؛ بحيث إنه من المستحيل عليها معالجتها أو التخلص منها، وإذا حاول أهل
الحضارة الغربية التخلص من تلك العيوب فإنهم سيتخلصون من الحضارة الغربية
ذاتها.
فمثلاً إن السعي لتحقيق أقصى درجات القوة العنيفة المادية من أجل السيطرة
على العالم ونهب ثرواته بلا حدود يجعل تلك الحضارة تدوس على كل القيم
والمعايير التي تتعارض مع هذا السعي، أو بتعبير آخر إن ذلك السعي يسخر كل
شيء من أجله، وهذا في حد ذاته يسمح بالتفوق في مجالات محدودة، وهذه نقطة
قوة أساسية في الحضارة الغربية، وهي أيضاً سبب انهيارها المتوقع في مجالات
أخرى، المجالات الأخلاقية والنفسية والإنسانية واندلاع أشد الصراعات الداخلية
والخارجية؛ مما يشكل بدوره نقطة الضعف المركزية في هذه الحضارة. إن نقطتي
القوة والضعف المتولدتين عن تلك السمة الأساسية في الحضارة الغربية سيصلان
في نهاية المطاف إلى تدميرها إن لم يعرضا مستقبل الإنسانية كلها إلى خطر قريب
من شبه الإبادة الجماعية» [12] .
ومثل آخر إنه إذا حاول نظام حكم عنصري التخلص من عنصريته، فإنه في
الحقيقة يتخلص من نفسه؛ لأن العنصرية هنا هي التي شيدت بناءه، وهي التي
تسمح له بالاستمرار، فلولا النهب والاسترقاق والفصل العنصري لما كان هذا
النظام العنصري قد نشأ، ولما كان حقق لنفسه هذا الرخاء، ولما استطاع أن
يستمر لحظة بعد التخلص من العنصرية.
__________
(1) الدراسات الاستعمارية في الإحياء الإسلامي في القرن الـ 19 مروان بحيري.
(2) أمتنا والنظام العالمي الجديد، عبد الوارث سعيد.
(3) التبشير والاستعمار، د مصطفى الخالدي، ود عمر فروخ.
(4) قادة الغرب يقولون، جلال العالم، المختار الإسلامي.
(5) قوى الشر المتحالفة، محمد محمد الدهان، دار الوفاء.
(6) د عمر فروخ، مرجع سابق.
(7) جلال العالم، مرجع سابق.
(8) الأصولية في العالم العربي، ريتشارد هربر، وكمجيان، ترجمة عبد الوارث سعيد، دار الوفاء.
(9) أمتنا والنظام العالمي الجديد، باول شمنز، نقلاً عن عبد الوارث سعيد.
(10) المرجع السابق، نقلاً عن عبد الوارث سعيد.
(11) يطلق عليها أهل الغرب حرب الـ (ألف عام) .
(12) الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر، منير شفيق.(174/92)
دراسات إعلامية
نحن والمكر الإعلامي
خالد أبو الفتوح
في مقال سابق نشر بعنوان (هنا واق الواق) [1] كنت قد استعرضت صورة
من صور المكر الإعلامي المنتشرة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ثم
ذيلت المقال بشهادة لأحد المفكرين الغربيين على افتقار أجهزة الإعلام الغربي إلى
الحياد والنزاهة، موجهاً كلامي إلى المخدوعين بهذا الإعلام من المصابين بداء
التلقي من الغرب والثقة العمياء به.
منذ ذلك الحين وصور هذا المكر تشاغبني بين الفينة والأخرى آبية ألا أهنأ
بسلامة صدر تجاه وسائل الإعلام التي تصدر عنها هذه الصور، ولا تجاه القائمين
عليها ومن خلفهم من علمانيين ومتغربين مجاهرين أو مستترين.
ومنذ ذلك الحين أيضاً بدا لي أن (مساحة) المخدوعين بهذا الإعلام ممتدة
أكثر من مدى الواق ع الافتراضي (في ذهني على الأقل) ؛ حيث تبين أنها
تتجاوز دائرة (المصابين بداء التلقي من الغرب والثقة العمياء به) لتتعداهم إلى
أفراد يفترض أنهم محصنون ضد الحمَّى الإعلامية الخبيثة.
مكر أم مؤامرة؟
وقبل أن أستعرض بعض نماذج لصور هذا المكر وأساليبه أطرح تساؤلاً يثار
كثيراً في مثل هذه الموضوعات، وفحواه يقول: ألا يمكن أن يكون هذا (المكر
الإعلامي) ما هو إلا نتاج خيالات ذهن الكاتب الذي قد تؤثر عليه تفسيرات نظرية
المؤامرة؟
وبداية أستطيع القول: إن نفي وجود المؤامرة على الإسلام وأهله كليةً هو
نوع من المؤامرة، وإن من الوعي المتقدم الانتباه إلى ما يحيكه ويخطط له أعداء
دين الله.. ولكن في الوقت نفسه فإن تحول هذا (الوعي!) إلى نوع من الأوهام
والهواجس المحضة التي لا تؤسس على حجج عقلية أو قرائن مادية، والتي لا
ينظمها إطار منطقي.. هو نوع من المرض الذي قد يصيب هذا الوعي في مقتل.
والقرآن الكريم يسجل لنا رسوخ المؤامرة في سلوك النخب الكفرية، ليس
فقط تجاه المسلمين بل حتى تجاه أقوامهم وأتباعهم، وهذا ما ينطق به مستضعفو
الكافرين عندما يتبرأ منهم مستكبرو قومهم في الآخرة بقولهم لهؤلاء المستضعفين:
[أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ] (سبأ: 32) ؛
فيلمس المستضعفون الحقيقة بعد فوات الأوان: [بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا
أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا] (سبأ: 33) .
فهذا المكر الذي نسميه (المؤامرة) صفة ثابتة راسخة في هذه النخب:
[وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ]
(إبراهيم: 46) ، [وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً] (نوح: 22) ، [قُلْ سِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ * وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي
ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ] (النمل: 69-70) ، وقد يخرج هذا المكر في صورة
خطط وأعمال فعلية كيدية: [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً] (الطارق: 15-
16) ، [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]
(آل عمران: 120) .
إدارة الكذب والتضليل:
ويشهد التاريخ القديم والحديث والمعاصر أن هذه النخب لم تتخل يوماً عن
الانخراط في مؤامرة لتحقيق مآربها، ولم تخلع عنها يوماً رداء ذلك المكر.. ومن
أقرب ما قرأناه حول ما نحن بصدده (المكر الإعلامي) ما سبق أن نشرته وسائل
الإعلام [2] حول تشكيل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) مكتباً باسم (مكتب
التأثير الاستراتيجي) ، وهو مكتب أنشئ بعد أحداث سبتمبر في أمريكا، ويحيط به
الغموض والسرية، وقد قدرت ميزانيته بمئات الملايين من الدولارات (يدخل فيها
بالطبع شراء ذمم إعلامية) ، ومهمته كما ذكرها مسؤولون أمريكيون: «تزويد
وسائل الإعلام الأجنبية بالأنباء؛ حتى لو كانت كاذبة، وذلك كجزء من حملة جديدة
للتأثير على المشاعر العامة وصناع القرار! في الدول الصديقة! وغير الصديقة
على حد سواء» .
وكان هذا المكتب قد بدأ توزيع مقترحات سرية تدعو إلى حملات شرسة لا
تقتصر فقط على استخدام وسائل الإعلام الأجنبية والإنترنت وإنما تشمل كذلك
(العمليات السرية!) ، وأحد هذه المقترحات كان ينص على دس المواد الإخبارية
وإرسالها إلى وسائل الإعلام الخارجية عبر جهات أخرى لا صلة لها بالبنتاجون!
وقد أثارت (التسريبات) التي نشرت عن هذا المكتب حفيظة بعض الصحفيين
والمسؤولين الذين أطلقوا عليه اسم: (مكتب التضليل الإعلامي) أو (مكتب
استراتيجية تخطيط الكذب) ، كما اتهم المعهد الدولي للصحافة في تقرير أعد في
فيينا أمريكا بالتلاعب بالأنباء، وحذر من قيام النظم الديمقراطية باستغلال حرب
مكافحة الإرهاب من أجل كَمِّ أفواه وسائل الإعلام؛ مما حمل وزير الدفاع الأمريكي
في النهاية على الإعلان عن إغلاق هذا المكتب لاحقاً، وهو الإعلان الذي عده
بعض المراقبين جزءاً من إجراءات سرية المكتب الغامض.
بالطبع فإن الكذب والتضليل الإعلامي لم يكن معدوماً قبل الإعلان عن وجود
هذا المكتب، ولم يتوقف بعد الإعلان عن إغلاقه، ولكن مغزى وجود هذا المكتب
هو أن دفق الكذب والتضليل بلغ حداً في هذا الظرف استلزم معه أن تتفرغ جهة
موحدة ومتخصصة لإدارة تلك الأكاذيب وتنظيمها؛ حتى تصب بفاعلية لتحقيق
الهدف المنشود للطاقم السياسي الأمريكي.
فن تزييف الحقائق:
هذا على مستوى المصدر الأول للمادة الإخبارية الإعلامية، فإذا ما افترضنا
أن هذه المادة خرجت بدون تزييف، فإن المكر الإعلامي لا يختفي؛ حيث تتولى
وسائل الإعلام المشبوهة انتقاء المادة المعروضة على جمهورها، أو إعادة صياغة
هذه المادة، أو إبراز بعض الجوانب فيها والتركيز عليها، أو إهمال جوانب أخرى
وتهميشها، أو استخدام صور فوتوغرافية ذات دلالة واضحة أو خفية للتأثير على
المتلقي ... وغيرها من أساليب إعلامية معروفة؛ لتوجيه هذا المتلقي وجهة محددة،
والتأثير عليه في توجهاته وقناعاته، بل وحتى في انفعالاته وقراراته.
ويحسن في هذا المقام إيراد بعض النماذج لهذه الأساليب الشائعة، انتقيت جلها من
اجتهادات صبيان الإعلام الغربي في بلادنا، محاولاً التركيز على إحدى قضايانا
المركزية، وهي قضية فلسطين، ليتضح كيف يمكن للإعلام أن يتلاعب بقضايا
الأمة في مكر وخبث:
* في صدر الصفحة الأولى نشرت إحدى الصحف (غير الصفراء) خبراً
بعنوان: (دارين أبو عيشة الفدائية الفلسطينية الثانية.. فقدت شقيقها وخطيبها
برصاص الإسرائيليين) .. بالطبع فإن خبر العنوان صحيح، ولكن لماذا تبرز
الجريدة هذا الخبر وتلفت النظر إليه وتغفل الإشارة إلى معطيات أخرى لـ (دوافع)
دارين في قيامها بعمليتها، تلك المعطيات التي تظهر جلية في صورتها وهي
رافعة إصبعها بعلامة التوحيد، والحجاب الذي يلف وجهها، والعصابة التي تحيط
بها رأسها مكتوباً عليها (الشهيد عز الدين القسام) ؛ وهو رمز لجهاد اليهود من
منطلق إسلامي؟
الهدف من ذلك الإبراز واضح في تصوير هذه العمليات على أنها عمليات
انتقامية ضمن إطار (العنف المتبادل) وليست بدافع إسلامي ولا حتى بحس وطني،
ومع تكرار مثل ذلك التوجيه الخفي ينصرف ذهن القارئ (غير المنتبه) عن
حقيقة الصراع في فلسطين، ويتهيأ نفسياً لقبول حلول (تعايشية) إذا خفتت جذوة
الانتقام في نفوس هؤلاء المظلومين على أيدي (حكومة متطرفة غاشمة!) .
* وقد اعتاد الإعلام العربي غالباً على إطلاق وصف (عملية) أو (هجوم)
على مثل تلك الأفعال، مع إلحاق وصف (استشهادي) أو (فدائي) أو (انتحاري)
حسب موقف كل نظام بالوصف الأول، ولكني سمعت وصفاً فريداً غريباً في
إحدى نشرات أخبار إذاعة عربية مهاجرة (إلى العرب!) ، حيث وصفت إحدى
العمليات بأنها (اعتداء استشهادي) .. والمعنى واضح أن هذه العمليات هي اعتداء
(غير مشروع) ولكنه بطريقة (استشهادية) لا يملك الفلسطينيون غيرها، وذلك
في مقابل (اعتداء) اليهود عليهم بالدبابات والطائرات وسائر العمليات الحربية،
فهو اعتداء مقابل اعتداء، يستوي الطرفان في حقيقة الجرم وإن اختلفا في طريقة
التنفيذ.
* وفي عنوان صحفي لصحيفة مهاجرة (إلى العرب أيضاً! !) جاء على
النحو التالي: (حكومة شارون تبت الأحد قرار السماح لليهود بدخول الأقصى) ..
المفترض أن شارون هذا لا يملك (شركة سياسية) أطلق على مجلس إدارتها اسم
(حكومة) ، ولكنه جاء إلى موقعه هذا لأن (شعب إسرائيل) انتخبه ديمقراطياً
ليكوِّن له (حكومة دولة إسرائيل) ، فالأفعال والقرارات التي تصدر عن هذه
الحكومة تصدر عن حكومة إسرائيل، فلماذا تتلاعب الصحيفة بالمسميات وتزيف
الحقائق؟ .. المغزى واضح، وهو نسبة هذه التصرفات إلى شارون (المتطرف)
وحكومته (اليمينية) وليس إلى الشعب اليهودي ولا الدولة الصهيونية.
ومع التكرار (والتكرار يعلم الشطار كما يقولون) يرسخ في ذهن القارئ
(الشاطر) أن المشكلة تكمن في (شارون وحكومته) ، فإذا ذهبوا تنفس هذا القارئ
ارتياحاً، وحمد الله على زوال الهم، وانتظر الفرج من (حكومة شالوم) !
أطلب من القارئ بعد انتهائه من قراءة الفقرة الحالية أن يصمت قليلاً، ثم يقرأ
العنوان المقترح التالي ويقارنه بعنوان الصحيفة الأصلي، ويلحظ مدى الفرق في
أثره على نفسه ... (حكومة العدو الصهيوني تبت الأحد قراراً يمكِّن اليهود من
دخول الأقصى الشريف) .
* وفي نطاق آخر نشرت الصحيفة نفسها العنوان التالي: (السودان وحركة
قرنق يوقعان اتفاقاً لوقف النار في جبال النوبة) .. (السودان) اسم لدولة وليس
اسماً لحزب ولا لحركة ولا لجبهة ولا حتى لحكومة (فالسودان لا يمثل حكومة
ولكن الحكومة قد تمثله) ، و (حركة قرنق) حركة تمرد مسلح خارجة على النظام
السوداني والحكومة السودانية، وهي في حقيقتها حركة انفصالية تريد اقتطاع أجزاء
(الجنوب) من الوطن الأم والانفراد بحكمه وإدارته أو الاستقلال به..
والمفترض أن كلمة (السودان) لا تطلق إلا على المستوى الدولي الخارجي نظيراً
لدول أو منظمات دولية خارجية تكافئها في هذه الصفة، فبدهي لا يصح القول مثلاً
في أخبار السودان الداخلية: (السودان وحزب الأمة يتفاوضان على كذا) أو
(نقابات العمال تطالب السودان بكذا..) ؛ لأن الطرف الآخر هو (حكومة
السودان) وليس (السودان) الذي ينضوي فيه هذا الحزب وتلك النقابات.
فصياغة العنوان على النحو الذي أوردته هذه الجريدة يضفي الصفة
الانفصالية المغايرة عن دولة السودان على حركة قرنق، ويجعل هذه الحركة في
مصاف الندِّية الدولية للسودان؛ أي أن العنوان يحمل في طياته جراثيم اعتبار
انفصال جنوب السودان (حركة قرنق) عن دولة السودان أمراً واقعاً، ويرسخ في
شعور القارئ هذا المعنى.
* نعود إلى القضية الفلسطينية مرة أخرى: على إحدى صفحات الموقع
الإنترنتي لصحيفة يديعوت أحرنوت (الإسرائيلية) جاء خبر بالعنوان التالي:
(عرفات أصدر تعليمات لشن موجة عمليات إرهابية غير مسبوقة) .. إذا تجاوزنا
مغزى حرص اليهود على وضع ياسر عرفات موضع العدو لهم وغير المرضي عنه
منهم رغم كل الخدمات التي أسداها إلى (القضية الصهيونية) فإن العنوان ليس فيه
ما يلفت النظر، وكلمة (إرهابية) متسقة مع كون الصحيفة (إسرائيلية) ، ولكن
الموقع أرفق مع الخبر صورة صغيرة لياسر عرفات.. كان المنتظر أن تكون هذه
الصورة محايدة تظهر وجه عرفات مثلاً، أو تكون لمناسبة العنوان تظهره في
صورة (ثورية) من تلك الصور الدعائية الكثيرة له التي يحمل فيها
السلاح.. ولكن الصورة لم تكن هذه ولا تلك، بل كانت صورة دعائية أخرى
لياسر عرفات وهو يرفع يديه بالدعاء! ! ..
والمغزى واضح، وهو ربط (الإرهاب) بـ (الإسلام) ، فكلما اقترب
الشخص من (الإسلام) اقترب من الإرهاب، وعليه فإن التخلي عن الإرهاب
والتقدم في طريق السلام مرهون بالتخلي عن الإسلام ومحاصرته، وهذا هو
المطلوب من عرفات وسلطته.. (شغل يهود! !) .
لا تنقضي صور المكر الإعلامي، ولا نستطيع تتبعها وذكرها جميعاً.. ولكن
المقصود أن المتلقي من وسائل الإعلام هذه مستهدف بالتأثير والتشكيل، وإذا لم
ينتبه إلى ما يقرؤه أو يسمعه أو يشاهده فإن وعيه يتشكل من غير شعور منه وقد
يكون على غير إرادة منه.
الدعاة على الخط:
لم يقف المكر الإعلامي عند حد التضليل والتزييف بشتى الطرق، بل تعدى
ذلك إلى محاولة استخدام بعض المشايخ والدعاة والرموز السياسية الإسلامية
للمشاركة في تشكيل الرأي العام بالصورة التي يريدها هذا الإعلام الماكر على
حساب الصورة الدعوية التي يريدها هؤلاء الدعاة والمشايخ والرموز، وعلى
حساب صورتهم هم ومرجعيتهم هم بالنسبة لأتباعهم ومريديهم.
ولا أقصد هنا المشايخ الرسميين الذين يطلقون الفتاوى المفصلة على مقاس
رغبات النظم العلمانية لتسويغ مواقفها وسياساتها وتوجهاتها، فهؤلاء أمرهم
معروف، وهم (محروقون) على مستوى أجهزة الإعلام العلمانية نفسها،
ولكني أقصد التوجه إلى الزج بدعاة ورموز لهم رصيدهم المعروف من
الاستقلالية والأتباع المخلصين في معترك المنظومة الإعلامية العلمانية بـ
(فتح) المجال أمامهم للحديث عن قضايا عامة في منابر إعلامية رسمية أو
مشبوهة.
وقبل أن أسطر وجهة نظري في جانب المكر في هذا التوجه الإعلامي أحب
أن أوضح بعض الحقائق:
أولاً: أن جل الخطاب الدعوي كان إلى حد ما خطاباً نخبوياً في رسالته
الإعلامية وفي الشريحة المستهدفة منه، وفي الغالب لم يحدث أن انفتحت الحركة
الإسلامية بخطابها الدعوي والسياسي على جميع شرائح المجتمع وجميع فئاته؛
وذلك فيما عدا بعض فصائل هذه الحركة التي تبذل جهداً مشكوراً في هذا الانفتاح،
ولكنها للأسف تتسم بضعف وقصور في الوعي يؤثر على رسالتها التي تنفتح بها
على فئات المجتمع العامة.. ولا شك أن هذه النخبوية صفة سلبية في خطابنا
الدعوي العام.
بالطبع هناك أسباب داخل الحركة وأسباب خارجها أدت إلى اكتساب هذا
الخطاب هذه الصفة (النخبوية) ، ولكن الحاصل أن هذا الواقع يطرح على أي
غيور على دينه حريص على مجتمعه التفكير في وسائل جديدة يمكن من خلالها
الوصول إلى أكبر عدد من أفراد المجتمع.. ومن هنا بدت إتاحة المجال لاستخدام
وسائل الإعلام العامة فرصة ذهبية لتحقيق هذا الهدف.
ثانياً: أن الوسائل الدعوية ما زالت تتقلص بصفة مستمرة في وجه هؤلاء
الدعاة والرموز، فمن مصادرة المساجد والمنابر، إلى تعطيل الصحف والمجلات،
إلى إيقاف الدعاة والعلماء، إلى التضييق على الشريط الإسلامي.. ما زالت هذه
الوسائل تتقلص غالباً في معظم البلدان، خاصة بعد أحداث سبتمبر الأخيرة،
وباستثناء مجال الإنترنت (وهو مجال نخبوي) لم تشهد وسائل الدعوة انفراجاً
حقيقياً في السنوات الأخيرة؛ لذا: كان إتاحة الفرصة بالظهور في منابر إعلامية
عرضاً مغرياً لأي صاحب هم دعوي.
ثالثاً: ظهرت في الأفق بعض الدراسات التي تتناول الثوابت والمتغيرات
للصحوة الإسلامية بحسب اجتهاد أصحاب تلك الدراسات، ولكننا لم نعلم بمحاولات
لرصد ودراسة الثوابت والمتغيرات لدى الأطراف الأخرى، وفي الواقع فإن
متغيرات محلية وأخرى دولية طرأت على الموقف تجاه الدعوة، ولا شك أن علينا
مواكبة هذه المتغيرات سلباً أو إيجاباً، إقداماً أو إحجاماً، توسعاً أو تقلصاً، وفي
نظري فإن تحديد الموقف تجاه تلك المتغيرات ينبغي أن ينبني على عدة عوامل
ومعطيات، منها: الفهم الدقيق للثوابت والمتغيرات لدى جميع الأطراف.
رابعاً: أن كل جهاز إعلامي له رسالته المحددة وأهدافه الواضحة في ذهن
القائمين عليه والموجهين له، كما أن له خططه طويلة المدى وقصيرة المدى التي
يحقق من خلالها هذه الأهداف، وعلى أساس هذه الرسالة وهذا الهدف وتلك الخطط
ترسم الخطوط العامة للبرامج والأساليب وأحياناً المواد التي ينبغي أن يراعيها
المنفذون والعاملون في هذا الجهاز أو تلك الوسيلة الإعلامية، وليس بالضرورة أن
يدرك هؤلاء المنفذون والعاملون أبعاد تلك الخطط أو كل تفاصيلها، بل قد يكونون
على المستوى الشخصي لا يتفقون مع هذه الأهداف ولا يوافقون على تلك الخطط
إذا علموا بجميع تفاصيلها، ولكن مع ذلك يشاركون في تنفيذها بكفاءة ونجاح
بحسب المطلوب منهم، وبحسب إمكاناتهم التي تهيأت أو هيئت لهم وفق الآلية
الإدارية التي تحكمهم وتسيرهم.. وهذا ما نجده في أي منشأة ذات إدارة منظمة.
والمقصد: أنه ينبغي علينا ألا ننخدع بآراء أو توجهات المنفذين الشخصية،
ويغيب عنا وضع تصور ولو تقريبياً لأهداف القائمين على هذا الجهاز أو تلك
الوسيلة والموجهين لها وخططهم التنفيذية لتحقيق تلك الأهداف.
فإذا ما فرغنا من ذكر تلك الحقائق يبرز سؤال جدير بالنقاش: هل أتاح
القائمون على هذه الأجهزة الإعلامية العلمانية والمشبوهة الفرصة لبعض الدعاة
والمشايخ والرموز الإسلامية بالظهور في تلك المنابر من أجل الخروج بالدعوة من
نخبويتها بمخاطبة أكبر قطاع من الأفراد، ومن أجل التوسيع على رموز الصحوة
بتمكينهم من وسائل دعوية جديدة وفعالة وإيصال الخير إلى الناس؟ أم أن لهؤلاء
القائمين على تلك الأجهزة أهدافهم الخاصة التي رأوا أن تحقيقها من خلال هذا النوع
من الدعاة والمشايخ أجدى وأنفع؟
ثم نطرح تساؤلات أخرى لا تقل أهمية عن السابق: وما الذي يمنع من قيام
هؤلاء الدعاة والرموز بدورهم من خلال هذه المنابر الإعلامية حتى ولو كانت
أهداف القائمين عليها خبيثة؟ ألا يبلغ هؤلاء كلمة حق أو موعظة مخلصة كانوا
سيقولونها من على منابرهم الدعوية؟ أليس ذلك خيراً من ترك هذه المنابر بالكلية
للفاسدين والمفسدين يصولون فيها ويجولون؟ ثم: ألم يكن الرسول صلى الله عليه
وسلم يذهب إلى منتديات المشركين في مكة ليبلغهم رسالة الله؟
بداية أحب أن أوضح أنني هنا لا أتحدث عن الحكم الشرعي في هذا المسلك،
ولكني أريد فقط أن أستكشف الجانب الذي يخص هذا المقال، وهو لفت الانتباه إلى
بعض أساليب المكر الإعلامي فيما يخص قضايانا، وهذا الجانب في هذا المسلك لا
يتبين إلا بعد أن ندرك طبيعة تكوين التأثير الإعلامي لدى الجماهير، فصاحب أي
رسالة إعلامية والدعوة في أحد جوانبها رسالة إعلامية أيضاً لا يلقي بمادة رسالته
الإعلامية إلى الجماهير دفعة واحدة، ولكنه يلقيها جزءاً بعد جزء، مستهدفاً تكوين
الصورة الكلية لرسالته الإعلامية لدى هذه الجماهير على المدى الطويل بطريقة
تراكمية ولكنها موجهة من طرفه، وهذه الطريقة أشبه بتكوين لوحة من الفسيفساء
(الموزاييك) التي تتكون من أجزاء صغيرة ولكن تركيبها متجاورة متلاصقة
يعطي في النهاية صورة عامة كلية من خلال هذه الأجزاء.
وقد يتداخل في التأثير على الجماهير المستهدفة أكثر من صاحب رسالة
إعلامية مختلفة أو متباينة من أكثر من مصدر، وحينها قد تكون الصورة النهائية
لدى الأفراد غير مقتصرة على مصدر واحد ورسالة واحدة، بل قد تحمل نوعاً من
اختلاط الصور التي قد تخرج صورة أخرى، ربما تكون مختلفة عن الصور
المبثوثة جميعاً، ولكن الغلبة ستكون لصاحب التأثير الأقوى في الساحة الإعلامية؛
لذا: نجد محاولات من يريدون تشكيل الرأي العام الوصول ما استطاعوا إلى جميع
منافذ التأثير الإعلامي كالمدارس والصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون ومنابر
المساجد.. وأخيراً مواقع الإنترنت واحتكارها ومنع أصحاب الرسائل الإعلامية
المخالفة لهم من استخدامها، أو ممارسة نوع من الإغراق الإعلامي تجاههم، أو
التشويش عليهم وعلى رسالتهم على الأقل.
في حالتنا هذه: تجدر الإشارة إلى أن من الخطأ الاعتقاد بأن العلمانية
المنتشرة في معظم بلادنا هي علمانية ملحدة؛ فتاريخ هذه البلاد وطبيعة شعوبها تقيد
العلمانيين من المجاهرة بالمناداة بذلك النوع من العلمانية؛ لذا نرى أن الدين
(بمفهمومه العلماني!) أحد مفردات الخطاب الإعلامي في هذه البلاد، كما أن هذا
التاريخ وهذه الطبيعة تجعل الأنظمة الحاكمة لهذه البلاد حريصة على إصباغ
مشروعيتها بنوع من الصبغة الدينية حتى ولو كانت زائفة كل بحسب درجة وضوح
علمانيته وذلك إلى جانب مشروعية الوجود الأساس (دستورية، أو ثورية، أو
تاريخية، أو دينية ... ) وتجعلها حريصة أيضاً على تسويغ مواقفها دينياً من رموز
لهم قبول شعبي في هذا الجانب.
أرى أنه الآن بدأ يتضح خط المكر فيما نحن بصدده، فالصورة الإعلامية
التي يريد الإعلام العلماني تكوينها لدى الرأي العام تحتوي على بعض أجزاء تتشابه
مع أجزاء أخرى من الصورة الإعلامية التي يريد الإعلام الدعوي إيصالها؛ لذا:
يستغل الإعلام العلماني هذا التشابه في تطبيق ما يمكن أن نطلق عليه
(نظرية الصور المتقاطعة) لصالحه، ووجه المكر هنا هو أن هذه الأجزاء عندما
تنتزع من صورة لتوضع في صورة أخرى فإنها حينئذ لا تخدم ولا تكون معبرة عن
الصورة الأولى، بل تتماهى في الصورة الثانية لتصبح جزءاً من نسيج صورة كلية
منبتة الصلة عن الصورة الأولى التي قد تصبح صورة مشوهة، ومع ذلك: يظل
هؤلاء الذين ساهموا عن غير قصد في بناء هذه الصورة الإعلامية (العلمانية)
يظنون أنهم عندما يتحدثون في هذه الجزئية إنما يرسمون صورتهم الدعوية التي
يريدونها، وهذا غير صحيح واقعاً.
أزيد الأمر وضوحاً ثم أضرب له مثالاً: من المعلوم أن الدعاة والرموز الذين
يخرجون في هذه المنابر هم (ضيوف) عليها يعرفون حدود (الضيف) ، بمعنى
أن هذه المنابر الإعلامية هي الطرف الأقوى في تحديد أو الموافقة على
الموضوعات المطروحة، وفي توجيه اتجاه الحديث، وفي استضافة آخرين في
الوقت نفسه أو في غيره لوضع الرتوش المناسبة على جزئية الصورة المطروحة؛
ومن ثم: فإن هؤلاء الدعاة لا يتمكنون من استكمال صورتهم الدعوية التي يريدون
إيصالها من خلال هذه المنابر.
وهنا تأتي مناسبة القول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى
منتديات المشركين ليدعوهم فيها، صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان
يفعل ذلك، ولكنه مع ذلك كان يبلغ رسالة الله عز وجل كاملة غير منقوصة كما
يريد هو وكما يقتضيه (البلاغ المبين) وليس كما يمليها عليه المشركون، ولم يكن
صلى الله عليه وسلم يضع رغبات هؤلاء المشركين ولا النقاط المشتركة بينه وبينهم
معياراً لاختيار طبيعة الموضوع الذي سيتحدث فيه.. فهل يستطيع أن يفعل ذلك من
يخرج الآن في منابر الإعلام العلماني؟ هل يستطيعون إذا شاؤوا أن يعيبوا من فوق
هذه المنابر اللات والعزى وهبل المعاصرين، فيبينوا على سبيل المثال حقيقة
العلمانية والعلمانيين، وعمالتهم لأعداء الأمة، وحكمهم في دين الله؟ هل
يستطيعون تجلية أصل الولاء والبراء والموالاة والمعاداة، وإلى من ينبغي أن
تصرف هذه المشاعر في الواقع..؟ هذه واحدة.
وأخرى: هي أن هذه المنابر لها جمهورها المختلف عن جمهور هؤلاء الدعاة
والرموز؛ أي أن من يتلقى من الدعاة هذه الجزئية التي تحدثوا فيها سيكمل عليها
أجزاء أخرى من هذه المنابر نفسها بمعزل عن تصور هؤلاء الدعاة والرموز
وتوجهاتهم، كما أنه يصعب على هؤلاء الدعاة والرموز الوصول إلى هؤلاء
المتلقين مرات أخرى لتصحيح التشويه الذي يمكن أن يحدث للمعاني التي يريدون
إيصالها من حديثهم، أو لاستكمال بقية أجزاء الصورة الدعوية كما يريدونها وليس
كما يريدها العلمانيون القائمون على هذه المنابر، وذلك بعكس جمهورهم المريد لهم
أو الذي يستطيعون الوصول إليه بسهولة، فهو إن لم يستكمل الصورة الإعلامية
الدعوية من تتابع الحضور لهم استكملها من شريط مسجل أو من رسالة مطبوعة أو
من مقال منشور أو حتى من داعية أو رمز آخر.. وبذلك تتجمع هذه الجزئيات
وتوضع في سياق واحد.
ونضرب لذلك مثالاً أعرف أنه ذو حساسية: فلو أن أحد المنابر الإعلامية هذه
استضافت رمزاً إسلامياً للحديث عن موضوع يدور حول (مشكلة الغلو والتكفير) ،
فالمتوقع أن تدور محاور الحديث حول عناوين فرعية، مثل: (أصل هذه
المشكلة وصلتها بالخوارج) ، (انحراف أصحابها عن منهج أهل السنة) ،
(أسباب هذه المشكلة) ، (خطورة هذه المشكلة على المجتمع) ، (مقترحات لمعالجة
هذه المشكلة) ...
طبعاً سوف يتحدث هذا الرمز من منطلق حرصه على الشباب وعلى توضيح
منهج أهل السنة، وضمن إطار كلي (في ذهنه) ينتظم فيه هذا الحديث وتستكمل
صورته، وهذا الإطار وهذه الصورة تشمل أجزاء أخرى، مثل:
- خطر الإرجاء (المقابل للغلو والتكفير) وأثره في الأمة.
- أن التكفير في الأصل يقول به كل دين.
- أن الحديث هو عن خطر تكفير المسلمين، وليس عمن لم يحقق أصل دين
الإسلام.
- الفرق بين التكفير بالمعصية كما هو معتقد الخوارج ومقالات المتكلمين،
والتكفير بنواقض الإسلام.
- أن الخطأ في التكفير إذا كان الاجتهاد حسب أصول أهل السنة هو خطأ
فقهي وليس اعتقادياً.
- أن الغلو صفة غير محصورة بالمسلمين، بل موجودة في كل دين وكل فكر
فهي مشكلة نفسية في الأساس ... إلى آخر هذه المسائل الجزئية التي يعرفها هذا
الرمز بلا شك، ولكنها مع ذلك لن تطرح في هذه (الاستضافة) .
بينما المنبر الإعلامي الذي يتحدث من خلاله هذا الرمز لا يشغله منهج أهل
السنة ولا أهل البدعة، بل تشغله أمور أخرى يريد تثبيتها في ذهن الجمهور مستغلاً
هذه الجزئية ومستكملاً عليها أجزاءً أخرى من الصورة التي تخصه هو والتي يبثها
سابقاً أو لاحقاً، مثل:
- أن معارضي النظام العلماني الحاكم من الإسلاميين يكفرون المسلمين (ولو
افتراءً عليهم) .
- أنهم خوارج منحرفون لا يمثلون أهل السنة والإسلام الصحيح (بل إن
بعض النظم شبههم بالذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله
عنه) .
- أنهم منحرفون أخلاقياً وسلوكياً.
- أن الوسطية والاعتدال هي التي يمثلها هذا النظام.
- أن مواجهتهم واجب على كل مواطن؛ لأنهم خطر على المجتمع كله.
وهكذا.. فبينما الرمز الإسلامي يتحدث في إطار علمي ضمن صورة دعوية
كلية (ولكنها غائبة) ، يستغل المنبر الإعلامي حديثه هذا ويضعه ضمن جزئيات
صورة كلية أخرى ضمن إطار دعائي سياسي، مستهدفاً تثبيت شرعية النظام
العلماني الذي يتحدث باسمه ودعم استقراره، وخلع الغطاء الديني عن معارضيه
السياسيين الذين يصرح بعضهم بعدم الاعتراف بشرعية النظام من منطلق إسلامي.
ومن هنا كانت أهمية الحرص على تحديد محاور الحديث مع الرمز الإسلامي
بالشكل السابق واستبعاد المحاور الأخرى التي سوف تفسد عليه هدفه، والتي لن
يستطيع الرمز استكمالها أمام هذا الجمهور الذي تلقى منه هذا (الطعم) ! ، وهو
طعم لا يصلح لإلقائه طبيب ولا إعلامي ولا أي مفكر.. بل لا بد أن يكون عالماً
دينياً ولا سيما إن كان رمزاً دعوياً.
وهكذا نرى أن الإعلام العلماني والقائمين عليه ومن وراءهم أصابوا من وراء
ذلك الأسلوب عدة أهداف برمية واحدة:
1 - اكتسب مشروعية هو في حاجة إليها وثقة فيه يفتقر إليها بمشاركة هؤلاء
الدعاة والمشايخ والرموز.
2 - وبمقدار نمو هذه المشروعية المكتسبة تتآكل مرجعية هؤلاء الدعاة
والمشايخ والرموز لدى جمهورهم الدعوي الذي سوف ينظر بعضه إليهم على أنهم
مهادنون، خاصة إذا تطاول أفراد من هذا الجمهور عليهم، وهذا مطلب علماني!
3 - أصبغ على نفسه وعلى النظام السياسي الذي يمثله صبغة تعددية
(ديمقراطية) زائفة.
4 - كوّن بعض أجزاء صورته الإعلامية بدقة ومهارة وبشكل دعائي عن
طريق متخصصين موثوق في كلامهم لدى الجماهير.
5 - استهلك جهود بعض أصحاب الرسائل الإعلامية الأخرى المنافسة له بما
يؤثر على أدائهم لهذه الرسائل، ويصرفهم عن بذل الجهود الخاصة بها.
6 - وهناك مكاسب عرضية ولكنها مهمة، منها:
هز بعض المسلَّمات المختارة بقصد والتشكيك فيها بزعم عرضها على ساحة
النقاش والتمحيص، وهذا بالنسبة لهؤلاء العلمانيين مكسب في حد ذاته حتى ولو
انتهى الحديث إلى نصرة الرأي الذي قال به الداعية أو الشيخ أو الرمز، ففي
النهاية تصبح هذه المسلمة (محتملة) حتى وإن ذُكر أن (الراجح) فيها هو القول
المسلَّم به قبل المناقشة، وهذه خطوة مهمة يرضى بها العلمانيون الآن.
ومنها: تهميش القضايا المهمة وإلهاء الجماهير وصرفهم إلى قضايا أخرى
يكثر فيها الكلام وتتضخم لتأخذ حجماً أكبر من حجمها الحقيقي، وإقحام الدعاة
وإشغالهم في معارك تدور حولها.
ومنها: ضرب بعض فصائل الحركة ببعضها الآخر؛ وذلك بإتاحة الحديث
لرموز فصيلٍ ما عن رموز فصيل آخر أو آرائه واجتهاداته التي يتبناها.
ومنها: تحول بعض مشاركات هؤلاء الرموز إلى حلبة صراع كلامي
يستعرض فيها المشاركون (عضلاتهم الكلامية والفكرية) ، وهم وإن (انتصروا)
في النهاية إلا أن الأثر المنطبع في ذهن المتلقي يظل أثراً بارداً لا يؤدي غالباً إلا
إلى إثارة ذهنية كلامية جدلية، وهذا ما ينعكس سلباً على المعاني والقيم التي يلقيها
هؤلاء الرموز من هذا المنبر، بعكس حديث هذه الرموز نفسها من منابرها؛ حيث
توجد علاقة تفاعل إيجابي بين الملقي والمتلقي، تجعل هذا الأخير يتلقى رغبة في
الالتزام بما يسمع وفي المشاركة في حركة إيجابية في المجتمع.
ومنها: مشاركة هؤلاء الدعاة والمشايخ والرموز من حيث لا يقصدون أو
ينتبهون في ترسيخ معنى العلمانية في شعور المتلقين؛ وذلك عندما يرى هؤلاء
المتلقون انفصالاً حاداً وواسعاً بين طبيعة الخطاب (الديني) الذي يظهر من خلاله
هؤلاء وطبيعة المواد الأخرى التي يتابعونها والتي لا تمت للدين بصلة، بل قد
تخاصمه أو تهاجمه صراحة أو خفية.
لا شك أن هناك أبعاداً أخرى في هذا الموضوع تؤيد وجهة النظر هذه أو
تعارضها، ومع قناعتي بضرورة الانفتاح الدعوي على الجماهير فإني أرى شخصياً
أن هذا الانفتاح ينبغي أن يكون بطريقة منهجية مدروسة تحسب فيها بدقة: المصالح
والمفاسد، والوسائل المتاحة، والأساليب المختارة، والحلول المقترحة، والضوابط
المراعاة.. وذلك حتى لا نشارك من حيث لا ندري في عمليات تزييف وتضليل
تحاك ضد هذه الأمة.
ومن هذا المنطلق فإني أقدم بعض الضوابط المقترحة لمن يرى من الدعاة أن
المصلحة في ظهوره في هذه المنابر، وهي الآتي:
1 - أن يكون متأكداً من أن الموضوع الذي سيتناوله لا يساهم في تكوين
الصورة الإعلامية العلمانية ولا يخدمها من قريب أو بعيد.
2 - ألا يتحدث في قضايا اجتهادية خلافية بين فصائل العمل الإسلامي، أو
يهاجم رموزاً لهذه الفصائل تلميحاً أو تصريحاً من فوق هذه المنابر.
3 - أن يشير إلى عناوين الموضوعات الأخرى المرتبطة بالموضوع الرئيس
والتي لن يستطيع التحدث فيها.
4 - أن يحيل المتلقي إلى مصادر أو مراجع أو برامج أو روابط أو ملتقيات
أخرى ... يمكن للمتلقي أن يستكمل الموضوع منها إن أراد.
5 - ألا يكون الظهور في هذه المنابر شاغلاً له عن نشاطه الدعوي أو
التربوي أو التعليمي الأساس.
6 - العمل على إنشاء منابر إعلامية جماهيرية مستقلة عن الجهات العلمانية؛
تتبنى الخطاب الدعوي الصحيح في خطها العام ومادتها الإعلامية.
هذه مقترحات لا شك أنها قابلة للنقد والتمحيص، والزيادة والنقصان.. أدعو
الله عز وجل أن يهدينا إلى الرشد، وينير لنا السبيل.
__________
(1) مجلة البيان، العدد 122.
(2) نشرت الخبر أولاً صحيفة (النيويورك تايمز) يوم الثلاثاء 7/12/1422هـ 19/2/2002م.(174/98)
المنتدى
من ثمرات المنتدى الإسلامي
ويتجدد اللقاء مع ثمرات المنتدى الإسلامي؛ حيث نضع بين أيديكم بعضاً من
ثمرات جهده خلال الفترة من 1/11/1422 هـ حتى30/1/1423 هـ؛ سائلين
المولى عز وجل أن يبارك في الجهود، ويجزل العطاء لكل من ساهم في رعاية
هذا الغرس.
كسروا الصنم الذي كانوا يعبدونه
ما زالت كثير من القرى الإفريقية تتخبط في ظلام الوثنية؛ ولذا يحرص
المنتدى الإسلامي على إنقاذهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور من خلال القوافل
الإغاثية الدعوية التي كان آخرها القافلة التي سيرها مكتب المنتدى في توجو إلى
إحدى القرى النائية، صحبها اثنان من الأطباء وعدد من الدعاة، ومن فضل الله
تعالى كان من ثمراتها إسلام أغلب من في القرية وعددهم (196) شخصاً، وبعد
أن منّ الله تعالى عليهم بالإسلام قاموا بتكسير الصنم الذي كانوا يعبدونه ويقدمون له
القرابين.
وما أن سمعت قرية مجاورة بما فعلت أختها حتى فتحت أبوابها لدعاة المنتدى
فتوجهت القافلة المباركة إليها فجاءت النتائج أكبر وأعظم بفضل الله؛ حيث أسلم
(253) شخصاً آخرون، فلله الحمد والمنة.
المنتدى يفتتح أكبر مراكزه
في مالي
على شرف رئيس دولة مالي، وبحضور الأمين العام للمنتدى الإسلامي
الدكتور عادل بن محمد السليم، وإمام الحرم المدني الشيخ عبد المحسن القاسم،
وسفير المملكة العربية السعودية في مالي الأستاذ خالد عبد ربه، ولفيف من
الشخصيات ورجال الأعمال افتتح مكتب المنتدى الإسلامي في مالي صبيحة يوم
الجمعة 22/1/1423 هـ أحد أكبر المراكز الإسلامية في الدولة.
والمركز يقع في العاصمة «باماكو» على أرض مساحتها 3860 متراً مربعاً
ويضم بين جنباته مسجداً جامعاً يتسع لـ 1000 مصل، ومعهداً لما بعد الثانوية،
ومدرسة نسائية، ومكتبة عامة كبيرة، وقاعة فسيحة للمحاضرات، بالإضافة إلى
مبنى يحتوي مكاتب لإدارة المركز.
ويأمل المنتدى أن يكون هذا المركز منارة هدى للمسلمين في مالي، وملتقى
للدعاة والمدعوين من خلال البرامج المتنوعة التي يعتزم المنتدى إقامتها في هذا
المركز.
إنشاء 15 مسجداً في 7 دول
استمراراً لمسيرة المنتدى الإسلامي، وحرصاً منه على نشر دعوة الإسلام،
وتعليم المسلمين أمور دينهم يحرص المنتدى الإسلامي على بناء المساجد وتهيئتها
لتكون جاهزة للعبادة، وتعلم أحكام الإسلام؛ فقد أنشأ المنتدى الإسلامي خلال
الأشهر الثلاثة الماضية (15) مسجداً في 7 دول هي: (السودان، كينيا،
نيجيريا، تشاد، اليمن، إندونيسيا، الهند) .
دعاة المنتدى يدعون إلى الله في الحج
اغتنم المنتدى الإسلامي فرصة اجتماع الناس في الأراضي المقدسة لأداء
فريضة الحج وتقربهم إلى الله فقام بتنفيذ برنامج (الدعوة في الحج) ؛ وذلك من
خلال مرافقة عدد من دعاة المنتدى المختارين لوفود بلدانهم ودعوتهم إلى العقيدة
الصحيحة، وبيان شيء من أحكام الشريعة عامة والحج خاصة، ودعوتهم إلى
السنة والاستقامة والصلاح، وتوزيع الكتيبات عليهم بلغاتهم المختلفة.
وقد شارك في المشروع 84 داعية، شاركوا حجاج تسع دول، وقد أعد
المنتدى لهم مادة علمية متنوعة بلغات مختلفة ليفيدوا منها في دعوتهم، وقد كانت
للمشروع ثمرات طيبة، نسأل الله تعالى أن يبارك فيها.
أصداء بلاغ
بعد أن وزع مكتبا المنتدى الإسلامي في أمريكا وبريطانيا 150. 000 نسخة
مجانية من عدد شوال من مجلة الجمعة (صوت المنتدى باللغة الإنجليزية) الذي
خصص لدعوة الغرب إلى الإسلام، وتوضيح صورته المشوهة توالت الردود
والتساؤلات تطلب المزيد عن الإسلام، وإليك أخي الكريم مقتطفات من هذه الردود:
(أنا أدين بالنصرانية ونشأت مؤمنة بأن النصرانية واليهودية هما الطريق
الوحيد إلى الله.
ولكن مجلة الجمعة علمتني أن المسلمين أقرب إلى ربهم من النصارى إليه.
أنا سعيدة لقراءتي هذه المجلة، وأنا متأكدة أن العديد من الأشخاص سوف يستفيدون
منها) . رسالة هاتفية من امرأة.
(أشكر لكم كثيراً إرسالكم نسخة مجانية إلى «مكتبة كوستون العامة» . فقد
أخذتها إلى منزلي خلال عطلة نهاية الأسبوع فوجدتها جذابة ومفيدة جداً. وسأضعها
في قسم الدوريات ليستخدمها رواد المكتبة) . خالص الشكر. فيرونيكا.
(شكراً على إرسال نسخة مجلة الجمعة إلى مكتبة الجامعة. سوف نضعها
في ملفاتنا عن الإسلام) . بيتي مارتين أمين المكتبة، جامعة فلوريدا.
نظراً لما لمسناه ولمستموه معنا من الحاجة الملحّة والمستمرة لمثل هذه الأعمال
الهادفة إلى التعريف بالإسلام والدعوة إليه والذب عنه، فسوف يتبع إصدار عدد
شوال بإذن الله تعالى كتاب يتضمن موضوعات أخرى متميزة تعرِّف بالإسلام لغير
المسلمين، وتدعو إليه وتذب عنه.
نسأل الله تعالى أن ينفع به المسلمين وغير المسلمين، وأن يتقبل من كل من
ساهم في دعمه، وأن يجزل له الأجر والمثوبة، وتلك هي المهمة التي اختارنا الله
لها، مهمة تبليغ هذا الدين إلى العالمين: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: 143) .
(730) بئراً يتدفق منها الماء
قد لا يشعر كثير منا بما يعانيه أكثر من سدس سكان العالم من صعوبة في
الحصول على الماء النقي معظمهم من المسلمين، وقد حرص المنتدى الإسلامي
على المساعدة في تخفيف جزء من هذه المعاناة، فقام بحفر ما يقارب (730) بئراً
كان آخرها حفر (28) بئراً في كل من السودان وتشاد وإندونيسيا خلال أشهر ذي
القعدة، وذي الحجة، والمحرم.
40. 000 أضحية
يوزعها المنتدى الإسلامي
تخفيفاً لمعاناة فقراء المسلمين، وشعوراً بمعنى الأخوة الإسلامية والجسد
الواحد يمد المنتدى الإسلامي يد العون والمساعدة لهؤلاء الفقراء في مناسبات متعددة
على مدار العام، ومن ذلك مشروع توزيع الأضاحي الذي يقيمه المنتدى كل عام؛
بحيث بلغت في السنوات العشر الماضية أربعين ألف أضحية. واستمراراً لهذا
المشروع فقد قدم المنتدى الإسلامي خلال موسم عام 1422هـ 4200 رأساً من
الأضاحي؛ بتكلفة إجمالية قدرها 200. 000 دولار، وتم تنفيذ المشروع في 22
دولة؛ منها 14دولة في قارة أفريقيا، و 8 دول في آسيا، وقد استفاد منها أكثر من
150. 000 من فقراء المسلمين، وأسلم بسببها بعد فضل الله عدد غير قليل.(174/106)
المنتدى
ردود
وصل إلى المجلة عدد من الاقتراحات والملاحظات، ونحن إذ نشكر الإخوة
الذين أرسلوها وتواصلوا مع المجلة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياهم من
المتواصين بالحق والخير، ولقد كانت الملاحظات والاقتراحات كما يلي:
الأخ: عبد العزيز بن عبد الله الغماس: خطر في بالي موضوع قد يكون
في نظري أنه مهم من جهة، وهو عندكم غير ذلك. وهو وجود زاوية تعنى
بالفتاوى المهمة التي يكثر السؤال عنها من قِبَل قراء المجلة أو غيرهم، سواء في
الاعتقاد أو غيرها مما يحتاجه الناس. وقلت في نفسي لو كان هناك طرح أسئلة
يرى القائمون على المجلة أنها مما يسأل عنها، أو أنها هي المهمة في هذا الزمن أو
وقت من الأوقات؛ ومن ثم يجيب عنها أهل العلم الموثوقون في بلادنا أو غيرهم
ممن ترونهم أهلاً لذلك، أعتقد أن هذا الموضوع جيد وفيه نشر للعلم والدعوة معاً.
حقيقة أنا لا أدري هل طُرِحَ هذا الموضوع من قبل أم لا؟ لكن يعلم الله كم
سعدت بهذه الفكرة وأرجو أن يكون السبق لي لأحوز الأجر العظيم؛ لأنني بهذا
أكون دللت على هدى.
الأخ: الباعث بن أحمد التومي بن ساعد: تحية إلى إخوان الإسلام، وإلى
من أراد الإسلام على التحقيق، وإلى المشرفين على مجلة البيان؛ راجياً من الله لكم
التوفيق، فقد سرني عملكم هذا فأردت مراسلتكم في أقرب وقت للاطمئنان على
أحوالكم، وفي نفس الوقت أستسمح منكم أن تراسلوني بمجلتكم، ولأن اختياري لم
يقع إلا على مجلتكم التي رأيت فيها ما قد يفيدني، وهذا راجعٌ إلى أن عالمنا اليوم
يعرف أساليب غربية سلبية لا دَخْلَ لها بالإسلام، فأرجو أن تساعدوني وفي أقرب
وقت، وأريد التعرف على ما يجري في مجتمعنا اليوم من أحداث دولية وهذه بعض
الكلمات أكتبها إلى مجلة البيان التي كرست جهدها في خدمة الإسلام والمسلمين:
ماذا أقول لمدح الشمس والقمر؟ ... وما أفيد بمدحي روعة السحر؟
قد أجعل الحجَر المدفون لؤلؤةً ... لكنني لن أضيف الضوء للقمر
لا لن أزيد جمالاً زهرة نقشت ... بهاءها في عيون الطير والبشر
وما أفيد بمدحي درَّة سَلبت ... عيون ناظرها في غفلة النظر؟
فإن مَدحت شريفاً زادني شرفاً ... وإن ذكرت عظيماً زدت من أثري
يزيد مدحك بالممدوح منزلةً ... ويأخذ النور منها قارئ السور
إن يُذكر الخير كنتم أهله أبداً ... أو يذكر الحب كالأمطار ينهمر
وأرجو منكم أن لا تنسونا بمجلتكم هاته التي تستحق كل الاحترام والتقدير؛
لأنها درة في أعين المسلمين وتفكيرهم وشكراً لكم، وكل عام وأنتم بخير، والسلام
عليكم.
الأخ: يوسف بن إبراهيم الزين: يسعدني أن أقدم لكم ولسائر العاملين
والمشرفين على مجلة البيان جزيل الشكر والتقدير على الجهود الطيبة في سبيل
نشر منهج أهل السنة والجماعة، والفكر السلفي الصحيح، والتحليل السياسي
الدقيق، والطرح التربوي المتميز؛ أشكركم على هذا كله وغيره مما تزخر به هذه
المجلة الرائعة، رزقنا الله جميعاً الإخلاص في القول والعمل. وأسوق بين يدي هذا
الشكر اقتراحاً حول جانب من الاستفادة من هذه المجلة؛ خلاصته في أن المجلة
تزخر كل عدد بمجموعة من المقالات المتميزة، وقد دأبت المجلة على إخراج
بعض المقالات وخاصة ذات الحلقات المتعددة على هيئة كتاب، لكن ما حال
المقالات المتميزة والتي تعالج أحياناً قضايا ملحة لكنها لا تصل بحجمها أن توضع
في كتاب ومن ذلك:
1 - حقيقة شركات التأمين (د. سليمان الثنيان) .
2 - بعض ما ينسب للسلف يؤدي للإحباط (سليمان بن خضير) .
وغير هذين المقالين كثير في هذه المجلة، والذي أقترحه إزاء هذه المقالات
أن تخرج على هيئة مطويات تبث في أوساط فئات المجتمع المختلفة، ويمكن
الاستفادة من دار القاسم أو دار الوطن في هذا الجانب، وخصوصاً أن الملاحظ على
المطويات عموماً اقتصارها على جانب الوعظ والأحكام. آمل أن يجد هذا الاقتراح
صدى طيباً في صدوركم، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا جميعاً
لمرضاته، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره.
الإخوة والأخوات: محمود محمد البرمبالي، يوسف..! صالح السالم، وليد
محمد سمكري، رحاب بنت عبد الله: نشكر لكم تواصلكم الكريم مع مجلتكم،
ونرجو التكرم بإرسال عنوان بريدي نتمكن من الرد عليكم من خلاله.. وجزاكم الله
خيراً.(174/108)
الورقة الأخيرة
حقيقة الفتاوى العصرية
أ. د. محمد يحيى [*]
يسود الساحة العربية الآن اتجاه يحبذ إطلاق ما يمكن تسميته بالفتاوى
«العصرية» ، وهي تلك التي تتعامل مع مسائل وقضايا حديثة معاصرة؛ من
زاوية توضيح حكم الإسلام فيها وتبصير الناس بهذا الموقف. وتجد هذه النوعية
من الفتاوى التحبيذ والتشجيع بل المديح؛ لأنها عند بعضهم تثبت صلاحية
الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، كما أنها توجد مصالحة بين الناس وواقعهم
المعاش، وترفع الحرج عن أي تصور يرى تصادم الدين و «العصر» . وقد
اتسع هذا الاتجاه في بعض البلدان العربية إلى حد أنه بدأت تنشأ مشكلاته الخاصة؛
وأبرزها التناقض في بعض الفتاوى، ثم الترخص الزائد الذي بدأ يطل برأسه
فيها.
والحق أن المسألة في حاجة إلى «التحرير» حسب المصطلح الأصولي
وليس السياسي، وأول ما يلاحظ في هذا الصدد أن هناك تصوراً خاطئاً وخطيراً
عند بعضهم يربط بين الإفتاء بحكم الدين في شتى القضايا الحديثة المعاصرة (وهو
أمر طيب وضروري) ، وبين ضرورة الخروج بحكم يوافق ويمرر هذه المسائل
مُكسباً إياها المشروعية الدينية، ومُقراً لها بصرف النظر عن الأبعاد المختلفة الكامنة
فيها؛ ذلك أنه تكثر الآن الضغوط الشديدة والمتنوعة على القائمين بالإفتاء لكي
تخرج فتاواهم مبيحة بل محبذة للعديد من التوجهات القيمية الوافدة من المجتمع
الغربي النصراني العلماني أو الناشئة بتأثيره؛ مع إكسابها مشروعية إسلامية
باعتبارها متوافقة مع الشريعة أو حتى محققة لأغراضها ومقاصدها
الكبرى!
ويحدث ذلك عبر النظر المتعمد إلى هذه التوجهات القيمية في مستوياتها
السطحية المجردة، وتصديق مزاعمها الدعائية حول تحقيقها لسعادة المجتمع وخير
الناس، وهي مزاعم تنهار إذا ما حدث تدبُّر وفحص كامل ومتعمق لخلفيات هذه
التوجهات القيمية ومنطلقاتها ومبادئها وسياقاتها الثقافية الأصلية، وهي في الغالب
الأعم إن لم يكن في كل الأحوال غربية نصرانية علمانية، وفي هذه الحالات
يفرض دور معين على «المفتي العصري» لا يسمح له بأن يتعداه؛ فكل ما عليه
هو التعامل مع المسألة أو القضية أو التوجه القيمي العصري حسب تكييف طارحيه
وتصورهم له، وحسب المصطلحات التي يستخدمها هؤلاء (في الغالب للتمويه
والتعمية) ، ولا يجوز له مناقشة هذا التوجه أو التعامل معه بالنقد الفاحص أو حتى
التعديل؛ بل عليه أن يخرج «بحكم الدين» فيه حسب هذا التعامل السطحي ووفق
طرح أصحابه.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إن الفقيه أو المفتي يقع تحت ضغط تقبل
هذا التوجه أو المسألة وتسويغها شرعياً، وتحت طائلة الاتهام بالجمود وعدم الفهم،
وعدم مواكبة العصر، والتضييق على الناس، بل ومصادمة الشريعة ذاتها التي
تدعو إلى التيسير ورفع الحرج. وهنا ينحصر دور المفتي في مجرد إيجاد تكييف
وتسويغ شرعي بلغة المصطلح الفقهي الإسلامي لقضية جاهزة صاغها الآخرون
بالفعل قبل ذلك بلغة المصطلح الفكري العلماني، وألقوها إلى المفتي طلباً للتسويغ
والصياغة الشرعية الموافقة فقط؛ وليس طلباً لحكم الدين فيها بعد التمحيص
والفحص الذي قد ينتهي بالرفض.
والواقع أن المفتي الذي تلقى إليه تلك المسائل والقضايا طلباً للحكم الديني يجد
أنه من السهل الانصياع لضغوط التحرير والتسويغ الشرعي لها؛ لأنه مفروض
عليه أن يتعامل فقط حسب صياغة أصحابها لها (وهي صياغة تزعم لها من
الإيجابية والخير ما ليس فيها بالضرورة) ، وعلى المستوى السطحي فقط؛ أي
مستوى الشعارات الدعائية التي تهدف بالطبع إلى «تحلية البضاعة» (حسب
التعبير المصري الدارج) . ومن هنا سيصعب على المفتي أو الفقيه أن يرفض
توجهات وقيماً يفرضها أصحابها بمصطلحهم الخاص ووفق تكييفهم؛ زاعمين أنها
تحقق الخير والمصلحة والسعادة والتقدم للفرد والمجتمع؛ أَوَ ليس هذا هو مقصد
الشريعة الإسلامية النهائي؟ !
وهكذا تنتهي أغلب الفتاوى العصرية إن لم يكن كلها إلى القبول والتمرير لكل
المسائل المعروضة على القائم بالإفتاء؛ مما يخلق الانطباع (الصادق) بالترخص
الذي يخفي وراءه حقيقة مرة هي أن «المفتي» لم يعد مفتياً بالمعنى الصحيح؛ بل
تحول إلى مجرد صائغ لفتوى كل مهمته أن يتلقى المسألة أو القضية أو التوجه دون
التدخل في طرحه، ودون تمحيصه والتعمق في أبعاده؛ بل «فقط» كي يعيد
صياغته بلغة الشريعة ومصطلحها تسويغاً له؛ بحجة متابعة الشريعة للعصر.
دور المفتي يصبح مجرد دور واضع الختم على أوراق تتناول أخطر الأمور أو
تتعلق بملايين الدنانير دون أن يكون له يد أو حتى مصلحة فيها، والنتيجة بطبيعة
الحال وكما تشهد عشرات الأمثلة هي استبطان التوجهات القيمية العلمانية والغربية
(والمسماة خطأً وغرضاً بالعصرية) داخل كيان القيم الإسلامية، بل وإضفاء
المشروعية الإسلامية الكاملة عليها وتحويلها إلى غير مقاصد الشريعة. هذا أبرز
محاذير توجه الفتاوى «العصرية» لكنه ليس الوحيد؛ لأن الأمر ينتهي إلى إهدار
كامل أو انهيار لعملية الاجتهاد الفقهي ودور الفقيه فيها؛ ليتحول إلى مجرد عملية
تسويغ سطحي، وتمرير لمسائل وقضايا من شأنها أن تدمر البنية القيمية الإسلامية
بعد استبطانها فيها؛ إنها خدعة «عصرية» وليست فتوى!
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(174/110)
ربيع الأول - 1423هـ
يونيو - 2002م
(السنة: 17)(175/)
كلمة صغيرة
وتحققت إحدى أمنيتَيْ خطَّاب
أعلنت وزارة الأمن الروسية عن وفاة القائد المجاهد (سامر السويلم)
المعروف بـ (خطاب) الذي وصفته بأنه (أحد منظِّري الإرهاب العالمي) ، وأن
ذلك تم عبر عملية عسكرية!
وهذا ما تأكد بالفعل من مصادر الجهاد الشيشاني، وقد ظهرت صورة جسده
المسجى وكان سليماً من أي إصابات؛ مما يشير إلى أنه استعمل ضده وسيلة اغتيال
بالسم أو الخنق عبر عميل مدسوس ممن يُلجأ إليهم في مثل هذه الظروف، وهذا
وارد عبر هؤلاء العملاء الذين يبيعون ذممهم بثمن بخس؛ والشيء من معدنه لا
يستغرب.
والحقيقة أن ذلك المجاهد الذي ترك الراحة والنعيم في أسرته أدى واجبه
الجهادي حتى أصبح قائداً يشار له بالبنان، فقد كان محتسباً دوره هذا؛ حيث قضى
شرخ شبابه في ساحات الجهاد في أفغانستان، ثم في الشيشان حيث أوقع في
الأعداء مقاتل كبيرة، فأُعلنت بعدها المطالبة به حياً أو ميتاً، وأنجاه الله من كثير
من الكمائن، وهو مع جهاده كان داعية ومعلماً، وكان كغيره من المجاهدين
الصادقين يؤدي دوره الجهادي لنصرة إخوانه المستضعفين استجابة لقول الله -
تعالى -: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] (الأنفال: 72) ، فكان
يحمل روحه على راحته، وأسمى أمانيه كانت نيل الشهادة في سبيل الله في أي
لحظة، ونحن نحسب أن (خطاب) ورفاق الجهاد الذين آلوا على أنفسهم نصرة
دينهم وعقيدتهم قد أسهموا في رفع الإثم عن الأمة التي طالبها الله بنصرة إخوانهم
في الدين في وقت حورب فيه الجهاد والمجاهدون.
ونحسب أن من أهم خصائص (خطَّاب) رحمه الله: أنه نأى بنفسه ومن
معه عن الصراعات الحزبية، والخلافات الشخصية، وتوجه بكليته إلى الجهاد
والتربية، وحرص على رص الصفوف وتقويتها علمياً وتربوياً.
ونعتقد أن غياب هذا القائد وغيره لن يفُت في عضد المجاهدين؛ فلئن مات
خطاب فإن من ورائه رجالاً كثيرين باعوا نفوسهم للملك الديَّان؛ ومن ثَمَّ لن يتوقف
التيار الجهادي الصادق ضد المعتدين والغاصبين،
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن ندعو له بالرحمة والغفران، وعلى المجاهدين
الحذر كل الحذر من مكائد الأعداء وغدر العملاء، وأن يكون جهادهم لإعلاء كلمة
الله؛ فالجهاد ماضٍ في الأمة حتى قيام الساعة كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق
صلى الله عليه وسلم. ورغم الحرب المعلنة ضد الإسلام والمسلمين، ورغم الجهود
الانهزامية من المطبعين والعلمانيين؛ فالجهاد قدر هذه الأمة وسبيل نصرها وعزتها.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .(175/3)
الافتتاحية
من فقه المرحلة القادمة
أثارت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي وما تبعها من تداعيات كثيراً
من الأسئلة التي ما زالت في حاجة إلى الإجابة عنها، وكشفت عن كثير من
الأزمات العالمية والإقليمية، كما كشفت عن كثير من جوانب القوة التي تملكها
الصحوة الإسلامية بمختلف قنواتها وداوئرها، كما أنها أظهرت أيضاً كثيراً من
الأدواء والمشكلات في أوساطها، ثم تلاحقت أحداث الاجتياح اليهودي البشع
للأراضي الفلسطينية في ظل كئيب من الصمت العالمي والعجز العربي لتكشف
مزيداً من الأزمات المزمنة! وإن من دلائل الفقه والرشد استيعاب الأزمة وتوظيف
دروسها لإعادة الكرَّة والانطلاق من جديد لإحياء الأمة وبنائها بنفسية عزيزة وثَّابة
لا يصيبها الخور أو الضعف.. نعم! ربما تطغى ظلال الانكسار على النفس الكليلة،
وتنطفئ شعلة الحيوية فيها، ويقذفها اليأس إلى آخر الصفوف، وتنسحب من
ساحة العطاء، وتتوقف في منتصف الطريق منهكة القوى. وربما ترى أن أحاديث
النصر وبشارات التمكين لا حقيقة لها في هذا الجيل، وأن الأمة هلكت [1] ؛ فتؤثر
العزلة والهروب إلى الوراء..! !
ولكن المؤمن الصادق الواثق بنصر الله وقوته يظل مرفوع الرأس عالي الهمة،
شامخاً بدينه وعقيدته لا يضره من خذله ولا من خالفه، مهتدياً بقول الحق - جل
وعلا -: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:
139) ؛ ولهذا نهض الصحابة - رضي الله عنهم - بكل صدق بعد انكسارهم بادئ
الأمر في غزوة أحد متحاملين على جراحهم مقبلين على الله تعالى بكليتهم، يحدوهم
قول الله - تعالى -: [وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً]
(النساء: 104) .
إن الصحوة الإسلامية في حاجة ماسة إلى إعادة ترتيب أوراقها من جديد،
ودراستها بعمق، دراسة تتلاءم مع المتغيرات المتسارعة التي طغت على الساحة
السياسية والفكرية، ومدركة للمعطيات والإمكانات المتاحة، ومكتشفة لمكامن القوة
والتأثير، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها أخذوا عهداً على أنفسهم
بالقضاء على الحركات الإسلامية الجهادية منها خاصة ولهذا تواطأ الغرب والشرق
على تمهيد الطريق لليهود من أجل ضرب الانتفاضة الفلسطينية وتصفية رجال
الجهاد بكل صلف وجبروت وطغيان، والأيام القادمة حبلى بكثير من الهجمات
الضارية التي ينبغي أن نقدر لها قدرها! !
ونحسب أن من أهم أولويات المرحلة القادمة:
* أولاً: إحياء الإيمان في نفوس الناس وترسيخه في قلوبهم:
فالإيمان الراسخ يعطي الإنسان قوة عظيمة تثبته على الحق، وتعصمه من
نزغات الأهواء، وشبهات الأعداء، ومكائد المنافقين. قال الله - تعالى -:
[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ] (إبراهيم: 27) . وقال - تعالى -: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ] (يونس: 9) .
ولن ترتفع هذه الأمة ويعلو شأنها إلا بترسيخ التوحيد والإيمان الخالص بالله
تعالى، إيماناً يشرق نوره في القلوب، ويظهر أثره في الجوارح، ويصبح عقيدة
راسخة في النفس رسوخ الجبال الرواسي. ويتطلب ذلك تربية جادة، وحرصاً
صادقاً من الدعاة والمصلحين على البناء الحي المعطاء، وجعله من أولى أولويات
الصحوة الإسلامية ومحاضنها التربوية؛ فهذه هي ثمرة الدعوة وحقيقة الرسالة.
قال الله - تعالى -: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ] (آل عمران: 164) .
ويحزن المرء حزناً شديداً حينما يرى أن التربية الهشة الهزيلة هي التي يكثر
انتشارها في كثير من المحاضن الدعوية المعاصرة، وأن طاقات الأمة تُستهلك في
أمور تُذهب حلاوة الإيمان وتُضعف جذوره. وكيف نتطلع إلى النصر وتغيير واقع
الأمة بنفوس كليلة لم تذق طعم الإيمان على حقيقته، ولم تتفيأ ظلاله الكريمه اليانعة؟!
* ثانياً: إحياء الوعي في الأمة:
كشفت الأحداث أزمة عريضة في الفهم، وتجلَّت آيات هذه الأزمة في قراءة
الأحداث بقواعد مضطربة غير متزنة، وبأبجديات سطحية لا تتجاوز النظر إلى
التطبيل الإعلامي الذي يدير آلته المضللة أعداء الأمة، كما تجلَّت في الخلط
العريض الذي برز في معظم الدوائر العامة والخاصة، سواء ذلك في التوصيف
للواقع الذي يعيشه العالم ومعرفة أبعاده، أو في التكييف الشرعي للأحداث المتعاقبة،
أو في تحديد ردود الأفعال وبناء المواقف الواجب اتخاذها.
ورأينا وقوع كثير من الصالحين في طرفي الإفراط والتفريط:
فالفريق الأول: غلب عليه التشنج والانفعال، واستسلم لدواعي الغضب، ولم
يلجمه بلجام الشرع والعقل، ولم يقدر المصالح والمفاسد بميزان الشريعة وقواعدها
المحكمة، وربَّما غلَّب النظر إلى بعض المصالح والمفاسد القريبة العاجلة، وقصَّر
في دراسة المصالح والمفاسد البعيدة الآجلة.
والفريق الثاني: غلبت عليه الانهزامية والضعف، واستسلم لأهواء الأقوياء،
وللضغوط الإعلامية والفكرية التي علا صوتها، وراح يُفسّر النصوص الشرعية
بعقلية المنكسر الضعيف، حتى أتى على بعض الثوابت الشرعية المجمع عليها.
لقد درجت الآلة الإعلامية الغربية بكل قنواتها وأشكالها وخاصة في الأحداث
الأخيرة على تزييف الوعي وإثارة اللبس وإشاعة الشبهات بكل خبث ودهاء،
ووقف كثير من الناس حيارى أمام ذلك الطوفان الجارف من التحريف والتزييف..
ولقد آن الأوان لأن ننهض بجد لاستنقاذ العقول وإحياء البصيرة وإعادة الوعي
تحقيقاً لقول الله - تعالى -: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .
وقوله -عز وجل -: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]
(الأنعام: 55) ، وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ] (النساء: 71) .
انظر مثلاً إلى الهمجية اليهودية في الأراضي الفلسطينية كيف يصورها
الإعلام العربي؛ فكثير منهم يفسر هذه الأحداث بناء على تطرف شخصي من
(شارون) ، وربما ازداد الأفق قليلاً عند بعضهم فعده تطرفاً من حزب الليكود،
وهذه قضية يرسخها العلمانيون من بني جلدتنا من أجل تبرئة حزب العمل وغيره
من الأحزاب الديمقراطية المعتدلة بزعمهم، وتسويغ دعوات السلام التي يبشرون
بها، مع أن وزير الدفاع (بنيامين إليعازر) الذي يباشر بنفسه أعمال الإبادة
الوحشية من أبرز قادة حزب العمل، ووزير الخارجية العمالي (شمعون بيريز)
هو الذي ينافح عن هذه الوحشية في المحافل الدولية ويدافع عنها؛ فهم جميعاً من
صناع الحرب والخيانة.
ثم انظر أيضاً إلى التفسير العلماني للعلاقات الأمريكية اليهودية؛ فهي
بزعمهم علاقات اقتصادية ومصالح سياسية فحسب أملتها ظروف المرحلة، مع
تغييبهم المتعمد للبعد الديني العميق الذي يرسخ العلاقة بين اليهود والصهاينة
الإنجيليين! !
أوَ ليس عجيباً أن يبقى كثير منا أسرى لحملات التضليل وتغييب الوعي
بسذاجة مفرطة؟ !
أَوََ ليس عجيباً أن نبقى نفكر بطريقة بدائية خارج نطاق الواقع الذي نعيشه
على الرغم من الأعاصير والرياح العاتية التي تحاول أن تقتلع كثيراً من
خصوصياتنا وثوابتنا العقدية والفكرية..؟ !
أَوَ ليس عجيباً أن تفتقر كثير من فصائل الصحوة الإسلامية إلى مراكز
متخصصة للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، ومراكز الأبحاث السياسية التي
تعين في استكشاف مكامن القوة والضعف، وترصد خطوات المكر والكيد،
وتستشرف آفاق المستقبل برؤية علمية ناضجة؟ !
إنَّ إحياء الوعي الشرعي والفكري والسياسي يتطلب رؤية شاملة محددة
الأهداف، واستقراء دقيقاً للمعطيات المتاحة، والعقبات المحتملة، ومن ثم تُرسم
خطط بعيدة المدى تخاطب شتى شرائح المجتمع الفكرية والاجتماعية. ولا بد أن
ندرك أن الصحوة الإسلامية مقبلة على مرحلة حرجة شديدة التعقيد، فيجب علينا
أن نتجاوز العشوائية والاجتهادات المرتجلة؛ لنتخذ المنهج العلمي أساساً في هذا
السبيل. يصف المفكر الاستراتيجي الدكتور حامد ربيع حالة الغيبوبة التي نعاني
منها بقوله: (نحن قد مضى علينا وقت لم نقتصر فيه على عدم القدرة على التوقع،
بل وأضحينا نتهرب من رؤية الواقع، بل ونصل في بعض الأحيان إلى الكذب
على أنفسنا والتضليل في حقيقة ذلك الواقع. نريد الحقيقة كما هي دون أي مغالطة
ودون تغليف الحقيقة بما يجردها من مضمونها الواقعي) .
* ثالثاً: رصُّ الصفوف:
أكدت الأحداث الأخيرة أن جسم الصحوة الإسلامية يعاني من تمزقات محزنة،
وخلافات حزبية مفرقة أنهكت الأمة وأدخلتها في مفازة مقفرة من التنابذ والتهارش،
وأشغلتها بالتدافع وبالقيل والقال، وبالصراعات الجدلية العقيمة التي تستنزف
الجهود وتقتل الطاقات.
ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا: إن من أشد أدواء الصحوة الإسلامية تأثيراً
داء التفرق والتنازع، ولن يجد أعداء الأمة داءً يخترقون به الصفوف، ويحطمون
به قوتها، أفضل عندهم من هذا الداء، وصدق المولى الحق: [وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]
(الأنفال: 46) .
إن المرحلة القادمة ليست مجالاً لتحقيق منجزات أو مكاسب حزبية محدودة،
وليست وقتاً للتفاخر وتلميع الذات على حساب الأمة؛ وإنما هي مرحلة أحوج ما
نكون فيها إلى الفقه العميق بضرورة التآلف، ورصِّ الصفوف، وتجاوز الخلافات
الاجتهادية بفقه وحلم. وصَدَق الرافعي إذ يقول: (أضيع الأمم أمة يختلف أبناؤها؛
فكيف بمن يختلفون في كيف يختلفون!) .
ونذكِّر هنا بالدور الريادي للعلماء الربانيين والدعاة المخلصين؛ فالأمانة في
أعناقهم عظيمة.. عظيمة؛ فهم أقدر الناس على إيجاد المناخ الملائم الذي يزيل
ضغائن النفوس، ويملؤها بإذن الله - تعالى - بالتجرد والإقبال على الله - تعالى -،
ويدفعها إلى المبادرات المحمودة التي تعقد القلوب بعضها ببعض بعلم ومحبة
ورحمة. قال الله - تعالى -: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم
بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ] (الصف: 4) .
* رابعاً: توظيف الطاقات:
تملك الصحوة الإسلامية بحمد الله - تعالى - طاقات متعددة هائلة في شتى
المجالات الفكرية والشرائح الاجتماعية، لكنها مع الأسف الشديد لم تحسن استثمار
تلك الطاقات، ولا توظيفها توظيفاً مناسباً، وصدقت في حقها القاعدة الإدارية (20/
80) التي تقول بأن 20% من الطاقات فقط هي التي تنجز 80% من الإنجازات،
وهذا يعني: أن نسبة كبيرة جداً من الطاقات الموجودة تعد طاقات معطلة غلبت
عليها البطالة، ولم تستوعبها الصحوة الإسلامية..! !
ونستطيع من حيث الجملة أن نقسم هذه الطاقات المعطلة أربعة أقسام:
الأول: طاقات عاملة دون طاقاتها الإبداعية، فلم تنجز إلا القليل الذي لا
يتناسب مع قدراتها وملكاتها.
الثاني: طاقات عاملة، لكنها لم تدرّب ولم تصقل قدراتها الفكرية والعملية؛
فتوقفت عند حد معين لا تقوى على تجاوزه.
الثالث: طاقات مستهلكة في الأعمال المفضولة دون الفاضلة، فحجبها ذلك
عن الترقي في درجات العطاء والنفع للأمة.
الرابع: طاقات مهملة، أهملها المربون، وتركت بدون رعاية أو استثمار،
فأصابها الوهن، وتردَّت مع مرور الوقت، فاستسلمت لدواعي العجز والكسل،
وتآكلت شيئاً فشيئاً حتى أصبحت أثراً بعد عين..!
إنَّ من التحديات الكبيرة التي تواجه قادة الرأي وأولي النهى: إيجاد المحاضن
التربوية والمجالات العلمية المتعددة التي يمكن من خلالها استيعاب شتى الطاقات،
وتنمية ملكاتها الإبداعية المنتجة؛ فالمرحلة القادمة مرحلة عزيمة وجد، والزمن
زمن الأقوياء، ولا مكان فيه للعجزة البطَّالين..! !
__________
(1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكهم) أخرجه: مسلم، في كتاب البر والصلة، رقم 4755) .(175/4)
دراسات تربوية
التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي!
(2 - 2)
مهيمن عبد الجبار
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن التعليم الأجنبي في بلادنا أنه قد أتى
ضمن منظومة واسعة لتغريب الأجيال وإبعادهم عن دينهم، وخاصة بدخول أطراف
أجنبية في هذا المجال، ثم تحدث عن أثر التعليم الشرعي والمدارس الدينية
الإسلامية في كثير من بلاد المسلمين. كما أشار إلى تأثير المدارس الأجنبية في
العالم العربي والإسلامي في خروج أجيال علمانية تتنكر لثوابت الأمة، وضعت
المعايير التي تقاس بها جودة التعليم، وفي هذا المقال يتابع مناقشة الأخطار الناجمة
عن ذلك.
- البيان -
* الخطر على الهوية:
خرَّجت المدارس الغربية عشرات الأجيال من المتغربين: منهم من خلع عن
نفسه ربقة الإسلام كلية واستبدل بها ما دونها، ومنهم من تشبع بانهزامية وانسحاق
أمام الغرب، ومنهم من لم تكن العقيدة ذات بال عنده فانسلك في سياق مادي وقدم
نفسه عميلاً أينما وضعه الغرب وجده، ومنهم من انكمش داخل ذاته، ومنهم من
رفض كل ذلك لكنه بقي مخترَقاً ببعض القيم الغربية التي تحول بينه وبين الحركة
الصحيحة، ومنهم من رفض ذلك علانية فأُقحم في سلسلة من الإهانات والعواصف
النفسية التي جعلت منه أنموذجاً مأزوماً منطوياً على نفسه.
هذه المدارس صاغت أخلاق التلاميذ وكونت أذواقهم، والأهم أنها علمتهم
اللغات الأوروبية التي جعلت التلاميذ قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوروبي،
فصاروا مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي احتكوا بها أيام الطفولة (أي التعليم على
الطريقة المسيحية) [1] .
إضافة إلى أثر اللغة التي يتعلم بها؛ فثمة علاقة قوية بين اللغة والتكوين
العقلي والنظرة إلى الوجود أثبتتها الدراسات الحديثة في علم اللسان، (فأسلوب
الاستجابات والمواقف في مجتمع من المجتمعات يرتبط ارتباطاً وثيقاً باللغة والفكر؛
وعلى هذا فإن الصيغ تؤثر في الذهن وتنظم التفكير بشكل معين) . والبناء
اللغوي الذي يتلقاه الفرد من محيطه مسؤول مسؤولية مباشرة عن الطريقة التي ينظم
بها نظرته إلى العالم [2] .
إن إحدى كبريات المعضلات التي يخلفها التعليم الأجنبي هو غرس بذرة
القابلية للاستعمار لدى نفوس أتباعه. يقول المستشرق جب: [إن التعليم هو أكبر
العوامل الصحيحة التي تعمل على الاستغراب، وإن انتشار التعليم (أي على
الطريقة الغربية) سيبعث بازدياد في الظروف الحاضرة على توسيع تيار
الاستغراب وتعميقه، ولا سيما لاقترانه بالعوامل التعليمية الأخرى التي تدفع
الشعوب الإسلامية في نفس الطريق] ، وقد أشارت بعض الصحف والمجلات إلى
ضعف قضية الولاء لدى خريجي هذه المدارس والجامعات، سواء على مستوى
الدين أو على مستوى الدولة أو على مستوى المجتمع.
وأخطر من الاستعمار السياسي والاقتصادي ما يعرف بالاستلاب العقدي؛
لأنه يجعل الإنسان يدور في فلك وإطار حياتي رسم له ولا يرى له وضعاً غير
وضعه، ويلجأ إلى ما يسميه بعض المثقفين بالتماهي؛ وهو انبناء الشخصية تبعاً
لأنموذج معين حتى يصبح الشخص هو الآخر بأن يكتسب صفاته وهويته دون
إدراك منه.
وقد حرصت كثير من الكنائس الشرقية القديمة على بناء المدارس إلى جنب
الكنيسة؛ بل في حضن الكنيسة في كثير من الأحيان إشارة منها إلى سلطة العقيدة
على الحياة.
ويقول المستشرق (شاتلي) : (إن أردتم أن تغزوا الإسلام وتخضدوا شوكته
وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة؛ فعليكم أن
توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بإماتة روح
الاعتزاز بماضيهم المعنوي وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر
ثقافتهم وتاريخهم، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء منهم لكفانا؛
لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها) [3] .
ومع أن لهذه المدارس جوانب لا تنكر في طريقة العرض، وفي جاذبية
المناهج، وفي متابعة الطالب، وإدارة العملية التعليمية، ولكنها بمثابة ما في الخمر
من فوائد؛ لأنها وهي كذلك تعطي مفاتيح مغلوطة للعلم من حيث كنهه وهدفه
ووسائل تحصيله ومجالات استثماره خاصة حين يصب في خدمة أعداء الله. نعم!
هي تعمل على تنمية الفرد ثقافياً وتجعله يفكر بطريقة منظمة لكن في إطار ما تريد
هي، وينتفي هذا النظام إذا تعلق الأمر بالإسلام أو الثقافة أو الحضارة العربية.
إذن هي لا تعطيه قيماً تعليمية أو تربوية مطلقة يمكنه من خلالها التفكير المستقل
عن الإطار الذي رسم له [4] .
ولا يخفى خطرها في إعادة تشكيل الهوية من خلال توظيفها لكل متاح لديها
ليخدم في هذا المجال من خلال:
- منظومة القيم التي تحتكم إليها المدرسة نصرانية كانت أو علمانية في
إدارتها وفي حكمها على الأمور وكأنها تعوِّده على الرجوع إليها، حتى إذا ما أصبح
هذا الخريج في يوم من الأيام مفاوضاً عرفوا كيف يوظفون مواقفه لصالحهم، بل
إن قناعته بكثير مما يطمح الغرب إليه يصبح أمراً ذاتياً لديه.
- رسم خريطة الأحلام المستقبلية للطالب؛ بحيث يوضع في اعتباره القيمي
مجموعة من الأهداف المستقبلية والطموحات التي ليس من بينها طبعاً العيش في
بلاد الإسلام ولا خدمة مصالحها.
- توظيف مناهج هذه المدارس وهي وافدة تدرس بلغة بلدها الأصلي،
وتعرض تاريخه وتطوره وثقافته ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ ومن
ثم تتجذر قضية الهوية المغايرة في شعور الطالب دون أن يستطيع فهم طبيعة
مشكلات مجتمعه هو ولا ينشغل بقضاياه.
وتصبح اللغة الأجنبية لديه لغة العلم والحضارة والتحدث، وتُجعل قالباً للخبرة
القيمية؛ لأن اللغة حين تنتقل بتعبيراتها ومضامينها إلى الطالب يتشرب تلك
المضامين دون وعي منه.
- الجوانب الأدبية والتاريخية، وهي عنصر إلهام؛ فالتاريخ الذي يدرسه
الطالب في هذه المدارس ليس هو تاريخ الإسلام، وإنما تاريخ القومية التي تتبعها
المدرسة؛ وفي هذا ترسيخ لمفهوم الشعوبية والقومية؛ فعلى سبيل المثال تصور
الحروب الصليبية على أنها حملات تنوير، أو أن أسبابها ليست عقيدية وإنما
سياسية أو اقتصادية، وأنها نتيجة لخلاف سياسي ناتج عن تنازع المصالح أو عدم
تقدير الجانب العربي لمصالح الجانب الغربي؛ ومن هنا تتشكل معالم تذوق جديدة
للخير والحق والجمال.
- المعايشة. ومعلوم أثر المعايشة والجو التربوي في بناء الشخصية؛ لأن
كثيراً من المستعصيات يمكن أن تحل عن طريق المعايشة.
- وما تقوم به من حملات التشهير المغرضة ضد الإنسان العربي المسلم،
ورموزه، ومعطياته الحضارية عبر التاريخ الطويل.
- تعويد الطالب على الفوضى الفكرية باسم التحرر الفكري والحوار؛ حتى
يمكنه أن يغير أفكاره كما يغير ملابسه، ولو ذهبنا نتتبع الموضات الفكرية
والسياسية المطلة علينا من الغرب لاكتشفنا الصلة المباشرة والقوية لها بالتعليم
الأجنبي.
لقد زاد من اتساع الهوة بين الشباب وبين هويته الأصلية أن هذه المدارس
ربطت نفسها بمنظومة مستمرة لا تدع للإنسان قراراً منذ أن يقرع بابها إلا على
الموت؛ فهي بعد تنشئته تغرس فيه الطموح إلى السفر إلى الغرب لاستكمال التعليم،
كما تضمن له غالباً وظيفة مرموقة في شركة من الشركات الأجنبية براتب مرتفع
لتزداد العلاقة بالمجتمع تصرماً وانقطاعاً، ثم تفتح له باب الزواج من غربية، ثم
تحيطه بإطار واسع ومتشعب من الصداقات والعلاقات الاجتماعية في إطار أعرافها
الاجتماعية والثقافية [5] .
* الخطر الأمني [6] :
يتسع مفهوم الأمن ليشمل إلى جانب أمن النظام كمظلة وأمن المجتمع كمحضن
ليشمل أمرين سابقين مقدمين عليهما وهما: العقيدة بوصفها أساساً يقوم عليها النظام
والمجتمع، والولاء باعتباره صلة تربط بين مكونات المجتمع والدولة. والمفترض
أن تعريض واحد من هذين الأمرين للخطر حتى ولو على مستوى فرد يعني
تعريض أمن الأمة للخطر. وللأسف فإن نظرية الأمن القومي الأمريكي قد راعت
هاتين المسلَّمتين بينما أغفلت في الحس العربي ولكن بنظرتها المخالفة؛ لكنها تقيم
لفكرها المنحرف وإنسانها مهما كان وأين كان هذا الاعتبار الأمني.
ومن ثم فإن خطر التعليم الأجنبي على أمن الأمة لا بد أن توضع فيه هذه
الاعتبارات، ويوضع على رأس أولويات الأمن القومي للدولة؛ فمجرد ضعف أو
إضعاف التعليم الوطني هو تهديد للأمن القومي، ومحاولة جهة ما السيطرة عليه أو
التأثير فيه يمثل خطاً أحمر لا يجوز السكوت عنه.
بل إن هذه المدارس في مسألة الأمن قد تخطت هذا إلى ما هو أخطر بكثير
إلى التأثير في إعادة صياغة وتشكيل مفهوم الأمن القومي حتى لا تثار ضدها أدنى
حساسية؛ فالإعلام والثقافة مدرجان ضمن دائرة الأمن دون أن يُدرَج هذا النوع من
التعليم مع أنه أهم وأخطر.
بل على العكس نجد التعليم الإسلامي بكل صوره مدرجاً ضمن مخاطر الأمن
القومي في كثير من بلادنا؛ بينما لا نجد أي حساسية من وجود المدارس الأجنبية
وانتشارها وهي الدخيلة الزنيمة، والسبب في ظني أن الاختراق التعليمي المبكر
لعقل النخبة التي بيدها مقاليد الأمور قد نجح في إقصاء نشاط هذه المدارس من حس
العقلية الأمنية ومن حساسيتها؛ وبهذا يقال إن هذه المدارس قد نجحت في توجيه
سهامها إلى مقومات الأمن الحقيقية للمجتمعات، ولنا أن نقارن بين دور خريج من
خريجي الجامعات يعمل في علن على اختراق عقل الأمة أو تخريب اقتصادها،
وبين متهم بالتخابر مع جهة أجنبية في نفس المجالات التي يعمل فيها الخريج:
كيف ستكون النظرة إلى الطرفين؟ إن عشرات النماذج في طول بلادنا وعرضها
لتخبرنا بما لم يكن متصوراً في حق هؤلاء بل ربما قُدموا للأجيال على أنهم رواد
فكر وحضارة دون أن تشعر الأجيال بالخطر الحقيقي الماثل في صنيع هؤلاء، بل
لم تثر ضدهم أي شبهات.
أما إذا أضفنا بعداً جلياً ومحسوساً دون كلفة منا وهو الدور المعلوماتي
والاستخباري الذي تقوم به كثير من هذه المدارس والمؤسسات التعليمية فإن الأمر
يزداد ثقلاً.
إن إحدى كبريات المعضلات التي يخلفها التعليم الأجنبي هو غرس بذرة
القابلية للاستعمار لدى نفوس أتباعه، ولو أطلق الإنسان عين البحث في تاريخ هذه
المدارس لأمكنه أن يمسك بحبل الصلة بين المدارس الأجنبية وبين الماسونية من
خلال أنها تمثل سلطة كونية تعمل على إخضاع العالم لأدواتها.
ولا يقف الخطر الأمني عند غرس مفاهيم بعينها ضمن النظرية الأمنية، بل
يمتد إلى جوانب أخرى أشار إليها عدد من الباحثين في هذا المجال والتي منها تمييع
قضية الولاء والبراء، وتفتيت هذا الولاء بين ولاءات شتى كل حسب مشربه؛
فالذي تلقى تعليمه في المدارس الفرنسية تجد عموم ولائه لفرنسا، ومن تعلم في
مدارس أمريكية نجد أن أحلامه أمريكية وهكذا.. وفي هذا إذهاب لريح الأمة وتبديد
لطاقاتها بل استثمارها فيما يعود عليها بالضرر. يقول اللورد سالسبوري: (إن
مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات الاستعمار؛ فهي تحدث في البلاد التي
تنشأ فيها انقساماً وتفريقاً بين أهلها، يفقدون بها وحدتهم، فيكونون عوناً للمستعمر
على أنفسهم. وقد سجل بعض المؤرخين ملاحظة مهمة تخص هذا النوع من التعليم؛
وهي أنه لم يكن بين الوجود التعليمي البريطاني 1880م والوجود العسكري
البريطاني 1882م في مصر سوى عامين فقط) [7] .
لقد أشار عدد من الباحثين إلى نجاح التعليم الأجنبي في اختراق جميع
مؤسسات الدولة من القمة إلى القاع مرة بالفكر الذي لقنه دائرة واسعة من الناس،
ومرة أخرى حين نجح في دعم مجموعة ممن تبناهم بعد تخرجهم وعمل على
إبرازهم من خلال وسائل الإعلام؛ لأنه نجح في اختراق الفكر الذي يحكم حركة
هذه المؤسسات؛ وذلك حين نجح في زلزلة معاني العقيدة الراسخة داخل المجتمع
عن طريق طائفة رباها ثم نجح في تسليط الضوء عليها والسعي في التمكين لها
داخل المؤسسات [8] .
ومن هنا فإن السماح بدخول أطراف خارجية إلى ساحة التعليم خاصة في
المراحل الأولية يعني وجود خلل في إدراك النظرية الأمنية التي تحكم الاستراتيجية
المستقبلية للدولة. كما تعني وجود خطر كامن لا يمكن معرفة أبعاده لالتباسه
بالحقيقة الداخلية للمواطن، والتي يصعب في كثير من الأحيان تقدير أثرها؛
ولمحلل أو مدقق أن يجري مقارنة بين مسيرة ألف عام في تطور الشخصية
الإسلامية على المستوى الفردي والجمعي؛ وبين مسيرة هذه الشخصية خلال مائة
عام. وكلي ثقة أن الفارق بين منحنيي التسارع في التغير أجلى من أن ينبه عليه؛
بالإضافة إلى أن مجمل التغير خلال مائة عام فاق بكثير مجمل التغير على مدى
ألف عام، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الأمة.
* الخطر الاجتماعي:
لقد اهتمت هذه المدارس بتعليم المرأة المسلمة لإخراجها من دينها شيئاً فشيئاً،
ولنزع ثوب الحياء عنها. تقول الصليبية (آنَّا مليجان) : (ليس هناك طريق
لهدم الإسلام أقصر مسافة من تعليم بنات المسلمين في مدارس التبشير الخاصة. إن
القضاء على الإسلام يبدأ من هذه المدارس التى أنشئت خصيصاً لهذه الغاية، والتي
تستهدف صياغة المرأة المسلمة على النمط الغربي الذي تختفي فيه كلمة الحرام
والحياء والفضيلة) ! ويوافقها زويمر في ذلك فيقول: (إن أقصر طريق لذلك هو
اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدارسهم بكل الوسائل الممكنة؛ لأنها هي التي تتولى
عنهم مهمة تحويل المجتمع الإسلامي وسلخه من مقومات دينه..) ، وقد تنبه
الغرب لدور المرأة منذ وقت مبكر، فأقام لها مدارس ذات طابع نصراني بنظام
الإقامة الكاملة، واحتضن مجموعة منهن كمشاريع رائدات تغرير (تحرير) لأن
المرأة أسلس قياداً لكونها مجبولة على التبعية. ولأسباب أخرى نجح الغرب في
تكوين إطار نسوي كانت بواكيره في تلك المدارس المغلقة لتصبح المرأة معول هدم
بعد أن كانت أداة بناء خاصة حين تتبنى الرؤى الغازية لقضية المرأة والمجتمع.
إن مفاهيم تحرير المرأة قد نمت بذرتها في محاضن التعليم الأجنبي من
خلال شبهات المستشرقين المبثوثة في المناهج مرة ومن خلال الأمور المكملة
من مسرحيات وقصص ونماذج غربية و.. و.. و.. ومن كان يتصور مثلاً أن
تصدر في بلادنا العربية سلسلة من القوانين تمكن للمرأة وتسحق الرجل، أو تفسح
المجال أمام الشذوذ وتضيقه أمام الزواج، وما يصبغونه على مسالك الغواية من القداسة ضمن تسويق فني وطرح إعلامي يستأثر به صنائع هذه المدارس ليكمل
الطوق، ثم تأتي سلسلة القوانين لتفرض مظلة وترسخ لعرف ما كان له أن
يشيع بين المؤمنين لولا المكر الكُبَّار؛ فالباليه يُقدَّم على أنه من الثقافة،
والرقص ثقافة، والنحت ثقافة، والجنس أيضاً ثقافة.
* ترسيخ الطبقية وتفتيت المجتمعات:
وإلى جانب هذا فقد ساهم التعليم الأجنبي في ترسيخ الطبقية داخل المجتمعات؛
حيث إن نظام الالتحاق به كان مبنياً على ذلك؛ فرسوم الالتحاق بهذه المدارس
باهظ جداً ولا يستطيعه إلا الأغنياء وهم الطائفة التي تريدهم هذه المدارس وتعطيهم
الأولوية حتى يمكنها أن تقيم علاقة مع هذه الطبقة (وهي طبقة الصفوة الاقتصادية
والسياسية، والاجتماعية تبعاً) لتحقق من وراء ذلك عدة أهداف:
- أن الاتصال بهذه الطبقة يسهل عمل هذه المدارس ويفتح لها مغاليق
الأبواب.
- أن تربية أبناء هؤلاء مضمون العائد نظراً لأنهم هم الأقرب من امتلاك
زمام الأمور سياسياً واقتصادياً وفكرياً في المستقبل.
- أن هؤلاء الأولاد غالباً ما يكون الترف قد أكل منهم وشرب؛ وعليه يسهل
إقناعهم بأي شيء، ولعلنا لا نمل إذا رددنا أن عبدة الشياطين كانوا من أبناء هذه
المدارس ومن نفس الطبقة المستهدفة.
- غالباً ما تكون هذه الأسر في حال تفكك لانشغال الأبوين عن الأولاد؛ ومن
ثم فلا توجد سلطة تربوية أو رقابية يمكن أن تفسد ما تغرسه هذه المدارس.
- أن وجود هؤلاء الصفوة يفتح المجال أمام طبقات أخرى أقل في المستوى
والمكانة، لكنها مصابة بداء المحاكاة وحب التقليد؛ فتسعى إلى إلحاق أولادها تشبهاً
بغيرها؛ وكأن هذا يكسبها مكانة في عين الناس! وساعد في هذا عدد من الأفلام
والمسلسلات.
لهذه الأسباب توجهت المدارس الأجنبية لهذه الطبقة فحولتهم إلى نموذجها
ورسخت فيهم الشعور بالاغتراب، والنظر إلى المجتمع بنظرة التنقص والنفور،
والشعور بالانتماء إلى الغرب بحضارته وقيمه ونظمه، وربما بما هو أكثر:
بعقيدته سواء العلمانية أو النصرانية.
* المخاطر الأخلاقية:
كثيرة هي المفاسد الأخلاقية التي تورثها الدراسة بهذه المدارس، وأثرها
ظاهر فاشٍ؛ ومن أخطرها زوال الحساسية الإيمانية (وازع الإيمان) ؛ إذ يقترف
الإنسان كثيراً من المنكرات دون أن يهتز منه قلب، بل إننا نرى في كثير من
الأحيان مفاخرة ومجاهرة بالحرام.
وبالإضافة إلى ما تبثه من شرور مقصودة، فإنها تعد قناة مباشرة لنقل
أمراض المجتمعات الغربية إلى مجتمعاتنا؛ ومن ذلك الانتحار والجرائم الأخلاقية
والجريمة المنظمة، ولم يكن من عجب أن يسجل لنا أحد الباحثين المطلعين على
أوراق قضية عبدة الشيطان التي تفجرت في منتصف عام 1417هـ أن المنتمين
إلى هذه الفئة كانوا جميعاً من منتسبي المدارس الأجنبية وخريجيها!
ومن بينها الاختلاط والتبرج، ونزع الحياء، وإقامة العلاقات المحرمة باسم
الحب والصداقة، ومثل هذه المباذل يرسخ التعليم في نفس الطالب أنها من حقوقه،
وأنه لا بد أن يمارسها حتى يتخلص من عقدة النقص؛ أي أنهم ركبوا في صورة
الإنسان الكامل عشرات من الذنوب والمنكرات من الكذب والغش والخداع، والنفاق
والتملق، وأكل الربا والحرص على متاع الدنيا، وترسيخ قيم الفردية والأنانية
وعدم الاهتمام بمشاعر الغير، وتفسير كل شيء تفسيراً مادياً؛ والنتيجة ما نرى
فضلاً عما نقرأ ونسمع من نمط غربي في الحياة حتى في أدق المسائل حساسية لدى
الإنسان العربي. لقد تحدث بعض المطلعين على مثل هذه الأوساط فقال: لقد
أصبح من الشائع حتى بلغ درجة العرف بينهم أنه من العيب في حق الشاب حين
يتزوج أن يسأل عن عفة زوجته " بكارتها "؛ وكأن الأصل عندهم هو الماضي أي
أن لكل فتاة ماضياً ومن العيب أن يسأل عنه كما هو الحال مع الشباب. نسأل الله
العصمة والسلامة. ويتناسق هذا ويتناغم مع موضة الثقافة الجنسية وآلاف المواقع
والقنوات الاستباحية.
وهكذا نرى أنه كلما نجح هؤلاء في ترسيخ مبدأ جديد في نفوس الأبناء قطعوا
شوطاً في إبعاد هؤلاء عن الالتحام مع مجتمعهم والتفاعل مع هويتهم.
أما باقى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية فالمخاطر فيها تابعة
بالضرورة للجوانب التي ذكرت آنفاً، وإن بدا أنها هي التي تؤثر في غيرها؛ لأنه
عند التجريد نجد أن السياسة حين تؤثر سلباً على الهوية الاجتماعية أو على الحالة
الاجتماعية أو على التعليم فإنها تكون في ذلك الحين قد افتقدت دورها العقدي
الأصيل واستبدلته بعقيدة مغايرة كما افتقدت بُعدها القيمي والاجتماعي، كالعضو من
الجسد حين يهمل فيعود ضرره على سائر الجسد.
وبعد هذا لم نذكر ما ذكرنا لنيأس من العلاج، ولكن لنشخص ما أصابنا كي
يسهل إدراك الدواء؛ والدواء مركب على قدر تركيب الداء، والعافية لا تدرك إلا
بتجرع الصبر، وذوق المر والفطام عن أسباب السقام.
* الحلول:
إن النظر في حلول أي مشكلة لا بد أن ينبع من معاناة واقعية لعقيدة معينة؛
وحين ذلك تتحول المعاناة من مجرد بحث عن حلول لمشكلات مزمنة إلى بناء
حضاري، وهذا ما ينبغي التفكير في إطاره؛ لأنها حين إذن تخرجها من كونها
عملية آلية للتغيير إلى عملية إنسانية، وهذا واجب المسلم أينما كان؛ لكن المسألة
أكبر من طاقة فرد أو مجموعة، ولا بأس أن يدلي كل بدلوه وينافس غيره،
ويتعاون الكل على البر والتقوى.
وما سُجّل هنا من حلول قد سبق إليه أفاضل وأكابر ضم إليه غيره وهو في
افتقار إلى زيادة، والجميع في حاجة إلى مبادرة وريادة، وكما قص علينا القرآن:
[قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ
فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (المائدة: 23) .
ومن بين هذه الحلول:
1 - توعية الآباء وأولياء الأمور بمخاطر هذه المدارس؛ فهي تجمع المعاني
التي حرم الخمر والميسر من أجلها، وما الخمر والميسر إلا إحدى ثمارها الخبيثة،
وفيها معنى مسجد الضرار، ومجالس الخوض في آيات الله والكفر به، كما أن
تقديم الوالدين ولدهما إلى هذه المدارس يجعلهما ضمن من قال النبي صلى الله عليه
وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه،أو ينصرانه، أو يمجسانه) [9] ،
ولو لم يكن في ذلك إلا فقد الولد الصالح الذي يدعو له لكفى؛ فكيف وفيها
تبعة الدنيا والآخرة؟ ! ولو أخذنا نموذجاً واحداً من صنائع هذه المدارس لوجدنا أن
من دفع بهم إلى هذه المدارس شريك لهم في التبعة، ولا يصح التعلل بوجود رقابة
ومتابعة في البيت؛ لأنه لا يدري ما يحدث من ورائه، والقلوب ليست في يده،
ولا يدري من يكون أقوى أثراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يورِدَنَّ
على مُصِحٍّ ممرض) [10] وقال: (فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد) [11] .
والمرض البدني أهون في شره من أمراض القلوب والعياذ بالله، وقد كان السلف
رحمهم الله يشددون النكير في مجالسة أهل البدع؛ فكيف بأهل الكفر الذين يعدون
الكيد لنا ديناً؟ !
وكيف يسلم الأب ابنه إلى قسيس في ثياب معلم، أو معلم بقلب زنديق ثم
يرجو له السلامة؟ ! وإن على الأب ألاَّ يتصور أن هؤلاء ناصحون مخلصون له
في ولده؛ فإنهم وإن أعطوه ما يريد فلن يعطوه إلا بعد أن يأخذوا منه ما أرادوا هم،
وهذه شهادة من المبشر هنري هريس جسب يقول فيها: (إن التعليم في
الإرساليات التبشيرية إنما هو وسيلة إلى غاية فقط، هذه الغاية هي قيادة الناس
وتعليمهم حتى يصبحوا أفراداً مسيحيين وشعوباً مسيحية، ولكن حينما يخطو التعليم
وراء هذه الحدود ليصبح غاية في نفسه، وليخرج لنا خيرة علماء الفلك، وعلماء
طبقات الأرض، وعلماء النبات، وخيرة الجراحين في الزهو العلمي.. فإننا لا
نتردد حينئذ في أن نقول إن رسالة مثل هذه قد خرجت عن المدى التبشيري إلى
مدى علماني محض، إلى مدى علمي دنيوي..) [12] . وقد أشرنا إلى أن المدرسة
ليست مناهج أو مدرساً وحسبُ، ولكنها نظام يصبغ الطفل مع الوقت بصبغته؛ فإذا
أخذنا في الاعتبار فساد الزمان وقلة الناصح ومحاربة سنن الهدى؛ فكيف يمكن أن
يفلح في الجمع بين صلاح دينه ونيل دنياه، وقد نهينا عن اقتحام السبل؟ !
وحتى نكتشف حجم الخديعة في هذه المدارس يمكن لأي منا أن يجري إحصاء
سريعاً حول تعليم النوابغ في بلادنا ليجد أنه لا صلة بين التعليم الأجنبي ونبوغ
هؤلاء، بل إن غالبهم من التعليم النظامي.
وقد ذكرنا المخاطر الكامنة في إلحاق الأولاد بهذه المدارس والتي منها فقدان
دينه أو تشويه شخصيته إذا ما أبى إلا التمسك بدينه عبر عشرات الإجراءات،
والتي منها الاضطهاد، وتشويه صورته أمام زملائه.
والغريب أن هؤلاء المنصِّرين لم تشغلهم أموالهم وأهلوهم عن قضيتهم التي
جاؤوا من أجلها؛ بينما نجد من بيننا من شغل أولاده بهمِّ هؤلاء، فضلاً عن اشتغاله
بهمِّ دنياهم عن همِّ دينه ودينهم.
2 - نشر فتاوى أهل العلم في تحريم الالتحاق بهذه المدارس، وتحريم تأجير
الأماكن لها أو بيع الأراضي لبنائها، أو الترويج لها، والعمل فيها أو معاونتها،
وفي وجوب التضييق عليها ووجوب مجابهتم وصدها والتحذير من مخاطرها،
ونقلت الفتاوى في ذلك عن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد
بالسعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، وقرار هيئة كبار
العلماء بالأزهر برئاسة شيخ الأزهر، وفتاوى عدد من العلماء والدعاة ومقالات
للمفكرين ومن هؤلاء: الشيخ الخضر حسين شيخ الأزهر، والشيخ عبد الله بن
سليمان بن حميد، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ عبد الرحمن بن
سعدي، والشيخ عبد الرحمن الدوسري، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محب الدين
الخطيب، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ أبو الحسن الندوي - رحمة الله عليهم
جميعاً -، وغير هؤلاء كثيرون، وكان لفتاواهم صدى في أوقاتها؛ لكنْ مع إلف
الواقع وقلة الناصح وقلة الاحتساب ضعفت الهمم وغاب الوعي ولا حول ولا قوة إلا
بالله؛ ففي فتاوى هؤلاء تعرية لحقيقة هذه المدارس وبيان لمخاطرها وبيان لحكمها،
ويمكن مراجعتها في كتاب: (المدارس الأجنبية) للدكتور بكر بن عبد الله
أبو زيد.
3 - بيان حكم هجرة علماء الأمة إلى خارج بلاد الإسلام والإقامة هناك؛
وهو التحريم إذا لم يكن لطلب العلم، ولا لاستكمال البحث والدراسة، ثم العودة
فور انتهاء مهمتهم؛ وذلك لاحتياج أمتهم إليهم خاصة في حال الحاجة إليهم،
وخاصة أن جهودهم اليوم تصب صراحة في دعم العدوان الصريح على الإسلام
وأهله، ويشمل هذا جميع الطاقات والتخصصات التي لم تسد حاجة الأمة فيها من
بين أبنائها.
4 - تبني الأقسام التربوية والإعلامية والدعوية في الجامعات لخطة بحثية
شاملة للخروج بحلول عملية ليس لإنهاء الاستعمار التربوي فقط، وإنما لتلافي
الآثار الفكرية والنفسية والسلوكية لهذه المدارس على الأجيال المتخرجة وانعكاساتها
السياسية والثقافية على المجتمع.
5 - التخطيط التربوي للتعامل مع التحديات القائمة والقادمة؛ فالساحة تحتاج
إلى ذوي الخبرات والباحثين في ميدان التربية لوضع خطط متوازية تصلح كل منها
للتطبيق في ظل الظروف العالمية الراهنة؛ ومن هنا يمكن إيجاد طبيعة تربوية
مرنة تسمح بالتطبيق حتى في ظل التجفيف المستمر لينابيع الإسلام. وأمامنا
تجارب متوافرة يمكن الاستفادة منها مثل تجربة الفترة المكية.. تجربة مصر في
ظل الحكم العبيدي.. والمسلمين في آسيا الوسطى في ظل الحكم الشيوعي.. وفي
تركيا في ظل الكمالية.. وفي الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي.. وفلسطين في
ظل الاحتلال الصهيوني.. وتجارب الأقليات الإسلامية والجاليات التي نجحت في
بناء هيكلية تربوية وتعليمية خاصة بها.
6 - دراسة حالات النهوض التعليمي المختلفة الشهيرة في العالم، والاستفادة
منها مثل التجربة اليابانية والصينية والماليزية والاستفادة منها في إنهاض التعليم
الرسمي.
7 - إقامة مجموعة من المواقع الإلكترونية التي تتنوع وتتكامل في نشاطها
لتصب في مواجهة الخطر القائم والقادم من قبل التعليم الأجنبي، فتتوزع الأدوار
فيما بينها وفق تخصصات مدروسة إما موضوعية أو جغرافية؛ لبيان خطر هذه
المدارس في مختلف أركان العملية التربوية، (المناهج، الممارسة، سلوك الإدارة،
النظم، الوقائع اليومية، وسائل التأثير، الأدوات المكملة) بما يمهد لمقاطعتها
وتحجيم مخاطرها.
8 - علاج أسباب الإقبال على مثل هذا النوع من التعليم وعلاجها ومنها:
أ - تخلف التعليم الرسمي وفقدان الثقة فيه مع أنه على ما فيه من مثالب
وعيوب قد خرَّج لنا فطاحل في كل مجال، والمشكلة تكمن في أعراض يمكن
علاجها رسمياً، كما يمكن الاستعاضة عن نقصها بتكميلات مجتمعية.
ب - نيل المكانة الاجتماعية التي فرضها واقع هذه المدارس وحين ينافس
التعليم الإسلامي والمحلي في الجودة التعليمية؛ فإن مسألة المكانة ستصبح لا قيمة
لها خاصة عندما تتلقف الأسواق الخريجين من ذوي الكفاءة والخبرة العالية.
ج - التقليد الأعمى نتيجة ضغط الواقع والأعراف التي تقرن بين الانتساب
إلى هذه المدارس وبين المستويات الاجتماعية العالية؛ وعلاجها: إيماني نفسي
دعوي.
د - فتح مجالات التوظيف أمام خريجي تلك المعاهد والجامعات الأجنبية بعد
عودتهم، وقد نجحت هذه الجامعات الأجنبية أن توفر لخريجيها فرصاً للعمل؛ إذ
تعد شهادتها بمثابة وثيقة ضمان لنيل الوظيفة.
هـ - المظهر البراق لأداء تلك المدارس سواء من جهة: الاسم.. البناء..
الملبس.. ومستوى الإدارة.. كفاءة المدرسين.. والرسوم المرتفعة.. والمواصلات.
و قبول الأطفال في سن مبكرة عن سن التعليم النظامي؛ حيث تقبل
الصغار في سن الروضة والابتدائي بحد أقصى يقل شهوراً عن التعليم العام، وهو
سبب مهم يجعل أولياء الأمور يلجؤون إليها لاختصار سنة من سنوات التعليم.
ز - تقديم المادة التعليمية بطريقة منظمة ومرتبة، وجودة المناهج من حيث
الإخراج والصياغة لا من حيث المادة.
ومثل هذه الأسباب تحتاج إلى نظم خطاب دعوي خاص بهذه الحالة،
والاستفادة من بعض أصحاب التجارب في كشف عوار هذه المدارس مع تقديم
البديل وعلاج القصور ما أمكن.
9 - ويحتاج إلى نهوض بالتعليم الإسلامي العام الخاص، والعمل على زيادة
عدد المدارس ما أمكن. والمراد هنا المدارس الخاصة التي تحل المشكلة وتحقق
معايير الجودة الحقيقية للتعليم، وهذا يحتاج إلى رؤوس أموال للاستثمار في هذا
المجال وهو مجال مربح جداً على ألا يكون الربح المادي هو الباعث الوحيد
للاستثمار؛ لأن الاستثمار في مجال التعليم استثمار بشري في المقام الأول، وقد
أثبتت النماذج الإسلامية حينما توفق إلى إدارة جيدة ونماذج تربوية ناجحة تفوقاً
على ما سواها من المدارس الأخرى، ومراعاة أحوال المجتمعات وظروف الدول
خاصة مع الغزو الإمبريالي المكثف لمجال التعليم في السنوات القليلة الماضية، وقد
يكون السمت الإسلامي محارَباً في بعض البلدان لكن يمكن إبقاؤه عند أدنى حد.
10 - جعل قضية رفع مستوى التعليم في المدارس الحكومية همّاً يومياً من
هموم الآباء، وجزءاً لا يتجزأ من خطاب الدعاة.
11 - عودة وظيفة المؤدب التي عرفتها الخبرة الإسلامية، ويمكن ذلك عن
طريق تشجيع أصحاب المواهب التربوية على سلوك هذا السبيل وتنمية مهاراتهم
وخبراتهم وكفالتهم مادياً، حتى لو كفلت كل مجموعة من الأسر شاباً ممن يلتمس
فيهم الربانية والنبوغ في الجانب السلوكي والتربوي في مقابل تأديب أولادهم بآداب
الشرع على أن ينمى تربوياً ويكفل مالياً، وإطلاق الملكات الإبداعية في هذا المجال؛
أي أننا نريد أن نخرج دور المؤدب من العمل الهامشي إلى ممارسة دور رئيس
في إطار منتظم يكتسب استمرارية، ويلقى احتراماً من المجتمع، هذا العمل في
صورته الصغيرة يمكن أن يحقق طفرات يصعب قطفها أو اجتثاثها، أو حتى
إعاقتها. ومعلوم تاريخيا أن كل مرحلة تاريخية يمكن أن تولد وظائف وأدواراً
جديدة تلقى رواجاً واحتراماً؛ وهذا ما يراد لوظيفة المؤدب بأن يصبح لها إطارها
العام وأدبيات الممارسة، ويمكن الاستفادة في هذا من تراث الأمة الضخم في هذا
المجال والبناء عليه؛ بحيث يُرعى من خلال الأسر التي يقوم على تربية أولادها،
وبهذا نضمن وجود مؤسسة تربوية جانبية يصعب عرقلتها تحت أي ضغوط.
12 - منهجة التربويات والعلوم المختلفة بحيث يقدم خبراء التعليم والمناهج
خبراتهم إلى المربين والمعلمين من النوع المشار إليه سابقاً في صورة مناهج قابلة
للتدريس.
وختاماً: فإن المواجهة اليوم ضد الإسلام شاملة؛ ولهذا فهي تحتاج إلى نفير
شامل؛ وإصلاح الخلل لن يكون إلا بتلمس مواطن الأقدام، ووضعها على الطريق
الصحيح؛ والتعليم اليوم هو بؤبؤ العين وحجر الزاوية.
__________
(1) الخنجر المسموم، ص: 27، عن الغزو الفكري التحدي والمواجهة، ص 106.
(2) التخلف الاجتماعي، ص 80.
(3) الاتجاهات الفكرية المعاصرة، ص 12.
(4) ومن الأدلة على ذلك أن البروز الريادي في الجانب العلمي لم يرتبط غالباً بخريجي هذه المدارس والجامعات رغم ما تشيعه هذه المدارس عن نفسها؛ فهي لا تمنح الذكاء ولكنها قد تستغل بعض الأذكياء.
(5) ليلاحظ معي القارئ أن بعض الجامعات الغربية تقوم بنشر إعلانات مدفوعة الأجر تنشر في بعض الصحف والمجلات العربية وخاصة المهاجر منها، تنشر على شكل تحقيقات عن مستوى خريج هذه الجامعات وأنه الأفضل، وأن كل الأبواب مفتوحة أمامه، بل ربما هو الذي يُطرق بابه! وهو أسلوب رخيص في ترسيخ الانهزامية لدى خريج الجامعات الوطنية، ولون من ابتزاز أولياء الأمور لإلحاق أولادهم بهذه الجامعات.
(6) في عام 1992م صدر تقرير عن الكونجرس الأميركي يشير إلى أن أوضاع التعليم في الولايات المتحدة أصبحت تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأشار إلى أن الوضع لو استمر على ما هو عليه لمدة 20 سنة، فسوف يسبب خطراً على الأمن القومي الأمريكي؛ ولذلك صدر قرار الكونجرس بإصلاح التعليم وتغييره.
(7) في الأشهر الأخيرة نقلت الصحف أخباراً عن اشتعال المظاهرات المعارضة للتواجد السوري في لبنان في جامعة القديس يوسف، وهو نفس الموقف الذي تتبناه الكنيسة المارونية؛ والسؤال عن التوقيت والهدف.
(8) على أنه لا يلزم أن يكون كل خريجي هذه المدارس والجامعات على نحو واحد؛ ففيهم شرفاء ومنهم المنضبط شرعاً ولكنهم قليل، والحكم للأعم الأغلب.
(9) أخرجه البخاري، رقم 1296.
(10) أخرجه البخاري، رقم 5328.
(11) أخرجه أحمد، رقم 9345.
(12) غزو في الصميم، ص 25.(175/8)
الإسلام لعصرنا
الإنصاف في معاملة غير المسلمين
أ. د جعفر شيخ إدريس [*]
أصبح من بدهيات عصرنا أننا نعيش اليوم في عالم تشابكت فيه مصالح الأمم؛
فلم يعد من الممكن لواحدة منها بلغت من القوة ما بلغت أن تنعزل مستقلة عن
غيرها مستغنية بنفسها. فنحن إذن محتاجون إلى معالم نهتدي بها في تعاملنا مع
غيرنا معاملة نحقق بها مصالحنا ولا نساوم بها على ديننا. أول معلم يهدينا إليه
كتاب ربنا هو أن معاملتنا لغيرنا يجب أن تؤسس على الحقائق، حقائق الدين
المتلوة، وحقائق الواقع المشهودة. من أمثلة الحقائق الواقعية التي يخبرنا بها ربنا
ويأمرنا أن نبني عليها تعاملنا قوله - تعالى -: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ
عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] (فاطر: 6) . أي إنه إذا
كان الشيطان عدواً فيجب أن تكون معاملتك له مبنية على هذه الحقائق، لا على
أمور عنه تتوهمها. والحقائق الواقعية يمكن أن يدركها البشر إدراكاً مباشراً، كما
يمكن أن يعرفوها بخبر الله - تعالى - في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله
عليه وسلم. وأخبار الله - تعالى - صادقة، والخبر الصادق هو المطابق للواقع،
وإلا فهو كاذب. فما الحقائق المشهودة التي يخبرنا بها ربنا أو نشاهدها بأنفسنا عن
غير المسلمين ممن يساكنوننا هذه الأرض في عصرنا هذا؟ أول ما نتعلمه من ديننا
ويؤكده لنا واقعنا أنهم وإن كانوا جميعاً غير مسلمين لكنهم ليسوا سواء في قربهم
وبعدهم من حقائق الدين، وليسوا سواء في معاملتهم للمسلمين. وإذا كانت هذه
حقيقة فيجب أن لا نغفلها في تعاملنا معهم. يجب أن نعامل كل فرد أو جماعة منهم
بحسب ما نعرفه من حالهم. وهذا ليس إنصافاً لهم فحسب لكنه أمر ضروري
لتحصيل كثير من المصالح ودفع كثير من المفاسد. لكننا كثيراً ما نجنح إلى التعميم
حيث يكون التمييز هو الأنسب، وكثيراً ما نذكر آيات تدل على هذا العموم ونغفل
الآيات التي تخصصه أو تقيده.
من القريب منا ومن البعيد من اليهود والنصارى وسائر المشركين؟ سيسارع
بعضنا إلى تذكيرنا بمثل قول الله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
ويريد أن يستدل بهذا على أن ما قال ربنا سبحانه ينطبق على كل فرد فرد
منهم، وأن معاملتنا لهم يجب إذن أن تكون كلها مرتكزة على هذه الحقيقة، لكن
كتاب ربنا نفسه يدلنا على خطأ هذا الفهم. إن صيغة الآية صيغة عموم ما في ذلك
شك، لكنها مخصوصة بآيات أخرى، وبواقع نشاهده. فكتاب ربنا يخبرنا ان
بعض النصارى يسلمون.
[وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا
مِنَ الحَقِّ] (المائدة: 83) .
فهؤلاء نصارى لكنهم لم يكونوا من النوع الذي لا يرضى عنا إلا إذا اتبعنا
ملته، بل اعترف بأن ملتنا هي الحق، وهداه ربه إلى قبول هذا الحق. وما أخبرنا
به ربنا في القرآن الكريم ما نزال نشاهده في أفراد من النصارى يسلمون ويبكون
حين يسلمون. وما يقال عن النصارى يقال أيضاً عن اليهود، فإن منهم أيضاً من
هداه الله تعالى إلى الإسلام من أمثال الصحابي الجليل عبد الله بن سلام الذي شهد له
الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة.
وما يقال عن تلك الآية يقال أيضاً عن آيات أخرى عمومها الظاهري
مخصوص. من ذلك قوله - تعالى -: [وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ
النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ] (التوبة: 30) .
كنت أفهم هذه الآية الكريمة على عمومها الظاهري هذا، فكتبت كتيباً باللغة
الإنجليزية منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً استدللت فيه بها على أن اليهود يؤلهون
عزيراً كما النصارى يؤلهون عيسى. فعجبت عندما أخبرني الإخوة الناشرون بأنه
جاءتهم احتجاجات من بعض اليهود على ما نسبته إليهم، وطالبوني بالدليل. ولم
يكن لدي من دليل غير القرآن الكريم. لكن أحد إخواننا السودانيين الدكتور إبراهيم
الحاردلو ممن درسوا العبرية وتاريخ اليهودية، أخبرني أن أستاذه اليهودي نفسه
كان قد استغرب مما ذكره القرآن الكريم، لكنه ذهب وراجع كتب تاريخهم، ثم جاء
ليقول للأخ إنه كان بالفعل هنالك جماعة من اليهود في المدينة في ذلك الوقت
يؤمنون بأن عزيراً ابن الله. وعندما راجعت كتب التفسير وجدت ما فيها مطابقاً لما
قال، فابن كثير مثلاً يقول بعدما ذكر عن السدي قصة طويلة عن عزير: (فقال
بعض جهلتهم إنما صنع ذلك لأنه ابن الله) . ويقول صاحب التحرير والتنوير:
(والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة وتبعهم كثير من عامتهم) ،
كل هذا يدلك على أنه من الخطأ أن تفهم الآية الكريمة على عمومها الظاهري فيظن
أنها تنطبق على كل فرد ينتسب إلى اليهودية؛ لأن من اليهود المحدثين من لا يعلم
أن بعضاً من سلفه كان يقول هذا. فكيف ينسب إليه قولهم؟ وقد أعجبني في هذا
الصدد إنصاف شيخ الإسلام ابن تيمية حين فرق بين من حرف ومن لم يحرف من
أهل الكتاب فقال: (وعلى هذا فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب،
وفيهم آخرون لم يعلموا ذلك فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول، لم يجب
أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد) [1] . بل إن في واقعنا اليوم ما هو أغرب
من هذا، فهنالك اليوم آلاف مؤلفة ممن ينتسبون إلى النصرانية في أمريكا لكنهم لا
يؤمنون بأن عيسى ابن الله!
أسوق كل هذا لأقول إننا يجب أن نعامل الناس بحسب الحقائق التي نعرفها
عنهم، ولا نلزمهم باعتقاد ينكرونه مستدلين على ذلك بالقرآن الكريم. كيف أفعل
مع إنسان يزعم أنه نصراني لكنه يصرح بأنه لا يعتقد بأن المسيح ابن الله؟ هل
أقول له ما دمت نصرانياً فلا بد أن تؤمن بأنه ابن الله؛ لأنه هكذا أخبرنا كتاب ربنا؟
في مقابل هذا إذا وجدت من يزعم أنه يهودي أو نصراني لكنه لا يؤمن بضرورة
الذبح مثلاً فلن آكل طعامه؛ لأن طعامه إنما أحل لنا بسبب أنهم يذبحون. أما الذي
نعلم أنه لا يذبح فطعامه حرام حتى لو كان مسلماً؛ فكيف إذا كان يهودياً أو نصرانياً؟
وبمثل هذا السبب لم يعامل المسلمون نصارى بنى تغلب معاملة النصارى؛ لأنهم
كما قال عنهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: (لم يتمسكوا بشيء من
النصرانية إلا بشرب الخمر) [2] .
نعم إذا وجدت فرداً أو جماعة من اليهود أو النصارى يتصفون بمثل صفات
اليهود والنصارى الذين قال الله - تعالى - عنهم إنهم لن يرضوا عنا حتى نتبع
ملتهم، أو أنهم شديدو العدواة لنا، فلن أصدق إنكارهم لهذا؛ لأن هذه حالات قلبية
يمكن أن يكونوا فيها كاذبين. بل لا بد أن يكونوا كاذبين إذا كان حالهم الظاهري
يشبه حال الذين تحدث عنهم القرآن الكريم.
إذا أردنا أن نعامل غيرنا معاملة منصفة، والمعاملة المنصفة هي دائماً في
مصلحتنا، فلا بد لنا من معرفة مثل هذه الحقائق وتذكرها والالتزام بها في معاملتنا
لهم ولا سيما في القضايا الكبيرة مثل قضية فلسطين. إن بعض اليهود وإن كانوا
قلة هم معنا في عداوتهم للحركة الصهيونية، بل وفي إنكارهم لقيام دولة إسرائيل؛
فهل من الإنصاف لهم، وهل من مصلحتنا أن نقول لهم إننا لا نفرق بين يهودي
وصهيوني في حربهم لنا؟ إن من الأمريكان ومن الأوروبيين من يهودهم
ونصاراهم ومشركيهم من هم مع الحق الفلسطيني وضد الاعتداء الصهيوني، وهم
لا يستخفون باعتقادهم هذا بل يستعلنون به كلاماً وكتابة ومواقف عملية، أفليس من
حقهم علينا أن نشكرهم على هذا، بل ونكافئهم إن استطعنا؟ ثم أليس من مصلحتنا
أن تنشق صفوف المعتدين ويكثر عدد المنصفين؟ كيف إذا سمع أمثال هؤلاء أن
بعض المتدينين منا هم الذين لا يقدرون لهم هذا المعروف، وهم الذين لا يميزون
بين معتد ومنكر للاعتداء ومحايد لا هو معنا ولا ضدنا. أليس في هذا فتنة لهم؟ ما
هكذا كان يفعل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. ألم يقل يوم بدر عن أسارى
المشركين: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له)
كان سيفعل هذا مكافأة له لأنه كما قال الحافظ ابن حجر: (كان من أشد من قام في
نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين
حصروهم في الشعب) [3] .
إن الذي ينبغي أن نتذكره نحن المسلمين أن ديننا يخبرنا بأن كل إنسان يولد
حين يولد على الفطرة، وأن الشر الذي يتلبسه طارئ عليه. والشر الطارئ يختلف
قوة وضعفاً من إنسان لإنسان. وقل أن تجد إنساناً فقد كل الخير الذي فطره الله
عليه، فعاد لا يرى المعروف إلا منكراً والمنكر إلا معروفاً. كلاَّ؛ فعامة الناس
فيهم شيء من نبض الفطرة؛ ولذلك يسلم بعضهم حين تتبين له الحقيقة. ولذلك تجد
فيهم الكريم والمنصف والشجاع في قول الحق. فعلينا أن نستثمر هذه الصفات
الحسنة في الناس ونجازيهم عليها؛ فذلك خير لنا، وهو من سنة نبينا صلى الله
عليه وسلم.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) الجواب الصحيح، ج 2، ص 295.
(2) تفسير الطبري.
(3) الفتح، ج 7، ص 325.(175/16)
آفاق
الاستثمار في الإعلام
د. عبد الكريم بكار [*]
كان المفترض أن يقود المسلمون ثورة الاتصالات في العالم حتى يتمكنوا من
تبليغ الرسالة، وحتى يتمكنوا من التواصل والتعاون فيما بينهم، ولا سيما أنهم
موزعون على أرجاء العالم كافة؛ لكن بما أن ذلك لم يحدث - لأسباب معروفة -
فلا أقل من أن نستفيد من الإمكانات الهائلة التي وفرها التقدم التقني على صعيد
الاتصالات والبث الفضائي وشبكات المعلومات.
إنني لا أعني ابتداء بالاستثمار استثمار المال فحسب؛ فالمال ضروري
وجوهري ومن دونه لا نستطيع القيام بالكثير من الأعمال، لكن هناك أمور كثيرة
أيضاً لا تحل بالمال، إنني أعني بالاستثمار في الإعلام إيجاد الاهتمام أولاً بهذا
القطاع الحيوي والمهم جداً حيث إن أي مجال أو قطاع لا يرتقي إلا من خلال كثرة
المهتمين به، كما أعني بالاستثمار في الإعلام بذل الجهد والوقت في تفعيل دور
الإعلام الإسلامي في النهوض بالأمة وحل مشكلاتها؛ فبناء مواقع إسلامية على
(الإنترنت) يتطلب المال، ولكنه يتطلب الجهد والتعب أكثر من حاجته إلى المال،
وطبيعة ممارسة الإعلام والدعوة إلى الله - تعالى - على الشبكات المعلوماتية تتسم
بالمرونة، ويمكن أن يسهم في إثرائها الكثير الكثير من الشباب والأشبال بعد القليل
من التدريب والخبرة، إننا بالمال نستطيع إيجاد بنى وهياكل إعلامية لكن بناء
الإعلامي اللامع المحترف يحتاج إلى وقت وقد يكون عليك أن تصبر عشرين سنة
حتى تحصل على إعلامي ممتاز؛ ففهم البيئة الإعلامية واستيعاب الفرص
والتحديات الموجودة فيها وشق طريق خاص متميز بين شعابها ووهادها يحتاج إلى
الممارسة والمعاناة والانخراط في لجة العمل الإعلامي، والزمن عامل مهم في بلوغ
كل ذلك.
اليهود يتمتعون بالإدراك العميق لأحوال عصرنا، وبالخبرة الواسعة بمكامن
القوة فيه، وقد كانوا يقولون: من يملك الذهب يملك العالم، وهم يقولون اليوم:
من يملك الإعلام يملك العالم.
وهذا القول عميق الدلالة؛ فالإعلام اليوم من خلال الإتقان الفائق للبرامج التي
يقدمها، ومن خلال ما يتمتع به من قدرة كبيرة على التأثير بات قادراً فعلاً على أن
يصنع شيئاً من لا شيء؛ إنه قادر على أن يوجد بيئة كاملة من الأفكار والمشاعر
والقيم والاهتمامات والاتجاهات لأمور تافهة أو هامشية مثل الرياضة والفن والطبخ
والأزياء.. والملاحظ - مثلاً - أن بعض منتجات (هوليود) من الأفلام والأعمال
الفنية بات يركز على إظهار (البوذية) بوصفها الديانة الأعمق روحانية والأكثر
إنسانية، وقد اقتنع كثير من الناس في الغرب على الأقل بذلك، والسبب هو أن
اليابانيين اشتروا أسهماً في (هوليود) بعشرات المليارات من الدولارات، وباتوا
يتحكمون في إنتاجها، وقد قدموا بذلك خدمة لديانتهم كان من الصعب أن تحظى بها
لولا عمليات الشراء تلك!
والإعلام في المقابل قادر من خلال تجاهله وتعاميه أن يسدل الستار على أكثر
القضايا والأزمات والنكبات حيوية وشناعة؛ ففي عالم مهموم ومشغول ومشتت
يصبح إرباك الوعي وصرف الانتباه أمراً في غاية السهولة، وأكبر دليل على ذلك
ما جرى ويجري ساعة كتابة هذا المقال في فلسطين السليبة؛ حيث بلغت المأساة
حداً جعل وزير خارجية العدو الإسرائيلي يقول: ما جرى في مخيم جنين مجزرة،
وجعل بعض موظفي الصليب الأحمر يقولون إن وضع مخيم جنين يشبه وضع
برلين عام 1945م عقب الحرب العالمية الثانية!
إن أمة الإسلام غنية بالأحزان وبالصور والمشاهد المؤلمة والمفجعة؛
وعصرنا - كما يقولون - هو عصر الصورة، لكن أين الإعلاميون المسلمون
الذين ينقلون صور مآسينا للعالم الذي ضلله الإعلام الصهيوني والإعلام المتحالف
معه؟ !
بالإضافة إلى ما ذكر نحن بحاجة إلى تكثيف الاستثمار في الإعلام لسببين
جوهريين:
الأول هو: تأدية أمانة التبليغ وإيصال رسالة الإسلام إلى الناس كافة،
والحقيقة أن البث الفضائي المتوفر الآن إلى جانب شبكات المعلومات قد وفرا
وسائل للتبليغ كان أسلافنا عاجزين حتى عن الحلم بها؛ فقد أمكن الآن مخاطبة
مئات الملايين من البشر في آن واحد، وإيصال ما نريد إليهم، على حين كان
الناس في الماضي يغبطون العالم إذا جلس في حلقته ألف من طلاب العلم.
إن هذه السهولة في التواصل العالمي جاءت في الوقت المناسب؛ حيث إن
معظم سكان الأرض قد فقدوا اليوم الإحساس بالأهداف الكبرى والإحساس بالغاية
من الوجود، والمسلمون وحدهم هم الذين يملكون الرؤية والمنهج اللذين يحتاج
إليهما العالم.
الأمر الثاني هو: مقاومة شرور الإعلام الماجن الذي دخل كثيراً من البيوت،
وباشر عملية تخريب واسعة النطاق من خلال إفساد الأعراف والأذواق والمفاهيم،
إنه فعلاً يعيد صياغة العقول والمشاعر من جديد على نحو بالغ السوء وليس هناك
من حل اليوم سوى إيجاد إعلام إسلامي قادر على المنافسة والاستيلاء على جزء
من الجماهير، إن الإعلام يشكل شيئاً جوهرياً في عصرنا، وإن التقدم على صعيده
يعد من الشروط المهمة لفهم روح العصر والتأثير فيه؛ وقد قال أحد المفكرين:
(إذا لم يكن لك روح عصر كانت لك كل شروره) .
الإعلام الإسلامي يواجه تحديات لا يواجهها أي إعلام آخر؛ حيث إن عليه
أن يجمع بين الجاذبية والالتزام؛ ولذا فإنه لا يستطيع أن يتغذى على شهوات الناس
ورغباتهم، كما لا يستطيع مخادعة الناس واستغلالهم - كما يفعل الإعلام الآخر -
ولكن مع هذا فإن ترسيخ وجوده في الساحات العالمية ليس بالأمر المستحيل إذا
توفر لدنيا ما يكفي من الوعي والإخلاص والعزيمة.
إن أغنياء المسلمين مطالبون ببذل الأموال ووقف العقارات من أجل إنشاء
المؤسسات الإعلامية، وإن الدعاة والمثقفين مطالبون بأن يسعوا في بناء الأطر
الإعلامية وتأسيس مؤسسات الإنتاج الإعلامي وتوجيه الطاقات الشابة من أجل
العمل في هذا المجال المهم، أما جمهور المسلمين فإن دعمهم للإعلام الإسلامي
يتمثل في شراء منتجاته وقراءتها وفي الإعلان في وسائله، وفي التفاعل مع
الرسالة الإعلامية التي يقدمها لهم.
والله الموفق.
__________
(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.(175/18)
البيان الأدبي
قراءة في كتاب المرايا المقعرة
علي عليوه
على مدى العقود الأخيرة ظل العلمانيون يبذلون كل ما في وسعهم للترويج
لمذهب (الحداثة) المنقول عن الغرب باعتباره في زعمهم كشفاً جديداً وتياراً أدبياً
يقدم رؤية نقدية تكفل تحديث حياتنا الأدبية والفكرية، وجعلوا أنفسهم سدنة وكهاناً
في معبد الحداثة رغم أنها دعوة لنبذ التراث الموروث والقطيعة معه، والانفلات من
القيم والثوابت العقدية، والتقليل من إنجازات العقل المسلم طوال قرون ازدهار
الحضارة الإسلامية.
واستطاع العلمانيون السيطرة على مجمل النشاط الأدبي والثقافي في كثير من
البلاد العربية، وتبوؤوا أعلى المناصب، وتقدموا الصفوف وكأنهم الصفوة
المختارة التي امتلكت ناحية الحقيقة ناظرين لمن ليس على مذهبهم نظرة استعلاء
واستكبار وغطرسة، وفي هذه الأثناء خرج من داخل موقعهم الفكري ناقد مرموق
استطاع قلب المائدة عليهم وإنزالهم من عليائهم، وكشف حقيقتهم وحقيقة حداثتهم.
الناقد هو الدكتور عبد العزيز حمودة عميد (كلية الآداب جامعة القاهرة)
الأسبق، وأستاذ الأدب الإنجليزي، والمستشار الثقافي السابق لمصر في الولايات
المتحدة الأمريكية لعدة سنوات. والكتاب الذي نزل كالصاعقة على رؤوس دعاة
الحداثة العرب فزلزل كيانهم وأصابهم بالدوار، وكشف حقيقتهم هو (المرايا
المقعرة) الذي صدر ضمن سلسلة كتب عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت.
وقد سبق كتاب (المرايا المقعرة) كتاب صدر قبله بعدة شهور للدكتور حمودة
يحمل عنوان: (المرايا المحدبة) ، وقد شن الكتاب الأول (المرايا المحدبة)
هجوماً حاداً على المذهب الحداثي تضمَّن نقداً علمياً موضوعياً للمذهب من ناقد تلقى
تعليمه وتكوينه الثقافي من داخل البيئة الثقافية الغربية نفسها، واستطاع المؤلف
بالحجة والبرهان إثبات أن الحداثة التي يتبناها العلمانيون العرب ما هي إلا بضاعة
راكدة لفظها الكثير من مفكري ونقاد الغرب أنفسهم.
والفكرة التي أراد المؤلف توصيلها للقراء من خلال (المرايا المحدبة) هي
أن الحداثيين العرب والغربيين على السواء وقفوا أمام (مرايا محدبة) زادت من
أحجامهم وضخمتها، وحينما طالت وقفتهم أمام تلك المرايا صدقوا أن إنجازاتهم
النقدية بهذا الحجم المتضخم على غير الحقيقة، وأن هؤلاء الحداثيين حين نقلوا عن
الحداثة الغربية بتلك الصورة كانوا يفتحون الطريق أمام التبعية للثقافة الغربية،
ويحاولون تكريس تلك التبعية، واستنبات ثقافة تتناقض مع الخصوصية العقدية
والحضارية في التربة العربية.
وكتاب (المرايا المقعرة) يقع في (512) صفحة، ويحتوي على تمهيد
وخاتمة، وبينهما الجزء الأول الذي يحمل عنوان: (الحداثة والقطيعة مع التراث) ،
ويضم فصلين الأول: (ثقافة الشرخ) ، والثاني: (من النتائج إلى المقدمات) ،
أما الجزء الثاني: (وصل ما انقطع: نحو نظرية نقدية عربية) فيتضمن المدخل
ثم الفصل الأول بعنوان: (النظرية اللغوية العربية) ، والفصل الثاني: (النظرية
الأدبية العربية) ، وبعد الخاتمة توجد الهوامش والمراجع.
* الشرخ الثقافي:
يرى المؤلف أن المثقف العربي يعيش ثقافة الشرخ أو الفصام بين موروثه
الديني الذي تربى عليه، وبين اقتناعاته التي اكتسبها من خلال احتكاكه (بالآخر)
الثقافي تجعله يتساءل: من أنا؟ بل من نحن؟ وأن المؤسسات الثقافية العربية منذ
الاتصال بثقافة الغرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أو منذ السنوات
الأخيرة من القرن السابق عليه منذ الحملة الفرنسية على مصر عجزت عن تطوير
مشروع ثقافي خاص بنا يوقف الشرخ ويرأب الصدع، مشروع يحقق الهوية
الثقافية الخاصة بنا، ويحافظ عليها ضد محاولات الاقتلاع الثقافي وسلب الهوية
التي تحاصرنا بها ثقافة التغريب القادمة عبر العولمة.
المشروع الثقافي العربي المفقود من شأنه تحديد الهوية الثقافية للجماعة،
والحفاظ عليها من الذوبان في ثقافة أو ثقافات الآخر في أثناء تفاعلها معه أو
احتكاكها في عصر أصبح الاحتكاك بين الثقافات أمراً محتوماً؛ مما يعني ضرورة
وجود درجة من التحكم في التغيرات الاجتماعية التي هي أساس الأنشطة الثقافية،
وبخاصة أن كثيراًَ من البلاد العربية عاشت عقوداً طويلة بعد الاستقلال تطبق مبادئ
مستوردة من الشرق تارة والغرب تارة أخرى بزعم التنمية والنهوض الاقتصادي،
وهي مبادئ ونماذج كانت بعيدة عن اقتناعات وهوية الشعوب العربية؛ ولذلك لم
يكتب لها النجاح.
واستمر الشرخ الثقافي وأخذت الأسئلة تلح بقوة على كثير من أعضاء الصفوة
المثقفة، وكان السؤال المحوري: من نحن؟ هل نحن شرقيون أم غربيون؟ هل
نعيش حالة المجتمع الحديث أم حالة المجتمع القديم؟ هل ننتمي إلى التراث العربي
أم إلى التراث الغربي؟ ولا شك أن العودة إلى الأصول باعتبارها المدخل الوحيد
لتحديد الهوية الثقافية القومية سوف ينهي حالة الفصام، ويضع حداً للشرخ ويرأب
الصدع، وهكذا نعود إلى درجة من التوحد الصحي والكلية التي راوغتنا لما يقرب
من قرنين من الزمان، عندئذ سنكون أسعد حالاً بعد أن نخرج من الدائرة الجهنمية
الحالية التي ندور حولها مغمضي العيون مسلوبي الإرادة تتقاذفنا تيارات القديم
والجديد دون أن ننجز شيئاً، ولن نجد أنفسنا نعيش ذلك التناقض المؤلم الذي يريده
لنا الحداثيون.
* السؤال الصعب؟
ويطرح الدكتور عبد العزيز حمودة سؤاله الصعب حول السبب في حدوث
هذا الشرخ الثقافي والفصام المؤلمين؟ ويجيب قائلاً: لقد وصل الحال بالبعض منا
في انبهاره بالغرب والثقافة الغربية إلى درجة العمى الكامل الذي أفقدهم القدرة على
الاختلاف، وبلغ انبهارهم بالعقل الغربي وإنجازاته إلى درجة احتقار العقل العربي
وإنجازاته، وهذه الحال لم تكن الحداثة وما بعد الحداثة هما السبب فيها. لقد كان
ارتماء العلمانيين العرب في أحضان الحداثة وما بعدها نتيجة وليس سبباً؛ صحيح
أنهما يمثلان ذروة الارتماء في أحضان الثقافة الغربية، لكنها ذروة سبقتها عملية
اتجاه واعية ومدركة نحو الغرب وثقافته بدأت في أثناء حكم محمد علي لمصر،
وتمثلت في تحديث التعليم وابتعاث الشباب إلى أوروبا مع الإبقاء على نظام التعليم
التقليدي، ومن هنا بدأت الازدواجية والثنائية والشرخ.
ثم أصبح جسر التأثير الغربي في الثقافة العربية طريقاً واسعاً ممهداً عن
طريق الاستعمار الغربي، فلم يعد الأمر مقصوراً على فئة محدودة من الأفراد
يبتعثون إلى أوروبا لتعود بانبهارها إلى الثقافة العربية لتحاول تحديث العقل العربي،
أو مجرد اقتباس أنظمة تعليم أوروبية حديثة تطبق في عدد محدود من المدارس،
بل تعداه إلى غزو بشري عسكري يؤكد التفوق العسكري والثقافي للمنبهرين
ويفرض التبعية على المترددين.
إنه لا يمكن الفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة من ناحية وبين العولمة التي
يقودها الغرب أو ما يسمونه بالكونية الجديدة، واتفاقية الجات التي تحكم السيطرة
على اقتصاديات دول العالم لصالح الغرب من ناحية ثانية، ثم الغطرسة الغربية
المهيمنة التي تريد فرض نموذجها الصناعي الرأسمالي الاستهلاكي والثقافي أيضاً
على الدول المغلوبة على أمرها من ناحية أخرى. ليست مقولة المؤامرة هنا تعبيراً
عن حالة مرضية بل هي حقيقة واقعة يؤكدها عقلاء الفكر الغربي - ومنهم المفكر
(تورين) - وهؤلاء العقلاء يرون الخطر الواضح بين العقلية والكونية التي تعد
الحداثة أحد مظاهرها وبين السيطرة الغربية على دولة وشعوب العالم الثالث.
ويخلص المؤلف إلى نتيجة هامة وهي أن تبني الحداثة وما بعد الحداثة
الغربيتين مصاحباً بكل الانبهار الذي رافق ذلك يعني في بساطة مؤلمة أن بعض
الحداثيين العرب قد مهدوا لعمليات الاختراق الثقافي، وسهلوا عملية السيطرة
والهيمنة للحداثة شرقيها وغربيها، وهذا هو حجم الخطأ الذي يحدد بالقطع حجم
اللوم المناسب.
* المؤامرة الموثقة:
ويتطرق الدكتور عبد العزيز حمودة إلى أهم جزء في كتابه وهو تفاصيل
(المؤامرة) الموثقة في (509) صفحات من القطع الكبير هي حجم كتاب (من دفع
أجرة العازف؟) للباحثة البريطانية (سورين سوندرز) التي استقت وثائقها من
ملفات أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية بعد الإفراج عن تلك الملفات بعد
مضي المدة الزمنية المقررة، وشملت الوثائق لقاءات مطولة مع المؤسسات
والأشخاص المستهدفين، ثم أجهزة التمويل أو (الغطاء) - في لغة المخابرات -
الذي استخدم في ذلك، وكشفت علاقة كل ذلك بالحداثة الغربية والحداثة العربية
خاصة.
وفي مقدمة كتابها أوضحت أهداف تدخل أجهزة المخابرات الأمريكية
والبريطانية في الأنشطة الثقافية في المنطقة العربية وتمويل تلك الأنشطة، وأهم
هذه الأهداف الترويج للحداثة باعتبارها سلاحاً ضد الثقافات المحلية للشعوب،
وقالت بالنص ص (2) : (لقد قامت مؤسسة التجسس الأمريكية دون أن يردعها
أو يكتشفها أحد لأكثر من عشرين عاماً بإدارة واجهة ثقافية متطورة جيدة التمويل
في الغرب ومن أجل الغرب باسم حرية التعبير بعد أن اعتبرت الحرب الباردة
(معركة حول العقول) جمعت المؤسسة ترسانة ضخمة من الأسلحة الثقافية من
الصحف والكتب والمؤتمرات وحلقات النقاش والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية
والجوائز) .
إن كلمات (توم برادن) وهو من أبرز رجال المخابرات البريطانية الذين
قادوا (الحرب الثقافية) الواردة بكتاب سوندرز تؤكد بما لا يترك مجالاً للشك أن
عمليات الغواية لجذب المثقفين إلى المعسكر الغربي لم تكن بريئة كلية؛ لكنها في
الوقت نفسه تبرز مفارق جوهرية؛ فالمخابرات من منطلق تشجيع ما يسمى بـ
(حرية التعبير) كانت تقوم أولاً بشراء حرية التعبير، ثم تقوم بالتحكم فيها وتقييدها،
وتعلق سوندرز على ذلك بقولها: (لم يكن سوق الأفكار بالحرية التي تظاهر بها)
وأخذت فروع رابطة (حرية الثقافة) وهي الواجهة المخابراتية للغزو الثقافي
تنتشر في البلاد العربية، إن سوندرز تؤكد من خلال الوثائق أن المخابرات الغربية
شجعت عن طريق التمويل التيارات الحداثية في الفنون والآداب والنقد، ولم تكن
الحداثة الغربية بالبراءة التي تصورها البعض، وإنما كانت الحلقة الأخيرة في
سلسلة الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب المقهورة والتمهيد لسيطرة الثقافة
الغربية، والمفارقة التي تبرزها سوندرز أن أمريكا التي رفعت شعار (حرية
التعبير) أو (الحرية الثقافية) واستخدمته سلاماً مبدئياً في حربها الباردة مع
المعسكر الشرقي كانت في تلك السنوات المبكرة في أواخر الأربعينيات وأوائل
الخمسينيات من القرن الماضي على وجه التحديد تقهر حرية التعبير داخل الولايات
المتحدة، بل إن الذوق الأمريكي ممثلاً رسمياً في رئيس الجمهورية وبعض أعضاء
مجلس الشيوخ كان يعتبر الفن الحداثي فناً هابطاً منحلاً، وقد وصل الأمر إلى
درجة اتهام أحد أعضاء الكونجرس للفنانين الحداثيين بالتجسس لحساب الاتحاد
السوفييتي؛ ولكن ذلك لم يمنع من تشجيع نشر الحداثة لضرب ثقافات الشعوب
الأخرى.
لقد بدأ النشاط الحداثي في العالم العربي مع مجلة (حوار) التي افتتحت في
القاهرة في أوائل الستينيات وهي بتمويل كامل من المخابرات الغربية التي افتتحت
عدداً من المجلات والدوريات المماثلة، ومنها مجلة (شعر) في بيروت عام
1957م ولكن مجلة (حوار) أغلقت بعد ذلك بعد افتضاح أمرها، وكان ظهور
مجلة (شعر) مرتبطاً بعلاقة وثيقة بـ (رابطة حرية الثقافة) الواجهة الظاهرة
للمخابرات الغربية، وكان مؤسس المجلة (يوسف الخال) يدعو للاندماج التام في
الثقافة الغربية.
* العزلة:
ويرى الدكتور عبد العزيز حمودة أن العقل العربي الحداثي تحرك في اتجاه
الثقافة الغربية في ظرف تاريخي شعر فيه العربي بالحاجة المصيرية للتحديث،
ومع كثير من الانبهار بمنجزات العقل الغربي واحتقار للعقل العربي وبمنجزاته
تحول الحداثيون من (التعلم) إلى (الاندماج) دون أن يدركوا الاختلاف أو
يستشعروا الخطر، وتقبل هؤلاء الحداثيون المقولة الإمبريالية بكونية الحداثة، وأن
ما يناسب الآخر الثقافي، الحضاري يناسبنا بالضرورة، وإذا ارتفع صوت ينبه إلى
الاختلاف سارعت (النخبة الحداثية) إلى اتهامه بالأصولية والانعزالية! !
والنتيجة الأخرى التي ترتبت على موقف الحداثيين العرب هي تحولهم
المحزن إلى (نخبة) يكتب بعضهم لبعض ويحاورون أنفسهم ويخاطبون أنفسهم؛
مما أدى إلى عزلتهم المبكرة عن الجماهير ووضعهم في موقف مناقض (لثورية
الحداثة) ، ووقع الحداثي العربي في مأزق مزدوج وهو العزلة عن الجماهير بسبب
لجوئه في أعماله الأدبية إلى الغموض والتغريب والتجريب ثم تحالفه مع النخبة
السياسية الحاكمة التي اتصفت بالفساد والديكتاتورية في أغلب الأحوال.
لقد رفع الحداثيون العرب شعار (الاستنارة) و (التنوير) ، وبدلاً من أن
يعتمدوا على العقلانية المقبولة تحولوا إلى تبني الفكر الغربي بعدته وعتاده؛ وبذلك
زادوا الأمور إظلاماً بدلاً من إنارتها، وبلغت المأساة ذروتها عندما وضعوا (الدين)
باعتباره فكراً غيبياً من وجهة نظرهم في مواجهة (العقلانية) و (التفكير
العلمي) ، وأدت طريقة تعامل المثقفين العرب مع العلوم الجديدة القادمة من
الغرب خلال العقدين الأخيرين إلى نتائج سلبية خطيرة زادت الظلام إظلاماً في
النفق المسدود الذي دخلوا فيه.
ويطالب مؤلف (المرايا المقعرة) بضرورة مراجعة (أرشيفنا الثقافي) حتى
نستطيع أن نحدد أين نقف؟ حتى نصل في النهاية إلى معرفة من نحن؟ وأن نعيد
صياغة خياراتنا بعد أن وصلنا إلى المنحى الحالي الخطير في علاقتنا بالغرب،
وتحولنا عن الاستفادة منه إلى الاندماج فيه؛ مما جعلنا مهددين بالانمحاء. ومن
الضروري أيضاً التحذير من ارتباط الحداثة العربية بالهيمنة والسيطرة الغربية،
وأنها تسعى لجرنا إلى السقوط في هاوية التبعية التي لا يعلم سوى الله - تعالى -
وحده كيف نخرج منها.(175/20)
قصة قصيرة
وكان بطلاً
ممدوح القديري [*]
عندما اختلط الزمان وفقد ذاكرته، وهوى المكان وفقد هويته، برز ضابط
مسلم برتبة رائد - من بين جموع الأسرى - فأرجع للزمان ذاكرته، وللمكان
هويته.
كان ذلك في وقت الانتكاس والارتكاس في حزيران 1967م. كانت الشمس
تكوي الأجساد نهاراً؛ وصقيع ليل الصحراء في النقب يجمد الروح ويحبس
الأنفاس، وجنود العدو تنعم بالظلال في أبراجهم نهاراً، وبالدفء ليلاً في غرفهم،
أما جموع الأسرى فكانت تلعق الحرارة الممزوجة بالغبار والإحباط وأحياناً الألم في
معتقل التجميع الميداني المكشوف القريب من بئر السبع؛ حيث في داخله المئات
من ضحايا الحرب، وسط ذهول لم يبرح الوجوه من المفاجأة التي لم يتوقعوها.
كانت الأرواح تتفكك إلى حد سلب ذواتها حتى الموت والقطيعة. وفي صباح
باهت مكفهر كانت العيون تشرب الحزن الدفين في النفوس، والرشاشات
الأتوماتيكية تعزف (كونشرتو) الدمار، والموت فوق الرؤوس الشُّعْث التي تبحث
عن مجهول ما جرى.
زعق ضابط من الأعداء مغرور غَدَوْدَن يتشبه بالرجال، ونادى على جميع
المقهورين - داخل المعتقل - لكي يقفوا لتحية علم دولته، وبدأ جندي يرفع ذلك
العلم بغطرسة واضحة، همهم بعضهم خوفاً وهم يتحركون بتثاقل عنيد ليقفوا، كان
ضابط العدو يتيه بوقفته أمام الضعفاء - ومسدسهُ يحميه - بتفاخر النصر المجاني
الرخيص.. طار صوابه حين شاهد الضابط المسلم الذي ما زال في ملابسه
العسكرية، بعد أيام قليلة من الحرب المباغتة جالساً لم يقف، وكان ينظر حوله
وعيناه تتحديان الموقف.. كنت بجانبه واقفاً.. قلت له وقلبي مفعم بالمرارة مختون
النفس: هل أنت متعب أو مريض؟
نظر إليَّ.. فعرفت أنه صحيح الجسد.. رغم زمن القهر.. فصمتت
جوارحي.. وضابط العدو يأمره بجنون أن يقف.. لم يتحرك الضابط ابن الحضارة
العريقة.. كان يرفض الهزيمة رغم كل شيء.. تشجعت مرة أخرى وقلت له
هامساً: إنهم في دائرة الوهم العظيم.. وتصرفهم طائش زنيم..
لم يرد عليَّ وبقي جالساً، شعرت بجريان نفسي وانثيالها.. ونسيج عواطفي
تدب فيه حياة جديدة خلتها أنها ضاعت مني.. تقدم بعض جنود العدو بسرعة..
جذبوه بعنف وقوة.. قال بصوت كأنه الرعد أذهل الجميع: لن أقف إلا للملك
الديان! !
انهال عليه الجنود بكعوب رشاشاتهم.. حاول المقاومة.. بقي صامداً فوق
الأرض العربية.. ممدداً وقد بدا عليه الإعياء.. لم يقف.. تمت تحية علمهم وسط
هرج ومرج وتمرد مكتوم في الصدور.. سحبه الجنود بلا رحمة، كانت خطواته
غير منتظمة، لكن روحه المعنوية رغم كل شيء بقيت عالية، علت أصوات
احتجاج هنا وهناك.. انطلق الرصاص فوق الرؤوس.. وعلت الأصوات عندما
أوقفوه في مكان معروف لدينا.. كنا نطلق عليه (مقصلة الباستيل) مع فارق
المكان والزمان.. كانت عبارة عن مصطبة صخرية.. مضرجة بالدماء الجافة
القانية المائلة إلى السواد من أثر الشمس.. هكذا وقف.. خُيل إلينا أنه عملاق ازداد
طولاً وعرضاً.. وبدا حوله جنود العدو أقزاماً قميئة.. كان يمسح بعض الدماء
والعرق عن وجهه الوضيء.. لم يهتز بقي واقفاً شامخاً كالجبل.. تقدم منه الضابط
الذي أمر بتحية العلم.. لطمه.. فبصق عليه بطلنا الجسور فملأ البصاق وجهه..
رأينا ذلك وانتشينا.. أخرج الإسرائيلي مسدسه وأطلق الرصاص على رأس البطل
الشجاع.. لدهشتنا أنه لم يسقط.. بقي واقفاً بعض الوقت.. ظننا أن روحه مباركة
لم يؤثر فيها الرصاص الإسرائيلي.. شعور بالمرارة والأسى تملكنا جميعاً.. حين
هوت جثته بكل شمم.. وبدأت طقوس معروفة لنا تماماً.. مجموعة من الأسرى
تحفر الأرض لتواري القتيل.. كنت هذه المرة واحداً منهم.. كانت ضربات الفأس
بالأرض تقدح شرراً حزيناً.. والأرض تفتح رحمها بحنان الأم.. تستقبل البطل
بحفاوة واعتزاز.. كانت دموعنا تغسله ونحن نواريه التراب.. لقد نبه فينا روح
المقاومة.. رغم ما نحن عليه.. كان الجميع منا في مأتم كبير يدعون له؛ وكيف
لا وقد علمنا كيف نختار باستمرار ونسلك طريق الزمان الذي تناثرت فيه أشلاء
الحق منذ أن بدأ الدمار وفقدنا بعض أشيائنا الثمينة؟ ! .. كان مثالاً يُحتذى.. لا
يحتاج إلى وعظ.. فقد كان يكفي وجوده.. فهو نداء ودعوة.. لقد كان أحد أسرار
الحياة المخبوءة.. علّمنا كيف نموت من أجل حقائق قد لا نجسر على السير فيها
في حياتنا والواقع المرير.. أجلت بناظري في المكان.. أحسست بأن روحه
ترفرف فوقنا كان - رحمه الله - رمزاً للكون كله.. فقد كان بطلاً، وحسبه أنه
ضحى بنفسه في مواجهة العدو المغتصب.
__________
(*) كاتب فلسطيني، أبها.(175/24)
نص شعري
الفجر آتٍ يا جنين!
مروان كُجُك
مَاذَا جَنَى الْعُرْبُ الْعِرَابُ مِنَ الصَّمَم ... نَصَبُوا لَنَا فِي كُلِّ عَاصِمَةٍ صَنَمْ
صَرَعُوا كِيَانَ الْعِزِّ فاحْتُضِرَ الْمَدَى ... كَمَداً بِلا ذَنْبٍ جَنَاهُ وَلا هَرَمْ
قَالُوا لَنَا: العَقْلُ الْحَصِيفُ وِقَايَةٌ ... لا يُسْتَفَزُّ، وَلا يَثُورُ، وَلا يَهِمّ
فَدَعُوا جِنِينَ لأَهْلِهَا وَادْعُوا لَهَا ... بِالنَّصْر وَالتَّأْيِيدِ وَالْخَيْرِ الأَعَمّ
أَرْضُ الْفِدَاءِ يَجُولُ فِي أَنْحَائِهَا ... قَوْمٌ أَشَاوِسُ كَالأُسُودِ ذَوُو لِمَمْ
***
لا تَحْزَنِي فَالْفَجرْ آتٍ يَا جِنِيـ ... نُ وَطَيْفُهُ يَرْنُو إلَيْكِ عَلَى الأَكَمْ
يَصْبُو إلَى مَجْدٍ أَثِيلٍ طَالَمَا ... حَلُمتْ بِهِ الأجْيَالُ مِنْ جَدٍّ وَعَمّ
يَا بِنْتَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالعُلا ... وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى الْمُبَارَكِ وَالْحَرَمْ
يَا رَوْعَةَ الْبَذْلِ الَّذِي أَحْيَا بِنَا ... رُوحَ الْفِدَا، وَسَمَا بِنَا نَحْوَ الْقِمَمْ
يَا أَنْتِ يَا أخْتَ الْفِدَاءِ الْفَذِّ، يَا ... جِيلَ الشَّهَادَةِ قَد بَعَثْتِ بِنَا الْهِمَمْ
وَصَفَعْتِ كُلَّ مُهَرِّجٍ فِي أَرْضِنَا ... بَاعَ الرُّجولَةَ والشَّهَامَةَ وَالْقِيَمْ
طَوَّقْتِ جِيدَ الّمُؤْمِنَاتِ بِحِلْيَةٍ ... لأْلاؤُهَا بَهَرَ الْبَصَائِرَ وَالذِّمَمْ
زَوَّجْتِهِنَّ مَلائِكَ الْقُدْسِ الطَّهُو ... رِ بِجَنَّةٍ مَهْراً؛ فَيَا طِيبَ النِّعَمْ
وَأَعَدْتِ ذِكْرَى السَّالِفِينَ بَسَالَةً ... وَغَسَلْتِ أَوْضَارَ التَّرَدُّدِ وَالْوَهَمْ
وَأَثَرْتِ فِينَا شَهْوَةَ الْعَلْيَاءِ لا ... كِبْراً عَلَى أَحَدٍ وَلا أَشَراً يُذَمّ
أَنْتِ الَّتِي أَزْكيتِ فِينَا هِمَّةً ... وَبَنَيْتِ مِنْ رُوحِ الشَّهَادَةِ مَا انْهَدَمْ
أَحْيَيْتِ فِي العُرْبِ النِّيَامِ نَبَاهَة ... كَانَتْ لَهُمْ سِيمَا تُهَابُ وَتُحْتَرَمْ
سَادُوا بِهَا الدُّنْيَا غَدَاةَ جَمِيعُهُمْ ... لاذُوا بِشَرْعِ الله، نِعْمَ الْمُعْتَصَمْ
وَتَسَابَقُوا نَحْوَ الشَّهَادَةِ، كُلُّهُمْ ... يَرْجُو الشَّهَادَةَ مُقْبِلاً لا مُنْهَزِمْ
طُوبَى لِتُربَتِكِ الْحَبِيبَةِ إنَّهَا ... مُزِجَتْ بِأَسْمَى صَرْخَةٍ حَرَّى وَدَمّ
***
طِفْلٌ هُنَا وَبُنَيَّةٌ عَاشَا مَعاً ... لَعِبَا مَعاً، نَامَا مَعاً عَنْ كُلِّ هَمّ
قَتَلَ الْغُزَاةُ الْمُجرِمُونَ أَبَاهُمَا، ... صَرَخَا مَعاً قَالا: أَبَانَا لا تَنَمْ
وَتَقَدَّمَا: هَذِي تُقَبِّلُهُ وَذَا ... كَ قَدِ ارْتَمَى ضَمّاً وَشَمّ
(بَابَا) أَفِقْ؛ إنَّا ظَمِئْنَا فَاسْقِنَا ... لَفَظَ الشَّهَادَةَ، عَانَقَاهُ، وَلَمْ يَقُمْ
صَعدَتْ إلَى الْعَلْيَاءِ رُوحُ أَبِيهِمَا ... لَمْ يَدْرِيَا شَيْئاً وَمَا خَطَّ الْقَلَمْ
وَتَحَجَّرَ الْقَلْبُ الْيَهُودِيُّ الْجَبَا ... نُ، تَفَجَّرَتْ فِيهِ النِّقَمْ
أَهْوَى عَلَى الطِّفلَيْنِ يَرْوِي غِلَّهُ ... أَرْدَاهُمَا أَرْضاً، وَزَمْجَرَ وَاقْتَحَمْ
فَهُنَا يَدٌ تَهْتَزُّ أُسْرِعَ قَطْعُهَا ... وَهُنَاكَ عِنْدَ الْبَابِ تَرْتَقِصُ الْقَدَمْ
***
تَبّاً لأَبْنَاءِ الأَفَاعِي إنَّهُمْ ... مَهْمَا عَلَوْا فِي الأَرْضِ شِرْذِمَةٌ وَخَمْ
نَقَضُوا الْعُهُودَ وَمَزَّقُوا رَايَاتِهَا ... لَمْ يَحْفَظُوا وُدّاً، وَلَمْ يَرْعَوْا حَرَمْ
إلاَّ فُنُونَ الْحِقْدِ والْعُهْرِ الَّذِي ... بَزُّوا بِهِ حَذَقاً زَنَادِقَةَ الأمَمْ
فَلْيَفْعَلُوا كُلَّ الَّذِي يَحْلُو لَهُمْ ... وَلْيَنْعَمُوا حَظّاً بِحَاضِنَةٍ وَأُمّ
لَكِنَّهُمْ لَنْ يُفْلِتُوا أَبَداً فَلا ... شَيْءٌ سَيَحْمِيهِمْ إذَا الْجَمْعُ انْتَظَمْ
فَالْفَجْرُ آتٍ يَا جِنِينُ وَلَوْ بَدَا ... طُولُ الْمَدَى، أَوْ لَيْلُ مِحْنَتِنَا ادْلَهَمّ
وَسَيَعْقُبُ اللَّيْلَ البَهِيمَ بَشَائِرٌ ... وَسَتَنْطَوِي عَنْ قُدْسِنَا شَرُّ الظُّلَمْ(175/26)
نص شعري
اسحبوه
علي بن جبريل
صورة طفل فلسطيني لم يتجاوز العاشرة! يقتاده جنديان مدججان من جنود
الاحتلال الصهيوني في وحشية وعنجهية وجبن يهودي! !
اسحبوه!
وإلى زنزانة الموت
خذوه
مثخناً..
في قاعها - فرداً -
ذروه شسش ...
وبقيد الذل - جهراً - ...
قيدوه!
اسحبوه! ...
وعلى سارية التاريخ ...
- بالجرم - أسيراً.. ...
أوقفوه
وعلى حبل القرارات.. ...
اشنقوه
وارفعوه!
وارفعوا هاماتكم ...
ولترفعوها.. ...
فوق هام السحب ...
رفعاً.. ...
واصلبوه! ! ...
وبباب العالم الموبوء! ...
- وغداً - ...
علقوه! ...
وعلى هندامه ...
فلتكتبوا تحذيركم للعرب ...
كيما يقرؤوه ...
اكتبوه.. ...
بمداد الدم: ...
هذي عبرة الدهر لكم ...
فاعتبروه! ...
* * *
اسحبوه! ...
كل أهل الحجر الدامي ...
ذووه! ! ...
اسحبوه! ...
قائد الركب إلى الحرب.. ...
أبوه!
وأخو المقلاع.. ...
في وجه ابن صهيون..
أخوه! ...
ذاكم الأطفال ...
ليسوا - في الوغى - أنداده ...
بل هم بنوه! ...
هو.. ...
للجالس خلف الصف - من عجزٍ - ...
شبيه! ! ...
اسحبوه! ...
كلهم قد درّبوه! ...
كلهم خوض المنايا عوّدوه ...
بربرياً.. ...
في الوغى قد قذفوه ...
اسحبوه! ...
* * *
ويلكم! ...
لا تتركوه ...
حجر القبضة.. ...
رشاشٌ سفيه! ...
قذفة المقلاع ...
قذفٌ مدفعيٌّ! ...
وفم المقلاع.. ...
فوه! ...
عبوة ناسفةٌ
قنبلة!
كيف..؟ ...
لا! ...
لا تدعوه ...
اسحبوه.. ...
واقتلوه! ...
* * *
اسحبوه يا بني صهيون ...
طفلاً.. اسحبوه ...
أنا.. ...
أقسمت يميناً ...
- يا حصون الجبن - ...
أن الطفل يوماً ...
سوف لن يفلت منه ساحبوه! ! ...
اسحبوه.. ...
مزّقوه.. ...
في دماه أغرقوه ...
وعلى خارطة الإذلال ...
صفراً.. ...
فاكتبوه! ...
سيريكم يومَكم.. ...
يجترّ بالقهر بنوه! ...
لهباً.. ...
بالموت يأتي! ...
أنتم من أوقدوه! ...
اسحبوه! ...
سوف يأتي ...
جمرةً! ! ...
بلظاها.. ...
يصطلي من أشعلوه! ...
اسحبوه.. ...
وافعلوا ما شئتُمُ ...
كل ما يحلو لكم ...
فلتفعلوه! ...
سوف لن يقدم فرداً ...
هو ودْقٌ وحده! ...
من خلفه.. ...
يزحف - سيلاً - ...
صانعوه! ! ...
* * *
اشنقوه.. ...
أنتمُ لن تشنقوه! ...
بل على بوابة الأمجاد ...
وعداً.. ...
فانقشوه(175/28)
نص شعري
على خط النار
مبارك بن عبد الله المحيميد
أيُّ سِلْمٍ والقدسُ أمستْ جُحُورا ... وبنو قينُقاع جاسَت غُرُورا
أيُّ سِلْمٍ والقدسُ من حولِه الأن ... يابُ حمراءُ كشَّرَتْ تكشيرا
أيُّ سِلْمٍ والطفلُ كالعِهْنِ يَفْرِي ... ـه اليهُوديُّ ضاحكاً مسرورا
أيُّ سِِلْمٍ سلامُهم حينَما الجرَّ ... افُ يعوي وسط القُرى مسعُورا
نَحْنُ إمَّا الْحَيَاةُ والعِزُّ والإسْ ... لامُ أو ضَرْبَةٌ تَقُدُّ المَصِيرا
يَرْضَعُ الطفْلُ عِزَّةَ الحَقِّ والأظْف ... فَارُ في كَفِّهِ تُبيدُ النُّسُورا
سَائِلاً أيْنَ حَتْفهُ؟ هذهِ الأكْ ... فانُ من تَحتِهِ تَفُوْحُ عُطُورا
مُقْبلٌ والرَّصاصُ يَرسِمُ في عَيْ ... نَيْهِ نَهْرَاً وجَنَّةً وَقُصُورا
ومَضَى للنِّزَالِ في سَاحَةِ المَوْ ... تِ مُضِيَّ الشِّهَابِ ناراً ونورا
يقْذِفُ القَهْرَ بالحِجَارَةِ، والمَوْ ... تُ مَرُوعٌ يَزْدَاد مِنْهُ نفورا
واليَهُوديُّ عادَ أدراجَهُ في ... هلع مقسِماً بأنْ لَنْ يَحورا
يَحْتَمِي بالجِدَارِ - من خَلْفِهِ الرَّشَّ ... اشُ - يرنُو من كُوَّةٍ مَذْعُورا
للطَّرِيقِ الَّذيْ تَجَمَّعَتْ الآ ... سادُ فيه تواثُباً وزَئيرا
ذاكَ طيفُ الفاروقِ يسْعَى إلى الأقَْ ... صى يشُقُّ الوِهَادَ لَيْثَاً هصورا
لابساً ثوبَهُ المُرَقَّع والبَغْـ لُ عليهِ الغلامُ يقفو الأميرا
نَحْنُ قَوْمٌ أعزَّنا الله بالإس ... ... لامِ لو أنَّنا عقلنا الأمورا
إنَّه الدِّينُ يا بني الدِّينِ يشْكُو ... رقّةً منكمُ ويشكو فتورا
حينَ ألْصَقْتُم إلى الأرْضِ واثَّا ... قَلْتُمُ تجْمَعُونَ فيها الدُّنُورا
ذهبتْ ريحهُ وضاعَ صداهُ ... وخبا ضَوؤهُ فَخِبْتُمْ دُهُورا
خَافِقي خافقٌ مِنَ الشَّوْقِ يَا أقْ ... صى وفي صَدْرِهِ غدا مَأْسُورا
يَرْمُقُ الوَاقِفِينَ في (حَائطِ المبْ ... كى) يَهُزُّوْنَ في الصَّلاةِ الظُّهُورا
قائمٌ تحتَهُ (خَنَافِسُهُ السَّو ... داءُ) مُصطفَّةً تَفُوحُ شُرورا
ويَرَى في العَرَاءِ أمّاً وأطْفَا ... لاً كزُغْبِ القَطَا وشَيْخاً وقُورا
خَرجُوا مُكْرَهِينَ والبَيْتُ أنْقَا ... ضٌ ومِنْ حَوْلِهِمْ يرى خِنْزيرا
ويرى قاصِفاً من الرِّيحِ للظُّ ... لْمِ ويَوْمَاً على العِدا قَمْطريرا
ويَرى في الغِيُومِ رَعْداً وبرقاً ... آذنتْ أنْ تَفِيضَ سَيْلاً غَزِيرا
ويَرَى في السَّماءِ وَعْداً معَ الأيَّـ ... ـامِ يَنْمو حتَّى رآهُ كبيرا
فهُوَ القُدْسُ قُدْسُنا.. ولنا الله نَصِيْرٌ.. ونِعْمَ مولىً نَصِيرا(175/29)
المسلمون والعالم
بنو إسرائيل والمسجد الأقصى تاريخ ووقفات
د. إبراهيم بن ناصر الناصر
تمثل قضية فلسطين أحد أهم قضايا المسلمين، بل هي الرئيسة والقضية
المحورية، لأنها تقع في قلب مركز الأمة المسلمة وتضم ثالث المسجدين وأولى
القبلتين، وأنها الأرض المباركة، وأن الطائفة المنصورة ستكون في أكنافها في
بعض مراحلها، أضف إلى ذلك أن المغتصبين لها هم الأشد عداوة للذين آمنوا،
وأنهم اغتصبوا فلسطين بدعوى الحق الديني والحق التاريخي؛ فطبيعة الصراع
معهم لا بد من تصحيحها فهي ليست ذات طبيعة سياسية أو عسكرية ضد ظاهرة
استعمارية فقط، وإنما أساس الصراع فيها هو البعد الديني، الذي يأخذ بُعده عند
المسلمين بسبب أنها أرض لمقدساتهم وتاريخهم ومستقبلهم، ومن هنا كان من
المناسب عرض تاريخ بني إسرائيل مع بيت المقدس ومع أنبيائهم لمعرفة ما آل إليه
حال هؤلاء القوم مما بينه الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز.
أولاً: تاريخ بني إسرائيل والمسجد الأقصى [1] :
- قبل الميلاد بنحو 0052 سنة هاجرت قبائل عربية من شبه الجزيرة
العربية إلى الشمال واستقرت على ضفة نهر الأردن الغربية منسابة إلى البحر
المتوسط، وأشهر هذه القبائل قبائل اليبوسيين من الكنعانيين، وسميت هذه الأرض
بأرض كنعان وهو اسم يكثر وروده في التوراة، وقاموا بإنشاء بلدة باسم «أور
سالم» وهذا اسم الإله عندهم أو هي كلمة تعني مدينة السلام، وتحرف الاسم فيما
بعد إلى أورشاليم، وقد تكرر ذكره في التوراة أيضاً.
- بعد ذلك هاجرت قبائل من جزر في البحر المتوسط إلى سواحله الشرقية
تسمى قبائل «فلستين» وتم اختلاط بين الكنعانيين والمهاجرين الجدد، وشكلوا
خليطاً يغلب عليه الدم العربي، وعاشوا في تلك المنطقة التي سُميت فلسطين.
- في تلك العصور ولد وعاش إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في العراق
(بابل) ثم هجرها بعد اعتزاله لقومه بسبب شركهم إلى حران ثم عبر نهر الفرات
وبادية الشام إلى أرض كنعان (فلسطين) ومعه زوجته سارة (ابنة عمه) وابن
أخيه لوط وذلك في حدود سنة 0002 ق. م واستقروا هناك، ويقال إنه بسبب هذا
العبور سُمي بنو إسرائيل فيما بعد بالعبرانيين.
- في فترة استقرار إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في أرض كنعان
(فلسطين) خرج منها مرتين، الأولى إلى مصر بسبب القحط ولكنه عاد إلى أرض
كنعان بعد أن نجى الله زوجته سارة من اعتداء ملك مصر الذي أهداها جارية اسمها
هاجر، فأهدتها إلى إبراهيم فولدت له إسماعيل.
- عندما دبت الغيرة عند سارة من هاجر نقلها إبراهيم وولدها إسماعيل بأمر
من الله - تعالى - إلى مكة في جزيرة العرب [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ] (إبراهيم: 37) ثم رفع إبراهيم وإسماعيل -
عليهما السلام - الكعبة [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]
(البقرة: 127) بعد أن أعمله الله مكانها، [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ]
(الحج: 26) .
- ظل إبراهيم مقيماً في أرض كنعان بعد بناء الكعبة، وأصبحت هذه البقعة
من أرض الشام مهجراً له بعد أن نشأت له فيها ذرية طيبة، فاتخذ فيها مكاناً يعبد
الله فيه، وكان هذا المكان يمثل المرحلة المبكرة الأولى لتقديس هذه البقعة واتخاذها
مكاناً للعبادة والمسماة بالمسجد الأقصى، وكان ذلك بعد بناء الكعبة بأربعين سنة،
ففي الصحيحين من حديث أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد
وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد
الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة « [2] ، وذهب بعض أهل العلم
إلى أن هذه الفترة هي ما بين بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت، وبناء يعقوب لتلك
البقعة، وقيل أن أول من وضع المسجدين هو آدم وأولاده وبينهما أربعون سنة،
وأن إبراهيم وأبناءه الأنبياء هم الذين بنوا المسجدين وجددوهما.
- كرم الله إبراهيم بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب فكل نبي بعث بعده فهو
من ذريته، وكل كتاب أنزل الله على نبي من الأنبياء بعده فعلى أحد ذريته، فهو
والد الأنبياء الثاني بعد نوح - عليهما السلام -، قال الله - تعالى -: [وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ] (الحديد: 26) .
- ولد لإبراهيم إسحاق من زوجته سارة بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة في
قصة تعد من المعجزات لإبراهيم ذُكرت في القرآن في أكثر من سورة، ثم تزوج
إسحاق - عليه السلام - وولد له ولدان هما يعقوب وعيصو، وكانت النبوة في
نسل يعقوب وهو إسرائيل والذي ينتسب إليه بنو إسرائيل، ومنه يبدأ تاريخ بني
إسرائيل.
- تزوج يعقوب الذي كان مقيماً في أرض حران من ابنتي خاله - كان ذلك
سائغاً في ملتهم ثم نسخ في شريعة التوراة - وأهدت كل واحدة منهما ليعقوب جارية؛
فولدن هؤلاء الأربع ليعقوب اثني عشر ولداً هم أسباط بني إسرائيل، وكان
يعقوب في طريق رحلته إلى خاله في أرض حران رأى في المنام موضع المعبد
الذي اتخذه إبراهيم - عليه السلام - فوضع عليه علامة، ونذر إذا رجع إلى أهله
أن يبني في هذا الموضع معبداً لله.
- رجع يعقوب مع أهله إلى أرض كنعان (فلسطين) فمر على قرية أورشليم
فنزل واشترى هناك أرضاً وابتنى فيها مذبحاً ومعبداً وهو مكان القرابين لله والعبادة
حيث أمره الله بذلك، وهو بيت المقدس الذي اختاره إبراهيم أولاً ثم جدده يعقوب ثم
بناه سليمان بعد ذلك وهو موضع الصخرة وما حولها التي أعلمها عندما رآها في
المنام في طريقه إلى أرض حران، واستمرت هذه البقعة مقدسة لدى المؤمنين من
بني إسرائيل ثم لدى أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
- خرج بنو إسرائيل مع أبيهم يعقوب إلى مصر في زمن يوسف - عليه
السلام - حوالي سنة 0361 ق. م، وكانوا سبعين رجلاً، وظلوا فيها أربعمائة
سنة وثلاثين سنة شمسية - حسب سفر الخروج -، وخرجوا منها مع موسى -
عليه السلام - وكانوا ستمائة ألف رجل عدا الذراري، وقيل إنهم خرجوا سنة
4021 ق. م، ليدخلوا الأرض المقدسة التي استوطنها الوثنيون من العمالقة
الكنعانيين المسمين في القرآن بالجبارين، ولكن بني إسرائيل تخلوا عن الجهاد
ورفضوا دخول الأرض المقدسة حتى عوقبوا بالتيه، وقد قص الله علينا الحوار
الذي جرى بينهم وبين موسى في ذلك: [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ *
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا
خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا
فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ الفَاسِقِينَ]
(المائدة: 20-25) ، ويعتبر اليهود المفترون موسى - عليه السلام - أول زعيم
صهيوني حاول العودة باليهود إلى فلسطين.
- ظل بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة توفي فيها هارون ثم موسى -
عليهما السلام -، وحصل فيها أمور عجيبة من المعجزات لموسى، وهناك نزلت
التوراة، وشرعت الأحكام، وهناك عملت قبة العهد، ويقال لها قبة الزمان أو خيمة
الاجتماع كالكعبة لهم، فهم يصلون فيها وإليها، وهي التي نصب فيها» تابوت
الشهادة «الذي يتبرك به بنو إسرائيل لينصروا على الأعداء، فيه شرائع لهم
وأحكام وبقايا من التوراة، وهو المذكور بقوله - تعالى -: [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ
آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ
هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (البقرة: 248) .
- بعد وفاة موسى وهارون - عليهما السلام - تولى أمر بني إسرائيل نبي
آخر وهو يوشع بن نون، وهو فتى موسى المذكور في سورة الكهف كما ثبت في
البخاري، [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً]
(الكهف: 60) ، فسار ببني إسرائيل من الجيل الثاني بعد انتهاء التيه قاصداً
بيت المقدس والتي سماها» مدينة يبوس «نسبة لليبوسيين من الكنعانيين
فحاصرها ففتحها عصر الجمعة حيث دعا الله أن يحبس الشمس عن الغروب حتى
يفتح المدينة، وذلك أن القتال محرم عليهم يوم السبت فحبسها الله له. وأمر يوشع
بن نون أن يأمر بني إسرائيل أن يدخلوا بيت المقدس سجداً وأن يقولوا حطة أي
حط عنا ذنوبنا فبدلوا ما أمروا به ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة،
وقد جاء في القرآن ذلك عنهم بقوله وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ *
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، ولما دخل يوشع بن ن (البقرة: 58-59) ون بيت المقدس
نصب القبة على الصخرة فكانوا يصلون إليها فلما اندثرت صلوا إلى مكانها،
وصارت قبلة الأنبياء بعده إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم قبل تحويل القبلة
إلى الكعبة المشرفة.
- بعد يوشع بن نون مر على بني إسرائيل عهد سمي في التاريخ الإسرائيلي
بعهد القضاة حيث كان يحكمهم القضاة من اثنى عشر سبطاً، وكان القيم على أمور
بني إسرائيل بعد يوشع أحد أصحاب موسى وزوج أخته يدعى كالب بن يوفنَّا وهو
مع يوشع بن نون المقصودان بقوله - تعالى -: [قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (المائدة: 23) ثم جاء بعده رجل يقال له: حزقيل بن بوذي وهو
الذي دعا الله أن يحيى [الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ
اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ] (البقرة: 243) ، ثم بعد ذلك كثرت الأحداث وعبد
بعضهم الأوثان ومنها بعل الذي عبده أهل بعلبك من بني إسرائيل، فبعث الله إليهم
إلياس، ثم بعث إليهم بعده اليسع - عليهما السلام -، وبعد موت اليسع عظمت
الأحداث، وكثرت فيهم الجبابرة، وقتلوا الأنبياء فسلط الله عليهم الجبابرة من
غيرهم.
- اجتاح الجبابرة من أهل غزة وعسقلان من الكنعانيين مرة أخرى أرض
بني إسرائيل بعد ضعف القضاة وعجزهم عن تسيير أمور بني إسرائيل، فأخذوا
منهم تابوت الشهادة الذي كان يتبرك به بنو إسرائيل لينصروا في حروبهم، فبقي
بنو إسرائيل كالغنم بلا راع فعمدوا إلى نبي لهم يقال له» صموئيل «وطلبوا منه
أن ينصب عليهم ملكاً لدفع الجبابرة عن أرضهم، فكانت القصة التي وردت في
سورة البقرة: [أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ
ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ] (البقرة: 246) ، وكانت المدة
من وفاة يوشع بن نون حتى بعث الله النبي صموئيل أربعمائة سنة وستين سنة على
أكثر الروايات وهي فترة عهد القضاة، وقد استجاب لهم هذا النبي بأمر الله، وبعث
لهم طالوت ملكاً ولم يقبلوه إلا بعد جدال ومماحكة، وكان داود عليه السلام أحد
رجاله، وبرز في الجيش المعادي جالوت فبارزه داود وقتله فأصبح داود هو الملك
الثاني بعد طالوت واجتمع فيه الملك والنبوة وكانت قبله كل واحدة في سبط، وفتح
داود بيت المقدس وذلك عام 799 ق. م بعد 002 سنة من حكم العمالقة الذي
أصبح اسمها مدينة داود، ونقل التابوت إليها، وأعد العدة ليشيد المسجد المسمى
عند اليهود بالهيكل على قاعدة سداسية الشكل، ويقال إن هذا هو أصل اتخاذ اليهود
للنجمة السداسية شعاراً لهم، ولهذا ينسب إلى داود أحياناً فيقال مسجد داود كما سماه
عمر - رضي الله عنه - عندما دخل القدس، ثم إن داود لم يمهله الأجل فعهد
بمهمة البناء إلى ابنه سليمان، وقد جاء في الطبراني من حديث رافع بن عميرة:
إن داود - عليه السلام - ابتدأ ببناء بيت المقدس ثم أوحى الله إليه: إني لأقضي
بناءه على يد سليمان.
- تولى سليمان بعد داود - عليهما السلام -، حيث استمر في ملكه أربعين
سنة، بنى خلالها المسجد المسمى بالهيكل بناءً محكماً ضخماً يتلاءم مع عظمة ملك
سليمان وما سخر له، فكان أول بناء للهيكل بهذه الضخامة، ولذا نسب إليه فيقال
هيكل سليمان، وهو الهيكل الأول، وقد ثبت ذلك في الحديث الصحيح (س)
مرفوعاً: إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالاً ثلاثة الحديث،
ولعلاقة الماسونية باليهود المفترين، يصرح الماسونيون بأن هيكل سليمان كان
المحفل الماسوني الأصلي، وأن الملك سليمان كان رئيس المحفل، ويسمونه الملك
لأن اليهود لا يعترفون بنبوته ونبوة والده داود عليهما السلام، بل إن طوائف من
بني إسرائيل خاصة السامرة لا يقرون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون لأنه
مصرح به في التوراة ويكفرون بما وراءه.
- بعد وفاة سليمان عليه السلام سنة 539 ق. م تولى ابنه رحبعام الملك لكن
بني إسرائيل تمردوا عليه ولم يبق معه سوى سبط (يهوذا) ، وأما بقية الأسباط
فنصبوا عليهم ملكاً آخر هو يربعام بن ناباط فانقسموا إلى مملكتين، مملكة يهوذا
عاصمتها أورشليم ومملكة إسرائيل (السامرة) وعاصمتها نابلس، وهذا أصل
تسمية اليهود للضفة الغربية بـ (يهوذا والسامرة) ، وقد حصل منهم في هذه الفترة
فساد عريض، فوعظهم نبي لهم اسمه أشعياء وذكرهم وأنذرهم بأمر الله فلم
يستجيبوا وتمادوا بالانحراف حتى بلغ أوجه بقتلهم قاتلهم الله هذا النبي ونشروه
بالمنشار، ثم بعث الله إليهم نبياً آخر هو أرميا فحذرهم من أن الله سيسلط عليهم
جباراً يدمرهم إذا لم يستجيبوا له، لكنهم كذبوه واتهموه فقيدوه وسجنوه، وهذا هو
الإفساد الأول على ما ذهب إليه كثير من المفسرين في قوله - تعالى -: [وَقَضَيْنَا
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً]
(الإسراء: 4) .
- في حدود سنة 127 ق. م استولى سرجون الأشوري على مملكة إسرائيل
وقتل وشرد بعض شعبها، وفي سنة 806 ق. م استولى فرعون مصر على مملكة
يهوذا ثم واصل زحفه حتى استولى على مملكة إسرائيل في الشمال وانتزعها من
الأشوريين فثار لذلك ملك بابل الجديد بختنصر الذي آل إليه السلطان على آشور،
فزحف بخنتصر على فلسطين بمملكتيها وهزم المصريين فيها، ونهب أورشليم،
ودمر الهيكل، وجاس خلال الديار، وحرق التوراة، وسبى أكثر السكان إلى بابل،
وقتل بعضهم وفر بعضهم إلى مصر والمغرب والحجاز واليمن، وأنهى بذلك
ملك بني إسرائيل في فلسطين من خلال حوادث متسلسلة هي الأسر الأول سنة
606، والأسر الثاني سنة 895، والأسر الثالث سنة 885 ق. م، عرفت
تاريخياً بالسبي البابلي، وتحقق فيهم ما حذرهم منه نبيهم أرميا وعرف هذا التدمير
بالتدمير الأول للهيكل، وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا السبي والتدمير هو
المقصود بقوله - تعالى - في سورة الإسراء [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ
عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً] (الإسراء: 5) .
- كان من بين السبي دانيال وهو أحد أنبياء بني إسرائيل على أحد الأقوال،
وقد ألقاه بختنصر في بئر وألقى فيها أسدين فلم يضراه، ولما فتح المسلمون تُستَّر
وجدوا رجلاً ميتاً على سرير وعند رأسه كتاب فأخذ الكتاب إلى عمر بالمدينة
فنسخه كعب الأحبار إلى العربية فسئل أبو العالية الذي روى القصة: ماذا في
الكتاب؟ قال: سيركم وأموركم وما هو كائن بعد. ثم دفنوه وأخفوا قبره لتعميته
على الناس فلا ينبشونه لأنهم كانوا يستسقون به، وقد سئل أبو العالية: من كنتم
تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، وإسناد القصة صحيح إلى أبي العالية،
وقد روي أن دانيال دعا ربه أن تدفنه أمة محمد.
- ظل بيت المقدس في خراب تام وظل بنو إسرائيل في الأسر لأكثر من
أربعين سنة حتى جاء كورش الأخميني ملك فارس والذي يميل بعض الباحثين إلى
أنه هو ذو القرنين المذكور في سورة الكهف وهزم البابليين، ثم جاء بعده داريوس
فاستولى على بابل سنة 835 ق. م وآل إليه حكم أرض فلسطين، فسمح لبني
إسرائيل الذي أصبح اسمهم اليهود بالعودة إلى فلسطين لوقوفهم مع الفرس في
حربهم للبابليين، وذلك قوله تعالى: [ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً] (الإسراء: 6) ، عند بعض المفسرين، فعمد
العائدون إلى إعادة بناء الهيكل مرة أخرى بناءً محدوداً وهو الهيكل الثاني، وظلوا
تحت حكم الفرس إلى أن احتل أرضهم الإسكندر الأكبر المقدوني اليوناني تلميذ
أرسطو سنة 023 ق. م فرحب به اليهود هروباً من تسلط الفرس، واستمروا
تحت حكم الإسكندر حتى آل الأمر في فلسطين إلى البطالسة ملوك مصر، فظلوا
تحت حكمهم إلى سنة 661 ق. م.
- حاول اليهود بعد ذلك الاستقلال عن البطالسة المحتلين فقاموا بعدة محاولات
لاستعادة ملكهم تحت قيادة سبط اللاويين منهم فحكموا في ظل صراع ظل قائماً بينهم
وبين أعدائهم حتى استغل الرومان الوضع المتأزم فاستولوا على فلسطين عام40 ق. م، وحاول الرومان أن يهدئوا الأحوال ويسترضوا اليهود فأقاموا عليهم أمراء
منهم كان أشهرهم هيردوس الذي أكمل بناء الهيكل الثاني على نسق هيكل سليمان،
ورمم ما تهدم منه قبل ذلك عام 02 ق. م، وظل الهيكل قائماً حتى جاء زكريا
وابنه يحيى وابن خالته عيسى عليهم السلام.
- كان زكريا رئيس الهيكل وهو الذي كفل مريم المنذورة لخدمة الهيكل،
وفي محراب الهيكل كان يأتي الرزق إلى مريم وهو من نوع كرامات الأولياء.
وفيه أيضاً دعا زكريا ربه بالذرية الطيبة قال - تعالى -: [فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ
قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً
وَحَصُوراً وَنَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ] (آل عمران: 39) ، واستمر الحال في الهيكل
هكذا حتى قتل اليهود زكريا ونشروه بالمنشار، ثم قتلوا ولده يحيى - عليهما السلام-
لأنه رفض الفتيا لهم بجواز البغاء لأحد ملوكهم، وكان هذا هو الإفساد الثاني
المذكور في سورة الإسراء على ما ذهب إليه بعض المفسرين في قوله - تعالى -:
[وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ
كَبِيراً] (الإسراء: 4) .
- جاء آخر أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى - عليه السلام - وكان معاصراً
ليحيى وابن خالته وقد سماه اليهود: ابن البغية، وذلك قوله - تعالى -:
[وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً] (النساء: 156) ، وقد سمي بالمسيح
لمسحه الأرض وسياحته فيها فراراً بدينه من الفتن لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم
عليه وعلى أمه، وكانت أحوال بني إسرائيل في غاية الفساد فعقائدهم قد طمست
وأخلاقهم قد رذلت، وسيطرت عليهم المادية الجشعة حتى إنهم اتخدوا من المسجد
المسمى بالهيكل سوقاً للصيارفة والمرابين وملهى لهم، وقد أنذرهم زكريا ويحيى
ومن تبعهم من أنبيائهم وحذرهم عيسى من العقوبة قائلاً لهم: (مكتوب أن بيتي
بيت للصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) ، ولما استيأس منهم حذرهم من أن
الهيكل سوف يهدم وقال: (الحق أقول لكم، إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر
لا ينقض) ، وكانت تعاليم عيسى الروحانية تنتشر بين جماهير غفيرة من السكان،
مما أغاظ زعماء اليهود الماديين وكهنتهم المنتفعين، وخوفاً من اليهود على
مصالحهم وكرهاً لعيسى وأتباعه من الحواريين حرضوا السلطة الرومانية على
عيسى - عليه السلام -، وقررت مجالس اليهود الدينية الحكم عليه بالموت، ولما
تبين للحاكم الروماني براءته نادى اليهود عليه بقولهم:» اصلبه اصلبه، دمه علينا
وعلى أولادنا «، ولما أحكموا المؤامرة وحان القتل كان قدر الله سبق بأمر آخر قال
الله - تعالى -[وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] (النساء: 157-158) .
- ظل الهيكل قائماً بعد عيسى - عليه السلام - حتى عام 04 م، حيث
حاول اليهود التمرد على الحكم الروماني، فأرسل قيصر روما القائد طيطس الذي
أقدم على قتل الألوف وأسر الألوف من اليهود إلى روما بما سمي» الأسر
الروماني «، وقام على إحراق المدينة المقدسة وتدمير الهيكل التدمير الثاني،
وتحققت نبوءة عيسى - عليه السلام - فلم يبق فيه حجر على حجر كما قال لهم
من قبل، ولعل هذا هو الانتقام الإلهي من اليهود على الإفساد الثاني لهم بقتلهم
الأنبياء والصالحين مثل زكريا ويحيى ومحاولتهم قتل عيسى - عليه السلام -
وإيذائهم لأتباعه من الحواريين كما ذهب إلى ذلك طائفة من المفسرين في قول
الله - تعالى -: [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا
دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: 7) .
- استطاع اليهود أن يستعيدوا المدينة بعد حروب وقد بقي منهم شرذمة قليلة
بها إلى أن وافاهم القائد الروماني أدريانوس فهدمها وخربها ورمى قناطر الملح على
أرضها حتى لا تعود صالحة للزراعة، وأكمل تخريب الهيكل وشرد اليهود وشتتهم
في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وحرم عليهم العودة إلى القدس والسكن فيها
وذلك سنة 531م، وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض في الأرض المقدسة وتفرقوا
في الأرض.
- اختلف أصحاب عيسى - عليه الصلاة والسلام - فيه بعد رفعه على أقوال:
منهم من قال: هو عبد الله، ومنهم من قال: هو الله ومنهم من قال: هو ابن الله،
وهذا قول الله - تعالى -: [فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن
مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ] (مريم: 37) ، كذلك اختلفوا في نقل الأناجيل فالذين نقلوه
أربعة متى ويوحنا وهما ممن أدرك المسيح ورآه، ولوقا ومرقس وهما من
أصحاب أصحابه، وبينها اختلاف كبير من حيث الزيادة والنقص.
ثم حدثت الطامة الكبرى بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عندما
اختلف القساوسة والبطارقة والأساقفة في المسيح على أقوال متعددة، فتحاكموا إلى
قسطنطين ملك الروم وباني القسطنطينية في المجمع الأول، فصار الملك إلى قول
أكثرهم وأبعد من عداهم، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن أديوس الذي ثبت على
أن عيسى عبد الله ورسوله فسكنوا البراري ولم يخالطوا أصحاب تلك الملل والنحل،
وأما الآخرون فبنوا الكنائس وصوروها ولم تكن مصورة من قبل، ووضعوا
القوانين والأحكام المخالفة للتوراة، وأحلوا أشياء هي حرام بالتوراة مثل الخنزير،
ووضعوا لهم عقيدة يسمونها بالأمانة وهي أكبر الكفر، وقد وافقت عليها جميع
المجامع النصرانية وإن اختلفوا في تفسيرها.
- لما تنصرت الدولة الرومانية رسمياً بالنصرانية المحرفة في عهد
الإمبراطور قسطنطين بعد مجمع نيقية المجمع الأول سنة 313م، قامت أم
الإمبراطور بزيارة أورشليم (القدس) وكانت متصلبة في النصرانية، وقد أُشربت
بغض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح، فأمرت بتصفية أطلال الهيكل وأن ينقل
ما بقي من الأساطين ونحوها فتبنى بها كنيسة على قبر المصلوب وهو القبر
المزعوم للمسيح، فسميت كنيسة القيامة أو القمامة، وأمرت أن يجعل موضع
الهيكل مرمى أزبال البلد وقماماته، فصار موضع الصخرة مزبلة تراكمت عليها
الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها، وهذا السر في أنه رغم حفريات اليهود
الكثيرة والعميقة لم يعثروا على أي أثر للهيكل.
- ظل مكان الهيكل فضاءً خالياً من أي بناء بقية عهد الرومان النصارى،
وقد حدث الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم في عهد الحاكم الروماني
هرقل عام 126م، وكان المكان ما زال خالياً من أي بناء، إلا أنه محاط بسور فيه
أبواب داخله ساحات واسعة هي المقصودة بالمسجد الأقصى في قوله - تعالى -:
[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا
حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (الإسراء: 1) . وقد ظل المكان
معروفاً مقدساً في داخله الصخرة رغم زوال الآثار.
- جاء الفتح الإسلامي لبيت المقدس صلحاً في عهد عمر - رضي الله عنه -
سنة 61 هـ / 736م، وهي تسمى يومئذ» إيليا «وهو اسم لحقها قبل الميلاد
نسبة إلى أحد قادة الرومان، أو نسبة إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل ولم يكن
لليهود وجود بها وقت الفتح؛ حتى إن بطريرك النصارى اشترط في عقد تسليم
المدينة عدم دخول أحد من اليهود إليها، ثم طلب عمر من البطريرك أن يدله على
مسجد داود، فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على درج
الباب، فتجشم عمر حتى دخل ونظر، فقال: الله أكبر، هذا والذي نفسي بيده
مسجد داود الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إليه، ثم أخذ
عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها، ولما استشار عمر
كعب الأحبار وكان يهودياً قد أسلم، وكان مع جيش فتح بيت المقدس، أين يضع
المسجد، قال: ضعه خلف الصخرة، فقال له عمر: ضاهيت اليهودية، وفي
رواية يابن اليهودية، بل نجعله في صدر المسجد يقصد صدر الساحة، وجعل
الصخرة في مؤخرته، وبعض المؤرخين يرى أن عمر لم يبن مسجداً هناك،
وسؤاله لكعب الأحبار عن تعيين مكان الصلاة، وليس عن مكان للبناء.
- بقي المسجد الأقصى على حالته بعد الفتح الإسلامي إلى أن جاء الخليفة
الأموي عبد الملك بن مروان فبدأ بناء المسجد الأقصى سنة 66 هـ على صورته
القائمة اليوم، ووكل على بناءه رجاء بن حيوة، ثم أتم البناء ابنه الوليد بن عبد
الملك، وأما الصخرة فأول من بنى فوقها مسجداً في العصر الإسلامي عبد الملك بن
مروان، وهو المسجد المعروف بمسجد الصخرة، والمشهور بقبته الذهبية على
المبنى المثمن، ويبدو أن هدف عبد الملك بن مروان من هذا البناء الضخم هو
مواجهة ضخامة كنائس بلاد الشام خاصة كنيسة القيامة القريبة منه، فأصبح المسجد
الأقصى يحوي مسجد عمر المشهور بالمسجد الأقصى، ومسجد الصخرة،
والساحات المحيطة، وهذه الصخرة وما حولها التي بُني عليها المسجد كانت قبلة
الأنبياء بعد موسى عليه السلام، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون
إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة مدة ستة عشر شهراً من
الهجرة حيث قال الله تعالى: [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] (البقرة: 144) ، وهكذا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه
وسلم وبإمامته للأنبياء في المسجد الأقصى ليلة الإسراء وبتحويل القبلة إلى الكعبة
المشرفة، تحول الاختيار الرباني من بني إسرائيل إلى هذه الأمة المحمدية قال الله
تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران: 110) ، وبفتح بيت المقدس زمن الخليفة الراشد
عمر انتقلت الولاية على المسجد الأقصى إلى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
- ظل الخلفاء في الدول الإسلامية المتعاقبة يعتنون ببيت المقدس ترميماً
وتجديداً وتجهيزاً حتى نشب الصراع بين الفاطميين والسلاجقة على القدس فاستغل
الصليبيون النصارى الفرصة وشنوا حرباً مقدسة ضد المسلمين دعت إليها المجامع
النصرانية فسقطت القدس في أيديهم وذلك سنة 294هـ، حيث عملوا مذبحة
رهيبة يوم دخولهم بلغت نحواً من سبعين ألفاً، وظلوا فيها يعيثون فساداً مدة إحدى
وتسعين سنة، حتى حررها منهم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي - رحمه
الله - وذلك سنة 385هـ بعد معركة حطين الشهيرة، وبذلك طهر الله على يديه
المسجد الأقصى وحمى به الحرمين الشريفين من تهديد الصليبيين النصارى؛ حيث
كان قائدهم» أرناط «عازماً على الهجوم على مكة والمدينة، وقد وصل إلى
سواحل الحجاز، فما كان من صلاح الدين إلا أن أعدمه حال تمكنه منه.
- استمر المسجد الأقصى في حوزة المسلمين أيام الأيوبيين ثم المماليك ثم
العثمانيين إلى أن ضعفت الدولة العثمانية فاحتل الإنجليز فلسطين سنة 7191م وهو
العام الذي صدر فيه وعد بلفور المشؤوم بإعطاء اليهود وطناً قومياً في فلسطين،
وبدأت بريطانيا خلال انتدابها لفلسطين وهي ثلاثون عاماً بتهيئة الظروف لهجرة
اليهود إلى فلسطين وتهيئة الأجواء لإعلان دولة اليهود، وقد أعلن اليهود دولتهم في
نفس توقيت إلغاء الانتداب على فلسطيين سنة 8491م، وقامت دولة إسرائيل
وسيطرت على القدس الغربية وهو الجزء الغربي الحديث من مدينة القدس وليس
فيه شيء من الأماكن المقدسة الموجودة فيما سمي بالقدس الشرقية والذي بقي جزءاً
من الضفة الغربية التي ضمتها الأردن إليها.
- بقي المسجد الأقصى تحت الإدارة الأردنية كجزء من الضفة الغربية حتى
قامت حرب 7691م وهزم العرب فيها هزيمة منكرة، استولى فيها اليهود على
الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية والمسجد الأقصى، وما زال الأقصى يئن
تحت وطأة قتلة الأنبياء بالرغم من اتفاقيات السلام وقيام الحكم الذاتي الفلسطيني.
ثانياً: وقفات مع تاريخ بني إسرائيل والمسجد الأقصى:
- إن القرآن الكريم عرض لأهم الأحداث في تاريخ بني إسرائيل أو أشار
إليها وكذلك السنة النبوية، وهي الأحداث التي فيها العبرة لهذه الأمة وما لم يرد في
الكتاب والسنة فلا حاجة إليه، وإنما أذن الشارع في نقله إذا لم يخالف الكتاب
والسنة وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب فيذكر على سبيل التحلي والاستئناس،
وما يذكره المؤرخون من هذا التاريخ مما لم يرد في الوحيين معظمه منقول من
تواريخ أهل الكتاب، حكمه حكم غيره من التواريخ إلا إذا خالف الكتاب والسنة
فيرد، مع الحذر من بعض فصول ذلك التاريخ الذي سجله اليهود في التوراة
المحرفة، لأنه تاريخ محرف ومزور كتبوه لمصلحتهم وفصلوه على مقاسهم.
- أن بني إسرائيل عندما كانوا أتباع الأنبياء كانوا الأمة المختارة على أهل
عصرهم، كما قال - تعالى -: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة: 47) ، ومنهم من قال الله فيهم: [وَلَقَدِ
اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ] (الدخان: 32) ، وقال سبحانه: [وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) ،
وقال - تعالى -: [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا]
(الأعراف: 137) ، ومنهم الفئة القليلة التي ثبتت مع طالوت حتى النصر، ولذا
كان موسى من أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح، ونحن
المسلمين أولى ببني إسرائيل المؤمنين وبأنبيائهم من الطائفة الكافرة وهم الغالبية
منهم الذين خرجوا على ملة موسى وتنكبوا طريق الأنبياء، والذين كشف الله
أساليبهم من الغدر والخيانة وأشركوا بالله وقتلوا أنبياءه، وأفسدوا في الأرض،
وحكم الله عليهم بالغضب والذل والهوان، وكذلك أحفادهم من يهود المدينة الذين
حاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم ونكثوا عهوده معهم، ومن جاء بعدهم من
اليهود المشركين الملاحدة الذين يعيثون فساداً في الأرض عموماً وفي الأرض
المباركة خصوصاً.
- إن لبني إسرائيل تاريخاً حقيقياً ثابتاً مع بيت المقدس عندما كانوا مسلمين،
وإن المسجد الأقصى الإسلامي هو امتداد لمسجد أنبياء بني إسرائيل المسمى عندهم
بالهيكل، وهذا ما يؤكد أن الصراع مع مدعي هذا الحق التاريخي اليوم هو صراع
ديني؛ حيث إنه صراع بين أصحاب دعوى حق وهم المسلمون وأصحاب دعوى
باطلة وهم اليهود، وقتالنا لليهود وجهادنا لهم واجب شرعي وملحمة مستقبلية لحسم
هذه الدعوى [قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ
وَمَنِ اهْتَدَى] (طه: 135) .
- إن المسجد الأقصى على مر التاريخ كان مسجداً إسلامياً من قبل أن يوجد
اليهود ومن بعد ما وجدوا فإبراهيم - عليه السلام - أول من اتخذ تلك البقعة مسجداً،
وقد قال الله تعالى عنه: [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً
مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] (آل عمران: 67) ، أو أنه آدم أو بعض أولاده
على قول آخر فليس لبني إسرائيل علاقة بالمسجد الأقصى إلا في الفترات التي
كانوا فيها مسلمين مع أنبيائهم المسلمين، أما بعد كفرهم بالله وسبهم له وقتلهم
الأنبياء فقد انبتت علاقتهم بهذا المسجد الذي تحول إلى إرث المسلمين المؤمنين
بجميع الأنبياء، وهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الإسراء إلى المسجد
الأقصى إيذاناً بهذا التحول والذي تحقق على أرض الواقع في فتح المسلمين له في
عهد الخلفية الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
- إن تاريخ بني إسرائيل يبدأ مع يعقوب عليه السلام وأبنائه الأسباط الاثنى
عشر، وأما تاريخهم السياسي فيبدأ مع موسى عليه السلام، وهو أعظم أنبياء بني
إسرائيل، ومن أكثر الأنبياء تبعاً بعد محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في
الأحاديث الصحيحة، وشريعته من أعظم الشرائع وفيها شرع الجهاد ولم يكن شرع
قبل، وكان أول امتحان لهم بالجهاد أمر الله لهم بدخول الأرض المقدسة التي كانت
تحت سلطان الكفرة الجبارين، وكانت رسالة موسى خاصة ببني إسرائيل، ووجد
فيهم بعد موسى أنبياء وعلماء وعباد وزهاد وملوك وسادات لكنهم كانوا فبادوا
وتبدلوا كما بدلت شريعتهم، ومسخ بعضهم قردة وخنازير، وجرت عليهم خطوب
بسبب ظلمهم وبغيهم وإفسادهم. - إن الله كتب الأرض المقدسة لبني إسرائيل
عندما كانوا أتباع الأنبياء حتى مع فسقهم ونكوصهم وتخاذلهم عن الجهاد وإيذائهم
لموسى عليه السلام كما قال الله عنهم في سورة المائدة، لكنهم لم يكفروا بعد حتى
دخلوا الأرض المقدسة مع يوشع بن نون بعد موسى - عليه السلام -، وذلك بعد
مماحكة ورفض وتبديل لأوامر نبيهم كما ذكر الله عنهم في سورة البقرة ومع ذلك
كانوا أحق بها من الوثنيين الجبارين لأنهم أقرب إلى الحق منهم.
- إن الله قضى عليهم بأنهم سيكونون أهل فساد وإفساد عندما يتنكبون طريق
الأنبياء، وأن الله سيسلط عليهم أعداءهم عقوبة لهم من الله، وقد حصل هذا مرتين
مع البابليين والرومان أو حصل مرة مع البابليين وسيحصل مرة أخرى في
المستقبل، وحذرهم الله - سبحانه وتعالى - بالعقوبة كلما عادوا للفساد والإفساد كما
قال تعالى: [وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا] (الإسراء: 8) .
- إن بني إسرائيل كانت تنحرف عقائدهم عبر الزمان، فيرسل الله لهم
الأنبياء فيتبعهم طائفة وتحاربهم طائفة حيث كانوا أكثر الأمم أنبياء وذلك لكثرة
أمراضهم، وانحراف فطرهم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء
في بني إسرائيل كالعلماء في هذه الأمة.
- إن انحراف بني إسرائيل ازداد عبر الزمن حتى وصل إلى سب الله -
تعالى - بادعاء الولد له وبأن يده مغلولة، وحتى وصل إلى قتلهم الأنبياء، وقد
بلغوا قمة الفساد والإفساد في عهد عيسى بن مريم آخر أنبيائهم عندما حاولوا قتله،
وقتلوا يحيى وزكريا وحولوا المسجد إلى سوق للمرابين وملهى لهم.
- بمحاولتهم قتل عيسى - عليه السلام - آخر الأنبياء بني إسرائيل وإبطال
الله لكيدهم، انتهت قصة بني إسرائيل (اليهود) الدينية، وانتهت علاقاتهم بالمسجد
الأقصى، ولم يعودوا صالحين لحمل رسالة سماوية، وصاروا أفسد الناس بعد أن
كانوا أفضل أهل زمانهم قال الله - تعالى - عنهم: [وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً]
(المائدة: 64) ، ووصمهم الله بالكذب وبأنهم قتلة الأنبياء قال الله - تعالى -:
[أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ]
(البقرة: 87) ، وبأنهم كفرة وقتلة للأنبياء وأتباعهم، قال الله - تعالى -: [إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ
النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] (آل عمران: 21) .
- بعد مبعث عيسى - عليه السلام -، وإيمان طائفة من بني إسرائيل به كما
قال الله - تعالى -: [فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ] (الصف: 14) ، تحول إرث أنبياء بني
إسرائيل إلى أتباع عيسى - عليه السلام - من الذين قالوا إنا نصارى ومن ذلك
المسجد الأقصى الذي دمر بعد ميلاد عيسى بأربعين سنة كما تنبأ له عليه السلام
بسبب إفساد اليهود وفسادهم فيه، ولم يعترف اليهود بنبوته عليه السلام، وحاولوا
قتله صغيراً وكبيراً وسموه ابن البغية. عليهم لعائن الله المتتابعة.
- لما كان النصارى هم أتباع النبي الخاتم لأنبياء بني إسرائيل في أول الأمر
وهو عيسى عليه السلام الذي لم يعترف اليهود بنبوته ناصبهم اليهود العداء حيث
اتخذوا من حرب أتباع الأنبياء سلوكاً لهم، وبذلك تحول النصارى إلى خصوم
لليهود يسومونهم سوء العذاب كلما سنحت الفرصة لهم كما حصل عبر التاريخ في
أوروبا النصرانية وروسيا القيصرية، وعندما دخلوا الأندلس وعندما احتلوا القدس
عام 294 هـ بل إنهم حولوا المسجد الأقصى إلى مزبلة عندما تنصر الرومان
بالنصرانية المحرفة بغضاً لليهود؛ لأنهم يعتقدون أنهم صلبوا المسيح عليه السلام
واستمر هذا حال النصارى مع اليهود، حتى اختراق اليهود للمسيحية عبر حركة
مارتن لوثر التجديدية وتحول بعض أتباع هذه الطائفة إلى مناصرين لهم بما يسمى
بالإنجيليين البروتستانت التي أفرزت اليوم» الصهيونية المسيحية «، وأما
الكاثوليك فبعد أن برأ المجمع المسكوني سنة 3691م اليهود من دم المسيح في هذا
العصر، وتحققت صور جديدة من معاني قول الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (المائدة: 51) .
- عندما بدأ الانحراف يدب في النصرانية بواسطة الأحبار والرهبان،
وأدخلوا الشرك عليها بادعائهم ألوهية عيسي - عليه السلام - وتحريفهم للكتاب
المقدس حكم الله عليهم بالضلال وسماهم بالضالين، وحكم عليهم بالكفر: [لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] (المائدة: 17) ، وقال سبحانه: [لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ] (المائدة: 73) .
- عندما أذن الله ببعث هذا النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم من الفرع
الثاني لإبراهيم - عليه السلام - إسماعيل وكانت رسالته خاتمة الرسالات، تحول
إرث الأنبياء السابقين إليه وصار أولى الناس هو وأتباعه بالأنبياء قبله قال الله
تعالى: [إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا] (آل
عمران: 68) ، وقال - تعالى -: [إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ
القِيَامَةِ] (آل عمران: 55) ، والذين اتبعوا عيسى هم النصارى قبل التحريف ثم
الأمة المسلمة، والذين كفروا هم اليهود وكذلك النصارى بعد التحريف، ومثل قول
النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة صوم عاشوراء:» نحن أحق بموسى منهم « [3]
أي من اليهود، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:» أنا أولى الناس بابن
مريم في الدنيا والآخرة « [4] ، فأصبح أتباع هذا الدين هم أولى بالأنبياء السابقين
وبالأماكن المقدسة.
- قام اليهود والنصارى بتحريف كتبهم المقدسة (التوراة والإنجيل) وجحدوا
ما فيهما من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الله - تعالى -: [الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ]
(الأعراف: 157) ، وقال - تعالى -: [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي
اسْمُهُ أَحْمَدُ] (الصف: 6) ، فلم يعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وتحولوا إلى خصوم لهذا الدين واتباعه.
- بالرغم من هذا التحريف فقد بقيت بعض البشارات بهذا النبي الخاتم وأمته
في كتب أهل الكتاب، من ذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو قال في التوراة:
ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين ... الحديث [5] ، وكذلك
عن عبد الله بن سلام بنحو ما ورد عن عبد الله بن عمرو [6] ، ومن ذلك أن الله
أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام - يأمره بأن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوباً
وشرقاً وغرباً وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر،
وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض، وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة
المحمدية بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة، يؤيد ذلك قول الرسول
صلى الله عليه وسلم:» إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن
إمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها « [7] ، ومن ذلك: لما ولد إسماعيل أوحى الله
إلى إبراهيم أنه بارك عليه وكثره، وأنه سيجعله رئيساً لشعب عظيم، ومن ذلك
أيضاً: لما حملت هاجر بشرت بأنها ستلد ولداً يكون سيد الناس ويملك جميع بلاد
أخوته، وهذه البشارة تحققت على يد ولده محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته
وأتباعه، فهم الذين ملكوا جميع البلاد غرباً وشرقاً وآتاهم الله من العلم النافع
والعمل الصالح ما لم يؤت أمة من الأمم قبلهم.
- إن اليهود يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم،
وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا وقد روي أن سبب مجيء اليهود
إلى المدينة ما ورد في كتبهم من وصف مهجر نبي آخر الزمان أنه في نخل بين
حرتين، لكن الكفر والحسد أعماهم عن اتباعه: [فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ] (البقرة: 89) ، وبذلك تحولوا إلى أعداء أشداء
للمسلمين كما قال - تعالى -: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا] (المائدة: 82) .
- ولعداوة اليهود للمسلمين ولنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وخطرهم على
الإسلام حفل القرآن بذكر قصصهم مع أنبيائهم وضلالاتهم وكفرهم بالله حتى بلغت
السور التي جاء فيها ذكرهم تصريحاً أو تلميحاً نحواً من خمسين سورة، وكانت
قصة موسى مع بني إسرائيل من أكثر القصص في القرآن، وقد بين الله في القرآن
طبيعتهم ونفسيتهم في عدد من الآيات مثل قوله - تعالى -: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا
عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ] (البقرة: 100) ، ومثل قوله - تعالى -: [وَيَسْعَوْنَ فِي
الأَرْضِ فَسَاداً] (المائدة: 64) ، ومثل قوله تعالى: [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ
عَلَى حَيَاةٍ] (البقرة: 96) ، ومثل قوله - تعالى -: [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران: 78) .
وبين حكمه فيهم في مثل قوله - سبحانه وتعالى -: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ] (الأعراف: 167) ، ومثل قوله -
تعالى -: [وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً
لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ] (المائدة: 64) ، ومثل قوله - تعالى -: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ] (آل عمران: 112) .
وبين مكرهم ومؤامراتهم ضد هذا الدين في مثل قوله - تعالى -: [وَقَالَت
طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (آل عمران: 72) ، وقوله - تعالى -: [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ
اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران:
78) ، ومثل قوله - تعالى -: [وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ
آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا] (المائدة: 41) .
- إن وصف القرآن لبني إسرائيل وأخلاقهم ونفسياتهم وانحرافاتهم وأمراضهم
ينطبق على تلك الأجيال من بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى ويوشع والأنبياء
من بعدهم، ويستثنى من ذلك طوائف من المؤمنين من أتباع هؤلاء الأنبياء لم
تنحرف انحراف الغالبية منهم، وينطبق وصف القرآن هذا أيضاً على اليهود الذين
عاثوا فساداً في المدينة قبل قتلهم وإجلائهم منها من قبل المسلمين، وينطبق أيضاً
على اليهود بعدهم عبر القرون، وينطبق تماماً على اليهود المعاصرين الذين
اغتصبوا فلسطين في العصر الحديث.
- إن الصراع بين عقيدة التوحيد التي جاء بها إبراهيم وجددها محمد عليهما
الصلاة والسلام وسيجددها عيسى بن مريم آخر الزمان وبين عقيدة الشرك والخرافة
والفرية التي أسسها الأحبار والرهبان بما اقترفوه من الكذب الذي يقولون هو من
عند الله وما هو من عند الله هو صراع مستمر لن ينتهي حتى ينزل مسيح المسلمين
ابن مريم ويقتل مسيحهم الدجال كما وعد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) لمعرفة تفاصيل تاريخ بني إسرائيل (اليهود) ارجع إلى متن: - تاريخ الطبري، - البداية والنهاية لابن كثير، - المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام (فلسطين) (الجامعة الإردنية) ، - فلسطين واليهود، يعقوب والدجني وآخر، قبل الكارثة، عبد العزيز مصطفى، مجلة البيان، وقد جاء مختصر شامل لبعض فصول هذا التاريخ في حديث الفتون (قصة موسى) عن ابن عباس رواه كل من: النسائي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حامد، قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية: والأشبه أنه موقوف وكونه مرفوعا فيه نظر وغالبه تلقى من الإسرائليات وفيه شيء يسير مصرح برفعه وفي بعضه ما فيه نظر ونكارة، والأغلاب من كلام كعب الأحبار، وقد سمعت شيخنا المزي يقول ذلك.
(2) أخرجه البخاري، رقم 6633، مسلم، رقم 025.
(3) متفق عليه، ح/ 4002، م 0311.
(4) البخاري، ح/ 3443.
(5) أخرجه البخاري، ح/ 8384.
(6) سنن الدارمي، 1/41.
(7) أخرجه مسلم، رقم 9882.(175/32)
المسلمون والعالم
الإعصار الاستشهادي هل يعصف بالإرهاب الشاروني
د. سامي بن محمد الدلال
منذ الثامن والعشرين من مارس (آذار) 2002م شرعت القوات اليهودية
الشارونية بتنفيذ مخطط واسع لإعادة اجتياح الضفة الغربية وغزة، مدناً وقرى
ومزارع وممتلكات. ونريد في هذه الدراسة المقتضبة تسليط الأضواء على هذه
الهجمة الشرسة، وسبر أغوار خلفياتها، واستشراف نتائج مآلاتها.
* الآمال الشارونية:
إن الآمال الشارونية هي حصيلة ثلاثة مركبات:
التكوين الشخصي:
إن الدارس لشخصية شارون يتضح له أن هذا البدن الممتلئ يضم بين دفتيه
شخصية متعجرفة متكبرة مستعلية قد أعماها ذلك عن تلمس الحقائق وإدراك مكونات
الواقع؛ مما دفعها إلى اتباع أسلوب حرق المراحل بغية الوصول إلى الهدف النهائي
بأسرع وقت ومن أقصر طريق. لذلك تراه امتطى صهوة الغاية تسوِّغ الواسطة؛
فصال من فوقها وجال. ومع أنه شديد الاندفاع نحو تحقيق مآربه فإن ذلك لم يكن
على حساب مراوغاته المخادعة وأساليبه الدنيئة وقلبه للحقائق وتلاعبه بالألفاظ،
وهو في كل ذلك مقبل غير مدبر، لا يكل ولا يمل، دؤوب على تحقيق باطله،
مكار في وضعه خططه، داهية في ترويض مناوئيه، أقرب ما يكون في كل ذلك
من شخصية اليهودي المشهور حيي بن أخطب الذي ضربت عنقه على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في خندق الموت الذي احتفره النبي صلى الله عليه وسلم
في سوق المدينة؛ حيث امتلأ بالرؤوس المتطايرة من فوق أعناقها من يهود بني
قريظة الذين نقضوا عهدهم معه في أحلك ظرف وأدقه، يبتغون طعن المسلمين في
خاصرتهم ليتمكن منهم أعداؤهم من قريش وغطفان والأحابيش.
تشابهت الشخصيتان؛ فهل تتشابه النهايتان؟ ! !
وقد ذكرت صحيفة (صنداي إكسبرس) أن أفرام هاليفي رئيس الموساد تقلقه
كراهية شارون الحادة لعرفات، وأنها شخصية متهورة للغاية بحيث لا تتيح الفرصة
للتفكير الهادئ، وأن حدة توجهات شارون بدأت تشوش على قدرته لإصدار أحكام
واضحة في هذه الأوقات الخطيرة، وأنه يعاني عمى لا يجعله يشعر بعمق المشاعر
في أوروبا بسبب ما يقدم عليه من أفعال، وأنه يعاني توترات عقلية متزايدة، ولديه
تقلبات خطيرة في المزاج، وأنه يكاد لا ينام، ولا يأكل بطريقة منتظمة، وتنتابه
حالات من الإزعاج؛ فهو يتصرف كقائد دبابة وليس كسياسي [1] .
الرصيد التاريخي:
إن القاسم المشترك لجميع سني عمر هذا السفاح هو ولوغه في الدم واستمتاعه
بالقتل، وعشقه للتدمير وحرصه الشديد على ذكر اسمه مع كل مجزرة تخليداً لذكراه
العفنة. ولذا فإن مآثره لا تخرج عن هذا الإطار، وهو فخور بكل ذلك، فِرِحٌ
بتاريخه الذي مر عليه لغاية الآن أربع وسبعون سنة ممتلئة بكل ما يجلب الخزي
والعار ويضاعف الذم والشنار بما اختزن فيها من المساوئ والآثام، وبما احتمل
وزره من الضحايا والآلام.
إن الكتلة اللحمية لشارون هي سليلة عصابة الهاغاناه الإجرامية الإرهابية
الوحشية حيث انضم إليها عندما كان عمره سبعة عشر عاماً، وقد تلقى دروس
الهمجية والافتراس من أساتذته الأبالسة، ومن أشهرهم بن غوريون وشامير
ورابين. وهو من الذين ولغوا في دماء المسلمين في مذبحتي دير ياسين واللد عام
1948م في فلسطين، وفي مذبحتي صبرا وشاتيلا عام 1928م في لبنان، وهو
الذي شكل (الوحدة 101) وأسماها (الشياطين) ، واختار بنفسه جميع أفرادها ممن عرفوا بالسوابق واللصوصية والقتل؛ حيث قام هذا الوغد باستخدام هذه
الوحدة الفاسدة المفسدة بارتكاب خمس مجازر بشرية بين عام 1953م و 1956م،
كانت مذبحة (قبية) من أشهرها! !
إن آمال شارون هي امتداد لهذا الرصيد الإجرامي. لذا فإن كل ما ينتظر منه
لن يكون سوى إفرازات سامة من هذا المختزن التاريخي.
توظيف النبوءات.
يؤمن شارون بأن دولة اليهود ينبغي أن تمتد من الفرات إلى النيل. ونظراً
إلى أن هذا التطلع مبني على نبوءات توراتية (لا يهم بالنسبة له أن تكون حقيقية
أو مزيفة) فإن برامجه السياسية وممارساته التنفيذية كلها تنطلق من هذا التصور.
وبحسب تطور الأحداث فإنه بعد أن درس الحقوق في الجامعة العبرية في القدس
انضم إلى الماباي ثم الحزب الليبرالي ثم استقر به المطاف في تكتل الليكود
المتطرف، وذلك منذ حوالي ربع قرن. إن تكتل الليكود يتسابق في تطرفه مع
الأحزاب اليمينية، ويتسابق في مراوغاته السياسية مع حزب العمل، غير أن
جميع هؤلاء تضمهم بوتقة واحدة هي استغلال النبوءات بحق أو بباطل للوصول
إلى تحقيق حلم إسرائيل الكبرى.
هذه هي المركبات الثلاثة (التكوين الشخصي، الرصيد التاريخي، توظيف
النبوءات) التي تصيغ الآمال الشارونية. وهي في جوهرها نفس المركبات التي
تصيغ وتصبغ أي حكومة يهودية بغض النظر عن من هو رئيس وزرائها. بل إن
هذا الحكم يوشك أن يمتد أيضاً ليطول كل يهودي في الأرض المحتلة أو خارجها
(ولا عبرة بالأقلية المخالفة) ، ومن أدلتنا على ذلك التاريخ الأسود لحزب العمل
المنافس لتكتل الليكود، وكان قد حكم الدولة اليهودية لعقود. فإذا كانت المركبات
الثلاثة المذكورة تصنع الآمال الشارونية فما هو مخطط تحقيق تلك الآمال؟ !
المخطط الشاروني:
إن الخطوط العريضة للمخطط الشاروني حسب تتابعها الزمني هي كالآتي:
1 - تجاوز اتفاقيات أوسلو واعتبارها شيئاً من الماضي.
2 - إيقاف الانتفاضة الفلسطينية باستخدام جميع الوسائل.
3 - هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل على أنقاضه.
4 - إيجاد وضع سكاني في الضفة الغربية وغزة يصب في النهاية في تعزيز
وتكثيف الوجود اليهودي فيهما. ويتم ذلك عن طريق:
أ - بلورة سلطة فلسطينية تخدم المخطط اليهودي بوضوح.
ب - إيجاد ظروف مبرمجة مرحلياً لإجبار سكان الضفة الغربية وغزة (أو
أغلبهم) على الهجرة إلى الأردن ومصر وغيرهما من الدول العربية والأجنبية.
ج - التوسع في إقامة المستوطنات في الضفة الغربية وغزة وزيادة عدد
المهاجرين بشكل مكثف.
5 - تحطيم القوى العسكرية في المحيط الجغرافي لدولة اليهود، ويشمل ذلك
كلاً من سوريا ولبنان والعراق وإيران والسعودية، كما يشمل مصر والأردن
لاحقاً (بعد إلغاء إتفاقيات السلام) .
6 - بلع أراض جديدة وضمها إلى الدولة اليهودية، ومنها على سبيل المثال
وليس الحصر: شرق الأردن، جنوب لبنان، جنوب سوريا، صحراء سيناء.
7 - توقيع اتفاقيات تطبيع مع الدول العربية والإسلامية.
تلك أهم الخطوط العريضة في المخطط الشاروني، وهو مخطط يعبر عن
الآمال العريضة للصهيونية اليهودية؛ وعلى ذلك فإن مناط تحقيقه لا يرتبط بالوجود
الشخصي لشارون بقدر ما يرتبط بالوجود المؤسسي (سياسياً واقتصادياً وعسكرياً)
المتبني لهذا المخطط فكراً وممارسة.
إن هذا المخطط يحتوي ضمناً أربع قضايا رئيسة:
1 - الحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
2 - إقفال ملف عودة المهاجرين الفلسطينيين.
3 - القدس كلها عاصمة لإسرائيل.
4 - اعتبار الوجود السكاني الحالي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع
غزة، واتفاقيتي السلام مع مصر والأردن، حالة مؤقتة أملتها الظروف
وسيتجاوزها المخطط الشاروني.
فما هي المرتكزات التي ينطلق منها تنفيذ هذا المخطط؟
* المرتكزات الشارونية:
إن المخطط الشاروني الذي ذكرت خطوطه العريضة لا يتحرك من فراغ،
بل يستند إلى دعائم قوية، من أهمها ما يلي:
أولاً: الدعم الأمريكي المطلق:
لقد وفرت الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة رئيسها بوش جميع أنواع الدعم
لشارون ليمضي قدماً في تنفيذ مخططاته. إن الدعم المذكور يتألف من خمسة
عناصر:
1 - الدعم الاقتصادي، وحجمه مفتوح. ومن أراد التفصيل فليطلع على
التقرير الذي أعده أعضاء ولجنة الكونغرس (خدمة الأبحاث النيابية) CRS،
بعنوان: (المساعدات الخارجية الأمريكية لإسرائيل - قسم العلاقات الخارجية
والدفاع والتجارة -) .
2 - الدعم العسكري؛ حيث إن ما تقوم به الدولة اليهودية الآن من أعمال
الإجرام يتم معظمه بالسلاح الأمريكي الحديث جداً وذي التقنية العالية، وخاصة
طائراتF-16 وهوليكوبترات أباتشي.
3 - الدعم السياسي؛ حيث تقوم الولايات المتحدة باستعمال حق النقض
(الفيتو) في مجلس الأمن إزاء أي قرار فيه إدانة للأعمال الوحشية لدولة اليهود،
كما أنها تقوم بالضغط السياسي على مختلف دول العالم للوقوف مع اليهود في
إجرامهم وإفسادهم. إن الإدارة السياسية الحالية للولايات المتحدة قد وضعت كل
ثقلها في دعم المخطط الشاروني، إلى الدرجة التي جعلت الرئيس الأمريكي بوش
يقدم الغطاء السياسي لممارسات الدولة اليهودية الحالية؛ وذلك بتصريحه أنه يتفهم
ما تقوم به الدولة اليهودية، وأن ما تفعله لا يتجاوز الدفاع عن النفس، متجاهلاً
تماماً الحقائق الكبرى والتي من أهمها أن اليهود هم المعتدون مرتين: الأولى عام
1948م، والثانية عام 1967م، وأن الفلسطينيين لم يفعلوا أكثر من محاولة الدفاع
عن أنفسهم. فالإدارة الأمريكية تمارس دور قلب الحقائق ونشر الزيف وافتراء
البهتان، وتحمل دول العالم على تصديق هذه السلسلة المتوالية من الأكاذيب
المحضة والدجل السياسي المغرض. وتقوم وزارة خارجيتها ممثلة بوزير الخارجية
كولن باول بالاتصال بزعماء العالم، وبتنشيط سفرائها في مختلف الدول لجعلها
منخرطة في الركب الأمريكي، خدمة لإسرائيل. وقد بلغ الصلف الأمريكي
والعجرفة أن السفير الأمريكي في البحرين المدعو رونالد نيومان طلب من
الحاضرين الوقوف دقيقة حداداً على القتلى الإسرائيليين، وذلك في حفل دعي إليه
شاركت فيه 25 مدرسة حكومية، وخاصة في يوم الأربعاء الموافق 3 إبريل
2002م.
4 - الدعم الإعلامي: إن الإعلام الأمريكي يقوم بدور دنيء في التغطية
الإعلامية للأحداث، حيث يمارس الكذب على نطاق واسع جداً، ويظهر المعتدي
الغاشم، وهم اليهود، بمظهر الحمل الوديع الذي انقض عليه الذئب المفترس، وهم
الفلسطينيون.
إن هذا الإعلام المضلل يعمل بشكل متناغم جداً من التوجه السياسي الأمريكي؛
حيث جعل من نفسه بوقاً للعهر اليهودي، مما جعل شارون يجلس مرتاحاً يمط
ذراعيه ويمد رجليه! ! إن ما تفعله القوات اليهودية الآن من قتل للرجال والنساء
والأطفال والعجزة والمسنين والمعوقين والمسجونين، ومن بقر للبطون وتمثيل
بالجثث، وهدم للمنازل وتجريف للأراضي والمزروعات، وتدمير للمستشفيات
على من فيها، وقصف للمساجد ولكافة المنشآت والمراكز الأمنية الفلسطينية،
وحصار للمدن والقرى، وقطع للكهرباء والماء والغذاء وكافة الخدمات الإنسانية،
وانتهاك للأعراض ونهب للمتلكات، ومصادرة لسيارات الإسعاف بعد قتل الأطباء
والممرضين الذين فيها، وعدم سماحها بإسعاف المصابين وتركهم ينزفون حتى
الموت، وعدم السماح للفلسطينيين لدفن قتلاهم في المقابر، وسلسلة الإعدامات
والقتل بدم بارد، لمجرد حب القتل لا أكثر، إن هذا الذي فعله اليهود في فلسطين
مستخدمين أعتى أنواع الأسلحة من طائرات وصواريخ ودبابات وقنابل عنقودية،
وسواها كثير، أقول: إن كل هذا الإجرام لم يحظ بأية إدانة من الإعلام الأمريكي
الذي رضي لنفسه أن يكون في أحضان اليهود. بل إن بوش قد جعل من نفسه أداة
إعلامية رئاسية ليدعي بملء فيه أن كل تلك الوحشية ما هي إلا للدفاع عن النفس.
5 - الدعم اللاهوتي: نعم، لقد حظيت الدولة اليهودية بالدعم الكنسي
الأمريكي! وصال وجال رجال الكنيسة ليروجوا مقولة إن دعم إسرائيل والوقوف
معها هو المعجل لعودة المسيح، ومن أبرز هؤلاء القس جيري فولويل؛ حيث
يعتبر أن (إعادة تأسيس إسرائيل عند المسيحيين الأصوليين هو إيفاء بالنبوءات) ،
والقس بات روبرتسون الذي يركز في برامجه على أن (إعادة مولد إسرائيل هي
الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية الكون قد بدأ) ، والقس جورج أوتيس
الذي يقول: ( ... ونعتقد أن اليهود في أي مكان ما زالوا هم شعب الله المختار،
وأن الله يبارك من يباركهم..) والأصولي النصراني مايك إيفانز الذي يقول:
(ونحن نؤمن بأنه يتوجب على أمريكا الوقوف بجانب إسرائيل.. وكلمة الله تعترف
بالقدس، وعلينا واجب الاعتراف بكلمة الله) . هذا سوى الدور اللاهوتي الذي تقوم
به جماعات الضغط النصرانية الأصولية، من أمثال: (السفارة المسيحية الدولية) ،
و (المائدة المستديرة الدينية) ، و (مؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لأجل إسرائيل)
وهو تجمع صهيوني نصراني أسسه فرانكلين ليتبل، و (مسيحيون متحدون من
أجل إسرائيل) وغيرها من مجموعات الضغط الذين تعج بهم الساحة الأمريكية.
إن هذه العناصر الخمس، والتي تبين الدعم المطلق للدولة اليهودية، تمثل
قدرة اليهود على تحويل الرياح لصالحهم؛ وذلك من خلال المثابرة والجد والتخطيط
والمتابعة، وهم بهذا يكونون قد قلبوا الصفحة التاريخية التي أراد تثبيتها الزعيم
الأمريكي السابق بنجامين فرانكلين - أحد واضعي دستور عام 1789م - عندما
حذر من اليهود ومن سطوتهم وذلك في وثيقة أودعها في معهد فرانكلين بفلادلفيا؛
حيث قال مخاطباً الشعب الأمريكي: (أيها السادة! في كل أرض حل بها اليهود
أطاحوا بالمستوى الخلقي، وأفسدوا الذمة التجارية فيها) إلى أن قال: (إذا لم يبعد
هؤلاء من الولايات المتحدة بنص دستوري فإن سيلهم سيتدفق إلى الولايات المتحدة
في غضون مائة سنة، إلى حد يقدرون معه على أن يحكموا شعبنا ويدمروه،
ويغيروا شكل الحكم الذي بذلنا في سبيله دماءنا وضحينا بأرواحنا وممتلكاتنا
وحرياتنا الفردية، ولن تمضي مائتا سنة حتى يكون مصير أحفادنا أن يعملوا في
الحقول لإطعام اليهود على حين يظل اليهود في البيوتات المالية، يفركون أيديهم
مغتصبين! !) ، وقريب من هذا الكلام ذكره (جورج واشنطن) الرئيس الأول
للولايات المتحدة (1789م - 1797م) حيث قال عن اليهود: (إنهم يعملون
ضدنا بشكل أكثر فعالية مما تفعله جيوش العدو، وهم أخطر منه مائة مرة على
حرياتنا وقضيتنا العظيمة التي ننخرط فيها، وإنه لمن المحزن جداً أن كل ولاية لم
تعمد منذ أمد بعيد إلى ملاحقة اليهود والقضاء عليهم باعتبارهم آفة على المجتمع،
وأعظم عدو يهدد استقرار الولايات المتحدة وأمنها وسعادتها) ، غير أن الرؤساء
الأمريكيين الذين جاؤوا بعد ذلك ضربوا بتلك التوصيات عرض الحائط، حيث أخذ
التواجد اليهودي في الولايات المتحدة مداه. وللذكرى فقط، فإن الرئيس الأمريكي
هاري. أس. ترومان قد ذكر في رسالته إلى الملك عبد العزيز بن سعود ملك
المملكة العربية السعودية، والمؤرخة في 8 شعبان 1365هـ الموافق 8 يوليو
1946م ما خلاصته: (وإني أعتقد مخلصاً أن السماح لمائة ألف يهودي بدخول
فلسطين لن يعد تعدياً على حقوق العرب في فلسطين، ولا يؤدي إلى تبديل في
الوضع الحالي، وإني لمقتنع بأن فلسطين تستوعب المائة ألف ساكن بحسب
أحوالها الاقتصادية الموجودة بها من دون تأثير في بقية السكان الحاليين. وقد
عينت ثلاثة أعضاء من وزارتي لضمان النظر بدقة في هذا التقرير، وسيتصلون
في مباحثاتهم بالحكومة الإنجليزية) [2] .
نعم! نجح اليهود في قلب تلك الصفحة الأمريكية التاريخية، واستبدلوها
بصفحة أمريكية جديدة هم الذين يكتبون نصوصها ويصيغون مفرداتها.
ثانياً: القوى اليهودية الذاتية: هي واحدة من أهم مرتكزات تحقيق
المخطط اليهودي الشاروني.
إن القوى اليهودية الذاتية كثيرة جداً؛ فهي قوى سياسية واقتصادية وعسكرية
وإعلامية، منها ما هو في داخل الدولة اليهودية ومنها ما هو خارجها. غير أن
الذي يعول عليه شارون وحكومته في تحركهم الحالي هو القوى الذاتية اليهودية في
داخل كيان الدولة، ذلك أنه وفق الإحصاءات المعلنة فإن الدولة اليهودية تملك من
المؤسسات في جميع المرافق ما يفوق في كل واحد منها مجموع مثيلاته في كل
الدول العربية مجتمعة. ويشمل ذلك المؤسسات الاقتصادية والبحثية والثقافية
والاجتماعية والعسكرية والاعلامية وغيرها. إن جميع هذه المؤسسات تعمل بشكل
متناسق لتصب في النهاية في بحيرة صناعة إسرائيل الكبرى. فإذا ما أضفنا إليها
المؤسسات اليهودية في العالم أو الداعمة لها، وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا،
فإن هذا الكيان المحدود جغرافياً سيضحى كياناً متخماً بعوامل القوة والسطوة التي
لا تستخدم إلا في التدمير والإفساد في الأرض. ولعل قوله - تعالى -: [وَقَضَيْنَا
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً]
(الإسراء: 4) ينطبق حالياً على هذه الدولة التي شاع إفسادها وتمادى علوها. وفي
وقتنا الحاضر قد توافق وجود القوى اليهودية المؤثرة والفاعلة مع وجود القيادة
الحازمة والحاسمة؛ مما شكل دعماً مضطرداً لتحقيق الآمال والغايات الشارونية.
ثالثاً: التغلغل في السلطة الفلسطينية:
هذا هو المرتكز الثالث في تحقيق الآمال الشارونية؛ فمنذ البداية كانت أصابع
الاتهام تتجه نحو هذه السلطة ذات المواقف المريبة والتصرفات العجيبة والغريبة،
لقد قادت هذه السلطة الشعب الفلسطيني من هزيمة إلى أخرى ومن سيئ إلى أسوأ،
فمن هزيمة 1967م إلى أيلول الأسود عام 1971م إلى احتلال لبنان 1982م إلى
إجهاض الانتفاضة الأولى عام 1992م إلى محاولة إجهاض الانتفاضة الثانية التي
انطلقت في 28 أيلول عام 2000م والتي لا يزال أوراها مستعراً وشعلتها متأججة،
لقد حققت السلطة الفلسطينية لليهود ما عجزوا هم عن تحقيقه، ومن أهم ذلك:
1 - استطاعت أن تنأى بالصراع من الساحة العقدية وتدلف به إلى الساحة
القومية ثم الوطنية، وبذلك حجمت ساحة الصراع لتختزله من ترامياته الإسلامية
إلى محدوديته الفلسطينية؛ مما أفقد الزخم الفلسطيني الطاقات الإسلامية، ثم العربية.
2 - حاصرت السلطة الفلسطينية حالات المواجهة مع الكيان اليهودي في
مسمى (النضال) و (الكفاح) لتبعده عن مصطلح (الجهاد) ؛ مما أبعد عن
الأنظمة الحاكمة الضغط الجماهيري الذي سيكون قوياً وضاغطاً فيما لو كانت
حالات المواجهة خلال العقود الماضية تحت مسمى الجهاد.
3 - دأبت السلطة الفلسطينية على ممارسة حالات القمع الوحشي ضد كل
فلسطيني يتعدى الحدود المسموح بها (والمتفق عليها) مع اليهود.
4 - توجت السلطة الفلسطينية كل ذلك بعقدها اتفاقيات أوسلو التي اعترفت
لليهود بسيادتهم على الأراضي المحتلة قبل عام 1967م، والتي لم تعط للفلسطينيين
سوى 10% من الأراضي المحتلة عام 1967م (المنطقة A) ، ليس باعتبارها
منطقة مستقلة، بل باعتبارها منطقة ذات حكم ذاتي تخضع للقانون الإسرائيلي.
5 - ساهمت السلطة الفلسطينية في القضاء على الانتفاضة الأولى التي
اندلعت عام 1987م التي استمرت خمس سنوات، وذلك بتوقيعها على اتفاقيات
أوسلو التي تضمنت أن تعمل السلطة الفلسطينية كرجل أمن لقمع أي تحرك
فلسطيني ضد الكيان اليهودي، كما تضمنت إخضاع القضايا الأساسية للتفاوض بعد
مرور خمس سنوات على بدء تنفيذ الاتفاقية (القضايا الأساسية هي: دولة فلسطين
المستقلة، القدس، اللاجئون، المستوطنات) .
6 - وقفت السلطة الفلسطينية بحزم ضد الانتفاضة الحالية، فقامت بتوفير
كل ما تستطيعه من إجراءات الحماية للكيان اليهودي لتحول دون تسربها إلى داخل
أراضي الخط الأخضر (حدود 1948م) ولحصرها داخل الأراضي المحتلة عام
1967م بقصد بذل الممكن لإخمادها، وقد تضمنت هذه الإجراءات اعتقال ما أمكنها
من قادة وقواعد كل من (حماس) و (الجهاد الإسلامي) و (الجبهة الشعبية)
وفصائل أخرى ومحاكمتهم بتهمة التعرض للكيان اليهودي (تنفيذاً لاتفاقيات أوسلو) ؛
إضافة لممارستها عمليات التعذيب والتصفية الجسدية للمعتقلين. كما عمد بعض
رموزها والمنافقون إلى تزويد أجهزة الأمن اليهودية بكل المعلومات التي تخص
تحرك نشطاء الانتفاضة، وقد أدت مواقف السلطة الفلسطينية إلى قيام قواعد
الفصائل المنضوية تحت عباءتها بالخروج من تلك العباءة وممارسة الانتفاض ضد
الكيان اليهودي، وقد شمل ذلك كثيراً من قواعد (فتح) و (الجبهة الشعبية) .
7 - عندما أخفقت السلطة الفلسطينية في قمع الانتفاضة الحالية، وذلك بسبب
تجاوز الانتفاضة إمكانات قدرة السلطة للقضاء عليها، باشر الكيان اليهودي ممارسة
مواجهتها بنفسه بالتنسيق التام مع بعض دوائر الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
8 - كان من الطبيعي أن تؤدي المواقف السابقة للسلطة الفلسطينية إلى
احتراق أوراقها وإلى افتضاح كبار شخصياتها، ومن أبرزهم أحمد قريع (أبو
علاء) ومحمود عباس (أبو مازن) وصائب عريقات، ومحمد دحلان،
وجبريل الرجوب، ومحمد الهندي. ويدعى هذا الطاقم بـ (الفريق الإسرائيلي في
السلطة الفلسطينية) حسب ما ذكرته مجلة الوطن العربي [3] .
لقد رجح كثير من المحللين السياسيين أن أحد أهداف تجديد الاجتياح اليهودي
الأخير للضفة الغربية وقطاع غزة هو تلميع هذه الرموز، وخاصة ياسر عرفات؛
حيث إن تشديد الحصار حوله مع المحافظة على حياته سيقلده وسام البطولة القومية
بعد انحسار الأزمة، مما يمنحه أوراقاً شعبية قوية في أية تسويات مستقبلية، كما
أن تسليط الأضواء على تمثيلية القضاء عليه سيصرف الأنظار الفلسطينية والعربية
والدولية عما تقترفه القوات اليهودية من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني. صحيح
أن قتل ياسر عرفات سيصعد الموقف على كافة المستويات المحلية والعالمية، لكن
الصحيح أيضاً أن إسرائيل لا تعير أي اهتمام للوزن الدولي فيما لو أرادت تصفيته،
خاصة بعد أن وضعت الدعم الأمريكي في جعبتها (بما في ذلك احتمال الإجهاز
على عرفات أو نفيه) ، والصحيح أيضاً أن الكيان اليهودي قد حافظ على سلامة
ياسر عرفات في مواقف شتى، من أشهرها استخراجه من حصار بيروت عام
1928م مع كامل طاقمه، تماماً كما تستل الشعرة من العجين. لقد أثبت جدارة
المحافظة عليه، فهو الذي كان حادياً لركب أوسلو 3991م وما تمخض عنها عبر
واي بلانتيشن وواي ريفر وكامب ديفيد (2) وباريس وشرم الشيخ، ثم أخيراً
إقراره بتوصيات ميتشيل وموافقته على تفاهمات تينت. إن اعتبار التغلغل في
السلطة الفلسطينية ركيزة من ركائز تحقيق المخطط الشاروني ليس فيه أي افتئات
عليها؛ حيث إن الواقع والوقائع تدعم كلامنا جملة وتفصيلاً، وإلا فكيف نفسر
توزيع صور بعض رموزها على الجنود الصهاينة كي لا يقعوا في الوزر الكبير
وهو قتل أحدها خطأً؟ !
إن كلامي هذا لا يعني الدعوة إلى تصفية السلطة الفلسطينية، بل إدراك
حقيقتها وسبر غورها للتعامل معها من هذا المنطلق؛ فهي حالياً بمثابة الموسى في
الحلق: لا يمكن بلعه، ولا استخراجه! ! ومن الملاحظ أن كلاً من شارون وبوش
لا يوجهان هجومهما على السلطة الفلسطينية، بل على ياسر عرفات وحده. وإن
استبقاءه حياً إلى الآن يعتبر ورقة في يد الحكومة اليهودية؛ حيث تقوم حالياً
بمراقبة اتجاه الرياح السياسية، فإن وجدت مصلحتها في استمرار بقائه حافظت
على حياته، وإن كان العكس فلن تتوانى عن تصفيته. لكن يغلب على ظني أن
استبقاءه ربما يكون من مصلحة شارون؛ فإن قتل برصاصة طائشة فسيحاسب
شارون الذي أطاشها أيما محاسبة! ! ومما يؤكد ذلك ما نشره الكاتب الصحفي فؤاد
الهاشم في زاويته في صحيفة (الوطن) الكويتية بتاريخ 5 أبريل 2002م حيث
ذكر بالنص: (قال لي أحد الزملاء: إن عرفات طالما اشتكى لإسرائيل ومصر
والأردن من كونه لا يستطيع السيطرة على العمليات الاستشهادية التي تقوم بها
حركة حماس وكتائب الأقصى والجهاد الإسلامي، وبأن هؤلاء يعارضونه
ويعرقلون عملية السلام، لكنه لا يستطيع إبادتهم حتى لا يظهر أمام شعبه بمظهر
الخائن؛ لذلك اتفقت معه إسرائيل على تمثيلية الحصار عليه حتى تقوم هي بالعمل
القذر وبتصفية عناصر هذه الحركات. وفي نفس الوقت تبقى صورة أبو عمار
كبطل وصامد ونبي هذه الأمة الجديد! ! كما وصفه أحد مستشاريه قبل أيام على
قناة الجزيرة (سبحانك هذا كفر شديد وبهتان عظيم) ، ليوقع بعدها ما شاء من
تواقيع على أي ورقة سلام تقدمها له واشنطن وتل أبيب) ، جاء هذا اللقاء في
حفل العشاء الذي أقيم بتاريخ 3 أبريل 2002م على شرف وكيل المجلس الأعلى
للصحافة في مصر الأستاذ صلاح منتصر.
رابعاً: عجز الأنظمة العربية والإسلامية:
هذا هو المرتكز الرابع لتحقيق المخططات الشارونية (اليهودية) ، لقد
اخترت كلمة (عجز) لتلطيف الحقيقة التي هي بمثابة العاصفة. إنها تعصف بكل
مسعىً حميد لمجابهة الكيان الصهيوني. لقد تبارت هذه الأنظمة في تكديس جميع
أنواع الأسلحة الحديثة وجيشت الجيوش وأحكمت المخابرات، لكنها جميعها وجهتها
وجهة واحدة، هي حماية الأنظمة وقمع المعارضة، مع المحافظة على استعراضها
وهي تشع لمعاناً في المناسبات الوطنية (ومن أهمها سيطرة النظام الحاكم على
السلطة) . لقد قدمت تلك الأنظمة أراضي فلسطين عام 1948 م إلى اليهود على
طبق من ذهب ليقيموا عليها دولتهم، وكان شعار: " ماكو أوامر " هو الراية التي
رفرفت فوق رؤوس الجيوش العربية المجرجرة. وبعد أن تباهت تلك الأنظمة
بإعادة بنائها لجيوشها الجرارة على كافة المستويات القتالية بحراً وجواً وبراً،
تفاجأت الجماهير العربية بأن كل ذلك لم يكن سوى نمر من ورق، بمجرد أن هبت
عليه ريح اليهود في 5 حزيران عام 1967م حتى أحالته هباءً منثوراً، فاندحرت
تلك الجيوش وباءت بالهزيمة الماحقة، واحتلت دولة اليهود كلاً من سيناء والضفة
الغربية وغزة والجولان من خلال معركة صورية لم تدم حقيقة أكثر من أربع
ساعات، لكنهم قالوا ستة أيام، فسميت بحرب الأيام الستة. ثم جاءت حرب
التحريك في 10 أكتوبر عام 1973م لتفرخ اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، ثم
تلتها اتفاقيات السلام مع الأردن.
إن الأنظمة العربية عجزت تماماً عن قيادة الجماهير في صراعها التاريخي
مع الكيان اليهودي، ولم تتمخض مؤتمراتها إلا عن بيانات الاستنكار والشجب،
وتقديم التنازلات تلو التنازلات.
لقد علمت الحكومات اليهودية بهذا العجز الذي أثبتت الأحداث ترسخه
واستفحاله، فباتت تعد الخطط وتصيغ البرامج وهي في مأمن تام من أي تحرك
عربي جاد. وقد جاءت الأحداث الأخيرة التي ابتدأت في 28 مارس 2002م
لإعادة احتلال كامل الضفة الغربية وغزة، في خضم اجتماع مجلس القمة العربي
في بيروت، فلم تستطع تلك القمة تحريك ساكن أو التأثير على أي موقف خاص
بالقضية الفلسطينية، مع العلم أن أولئك المجتمعين كانوا على علم مفصل بكل
المآسي الحاصلة من جراء الاجتياح اليهودي للأرض المحتلة، فقد ورد في نص
البيان الختامي للقمة (بند 9) ما يلي: (استعرض القادة الوضع البالغ الخطورة
الذي يعيشه الشعب الفلسطيني جراء الحرب التدميرية المبرمجة والشاملة التي تشنها
عليه قوات الاحتلال الإسرائيلية بشتى الأساليب وكافة الأسلحة بغية تدمير مؤسساته
وإخضاعه وإخماد جذوة مقاومة الاحتلال في نفوس أبنائه، إلى جانب استمرارها
في سياسة الاستيطان والاغتيالات وهدم المنازل وإقامة مناطق عازلة وتدمير البنية
التحتية وإحكام الحصار الاقتصادي والإبعاد والتهجير، في خرق صارخ للقانون
الدولي وللاتفاقات والأعراف والمواثيق الدولية، ويحملون إسرائيل المسؤولية
الكاملة لعدوانها ولممارستها الوحشية على الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية، وما
أحدثته من دمار وخسائر في البنية الأساسية للمدن والقرى والمخيمات والمؤسسات
والاقتصاد الوطني والفلسطيني، ويؤكدون ضرورة إلزام إسرائيل بمسؤولية
التعويض عن جميع هذه الأضرار والخسائر ... ) [4] .
إذن هناك استحضار واضح لحجم المأساة لدى القادة المجتمعين، ومع ذلك فلم
يتجاوز الفعل أكثر من حبر على ورق، حتى بات لسان حال الأسلحة الفتاكة
العربية يشكو بثه وحزنه إلى الله تعالى، ويدعو على الذين حولوه إلى حديد خردة -
سكراب -، ولو كان لهذه الأسلحة عيوناً لملأت دموعها المتدفقة الوديان
والسهول ولجرت أنهاراً وأضحت بحاراً. لقد حازت الأنظمة العربية جميع أوسمة
العجز والشلل، ومن أهمها:
1 - العجز السياسي.
2 - العجز العسكري.
3 - العجز الاقتصادي.
4 - العجز الإعلامي.
5 - العجز التعبوي.
وأخيراً عجزها عن فك الحصار عن رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات؛
عندما كان محاصراً، أليس هو عضو في جامعة الدول العربية وفي منظمة المؤتمر
الإسلامي ورئيس دولة فلسطين في مؤتمر القمة الذي لم يحضره بسبب الحصار.
لقد حطم هذا العجز السمعة العربية في جميع أنحاء العالم وأمام كافة حكوماته
وشعوبه، حتى بات يضرب به المثل ومثاراً للتندر! !
وبعد.. فتلك باختصار هي المرتكزات الأربعة الرئيسة التي يرتكز عليها
المشروع اليهودي الصهيوني الشاروني لبلوغ أهدافه وتحقيق غاياته وتثبيت مقاصده
والوصول إلى مآربه.
* إجهاض الآمال اليهودية الشارونية:
للوهلة الأولى، فإن المتمعن في كيفية إجهاض الآمال اليهودية الشارونية التي
ذكرناها سيصل إلى نتيجة واحدة هي أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بإجهاض
المرتكزات التي ذكرناها والتي يرسي المشروع اليهودي الشاروني عليها دعائمه
ويقيم فوقها بنيانه. وعند التحقيق فإن جميع تلك المرتكزات يمكن التأثير عليها أو
زعزعتها أو اجتثاثها بالكلية إذا توفرت الجدية مع العزم والتصميم وفاعلية الإرادة.
لكن هذا الأمر فيه تفصيل أوجزه فيما يلي:
1 - إجهاض مرتكز العجز العربي والإسلامي:
إن القادة العرب والمسلمين تحت أيديهم إمكانات واسعة سوى التوسل يمكن
توظيفها مباشرة في حلبة الصراع مع الكيان اليهودي، ومن أهمها:
أ - إعلان أن مقاتلة اليهود هو جهاد في سبيل الله؛ يتبع ذلك وضع كافة
الجيوش العربية والإسلامية في حالة استنفار شاملة، إضافة إلى إعلان حالة التعبئة
الشعبية الجهادية.
ب - إعادة النظر في العلاقات السياسية مع كافة بلدان العالم وخاصة الولايات
المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي بحسب موقفهم من الصراع مع دولة
الكيان اليهودي.
ج - فرض المقاطعة الاقتصادية الشاملة على دولة الكيان اليهودي وجميع
الدول والشركات المتعاملة معه.
د - استعمال البترول كسلاح مؤثر ومباشر في الصراع.
هـ - إلغاء اتفاقيات السلام الموقعة مع الكيان اليهودي.
و توظيف رؤوس الأموال العربية والإسلامية في الاستحواذ على المنابر
الإعلامية العالمية لإيصال حقيقة الصراع إعلامياً إلى كافة شعوب الأرض.
وقف فلسطيني على تلة في الأرض المحتلة فقرأ هذه البنود الستة، فعلم أنها
مجرد خيالات وتمنيات لن يتحقق منها شيء، غير أنه تذكر المظاهرات التي
تجوب أنحاء البلاد العربية والإسلامية والأجنبية فارتفعت روحه المعنوية شيئاً ما،
لكنه أدرك أن ذلك بمجرده لن يجدي شيئاً، وأن هذا المرتكز، على المستوى
المنظور، سيبقى ولن يجهض. فانهمرت دموعه ثم ضرب كفاً بكف، لكنه أضمر
في نفسه شيئاً! !
2 - إجهاض مرتكز الدعم الأمريكي:
إن إجهاض هذا المرتكز حالة صعبة بالفعل؛ وذلك بسبب التداخل العضوي
الحالي القائم بين دولة الكيان اليهودي والولايات المتحدة الأمريكية. إن فك التشابك
بينهما متعذر حقيقة؛ إذ لو أطلقت على الولايات المتحدة الأمريكية اسم دولة اليهود
الأمريكية لما كنت قد جانبت الصواب. إن الموقف الأمريكي المساند لليهود بشكل
مطلق ليس هو مجرد رغبة شخصية للرئيس بوش، بل هو بتأييد مطلق من
المؤسسات الفيدرالية وخاصة الكونغرس. كما أن جميع المؤسسات الفاعلة في
أمريكا تقف في صف إسرائيل. ولذلك فإن إزالة هذا المرتكز غير مقدور عليه الآن،
لكن يمكن التأثير على هذا التشابك ومحاولة تفكيك تماسكه بالوسائل الآتية:
1 - المقاطعة الشاملة للبضائع والصناعة الأمريكية.
2 - المطالبة بتصفية قواعدها العسكرية وبسحب جيوشها من المواقع الحالية
المنتثرة في أراضي المنطقة العربية والإسلامية ومياهها.
3 - التهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، أو بخفض مستواها.
4 - مواصلة طلب تخليها عن الدعم بأنواعه لدولة إسرائيل.
5 - إيجاد قوة ضغط عربية وإسلامية في داخل الولايات المتحدة لا تقل عن
قوة جماعات الضغط اليهودية.
6 - التأثير بشكل فاعل على توجهات الرأي العام الأمريكي ليرى الحقيقة
ويبصر الواقع.
ذلك الفلسطيني الواقف على تلة في الأرض المحتلة، قرأ هذه البنود الستة،
فعلم أنها مجرد خيالات وتمنيات لن يتحقق منها شيء، فانهمرت دموعه مرة أخرى،
ثم ضرب كفاً بكف، لكنه أضمر في نفسه شيئاً! !
3 - إجهاض مرتكز السلطة الفلسطينية:
ما المطلوب؟ ! !
هل المطلوب إسقاط السلطة الفلسطينية؟ !
الجواب: في الظروف الحالية لا؛ ذلك أن السلطة الحالية رغم الموبقات
الشديدة التي تكتنف تحركاتها المشبوهة فإنها تعتبر رمزاً للشعب الفلسطيني، سواء
في داخل الأرض المحتلة أم أمام دول العالم أجمع. وبغض النظر عن رأينا الخاص
في هذا الرمز إلا أن الواقع هو ما ذكرنا.
هل المطلوب دعم السلطة الفلسطينية؟ !
الجواب: في الظروف الحالية (وقبل الحالية) لا؛ ذلك أن دعم السلطة
الفلسطينية حالياً سيسهم في تلميع وجوه شخوصها المشبوهة، مما يضفي عليها
صفة القوة والدعم الشعبي الذي لن يتمخض إلا عن دخولها في مفاوضات استسلام
جديدة مع حكومة شارون بعد أن تكون قد ساهمت بشكل فعال في إجهاض الانتفاضة
متلفعة برداء المنجد من حالة العسرة والمنقذ من حالة الغرق.
* إذن! ما هو المطلوب؟ !
في رأينا المطلوب ثلاثة أمور:
الأول: فك حالة التداخل بين القيادات الميدانية للانتفاضة وبين السلطة
الفلسطينية قدر الإمكان وبقدر ما تسمح به الظروف وتتحقق المصلحة، إن الأثر
الإيجابي لذلك هو تحجيم سيطرة السلطة الفلسطينية على دفة الانتفاضة ثم عزلها
بعد ذلك كلية عن تلك الدفة.
الثاني: إفراز سلطة فلسطينية ميدانية وذلك بعد انكفاء الظروف الحالية
تمارس الاهتمام بشؤون الانتفاضة على كافة المستويات السياسية والعسكرية
والاقتصادية والإعلامية، ثم مع اتساع دائرة هذه السلطة الميدانية شيئاً فشيئاً تتقلص
مساحة نفوذ السلطة الفلسطينية الحالية إلى أن تبلغ حالة العجز، فتسقط تلقائياً،
وتحل بدلها السلطة الجديدة الميدانية تلقائياً. إن شارون يخشى كثيراً من إمكانية
حدوث ذلك؛ ولهذا فهو أمام خيارين: إما التمسك بالسلطة الحالية بعد أن تكون قد
أجهدت وأضعفت وقُزِّمت بسبب الأحداث الحالية. أو استلال سلطة جديدة من
جوف السلطة الحالية مطعمة بعناصر أخرى من المنافقين يحقق من خلالها أهدافه
في المرحلة المقبلة.
الثالث: لا بد من رفع شعار الإسلام في هذه المواجهة؛ ذلك أنه المعبر عن
حقيقة الصراع على أرض الإسراء، ثم هو الشعار الذي يفرض نفسه على كافة
الفصائل؛ فإن لم يكن على قيادييها فعلى قواعدها في أقل الحالات. ثم إن هذا
التوجه هو الذي يستمطر النصر من الله - تعالى - لقوله - عز وجل -: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) ، ولذلك فإن
السلطة الميدانية لا بد أن تكون معبرة عن هذا المفهوم ومتحركة به.
ذلك الفلسطيني الواقف على تلة في الأرض المحتلة قرأ هذه الاقتراحات،
فاستوعبها عقله وارتاحت إليها نفسه، لكنه قال: إن هذا أمر دونه الشهور والسنون،
ونحن في حالة مواجهة تلاحمية على مدار الليل والنهار، ثم استدرك فقال: سنبدأ
في هذه، ولكن أكلها بعيد، وستبقى الدولة اليهودية الشارونية متخذة من السلطة
الفلسطينية الحالية مرتكزاً من مرتكزاتها، فانهمرت دموعه مرة ثالثة، ثم ضرب
كفاً بكف، لكنه أضمر في نفسه شيئاً! !
4 - إجهاض مرتكز القوى اليهودية الذاتية:
إن دولة الكيان اليهودي هي البقعة المركزية التي تنتهي مآلات القوى اليهودية
في العالم إلى الصب فيها فتوطد أركانها وتعلي بنيانها. إن التحرك اليهودي
باستخدام هذه القوى الجبارة أرعب جميع القوى المخالفة، وأقصد بها الدول العربية
والإسلامية؛ ذلك أن تلك القوى ليست وهمية أو متخيلة، بل هي من الناحية
العسكرية صواريخ تدك، وقاذفات تدمر، ودبابات تزمجر، وتقنية حربية متطورة،
وقنابل ذرية مخزنة لكنها جاهزة. ومن الناحية السياسية هيئة دستورية ديمقراطية
مستقرة، وحدت المرحلة أهدافها وجمعت تطلعاتها. ومن الناحية الاقتصادية
مؤسسات وشركات ذات رؤوس أموال أسطورية متوزعة عنكبوتياً في جميع أنحاء
العالم، وفعلها في الاقتصاد العالمي كفعل الأخطبوط عندما يطبق على فريسته.
ومن الناحية الإعلامية شبكة معقدة قد سيطرت بشكل واسع جداً على كثير من
أدوات التأثير في الرأي العام العالمي، سواء عن طريق الصحافة أو المجلات أو
البث الفضائي أو تقنية الإنترنت وسواها.
غير أن هذه القوى لا يمكنها الاستمرار والتطور إلا إذا توفر لها عنصران:
الأمن والهجرة. ونظراً لكون الهجرة لا تزدهر إلا بتوفر الأمن، وبعدمه تقف
الهجرة الوافدة وتنشط الهجرة المغادرة؛ فإذن " الأمن " هو بيت القصيد. فإذا
ضرب الأمن في الكيان اليهودي من داخله فلن تفلح الركائز الأخرى في منع
اضمحلال بنيان ذلك الكيان وتهاوي أركانه؛ ذلك أن حاله كالخيمة: عمودها
المركزي هو قواه الذاتية، والأساس الأسمنتي الذي يثبت هذا العمود هو الأمن،
فإذا اجتث الأساس سقط العمود المركزي وانهارت الخيمة.
لقد جاءت الانتفاضة وفق هذا المفهوم، وبدأت آثارها في تفتيت الأمن
الإسرائيلي؛ إذ إنها دفعت بالصراع إلى النقطة المركزية مباشرة. في هذه المرحلة
بالذات لم يكن أمام دولة الكيان اليهودي إلا استخدام أعتى حالات القمع من تقتيل
وتشريد وتتبير وتجريف وحصار وغير ذلك من الوسائل الشمولية التدمير بغية
المحافظة على استدامة صمود العمود المركزي. غير أن شعب الانتفاضة لا يملك
ما يقابل به تلك القوى الطاغية والعاتية؛ فهو مجرد من السلاح يفتقر إلى أدنى
الخدمات، يغلب عليه الفقر، ويعشش في أوساط مخيماته البؤس، لكنه يملك
سلاحاً ذا شقين: الشجاعة والإرادة، فقرر تفعيل هذين السلاحين، فكانت
الانتفاضة الثانية في 28/9/2000م 28/6/1421هـ، ولا يزال هذا السلاح يثبت
قوته وجدارته في ساحات المنازلة إلى ساعة كتابة هذه السطور، محافظاً على
مضائه مزعزعاً ومزلزلاً أركان عدوه بعد أن عصف بالأمن الإسرائيلي وبدده أدراج
الرياح.
ذلك الفلسطيني الواقف على التل في الأرض المحتلة قرأ هذا الكلام، ثم
أخرج مفكرة من جيبه وشرع يسترجع بعض الأرقام التي أفرزتها الانتفاضة، فكان
مدوناً فيها ما يلي:
* الخسائر على الجانب الإسرائيلي:
* بلغ عدد القتلى اليهود على يد المقاومين الفلسطينيين أكثر من 450 قتيلاً
وأكثر من 3200 جريح.
* خلال العام الأول من الانتفاضة بلغت خسائر الكيان اليهودي حوالي ملياري
دولار، وانخفض معدل الإنتاج بمقدار 6%، وقلصت 41% من المصانع إنتاجها،
و35% قلصت عملها، و 400 أغلقت أبوابها.
* انخفض عدد السياح القادمين إلى الكيان اليهودي بنسبة 50% مما أدى إلى
إغلاق 25 فندقاً، وإقالة 70 ألف موظف من مختلف المؤسسات السياحية،
وخسارة 3 مليارات دولار.
* بلغ العجز في التجارة الخارجية للكيان اليهودي 3 مليارات في الربع الأول
من عام 2001م، والعجز في الميزانية 5 مليارات دولار.
* انخفض الاستثمار الأجنبي من 11,5 مليار دولار إلى 4,5 مليار دولار
في الأشهر الستة الأولى من عام 2001م.
* بلغ عدد الشركات التي شطبت من سوق الأوراق المالية وقيمتها السوقية
12 مليار دولار 59 شركة.
* انخفضت قيمة الشيكل بنسبة 10%.
* أقامت 450 شركة بناء يهودية دعوى ضد السلطة الفلسطينية لتعويضها
بمائة مليون دولار قيمة ما نجم من أضرار بسبب الانتفاضة. وقد فعل أصحاب
الفنادق والمطاعم مثل ذلك خوفاً من العمليات الاستشهادية. وقد تسببت الانتفاضة
في انخفاض إيجارات المطاعم بنسبة 30%.
* ارتفعت البطالة إلى ربع مليون عامل، وانخفض الدخل 6 % وتقلصت
الميزانية بقيمة 1,2مليار دولار.
* تراجع عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة بمعدل
النصف على الأقل عام 2001م وبلغت نسبة المستوطنات التي فرغت 26%.
* تراجعت الهجرة إلى الكيان اليهودي عام 2001م بمقدار 50%، وبلغت
الهجرة المعاكسة 13 ألفاً.
* بلغت خسائر شركة العال اليهودية 83 مليون دولار خلال النصف الأول
من عام 2001م.
* ارتفعت نسبة المضربين عن الخدمة العسكرية خلال عام 2001م بمقدار
03%، وبلغ عدد الجنود والضباط الذين تمت محاكمتهم بسبب تهربهم من الخدمة
العسكرية 11200 فرد.
* بلغ عدد الجنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم 20 ألفاً بكلفة يومية قدرها 3
ملايين دولار.
* معدل التحذيرات اليومية التي ينبغي التعامل معها في آن واحد 60 تحذيراً.
* وأرقام أخرى ...
* على الجانب الفلسطيني:
* إلى نهاية مارس 2002م بلغ عدد الشهداء (نحسبهم كذلك والله حسيبهم)
أكثر من 1500 شهيد، وعدد الجرحى أكثر من 30 ألف جريح. وبلغ عدد
المعوقين في أحداث الانتفاضة 1398 معوقاً، منهم 437 طفلاً دون الثامنة عشرة.
* ارتفعت نسبة الأسر التي تقع تحت خط الفقر إلى أكثر من 64% والتي
فقدت دخلها بالكلية بعد الحصار 14%.
* بلغت الخسائر التجارية من جراء الحصار حوالي 700 ألف دولار يومياً،
وبلغت في القطاع الزراعي 345 مليون دولار، حيث شملت خسائر تجريف
الأشجار والمحاصيل والتربة وخسائر الثروة الحيوانية والسمكية وغيرها.
* بلغ عدد الأشجار التي اقتلعها اليهود 40 ألف شجرة.
* بلغ عدد المخازن الزراعية المهدمة 134مخزناً، وعدد مزارع الدواجن
التي أتلفها اليهود مع معداتها 45 مزرعة، وتم تدمير 2395 خلية نحل، وإتلاف
5771 دونماً من شبكات الري، وهدم 442 بركة وخزان مياه.
* بلغ عدد البيوت المتضررة من القصف اليهودي حوالي 5 آلاف منزل،
منها 580 منزلاً دُمرت تدميراً كاملاً، وألحقت الأضرار في 4000 مبنى و 30
مسجداً و 12 كنيسة.
* بلغت الخسائر الاقتصادية منذ اندلاع الانتفاضة 3. 7 مليار دولار.
* بلغ عدد الذين فقدوا أعمالهم 82 ألف شخص، إضافة إلى وجود 71 ألف
شخص دون عمل قبل بدء الانتفاضة.
* أدت إقامة المستوطنات اليهودية إلى تدمير الأحراش والبيئة الطبيعية.
مثال ذلك إقامة مستعمرة يهودية في غابة أم الريحان قرب جنين (عمرها 2500
عام) مما أدى إلى تدمير جزء كبير من الغابة مما أثر في الاتزان والتنوع الطبيعي.
وكذلك تدمير أحراش النبي صالح في أم الصفا. كما أن اليهود ينشئون طرقاً
التفافية لأجل تجنيب المستوطنين المرور في المدن الفلسطينية مما نتج عنه تدمير
مساحات واسعة من النباتات والأشجار والبيئات الطبيعية.
* تقوم السلطات اليهودية بنقل المصانع ذات التلوث البيئي من الأراضي
المحتلة عام 1948م إلى الأراضي المحتلة عام 1967م، وتشيد المصانع الجديدة
ذات التلوث البيئي في هذه الأراضي المحتلة (الضفة الغربية وغزة) ، كمصنع
البطاريات الذي أنشئ شمال أريحا، وإنشاء المقالع والمحاجر في بيت لحم
والخليل وإنشاء مصنع كيماوي له مخلفات شديدة التأثير قرب طولكرم، وفتح
مجاري المستوطنات اليهودية لتصب في المناطق الفلسطينية المجاورة. وقد أدى
كل ذلك إلى ارتفاع نسبة الأمراض السرطانية بشكل حاد بين المواطنين الفلسطينيين.
* كانت الخسائر البشرية في مخيم جنين البالغ عدد سكانه حوالي 13 ألف
نسمة فادحة وتفوق الخيال، فكم ستكون تلك الخسائر فيما لو اجتاحت القوات
اليهودية مخيم جباليا شمالي غزة والذي يبلغ تعداد سكانه 102 ألف نسمة، أو مخيم
الشاطئ ذا الـ 76 ألف نسمة، أو مخيم النصيرات ذا الـ 62 ألف نسمة أو مخيم
دير البلح ذا الـ 70 ألف نسمة أو مخيم خان يونس ذا الـ 60 ألف نسمة أو
مخيمات رفح ذات الـ 90 ألف نسمة، وإذا كان الجيش اليهودي قد مارس سياسة
الإبادة الجماعية في أحياء غزة المكتظة بالسكان، مثل حي الشجاعية، أو حي
الشيخ رضوان، أو حي الزيتون والتفاح! ! . وكم سوف تبلغ أعداد الشهداء؟ !
* بلغت أعداد اللاجئين خارج فلسطين والموزعة في بعض الدول العربية كما
يلي: سوريا 392 ألفا، لبنان 382 ألفاً، الأردن 1640 ألفاً، وأما المرابطون في
الضفة الغربية فقد بلغوا 608 ألفاً، وفي غزة 853 ألفاً.
كما بلغت أعداد المخيمات الفلسطينية في سوريا 10 مخيمات، لبنان 12
مخيماً، الأردن 10 مخيمات، الضفة الغربية 19 مخيماً، غزة 8 مخيمات.
* وأرقام أخرى ... [5] .
تمعن الفلسطيني في تلك الأرقام، ثم طوى مفكرته وأرجعها إلى جيبه، وقال:
حسناً قد أثخنوا فينا بالباطل، وأثخنا فيهم بالحق، والحرب سجال، ولا سواء! !
قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.. ثم أضمر في نفسه شيئاً! !
* الانتفاضة تحقق توازن المواجهة:
بعد أن تبين أن (الأمن) هو بؤرة مرتكز قوى الكيان اليهودي، وأن الإطاحة
به هي الطريق للعصف بوجوده، فلنُعد النظر في أرقام الخسائر على الجانبين:
اليهودي، والفلسطيني:
1 - الجانب البشري: إذا لا حظنا أن عدد القتلى اليهود عامل أساس في
خوفهم وهلعهم وهربهم وهجرتهم المعاكسة، وفي تقلص أعداد المهاجرين الجدد،
في حين عدد الشهداء الفلسطينيين عامل أساس في استثارة إيمانهم وفي تحفيزهم
واشتداد عزمهم للأخذ بثأرهم، فإن مفاد هذه الملاحظة أن عدد القتلى اليهود يصب
في تقلص سيطرتهم على ساحة الصراع، وأن عدد شهداء فلسطين يصب في تمدد
سيطرتهم على ساحة الصراع. وهذا يعني أن وقوع القتلى من أي طرف يصب في
كفة ترجيح ميزان الانتفاضة.
2 - الجانب النفسي: أوضحت الأرقام أن اليهود تنتابهم حالة انهيار نفسي
شديدة؛ وذلك من خلال تراجع أعداد المستوطنين الجدد وهروب كثير من
المستوطنين حالياً، وارتفاع نسبة المضربين عن الخدمة العسكرية، وزيادة أعداد
العاطلين عن العمل، في حين أن الانتفاضة أفرزت مزيداً من التشبث بالأرض،
وارتفاعاً عظيماً في الروح المعنوية، وإقبالاً لا نظير له في التضحية والفداء.
3 - الجانب الاقتصادي: صحيح أن الانتفاضة أثرت سلبياً على الاقتصاد في
الكيان اليهودي، غير أن هذا التأثير يمكن تعويضه بسهولة من خلال الدعم
الأمريكي والمؤسسات والشركات اليهودية الكبرى المنتشرة في أنحاء العالم. أما
الفلسطينيون فخسائرهم الاقتصادية الفادحة لا يوجد من يعوضها! ! (أقر اجتماع
القمة الأخير تخصيص 55 مليون دولار شهرياً لصالح السلطة الفلسطينية ولمدة
ستة أشهر فقط، ولو افترضنا أن جميع هذا المبلغ سيوزع على الفلسطينيين لكانت
حصة الفرد الفلسطيني ثلث دولار في اليوم! !) .
4 - الجانب السياسي: أضفته هنا رغم عدم تعلقه بالأرقام المذكورة لإتمام
الكلام في الموضوع، إن حكومة شارون الائتلافية (حكومة حرب) تحظى بتأييد
شعبي يهودي عارم، مما أفلت العنان ليد شارون في اتخاذ ما يراه من قرارات دون
تحفظ أو خوف من السقوط في الانتخابات القادمة، أي هناك التحام بين الحكومة
اليهودية ومستوطنيها. فقد أفاد استطلاع للرأي اليهودي نشرته صحيفة (جيروزاليم
بوست) اليهودية بتاريخ 4 أبريل 2002م أن 72% من الإسرائيليين يدعمون
عملية (سور الدفاع) - أي عملية الإبادة الحالية - وأظهر استطلاع آخر نشرته
صحيفة (يديعوت أحرونوت) اليهودية بنفس التاريخ ارتفاع شعبية شارون بـ 17
نقطة وأن 62% من الإسرائيليين يثقون به، ومعلوم أن (الحرب) هي الشعار
الانتخابي الذي أوصل شارون إلى كرسي رئاسة الوزارة بفوزه بـ 63% من
الأصوات! ! أما في الجانب الفلسطيني فهناك فجوة كبيرة من الشك بين السلطة
الفلسطينية والشعب الفلسطيني؛ ذلك أنها متهمة لديه بالمزايدة على تطلعاته، إما
لأنها تريد تحقيق مكاسب ذاتية أو لتمييع القضية أو للاثنين معاً، خاصة أن تاريخها
عبر العقود السابقة حافل بهذه المساومات التي دفعت بالقضية الفلسطينية إلى وديان
التقهقر والتراجع، إذا ما أخذنا هذه العناصر الأربعة بعين الاعتبار والنظر، فإننا
سنجد أن المواجهة بين الفلسطينيين وبين الكيان اليهودي في بوتقة الانتفاضة هي
في حالة (توازن) مع شيء ما من الثقل لصالح الانتفاضة؛ مما يفيد إمكان
استمرار المواجهة لفترة طويلة. لكننا نجزم أن (مكاسرة ثني الذراع) على المدى
المستقبلي ستكون لصالح الفلسطينيين؛ وذلك إذا حافظوا على تأكيد المنطلق
الإسلامي في المواجهة مع استبقاء إرادة التصدي والتحدي والتضحية والفداء في
أعلى درجاتها، وإذا تم تحييد السلطة الفسلطينية وتجريدها من أسلحة إجهاض
الانتفاضة، وخاصة الدخول في المفاوضات والعودة إلى مقبرة أوسلو.
* السلاح الجديد يقلب الحسابات:
ذلك الفلسطيني الواقف على تلة في الأرض المحتلة الذي كلما استعرض
مرتكزاً من مرتكزات الكيان اليهودي ودقق في كيفية إجهاضه، انهمرت دموعه،
وضرب كفاً بكف، ثم أضمر في نفسه شيئاً! !
فماذا أضمر؟ !
لقد أضمر أن يستخدم سلاحاً جديداً مرعباً وفتاكاً يدافع به عن نفسه وشعبه ولا
يستطيع الكيان الصهيوني أو من يدعمه توفير مثله، إنه سلاح (العمليات
الاستشهادية) إنه بيع الدنيا بالآخرة، ملبياً قول الحق - تعالى -: [إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] (التوبة: 111) .
هذا السلاح له ميزات من أهمها:
1 - إمكان استعماله في أي موقع من مواقع العدو اليهودي، سواء في
تجمعاته داخل الحزام الأخضر أو خارجه.
2 - لا يتعلق استخدامه بزمان معين، فهو حزام ناسف يلفه الاستشهادي حول
جسده أو عبوة ناسفة مدمرة يحملها في حقيبة في يده أو على ظهره أو في سيارته،
ثم يفجر ذلك كله في الوقت الذي يريد.
3 - يمكن باستخدام هذا السلاح تخطي جميع الحواجز الأمنية اليهودية
والتحايل على إجراءاتها مهما كانت شديدة.
4 - إنه يبث الهلع والرعب في قلب العدو اليهودي بشكل دائم؛ لأنه لا يعلم
أين ستكون العملية الاستشهادية، ولا كيف ومن أين ستأتيه الضربة؟ حيث شملت
هذه العمليات حواجزه العسكرية والأمنية ومستوطناته ومجمعاته التجارية ومقاهيه
ومسارحه وقاعات حفلاته وأسواقه وحافلاته ومنشآته العامة والخاصة ومنتجعاته
السياحية وغيرها؛ مما جعل اليهود يتوقعون أن يأتيهم الموت في أي مكان وأي
زمان.
5 - هذا السلاح يستطيع أي شخص استعماله، سواء كان رجلاً أو امرأة،
صغيراً أو كبيراً، منظماً في جماعة - كحماس أو الجهاد الإسلامي أو كتائب
الأقصى - أو غير منظم.
6 - هذا السلاح متوفر بكثرة لافتة؛ إذ إن الطريقة الوحشية التي يعامل بها
الكيان اليهودي الفلسطينيين جعلت كل فرد منهم سلاحاً استشهادياً.
7 - لا يحتاج هذا السلاح إلى تدريب، أو مدربين، فهو سهل الاستعمال جداً.
8 - وهو سلاح ليس بحاجة إلى معامل لتصنيعه؛ إذ إن معامل الإيمان تقوم
بتصنيعه ذاتياً.
9 - إنه سلاح غير مكلف مادياً، حيث يستطيع أي فرد القيام بأعبائه مهما
كان فقيراً.
10 - وهو سلاح ينقل مستعمله إلى الجنة دفعة واحدة باستشهاده في سبيل الله.
قال تعالى: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ
خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ
لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ] (آل عمران: 169-171) .
11 - عطَّل هذا السلاح الاستشهادي فاعلية جميع أسلحة الكيان اليهودي
البرية والبحرية والجوية، المنقولة منها والمحمولة، في التصدي له بأي منها.
12 - أوقع هذا السلاح الرعب والحيرة في قلب القيادة السياسية والعسكرية
والأمنية اليهودية؛ حيث أفسد نظامها الأمني بالكلية، وأظهرها ضعيفة أمام شعبها
اليهودي لعدم قدرتها على تأمين الحماية له. لقد أثبت استعمال هذا السلاح البسيط
والمتطور أن الكيان اليهودي قد أصيب في الصميم، وأن استفحال استخدام هذا
السلاح سيزعزع أصل كيان دولته الباغية ويقوض أساسات مقومات وجودها؛
فعليها أن تعيد النظر في هيكلة مؤسساتها قاطبة؛ لأنها لم تكن مهيكلة لمثل هذا
النوع من المواجهات.
تلك اثنتا عشرة ميزة متفردة لهذا السلاح الاستشهادي.
فما هو رد الفعل اليهودي على ذلك؟ !
1 - شن الكيان اليهودي حملة ضغط قاسية جداً على السلطة الفلسطينية
لتضطلع بدورها المناط بها في محاربة هذا السلاح الاستشهادي، لكن السلطة
أخفقت بعد أن استنفدت قدراتها لتحقيق ذلك.
2 - قام الجيش اليهودي بعمليات حربية واسعة رداً على كل عملية تمت من
هذا النوع، وقد تضمنت تلك العمليات القصف بالطائرات وبالدبابات وتجريف
الأراضي وهدم المنازل وتدمير الممتلكات واقتحام المدن والقرى والمخيمات
ومحاصرتها والإمعان في القتل العشوائي، علماً أنه كان يقوم بكل ذلك من قبل رداً
على الانتفاضة ومن قبل استعمال السلاح الاستشهادي، إلا أنه ازداد همجية
ووحشية بعد استعماله. إلا أن توسيع العمليات العسكرية اليهودية أدى إلى توسيع
العمليات الاستشهادية نوعاً وكمّاً؛ مما أدى إلى اتخاذ الصراع مساراً تصاعدياً حاداً
وعنيفاً جداً.
3 - عندما أسقط في يد شارون وزبانيته قررت هذه العصابة الدموية إعادة
احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة لوضع حد للانتفاضة، ولإبطال استعمال هذا
السلاح الجديد، وللقيام بما عجزت السلطة عن القيام به من تصفية الحركات
الجهادية حماس والجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى وغيرها فباشرت مشروعها
الإجرامي في 28 مارس 2002م، ولا يزال القتال محتدماً لغاية اللحظة في
8 أبريل 2002م.
* آفاق المستقبل:
لا يعلم الغيب إلا الله - تعالى -. لكننا من معطيات الواقع سنحاول
استشراف المستقبل. والذي أتوقعه والله - تعالى - أعلم:
1 - إخفاق المخطط الشاروني الذي ذكرناه في أول المبحث ما عدا تجاوز
اتفاقيات أوسلو؛ حيث تجاوزه الطرفان كل من وجهة نظره. وإذا نجح شارون في
إقامة منطقة عازلة بين الخط الأخضر والضفة الغربية فإن ذلك لن يمنع من
مواصلة العمليات الاستشهادية؛ أي أن هذا الجدار الأمني لن يحقق الأمن للكيان
اليهودي.
2 - استمرار تكاسر الإرادات، وستغلب الإرادة الفلسطينية الإرادة اليهودية
في نهاية الأمر بإذن الله - تعالى -.
3 - الوضع النفسي اليهودي لا يتيح له مواصلة استمرار القتال الالتحامي
لفترة طويلة. ولذلك فإن انسحاب الجيش اليهودي من المدن الفلسطينية لا بد منه؛
لأنه لا يستطيع مواصلة البقاء فيها حيث سيتعرض إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة
وبشكل يومي.
4 - عندما تنكسر الإرادة اليهودية وتنسحب آلتها الحربية من المدن
الفلسطينية سيطلب شارون الدخول في مفاوضات مع السلطة الفلسطينية، والتي في
الأغلب ستكون بهيئتها الحالية، وقد ينقص منها ياسر عرفات وقد لا ينقص.
5 - الانتفاضة ستستمر وفي ظلها ستكون المفاوضات.
6 - الانتفاضة فرضت نفسها على السلطة الفلسطينية. ولذلك فإن هذه
السلطة لن تستطيع تجاهل الانتفاضة وإفرازاتها؛ فليس أمامها إلا تبني مطالب
الانتفاضة.
7 - في حال محاولة السلطة الفلسطينية فرض توصيات ميتشيل وتفاهمات
تينت وورقة زيني على الشارع الفلسطيني فإنها لن تنجح رغم الدعم الأمريكي
والأوروبي لذلك.
8 - المفاوضات الجدية والحقيقية والتي سوف تفرزها فيما بعد الانتفاضة
والعمليات الاستشهادية سيكون محورها الاستقلال وإزاحة الاحتلال وقيام الدولة
الفلسطينية. وأما سقفها فغير محدد الآن؛ إذ سيتناسب ارتفاعه مع المعطيات
المستقبلية في ساحة الصراع، سواء منها العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية.
9 - لا يستبعد أن تلجأ الحكومة الشارونية عندما تخفق في الخروج من مأزق
الانتفاضة إلى الدخول في حرب إقليمية، لكنها إن فعلت تكون كالمستجير من
الرمضاء بالنار؛ ليس بسبب قوة الجيوش العربية وتعاظم قدراتها القتالية، ولكن
بسبب عدم قدرة الجيش اليهودي على خوض معركتين فاصلتين في آن واحد:
معركة مع انتفاضة الفلسطينيين، ومعركة على جبهات القتال.
10 - لا نستطيع الفصل بين الاستعدادات الأمريكية لضرب العراق عن
النتائج المتوقعة في المواجهة الحالية بين الكيان اليهودي والانتفاضة؛ حيث إن
ضرب العراق وتدمير جيشه شرط أساس لدخول الكيان اليهودي في أية حرب
إقليمية مع جاراتها.
وختاماً: نقول: إن المسلمين يقاتلون على موعود الله لهم بالنصر، واليهود
يقاتلون وهم يعلمون بحسب ما في كتبهم أنهم مهزومون في نهاية المطاف.
فليعلموا [إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ] (البروج: 12) . وإن كيدهم مردود إلى
نحورهم، [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ]
(إبراهيم: 46- 47) ، [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) ، [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]
(الشعراء: 227) .
أسأل الله - تعالى - أن ينصر دينه، ويعز أولياءه، ويهزم أعداءه؛ إنه
ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) القبس، 8/4/2002م.
(2) من وثائق العلامة خير الدين الزركلي، القبس الكويتية، 3/2/3241هـ 6/4/2002م.
(3) انظر: مجلة الوطني العربي، العدد (2031) ، 92/3/2002م.
(4) راجع البنود (9) و (10) و (11) و (12) و (13) من نص البيان لختامي لمؤتمر القمة الذي انعقد في بيروت في 72، 82 مارس 2002م.
(5) انظر كتاب: العالم في عام، حسن قطامش، مجلة البيان.(175/42)
المسلمون والعالم
الشيخ جمال أبو الهيجا أحد قادة حماس
في حوار خاص مع البيان
حاوره: نائل نخلة [*]
رفض منذ اللحظة الأولى للاجتياح الصهيوني لمدينته جنين ومخيمها - حيث
يقيم - أن ينزل تحت الأرض كما فعل غيره من قادة ومسؤولي التنظيمات
الفلسطينية، أو أن يهرب من المخيم، وهو المطلوب رقم واحد لسلطات الاحتلال
في المدينة، كما أن اسمه على رأس قائمة الاغتيالات، وأصر على أن يكون في
أول الصفوف مع أبطال المقاومة في مخيم جنين، يقاتل كما يقاتلون، يضمد
جراحهم، يشحذ هممهم، يخطط ويشرف على الكثير من عمليات الكر والفر،
وذلك رغم إدراج اسمه على قوائم الاغتيال التي أعلنت عنها الأجهزة الأمنية
الصهيونية، مما أدى إلى إصابته برصاصة من نوع دمدم أدت إلى بتر يده اليسرى
ليحتسبها عند الله.
بطريقة أو بأخرى تمكن الشيخ من الإفلات من قبضة الاحتلال، واستطاع
وعدد غير بسيط من مجاهدي المخيم فك الطوق الذي فرض عليهم والوصول إلى
مكان آمن.
ولد الشيخ جمال أبو الهيجا في مخيم جنين عام 1959م، وهو ينحدر من بلدة
عين حوض في فلسطين المحتلة عام 1948م، وهو أب لستة أولاد. يقول الشيخ
جمال: لقد التحقت بجماعة الإخوان المسلمين في الأردن عام 1979م، على يد
أستاذي الشيخ المجاهد الشهيد عبد الله عزام، ولم يخف الشيخ جمال تعلقه الشديد
بهذا العلم الإسلامي وأثره البارز على مسير حياته، انتقل الشيخ بعد ذلك إلى اليمن
حيث عمل مدرساً هناك ما بين الأعوام 1981 - 1984م ليغادرها إلى السعودية
مدرساً حتى عام 1990م موعده مع العودة إلى فلسطين، حيث التحق منذ عودته
إلى مخيم جنين بحركة المقاومة الإسلامية حماس ليكون شعلة الدعوة في هذا الموقع
المتقدم في جبهة المقاومة، لتبدأ منذ تلك اللحظة رحلة المعاناة والمصابرة، فقد
اعتقل أكثر من ست مرات تنقل خلالها بين الاعتقال الإداري وأقبية التحقيق في
مجدو وعزل الرملة والنقب، ليتجاوز مجموع ما قضاه في سجون الاحتلال ثلاث
سنوات، ومع قدوم السلطة الفلسطينية إلى جنين لم يسلم من ملاحقتها؛ إذ تعرض
للاعتقال والمساءلة أكثر من مرة على أيديها، وقد سجن نتيجة لذلك ستة أشهر،
وقد حاولت الأجهزة الأمنية الفلسطينية اعتقاله أكثر من مرة في انتفاضة الأقصى
الحالية، إلا أنه يقول أن وقوف أهالي المخيم ببسالة في التصدي للاعتقالات
السياسية حال دون ذلك. ولم تكن عائلة الشيخ جمال بمعزل عن هذه المعاناة فعدا
رحلة فقدان الزوج والأب والمعيل وهو يتنقل من سجن إلى آخر، أصيب ابنه
البكر عبد السلام خلال هذا الاجتياح لمخيم جنين برصاصة في الظهر اقتربت من
العمود الفقري، كما أنه أصيب قبل نحو شهرين برصاص الشرطة الفلسطينية
عندما حاول وإخوانه التصدي لعمليات الاعتقال السياسية التي شنتها السلطة
الفلسطينية؛ مما أدى إلى تقطع أوتار يده، وكاد أن يقتل في حادثة أخرى لولا أن
الله سلم؛ وذلك عندما أصيب واثنان من إخوانه باختناق شديد أثناء إطلاق كثيف
لقنابل الغاز داخل منزلهم في المخيم، لقد تقلد الشيخ أبو الهيجا عدة مناصب إدارية
في حركة حماس في جنين، وتنقل ما بين عمله ناطقاً رسمياً باسم الحركة في جنين
إلى ممثل حماس في لجنة التنسيق للفصائل خلال الانتفاضة الأولى، إلا أن أخطر
مرحلة في معاناة الشيخ كانت قبل عدة أشهر عندما وضعت (إسرائيل) اسمه على
قوائم الاغتيالات، وذلك ضمن القائمة التي سلمتها C. I. A إلى السلطة
الفلسطينية حيث اتهمته المخابرات الصهيونية بقيادة الجناح العسكري لحماس في
جنين وتجنيد استشهاديين. قال الشيخ جمال إنه تفاجأ كثيراً بإدراج اسمه على هذه
القوائم معتبراً أن إسرائيل تريد تصفية القادة السياسيين تحت حجج واهية.
لقد عانينا كثيراً قبل ترتيب هذا اللقاء بسبب الظروف الأمنية المحيطة بالشيخ،
مع العلم إنني أجريت المقابلة على ثلاث دفعات، عن طريق الهاتف النقال،
حتى لا يتم ضبط المكان الذي يختبئ فيه الشيخ المجاهد.
وكان لنا هذا اللقاء.
البيان: نرحب بكم باسم مجلة البيان ونقول: حمداً لله على سلامتكم،
ووفقكم الله من نصر إلى نصر، نود أن تحدثنا بحسب رؤيتك لتأثير الحملة
العسكرية الصهيونية الاخيرة على الانتفاضة الفلسطينية؟
* بسم الله الرحمن الرحيم، وكل التحية إلى إخواننا في مجلة البيان، ووفقكم
الله لخير الإسلام والمسلمين. في الحقيقة أرى أن الحملة العسكرية الشاملة التي لم
يسبق لها مثيل على الشعب الفلسطيني كان لها تاثيرها بلا شك على الانتفاضة
بأمرين: الأول على المدى القريب والذي نرى أنه قد يؤثر على فعاليات الانتفاضة
سلبياً، بإضعاف بعض مجموعات المقاومة نظراً لشدة الحصار المفروض حول
المدن والقرى والمخيمات، إضافة إلى سقوط عدد من القادة الميدانيين للتشكيلات
العسكرية الفلسطينية المختلفة.
أما الأثر الثاني وهو على المدى البعيد، فسيكون التأثير بإذن الله إيجابياً وقوياً
جداً؛ لأن هذه الحملة الإجرامية تركت حقداً وكرهاً تعمق وتجذر في قلوب كل أبناء
الشعب الفلسطيني، وزاد من إصرارهم على الانتقام؛ وبالذات أنه الآن يبعث
الحرارة عند أجيال فلسطينية كاملة للانتقام، وبدل أن يكون هناك العشرات ممن
يطلبون أن يكونوا استشهاديين فإن الأرقام تصل الآن إلى مئات الاستشهاديين،
ونسبة كبيرة منهم من الفتيات اللواتي يتسابقن للعمليات الاستشهادية للانتقام من
العدو الصهيوني الذي لم يترك بيتاً فلسطينياً إلا وترك فيه مأساة.
البيان: كيف تنظرون في حركة حماس إلى جولة باول الاخيرة للمنطقة وإلى
الموقف الأمريكي بشكل عام من الأحداث الدموية التي تشهدها الأراضي الفلسطينية؟
* نظرتنا لم تتغير، وإن أمريكا ليست فقط منحازة إلى (إسرائيل) بل هي
مشاركة ومساندة وداعمة لهذا العدوان الصهيوني في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني
الأعزل، وإننا في حركة حماس كنا وما زلنا لا ننخدع بفكرة أن أمريكا تمثل شريكا
نزيهاً وراعياً لما يسمى السلام في الشرق الأوسط، وما جولة بول الأخيرة وما
رافقها من تصريحات لبوش إلا التعبير الحقيقي عن الموقف الأمريكي المتواطئ مع
(إسرائيل) منذ نشأتها وحتى اليوم، ولهذا لم نتفاجأ بهذا الموقف ولم ننتظر أصلاً
منهم شيئاً لصالح الشعب الفلسطيني.
البيان: ما هي رؤيتكم لمستقبل المقاومة الفلسطينية بعد الضربات التي تلقتها
مؤخراً؟
* حقيقة أن الضربات لا تميت حركات المقاومة أو الشعوب التي تسعى إلى
التحرر؛ فسرعان ما تنهض من كبوتها وتزداد قوة وصلابة، ونحن نرى أن
المقاومة سوف تتصاعد وقد وصلت الى خط اللارجعة، وهي أكبر وأقوى - بإذن
الله - من كل الضربات والحملات العسكرية والمؤامرات التي تحاك ضدها، ولن
يستطيع أي شخص في هذا العالم أن يوقفها، ولن تزيدنا إلا إصراراً وتمسكاً
بالمقاومة وخاصة إننا نرى أجيالاً هم أكثر حباً وحرصاً على التضحية بأرواحهم من
أجل قضيتهم.
البيان: كيف - برأيكم - يجب أن يكون الرد الفلسطيني على مجازر شارون
في جنين ونابلس؟
* يجب أن يكون الرد متعدداً وعلى عدة أوجه: منه رد مقاوم من الأبطال
والمجاهدين في فلسطين، وهنا أقول إنه يجب أن تتواصل العمليات الاستشهادية
حتى نُشعِر العدو بأن حملته العسكرية وجرائمه ومجازره ضد المدنيين والأطفال
والنساء لن تؤثر على الشعب الفلسطيني ولن تضعف من عزيمته. أما عربياً فيجب
على كل المؤسسات والمنظمات الفاعلة في العالم أن تتحرك وبسرعة لكشف جرائم
الاحتلال في مخيم جنين ونابلس وفضح بربرية دولة العصابات العبرية والعمل
على تقديم المسؤولين فيها إلى محاكم دولية بتهم ارتكاب جرائم حرب.
البيان: ألا ترون أن القضية الفلسطينية الآن تمر بأخطر مراحلها؟
* نعم! وأرى أن القضية الفلسطينية أقرب الآن من أي وقت مضى الى
النصر وتحقيق الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني في التحرر وكنس الاحتلال،
والآن على الشعوب العربية والإسلامية أن تقدم الدعم الغالي والنفيس لنصرة هذا
الشعب وعدم التباطؤ او التراخي في مد يد العون والمساعدة له لتعزيز صموده،
ويجب أن يترافق الدعم المالي والمعنوي مع الدعم في السلاح والعتاد وتزويد
الفلسطينيين بكل الوسائل بالأسلحة ليكون قادراً على الدفاع وصد العدوان.
البيان: كيف تنظرون إلى ردة فعل الشارع العربي وأيضاً الغربي على
المجازر الصهيونية؟
* الشارع العربي اليوم مطلوب منه أكثر من أي وقت مضى أن يقرر مصيره
بنفسه ولا ينبغي أن يبقى أسيراً للأنظمة العربية والتي أثبتت أنها لا تملك من أمرها
شيئاً أمام الغطرسة الأمريكية والصهيونية، يجب أن تسعى الشعوب العربية
وتطالب بحقها في أداء واجبها.
ونرى أن المطلوب اليوم من الأمة شعوباً وأفراداً ومؤسسات وحركات فاعلة
أن تخرج لتلبي نداء الواجب، النداء الذي يقتضي منهم أن يدعموا المقاومة بالمال
والسلاح والدم وخاصة أن الشعب الفلسطيني يقدم أنهاراً من الدم والشهداء من خيرة
أبنائه للحفاظ على مقدسات المسلمين وقبلتهم الاولى.
واليوم هناك استحقاق كبير على عاتق إخواننا العاملين من الجالية العربية
والإسلامية في الغرب وذلك بالتحرك الدؤوب والمتواصل لدعم الشعب الفلسطيني؛
وتحريك الشارع الغربي ضد المجازر الصهيونية والضغط على حكوماتهم لوقف
دعمهم للإرهاب الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.
البيان: ما هي الرسالة التي خرج بها مخيم جنين بصموده إلى الأمة العربية
والإسلامية؟
* الرسالة الأولى: هي فضح وتعرية الأنظمة العربية التي رفعت شعار
تحرير فلسطين منذ عقود، ونهبت وسرقت كل مقدرات الأمة لتسليح جيوش جرارة
تحت شعار تحرير فلسطين، واليوم تجد مخيماً بسيطاً لا يتجاوز عدد سكانه 13
ألف نسمة يصمد على مدار تسعة أيام متتالية من القصف الجوي والبري وبالمدافع
والدبابات وبمشاركة أولية من المشاة تم استبدالهم ثلاث مرات تحت شعار (إعادة
إنعاش القوات) وبإشراف من رئاسة هيئة أركان الجيش ثم وزير الحرب حتى
يتمكنوا من اجتياح المخيم من خلال الجرافات، وسحق أحياء كاملة وتسويتها
بالأرض ليتمكنوا من السيطرة عليه.
الرسالة الثانية: هي أن الفئة القليلة المقاتلة المخلصة لربها ودينها وقضيتها
إذا وقفت وقاتلت ستنتصر بإذن الله تعالى لا محالة، قال الله - تعالى -: [وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] (العنكبوت: 69) ، وقال: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ انَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
والرسالة الثالثة: مفادها أن الجيش الصهيوني الذي قيل عنه الكثير من
الأساطير تبين في مخيم جنين أنه جيش من ورق، ويجب على الأمة أن تبعد عن
تفكيرها تلكم الحسابات الخاصة بحكامها الذين يرون إسرائيل قوة لا تقهر، وأن
المقاومة ستنتصر - بإذنه تعالى - وأن هذا الكيان إلى زوال لا محالة.
البيان: تلقت حماس عدة ضربات خلال الاجتياح الأخير سواء باغتيال عدد
من القادة الميدانيين أو اعتقال عدد آخر من المسؤولين، هل سيترك هذا أثره على
فاعلية حماس بالانتفاضة؟
* لم تكن المرة الأولى التي تتعرض فيها حماس للضربات، ونذكر أنه في
انتفاضة عام 1987م مرت حماس في ظروف ومراحل صعبة جداً، ولكنها عادت
الى زخم المقاومة وتصدرت عمليات الجهاد، وإني أطمئن الأمة الإسلامية والعربية
في كل مكان أن حماس ستتجاوز وستتدارك هذه الأزمة بسرعة كبيرة - بإذن الله -
تذهل العدو، والصديق، وستعود إلى واجهة المقاومة مع هذا العدو الغاصب
المجرم.
البيان: شيخنا المجاهد! أنت كنت وسط مخيم جنين أثناء اجتياحه؛ فكيف
تمكنت من الخروج؟ وكيف تصف لنا المقاومة التي عاشها مخيم الصمود؟
* أعمال المقاومة داخل المخيم كانت رائعة جداً وبطولية وكان الملائكة كانت
تقاتل مع إخواننا، وفي كثير من الأحيان كان أبطال المقاومة يقتحمون مواقع
الاحتلال المحصنة ويسيطرون عليهم، وبعد أن يصادروا أسلحتهم يقتلونهم ثم
يغادرون بسلام، وهناك عشرات المواقف المشرفة والبطولية، وفي إحدى المرات
تمكن المجاهدون من اقتحام أحد المنازل التي تحصن بها عدد من الجنود وأخذوا
منهم خمسة عشر بندقية وتم تصفيتهم جميعاً وهم يصرخون ويبكون. أما بالنسبة
لخروجي: نعم! فقد تمكن عدد غير بسيط من المقاتلين من الخروج من المخيم
خاصة في الأيام الأخيرة، ولا شك أنه سقط عدد من الشهداء من بينهم قادة،
واعتقل عدد آخر؛ لكن في اللحظات الأخيرة تمكن عدد كبير من المقاتلين من
الخروج من المخيم وهم الآن في مكان آمن؛ ولا شك أن هذا الأمر انعكس إيجابياً
على معنويات المقاومة والمواطنين الذين يتصلون بنا يطمئنون فيها علينا قبل أن
يتفقدوا منازلهم وأسرهم ومحلاتهم.
البيان: علمنا أن منزلكم دمرته الطائرات الإسرائيلية فهل من معلومات عن
أسرتك التي كانت بداخله لحظتها؟
* نعم! بالفعل قصفت طائرات أباتشي الأمريكية الصنع منزلي في المخيم
قبل اجتياحه بأيام بعدة صواريخ، ولكن العناية الإلهية أنقذت أسرتي التي تمكنت
من الخروج بمساعدة السكان ولم يصب أحد بأذى بحمد الله.
البيان: (إسرائيل) تضعك على قائمة الاغتيالات في منطقة جنين فما
تعليقكم على ذلك؟
* لست الوحيد، ولا الأول ولن أكون الأخير؛ فقد سبقني الكثير؛ فالعدو
الصهيوني لا يفرق بين مسؤول سياسي أو عسكري وبين شيخ أو طفل أو امراة أو
رجل وكل فلسطيني هو مستهدف، وأقول: بالرغم من كل الملاحقات والتهديدات
فلن نلقي السلاح، وسنواصل طريق المقاومة حتى دحر الاحتلال وتحرير القدس
أن شاء الله.
البيان: ما هي رسالتكم إلى الشعوب العربية، والإسلامية توجهونها عبر
البيان؟
* أن أفيقوا من سباتكم، وانفروا إلى قدسكم، إلى أقصاكم، إلى نصرة
إخوانكم في فلسطين، أنتم اليوم مع عهد الجهاد، بعد أن ذهب وولى عهد الشعارات
التي طالما تغنينا بها، أنتم اليوم على موعد مع كرامة الأمة وعزتها ونصرة دينها،
فأين ستقفون؟
__________
(*) مراسل البيان في فلسطين.(175/54)
المسلمون والعالم
أمريكا وإسرائيل وعقدة الدم
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
خاض الإسرائيليون بالاشتراك مع الأمريكيين الجولة الثانية ضد ما أسماه
الطرفان بـ (الإرهاب) ؛ حيث شُنت الحرب هذه المرة ضد مقاتلي حماس
والجهاد الإسلامي بدلاً من طالبان والقاعدة، وباشر الأمريكيون الحرب فعلاً
بأسلحتهم وبدعمهم المفتوح لدولة اليهود، لتقاتل بالنيابة عنهم وبالأصالة عن نفسها
كما قاتل الأمريكيون نيابة عن إسرائيل في حرب الخليج الثانية.
والمصلحة مشتركة على كل حال بين أمريكا واليهود في خوض حرب
استئصال ضد أي حركة إسلامية مجاهدة في أي مكان من العالم، ولكن لأسباب
معلومة كانت الحكومة الإسرائيلية أوْلى بخوض هذه الجولة من الحرب (الطويلة)
التي أعلنتها الإدارة الأمريكية.
إن الحلف القائم اليوم بين (إسرائيل الشرقية) الرابضة وسط البلدان العربية
و (إسرائيل الغربية) القابعة في القارة الأمريكية، هو أجدر الأحلاف بأن يسمى
(محور الشر) . أما سبْق الأمريكيين بإطلاق هذا المسمى على (العراق، وكوريا،
وإيران) التي لا يربط بينها رابط، فهو من قبيل التعمية على الهدف الأصلي من
الحرب الأمريكية اليهودية على الإسلام وأهله في العالم.
نحن نعلم والناس يعلمون دوافع وخلفيات العداء اليهودي للعرب والمسلمين
وللبشرية جمعاء؛ فعقدة التفوق العنصري الموهوم لما يسمى بـ (الشعب المختار)
لا تزال مسيطرة على عقليات ومعتقدات اليهود الذين يكذبون دائماً ويصدقون أنفسهم،
وما حدث على مر التاريخ اليهودي قديماً، وخلال تاريخ ما كان يسمى بـ
(الصراع العربي الإسرائيلي) حديثاً من صفحات سوداء دامية، يجلِّي لنا بصورة
عملية الكيفية التي ترجمت بها عقدة التفوق الإسرائيلي؛ حيث تنفك هذه العقدة دائماً
عن عقدتين أخريين: إحداهما شدة الاستهانة بدماء الآخرين من (الأمميين) أو
(الأغيار) أو (الجوييم) أو (العامة) أو (الكوفريم) التي تعني في كل تلك
المترادفات، الأصناف البشرية الأخرى غير اليهود. والعقدة الأخرى: شدة
الحرص على قطرة الدم اليهودي، بل على حفنة التراب من رفات اليهودي، إلى
الحد الذي جعل الإسرائيليين في مرات عديدة يقايضون رفات بعض الأموات،
برقاب عشرات الأحياء من العرب السجناء!
لا أريد هنا أن أفيض في الحديث عن مظاهر وخلفيات عقدة الدم اليهودي؛
فكل هذا أصبح معروفاً بالمعايشة، ومكروراً بالمراقبة ومعروضاً على الأسماع
والأبصار والأفئدة. أما ما لم يعرف كله أو ينتظر جُله، فهو ما كان يصدر ولا
يزال عن النصارى الأنجلوساكسون [1] ، من مواقف عدائية ضد جميع الأجناس
البشرية، لا ضد المسلمين وحدهم؛ حيث بدا بجلاء أن أبرز من يمثلون
الأنجلوساكسون وهم الإنجليز والأمريكان لديهم عقدة أخرى تسيطر على تصرفاتهم
تقترب كثيراً في الشبه من عقدة التفوق العنصري اليهودي.
وقد وجدت بعد شيء من البحث والتأمل أن العقدتين اللتين تتحكمان في أكثر
تصرفات كفار أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وبالذات نصارى البروتستانت،
تتصلان بدعوى الانتساب إلى ما يسمى بـ (البقية المختارة) من أبناء يعقوب أو
بني إسرائيل، حيث تتنافس الطائفتان الضالتان في احتكار الانتساب إلى بقية
(الشعب المختار) من سلالة أسباط بني إسرائيل [2] . تلك السلالة التي يعتقدون أنها
لن تنقرض حتى يخرج منها جيل الخلاص الذي سيشهد أحداث نهاية العالم.
سأتجاوز التفصيل الآن عن خلفيات عقدة التفوق لدى العنصر الأبيض
الساكسوني من نواحيها التاريخية والدينية، لأعود إليها بعد استعراض بعض
مظاهرها من الناحية العملية السلوكية على مر التاريخ، وسأركز في ذلك على
الجانب الأمريكي؛ لأنه المسيطر الآن على المسرح العالمي في كل الميادين
العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بعد ضمور القوة البريطانية التي كانت
سابقة على القوة الأمريكية في السيطرة على العالم في العصور الحديثة. أما الدولة
الطاغوتية الحقيرة (إسرائيل) فإنها إحدى سيئات الأنجلو ساكسون، وكل ما
يصدر عنها من جرائم فهو مدون في صحيفة السوابق الإنجليزية الأمريكية.
إن المراقب للتاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تعامل بها
الأمريكيون مع شعوب العالم الأخرى؛ إذ سرعان ما يكتشف المرء ألا فرق كبيراً
بين نظرة اليهود إلى (الجوييم) أو الأمميين العوام المستباحي الأرواح والدماء
والأعراض، وبين نظرة الأنجلوساكسون إليهم، فكلا النظرتين تنطلقان من مقولة
أن هناك جنساً متفوقاً لا بد أن تخضع له الشعوب وتركع تحت رجليه الأمم بحيث
لا تكون لحياتها قيمة إلا بقدر ما تخدم (الشعب المختار) ، ولا تكون لأرضها
أهمية إلا بقدر ما تمد ذلك الشعب بالخيرات، أما إذا تعارضت حياة أولئك (الأغيار)
مع المصالح العليا للشعب المختار، فلا ضرورة لهذه الحياة أصلاً، وأما إذا ما
تجرأ أحد منهم على تهديد حياة أحد من أبناء الشعب المختار، فإن قيامته لا بد أن
تُعجَّل بإحراق أو إغراق أو استرقاق أو أي وسيلة من وسائل الإزهاق.
وسنلاحظ هنا أن عقدة الدم الأنجلو ساكسوني الأمريكي لا تختلف عن عقدة
الدم اليهودي من حيث تفرعها إلى عقدتين: عقدة الاستهانة الشديدة بدماء (الأغيار) ،
وعقدة الحرص الشديد على دماء (الشعب المختار) .
* الهنود الحمر: التدمير أسهل من التنصير:
- في عام 4661م، صدر كتاب بعنوان: (العملاق) كتبه (يوردجاك)
تضمن نصائح للقيادات الأنجلو ساكسونية المتزعمة للمهاجرين البروتستانت إلى
القارة الأمريكية الجديدة، جاء فيه: «إن إبادة الهنود الحمر والخلاص منهم
أرخص بكثير من أي محاولة لتنصيرهم أو تمدينهم؛ فهم همج، برابرة، عراة،
وهذا يجعل تمدينهم صعباً. إن النصر عليهم سهل، أما محاولة تمدينهم فسوف تأخذ
وقتاً طويلاً، وأما الإبادة فإنها تختصر هذا الوقت، ووسائل تحقيق الانتصار عليهم
كثيرة: بالقوة، بالمفاجأة، بالتجويع، بحرق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت،
بتمزيق شباك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة: المطاردة بالجياد السريعة والكلاب
المدربة التي تخيفهم؛ لأنها تنهش أجسادهم العارية» !
- في عام 1730 م، أصدرت الجمعية التشريعية (البرلمان) لمن يسمون
أنفسهم: (البروتستانت الأطهار) تشريعاً يقنن عملية الإبادة لمن تبقى من الهنود
الحمر، فأصدرت قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً مقابل كل فروة مسلوخة
من رأس هندي أحمر، و40 جينهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر
عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه! ثم وضع البرلمان البروتستانتي (تسعيرة)
جديدة بعد عشرين عاماً من صدور القرارات الأولى: فروة رأس ذكر عمره 12
عاماً فما فوق: 100 جنيه، أسير من الرجال: 105 جنيهات، أسيرة من النساء
أو طفل: 55 جنيهاً، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل: 50 جنيهاً.
- في عام 1763 م أمر القائد الأمريكي، البريطاني الأصل (جفري
آهرست) برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري في أماكن
تجمعات الهنود الحمر، لنقل مرض الجدري إليهم بهدف نشر المرض بينهم؛ مما
أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت عشرات الألوف منهم. وبعد عقود قليلة
انتهى أمر السكان الأصليين في القارة الأمريكية إلى ما يشبه الفناء، بعد الإبادة
المنظمة لهم على أيدي المبشرين بالمحبة، والسلام للبشرية جمعاء!
- بعد فراغ القارة الأمريكية من العبيد (الحمر) قرر الأمريكيون استيراد
عدة ملايين من العبيد (السمر) لخدمة (الشعب المختار) فتحول رعاة البقر إلى
بحارة يجوبون السواحل الإفريقية لاصطياد «العبيد» وحشرهم في سفن الشحن،
في عمليات إجرام أخرى يعالجون بها آثار الجريمة الأولى في حق الهنود الحمر! !
حيث لم يبق لديهم ما يكفي من الأيدي العاملة لبناء صرح الحضارة الجديدة!
وقد جلب الأوربيون والأمريكيون في أول الأمر ما لا يقل عن 12 مليوناً من
الأفارقة المسترقين، جاؤوا بأفواجهم في الأصفاد، وكانت البرتغال أكثر الدول
الأوروبية توسعاً في جلب هؤلاء إلى أراضي العالم الجديد في أمريكا، دون توفير
أدنى الضمانات لتلك (المخلوقات) الإفريقية التي لم يَرْق التعامل معهم إلى مستوى
التعامل مع فئران المعامل؛ فقد صدر عن منظمة اليونسكو عام 7891م تقرير
يحكي فظاعة ما حصل للأفارقة وهول الكارثة الإنسانية التي حلت بهم لهم من أجل
«تعمير» أمريكا؛ فقد جاء فيه أن إفريقيا فقدت من أبنائها في تجارة الرقيق نحو
210 ملايين نسمة، وذكرت التقارير أن ما لا يقل عن خمسة وعشرين مليوناً من
الأفارقة الذين تم شحنهم من أنحاء القارة في أفواج من (جزيرة جور)
الواقعة في مواجهة العاصمة السنغالية (داكار) ؛ قد هلك أكثرهم قبل أن يصلوا
إلى العالم الجديد مما لقوا في رحلات العذاب داخل سفن شحن المواشي!
ويذكر هنا أن أمريكا، وأمريكا بالذات. . . هي التي أحبطت في مؤتمر
(دوربان) عام 2000م مطالب الأفارقة بالتعويض عما حدث لهم، بل رفضت أن
يقدم لهم مجرد اعتذار! ومع كل هذا لا يزال كثير من المغفلين أو المغرضين
يرفعون عقيرتهم قائلين: إن أمريكا محررة العبيد!
- وقد بقي الأمريكيون مشغولين عن التدخل في شؤون العالم ثلاثة قرون،
تاركين ذلك للجزء الأصلي من الشعب الساكسوني المختار (بريطانيا) ثم قرروا
بعد نشوب الحرب العالمية الثانية أن ينفتحوا على العالم، وكانت بداية ذلك الانفتاح
دموية قاتلة.
* الثأر النووي:
بالرغم من أن الحرب العالمية الثانية أفقدت العالم ما لا يقل عن خمسين مليوناً
من البشر فإن خسارة الأمريكيين لخمسة آلاف جندي، بعد الهجمات اليابانية
بطائرات (الكاميكازا) على (ميناء هاربر) الأمريكي عام 1945م أفقدت
الأمريكيين عقلهم؛ فلأول مرة يخسر الشعب الأمريكي (المختار) هذا الكم الهائل
من الدماء في معركة واحدة، فكان لا بد أن يكون الرد حقداً يصب على رؤوس
اليابانيين المدنيين منهم قبل العسكريين، وهذا ما حدث؛ فمقابل دماء الخمسة آلاف
جندي أمريكي، أقبل الأمريكيون الأنجلو ساكسون على الانتقام المجنون، فأمر
الجنرال (جورج مارشال) رئيس الأركان الأمريكي في ذلك الوقت، بتنفيذ
عمليات قصف تدميري واسع النطاق للمدن اليابانية الكثيفة السكان، فتم إطلاق
334 طائرة أمريكية لإلقاء القنابل الحارقة لتدمر ما مساحته 16 ميلاً مربعاً،
ولتقتل في ساعات نحو 100 ألف شخص، وتشرد نحو مليون آخرين، في
عمليات جحيم مستعر شمل طوكيو و 64 مدينة يابانية أخرى، ثم ختم ذلك المشهد
الدموي، بمشهد آخر أكثر دموية لم يكن للبشرية به عهد قبل مجيء العهد الأمريكي؛
فقد أقدم الأمريكيون وهم القوة المتظاهرة اليوم بالدعوة إلى التعقل في استعمال
أسلحة الدمار الشامل إلى استعمال هذا السلاح، وكانوا أسبق البشر إلى استعماله
عندما أسقطوا قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما وناجازاكي، حصدت بسببها
عشرات الآلاف من الأرواح بلا أدنى تفريق بين مدني وعسكري، أو رجل وامرأة
وطفل.
- بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقعت أزمة بين أمريكا وكوريا الشمالية
بسبب خوف الأمريكيين من انتشار النفوذ السوفييتي في جنوب شرق آسيا، فتدخلوا
بسبب ذلك في الأراضي الكورية، وعزل الأمريكيون الحكومة الشعبية، وأغرقوا
البلاد في حروب طاحنة أشاعت ناراً ودماراً، ولكنها بعثت في الوقت نفسه نوعاً
من الارتياح النفسي في قلوب زعماء (الشعب المختار) . يقول ناعوم تشومسكي،
الكاتب الأمريكي المعروف، واصفاً نتائج تلك الحرب: «أشعلنا حرباً ضروساً،
سقط خلالها 100 ألف قتيل. . وفي إقليم واحد صغير سقط 30 ألفاً إلى 40 ألفاً
من القتلى أثناء ثورة قام بها الفلاحون» ، ويصف ذلك الكاتب كيف أن حكومة
بلاده تدوس على «القيم» الديمقراطية إذا ما تبين أنها تحول بين أمريكا وبين
مصالحها الذاتية. يقول: «لم يُثر انقلاب فاشي في كولولمبيا إلا قليلاً من احتجاج
حكومة الولايات المتحدة، بينما لم تهتم بانقلاب عسكري في فنزويلا، ولا بعودة
السلطة للمعجب بالفاشية في بنما، ولكن المرارة والعداوة التهبت في حكومتنا عندما
صعدت للسلطة أول حكومة ديمقراطية في تاريخ جواتيمالا» [3] وبينما لم تأبه
أمريكا بقيام أنظمة ديكتاتورية معادية للديمقراطية ما دامت تخدم الأغراض الغربية،
فقد أطاح الأمريكيون - كما قال تشومسكي - بالعديد من الحكومات (الديمقراطية)
عندما ظهر لهم أن تلك الأنظمة الديمقراطية لا تخدم مصالحهم الإجرامية. . . يقول:
«أعاقت حكومتنا بعض الحكومات البرلمانية، وأسقطت بعضها، كما حدث في
إيران عام 1953م، وجواتيمالا عام 1945م، وتشيلي عام 1972م، ولم تكن
أساليب الإسقاط طبيعية جداً، فلم يكن القتل العادي هو عمل القوات التي حركناها
في نيكاراجوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو جواتيمالا، ولكنه كان
بصفة واضحة قتل القسوة والتعذيب السادي: تعليق النساء من أقدامهن، بعد قطع
أثدائهن، وفض بكارتهن، وقطع الرؤوس وتعليقها على خوازيق، ورطم الأطفال
بالجدران حتى يموتوا. . .» !
واقعة قتل (خمسة آلاف جندي) أمريكي على يد اليابانيين في حادثة ميناء
هاربر أثناء الحرب العالمية الثانية مشهورة جداً، ومشهورة أكثر قصة الخسارة
التي مني بها الأمريكان في فيتنام وهي: 55 ألف قتيل من الغزاة العسكريين، مما
سبب عند الأمريكيين عقدة مزمنة اسمها (عقدة فيتنام) . أما سبب الشهرة فمعروف،
وهو أن القتلى أمريكيون بيض. . . أنجلو ساكسون! في غالبيتهم، ومنتسبون
للشعب المختار! لهذا فمثلما انتقم الأمريكيون من اليابانيين فأسرفوا في الانتقام، فقد
ثأروا من الفيتناميين فأفرطوا في الثأر؛ فقد بلغ عدد القتلى الفيتناميين عند انتهاء
الحرب عام 1957م أكثر من مليون هذا هو الرقم المشهور ولكن مجلة نيويورك
تايمز نشرت في (8/10/1997م) أن العدد الحقيقي بلغ 3.6 مليون قتيل، ولكن
هذا لم يكن كافياً لإرواء الظمأ الدموي فقد كشفت السلطات الأمريكية في أول مارس
2002م، أن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون قال في مكالمة هاتفية مع
كيسنجر في شهر أبريل 2791م: «إنني أفضل استخدام القنبلة النووية، فرد عليه
كينسنجر:» أعتقد أن هذا خيار خطر جداً «فقال نيكسون بغضب:» هل
تزعجك هذه الفكرة؟ أنا أريدك أن تكون أكثر جرأة « [4] ، أما ما حدث بين عامي
1952م، 1973م، فلا يستحق الشهرة أيضاً؛ لأن القتلى لا تجري في عروقهم
دماء (مقدسة) ، أمريكية أو إنجليزية أو إسرائيلية، لقد قتل الأمريكيون بين
العامين المذكورين زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامي وروسي وكمبودي،
وفي بداية الحرب الفيتنامية، تسببت تلك الحرب حتى حلول منتصف عام 1963م
في مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه نحو 700 ألف شخص، واغتصاب
نحو 31 ألف امرأة، وبقر بطون نحو ثلاثة آلاف شخص وهم أحياء، وإحراق
أربعة آلاف آخرين حتى الموت، ومهاجمة 46 قرية بالمواد السامة، وتسبب
قصف مدينة هانوي عام 1972م في إصابة أكثر من30ألف طفل بالصمم الدائم،
وفقدان 300 ألف عائلة لعائلها أو أحد أفرادها، وفي جواتيمالا قتل الجيش
الأمريكي صاحب الكفاءة والشجاعة أكثر من 150 ألف مزارع في الفترة ما بين
1966 إلى 1986م.
* القتل بالوكالة. . والعمالة:
بتواطؤ أمريكي شبه فعلي، قُتل مئات الآلاف من الأشخاص في مجازر عديدة
في أندونيسيا ونيكاراجوا والسلفادور وهندرواس، وقتْل هؤلاء وإن كان بأيد غير
أمريكية، إلا أنه كان بأسلحة أمريكية، ومشورة أمريكية وتدريب أمريكي مثلما
يحدث الآن في فلسطين وأفغانستان والفلبين وغيرها. وتكررت المجازر أيضاً
في أنجولا وموزمبيق وناميبيا وغيرها من دول القارة الإفريقية، وعرف العالم
في السنوات الأخيرة عدداً من الطغاة الملفوظين من شعوبهم، والمدعومين من
(الشعب المختار) من أمثال: (سوموزا) في نيكاراجوا، و (بينوشيه) في تشيلي،
و (ماركوس) في الفلبين، و (بوتو) في باكستان، و (باتيسيتا) في كوبا
و (دييم) في فيتنام و (دوفاليه) في هايتي و (سوهارتو) في إندونيسيا،
و (فرانكو) في إسبانيا، وهناك زعماء آخرون رفضهم العالم واحتضنهم
الأمريكيون، وهم زعماء المافيا الإسرائيليون من بن جوريون إلى شارون حيث
لم يعدّ (أحرار) أمريكا واحداً من هؤلاء السفاحين إرهابياً، ولم يطالب شعبها
باعتقال أي منهم لتقديمه للعدالة كي يحاكم عن جرائمه ضد الإنسانية، أو
يحاسب على سجلاته الإرهابية.
* إيران والعراق. . و» محور الشر «الوهمي:
كانت إيران إحدى العِزَب الأمريكية في آسيا في عهود الإمبراطورية البهلوية،
وبعد قيام الثورة الشيعية عام 1979م، اعتبر الأمريكان هذا التطور ضاراً
بمصالحهم؛ فقد حاولت الثورة الإيرانية أن تظهر ثوريتها (بمعاكسة) الثور
الأمريكي بخرقة حمراء عرفت آنذاك بعملية (احتجاز الرهائن) ، ولكن الأمريكيين
لم يرق لهم ذاك المزاح الثقيل، فوجهوا ثماني طائرات هليوكوبتر تابعة للبحرية
الأمريكية، وست طائرات نقل (هيروكيوليز) مع قوة من الكوماندز ورجال
المظلات في الجيش الأمريكي إلى (صحراء طبس) الإيرانية، في محاولة لإنقاذ
الرهائن الأمريكيين المحتجزين، وكان ذلك في عهد الرئيس كارتر، ولكن العملية
أخفقت، وتحول الإخفاق إلى رعب عندما سالت دماء ثمانية (فقط) من الجنود
الأمريكيين، بعد اصطدام طائرة النقل التي نقلتهم بطائرة أمريكية أخرى، وهنا ثار
الشعب الأمريكي لدمه (المقدس) ، فأسقط القس كارتر، وجاء بالكاهن ريجان
الراعي السياسي الرسمي للأصولية الإنجيلية الأمريكية الحديثة، وقرر ريجان علناً
الانتقام لاستعادة الهيبة الأمريكية، بطريقة لا تكلف الأمريكيين إلا عناء الصبر على
إحصاء آلاف القتلى من الإيرانيين، وقد حدث هذا في حرب الخليج الأولى، حيث
نشبت هذه الحرب بتواطؤ أمريكي أمدت أمريكا فيها الطرفين المتحاربين - إيران
والعراق - بكل ما يحتاجانه من أسلحة التقتيل والتدمير، وأظهرت أمريكا ميلاً
سياسياً نحو مساندة العراق لضمان مساعدته من الدول الصديقة لها. ولكنها في
الوقت ذاته، كانت تضمر الشر للعراق قبل إيران كما ظهر بعد ذلك وكان جوهر
الموقف الأمريكي من تلك الحرب هو ما كان يردده اليهودي الأمريكي المخضرم
(هنري كيسنجر) :» سياستنا تجاه تلك الحرب أن لا تهزم العراق، وألا تنتصر
إيران « [5] !
حقق العراق - بانحياز أمريكي تكتيكي - نصراً صعباً وغير مكتمل على
إيران، ولكنه خرج قوياً بعد تلك الحرب، وهذا ما لم يستطع الأمريكيون الصبر
عليه بسبب قرب العراق من حليفتهم (إسرائيل) ، وكان لا بد من إجراء يشبع
الرغبات السادية لدى الأمريكيين والإسرائيليين في رؤية دماء أحفاد البابليين وهي
تسيل قرب ضفتي دجلة والفرات، فثْأر اليهود والنصارى مع العراق قديم قدم
التوراة المحرفة، وواسع اتساع أرض السبي، وغض الأمريكيون الطرف عن نية
البعث العراقي في غزو الكويت؛ حيث لم يكترث هذا البعث بخطورة ما يدبر له
وللعرب جميعاً من وراء ذلك العبث. وقامت الحرب، وكان الانتقام مروعاً، وإن
كان بأثر رجعي يعود إلى مئات القرون.
يصف الإنجليز حقيقة تلك الحرب بكلمات أوردتها صحيفة التايمز البريطانية
بعد إعلان وقف إطلاق النار، حيث جاء فيها:» كانت الحرب نووية بكل معنى
الكلمة، وجرى تزويد جنود البحرية والأسطول الأمريكي بأسلحة نووية تكتيكية،
لقد أحدثت الأسلحة المطورة دماراً يشبه الدمار النووي، واستخدمت أمريكا
متفجرات وقود الهواء المسماة (BLU-82) وهو سلاح زنته 15000 رطل
وقادر على إحداث انفجارات ذات دمار نووي حارق لكل شيء في مساحة تبلغ
مئات الياردات «.
واستخدمت أمريكا وبريطانيا قنابل اليورانيوم المستنفد [6] لأول مرة؛ حيث
أطلقت الدبابات ستة آلاف قذيفة يورانيوم، بينما أطلقت الطائرات عشرات الآلاف
من هذه القنابل، وقدر أحد التقارير السرية لهيئة الطاقة الذرية البريطانية كما قالت
الصحيفة مقدار ما ألقي على العراق بأربعين طناً من اليورانيوم المنضب، وألقي
من القنابل الحارقة ما بين 60 إلى 80 ألف قنبلة، قتل بسببها ما لا يقل عن 52
ألف شخص حسبما أعلنت السلطات الأمريكية نفسها، أما الأمريكيون فلم يسل لهم
دم يذكر على أرض العراق؛ لأنهم كانوا يقاتلون من الجو، بعد أن شلوا سلاح
الطيران العراقي على الأرض، وقد راقت هذه النتائج لأمزجة الأنجلوساكسون
الذين راحوا يتلمظون الدماء العراقية ويتشهون مناظرها وينشرون أخبارها (السارة)
على شعوبهم الحرة.
فقد نشرت صحيفة الجارديان البريطانية في شهر ديسمبر 1991م تقريراً
بعنوان: (دفن الجنود العراقيين أحياء) نقلت فيه عن العقيد الأمريكي (بانتوني
مارينوم) قائد الوحدة الثانية في الجيش الأمريكي قوله وهو يصف عمليات طمر
العراقيين في الخنادق أحياء:» من المحتمل أن نكون قد قتلنا بهذه الطريقة آلاف
الجنود العراقيين. . . لقد رأيت العديد من أذرع الجنود وهي تتململ تحت التراب
وأذرعها ممسكة بالسلاح «! ويبدو أن الاهتمام بالكيف غطى على الاهتمام بالكم في
رصد الأمريكيين لمجريات عمليات القتل؛ حيث كان السؤال المطروح دائماً، ليس
هو كم سقط من القتلى؟ وإنما: كيف سقطوا وبأي سلاح (ناجح) قتلوا؛ فقد سئل
(كولن باول) الذي كان وقت الحرب رئيساً لأركان الجيش الأمريكي عن عدد
القتلى من العراقيين فقال:» لست مهتماً به إطلاقاً «! ! نعم! لم يكن مهماً عند
باول أن مئتي ألف قتلوا من جراء تلك الحرب، وأن منهم آلافاً قتلوا أثناء انسحابهم،
وإنما كان المهم عند رئيس أركان الحرب في أمريكا سابقاً ورئيس الدبلوماسية
لاحقاً أن يعرف مدى (فاعلية) الأنواع المختلفة من وسائل القتل الأمريكية.
قصف الطيران الأمريكي أرتالاً من القوات العراقية أثناء انسحابها من الكويت،
فقتل منهم الآلاف، حتى سمي الطريق الذي سلكوه في الانسحاب: (طريق
الموت) ، ووصف أحد الطيارين المشاركين في عمليات قصف القوات ما حدث
بقوله:» كان الأمر كأنني أطلق النار على سمك في برميل، فأين يهرب؟ !
وكيف نحصي الصيد والضربة الواحدة تصيب عشرات الأهداف؟ «! ولم يكن
الأمر مقتصراً على العسكريين؛ فقد قتل نحو ثمانية آلاف من المدنيين، منهم
أربعمائة قضوا تحت الأرض في ملجأ العامرية، أثناء اختبائهم من القصف
الهمجي.
أطلق الأمريكيون على تلك الحرب وصف: (الحرب النظيفة) لا لشيء إلا
لأنها كما يقولون تقوم على استراتيجية التصويب العسكري الدقيق باستخدام أدوات
التسليح الإلكتروني (الذكي) الذي يجنب الأمريكيين الاحتكاك العسكري المباشر! !
الذي (قد) يسفر عن سقوط ضحايا عسكرية (بريئة) !
لقد أدمنوا هذه النظافة القذرة بعد تلك الحرب؛ لأنها تحقق رغباتهم الدموية
في إشباع النهم الأنجلوساكسوني من دماء (الأمميين) وتجنبهم الارتعاب والارتعاد
من سيلان قطرات من دماء (الشعب المختار) !
وقد تبع هذه الحرب حرب أخرى، كانت أكثر أمناً للأمريكيين، وأكثر فتكاً
بالعراقيين، وهي حرب الحصار التي قتل بسببها من الأطفال فقط ما لا يقل عن
مليون طفل، لم تحرك دماؤهم المتجمدة نبضاً من إحساس في عروق الأمريكيين
ومنظماتهم (الإنسانية) بل إن وزيرة الخارجية الأمريكية اليهودية السابقة (مادلين
أولبرايت) لما سئلت عام 1996م عن ضحايا الحصار - وكانوا وقتها نصف
مليون طفل (فقط) - وهل هناك مسوغ مشروع لهذا القتل الجماعي في الشرعية
الدولية؟ أجابت:» قرار الحصار كان صعباً؛ لأنه يستدعي ثمناً باهظاً من
الضحايا، ولكن هذا الثمن كان من الضروري دفعه «! !
ولهذا استخدموا الأسلوب نفسه في حروب البوسنة وكوسوفا التي ادعى
الأمريكان أنهم خاضوها من أجل تحرير شعوب البلقان من الطغيان الصربي، مع
أنهم في الحقيقة أرادوا أن يحلوا محل الصرب في السيطرة الاستراتيجية على
منطقة البلقان، وإلا فإن شكاية أهالي تلك البلدان من آثار تلك الحرب الأمريكية
تدمي القلوب؛ فقد ألقت أمريكا على سكان البلقان - أثناء» تحريرهم «- أكثر
من عشرة أطنان من اليورانيوم المنضب، والأنباء تتحدث عن أن حالات سرطان
الدم قد قفزت إلى مستويات مخيفة؛ حيث بدأ سكان كوسوفا والبوسنة يشعرون -
بعد (التحرير) الأمريكي - أنهم أصبحوا فرائس الإشعاعات التي لا يمكن الفرار
منها.
* لبنان والصومال وأفغانستان. . وحل العقدة:
باستقراء تاريخ المغامرات العسكرية الإنجليزية والأمريكية والإسرائيلية،
تبين أن عقيدة الاستهانة بدماء الآخرين لا تبطلها إلا عقدة الهلع من نزف دماء
(المختارين) المزعومين فليس الحل في كل الأحوال أمامهم أن يثأروا وينتقموا؛
فهذا لا يكون إلا إذا سمحت الظروف لهم بانتقام آمن من خلال (حرب نظيفة) أو
عمليات عسكرية (جراحية) ، أو ضربات جوية خاطفة؛ أما إذا تيقن هؤلاء أن
هناك ثمناً يتعين دفعه من بورصة الدم (المقدس) فعندها يتراجعون وينسحبون
ويفرون؛ لأن الحياة عندهم أغلى من الثروة، وأهم من الشرف، وأوْلى من كل
مشروعات السيطرة والمصالح، [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا] (البقرة: 96) . ولا تزال الأمثلة التاريخية القديمة والمعاصرة تفسر هذه
الآية تفسيراً عملياً.
- عندما تعرض السفير الإسرائيلي في بريطانيا عام 1982م، إلى عملية
اغتيال اتهمت (إسرائيل) الفلسطينيين بالعملية، وكان الرد اليهودي أن اجتاح
الجيش الإسرائيلي أرض لبنان واحتل العاصمة بيروت؛ وذلك بعد أن أخذت
(إسرائيل) الضوء الأخضر من وزير الخارجية الأمريكي آنذاك (ألكسندر هيج) ،
وباستخدام السلاح الأمريكي قتل اليهود في لبنان نحو 17 ألف شخص من اللبنانيين
والفلسطينيين معظمهم من المدنيين؛ لأنهم لم يجدوا وقتها إلا صمتاً عربياً مطبقاً،
وسكوتاً دولياً مريباً، واستأثر اليهود بالفلسطينيين كما يحدث اليوم، وصمموا على
إنهاء المقاومة وإخراجها من لبنان، ولم يكن اليهود وحدهم في المعركة؛ فإلى
جانب التواطؤ الظاهر من نصارى الغرب مع اليهود؛ فقد انضم نصارى العرب
إلى تلك المعركة، فنفذ حزب الكتائب اللبناني النصراني بالتنسيق مع السفاح
اليهودي شارون مذبحة صابرا وشاتيلا التي حصدت أرواح نحو 1800 فلسطيني
أعزل.
والمقصود هنا هو الإشارة إلى الدور الأمريكي الذي اكتفى طوال شهري الدم
في لبنان بمراقبة المذابح بالبرود المعهود، مع بعض (المناشدة) بين حين وآخر
لليهود بـ (ضبط النفس) !
ثم أرسل الأمريكيون قواتهم إلى لبنان فيما يشبه الاحتلال باسم حفظ السلام
كما هي العادة الأمريكية. ولكن شيئاً واحداً عكَّر على الأمريكيين الوجود الآمن
هناك؛ إذ فجرت فتاة لبنانية نفسها في معسكر قوات مشاة البحرية الأمريكية
(المارينز) ، فقتل منهم المئات. وهنا دفعت دواعي (عقدة الدم) إلى اتخاذ أسرع
قرار بالفرار؛ إذ انسحب الأمريكيون بسرعة قياسية من لبنان حاملين معهم دُماههم
الدامية، تاركين لبنان لسوريا كي تحل مشكلتها سياسياً، وإلى (إسرائيل) كيف
تتصرف فيها عسكرياً. . . ويذكر هنا أن (عقدة الدم) وحدها في جانبها الخاص
بالإسرائيليين هي التي دفعتهم أيضاً بعد ذلك إلى الانسحاب شبه الكلي من الجنوب
اللبناني المحتل بعد أن خسروا كثيراً من الجنود رغم ضآلة هذه الخسارة مقارنة
بخسائر اللبنانيين.
- أما في الصومال فإن الحال كان أعجب؛ فالولايات المتحدة عندما أرادت
أن تؤمِّن لنفسها موطئ قدم في القرن الإفريقي البالغ الأهمية استراتيجياً لها ولدولة
اليهود؛ تعللت بالفوضى التي حلَّت في الصومال برحيل العميل الهزيل سياد بري،
وحشدت قوات التدخل السريع التي راحت تمارس القتل على الطريقة الأمريكية
المعهودة، فقتل من الصوماليين باسم تهدئة الأوضاع وإطعام الجوعى في عملية
(إعادة الأمل) ما لا يقل عن ألف صومالي. وهو ثمن كان لا بد من دفعه على
مذهب أولبرايت بل كان هناك استعداد لدفع المزيد من دماء الصوماليين؛ لأن الأمر
كان يتعلق بمصلحة استراتيجية أمريكية إسرائيلية في منطقة القرن الإفريقي، كما
يتعلق أيضاً بمصالح اقتصادية مستقبلية في تلك المنطقة الغنية رغم فقرها بمخزون
استراتيجي من الماس، كما أظهرت التقارير وقتها. إلا أن رائحة الدم الأمريكي
انبعثت من ثماني عشرة جثة أمريكية، سُحل بعضها في شوارع مقديشو، فأنسى
ذلك الأمريكان وساوس الشيطان على أرض الصومال، فقرر الرئيس الأمريكي
السابق بيل كلينتون إعادة النظر في عملية إعادة الأمل، ثم ألغاها إلى غير رجعة!
- وتجيء أحداث أفغانستان لتثبت بما لا يقبل التشكيك؛ أن عقدة الدم
الأنجلوساكسوني لا تزال تتحكم في التحرك الأمريكي سلباً أو إيجاباً؛ فالأمريكيون
قاتلوا وقاتلوا بكل شراسة وجرأة وجسارة عندما أمنوا من فوق السحاب وقوع أي
خسارة من الدم، فاستمر القصف الجوي الجبان على المدن الأفغانية المكشوفة
طوال شهر بعد بدء الحرب، حتى أوقع الأنجلو ساكسون ما لا يقل عن عشرين
ألف أفغاني جُلهم من المدنيين، ثأراً لـ (2700) قتيل أمريكي من ضحايا
هجمات سبتمبر التي يعلم الأمريكيون جيداً أن ليس للمدنيين الأفغانيين فيها ناقة ولا
جمل.
لقد استمر القصف الرهيب، وكان مقرراً له أن يستمر أكثر حتى لا يُبقي في
أفغانستان شيئاً قائماً على أصوله، لولا ما ألهم الله - تعالى - به قادة طالبان من
قرار الانسحاب من المدن، الذي فوت الفرصة على الأمريكيين لإكمال عملية
(العدالة المطلقة) التي أطلقوا فيها العنان لسعار دموي جديد لا يريد أن يرتوي.
لكن الأمر اختلف كثيراً عندما وجد الأمريكيون أنفسهم مضطرين إلى النزول
إلى الأرض في مواجهات برية لاستكمال عملية (العدالة) ، حيث دفعتهم العقدة
الدموية إلى تعديل خططهم العسكرية؛ بحيث لا تسمح هذه الخطط أبداً بأن يظهر
الجندي الأمريكي على الرجال، بل يظل محتجباً في الصفوف الخلفية وراء أشباه
الرجال، من المنافقين الأفغان الذين ارتضوا إضاعة دينهم بدنيا غيرهم.
ومع كل هذا التحرز والتحوط والأخذ بكل أسباب الحماية للدم (المقدس) إلا
أن شؤم العقدة حل على الأمريكيين، فخسروا خسائر بشرية كبيرة وفق حساباتهم
بالطبع اعترفوا ببعضها، وتركوا أكثرها للوثائق السرية في وزارات الخارجية،
حتى لا يتكرر الهلع الشعبي الأمريكي الغاضب كما حصل في أحداث الصومال،
ولبنان، وكما رأينا عقدة الدم في أول الحرب تدفع الأمريكيين إلى مزيد من
الإسراف في القتل - لأن الدم ليس دمهم - فقد رأيناها في أحداث معركة (غرديز)
الأخيرة تصيب الأمريكيين بالخلل في التفكير والشلل في الحركة؛ فما أن كُشف
عن مقتل ثمانية من (معصومي) الدم في ساحة الوغى أو الغي الأمريكي، حتى
جاء القرار السريع والمفاجئ في اليوم التالي بسحب نصف القوات الأمريكية
المشاركة في تلك المعركة، فانسحب نحو 600 جندي من مجموع 1200 جندي،
ثم انسحب الباقون، وتركوا لمغاوير الشمال إكمال مهمة مناطحة الجبال.
العجيب هنا أن أمريكا التي أعلنت الحرب العالمية على الإسلام باسم مكافحة
الإرهاب. أبت أشد الإباء، منذ بداية الحرب وإلى الآن، أن تتولى الإدارة أو
المشاركة في القوات الدولية العاملة في كابل المكلفة بحماية الحكومة العميلة الأفغانية
الأمريكية؛ فمع أن الحملة حملة أمريكا والحرب الإجرامية حربها، والراية
الصليبية رايتها، إلا أنها لا تريد منصب الرئاسة في شيء يمكن أن يجر عليها
صب مزيد من قطرات الدم الساكسوني، والأعجب من هذا أن كلا من بريطانيا
وألمانيا وهما بالمناسبة من الدول ذات الأغلبية البروتستانتية الساكسونية، تمنعتا
أيضاً من قبول منصب الرئاسة للقوات الدولية، ويبدو أن قبول (شرف) الرئاسة
في تلك القوات الغازية سيقوم به المنافقون نيابة عن الكافرين كما جرت العادة في
تلك الحرب منذ بدأت؛ فالكلام الآن متوجه إلى تسليم القوات التابعة للحكومة
التركية (الخلافة الإسلامية سابقاً) إدارة القوات الصليبية في المحطة الأولى من
المعركة ضد الإسلام!
ماذا يمكن أن يحدث في الفصول القادمة من تلك المعركة؟ ! نتوقع أن تكون
عقدة الدم التي جاءت بالأمريكان إلى أفغانستان، هي نفسها التي ستخرجهم منها في
قريب الأيام؛ فعندما يرى الأمريكيون (الشارة الحمراء) قد أضاءت في الأفق
المنظور من طريقهم المظلم في أفغانستان، فلا نظن أنهم سيكملون المضي فيه مهما
كانت المكاسب والغنائم المتوقعة بعده؛ فالذي نعرفه أن ما جبل عليه اليهود من
الحرص على الحياة، قد ورثه عنهم النصارى المتهودون (البروتستانت) : [يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ] (البقرة: 96) .
وما يقال عن الحرب الأمريكية في أفغانستان يمكن أن يقال عن الحرب
الإسرائيلية في فلسطين؛ فلن يوقف نزيف الدم الفلسطيني إلا نزيف مقابل من الدم
الإسرائيلي.
* ونعود إلى» الإثني عشرية «الكتابية:
قد لا يعرف كثير من الناس أن اليهود والنصارى يؤمنون بـ (الإثني عشرية)
لكن لا على ما تعتقده الطائفة الشيعية الإثنا عشرية في انحصار الإمامة في اثني
عشر إماماً من آل البيت، بل على وجه آخر مختلف؛ حيث إن الكتابيين يؤمنون
بأن أبناء يعقوب الاثني عشر (الأسباط) قد تركوا ذرية لا يمكن أن تنقرض تمثلها
اثنتا عشرة قبيلة، وستظل (بقية) من هذه القبائل موجودة حتى تسود العالم تحت
قيادة المخلص في آخر الزمان.
لقد ظل اليهود على هذا المعتقد في أسباط بني إسرائيل، منتظرين أن يخرج
منهم من نسل يعقوب ومن ذرية داود؛ نبي آخر الزمان، حتى أُرسل عيسى -
عليه السلام -، فلم يؤمنوا به، ولكن آمن به النصارى الذين أصبحوا يمثلون
امتداداً للمؤمنين من بني إسرائيل وقتها؛ بينما ثبت على اليهود وصف كفار بني
إسرائيل، وهذا مطابق لإخبار الله - تعالى - عن إرسال عيسى في بني إسرائيل؛
حيث آمن به من بني إسرائيل قسم هم النصارى، وكفر قسم هم اليهود [فَآمَنَت
طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا
ظَاهِرِينَ] (الصف: 14) .
ولكن القسم النصراني من بني إسرائيل كفر أيضاً بعد ذلك بادعاء الألوهية في
عيسى، وظل من بقي من بني إسرائيل من يهود ونصارى كفاراً إلا من دخل منهم
في الإسلام بعد البعثة الخاتمة، وهنا يمكننا القول، وفق نصوص القرآن، إن بقايا
سلالة الأسباط ظلت موجودة حتى زمان تنزل القرآن في شكل يهود ونصارى من
كفار بني إسرائيل؛ فقد خاطبهم الله - تعالى - في أكثر من موضع من الوحي مرة
بعبارة: (يا بني إسرائيل) حين يكون الخطاب ألصق باليهود، ومرة بعبارة:
(ياأهل الكتاب) عندما يعم الخطاب اليهود والنصارى من بني إسرائيل أو من
غير بني إسرائيل ممن تهودوا أو تنصروا من سائر الأمم.
ومن المواضع الدالة على بقاء بني إسرائيل حتى زمان تنزل القرآن قول الله-
تعالى -: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] (البقرة: 40) . وقوله - تعالى -: [سَلْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
العِقَابِ] (البقرة: 211) .
وقوله - تعالى -: [أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ]
(الشعراء: 197) .
وقوله - تعالى -: [إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] (النمل: 76) .
فالقرآن إذن قص، وسيظل يقص على (بني إسرائيل) من يهود ونصارى
أكثر الذي هم فيه يختلفون.
لقد ظل النصارى ينافسون اليهود على احتكار النسبة إلى» الشعب المختار «
و» البقية الصالحة «من بني إسرائيل، وظل هذا التنافس في القرون التالية
لظهور الإسلام.
وكان الأساس الذي استند إليه الطرفان، نصوصاً من التوراة تشير إلى
استمرار تلك البقية من الشعب المختار، جاء في سفر أشعيا: (ويكون في ذلك
اليوم، أن بقية إسرائيل، والناجين من بيت يعقوب، لا يعودون يتوكلون على
ضاربهم، بل يتوكلون على قدوس إسرائيل بالحق، ترجع البقية، بقية يعقوب إلى
الله القدير، لأنه وإن كان شعبك يا إسرائيل كرمل البحر، ترجع بقية منه) [7] .
وعندما حدث الاختراق اليهودي للنصرانية الكاثوليكية بعد حركة (الإصلاح
الديني) في القرن السادس عشر للميلاد التي أدخل بموجبها (مارتن لوثر)
» إصلاحات «جذرية على الديانة النصرانية، أصبحت بها النصرانية المخترقة
قريبة جداً من الديانة اليهودية؛ حيث جعل مارتن لوثر كتاب التوراة مرجعاً حرفياً
للنصارى، فأصبح كل ما يدين به اليهود من النصوص الحرفية للتوراة يدين به
النصارى الذين أطلق عليهم بعد ذلك التحريف اسم: (البروتستانت) ، وصاغ
(جون كالفن) الفكر البروتستانتي ليصبح متمرداً على الفكر الكاثوليكي، واستطاع
به أن يسحب البساط من تحت أقدام الكاثوليك بدعوى التميز البروتستانتي عرقياً
ودينياً، وتمكن من نقل معتقد (الشعب المختار) بشكله التوراتي الحرفي إلى
الديانة البروتستانتية الجديدة، حتى أصبحت الشعوب التي تدين بهذا المذهب وفي
طليعتهم الإنجليز يستشعرون أنهم وحدهم يمثلون الامتداد الطبيعي لـ (شعب الله
المختار) المسؤول وحده عن قيادة العالم والوصاية عليه باسم الأنجلوساكسونية
البروتستانتية. ولهذا قصة غريبة لا تخلو من الطرافة!
لقد بدأ بعض الباحثين منذ القرن السابع عشر للميلاد يجرون أبحاثاً تاريخية
لاهوتية لإثبات أن الشعوب (الأنجلو ساكسونية) هي الامتداد الطبيعي لمن تبقى
من أسباط بني إسرائيل، وأنهم ليسوا إلا بقية من بعض قبائل الأسباط المختارة،
وحاول هؤلاء إثبات فرضية هجرة بقايا بني إسرائيل ممن آمن بعيسى - عليه
السلام - إلى أوروبا فراراً من بطش الأعداء، وأنهم تكاثروا حتى أصبحوا شعباً،
وكان أول من حاول إثبات ذلك؛ الباحث الأكاديمي (جون سادلر) من جامعة
كمبردج عام 0561م. وبعد قيام الثورة الفرنسية ومواجهتها للكنيسة الكاثوليكية،
ساد اعتقاد في أوروبا بأن الشعب البريطاني (الأنجلو ساكسوني) يمثل الشعب
المختار؛ لأنه ينحدر كما يزعمون من سلالة أفرايم بن يوسف بن يعقوب - عليهما
السلام- من زوجته المصرية، وبُني على ذلك الوهم يقين بأن الشعب الأنجلو
ساكسوني البروتستانتي سيظل في بريطانيا وغيرها أميناً على رسالة عيسى حتى
يعود فيملك العالم، وقد أصَّل لهذا المعتقد (جون ويلسون) المتوفى سنة 1781م،
وبنى على ذلك عملياً أنه يجب على الشعب البريطاني أن يعيد السيطرة على
(أرض الميعاد) لأنها مكتوبة للصالحين من بني إسرائيل بحسب التوراة [8] ، وفي
أواخر القرن التاسع عشر تحرك هذا المعتقد عملياً من خلال ما سمي بالحركات
» الأنجلو إسرائيلية «مثل (جمعية أنجلو إسرائيل) وجماعة (أنجلو أفرايم)
وجماعة (ميتروموليتان) الأنجلو إسرائيلية.
وعندما هاجرت أفواج من الأنجلو ساكسون إلى القارة الأمريكية إبان اكتشافها،
ساد اعتقاد بأن بين المهاجرين مجموعات من سبط (منسَّى) وهو الأخ الثاني
لإفرايم بن يوسف - عليه السلام -، وحاول باحثون أمريكيون معاصرون إثبات
تلك المقولة من خلال المعلومات المستمدة من الآثار الفرعونية الهيروغليفية في
الهرم الأكبر بمصر.
أما اليهود فظلوا في المقابل يحتفظون بدعوى انحدار بعضهم من نسل (يهوذا)
الذي تمثل قبيلته السبط المختار الذي بسببه سمي اليهود يهوداً وتتعلق به نبوءات
آخر التاريخ، وخصوا اليهود الذين قدموا إلى أوروبا من إسبانيا بذلك، ولذلك ظلوا
يزايدون على دعاية الاصطفاء، ويجادلون عليها الإنجليز على الرغم من كل ما
قدمه الإنجليز لهم من خدمات [9] .
أما الإنجليز أنفسهم؛ فقد انتعش لديهم الاعتقاد بأن الأنجلو ساكسون هم
الشعب المختار حقاً؛ لأنهم قادوا طائفة البروتستانت في العالم نحو السيطرة على
الأرض المقدسة التي ستُترك» مؤقتاً «لليهود في حماية البروتستانت ريثما يعود
المسيح؛ حيث سيكون هؤلاء اليهود أو جزء منهم في طليعة أنصار المسيح عندما
يعود! !
ولكن بريطانيا أفل نجمها كقوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية، فتسلم
الشعب الأمريكي المنتمي أيضاً في أغلبيته إلى هوية وعرقية الرجل الأبيض
الأنجلو ساكسوني البروتستانتي، تسلم راية المسؤولية عن سيادة ذلك الجنس على
العالم باعتباره الوريث الشرعي لدور (الشعب المختار) .
هل نتجنى على الأمريكيين عندما نذكِّر ببعض تاريخهم المعبر عن الوجه
الآخر من حضارتهم؟ . . . وهل هو حتم علينا أن نكذب على أنفسنا لنصدق
حتمية (نهاية التاريخ) على الوجه» السعيد «الذي يريده الأمريكيون، بعد
مرحلة سوداء من (صراع الحضارات) ؟ ! وهل من الواجب على البشرية كلها
أن ترى في الموقف الأمريكي انعكاساً» للاختيار الإلهي «للأنجلوساكسون ثقافياً
وحضارياً وسياسياً وعسكرياً كما يريد مثقفو أمريكا أن يفهمونا؟ !
صحيح أن الشعب الأمريكي ليس واحداً. . ومواقف الشرائح المختلفة منه
ليست واحدة، ولكنا نستطيع أن نقول بملء الفم. أن الموقف الأمريكي الرسمي في
التعامل مع العالم تمثله سياسة واحدة هي سياسة الإجرام. . فعلى أساسها يقاتل.
__________
(1) الأنجلوساكسون: هم عنصر البيض البروتستانت، يعتبرون أنفسهم صفوة المجتمع الأمريكي وأصحاب الفضل في تأسيس دولته العملاقة، فهم الذين شكلوا بذرة الهجرة الأولى لهذه الأرض الجديدة قبل 003 عام، وهم يحملون في غالبيتهم معتقد البروتستانت (Protestant) الذي يعني الاحتجاج، وبالرغم من وجود شرائح كبيرة من الأمريكيين ترجع إلى أصول إسبانية وآسيوية وإفريقية، إلا أن الأنجلوساكسون ذوي الأصول الأوروبية هم العنصر المسيطر والمتسيّد في الولايات المتحدة.
(2) الأسباط: جمع سبط، وهو ابن الابن، أو الحفيد، والأسباط المذكورون في القرآن هم أبناء يعقوب الذين هم أحفاد إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام -، ومن هؤلاء الأسباط تشعبت قبائل أبناء يعقوب أو (بني إسرائيل) وهم اثنا عشر، ستة منهم لأم واحدة، والباقون كل اثنين من أم.
(3) جواتيمالا، تقع في جنوب الولايات المتحدة بعد المكسيك، وأكثر سكانها كاثوليك.
(4) جريدة الشرق الأوسط، (2/3/2002م) .
(5) كانت أمريكا وقتها مع إظهارها تأييد العراق تبيع لإيران السلاح، وتأخذ الثمن لتشتري به أسلحة أخرى لتسليح المتمردين المعروفين بثوار (الكونترا) ، وذلك فيما عرف وقتها بفضيحة (إيران جيت) .
(6) راجع مقال الدكتور يوسف الصغير في مجلة البيان العدد (161) لتدرك خطورة استعمال هذا السلاح.
(7) سفر أشعيا، (01/12 32) والمعنى موجود بشكل آخر في أشعيا (61/11 31) .
(8) احتلت بريطانيا فلسطين قبل أن يدخلها اليهود، وسيطرت على القدس عام 7191م، ثم تخلت عنها لليهود بموجب معتقد توراتي آخر، يؤمنون بمقتضاه أن الشعب القديم من بني إسرائيل (اليهود) سيعود للأرض المقدسة وتكون عودته علامة على قرب مجيء المسيح الثاني.
(9) بعدما هيأ الإنجليز أرض فلسطين لليهود خلال ثلاثين عاماً بعد احتلالهم لها عام 7191م، لم يصبر اليهود على بقاء الإنجليز في فلسطين، فقاموا بعمليات إرهابية ضدهم لتسريع جلائهم عنها لتخلص لليهود وحدهم، وكان من أكبر تلك العمليات الإرهابية اليهودية ضد الإنجليز نسف فندق الملك داود، حيث قتل في تلك العملية ثمانية وثمانون شخصاً معظهم من البريطانيين، وكان الهجوم من تدبير (مناحيم بيجين) رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في شبابه.(175/58)
المسلمون والعالم
قطرة دم اليهودي أهم من الجُوي [*]
ترجمة: حسام رشاد
قال وزير الداخلية الإسرائيلي (إلياهو سويسا) وهو من حزب شاس الذي
يتزعمه الحاخام المتطرف عوفاديا يوسف رئيس حزب اليهود الشرقيين: (على
إسرائيل أن تقتحم مناطق (A) [1] ، وأن تبقى فيها لفترة طويلة لكي تكافح
الإرهاب؛ إذ إنه ينبغي مكافحة الإرهاب في أي مكان يوجد فيه. إنني لا أفزع من
احتمال إعادة احتلال الضفة الغربية وغزة، ولكن هناك الكثير مما يمكن عمله أولاً:
فينبغي الذهاب إلى نابلس ومحاصرتها وإدخال كتائب عسكرية فيها وتدمير كل
بيت يوجد فيه سلاح، إن كل قطرة دم من دماء اليهودي أهم من الجُوي [2] . علينا
أن نتعلم من الولايات المتحدة التي تعمل بلا تردد في أفغانستان، ولذا يتعين على
إسرائيل ألا تبحث عن أعذار وحجج عندما يتعين عليها العمل. ينبغي العمل
عسكرياً في أراضي (A) بشكل متوال ومستمر والبقاء فيها دوماً، لا ينبغي علينا
اقتحامها ثم الانسحاب منها بعد أسبوعين عندما يأتي زيني، وبهذا ينشأ ضغط على
السلطة الفلسطينية يُمكِّن إسرائيل من جني ثمرات في الميدان السياسي.
إنني أعتقد أن (إسرائيل) ليست في حاجة إلى إجراء مفاوضات عن طريق
الاتصالات التي يقوم بها بيريز مع الفلسطينيين وهو ما يتعارض مع قرار الحكومة
بعدم إجراء مفاوضات في ظل إطلاق النار. إن هناك بلا شك غض طرف من
جانب رئيس الحكومة إزاء المفاوضات التي تجري في ظل إطلاق النار.
لقد حصل الفلسطينيون على نسب كبيرة من الأراضي، إلا أنهم فشلوا في
الالتزام بالاتفاقيات؛ ولذا ينبغي علينا ألا نتقدم معهم وألا نتوصل معهم إلى أية
اتفاقيات، وبالطبع من المستحيل أن نتحدث حالياً عن اتفاقية دائمة، وربما مضت
عشرات الأعوام حتى نتوصل إلى مثل هذه الاتفاقية.
إن الجدار [3] الفاصل يعد فكرة غير واقعية؛ فهذا الجدار لن يمكنه صد أو
وقف إطلاق نيران الهاونات وله جانب سياسي حيث سيتسبب في تفجر حروب لا
حصر لها حول قضية المكان الذي سينصب فيه هذا الجدار. ولست أعرف إذا ما
كان الوضع سوف يتحسن إذا ما رحل عرفات عن الساحة السياسية وعن الحكم؛
ذلك أن (إسماعيلي) [نسبة إلى سيدنا إسماعيل - عليه السلام -] آخر سوف
يأتي ليحل محله، وربما كان من الأسهل التعامل مع هذا الإسماعيلي الجديد لكنه لن
يحدث تغييراً كبيراً، إن عرفات هو رمز النضال الفلسطيني منذ عدة أعوام، وأي
تهاون منه وتصالح حول مشكلة مبدئية جداً مثل حق العودة أو مسألة القدس سوف
يتسبب في خسران نضاله بالنسبة له، وسوف يعطيه إحساساً بأن نضاله هذا ذهب
سُدى؛ لذلك فإنه لا يبدو أنه سوف يكون من الممكن التوصل معه إلى تقدم.
ووفقاً لليهودية، فإن مجيء المسيح فقط سوف يحل النظام والأمن، وسوف
يأتي بالسلام الحقيقي.
__________
(*) صحيفة: يديعوت أحرونوت، 20/1/2002م، وكان ذلك قبل نشوب الأحداث الأخيرة في رام الله، وجنين، ونابلس.
(1) وهي الأراضي الخاضعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة.
(2) غير اليهودي، وكلمة جُوي تعني في لغتهم جيفة أو جثة (المترجم) .
(3) يقصد بالجدار: الجدار الفاصل الذي اقترحه باراك لعزل الفلسطينيين عن أماكن العمل في الأراضي الخاضعة للإسرائيليين حتى تضيق أمامهم فرص العيش.(175/67)
المسلمون والعالم
حقيقة الدوافع الأمريكية في صراع فلسطين
حسن الرشيدي
«إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد
أمام قبر مقدّس» .
هكذا عبّر الكاتب اليهودي الأمريكي جون بيتر عن واقع أمريكا سابقاً ولاحقاً،
وتكشف هذه الكلمات القليلة في عباراتها الكثير من المعاني الخاصة بالصراع
الدائر الآن على أرض فلسطين، ولعل الصورة الملتقطة لجورج بوش الابن وهو
واقف في خشوع يصلي أمام ما يسميه اليهود بحائط المبكى في القدس لأكبر دليل
على صدق هذه العبارة، وعلى مدى العلاقة العقيدية بين اليهود والأمريكيين؛
خاصة أن هذه العلاقة أضحت حلفاً غير مقدس ضد كل من يحاول المساس به.
ولكي نتفهم حقيقة الموقف الأمريكي من التطورات الأخيرة التي تمر بها
الانتفاضة الفلسطينية، وندرك أبعاد رد فعل الإدارة الأمريكية تجاه معاناة الشعب
الفلسطيني لا بد من دراسة أمرين اثنين:
1- الاستراتيجية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط عامة، والصراع الدائر
حالياً بأرض فلسطين بصفة خاصة.
2 - السياسات الأمريكية التي يتم بها تنفيذ هذه الاستراتيجية وتطبيقها على
أرض الواقع.
الأمر الأول: الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية:
بانتهاء الحرب الباردة كانت نهاية عصر ثنائية القطبين، وتهيأت الظروف
للولايات المتحدة الأمريكية لتكون تقريباً القوة العظمى الوحيدة في العالم؛ فلم تعد
تواجه الآن أي منافس عالمي، ولا أي تحالف معاد ذي شأن، ولكن غياب أي قوة
منافسة عالمية جعل صناع القرار في واشنطن يعيدون النظر في خياراتهم
وتوجهاتهم في العالم، وتبلورت ثلاث نظريات استراتيجية أمام أمريكا:
الاستراتيجية الأولى: وتتلخص في انعزال أمريكا بحيث تنطوي على نفسها
لمواجهة مشكلاتها الداخلية.
والاستراتيجية الثانية: هي تعدد القطبية ويعتمد هذا الخيار على إحداث
توازن بين عدة قوى للحيلولة دون ظهور قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة
الأمريكية، وحين تتناوب هذه القوى على التنافس والتعاون فإنها ستحول دون
نشوب حرب عالمية، كما تؤدي إلى تخفيض الأعباء الدفاعية للولايات المتحدة.
أما الاستراتيجية الثالثة: فهي الزعامة العالمية حيث تمنع الولايات المتحدة
ظهور منافس لها، وفي الوقت ذاته تحول دون تعدد الأقطاب، ويبدو أن هذا
الخيار الأخير هو الذي تتبناه الإدارة الأمريكية الحالية وتسعى لتحقيقه.
هذا بخصوص التوجه العام للاستراتيجية الأمريكية. وبالنسبة لمنطقة الشرق
الأوسط تركزت الاستراتيجية الأمريكية على ثلاث دوائر متداخلة:
1 - ضمان أمن إسرائيل.
2 - تأمين منابع وإمدادات النفط.
3 - مكافحة الإرهاب.
أولاً: ضمان أمن إسرائيل:
يعتقد كثير من الناس أن الانحياز الأمريكي لإسرائيل نابع من مصلحة
أمريكية في علاقتها الخاصة بإسرائيل، ولا شك أنه يحقق لها مصالح كثيرة،
ويُبْقِي على أطماعها في المنطقة، ولكن في الوقت نفسه يضع مصالح هذه الدولة
في خطر كبير؛ لأنه يزيد حجم العداء لهذه الدولة. ومن أجل هذه المصالح نجد
دولاً مثل فرنسا وإيطاليا تغير موقفها من الصراع، وتصبح أكثراً توازناً من ذي
قبل. فأي مصلحة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ستعود على أمريكا من نقل
سفارتها إلى القدس؛ على الرغم من إدراك صانعي القرار في أمريكا بالمكانة
الخاصة للقدس في قلوب ملايين العرب والمسلمين والنصارى؟ بالطبع لا توجد أي
مصلحة؛ حيث إن هذا القرار كغيره من القرارات الأمريكية السابقة سيلحق ضرراً
كبيراً بالمصالح الأمريكية، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي
أيضاً عاجلاً أم آجلاً.
ويقول آخرون: إن سيطرة اللوبي اليهودي في أمريكا على الحياة السياسية
والاقتصادية الأمريكية له أثر كبير في ظل النظام الانتخابي الأمريكي على انحياز
الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإسرائيل وتضخيم الصوت الانتخابي اليهودي في
الانتخابات الأمريكية أمر مبالغ فيه. نعم إن الجالية اليهودية نشطة ولها تأثير؛
ولكن القول إنها تحكم أمريكا ليس صحيحاً؛ فلم يحدث أبداً أن كان الرئيس أو نائبه
يهودياً، ونسبة اليهود في الكونجرس لا تزيد إلا قليلاً عن نسبة اليهود في أمريكا
أي 2 - 3% حيث يبلغ تعدادهم حوالي 6 ملايين نسمة تقريباً، أي أن أصواتهم
الانتخابية لا تتعدى 2 - 3% من نسبة الأصوات الانتخابية في أمريكا، وهذه
النسبة ليست بالنسبة الكبيرة التي تمكن اليهود من التأثير على الانتخابات، ولو كان
لهذه النسبة أي تأثير لكان للمسلمين والعرب في أمريكا أثر في تشكيل السياسة
الأمريكية؛ لأن تعدادهم يزيد على تعداد اليهود هناك. كما أن السود يشكلون نسبة
كبيرة من السكان بالإضافة إلى أقليات أخرى؛ وبالرغم من ذلك لم نسمع عن أي
أثر لأصواتهم الانتخابية، ولم نسمع عن أي رئيس أمريكي سعى لاسترضائهم كما
يفعل مع اليهود. إذاً فالقضية ليست قضية صوت انتخابي فحسب.
إذاً ما هو السر في هذا الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل؟ إن الإجابة
تكمن في العلاقة بين البروتستانتية واليهودية؛ حيث يستمد التراث الديني في
أمريكا أصوله من المذهب البروتستانتي في إنجلترا؛ والذي نشأ مع حركة
الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة
الكاثوليكية في روما.
ولقد أحدثت حركة الإصلاح الديني تغييراً جوهرياً بالمقارنة مع موقف
الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى في موقفها من اليهود؛ وبذلك أسهمت هذه
الحركة في بعث اليهود من جديد. بالنسبة للعهد القديم التوراة فقد كان مهمَلاً قبل
حركة الإصلاح الديني؛ حيث كان الاعتماد على العهد الجديد الإنجيل - المحرّف-
ورسائل البابوات في تفسيره، وكانت اللغة العبرية لغة ميتة يرى الكاثوليك أن
تعلمها بدعة.
ثم جاء البروتستانت في القرن السادس عشر، ودعا مارتن لوثر إلى وجوب
إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم رجال الدين لها،
فأصبح كل بروتستانتي حراً في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره؛ وهذا أدى إلى
فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب البدع والضلالة؛ وأدى هذا إلى تعدد الفرق
البروتستانتية التي وصلت إلى أكثر من 200 فرقة في فترة أربعة قرون فقط. في
ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم التوراة تحت شعار: العودة إلى الكتاب
المقدس؛ باعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الاعتراف بالإلهامات والتعاليم
غير المكتوبة التي يتناقلها الباباوات.
وإذا كان العهد القديم يتكون من 39 سِفْراً؛ فإن أغلب الباحثين يذهبون إلى
أنه لا يمكن نسبة إلا خمسة أسفار تجاوزاً إلى موسى - عليه السلام -. أما البقية
فهي عبارة عن سجل لتاريخ بني إسرائيل في فلسطين بالإضافة إلى بعض التنبؤات
التي كتبها أحبار اليهود على فترات متفاوتة. وفي ظل هذا الوضع رسخ لدى
البروتستانت تاريخ فلسطين مستمداً فقط من العهد القديم، بحيث لا يبدو فيه وجود
للشعوب الأخرى في فلسطين، وأنه لا بد من عودة اليهود إلى وطنهم الذي أُخْرِجوا
منه طبقاً لتنبؤات العهد القديم.
وهذا أدى إلى إحياء اللغة العبرية لفهم العهد القديم؛ ولذلك كانت الكنيسة
الكاثوليكية تصف مارتن لوثر بأنه يهودي أو نصف يهودي. وكثير من الباحثين
في التاريخ يذهبون إلى القول بأن المذهب البروتستانتي من صنع اليهود،
والماسون.
إن أهمية الأفكار التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني على يد لوثر تعود
إلى أنها مهدت الطريق أمام الأفكار التي نادت بها الحركة الصهيونية في القرن
التاسع عشر، فهذه الأفكار التي أكدتها البروتستانتية لا تختلف كثيراً عن اليهودية
التي تنطوي في جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون؛ أي: إلى أرض
إسرائيل بحدودها التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة لدى اليهود.
وهكذا تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة
للنصارى إلى أرض الشعب المختار، ومن الملاحظ أن بعض البروتستانت قد آمن
بضرورة اعتناق اليهود للنصرانية تمهيداً لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بإمكان
تحولهم هذا بعد قدومه.
ومما قوّى هذه الأفكار التجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من
أوروبا إلى أمريكا حينما قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء
عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين.
فكثير من البروتستانت فر من الاضطهاد الديني؛ ولذلك عندما واجه
المهاجرون مقاومة أهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر؛ فإنهم تذكروا اليهود
ومقاومة أهل فلسطين القدماء لهم. لقد كان هؤلاء المستوطنون بحاجة إلى شيء
يسوّغ أفعالهم هذه، ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية، فلم يجدوا هذا
التسويغ إلا في العهد القديم. بل إنهم ادعوا أن الله اختار العنصر الأنجلو -
سكسوني البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم، كما جعل الله اليهود شعبه المختار.
بل وصل تطرفهم أن زعم أحد الكتاب ويدعى ريتشارد بروتزر في كتابه:
(المعرفة المنزلية للنبوءات والأزمنة) أن الإنجليز من أصل يهودي؛ على أساس
أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط التي ادّعى اليهود أن أفرادها فُقدوا بعد اجتياح
الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد. وفي نهاية النصف الأول من
القرن التاسع عشر بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس من
خلال جماعات وأفراد؛ فعلى صعيد الأفراد في عام 1985م قام وارد كريون
القنصل الأمريكي في القدس بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس، وخطط
لتأسيس مستوطنات أخرى ولكن لم يجد الدعم المطلوب من اليهود.
كما ظهر القس وليم بلاكستون الذي طالب بعمل شعبي لإعادة اليهود إلى
فلسطين، وألف كتاب: (عيسى قادم) الذي بيع منه عام 1878م أكثر من مليون
نسخة، وتُرجم إلى 48 لغة، ويتحدث فيه عن عودة اليهود لفلسطين باعتبارها
المقدمة لعودة المسيح.
وعلى صعيد الجماعات ظهرت جماعة «أخوة المسيح» وجماعة «بناي
بريث» أي: أبناء العهد، «وشهود يهوه» ، ثم جاء دور الرؤساء الأمريكيين في
دعم الحركة الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز
الثقل في النظام العالمي إلى الولايات المتحدة. فالرئيس روزفلت اتخذ نجمة داود
شعاراً رسمياً للبريد، والخوذات التي يلبسها الجنود، وعلى أختام البحرية، وجاء
بعده ترومان الذي أصدر بياناً طالب فيه بإدخال مائة ألف يهودي فوراً إلى فلسطين،
وكان له دور مشهود بجانب اليهود في حرب 1948م، لقد عارض ترومان في
سياساته الصهيونية كثيرٌ من المستشارين الحكوميين الذين كانوا يرسمون سياسة
بلادهم الخارجية بناءً على مصالح بلادهم القومية؛ ولكن ترومان كان ينظر بمنظار
مختلف قائم على أساس الدين؛ فعندما قدّمه زعماء اليهود الحاضرون في إحدى
الاحتفالات ووصفوه بأنه الرجل الذي ساعد على تأسيس دولة إسرائيل رد ترومان
قائلاً: وماذا تعني بقولك: ساعد على تأسيس ... إنني قورش ... إنني قورش؛
حيث شبه نفسه بقورش ملك فارس الذي أعاد اليهود من منفاهم في بابل إلى
فلسطين. ولتوضيح أثر العقيدة البروتستانتية في دفع رؤساء أمريكا إلى الانحياز
لإسرائيل نسوق موقف الرئيس الأمريكي جون كنيدي الذي كان الرئيس الكاثوليكي
الوحيد في تاريخ أمريكا، حيث قال: «إن الانحياز الأمريكي في النزاع العربي
الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب بل يهدد العالم بأسره» ، فالأفكار
والتنبؤات التوراتية لم تكن في وجدانه أو عقله مثل سابقيه ولاحقيه.
فالرئيس جونسون الذي قدم الدعم لإسرائيل أثناء حرب 1967م صرح بعدها
قائلاً في إحدى الاحتفالات للحاضرين: «إن بعضكم - إن لم يكن كلكم - لديه
روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماماً؛ لأن إيماني النصراني ينبع منكم،
وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر
الحديث من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد» .
ويقول الرئيس كارتر أمام الكنيست الإسرائيلي: «إن علاقة أمريكا بإسرائيل
أكثر من علاقة خاصة؛ لأنها علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات
الشعب الأمريكي نفسه» ، وفي حفل أقامته على شرفه جامعة تل أبيب وضح
كارتر الأمر أكثر؛ حيث ذكر أنه باعتباره نصرانياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً أن هناك
أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل. لقد كان كارتر مثالاً للرئيس الملتزم بالصلاة في
الكنيسة كل أحد، وكان عضواً في أكبر كنائس بلدته، وشماساً في مدرسة الأحد.
أما ريجان فقد قال في أحد خطبه موجهاً كلامه إلى بعض اليهود الأمريكيين:
«حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة
بمعركة هرمجدّون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً» .
بهذا تحدد الهدف الاستراتيجي الأمريكي في هذا الصراع، وهو ضمان وجود
دولة يهودية لبناء الهيكل على أنقاض الأقصى تمهيداً لنزول مسيحهم.
ثانياً: مكافحة الإرهاب:
أعلنت الولايات المتحدة الحرب ضد ما أسموه «الإرهاب» منذ عقدين على
الأقل؛ وتأكيداً لمتابعتها لهذه الحرب حرصت على إصدار قوائم سنوية تتضمن
أسماء دول داعمة للإرهاب وقوائم بأسماء منظمات وشخصيات «إرهابية»
مطلوبة للعدالة الأمريكية، ورغم إعلانها عن هذه الحرب، وما رصدته لها من
إمكانات، وما بذلته من جهود مالية وعسكرية، وما نفذته من عمليات مضادة؛ فقد
كان حصادها قليلاً جداً كما تأكد ذلك خلال الزلزال الجوي الذي دمر برجي مركز
التجارة العالمية وجزءاً من مبنى البنتاجون والذي كاد يعصف بأبنية مهمة أخرى.
وتقول الإدارة الأمريكية: إن الأولوية المطلقة في سياستها الخارجية هي
محاربة الإرهاب، وكرر المسؤولون الأمريكيون مقولة: إن محاربتهم للإرهاب،
لن تنحصر في أفغانستان، بل سيتسع وتتفرع عنه أهداف أخرى، لتشمل الحملة
على الإرهاب عشرات التنظيمات الإسلامية من إندونيسيا والفليبين إلى كشمير
وأفغانستان وآسيا الوسطى، وصولاً إلى المشرق العربي (حماس والجهاد)
والقرن الإفريقي.
ويكشف تقرير قدمه خبراء للإدارة الأمريكية في منتصف العام الماضي أي
قبل أحداث سبتمبر أن الإرهاب هو الخطر الأكبر في منطقة الشرق الأوسط ومنه
سيصدر إلى غيرها من المناطق؛ لذلك يجب على الإدارة - كما يقول التقرير - أن
تدرس قصص النجاح التي شهدتها المنطقة في مجال مقاومة الإرهاب، وأهمها
تجربة مصر في التعامل مع الجماعات الإسلامية. كما يجب على الإدارة تشجيع
أوسع لتعاون دولي وإقليمي ممكن لمواجهة خطر الإرهاب خصوصاً من شبكات
التطرف الإسلامي والتدخّل بدور نشيط في مقاومة الإرهاب بواسطة التنسيق بين
أجهزة المخابرات، وتشجيع تبادل المعلومات سراً؛ لأن هناك دوائر في العالم
العربي والإسلامي على استعداد للتعاون، لكنها لا تريد لأحد أن يسمع ما تقول أو
يرى ما تفعل.
ثالثاً: تأمين منابع النفط وضرب العراق.
تقوم الاستراتيجية النفطية الأمريكية على عدة مبادئ:
- تعدد مصادر النفط والطاقة عموماً، بمعنى عدم الاعتماد بصفة أساسية على
بترول الخليج الذي يشكل حوالي ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، وهنا نجد أن
نفط بحر قزوين الذي يقدر مخزونه بحوالي 200 مليار برميل هو الداعم الأساسي
لأمن طاقتها.
- تعدد طرق النقل وخطوط الإمداد؛ إذ لا يكفي تعدد المصادر بل يجب تعدد
المسارات لتقليل احتمال تعرضها للمخاطر، ومن هنا كان رفض واشنطن القاطع
لمرور خط بترول قزوين بإيران رغم قلة تكاليفه؛ لأنه في النهاية سيصب في
الخليج العربي ليمر بناقلاته مع بترول الخليج عبر مضيق هرمز، فتزداد مخاطر
تأثير أي صراعات أو تغييرات في الخليج على إمدادات المصدرين معاً، وللسبب
ذاته رفضت واشنطن مروره بروسيا فالبحر الأسود فمضيق البوسفور.
- الحصول على النفط بأسعار مناسبة رخيصة، وهو ما يوفره تعدد المصادر
وتعدد الطرق الآمنة، وقد كان لضخامة تقديرات بترول قزوين الأثر في دفع الدول
المنتجة إلى المسارعة بزيادة إنتاجها قبل دخول بحر قزوين حلبة الإنتاج فتنخفض
الأسعار.
- حرمان أعداء واشنطن من تكنولوجيا النفط.
- استخدام النفط ورقة مساومة لفرض الهيمنة الأمريكية على بقية الدول
الكبرى كالصين واليابان وأوروبا. أدركت الولايات المتحدة أن الاعتماد على
بترول الخليج وحده أمر محفوف بالمخاطر في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة؛
خصوصاً أن منطقة الشرق الأوسط والخليج تشهد تصعيداً بفعل القضية
الفلسطينية وانعكاساتها على المنطقة والسياسة العربية ومنها الخليجية.
من هنا جاء الاهتمام الأمريكي خاصة والغربي عامة بمفهوم أمن الطاقة
والسعي للعثور على مناطق بديلة للخليج العربي لإنتاج الطاقة، وظهر الاهتمام
ببحر قزوين في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وقد أشارت التقارير
الأمريكية أن احتياطيه من الطاقة يكفي لعشرات الأعوام المقبلة.
ويزيد من الاهتمام الأمريكي وفق مصادر كثيرة أن حاجة الولايات المتحدة
والمجتمعات الغربية للنفط تزايدت؛ ففي عام 1998م بلغت حاجة الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي واليابان 37 مليون برميل من البترول يومياً، استوردت منه
25 مليون برميل بمعنى أن هذه الدول حصلت على 68% من احتياجاتها من النفط
عن طريق الاستيراد.
وتصدر دول الخليج 18 مليون برميل من إنتاجها النفطي الذي يبلغ 40
مليوناً في اليوم إلى هذه الدول، وحسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية فإن حصة
دول الخليج من تصدير النفط العالمي التي بلغت 45% عام 1998م سترتفع إلى
65% في عام 2020م.
والأمريكيون يريدون إيجاد مصادر بديلة عن نفط الشرق الأوسط الذي يشكل
أكثر من 50% من استيراداتهم، فيما أكد خبير النفط لدى معهد الطاقة في لندن
محمد علي زيني أن الغرب لن يتمكن من تعويض النفط العربي لا بالاستيراد من
روسيا ولا من غيرها.
في هذا الشأن قال ريتشارد ميرفي مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابق
في محاضرة له في دبي بنادي دبي للصحافة: إن المصالح الأمريكية في المنطقة
تتمثل في أمرين: الأول: ضمان الوصول إلى مصادر الطاقة بهدف الهيمنة،
والأمر الثاني: ضمان أمن إسرائيل.
الأمر الثاني: السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط:
بعد أن يتم تحديد الاستراتيجيات الأساسية التي لا تحيد عنها أي إدارة أمريكية
سواء كانت جمهورية أو ديموقراطية يبدأ الفريق التنفيذي داخل كل إدارة في رسم
السياسات الخاصة به لتنفيذ تلك الاستراتيجية، وبتتبع السياسات الأمريكية بالنسبة
للصراع بين العرب واليهود نجد أنها لا تخرج أو لا تتجاوز خيارين:
الخيار الأول: هو التدخل الكامل لإيجاد إطار أو آلية يمكن التوفيق بمقتضاها
بين أطراف الصراع، وذلك مثل ما حدث في كامب ديفيد عام 1978م في عهد
إدارة كارتر عندما نجح في إقناع السادات ليوقع ما يسمى بمعاهدة كامب ديفيد مع
مناحيم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ، وهو أيضاً ما فعله جورج بوش
الأب في مؤتمر مدريد عام 1991م في أعقاب حرب الخليج الثانية وهو نفسه خيار
كلينتون في كامب ديفيد الثانية عام 2000م عندما قام بجمع إيهود باراك رئيس
الوزراء الإسرائيلي وياسر عرفات رئيس ما يعرف بالسلطة الوطنية الفلسطينية.
الخيار الثاني: هو الانعزال الجزئي عن مجريات أحداث الصراع اليومية
والاكتفاء بالمراقبة عن بعد والإبقاء على مستوى معين من التصعيد، التدخل إذا
تجاوز الصراع حداً معيناً.
وتمثل ذلك الخيار واضحاً في زمن حكم ريجان في الثمانينيات وبعض
الفترات في رئاسة كلينتون، وهذه الأيام أثناء تولي بوش الابن مقاليد الأمور في
السياسة الأمريكية.
كما تمثل في جولات هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر 1973م وجولات
المبعوث الأمريكي فيليب حبيب إبان الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982م وجولات
باول الآن.
ولكن ما هي المحددات التي تجعل الإدارة الأمريكية تميل لأي خيار منهما؟
بتتبع السلوك السياسي للإدارات الأمريكية المتعاقبة تبين أن هناك محددين على
ضوئهما يتضح ميل الإدارة الأمريكية لاستعمال أحدهما عند تطبيق سياستها على
أرض الواقع.
1 - إعادة خلط الخيارات الاستراتيجية بالنسبة لأمريكا في المنطقة:
فقبل أحداث 11 سبتمبر كانت نصيحة اللجنة التي شكلها بوش لرسم خياراته
الاستراتيجية وأولويات السياسة الأمريكية تدور حول ضرورة الفصل بين التوجهات
الاستراتيجية الثلاث: النفط، والإرهاب، والصراع العربي الإسرائيلي؛ لأنه لا
بد أن يظل كل منهم مستقلاً بذاته وبعيداً عن الآخر: الخليج وما حوله من ناحية،
وفلسطين وما حولها ناحية أخرى، والإرهاب كوجهة ثالثة؛ لأن المزج بين الثلاثة
يخلق تفاعلات تنشأ عنها شحنات خطر يصعب تقديرها.
يضاف إلى ذلك أن الفصل بين هذه النطاقات هو الضمان لإحكام السيطرة
على إدارة كل واحد منهما في حدوده المعينة وفي إطاره المحسوب.
أما بعد أحداث 11 سبتمبر فقد تنامى الاتجاه داخل الإدارة الأمريكية لجعل
موضوع مكافحة الإرهاب في سلم أولويات هذه الإدارة لاستعادة الهيمنة المفقودة
وتنفيذ أجندات مؤجلة؛ إذ شكلت تلك الأحداث صدمة أمنية نالت من هيبة أمريكا،
وشكلت إطاراً عاماً لرسم السياسة الخارجية بل والداخلية وأعادت رسم أولويات
الإدارة الأمريكية الحالية.
لقد شكلت أحداث سبتمبر الماضي إطاراً نظرياً وفكرياً جديداً يتم الاسترشاد به
في رسم السياسة الخارجية الامريكية وبعلاقات أمريكا بأشخاص المجتمع الدولي،
وعليه فقد قسم بوش الدول إما معنا أو ضدنا، وبذلك فقد أعاد للعلاقات الدولية أطر
الحرب الباردة بما تضمنته تلك التصورات من تأزيم للعلاقات الدولية وتفجير
الصراعات الدولية وهيمنة ظاهرة الصراع الدولي على مظاهر التعاون في العلاقات
الدولية، كما أسهمت تلك النظرة بتأجيج حدة التوترات الدولية لا سيما في البؤر
المشتعلة أصلاً والتي أهمها على الإطلاق بؤرة الصراع العربي الإسرائيلي.
وأسهمت هذه الأحداث كثيراً في تعظيم الدعم المقدم لاسرائيل في عدوانها ضد
الشعب الفلسطيني وعلى أعلى المستويات. فعلى مستوى الرئاسة فإن الرئيس
الأمريكي لم يتورع عن إظهار تحيزه السافر للسياسات الإرهابية الصهيونية، كما
أنه لم يتوقف عن كيل التهم ضد الشعب الفلسطيني واصفاً أعمال المقاومة بالإرهاب،
ولعل ما يفسر ذلك المرارة التي مني بها من جراء أحداث سبتمبر الماضي وتعثر
جهود مقاومة «الإرهاب» في أفغانستان واستئصال جذوره، أما على المستوى
الشعبي فأصبح الأمريكيون لا يريدون سماع عمليات انتحارية، حتى لو كانت
موجهة ضد العسكريين الإسرائيليين؛ لأنها تذكرهم بـ 11 سبتمبر.
وسربت جهات أمنية أمريكية أن بن لادن قد قام بتدريب عشرات الآلاف من
أنصاره، وأن هؤلاء ينتشرون في أكثر من ستين دولة! ووصف بوش هؤلاء بأنهم
قتلة خطرون ينتشرون في مختلف أنحاء العالم، ويمثلون قنابل موقوتة يمكن أن
تنفجر في أية لحظة. وما دام هؤلاء موجودين فإن الحرب على الإرهاب لا تزال
في بدايتها. وستواصل أمريكا تعقب هؤلاء الإرهابيين في كل مكان في العالم..
وعلى جميع الدول أن تساعدها في هذه المهمة، وفي مقدمتها بالطبع تلك الدول التي
يوجد فيها «الإرهابيون» . وأضاف مهدداً: إذا لم يتحركوا فإن أمريكا ستتحرك! !
وبذلك تعطي الولايات المتحدة لنفسها حرية التدخل في أكثر من ستين دولة
تفترض أمريكا وجود جماعات إسلامية «متطرفة» على أراضيها إذا لم تقم هذه
الدول بتصفية تلك الجماعات بالطريقة التي تراها واشنطن مقنعة! وهكذا فإنه إذا لم
يتحرك عرفات لتصفية حماس والجهاد فإن واشنطن ستطلق يد تل أبيب في تخريب
البنية التحتية للسلطة الفلسطينية، وقتل كوادر تنظيمات المقاومة والمواطنين
الأبرياء والأطفال والشيوخ على السواء.
ويأتي في هذا الإطار قول شارون أثناء زيارة باول الأخيرة للمنطقة: إن
إسرائيل تقوم بحملتها في إطار الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وإنه يرحب بالسيد
كولن باول في القدس الموحدة كعاصمة لإسرائيل، فما كان من الوزير الأمريكي إلا
أن قال مبتسماً إنه يتحدث كصديق مقرب لإسرائيل، ثم أطلق تصريحه؛ مما يعني
أن المخطط الأمريكي قارب مداه بالتناغم مع المخطط الصهيوني تجاه الشعب
الفلسطيني وتجاه القدس، مسقطاً بذلك ما يقال حول القدس كعاصمة للدولة
الفلسطينية المنتظرة، بل ومسقطاً ما جاء باتفاقيات أوسلو.
وارتبط بأحداث سبتمبر الماضي ادعاءات أمريكا أنها لا تستطيع أن تضغط
على إسرائيل لوقف حربها ضد ما أسمته بالإرهاب طالما أن أمريكا تفعل ذلك،
ولديها التزام ليس فقط بدعم الدول التي تواجه الإرهاب، بل والإسهام ميدانياً في
المعارك الجارية ضد الارهاب كما هو الحال في الفلبين وكشمير وفلسطين وغيرها،
وبالطبع فان مسرح العمليات دائماً البلاد العربية والإسلامية والأقليات المسلمة
حيثما كانت، وبذلك فإنه وبالرغم من معارضة العالم أجمع لما يحدث من قمع
وإرهاب بحق الشعب الفلسطنيي تأتي أمريكا وتجد لها المسوغات الكافية للاستمرار
في عدوانها؛ كما تعطيها الغطاء السياسي والدبلوماسي والمادي والعسكري اللازم
لتنفيذ مخططاتها.
واختلطت أوراق الصراع الدائر بين اليهود والمسلمين في فلسطين بأوراق
النفط أيضاً بعد أحداث 11 سبتمبر؛ فالاعتماد الأميركي على النفط العربي تحول،
في أذهان القادة الأميركيين إلى معضلة قومية واستراتيجية منذ حرب تشرين الأول
اكتوبر عام 1973م؛ فبعد الحرب أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عزم
إدارته على تنفيذ سياسة نفطية جديدة خلال السبعينيات، بحيث تكون بلاده قد
وفرت قدرات كافية لتأمين حاجاتها من النفط من دون الاعتماد على أي مصدر
أجنبي. بالطبع أخفق نيكسون في تحقيق هذه الغاية، كما أخفق في تحقيقها كافة
الرؤساء الذين جاؤوا من بعده. فلقد أنشأ جيرالد فورد الاستراتيجي الاحتياطي
النفطي وأنشأ جيمي كارتر وزارة الطاقة.
وفي عام 1991م استطاعت الإدارة الأمريكية تحت إدارة جورج بوش الأب
تأليب الرأي العام العالمي ضد العراق، وأعلنت أنه يملك رابع قوة عسكرية في
العالم، وحشدت في مواجهته أكبر حشد عسكري بعد الحرب الكونية الثانية، كما
تقول بذلك أدق مصادر المعلومات الغربية، واستخدمت تلك القوة لقهر العراق
وإبعاده عن التحكم في النفط أو طرق إمداداته.
ونفذ بيل كلينتون قانون سياسة الطاقة الذي وضع في عهد سلفه جورج بوش
الأب، إلا أن هذه التدابير والسياسات لم تنجح في تحقيق هدف تحرير الولايات
المتحدة من الاعتماد على النفط العربي. الدليل الحاسم على هذا الإخفاق قدمه
الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش الابن خلال شهر أيار مايو من العام الماضي
عندما أعلن سياسة الطاقة القومية وقدم لها بقوله: الاعتماد على مصدر واحد للطاقة،
خصوصاً أي مصدر أجنبي، يتركنا عرضة لتقلبات الأسعار المفاجئة، وانقطاع
التموين، وفي أسوأ الأحوال للابتزاز.
ولقد أوضحت سياسة الطاقة القومية الجديدة حجم الابتزاز الذي تخشاه إدارة
بوش؛ إذ جاء فيها أن الولايات المتحدة تستورد حالياً قرابة 53% من حاجاتها من
النفط من الخارج. ولهذه المستوردات النفطية أهمية بالغة لتأمين حاجات
المواصلات ولتشغيل حوالي 200 مليون سيارة وشاحنة يملكها ويستخدمها
الأميركيون.
ونسبة الاعتماد على النفط العربي في تزايد مستمر نظراً لما هو معروف من
تضاؤل حجم احتياط النفط في الدول العربية التي تستورد منها الولايات المتحدة
نفطها. ويجدر بالذكر أن البلد العربي الذي يحتل المصدر الثاني في صادراته
النفطية إلى الولايات المتحدة بعد المملكة العربية السعودية، هو العراق. وهذا
يكفي وحده لتفسير المخاوف الأميركية من انقطاع أو عرقلة مستورداتها النفطية من
المنطقة العربية.
الاستراتيجية النفطية الأمريكية تسعى إلى معالجة هذه الأوضاع الخطرة، من
وجهة نظر أميركية، ابتداء من التسليم باستحالة تحقيق الهدف الذي وضعه نيكسون
أي تحقيق الاكتفاء الذاتي النفطي، وصولاً إلى تحقيق هدف أكثر واقعية ألا وهو
محاولة ضمان حاجات الولايات المتحدة من الطاقة عن طريق تنمية المصادر
الداخلية وتنويع المصادر الخارجية. وعلى رغم الآمال الكبرى التي يعقدها
مخططو السياسة الأميركية النفطية على تنمية المصادر الداخلية إلا أن التوقعات لا
تتوازى هنا مع حجم الآمال والأماني، مما يدفع بأصحاب القرار في واشنطن إلى
الاهتمام الحثيث بتنويع المصادر الخارجية وهي - فضلاً عن المصادر العربية
نفسها - المناطق الأربع الآتية: دول حوض بحر قزوين، إفريقيا، أميركا
اللاتينية، وروسيا.
حققت الولايات المتحدة بعض النجاح في إيجاد الأجواء والظروف الملائمة
لتنمية وارداتها من النفط ومن الغاز الطبيعي من دول هذه المناطق. فالعلاقات
السياسية بين واشنطن ودول هذه المناطق، خصوصاً روسيا وبعض دول بحر
قزوين، في تحسن مستمر. كذلك تنمو علاقات واشنطن مع بعض دول حوض
بحر قزوين. إلا أن هذه النجاحات تبقى محدودة الأثر بالمقارنة مع الهدف الذي
تتوخاه الولايات المتحدة وهو ضمان تدفق النفط الأجنبي من دون أي عقبات تذكر.
فحتى تتمكن واشنطن من تحقيق هذا الهدف مع تنويع مصادر النفط فإن عليها أن
تذلل صعوبات أمنية وسياسية واقتصادية وفنية متعددة.
فعلى الصعيد الأمني تواجه الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية صعوبة في
ضمان تدفق النفط من كولومبيا بسبب الصراع المسلح بين الحكومة الكولومبية
والحركات المسلحة المعارضة. ولقد دأبت تلك الحركات على توجيه ضربات
مباشرة إلى منشآت النفط. وفي إفريقيا فإن مساعي الولايات المتحدة للحصول على
النفط الأنغولي تصطدم بالمعارك المسلحة بين الحكومة الأنغولية، من جهة،
وحركة أونيتا المعارضة التي دعمتها واشنطن. إن مقتل سافيمبي، زعيم أونيتا قد
يفتح الباب أمام تخفيف حدة النزاع العسكري بين الطرفين. ولكن إلى أن تستتب
الأمور في ذلك البلد الأفريقي الغني بالنفط، وكذلك في نيجيريا التي تعاني من عدم
الاستقرار؛ فإنه من الصعب أن تشكل القارة الأفريقية مصدراً آمناً لواردات النفط
الأميركية. أخيراً لا آخراً تواجه الولايات المتحدة متاعب أمنية تعرقل ضمان تدفق
النفط عبر دول بحر قزوين وجمهوريات آسيا الوسطى. فالأوضاع في أفغانستان لم
تستتب بعد، كما أن العديد من دول المنطقة التي تمر عبرها أنابيب النفط تواجه
مصاعب أمنية.
كذلك تواجه الولايات المتحدة مصاعب سياسية في تلك المناطق. ففي دول
أميركا اللاتينية النفطية الرئيسية المكسيك، فنزويلا وكولومبيا توجد تقاليد سياسية
قديمة. وهذه التقاليد تمنع واشنطن من التدخل في الشؤون النفطية في هذه البلاد،
بينما يرى الأميركيون أن مثل هذا التدخل ضروري من أجل تنشيط القطاعات
النفطية فيها وتنمية قدراتها الإنتاجية على نحو يمكنها من تلبية حاجات السوق
الأميركية. وما يقال في هذا المجال عن أميركا اللاتينية يقال أيضاً عن روسيا
وعن دول بحر قزوين. ثم إنه على واشنطن التي تريد تحصين أمنها القومي ضد
ما تسميه بعض الدوائر الغربية الابتزاز النفطي العربي، أن تفكر بالحصول على
مثل هذه الضمانات ضد الابتزاز الروسي. فروسيا هي الأخرى لها مصالح
ومطالب وثأرات عند واشنطن. وبوتين اكتسب شعبية في روسيا؛ لأنه بدا مؤهلاً
للوقوف في وجه التبعية للغرب، ولأنه أقصى أصدقاء الولايات المتحدة وإسرائيل
عن بعض القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية. فإذا بدا بوتين متساهلاً على هذا
الصعيد اشتدت المعارضة ضده بيمينها ويسارها.
ومن الصعب أن يخلو الجو لواشنطن في حوض بحر قزوين حتى تحوله إلى
البديل الموعود عن الخليج. فإذا كانت واشنطن قد حققت بعض التقدم فلأسباب من
بينها النزاع بين دول الحوض على تقاسم نفط البحر. وهذا النزاع يتجه إلى
التراجع. فستجتمع دول الحوض ومن بينها روسيا وإيران لكي تتوصل إلى تسوية
هذا الأمر. ثم إن لروسيا مصالح وذكريات في هذه المنطقة ليس من السهل تناسيها
والتغاضي عنها، كما أن بكين تمد بصرها ومطامحها إلى هذه المنطقة أملاً
بالحصول على نفطها أيضاً. وهي ستكون منافساً عنيداً لواشنطن.
كل ذلك لا يعني أن واشنطن لن تنجح في تنمية مستورداتها النفطية من
مصادر عربية. إنها تحقق بعض هذا الغرض، وستحقق المزيد منه في المستقبل،
كما جاء في سياسة النفط القومية التي تتبناها إدارة بوش. لكن مثل هذا التطور لن
يمكنها من التحرر من العرب ولا من الخلاص من الابتزاز العربي في نظرها،
وستبقى تعتمد بصورة رئيسية على مستورداتها من النفط العربي. وبحكم هذا
الاعتماد ومن أجل ضمان مصالحها العربية وأمنها النفطي فإنها ستكون مضطرة إما
إلى استخدام الهراوة مع العرب، كما تفعل الآن بصورة مباشرة أو عبر
الإسرائيليين، وإما إلى أن تمد لهم يد الصداقة والتعاون وهو ما تهرب منه واشنطن
وتأباه.
ويشكل العراق هاجساً أمريكياً يحول دون سيطرتها على النفط العربي؛
فحرب الخليج الثانية لم تقض نهائياً على ذلك الخطر؛ لذلك جاءت أحداث سبتمبر
وما صاحبها من تدمير أفغانستان لتفتح الشهية العسكرية الأمريكية لتكرار نفس
السيناريو الأفغاني في العراق ولتنهي مشكلته المزمنة للأبد، ولقد وجهت صحيفة
(يو. إس. إيه توداي) نقداً للتعنت الإسرائيلي قائلة إنه يعطل سير الخطط
الأمريكية لتوجيه الضربة المقبلة للعراق، وأن الطريق الأمريكي إلى بغداد أصبح
طويلاً؛ لأنه سيمر من خلال القدس، بمعنى أنه لا بد من حل المشكل العربي
الاسرائيلي أولاً ولو مؤقتاً، ثم الانتقال إلى قصف العراق، وإلا تصور العرب أي
هجوم أمريكي على العراق على انه هجوم أمريكي إسرائيلي مشترك، وأذاعت
الصحيفة على لسان مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية، لم يفصح عن هويته، أن
عدة دول عربية موالية لأمريكا أعربت عن رفضها لأي تعاون مع أمريكا في شأن
العراق ما لم تقم أمريكا أولاً بلجم رعونة شارون.
ولذلك جاءت جولة تشيني الأخيرة قبل الاجتياح الإسرائيلي ليعقد صفقة مع
الدول المعنية بالشأن العراقي بخصوص عدم إعاقة التدخل الأمريكي في العراق
نظير تهدئة شارون، وعندما وجد الاستجابات ضعيفة من الجانب العربي أعطى
الضوء الأخضر لشارون لتنفيذ حملته الهمجية.
2 - طبيعة الفريق المكون للإدارة: يقول هيمي شاليف الكاتب في صحيفة
معاريف الإسرائيلية: «لقد كانت وجهة نظري دائماً أن الديمقراطيين أقل تبدلاً
للمواقف بينما الجمهوريون يتغيرون وفقاً لمصالح الولايات المتحدة، وأما
الديمقراطيون فهم أكثر وجدانية وأقل ميلاً للتبدلات. ويمكن للإسرائيليين أن يروا
أفضل شاهد على تلك الاختلافات في نهج آخر رئيسين أميركيين قبل بوش الابن:
الأول يتمثل في إدارة بوش الأب التي تذكر على أنها وجهت أكبر ضغط سياسي
على إسرائيل. والثاني يتمثل في الرئيس السابق بيل كلينتون الذي يخلد على أنه
أبدى أسمى آيات الإخلاص لرئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحاق رابين.
أما الإدارة الحالية بوش ومن حوله، رامسفيلد وتشيني بالذات وكولن باول
إلى حد ما يعتبرون أن رئاسة كلينتون كانت مرحلة انتقال بين سقوط الاتحاد
السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بالعالم، وأن رئاسة بوش هي بداية الانفراد
الحقيقي بالقوة في العالم.
والمؤكد الآن أن هناك قوتين رئيسيتين تدفعان هذه الإدارة نحو مواقف أكثر
تأييداً ودعماً لإسرائيل: أولاهما: الأصوليون البروتستانت وخاصة أولئك الممثلين
بشكل جيد في الحزب الجمهوري بالكونغرس وفي المناصب العليا في الإدارة والذين
يساندون إسرائيل بقوة وثبات. وفي حوار دار بين بعض أفراد هذه المجموعة حول
ضرورة مساندة حكومة شارون؛ لأن الإنجيل يقول إن تلك الأرض تعود لليهود،
ولكن اللافت ان هناك العديد من السياسيين المنتخبين الذين يعتقدون أن العودة إلى
تقسيم الإنجيل ليهودا والسامرة هو الحل المنطقي الوحيد. ويتم تعزيز الصورة
الشعبية المحافظة لإسرائيل من خلال جماعة ضغط قوية أقل تأثراً بالمعطيات
الدينية، يطلق عليها اسم المحافظون الجدد ويمثلها في الإدارة الأميركية أشخاص
مثل بول ولف ويتز نائب وزير الدفاع الأميركي وديك تشيني نائب الرئيس.
وحجتهم في دعم الدولة العبرية بسيطة؛ فإسرائيل هي حليف أميركا الاستراتيجي
في المنطقة، وهي الدرع الواقية من المتطرفين الإسلاميين المعادين للولايات
المتحدة من بحر العرب، حتى البحر المتوسط. أما التهديد الديمغرافي طويل المدى
لإسرائيل نتيجة تباين معدلات الولادات الجديدة بين الفلسطينيين واليهود فتحتاج
وفقاً لوجهة نظر هذا الفريق إلى تثبيت دعائم الدولة اليهودية من خلال المزيد من
الدعم والحماية الأميركيين. ويقوم المحافظون الجدد الذين يسيطرون على جزء لا
يستهان به من وسائل الإعلام الأميركية بمتابعة كل خروج عن السياسة الأميركية
المعلنة؛ حيث يسارعون إلى مهاجمته وعزله؛ ولعل المثال الأكبر لاحتقارهم
وازدرائهم هو وزير الخارجية كولن باول الذي يتم ربط نفوذه بكل تصريح يدلي به
الرئيس الأميركي أو أحد مساعديه، ويحمل نقداً ولو خفيفاً لإسرائيل.
ويقول برنامج الرئيس بوش الرسمي الذي نشرته وزارة الخارجية الأمريكية:
» من المتوقع ألاّ يحصل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين على نفس الاهتمام
الشديد الذي كرسته له إدارة كلينتون. إن انفجار العنف الذي بدأ في أواخر
أيلول/سبتمبر من عام 2000م، بالإضافة إلى رفض ياسر عرفات قبول مقترحات
السلام التي تجاوزت بنسبة كبيرة أية مقترحات قُدمت في السابق، يُعطي برهاناً
واضحاً لعدم رغبة القيادة الفلسطينية في إنهاء النزاع مع إسرائيل. وفي هذه
الظروف سوف تكون المهمة الرئيسية لإدارة بوش منع تزايد وتيرة أعمال العنف
بحيث تتحول تلك إلى حرب؛ وذلك حتى تراجع العنف؛ بحيث يصبح بالإمكان
عقد شكل من أشكال المفاوضات المؤقتة. خلال هذه الفترة من المهم أيضاً إظهار
الدعم الثابت لإسرائيل بغية إحباط أي تفكير من قبل أعدائها العرب المتشددين بأنهم
قد يتمكنون من الانتصار عليها، مع المحافظة على تواصل فعال مع القادة العرب.
وهذه الإدارة مطمئنة إلى أنها تملك أوراق اللعبة، ومن ثم فأمريكا لن تنفض
يدها أبداً من المنطقة؛ ولكنها تعلم أنها تستطيع أن تحصل على ما تريد دون أن
تدفع شيئاً يذكر، ومن ثم فهي ليست على استعداد لأن تدفع ثمناً أكثر مما هو
ضروري.
ولكن على الرغم من مظاهر التحرك السريع لتغيير البنية السياسية في
المنطقة بالتحالف بين تل أبيب وواشنطن، باستخدام فعال لخيار القوة العسكرية،
فإن الحقائق على الأرض تكشف عن معوقات جدية تقف بوجه هذا السيناريو؛
فمقاومة الشعب الفلسطيني للاجتياح الإسرائيلي على الرغم من قساوتها بسبب
اختلال توازن القوة، فتحت الأبواب الواسعة أمام حائط جديد بدأ أساسه يلوح في
الأفق يصنعه أبطال، وترويه دماء، وتغذيه نفوس بدأت تتحرر من الوهن: تكره
الدنيا وتحب الموت.(175/68)
المسلمون والعالم
القضية الفلسطينية عندما تتحول إلى مسألة مخابراتية أمريكية
أمير سعيد
(أفهم أن تضطلع وزارة الخارجية الأمريكية برعاية مفاوضات السلام بيننا
وبين (الإسرائيليين) ، ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف تسند هذه المهمة لوكالة
الاستخبارات المركزية الأمريكية، وهي جهة توكل إليها (عادة) الأعمال القذرة)
الكاتب اللامع محمد حسنين هيكل في برنامج: (من قلب الأزمة إلى قلب الأمة)
الذي بثته الفضائية المصرية دريم.
وما لم يفهمه هيكل فهمه بوش، وهو أن القوى العظمى وقد انفردت بقيادة
العالم لا يعنيها على الساحة الفلسطينية خصوصاً والعربية عموماً كثير مفاوضات
ولا تعدد حوارات ولا تبادل أفكار، وإن ما يعنيها هو إلقاء أوامر، وتسيير الأجهزة
الأمنية في العالم العربي على هواها، لذا فقد حددت هدفها (من ليس معنا فهو
ضدنا) ، وبنت استراتيجيتها: هي العولمة ذات الصوت الواحد، يمسك القائد
الأوحد (ميكروفونه) فيتكلم بصوت عال فيخرس الجميع.
أمس كان الساسة يتقدمون بمبادراتهم ويتوارى الجواسيس، واليوم تغير الحال؛
فكل فترة يأتينا رئيس الـ A. C. I فيلقي لنا ورقة فيها من أوامره وتعليماته ما
الله به عليم، وعلينا إذن أن نبادر على الفور إلى تنفيذها. لا تبالوا أتضمنت تلك
الورقة أوامر اعتقالات لكل المجاهدين والمناضلين، أم تفتيشات أو نقاط مراقبة
أمنية للوكالة أو الجيش الصهيوني أو الموافقة على تقديم المزيد من التنازلات
كالتفريط في القدس وحق العودة للاجئين؟ . وإلا فسيكون مصيركم - إذا فكرتم
مجرد التفكير في مناقشة تلك الورقة - تماماً مثل هذا العبد الآبق عرفات.
فلأول مرة في التاريخ الحديث ترعى الاستخبارات المفاوضات في الوقت
الذي تشرف فيه على تنفيذ المجازر جنباً إلى جنب ... كيف حدث هذا؟ تعالوا نقر
أولاً أن دون تلك المنزلة في فلسطين، والشرق الأوسط التي ارتقت إليها الـ
A. I. C سعياً حثيثاً ودوراً خبيثاً أنيط بها فنفذته.
* لمحات حول الـ C. I. A في المنطقة العربية ودورها ومحاور اهتماماتها:
منذ فترة طويلة كان للولايات المتحدة الأمريكية اهتمام كبير بالمنطقة العربية،
نظراً لكونها مهد الإسلام، (العدو الرئيسي للولايات المتحدة) ، ولموقعها
الجغرافي المتميز بين قارات العالم، وتحكمها في أبرز وأهم المضايق البحرية في
العالم، ولاستحواذها على النصيب الأوفر من الثروة النفطية في العالم. لذا فقد
عملت الولايات المتحدة منذ خروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية على أن
تضرب بأطنابها في كل دولة عربية، مولية اهتمامها الأكبر نحو الدول العربية
التأثيرية في المنطقة. ومن خلال وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مدت
الولايات المتحدة الأمريكية أرجلها الأخطبوطية في مصر باعتبارها أكبر وأقوى
دولة عربية والتي يعد سكانها نحو ربع العرب تقريباً، وتملك أكبر جيش عربي
ملاصق للدولة الدخيلة (إسرائيل) الحليف الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة في
العالم، ثم تمدد الأخطبوط إلى سوريا ثم إلى لبنان ذي الموقع المتميز والفسيفسائية
الطائفية التي تجعله مركزاً متميزاً للاستخبارات الإقليمية والدولية، ثم إلى الخليج
عموماً كمخزن هائل للنفط في العالم. وأيضاً إلى فلسطين سواء بشقيها المحتل عام
1948م أو 1967م لتقديم التواصل مع طرفي القضية الفلسطينيين واليهود.. والآن
تكاد تكون جميع أرجل الأخطبوط قد امتدت إلى جميع الدول العربية كاليمن
والسودان والجزائر وغيرها.
وتلعب السفارات الأمريكية دوراً هاماً في تسهيل مهام الوكالة؛ حيث كانت
مقار الـ A. I. C هي أماكن السفارات قبل أن تستقل هذه المقرات بشكل علني
في ثلاث أو أربع عواصم لأبرز الدول العربية. وفي هذه السفارات (المقرات)
أو تلك المكاتب يتولى ضابط استخباري رفيع المستوى إدارتها.
وتناط بهذه (الممثلية) الاستخباراتية مهام مراقبة الحكومات وقادة الرأي
وأنشطة المعارضين، ومد الجسور مع الصالح لـ (التعاون) منهم، وإعداد
تقارير دورية عن أوضاع الحركات الإسلامية بأنواعها، وفي دولة كمصر تسعى
الـ A. I. C إلى تتبع تطورات التسليح واتجاهات كبار الضباط بها، والسعي
للتواصل معهم من خلال الدورات العسكرية التدريبية، ومناورات النجم الساطع
وغيرها، وقد بدأ الدور الاستخباري الأمريكي ينشط إبان اشتعال انقلاب عبد
الناصر عام 1952م، وفي سوريا كانت اليد الاستخباراتية الأمريكية الخفية
حاضرة في معظم الانقلابات العسكرية السورية، وتدخلت الـ A. I. C أثناء
النكسة في حمل حافظ الأسد عندما كان وزيراً للدفاع على الاعتراف بسقوط
القنيطرة قبل أن تطأها أقدام اليهود، في إطار صفقة تمنح الوزير صلاحيات أوسع
فيما بعد للأقلية النصيرية. أما في العراق فلا تخفي المعارضة المسلحة وغير
المسلحة في معظم الأحيان صلاتها واتصالاتها بعناصر من الاستخبارات الأمريكية،
وفي بعض دول الخليج العربي تراقب الوكالة نشاط الحركات الإسلامية التي
شبت عن طوق المؤسسات الدينية الرسمية بشكل لافت. أما لبنان فهو وكر
الجواسيس الأمريكيين، وقد أقامت A. I. C شبكة تخابرية كبيرة مدت جسوراً
بين اليهود والموارنة وساهمت في تكوين جيش لحد الجنوبي، وتعمل على مراقبة
تحركات وأنشطة حزب الشيعة اللبناني، والفصائل الفلسطينية في المخيمات
اللبنانية.
وأما في فلسطين وهي موضع اهتمامنا هنا فعلاقة وكالة الاستخبارات
الأمريكية بالكيان الصهيوني وثيقة جداً، وعلاقتها بمنظمة التحرير الفلسطينية قديمة
وربما قدم نشأة المنظمة نفسها.
وإذا كان من الضروري إماطة اللثام عن الدور الاستخباري الذي تقوم به A.
I. C لدعم الكيان الصهيوني الدخيل، والجسور التي مدتها الوكالة الاستخباراتية
الأمريكية مع منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه من اللازم قبل ذلك كشف جانب من
العلاقة الخفية (العلنية أحياناً) التي تربط A. I. C بالموساد.
* علاقة الـ C. I. A بالموساد (الإسرائيلي) :
ليس سراً أن أغلبية المسؤولين الأمريكيين هم إما يهود ديانةً أو يهود ولاءً،
ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ليست بدعاً من هذه المسلَّمة، فهناك عدد
معتبر من قادة ومسؤولي الوكالة هم أيضاً يهود ديانةً وولاءً، أما البقية من هؤلاء
فلا يجدون كبير غضاضة في وضع كثير من أسرار الوكالة تحت تصرف جهاز
التجسس (الإسرائيلي) (موساد) نظراً للعلاقة المتينة التي تربط بين أمريكا
والكيان اليهودي [1] .
إلا أن هذه العلاقة لا تحدها مجرد التصريحات و (الإعجابات) ؛ فعلاقة
الولايات المتحدة بـ (إسرائيل) ليست خافية على أحد، وحسبك أن تسأل طفلاً
عربياً عنها ليصمَّ سمعك بما هو معلوم بالضرورة من السياسة العالمية، أو تسأل
نصف مثقف ليحدثك عن الاعتراف بدولة الكيان الغاصب فور إعلانها، ويحدثك
عن 1948م، 1956م، 1967م، 1973م، 1978م، 1982م، 1991م،
2002م.
وحين يكون الحديث عن الـ A. I. C فحسب من دون بقية الأجهزة
الأمريكية الحاكمة، فلن نعدم حيلة أن نجد العديد من المحطات التي أسدت فيها
الوكالة الاستخبارية المركزية الأمريكية دعماً ملموساً للكيان الصهيوني.
* صور لدعم الـ C. I. A للكيان الصهيوني:
في حرب الأيام الستة (عام 1967م) استفاد الجيش الصهيوني بتزويد الـ
A. I. C له بصور ملتقطة بالأقمار الصناعية التجسسية لمواقع منصات
الصواريخ والقواعد العسكرية والمطارات الحربية، وهو ما حسم المعركة قبل أن
تبدأ.
وفي حرب 1973م: أسهمت المعلومات التي جعلتها الوكالة تحت تصرف
الكيان الصهيوني في ترجيح كفة الجيش اليهودي، وسهل له حصار الجيش
المصري، واختراق قوات شارون للحدود المصرية حتى الكيلو 101 من القاهرة.
وفي اجتياح لبنان 1982م: زودت الـ A. I. C الجيش الصهيوني
بمعلومات دقيقة لقواعد منظمة التحرير الفلسطينية، وأماكن واستعدادات الجيش
اللبناني، وخطط عملاؤها في لبنان: سمير جعجع [2] ، وإيلي حبيقة [3] ، وإيتان
صقر زعيم عصابة حراس الأرز خططوا ونفذوا مذابح صبرا وشاتيلا الرهيبة
بتورط مباشر من رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي آرييل شارون.
وفي عملية ضرب مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس 1986م:
بمساندة مباشرة عن مساعد وزير الخارجية الأمريكية (ساهم هذا الجزار أيضاً في
مذبحة صبرا وشاتيلا) وتدخل من جانب A. I. C، نجحت (إسرائيل) في
اغتيال العشرات من كوادر المنظمة، ولعل أبرز من أسهمت A. I. C في
اغتياله بعد ذلك المناضل أبو جهاد الذي تشابه دوره إلى حد كبير في الانتفاضة
الأولى 1987م مع دور المناضل مروان البرغوثي في الانتفاضة الثانية الذي
اعتقلته (إسرائيل) مؤخراً في رام الله.
في اتفاقية واي بلانتيشن 1998م: جرى الاتفاق بين الجانبين الفلسطيني
و (الإسرائيلي) على أن تُمنح الـ A. I. C دور المراقب على أداء
السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية المتعددة في قمع الحركات المعارضة لعملية
الاستسلام (أبرزها قوى إسلامية) وغير خاف أن الولايات المتحدة الأمريكية قد
خصصت في ميزانيتها مؤخراً مليار دولار للعمل الاستخباري للـ A. I. C
الذي يستهدف الحركات الإسلامية) .
* علاقة الـ C. I. A بالسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير
الفلسطينية:
قدم فرانك أندرسون الرئيس السابق لقسم الشرق الأوسط في الـ A. I. C
شهادته حول علاقة الوكالة بمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال الحوار الذي
أجرته معه صحيفة هآرتس اليسارية الصهيونية في خريف 1998م، وكانت هذه
النقاط هي أبرز ما استخلصناه من هذه المقابلة:
* بدأت العلاقات بين الطرفين قبل نحو 30 عاماً، وأسفر أول تنسيق في
عام 1974م عن اتفاق بإيقاف المنظمة لأي عمل عسكري يستهدف (إسرائيليين)
خارج فلسطين مقابل اعتراف أمريكي بالمنظمة (لم يحدث إلا متأخراً جداً) ، وكان
مسؤول الجانب الأمريكي ضابط الاستخبارات (إيمز) ، ومسؤول الجانب
الفلسطيني علي حسن سلامة [4] .
* في الحرب اللبنانية المعروفة اصطلاحاً باسم الحرب الأهلية التي اندلعت
في ربيع 1974م، دافعت المنظمة عن السفارة الأمريكية وعن مساكن الدبلوماسيين.
* بعد مقتل سلامة تولى الأخوان: هاني، وخالد الحسن فتح قناة مع الـ
A. I. C مجدداً في أواسط الثمانينيات.
عطفاً على ذلك كانت منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية
يضمان دائماً أطيافاً مختلفة من المنتسبين إلى النضال، بعضهم كان مناضلاً فعلاً
بالمعنى الشائع، وإن لم يكن ينطلق من رؤية إسلامية. وللأسف كان هؤلاء دائماً
عرضة للتهميش الداخلي في المنظمة، والوشاية بهم أحياناً من قبل العملاء وما
أكثرهم، وأحياناً يتعرضون للتصفية والاعتقال كما حدث مع أبو جهاد وأبو علي
مصطفى، والبرغوثي وغيرهم. وبعضهم تنتهي حبالهم السرية عند A. I. C أو
الموساد أو على الأقل تحوم الشبهات حولهم كثيراً، ومن أبرز هؤلاء: الرئيس
الفلسطيني ياسر عرفات نفسه: فقد نجا من العديد من محاولات الاغتيال ليس
بحرفة عسكرية وأمنية منه ولا بطولة على ما يبدو؛ ففي أيلول (الأسود) وفي
حصار بيروت، وفي قصف مقر المنظمة في تونس، وفي حصار رام الله الأخير..
في كل هذه المرات تمكن (أعداؤه) منه فلماذا لم يقتلوه؟ يقول أندرسون:
(لست أملك أية معلومات حول خطة (إسرائيلية) لاغتياله) . ويقول
الصحفي الأمريكي ديفيد أغناطيوس (درس جيداً عقد السبعينات في المنطقة) :
(إن أتباع عرفات ساعدوا الأمريكان على منع الهجمات على السفارة الأمريكية في
زائير وروما، وبطلب من إدارة كارتر طبخ عرفات عملية إطلاق سراح 13
رهينة في طهران في العام 79، وكذلك أعاد جثث ثمانية جنود أمريكيين قتلوا وهم
يحاولون تخليص الرهائن، عرفات أحبط أيضاً خطة خطف الملحق العسكري
الأمريكي في بيروت، وكذلك منع هجمات منظمة التحرير الفلسطينية على
الأمريكيين خلال الحرب اللبنانية) لكن أخطر ما قام به عرفات هو الوشاية برفقاء
دربه للجماعات المنشقة عن فتح أو للكيان الصهيوني، وجهوده السوداء لسحق
حركة حماس والجهاد الإسلاميتين مشهورة في أعقاب استشهاد المهندس يحيى
عياش قائد القسام الفذ.
* قائد الأمن الوقائي في الضفة الغربية العقيد جبريل الرجوب: من أهم
وأبرز رجال الـ A. I. C في فلسطين، يقوم بدور محوري في خيانة مسلمي
فلسطين، أحد الجلاوزة الذين لم يستطع أحد في السلطة حتى عرفات تحديد
صلاحياته وقد تلقى هو ومن بعده رجاله تدريبات على أيدي ضباط الاستخبارات
الأمريكية سواء في الولايات المتحدة أو في غيرها على قمع الإسلاميين وحركاتهم
المقاومة، تعده A. I. C رجلها الأول في فلسطين، وتعتبر جهازه - هي
والموساد - الأقدر على تلبية الاحتياجات الأمنية لـ (إسرائيل) ، أصبح يعد الآن
بشكل علني لمرحلة ما بعد عرفات (بعد أن سبه عرفات بأقذع الشتائم وصفعه،
وأشهر في وجهه مسدسه، لكن المسكين عرفات لم يستطع أن يقيله من منصبه رغم
إصداره أمراً بذلك!) ، وتقول مصادر فلسطينية أن الـ A. I. C كانت تمارس
ضغوطاً شديدة لحمل عرفات على تقزيم منافسي الرجوب، وتضيف تلك المصادر
أن الرجوب أضحى يخشى ثأر الانتفاضة أكثر مما تخشاها (إسرائيل) ، إنه يتقن
هو ورجاله فنون التعذيب وانتزاع الاعترافات تحت التهديد، وذلك في مقر قيادة
الأمن الوقائي في بيتونيا (سابقاً) وهو مقر مكون من 7 طوابق منها 3 تحت
الأرض، وزنازين تتسع لـ 100 معتقل (اتسعت لـ 400 شخص سلمهم
الرجوب في صفقة قذرة مع الحكومة " الإسرائيلية " أثناء حصار المقر الذي منع
أثناءه المعتقلين من حماس والجهاد وفتح من مبارحة مكانهم أو الدفاع بالسلاح عن
أنفسهم) .
نذكر أخيراً أن أفراد جهازه يتلقون راتبين وامتيازات خاصة (سيارة
مرسيدس لكل ضابط ومسؤول في الجهاز) بينما القوة 17 والشرطة يكاد أفرادها لا
يتقاضون ما يكفيهم.
* أين الـ C. I. A من التطورات الأخيرة؟
حين بدأت (إسرائيل) اجتياحها الدموي للضفة الغربية، وتنفيذها للمجازر
في جنين ونابلس وغيرهما، وبدا أن الولايات المتحدة الأمريكية تغض الطرف
عنها، بل توجه أحياناً فيها شرع المراقبون يطلقون عيونهم للبحث عن أصابع الـ
A. I. C الخفية في إدارة الصراع أو توجيهه. ولم يخب ظنهم طويلاً؛ فقد أورد
موقع ديبكا الأمني (الإسرائيلي) تقريراً جاء فيه: إن هناك مراقبين أمريكيين
يراقبون عن كثب ما يحدث على أرض المعركة في الأراضي المحتلة من انتشار
قوات المدرعات والمشاة، ومدى سرعة اجتياح مدينة سكنية في زمن قياسي،
وكيفية نشر قوات الاحتياط واستدعائهم خلال ساعات معدودة وتوزيعهم على
وحداتهم؛ كل هذا تراقبه شخصيات أمريكية هامة جداً كي تضع نتائجه في النهاية
على مكتب رئيس الأركان الأمريكي استعداداً لتنفيذه في العراق حيث يقوم الجيش
(الإسرائيلي) حاليا بمناورة مدفوعة الأجر لصالح الجيش الأمريكي. وسوف يلاحظ
المراقبون قريباً أن هدف الجيش (الإسرائيلي) ليس البقاء في المدن التي يقتحمها
ولكن الهدف الأول هو التدريب على الاقتحام والانتشار والقبض على العناصر
المطلوبة، ورسم خط سير المعركة طبقاً للهدف الاستراتيجي الذي يرنو إليه الجيش
وكل هذا ضمن خطة أمريكية لغزو العراق في إطار الحملة ضد ما تسميه بالإرهاب،
تؤكد الشواهد أن كل تعاون عسكري أمريكي (إسرائيلي) هو نتاج تعاون
استخباري، وهو كذلك محل رقابة استخباراتية.
ورشح من مصادر إسلامية أن هناك حالياً في غزة تحركات كثيرة ومشبوهة
لعناصر الاستخبارات المركزية الأمريكية، تمهد فيما يبدو لتحرك مشابه لما جرى
في رام الله، حيث يتوقع أن تهدف حملة كهذه إما إلى قتل أو اعتقال أو حصار كهذا
الذي يضربه الجيش الصهيوني حول مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للشيخ
أحمد ياسين زعيم حركة حماس والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والدكتور محمود
الزهار والشيخ إسماعيل أبو شنب والشيخ إبراهيم المقادمة (وهو أكثر هؤلاء توقعاً
لدى المراقبين بقرب تعرضه للقتل لصلته المفترضة بالجناح العسكري للحركة) .
نفس الشيء قيل عن النشاط الملحوظ الذي رصد لعناصر من وكالة
الاستخبارات حلت مؤخراً في العاصمة اللبنانية بهدف مراقبة تحركات (حزب الله)
الموالي لطهران، وتزامنت تلك التحركات مع زيارة خاطفة لرئيس الديبلوماسية
الإيرانية كمال خرازي أسفرت عن الحد من نشاط حزب الشيعة في قصف مزارع
شبعا الحدودية [5] .
الجبهة الشمالية لفلسطين ما زالت نشطة؛ فحين اخترقت طائرة تجسس
أمريكية المجال الجوي السوري، وظلت في أجواء سوريا لمدة طويلة، ظن
البعض أن الأمر سيقف عند هذا الحد، إلا أن ما شهدته الجبهة الشمالية لفلسطين
من تحركات واسعة لعناصر الاستخبارات الأمريكية ينم عن أحداث عظام ربما
يجري الإعداد لها الآن. ووفقاً للتقرير الأمني ذاته فإن (إسرائيل) تستعد في الأيام
المقبلة لتوجيه ضربة عسكرية ضد سوريا ولبنان وضد القوات العسكرية
والمنظمات التي تزعم أنها منظمات " إرهابية " والتي تمتلك قواعد عسكرية في
لبنان، ويقول التقرير إن الضربة العسكرية سوف تكون موجهة ضد الجيش
السوري في لبنان والذي يضم 20 ألف جندي، كما ستشمل الضربة قوات حزب
الله التي تضم ما بين ثمانية إلى عشرة آلاف مقاتل بالإضافة الى عناصر مجهولة
من أعضاء رجال الثورة الإيرانية المقيمين في لبنان، وكذلك عدد من ضباط
الجيش الإيراني الذين يشغلون مهام إشراف وتدريب لأعضاء حزب الله في لبنان
والذين يبلغ قوامهم ثلاثمائة ضابط إيراني.
وكذلك سوف تهاجم القوات الجوية (الإسرائيلية) - بحسب التقرير - مواقع
المطارات التابعة لتنظيم أحمد جبريل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهي المنظمة
التي تزعم (إسرائيل) أنها تقوم بدور الجاسوس للمخابرات السورية.
كما ستشمل الضربة أهدافاً أخرى في معسكرات اللاجئين الفلسطينيين في
جنوب ووسط لبنان والتي تزعم المخابرات (الإسرائيلية) أن بها عدداً من أعضاء
تنظيم القاعدة وتتبعها في ذلك الاستخبارات الأمريكية التي لا تستبعد أن تقدم قوات
تابعة للبنتاجون على ضرب قواعد مناهضة لها في كل من سوريا ولبنان بعد أن
ضمتها مؤخراً لمحور الشر. وتقول المصادر إن الهدف (الإسرائيلي) هو شل
البنية العسكرية السورية في لبنان وخاصة في منطقة سهل البقاع، وتدمير قواعد
صواريخ الكاتيوشا التابعة لحزب الله في جنوب لبنان، (وتضيف الولايات المتحدة
الأمريكية لهذا الهدف تدمير قواعد تنظيم عصبة الأنصار، وهو التنظيم السني
الوحيد ذو المنهج الجهادي، وملاحقة قائده المتخفي أبي محجن) .
وإلى تقرير ديبكا (الإسرائيلي) هناك تقرير آخر أمريكي سربته A. I. C
قبل ما يزيد على شهرين يتحدث عن تدخل أمريكي محتمل في لبنان بهدف قطع
قناة الدعم اللوجيستي للفلسطينيين، وإزالة أي تهديد شمالي للكيان الصهيوني،
وتصفية الجيوب المناهضة لوجوده، التقرير تحدث باستفاضة، وأجملناه في نقاط
أبرزها:
1 - يتم تنفيذ خطة إنزال وحدات كوماندوز من مظليي القبعات الخضر
والمارينز تضم نحو 500 جندي في سهل البقاع لتكون رأس جسر لإنزال قوات
أكبر حسب الحاجة تهدف إلى تدمير معسكرات مفترضة في دير الغزال ودير
زنون.
2 - تتوقع A. I. C عدم تصدي القوات السورية واللبنانية لعملية الإنزال
على خلفية عجزها عن صدها.
3 - رصدت A. I. C معسكرات تدريب في منطقة العبدة بالشمال اللبناني،
ويتحدث التقرير عن عملية إنزال مشابهة لتلك المحتملة في البقاع.
4 - يعطي التقرير حلاً مفترضاً لمشكلة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في
لبنان بتوطين بعضهم في لبنان، وتهجير الآخرين في أستراليا وكندا تحت وطأة
الغزو الأمريكي.
5 - يكشف التقرير عن اتصالات سرية تجريها الوكالة وجهات نافذة أمريكية
مع العراق تضع فيها مسألة " المساهمة " في حل مشكلة اللاجئين شرطاً من ضمن
شروط تضعها الولايات المتحدة لإبعاد شبح الحرب عنه.
6 - كشف التقرير عن تعاون استخباري ومعلوماتي بين الولايات المتحدة
الأمريكية وسوريا فيما يخص تنظيم القاعدة والتنظيمات الإسلامية في المخيمات
الفلسطينية وحزب الله، وأن ذلك التعاون ورجاء أمريكا فيه قد أخرت لأجل إدراج
سوريا في محور الشر، إلا أن عدم تعاون سوريا الكامل، وتبنيها لحزب الله،
جعل الولايات المتحدة تدرج سوريا لاحقاً في محور الشر لممارسة مزيد من الضغط
على سوريا، ولبنان لتقديم المزيد من التنازلات في هذا الصدد.
7 - حسب الـ A. I. C فإن تعاون سوريا لم يرق إلى تعاون إيران مع
الولايات المتحدة التي اعتقلت 250 من منسوبي تنظيم القاعدة في الأراضي
الأفغانية، وأن واشنطن كانت تأمل في أن تحذو دمشق حذو طهران في مدى
استجابتها للحملة الأمريكية التي تستهدف ملاحقة الإرهابيين في العالم.
8 - يزعم التقرير أن قد بدأ في تصدير تجربته للمقاومة إلى المناطق الشيعية
في أفغانستان، ورصدت A. I. C تنظيماً مسلحاً أفغانياً جديداً يدعى (حزب الله
الأفغاني) تحديداً في مزار الشريف وحيرات وباميان يرنو إلى محاربة الأمريكان
في أفغانستان.
9 - يؤكد التقرير الاستخباري وجود مئات من تنظيم القاعدة في حماية العقيد
منير مقدح (قائد منشق عن فتح ذو لحية كثة وتعاطف نوعي مع الإسلاميين)
وعصبة الأنصار (أشرنا آنفاً إليه) في مخيم عين الحلوة الفلسطيني في لبنان.
ومهما كان الهدف من تسريب هذا التقرير فإن له دلالة مهمة، وهي أن الدولة
الأقوى في العالم قد بدأت تتحرك أو تفكر في التحرك للدفاع عن الكيان الصهيوني
بنفسها غير واثقة بقدرة الكيان وحده بالوقوف في وجه مناوئيه.
وتظل A. I. C تعمل في المنطقة لخدمة مسعى الولايات المتحدة في وضع
كل إمكانياتها المهولة في حماية الصهيونية، وتظل A. I. C تتحرك بكل طاقتها،
وفي هذا الوقت بالذات، تستظل بمكافحتها لـ (محور الشر) بينما هي تمثله
عينه، ويظل يفرض وجودها علينا مزيداً من الإذعان عبر استراتيجيات محكمة
وحروب ومجازر يثبت التاريخ دوماً تورطها في التخطيط لها، وتظل تدافع عن
الكيان الغاصب وتقدم له أبداًَ المساندة والدعم، ويظل أناس منسوبون لهذه الأمة
يفسحون لها الطريق لكي تغمرنا بمؤامراتها الخبيثة. ويظل قدر هذه الأمة أن تحذر،
ولا تغفل عن أعدائها طرفة عين.
__________
(1) ذكرت مجلة السبيل الأردنية أن جون دويتش الرئيس السابق للوكالة انضم بعد تقاعده عن العمل إلى صندوق القدس وهو مؤسسة صهيونية في القدس الشرقية وأوردت مجلة الاستقلال تصريحاً لفرانك أندرسون الرئيس السابق لقسم الشرق الأوسط في الـ A I C، جاء فيه أنه متعاطف كثيراً مع (إسرائيل) ، ونعت الرئيس السابق للموساد أفرايم هاليفي بأنه أحد الأشخاص الرائعين جداً، وقال إنه يكن الود لرئيس الشاباك السابق (جهاز استخباري (إسرائيلي) داخلي (يعقوب بيري) .
(2) قائد القوات المارونية مسجون الآن في أحد سجون لبنان.
(3) مساعد بشير الجميل الرئيس السابق للبنان قتل مؤخراً في عملية اغتيال غامضة.
(4) رئيس مكتب الـ 17 الذي أصبح لاحقاً القوة 17 وهو شخصية مثيرة للجدل قيل إنه دافع عن عرفات ضد القوات الأردنية خلال أيلول 1970م المعروف اصطلاحاً باسم (أيلول الأسود) في الوقت الذي كانوا يطلقون عليه النار حين انفض الحراس عنه إلا هذا الشاب الذي قيل إنه كان مسؤولاً عن عملية ميونخ التي قتل فيها إسرائيليون، وقيل على لسان أندرسون إن الوكالة كافأته برحلة شهر عسل مع زوجته إلى جزر هاواي، قتل على يد الموساد فيما يعتقد ويقال إنه كان أمريكياً تقريباً) .
(5) قال مرجع نيابي لبناني بارز في أوائل شهر إبريل إن الحزب يُعد الآن حائلاً بين الجماعات الفلسطينية المجاهدة في مخيمات اللاجئين التي تعيش حالاً من الاحتقان، وبين قوات العدو (الإسرائيلي) .(175/77)
المسلمون والعالم
معذرة فلسطين أنه زمن الهوان
حسن قطامش
(نحن لا نريد أن تدافعوا عنا، فلا ترسلوا جيوشكم إلينا، ولا تبعثوا لنا
بالسلاح، ولا نريد صدقاتكم وأموالكم.. فقط أرسلوا لنا حبوب منع الحمل حتى لا
ينبت في أحشائنا أبناء الصرب! !) .
كانت هذه الكلمات المريرة لامرأة بوسنية مزجتها بطعم الألم والحسرة والخيبة
التي ارتوت منها العروق، والتي كانت شاهداً على أعلى صور الخزي والهوان
الذي ضربنا في ذلك الوقت، والتي حسبنا وقتها أن الأمة لن تمر بتلك الصورة من
التخاذل المخزي مرة أخرى.
وظننا أن بُعد الشُّقة بيننا وبين البوسنة، وقطيعة الرحم الإسلامية معها أدت
إلى جزء من ذلك التخاذل؛ فما الذي كانت تعرفه الأمة عن البوسنة قبل حروبها،
وما هي صور التواصل التي كانت بيننا وبينها؟ لا شيء.
واليوم نخشى أن تخرج علينا امرأة أخرى بالنداء المرير الأليم نفسه؛ ولكن..
ليس من البوسنة هذه المرة وإنما نخشى أن تصلنا تلك الرسالة من فلسطين..
من بغداد.. من عمان.. من القاهرة.. من دمشق، من أي بلد عربي أو إسلامي
ليس بعيداً عنا، لنا معه روابط ووشائج، نحفظ تاريخه، نعرف حتى أسماء أزقته
ودوربه.
وما يمنع من ذلك؟ فها هي فلسطين قد رأينا فيها المقابر الجماعية التي كنا
نسمع عنها في البلاد البعيدة في البوسنة، في كوسوفا، في جزر الملوك!
وما يمنع من ذلك وها هي فلسطين قد رأينا فيها الدمار والخراب الهائل الذي
رأيناه في كابول، في جروزني، في كشمير؟
ما يمنع من ذلك والرسائل الموجعة كتلك الرسالة البوسنية تأتينا كل يوم،
وهاهو مناديهم ينادي:
أعيرونا مدافعكم ليوم.. لا مدامعكم. ...
أعيرونا وظلوا في مواقعكم. ...
ألسنا إخوة في الدين قد كنا.. وما زلنا. ...
فهل هنتم وهل هُنَّا؟ ! ...
أيعجبكم إذا ضعنا. ...
أيسعدكم إذا جعنا. ...
وما معنى قلوبكم معنا؟ ...
رأينا الدمع لا يشفي لنا صدراً. ...
ولا يبري لنا جرحاً. ...
أعيرونا رصاصاً يخرق الأجساد. ...
لا نحتاج لا رزاً ولا قمحاً. ...
أعيرونا وخلوا الشجب واستحيوا. ...
سئمنا الشجب والردحا [1] . ...
هُنّا وما هُنتم:
في فلسطين اليوم المدينة تلو المدينة تنتظر دورها في الذبح، وأمتنا تقف
موقف المشاهد، ورغم وضوح الصورة وقوة الصوت وبشاعة المشهد، ورغم أن
العيون لم يصبها العمى بعد، والآذان ما زالت تسمع، فإن الاستجابة مخزية،
وكأن القوم يرون مشهداً سينمائياً مؤلماً، أو يسمعون أغنية عاطفية مؤثرة كالتي
أشربوها من قنواتهم ومذاييعهم.
ماذا نقول لربنا - عز وجل - عن خذلاننا لإخوتنا في الدين وقد استنصرونا
وهو القائل - عز وجل -: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ]
(الأنفال: 72) ؟ !
ماذا نقول لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (المسلم أخو المسلم
لا يظلمه ولا يخذله) [2] ، وهو القائل: (ما من امرئ يخذل أمرأً مسلماً في
موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله) [3] ؟ !
ماذا نقول وهم ليسوا بعيداً عنا فنعتذر بطول السفر؟ ! ماذا نقول وقد ذبحوا
في فصل الربيع فنعتذر عن عدم النفرة لشدة الحر؟ ! ماذا نقول وليس بيننا وبينهم
إلا.. أسلاك شائكة؟ !
ماذا فعلنا لتلك الدموع المنهمرة التي تستغيث بنا ليلاً ونهاراً، فما زادنا ذلك
إلا فراراً.. فمعذرة فلسطين.. قد فُجِعْتِ بنا ولم نُفْجَع بك، عندنا صَمَتَ كل شيء،
وعندكم حركتم الأرواح تبذلونها رخيصة في سبيل الله، نحن الذين متنا جبناً في
جلودنا، وأنتم الذين تصنعون الحياة بموتكم، فمعذرة فلسطين.
معذرة أيتها النائحة الثكلى على والد أو زوج أو أخ أو ولد؛ فما عادت نخوتنا
كما كانت، وما عادت شهامتنا كما كانت، وما عاد الشرف الرفيع الذي لم يسلم من
الأذى تراق على جوانبه حتى قطرة من دمع! !
ومعذرة بني! أيها الصغير حين لم تجد فينا رجالاً يضمونك إليهم، يهدئون
روعك، يؤمِّنون خوفك، يشبعون جوعك، أو حتى يمسحون دمعك! !
ومعذرة أخي المجاهد! خذلناك وما خلفناك في أهلك ومالك بخير، خذلناك
وما أمددناك ولا نصرناك، ولا حتى واسيناك! !
أما (آيات) وصويحباتها.. فألف معذرة ومعذرة، وألف أسف على أمة
يدافع عنها نساؤها، يحمي أعراضها نساؤها، تجود بأرواحها نساؤها، حماية
للقاعدين، حماية للمتثاقلين إلى الأرض، حماية للمخلفين، فمعذرة فلسطين! !
ولك شيخنا [*] أن تقول بملء فيك: وافضيحتاه كما أطلقتها مدوية؛ فقد
صدقت حين قلت: (هل تعلمين يا أمة المليار ونصف المليار أن أهلنا في فلسطين
قد تردت أوضاعهم، وكثر عدد شهدائهم إلى درجة أن ثلاجات الموتى ما عادت
تتسع للمئات من شهدائنا؟ هل تعلمين يا أمة المليار! أن غاية أهلنا في فلسطين أن
يجدوا ثلاجات موتى إضافية لحفظ الشهداء؟ وها هم بدؤوا يستغيثون كل ضمير
حي وميت، وكل قلب يقظ ونائم أن يغيثهم.. لا بالطعام والشراب والدواء بل
بتوفير ثلاجات موتى كي يحفظوا الشهداء. هل تعلمين يا أمة المليار أن غاية أهلنا
في فلسطين أن يتمكنوا من دفن المئات من الشهداء الذين تمزقت أجسادهم،
وتقطعت أطرافهم، وانتشروا في الطرقات وتحت أنقاض البيوت، وإلى الآن لا
يستطيعون دفنهم؟ ألا يحق لي أن أقول صارخاً: وا فضيحتاه! !
هل تعلمين يا أمة المليار ونصف المليار أن قوات الاحتلال عندما طردت
أهلنا من بيوتهم في مخيم جنين قد أجبرت الرجال على أن يخرجوا حفاة عراة كما
ولدتهم أمهاتهم؟ تصوري يا أمة المليار ونصف المليار شعور الأب وهو يمشي
عارياً على مرأى من زوجته وأبنائه وبناته؟ ! طبعاً لقد سمعتِ عن ذلك وعلمتِ
بذلك يا أمة المليار ونصف المليار! لا بل أقول صراحة: إن كنت سمعت وعلمت
به فوافضيحتاه! ! وإن لم تسمعي ولم تعلمي به فوافضيحتاه وافضيحتاه
وافضيحتاه! !
نداءاتٌ كثيرة سمعناها، أهوال كثيرة رأيناها؛ فما الذي تحرك فينا؟ تحركنا
في تظاهرات صوتية، وارتدينا (الكوفية) الفلسطينية، ومن حرك منا يده، فبالقلم
أو بالهتافات والشعارات المنبرية، أو بالدعوة للإضراب عن الطعام تضامناً مع
القضية الفلسطينية، وفي هذه الأحوال النكدة نؤمِّن على دعاء من دعا بعودة هتلر
ليذهب باليهود إلى المحرقة مرة أخرى! !
بين التسول السياسي والاستنكار الدبلوماسي:
وإن تردت حال عامة الأمة إلى تلك الدركات السحيقة من الهوان؛ فإن الحالة
السياسية أشد بؤساً وأنكد حالاً وأضل سبيلاً، وحسبنا أن نقف مع حالتنا السياسية
في عدد من الأسئلة:
1 - إن كانت الدندنة والشنشنة القديمة من أن فلسطين هي قضيتنا الأولى ما
زالت تتردد في جوانب المؤتمرات الصحفية والبيانات الرسمية؛ فلماذا لا يريد أحد
أن يقدم لها أي تضحية عملية أو يتحمل جزءاً من المسؤولية تجاه ما يجري في
(أولى القبلتين وثالث المسجدين) ؟ أم أن هذه القضية لم تجد لها لدينا أولوية؟
2 - في كل يوم نسمع التأكيدات العربية على أن العدو الصهيوني لا يريد
السلام، وأنهم قوم متعنتون، وأن مستقبل السلام مظلم مظلم مظلم، وأن ما تقوم به
دولة الكيان الصهيوني إجرام يفوق التصور، وبربرية عصرية، وأن خيار السلام
ما زال بعيداً، إن كنا نسمع هذا الكلام (الواقعي) فلماذا الإصرار على السير في
هذا الطريق (المظلم) ؟ ! لماذا الإصرار على أنه لا مجال للحرب في أجندتنا
السياسية وأننا أمة السلام، ويدنا ممدودة بالسلام رغم كل ما يحدث؟ !
3 - لماذا الإصرار كذلك على توحيد المرجعية في حل القضية الفلسطينية
وقصرها على الحلول الأمريكية، رغم ما نسمعه عن القناعة بأن الولايات المتحدة
هي الداعم الرئيس والمساعد الرئيس والساكت الرئيس والفاعل الرئيس في كل ما
تقوم به الدولة الصهيونية، لماذا الإصرار على جعل الذئب راعياً للغنم؟ !
4 - لماذا هذا الضعف الشديد أمام دولة الكيان الصهيوني على الرغم من أن
بقاءها في أسوأ أحوال المقاومة متوقف على الاعتراف السياسي العربي بها؛ فعدم
اعترافكم بها دون إطلاق رصاصة واحدة يفقدها شرعية البقاء.
5 - ثم لماذا هذا الخوف الشديد من حرب دولة الكيان، وما هذه الفطنة
والحنكة التي تدفعنا إلى عدم الانجرار وراء شَرَك شارون في إيقاعنا في الحرب ...
لماذا نخاف الحرب.. أمن العدد نخاف أم بالعدة نكترث؟
فإن كان عدد القوات العربية فقط يبلغ (830 , 344 , 2) جندياً في حين
يصل تعداد الجيش الإسرائيلي إلى (500 , 172) جندي! ! وفي حين يمتلك
جيش إسرائيل (446) طائرة يمتلك العرب (3362) طائرة حربية مقاتلة،
ويبلغ عدد المصفحات لدى العرب (30197) مصفحة، ولدى إسرائيل
(3600) مصفحة، والدبابات لدى العرب (16919) دبابة، ولدى إسرائيل
(3800) دبابة، والمروحيات - الهيلوكوبتر - لدى العرب (653) طائرة،
ولدى إسرائيل (133) طائرة، أما المدافع العربية فتبلغ (12452) مدفعاً،
ولدى إسرائيل (1537) [4] .
فلا العدد ولا العدة هي التي تمنعنا من حرب دولة اليهود، ولا نرى أن هناك
سبباً لصمت كل هذه الأسلحة التي صدئ بعضها والبعض الآخر في الطريق إلى
ذلك إلا ضعفنا وهواننا وذلنا وجبننا.
6 - وماذا نحن فاعلون بحكمتنا هذه ويقظتنا العالية إن قامت تلك الدولة
بالاعتداء علينا من تلقاء نفسها ودون أن نستفزها، فهل سنكون وقتها مستعدين لصد
العدوان، أم أن أسلحتنا ستُدمَّر في مرابضها كما فُعل بها سابقاً؟
7 - إن كانت لدينا القدرة على إخراج مظاهرات مليونية، يتصدر بعضها
الرئيس أو نائب الرئيس أو رئيس الوزراء، وبعض الوزراء، وهي مظاهرات بلا
شك سلمية كما هو خيارنا الاستراتيجي، أَوَ ليس لدينا القدرة على إخراج عشرة
آلاف جندي يقاتل ويحمي المسلمين في فلسطين؟
8 - نتساءل عن هذه البزّات العسكرية والنياشين والأوسمة اللامعة..
أميدانها العروض العسكرية والمقابلات التليفزيونية أم ميادين القتال، وساحات
الوغى؟
9 - إن لم تكن لدينا القدرة على حرب الصهاينة المعتدين، ولا الحرب
خيارنا ولا طريقنا؛ فهل خيارنا هو الاستئساد على المتظاهرين المساكين الذين
خرجوا ينفثون بعض غيظ قلوبهم بصيحات وهتافات، وضربهم وقتلهم؟ ! وماذا
يعني إلغاء المظاهرات الشعبية حقناً للدماء! ! دماء من؟
10 - ماذا يعني أن نقوم بحماية سفارة دولة الكيان الصهيوني في إحدى
العواصم العربية بعشرين ألف جندي [5] ، وماذا يعني تكثيف الحراسة على المعابد
اليهودية، هذا فضلاً عن حماية الحدود.. اليهودية؟
11 - ما هذا الخداع؟ وما هذه المراوغة في عدم استخدامنا لأضعف الأسلحة
في مواجهة دولة الكيان اليهودي؟ ماذا يعني أن يكون عدم قطع العلاقات
الدبلوماسية هو خدمة للقضية الفلسطينية؟ ! ماذا يعني أن يكون عدم إغلاق
السفارات اليهودية في بعض بلادنا هو كذلك لمصلحة القضية الفلسطينية؟ ! ماذا
يعني أن يكون إلغاء المظاهرات الشعبية هو خدمة للقضية الفلسطينية؟ ! ماذا يعني
أن يكون عدم قطع الإمدادات النفطية هو أيضاً لخدمة القضية الفلسطينية؟ !
12 - ألم نسمع عن أن الحكومة الهولندية قد استقالت بكاملها؛ لأن أحد
التقارير أثبت أن بعض جنودها لم يقوموا بواجب الدفاع عن مدينة سربرنيتسا عندما
كانت ملاذاً آمناً.. ألم نشعر حتى بوخز الضمير لتقصيرنا وخذلاننا ليس
لسربرنيتسا.. ولكن لفلسطين؟ !
13 - ألم نسمع أن حكومة دولة تسمى (النيجر) في قارة اسمها (إفريقيا)
قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب أحداث فلسطين؟
14 - لماذا لم يبق لدينا إلا (الاستنكار الدبلوماسي) وأظنه بعد إنكار القلب،
وإن كنا قد صبرنا على تحويل (الجهاد) إلى (الجهادية) ثم إلى (وزارة
الحربية) ، ثم إلى (وزارة الدفاع) ؛ فهل نقبل كذلك بأن تكون الدول التي
لديها كل مقومات التغيير لا تنكر إلا بما هو بعد أضعف الإيمان؟
15 - لماذا تحول الخطاب الاستئسادي الشاجب والدائن والنادب والنائح على
أفعال يهود إلى مجرد تقديم (اقتراح) بإدانة إسرائيل؟
16 - وأخيراً لماذا حالتنا السياسية كانت السبب الأهم في تحول أمتنا من
(أمة الخيرية) إلى (أمة الظاهرة الصوتية) ثم إلى (الحالة الغثائية) ؟ ! فشعوبنا
ما زال فيها من به حياة، وفيها من ألجمه خوف الساسة والسياسة، وإن الله يزع
بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.. إن علينا أيها السادة! أن نقوم بعملية (استنجاء
سياسي) يطهرنا مما أصابنا! !
إننا نخشى أن يتحول حرص كل دولة على حدودها إلى أن يُستفرد بها وتؤكل
وحيدة وتستصرخ البقية ولا مجيب، وتتحول الأرض العربية والإسلامية إلى
أندلس أخرى، ويومها لن نستغرب أن تأتي نساؤنا يقلن لنا: ابكوا كالنساء أرضاً
لم تحافظوا عليها كالرجال.
الجهاد باق:
فلسطين هي الدولة الوحيدة التي لم يجرؤ العرب حتى الآن على أن يطلقوا
على الحركة الجهادية فيها صراحة لفظ الإرهاب، وإن أسموها كثيراً مقاومة، وإن
ألمحوا إلى ذلك بعض مرات.
وما أعز وما أفرح الناس إلا تلك العمليات الاستشهادية التي أوجعت العدو
اليهودي كثيراً؛ ففي الوقت الذي صمتت فيه كل الأسلحة، عسكرية أو اقتصادية أو
سياسية، نطقت أحجار فلسطين، نطقت أرواح الشهداء في فلسطين لتسمع العالم
كله أن أمتنا لن تموت موت الخراف، ولن تذل ولن تخنع، ولن تساوم، وستقاوم
كل الجهود التي تعمل على إيجاد موطئ قدم لدولة يهودية في أرض الإسراء.
في فلسطين لن تحل القضية المحورية في مجلس الأمن ولا في الأمم المتحدة،
ولا في البيت الأبيض ولا بالدبلوماسية العرجاء، ولا بالتسول السياسي، قضيتنا
حسمها الله - عز وجل - فقال: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ] (التوبة: 14) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب
البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا
إلى دينكم) [6] ، وكما قال خير البشر صلى الله عليه وسلم: (.. ولينزعن الله من
صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله!
وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) [7] .
هذا كلام رب العالمين وكلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، أنجيبه؟ !
وننقاد له؟ ! ونعمل به؟ ! أم نتركه لقول الأمريكيين بأن جهادنا في فلسطين
إرهاب ما بعده إرهاب؟
انتفضْ أو مُتْ إذا شئتَ شُهيداً ... فحديد الموت قد فلَّ الحديدا
فجِّر الأرض ودعها شعلةًً ... قطِّع الباغي وريداً فوريدا
دُسْ على هامات أذيال الخنا ... بائعي الزور ولا تبقِ يهودا
سمِّها إن شئت عنفاً أو فداء ... أو قصاصاً أو دفاعاً أو صمودا
أيها المسلم أطلق صرخةً ... تضع الحاملُ بالهول الوليدا
يا شهيد الحق أيقظ أمتي ... فالإذاعات غناء ونشيدا
خُذْ دمي حبراً وجلدي دفترا ... واكتبه فيه خلوداً يا شهيدا [8]
__________
(1) د / عبد الغني التميمي، مجلة البيان، العدد 173.
(2) أخرجه مسلم، رقم 4650.
(3) رواه أبو داود، ح/ 4240.
(*) الشيخ رائد صلاح، رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين.
(4) مجلة الأهرام العربي، العدد، 231.
(5) راجع صحيفة السبيل الأردنية، العدد، 431.
(6) أخرجه أبو داود، رقم 3003.
(7) أخرجه أبو داود، رقم 4297.
(8) من قصيدة للشيخ عائض القرني، مجلة الدعوة، العدد: 1838.(175/82)
المسلمون والعالم
صور من المعاناة لم تلتقطها عدسات المصورين
عبد الملك محمود
هذا هو تاريخ اليهود طوال التاريخ: مكر وكيد ودسائس وخبث وجرائم..
قتل وتشريد وانحراف.. سرقة وربا وحقد.. ولقد أخبرنا الله - تعالى - عنهم،
فبين لنا خبث معتقدهم وتطاولهم على الله - سبحانه - إذ قالوا: [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] (آل عمران: 181) ، وبين سلوكهم وتكذيبهم للأنبياء، فكانوا
أشد الناس عتواً وطغياناً وقتلوا الأنبياء، وحاولوا قتل بعضهم، ومنها محاولة قتل
نبي الله عيسى - عليه السلام -، وكم عانى منهم موسى - عليه السلام - أشد
المعاناة.
أما حالهم مع هذه الأمة، فالسيرة شاهدة بجرائمهم ومواقفهم من العداوة؛ فهم
يحاولون قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ويشنون حرباً ماكرة، ويكيدون
بالمسلمين، ويتحالفون مع الأعداء، وينقضون العهود في أحلك الظروف؛ فحالهم
معنا كما أخبر الله - تعالى - عنهم وهو أعلم بهم: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ
آمَنُوا اليَهُودَ] (المائدة: 82) يناصبونهم العداء والبغضاء على مر التاريخ.
إن جرائم اليهود كبيرة وكثيرة جداً ... فهي ليست بالمئات أو الآلاف فقط؛
فتكاد ألاَّ تسلم عائلة في فلسطين من شرورهم الآن. وربما تناقلت وسائل الإعلام
في العالم كله كثيراً من صور الجرائم البشعة التي تمت على أيديهم في القديم
والحديث، ولكن مع هذا فما ينشر عن معاناة أهلنا في فلسطين هو أقل القليل.
ونحن سنشير هنا إلى بعض الألوان من المعاناة، مع الحرص على ذكر روايات
شهود العيان، وليس المخبر كالمعاين.
بادئ القول نود التأكيد على حقيقة واضحة وهي أن اليهود قد منعوا الصحفيين
ووسائل الإعلام من الوصول إلى عامة المناطق، وحرصوا على إبعادهم منذ البداية؛
ولذلك فقد قتل بعض الصحافيين والمصورين خلال الانتفاضة، ومن هنا لم يكن
يستطيع أي مصور أو أية وكالة إعلامية القيام بالتسجيل أو التغطية الإعلامية لما
يدور ويجري بدقة، ولعل أحداث جنين تؤكد مدى الحرص على ممارسة الجرائم
وإخفائها؛ مما أثار ريبة الدوائر العالمية كافة؛ ولذلك فإن لجان التحقيق لن تستطيع
الوصول إلى ما تريد ولو كان فيها محايدون.
واليهود قوم بهت يكذبون على أنفسهم وعلى العالم كله.. يخفون الحقائق،
ويساعدهم في ذلك بعض وسائل الإعلام في العالم النصراني التي تمارس التضليل،
لقد كتب في ذلك كتب وبحوث ودراسات، وعرف هذه الحقيقة كل الشعوب؛
ولذا فقد سلط الله عليهم سوء العذاب والخسف.. ومن شاء معرفة أخلاق اليهود
وسلوكهم وحقيقتهم فليرجع إلى الكتب التي تتحدث عن ذلك وهي كثيرة.
نحن هنا سنذكر صوراً من قلب الأحداث من داخل فلسطين بروايات شهود
عيان، وهي قليل من كثير، ولربما لو تكلم بها خطيب مصقع لألهب الحماسة
وحرك المنابر، أو لو حملها شاعر لأبكى العيون على وقع القوافي. لكننا لم نؤت
من البيان فصاحة فآثرنا ذكرها على سجيتها هكذا بدون (رتوش) ولا تجميل، أو
لعل القريحة أبت وتمنعت؛ لأنها القصص الدامية والعذابات التي لا تحتاج
للمحسنات البديعة ولا لجميل البيان.
وإنما المقصد من ذكر هذه الحوادث باختصار:
- بيان ما قرره كتاب الله - تعالى - من إجرام اليهود وعداوتهم، وهو من
باب بيان سبيل المجرمين وطرائقهم.
- تنبيه لمن لم يصح بعد ويظن أن هناك مجالاً للسلام معهم.
- حجم المعاناة التي يعيشها أهل فلسطين، لعلها تكون دافعاً للمساعدة والبحث
عن الحلول.
- المساهمة في فضح اليهود وكشفهم عالمياً.
- حث المسلمين على نصرة إخوانهم المجاهدين، والمساهمة في الجهاد ضد
اليهود، وتوصيف الحال يساعد على الاستنباط الفقهي للأعمال المطلوبة (لتحقيق
المناط وتنقيحه) .
إن الجرائم التي يمارسها اليهود لا تمثل شخصية شارون فقط أو حكومته فقط،
بل سياسة اليهود كلهم؛ فمن الذي دعمه في الانتخابات وأوصله إلى سدة الحكم إلا
الأغلبية؟ وقد صعدت شعبية شارون إلى أعلى نسبة يصلها رئيس وزراء يهودي؛
حيث وصلت نسبة من يؤيدون سياسته الإجرامية في القمع والاغتيالات إلى أكثر
من 72% كما بينت استطلاعات الرأي، وهي صفعة قوية لمن يحلم بسراب السلام
والتطبيع مع اليهود [1] .
* الحواجز العسكرية:
لقد تحولت الضفة الغربية وقطاع غزة إلى سجن كبير، وقسمتا إلى نحو مئتي
منطقة مغلقة ومعزولة بعضها عن بعض، وأقيمت الحواجز العسكرية التعسفية،
ومن يريد الذهاب من منطقته إلى منطقة مجاورة على بعد 100 م فربما يضطر إلى
سلوك طرق التفافية تستغرق منه ساعتين. وكم من امرأة حامل وضعت جنينها عند
الحواجز التي أقامها أبناء القردة والخنازير وهم ينظرون إليها، ويتلذذون بمعاناتها
مع أن المستشفى لا يبعد عن الحاجز إلا بضع مئات من الأمتار. وكم من طفل
مات بعد ولادته دون أن يجد من يسعفه أو دون أن يأذن له الجنود الصهاينة
بالمرور إلى المستشفى. وكم من مريض بالسرطان أو الفشل الكلوي وغيرهما من
الأمراض الخطيرة مات عند هذا الحاجز أو ذاك، وكم من سيارة إسعاف حيل بينها،
وبين المرضى في قراهم النائية!
وقد كثرت القصص التي تتحدث عن منع القوات اليهودية لسيارات الإسعاف
من نقل المرضى والمصابين إلى المستشفيات أو المراكز الصحية.
إحدى النساء لم تتمكن من الذهاب إلى أي مركز صحي، فأجاءها المخاض
في السيارة التي هي فيها عند الحاجز العسكري، ورزقها الله - تعالى - بمولودة
أسمتها حاجز.
أحد المرضى المسنين يعاني من فشل كلوي، ومن المفترض أن تتم عملية
غسل الكلى له مرتين أسبوعياً، لقد كانت رحلة ذهابه إلى المستشفى نوعاً من
العذاب والمعاناة له ولذويه، حيث ينقل بسيارة الإسعاف إلى نقطة معينة هي آخر
ما يمكن أن تصل إليه سيارة الإسعاف، بعدها يحمل على نقالة ويتعاقب على حمله
أقاربه وجيرانه مشياً على الأقدام، ثم يصعدون به تلاً غير ممهد حتى يصلوا به
إلى المستشفى. وبعد إتمام عملية غسيل الكلى تبدأ رحلة المعاناة من جديد، ليمضي
عدة ساعات في اليوم وهو على هذه الحال.. بين الألم والأنين، في انتظار الرحلة
القادمة بعد يومين.
* التفتيش.. نوع آخر من التعذيب:
يقوم المجرمون بنصب الحواجز على الطرقات والمعابر، وهي كثيرة جداً،
وفي بدء الانتفاضة كان اليهود ينتظرون مرور أي سيارة محملة بالحجارة الكبيرة أو
الرمل أو الحصى فيطلبون من السائق إفراغ الحمولة في الشارع لإغلاقه؛ فإن
رفض أخذوا مفاتيح السيارة وأفرغوا الإطارات من الهواء وطردوا السائق.
غالباً ما يجبر الشباب على خلع ملابسهم عند الحواجز، وأحياناً يطلب منهم
نزع ملابسهم كما ولدتهم أمهاتهم، ويفتشون بدقة ويسلبون ما معهم من نقود ثم
يطردون عراة. ذكر شهود عيان أنه في إحدى المرات هرب مجموعة من الشباب
بسيارتهم، فما كان من يهود إلا أن أطلقوا النار عليهم، فأصيب من في السيارة
كلهم وعددهم ستة بجروح متنوعة بعضها بليغ.
* مداهمات البيوت:
- لم يعد لجنود العدو اليهودي مزيد من الوقت ينتظرونه لفتح الباب خلال
مداهمة المنازل، فلذلك يقومون بنسف الباب عند وصول المنزل فوراً بأحدث
الوسائل المتوفرة، وربما كان البيت المفتوح الباب أفضل حالاً من المغلق.
- عند مداهمة كثير من البيوت يقوم اليهود بجمع أصحاب البيت كلهم في
غرفة واحدة، أو يخرجونهم خارج البيت بعدما يعصبون أعينهم. ويعيثون في
البيت فساداً وتكسيراً وتخريباً وتفتيشاً، ويأخذون ما يجدونه في البيت من نقود
وذهب ومستندات وأجهزة حاسب (كمبيوتر) وغير ذلك، وبعد خروجهم يصبح
البيت كأنه كومة كبيرة من القمامة.
* ثم.. هدم البيوت:
- كل شاب - أو فتاة - يقوم بعملية استشهادية فإن بيته سيهدم ويدمر، وقد
قام اليهود المجرمون بهدم بعض المنازل الأخرى مباشرة؛ لأنها بيوت أهالي
أشخاص مطلوبين أو مطاردين، وربما لأن أحد أفراد العائلة ممن لهم سوابق أمنية،
ويتم كل ذلك بعد إهانة أصحاب البيت بمن فيهم الأطفال، وربما أوذي بعضهم.
- وقف إطلاق النار الهش لا يعني شيئاً بالنسبة للفلسطيني؛ فالمواطن
الفلسطيني فرج حرباوي من القدس الذي أصبح بدون مأوى بعد أن أرسلت بلدية
القدس جرافات في حراسة كتيبة من الشرطة إلى حي وادي قدوم الفقير بالقدس
الشرقية في الشهر الماضي وهدمت بيته. قال حرباوي - بينما أطفال يلعبون على
كومة كبيرة من الركام خلفه -: طلبنا ترخيصاً لبناء بيتين من طابق واحد ورفضوا
الطلب. تجادلنا معهم ودفعنا الغرامة وفجأة جاءت الجرافات وهدمت البيتين.
وأضاف منتقداً الضرائب التي يدفعها الفلسطينيون التي لا تنفق على الخدمات
الخاصة بهم: (لا يوجد نظام. لا يريدوننا أن نعيش هنا) . ومثل هذه القصص
في القدس وغيرها كثير.
* وتدمير للحرث والنسل:
- في إطار خطتهم لتدمير البنية التحيتة، وحرق مصادر الرزق، يقوم
اليهود باصطحاب عدد كبير من الجرافات لتجريف وتدمير الأراضي الزراعية،
فالبلدوزرات تحرث الشوارع المسفلتة، وتجرف المزارع وتهدم البيوت، ومن
الطبيعي أن تجرف مزارع الخضروات البسيطة للمزارعين، وأثناء كتابتي هذا
المقال، حدثني أحد الإخوة من إحدى القرى التي دخلها اليهود وأخبرني بما فعلوه
بقريتهم، حيث دمروا ثلث أراضيها الزراعية تقريباً والتي تبلغ نحو 3000 دونم.
ولم ينس اليهود الخبثاء قطع أسلاك الهاتف والكهرباء من بعض المناطق، فضلاً
عن نسف أبواب عامة المحلات - وقد نشرت صور كثير منها في وسائل الإعلام
- وربما أطلقوا زخات من الرصاص داخل الدكاكين الصغيرة تلك لإفساد ما فيها إن
كان ثمة شيء بقي فيها.
- تدمير السيارات: قام اليهود بتدمير عدد كبير من السيارات الخصوصية
والعمومية، وما من شارع تمر فيه الدبابات إلا وتدوس فيه على السيارات الموجودة
كما تداس علبة المرطبات الفارغة مما لا أمل في إصلاحها.
وقد شاهد الكثيرون في وسائل الإعلام صور عشرات السيارات التي دمرها
اليهود بالكامل.
* السرقة:
- يقوم اليهود بمصادرة الذهب والمال من المنازل عند تفتيشها، ومن أكثر ما
يسألون الناس عنه: هل عندكم ذهب؟ أخرجوه فوراً وسلموه لنا، ويتم هذا تحت
تهديد السلاح، والأطفال يتفرجون ويرون هذا الرعب.
- ذكر بعض شهود العيان أن اليهود يمسكون بالمارة وهم عائدون إلى بيوتهم
ويسلبون ما معهم من نقود، قائلين لهم: اذهبوا واشتكوا إلى مجلس الأمن.
- قام اليهود بالسطو على البنوك والجمعيات الخيرية ولجان الزكاة، كما ذكر
شهود عيان في (قرية يطا) مثلاً أن الجنود اليهود داهموا مقار الجمعيات واللجان،
وبعد سرقة كل ما فيها خربوا أجهزة الحاسب الآلي. وقد أكد هذا الأمر بعض
المسؤولين الفلسطينيين الكبار أن الجيش الإسرائيلي يقوم خلال حملته الشاملة في
رام الله بأعمال (سرقة واقتحام محلات تجارية ومصرفية وأخذ جزء كبير من
الحاجيات الثمينة فيها) . وأكد هذا المسؤول أن (القوات الإسرائيلية الغازية قامت
خلال عمليات الاقتحام للمنازل والمحال التجارية في رام الله بسرقة أموال وحاجيات
ثمينة وأجهزة كهربائية) . وأشار إلى أن (عشرات المواطنين وأصحاب المحال
التجارية والمصارف قاموا بإبلاغ الجهات المعنية والمسؤولة عن هذه السرقات
والعمليات العدوانية الإجرامية، وغير الأخلاقية) [2] .
- قام اليهود بحرق وإتلاف جميع الوثائق والمستندات والدراسات في بعض
مباني الوزارات المختلفة في بعض مناطق وقرى رام الله والخليل ونابلس وغيرها،
مما يذكر بأفعال المغول التتر.
* الجبناء.. يثيرون الرعب:
- الحالة النفسية لدى الشيوخ والأطفال والنساء تسوء عند الكثيرين؛ مما أدى
إلى زيادة أمراض ضغط الدم والسكري، والكوابيس والتبول اللاإرادي لدى الكثير
من الأطفال. وقد ذكر أحد الأطباء النفسيين المعروفين أن نسبة التبول اللاإرادي
بين الأطفال في منطقة غزة تمثل نحو 35% بين الأطفال.
- يقوم اليهود المجرمون بقطع التيار الكهربائي في معظم الأحيان عن القرى-
خصوصاً خلال الليل - مما يقصد منه إثارة الرعب والخوف لدى الناس، ولا
يعرفون مما يجري شيئاً مما يدور سوى سماع هدير الدبابات والطائرات وأزيز
الرصاص طوال الليل.. ولا يملكون إلا فرج الله - تعالى -، ثم ترقب الصباح.
- فرض اليهود حظر التجول لمدة طويلة منذ شهر على بعض المناطق -
حتى كتابة هذه الصور - على مناطق وقرى متعددة، وتخلل هذه الفترة مداهمات
وقتل وترصد القناصة والتكسير والهدم.. وعلى سبيل المثال من ينظر من الشباك
لما يجري فمن المحتمل أن يقتل فوراً برصاص القناصة.
* عملاء اليهود:
مما يجدر لفت النظر إليه روايات كثير من شهود العيان من أن الكثير من
القوات الغازية كانوا يتكلمون باللهجة اللبناية، وهم من قوات لحد (جنوب لبنان)
العملاء، وقد أقسم بعضهم أن يفعلوا أكثر مما فعل بصبرا وشاتيلا. وهؤلاء من
أقذر القوات الموجودة وأخبثهم حديثاً، ويكثرون من الكلام عن الجنس والعرض
بصورة ملفتة.
* اليهود أهل الفواحش:
سيطر الجيش اليهودي على محطات تلفزة محلية فلسطينية في رام الله وراح
يبث منها أفلاماً إباحية ثلاثة أيام على التوالي، ولا زال جنود الاحتلال حتى نشر
هذا التقرير يسيطرون على ثلاث محطات للتلفزة الفلسطينية المحلية التي تبث من
رام الله.. ومحطات التلفزة المحلية هي (وطن) و (شرق) و (أمواج) ، وقد
لوحظ أنه منذ مدة يقوم جيش الاحتلال بعرض أفلام أغلبها إباحية بحتة على شاشات
هذه المحطات إضافة إلى أفلام صهيونية تدعي حق الصهاينة في فلسطين، بينما لا
زال سكان مدينتي رام الله والبيرة محاصرين في بيوتهم.
* كيف يعامل اليهود المرأة المسلمة في فلسطين؟
- هناك كلام بذيء وسيئ للغاية لا يكتب ولا يقال في وسائل الإعلام، يتلفظ
به اليهود أمام النساء والبنات أثناء مداهمة البيوت، وهو كلام ينم عن شخصية
اليهودي المنحطة المرذولة.
- اعتداء على النساء عند الحواجز: بعد العمليات الاستشهادية بدأت قوات
اليهود بإيقاف النساء على الحواجز وتفتيشهن، ومن ترتدي الخمار يطلب منها رفعه
وكذلك سلت القفازين، حتى وصل الأمر كما هو الحال على مخصوم الرام الواقع
بين القدس ورام الله أن أُمسكت إحدى الفتيات من شعرها وأخذ الجنود اليهود
يجرونها من شعرها.. ومثل هذه القصة كثير.
- المرأة الحامل يطلب منها الجيش اليهودي رفع ملابسها حتى يتأكدوا أنها
حامل وليس بحوزتها حزام ناسف على بطنها.
- في منطقة الظاهرية أوقف الجيش السيارات وأنزلوا النساء وتكلموا معهن
كلاماً قبيحاً جداً عن العورات.
- وفي قصص كثيرة طلب الجيش اليهودي من النساء كشف وجوههن أو
شعورهن، كما طلبوا من بعض العرائس كشف وجوههن.
- أوقف الجيش اليهودي سيارة فورد تحمل بعض الطالبات المحجبات،
فطلبوا منهن النزول والوقوف على الأرض حتى توقفت سيارات أخرى في نفس
المكان. وأنزلوا الشباب منها وطلبوا من كل منهم تقبيل إحدى الطالبات، فرفض
الشخص الأول ذلك وقال اقتلوني ولا أفعل هذا، فقال له الجندي: لا بل خذ علبة
الكبريت هذه وأشعل النار في ذاك الإطار (عجل سيارة) ، وإذا بالإطار قد ملئ
بالبنزين والشاب المسكين لم يكتشف ذلك. فشبت النار في وجهه فهرب والنار
مشتعلة فيه وحاول هو وزملاؤه إطفاء الحريق ولكن المسكين تغيرت معالم وجهه
ولا زال يعالج في المستشفى.
- رأيت في شبكة الإنترنت صورة آلمتني لإحدى المسلمات وبعض
اليهوديات وأطفالهن يمسكن بجلبابها ويحاولن نزع حجابها.
- وفي أوائل شهر أبريل 2002 م جاء في قناة الجزيرة الفضائية [3] خلال
إحدى نشرات الأخبار القصة الآتية: تقول الأخت التي روت القصة: إن ثلاث
فتيات كن يسرن في الطريق فاستوقفهن أحد الجنود (اليهود) وطلب منهن تحت
الإكراه كشف عوراتهن! ! وتقول إن إحداهن كانت ترتدي العباءة، فأجبرها على
رفع العباءة إلى أن بان صدرها. تقول: أما أنا فقد طلب مني رفع البلوزة (
القطعة العلوية من لباس النساء) وأمرني بأن أكون على هيئة السجود ثم لم تستطع
أن تواصل.
أيحصل هذا ونحن نسمع ونرى وأمة المليار لا تستطيع فعل شيء لإنقاذهن؟
الكفار ينزعون حجاب النساء المسلمات العفيفات؟ آه.. نساء فلسطين تكشف
عوراتهن من قبل الجنود اليهود الخبثاء؟ أين المعتصم، وأمثاله من الرجال؟ :
أمتي هل لك بين الأمم ... منبر للسيف أو للقلم
الإسرائيل تعلو راية ... في حمى المهد وظل الحرم
كيف أغضيت على الذل ولم ... تنفضي عنك غبار التهم؟
رب وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه الصبايا اليتّم
لامست أسماعهم لكنها ... لم تلامس نخوة المعتصم
لقد كان هذا سلوك أسلاف أحفاد القردة والخنازير؛ فقد ذكرت لنا كتب السير
أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى
صائغ يهودي فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف
ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي غافلة فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها،
فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشد اليهود على المسلم
فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني
قينقاع، ثم كان أمر حصار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وتسليمهم وجلائهم.
* سياسة الإذلال والإهانة:
- شخص كان يقود سيارته النقل (داينا) كانت تحمل دهانات (بوية) ،
فأوقفه اليهود وطلبوا منه فتح جالونات البوية وسكبها على أرضية السيارة، ولما
سكب العديد منها اختلطت ببعضها أمروه بالجلوس عليها.
- حدثني أحدهم قال: قبل موسم الحج ولدى محاولة البعض الخروج إلى
الأردن للذهاب عن طريقها إلى الحج رفض المسؤول اليهودي، ثم طلب من
المجموعة التي كانت ستسافر إلى الحج بالطواف حول الدبابة، قائلاً: إن الدين في
القلب ويغني عن الطواف بمكة أن يطوفوا حول هذه الدبابة، قاتلهم الله.
- أحد الجنود المجرمين قام بالبول على نوافذ سيارة الأجرة، ثم أمر الركاب
بأن ينزلوا من السيارة ويقفوا ملتصقين بالسيارة حيث تلوثت ملابسهم ببول هذا
الجندي القذر.
- حدثني صاحبي وقد كان قريباً من الحدث، قال: عند بعض الحواجز
أوقف اليهود بعض الرجال وطلبوا منهم هدم جدار وبناءه في مكان آخر، ثم طلبوا
منهم نقله إلى مكان آخر، ثم رسموا لهم مربعاً مقاسه 20م طولاً و 20م عرضاً،
وطلبوا منهم قياس هذا المربع بالشبر وهم يزحفون أرضاً، ويستمر الأمر لساعات
وهم في الشمس.
- وهناك قصص كثيرة من هذا النوع: في إحدى الطرق قام اليهود بإيقاف
سائق سيارة وأخذوا منه مفاتيح السيارة وقاموا بإفراغ الإطار من الهواء (تنفيس
العجل) ثم طردوا السائق.
- قبل الأحداث الأخيرة أوقف اليهود سيارات الأجرة في إحدى المناطق،
وطلبوا أولاً من الركاب إفراغ ما في جيوبهم من أموال، ثم طلبوا من كل اثنين أن
يتقابلوا ثم يضرب كل منهما الآخر، ولا يتركان حتى ينزل الدم من أحدهما،
والشرط أن يكون الضرب على الفم والأنف، وإن عرف اليهود أن بعضهم لم يقم
بالمهمة بإخلاص وكان يمثل فإن أعقاب بنادق العوزي تنال منه على المفاصل ...
وقد حصل أن كسر فك بعضهم خلال تلك الهواية الإجرامية التي أكرههم اليهود
عليها.
- عند منع التجول لا يسمح لأحد أن يخرج من بيته، وإذا خرج فإن النيران
تطلق عليه، حدث أن خرج صبي في التاسعة من عمره، فهرع إليه أفراد الجيش
اليهودي وأوسعوه ضرباً، ثم دخلوا البيت ونقلوا الملابس، ثم سكبوا الدقيق
والسمنة والزيت والكتب، وأخيراً وضعوا العجين فوق هذا المزيج ثم قالوا للصبي:
اجلس على هذا الكوم.
- عند إحدى نقاط التفتيش في إحدى القرى مر رجل يرتدي بدلة لونها كحلي
فاقع ومعه حقيبة ديبلوماسية، فطلب منه اليهود أن يجلس على الارض الترابية
فجلس على حقيبته، فقال له الجندي: اجلس على الأرض، فجلس، ثم طلب منه
النوم على شقه الأيمن ثم على شقه الأيسر ثم قال: على ظهرك، ثم قال: على
بطنك، وما كان من الرجل إلا أن امتثل لما قال الجندي وأصبحت بدلته مثل لون
التراب، ولو لم يفعل ذلك لكان لقي ما لا تحمد عقباه.
- عادة ما يقف الجيش على الطرقات ويوقفون السيارات المارة فيطلبون من
الشباب الوقوف ووجوههم إلى الشمس وأيديهم مرفوعة إلى الأعلى، وفي إحدى
المرات تكلم شاب على يهودي بغضب، فأوقفوه جانباً وطلبوا منه الوقوف ثم فتح
رجليه إلى أبعد نقطة يستطيعها ثم انهالوا ضرباً على رجليه ومفاصله حتى سقط
أرضاً بزاوية 180 درجة وحمل إلى المستشفى.
- حدثني أحد الإخوة قائلاً: أحد مندوبي المبيعات كان معه ابنه الوحيد،
ولحبه له فقد كان ابنه متعلقاً به دائماً، سأله اليهود: كم عندك من الأولاد؟ قال:
من الذكور هذا، قالوا له: هل تحب أن يموت؟ قال الأب: لا. فأخذ الجنود
الكلاب الولد وأوقفوه على بعد عدة امتار، وطلبوا من والده الوقوف والنظر إليهم
وهم يتدربون على إطلاق النار من بعيد بالقرب من الولد؛ فمرة يمر الرصاص من
أمامه ومرة عن يمينه أو يساره أو من بين رجليه، ولم يتوقفوا إلا عند الغروب بعد
أن جمد الدم في عروق الرجل. يقول الرجل لصاحبي: والله! كنت أموت مع كل
رصاصة موتة، ألا لعنة الله على اليهود.
* بطالة وجوع وفقر: مليونا فلسطيني تحت خط الفقر:
- تعد ظاهرة الفقر واحدة من بين أكثر الظواهر المرضية التي يعاني منها
المجتمع الفلسطيني، وقد ساهمت مجموعة من العوامل التاريخية والسياسية في فقر
وإفقار الشعب الفلسطيني، ولعل ما تعرض له الشعب الفلسطيني من اقتلاع وتهجير
من أرضه على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، أحد أهم العوامل التي ساهمت في
إفقاره.
- وخلال الشهور الماضية تقطعت أوصال المدن والقرى عموماً، وتشتت
السكان، فلم يعد للطلاب مثلاً إمكانية الوصول إلى مدارسهم إن بقي هناك مدارس
في بعض المناطق، ولم يعد الناس يستطيعون الوصول إلى مواشيهم أو محاصيلهم
الزراعية؛ فالحصار مفروض على الجميع ومن يخرج تطلق النيران عليه.
- بعد إغلاق المدارس لمدة ثلاثة أسابيع حاول أعضاء الهيئات التدريسية
والطلاب مواصلة التعليم في بعض المدن والقرى، ولكنهم اصطدموا بالواقع
الصعب على الأرض؛ فاليهود احتلوا المدارس ورفعوا عليها العلم اليهودي،
والدبابات تمركزت على أبواب المدارس.
- الأسر التي كانت تعيش على العمالة لا تجد في ظل هذا الحصار ما يسد
رمقها.
- قبل عام تقريباً نشر الجهاز المركزي للإحصاء نتائج مسح أحصاه خلال
شهري 5 و 6 أظهر بعض النتائج المؤلمة، منها باختصار:
- نحو 15% من الأسر الفلسطينية فقدت مصدر دخلها تماماً خلال انتفاضة
الأقصى.
- 48% من الأسر فقدت أكثر من نصف دخلها الذي كانت تحصل عليه قبيل
الانتفاضة.
- انخفاض الدخل الوسيط للأسرة الفلسطينية في قطاع غزة من 1900 شيكل
إلى 1000 شيكل.
- 80%من قطاع غزة، منهم نحو 57% تحت خط الفقر.
- وصورة تتكرر يومياً منذ شهور طويلة: مئات النساء يتدافعن أمام مقار
لجان الزكاة والجمعيات الخيرية طلباً للمعونة ليتمكنّ من الإنفاق على أطفالهن،
بينما يتقاطر أزواجهن وأبناؤهن العاطلون عن العمل منذ أكثر من ثمانية أشهر على
المؤسسات؛ بحثاً عن فرصة عمل أو معونة طارئة بلا جدوى.
- يقول أحدهم وقد وقف أمام مقر لجنة زكاة الرحمة بخان يونس: (لم أكن
أتصور أن يأتي يوم أطلب فيه المساعدة لأتمكن من إعالة وتوفير الطعام لأفراد
أسرتي المكونة من 13 فرداً) .
- قبل أشهر كانت هناك بعض فرص العمل لدى بعض المؤسسات اليهودية،
وقد كان الأمر في غاية الذل، يصف العامل محمود (40 عاماً) من مخيم دير
البلح الإجراءات الإسرائيلية بأنها مذلة؛ حيث تبدأ الإجراءات بدخولنا عبر بوابة
حديدية لاكتشاف المعادن، ثم إدخالنا إلى غرف لخلع الملابس وإدخال الكلاب علينا
للتفتيش، بالإضافة إلى احتجاز لعدة ساعات عند وقوع أي حادث وإخضاعنا
للتحقيق واعتقال البعض. وأضاف محمود: لا يوجد أمامي أي حل؛ فالأوضاع في
غزة لا يوجد بها أي مجال للعمل، وأنا المعيل الوحيد لأسرة مكونة من ثمانية أفراد.
كان هذا قبل أشهر؛ أما الآن فهذه الفرص شبه معدومة على ما فيها من ذل
وهوان.
* لقطات من معاناة الحجاج العائدين عند معبر رفح الحدودي:
يصف شاهد عيان ما رآه عند عودة الحجاج عند معبر رفح (الجزء المصري) :
يعاني الفلسطينيون كثيراً أثناء العودة إلى فلسطين من خلال معبر رفح؛ حيث
يتعرض المسافرون للإجراءات الإسرائيلية الإذلالية. أكثر من 700 مسافر
فلسطيني يقفون في طوابير تحت حرارة الشمس القاتلة بانتظار السماح لهم بركوب
الحافلات؛ حيث يسمح اليهود لعدد معين من الحافلات بالدخول ثم تقفل البوابة في
المعبر الحدودي؛ ومما يزيد المعاناة أنه لا توجد حمامات في الجانب المصري،
وهناك من يجلسون أكثر من ليلة في هذا المكان في العراء في انتظار دورهم
لركوب الحافلة، وهناك شاحنات تحمل الأدوية تقف في المعبر الحدودي أكثر من
20 يوماً تنتظر السماح لها بالدخول، وقد فسد كثير من الأدوية بسبب حرارة الجو،
وأغرب من ذلك أن هناك بضائع وهدايا أحضرها الحجاج من السعودية لا تزال
تنتظر منذ شهر ذي الحجة للسماح لها بالدخول، والمؤكد أن كثيراً من الأشياء التي
تركت في هذا الخلاء قد تلفت. ويصف الأخ الشاهد التجربة التي مر بها بنفسه
فيقول: غادرت القاهرة الساعة 1 ص لأصل الساعة 7 ص، إلى المعبر الحدودي
في رفح، وهناك وجدت طوابير من المسافرين، وكنت أحسن حظاً من غيري؛
حيث تمكنت من السفر في نفس اليوم، ركبت الحافلة الساعة 9 صباحاً، وما أن
تحركت قليلاً حتى توقفت على بعد 50 متراً من البوابة الحدودية، واستمر التوقف
ثلاث ساعات وسط معاناة الصغار والكبار. في الساعة 12 ظهراً تحركت الحافلة
50 متراً لنصبح أمام بوابة الحدود، وفرحنا وقلنا سوف ندخل لكن العسكري
الإسرائيلي ترك الحافلة أمام البوابة ثلاث ساعات أخرى، وأسوأ من ذلك أنه يمنع
نزول أي شخص من الحافلة خلال تلك الفترة، ووسط صراخ الأطفال تحركت
الحافلة الساعة 3 ظهراً. وصلنا المعبر في الجانب الفلسطيني الذي كان أشبه بثكنة
عسكرية إسرائيلية، ولم يكن فيه سوى موظف فلسطيني يقوم بإنزال الحقائب،
وآخر يقف بجانب العسكري الإسرائيلي ينادي على الأسماء، وبعد ساعتين من
التفتيش والتدقيقات الأمنية سمح لنا بالدخول بعد تلك المعاناة الطويلة.
* وشاهد آخر يتحدث عن أوضاع غزة وخان يونس:
- دخل العامل يتراوح ما بين 30 إلى 100 دولار يومياً، حسب خبرته
وتخصصه؛ إلاَّ أن ارتفاع الأسعار الهائل إضافة إلى تقطع أيام العمل يجعل العامل
عاجزاً عن تحمل أعبائه الثقيلة.
- الوضع الدراسي: حياة الطلاب صعبة بسبب مشقة السفر ووجود الحواجز
الإسرائيلية؛ حيث يقف الطالب أمام الحاجز 3 ساعات، وبعض كليات الجامعة
تعطي محاضرات في الجوامع أو المدارس القريبة، لحل مشكلة تنقل الطلاب،
وبعض الأساتذة لا يستطيعون الانتقال لإلقاء المحاضرات، وبعض التخصصات لم
تعط الدروس فيها في كل الأحوال.
- المواد التموينية تختفي أحياناً أو نهائياً من السوق، وكذا الغاز والبنزين؛
لأنها تأتي من إسرائيل، وهذا يؤثر في حياة الناس.
- لا يوجد أمن؛ حيث تسمع إطلاق النار، خاصة في مدينة خان يونس،
بصفة مستمرة أثناء الليل.
- بعض الناس ينامون بملابسهم الكاملة استعداداً للهرب من البيت توقعاً
لسقوط قذيفة على بيته؛ وهناك منازل كثيرة أصابتها القذائف، وأصحابها بقوا فيها؛
لأنهم لا يجدون مكاناً ينتقلون إليه. والناس الذين هم بعيدون عن مناطق
الاشتباكات يصابون بطلقات ويقتلون، ولا يدري الناس من أين أتت الطلقات إليهم؛
لأن اليهود يستخدمون رشاشات تصيب على بعد 10 كيلو مترات، وهناك ناس
أصيبوا داخل منازلهم في وضع عادي، حيث يخترق الرصاص الجدار ويصيب
السكان.
- قامت إسرائيل بتجريف أراض كثيرة جداً، ودمرت كثيراً من المزارع
بحجة قربها من المستوطنات اليهودية، وهدمت بيوتاً كثيرة يسكن أهلها الآن في
خيام، وقد قتلت [4] مزارعات في وسط مزرعتهن في غزة.
- كثير من البيوت صغيرة تسكن فيها عائلات تتكون من عشرات الأشخاص.
- البنية التحتية باتت شبه مدمرة.
- الأدوية في المستشفيات غير متوفرة وغير كافية رغم ورود أدوية من
بعض الدول العربية.
- الأسمنت شحيح؛ وهذا يؤدي لمزيد من البطالة وتوقف البناء، ومنع
إسرائيل وصول التراب للخرسانة من الضفة إلى غزة؛ حيث لا توجد في غزة
أتربة صالحة للبناء.
- معظم الطرق التي تربط بين المدن مغلقة؛ فالطريق بين رفح وخان يونس
مغلقة نهائياً؛ لأنه يمر قرب مستوطنات، والطريق الالتفافي طويل، والمدة
الزمنية أضعاف المدة السابقة. والطرق إلى غزة على البحر أحياناً تغلق، والانتقال
من الضفة إلى غزة ممنوع نهائياً.
- الدول العربية ترفض السماح للفلسطيني بالعمل أو السياحة فيها بسبب عدم
تفريغ فلسطين من أهلها، بناء على طلب حكومة فلسطين القديم.
- أما عن هجرة أهل فلسطين إلى الغرب فلا توجد حركة هجرة من فلسطين
إلى الغرب رغم كل الضغوط؛ فالكل متمسك بوطنه وبيته. وبالنسبة لدخول
أراضي (48) أو إسرائيل؛ فالآن حالة حرب ودخول إسرائيل ممنوع.
- غالبية الناس لا يتمكنون من سداد فواتير الكهرباء نتيجة ظروفهم
الاقتصادية الصعبة إضافة إلى الخسائر الناجمة عن توقف العمل في محطة توليد
الكهرباء والتي تم إنشاؤها في غزة لتغطية جزء من احتياجات القطاع من الكهرباء
نتيجة المعوقات الإسرائيلية وسيكلف تأخير تشغيلها مبالغ كبيرة.
* القتلى والجرحى من الأطفال:
- هناك تقارير كثيرة مفصلة في هذا الجانب، حيث قتل عشرات الطلاب
ممن كانوا على مقاعد الدراسة، وهؤلاء الأطفال قتلهم جنود الاحتلال الإسرائيليون
بدم بارد وبوحشية لا توصف، معظمهم قضوا نحبهم وهم في الطريق إلى مدارسهم،
أو عائدون إلى بيوتهم، ومنهم من قُتل وهو في بيته، بين كتبه ودفاتره وألعابه،
والشواهد على ذلك كثيرة؛ فمحمد الدرة قتل وهو عائد الى بيته، أو إيمان حجو
الطفلة الصغيرة التي اخترق جسمها الصغير القذائف، أو سامر طبنجة الذي قتل
وهو يلعب في محيط منزله، وأبو دراج قتل وهو في غرفته وعلى سريره.. إلخ..
وعشرات القصص المماثلة، أما الإصابات فهي بالآلاف، وقد أدت قذائف
وصواريخ ورصاص الاحتلال الإسرائيلي إلى جرح آلاف الأطفال، ومنهم من
أصيب بجراح خطيرة سببت لهم إعاقات وعاهات دائمة، ومنهم من فقد عينه أو
رجله أو يده.
- فضلاً عن قصف مئات المدارس لا العشرات.. بمختلف أنواع الأسلحة
الثقيلة (رصاص الرشاشات وقذائف الدبابات وصواريخ الطائرات) بشكل همجي
سافر، لا مثيل له في التاريخ.
- وفي أكثر المشاهد وحشية ما أقدمت عليه قوات الاحتلال حين قصفت
الدبابات مدرسة المكفوفات في مدينة البيرة، حيث دب الرعب والهلع في صفوف
الطالبات الكفيفات وتفرقن في صخب على غير هدى.
- إن قصف الاحتلال الإسرائيلي للمدارس كان يتم أثناء وجود الطلبة على
مقاعد الدرس وأحياناً وهم يقدمون امتحاناتهم. ومن المدارس التي تم قصفها:
مدرسة بيت حانون الزراعية في غزة ومدرسة طولكرم الصناعية ومدرسة بنات
بيتونيا الثانوية، حيث أحدث تهدماً في المباني ودمر المقاعد الدراسية والأثاث
المدرسي وحطم زجاج النوافذ وأتى على العديد من المرافق والأدوات.
* مشهد لا يوصف لطفلة أمام أمها المضرجة بالدماء:
- في 18 مارس الماضي، اجتاح اليهود مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني،
ودخلوا بكاميرا صهيونية لتصور ما سيقومون به، فقاموا بتفجير باب بيت
الفلسطيني: إسماعيل خواجة، بعد أن طرقوا عليه لتنفجر جثة زوجته المسكينة
التي توجهت لفتح الباب ... يدخل بنو صهيون ليجدوا المرأة ملقاة ومضرجة بدمائها
على الأرض، منعوا الاتصال بالاسعاف، وتركوها بدمائها، وبدؤوا في تفتيش
البيت وتكسير ما يقع تحت أيديهم وأرجلهم.
لقد كان منظر الرعب الشديد ظاهراً على الطفلة الصغيرة وهي ترى أمها
مضرجة بدمائها، وأخوها الطفل المجاهد الصغير يشير لها ألا تظهر رعبها أمام
اليهود كي لا يقتلوها!
بعد انتهاء اليهود من العملية الدموية اللا إنسانية طافت الكاميرا بهم، وهم
مضجعون على أثاث البيت فقال أحدهم: لا أدري ما الذي جاء بنا إلى هذا المكان
الوسخ؟ أظن على الأغلب أننا جئنا لتطهيره! لا أدري ما الذي يجعل شاباً
صهيونياً مثلي يأتي لهذا المكان بعيداً عن بيته.
أما الآخر فقد رفع رجله أمام الكاميرا، وقال: لم نفعل شيئاً خاطئاً.. لم يكن
الأمر بهذا السوء.
* ألا لعنة الله على اليهود:
ينتهي هذا المشهد ليَظهر مشهٌد لفتاة تبدو في ربيع العمر (من 12 إلى 15
سنة) ترجو ببكاءٍ الجنودَ بعدم تكسير جدار بيتهم، ولكن الجنود الإسرائليين لا
يأبهون بها ويقومون بتكسير حائط المنزل للعبور للمنزل الذي بجواره بدلاً من
الخروج من الباب!
ثم قال نيل ماكدونالد: إن هذا الفيلم قامت القناة الإسرائيلية الثانية بنشره على
الرغم من الحرص الإسرائيلي الكامل على عدم نشر مثل هذه الأعمال الوحشية التي
تكشفهم، وقد تم منع نشر الفيلم بعدها حتى قرر نيل ماكدونالد من سي بي سي
الكندية نشره متخطياً بذلك التحذيرات الإسرائيلية بعدم بثه.
وقد قال أحد رجال الأمن الإسرائليين: إن هذا الفيلم تصوير سيئ للواقع،
وإنه يخدم صالح الفلسطينيين، وقال أيضاً إنه يرى ما حدث أمراً فردياً ليس له
علاقة بالجيش الإسرائيلي. رابط الفيلم [4] :
* قافلة الشهداء:
- الذي يمشي في جنازة شهيد لا يعلم أنه بعد دقائق ربما يحمل هو الآخر
علي أكتاف أصدقائه، هذا ما حدث لأحد الشهداء؛ فقد كان يودع جاره وصديق
عمره وهو يحمله على أكتافه، وبعد أن انفضت الجنازة ذهب الشاب الفلسطيني مع
مجموعة أخرى من أصدقائه لمقاومة المحتل وإذا برصاصة غادرة من صهيوني
تستقر في رأسه ليحمل هو الآخر على الأكتاف إلى مثواه الأخير.
- والدة سارة - أصغر صريعة تقول: حتى الآن لا أصدق أن ابنتي خرجت
ولن تعود لقد خرجت سارة بنت العامين مع والدها إلى الطبيب؛ لأنها كانت
مريضة، وفي الطريق قام مجموعة من المستوطنين بإطلاق النار على سيارة
والدها، وسقطت سارة شهيدة على الفور؛ فقد اخترق الرصاص رأسها، وتقول
الأم بصوت باك حزين: ماذا فعلت سارة؟ بأي ذنب يقتلونها؟ إنها لم تحمل حجراً
ولا صاروخاً.
- في الوقت الذي كانت فيه (كفاية أبو صلاح) تستقبل المهنئين باستشهاد
شقيقيها (هلال وبلال) في منزل أسرتها في يعبد، جاءها نبأ استشهاد زوجها
(هاني) الذي تركها وحيدة مع وحيدها (عبد الله) ، الذي رزقا به بعد عشر سنوات
من الانتظار.
إسرائيل قتلت بالرصاص مراهقاً فلسطينياً زعمت أنه أصيب بسكتة قلبية!
* سجون واعتقالات وتعذيب:
تمثل أساليب التعذيب التي يتبعها المحققون الإسرائيليون مع المعتقلين
والسجناء الفلسطينيين عموماً، وصغار السن بشكل خاص، انتهاكاً فاضحاً لكل
القوانين الدولية والإنسانية، بل لقانون العقوبات الإسرائيلي الذي لا يجيز نظرياً
انتهاك الحظر المفروض على التعذيب في القانون الدولي. قبل أكثر من سنتين،
وبعد أن أثارت مؤسسات عدة تعنى بحقوق الإنسان أساليب التعذيب التي تعتمدها
أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ضد المعتقلين والسجناء الفلسطينيين، انتقل
الموضوع إلى محكمة العدل العليا في إسرائيل، وصدر قرار يمنع محققي الشرطة
ومحققي جهاز المخابرات العامة (الشاباك) من اتباع وسائل جسدية لتعذيب
المعتقلين أثناء التحقيق، فتيان (قرية حوسان) الذين عادوا إلى قريتهم بعد
الاعتقال لم يتمكنوا من مواصلة حياتهم العادية، فلم يعد ممكناً اعتبار ابن الأربعة
عشر عامًا طفلاً بعد المعاناة التي عاشها؛ علماً أن هؤلاء خرجوا من السجن وهم
في أمس الحاجة إلى الدعم النفسي والاجتماعي. عدد الفتية القاصرين الفلسطينيين
في المعتقلات الإسرائيلية بلغ في تموز (يوليو) الماضي 1662 فتى وفتاة! ! ! :
نصفهم تقريباً في معتقلات الجيش (849) ، والباقون (813) في إدارات
السجون. المحكوم عليهم منهم 766 فقط، والباقون فرض عليهم الاعتقال الإداري،
بعدما تعذر إثبات التهم الموجهة إليهم [5] .
- صدام علي عياد عواد (10 سنين) الذي اعتقله اليهود في العاشر من
يوليو بعد مواجهات مع عدد من الفتيان قال: (لقد ضربوني على جسمي بأنابيب
من البلاستيك، واضطررت للخضوع لعملية جراحية في ذراعي التي زرع فيها
قضيب من مادة البلاتينيوم. لقد أرغموني على نزع ثيابي، وقضيت الليل كله
ويداي مكبلتان، وعيناي معصوبتان. ولم يسمحوا لي بالتوجه إلى المرحاض طوال
يومين) .
* متى تجرأ الكلاب على القسام؟
اليهود الصهاينة يعتدون على مقبرة الشيخ المجاهد عز الدين القسام، ومسجد
حسن بيك في يافا:
قام مجموعة من اليهود بانتهاك مقبرة القسام في نيشر (بلد الشيخ) ، من
خلال وضع لافتات على أسوارها وبابها تحمل عناوين عنصرية تحريضية مثل
(الموت للعرب) وإضافة إلى تعليق دمية وهي متدلية بحبل مربوط على عنقها،
إشارة إلى التهديد بالموت للعرب. وهذا الاعتداء الأهوج، ليس هو الأول على
مقبرة الشهيد القسام؛ فقد سبقها اعتداءات سافرة في الماضي، مثل وضع رأس
خنزير على قبر الشهيد القسام.
* قتلة الأنبياء يعتدون على بيوت الله:
- قامت مجموعة من اليهود بالهجوم على مسجد حسن بيك في يافا، وقاموا
بإلقاء قنبلة صوتية على الحراس والمصلين بالمسجد مسببة هلعاً كبيراً بينهم، وفي
اللحظات الأخيرة قامت الشرطة بالتدخل لحماية المسجد من هجوم مرتقب.
- وكذلك في حيفا: فقد قام اليهود بإلقاء قنبلة على المصلين عقب صلاة
الجمعة؛ حيث كان قد تجمع للصلاة نحو ثلاثمائة مسلم ومسلمة. وقد حملت
مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية في مدينة أم الفحم في فلسطين المحتلة
عام 1948م، حملت دولة اليهود مسؤولية تفجير القنبلة داخل مسجد الحاج عبد الله
أبو يونس في الحليقة في مدينة حيفا والذي أسفر عن إصابة مصلية مسلمة،
واتهمت المؤسسة متطرفين يهوداً بتدبيره.
الجنود اليهود يرغمون الفلسطينيين على سب الرسول صلى الله عليه وسلم.
يحتجزون 90 فلسطينياً في أقفاص حديدية.
تعذيب الأطفال في السجون.
أخيراً.. لا آخراً ... مجزرة جنين.
ملحق:
* هذا هو شارون:
(أتعهد بأن أحرق كل طفل فلسطيني يولد في هذه المنطقة؛ فالأطفال
والنساء الفلسطينيون أكثر خطورة من الرجال؛ لأن وجودهم يعني استمرار أجيال
قادمة من الفلسطينيين) .
هذا ما قاله رئيس الوزراء الصهيوني (إريل شارون) في لقائه مع الجنرال
(أوز ميرهرام) عام 1956م، الذي أوضح فيه المبادئ التي ما زال يتبعها في
حربه ضد الفلسطينيين بعد مرور 45 عاماً.
وتنقل صحيفة (فلسطين كرونيكل) الفلسطينية الصادرة بالإنجليزية، في
عددها الصادر على الإنترنت الإثنين 1/4/2002م، بقية حوار شارون الذي قال
فيه: (أتعهد بأني حتى لو فقدت كل المناصب وأصبحت مواطناً (إسرائيلياً) عادياً،
فإنني سأحرق كل فلسطيني أقابله في الطريق، وسأجعله يتعذب قبل أن يموت) .
وأضاف: (أنا لا تهمني الأعراف الدولية؛ فقد قتلت بضربة واحدة أكثر من
750 في رفح عام 1956م، وأريد أن أشجع جنودي على اغتصاب الفتيات
الفلسطينيات؛ لأنهن عبيد لـ (للإسرائيليين) ، ولا يملي أحد علينا إرادتنا، بل
نحن من يصدر الأوامر، وعلى الآخرين الطاعة) .
__________
(1) صحيفة معاريف الإسرائيلية، 20/10/2001م.
(2) في 1/4/2002م.
(3) 9/4/2002م.
http://cbc.ca.clips.ram-lo/macdonald_censored020318 ram
(4) (5) المجلة، 30/8/2002م.(175/87)
مرصد الأحداث
حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
إصرار على الاستسلام
- هذا الانفعال والعدوان الإسرائيلي الواسع وغير المسبوق، هل من سبب
محدد له؟
* لم يعد هناك شيء خاف عن أحد، وقلنا رأينا بصراحة، وهو أن العدوان
الإسرائيلي هذا وبشكله الوحشي وغير المسبوق، إنما هو رد على كل محاولة سلام؛
لأنهم لا يريدون السلام، لا يريدون السلام ويجب أن نتذكر ذلك جيداً؛ أليس هم
من قتل إسحاق رابين؟ هل نحن الذين قتلنا رابين؟ لماذا قتلوه؟ أليست هذه
العناصر المتطرفة هي التي قتلته؟ لماذا قتلوه؟ لأنهم ببساطة وصراحة لا يريدون
السلام.
- لماذا تتمسك بالسلام إذن؟ أليس خيار المقاومة أفضل، على الأقل في مثل
الظروف الحالية؟
* السلام خيار استراتيجي لا أفضل ولا أجدى منه ولن نتخلى عنه، لكننا
مجبرون في الوقت ذاته على التمسك بأسلوب المقاومة دفاعاً عن شعبنا وأرضنا
ومقدساتنا وحقوقنا، إنما هم تخلوا وتراجعوا عن كامب ديفيد ويقولون عنا الآن إننا
لم نستغل كامب ديفيد، هل كان يتوجب علي أن أتنازل لهم عن القدس؟ ومقدساتنا
المسيحية والإسلامية؟ من يقبل بمثل هذا الكلام؟
- بعد كل الذي حصل هل هناك أمل بالسلام؟
* أنا مؤمن بالسلام ولن أتخلى عنه. لكن أن يرد شارون على رغبة العرب
في السلام وعلى مبادرة الأمير عبد الله التي تبناها كل العرب بمجازر وجرائم
ووحشية متناهية ضد شعبنا الفلسطيني الأعزل، لا يعني نهاية المطاف؛ لأن
السلام لا يقوم على أكتاف إرهابي مثل شارون، السلام يريد ناساً يريدونه ويسعون
إليه ويضحون من أجله بنوايا صادقة، وحقيقية، وهذه ليست المواصفات التي
تنطبق على شارون. بل ليس فيها شيء ينطبق عليه.
[الرئيس ياسر عرفات، مجلة المشاهد السياسي، العدد (318) ]
قائد الانتفاضة.. رفيق جيفارا! !
ولد مروان البرغوثي في قرية كوير شمال غرب مدينة رام الله عام 1960م،
وهو ينتمي لأسرة كبيرة، انتسب معظم أفرادها إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني
بما في ذلك مروان نفسه الذي اعتقل عام 1979م، بتهمة الانتماء إلى الحزب
الشيوعي؛ لكنه وهو داخل السجن غير قناعاته وانضم إلى حركة فتح كبرى
الحركات الفلسطيينة ليصبح بذلك أحد رموز هذه الحركة، ومن عائلة البرغوثي
ظهر بشير البرغوثي الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الفلسطيني، وعمر
الصالح البرغوثي أحد أشهر الكتاب الفلسطينيين في النصف الأول من هذا القرن،
إضافة إلى مصطفى البرغوثي أحد قادة حزب الشعب الشيوعي سابقاً، وهناك أيضاً
عدوان البرغوثي مدير مستشفى رام الله، والشاعر مريد البرغوثي زوج الكاتبة
رضوى عاشور.
إلى هذه العائلة الكبيرة ينتسب مروان البرغوثي. مروان البرغوثي ابن
شرعي لجيل جديد في الأراضي الفلسطينية، لا ينتمي لطبقة المثقفين التي تمثلها
حنان عشراوي، وصائب عريقات، والراحل فيصل الحسيني، والدكتور حيدر
عبد الشافي، أولئك الذين يمثلون الطبقة العليا في الشعب الفلسطيني، وتلقوا تعليماً
مميزاً حتى الحصول على الدرجات العليا، لكنه ابن جيل المخيمات الفلسطينية
الذين فتحوا أعينهم على الاحتلال الإسرائيلي، تعلموا العبرية أقاموا علاقات قوية
مع حزب العمل وحركتي ميرتس وراكاح اليساريتين، ويؤمن رموز هذه الشريحة
بوجود دولتين فلسطينية وإسرائيلية جنباً إلى جنب؛ لذلك كانت رموزهم هي التي
تجري المفاوضات مع حكومات رابين وبيريز وباراك؛ بينما يختفون حين يأتي
اليمين إلى السلطة ليطل رجال الأمن الرسميون والمحسوبون على الفتحاويين
العائدين من الخارج أو مجموعة تونس كما يسميهم الفلسطينييون.
البرغوثي الذي يحظى أيضاً بوضعية نيابية بعد انتخابه في المجلس التشريعي
الفلسطيني سيقف إلى جواره البرلمانيون الأوروبيون والعرب والدوليون ونواب في
الكنيست الإسرائيلي، وإذا كان البرغوثي قد تحول إلى بطل في الشارعين العربي
والفلسطيني خلال انتفاضة الأقصى؛ فإنه بعد القبض عليه سيتحول إلى بطل
عالمي؛ بحيث يظل اعتقاله سيفاً مسلطاً على رقبة حكومة شارون التي عليها الآن
أن تدخل الثعبان إلى جحره كما أخرجته باعتقال البرغوثي، لكن الأكيد أن نجماً
جديداً قد ولد على لائحة الثوريين المنادين بالتحرر الوطني، وربما يأتي اليوم الذي
يرتدي فيه الشباب العربي صور البرغوثي على صدورهم كما يفعلون بصورة
جيفارا.
أو قد يخرج من سجنه إلى سدة الحكم في رام الله وخاصة أنه يحظى بدعم
شعبي فلسطيني وعلاقات مع اليسار الإسرائيلي، وقبول عربي ودولي لا بأس به.
[مجلة الأهرام العربي، العدد (265) ]
هكذا كانت مقاومتهم
1 - «توقعنا كل شيء من الفلسطينيين ودرسنا كل الاحتمالات، وأعددنا
أنفسنا لكل أشكال المقاومة الفلسطينية، قبل أن نقدم على دخول هذا المخيم، ولكن
رغم ذلك فوجئنا، وجوبهنا بمقاومة لم نعرف مثيلاً لها في كل حروب إسرائيل» ،
هذا ما قاله قائد قوات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة جنين، الرائد إيال شلاين،
بعد أربعة أيام من المحاولات لاقتحام مخيم جنين.
وسئل إن كان يهمه أن يعرف أن الطريقة التي يستخدمها لاقتحام المخيم تقود
إلى هدم أحياء بأكملها، وهدم بيوت فوق رؤوس المدنيين من النساء والأطفال
والمسنين؟ فأجاب: «إذا لم نقتلهم يقتلوننا، فهذه العائلات التي تربي أولادها
وبناتها على العمليات الانتحارية، تستحق دفع ثمن مناسب على هذه التربية» !
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8531) ]
2 - نقلت صحيفة «معاريف» الصهيونية عن ضابط عسكري صهيوني
واصفاً العملية العسكرية في مدينة نابلس القديمة قوله: «هذا ببساطة أمر لا يصدق،
كلما استطعنا التقدم لعشرة أمتار يفجرون ضدنا عبوة ناسفة، كل المنطقة مفخخة،
وكل لحظة يفجرون حولنا أشياء» .
وقال الضابط: إن القتال في القصبة (نابلس القديمة) يجري ببطء شديد
بسبب المقاومة الفلسطينية الشديدة، وأضاف أن كمية العبوات التي استخدمت ضد
القوات الإسرائيلية كانت «كبيرة جداً، والمقاتلون واجهوا كل أنواع الألغام أو
المعوقات التي تخطر على البال» ، وأضاف «أن الفلسطينيين فجروا علينا براميل
مليئة بالمتفجرات، فخخوا السيارات، الشاحنات، المنازل، الشرفات وأعمدة
الكهرباء، ووضعت عبوات أخرى على الأشجار وتحت أغطية المجاري، أطلقوا
النار على القوات من كل اتجاه والمعارك جرت من منزل إلى منزل، ومن زقاق
إلى آخر» .
وتابع الضابط قائلاً: «إن الذروة كانت حين تفجرت الشوارع تحت القوات،
واتضح أن الفلسطينيين الذين استعدوا لاجتياح الجيش في القصبة (نابلس القديمة)
حفروا الحفر ووضعوا بداخلها كميات كبيرة من المواد الناسفة، وأعادوا تعبيد
الشارع من جديد» ، «كانت هناك عبوات في الشارع بوزن يزيد عن 100 كغم،
لقد تعلموا من عبر الانفجارات تحت الدبابات في غزة، وأملوا أن يمسوا بآلياتنا
المحصنة» .
[صحيفة السبيل، العدد: (430) ]
3 - على صعيد بسالة المقاومة الفلسطنيية نقل مراسل صحيفة يديعوت
أحرونوت على لسان قائد وحدة المظليين في نابلس أن عمليات الجيش الإسرائيلي
في لبنان كانت عبث أطفال بالنسبة لما يدور في نابلس في حديث عن المعركة التي
دارت على مدى أيام في نابلس وجوبه خلالها الجيش الإسرائيلي بمقاومة عنيفة لم
يشهدها من قبل.
[صحيفة البيان، العدد (7967) ]
أولئك هم الخاسرون
حين كان جنرالاً، كان أرييل شارون ينتقد غالباً عند وصفه بأنه قائد شجاع،
إنما لا يوثق به، كان يوصف بأنه رجل يقفز قفزات كبيرة من دون أن يعرف
أين سيهبط، هذا النوع من المغامرة خطر بما يكفي إن كنت تقود جنوداً، ولكنه
قريب جداً من أن يكون نوعاً من الخطر الذي لا يغتفر إن كنت مسؤولاً عن أمن بلد
بأكمله.
لقد غامر شارون مرتين في السنوات الـ 20 الماضية بأمن إسرائيل وانتهى
به الأمر خاسراً، وفي كل مرة كان السبب أساساً هو ذاته؛ فقد اعتقد أن الاستخدام
المفرط للقوة سيؤدي إلى كسر معنويات أعدائه وقهرهم - وترهيبهم وصولاً إلى
الاستسلام له. غير أن هذه الاستراتيجية لم تفلح في المرتين، وكان شارون في كل
مرة يُترك من دون خطة طوارئ، سوى الانتظار - لوصول الغوث الدبلوماسي من
الولايات المتحدة.
كان إخفاق شارون الكارثي الأول في لبنان صيف عام 1982م، وقد تبدى
إخفاق شارون الثاني خلال السنة المنصرمة؛ وذلك في جهوده المضنية كرئيس
لوزراء إسرائيل لقمع الانتفاضة الفلسطينية الجديدة، ولكن النهج الذي انتقاه شارون
لتحقيق ذلك انطوى على المنطق الخاطئ ذاته الذي انطوت عليه سياسة الولايات
المتحدة المعروفة باسم «التصعيد التدرجي» في فيتنام القائمة على أنه يمكن كسر
إرادة العدو عن طريق استخدام قدر أكبر وأكبر، وأكبر من القوة، يجب ألا يأتي
إخفاق شارون مفاجأة لطلبة التاريخ العسكري، أقول هذا لأن أحد الدروس الواضحة
للحرب الحديثة هي أن محاولات ترهيب السكان المدنيين ودفعهم إلى الاستسلام
نادراً ما يحالفها النجاح، وهذا ناتج عن أنه عوضاً عن كسر إرادة العدو، فإن هذه
الحملات تنزع في العادة إلى شحذ عزيمتهم، وتشجع الناس على الالتفاف حول
قيادتهم الحالية بغض النظر عن انحرافها عن الطريق السويّ.
وربما كانت تلك هي النتيجة الأسوأ لسياسة شارون: فبدلاً من ترهيب
الفلسطينيين، فإنه أقنعهم بالمنطق القاسي القائم على معادلة إحصاء الجثث.
[افتتاحية مجلة نيوزويك، مجلة نيوزويك، العدد (94) ]
وهكذا كانت النكاية
1 - حرب الانتحاريين ليست حرب اليأس بالنسبة للعرب، من يدعي ذلك
إنما يبحث لنفسه عن وسيلة لتسويغ مواقفهم وتحميلنا مشاعر زائفة بالذنب، ليس
اليأس هو الذي يلتصق بالعرب، وإنما الشعور بأنهم قد وجدوا السلاح الأكثر فعالية
ضد اليهود، هذا السلاح الذي يزرع الإرباك والخوف والشعور بالاختناق ومشاعر
اللامخرج والذي لا يوجد لدى الجيش الإسرائيلي حل مضاد له في إطار المعايير
التي تشكل جزءاً من جوهره وكينونته. ليست هذه الوسيلة الوحيدة بعد أن يتأكدوا
أن الاستخدام المدروس والذكي ومنذ البداية للسلاح الذي يدفع عدداً غير قليل من
اليهود إلى اليأس، وأنهم لا يستطيعون مواصلة العيش في هذه البلاد في ظل هذا
الثمن الفادح الذي تُكلفهم إياه العمليات الفلسطينية في كل مناحي الحياة وردود الفعل
التي تدعي الأخلاق التي ولدت ظاهرة رفض الخدمة ثمرة اليأس تبرهن لهم على
أنهم كانوا على حق وهو أن العمليات الانتحارية هي سلاح يفوق في نجاعته أي
سلاح آخر يمكن للعرب أن يستخدموه بما في ذلك ما يوجد بحوزة صدام حسين.
هذا سلاح غير تقليدي يزرع اليأس في إسرائيل، بينما يتسببب على صعيد
العالم وبشكل ليس مفاجئاً ردود فعل تنطوي على التفهم والتعاطف مع اليأس العربي،
هذا إلى جانب الشجب غير الملزم.
[الكاتب الصهيوني المتطرف، يسرائيل هرئيل، صحيفة هآرتس، عدد (21/3/
2002م) ]
2 - في الوقت الذي ترتفع فيه معنويات الشعب الفلسطيني باطراد مستمر في
ظل النجاحات المتكررة التي تحققها المقاومة الفلسطينية، فإن معنويات الإسرائيليين
بدأت تنهار بشكل غير مسبوق أمام عجز حكومتهم وجيشهم عن مواجهة الانتفاضة
الفلسطينية وعملياتها التي ضربت أركان الكيان الصهيوني.
وخلال الشهور الأخيرة الماضية برزت عدة ظواهر غير مسبوقة في صفوف
جيش الاحتلال والمجتمع الصهيوني تبين حالة الانهيار النفسي التي يعيشها
الإسرائيليون من جراء ضربات المقاومة الفلسطينية وعمليات الانتفاضة، كان من
أبرزها اتساع نطاق التمرد في صفوف ضباط وجنود الجيش الإسرائيلي؛ حيث
تجاوز عدد الرافضين للخدمة العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة 250 ضابطاً
من بينهم جنرالات وكبار ضباط الجيش، فيما لا يزال هذا العدد في ارتفاع مستمر،
في أزمة عسكرية هي الأسوأ في تاريخ الكيان الصهيوني.
وبث التلفزيون الإسرائيلي عبر قناته الأولى تقريراً إخبارياً من أحد مراكز
إعداد جنود الجيش الإسرائيلي، وأظهر التقرير صوراً لأمهات يبكين بكاءً شديداً
لدى وداع أبنائهن المتجهين للخدمة العسكرية في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة،
وحسب التقرير العبري فإن وداع الأمهات لأبنائهن كان يومئ بأنه الوداع الأخير
لهم على اعتبار أن المناطق الفلسطينية هي مناطق أشبه بالمستنقع الذي لا يمكن أن
يخرج منه الإسرائيليون.
ويقول أحد الجنود المتجهين للخدمة في الضفة والقطاع في حديثه للتلفزيون
الإسرائيلي إنه غير راغب أبداً في التوجه إلى المناطق الفلسطينية، وأنه يشعر بأنه
يخوض حرباً خاسرة ذات مخاطر كبيرة، ودون جدوى.
الكاتب والسياسي الإسرائيلي أوراي أفنيري تساءل أيضاً في مقال نشرته
صحيفة «معاريف» الصهيونية عن جدوى مواجهة الشعب الفلسطيني، وأضاف:
«الذي يخوض حرب عصابات ضد الاحتلال لا يمكن أن يهزم أبداً» بحسب
المقال.
ويقول الكاتب الإسرائيلي: «آلاف الفلسطينيين مستعدون اليوم لتنفيذ عمليات
ستنتهي بالموت المحقق، وعددهم آخذ بالتزايد تدريجياً، ونحن نتساءل: كم عدد
الإسرائيليين المستعدين للخروج في عملية لن يعودوا منها أحياء؟» .
[صحيفة السبيل، العدد: (427) ]
والنهاية تقترب
1 - الإسرائيليون الخائفون في البحث بدؤوا عن مستقبل خلف البحار؛ فقوة
الصمود لسكان إسرائيل في ضوء موجة العنف التي تجتاحنا منذ أكثر من عام،
صارت موضوعاً مركزياً في جدول الأعمال الجماهيري.
فكل حادثة إطلاق نار، وكل عملية جديدة وكل قتيل ينضم إلى قائمة الضحايا
يطرح من جديد السؤال: إلى متى يمكننا أن نصمد؟ والجواب على هذا السؤال
المضني لا يتعلق بالضرورة بالأيديولوجيا أو بالشجاعة الشخصية، بل بالنوازع
الأساسية الكامنة في كل واحد منذ يومه الأول (إرادة البقاء) .
سيكون هناك من يقول إن الأحداث الدموية لا تفعل سوى أن تعزز قوانا
وتوحدنا في وجه العدو الذي يبدو جنوحه الحالي أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.
وآخرون سيشيرون إلى المطاعم الفارغة، وظاهرة رافضي الخدمة والإحساس العام
بالرعب، كدليل على أن نقطة انكسارنا تقترب كل يوم.
[يشاري فارييت، صحيفة معاريف، عدد (21/3/2002م) ]
2 - أفادت السفارات الأوروبية في «إسرائيل» عن تعاظم موجة
الإسرائيليين الطامحين للحصول على الجنسية أو استرداد جنسية كانت لذويهم.
وقالت صحيفة «هآرتس» إن الإسرائيليين الذين هاجر آباؤهم من بلدان
كفرنسا (أو مستعمراتها) وألمانيا، والنمسا، وبريطانيا وكذلك في دول مثل
بولندا والتشيكيا يسألون في سفارات هذه الدول عن مدى أحقيتهم في الحصول على
الجنسية.
وعزت الصحيفة أسباب هذه الموجة إلى حقيقة أن العديد من الدول الأوروبية
عدلت قوانين استعادة الجنسية لتغدو أكثر سهولة، ومن الواضح أن الوضع الأمني
الصعب في «إسرائيل» ، والحيرة الضميرية وانعدام القدرة على تغيير الواقع
بحسب وصف الصحيفة تدفع الكثير من الإسرائيليين للتفكير في الهجرة، وقد
أضيف في الآونة الأخيرة لهذه الأسباب تدهور الوضع الاقتصادي والتكهنات التي
تشير إلى أن الوضع الاقتصادي سوف يزداد تدهوراً، وأشارت «هآرتس» إلى
أن الإسرائيليين الذين هاجر آباؤهم من فرنسا ومن دول مثل الجزائر وتونس
وكذلك ألمانيا وبريطانيا وبولندا والتشيكيا يتذكرون مؤخراً إمكانية أن تفتح في
وجوههم «أبواب الهجرة إلى الدول الأوروبية» ، ويرى هؤلاء أن الحصول على
جواز السفر في أي من دول الاتحاد الأوروبي يتيح لهم إمكانية العمل في باقي دول
الاتحاد، والدراسة فيها، والتمتع بحقوق لشراء شقة أو ما شابه، وتشير الدكتورة
عيديت زرتال من معهد الإدارة في هرتسليا إلى أن «الإسرائيليين يرون في جواز
السفر الأجنبي حلاً لليوم الأسود» .
وأفادت السفارة الفرنسية أن أعداد الإسرائيليين الذين يقدمون طلبات للحصول
على جواز سفر فرنسي تضاعفت في الشهور الأخيرة.
وقال الناطق بلسان السفارة إنه تقدم للسفارة طلبات بمعدل أربعين طلباً في
اليوم، كما أفادت السفارة البريطانية بارتفاع عدد طلبات الحصول على جنسية
مزدوجة لمن هاجر ذووهم من بريطانيا، اسكوتلندا، ويلز، وإيرلندا الشمالية،
وأشارت السفارة الألمانية إلى ارتفاع تدريجي في طلبات الجنسية، وأن هذه
الطلبات تضاعفت في العام الأخير.
وحالياً يطالب بالجنسية تقريباً حوالي ألفي شخص في العام، ويضيف الناطق
بلسان السفارة الألمانية أن الأرقام لا تنخفض، وهي ترتفع باستمرار.
وذكرت صحيفة «هآرتس» أن السفارة النمساوية أيضاً أبلغت بتعاظم أعداد
المطالبين باسترداد الجنسية، ونظراً لاحتمالات انضمام بولندا والتشيكيا إلى الاتحاد
الأوروبي تضاعفت أعداد المطالبين باسترداد الجنسية في هذين البلدين.
[صحيفة السبيل، العدد (432) ]
عليكم النصرة
أخي المسلم.. في مشارق الأرض ومغاربها:
في الوقت الذي تتعرض فيه أرض الإسراء والمعراج، أرض الرباط والجهاد
لأبشع أنواع المجازر والمذابح على يد شذاذ الآفاق أخس خلق الله المحتلين
الصهاينة مدعومين بالمال والسلاح، من كل أطراف المؤامرة في العالم على قضية
فلسطين، قضية العرب والمسلمين، تتوجه إليكم كتائبكم - كتائب الشهيد عز الدين
القسام - الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين للتبرع بما
تجود به أنفسكم دعماً لمسيرة الجهاد والمقاومة حتى يندحر الاحتلال وتحرر فلسطين
وكل ذرة تراب من تراب فلسطين المسلمة. إن كتائب القسام تهيب بأبناء أمتنا
العربية والإسلامية في كل أصقاع الأرض لمد يد العون لإخوانكم المجاهدين الذين
يضحون بأنفسهم ودمائهم في فلسطين من أجل عزتكم، ويقفون في خط الدفاع
الأول عن الأمة العربية والإسلامية.
موقع كتائب عز الدين القسام
www.qassam.org(175/97)
في دائرة الضوء
لماذا نكره أمريكا؟
(قراءة في وثيقة المثقفين الأمريكيين الستين)
(1 - 2)
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
في سابقة غير معتادة على الوسط الثقافي الأمريكي أصدر ستون مثقفاً ومفكراً
وأكاديمياً أمريكياً في فبراير الماضي وثيقة أعدها معهد القيم الأمريكية بعنوان:
(على أي أساس نقاتل؟) يشرحون فيها مسوغات تأييدهم للحرب الدائرة الآن
ضد ما يسمى بالإرهاب.
بدأت الوثيقة بمقدمة توضح أن الحرب تكون أحياناً خياراً لا مفر منه، ولكنها
عندئذ لا بد من التصريح بالمبادئ الأخلاقية التي على أساسها يخوض الوطن هذه
الحرب، ومن ثم ذكروا خمس حقائق عدوها أساسية ومتعلقة بجميع البشر بدون
تمييز، هي:
1 - أن جميع الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق.
2 - أن الإنسان هو العنصر الأساس للمجتمع، أما دور الحكومات الشرعية
فهو المساعدة في تطوير الازدهار البشري وحمايته.
3 - أن من طبيعة البشر الرغبة في البحث عن الحقيقة في معنى الحياة
ومصيرها.
4 - أن حرية الضمير والاعتقاد والحرية الدينية من الحقوق العامة لجميع
البشر والتي لا تقبل أي انتقاص.
5 - أن القتل باسم الله مخالف للإيمان بالله، وهو يعد أعظم خيانة لشمولية
معنى الإيمان لدى البشر.
ثم أردفوا: «نحن نقاتل للدفاع عن أنفسنا وعن هذه المبادئ العالمية» .
ثم أوضحوا «ما هي القيم الأمريكية» مبينين أساسها ومنابعها وعالميتها
وفرادة تكوُّن أمة عليها (الأمة الأمريكية) ، مع الإشارة إلى أهم هذه القيم، ولم
ينسوا الإشارة إلى أن من قاموا بتنفيذ تفجيرات سبتمبر كانوا «لا يحقدون على
حكومتنا فحسب، ولكن على كامل مجتمعنا وطريقتنا في الحياة، فبصورة أساسية
يتجاوز كرههم لما يفعله زعماؤنا إلى هويتنا كأمة» ، كما لم ينسوا ذكر بعض القيم
السلبية في المجتمع الأمريكي، والتعريج على أن بعض ممارسات وسياسات أمريكا
قد لا تتفق مع هذه القيم والمبادئ، ولكن في الوقت نفسه فإن هذه القيم السلبية
والتباين بين القيم والممارسة لا ينبغي «أن تسوغ أو حتى تفسر التذبيح الجماعي
للأبرياء» الذي حدث في سبتمبر.
وتحت عنوان: «ماذا عن الله؟» تحدثوا عن موقف المجتمع الأمريكي من
الدين، وأنه أكثر الشعوب الغربية تديناً، وأن علمانية الدولة الأمريكية علمانية غير
مخاصمة ولا محاربة للدين، بخلاف من يقمعون الدين بالكلية أو يعتنقون العلمانية
الأيديولوجية أو يعتنقون الثيوقراطية، مع احترامهم كأمة لتعدد الأديان وحرية
الاعتقاد، وفي ثنايا ذلك تعرضت الوثيقة لخطورة شن حرب دينية سواء كانت باسم
(الحرب المقدسة) أو (الحرب الصليبية) على العدالة والإيمان الديني نفسه.
وقبل الخاتمة وصلت الوثيقة إلى بيت القصيد الذي جاء تحت عنوان:
(حرب عادلة) ، فذكروا أولاً أن الحرب بجميع أنواعها أمر شنيع، ولكنها قد
تكون أحياناً شراً لا بد منه، وذلك عندما تكون «في مقابلة أعمال عنيفة هائلة
ظالمة ناشئة عن الحقد والبغضاء، وهذه أحد الأوقات» ، ولكنها مع ذلك لا بد أن
تكون حرباً عادلة وليست لغرض «تعزيز الوطن أو للانتقام لما مضى من الظلم أو
لضم الأراضي أو لأي غرض آخر غير الدفاع» ، فالمسوغ الأخلاقي الرئيس
للحرب هو «صيانة الأبرياء من الخطر الأكيد» وليس المشكوك فيه أو القليل أو
الذي يمكن إزالته بطريقة أخرى غير الحرب.
ومن شروط الحرب العادلة - كما ذكروها - ألا يقوم بها «إلا السلطة
الشرعية التي تتولى التدبير العام للشعب؛ فالعنف الصادر من الأفراد على سبيل
اغتنام الفرص أو بدون نظام لن يقبل أبداً من ناحية الأخلاق» ، كما أن من
شروطها عدم قيامها ضد غير المقاتلين بالقصد والتعمد، أما وقوع ضحايا مدنيين
أثناء الحرب بغير قصد ولا تعمد فذلك أمر جائز وغير مناف لأخلاقية الحرب كما
ذكرت الوثيقة.
ثم عادت الوثيقة وذكَّرت بأن من قاموا بتفجيرات سبتمبر استهدفوا مدنيين
أبرياء بالقصد والتعمد، ولم يكن لهم هدف سوى قتل أكبر عدد ممكن من الأفراد أياً
كان جنسهم أو دينهم أو عملهم، وأنهم كانوا ضمن شبكة عالمية واسعة الانتشار لا
تعادي السياسات الأمريكية والغربية فحسب، ولكنهم يعادون التسامح الديني وحقوق
الإنسان الأساسية.. وقالوا: إنها حركة متطرفة تدعي الإسلام ولكنها في الحقيقة
تخالف تعاليمه ومبادئه، فهم «خطر يهدد الإسلام وحرمته مثل تهديدهم للنصرانية
واليهودية وغيرهما من الأديان» ، وهي فوق استخفافها بحياة البشر وإنكارها
للاحترام المتساوي لجميع الناس ورفضها أساس الحياة الحضارية واحتمال تعايش
الأمم بسلام.. تملك إمكانات وخبرات واستعدادات تمكنهم من بعث الخراب الهائل
فيمن يستهدفونهم.. ولأنهم يهددوننا جميعاً «فإننا باسم الأخلاق العالمية للبشر مع
الوعي التام بقيود ومقتضيات الحرب العادلة نقوم بتأييد قرار حكوماتنا ومجتمعاتنا
في القيام ضد هؤلاء بالقوة المسلحة» .
ثم جاءت خاتمة الوثيقة مذكرة بأن الفوز في هذه الحرب أمر ضروري
لأمريكا وجميع حلفائها، لأنها حرب للدفاع عن المبادئ الإنسانية العالمية وعن
جميع البشر، ثم في خطاب أقرب ما يكون إلى نفسية (يكاد المريب يقول خذوني!)
وجهت كلامها إلى «إخواننا وأخواتنا في المجتمعات الإسلامية، نحن نقول لكم
بكل صدق: لسنا أعداءكم، بل نحن أصدقاؤكم، من الضروري ألا تكون بيننا
عداوة فإننا مشتركون في أمور كثيرة جداً ... نعرف أن لدى بعضكم سوء ظن بنا،
ونعرف أيضاً أننا نحن الأمريكيين نساهم في مسؤولية هذا الظن السيئ، ولكن من
الضروري ألا نكون أعداءكم ... » .
كان هذا ملخصاً لأهم ما ورد في الوثيقة [1] ، وهي كما ترى تدور حول ثلاثة
محاور:
1 - تحديد المبادئ والقيم المرجعية التي على أساسها بنى هؤلاء المثقفون
موقفهم.
2 - رصد مفصل لقيم المجتمع الأمريكي وما تفرد به، وهو ما أسموه
بالنموذج الأمريكي.
3 - تقديم مسوغات تأييدهم موقف الإدارة الأمريكية وحلفائها فيما أسموه
بالحرب ضد الإرهاب.
وقبل التعرض لمناقشة الوثيقة والتعليق عليها موضوعياً أذكر بعض
الملحوظات الشكلية التي أخذت على الوثيقة، منها:
1 - أن الوثيقة رغم أنهما ضمت توقيعات شرائح متعددة من المثقفين
الأمريكيين - معظمهم رسميون أو شبه رسميين - إلا أنها تعد معبرة عن اتجاه
واحد تقريباً من اتجاهات المثقفين الأمريكيين، هو ما يطلق عليه اتجاه يمين الوسط،
وقد أصدر لاحقاً اتجاه ثقافي آخر هو الاتجاه اليساري الاشتراكي في 10 /4/ 2002م وثيقة أخرى موقعة من 128 مفكراً وناشطاً أمريكياً، يعارضون فيها
الوثيقة الأولى ويعارضون توجه الإدارة الأمريكية في هذه الحرب، ومع ذلك فإن
الوثيقتين وإن كانتا تدلان على وجود قدر من تعدد المواقف في الوسط الثقافي
الأمريكي إلاط أنهما لا تدلان على وجود تعدد متساوٍ أو متكافئ في المواقف لدى
الرأي العام الأمريكي، فالوثيقة الثانية «تبقى عند هامش الهامش، إذ ليس من
يناقشها ولا من يتفاعل معها خارج إطار جمهورها (اليساري) الضيق شبه
العشائري» - كما يقول حسن منيمنة (الحياة 14/4/2002م) - ومن هنا كان
الاهتمام بالوثيقة الأولى التي تعبر عن رأي عام كاسح في أمريكا.
2 - وإضافة إلى كون إصدار الوثيقة بهذه الصورة الجماعية سابقة غير
مألوفة في تعاطي المثقفين الأمريكيين مع الأحداث العامة، وإلى كون الموقعين على
الوثيقة رسميين أو شبه رسميين.. فإنها نشرت بالأساس خارج أمريكا في صحف
فرنسية وألمانية وإيطالية وغيرها من الصحف الأوروبية، واقتصر نشرها في
أمريكا على نطاق ضيق في مواقع إنترنيتية، أي أنها تخاطب الرأي العام الخارجي
في الأساس، وإذا أضفنا إلى ذلك كونها صدرت بعد بدء الحرب وظهور فظاعاتها..
فإن الشبهة التسويغية لممارسات الإدارة الأمريكية ستلقي بظلالها على هدف
الوثيقة.
3 - وقد ظهرت بوضوح هذه السمة في الوثيقة، سواء في منهجها أو في
طريقة صياغتها، فقد بدأت الوثيقة بمقدمة تقريرية لمبادئ يصعب معارضتها،
وذلك ما يسهل التسليم بالنتائج التالية لهذه المقدمة، عندما يغفل عن انطباق تلك
المبادئ على هذه النتائج، كما أن الوثيقة استبقت مضمونها بعدة إجراءات احترازية،
منها: تقرير كونية المبادئ التي ساقتها المقدمة، وأن المجتمع الأمريكي أكثر
المجتمعات الغربية تديناً، وأن الحرب الأخلاقية العادلة تقرها اليهودية والنصرانية
والإسلام، وأن المبدأ الأخلاقي يقتضي التدخل لحماية الأبرياء.
كما أنها - لإضفاء مزيد من المصداقية - مارست نوعاً من النقد الذاتي على
القيم الأمريكية والمجتمع الأمريكي، ولكنه نقد أقرب إلى ذر الرماد في العيون، فقد
وجه هذا النقد بالأساس إلى المجتمع الأمريكي وليس إلى السياسات الأمريكية التي
تنتهجها الإدارات المتتابعة، كما أنه جاء بشكل وجيز وغير محدد ودون الإفصاح
عن كون هذه الأخطاء تفوق الالتزام بالمبادئ المذكورة أم لا، وفي المقابل: ذكرت
الوثيقة بالتفصيل (جرائم) القتل التي ارتكبت بحق الأمريكان من قبل عرب
ومسلمين (مسوغات الحرب العادلة) ، مع إغفال ذكر الآلاف الذين قتلوا من
هؤلاء على أيدي الأمريكان أو بأسلحتهم ودعمهم، ومع إغفال تقديم إجابة مقنعة
قائمة على تحليل علمي أو منطق عقلي لسؤال جوهري مطروح، هو: لماذا
يكرهوننا؟ !
وعوضاً عن ذلك مارست الوثيقة نوعاً من التزلف المفضوح عبر تأكيد
تفريقها بين (إسلام بن لادن والقاعدة) و (الإسلام الحقيقي) ؛ في محاولة
لاستقطاب وتحييد شريحة المثقفين المسلمين المستهدفين، وهم الذين وجه الخطاب
إلى مجتمعاتهم مباشرة في نهاية الوثيقة بأسلوب دعائي مكشوف.
4 - كما يظهر في الوثيقة نوع من ممارسة الأبوية الثقافية التي تتحدث
بوصفها الوصية على قيم العدالة والحرية والإنسانية، حيث بدا وكأن الحقيقة
يمتلكها بصورة أحادية طرف واحد، وبدا وكأن هذا الطرف يكفيه التعريف بنفسه
لاستجلاب حب الآخرين له وإقناعهم بما يقوله.. فها هي أمريكا (المعلم) تتحدث،
وعلى العالم أن يصغي ويفهم ويتعلم عساه يكتسب القيم الأمريكية المطلقة التي
أوصلتها إلى سيادة العالم..! وهي روح تجافي (قيم ومبادئ) التعددية واحترام
الآخر وحرية الرأي.
ورغم هذه الملحوظات (الشكلية) فإننا سوف نتعامل مع الوثيقة بجدية
باعتبارها صادرة عن شريحة لا يستهان بها من مثقفي أمريكا، وباعتبارها معبرة
عن قطاع كبير من الرأي العام الأمريكي، وسوف نتعامل معها أيضاً بصراحة
وشفافية يقتضيهما أي (حوار) صادق وموضوعي.
وفيما يأتي مناقشة لبعض الملحوظات الموضوعية التي تَرِد على الوثيقة.
* مفاهيم على المحك:
المبادئ المقدسة:
حاولت الوثيقة نفي أن تكون الحرب الدائرة حالياً التي أسموها بالحرب ضد
الإرهاب حرباً انتقامية أو لتحقيق مصالح، وذلك للوصول إلى كونها حرباً (عادلة) ،
فركزت على تأصيل أنها حرب من أجل المبادئ والقيم دفاعاً عن مبادئ عالمية
هي المبادئ الخمسة التي ذكرتها في بداية تلخيص الوثيقة، ودفاعاً عن أنفسهم،
وأنفسهم هنا لا تعني ذواتهم فقط، بل هويتهم ومكتسباتهم (الحضارية) ، وفي
معرض التعريف بـ (من نحن؟ وما هي قيمنا؟) أوردوا أربع قيم (أمريكية)
يعتزون بها ويعدونها مبادئهم الأساسية، كما يعدونها في الحقيقة ميراثاً مشتركاً
للبشرية على أساسها يمكن بناء المجتمع العالمي على السلم، والعدل، وهذه القيم
هي:
1 - يملك الأفراد حرمة ذاتية كحق مكتسب بمجرد وجوده كإنسان، ومن ثم:
يجب أن يعامل كل إنسان كغاية لا وسيلة.
2 - الإيمان بوجود حقائق أخلاقية شمولية (قوانين الطبيعة وقوانين إله هذه
الطبيعة) وأنها في متناول جميع الناس.
3 - أكثر الاختلافات حول القيم تلزم الاتجاه إلى المدنية والانفتاح على آراء
الآخرين والمناقشات السليمة في سبيل البحث عن الحقيقة.
4 - حرية الضمير والحرية الدينية مترابطتان، يعترف بهما في أمريكا
وخارجها كانعكاس للاحترام الأساسي للبشر وكشرط مسبق للحريات الفردية الأخرى.
ومن أجل أن تكون هذه الحرب العادلة قائمة على أساس متين فقد أضفت
الوثيقة على المبادئ التي أوردتها صفات تليق بمكانتها.. فهي - بحسبهم - مبادئ:
صحية، مصدرها الآباء المؤسسون لأمريكا، إنسانية تتعلق بجميع البشر بدون
تمييز، كونية تنتشر في جميع الأرجاء لا تقتصر على دولة أو أمة أو دين رغم
انفراد أمريكا بقيامها عليها وتبنيها لها مجتمعاً ودولة.
وإذا تجاوزنا أن بعض هذه المبادئ والقيم هي من قبيل تحصيل الحاصل الذي
تدعيه كل أمة وترفعه كل ثقافة (وكلٌّ يدعي وصل ليلى!) ، وأن بعضها الآخر
يستحق المناقشة ويحتاج إلى أخذ ورد [2] ، فإن السؤال البدهي الذي يبرز هو: أين
هو وجه التفرد الأمريكي الذي يميز هذه المبادئ والقيم؟ وهنا تكمن خطورة النهج
الذي انتهجته الوثيقة في التعامل مع هذه المبادئ والقيم؛ فخطورة هذا النهج ليس
في المبادئ نفسها ولكنها تكمن في الصفات التي أضفتها الوثيقة على هذه المبادئ
والقيم:
فمن المعروف أن الآباء المؤسسين كما يطلق عليهم لم يكونوا أنبياء
معصومين بحيث يمكن جعلهم مثالاً ومرجعيات لقيم إنسانية عامة، أو لتؤخذ أقوالهم
مسلَّمات وحججاً يقينية، بل من المعروف أن بعض هؤلاء الآباء كانوا يمارسون
أنواعاً من المعاملات غير الإنسانية كالاجتياح الاستعماري لأراضي وخيرات
غيرهم، أو الإبادة والتطهير العرقي أو التمييز العنصري واستعباد الآخرين، ومن
هنا ركزت الوثيقة على الاقتباس من أقوال الدكتور مارتن لوثر كينج الذي يعد بطل
أمريكا القومي لمحاربة العنصرية.
وبمعنى آخر: فإن القيم والمبادئ (الأمريكية) التي عرضتها الوثيقة على
أنها قيم مطلقة خالدة هي في الحقيقة قيم لم تكن مستقرة وثابتة، بل متغيرة
ومتطورة.. وإذا كانت كذلك، فما الذي يمنع من استمرار تغيرها وتطورها؟ ! ..
محاولة الإجابة على هذا السؤال تقربنا أكثر من مكمن الخطورة في نهج الوثيقة عند
تعاملها مع هذه المبادئ والقيم، فالوثيقة عندما تضع هذه المبادئ والقيم (الأمريكية)
على أنها قيم مطلقة وثابتة و (عالمية) فإنها تقول إن تطور التجربة الأمريكية
وصل إلى حد النضج والكمال، والنموذجية التي ينبغي معها أن يحتذيها كل البشر-،
وهو مفهوم يتسق مع المعنى الغربي لمصطلح (الحضارة) -، وهو ما
يذكرنا بطرح فوكوياما -، وهو أحد الموقعين على الوثيقة - حول (نهاية التاريخ) .
والوثيقة عندما تنحو هذا المنحى فإنها في الحقيقة ترفض وجود تعددية
(حضارية) وإن كانت تقبل بوجود تعددية (ثقافية) ، وبمعنى آخر فإنه إذا كانت
هذه المبادئ والقيم مطلقة ويقينية وإنسانية فإن أي (حضارة) لا تقوم عليها تكون
(حضارة) غير إنسانية، وفي هذا النطاق يمكن قبول تنوع في (التطبيق الحضاري)
الذي قد يظهر تعدداً في (التجارب الحضارية) بحسب كل بيئة وكل ثقافة،
ولكنه لا بد أن يكون دوماً على أسس المبادئ والقيم التي ذكروها.
وإذا كان الأمر كذلك فما مصير من يدعون امتلاكهم لقيم ومبادئ أخرى تقوم
عليها (حضارات) مخالفة؟ .. الإجابة على هذا السؤال تقودنا إلى طرح خطير
آخر لمفكر أمريكي آخر - من الموقعين أيضاً على الوثيقة - وهو صموئيل
هانتينجتون، وهو أن المصير المحتوم هو (صدام وصراع الحضارات) .
وإذا كان ذلك على المستوى الفكري والثقافي فإننا نجد صداه أيضاً على
المستوى السياسي فيما يمس (الحرب العادلة) التي تؤصل لها الوثيقة، فتقسيم
العالم إلى محورين: محور الخير تمثله أمريكا وحلفاؤها، ومحور الشر يمثله
المناهضون لأمريكا أياً كانت انتماءاتهم وثقافاتهم.. هو في الحقيقة انعكاس لهذا
التأصيل الفكري.
كما أن الإعداد لحرب تطال أكثر من ستين دولة وتدوم عشرات السنين - كما
صرح ساستهم - وإعلان أن من ليس معنا فهو ضدنا، ناهيك عن فلتات
التصريحات بكون الحرب حملة صليبية، وما يعنيه وصول جهود المكافحة
والحصار إلى معاقل الفكر والتعليم والإعلام.. هو في الحقيقة تنفيذ لهذا التأصيل.
وإذا كان هذا التأصيل ينافي التعددية واحترام الرأي الآخر التي تقوم عليها
الديمقراطية والتي تنادي بها الوثيقة نفسها، فما المغزى من التأكيد على هذا
التأصيل وجعله أساس تسويغ (الحرب العادلة) وتوطئة للإقناع بها؟ .. المغزى
في نظري هو وضع من يخالف ذلك (القاعدة حالياً والموسومين بالأصولية
الإسلامية لاحقاً) في موقع المضادين والمناوئين (للحضارة الإنسانية) ، الذين
يجب القضاء عليهم، لأنهم ضد البشر وضد التطور الإنساني وضد التاريخ؛ أي
تحويل أمريكا إلى وكيلة عن البشر للدفاع عن مكتسباتهم، وتحويل حربها ضد
الآخرين إلى حرب إنسانية نبيلة ينبغي دعمها والوقوف معها، ليس من أجل أمريكا
بل من أجل الإنسانية.
بين المبادئ والممارسة:
ولأن لأمريكا سجلاً أسود من المظالم والاضطهاد والهيمنة - سنعرض لبعضه
لاحقاً - فقد استبقت الوثيقة نقد المجتمع الأمريكي بوجوب التفريق بين المبادئ
والقيم (الخالدة) التي يتبناها هذا المجتمع ويحاربون من أجلها، وبين التقصير في
تطبيق هذه المبادئ أو الوقوع في ممارسات قد يورد عليها الخطأ والتجاوز، والتي
قد يشترك الموقعون على الوثيقة في نقدها أيضاً.. كما أنهم أكدوا على أن هذه
الممارسات الخاطئة لا تخول لأحد استهداف المجتمع الأمريكي ومعاقبته عليها.
وفي المقابل فإنهم ذكروا أكثر من مرة أن القائمين بأحداث سبتمبر كانوا
يستهدفون المجتمع الأمريكي وقيمه ومبادئه بالأساس، وأنه لم يكن لهم هدف سام أو
مبدأ إلا القتل لأجل القتل.
وهكذا وضعت الوثيقة حاجزاً مزدوج الاستخدام: لحماية المجتمع الأمريكي
من الاستهداف، ولكشف المستهدفين من الحرب أمام الهجوم عليهم.
قد يبدو هذا التفريق منطقياً وعادلاً من أول وهلة، ولكن عند التأمل يبرز
تساؤل: بغض النظر عن أحداث سبتمبر: هل مجرد إقرار مبادئ سامية يصلح
لأن يكون مسوغاً لعدم معاقبة والتهاون مع من يمارسون مظالم وانتهاكات وخاصة
أن الوثيقة تفاخر بأنه «في ديمقراطية مثل التي عندنا، تنبع سلطة الحاكم من إرادة
محكومه، وتستمد السياسات جذورها من قيم وأولويات المجتمع ككل» ؟ ألا يعد
ذلك قريباً من إسباغ للمشروعية على منطق (روبن هود) وعلى نظرية مكيافللي؟
وتبرز إشكالية إذا كانت الوثيقة تريد استغلال ذلك الفصل بين القيم والمبادئ
والممارسات للحيلولة دون إعطاء شرعية لاستهداف المجتمع الأمريكي ونظامه..
فإن المنطق نفسه ينبغي إعماله مع المجتمع الإسلامي الذي يحمل ويعلن مبادئ وقيماً
سامية ولكن تقع من بعض المنتسبين إليه ممارسات سيئة سواء من وجهة نظر
المسلمين أنفسهم أو من وجهة نظر غيرهم، فتكون الحرب الدائرة الآن هي
استهداف وعقوبة لشعوب ومجتمعات إسلامية على جريمة لم تقترفها وممارسات
ليست مسؤولة عنها، وهو ما يتنافى مع الحرب التي يدعمها هؤلاء المثقفون.
والأهم من ذلك: كيف يكون الأمر عندما تتحول هذه الممارسات (الخاطئة)
إلى انتهاكات للمبادئ والقيم نفسها التي تدعي الوثيقة الدفاع عنها؟ ألا يكون حينئذ
الأخذ على يد من يمارسون هذه الانتهاكات هي للدفاع عن هذه المبادئ؟ .. فإبادة
الهنود الحمر كان قتلاً باسم الله، وشن حروب الاستعمار كان استعباداً لأناس
يولدون أحراراً وهدراً لكرامتهم وحقوقهم، والتدخل في كيفية فهم الإسلام والمناهج
التعليمية انتهاك للحرية الدينية، وإجبار الشعب الياباني على ترك معتقده في
الإمبراطور بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية انتهاك لحرية الضمير والمعتقد،
بحسب المبادئ التي أعلنتها الوثيقة.
إن من المغالطة المتاجرة باسم المبادئ رغم التفاصيل البشعة التي تصل كل
يوم عن ممارسات تنتهك هذه المبادئ، فعندما يوجد ظالم يمارس ظلمه على
ضحاياه ليل ونهار، فلن يغني عنه ولن يحول موقف هؤلاء الضحايا منه كونه يلقي
عليهم من حين لآخر دروساً في العدل وأهميته ومفهومه، بل سيعدون ذلك نوعاً من
الازدواجية أو الانفصام أو النفاق، فالواقع يشهد أن له التغني بعدله ولهم التلظي
بظلمه.
والوثيقة تشير - ضمناً - على من يتضرر من هذه الممارسات والتجاوزات
أن يجتهد في التأليب السياسي والثقافي فقط، وحتى ندرك أن الأزمة الحالية
تجاوزت المستويات الخلقية والقانونية وتحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس وتحليل
أعمق من التسطيح المتداول، إليكم ما ذكره الكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي في
مقالٍ له بعنوان: (الإرهاب سلاح الأقوياء) ، إذ يقول:
«حرب إدارة ريجان ضد نيكاراجوا أوقعت 75 ألف ضحية بينهم 29 ألف
قتيل ودمار بلد لا رجاء لقيامته.
في ذلك الوقت ردت نيكاراجوا، ليس بتفجير قنابل في واشنطن، بل باللجوء
إلى محكمة العدل الدولية التي حكمت في 27/6/1986م لصالح سلطات ماناغوا؛
إذ دانت» استعمال الولايات المتحدة غير الشرعي للقوة «والتي لغمت مرافئ
نيكاراجوا، كما طلبت المحكمة من واشنطن وضع حد لجرائمها مع دفع تعويضات
كبيرة، جاء رد الولايات المتحدة برفض الانصياع للحكم وتوقفها عن الاعتراف
بشرعية محكمة العدل الدولية!
عند ذلك طلبت نيكاراجوا من مجلس الأمن الدولي تبني قرار يطالب الدول
باحترام القانون الدولي، لم يشر إلى أي دولة بالاسم لكن كان مفهوماً أن المقصود
هي الولايات المتحدة التي مارست حق النقض لرد هذا القرار. فتكون الولايات
المتحدة البلد الوحيد الذي حكمت عليه محكمة لاهاي واعترض على قرار يطالب
باحترام القانون الدولي.
ثم توجهت نيكاراجوا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ولم يلق اقتراح القرار
الذي تقدمت به اعتراضاً إلا من ثلاث دول هي: الولايات المتحدة وإسرائيل
والسلفادور، وفي التصويت على القرار نفسه في العام التالي لم يبق سوى إسرائيل
هذه المرة لمساندة إدارة ريجان، لم يعد بعد ذلك في يد نيكاراجوا أي وسيلة قانونية
تلجأ إليها. فلقد أخفقت جميعها في عالم تحكمه القوة.
فكم مرة تكلمنا عنها في الجامعة وفي الصحف» [3] .
ترى، ما هو ملجأ نيكاراجوا بعدئذ؟ ما العمل لتطبيق المبادئ العادلة مع من
يمارسون الظلم والإجحاف والإرهاب ويطؤون (الديمقراطية) بحق النقض،
ويطؤون (الشرعية الدولية) بالقوة والغطرسة؟
حقاً، لقد كان أوْلى بالمثقفين والمفكرين الوقوف في وجه كل منتهك للمبادئ
والأخذ على يده أيًّا كان، حتى يكونوا بالفعل حماة لهذه المبادئ، فلم تعد تجدي
المحافظة على قيم ومبادئ يساء دوماً استخدامها وتنتهك في ممارسات المنادين بها.
الحرب العادلة:
صرحت الوثيقة بأن الحرب الدائرة حالياً ليست حرباً انتقامية أو لتحقيق
مصالح، ولأجل الوصول إلى كونها حرباً (عادلة) ألحت على اعتبارها حرباً
شنت دفاعاً عن المبادئ والقيم ومؤسسة على دعائم أخلاقية.
ورغم أن المجتمع الغربي عامة باعتراف مفكري الغرب تخلى بعد الحرب
العالمية الأولى عن الأخلاق والمبادئ، وأثر فيه ذلك إخفاقاً أخلاقياً واجتماعياً ذريعاً،
كما أثر على نظرتهم إلى (الآخر) وعلاقاتهم الدولية التي باتت تحددها المصالح
قبل كل شيء، وهو ما جسدته الفلسفة البراجماتية في نموذجها الأمريكي الصارخ..
فإن سؤالاً يبرز بإلحاح: هل بالفعل لا يحدث الصراع تنظيراً وواقعاً إلا عندما
يكون دفاعاً عن المبادئ فقط، أم أنه من الممكن أن يكون أيضاً بسبب المصالح
(لاكتسابها أو دفاعاً عنها) ؟ أليس ما تدعو إليه الوثيقة يعد (مثالية) تجافي
(البراجماتية) التي يؤمنون بها ويعيشون في ظلها؟
ومع أن (الحرب العادلة) هي قاعدة تسويغ الحرب الدائرة حالياً، والتي
خرجت الوثيقة لتأييدها ودعمها، إلا أن الوثيقة لم تقدم لنا مفهوماً محدداً لها، فلم
تذكر ما هي طبيعتها؟ ومن الذي له حق إطلاقها وإيقافها؟ وإلى من توجه؟ وما
الممارسات المشروعة والممنوعة فيها؟ وما حدودها الأخلاقية والعملية؟ وما مصير
من يختلف معهم في تحديدها؟ .. إلى آخر الأسئلة التي كان يفترض أن تهتم بها
الوثيقة.
لقد جاء الحديث عن (الحرب العادلة) غامضاً وفضفاضاً وضبابياً، تماماً
مثل مصطلح (الإرهاب) الغامض والمعقد والفضفاض سياسياً وقانونياً، تلك
الصفات التي تستغل في كلا المصطلحين لخدمة الهيمنة المحلية والدولية وغلبة القوة
والقهر على الحق والعدالة، وهو ما بدا واضحاً في الحرب الدائرة الآن في انتهاك
حقوق مسلمين - أمريكيين أو مقيمين في أمريكا - بعد أحداث سبتمبر، وفي
استهداف مؤسسات فكرية وإعلامية وتعليمية إسلامية، وفي إجراءات اقتصادية
ومصرفية، وفي قتل مدنيين ومستسلمين، واستخدام أسلحة محرمة دولياً.. ثم في
فتح نطاق الحرب لتطال دول (محور الشر) الذي حدد بناءً على مفهوم الإدارة
الأمريكية للخير! .. كل ذلك مع التعامي عن بل تأييد وتعضيد الممارسات
الإرهابية الصهيونية.. وغيرها مما يدل على ازدواجية المعايير، وهو ما قد
نعرض لطرف منه.
نعود إلى الوثيقة لنجد أنها ذكرت (ملامح) لهذه الحرب العادلة، فكان مما
ذكرته:
- أنها حرب للدفاع عن المبادئ، والقيم وليست من أجل المصالح أو الانتقام
أو لأي غرض آخر سوى الدفاع.
- وأنها لحماية الأبرياء من الخطر الأكيد.
- وأنها لا تجوز ضد غير المقاتلين قصداً.
- وأنها لا يقوم بها إلا سلطة شرعية معترف بها، وتتولى التدبير العام
للشعب.
وهي ملامح - كما نرى - محاكة على مقاس الحرب الأمريكية الحالية، ومع
ذلك فإنها لا تخلو من اعتراضات وتحفظات، سواء في المفاهيم التي تحملها أو
الإسقاطات التي تراد لها، ولكن قبل أن نذكر هذه الاعتراضات نذكر بأنه ما من
أمة أو جماعة شنت حرباً على آخرين إلا وهي تعتقد أنها تملك أسباباً مشروعة
ووجيهة للحرب، وكما يقول بيان المثقفين الثاني المعارض للحرب ولتسويغها باسم
الحرب العادلة فإن «الحكومات التي تشن الحروب العدوانية تحاول دائماً الحصول
على الدعم الوطني من خلال إقناع الناس العاديين بأن الحرب ضرورية للدفاع عن
الأفكار النبيلة ونشرها!» .
لقد فات الموقعين على الوثيقة أن هذا المنطق الذي استخدموه لتسويغ (حربهم
العادلة) من الممكن أيضاً أن يتحول إلى ذريعة لآخرين للقيام بالفعل نفسه، أي:
شن (حرب عادلة) من أجل (مبادئ سامية) أخرى غير تلك التي ذكروها،
وحينها لن يعدم أحد وجود مبادئ ما لتسويغ حربه حتى ولو كانت انتقامية أو
مصلحية أو توسعية، ولعل ذلك ما دعاهم إلى إغلاق هذا الباب بادعائهم يقينية
وعالمية المبادئ والقيم التي ذكروا أن حربهم هي للدفاع عنها،
فماذا عن الملامح المذكورة؟ :
- النقطة الأولى سبق نقاشها، ولكنا نضيف أيضاً: أن هؤلاء المثقفين
والمفكرين عندما أسبغوا على الحرب الحالية مشروعية مستمدة من القانون الأخلاقي
الطبيعي - كما ذكرت - وأن القيادة الأمريكية عندما تبنت موقفاً متصاعداً «في
اتجاه فضاء ميتافيزيقي أكثر فأكثر، يتماهى فيه بوش وأعوانه (كما يتجلى في اسم
الحملة العسكرية ذاته» عملية الحرية الدائمة «) مع الاستقامة والنقاوة والخير
والاعتقاد بأن أمريكا هي أرض موعودة» كما يقول الدكتور إدوارد سعيد.. فإنهم
في الحقيقة أصبحوا يحاربون ما أسموه بالإرهاب بعقلية وروح تتشابهان مع من
ينعتونهم ويؤاخذونهم بهذه الصفة، فمصادرة معايير الحق والباطل، وتصنيف
الناس إلى أخيار وأشرار بناء على تلك المعايير، ورفض التوسط والحوار،
وحصر الناس بين طرفي نقيض بلا خيار ثالث لهم، وفرض الآراء والتحيز عليهم..
هي نفسها الصفات التي ينعون على الطرف الآخر اتصافهم بها وينكرونها عليهم.
وعندما تسود ثنائية (الخير والشر) لدى طرف متمتع ومنفرد بالقوة
العسكرية الساحقة وفي الوقت نفسه أحادي الرأي ورافض للحوار ومصاب بحالة
فخر قومي مرضية.. فإن كل أشكال العنصرية والتعصب التي انتقدتها الوثيقة
ستكون مباحة وممكنة، وسيتحول مفهوم (استئصال الإرهاب) المعلن إلى
استئصال لكل من يعارض أمريكا (الخيرة) ، بل ستتحول (الحرب العادلة) إلى
(صك بالذبح) يملكه القائمون عليها، ليكون حقاً مطلقاً وتسويغاً سهلاً لإطلاق يد
الضحية المفترضة (أمريكا) دون مساءلة أو حساب، ودون مراعاة لأي (مبادئ)
إنسانية، وهو ما شاهدناه في مسيرة الحرب الحالية.
وإذا كانت الوثيقة ذكرت من مبادئها أن القتل باسم الله يعد خيانة للإيمان بالله،
فكان ينبغي أن تذكر أيضاً أن القتل باسم الحرية والديمقراطية يعد خيانة للمبادئ
الإنسانية.
كان يجب على المثقفين عندما أصلوا لهذه الحرب أن يتساءلوا: من الذي
يملك حق تحقيق العدالة؟ وبأي حق تتدخل حكومتهم في أي مكان في العالم؟ ..
وكيف يلجمون انفلات قوة منفردة عندما تتحول إلى ممارسة عبثية وشهوة انتقامية؟
وما هي الحدود الفاصلة بين الدفاع عن المبادئ والقيم والدفاع عن النفس وبين
التدخل في شؤون الآخرين والإملاء عليهم؟ ... ولكن يبدو أن إثارة مثل هذه
التساؤلات لا يتسق مع هدف الوثيقة.
- النقطتان الثانية والثالثة قد لا يختلف عليهما اثنان نظرياً، ولكن الوثيقة
وهي في معرض وضع قواعد من يستحق القتل ومن لا يستحق فاتها التعامل مع
قتل الأبرياء مبدئياً وليس انتقائياً؛ فالوثيقة صدرت بعد بداية الحرب التي وقع فيها
قتلى أبرياء ومدنيون لم يحصوا بعد، ومع ذلك فإنها نهجت نهجاً مثيراً للاشمئزاز
عندما حاولت أن تقنعنا أن من المدنيين والأبرياء من يُقتل فيقتص من قاتله ومنهم
من يقتل فيعفى عن قاتله!
إذا كانت الوثيقة تقول إن غطرسة أمريكا وممارساتها الظالمة بحق الشعوب
الأخرى لا تسوغ ولا حتى تفسر الجزر الجماعي الذي حدث في سبتمبر لضحايا
نيويورك وواشنطن، فكان عليها أن تقول أيضاً حتى يكون لكلامها مصداقية إن هذه
الأحداث نفسها لا تسوغ أيضاً الجزر الجماعي لمدنيين وأبرياء في أفغانستان ولا في
غيرها من البلاد؛ فأرواح ودماء أبرياء مدنيي هذه البلاد (الفقيرة) المستضعفة
ليست بأقل قيمة وحرمة من أرواح ودماء من قضوا في نيويورك وواشنطن.
ولأن هذه اللفتة تبدو بدهية فإن الوثيقة فرقت بين أمرين: بين وقوع الضحايا
المدنيين نتيجة قصد وعمد ووقوعهم بالخطأ أثناء أعمال عسكرية، وهو ما يبدو
تفريقاً وجيهاً عند النظرة الأولى، ولكن عند التأمل فيه نجد أن حقيقة (الخطأ) في
هذه الأعمال العسكرية هو أيضاً قصد وعمد؛ لأن القنابل والصواريخ المدمرة
والضخمة التي يبلغ وزن بعضها مئات الأطنان ويقترب مفعولها من مفعول القنابل
الذرية وصيغ الحرب الحديثة التي تقلل إلى أكبر حد من المواجهات المباشرة بين
المتقاتلين.. تجعل وقوع ضحايا مدنيين وأبرياء يقيناً لا مجال للشك فيه، فمن يلقي
مثل هذه القنابل والصواريخ خاصة على المدن والقرى والمناطق المحيطة بها يلقيها
وهو يعلم يقيناً أنها سوف توقع ضحايا من غير المقاتلين، ورغم ذلك فهو يعمد إلى
إلقائها والقضاء على هؤلاء من منطلق (الاضطرار) أو لفرض (احتمال) وجود
عناصر وأهداف قتالية في المنطقة التي استهدفها، أي الزعم بأنه لم يستهدف
مدنيين أبرياء - حتى وإن وقعوا ضحايا - ولكنه استهدف أهدافاً عسكرية قتالية أو
داعمة لها، وهو المنطق نفسه الذي يقول به من أوقعوا ضحايا أحداث سبتمبر،
فهم يقولون إنهم لم يستهدفوا مدنيين أبرياء لذواتهم وإلا فملاعب الكرة مثلاً تحوي
أعداداً أكبر! ولكنهم استهدفوا ضرب اقتصاد أمريكا وقوتها العسكرية وربما رمزها
السياسي، وهي القوى التي تنفذ غطرسة أمريكا وهيمنتها في العالم.
فهل من (عدالة الحرب) وأخلاقيتها التي تروج لها الوثيقة الثأر لدماء
ضحايا سبتمبر بهدر دماء أبرياء القرويين ورعاة الأغنام في أفغانستان لمجرد أن
هؤلاء الأخيرين لا بواكي ولا بوارج حربية ولا صواريخ توماهوك لهم؟
ما الفرق الحقيقي بين ضحايا نيويورك وبين ضحايا أفغانستان وفلسطين
والعراق وقبلهم فيتنام وهيروشيما ونجازاكي؟
وما المسوغ الأخلاقي - غير التركيع والإذلال! - في قتل هؤلاء المدنيين
الأبرياء؟
- النقطة الأخيرة من ملامح (الحرب العادلة) هي حقاً مثيرة للاشمئزاز،
فواضح فيها أنها تتجاوز الحرب (الأمريكية) العادلة! لتجيَّر إلى الحرب
(الإسرائيلية) العادلة! .. وغيرها من الحروب العادلة بحسب الهوى السياسي
والمصالح الاقتصادية، والتي يتضح فيها ازدواج المعايير والبراجماتية السياسية بما
لا يدع مجالاً للشك.
فعندما تقرر الوثيقة أن «الحرب العادلة لا تقوم بها إلا السلطة الشرعية التي
تتولى التدبير العام للشعب، والعنف الصادر من الأفراد على سبيل اغتنام الفرص
أو بدون نظام لن يقبل أبداً من ناحية الأخلاق» فإنها في الحقيقة تصادر حق
الشعوب في مقاومة المحتل وحقها في مكافحة الديكتاتورية، كما أنها تكرس سيادة
قانون الغاب الذي تكون فيه الغلبة للأقوى ولا مكان للمستضعفين فيه.
فبقانون الغاب هذا احتكرت أمريكا ونظراؤها حق الدفاع عن النفس بالشكل
الذي تريده وفي الوقت الذي تحدده، وبالقانون نفسه لم يسمح لدول استهدفت ظلماً
كـ (ليبيا والسودان وفيتنام ونيكاراجوا ... ) بممارسة حقها في الدفاع عن نفسها.
والآن تأتي الوثيقة لتضيف إضافة جديدة إلى هذا القانون، وهو نزع
الأخلاقية عن حروب الشعوب المستضعفة التي تقاوم بها المحتلين والمغتصبين،
وهكذا يمكن القول: إن مقاومة الهنود الحمر كانت غير أخلاقية، والثورة الفرنسية
كانت غير أخلاقية، وحرب تحرير الجزائر من فرنسا كانت غير أخلاقية.. وهكذا
في فيتنام وغيرها إلى أن نصل إلى فلسطين وكشمير والشيشان والفلبين.
أما الازدواجية والبراجماتية السياسية فواضحة بنظرة محايدة إلى بؤر الصراع
الحالية: فالمتمردون على الحكومة السودانية الشرعية مقاتلون من أجل الحرية
والديمقراطية يستحقون الدعم العسكري والسياسي، ويضغظ على حكومة السودان
لأجل الاستجابة لمطالبهم، بينما المنظمات الجهادية في فلسطين ضد عدو محتل
ومغتصب.. حركات إرهابية لها الشجب والمطاردة ولعدوهم الدعم والتأييد،
والإرهابيون الانفصاليون في تيمور الشرقية يُمَكَّنون من الاستقلال عن إندونيسيا
بحراب الأمم المتحدة، بينما المنظمات الجهادية في الفلبين وكشمير تحاصر وتطارد،
والشيشانيون قبل (الحرب العادلة) كانوا مقاتلين من أجل الحرية، أما بعدها
ولمصلحة هذه الحرب فقد أصبحوا إرهابيين وخارجين عن القانون.. والأكراد في
تركيا تُدعَم الحكومة التركية لمحاربتهم بينما هم في العراق يُمَكَّنون من الانحياز في
مناطقهم وإقامة (حكومتهم) عليها، وهم أنفسهم الذين كانوا في السابق يسامون
سوء العذاب في حلبجة وغيرها بأسلحة كيميائية مطورة أمريكياً، ولا يسمع أحد
لاستغاثاتهم وأنينهم.
هل يظن الموقعون على الوثيقة أن التلاعب بالمفاهيم وتطويعها لتوافق
ممارسات سياسية وعسكرية مقصودة.. سينطلي دوماً على الضحية المستهدفة؟ ..
لا أظن أنهم بذلك يخدمون (العدالة) التي يتحدثون عنها.
النظرة إلى الدين:
حرصت الوثيقة على إبراز مكانة الدين ومفهومه في المجتمع الأمريكي، كما
حرصت على تقديم هذه الصورة باعتبارها نموذجاً يحتذى لعلاقة الدين مع الحداثة
والأفراد والدولة، ولعلها تريد بذلك فوق الترويج لهذا النموذج التخفيف من حدة
استهداف الآخرين للمجتمع الأمريكي باعتباره مجتمعاً (كافراً) ، وفي الوقت نفسه
الخروج به من دائرة الاتهام بالتعصب الديني و (الصليبية) .
وإشكالية علاقة الدين بالعلم وبالدولة أو بالحياة عموماً إشكالية قديمة في الفكر
الغربي، وقد حسمت الثقافة الغربية هذه الإشكالية لصالح التوجه العلماني العقلاني-
كما هو معروف -.
ولكن الملفت هنا هو محاولة تقديم هذه التجربة على أنها النموذج الذي ينبغي
أن يحتذى باعتبار إنجازات الغرب وحداثته دليلاً على نجاح تجربته، وإذا كان ذلك
على مستوى المثقفين والمفكرين فإنا نشاهد على مستوى السياسيين العمل الدؤوب
على فرض هذا النموذج للعلاقة بين الدين والحياة على الشعوب الأخرى، ووأد كل
محاولة لمقاومة هذا التدخل، فهل يليق بمثقفين ومفكرين أحرار أن ينساقوا في هذا
السياق؟
إن النصرانية عندما انحرفت عن النهج الرباني وما تلا ذلك من تسلط الكنيسة
على المجتمع الأوروبي وتعطيلها مسيرة تقدمه، كانت السبب الرئيس لاعتقاد هذا
المجتمع أن الحل في إقصاء الكنيسة والدين عن تسيير شؤون الحياة، وصاحب هذا
الاعتقاد الطرف عن البديل الإسلامي الصحيح نتيجة جهله بهذا البديل وتعصبه
ضده الذي زرعته الكنيسة وجذرته فيه، فافترض أن كل دين هو (المسيحية
والكنيسة) وافترض أن نجاحه المادي التالي كان لإقصاء الدين عن غير دائرة
الاعتقاد والضمير الفردي.
ولكن الحقيقة أن هذه الإنجازات التي يتحدثون عنها عند ذكرهم نجاح تلك
التجربة لم تكن إنجازات (حياتية) عامة وشاملة، بل كانت فقط إنجازات مادية،
أما مناحي الحياة الأخرى فكان الإخفاق الذريع على المستوى النفسي والأخلاقي
والاجتماعي والروحي للإنسان هو توابع إنجازات هذه التجربة.. فحداثتهم هذه
بجميع ألوانها تقف عاجزة منذ زمن أمام تحقيق آمال جميع البشر واجتثاث آفات
الفقر وآليات الاستبداد وفظائع العنف ومتاهات المخدرات والشذوذ الجنسي
والانتحار والتفكك الأسري.. إضافة إلى ما سببته إنجازات هذه الحداثة من تلوث
للبيئة وتهديد للحياة الفطرية وإهلاك للموارد الطبيعية ... وغيرها من المساوئ التي
يصعب حصرها، والتي تشهد بأن هذه التجربة تجربة مادية عوراء.
لم يكن النجاح المادي الذي حققته هذه التجربة بسبب تنحية الدين، بل كان
بسبب كسر العوائق التي كانت أمام العلم والتي كانت الكنيسة تقيمها وترعاها، وهو
ما لا وجود له في الإسلام، ومن ثم: فإن من الجهل والظلم أن يسعى إلى إقحام
هذه التجربة على شعوب العالم الإسلامي، فضلاً عن كون ذلك تدخلاً غير مقبول
في شؤون الشعوب الأخرى.
ولم يكن انتشار هذه التجربة (النموذج) في العالم راجعاً إلى صحتها أو
بداهتها، بل كان راجعاً إلى ضعف حاملي البديل، وإلى الهيمنة التي مارسها
أصحاب هذه التجربة التي روجوا لها وأقاموها على بحار من دماء مستضعفي
(العالم الثالث) في القرنين الماضيين. إن ما يهمنا هنا هو التوجه الغربي عامة
والأمريكي خاصة نحو تغيير المناهج في بلادنا والتأثير في الإعلام.. لمحاولة
الدعوة لمحاربة فرض هذا النموذج (الحداثي) على شعوبنا.. إننا لا نستطيع ولا
نقبل أن تفصل مفاهيمنا وثقافتنا على مقياس القيم الأمريكية.. هذا ما ينبغي أن
يفهمه الغرب مثقفوه وسياسيوه.
__________
(1) نشرت جريدة السفير البيروتية الترجمة العربية للوثيقة في 12 فبراير الماضي، ويمكن الاطلاع على ترجمة أخرى للوثيقة أعدها موقع (الإسلام اليوم) الإنترنتي (www.slamtoday.net) منتدى الإسلام اليوم - المتلقى، وعنوان الصفحة هو http://208 1 82 214.showthread php ? s= 4b4aa3f3bd233b2ab9b652816aac4978& threadid=295.
(2) يمكن الاطلاع على مناقشة لبعض هذه المبادئ والقيم في مقال للكاتب سبق نشره بعنوان (المحايد وحرية التعبير) على شبكة الإنترنت، على العنوان الآتي.http://www.alfjr.com.showthread , php?s= & threadid = 7005& highlight= %C7% E1%E3%CD%C7%ED %CF.
(3) http://arabgate.info.politics.viewpolitics.index.irhabweapon.html.(175/102)
الورقة الأخيرة
الصمت الأوروبي إزاء ذبح الفلسطينيين
يحيى أبو زكريا [*]
عندما كان يتعلق الأمر بالتنازلات والتخلّي عن الثوابت، والتعرّي عن
المنطلقات السياسية والأيديولوجية التي قامت عليها القضيّة الفلسطينية على مدى
مائة سنة تقريباً، كانت الوفود الأوروبية تتوالى على الشرق الأوسط وعلى مقرّ
القيادة الفلسطينية في غزّة لإقناع هذه القيادة بضرورة تقديم التنازلات حفاظاً على
مشروع التسوية، وتكريساً للسلام في الشرق الأوسط، وإنقاذاً للحمائم داخل
المنظومة السياسية العبرية، ورفعاً لرصيدهم السياسي في الشارع العبري مقابل
الصقور الذين يشكّكون في صدقية الأداء السياسي للمفاوضين الإسرائيليين. وقد
وصلت التحركات الأوروبية قبل أوسلو وبعده وإلى وقت اندلاع انتفاضة الأقصى
إلى ذروتها، وباتت أشبه بماراثون جماعي باتجاه الشرق الأوسط.
والمتتبّع لتطورات الأحداث في فلسطين المحتلة يكتشف بسهولة أنّ الوضع
تغيّر الآن، وأنّ الصمت بات سيّد الموقف في العواصم الغربية رغم تصاعد
المجازر ضد الفلسطينيين.
وتشير بعض المعلومات الدقيقة أنّ الدولة العبرية وضعت الاتحاد الأوروبي
عبر القنوات الخاصة في الصورة بشأن ما سوف يستجدّ في الشرق الأوسط، وهذا
ما جعل المراسلين الصحفيين الغربيين يتوافدون على فلسطين أسبوعياً قبل زيارة
زعيم الليكود شارون إلى المسجد الأقصى هذه الزيارة التي استفزّت مشاعر
الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
وتفيد هذه المعلومات أن الدوائر الغربية متوافقة فيما بينها على مبدأ واحد
وموقف واحد، وهو الصمت بالإضافة إلى إرسال رسائل سياسية إلى السلطة
الفلسطينية عبر قنوات كثيرة، ومفاد هذه الرسائل أنّه من الأحسن للسلطة
الفلسطينية أن تقدم التنازلات التي كان يطالب بها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق
إيهود باراك، وألاَّ تصعّد السلطة الفلسطينية الموقف. والمفارقة الغربية الغريبة أنّه
حتى الأحزاب السياسية الحاكمة في الغرب والتي كانت فيما مضى تبدي تعاطفاً ما
مع السلطة الفلسطينية خصوصاً والقضية الفلسطينية عموماً، والمحسوبة على
اليسار والاشتراكية الاجتماعية باتت متكتّمة إلى أبعد حدّ انسجاماً مع وحدة الموقف
الأوروبي من جهة، وانسجاماً مع الموقف الأمريكي.
وإذا كانت الدوائر الرسمية في الغرب تلتزم الصمت ظاهراً وتدفع
الفلسطينيين باتجاه الإذعان للمطالب الإسرائيلية باطناً، فإنّ الخارطة السياسية
والإعلامية في معظم العواصم الغربية في معظمها مع الدولة العبرية ومشروعية ما
تقوم به من أعمال عنف، وأنّ الفلسطينيين هم الذين يبادرون إلى العنف، ويتجلّى
هذا الانحياز الفاضح في المؤسسات المرئية؛ حيث إنّ مراسلي العديد من
التلفزيونات الغربية عندما يغطّون الحدث الفلسطيني ينقلون صور الأطفال
الفلسطينيين وهم يرجمون الجنود الصهاينة بالحجارة، وينقلون صور قتلى
إسرائيليين وهم يدفنون وسط دموع ولواعج ذويهم، فيفهم المشاهد الأوروبي تلقائيّاً
أنّ الظلم مصدره الشعب الفلسطيني، والمظلومية في الموقع الذي يدفن فيه
الإسرائيليون.
وذهب بعض كبار المسؤولين في الغرب إلى القول بأنّ الآباء الفلسطينيين
يتحمّلون إثم ما يجري لأبنائهم باعتبارهم يدفعون الأطفال إلى رجم الإسرائيليين
بالحجارة.
وباعتبار أنّ ثمانين بالمائة من الأجهزة الإعلامية المقروءة والمرئية مملوكة
ليهود غربيين فلا مجال هنا للتكهن حول ماهية المواضيع والتحليلات السياسية التي
تكتب في معالجة الأزمة القائمة في الشرق الأوسط، والأكثر من ذلك أنّ بعض
الكتّاب الغربيين يعملون على تغطية الشمس بالغربال كما يقول المثل الجزائري،
ويدّعون أنّ الدولة العبرية هي التي تقدّم الضحايا تلو الضحايا، وتتلقى العنف
العربي يومياً.
هذا على صعيد الإعلام. أمّا على صعيد الأحزاب السياسية الفاعلة في الغرب
فمعظمها متعاطف مع الدولة العبرية، وتظل مساحة المتعاطفين مع القضية
الفلسطينية محدودة وصغيرة، وهي تضم بعض الكتّاب اليساريين وقدامى
الاشتراكيين والاشتراكيين الدوليين وبعض الاتجاهات المسيحية التي تعتبر أن
الصهاينة أساؤوا إلى المسيحية في فلسطين، وهم من هذا المنطلق يعارضون الدولة
العبرية.
أمّا الجاليات العربية والمسلمة فهي قلباً وقالباً مع القضية الفلسطينية وانتفاضة
الأقصى، وليس في وسعها غير التظاهر والتجمهر هنا وهناك، في هذه العاصمة
الغربية وفي تلك، وعندما يحاول ممثلو هذه الجاليات الالتقاء بالمسؤولين الغربيين
لتقديم احتجاجات حول الصمت الذي يلفّ الموقف الغربي تجاه ما يتعرض له
الفلسطينيون من ذبح ومجازر، فإنّ الردود الواردة إلى هؤلاء الممثلين أنّ جدول
مواعيد الرسميين مكتظة، ويكون العذر المشفوع بابتسامة غربية هو الرد الذي
يتلقاه ممثلو الجاليات العربية والإسلامية في أكثر من عاصمة غربية، أمّا ممثلو
الشاذين جنسيّا وأمثالهم فكل الأبواب مفتوحة أمامهم، وفي ذلك مؤشر على حجم
اهتمام الدوائر الغربية بقضايانا العادلة.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(175/111)
ربيع الآخر - 1423هـ
يوليو - 2002م
(السنة: 17)(176/)
كلمة صغيرة
حرب قائمة وأخرى قادمة
الحرب الهمجية القائمة ضد أمتنا، وبخاصة من أمريكا والعدو الصهيوني لم
ولن تفلح في تركيعنا، بل زادتنا يقيناً بأن هذه الحرب هي حرب عقيدة؛ لكنهم لن
يسلموا من شرها حيث انعكست عليهم بالضرر المادي والمعنوي، وحينما أخفقوا
في حربهم أمام العالم وأمام شعوبهم تراجعوا ليجعلوا عملاءهم يقومون بالحرب نيابة
عنهم.
بل وجدناهم يحاربوننا بأساليب أخرى أكثر تأثيراً وأقل كلفة، ومن ذلك:
** تحريض بعض الحكومات الضعيفة والعميلة على حرب الإسلاميين
بدعوى أنهم إرهابيون ومتطرفون.
** التدخل في السياسات التعليمية والتربوية وإملاء ما يريدون؛ وخاصة في
تغيير المناهج وتهميش التربية الإسلامية.
** الدعوة إلى تخلي المرأة عن كل ما تؤمن به من قيم ومبادئ بدعوى
تحريرها، وجعلها من ثم صورة ممسوخة عن المرأة الغربية.
** الإساءة للدعوة الإسلامية ممثلة في (الهيئات الإسلامية) و (الجمعيات
الخيرية) ومحاولة تفتيتها ومن ثم إلغاؤها.
** إثارة الشبه والشكوك الكاذبة حول الجامعات والكليات والمدارس
الإسلامية، وادعاء أنها محاضن للإرهاب.
** إظهار العلماء والقضاة والدعاة بصور منفرة يتمثل فيها الجمود والغلو
والتطرف.
وحينما تتوالى تلك الحرب الضروس عبر وسائل الإعلام المشبوهة إما
بواسطة طابور خامس عميل يؤدي دوره المرسوم، أو بواسطة بعض الغوغاء
والإمعات الذين يجهلون خطورة السير في ركب أعداء الدين، ما دام أن ما يفترونه
قد يكون مدفوع الثمن.
العجيب أن هذه الحرب المجنونة التي بينت للأمة أن هذه الأمور وإن كانت
شراً محضاً إلا أنها كشفت لنا في الوقت نفسه أموراً هامة منها:
** أن من يسير في ذلك الركب المشبوه إنما هم أعداء للأمة ولدينها.
** أن ما يسمى بالتنوير وإشاعة الآراء المنحرفة هي تزوير وإفساد وتضليل
بواسطة أفراد وجمعيات ومؤسسات لم تعد مجهولة له.
** أن أعداءنا جيشوا نفراً من المنتسبين للإسلام ظاهراً ليؤلفوا في الإسلام
ويفسروه بأهوائهم واتجاهاتهم الماركسية والإلحادية والباطنية؛ ليهدموا ديننا من
الداخل.
لكننا في الوقت نفسه يجب أن نكون حذرين من الشراك التي تعمل ضدنا
وضد مناهجنا ودعاتنا؛ بأن نتمسك بإسلامنا الصحيح البعيد عن الإفراط أو التفريط،
وأن نحذر السقوط في استفزاز أعدائنا لنا، وألا نقع في حرب تؤدي لاستئصالنا
لجهلنا بفقه الدعوة وفقه المواجهة. إن حرب أعدائنا مستمرة كما قال تعالى: [وَلاَ
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) .
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .(176/3)
الافتتاحية
وداعاً أيتها العدالة!!
لا توجد أمة من الأمم إلا وهي تنشد العدالة وتدعيها؛ قد تختلف تفاصيل هذه
العدالة والأسس التي تقوم عليها، ولكنا نظن أن هناك قدراً مشتركاً ينبغي أن يوجد
بين جميع الأمم في تصور هذه العدالة، ومن هذا القدر المشترك: تعامل الناس
جميعاً على أساس معايير واحدة، وإنصاف المظلوم والمجني عليه، وأن يعلو الحق
فوق القوة فإذا «الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله،
والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله» كما روي عن أبي بكر
الصديق رضي الله عنه.
ولكننا عندما ننظر في واقع (ولاة أمور العالم) لا نجد هذه البدهيات متحققة
خاصة إذا كان الأمر متعلقاً بالمسلمين.. قد يظن المرء أن ذلك راجع لعدم اعتبارهم
هؤلاء المسلمين مظلومين مضطهدين، ولكن استقراء الأحداث يدل على أن الحقيقة
خلاف ذلك:
ففي البوسنة وبعد استقلالها إثر استفتاء جرى بمراقبة دولية في نهاية فبراير
1992م، أقر فيه 64% من البوسنيين برغبتهم في الاستقلال، ليتوالى اعتراف
العالم بالبوسنة والهرسك جمهورية موحدة مستقلة.. أشعل الصرب - الذين ورثوا
ميليشيات ودولة، جيش يوغسلافيا أقوى رابع جيش في أوروبا - أشعلوا فتيل
الحرب في البلاد، سعياً لإخضاع المسلمين في البقاء ضمن الاتحاد اليوغسلافي،
واستغل الكروات الفرصة مدعومين عسكرياً واقتصادياً من أوروبا وخاصة ألمانيا
ومن دولتهم، فساهموا بنصيبهم في أكبر مجزرة للمسلمين في القارة الأوروبية منذ
سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر..
ورغم تأسيس المسلمين دولتهم نتيجة استفتاء شعبي (ديموقراطي) واعتراف
(الشرعية الدولية المزعومة) بها فقد بقوا وحدهم يعانون شح المصادر وفقر التسلح؛
ثم رسَّخت هذه الشرعية الدولية هذا الوضع عندما صدر قرار أممي في بداية
الحرب يقضي بحظر التسلح على مناطق يوغسلافيا السابقة، وهو ما يعتبر قراراً
جائراً بحق المسلمين؛ حيث كانوا وحدهم المتضررين من هذا القرار؛ نظرا
لافتقارهم إلى العتاد وإلى تقاليد التسلح والتدريب العسكري، وعدم قيامهم بتهيئة
قوات ميليشيا لحمايتهم مثلما فعل الصرب والكروات.
وقد ساهمت هذه العوامل في وقوع المسلمين فريسة سهلة لمذابح بشعة
استمرت طوال سني الحرب الأربعة على أيدي الصرب والكروات، وهي مذابح
وقعت تحت سمع وبصر وأحياناً بمساهمة وتواطؤ قوات أممية أو أوروبية، وإليك
مثالاً منها:
فبعد أن أُعلنت مدينة سريبرنيتسا مدينة خاضعة لحماية منظمة الأمم المتحدة
أعلن الجنرال فيليب موريلون، قائد القوات الفرنسية المشاركة ضمن قوات حفظ
السلام الدولية، أنه سيدافع عن أي شخص مقيم في المناطق الموجودة تحت علم
الأمم المتحدة ... ومن ثم: توجه آلاف المسلمين إلى المدينة تاركين قراهم للاستفادة
من هذا الإعلان، فنزعت قوات الأمم المتحدة أسلحة الأهالي بحجة أن المجتمع
الدولي سينوب عنهم في حمايتهم.
وبعد 48 ساعة شنت القوات الصربية هجوماً على المدينة، فهرب موريلون
ومساعدوه في سيارة أجرة، الأمر الذي اضطر اللاجئين إلى وضع أنفسهم تحت
حماية القوات الهولندية التي تعمل تحت علم الأمم المتحدة، إلا أن هذه القوات ردت
المسلمين وبقيت في معسكراتها، فأصبح المسلمون فريسة مكبلة في مرمى
الميليشيات الصربية المتعطشة للدماء؛ مما مكنهم من تنفيذ مذبحة راح ضحيتها
8000 بوسني.
لم ينحز المجتمع الدولي إلى العدالة رغم علمه بالطرف الضحية والمظلوم،
وإنما انحاز إلى معاييره الخاصة بالحياد، والذي اعتبر أنها تلزمه باتخاذ موقف
سلبي بين الطرفين: الجاني والضحية، وليس بنصرة هذه الضحية، بل إن موقفه
كان في أحيان كثيرة إيجابياً بمساعدة هذا الجاني، ويظهر ذلك في وقوف أمين أممه
المتحدة بطرس غالي (الأرثوذوكسي الديانة) ضد أية محاولة دولية جادة لاستخدام
القوة ضد الصرب (الأرثوذوكس) الطرف المعتدي، أو رفع حظر التسلح عن
المسلمين..
وفي تعاون الجنرال ماكنزي قائد القوات الدولية في البوسنة مع القوات
الصربية، لقاء رشاوى مالية، وأخرى جنسية، عبر مشاركته في اغتصاب الفتيات
المسلمات الأسيرات لدى الصرب.. وفي تستر خليفته الجنرال الفرنسي فيليب
موريو المقاتل سابقاً في حرب الجزائر المتهم بدوره بالتستر على ما قام به الصرب
من مذابح جماعية، وعمليات سميت بالتطهير العرقي، بالإضافة إلى دوره في
إعاقة خطط التدخل الإنساني لتوصيل المواد الإغاثية بالقوة إلى المناطق المسلمة
المحاصرة، بحسب ما نصَّت عليه القرارات الأممية.
والأمر لا يقتصر على جنرالات فرنسا التي كانت تدعم الصرب، بل إن
لائحة العار تشمل أسماء أخرى مثل: (ديفيد أوين) الذي كان موفداً أوروبياً،
و (ياسوسشي أكاش) موفد الأمم المتحدة، و (كارل بيرد) الموفد الأوروبي.
والأمر لا يقتصر أيضا على أفراد، فقد وجهت انتقادات حادة إلى المفوضية
العليا للاجئين لاستخدامها سلاح الطعام وسيلة للضغط على المسلمين أثناء فترات
المفاوضات التي كانت تشهد أقل نسبة لتوزيع المساعدات الغذائية، أو لجهة
مشاركتها في التطهير العرقي، عندما كانت تلزم المسلمين - المفرج عنهم من
معسكرات الاعتقال الصربي - بمغادرة البوسنة إلى أية جهة غربية، أما القوات
الدولية التي كانت عاملة في البوسنة؛ فقد اعتبر أفرادها البلاد نهباً مباحاً، وتورط
بعض أفرادها في جرائم أخلاقية مع فتيات دون سن الرشد. وإذا تحدثنا عن
التصرفات العامة فسنجد أن هذه القوات تورطت في ممارسات منحازة، كإمداد
الصرب بالمعلومات العسكرية، وإجهاض العديد من العمليات الهجومية للقوات
المسلمة.
وعندما بدأ المسلمون يتجاوزون محنتهم وتقترب قوتهم من قوة أعدائهم،
وبدؤوا في تحقيق انتصارات مهمة على الساحة العسكرية، وبعد تحرير أكثر من
مدينة استراتيجية هُددوا بأنه إذا لم يتوقفوا فإنهم سيتعرضون لقصف جوي من
(الناتو) ، ثم تدخل (ولاة أمور العالم) في هذه اللحظة ليوقفوا الحرب ويفرضوا
على المسلمين اتفاق (دايتون) الجائر الذي علق عليه الرئيس بيجوفيتش بأن
(سلاماً ظالماً أفضل من حرب عادلة) ، وهو الاتفاق الذي فرض تقسيم دولة البوسنة
والهرسك، وأضفى شرعية على الكيانات الانفصالية على أرضها؛ فبموجب هذا
الاتفاق حصل كيان الصرب رغم أنهم أقلية لا تزيد نسبتهم عن 30% على 49%
من الأرض، كما حصلوا على اثنتين وأربعين مدينة وبلدة، أغلبها في المناطق
التي فيها مراكز صناعية، كان الصرب يشكلون أقلية في خمس عشرة منها،
والمسلمون أغلبية في ثلاث عشرة منها، والكروات أغلبية في مدينتين. أما
الكروات، الذين يشكلون 10% من السكان، فقد أقاموا دويلتهم في الهرسك في
موستار على ثلث مساحة الأراضي. ولم يمنح المسلمون، الذين يشكلون 45% من
السكان، إلا على 15% من الأراضي.
لقد تم هذا؛ لأن للصرب والكروات قوة تمكنهم من فرض مطالبهم (العادلة!)
بتمزيق البوسنة وتهجير مسلميها، وتم للحيلولة دون إيجاد كيان مستقل قوي
للمسلمين في قلب أوروبا.
إنها القوة.. إنها المعايير الخاصة.. إنها الضغط على الضحية المظلومة
لتقبل ما يلقى إليها من فتات العدالة وما تمليه مصالح القضاة.
ليس هذا هو الفصل الأخير في تاريخ عدالة ما يسمونه بالشرعية الدولية، بل
إن هناك فصولاً أخرى لا تقل إيلاماً ووضوحاً، ومن هذه الفصول ما شاهده العالم
أخيراً على أرض فلسطين بأيدي اليهود:
فقد تواترت الأنباء عن قيام الجيش (الإسرائيلي) بمجزرة بشعة في مدينتي
نابلس وجنين، وقد ركز الإعلام على مجزرة مدينة جنين ومخيمها نظراً لسقوط
قتلى من الجيش (الإسرائيلي) أثناء مقاومته..
ذكرت الأنباء أن قوات الاحتلال نفذت بمساندة الدبابات مجزرة حقيقية في
المخيم، وأن جنود الاحتلال قاموا بعمليات قتل عشوائية لا تميز بين الشيوخ
والنساء والأطفال، وأن الاحتلال باشر عمليات هدم منازل مخيم جنين واحتلالها،
واستخدم القناصة لقتل السكان، كما أنه منع سيارات الإسعاف من إنقاذ المصابين،
بل كان يقصف هذه السيارات، وأشار المواطنون الفلسطينيون إلى أن قوات
الاحتلال قامت بتجريف المنازل فوق الشبان المقاومين على الرغم من نفاد ذخيرتهم
وتوقف مقاومتهم، وأنها تمارس عمليات إعدام للمقاتلين الذين تنفد ذخيرتهم داخل
المخيم؛ مما أدى إلى سقوط حوالي 500 قتيل - أكثرهم من المدنيين - حسب
بعض التقديرات.
وفي إطار محاولات قوات الاحتلال إخفاء معالم الجرائم التي ارتكبتها في
المخيم عندما سيطرت على المخيم بعد قتال عنيف استمر طوال عشرة أيام.. فقد
أبقت على منطقة المخيم منطقة عسكرية مغلقة، ومنعت دخول الصحفيين وهيئات
الإغاثة الدولية والمؤسسات الحقوقية إلى المدينة والمخيم، في دليل على أنهم
يقومون بإخفاء جريمة لا يريدون أن يعرفها أحد.
ومع ذلك توالت الروايات عن قيام هذا الجيش بدفن مئات الجثث في مقابر
جماعية، وأكد نواب عرب في الكنيست (الإسرائيلي) أنهم تلقوا يومياً اتصالات
هاتفية من مواطنين يؤكدون أنهم شاهدوا عمليات دفن جماعية في أماكن متباعدة،
وقال شهود عيان فلسطينيون إنهم شاهدوا شاحنات إسرائيلية تنقل جثث قتلى
فلسطينيين من مخيم جنين، وتوالت هذه الشهادات لتشير إلى بعض أماكن هذه
المقابر الجماعية، فأكدت فتاة فلسطينية من قرية أبو كف البدوية داخل (فلسطين
48) أنها شاهدت عمليات دفن في قرية نباطين القريبة، وأكد آخر أنه شاهد عملية
دفن جماعي في منطقة الجفتلك في مدينة أريحا بالضفة الغربية، وهناك روايات
تشير إلى نقل جثث جمعت من المخيم وشحنت أولاً إلى غابة صادح شمال المحلة،
ومن هناك وضعتها القيادة العسكرية في أكياس بلاستيكية سوداء ونقلت في شاحنات
مبردة إلى مقبرة حفرها وأعدها الجيش (الإسرائيلي) بالقرب من جسر دمياح في
وادي الأردن.
الجيش (الإسرائيلي) نفسه أعلن ثم تراجع عن سقوط نحو مئتي قتيل
فلسطيني في مخيم جنين، وقال كبير المتحدثين باسم الجيش الجنرال رون كيتري
لراديو الجيش «كانوا على ما يبدو مئات القتلى» رغم أن عدد القتلى الذين نقلوا
إلى مستشفى جنين وصل إلى 23 فقط، فأين ذهبت بقية الجثث؟! ..
وزير الخارجية (الإسرائيلي) شيمون بيريز (جزار قانا) اعترف مستبقاً
احتمال إدانته مستقبلاً كمجرم حرب بأن ما ارتكبه الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين
هو مجزرة قد تمس صورة (إسرائيل) كما ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية.
الموفد الخاص للاتحاد الأوروبي إلى الشرق الأوسط ميغيل انخيل موراتينوس
والمبعوث الأممي تيري رد لارسن وصفا ما حصل في مخيم جنين بعد تنظيفه!!
بأنه «مأساة إنسانية» ، وأقر موراتينوس بـ «أن ما حدث في مخيم جنين
للاجئين، أمر فريد لم يشهده من قبل» .
بيتر هانسن، المندوب العام للأونروا، عبر عن ارتعابه وأعلن المخيم
منطقة منكوبة.
في جنين: هناك ضحايا.. وهناك جناة.. هناك شهود.. وهناك اعترافات.
في جنين جريمة تحتاج إلى تحقيق وتبحث عن العدالة!!
فماذا فعل (ولاة أمور العالم) ؟
الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض آري فلايشر قال: إن الرئيس بوش
«يؤيد إجراء تحقيق، وأن تقوم الأمم المتحدة بذلك، وقد دعا الرئيس إلى الشفافية
ويريد (رؤية) حقائق» .
الناطق باسم الخارجية الأمريكية ريتشارد باوتشر أعلن أن الحكومة الأميركية
«تؤيد إجراء تقويم معمق وحيادي» من قبل الأمم المتحدة لما وقع في مخيم جنين
خلال العملية العسكرية الإسرائيلية.
توني بلير رئيس وزراء بريطانيا أيد تحقيقاً دولياً عن أحداث جنين من قبل
اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
منظمة العفو الدولية دعت مجلس الأمن الدولي إلى إجراء تحقيق مستقل على
الفور في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في جنين.
ثم ... أقر مجلس الأمن الدولي قراراً بإرسال لجنة تقصي حقائق وليس
محققين دوليين إلى جنين.
شُكلت اللجنة.. أعلن متحدث باسم شارون أن هذا الأخير لا يرى حاجة
لإجراء تحقيق مستقل في الأحداث التي شهدها المخيم.. قال مجلس الوزراء
(الإسرائيلي) إنه يرغب في عقد مزيد من المباحثات حول التفويض الذي تحمله
البعثة وتشكيلها..
وقال هذا المجلس: إن الظروف في المنطقة «غير مواتية بعد» لقيام البعثة
بمهمتها ... الحكومة الإسرائيلية ترفض التعاون مع فريق الأمم المتحدة لتقصي
الحقائق في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، وتعلن أنها ستعمل على منع زيارة
الفريق للمخيم.
ثم ... بوش أجرى ثلاث مكالمات تليفونية مع شارون، وأكد له أن أمريكا لن
«تترك إسرائيل وحدها تواجه لجنة تقصي الحقائق الأممية» .
أبلغ نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية كيران بريندركاست
الصحفيين عقب اجتماع خاص مع المجلس أنه «لما كان يبدو من بيان مجلس
الوزراء الإسرائيلي أن الصعوبات القائمة في وجه نشر فريق تقصي الحقائق لن
تحل في أي وقت قريباً، فإن الأمين العام يفكر في حل الفريق، وقد أبلغت المجلس
بهذا الأمر» .
وأخيراً ... حل الأمين العام للأمم المتحدة اللجنة وسرحها (متأسفاً!!) .
كان الأجدر به ألا يتأسف على تسريح لجنة، ولكن يتأسف على تسريح
العدالة المدعاة.
إنها مجرد لجنة تقصي حقائق!! هل لا يملك هؤلاء إمكانات فرض عدالتهم أم
أنهم لا يرغبون في البحث عن العدالة؛ لأن الضحية لا تستحق الاهتمام بها ولا
تستحق هذه العدالة المشوهة المبتورة؟!
إنها مرة أخرى القوة فوق الحق، ومجاملة الجلاد على حساب الضحية،
والمعايير المزدوجة.
معذرة أيتها العدالة.. نشتاق إليك دوماً، ولكن آسريكِ يمنعوننا من لقائك..
تخبرنا أختك الشهادة التي نلقاها دوماً أن لا سبيل لرؤيتك إلا إذا تحطمت
قيودك.
وداعاً أيتها العدالة.. مرحباً أيتها الشهادة!(176/4)
دراسات في الشريعة
في ضوء تطبيقات الأئمة المتقدمين
المنهج السليم في دراسة الحديث المعل
د. علي بن عبد الله الصيّاح
تمهيد:
إنّ مما يسر الباحث في علمِ الحديثِ الشريف ما يَرى من انتشارِ المنهجيةِ
السليمة في دراسةِ الحديثِ وعلومِهِ، والعنايةِ بعلوم سلفنا الزاخرة؛ جمعاً ودراسةً
وتحليلاً واستنطاقاً.
ومن ذلك العناية بأدق أدق وأجل علوم الحديث: «علم العلل» قَالَ الحافظُ
ابنُ حجر رحمة الله عليه: «المُعَلَّل: وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها،
ولا يقوم به إلاّ من رزقه الله فَهْماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفةً تامةً بمراتب
الرواة، وملكةً قويةً بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلاّ القليل من أهل هذا
الشأن؛ كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة،
وأبي حاتم، وأبي زرعة..» [1] .
قال أبو عبد الله الحميديُّ رحمة الله عليه: «ثلاثُ كتبٍ من علوم الحديث
يجبُ الاهتمامُ بها: كتابُ العلل، وأحسنُ ما وضع فيه كتاب الدّارقُطنيّ، والثاني:
كتابُ المؤتلف والمختلف، وأحسنُ ما وضع فيه الإكمال للأمير ابنِ ماكولا، وكتابُ
وفيات المشايخ، وليس فيه كتابٌ [2] » [3] . وقال ابنُ رجب رحمة الله عليه:
«ولما انتهى الكلام على ما ذكره الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمة الله عليه في
كتاب الجامع ... أحببتُ أن أتبع كتاب العلل بفوائد أُخر مهمة.. وأردت بذلك تقريب
علم العلل على من ينظر فيه، فإنه علمٌ قد هُجر في هذا الزمان، وقد ذكرنا في
كتاب العلم أنَّه علمٌ جليلٌ قلَّ من يعرفه من أهل هذا الشأن، وأنَّ بساطه قد طُوي
منذ أزمان» [4] .
وبفضل الله انتشر بين طلبة الحديث العناية بهذا الفن الدقيق، وحرص
الباحثون في الدراسات العليا على تسجيلِ الموضوعات في هذا الفن، من ذلك مثلاً:
«مرويات الزهري المعلة في كتاب العلل للدارقطني» ، و «مرويات الإمامين
قتادة بن دعامة ويحيى بن أبي كثير المعلة في كتاب العلل للدارقطني» ،
و «مرويات أبي إسحاق السبيعي المعلة في كتاب العلل للدارقطني» ، و «علل
ابن أبي حاتم تحقيق وتخريج ودراسة» [5] ، و «الأحاديثُ التي أعلها الإمامُ يحيى
بنُ معين من خلال سؤالات الدوري وابن محرز والدارمي وابن الجنيد والدّقاق»
و «الأحاديثُ التي أعلها البخاريُّ في التاريخ الكبير» ، و «الأحاديثُ التي
أعلها البخاريُّ في التاريخ الأوسط» ، و «الأحاديث التي أعلها علي بن المديني» ،
و «الأحاديث التي أعلها الإمامُ أحمد بن حنبل في مسنده» ، و «الأحاديثُ
التي أعلها العُقيليّ في كتابهِ الضعفاء» ، و «الأحاديثُ المرفوعةُ المعلة في كتاب
الحِلْية لأبي نُعيم» ، و «الأحاديثُ التي أعلها أبو داود في سننه» وغيرها.
وما أحسنَ ما قال الدكتور أحمد محمد نور سيف وفقه الله: «بدأنا نَقْربُ من
وضع منهج متقاربٍ يُصور لنا مناهج النُّقاد في تلك الحقبة من الزمن، هذه الحقبة
هي العصور الذهبية لنُقَّاد الحديث، مدرسة علي بن المديني، ويحيى بن معين،
وأحمد بن حنبل والمدرسة التي قبلهم، والمدرسة التي بعدهم. هذه المدارس في
الواقع قد تكون مدارس، وقد تكون مدرسة، قد تتقارب المناهج وقد تفترق وقد
تختلف، ولكن لا يمكن أنْ نتصور أو أن نستطيع أنْ نُلِمَّ بتلك المناهج في إطارٍ عامٍّ
محددٍ إلاَّ بمثلِ هذه الدراسة..» [6] .
وقبل الدخول في موضوع البحث أنبه على أمورٍ ينبغي للباحث أن يتنبه لها
لكي يصلَ للغاية والفائدة المرجوة من الدراسة، وهي:
1 - أن لا يحاكم الباحثُ الأئمةَ والنقادَ المتقدمين على ضوء معلوماته ومعارفه
التي استمدها من بعض الكتب المتأخرة التي قد تخالف بعض مصطلحات
الأئمة المتقدمين وعباراتهم، فيعمد إلى تغليط الأئمة في مصطلحاتهم فيفوّت على
نفسِهِ علماً كثيراً؛ من ذلك مثلاً لفظة (مرسل) معناها عند المتأخرين: ما
أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنَّ الأئمة المتقدمين يوسعون معناها
بحيثُ تشمل الانقطاع؛ من ذلك مثلاً قول ابن أبي حاتم رحمة الله عليه في كتاب
العلل: «سَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيث رَوَاهُ الفِرْيابِيُّ، عَنْ عُمَر بنِ رَاشِد، عَنْ يَحْيَى بنِ
إسْحَاقَ بنِ عَبْد الله ابن أَبِي طَلْحة، عَنْ الْبَرَاء، عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: الْرِّبَا اثنان وسَبْعُون بَاباً، أدناها مِثْلُ إتيانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ» ، قَالَ أَبِي: هو
مرسل، لم يدرك يَحْيَى بنُ إِسْحَاق الْبَرَاء، ولا أدرك والدُهُ الْبَرَاء « [7] ، ومن ذلك
أيضاً لفظ التدليس عند المتقدمين يطلق على الإرسال بخلاف تعريف المتأخرين له،
ومن ذلك لفظة (حسن) ، ولفظة (منكر) ، ولفظة (مجهول) وغيرها من
المصطلحات.
2- اتباعُ الأئمةِ المتقدمين في تعليلهم للأخبار، وعدم التسرع في الرد عليهم،
وهذا من باب الاتباع المحمود لا التقليد المذموم، قال ابنُ رجب:» قاعدةٌ مهمةٌ:
حذّاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل
واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه
حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره،
وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عَنْ سائر أهل العلم « [8] ،
وما قاله ابنُ رجب يتعذر في مثل هذه الأزمنة مما يجعل الأمر كما قال ابنُ حجر:
» قد تقصرُ عبارة المعلل منهم فلا يفصحُ بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى
الروايتين على الأخرى كما في نقد الصيرفي سواء؛ فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام
من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأوْلى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح
الحديث إذا صححه، وهذا الشافعيّ مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه
فيقول: «وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث» ، وهذا حيث لا يوجد مخالف
منهم لذلك المعلل، وحيثُ يصرح بإثبات العلة، فأمَّا إن وجد غيره صححه فينبغي
حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما، وكذلك إذا أشار إلى المعلل إشارةً ولم
يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإنْ ذلك يحتاج إلى الترجيح، والله أعلم « [9] ،
وقال أيضاً:» وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم
وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم
لهم فيه، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد «
[10] .
وتأمل هذه القصة التي ذكرها ابنُ أبي حاتم قال:» سمعتُ أبي رحمه الله
يقولُ: جاءني رجلٌ من جِلَّةِ أصحابِ الرأي مِنْ أهلِ الفهم منهم، وَمَعَه دفترٌ
فعرضه عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأ قد دَخَل لصاحبه حديثٌ في
حديث، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطل، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ منكر،
وقلتُ في بعضهِ: هذا حديثٌ كذب، وسائرُ ذلك أحاديثُ صحاح، فقال: من أين
علمتَ أنّ هذا خطأ، وأنَّ هذا باطل، وأنّ هذا كذب، أخبرك راوي هذا الكتاب
بأني غلطتُ وأني كذبتُ في حديث كذا؟ فقلتُ: لا؛ ما أدري هذا الجزء من رواية
مَنْ هو، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأنّ هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث
كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل
على ما تقول؟ قلتُ: سلْ عما قلتُ من يحسن مثل ما أُحسن؛ فإن اتفقنا علمتَ أنَّا
لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو
زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلتَ؟ قلت: نعم: قال: هذا عجب.
فأخذ فكتب في كاغَدٍ [*] ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليّ وقد كتب
ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث؛ فما قلت إنه باطل قال أبو زرعة:
هو كذب، قلتُ: الكذب والباطل واحد، وما قلت إنه كذب قال أبو زرعة: هو
باطل، وما قلت إنه منكر قال: هو منكر كما قلتُ، وما قلت إنه صحاح قال أبو
زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟
فقلت: فقد علمت أنَّا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على
صحة ما نقوله أن ديناراً نَبَهْرَجاً [11] يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج،
ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت إن هذا نبهرج؛ هل كنت
حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا. فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي
بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلتَ إن هذا نبهرج؟
قال: علماً رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك، قلتُ له: فتحمل فصّ ياقوت
إلى واحدٍ من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا
ياقوت، فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج، وأن هذا ياقوت هل حضرت
الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟ قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه
بأنه صاغ هذا زجاجاً، قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رزقت،
وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأنّ هذا الحديث كذب،
وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه « [12] .
وتأمل أيضاً هذه القصة التي ذكرها أبو يعلى الخليليُّ. قال: أخبرنا علي بنُ
عُمَر الفقيه قال: حدّثنا أبو محمد عبد الرحمن بنُ أبي حاتم قال: سمعتُ أبي يقول:
دخلتُ قَزوين سنةَ ثلاث عشرة ومائتين مع خالي محمد بن يزيد، وداود العقيلي
قاضيها، فدخلنا عليه فدفع إلينا مَشْرَساً [13] فيه مسند أبي بكر؛ فأولُ حديثٍ رأيتُه
فيه: حدثنا شعبةُ عَنْ أبي التَيّاح عَنْ المغيرة بن سُبَيْع عَنْ أبي بكر الصديق قال:
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:» يخرج الدجالُ من أرضٍ يقال لها: خراسان
يتبعه أقوامٌ كأنّ وجهوهم المجانُّ المُطرَقَةُ « [14] ، فقلتُ: ليس هذا من حديث شعبة
عَنْ أبي التَيّاح، وإنما هو من حديثِ سعيد بن أبي عَرُوبة وعبد الله بن شَوْذَب عَنْ
أبي التَيّاح، فقلتُ لخالي: لا أكتبُ عنه إلاّ أن يرجع عَنْ هذا، فقال خالي: أستحي
أن أقول، فخرجتُ ولم أسمعْ منه شيئاً» [15] .
وذكرها ابنُ أبي حاتم في الجرح والتعديل [16] باختصار فقال: «سمعتُ أبي
يقول: داود بن إبراهيم هذا متروك الحديث كان يكذب، قدمتُ قزوين مع خالي
فحمل إليَّ خالي مسنده فنظرتُ في أول مسند أبي بكر رضي الله عنه فإذا حديث
كذب عَنْ شعبة، فتركته وجهد بي خالي أن أكتب منه شيئاً، فلم تطاوعني نفسي،
ورددتُ الكتب عليه» .
هذه القصة التي وقعت لأبي حاتم وعمره ثمانية عشر تبيّن مدى ما وَصَل إليه
القوم من سعة حفظ، وسرعة استحضار، ودقة نقد، وقوة في الحق؛ فالحديثُ
ورجالهُ وطرقهُ تجري مع أنفاسهم كما يجري الهواء، وعندما يسمعون الخطأ
والوهم لا يقاومون الدافع الشرعي المتأصل في نفوسهم في رد وتصحيح هذا الوهم
والخطأ مهما كانت منزلة الواهم والمخطئ، فلا محاباة في الذّب والدّفاع عَنْ
سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا لقريبٍ ولا لشريفٍ، وهذا في الحقيقة من
حفظ الله لهذا الدين.
وقصصُ أئمةِ الحديثِ وأخبارهُم في هذا البابِ كثيرةٌ جداً؛ فعلى طالب العلم
أنْ يعرفَ للقومِ منزلتهم، وقدم صدقهم فيتأنّى كثيراً عندما يهمُّ بمخالفتهم أو تعقبهم
خاصةً في جوانب الحديث الدقيقة كالعلل.
3 - جمعُ طرقِ الحديث، والنظر فيها مجتمعةً، ومعرفة مراتب رواتها،
قالَ الخطيبُ البغداديّ رحمة الله عليه: «والسبيلُ إلى معرفةِ علة الحديث أنْ يجمع
بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان
والضبط، كما أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأشناني بنيسابور قال:
سمعتُ أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي يقول: سمعتُ عثمان بن سعيد الدارمي
يقول: سمعتُ نعيم بن حماد يقول: سمعت ابن المبارك يقول: إذا أردتَ أن يصحَّ
لكَ الحديث فاضرب بعضه ببعض» [17] .
وقال علي بنُ المديني رحمة الله عليه: «البابُ إذا لم تجمع طرقه لم يتبين
خطؤه» [18] ، وقال يحيى بنُ معين رحمة الله عليه: «اكتب الحديث خمسين مرة،
فإنّ له آفات كثيرة» [19] ، وقال ابن رجب: «معرفة مراتب الثقات، وترجيح
بعضهم على بعض عند الاختلاف، إمّا في الإسناد، وإمّا في الوصل والإرسال،
وإما في الوقف والرفع ونحو ذلك، وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه وكثرة
ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث» [20] . وقال ابنُ حجر: «ويحصل
معرفة ذلك بكثرة التتبع وجمع الطرق» [21] ، وقال ابن الصلاح رحمة الله عليه:
«ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك
تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو
دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك» [22] .
4 - اتباعُ منهجٍ منضبطٍ عند دراسةِ الحديثِ المُعل يوافق طريقة الأئمة
المتقدمين، وهذا هو المقصود من هذا البحث، وقد رأيتُ دراسةً لحديثٍ مُعل
كَتَبه أحدُ الباحثين وَقَع فيه بأوهام عجيبة وغَلّط الأئمة، وجره الإسنادُ من حيثُ لا
يشعر إلى أسانيد أخرى لا علاقة لها بالعلة ولا بالطريق فأعلها؛ لأنه لم يتبع المنهج
السليم في دراسته؛ فكانت النتيجة المتوقعة. وعدمُ اتباعِ المنهج السليم في دراسة
الحديث المُعل على طريقة الأئمة المتقدمين يُنْتج لنا مَنْ يقول لإمامِ العللِ في زمانهِ
علي بن المديني [23] : «ما هكذا تُعَل الأحاديث يا بنَ المديني» !! ، كما قد وَقَع
مِنْ بعضِ المعاصرين هداهم اللهُ وفتح عليهم، والله المستعان وعليه التكلان.
تعريف العلة والحديث المُعل في الاصطلاح:
ترد كلمة عِلة ومُعَلّ، ومعلول في لسان الأئمة المتقدمين على معنيين:
المعنى الأوَّل: معنى عام ويراد به الأسباب التي تقدح في صحة الحديث
المانعة من العمل به. قال ابن الصلاح: «اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير
ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المُخرِجة له من حال الصحة إلى
حال الضعف المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل؛ ولذلك
نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ،
ونحو ذلك من أنواع الجرح، وسمّى الترمذيُّ النسخَ علةً من علل الحديث» [24] .
وما قاله ابن الصلاح ظاهر؛ ففي كتاب العلل لابن أبي حاتم، وكتاب العلل
للدارقطني أمثلةٌ كثيرةٌ تدلُّ على ما قال، وكذلك في تطبيقات الأئمة المتقدمين؛
فالعلة عندهم لها معنى واسع وشامل، بحيث تشمل ما قاله ابن الصلاح، والمعنى
الخاص الآتي الذكر وإن كان المعنى الخاص هو مراد من نبه على قلة من تكلم في
هذا الفن، وأنَّه علمٌ عزيزٌ وشريف، طُوي بساطه منذ أزمان.
المعنى الثاني: معنى خاص، ويشمل:
- الاختلاف في إسناد الحديث كرفعه ووقفه، ووصله وإرساله، وغير ذلك.
- الاختلاف في متن حديث كاختصار المتن، أو الإدراج فيه، أو روايته
بالمعنى وغير ذلك.
- العلة الغامضة في إسنادٍ ظاهرهُ الصحة حتى لو كان الإسناد فرداً، وهذه
العلةُ الغامضةُ لا يمكن أن يوضع لها ضابط محدد لأنّ لها صوراً كثيرةً ومتعددةً،
وفي بعضها دقة وغموض، لا يعلمها إلاّ حذاق هذا الفن؛ فمن ذلك مثلاً: ما قاله
يعقوب بن شيبة السدوسيّ: «كان سفيان بن عيينة ربما يحدث بالحديث عَنْ اثنين،
فيسند الكلام عَنْ أحدهما، فإذا حدّث به عَن الآخر على الانفراد أوقفه أو أرسله»
[25] ، قال ابنُ رجب: «ومن هذا المعنى: أنّ ابن عيينة كان يروي عَنْ ليث،
وابن أبي نجيح جميعاً عَنْ مجاهد عَنْ أبي معمر عَنْ علي حديث القيام للجنازة، قال
الحميديُّ: فكنا إذا وقفناه عليه لم يُدخل في الإسناد أبا معمر إلاَّ في حديث ليث
خاصة، يعني أنّ حديث ابن أبي نجيح كان يرويه مجاهد عَنْ علي منقطعاً» [26] .
والاستعمال الثاني هو المراد في كلام كثير من المتأخرين، وهو الذي ذكروه
في كتب المصطلح، وهو مراد من تكلم عَنْ أهمية العلل ودقتها وقلة من برز فيها،
وقد أشار إليه الحاكم في معرفة علوم الحديث [27] ، وعرّفه ابنُ الصلاح بقوله:
«هو الحديث الذي اطلع فيه على علةٍ تقدحُ في صحته مع أنّ ظاهره السلامة منها»
[28] ، وعرّفه ابنُ حجر بقوله: «هو حديث ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش
على قادح» [29] .
وعليه يكون الحديث المُعل متفاوتاً من حيثُ الظهور والخفاء، والوضوح
والغموض، وقد يكون الكلام على الحديث المعل من حيثُ الصناعة الحديثية ولا
يلزم من ذلك القدح في صحته، والله أعلم.
تنبيه:
يجتهد بعضُ طلبة الحديث وفقهم الله لالتماس تعريفٍ دقيقٍ للحديثِ المُعل من
خلال كتاب علل ابن أبي حاتم فقط، وفي هذا عندي نظر: من جهة أنّ ابنَ أبي
حاتم مات عَن الكتاب وهو مسودة لم يبيض [30] ، وقد أورد أحاديث استطراداً ليبين
أحكامها الفقهية (رقم 1100، 1213، 1217) ، أو العقدية (2/209 رقم
2118) .
وللخروجِ بمعنى دقيق لا بدَّ من استقراء:
1 - كتب العلل الخاصة، أو المتضمنة للعلل: كعلل ابن المديني،
والترمذي، والدّارقُطنيّ، وابن الشهيد مع علل ابن أبي حاتم، وكتاب التمييز
لمسلم بن الحجاج وغيرها.
2 - استعمالات الأئمة المتقدمين أمثال: شعبة بن الحجاج، ويحيى القطان،
وابن المديني، وابن معين، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم بن الحجاج،
ويعقوب بن شيبة، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والترمذي، والعقيلي.. إلى
الدّارقُطنيّ.
خطوات دراسة الحديث المُعل:
سننطلق في بيان هذه الخطوات من نصِّ إمامين من أئمة العلل هما: الإمام
أبو يوسف يعقوب بن شيبة السدُوسِي المتوفى سنة (ت 262هـ) [31] ، والإمام
أبو الحسن علي بن عُمَر الدّارقُطنيّ (ت 385هـ) رحمة الله عليهما، قال عبدُ
الغني بنُ سعيد الأزدي (ت 409هـ) : «ولم يتكلم أحدٌ على علل الأحاديث بمثل
كلام يعقوب، وعلي بن المديني، والدّارقُطنيّ» [32] .
كلامُ يعقوب بنِ شيبة:
قال أبو القاسم علي بنُ الحسن بن عساكر في تاريخه بعد أنْ ساقَ حديثَ:
«تابعوا بين الحج والعمرة» من طريق أبي يوسف يعقوب بن شيبة السدوسي قال:
«قال أبو يوسف:» تابعوا بين الحج «حديثٌ رواه عَاصِم بن عُبَيد الله بن عَاصِم
بن عُمَر بن الخطاب وهو مضطرب الحديث، فاختلف عنه فيه، فرواه عَنْ عاصم:
عبيد الله بن عُمَر، وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة؛ فأمَّا: عبيدُ الله بن
عُمَر فإنه وَصَله وجوّده فرواه عنه عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة، عَنْ أبيه، عَنْ
عُمَر [33] عَن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر فيه عُمَر، رواه مرة أخرى عَنْ
عُمَر عَن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نرى هذا الاضطراب إلا من عَاصِم وقد
بين ابنُ عيينة ذلك في حديثه قال علي بن المديني: قال سفيان بن عيينة: كان
عَاصِم يقول: عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة عَنْ أبيه عَنْ عُمَر، ومرة يقول:
عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ عُمَر ولا يقول عَنْ أبيه» [34] .
كَلامُ الدّارقُطنيّ:
فقد سئل عَنْ حديثِ عَامِر بنِ ربيعة العدوي عَنْ عُمَر عَن النبي صلى الله
عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ» الحديث،
فقالَ: «يرويه عَاصِمُ بنُ عُبَيد الله بن عَاصِم بن عُمَر بن الخطاب ولم يكن بالحافظ
رَواهُ عَنْ عبدِ الله بنِ عَامِر بن ربيعة عَنْ أبيه عَنْ عُمَر، وكان يضطربُ فيه،
فتارةً لا يذكر فيه عَامِر بنَ ربيعة فيجعله عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ عُمَر، وتارةً
يذكر فيه، حَدّث به عنه: عُبيد الله بن عُمَر، ومحمد بن عَجلان، وسفيان
الثوري، وشريك بن عبد الله، واختلف عنهم؛ رواه ابنُ عُيينة عنه فبانَ
الاضطراب في الإسناد من قبل عَاصِم بن عُبَيد الله لا من قِبل من رواه عنه، فأمّا
روايةُ عبيد الله بن عُمَر عَنْ عَاصِم فرواهُ زُهير، وابن نمير، وعبدة بن سليمان،
وأبو حفص الأبار، وأبو بدر، ومحمد بن بشر عَنْ عبيد الله، فاتفقوا على
قولٍ واحدٍ، وأسندوه عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ أبيه عَنْ عُمَر، وخالفهم علي بن
مسهر، وأبو أسامة، ويحيى بن سعيد الأموي فرووه عَنْ عبيد الله، ولم يذكروا
في الإسناد عَامِر بن ربيعة، ورواه ابن عجلان عَنْ عَاصِم فَجَوّد إسناده خالدُ بنُ
الحارث عنه، وخَالفه بكرُ بنُ صدقة عَنْ ابن عجلان فلم يذكر في الإسناد عَامِر بن
ربيعة، وتابعه الليثُ بنُ سعد على إسناده إلا أنه وقفه، ورواه الثوريُّ عَنْ عَاصِم
واختلف عنه؛ فقال حسينُ بنُ حفص: عَنْ سفيان عَنْ عَاصِم عَنْ عبد الله بن عَامِر
عَنْ أبيه عَنْ عُمَر، وخَالفه أبو أحمد الزبيريّ فرواه عَنْ الثوري فنقَصَ من إسنادهِ
عَامِر بنَ ربيعة، ورواه محمدُ بنُ كثير عَنْ الثوري عَنْ عَاصِم عَنْ عبد الله بن
عَامِر عَنْ أبيه عَن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه عُمَر، ورواهُ شَريكُ
بن عبد الله عَنْ عَاصِم، واختلف عنه فأسنده يحيى بن طلحة عَنْ شَريك وجوّد
إسنادَه، وخَالفه أسباطُ بنُ محمد عَنْ شريك فلم يذكر في الإسناد عامراً. وقال
عثمانُ بنُ أبي شيبة عَنْ شريك عَنْ عَاصِم عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ أبيه عَنْ النبي
صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عُمَر. ورواهُ سفيانُ بنُ عيينة عَنْ عَاصِم فجوّد
إسنادَه وبين أنّ عاصماً كان يضطرب فيه؛ فمرةً ينقصُ من إسنادهِ رجلاً، ومرةً
يزيد فيه، ومرةً يقفه على عُمَر، وقال ابنُ عُيينة: وأكثر ذلك كان يقوله عَنْ عبد
الله بن عَامِر عَنْ أبيه عَنْ عُمَر عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم..» [35] .
بيّن يعقوبُ بنُ شيبة، والدّارقُطنيّ في كلامِهمَا السابق علةَ حديث عُمَر بن
الخطاب عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة ... » بياناً
شافياً، واشتمل بيانهما لعلة الحديث على عدة خطوات مرتبة:
1 - تحديد مدار الحديث:
بدأ يعقوبُ بذكرِ الراوي الذي تلتقي عنده الأسانيد وهو مدار الحديث وذكر
اسمه كاملاً فقال: «تابعوا بين الحج» حديثٌ رواه عَاصِم بن عُبَيد الله بنِ عَاصِم
بنِ عُمَر بن الخطاب «، ونحوه قول الدّارقُطنيّ.
فالخطوة الأولى تحديد الراوي مدار الحديث من حيثُ اسمُهُ ونسبُهُ ومولدهُ
ووفاتهُ وموطنهُ وأشهر أو أبرز أو أجل شيوخه، وأشهر تلاميذه [36] ، وقد عُني
المحدثون بمعرفة الرجال من جميع النواحي المتقدمة؛ فمن الناحية الاسمية عُنُوا
بإزالة الإبهام وتعيين أسماء الرواة وآبائهم وكناهم وألقابهم وأنسابهم، وضبطوا ذلك
بغاية الدقة، وبينوا ما هو على ظاهره من الأنساب وما ليس على ظاهره، وميزوا
كلَّ راوٍ عما سواه تمييزاً دقيقاً [37] ، وكذلك عُنُوا بتواريخ الرواة مولداً ووفاةً
وسماعاً [38] ، قال السخاويُّ:» تواريخ الرواة والوفيات ... وهو فنٌّ عظيم الوقع
من الدين، قديم النفع به للمسلمين، لا يستغنى عنه.. « [39] .
وللمتقدمين أقوال كثيرة دقيقة دالة على مدى اهتمامهم بهذا الجانب من علوم
الحديث؛ فمن تلك الأقوال: قولُ سفيان الثوري:» لما استعمل الرواةُ الكذب،
استعملنا لهم التاريخ « [40] ، وقولُ حفص بن غياث:» إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه
بالسنين « [41] ، وقولُ حسّان بن زيد:» لم نستعن على الكذابين بمثل التاريخ،
نقول للشيخ: سنة كم ولدت؟ فإذا أقر بمولده عرفنا صدقه من كذبه « [42] .
وهذه الخطوة من الأهمية بمكان حيث إنّ أسماء الرجال وأنسابهم وكناهم قد
تتشابه مما يوقع الباحث في أوهام كبيرة. قال المعلميُّ رحمة الله عليه» الأسماء
كثيراً ما تشتبه ويقع الغلط والمغالطة فيها ... وقد يقول المحدث كلمة في راوٍ فيظنها
السامع في آخر، ويحكيها كذلك وقد يحكيها السامع فيمن قيلت فيه ويخطئ بعض
من بعده فيحملها على آخر؛ ففي الرواة المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن
هشام المخزومي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي،
والمغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي، حكى عباس الدوري عَنْ يحيى بن
معين توثيق الأوّل، وتضعيف الثالث، فحكى ابنُ أبي حاتم عَن الدوريّ عَنْ ابن
معين توثيق الثاني ووَهّمه المزيُّ، ووثق أبو داود الثالث وضعف الأوَّل، فذكرت
له حكاية الدوريّ عَن ابن معين فقال: غَلِط عباس، وفي الرواة محمد بن ثابت
البناني ومحمد بن ثابت العبدي وغيرهما ... وفي الرواة عُمَر بن نافع مولى ابن
عُمَر، وعمر بن نافع الثقفي.. « [43] .
وقد كَثُرتْ أوهام المحققين المعاصرين في تسمية الرواة وأنسابهم، وتجرؤوا
على كتب السلف، بل قد وَهّموا الأئمة في ذلك!! والله المستعان.
ولا بدَّ هنا من التنبه إلى:
1 - عدم التوسع في هذه الخطوة بحيث تخرج عَنْ مقصودها الأصلي وهو
التعريف بالراوي المدار لا ترجمته ترجمةً مستوفية؛ فمثلاً سعيد بن المسيب،
وسالم بن عبد الله بن عُمَر، ونافع مولى ابن عُمَر، والزهري، ومالك بن أنس
وغيرهم من كبار الأئمة المشهورين بالثقة والعدالة لا حاجة للإطالة في تراجمهم
لشهرتهم بل يكتفى بتعريف مختصر.
2 - العناية بالرجوع إلى المصادر الأصلية المتقدمة التي عُنيت بهذا الجانب
كتاريخي البخاري الكبير، والأوسط، والجرح والتعديل وغيرها قدر الإمكان؛ لأنّ
في رجوع الباحث للمصادر الأصلية المتقدمة تعميقاً لعلاقة طالب العلم بها، وفهماً
لكلامهم في هذا الشأن، ودُرْبة على طرائقهم في التأليف وغير ذلك من الفوائد.
2 - بيان حال الراوي الذي تلتقي عنده الأسانيد:
بعد تحديد المدار بيّن يعقوبُ بنُ شيبة حالَ المدار من حيثُ القوة والضعف
فقال:» وهو مضطرب الحديث «، وقال الدّارقُطنيّ:» ولم يكن بالحافظ «.
فالخطوة الثانية دراسة حال الراوي من حيث القوة والضعف، ويراعى في
دراسة حال المدار أمور:
1 - هل هو ثقة أو ضعيف أم فيه تفصيل؟
2 - هل حديثه عَنْ جميع شيوخه متساوٍ أو فيه تفصيل؛ فقوي عَنْ بعضهم،
وضعيف عَن البعض الآخر.
3 - هل حديث تلاميذه عنه متساوٍ أو فيه تفصيل؛ فبعضهم أقوى من بعض.
4 - هل حديثه مستقيم طوال عمره أم طرأ عليه تغير واختلاط؟ وهل هذا
التغير ضار أم غير ضار؟ وهل حدّث بعد التغير أم لا؟ وهل ظهرت له مناكير
بعد التغير أم لا؟ ولا بدَّ من تحديد مبدأ التغير والاختلاط بدقة.
5 - هل حديثه في جميع الأماكن متساوٍ، أم فيه تفصيل؟ وسببُ ذلكَ.
6 - هل وُصف بالتدليس؟ وهل ثبت عنه ذلك؟ وما نوعُ تدليسه؟ وهل هو
مكثر منه أم مقل؟ وهل تدليسه عام في شيوخه أم خاص ببعض الشيوخ؟ وهل
يدلس عَن الثقات فقط أم عَن الثقات والضعفاء؟ وكيفية تعامل الأئمة مع حديثه
المدلس [44] .
7 - هل هو يرسل عَنْ شيوخه؟ وهل ثبت عنه ذلك؟ فإن ثبت أنه يرسل
ينظر في ثبوت سماعه من شيوخه؟ ويعتنى بكلام الإمام البخاري في تاريخه الكبير
والأوسط وتصرفاته في الصحيح.
وللشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمة الله عليه كلامٌ نفيسٌ في كيفية البحث عَنْ
أحوال الرواة في كتب الجرح والتعديل في كتابه القيّم» التنكيل «ولعلي أذكرها
باختصار خشية الإطالة، وإنْ كانت جديرة بأن تذكر كاملة بحروفها، قال [45] :
» من أحب أن ينظر في كتب الجرح والتعديل للبحث عَنْ حال رجل وقع في
سندٍ فعليه أن يراعي أموراً:
الأوَّل: إذا وجد ترجمة بمثل ذاك الاسم فليتثبت حتى يتحقق أن تلك الترجمة
هي لذاك الرجل.
الثاني: ليستوثق من صحة النسخة وليراجع غيرها إن تيسر له ليتحقق أنّ ما
فيها ثابت عَنْ مؤلف الكتاب.
الثالث: إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة
فلينظر أثابتةٌ هي عَنْ ذاك الإمام أم لا؟
الرابع: ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإنّ الأسماء تتشابه.
الخامس: إذا رأى في الترجمة «وثقه فلان» أو «ضعفه فلان» أو
«كذبه فلان» فليبحث عَنْ عبارة فلان؛ فقد لا يكون قال «هو ثقة» أو
«هو ضعيف» أو «هو كذاب» .
السادس: أصحاب الكتب كثيراً ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد
الاختصار أو غيره، وربما يخل ذلك بالمعنى..
السابع: قال ابن حجر في لسان الميزان (1/71) : وينبغي أن يتأمل أيضاً
أقوال المزكين ومخارجها ... فمن ذلك أن الدوري قال عَن ابن معين إنه سئل عَن
ابن إسحاق وموسى بن عبيدة الربذي أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة.
وسئل عَنْ محمد بن إسحاق بمفرده فقال: صدوق وليس بحجة. ومثله أن أبا حاتم
قيل له: أيهما أحب إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به. وهو يريد
تفضيله على يونس. وسئل عَنْ عقيل وزمعة بن صالح فقال: عقيل ثقة متقن.
وهذا حكم على اختلاف السؤال. وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام
أئمة أهل الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر.
الثامن: ينبغي أن يبحث عَنْ معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله.
التاسع: ليبحث عَنْ رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه
مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع
مقارنة كلامه بكلام غيره.
العاشر: إذا جاء في الراوي جرح وتعديل فينبغي البحث عَنْ ذات [46] بين
الراوي وجارحه أو معدله من نفرة أو محبة ... «.
والحق أنّ كلام المعلمي هذا ينبغي أن يقرر على طلاب السنة وعلومها في
الدراسات العليا مع شرحٍ وتطبيق، وأرجو أن يتحقق هذا، والله الموفق.
ومما تقدم يتبين:
أ - أنّ دراسة حال الراوي ليست بالأمر الهيّن كما يظن البعض بل ربما
راجع الباحث عشرات الكتب، ودرس عشرات الأسانيد للبحث عَنْ فائدة معينة، أو
التحقق منها، وربما بدأ بدراسة حال الراوي من مولده ونشأته إلى وفاته
لاستخلاص حكم دقيق لحاله، وتأمل حال السلف في هذا الباب:
1 - قال محمدُ بنُ إبراهيم بن أبي شيخ الملطي:» جاء يحيى بن معين إلى
عفّان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة فقال: أما سمعتها من أحد؟ قال: نعم حدثني
سبعة عشر نفساً عَنْ حماد، قال: والله لا حدثتك، فقال: إنما هو درهم، وأنحدرُ
إلى البصرة فأسمع من التبوذكيّ قال: شأنك، فانحدر إلى البصرة، وجاء إلى
التبوذكي، فقال له: أما سمعتها من أحد؟ قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر
وأنت الثامن عشر، قال: وما تصنع بهذا؟ قال: إنّ حماد بن سلمة كان يخطئ
فأردت أن أميّزَ خطأه من خطأ غيره؛ فإذا رأيتُ أصحابه اجتمعوا على شيء علمتُ
أنّ الخطأ من حماد نفسه ... « [47] .
2 - قال ابن حبان:» ولقد دخلتُ حمص وأكثر همي شأن بقية، فتتبعت
حديثه وكتبت النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه،
فرأيته ثقة مأموناً؛ ولكنه كان مدلساً.. « [48] .
ب - أنَّ من يعتمد على الكتب المتأخرة فقط كما هو الجاري في كثير من
الأحيان دون الرجوع إلى المصادر الأصلية المتقدمة من تواريخ وسؤالات وعلل
وغيرها قد قصّر وربما فاته الشيء الكثير عَنْ هذا الراوي المعين، والله المستعان.
3 - ذكر الرواة عَن المدار وبيان اختلافهم عنه:
بعد تحديد المدار، وبيان درجته في الرواية ذكر يعقوب بن شيبة الرواة عَن
المدار وبين اختلافهم فقال:» فاختلف عنه فيه، فرواه عَنْ عاصم: عبيد الله بن
عُمَر، وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة؛ فأمَّا عبيدُ الله بن عُمَر فإنه وَصَله
وجوّده، فرواه عنه عَنْ عبد الله بن عَامِر بن ربيعة، عَن أبيه، عَن عُمَر [49] عَن
النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر فيه عُمَر، رواه مرة أخرى عَنْ عُمَر عَن النبي
صلى الله عليه وسلم «. وقال الدّارقُطنيّ:» حدّث به عنه: عبيد الله بن عُمَر
ومحمد بن عجلان وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله، واختلف عنهم ... «.
فالخطوة الثالثة ذكر الرواة عَن المدار وبيان اختلافهم واتفاقهم عَن المدار،
قال ابن حجر:» فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف « [50] ويراعى هنا
أمور:
1- التأكد من سلامة الإسناد إلى الراوي عَن المدار، وأنه ثابت عنه؛ فإن لم
يكن ثابتاً فلا يعتمد عليه ولا يذكر إلاّ من باب التنبيه عليه.
2 - التأكد من عدم وجود اختلاف على الراوي عَن المدار؛ فإن كان هناك
اختلاف يُدْرس للتحقق من الرواية الراجحة.
3 - دراسة حال الراوي وبيان درجته من حيثُ الرواية، ولا يتوسع في
ترجمته بل يذكر ما يفي بالغرض.
4 - ترتيب الروايات عَن المدار حسب الاتفاق والاختلاف؛ فيُقال مثلاً:
اختلف عَن الزهري على خمسة أوجه:
الأوّل: رواه فلان، وفلان في الراجح عنه عَن الزهري..... يذكر الوجه.
الثاني: رواه فلان، وفلان في الراجح عنه عَن الزهري..... يذكر الوجه.
وهكذا.
4 - الموازنة بين الروايات وبيان الراجح وأسباب الترجيح:
بعد الخطوات السابقة بين يعقوب بن شيبة، والدّارقُطنيّ أنّ سبب الاضطراب
في الحديث من عَاصِم بن عُبَيد الله نفسه لا من الرواة عنه، وذكَرَا ما يدلُّ على ذلك
فقالَ يعقوبُ:» ولا نرى هذا الاضطراب إلا من عَاصِم، وقد بين ابنُ عيينة ذلك
في حديثه قال علي بن المديني: قال سفيان بن عيينة: كان عَاصِم يقول: عَنْ عبد
الله بن عَامِر بن ربيعة عَنْ أبيه عَنْ عُمَر ومرة يقول: عَنْ عبد الله بن عَامِر عَنْ
عُمَر ولا يقول عَن أبيه «، وقال الدّارقُطنيّ:» ورواه سفيانُ بنُ عيينة عَن عَاصِم
فجوَّد إسناده وبين أن عاصماً كان يضطرب فيه؛ فمرة ينقص من إسناده رجلاً
ومرة يزيد ومرة يقفه على عُمَر ... «.
إذاً الخطوة الرابعة الموازنة بين الروايات وبيان الراجح وأسباب الترجيح؛
وهذه من أهم خطوات الدراسة وبها يتميز الناقد البصير من غيره، ومن خلالها
يتبين دقة نظر الباحث، وعمق معرفته بالعلل، ومنها يعرف فضل علم الأئمة
المتقدمين وبراعتهم ودقتهم؛ فهناك قرائن وقواعد طبقها الأئمة للموازنة بين
الروايات المعلة، قال ابن حجر:» والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا
يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن « [51] ، وقال
ابنُ عبد الهادي عَنْ قبول زيادة الثقة:» فيه خلاف مشهور؛ فمن الناس من يقبل
زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها؛ والصحيح التفصيل وهو أنها تُقبل في
موضع؛ دون موضع فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً والذي لم
يذكرها مثله أو دونه في الثقة كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله: «من
المسلمين» في صدقة الفطر، واحتج بها أكثر العلماء، وتقبل في موضع آخر
لقرائن تخصها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط؛ بل كل زيادة لها حكم
يخصها؛ ففي موضع يجزم بصحتها.. وفي موضع يغلب على الظن صحتها..
وفي موضع يجزم بخطأ الزيادة.. وفي موضع يغلب على الظن خطؤها.. وفي
موضع يتوقف في الزيادة « [52] .
وقال العلائيُّ رحمة الله عليه:» وأمَّا أئمةُ الحديثِ فالمتقدمون منهم كيحيى
بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهما كعلي بن المديني وأحمد
بن حنبل، ويحيى بن معين، وهذه الطبقة، وكذلك من بعدهم كالبخاريّ، وأبي
حاتم، وأبي زرعة الرازيين، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وأمثالهم، ثم
الدارقطني والخليلي كلُّ هؤلاء يقتضي تصرفهم في الزيادة قبولاً وردّاً الترجيح
بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث، ولا يحكمون في المسألة بحُكْمٍ
كُليّ يعم جميعَ الأحاديث، وهذا هو الحق الصواب كما سنبينه إن شاء اللهُ تعالى.. «
[53] .
والأئمةُ يصرحون أحياناً بهذه القرائن والطرق، وأحياناً تفهم وتستنبط من
صنيعهم؛ فمن تلك الطرق والقرائن [54] :
1 - الترجيح بالحفظ والإتقان والضبط.
2 - الترجيح بالعدد والكثرة.
3 - سلوك الراوي للجادة والطريق المشهور.
4 - الترجيح بالنظر إلى أصحاب الراوي المقدمين فيه.
5 - الترجيح باعتبار البلدان واتفاقها.
6 - الترجيح بالزيادة.
7 - عدمُ وجودِ الحديث في كتب الراوي الذي رُوي الحديث عنه.
8 - شهرة الحديث وانتشاره من طريق يدل على غلط من رواه من طريق
آخر.
9 - وجود قصة في الخبر تدل على صحة الطريق.
10 - التفرد عَنْ إمام مشهور وله تلاميذ كثيرون.
11 - تحديثُ الراوي في مكان ليس معه كتبه.
12 - التحديث بنزول مع إمكانية العلو في السماع.
13 - عدم العلم برواية الراوي عمن روى عنه، أو عدم سماعه منه.
14 - إمكانية الجمع بين الروايات عند التساوي.
15 - رواية الراوي عَنْ أهل بيته.
16 - اختلاف المجالس وأوقات السماع.
17 - ورود الحديث بسلسلة إسناد لم يصح منها شيء.
18 - التحديث من كتاب.
19 - ضعف الراوي أو وهمه أو اضطرابه.
20 - مشابهة الحديث لحديث راوٍ ضعيف.
21 - أن يروي الرجل الحديثَ على وجهين: تارةً كذا، وتارةً كذا، ثم
يجمعهما معاً؛ فهذا قرينة على صحتهما معاً.
22 - قبول الراوي للتلقين.
23 - ورود الحديث عَنْ راوٍ وقد ورد عنه ما يدل على خلافه موقوفاً.
24 - مخالفة الراوي لمَا روى سواء وُجِد اختلاف أو لم يوجد على تفصيل
في ذلك.
25 - اضطراب إحدى الروايات.
26 - دلالة الرواية على الكذب.
27 - شهرة الراوي بأمر معين؛ كاختصار المتون، أو الإدراج فيها، أو
الرواية بالمعنى، أو التصحيف في الألفاظ أو الأسماء، أو قصر الأسانيد، أو جمع
الرواة حال الرواية.
والحق أنَّ قرائن الترجيح كثيرة لا تنحصر؛ فكلُّ حديثٍ له نقدٌ خاص. قال
ابنُ حجر:» ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع
الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنّما ينهض بذلك الممارس
الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام
بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث
بمفرده « [55] .
وقال ابن رجب:» قاعدةٌ مهمةٌ: حذّاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم
للحديث، ومعرفتهم بالرجال، وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به
أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك،
وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة
التي خصوا بها عَنْ سائر أهل العلم « [56] .
وفي الختام أنبه على أمور:
1 - ضرورة العنايةِ بعلم علل الحديث بالنسبة للمشتغلين بالحديث وعلومه،
ومن لا يحسنه ولا يفهمه لا يحل له الحكم على الأحاديث حتى يتعلمه ويفهمه،
وينبغي تشجيع الطلبة على دراسته، وتقرير مقرر خاص لطلبة الدراسات العليا في
هذا الفن والبحث فيه.
2 - ضرورة فهم مصطلحات أئمة الحديث المتقدمين حسب استعمالهم لها عَن
طريق الجمع والاستقراء والدراسة والموازنة.
3 - اتباع الأئمةِ المتقدمين في تعليلهم للأخبار، وعدم التسرع في الرد عليهم،
وهذا من باب الاتباع المحمود لا التقليد المذموم.
4 - جمع طرقِ الحديث، والنظر فيها مجتمعةً، ومعرفة مراتب رواتها.
5 - اتباع منهجٍ منضبطٍ عند دراسةِ الحديثِ المُعل يوافق طريقة الأئمة
المتقدمين، فيبدأ أوّلاً بتحديد مدار الحديث، ثم بيان حال المدار من حيثُ القوة
والضعف، ثم يذكر الرواة عَنْ المدار ويبين اختلافهم واتفاقهم عنه، ثم يوازن بين
الروايات ويبين الراجح وأسباب الترجيح.
6 - خطأ من يقول إنَّ زيادة الثقة مقبولة مطلقاً، فإنّ طريقة الأئمة المتقدمين
الحكم حسب القرائن، وتقدم قريباً النقل في ذلك عَن ابن عبد الهادي، والعلائيّ،
وابن حجر، وقال ابن رجب:» ثم إنّ الخطيبَ تناقضَ فذكر في كتاب «الكفاية»
للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عَنْ
أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين، ثم إنه اختار أن
الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء، وهذا يخالف
تصرفه في كتاب «تمييز المزيد» [57] .
7 - خطأ وضع حكمٍ أو قاعدةٍ كليةٍ في الترجيح بين الأحاديث المعلة، بل
الأمر كما قال ابنُ حَجَر: «كل حديث يقوم به ترجيح خاص ... ولهذا لم يحكم
المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم
عندهم في كل حديث بمفرده» ، وقال البقاعي عند كلامه على تعارض الوصل
والإرسال: «إنّ ابنَ الصلاح خَلَطَ هنا طريقةَ المحدثين بطريقةِ الأصوليين، فإن
للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظراً لم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل
عنه، وذلك أنهم لا يحكمون فيها بحكمٍ مطرد، وإنما يديرون ذلك على القرائن»
[58] .
8 - أنَّ الأئمة المتقدمين أمثال شعبة بن الحجاج، ويحيى القطان، وعلي
ابن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي زرعة،
وأبي حاتم، والنسائي، والدّارقُطنيّ، وغيرهم في باب التعليل كمسألة زيادة
الثقة، والتعليل بالتفرد بضوابط متفقون بالجملة وإن وقع منهم بعض الاختلاف
الجزئي لأسباب معينة؛ ومما يدل على ذلك:
قصة السائل مع أبي حاتم التي ذكرتها في أوَّل البحث؛ وفيها يقول أبو حاتم:
«جاءني رجلٌ من جِلَّةِ أصحابِ الرأي مِنْ أهلِ الفهم منهم، وَمَعَه دفترٌ فعرضه
عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأ قد دَخَل لصاحبه حديثٌ في حديث،
وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطل، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ منكر، وقلتُ
في بعضهِ: هذا حديثٌ كذب، وسائرُ ذلك أحاديثُ صحاح، فقال: من أين علمتَ
أنّ هذا خطأ، وأنَّ هذا باطل، وأنّ هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني
غلطتُ وأني كذبتُ في حديث كذا؟ فقلتُ: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية مَنْ
هو، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأنّ هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب،
فقال: تدعي الغيب؟ قال قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما
تقول؟ قلتُ: سلْ عما قلتُ من يحسن مثل ما أحسن؛ فإن اتفقنا علمتَ أنَّا لم
نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو
زرعة ... » .
وقال محمدُ بنُ صالح الكِيلِينِي: «سمعتُ أبا زرعة وقالَ لهُ رجلٌ: ما الحُجةُ
في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة أنْ تسألني عن حديثٍ لهُ عِلةٌ فأذكرُ علتَه ثم تقصدُ
محمد بن مسلم بن وارة، وتسأله عنه، ولا تخبره بأنّك قد سألتني عنه فيذكر علته،
ثم تقصدُ أبا حاتم فيعلله، ثم تميزُ كلامَ كلّ منّا على ذلكَ الحديث، فإنْ وجدتَ بيننا
خلافاً في علته، فاعلم أنّ كلاً منا تكلم على مراده، وإنْ وجدتَ الكلمة متفقة، فاعلمْ
حقيقةَ هذا العلم، قال: فَفَعَلَ الرجلُ، فاتفقت كلمتُهم عليه، فقال: أشهدُ أنَّ هذا
العلمَ إلهام» [59] .
9 - أنّ تعاليل الأئمة للأخبار مبنيةٌ في الغالب على الاختصار، والإجمال،
والإشارة، فيقولون مثلاً: «الصواب رواية فلان» ، أو «وَهِمَ فلان» أو
«حديث فلان يشبه حديث فلان» أو «دَخَلَ حديثٌ في حديث» ولا يذكرون
الأدلة والأسباب التي دعتهم إلى ذلك القول مع وجودها عندهم واستحضارهم إياها
وسببُ ذلك أنّ كلامهم في الغالب موجه إلى أناسٍ يفهمون الصناعة الحديثية
والعلل والإشارة فيدركون المراد بمجرد إشارة الإمام للعلة وذكرها، وقد خشي
الأئمة من أنْ يساء الظن بهم إذا تكلموا بهذا الفن عند من لا يحسنه ولا يفهمه.
قالَ الإمامُ مسلم بن الحجاج: «أمّا بعد: فإنك يرحمك الله ذكرتَ أنّ قِبَلكَ
قوماً ينكرون قولَ القائلِ مِنْ أهلِ العلم إذا قالَ: هذا حديثٌ خطأ، وهذا حديثٌ
صحيحٌ، وفلانٌ يخطئ في روايته حديث كذا، والصوابٌ ما روى فلانٌ بخلافهِ،
وذكرتَ أنهم استعظموا ذلكَ مِن قولِ من قاله ونسبوه إلى اغتيابِ الصالحين مِن
السلف الماضين، وحتى قالوا: إن مِن ادعى تمييز خطأ روايتهم من صوابها
متخرص بما لا علم له به، ومدعٍ علمَ غيب لا يوصل إليه، واعلم وفقنا الله وإياكَ
أنْ لولا كثرة جهلة العوام مستنكري الحق ورايه بالجهالة [**] لما بان فضل عالم
على جاهل، ولا تبين علم من جهل، ولكن الجاهل ينكر العلم لتركيب الجهل فيه،
وضد العلم هو الجهل؛ فكلُّ ضد نافٍ لضده، دافع له لا محالة، فلا يهولنك
استنكار الجهالِ وكثرة الرعاع لما خص به قوم وحرموه؛ فإن اعتداد العلم دائر إلى
معدنه، والجهل واقف على أهله» [60] .
وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: «لأنه ضرر على العامة أن يكشف
لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأنَّ علم العامة يقصر
عَنْ مثل هذا» [61] وانظر تعليق ابن رجب على كلام أبي داود في شرح العلل [62] .
وقد حصل ما خشي الأئمة منه فتجد بعض المشتغلين بالحديث فضلاً عَنْ
غيرهم يُغْلظ القول للأئمة عند نقله تعاليلهم للأخبار وأنه ما هكذا تُعل الأخبار ونحو
ذلك من العبارات؛ لعدم فهمه لمرادهم وكيفية معرفة ذلك، وفي الأمثلة التطبيقية
سأذكر حديثاً قال عنه أبو حاتم: «والحديثُ عندي ليس بصحيح كأنه موضوع»
فتعقبه بعضُ المعاصرين بقولهِ: «كذا قال أبو حاتم رحمه الله في العلل، وهل
نترك ظاهر إسناد الحديث لكلام الإمام الحافظ أبي حاتم الرازي: (كأنه موضوع)
أم نحكم بصحة الحديث بناءً على ظاهر إسناده؟!! علمها عند ربي، ولكن ما شهدنا
إلاّ بما علمنا وما كنا للغيب حافظين. فحكمنا على الإسناد بظاهر الصحة وتركنا ما
وراء ذلك» راجع كلام مسلم وتأمله!! .
وهنا كلامٌ نفيسٌ لابنِ رجب أرى لزاماً عليَّ أنْ أذكره بطولهِ؛ لأنَّه يُعبر عَنْ
مرادي في هذا البحث، ومقصدي منه. قالَ: «عَنْ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه
عَن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» إذا حُدِّثتم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه
فصدقوه، فإني أقولُ ما يُعرف ولا ينكر، وإذا حُدِّثتم عني بحديث تنكرونه ولا
تعرفونه فلا تصدقوا به؛ فإني لا أقولُ ما يُنكر ولا يُعرف «، وهذا الحديثُ معلولٌ
أيضاً، وقد اختلفوا في إسنادهِ على ابنِ أبي ذئب، ورواهُ الحفاظُ عنه عَنْ سعيد
مرسلاً، والمرسلُ أصحُّ عند أئمة الحفاظ منهم: ابن معين والبخاري وأبو حاتم
الرازي وابن خزيمة وقال:» ما رأيتُ أحداً من علماءِ الحديث يثبت وصله «.
وإنما يحملُ مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمةِ أهلِ
الحديث الجهابذة النقّاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم،
ولكلام غيرهِ لحال رواةِ الأحاديثِ ونَقَلةِ الأخبارِ ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وضبطهم
وحفظهم؛ فإنَّ هؤلاءِ لهم نقدٌ خاصٌ في الحديثِ مختصونَ بمعرفتهِ كَمَا يختصُّ
الصيرفيُّ الحاذقُ بمعرفةِ النقودِ جيدها ورديئها وخالصها ومشوبها، والجوهريُّ
الحاذقُ في معرفةِ الجوهر بانتقاد الجواهر.
وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عَنْ سَبَب معرفتهِ ولا يقيمُ عليه دليلاً لغيرهِ،
وآيةُ ذلكَ أنَّه يُعرَضُ الحديث الواحد على جماعةٍ ممنْ يعلمُ هذا العلم فيتفقون على
الجوابِ فيهِ مِنْ غيرِ مواطأة، وقد امتحن منهم غير هذا مرّة في زمنِ أبي زرعة
وأبي حاتم فوجد الأمر على ذلكَ، فقال السائلُ:» أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهام «، قال
الأعمشُ:» كان إبراهيمُ النخعيُّ صيرفياً في الحديثِ، كنتُ أسمعُ من الرجال
فأعرض عليه ما سمعتهُ «، وقال عَمرو بنُ قيس:» ينبغي لصاحبِ الحديثِ أنْ
يكونَ مثلَ الصيرفيّ الذي ينقد الدرهمَ الزائفَ والبهرج وكذا الحديث «.
وقال الأوزاعيُّ:» كنا نسمعُ الحديثَ فنعرضه عَلى أصحابنا كما نعرضُ
الدرهمَ الزائفَ على الصيارفة؛ فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا «، وقيل لعبدِ
الرحمن بنِ مهدي: إنك تقولُ للشيءِ: هذا يصحُ، وهذا لم يثبتْ؛ فعمن تقولُ ذلكَ؟
فقالَ: أرأيتَ لو أتيتَ الناقدَ فأريته دراهمك فقال: هذا جيدٌ، وهذا بهرج، أكنتَ
تسأله عَن ذلك أو تسلم الأمرَ إليهِ؟ قال:» لا بل كنتُ أسلمُ الأمرَ إليهِ، فقالَ:
فهذا كذلك لطولِ المجادلةِ والمناظرةِ والخبرةِ، وقد رُوي نحو هذا المعنى عَن الإمامِ
أحمد أيضاً وأنه قيل له: يا أبا عبد الله! تقولُ: هذا الحديثُ منكرٌ؛ فكيف علمتَ
ولم تكتبْ الحديثَ كلَّه؟ قالَ: مثلنا كمثلِ ناقد العين لم تقع بيده العين كلها؛ فإذا
وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيّد، أو أنه رديء، وقال ابنُ مهدي: «معرفةُ الحديثِ
إلهام» ، وقالَ: «إنكارنا الحديثَ عند الجهال كهانة» . وقال أبو حاتم الرازي:
«مثل معرفةِ الحديثِ كمثلِ فصّ ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة
دراهم» ، قال: «وكما لا يتهيأ للناقدِ أن يخبر بسبب نقدهِ؛ فكذلكَ نحن رزقنا
علماً لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأنَّ هذا حديثٌ كذب، وأنّ هذا حديثٌ منكر إلا
بما نعرفه، قال:» ويعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في
الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره فإن
خالفه في المائية والصلابة علم أنه زجاج، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن
يكون كلاماً يصلح مثل أن يكون كلام النبوة ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم
تصح عدالته بروايته. والله أعلم « [63] .
وبكل حال؛ فالجهابذةُ النقادُ العارفون بعللِ الحديثِ أفرادٌ قليلٌ من أهل
الحديث جداً، وأوَّل من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابنِ سيرين، ثم خَلفه
أيوب السختياني، وأخَذَ ذلك عنه شعبةُ، وأخذ عَنْ شعبة: يحيى القطان وابن
مهدي، وأخذ عنهما: أحمدُ وعلي بن المديني وابن معين، وأخذ عنهم مثل:
البخاريّ وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وكان أبو زرعةَ في زمانه يقول:
» مَنْ قَالَ يفهم هذا وما أعزّه إلا رفعت هذا عَنْ واحد واثنين؛ فما أقلّ من تجد
من يحسن هذا! «، ولما ماتَ أبو زرعة قال أبو حاتم:» ذهب الذي كان يحسن
هذا المعنى، يعني أبا زرعة، أي ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا،
وقيل له بعد موت أبي زرعة: يُعرَفُ اليوم واحد يَعرِف هذا؟ قال: لا، وجاءَ بعد
هؤلاء جماعة منهم النسائي والعُقيلي وابن عدي والدّارقُطنيّ، وقلّ مَن جَاء
بعدهم مَنْ هو بارع في معرفة ذلكَ حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه
الموضوعات: «قلَّ من يفهم هذا بل عُدم» ، والله أعلم « [64] .
هذا ما تيسر كتابته؛ فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن
خطأ فمني ومن الشيطانِ واللهُ منه بريء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه.
__________
(1) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر (ص43) .
(2) مراد الحميديّ بقوله: (وليس فيه كتاب) يريد كتاباً جامعاً وشاملاً لجميع الوفيات بيّن ذلك ابنُ الصلاح، والذهبيّ وإلاَّ فقد أُلفت كتبٌ كثيرة في معرفة الوفيات.
(3) سير أعلام النبلاء 19: 124-125.
(4) شرح علل الترمذي (2/467) .
(5) أُخذ هذا الموضوع رسائل دكتوراه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومن نعمةِ اللهِ عليّ أنْ كنتُ أحد المشاركين في هذا المشروع القيم.
(6) مقدمة كتاب (الإمام علي بن المديني ومنهجه في نقد الرجال) ، ص 7.
(7) العلل (1/381 رقم1136) ، وانظر أيضاً المسألة رقم (1184) .
(8) شرح علل الترمذي (2/757-758) ، نقد بعضُ المعاصرين كلامَ ابنِ رجب هذا، ولو تأمل في تعاليل الأئمة للأخبار لوجد ذلك بيناً واضحاً، وإنّما أُوتي من عدم التوسع في قراءة كتب العلل، وعدمِ معرفةِ مناهج الأئمة في ذلك.
(9) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/711) .
(10) النكت (2/726) .
(*) الكاغد: الورق.
(11) النبهرج: هو الباطل، والرديء من الشيء، لسان العرب (2/217) .
(12) تقدمة الجرح والتعديل، ص 349، 351.
(13) هو الجلد المدبوغ القاموس (2/696) .
(14) أخرجه: الترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب ما جاء من أين يخرج الدجال (4/441 رقم 2237) ، وابن ماجه في سننه كتاب الفتن، باب فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج (2/1353- 1354 رقم 4072) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/494) ، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 190 رقم 12) وغيرهم وقال الترمذي: (حسن غريب) ، وإسناده قويّ لا ينزل عَنْ درجة الحسن، وقد كتبتُ في تقويته جزءاً.
(15) الإرشاد (2/696، 697) ، وذكرها القزويني في التدوين في أخبار قزوين (3/2) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (17/62) وإسنادها صحيح.
(16) (3/407 رقم 1866) .
(17) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/995- 996) .
(18) المرجع السابق (2/212) .
(19) المرجع السابق.
(20) شرح علل الترمذي (2/467، 468) .
(21) نزهة النظر، ص45.
(22) علوم الحديث (ص81-82) .
(23) قال الإمامُ البخاريُّ رحمة الله عليه (ما استصغرتُ نفسي عند أحدٍ إلاّ عند علي بنِ المديني) تاريخ بغداد (2/17) .
(24) علوم الحديث (ص84) ، وانظر: ألفية السيوطي شرح أحمد شاكر (ص59-60) .
(25) شرح علل الترمذي (2/765) .
(26) المرجع السابق (2/764-765) وانظر: علل ابن أبي حاتم (رقم1130، 1185، 1194، 1227) .
(27) (ص107) .
(28) علوم الحديث (ص81) .
(29) فتح الباقي على ألفية العراقي (1/226) .
(30) أوردتُ الحجج الدالة على ذلك في القسم الذي حققته من علل ابن أبي حاتم (1/58-64) .
(31) يعقوبُ مع الإمام البخاريّ (ت 256هـ) من أبرز تلاميذ إمام العلل في زمانه علي بن المديني (ت 234هـ) ، قال الذهبيُّ في ترجمته: (صاحب المسند الكبير العديم النظير المُعَلل، الذي تم من مسانيده نحوٌ من ثلاثين مجلداً) ، وقال أيضاً في تذكرة الحفاظ: (صاحب المسند الكبير المعلل، ما صُنف مسندٌ أحسن منه) انظر: السير 12/ 476، تذكرة الحفاظ 2/ 577.
(32) ترتيب المدارك 2 / 57.
(33) كذا وقع في المطبوع والمخطوط، وسياق الكلام يدل على أنّ الأصوب حذف (عُمَر) هنا، والله أعلم.
(34) تاريخ دمشق (25/259) .
(35) علل الدّارقُطنيّ (2/127-131) .
(36) يستفاد أشهر الشيوخ وأشهر التلاميذ من الاستقراء، أو من نصوص النقاد في ترجمته، أو من اختيار البخاري في التاريخ الكبير، أو ابن أبي حاتم في الجرح، أو الذهبي في الكاشف.
(37) انظر لمعرفة المصنفات في هذا: بحوث في تاريخ السنة المشرفة (183-191) ، وموارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (396-402) وكلاهما للدكتور: أكرم العمري.
(38) انظر لمعرفة المصنفات في هذا المرجعين السابقين.
(39) فتح المغيث3/ 310.
(40) الكامل 1/ 84، الكفاية، ص 119.
(41) الكفاية، ص 119.
(42) الجامع للخطيب1/ 131.
(43) التنكيل (1/62-63) .
(44) يستفاد في هذا الباب من كتاب (منهج المتقدمين في التدليس) تأليف: ناصر الفهد، تقديم الشيخ: عبد الله السعد.
(45) التنكيل (1/62-72) .
(46) كذا وقع، ويبدو أنّ في الكلام سقطاً، والله أعلم.
(47) المجروحين (1/32) .
(48) المرجع السابق (1/200) .
(49) كذا وقع، وتقدم التنبيه على ما فيه.
(50) النكت (2/711) .
(51) النكت (2/687) .
(52) نقله الزيلعي في نصب الراية (1/336-337) .
(53) نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد، ص 209.
(54) كان في النية أنْ أذكر لكل قرينةٍ مثالاً مع دراسته حسب الخطوات السابقة وهي ولله الحمد معدة ولكن رأيتُ أنَّ المقام لا يسمح بذلكَ؛ لأنَّ البحث سيطول جداً على القارئ في مثل هذا الموضع، وسأفرد البحث بكتاب، وأذكر لكل قرينة مثالاً يوضحها إنْ شاء الله تعالى.
(55) النكت (2/712) .
(56) شرح علل الترمذي (2/757-758) .
(57) شرح علل الترمذي (2/638) .
(58) توضيح الأفكار (1/339-340) .
(59) معرفة علوم الحديث (113) ، الجامع لأخلاق الراوي (2/255-256) .
(**) هكذا في التمييز.
(60) التمييز (169) .
(61) (ص30) .
(62) (2/806-807) .
(63) الجرح والتعديل (1/351) ، وانظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/255) .
(64) جامع العلوم والحكم (ص241-242) .(176/8)
دراسات في الشريعة
مسائل في التداوي والرقى
د. محمد بن عبد الله الصغير [*]
يبحث علم الطب في تركيب جسم الإنسان ووظائف أعضائه بحثاً دقيقاً، بدءاً
من الخلية (وهي أصغر وحدات التركيب في جسم الإنسان) ، فالأنسجة (وهي
مجموعة خلايا ذات وظائف مشتركة) فالأعضاء كـ (القلب والكبد والكلى)
فالأجهزة الوظيفية (وهي مجموعة أعضاء ذات وظيفة مشتركة كالجهاز الهضمي
مثلاً) ، فيبين الطب حكمتها ودورها في حال الصحة وخطر ضررها في حال
المرض، ويبحث في طرق الوقاية والعلاج.
أما الحكمة الكبرى والغاية العظمى من خلق الإنسان بأكمله فهي من مباحث
الاعتقاد المهمة التي لا يهتم بها الطب.
وقد بين الله تعالى الحكمة التي من أجلها خلق المكلفين بقوله: [وَمَا خَلَقْتُ
الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) [1] .
الأصل في حالة الإنسان الصحة والعافية، وأما المرض فطارئ، سواء كان
جسدياً أو نفسياً، وسواء طرأ قبل الولادة (خلال تخلُّق الجنين في الرحم) أو
أثناءها أو بعدها.
والمرض من جملة المصائب التي تصيب العباد بقضاء الله تعالى وقدره كما
قال تعالى: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن
قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] (الحديد: 22) .
والله تعالى لا يخلق شراً محضاً بل كل ما يخلقه فيه حكمة هو باعتبارها خير،
ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي أو
شر مطلق، فالرب منزه عنه؛ وهذا الشر ليس إليه، وأما الشر الجزئي الإضافي
فهو خير باعتبار حكمته [2] .
* التداوي مأمور به شرعاً:
قال صلى الله عليه وسلم: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن
الله عز وجل» [3] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء» [4] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «نعم يا عباد الله! تداووا؛ فإن الله عز وجل لم
يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: الهرم» [5] .
قال الشاطبي: «وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه،
ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه؛ فههنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم
وتلك المشقة والصبر عليها، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على
النفس، غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصاً،
وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء فـ[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] (الأنبياء:
23) ، وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق، رفعاً للمشقة
اللاحقة، وحفظاً على الحظوظ التي أذن لهم فيها» [6] .
* التداوي لا يعارض التوكل:
قال ابن القيم: «وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي
التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم
حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضياتٍ لأسبابها قدراً وشرعاً،
وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، وفيها رد على
من أنكر التداوي وقال: إن كان الشفاء قد قدّر فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قدر
فكذلك» [7] .
وسئل ابن باز رحمه الله عمن يحتج على ترك الأسباب بحديث السبعين ألفاً
الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فأجاب: «هؤلاء السبعون ما تركوا
الأسباب، وإنما تركوا شيئين هما: الاسترقاء والكي، والاسترقاء: هو طلب
الرقية من الناس ... وقد كوى - عليه الصلاة والسلام - بعض أصحابه لما دعت
الحاجة إلى الكي؛ لأنه سبب مباح عند الحاجة إليه ولا كراهة في ذلك، وهكذا بقية
الأسباب المباحة كالأدوية المباحة من إبر وحبوب وشراب وغير ذلك» [8] .
وقال ابن عثيمين رحمه الله: «ففعل الأسباب لا ينافي التوكل إذا اعتقد
الإنسان أن هذه الأسباب مجرد أسباب فقط لا تأثير لها إلا بإذن الله تعالى؛ وعلى
هذا فالقراءة (قراءة الإنسان على نفسه، وقراءته على إخوانه المرضى) لا تنافي
التوكل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي نفسه بالمعوذات،
وثبت أنه كان يقرأ على أصحابه إذا مرضوا، والله أعلم» [9] .
* حكم التداوي قبل وقوع الداء:
قال الشاطبي في كلامه عن المؤلمات والمؤذيات: «وفهم من مجموع
الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق، رفعاً للمشقة اللاحقة، وحفظاً على الحظوظ
التي أذن لهم فيها، بل أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع، تكملة لمقصود
العبد وتوسعة عليه، وحفظاً على تكميل الخلوص في التوجه إليه والقيام بشكر النعم؛
فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد، وفي التداوي عند
وقوع الأمراض، وفي التوقي من كل مؤذ، آدمياً كان أو غيره، والتحرز من
المتوقعات حتى يقدم العدة لها، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء
المفاسد وجلب المصالح» [10] .
وسئل ابن باز [11] عن حكم التداوي قبل وقوع الداء كالتطعيم، فأجاب: «لا
بأس بالتداوي إذا خشي وقوع الداء لوجود وباء أو أسباب أخرى يخشى من وقوع
الداء بسببها، فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء الذي يخشى منه. يقول النبي
صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:» من تصبَّح بسبع تمرات من تمر
المدينة لم يضره سحر ولا سم « [12] ، وهذا من باب دفع البلاء قبل وقوعه؛ فهكذا
إذا خشي من مرض وطُعِّم ضد الوباء الواقع في البلد أو في أي مكان لا بأس بذلك
من باب الدفاع، وكما يعالج المرض النازل يعالج بالدواء المرض الذي يخشى منه؛
لكن لا يجوز تعليق التمائم والحجب ضد المرض أو الجن أو العين لنهي النبي
صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد أوضح عليه الصلاة والسلام أن ذلك من الشرك
الأصغر؛ فالواجب الحذر من ذلك» .
* أحكام التداوي:
اختلف العلماء قديماً في حكم التداوي بالمباح؛ فعند أبي حنيفة أنه مؤكد حتى
يداني به الوجوب، ومذهب الشافعي استحبابه، ومذهب مالك أن التداوي وتركه
سواء، وعند أحمد أنه مباح وتركه أفضل [13] . وأما التداوي بالمحرمات فمذهب
جماهير العلماء تحريمه لما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إن
الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» [14] ؛ ولا سيما الخمر لما في الصحيح أنها
داء وليست بدواء.
قال ابن تيمية: «فإن الناس قد تنازعوا في التداوي: هل هو مباح أو
مستحب أو واجب؛ والتحقيق أن منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما
هو مباح، ومنه ما هو مستحب، وقد يكون منه ما هو واجب وهو: ما يعلم أنه
يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة، فإنه واجب
عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء» [15] .
وقد أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي قراراً بشأن العلاج الطبي [16] جاء
فيه: «الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم
والسنة القولية والعملية، ولما فيه من حفظ النفس الذي هو أحد المقاصد الكلية من
التشريع، وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:
- فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد
أعضائه أو عجزه أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.
- ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما
سبق في الحالة الأولى.
- ويكون مباحاً إذا لم يندرج تحت الحالتين السابقتين.
- ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة
المراد إزالتها» .
وقال ابن عثيمين [17] : «فالأقرب أن يقال:
1 - إن ما علم (أو غلب على الظن) نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه فهو
واجب.
2 - وما غلب على الظن نفعه ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل.
3 - وما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل لئلا يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة
من حيث لا يشعر» .
* التداوي عند غير المسلمين [18] :
يكره أن يتداوى المسلم عند طبيب نصراني أو يهودي لغير ضرورة؛ لأنه
غير مأمون؛ فينبغي ألا نأمنهم وقد خونهم الله تعالى، ولا يجوز التداوي عند غير
المسلمين إلا بشرطين: الأول: الحاجة إليهم، والثاني: الأمن من مكرهم.
* مداواة الرجل المرأة:
من قرارات مجلس الفقه الإسلامي [19] : «الأصل أنه إذا توافرت طبيبة
متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك
طبيبة غير مسلمة ثقة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر
طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة
على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض
الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج
أو امرأة ثقة خشية الخلوة.
يوصي المجمع أن تولي السلطات الصحية جل جهدها لتشجيع النساء على
الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها وخاصة أمراض
النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية، حتى لا تضطر
إلى قاعدة الاستثناء» .
قد تتساهل بعض المريضات في كشف شيء من جسدها ليس في كشفه
مصلحة طبية، وبعضهن تبادر إلى ذلك دون طلب الطبيب. وسئل ابن عثيمين
رحمه الله عن مداواة الرجل المرأة فأجاب: «إن ذهاب المرأة إلى الطبيب عند
عدم وجود الطبيبة لا بأس به، وقد ذكر أهل العلم أنه لا بأس به، ويجوز أن
تكشف للطبيب كل ما يحتاج إلى النظر إليه؛ إلا أنه لا بد أن يكون معها محرم
وبدون خلوة من الطبيب بها لأن الخلوة محرمة؛ وهذا من باب الحاجة؛ وقد ذكر
أهل العلم رحمهم الله أنه إنما أبيح مثل هذا؛ لأنه محرم تحريم الوسائل؛ وما كان
محرماً تحريم الوسائل فإنه يجوز عند الحاجة إليه» [20] .
* مداواة المرأة الرجل:
يتساهل بعض المرضى (الرجال) وبعض الطبيبات (ومن في حكمهن من
العاملات في المجال الصحي) في أمر مداواة المرأة الرجل دون ضرورة ملجئة،
وقد تباشر الطبيبة [21] عورة الرجل المريض بالنظر واللمس المتكرر.
وإن كان من الرجال من يرفض ذلك فإن منهم من لا يمتنع عن ذلك؛ إما لأنه
لا يرى في ذلك حرجاً، أو يظن ذلك يباح ما دامت الطبيبة هي المتواجدة الآن حتى
وإن كانت حالته ليست خطرة مستعجلة، ومنهم من قد يستأنس بذلك (ممن ضعف
إيمانه أو مروءته) .
ولو امتنع المريض الذكر البالغ عن أن تباشره امرأة لتيسر له ولمن بعده
تخصيص أطباء رجال يقومون بذلك (في أي قطاع صحي كان) كيف لا وأفواج
الأطباء قد تتابعت وشملت تخصصات الطب جميعها حتى أمراض النساء والولادة؛
فهل من العقل والحكمة والخُلُق (فضلاً عن الدين والشرع) أن يباشر توليد نساء
المسلمين رجال (وربما كانوا نصارى أو مجوساً ونحو ذلك) في الوقت (وربما
في المكان أيضاً) الذي يتولى فيه فحص عورات الرجال نساء؟!
* الاستشفاء بالقرآن:
قال الله تعالى: [وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً] (الإسراء: 82) .
قال ابن الجوزي [22] : « [مِنَ] ها هنا لبيان الجنس، فجميع القرآن شفاء،
وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال: أحدهما: شفاء من الضلال لما فيه من الهدى،
والثاني: شفاء من السَّقم لما فيه من البركة، والثالث: شفاء من البيان للفرائض
والأحكام» .
وقال ابن القيم [23] : «فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاءً قط أعم ولا أنفع
ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن» .
وقد ثبت في الصحيح [24] : أن أحد الصحابة رقى بالفاتحة سيد حي من أحياء
العرب لدغته عقرب فكأنما نشط من عقال وانطلق يمشي، فهذا في الأمراض
الجسدية، وأما في العلل العقلية والنفسية فقد أخرج الترمذي [25] حديث الصحابي
الذي مرّ على قوم عندهم رجل مجنون موثّق بالحديد فرقاه بفاتحة الكتاب ثلاث أيام
غدوة وعشية فبرأ.
* هل الرقية محصورة في أناس دون غيرهم؟
يظن كثير من الناس أن الرقية لا تنفع إلا إذا كانت من راق مختص بها،
وأن المريض إذا كان ذا ذنوب ومعاصٍ فلا ينتفع برقيته على نفسه، أو أن للرقية
طريقة معقدة مفصلة لا تعرف إلا بدراسة خاصة أو خبرة معينة؛ ولذا فإن كثيراً
منهم يذهب يطلب الرقية عند الرقاة وقد يسافر إليهم في بلاد بعيدة ويظن أن الرقية
من هؤلاء لها شأن مختلف من حيث قوة التأثير وسرعته.
ويحمل كثير من الناس الاستشفاء بالقرآن والرقية الشرعية على أنفسهم.
والصواب أن الرقية ليست محصورة في أناس دون غيرهم، وكلما قوي
تضرع المريض إلى الله تعالى صار مظنة الاستجابة وقد قال الله تعالى: [أَمَّن
يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] (النمل: 62) .
ولا بأس أن يرقي المسلم أخاه المسلم فينفعه بذلك، وأن يذهب الشخص لمن
يتوسم فيه الصلاح والتقى فيطلب منه الرقية، ولكن الأوْلى أن يرقي المسلم نفسه
بنفسه ويطلب الشفاء من الله تعالى مباشرة (دون وسائط) ؛ وهذا أدعى للقبول
والاستجابة وهو ما كان عليه السلف [26] ، وما يوصي به ويؤكده العلماء في القديم
وفي عصرنا هذا ويؤجر عليه المرء إذا صدقت نيته فيبقى له الأجر وإن فاته الشفاء.
* احتمال تقديس الراقين:
قال ابن عثيمين: «لكن إذا كان الشفاء بالقراءة الشرعية فإن التقديس
للإنسان أكثر توقعاً مما لو كان بغير ذلك؛ لأنه ربما يعتقد أن لهذا المعالج منزلة
عند الله عز وجل، وأنه في ظل هذه المنزلة فقد كتب الله الشفاء على يديه؛ لكن
الواجب أن يعلم الإنسان أن القراءة هي سبب للشفاء والدواء الذي حصل به الشفاء
إنما هو سبب والله سبحانه وتعالى هو المسبِّب، وأن الإنسان ربما يفعل الأسباب
فتوجد موانع تمنعه من تغييرها؛ فالأمر كله بيد الله سبحانه» [27] .
* إقامة مراكز خاصة بالرقية الشرعية:
سئل الشيخ عبد العزيز آل الشيخ عن جواز إقامة مركز خاص بالرقية
الشرعية فأجاب: «الرقية الشرعية الأوْلى ألا يتوسع فيها التوسع الزائد، وإنما
الأمر متروك لكل فرد يحسن الرقية أن يرقي، وأما وضعها كمركز صحي أو نحو
ذلك فهذا مبالغة فيها؛ وقد تكون سبباً لإخراجها عن شرعيتها» [28] .
* الرقية بمكبرات الصوت وعبر الهاتف وعلى مجموعة من الناس:
في بعض البلدان التي يعتمد فيها بعض الناس على الرقى، يتزاحم الناس
كثيراً عند بعض المشهورين من القرَّاء، ممَّا يجعله يقرأ عليهم الأوراد باستخدام
مكبرات الصوت، وقد ورد سؤال عن ذلك إلى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية
[29] فكان الجواب: «الرقية لا بد أن تكون على المريض مباشرة ولا تكون
بواسطة مكبر الصوت ولا بواسطة الهاتف؛ لأن هذا يخالف ما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في الرقية، وقد
قال صلى الله عليه وسلم:» من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد « [30] .
وسئل عن ذلك ابن باز رحمه الله فأجاب:» هذا لا أصل له ولا أساس في
الشرع، إنما الأصل في القراءة أن ينفث على المريض: على يده، وعلى صدره،
وعلى وجهه، وعلى رأسه، وألا ينفث في الهواء والناس بعيدون عنه؛ فكل
مريض بحسبه أن يقرأ في ماء يشربه أو يستحم به المريض.
أما ما يفعله بعض الناس عن طريق المكبرات فلا أصل له ولا نعلمه مما جاء
به الشرع أو فعله المسلمون؛ فالواجب تركه.
ويقرأ المريض آية الكرسي وبعض الأدعية المعروفة بالرقية الشرعية حتى
ولو لم يكن هناك إطالة في القراءة.
فلا حاجة للمكبرات أو جمعهم بصالة؛ فهذا مما لم يُعلَم بالشرع ولم يفعله
السلف فيما نعلم، بل هذا بِدعٌ اخترعها بعض أهل هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا
بالله « [31] .
* جهاز التسجيل والرقية:
ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية سؤال عن تشغيل
جهاز التسجيل على آيات من القرآن لعدة ساعات عند المريض وانتزاع آيات معينة
تخص السحر وأخرى للعين وأخرى للجان؛ فأجابت اللجنة:» تشغيل جهاز
التسجيل بالقراءة والأدعية لا يغني عن الرقية؛ لأن الرقية عمل يحتاج إلى اعتقاد
ونية حال أدائها ومباشرة للنفث على المريض؛ والجهاز لا يتأتى منه ذلك « [32] .
* هل للراقي مس شيء من بدن المرأة وقياس ذلك على عمل الطبيب؟
ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية سؤال حول مس
الراقي جسد المرأة بحجة التضييق والضغط على ما فيها من الجان [33] ؛ بحجة أن
مثل هذا اللمس يحصل من الأطباء في المستشفيات، فأجابت اللجنة:» لا يجوز
للراقي مس شيء من بدن المرأة التي يرقيها لما في ذلك من الفتنة، وإنما يقرأ
عليها بدون مس، وهناك فرق بين عمل الراقي وعمل الطبيب؛ لأن الطبيب قد لا
يمكنه العلاج إلا بمس الموضع الذي يريد أن يعالجه؛ بخلاف الراقي؛ فإن عمله
وهو القراءة، والنفث لا يتوقف على اللمس « [34] .
* جعل الرقية وسيلة تشخيص:
قد جعل الله تعالى الرقية المشروعة سبباً من أسباب الشفاء ينفث بها الراقي
على المريض أياً كان المرض وسببه، سواء عُلم أم لم يعلم؛ فهي تضرُّع إلى الله
تعالى وطلب منه أن يكشف المرض ويرفع الضر، ولم يجعلها الله تعالى وسيلة
للتشخيص وطريقة لاختبار أسباب المرض كما يفعله بعض الرقاة اليوم ممن توسعوا
في تنويع طريقة الرقية والآيات المستخدمة فيها على نحو يريدون من خلاله
الوصول إلى معرفة سبب المرض (أهو عين أم مس أم سحر) ، ولذا كثر
اختلافهم فيما بينهم في الحالة الواحدة؛ بل إن الراقي قد يشخص اليوم تشخيصاً
ينقضه في غده، ثم ينقضه أخرى؛ وذلك لأجل اعتماده على تأثر المريض بآيات
دون غيرها في كل مرة، وجعل ذلك وسيلة لتشخيص المرض؛ فإن تأثر المريض
عند قراءة آيات السحر شُخّص بأنه مسحور، وإن تأثر عند قراءة ما يتعلق بالعين
شُخّص بأنه مصاب بعين، وهكذا مع المس؛ وإن تأثر بذلك كله شُخّص بأنه
مصاب بالثلاثة (سحر، وعين، ومس) .
* من قضايا العين والصرع والوساوس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» العين
حق، ونهى عن الوشم « [35] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته
العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا « [36] .
قال ابن حجر قوله:» باب العين حق «أي: الإصابة بالعين شيء ثابت
موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه» [37] .
قال المازري: «أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقالوا: العين حق،
وأنكره طوائف من المبتدعة، والدليل على فساد قولهم أن كل معنى ليس مخالفاً
في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول إذا أخبر
الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه، وهل من فرق بين تكذيبهم بهذا
وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة؟» [38] .
ونقل ابن حجر عن المازري قوله: «زعم بعض الطبائعيين أن العائن
تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد وهو كإصابة السم من نظر
الأفاعي، وأنه أشار إلى سنح الحصر في ذلك مع تجويزه، وأن الذي يتمشى على
طريقة أهل السنة: أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن
يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر، وهل ثم جواهر خفية أولاً؟ هو أمر
محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه» [39] .
فالعين تصيب الإنسان في صحته وماله وغير ذلك وتأثيرها بقدر الله تعالى
وليس في الأدلة الشرعية حصر أعراض محددة للعين لا نفسية ولا جسدية.
وقد بالغ كثير من الناس في زماننا هذا في عزو كثير من الأمراض (الجسدية
والنفسية) إلى العين وجاؤوا بأمور لم يذكرها أحد من أهل العلم من سلف الأمة منها
ما هو في طريقة التشخيص ومنها ما هو في طريقة العلاج، فمن ذلك أنهم جعلوا
من علامات الإصابة بالعين بكاء المريض عند الرقية أو شعوره بالقلق والتوتر
والانزعاج أو التنميل في جلده أو الحرارة أو البرودة في أعضائه.
وهذه التغيرات النفسية والجسدية تحصل لكثير من المرضى بحالات نفسية
سواء مع الرقية أو بدونها بل إن بعضهم يشعر بشيء من ذلك قبل الرقية «بمجرد
حضوره في مكان الرقية» ، وهذا يختلف باختلاف طبائع الناس، فيكثر ذلك لدى
الأشخاص ذوي القلق والتوتر والكآبة.
والرقية «بما فيها من آيات وأدعية» تحرك المشاعر وتؤثر في أعماق
النفس وقد يتفاعل المريض «ولا سيما المكتئب والقلق» فيبكي أو يزداد قلقه
بعض الشيء ثم يخفف ذلك أو يزول بعد الرقية مما يجعل المريض يتصور أن هذا
من علامات العين وقد قال الله جل وعلا: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً
مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه]
(الزمر: 23) .
* دوافع تصنع بعض الناس العين أو توهمها:
1 - تسويغ الفشل والإخفاق «في الدراسة أو العمل أو الزواج ... » بمسوغ
مقبول عند الناس وإلقاء اللوم على الغير «المتسبب في العين المزعومة» .
2 - جلب الاهتمام الزائد من قبل الأهل والأقارب ونحوهم، فكثير من
الزوجات لا يجدن من أزواجهن اهتماماً كافياً كما يجدنه إذا توهمن الإصابة بالعين؛
فبعضهم يمكث معها فترات طويلة يقرأ عليها أو يتنقل بها بين من يقرؤون عليها،
وكذلك بعض الأمهات، ومثل هؤلاء ليست العافية في صالحهن؛ فسرعان ما يهملها
الزوج أو الأبناء إذا عادت صحيحة؛ ولذا فأكثرهن تبقى على حالتها تلك السنوات
الطوال وتوهم غيرها أن ما أصابها إنما هو بسبب نفس خبيثة جداً تحتاج إلى زمن
طويل وجهد جهيد من الرقاة.
3 - الافتخار المبطن المغلَّف، فقد تعارف الناس أنه لا يكاد يصاب بالعين إلا
ذو نعمة «من مال أو جاه أو علم أو ذكاء أو نحو ذلك» مما تتطلع إليه أعين
الناس، فكأن الشخص بتوهمه الإصابة بالعين يقول لغيره ولنفسه بلسان الحال:
«ما أصابتني العين إلا لشيء عندي من التميز ليس عند غيري مما جعل
غيري يحسدني» .
4 - الهرب من الاعتراف بالمرض النفسي «وما يتبع ذلك من العلاج
النفسي بالأدوية ومراجعة العيادات النفسية» ، فقول الناس أنت مصاب بعين أهون
من قولهم أنت مريض نفسي ولا سيما إذا كان الشخص ذا قدر اجتماعي وفيه أنفة
خصوصاً وأن صورة المرض النفسي في بعض المجتمعات مشوهة وكثيراً ما يظن
الناس أن المريض نفسياً هو مجنون.
وقد أدت المبالغة في توهم العين إلى مشكلات اجتماعية وخلافات بين الناس
ولا سيما الأقارب والأصدقاء، وذلك لما يترتب على الاتهامات من مشاحنات
وبغضاء.
* المس والصرع وضرب المريض:
قال الله تعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ] (البقرة: 275) .
قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من
جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون
منه مس» [40] .
وقال ابن كثير: «أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم
المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قياماً منكراً» [41] .
فالآية أثبتت أن الشيطان يمس الإنسان ويجعله يتخبط وهذا لا يقتضي حصر
التخبط والصرع في المس؛ فليس كل صرع يكون بسبب المس؛ وقد بوب
البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الطب باباً عنوانه: «باب فضل من
يصرع من الريح» وساق فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه في المرأة السوداء
التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «إني أُصرَع وإني اتكشف
فادع الله لي، قال: إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك؟
فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها» [42] .
قال ابن حجر: «قوله (باب فضل من يصرع من الريح) انحباس الريح قد
يكون سبباً للصرع وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعاً غير تام ...
وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصباً؛ بل يسقط ويقذف
بالزبد لغلظ الرطوبة» [43] .
قال ابن القيم: «الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية،
وصرع من الأخلاط الرديئة والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه،
وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه» [44] .
وبعض من يعالجون بالرقية يقومون بضرب المريض (مع ربطه أو خنقه)
لطرد الجن، وقد سئل عن هذا الشيخ ابن باز رحمه الله فأجاب: «هذا يفعله
بعض الناس والذي ينبغي تركه؛ لأنه قد يتعدى عليه وقد يضره على غير بصيرة،
ولقد ورد عن بعض الأئمة فعل مثل ذلك الضرب وهذا يحتاج إلى نظر؛ فإن الخنق
والضرب قد يترتب عليه هلاك المريض؛ والمشروع والمعروف هو القراءة فقط
بالآيات والدعوات الطيبة، وهذا هو الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم
والصحابة رضوان الله عليهم ولا نعرف منهم أنهم كانوا يضربون، أما فعل بعض
العلماء فليس بحجة؛ لأن هذا فيه نظر؛ فقد يأتي إنسان يدعي الرقية والطب
ويؤذي الناس بالضرب والخنق وربما قتله وهو يريد نفعه؛ فالواجب عدم فعل ذلك
وعدم التعرض لهذا الخطر العظيم، ولو كان خيراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم
وبينه الصحابة رضي الله عنهم ثم هذا في الغالب تخرصات؛ فقد تفضي إلى هلاك
المريض» [45] .
ولأنه لم يرد نهي عن استعمال الضرب فقد استعمله بعض الأئمة كما نقل ذلك
ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله.
وقال ابن تيمية: «فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه،
ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيماً،
والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله» [46] .
وهذا أدى بكثير من الرقاة إلى ضرب العديد من المرضى ضرباً شديداً
«معولين على كلام ابن تيمية» ظناً منهم أن هذا الضرب لا يقع على المريض
وإنما يقع على الجن مما أدى ببعض الحالات إلى الوفاة أو الإصابات الخطيرة [47] .
والحاصل أن ضرب المريض لا ينبغي وذلك لعدة أمور هي:
1 - لم يثبت بذلك شيء من الكتاب ولا السنة ولو كان فيه خير لسبقنا إليه
السلف بل لدلنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كيف لا وهو أحرص الناس على
نفع أمته وأرحم العباد بالعباد وقد أرشد أمته إلى أنواع من الأدوية الشرعية والحسية
«كشرب العسل والحجامة والكي» .
2 - إذا لم ينتفع المريض بالرقية الشرعية «وهي أقوى شيء على الشياطين
إذا صدرت من قلب مؤمن ونية صادقة» فمن باب أوْلى ألا ينتفع بالضرب مهما
كان قوياً.
3 - لا أحد يستطيع أن يجزم قاطعاً أن الضرب لا يقع على جسد هذا
المريض وإنما يقع على الجان، وليس في ذلك سوى الظن الذي كثيراً ما يُخطئ
فيقع ضحيته أناس مرضى، لا يعلم الذي ضربهم عظم معاناتهم بسبب شدة الضرب.
4 - إن حادثة واحدة (أو أكثر) وقعت لبعض الأئمة (كابن تيمية) لا ينبغي
أن تجعل شرعاً وسنة يؤذى على ضوئها عدد غفير من المرضى ولو كان ابن تيمية
في هذا العصر وعلم ما يحصل من الضرر والأذى على المرضى فلربما منع
الضرب وقد كان من أعلم الناس وأحكمهم وأعرفهم يقتدون به في باقي خصاله من
العلم والعمل والصدق والإخلاص.
5 - إذا لم تُجد مع المريض الرقية الشرعية وحدها واحتاج الراقي أن يضم
إليها شيئاً من أنواع العلاجات فالأوْلى والأحكم أن يطلب أن يُضم إليها شيء من
العلاجات الطبية الحديثة التي جربت ونفعت بإذن الله، وثبت تأثيرها الإيجابي
وانتفى خطرها على البدن والروح «وإن كان لها بعض الآثار الجانبية اليسيرة»
لا أن يُصار إلى الضرب المبرح المتحقق الضرر.
6 - ثبت بالمشاهدة أن كثيراً من المرضى الذين ليس فيهم جن إذا ضربوا
ضرباً مبرحاً «خصوصاً إذا كانوا مربوطين ولا يستطيعون التخلص» فإن الواحد
منهم سرعان ما يقول بلسان نفسه إنه جني ويعاهد على الخروج من أي مكان يريد
القارئ، وهدفه أن يتخلص من الضرب الشديد الذي صار أشد عليه من أن يقال له
مجنون.
7 - هناك أمراض نفسية عصبية «الهستيريا التحولية بأشكالها» يحصل
فيها فقد تام أو شبه تام للإحساس بالألم والحرارة وسائر أنواع الإحساس؛ بحيث قد
لا يحس المريض حتى بأشد أنواع الضرب «وبعضهم يتمزق بعض جلده ويخرج
منه الدم وهو لا يحس» فيظن المعالج الذي يضرب المريض أن هذا بسبب الجن
والحالة نفسية عصبية معروفة قد تزول بإبرة مهدئة تعيد المستقبلات العصبية إلى
عملها فيعود إحساس المريض خلال دقائق؛ وهذا مشاهد في كثير من الحالات
النفسية.
وبعض المرضى يكون في حالة شبه إغماء فيبالغ المعالج في ضربه حتى
يفيق، وقد زالت عنه الحالة (لأنها عادة لا تدوم سوى ساعات أو أقل) فيظن
المعالج (وربما المريض أيضاً) أن هذا كان بسبب المس، وأن الجني خرج
بالضرب.
وهؤلاء غالباً ما تعاودهم الحالة مرات ومرات وكل مرة يزعمون أن بهم مساً
جديداً.
* الزار:
نوع من أنواع الصرع يصاب به بعض المرضى (والغالبية منهم نساء) .
ويتكرر فيه نوبات من الاضطرابات العقلية النفسية تؤثر في تصرفات
المريض ومزاجه ويصعب معرفة سببها هل هي مس من الجن أو مرض عصبي أو
نفسي بحت.
وقد يطلق «الزار» على الطريقة التي يستخدمها بعض الناس في علاج هذه
الحالة، وهي نوع من الاحتفال يكون فيه شيء من الطرب والصخب والرقص
يشارك فيه المريض وشخص يعالجه من خلال طقوس معينة يتأثر من خلالها
المريض بما حوله إلى أن يصبح في حالة تشبه الغيبوبة فيأخذ بالهذيان فيتكلم عن
مشكلته (بينه وبين المعالج) ولا يخلو هذا المعالج في الغالب من بعض الشركيات،
وقد يطلب من أهل المريض طلبات فيها شرك (كالذبح لغير الله ونحو ذلك)
ويزعم أن مريضهم لن يشفى إلا بذلك وأن هذه الطلبات أملاها عليه المس الذي في
مريضهم «وقد يكون المعالج رجلاً والمريضة امرأة فيخلو بها فترة يحصل فيها ما
لا تحمد عقباه وقد تتواطأ معه المريضة على ذلك» .
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية [48] ،
من رجل أصيبت امرأته بتلك الحالة (الزار) وكانت تعالجها امرأة تطلب منها ذبح
خروف ليتم الشفاء، فأجابت اللجنة: «الذبح لغير الله تعالى شرك أكبر، ولقد لعن
النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله؛ فلا يجوز لك الذبح المذكور لعلاج
مرض زوجتك، والعلاج المشروع يكون بالأدوية المباحة والرقية الشرعية وقراءة
القرآن والأدعية المشروعة.
وعليك مناصحة زوجتك ودعوتها إلى ترك الذبح لغير الله وأن تسلك في
علاجها من مرضها ما هو مشروع.
يسر الله لها الشفاء والهداية؛ وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله
وصحبه وسلم» .
* الأمراض النفسية وأدويتها:
هل أسبابها محصورة في العين والسحر والمس:
يحصر كثير من الناس أسباب العلل النفسية في العين والسحر والمس،
ويرجعون إلى هذه الأمور الثلاثة معظم إن لم يكن كل العلل النفسية والعقلية التي
تصيب ابن آدم، ويتجاهل كثير من الناس دور العوامل الأخرى التي قد تسبب
الأمراض النفسية وهي كثيرة ومتنوعة. فالوراثة لها دور كبير في عدد من
الأمراض النفسية كالفصام العقلي، واضطرابات الوجدان، ونوبات الهلع،
والوسواس القهري، وغير ذلك مما أوضحته دراسات عالمية علمية متعددة. وكذا
الضغوط الاجتماعية والمادية والنفسية لها دور في ذلك (كشقاق الوالدين
وانفصالهما، وخلافات الأبناء مع الآباء، والخلافات الزوجية، ونحو ذلك) .
والأمراض الجسدية العضوية سواء أثرت على الدماغ مباشرة (كأورام
والتهابات الدماغ) أو أثرت على بعض الأعضاء الحيوية (كالقلب أو الكبد أو
الكلى أو الرئتين) وغير ذلك.
المؤمن عرضة للابتلاء (لتكفير الذنوب ورفعة الدرجات) وقد يصيبه
المرض النفسي كغيره من الناس إذا وجدت أسباب المرض وليس في ذلك عار عليه
ولا عيب؛ وإن توهم كثير من الناس اليوم أن المرض النفسي إنما يعكس عيباً في
شخصية المريض وسلوكه أو في تدينه وإيمانه؛ ولا شك أن للإيمان بالله تعالى
دوراً كبيراً في قوة النفس ورفع درجة صبرها وتحملها وتخفيف معاناتها.
هل يُكتفَى بالرقية في علاج الحالات النفسية؟ وهل يجوز التداوي بالأدوية
النفسية؟
الرقية الشرعية سبب عظيم من أسباب الشفاء للأمراض كلها (نفسية وجسدية)
ولا تعارض الرقية الأسباب الأخرى المباحة والتي منها الأدوية النفسية.
والعبد مأمور ببذل الأسباب المباحة (سواء كانت شرعية أو طبية) وقد
أباحت الشريعة التداوي للعلل النفسية بالمباح من الأطعمة والأدوية؛ ويشهد لهذا
الحديثُ الصحيحُ: «التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن» [49]
والتلبينة نوع من الطعام (حساء من دقيق وعسل) .
* الوساوس:
قال الله تعالى: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ] (ق: 16) .
قال ابن كثير في تفسيرها: «يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير
والشر» [50] .
وقال تعالى: [مِن شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ
* مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ] (الناس: 4-6) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: «الشيطان جاثم على قلب ابن
آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس» [51] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: وقد
وجدتموه؟ قالوا: نعم! قال: ذاك صريح الإيمان « [52] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلْقُ الله؛ فمن خَلَق الله؟ فمن وجد من
ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله « [53] .
قال النووي:» استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان؛ فإن استعظام هذا
وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان
استكمالاً محققاً، وانتفت عنه الريبة والشكوك « [54] .
وقال ابن سعدي:» ولكنَّ ما مع المؤمن من الإيمان واليقين ينفي ذلك،
ويكرهه أشد الكراهة فلا يزال يكرهه ويدفعه حتى يستقر الإيمان في القلب صافياً
من الأكدار، سالماً من الشبهات، فهذا صريح الإيمان الذي نفى الشبهات والشكوك «
[55] .
ونقل النووي عن المازري قوله:» الخواطر على قسمين: فأما التي ليست
بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تُدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا
يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة؛ فكأنه لما كان أمراً طارئاً بغير
أصل دفع بغير نظر في دليل؛ إذ الأصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة
التي أوجبتها الشبهة، فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم «
[56] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به « [57] .
والوساوس أنواع ودرجات منها ما هو طفيف يسير ليسهل طرده من الذهن
والإعراض عنه بالاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم وهذا لا يعد من الأمراض
النفسية أو العقلية وهو موجود لدى كثير من الناس.
* الوساوس القهرية:
قد يصل الوسواس ببعض الأشخاص [58] إلى درجة المرض النفسي العقلي
حيث تلح عليه الوساوس بقوة لا يستطيع التخلص منها رغم الاجتهاد الشديد في
الإعراض عنها والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم مراراً وتكراراً؛ ورغم قناعته
التامة أن الوساوس (بما فيها من أفكار أو صور ذهنية) خطأ ولا يوافق العقل
فيظل ضميره يتألم ولا يخبر بذلك أحداً ولا يقدر على التخلص من الوساوس القاهرة
التي استحوذت على تفكيره معظم وقته، ومنهم من يصيبه اكتئاب شديد لأجل ذلك،
وقد ينعزل عن الناس وربما ترك دراسته أو عمله أو تجارته، وقد يسترسل مع
الوساوس ويتوهم صدقها؛ فمنهم من يظن أنه يكفر بذلك فيذهب يغتسل ويتشهد
ليجدد دخوله في الدين كل يوم» مرة أو مرتين أو أكثر «وبعض النساء تمتنع عن
زوجها في الفراش ترى أنها كفرت بذلك، فهذا مرض شديد لا بد من علاجه
بالأسباب المشروعة الشرعية والحسية الطبية.
وقد أوضحت الدراسات الطبية العصبية [59] وجود خلل في النواقل العصبية
في بعض مناطق الدماغ يُضعف قدرة الدماغ على مقاومة الوساوس الذهنية
(كالأفكار العقدية) والعملية (كوساوس النظافة والعبادات) مما يجعل الشخص غير
قادر على متابعة تفكيره وتصرفاته بالصورة السليمة، وقد تم تصنيع أدوية نفسية
متعددة تفيد كثيراً في علاج الوساوس القهرية وتقوي قدرة الدماغ على تتابع الأفكار
السليمة وطرد الأفكار العقيمة وما معها من مشاعر مؤلمة.
وهذه الأدوية أجازتها الهيئات الصحية العالمية بعد دراسات مستفيضة أثبتت
فاعليتها الطبية، وليس فيها مواد مخدرة أو مسكرة، ولا تؤدي إلى الإدمان، وقد
أفتى بجواز استعمالها عدد من أهل العلم منهم الشيخ ابن عثيمين [60] رحمه الله،
والشيخ صالح الفوزان [61] .
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية من
شخص لديه وساوس عقدية فكان من جواب اللجنة:» ادفع عنك الوساوس
والخواطر الخبيثة واستعذ بالله منها، وأكثر من ذكر الله وتلاوة القرآن ومخالطة
الأخيار، وعالج نفسك عند دكتور الأمراض النفسية والعصبية، واتق الله ما
استطعت، والجأ إليه في كل ما أصابك ... « [62] .
وعلى المسلم أن يبني على اليقين» وهو أنه مسلم موحد «وأن لا يعتد
بالشك الطارئ مهما كان قوياً؛ لأن اليقين لا يزول بالشك والأصل براءة الذمة.
__________
(*) جامعة الملك سعود بالرياض، كلية الطب، فرع الطب النفسي.
(1) اللام في قوله تعالى: {ليعبدون} لبيان الغاية المرادة وليست لإيجاب تحقيقها، وإلا فأكثر الخلق لا يعبدون الله تعالى مع أنه سبحانه خلقهم لعبادته.
(2) فتاوى ابن تيمية، جمع ابن قاسم، ج 14، ص 266.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(6) الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، دار المعرفة، ج 2، ص 150.
(7) زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، مؤسسة الرسالة، ج 4، ص 14-16.
(8) مجلة الدعوة، العدد 1564، 19/6/1417هـ.
(9) فتاوى ابن عثيمين، جمع أشرف عبد المقصود، دار عالم الكتب، 1412هـ، ج1، ص141.
(10) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(11) مجلة الدعوة، عدد 1588، تاريخ 10/12/1417هـ، (وسبق نشرها في مجلة البحوث الإسلامية، عدد 35، ص 96) .
(12) أخرجه مسلم بلفظ: (من أكل سبع تمرات، مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي) ، والبخاري: (من اصطبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر) .
(13) حاشية الروض المربع، ابن قاسم، ج 3، ص 8.
(14) رواه البخاري في كتاب الأشربة.
(15) الفتاوى، ابن تيمية، ج 18، ص 12.
(16) قرار رقم 68/5/5، المؤتمر السابع، جدة 1412هـ.
(17) الشرح الممتع على زاد المستقنع، ابن عثيمين، مؤسسة آسام، ج 5، ص 301.
(18) الشرح الممتع، ابن عثيمين، ج 5، ص 302، وحاشية الروض المربع، ابن قاسم، ج 3، ص 10.
(19) المؤتمر الثامن في بروناي دار السلام، محرم 1414هـ.
(20) جريدة الرياض، عدد 9566.
(21) قد تلزم طالبات الطب والطبيبات المتدربات في أقسام الجراحة بفحص عورة الرجل قائماً ومستلقياً، وكأن ذلك أمر لا يكون الطب إلا به وبتكراره مع غض النظر عن مراعاة الشرع وأحكامه، وكثير منهن يكرهن ذلك ولكن يفعلنه خشية أن يمنعن من اجتياز المادة أو الدورة التدريبية، وليس في أنظمة التعليم فيما أعلم ما يجبر الطالبة على مثل ذلك ولا سيما إذا كان امتناعها نابعاً من دافع الحياء والأخلاق والدين، ويمكن أن يتم تخريج طبيبات متمكنات في فروع كثيرة في الطب دون الحاجة إلى مثل ذلك.
(22) زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، دار الفكر، ج 5، ص 56.
(23) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، دار الكتب العلمية، ص 4.
(24) عند البخاري ومسلم.
(25) وصححه الألباني.
(26) جاء رجل إلى مالك بن دينار فقال له: (أنا أسألك بالله أن تدعو لي؛ فأنا مضطر) قال: (إذن؛ فاسأله؛ فإنه يجيب المضطر إذا دعاه) ، تفسير القرطبي، ج 13، ص 223.
(27) مجلة الدعوة، 24/4/1415هـ.
(28) جريدة الرياض، 10/10/1421هـ.
(29) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم 20361، الفقرة السادسة والثامنة، بتاريخ 17/4/1419هـ، ونشرتها مجلة الدعوة في 16/11/1419هـ.
(30) رواه البخاري، ح/2499.
(31) جريدة الجزيرة، 3/8/1417هـ.
(32) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم 20361، الفقرة السادسة والثامنة، بتاريخ 17/4/1419هـ، ونشرتها مجلة الدعوة في 16/11/1419هـ.
(33) هذا من تلبيس إبليس على بعض الرقاة حتى وصل ببعضهم التمادي في مثل ذلك إلى النفث في فم المرأة عن قرب، وبعضهم ينفث في أنبوب طرفه الآخر بين فخذي المرأة العقيم، وحدثتني مريضة أن أحدهم يضغط علي رقبتها بعضده وساعده ويضمها إلى جنبه وهو ينفث عليها وشفتاه عند خدّها ويمكث هكذا مدة طويلة، وآخر يقرأ على بطن المرأة العقيم ويمر بيده على بطنها ويحركها من السرة إلى العانة، وأما القبض على الناصية ومسك الأذن فهذا كثير جداً عند الرقاة اليوم! ! .
(34) فتاوى اللجنة، فتوى رقم 20361 (الفقرة الثالثة) بتاريخ 17/4/1419هـ.
(35) رواه البخاري، ح/5299.
(36) رواه الترمذي، ح/1988.
(37) فتح الباري، ج 10، ص 203.
(38) صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر، 1401هـ، ج 14، ص 171.
(39) فتح الباري، ج 10، ص 200.
(40) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت 1408هـ، ج 3، ص 355.
(41) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق خليل الميس، دار القلم، بيروت.
(42) رواه البخاري، ح/5220.
(43) فتح الباري، ج 10، ص 114، ومع تقدم العلوم الطبية في مجال أمراض الدماغ والأعصاب عرفت أنواع عديدة من الصرع تعود إلى خلل في كهرباء الدماغ يؤثر في أعضاء البدن ولها أدوية تنظم كهرباء الدماغ فتمنع الصرع بإذن الله.
(44) زاد المعاد، ابن القيم، تحقيق الأرنؤوط، ج 4، ص 66.
(45) مجلة الدعوة، عدد 1543، 13 محرم 1417هـ.
(46) الفتاوى، ج 24، ص 277.
(47) وهذا أمر متكرر في كثير من الحالات النفسية وقد يصل الأمر إلى القضاء، ومن المعالجين من يستخدم الكهرباء (خط 110 أو 220 فولت) ظناً منه أن هذا هو العلاج بالجلسات الكهربائية الذي يستخدم في الطب النفسي وله نتائج جيدة.
(48) فتاوى اللجنة، جمع الشيخ أحمد الدويش، ج 1/126.
(49) رواه البخاري، ح/4997.
(50) المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، دار السلام، الطبعة الثانية، 1421هـ، ص 1309.
(51) المرجع السابق، ص 1544.
(52) رواه مسلم، ح/188.
(53) رواه البخاري، ح/6752.
(54) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 1، ص 512.
(55) الفتاوى السعدية، المؤسسة السعيدية، ص 89، المسألة السادسة والعشرون.
(56) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 1، ص 514-515.
(57) رواه مسلم، ح/ 181.
(58) وفي العيادات النفسية من ذلك كثير من الحالات وكثير منهم من أهل الخير والصلاح وبعضهم من طلبة العلم الأخيار (ولا نزكي على الله أحداً) .
(59) المجلة البريطانية للطب النفسي 1998م، مجلد 173، ملحق 35، ص 26-37 (فيها مراجعة لكثير من الدراسات الدقيقة في مجال الوسواس القهري بشتى أنواعه) .
(60) فتوى شخصية مسجلة بشريط كاسيت بتاريخ 20/2/1420هـ.
(61) فتوى أذيعت في برنامج نور عى الدرب بإذاعة القرآن الكريم في 6/12/1420هـ.
(62) فتاوى اللجنة، جمع الشيخ أحمد الدويش، فتوى رقم 7654.(176/20)
قضايا دعوية
وحدة الصف ضرورة
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
يتفق العقلاء من الناس على أن الاجتماع والائتلاف مطلب ضروري لا غنى
عنه لأمة تريد الفلاح.
وقد جاء الشرع بالتأكيد على هذا الأصل ورعايته، ولكن المواقف والأحداث
تعصف بالناس، وتحوج إلى التأكيد على هذه المعاني والوصية بها.
وقد أفرزت الأحداث الأخيرة اختلافاً في الآراء والمواقف، وهذا أمر لا بد أن
يقع من البشر، لكن هذا الاختلاف اتسعت شقته، وبدأ يتجاوز قدر الاختلاف في
الرأي، وبدا معه أن الحاجة ماسة إلى الوصية والتأكيد على معاني الاجتماع
والائتلاف.
وثمة أمور بها تتضح أهمية وحدة الصف والحاجة إليه:
الأمر الأول: نصوص القرآن الكريم:
جاء التأكيد في القرآن الكريم على مراعاة هذا الأصل، ومن ذلك: قال عز
وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ *
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (آل عمران: 102-103) .
وقال عز وجل: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ] (هود: 118-119) .
روى ابن جرير عن الحسن في قوله تعالى: [وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] «وأما أهل
رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم» [1] .
وروى فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «خلقهم فريقين: فريقاً
يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم يختلف؛ وذلك قوله: فمنهم شقي وسعيد» [2] .
الأمر الثاني: أن هذا مما بعث الله الأنبياء به:
كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم دعاة لوحدة الصف وجمع الكلمة، قال
الإمام البغوي: «بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة
والمخالفة» [3] .
وقد اختلف الأنبياء من قبل في الرأي، فاختلف موسى وهارون: [قَالَ يَا
هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي]
(طه: 92-94) .
ولو وقع مثل هذا الأمر في عصرنا فقد تجد من يتهم مثل هارون بأنه سكت
عن إنكار الشرك الأكبر، وأن المسألة خلل في الاعتقاد وانحراف في المنهج....
إلخ.
وبغض النظر عن الأصوب من الاجتهادين فالخلاف حصل، وعذر كل منهما
الآخر.
كما اختلف الخضر وموسى، واختلف سليمان وداود: [وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ
يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ
وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ]
(الأنبياء: 78-79) ، واختلفا عليهما السلام في شأن المرأتين اللتين اختصمتا في
الابن، واختلف آدم وموسى.
ولم يكن هذا الخلاف موجباً للفرقة والاختلاف.
واختلفت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في شأن قاتل المائة حين مات بين
القريتين [4] .
الأمر الثالث: نصوص السنة:
لقد تكررت الوصية في السنة بالاعتناء بالاجتماع ووحدة الصف، وتكرر
النهي عن التفرق والاختلاف، ومما ورد في ذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا
به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. ويكره لكم قيل وقال،
وكثرة السؤال، وإضاعة المال» [5] .
وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل
أن يعملوا بها..... الحديث وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم
بخمسٍ اللهُ أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإنه من
فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع ... »
[6] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها
الناس! إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: «أوصيكم
بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا
يُستحلف، ويشهد الشاهد ولا يُستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما
الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين
أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم
المؤمن» [7] .
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«البركة في ثلاثة: في الجماعة، والثريد، والسحور» [8] .
الأمر الرابع: واقع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اعتناء بالغ بهذا الأمر، وكان
الخلاف في الرأي يحصل بينهم، ومع ذلك كانت النفوس صافية نقية.
نقل الحافظ في الفتح عن القرطبي قوله: «مَنْ تَأَمَّلَ مَا دَار بَيْنَ أَبِي بَكْر
وَعَلِيٍّ مِنْ الْمُعَاتَبَةِ وَمِنْ الاعْتِذَارِ وَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ مِنْ الإنْصَافِ عَرَفَ أَنَّ بَعْضَهُمْ
كَانَ يَعْتَرِفُ بِفَضْلِ الآخَرِ، وَأَنَّ قُلُوبَهُمْ كَانَتْ مُتَّفِقَة عَلَى الاحْتِرَام وَالْمَحَبَّة، وَإِنْ
كَانَ الطَّبْع الْبَشَرِيّ قَدْ يَغْلِب أَحْيَانًا لَكِنَّ الدِّيَانَة تَرُدُّ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ» [9] .
عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن
شيء فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم
لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئاً، إن كان ليموت للرجل منا البعير
فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما
إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق
عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به « [10] .
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة رضي الله
عنه فقالت:» لا تسبه؛ فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « [11] .
وها هو ابن عباس رضي الله عنه يثني على ابن الزبير رغم ما كان بينهما.
قال ابن أبي مليكة: وكان بينهما شيء، فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد
أن تقاتل ابن الزبير فتحل حرم الله؟ فقال: معاذ الله! إن الله كتب ابن الزبير
وبني أمية محلين، وإني والله لا أحله أبداً، قال: قال الناس بايع لابن الزبير،
فقلت: وأين بهذا الأمر عنه؟ أما أبوه فحواري النبي صلى الله عليه وسلم يريد
الزبير وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر وأمه فذات النطاق يريد أسماء وأما
خالته فأم المؤمنين يريد عائشة وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد
خديجة وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية ثم عفيف في الإسلام،
قارئ للقرآن» [12] .
وفي حديث الإفك تعتذر عائشة رضي الله عنها عن سعد بن عبادة فتقول:
«فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن
احتملته الحمية» [13] .
وقد خالف ابن مسعود رضي الله عنه عمر بن الخطاب في مسائل بلغت المائة
- كما ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين ومع ذلك فحين أتى ابن مسعود اثنان أحدهما
قرأ على عمر، والآخر قرأ على غيره، فقال الذي قرأ على عمر: أقرأنيها عمر
بن الخطاب، فجهش ابن مسعود بالبكاء حتى بلَّ الحصى بدموعه، وقال: اقرأْ كما
أقرأك عمر؛ فإنه كان للإسلام حصناً حصيناً، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه،
فلما أصيب عمر انثلم الحصن.
وقال عنه عمر رضي الله عنه قولته المشهورة: «كنيف مُلِئَ علماً» .
إنها النفوس التي صفت وتسامت على حظوظها، فلم يجد الهوى بينهم مكاناً،
وحين يحصل بينهم ما يحصل بين البشر لا يمنعهم ذلك من العدل، ولا يقودهم إلى
تتبع الزلات وملاحقة العثرات.
الأمر الخامس: الاجتماع من سمات أهل السنة وصفاتهم:
من سمات أهل السنة الاجتماع والائتلاف، وهم من أشد الناس حرصاً عليه
ودعوة له، كيف لا وهم الجماعة وهم السواد الأعظم.
قال الطحاوي رحمه الله: «ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً
وعذاباً» [14] .
قال النووي حول حديث: «إن الله يرضى لكم ثلاثا» : «وأما قوله صلى
الله عليه وسلم:» ولا تفرقوا «فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم
ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام» [15] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والخير كل الخير في اتباع السلف
الصالح والاستكثار من معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيه،
والاعتصام بحبل الله، وملازمة ما يدعو إلى الجماعة والألفة، ومجانبة ما يدعو
إلى الخلاف والفرقة، إلا أن يكون أمراً بيناً قد أمر الله ورسوله فيه بأمر من
المجانبة فعلى الرأس والعين، وأما إذا اشتبه الأمر: هل هذا القول أو الفعل مما
يعاقب صاحبه عليه أو ما لا يعاقب؟ فالواجب ترك العقوبة» [16] .
الأمر السادس: مصالح الاجتماع لا تقارن بمفاسد الفرقة:
ثمة طائفة ممن يثيرون الفرقة يدفعهم لذلك الحرص والاجتهاد الخاطئ،
ويسعون إلى تحقيق مصالح من تصحيح ما يعتقدون أن الآخرين أخطؤوا وتجاوزوا
فيه، لكن يغيب عنهم أن مصالح الاجتماع لا تقارن بالمفاسد الناشئة عن الافتراق
والاختلاف.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير،
ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة والفرقة عذاب» [17] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة؛
فإنهما السبيل في الأصل إلى حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة
خير مما تحبون في الفرقة» [18] .
وأشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: «ولا سيما إذا
آل الأمر إلى شر طويل وافتراق أهل السنة والجماعة؛ فإن الفساد الناشئ في هذه
الفرقة أضعاف الشر الناشئ من خطأ نفر قليل في مسألة فرعية» .
الأمر السابع: حاجة الصحوة لوحدة الصف:
لئن كان الاجتماع ووحدة الصف ضرورة في كل وقت وحين، فالصحوة اليوم
أحوج إليه من أي وقت مضى.
إنها تعاني من ضعف الطاقات ومحدودية الإمكانات، وفي الافتراق والخلاف
إضاعة للجهود، وتشتيت للطاقات.
وهي تعاني من تآمر المفسدين وكيدهم، وفي إشاعة الاختلاف والفرقة خدمة
لهؤلاء وخذلان لعباد الله الصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة
علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها. وذلك
بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال تعالى: [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ
القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] (المائدة: 14) . فمتى ترك الناس
بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا
وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب» [19] .
وحين تريد الصحوة الإسلامية تقديم مشروعات عامة، وحين تريد إنكار
منكرات أو تحتسب على باطل، وحين تريد دعم قضية من قضايا المسلمين، فإن
ذلك كله لن يتأتى مع التفرق والصراع والتشاحن، بل سيؤدي بطائفة من الناس إلى
قصد مخالفة من لا يتفقون معه، ولو أدى ببعضهم إلى الوقوف في صف أهل الفساد
أو تسويغ باطلهم، والهوى يصنع العجائب.
من وسائل وحدة الصف:
أولاً: إدراك أهمية وحدة الصف:
لا بد من التأكيد على أهمية وحدة الصف وإشاعة الحديث حول ذلك حتى يتأكد
هذا المعنى ويستقر، كما أن امتناع الداعية وطالب العلم المقتدى بهم عن بعض ما
يطلب منهم رغبة في وحدة الصف، وتنازلهم عن كثير من حقوقهم الشخصية من
أجل ذلك، كل هذا يربي تلامذتهم على الاعتناء بهذا الأصل، ويؤكده لديهم.
ثانياً: تقوية الأواصر والصلات:
مما يعين على وحدة الصف أن تتقوى الأواصر والصلات بين الدعاة
والمصلحين، ويمكن أن يتم ذلك من خلال العلاقات الشخصية، والتزاور
والاجتماع، وإقامة المشروعات المشتركة، والتعاون على الأعمال الدعوية
والاحتسابية.
ومع ما في ذلك من تحقيق للمحبة والمودة فإنه يفتح المجال للنقاش حول أمور
الخلاف حين يوجد الخلاف، فتكون هناك جسور مفتوحة يمكن التواصل من خلالها،
أما حين لا يتم التواصل إلا عند الخلاف والنقاش فالغالب أنه يصعب أن يتحقق
المراد.
ثالثاً: الموازنة بين قول الحق ووحدة الصف:
إنه لا يتصور أن يسعى شخص بقصد وإرادة إلى شق وحدة صف الأمة
ودعاتها إلا مَنْ في قلبه نفاق وكره لانتصار الدين، لكن عامة ما يحصل إنما هو
شعور بالغيرة على الدين، ورغبة في بيان ما يعتقد الشخص بأنه هو الحق، وإن
كان الغالب أن أمثال هؤلاء لا يسلم من ملابسة الهوى.
ومن ثم فإن الاحتجاج ببيان الحق وحده لا يكفي، ولا بد ها هنا من مراعاة
أمور:
أ - أن يكون الحق واضحا جلياً؛ ذلك أن كثيراً من المسائل التي يشق فيها
الصف، إما أن تكون من مسائل الاجتهاد والأمر فيها واسع؛ فحينها لا ينبغي
الإنكار فيها، فضلاً عن إثارة الخصومة.
أو أن يكون الأمر فيها تحقيق مناط وتنزيل حكم على واقعة؛ فالأمر فيه واسع
ولا يجوز أن يلزم الشخص بأصل الحكم؛ فمن يرى عدم مشروعية عمل من
الأعمال المنسوبة للجهاد مثلاً لا يجوز أن يوصم بأنه ضد الجهاد والمجاهدين.
أو أن يكون الأمر إلزاماً بما لا يلزم الشخص أو لا يلتزم به.
ب - أن يقتضي الأمر البيان، وتكون مصلحة البيان أرجح من مصلحة
السكوت، فليس كل ما يُعلم يقال.
وقد بوب البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه: باب من خص
بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وأورد فيه أثر علي رضي الله عنه:
«حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟» .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا
تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» [20] .
ج - أن يكون بيان الحق بالأسلوب المناسب؛ وأن يسلك فيه صاحبه العدل
ويجانب البغي والظلم، ويجب أن يعلم أن من مسؤوليته مع قول الحق وبيانه وحدة
الصف والسعي لجمع الكلمة.
د - أن يكون بيان الحق من الشخص المناسب؛ فالقضايا الكبار ينبغي أن
يتحدث فيها الأكابر، وتغليط الكبار لا ينبغي أن يجاهر به الأغمار.
هـ - حين يتم بيان الحق فلا ينبغي أن يستمر الناس في الخوض فيما لا أثر
له إلا إيغار الصدور وإثارة الفرقة، وما أجدر الغيورين على مصالح الأمة أن
يمسكوا عن الجدل واللغط.
رابعاً: الاعتدال في الحكم على الأخطاء:
لا يمكن أن يسلم البشر من الوقوع في الخطأ، ومهما بلغ الإنسان من العلم
والتقوى والورع فهو عرضة للجهل والهوى والزلل؛ فالبحث عمن لا يزل ويقصِّر
من البشر بحث عن محال.
كما أن الخطأ يتفاوت أمره؛ فثمة فرق بين الكبيرة والصغيرة، والكبائر
تتفاوت فيما بينها، والخطأ في المسائل الظاهرة ليس كالخطأ في المسائل الخفية،
ومخالفة الدليل الصريح الصحيح ليست كمخالفة دليل محتمل أو فتوى عالم من
العلماء.
وحين يترجح بيان خطأ عالم أو داعية فينبغي الاعتدال في ذلك، ومجانبة
الغلو والشطط، وكثير من مواطن الافتراق والاختلاف تنشأ من مجانبة الاعتدال،
فيشعر المنتقد أنه ما دام على الحق فهذا يسوِّغ له أن يقول ما يشاء وأن يفعل ما
يشاء.
خامساً: الفصل بين الأشخاص والمواقف:
من الأمور التي ينبغي أن يعنى بها مريد الحق أن يكون حديثه عن الحق أو
الباطل متجنباً الأشخاص ما لم يترتب على ذلك مصلحة شرعية.
ومن المعلوم أنه لا يلزم من وقوع الشخص في الخطأ تأثيمه أو تضليله: قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهذا فصل الخطاب في هذا الباب؛ فالمجتهد
المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك: إذا اجتهد واستدل فاتقى الله
ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما
استطاع ولا يعاقبه الله ألبتة خلافاً للجهمية المجبرة وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع
لله؛ لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر، وقد لا يعلمه خلافاً للقدرية والمعتزلة» [21] .
وقال أيضاً: «ولكن الأنبياء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين هم الذين قال
العلماء: إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب. فأما الصديقون، والشهداء،
والصالحون: فليسوا بمعصومين. وهذا في الذنوب المحققة. وأما ما اجتهدوا فيه:
فتارة يصيبون، وتارة يخطئون. فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا
وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون
الخطأ والإثم متلازمين: فتارة يغلون فيهم، ويقولون: إنهم معصومون. وتارة
يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان لا يُعصَمون،
ولا يُؤثَّمون» [22] .
سادساً: الحد من تسلط الأغمار:
كان لمحدودية وسائل الاتصال أثر في قصر انتشار المقولات على من اشتهر
بالعلم والرأي في الغالب، ومع اتساع انتشار هذه الوسائل صار من شاء يكتب ما
شاء [23] ، وأدى هذا إلى تصدر كثير من الأغمار وحديثهم فيما لا يحسنون،
وصارت لهم جرأة عجيبة على الأكابر.
إن الأكابر ليسوا بمنأى عن النقد وبيان ما أخطؤوا فيه، لكن لا بد من حد
أدنى لمن يتحدث عنهم وينتقدهم.
وأهل العلم والدعوة في الأمة يؤمل عليهم أن يشيعوا ثقافة احترام الأكابر،
وضرورة تواضع الأصاغر، ولئن لم يرق لأحدهم قول، أو رأى الحق بخلافه
فليدعه، لكن لا يتحدث مع الناس فيما لا يحسن.
سابعاً: الحذر من الانشغال بعيوب الناس:
المسلم مأمور بحفظ لسانه وصيانة أعراض المؤمنين، ومن أعظم الآفات أن
ينشغل المرء بعيوب الآخرين، فكيف حين يكون من يُنشغل بعيوبهم من أهل
الصلاح والعلم والدعوة، ومم يعرفون بالخير في الأمة؟ وجدير بمن لا يُعرف لهم
تصنيف إلا في الرد والتعقيب أن يراجعوا أنفسهم ويتأملوا حالهم؛ فقد يكون مبدأ
الأمر غيرة ومنتهاه جري وراء الهوى.
ثامناً: توقير الأكابر:
لقد جاء الشرع بوضع الناس في منازلهم، ومن ثَمَّ فالخطأ منهم ليس كالخطأ
من غيرهم، لذا كان لزاماً حفظ منزلتهم ومكانتهم، وحين يصدر الخطأ والزلل منهم
فالأمر يختلف عمن دونهم.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: «ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل
إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛ فمن كان فضله أكثر
من نقصه وهب نقصه لفضله» [24] .
وقال الذهبي: «ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ
مغفوراً له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده،
ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين؛
فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة» [25] .
وقال ابن القيم رحمه الله: «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن
الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله
بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز
أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين» [26] .
تاسعاً: البعد عن تضخيم الخلاف:
لا ينشأ الخلاف من فراغ، وكثير من مواطن الصراع والافتراق بذرتها خطأ
وتقصير، يغذيها هوى، أو غلو وتضخيم.
ومن الناس من لا يجيد الاعتدال، فيضخم الخطأ، فيقع في البغي والعدوان،
ويعتقد بالتلازم بين الغلظة على من أخطأ والحمية على الدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فبالجملة فليس مقصودي بهذه
الرسالة الكلام المستوفي لهذه المسألة؛ فإن العلم كثير؛ وإنما الغرض بيان أن هذه
» المسألة «ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها وإيقاع ذلك إلى العامة
والخاصة حتى يبقى شعاراً ويوجب تفريق القلوب وتشتت الأهواء. وليست هذه
» المسألة «فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة؛ فإن الذين تكلموا فيها
قبلنا عامتهم أهل سنة واتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا كما
اختلف الصحابة رضي الله عنهم والناس بعدهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم
ربه في الدنيا؛ وقالوا فيها كلمات غليظة كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. ومع هذا فما أوجب
هذا النزاع تهاجراً ولا تقاطعاً. وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواماً من أهل السنة في
» مسألة الشهادة للعشرة بالجنة «حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات وكان
أحمد وغيره يرون الشهادة ولم يهجروا من امتنع من الشهادة، إلى مسائل نظير
هذه كثيرة» [27] .
وقال أيضاً: «وهنا آداب تجب مراعاتها: منها: أن من سكت عن الكلام
في هذه المسألة رؤية الكفار ربهم ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره وإن كان
يعتقد أحد الطرفين؛ فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية دون
الساكت؛ فهذه أوْلى. ومن ذلك: أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة
محنة وشعاراً يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم؛ فإن مثل هذا مما يكرهه الله
ورسوله. وكذلك [أن] لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين الذين هم في عافية وسلام
عن الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه
مما عنده من العلم ما يرجو النفع به» [28] .
وقال أيضاً: «وأما الاختلاف في» الأحكام «فأكثر من أن ينضبط، ولو
كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة،
ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا
يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة:
» لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم العصر في الطريق فقال قوم:
لا نصلي إلا في بني قريظة وفاتتهم العصر. وقال قوم: لم يُرِدْ منا تأخير الصلاة
فصلوا في الطريق فلم يعب واحداً من الطائفتين «. أخرجاه في الصحيحين من
حديث ابن عمر» [29] .
عاشراً: التفريق بين الخلاف في الرأي واختلاف القلوب:
لا بد أن يحصل الخلاف في الرأي وتتعدد الاجتهادات، لكن من واجب المسلم
أن يحذر من أن يؤدي ذلك إلى اختلاف القلوب، وقد حذر النبي صلى الله عليه
وسلم أصحابه من ذلك؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رجلاً قرأ آية،
وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه
وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛
فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» [30] .
الحادي عشر: الخلاف لا بد منه:
يطمع بعض الغيورين والحريصين على وحدة الكلمة في قطع دابر الاختلاف
والفرقة؛ لكنهم يتطلعون إلا نفي الخلاف في الرأي، ويسعون إلى الاتفاق على ما
لا يمكن الاتفاق عليه.
وإذا كنا نريد وحدة الصف وجمع الكلمة فلا بد من استيعاب تعدد الآراء
والاجتهادات فيما يسع فيه ذلك بل لا بد أن نتجاوز ذلك إلى استيعاب تعدد المدارس
الفكرية كما تعددت المدارس الفقهية، ولا يمكن أن يكون الناس نسخة واحدة.
وبدلاً من السعي لتذويب ما لا يمكن تذويبه من الفوارق ينبغي أن يتركز الأمر
على استجلاء الثوابت، وضبط الاجتهادات وتسديد المسيرة.
الثاني عشر: فتح المجال للحوار وإشاعة أخلاقياته:
إن مما يقلل الاختلاف والصراع أن يفتح المجال للحوار، وأن يسود بين
شباب الصحوة ودعاتها جو الحوار؛ وبدون الممارسة العملية سيبقى الحديث عن
آدابه وأخلاقياته حديثا نظرياً.
ومن تأمل واقع السلف رأى ذلك جلياً؛ فكانوا يختلفون ويسود بينهم الحوار
والمناظرة والجدل بالتي هي أحسن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقد كان العلماء من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]
(النساء: 59) وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما
اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين»
[31] .
الثالث عشر: سعي المصلحين لرأب الصدع وتدارك الخلاف:
من المهم حين يشيع خلاف تبدو منه بوادر الافتراق أن يسعى المصلحون
للأخذ بزمام المبادرة، فيبذلون وسعهم في الإصلاح ورأب الصدع قبل أن يتأصل
الخلاف وتطول الخصومة، ومما ينبغي على المصلحين مراعاته:
أ - أن يكفوا عن الخوض فيما لا يليق بهم أن يخوضوا فيه، ويكونوا بذلك
قدوة لغيرهم، وفي كل موطن من مواطن الخلاف والصراع تتميز فئة ممن رزقهم
الله العلم والبصيرة فيمسكون عن الخوض في الفتن؛ فما أجمل أن يقتدي الدعاة
وطلاب العلم بأمثال هؤلاء.
ب - أن يحذروا من الانسياق وراء المتحمسين والمندفعين فيما لا يحقق
المصلحة؛ فكم رأينا من مواقف دفع فيها الشبابُ بعضَ أهلِ العلم والدعاة إلى
مواقف لا تليق بمن هو دونهم فضلاً عن أمثالهم.
ج - أن يسعوا للإصلاح بين المتخاصمين بأنفسهم، وقد كان سيد الخلق
صلى الله عليه وسلم معيناً بذلك؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل للنبي
صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي! فانطلق إليه النبي صلى الله عليه
وسلم وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة؛ فلما أتاه
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني! والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال
رجل من الأنصار منهم: واللهِ لَحِمَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً
منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه،
فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها أنزلت: [وَإِن طَائِفَتَانِ
مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] (الحجرات: 9) « [32] .
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلح بينهم في أناس معه فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت
الصلاة....» [33] .
ويعظم سعيد بن المسيب رحمه الله شأن الإصلاح فيقول: «ألا أخبركم بخير
من كثير من الصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى! قال: إصلاح ذات البين، وإياكم
والبغضة؛ فإنها هي الحالقة» [34] .
وفي حادثة الإفك انشغل النبي صلى الله عليه وسلم بالإصلاح بين المسلمين،
وترك ما كان يريد الحديث عنه من أمر عظيم ألا وهو عِرْضُه صلى الله عليه وسلم،
وترك الحديث عن اتهام أحد أصحابه للآخر بالنفاق؛ ففي حديث الإفك: «فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله
ما علمت على أهلي إلا خيراً، وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان
يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! أنا والله أعذرك
منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا
فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً،
ولكن احتملته الحمية فقال: كذبتَ لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد
بن حضير فقال: كذبتَ لَعَمْرُ اللهِ واللهِ لنقتلنه؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فثار الحيان: الأوس والخزرج؛ حتى هموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على
المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت» [35] .
وكان لأهل السنة رحمهم الله اعتناء بذلك؛ فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله يكتب لطائفة من إخوانه الذين تجاوزوا في ذلك فيقول: «والذي أوجب
هذا الكلام أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم حتى ذكروا: أن
الأمر آل إلى قريب المقاتلة؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله هو
المسؤول أن يؤلف بين قلوبنا وقلوبكم، ويصلح ذات بيننا، ويهدينا سبل السلام
ويخرجنا من الظلمات إلى النور ويجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويبارك لنا
في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ما أبقانا، ويجعلنا شاكرين لنعمه مثنين بها
عليه قابليها ويتممها علينا. وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في» مسألة رؤية
الكفار ربهم «وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد؛ فالأمر في
ذلك خفيف ... ثم ذكر الجواب» [36] .
أسأل الله أن يمن على عباده المؤمنين بالاجتماع، وأن يجنبهم مواطن الزلل
والفرقة والخصومة؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده.
__________
(1) (2) تفسير ابن جرير 12/134.
(3) معالم التنزيل 4/122.
(4) انظر: إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير، ص 119.
(5) رواه مسلم (1715) .
(6) رواه أحمد (16718) والترمذي (2863) .
(7) رواه الترمذي (2165) وأحمد (115) .
(8) رواه الطبراني والبيهقي.
(9) فتح الباري.
(10) رواه مسلم (1828) .
(11) رواه البخاري (6150) .
(12) رواه البخاري (4665) .
(13) رواه البخاري (2661) .
(14) متن العقيدة الطحاوية.
(15) صحيح مسلم بشرح النووي، 12/11.
(16) مجموع الفتاوى 6/505) .
(17) رواه البيهقي عن النعمان بن بشير، وحسنه الألباني صحيح الجامع، 3014.
(18) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (158-159) والآجري في الشريعة 13.
(19) مجموع الفتاوى 3/421.
(20) رواه مسلم في مقدمة الصحيح.
(21) مجموع الفتاوى (19/216-217) .
(22) مجموع الفتاوى (35/69) .
(23) أفادني طالب في المرحلة الثانوية أنه صنف كتابا في الرد على من يعتنون بالتخصصات غير الشرعية، وآخر في المرحلة نفسها أنه سيعقد درساً لبعض الطلاب يشرح لهم فيه كتاب (الفتوى الحموية) لشيخ الإسلام ابن تيمية! ولا ندري ماذا في المستقبل من النوادر والأوابد؟ ! .
(24) الكفاية (ص102) جامع بيان العلم وفضله (2/821) .
(25) سير أعلام النبلاء (14/40) .
(26) إعلام الموقعين (3/283) .
(27) مجموع الفتاوى (6/502) .
(28) مجموع الفتاوى (6/503-504) .
(29) مجموع الفتاوى (24/173) .
(30) رواه البخاري (3217) .
(31) مجموع الفتاوى (24/172) .
(32) رواه البخاري (2691) ومسلم (1791) .
(33) رواه البخاري (1234) ومسلم (421) .
(34) رواه مالك في الموطأ (1676) .
(35) رواه البخاري (2637) ومسلم (2770) .
(36) مجموع الفتاوى (24/176-177) .(176/30)
حوار
فضيلة العلامة الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي
في حوار خاص مع البيان
على المسلمين فهم طبيعة المعركة والإعداد لها
فضيلة الدكتور العلاَّمة سفر بن عبد الرحمن الحوالي رئيس قسم العقيدة في
جامعة أم القرى بمكة المكرمة سابقاً، أحد العلماء المبرزين، ألَّف عدداً من الكتب
والأبحاث العلمية، من أبرزها: (العلمانية وأثرها في العالم الإسلامي) ،
و (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي) ، و (فلسطين بين الوعد الحق والوعد
المفترى) ، و (يوم الغضب هل بدأ بانتفاضة رجب؟) .
ويسعدنا في البيان أن نستضيف فضيلته ليحدثنا عن واقع الأمة وطبيعة
الصراع القائم، سائلين الله تعالى أن يجعله مباركاً أينما كان، مفتاحاً للخير مغلاقاً
للشر.
البيان: يتحدث الكثيرون عن العفوية والارتجال في برامج الحركات
الإسلامية، ويتحدثون عن السطحية وضيق الأفق في الفعل ورد الفعل ... فما
حجم هذه الظواهر؟ وما السبيل لنضج الحركة الإسلامية؟
- هذا ما يجب الاعتراف به، وهو مظهر من مظاهر أخرى تدل على أن
الصحوة مع انتشارها وقوة زخمها لم يصلب عودها بعد، وليست قادرة على
مواجهة الحضارة الجاهلية المعاصرة التي تسعى لاجتياح العالم تحت ستار
«العولمة» . هناك أزمة في التخطيط، وأزمة في فهم الآخر ومطابقة العلاقة معه
لمقتضى الشرع، وأزمة في معرفة سنن الله في التغيير والهزيمة والنصر. لا
ينقص الصحوة الإخلاص وحب التضحية؛ لكن هذين لا يكفيان، ولا ينقصها كثيراً
العلم الشرعي لكن وجوده شيء وفهمه والعمل الصحيح به أمر وراء ذلك. كثير
من شباب الصحوة ومعهم بعض موجهيها أيضاً يميلون إلى التصنيف المبسط
للأشخاص والقضايا، والحرفية الظاهرية في فهم النصوص، والسذاجة في
التعامل مع تعقيدات العصر، لكن هذا لا يعني التشاؤم؛ فالمبشرات أكثر من
المعوقات بفضل الله، ومظاهر التحسن والنضج بادية سواء في الأحداث أو
الوسائل، ومن أهم السبل للارتقاء بالواقع الدعوي والأخذ بأسباب النصر والقوة
دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي بها والاعتبار بأحداثها ومواقفها،
وأضرب لكم مثالاً واحداً مما يناسب حالنا هذه الأيام وهو أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا أراد أن يغزو قبيلة ورّى بغيرها (أي أظهر كأنه يريد غزو غيرها لكي
يباغتها) واليوم تأتي مواقف تحتاج الأمة فيها إلى التورية ضمن السياسة
الشرعية، ولكن ذلك لا يحدث خوفاً من الاتهام؛ لأن الاتهام عند آخرين جاهز
لأدنى احتمال دون تقدير للاعتبارات العلمية والمصالح الشرعية وبُعد النظر في
العواقب سواء في ميدان الجهاد أو الدعوة والإصلاح.
البيان: الخطاب الإسلامي لم يأخذ موقفاً متجانساً من أحداث سبتمبر، ألا
ترون في ذلك انعكاساً لحالة من التخبط المنهجي؟ وما السبيل لتلافي ذلك؟
- أزمة الخطاب الإسلامي هي صورة لأزمة الأمة في كل المجالات، وقد
كشفت هذه الأحداث عن خلل في منهج التفكير؛ لكن الأمر ليس معضلاً، بل في
الإمكان معالجته؛ فلو نظرتم إلى خطورة الموقف ومفاجآته لوجدتم أن نسبة النجاح
في الخطاب الإسلامي عالية، وأن قدراً كبيراً من التوحد قد حصل. والشذوذ يمنة
أو يسرة شيء عادي في كل زمان ومكان، وهو لا يختص بهذه الأحداث وما شابهها،
بل هو خلل عامٌّ سببه الجهل بعقيدة أهل السنة في هذا الباب، أو ترك العمل
بمقتضاها وإن كانت معروفة نظرياً.
وذلك أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإنسان أو الجماعة أو الأمة
يجتمع فيهم الإيمان والنفاق أو السنة والبدعة أو البر والفجور أو الطاعة والمعصية؛
وتبعاً لذلك يجتمع له من الحب والبغض بقدر ذلك. هذا ما دلت عليه النصوص
الكثيرة مثل آيات غزوة أحد في سورة آل عمران، وحديث الرجل الذي كان يشرب
الخمر وهو يحب الله ورسوله، وقصة الثلاثة الذين خلفوا..، كذلك هناك أصل
آخر غاب عن بعض المعاصرين وهو أن الأصل في تعامل أهل السنة والجماعة
بعضهم مع بعضهم عند اختلاف الرأي والموقف: الحكم بالخطأ أو الصواب مع
حسن الظن، وليس الحكم بالبدعة والتكفير أو الاتهام وسوء الظن. فهم - كما قرر
ذلك شيخ الإسلام - يخطِّئون (بتشديد الطاء) ولا يبدِّعون أو يكفِّرون إلا من كان
منهجه البدعة أو الكفر بحيث يغلب ذلك عليه أو يتمحَّض له. وإلا فإن كثيراً من
أئمة السنة وقعوا في أخطاء وافقوا بها أهل البدع وهم ليسوا منهم مثل الخطأ في
تأويل بعض الصفات، أو الخطأ في مسائل من القدر أو الأسماء والأحكام، وكذلك
في المواقف من العدو؛ فقد يدافع بعضهم عن بعض المنافقين أو يكون فيه لين في
معاملة المشركين وهو مع ذلك من صالحي المؤمنين الصادقين؛ فليس من شرط
أئمة الهدى والعلم والتقوى فضلاً عمن دونهم أن يكونوا معصومين في الاعتقاد أو
الموقف. وإنما العبرة بالمنهج العام والصفة الغالبة. هذا من جانب. ومن جانب
آخر: حين تكون الأمة في مواجهة العدو الكافر أو المرتد فإنه يجب عليها أن تكون
يداً واحدة صالحها وطالحها، عادلها وظالمها، سنيها وبدعيها كما قال صلى الله
عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم» ويجب السعي
لجمعها على ذلك دون إخلال في الالتزام بالحق والدعوة إليه والتمسك بالطاعة
والسنة. بل هذا يسير مع ذاك ويحاذيه أعني الدعوة إلى الحق الخالص مع جمع
الأمة على العدو الخالص؛ وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم يوم أحد والخندق
وتبوك وغيرها. ووقوف العاصي أو المبتدع أو المنافق في وجه الكفر تحت راية
الإسلام مما يمحو الله به ذنبه أو يخففه وهو من أسباب ووسائل تربيته وتزكيته لكي
يترك فجوره وبدعته. فلو أن المسلمين لم ينصروا إلا من كان على السنة الخالصة
أو الطاعة المحضة لكان ذلك تقصيراً وتفريطاً، ولو أنهم أقروا الضال أو الظالم
على فعله بسبب قوة موقفه مع العدو لكان ذلك انحرافاً. وكما أن الإيمان يزيد
وينقص ويتبعض فإن الولاء والبراء يزيد وينقص ويتبعض مع ثبات أصل الأخوة
الإيمانية وحقها الواجب لبعض المؤمنين على بعض. فهذا الحق ثابت بالنصوص
الصريحة وهو من قطعيات الدين فلا يسقط إلا بيقين ولا ينتهك بالتأويل والاحتمال.
البيان: علاقتنا بالغرب تتنازعها في الساحة الفكرية آراء متباينة؛ فمن
المفكرين من يطالب بالحوار مع شتى الفعاليات الفكرية والسياسية في الغرب،
ويتحدث عن أزمة في الفهم بين الطرفين لن يعالجها إلا الحوار الجاد، وهناك
مفكرون آخرون يتحدثون عن أن الغرب المتغطرس يزدري الضعفاء، ولا يؤمن
إلا بالقوة، ولا يعرف إلا لغة الصراع بين الحضارات، وأن الحوار ما هو إلا
ألعوبة يتشدق بها أدعياء الحرية والديمقراطية، وبين هؤلاء وأولئك آراء أخرى
... فما رؤيتكم لهذه العلاقة، وهل من سبيل إلى رؤية علمية حيال هذا الأمر؟
- التنازع لا ينحصر في هذه القضية؛ فأحد وجوه الخلل في التفكير المنهجي
افتعال الصراع أو توهمه حيث لا سبب له. فهو يفتعل بين العلم والدعوة لمن ترك
أحدهما، وبين الجهاد والإصلاح ممن لم يستطع التوفيق بينهما، وهكذا كما ذكر الله
عن النصارى: [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا
بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ] (المائدة: 14) ، وسبب ذلك عدم إدراك سنة الله في التنوع وتيسير
كل أحد لما خلقه له، وفقد الرؤية الكلية والانحصار في رؤية ضيقة على جانب
واحد من الحق؛ وإلا فما المانع من أن يجتمع الحوار العلمي والإعداد الجهادي العام؟
إنهما ليسا متناقضين؛ بل كل منهما وجه للقوة؛ فلولا قوة الصين لما اضطرت
أمريكا إلى حوارها، ولولا القنبلة النووية لما سمعت الهند من باكستان، وفي الوقت
نفسه سقطت قوة الاتحاد السوفييتي عسكرياً لما أخفق عقدياً.
كلنا نؤمن بأن الإيمان شُعب، واستكمال التربية على كل الشعب متعسر أو
متعذر؛ فالحل الصحيح إذن هو مراعاة حال الأمة؛ ففي مثل واقعنا الحالي أرى أن
أهم شعبتين بعد التوحيد هما: الجهاد والزهد. ونتدرج في استكمال ذلك بواقعية؛
فالمجاهد في فلسطين وأريتريا والشيشان وكشمير والفلبين هو في حالة ضعف
بالنسبة لعدوه المباشر مع أنه في الوقت نفسه يواجه القوى العالمية التي تنصر هذا
العدو عليه، ويعاني من قلة الناصر من المسلمين بعذر أو بغير عذر.
وأهم من ذلك أن قوتنا العظمى هي في ديننا وعقيدتنا، وبها نغلب العدو
ونفتح القلوب والبلاد؛ فاهتمامنا بالعلم والدعوة، وقدرتنا على البلاغ والحوار
لشرح محاسن الإسلام هي أكبر أسباب النصر على العدو في ميدان المعركة،
وأعظم ممهد لإعلاء كلمة الله في الأرض دون أن يعني ذلك الاكتفاء بالحوار عن
الجهاد، أو الاستغناء بالمقاومة عن المجادلة والدعوة. إن مقتل جنرال من العدو
نصر نفرح به، لكن ينبغي أن يكون فرحنا بإسلام عالم أو قسيس أعظم منه.
في كل حالٍ يجب أن نكون أقوياء؛ فالغرب وغيره لا يستمع إلا للقوي، ومن
القوة قوة الحجة والبرهان والحكمة في التعامل مع الاستمرار في المصابرة، لا نمنع
الحوار لكن ننبه إلى ضوابطه ومحاذيره، ونحرض على الجهاد لكن ننبه إلى
شروطه وعواقبه، ويعمل الطرفان كاليدين للإنسان.
أما بالنسبة للغرب فهو ليس شيئاً واحداً، وأمريكا نفسها منقسمة، ومن الخطأ
التعامل معها على أنها كلها يمين متطرف أو كلها مفكرون عقلانيون. أمريكا فيها
أسوأ ما أنتج الغرب من دعاة الدمار والهمجية، وفيها أحرص الناس - بعد
المسلمين - على العدل. ومن الحكمة أن يواجه كل منهما بما يناسبه. ومن هنا
يجب أن نستكمل القوة في كل ميادينها والإعداد للمواجهة الحاسمة دون استعجال
للأحداث واستثارة للعدو ونحن لا طاقة لنا به. وقد أثبتت الحرب الأخيرة في
أفغانستان أن ضعفنا الإعلامي شديد، بل هو أشد من الضعف العسكري.
البيان: الحملة الأمريكية على ما يسمونه الإرهاب ... ما أبعادُها؟! وهل
هي حقاً حملة صليبية على الإسلام كما صرح بعض قادتهم بذلك؟! أم أنها
تصريحات متشنجة غير مقصودة لا تعبر إلا عن الاستياء الشديد مما حدث؟
- من غير دخول في جدل المصطلحات نقول: إن كل حرب عسكرية غربية
هي حملة صليبية منذ غزوة مؤتة إلى الملاحم التي بين يدي الساعة، ولا يغير من
هذه الحقيقة أن الغرب وبالأخص أوروبا تخلّى عن إيمانه بالنصرانية إلى حد بعيد؛
فالصليبية هي نزعة عدوانية تعتمد على الميراث الديني والتاريخي المتراكم، وهي
توجد لدى المتدين وغير المتدين. وبالنسبة لأمريكا لا مراء في تأثير الدين على
التوجه السياسي ومن ثم العدوان العسكري؛ قد تقل شعائر الدين العبادية ولكن
شعاراته السياسية تتزايد، لم يحكم أمريكا رئيس إلا عبَّر للأمة عن تديّنه في حملته
الانتخابية وبعدها، حتى الفاسق الليبرالي مثل كلينتون - وهي منذ تأسيسها لم
يحكمها ملحد صريح ولا يهودي؛ بل كلهم من البروتستانت ما عدا جون كندي فهو
كاثوليكي -. والناظر إلى جوهر الصراع حالياً وإلى ميدانه الواسع المتنوع سوف
يخرج بنتيجة قاطعة هي أن أمريكا تحارب الإسلام من حيث هو إسلام، وأن
العنصر الجديد الذي تتميز به الحملة الصليبية المعاصرة عن حملات القرون
الوسطى هو اليهود. وهذا ما يجعلها أشرس عداوة وأعظم مكراً.
البيان: لكن مع هذه الشراسة والمكر هل نحن قادرون على مقاومة أمريكا،
وكيف؟
- علينا أولاً أن نحدد مفهوم المقاومة وصفة العدو. فإن كان المقصود
بالمقاومة المواجهة الشاملة دعوياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً فالجواب بيقين: نعم!
ولكن وفقاً لسنة الله في الإعداد والتدرج والقومة بعد الكبوة؛ فهي إذن مصابرة
طويلة وجبهة عريضة هائلة. لا حدود للمعركة مع الصليب على الأرض، ولا
نهاية لها إلا قيام الساعة. ونحن الآن نعيش مقدمات النصر وذلك بسقوط القيم
الأخلاقية لأمريكا ذلك السقوط الذي حوّل كثيراً من الناعقين بتمجيدها إلى ثكالى
يصرخون لرثائها.
وأما صفة العدو فإن كان المقصود بأمريكا إدارتها الصهيونية وغطرستها
العسكرية فهذا ما يجب على العالم كله أن يقاومه؛ لأنه شر على الإنسانية كلها.
وإن كان المقصود الشعب أو طائفة كبيرة منه وأكثر المثقفين؛ فهم أخصب بيئة
للدعوة إلى الإسلام، ويجب أن تكون قوتنا هنا هي قوة العلم والإيمان وسلاحنا هو
الحجة والبرهان، ولا ينبغي أن يغيب عنا أنه بعد الهجوم على أمريكا كتب كثير
من المفكرين هناك في نقد الغطرسة الأمريكية والانحياز ضد المسلمين ما لا يقل
عما كتبه أكثر المسلمين صلابة وأبلغهم بياناً، ومن هنا يجب أن يكون تقييمنا
للمقاومة شاملاً وحكيماً وأن تكون خطة العمل متكاملة وسليمة.
البيان: يتشدق الأمريكيون بالقيم الأخلاقية وحقوق الإنسان التى تأسست
عليها حضارتهم؛ فهل هذه القيم والحقوق حاضرة حقاً في السياسة الأمريكية،
وخاصة في علاقتهم بالشعوب المستضعفة؟
- الكلام عن القيم قد يفضي إلى متاهة فلسفية لا حاجة للقراء بها؛ فلْنتناولْها
إذن من جهة الممارسة والتطبيق؛ فقد أُسِّست الولايات المتحدة على قيم مزدوجة
بين الديني المغالي، والنفعي البحت. وتركزت القيم الدينية في فئات محدودة ثم في
ولايات محددة أيضاً؛ كما كان للقيم النفعية فئاتها ومراكزها، وظل التوازن بينهما
معقولاً إلى الحرب العالمية الأولى حين خرجت أمريكا عن حيادها وعزلتها؛ ومن
هنا بدأت سياستها تخرج تدريجياً عن القيم الأخلاقية حتى وصلت إلى الهوة الهائلة
القائمة اليوم. لكن الشعب الأمريكي في ضميره ظل حريصاً على قيمه بل متعصباً
لها حتى ثورة المعلومات المعاصرة، ولما كان المفكرون أسبق الناس للتنبؤ بسقوط
القيم؛ فقد بدأ هذا التشاؤم منذ أكثر من نصف قرن لا سيما في الروايات ثم تبعتها
المؤلفات الفلسفية السياسية الناقدة، وكان مقتل «كندي» علامة فاصلة لانتصار
قوى الضغط الخفية «شركات بيع السلاح» ومن هنا ظهر النقد الحاد للحكومة
ووصفها بالإمبراطورية العسكرية كما في كتاب: «ماذا يريد العم سام؟» لنعوم
تشومسكي؛ حيث استطاع المؤلف أن يبرز منهج السياسة الأمريكية البعيد جداً عن
القيم الأخلاقية في شكل نظرية مختصرة: «إن أي نجاح أو فرصة للاستقلال عن
خدمة المصالح الأمريكية في أي بلد من العالم لا بد من مواجهته ولو أدى ذلك إلى
استخدام القوة المسلّحة» وأثبت أن أكثر من نصف دول العالم كانت مسرحاً لتنفيذ
هذه السياسة. والذريعة الدائمة كانت مكافحة الشيوعية، وبعد سقوط الشيوعية حل
الإسلام تلقائياً محلها، وأصبح شعار مكافحة الإرهاب هو البديل، وانكشف الانحياز
للصهيونية بشكل فاضح، وصاحب ذلك انهيار أخلاقي هائل في قيم الأسرة
والتعامل عامة، وتهافتت رموزها ابتداء من «الرئيس الأب أو راعي القيم كما كان
يقال» ومروراً بالقسيس الفاجر وانتهاء بالجيل الجديد الذي فتح عينيه على ثورة
المعلومات حيث بلغت نسبة المواقع الإباحية التي يدخلها الأمريكان على شبكة
المعلومات العالمية 90% من مجموع المواقع.
وبإجمال نستطيع القول إن السياسة الأمريكية تتردى في الحضيض من جهة
القيم، وأن المجتمع الأمريكي مقبل على انهيار سريع ومخيف بهذا الشأن؛ فلو أن
أعدى عدو لأمريكا أنفق البلايين للدعاية ضدها لما استطاع أن يغير نظرة العالم
إليها إلى الحد الذي فعلته هي بنفسها. وهذا بالنسبة لنا نحن المسلمين نصر عظيم؛
ومع ذلك يستدعي واجباً عظيماً هو نشر الدعوة في تلك البلاد واستنقاذ أهلها من
الظلمات والجحيم؛ فلا نجاة لهم إلا بالإسلام، وسجونهم أحد الشهود على هذا؛
وبذلك نكسب ما هو أعظم من دفع شرهم عن الإسلام وهو تسخير قوتهم لخدمته.
البيان: في هذا السياق كتبتم رسالة من مكة بعنوان: (عن أي شيء
ندافع؟) رداً على رسالة المثقفين الستين من أمريكا ... هل جاءتكم ردود فعل
غربية على رسالتكم؟
- نعم! منذ الأيام الأولى وكان أول رد من المفكر الصهيوني الشهير صمويل
فريدمان، ولا زلنا نستقبل الردود، وسوف نقوِّّمها، وقد ننشر ما نرى في نشره
فائدة عامة.
البيان: ردّكم هذا يذكرنا بكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: (الجواب الصحيح
لمن بدَّل دين المسيح) فما أخبار ترجمته، وهل ترون أن مجرد ترجمته كافية
في الرد على النصارى؟
- تم إكمال المتن مترجماً إلى الإنجليزية وتحقيقه بالعربية، والعمل جارٍ في
التعليق والتخريج. أما الكفاية فغير واردة؛ لأن هذه الأمة الضالة كثيرة الافتراق
متجددة الابتداع، وقد ظهر بعد شيخ الإسلام رحمه الله فرق كثيرة وبدع عديدة
وشبهات منوعة، ونحن نحاول بالتعليق والشرح أن نكمل ذلك ونسأل الله العون
والسداد.
البيان: ضلال النصارى وافتراقهم يجعلنا نسأل عن العلاقة بين الدين
والعلمانية في بنية الإدارات الأمريكية المتعاقبة؟
- العلاقة بين الدين والسياسة في أمريكا سهلة ومعقدة معاً. أمريكا لها
علمانيتها الخاصة التي يمكن أن تكون نوعاً ثالثاً غير النوعين المعروفين تبعاً
للاصطلاح الغربي وهما: النوع المضاد للدين، والنوع غير الديني:
فالعلمانية الأمريكية مستنصرة بالدين ومؤيدة للدين، وهي حالة شاذة بالطبع؛
لكن الشذوذ هو صفة أمريكا في كثير من أمورها. أنا أوافق (إدوارد سعيد) على
أن أمريكا أكثر أمم الدنيا انشغالاً بالدين، لكنها ليست كما زعم المثقفون الأمريكيون
أكثر شعوب الغرب تديناً. في الدول الأخرى لا سيما الكاثوليكية لا غرابة أن يكون
للرئيس خدينات أو أن تحمل ابنته سفاحاً وأن يعيش عمره كله لم يدخل كنيسة ولم
يقرأ صفحة من الإنجيل؛ لكن هذا لا يمكن المجاهرة به في أمريكا، بل من
الواجب التظاهر بخلافه. وأيضاً الدين هناك يستخدم العلمانية؛ فالحكومة لا تبني
مدارس دينية ولا تضع مناهج دينية، ولكن التبرع للكنائس والمدارس الدينية يعد
كما لو كان دفعاً للضريبة الحكومية، والتطوع للعمل في هيئة تنصيرية يحتسب
للموظف كما لو كان على رأس العمل أو أنه في إجازة مضمونة الحقوق.
وتأسيساً على هذا يمكن أن يصل رئيس جهاز المخابرات الأمريكية الذي هو
أكثر الأجهزة جرائم في حق الإنسانية إلى منصب رئاسة الدولة تماماً كما في أكثر
الأنظمة الإلحادية قمعاً وكبتاً لكن مع التلبس بدعوى الدين والتزلف لليمين الديني.
هناك تبادل مدهش للأدوار بين الحزبين وتنسيق بين المحافظين واللبراليين يصب
كله لمصلحة الصهيونية باسم الدين. ربما كان سبب ذلك الازدواج أن المجتمع
الأمريكي قام على تحالف بين مجموعتين متنافرتين: الهاربين بدينهم من الاضطهاد
المذهبي، والهاربين بجرائمهم من وجه العدالة. وبالتزاوج بين غلاة المتزمتين
وعتاة المجرمين نشأت الحالة الشاذة التي تحتسبها أمريكا على العالم دليلاً على القيم
الراقية!!
البيان: علاقة أمريكا بـ (إسرائيل) أهي علاقة اقتصادية ومصالح
مشتركة يمكن مواجهتها بتأسيس علاقة عربية أقوى، أم أنها قبل ذلك علاقات
دينية وتقارب عقدي؟
- العلاقة بين أمريكا والدولة العبرية لا تقتصر على جانب واحد؛ فهي في
الأساس علاقة دينية وحضارية، ثم هي علاقة اقتصادية ومصلحية؛ وأمريكا أعني
السياسة تتصرف وفقاً لإيمانها بالرابطة العقدية والاقتصادية، وكذلك تحت تأثير
قوى الضغط الصهيونية. في الجانب العقدي يمكننا المواجهة؛ فعقيدتنا الأقوى
وديننا الحق؛ وهذا من شأن المؤسسات والشعوب؛ ولذلك كان ممكناً على المدى
البعيد. أما ما يتعلق بالحكومات فلا طمع فيه في الظروف الحالية.
البيان: هل ترى أن الإسلاميين أدوا واجبهم تجاه فلسطين؟ وفي حالة عدم
أدائهم لهذا الواجب فما السبيل إلى ذلك؟
- لا، ولا قريباً مما يجب، هذه يا أخي مأساة بالغة وغصة في حلق كل
مؤمن وقذى في عينه. بعض الإسلاميين يهمه أن يرتّب وضعه الداخلي أو مستقبله
السياسي مع نظامه أكثر من وقوفه مع إخوانه المستضعفين. نحن نقدر المصاعب
الخاصة، ونضع أنفسنا في جملة المقصرين. لكن يجب أن يستقر في ضمائرنا
ونرفع به أصواتنا في كل مكان أن هذه القضية ليست قضية حماس والجهاد
وأخواتهما فقط، في حين تقف الحكومات الغربية والمنظمات الكتابية ما بين مؤيد
أو مداهن للهمجية الصهيونية، يجب على المسلمين كلهم معرفة طبيعة المعركة
والإعداد لها كلٌّ بما يستطيع؛ فليس لها من حل سوى الجهاد. إن حب الشهادة هو
مخزوننا الاستراتيجي الذي لا ينضب، وهو لا يكلفنا بناء المفاعلات ولا أعباء
الصيانة ولا مخاطر الارتداد على من يستخدمه.
البيان: منذ عدة عقود والأمة تتردى في مهاوي السلام مع العدو بدعاوى
كثيرة، بينما العدو هو المستفيد الأول؛ فهل ترون أن هناك حاجة ماسة كما
يزعم بعضهم لهذا الاتجاه الذي يعدُّونه موقفهم الاستراتيجي وليس موقفاً
تكتيكياً؟
- السلام مع مَنْ طبيعته الغدر والخيانة والتملص من المواثيق ونقض العهود
هو جريٌ وراء السراب وتعلل بالوهم. السلام - ناهيك عن التطبيع - لا يصح أبداً
أن يكون خياراً استراتيجياً، والأنظمة المخدوعة به أو المتخادعة له لا تتدخل إلا
لكي تنقذ الموقف الصهيوني وتستأثر بالوكالة الإقليمية لأمريكا في المنطقة. لكنني
أبشر المستضعفين بأن الكيان الصهيوني منقسم على نفسه، ولهذا أصبح السلام
يهدده كالحرب، وما مصير رابين عنا ببعيد، ومن هنا نجزم أن هذا الكيان يعيش
أزمة ذاتية دائمة، وأن ما يشبه الأيام الأخيرة للممالك الصليبية قبل 900 سنة بدأ
ينزل به. لقد اجتمعت أصوات الأمة كلها على المطالبة بالجهاد؛ وهذه خطوة
عظيمة في الاتجاه الصحيح، وإذا استمر اليهود في رفض مشروعات السلام وهو
المتوقع منهم غالباً فإن الأنظمة التي جعلته خيارها الوحيد ستصيح خارج الميدان،
وعند أول فرصة للأمة لمواجهة العدو سوف تسقط كل الحسابات وتبدأ معركة
النهاية.
البيان: رجحتم في كتاب (يوم الغضب) أن تكون نهاية أمريكا وإنجلترا
متزامنة مع نهاية إسرائيل، فإلى أي شيء استندتم؟ ألا يعني ذلك صراحة أننا
دخلنا بالفعل في أحداث آخر الزمان؟
- الكلام كله كان مستنداً إلى نبوءات أهل الكتاب وقد ذكرنا في الكتاب أحكام
التعامل معها وضوابطه والسياق هو سياق إلزام الخصم بما يعتقد، والنبوءات
وشروحاتها صريحة في بيان أوصاف الإمبراطورية الرومانية الكائنة آخر الزمان
وأنها على نفس منهاج الإمبراطورية الأولى في كفرها وحربها لله وللمؤمنين
وعداوتها لمدينة الله الجديدة ولشعب الأطهار والأمة المختارة الجديدة. ولأنها سوف
تتحالف مع اليهود لقتال المسيح والمؤمنين. ولهذا فإن الله سوف يدمرها.
ولما كان الإنجيليون يعتقدون أن قيام دولة إسرائيل في القدس هو علامة نزول
المسيح وأنهم هم المؤمنون والمختارون فكان من الضروري قطعاً أن تكون
الإمبراطورية الرومانية المعاصرة «أمريكا» عدواً لهم وللدولة اليهودية، وهذا
عكس الواقع تماماً. فوقعت الحيرة وسقطوا في التناقض والتكلف والتأويلات
المتعسفة، وكان دورنا ببساطة أن نضع الحقائق في نصابها بلا تكلف ولا تعسف؛
فأيدنا التطابق المدهش بين الإمبراطورية الرومانية الأولى وأمريكا، ثم أوضحنا أن
الصفات الكتابية لمدينة الله والأمة المختارة تطابق تماماً حال مكة المشرفة والأمة
المسلمة، واستدللنا بالحال التي لا تحتاج إلى دليل وهو أن الإمبراطورية الرومانية
المعاصرة ليست عدواً للدولة اليهودية، بل هي أكبر نصير لها وتقاتل نيابة عنها
ومعها، وظهر بذلك من نفس كلام الإنجيليين أنهم هم وأمريكا واليهود أعداء المسيح،
وأنهم يضعون أنفسهم في صف المسيح الدجال، وأن الله سوف ينصر الأمة
المختارة عليهم وسوف يدمر الإمبراطورية التي تعتمد أكثر ما تعتمد على قوتها
البحرية كما في النبوءة «ويدمر الله التنين الذي في البحر» وهي ذات المياه
الغزيرة والكنوز الوفيرة والتجارة مع كل أمم الأرض.. إلى آخر ما هو مفصل في
الكتاب ... وكل هذا على سبيل الإلزام وإقامة الحجة عليهم من نفس كتبهم وكلامهم،
دون أن يكون عقيدة لنا.
البيان: لكن هل يعني ذلك أننا دخلنا بالفعل في أحداث آخر الزمان؟
- لا بد من التفصيل؛ فإن أحداث آخر الزمان تشمل ما كان قريباً من العهد
النبوي ومنها موته صلى الله عليه وسلم كما صح في الحديث؛ بل إن بعثته صلى
الله عليه وسلم هي من علامات آخر الزمان كما صح في أحاديث أخرى؛ وبهذا
المعنى يصح القول بذلك في عمومه. وأما إن كان المقصود بأحداث آخر الزمان
ظهور الدجال ونزول المسيح عليه السلام ومعه المهدي فلا؛ فإن هذا لا علاقة له
بذلك كما أوضحنا في الكتاب، وما كتبه بعضهم بهذا الشأن هو مما يجب نبذه
وصرف النظر عنه، والأحداث نفسها ستكشف خطأه وتكلفه، والأدلة على صحة
ما نقول كثيرة جداً لا يتسع لها المقام، ومن أهمها أن الأحاديث الصحيحة دلت على
أن الدجال يخرج بعد الملاحم مع الروم وفتح روما، وهذا ما لم يقع ولا وجود
لشيء من مقدماته اليوم.
وإجمالاً أؤكد أنه لا يتفق شيء من الواقع المعاصر على ما صح بهذا الشأن
سواء طبيعة المعركة وأرضها ونوع السلاح وصفات المجاهدين والأحوال العامة في
العالم. حسبنا اليوم الوقوف عند اليقين بإذن الله وهو زوال دولة إسرائيل كما زالت
دول الصليبيين من قبل دون أي ارتباط بعلامات الساعة الكبرى.
البيان: وهل لنا أن نعرف من فضيلتكم ردود الأفعال التي وصلتك خاصة بعد
ترجمة الكتاب إلى العبرية؟
- اليهود كما تعلمون ينقسمون بشأن قيام الدولة الصهيونية فئتين سواء داخل
فلسطين المحتلة وخارجها. فأما اليهود الأرثوذكس ولاسيما جماعة «حراس القرية
= ناطوري كرتا» فقد حظي الكتاب بقبولهم لمطابقته لما عندهم بشأن زوال هذه
الدولة وأنها ضد الله حسب عقيدتهم، كذلك حظي الكتاب في حدود ما انتشر
بإعجاب وتأييد المفكرين الروس؛ لأنهم يمقتون اليهود جداً، وقد ترجم إلى الروسية.
وفي الجانب الآخر هاجم الصهاينة الكتاب بدون علم؛ حتى إن بعضهم كتب عنه
في النيويورك تايمز ما يدل على أنه لم يقرأ منه سوى العنوان واعتبره محرضاً
على الإرهاب، واستطاعوا التأثير على مكتب التحقيقات الاتحادي فحدثت بعض
المضاياقات لمن عثروا على الكتاب في منزله من المسلمين، ومثله كتاب:
«القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى» ولعل من المفيد أن نقول: إن
الكتاب أرسل إلى المجامع العلمية والفكرية والإعلامية في الدولة الصهيونية، وبعد
أقل من ستة أشهر أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية في تل أبيب تقريراً يشير
فيه إلى زوال دولة إسرائيل بعد عشر سنوات، ونقلت عنه ذلك صحف عربية
كثيرة، وهذا يشير إلى التطابق بين ما لديهم من نبوءات دينية وما تدل عليه
دراساتهم المستقبلية العلمانية؛ وهو ما يؤكد أهمية محاربة العدو من كل باب ومنها
باب الموروث الديني والنفسي الذي هو أصل قيام الدولة الصهيونية.
البيان: يمارس الإعلام الغربي دور الوصاية وتزييف الوعي وتغييب
الحقائق، في الوقت الذي يتظاهر فيه بالحياد والنزاهة؛ فما الطريق لمواجهة هذا
الإعلام؟ وهل من سبيل لإحياء الوعي في الأمة؟
- الحرب الإعلامية هي أحد وجوه الحرب الصليبية المعاصرة على الإسلام،
وهي مبنية على أسس من الدراسات النفسية والاجتماعية الموجَّهة. ولا يقل
توظيف المعلومة عن توظيف الصاروخ أو الرادار. وقد جاء في القرآن التحذير
الشديد من أساليب اليهود والمنافقين بهذا الشأن، ومنها التخويف والإرجاف والإفك
وتضليل الرأي وإطلاق الإشاعات وكتم الحق وتحريف القول وبذر الشقاق بين
المؤمنين.. وغيرها مما يطول ذكره وشرحه. ولم تزدهم الوسائل الحديثة
والتجارب المدروسة إلا قوة في المكر والكيد، ولكن الحق أقوى؛ لأنه حق وما
على المسلمين إلا الاجتهاد في مقاومة الباطل بقدر ما يستطيعون، مع الثقة بأن الله
تعالى لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين. وإن الشعور بالضعف مع
الخوف من الهزيمة الفاضحة هو الذي يجعل الإدارة الأمريكية تمارس سلطة
استبدادية في حجب المعلومات الصحيحة، وتستعين بوحدة خاصة للتضليل
الإعلامي.
البيان: كيف تقوّمون أداء الجماعات الإسلامية بمختلف اتجاهاتها في
مواجهة العلمانية خلال ربع القرن الماضي؟
- اسمح لي أولاً أن أقول: إن الأمر لم يعد أمر جماعات.. لقد طورت الأمة
نفسها وطورت بعض الجماعات منهجها فنشأ تيار عريض تجاوز الأطر الضيقة
والتجمعات المحدودة ليمتلك مواقع ومؤسسات وتأثيراً متنامياً داخل المجتمعات
الإسلامية وخارجها، إن 80% من الأخبار التي يتداولها العالم يومياً هي مما له
علاقة بالإسلام والمسلمين، وفيما تتعرض العلمانية لإخفاقات متوالية يشهد العالم كله
عودة صاخبة للتراث وحديثاً جديداً عن الدين، وبالإفادة من وسائل التواصل الحديثة،
وبالاستناد إلى أن الإسلام هو دين الفطرة وهو الحق وما عداه باطل أو محرف
استطاعت الصحوة الإسلامية أن تكسب مواقع جديدة كل يوم، وسهلت مهمة
العاملين للإسلام فرادى أو جماعات أو مؤسسات، ولم تقف الأمة عند حدود الإيمان
بأن الإسلام هو الحل، وأن كل الشعارات والأفكار العلمانية يجب أن تُوأد، بل
تجاوزته إلى الإيمان بأهمية الجهاد والمطالبة بتطبيق الشريعة، وهناك أكثر من
مسؤول غربي فضلاً عن دراسات كثيرة جداً صرح بأن الشعوب الإسلامية لو أتيح
لها حرية الاختيار لما اختارت سوى الإسلام، ولو أُعطيت فرصة الجهاد لاندفعت
إليه من كل مكان؛ فالعلمانية والانهزامية إذن مفروضتان على الأمة فرضاً. وكفى
بذلك إنجازاً وسبباً للتفاؤل.
البيان: ما هو الجانب الذي ترون ضرورة التركيز عليه في مواجهة
العلمانية في المرحلة الراهنة؟
- في هذه المرحلة وفي كل مرحلة ولمواجهة العلمانية وغيرها نحتاج أولاً إلى
الإيمان الصادق والعلم النافع وتزكية النفس بالعمل الصالح والتقرب إلى الله تعالى
بما يحب ويرضى، والرغبة فيما عند الله والزهد في الدنيا. ويجمع ذلك منهج
للتزكية مستمد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وحياة السلف الصالح تعاد
فيه صياغة النفس المسلمة كما جاء في القرآن الكريم ولا تكون القدوة ما وجدنا عليه
آباءنا أو شيوخنا، أو يكون عملنا ردود أفعال لما في واقعنا من انحراف؛ بل نضع
كتاب الله تعالى نصب أعيننا وإمام سبيلنا والسنة شارحة ومبيّنة؛ فما جعله القرآن
أصلاً قطعياً جعلناه كذلك، وما أجمل فيه أجملنا وما زجر عنه بشدة ننزجر عنه
بشدة وما عفى عنه لا نتكلف فيه، نستعين بمصنفات المتأخِّرين لكن لا نجعلها كل
شيء؛ فكل مؤلف يكتب متأثراً بواقع عصره وبعض البدع أو مظاهر الانحراف
تكون رائجة في عصر، ثم يأتي عصر يروج فيه غيرها. ومنهج العقيدة ومنهج
التزكية يجب أن يساير كل مرحلة توجيهاً وتقويماً وضبطاً على جادة التوسط
والاستقامة. ولنضرب مثلاً واحداً لهذا: فقد مر على الأمة قرون كانت الغلبة فيها
للتصوف والتقليد المذهبي، فلا يكون علاج ذلك بالجفاف الروحي والاهتمام
بالإيمان الظاهر وكيفيات العبادة، مع إغفال الإيمان الباطن الذي هو روح كل عبادة،
ولا يكون بالغلو في محاربة التقليد بحيث يؤدي ذلك إلى تنقص الأئمة المتبوعين،
وتعالم المتطفلين وفوضى في منهج البحث العلمي. وهناك جانب مهم يتعلق
بالأولويات من جهة والمحكمات من جهة أخرى، وهو أن منهج القرآن والسنة وما
كان عليه أئمة السلف البدء والاهتمام بالأصول القطعية والجمل الكلية والشرائع
المحكمة، مثل أركان الإسلام والإيمان في الجملة، والتزام السنة جملة، وترك
الفواحش عامة، وحسن الخلق مع الناس ... ونحو ذلك مما يجب التزامه وإلزام
المخالف به، ثم تأتي بعد ذلك مسائل الفروع فتتدرج تبعاً لأدلتها إلى أن تأتي
مواضع الاجتهاد التي لا يجوز لأحد أن يلزم غيره فيها أو يهدر حقاً قطعياً ثابتاً
- مثل حق المسلم على المسلم - لمجرد الخلاف فيها، ولنا في منهج الخلفاء
الراشدين فمن بعدهم من أئمة الصبر واليقين وتعاملهم أسوةٌ؛ فقد قرروا حقائق
الإيمان وأظهروا شعائر الدين، وجاهدوا الكفار، وحاربوا البدع، وشددوا النكير
على ترك الواجبات، مع سعة الصدر للخلاف في الفروع والمواقف الاجتهادية،
وقد وقع بينهم الخلاف في فروع العقيدة من غير تبديع ولا تكفير، مثل رؤية النبي
صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج وتعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وسماع
الموتى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم وغير ذلك.
تلاحظون يا أخي الكريم أنني ابتعدت عن أصل السؤال؛ ليس هذا مجرد
استطراد، بل هو توكيد لأصل المنهج؛ فلدي اعتقاد جازم بأن مشكلتنا في الأصل
هي مِنْ فَقْدِ المنهج الصحيح أو التذبذب فيه أو اختفاء بعض معالمه، سواء في العلم
أو العبادة أو الجهاد أو التعامل مع المخالف، لا أعني بالمنهج مجرد العلم والعقيدة
النظرية، بل الالتزام الكامل علماً وعملاً والتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
والسلف الصالح؛ فإن أعمال القلوب التي أفاض فيها القرآن بما لم يفض في غيرها
تكاد تفتقد من حياة الدعاة فضلاً عن غيرهم، وذلك مثل الصبر واليقين والإخلاص
والصدق والتوكل والإخبات والإنابة والخشوع والتواصي بالمرحمة والتواضع
وحسن الخلق مع الناس وسلامة الصدر وانتفاء الغل والحسد والرفق في الأمور كلها.
كل الدعاة والجماعات يشكون من تفرق الأمة وتباغضها؛ لكن كم منهم من يفطن
إلى أساس المشكلة، ويبدأ معالجتها بنفسه ومن معه؟ وكثير منهم إذا قلت له: إنك
تفرح بمعصية الله ينكرون ذلك، ولكنه لو بلغه ذنب أو بدعة عن أحدٍٍ يخالفه لطار
به فرحاً بل قد يتكلف ذلك ويتمحَّله. وبمثل هذه الأمراض الخفية لا تشفى الصدور
ولا تسلم القلوب ولا يستقيم منهج الدعوة أبداً.
البيان: ما دام الكلام عن المنهج؛ فما رأي فضيلتكم فيما تعرَّض له بعض
أهل السنة من لوثة الإرجاء: هل سببه خلل منهجي، أم ردود أفعال؟
- المؤسف أنه ردود أفعال فلو أن أي طالب علم جمع نصوص الكتاب والسنة
وأقوال السلف في المسألة لما وقع أبداً في شك، لكن حين ابتدأ بعضهم الأمر بالدفاع
عن زلّة عالمٍ تحولت المسألة إلى إصرار على الخطأ وعسف للأدلة وتحريف للنقول
لكي تؤيد تلك الزلة. والشكر مستحق للجنة الدائمة للإفتاء والمشايخ الفضلاء الذين
كشفوا الشبهات وبينوا التلبيس.
البيان: لكن قد يقال: إن الحديث عن جنس العمل وكونه شرطاً في صحة
الإيمان لا يزال محل اشتباه عند بعض المنتسبين إلى مذهب السلف؛ فما المسلك
الملائم في تقرير هذه المسألة؟
- نعم هناك من يقدم رأي شيخه على الحق، وهناك من يصعب عليه التراجع،
وهناك من يضعف عن فهم جوانب المسألة، وفي الإمكان تقرير الحق بكل بساطة
وذلك بالاعتماد على أمرين:
1 - إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل. ويعنون بالعمل أساساً عمل
القلب كالصدق والإخلاص والخوف والرجاء واليقين، وليس مجرد عمل الجوارح
كالصلاة والصيام، بل كلا العملين معاً؛ لأن الإيمان عندهم ظاهر وباطن والتلازم
بين هذين حتمٌ وهذه الأعمال الظاهرة لا تقبل بدون عمل القلب فتارك جنس العمل
الظاهر سواء كان مقراً بوجوبه أو جاحداً له هو تارك قطعاً لجنس العمل الباطن
أيضاً وهذا لا يكون مؤمناً أبداً. فمنشأ الاشتباه هنا هو الظن بأن الإيمان الباطن هو
مجرد التصديق والإقرار بالوجوب، وهذا باطل بأدنى تأمل لمن طلب الحق وتجرد
من الهوى.
2 - تقرير المسألة من جهة الواقع العملي لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم
وحكمه على المخالف في هذا كما علَّمه الله في القرآن.
وهنا يستطيع كل من له علم بهذا الشأن أن يجزم أن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يقر أحداً على ترك جنس العمل، بل لم يوجد في عصره أحدٌ وقع في ذلك
من المؤمنين؛ لا بل لا وجود له في صفوف المنافقين؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم
ومن اتبعه كانوا كلهم عاملين؛ لكن كان منهم المؤمن العامل ظاهراً وباطناً، ومنهم
المنافق الذي يعمل ظاهراً فقط.
أما الترك الكلي فلا يوجد؛ فقد كان المنافقون يصلون وينفقون ويغزون
ويأتون بما يشبه عمل الصحابة ظاهراً.
أما من يقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه ولسانه أو بأحدهما لكن لم
يتبعه فإنهم كفار قريش وأحبار أهل الكتاب. قال تعالى: [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ] (الأنعام:
33) أي لا يعتقدون أنك تكذب بل يوقنون بصدقك لكنهم يجحدون ظلماً وكبراً كما
قال عن فرعون وقومه: [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ فَانظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ] (النمل: 14) ، وكذلك قال عن أهل الكتاب: [الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ] (البقرة: 146) ، والأحاديث الصحيحة في مناظرتهم له صلى الله عليه
وسلم وتيقنهم بصدقه وشهادة بعضهم له بالنبوة صريحة معلومة.
ولدينا مثال جلي هو أبو طالب وحاله لا يحتاج لشرح، وفي عصرنا الحاضر
مستشرقون ودارسون للإسلام كثير يقرون بأنه حق ويدافع عنه بالبراهين، لكنهم لا
يلتزمون اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والانقياد له لما جاء به عملياً، ولا أحد
يحسبهم من المسلمين، وأوضح من ذلك إبليس اللعين الذي لم يكن جاحداً لوجوب
السجود ولا لوجود الله وملائكته وجنته وناره وإنما كان معترضاً على الأمر نفسه
متمرداً على الطاعة والامتثال.
وهكذا يظهر لطالب الحق وضوح المسألة وأنها أكبر من أن يقال شرط صحة
أو شرط كمال كما كتب المتأخرون؛ إنها ركن الدين الذي لا يرضى الله من أحدٍ
تركه.
البيان: على هذا هل ترون الإرجاء أخطر على الإسلام، أم الغلو؟
- كلاهما خطره عظيم؛ لكن الأخطر على شباب الصحوة المعاصرة هو
الغلو؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الخوارج بتعيين صفاتهم وإيجاب
قتالهم وفضل من قام به في عشر روايات صحيحة، ولم يصح في الإرجاء حديث
مرفوع، والسبب في ذلك أن الغلو تبديل للدين أما الإرجاء فهو تفريط في الدين أو
تسويغ للتقصير فيه؛ وهذا خطر على العامة؛ لكن كثيراً من المسلمين لا يقبل أن
يجعله هو الدين، وبعضهم لا يعتبر من ظهر عليهم التساهل والتفريط ممثلين لحقيقة
الدين وإن زعموا هم ذلك بناءً على تأويلات المرجئة؛ وذلك لاختلاط حالهم بحال
الفساق والمتهاونين. أما المتشدد الغالي فإنه يكتسب عندهم منزلة التقديس كما حدث
لغلاة الزهاد والعباد؛ لأنهم يرون فيه تمسكاً أكثر وأخذاً للنفس بالعزيمة، والعامة
عادة لا يميزون بين شدة التمسك بالحق وبين الغلو، فيقع الاشتباه وينشأ عنه تبديل
مفهوم حقيقة الدين، ومما يدل على ذلك أن النصوص جاءت ببيان أن أصل
الانحراف البشري هو الغلو سواء الغلو في الصالحين كما حدث لقوم نوح أو الغلو
في الزهد حتى يجعل الحلال حراماً كما في الحديث القدسي: «وإني خلقت عبادي
حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» . وهذا
يصح أيضاً في مقام الجهاد والإنفاق وغيرهما من مقامات الدين؛ فإن الناس يظنون
أن التهور شجاعة، وأن التبذير سخاء، وأن الرهبانية تبتُّل. كما أن مما يجعل
الغلو هو الأخطر أنه يفضي إلى العنف واستحلال دماء المسلمين، ويعرقل الأمة
عن الجهاد، بل يمزق صفوف المجاهدين منذ خروج الخوارج حتى اليوم.
البيان: ليسمح لنا فضيلتكم الانتقال إلى محور دعوي آخر: القادة
والجماهير من يقود الآخر؟ وهل يمكن تقليص الفجوة بينهم؟
- من كان يريد الله والدار الآخرة فإن الذي يقوده هو كتاب الله تعالى وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، والعوام فتنة، ومراعاتهم تُذهِب الإخلاص أو تضعفه؛
لكن لابد من الصبر على توجيههم والتعامل بحكمة مع مشاعرهم التي تفور فلا
يمكن السيطرة عليها. في الواقع أنا لا أخشى من الفجوة فالأمة تبحث عن قادة؛
ولكن أخشى من الفتنة والغلو؛ وللسلف في ذلك أحوال وأقوال عجيبة.
البيان: تميزت الساحة الدعوية في المملكة العربية السعودية عن غيرها
بالنجاح في إيجاد علاقة متوازنة بين الشباب والعلماء، ولكننا بدأنا نخشى في
الفترة الأخيرة من فقدان هذه الميزة؛ فهل ترون ذلك؟ وما العلاج برأيكم؟
- الزخم الدعوي في هذه البلاد كبير وشامل، وظهور بعض الشذوذ أو
الانحراف سببه قلة المربين والموجهين بالنسبة لكثرة المهتدين؛ لكن يظل أن التيار
العريض على الجادة والتوسط بين الجفاء والغلو؛ فهو في الجملة على منهج الدليل
لا على منهج التقليد، من تجربتي أقول: إن كثيراً من المشكلات لدى الشباب
ليست مستعصية الحل، بل بعضها يمكن حله بالتعامل معها بأناة وهدوء والصبر
عليها حتى تهدأ تلقائياً، لديهم حماس عاطفي لا ينبغي مواجهته بل ضبطه وتهذيبه.
مجتمعنا في بعض جوانبه لم يتعود اختلاف الرأي، بل عاش أجيالاً تحت سلطة
مركزية أحادية سياسياً وعلمياً. ومعلوم أنه كلما قلَّ حظ الإنسان من العلم والتجربة
ضاق أفقه، واشتد حرصه على الإنكار والاختلاف سواء في المسائل العلمية أو
المواقف العملية؛ ولذلك يجب على المربين الصبر على تربية الشباب على العلم
والتعقل مقتدين في ذلك بما كان عليه السلف الصالح من سعة الأفق وحرية الاجتهاد
داخل المنهج المعصوم منهج الوحي والدليل فقد اختلفوا في مسائل كثيرة من غير
تعصب ولا تباغض؛ وإذا كان في العالم الإسلامي أربعة أئمة متبوعون فإن المدينة
النبوية وحدها كان فيها في زمن التابعين سبعة فقهاء متبوعون، لم يكن أحد منهم
مقلداً لغيره وإلا لكانوا ستة. ومن ناحية أخرى يجب التحذير من الغلو فيما يسمى
«الرمز» باسم احترام المشايخ أو تقدير ذوي السابقة فلا غلو ولا جفاء.
البيان: يتحدث أهل الشأن في الآونة الأخيرة عن اقتراحات متعددة لإيجاد
قيادة علمية للأمة؛ فهل لكم رؤية في ذلك؟
- لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة؛ وهذه الأمة مباركة الأول والآخر،
والقيادة العلمية في تقديري متوفرة لكن ينقصها وسائل التواصل والتكامل وتطوير
الدراسات وإنشاء المؤسسات المتخصصة المستقلة. لا ريب أن العوائق دون ذلك
قائمة لكن هناك محاولات في هذا الشان نرجو أن ترى النور قريباً.
البيان: كلمة أخيرة توجهونها لقراء البيان.
- أشكر الإخوة القائمين على هذه المجلة، وأبشرهم بالأثر النافع الذي قدمته
للأمة عامة ولمنهج أهل السنة والجماعة خاصة. هناك كثير من المراكز الإسلامية
والجمعيات والدعاة من أنحاء شتى في العالم يعبرون لي شفاهياً وكتابياً عن إعجابهم
وتقديرهم للبيان وأخواتها، وألمس فيهم أثر قراءتها والاطلاع المستمر عليها.
نرجو لكم التوفيق الدائم، ونرجو من الإخوة القراء أن يجتهدوا في الدعوة إلى الله
على منهاج النبوة وفهم السلف الصالح وسيرة الأئمة المشهود لهم بالصبر واليقين،
وأن يحذروا من الفتن المضلّة والبدع المحدثة والأهواء كلها قديمها وحديثها؛ فإنه لا
يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ونسأل الله لنا ولكم ولهم الثبات
والسداد. آمين.(176/38)
نص شعري
أعراس الشياطين
فيصل محمد الحجي
جُلُّ العالم الإسلامي يحترق.. بدأ (كبيرهم) بإشعال النار في أفغانستان ...
فانتهز شياطين الأرض الفرصة ... فهجم الشيطان اليهودي على مسلمي فلسطين
... وهجم الشيطان الروسي على مسلمي الشيشان ... وحتى الشيطان الهندي هاجم
المسلمين في الهند وكشمير فواجه المسلمون ألوان العذاب ... وهجم شياطين
العلمانية على الإسلام ليجردوه من أحكام الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والولاء والبراء. وكثير من الأقطار الإسلامية تقف حائرة وهي تنتظر
دورها المجهول فقلت متصوراً هذا الحال:
يا أمتي ... إنِّي أرى نقفورا ...
قد جاء يغتصب السيادةَ زُورا ...
أوَ ليس للإسلام أعظمُ أمةٍ ...
رفع الإلهُ لواءَها المبرورا؟ ...
فَعَلامَ يستعلي الضلالُ على الهدى ...
ويرومُ فوقَ عُلا (الرشيدِ) ظهورا؟ ...
عِلْجٌ يرومُ من (الرشيدِ) سحابةً [1] ...
كانَتْ تجوبُ العالمَ المَعْمُورا ...
مُذْ نامَ فُرسانُ الجهاد تيقَّظَتْ ...
أحلامُهُ ... وتجاوزَ المحظورا ...
أغرَتْهُ وَفْرَةُ جندهِ وسلاحهِ ...
فازداد غطرسةً ... وجُنّ غُرورا ...
ورنا إلى دار السلامِ.. فما رأى ...
حصناً يصدُّ هجومَه.. أو سُورا ...
ورأى الجهادَ مكبّلاً ومُطَارَداً ...
ورأى المجاهدَ مُبْعداً وأسيرا ...
ورأى العدالةَ قد هوى ميزانُها ...
والظلمَ يزهو شامخاً منصورا ...
ورأى العفافَ يئِنُّ في أسواقنا ...
ويُشيعُ بين المسلمين فجورا ...
ورأى صُروحَ العلمِ تشكو جهلَها ...
ورأى سجونَ الظالمين قبورا ...
ورأى (الفراعنة الصِّغارَ) تألهوا ...
والشعبَ يذوي خائفاً مذعورا ...
جهلوا المعالي ... غير أنَّ بطونَهم ...
تعلو ... لِيشتكيَ الفقيرُ ضُمورا ...
وأحبَّهم ... لِمَ لا وكلُّ نضالِهم ...
فيما يُريد عشيَّةً وبُكورا؟ ...
مَنْ ذا يرد جيوشه إن أقبلت؟ ...
أيخاف لصّاً أم يهاب أجيرا؟ ...
* * *
قد جاءنا جيشانِ ... جيشُ جريمةٍ ...
صبَّت علينا الحقدَ والتفجيرا ...
وتلاهُ جيشُ المكرِ ... جيشُ خديعةٍ ...
مَلأَتْ عُقولَ شعوبِنا تزويرا ...
يشكو من الإرهابِ وهو حليفُهُ ...
وبِصَنْعَةِ الإرهاب صار خبيرا ...
هذي فلسطينُ الذبيحةُ كم شَكَتْ ...
مِمَّا تلاقيهِ أذىً وشُرورا ...
خمسونَ عاماً والجرائمُ ما وَنَتْ ...
والشعبُ عانى القتلَ والتدميرا ...
خمسونَ عاماً والجرائمُ لم تَدَعْ ...
فينا صغيراً آمناً وكبيرا ...
هل يعرفُ التاريخُ إرهاباً علا ...
في شَرِّهِ شارونَ أو شاميرا؟ ...
إن لم يَرَوا إرهابَ إسرائيلِهم ...
كيف استطاعوا أن يَرَوْا (تيمورا) ؟ [2] ...
مِنْ خَلْفِ معسولِ الدعاوى خطّةٌ ...
كي ينصروا التهويدَ والتنصيرا ...
كي لا يروا هاماتِنا مرفوعةً ...
بالحقِّ ... تعلو فاسقاً وكفورا ...
كي يُفْرِغوا الإسلامَ مِن أحكامه ...
كي يَمْسَخُوا التنزيلَ والمأثورا ...
كلُّ الشياطينِ استعادوا مجدَهم ...
وبكُلِّ عَزْمٍ ينفخون الكيرا ...
فالشعبُ في الشيشانِ أو فى الصينِ أو ...
في (مندناوٍ) يرتمي مقهورا ...
وبَغَوْا على الأفغانِ بَغْياً غاشماً ...
بئسَ الحضارةُ إن أَتَتْ لِتَجورا ...
قصفوا المنازلَ والحقولَ ... وتارةً ...
جعلوا المساجدَ للعِبادِ قبورا ...
بعلومِهم ... وثرائِهم.. وحشودِهم ...
يرمون شعباً بائساً وفقيرا ...
دأب المعارك أن تمدّ رحابَها ...
لا أن ترودَ مسارباً وجُحُورا ...
أترى (الأَبَتْشِي) و (الأَوَكْسَ) [3] وغيرها ...
تغزو بِغالاً ضُمَّراً وحميرا؟ ...
تلك البطولةُ عارُهم وشَنَارُهم ...
ما الحالُ لو كان العدوُّ نظيرا؟ ...
* * *
إن غرَّهم حشدٌ فَعَزْمُ شبابِنا ...
يَدَعُ الجبالَ الشامخاتِ حِصيرا ...
ما للعلوجِ سوى العقابِ ... كما رمى ...
صَحْبُ النبيِّ قُرَيظةً ونَضِيرا ...
ساروا على موجِ الصهيلِ ... يقوده ...
موجُ الزئيرِ ... وكبَّروا تكبيرا ...
فتضعضعَتْ هِمَمُ اليهودِ ... وأُبلسوا ...
وارتدَّ كيدُ المدبرين دُحورا ...
ومَضَوْا على الموجِ الكئيبِ ... يقودُهُ ...
موجُ النحيبِ ... يصيح: (ديسابورا) [4] ...
سيفُ الفداءِ يَفُلُّ كلَّ سيوفِهم ...
ويُبَدِّدُ الصاروخ والتفجيرا ...
كادوا ... وقادوا كل إرهابٍ لذا ...
كي يَبْسُطُوا فوقَ الهدى دَيْجورا ...
نأبى التطرُّفَ والغلوَّ ... فلم نكن ...
يوماً نُسِيءُ الفهمَ والتفسيرا ...
بل أُمّةً وسطاً بميزان الهدى ...
ولذا نبذنا البخلَ والتبذيرا ...
مَنْ مَبْلِغُ الأعلاجِ أنا أمّةٌ ...
جاءتْ بشيراً للورى ونذيرا ...
زَهَتِ الحضارةُ من ضياءِ عقولنا ...
دهراً ... وعنوانُ الحضارةِ: شورى ...
مَنْ مُبْلِغُ الأعلاجِ أنَّ دعاتَنا ...
طَلَعُوا على ليلِ الأنامِ بُدورا ...
مَنْ مبلغُ الأعلاجِ أنَّ رجالَنا ...
كانوا أسوداً في الوغى ونَمُورا ...
ولقد أتى أحفادُهم أشباهَهم ...
سيلاً يُحِيل قوى الأعادي بُورا ...
منّا صلاحٌ والرشيدُ وخالدٌ ...
منّا الكُمَاةُ الحافظون ثُغُورا ...
سَلْ عن فرارِ هرقلَ مِن آسادِنا ...
وزوالِ كسرى فارسٍ سابورا ...
لن يُخْمِدَ الأمالَ فيضُ زحوفِهم ...
فَبِلُجَّةِ الظُّلماتِ نرقبُ نورا ...
دَعْ عنكَ إغراءَ التخاذل ... وانتصرْ ...
لدمٍ يَرومُ النصرَ والتحريرا ...
هل أثمر السِّلْمُ المزيَّفُ مرّةً ...
إلا خنوعاً مُزْرِياً وثُبورا؟ ...
غنى الكرامة في قصور طغاتنا ...
والمجد غنى في الوغى مسرورا ...
__________
(1) إشارة إلى قوله هارون الرشيد.
(2) تيمور الشرقية التي استقلت فجأة عن أندونيسيا.
(3) الأبتشي والأوكس من أنواع الطائرات الحربية الحديثة.
(4) ديسابورا: مصطلح يهودي يعني الشتات والتشرد.(176/48)
قصة قصيرة
أم صابرين
وفاء الحمري
تفحصت الأم أرجاء الخيمة، وبنظرة خاطفة عرفت عدم وجود ابنتها الوحيدة
صابرين ... كتمت وخزة شاكت شغاف قلبها على غير العادة، عبرت عنها
تقلصات عضلات وجهها ... وتنهيدة عميقة نفثت معها نفساً حاراً أحست سخونته
تكوي شفتيها وأرنبة أنفها ... وتابعت تحريك القِدر على نار هادئة لكي لا تحترق
العصيدة [*] ... وهي العاجزة عن تهدئة نيران فؤادها الكاوية ... اجتمع كل أفراد
الأسرة حول طعام العَشاء ... وقلبها هي مثل عقارب الساعة (تتكتِك) ثانية بثانية
... كادت تعد الثواني والدقائق لولا تلك الوخزة الحادة التي تشتت فكرها، وتضيع
عليها لهفة حساب الثواني والدقائق.
أرخى الليل ستائره، وهبت ريح خفيفة ... جالبة معها صوت المؤذن رافعاً
أذان صلاة العشاء ... انتفضت الأم واقفة متشبتة بكفيْ زوجها كالملدوغة.. هدأ من
روعها ولم تهدأ ... لبست حجابها وأومأت له بالمغادرة ... فإذا بصوت تكبير
وتهليل يخرق الكتان المهترئ للخيمة ... وهرج ومرج ولغط شبيه بذاك الذي كان
غالباً ما يصاحب إحدى العمليات الاستشهادية ... أنستها الفرحة غياب ابنتها،
وخرجت تسأل عن هذا البطل الذي يسكّن بعملياته الاستشهادية غيظ وغبن وقهر
القلوب المكلومة ... فإذا بالأنظار المشرقة تقتحمها ... عادت سريعاً إلى داخل
الخيمة تعدُّ أبناءها الصبيان واحداً واحداً، وهي التي تعرف بنظرة خاطفة عددهم
... عادت مسرعة إلى الخارج مرة أخرى فوجدت تلك النظرات الخاصة ما زالت
مصوبة تجاهها ... والجميع يكبِّر ... ويكبِّر ... ويكبِّر ... ويقترب منها ...
ويتدافع نحو الخيمة حتى كادت تسقط عليها، فإذا بأذنيها تستوعب أخيراً جملة
يرددها الجميع: «هنيئاً أمَّ البطلة» «هنيئاً أم البطلة» .
__________
(*) العصيدة: طعام يصنع من الدقيق والسمن.(176/50)
آفاق
الاستجابة للتقويم
د. عبد الكريم بكار [*]
حين نضع نظاماً للتعليم أو المرور أو العمل التطوعي ... فإن ذلك النظام
يكون ترجمة لرؤيتنا لعدد من الأمور، مثل الموارد والتكاليف والنتائج والأهداف
المرجوة، وموقف الناس منه ومدى استيعابهم له وتفاعلهم معه، والأدوات
المستخدمة والمشكلات المتوقعة ... وبما أن كل ذلك يَدخل عليه نوع من التغيير
والتعديل عند الدخول في ميدان التطبيق فإن رؤيتنا لكفاءة ذلك النظام ستتأثر في
النهاية، وتصبح لدينا ملاحظات ومعطيات جديدة تحفزنا على تجديد ذلك النظام
وإدخال بعض التعديلات عليه أو التخلص منه كلياً. هذه سنة من سنن الله تعالى في
الخلق، وهي عامة في كل نظام ولدى كل أمة.
إذا نظرنا في أحوال الدول اليوم وفي أحوال المؤسسات والمنظمات والشركات
وجدنا أن القويَّ والناجح منها يتمتع بشفافية فائقة نحو النقد الموجَّه إليه، ونحو
وضعية النظم التي يسير عليها، ونحو وضعية الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها؛
ولذا فإنك تراها وهي في ذروة نجاحها وتألقها تخطط للمستقبل، وتقوم بعمليات
مراجعة لأحوالها وأوضاعها العامة.
ويدخل في هذا الإطار تغييرها للشعارات التي تضعها على منتجاتها ولألوان
أغلفتها، كما يدخل فيه إعادة تأثيث مكاتبها وتحديث أجهزتها وخطوط إنتاجها.
ومع أن هذا قد يكلفها مئات الملايين إلا أنها تدفعه عن طيب نفس؛ لأنها تريد
إشعار زبائنها وعملائها بقدرتها على التجديد والتطوير، لتلقي بعد ذلك في روعهم
أن ذلك التجديد يستهدف الاستحواذ على رضاهم والتعبير عن الاهتمام بهم. والعقل
المعاصر يستجيب لهذا المعنى على نحو مدهش!
في المقابل فإنك تجد الدول والمنظمات.... الضعيفة والمتخلفة وقد خيّم عليها
التقادم في كل شيء: مكاتب يعلوها الغبار، وأثاث متهالك، وقوانين يشكو الناس
منها منذ نصف قرن دون أن يفكر أحد في تغييرها، وإنتاجية في تراجع مستمر،
وموظفون وعمال يبحثون عن بديل عن العمل فيها حتى ينجوا بأنفسهم من مشكلاتها؛
إنك حين تدخلها تشعر أنك أمام كيان هرم يلفظ أنفاسه الأخيرة، الإنسان العادي
يتأثر تأثراً كبيراً بهذا المشهد المحزن، فَيُعرض عن منتجات تلك المؤسسات ...
سواء أكانت فكرية أو مادية؛ لأن العقلية الحديثة تدمج بين الشكل والمضمون،
وبين الأشياء وطريقة تقديمها، وبين الجوهري والهاشمي؛ وذلك بسبب الدعايات
الإعلانية الجبارة. وليس من الحكمة غض الطرف عن وضع كهذا.
وإليك بعض الملاحظات في هذا الشأن:
1 - لا يمكن أن تحدث استجابة جيدة للتقويم إلا إذا توفرت الإرادة الصلبة
للاعتراف بالحقيقة ولو أدى ذلك إلى توجيه لوم أو تفويت بعض المصالح. ولا
أعتقد أن توطين هذه الميزة الحميدة في مجتمعاتنا بالأمر الهيّن، وإنما يحتاج إلى
إرساء تقاليد وأعراف ثقافية تمجد الاعتراف بالحقيقة، وتسهّل من ثم على الناس
تحمُّل المسؤولية عن الأخطاء التي يقعون فيها، كما كان عليه الشأن في صدر
الإسلام.
2 - لا بد أن نتعود النظر إلى النُّظُم المعمول بها، وإلى الخطط
والمشروعات التي ننفذها من أفق النتائج التي حصلنا عليها من ورائها؛ فحين
نضع خطة للحد من تسرب الطلاب من المدارس، ثم نجد بعد عشر سنوات من
تنفيذها أن نسبة التسرب زادت أو لم تنخفض؛ فإن علينا آنذاك ألا نتردد في الحكم
على تلك الخطة بأنها غير ملائمة، وأن علينا القيام بتغييرها.
3 - حين نشعر أن نظاماً ما لا يعمل كما نرغب ونتوقع، فيمكن أن نترك
النظام على حاله، ونقوم بتغيير بعض الأمور المتصلة به قدر الإمكان، وعلى
سبيل المثال إذا وجدنا أن الناس لا يلتزمون بربط حزام الأمان فإن من الممكن إلزام
مستوردي السيارات بالطلب من مصنعيها بتزويدها بأحزمة أمان تعمل آلياً بمجرد
تشغيل السيارة على نحو ما هو متوفر في بعض السيارات اليوم. وإذا وجد أن
السائقين يتجاوزون السرعة القصوى المقررة للسير، فيمكن حظر استيراد
السيارات التي تسير بسرعة عالية، وتتجاوز كثيراً حدود السرعة المسموح بها في
البلد، وهكذا.
4 - إن كثيراً من النظم والقوانين يستمر فترات طويلة مع رداءته وإخفاقه،
لا لشيء إلا لأنه لا يُعرف على وجه التحديد لماذا وضع، أي أن الأهداف التي
وضع من أجلها غير موجودة، أو هي موجودة لكنها غامضة أو مجملة، ولذلك فإن
الناس لا يستطيعون اكتشاف درجة أداء تلك النظم والقوانين ومدى كفاءتها
وصلاحيتها.
ومن هنا فإن مما يساعد على الاستجابة للتقويم أن تكون الأهداف واضحة
ومفصَّلة حتى يمكن قياسها والتأكد من ثم من معرفة ما أنجز منها. وعلى سبيل
المثال فإنه حين توضع خطة لمكافحة التدخين فإنه ينبغي أن يكون واضحاً ما الذي
تستهدفه تلك الخطة من خفض في نسبة المدخنين في خمس سنوات مثلاً وما تكاليف
ذلك على المستوى الإنساني والمادي؟ وحين يتم ذلك على نحو مفصَّل فإن من
السهل بعد خمس سنوات أن نتحدث عن نسبة نجاح تلك الخطة؛ ومن أفق ذلك
يمكن أن نتحدث عن كفاءتها. فإذا استطعنا أن نضيف إلى ذلك النصِّ على طريقة
التخلص من القوانين والنظم التي يثبت إخفاقها فإننا نكون قد قمنا بعمل جليل.
إن أمة الإسلام تعاني من مشكلات ضخمة في كثير من مجالات الحياة؛ وما
لم ترهف إحساسها لتناذرات الأخطار التي تحدق بها، فإن المستقبل سيكون قاتماً؛
فنحن نعيش في عصر السرعة حيث يكون التباطؤ في الإصلاح وخيم العواقب،
وفي بعض الأحيان مدمراً وقاتلاً. والله الموفق.
__________
(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.(176/51)
المسلمون والعالم
قضية فلسطين.. لمحات وخواطر
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
إن عودة التفاعل العام مع قضية فلسطين وأحداثها الدامية يوجب تقديم تصور
عام للقضية يلم بخلفياتها وأسبابها وأطرافها المختلفة. وهنا أحب أن أطرح على
القارئ الكريم ما يمكن أن يسمى عناوين القضية تجيب عن بعض الأسئلة، وتثير
أخرى يقصد منها مساعدة القارئ على التواصل مع الأحداث الحالية مع استثارته
للاطلاع على التفاصيل؛ بحيث يكون قادراً على فهم المواقف، وتوقع التطورات.
وسيكون الموضوع على شكل وقفات يراعى فيها الترتيب المنطقي قدر الإمكان.
* هوية مشروع الدولة اليهودية:
هل دولة اليهود في فلسطين «إسرائيل» وليدة مشروع يهودي صهيوني
صرف، أم هي وليدة مشروع غربي علماني، أم هي مشروع غربي ديني
بروتستانتي، أم هي هجين من هذه المشاريع كلها؟ وهل للمنظمات والحركات
اليهودية السرية مثل الماسونية وشهود يهوه دور في الدفع بهذا المشروع؟
يحسن هنا أن نشير إلى أن هناك جهات كثيرة غربية ويهودية تتبنى المشروع
لأسباب تكون أحياناً متناقضة؛ ولكنها تتفق على الخطوط العريضة للجانب العملي
التطبيقي منه؛ فمثلاً تتبنى بعض التوجهات الدينية اليهودية فكرة العودة إلى أرض
الميعاد وأنها لازمة لبعث المسيح المنتظر؛ مع اختلافهم في كيفية العودة؛ ولذا نجد
أن بعضهم يعارض وجود دولة إسرائيل العلمانية، ويعتبر أنها خطر على اليهود.
ولكن أكثر المتدينين يتبنى حالياً وجود الدولة مع صبغها أكثر بالصبغة التلمودية،
والتمسك بحق اليهود بأرض إسرائيل، وعدم التفريط فيه ولو على سبيل المناورة
السياسية؛ ولذا قتل أحدهم رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين بعد حملة تحريضية
قادها تجمع الليكود المعارض آنذاك والذي يسيطر تماماً على مقاليد الأمور حالياً
بقيادة شارون، ويتفق معهم طائفة كبيرة من النصارى البروتستانت في أصل دعم
اليهود في فلسطين، ويختلفون في الهدف؛ حيث يرون أن وجود اليهود في فلسطين
لازم لنزول المسيح وحصول الملحمة الكبرى التي يفنى فيها كثير من اليهود ويتبع
بقيتهم المسيح
وهنا نحن أمام حالة فريدة في الاندماج المصلحي المؤقت يعتقد كل طرف فيها
أن الآخر ضروري لنجاح مشروعه. والغريب أن كل طرف يعرف هدف الآخر،
ويراهن على أنه هو الذي سيكمل المرحلة التالية. إنها حقاً مفارقة أن يصل
الطرفان حالياً إلى سدة الحكم والسيطرة في أوساط اليهود وفي أمريكا قائدة المعسكر
الغربي، ويساهما في محاولة إتمام مشروع لم يساهما في بدايته؛ فقد كان قيام
الدولة اليهودية في فلسطين نتيجة تحالف آخر بين التوجه العلماني في الحركة
الصهيونية وأساطين السياسة الغربية الاستعمارية الذين يغلب عليهم لغة المصلحة؛
ففي المعسكر اليهودي برزت الحركة الصهيونية السياسية التي تهدف إلى إقامة
وطن قومي لليهود كانت فلسطين أحد خياراته المفضلة بسبب الروابط الدينية لليهود
بالأرض المقدسة مما يسهل عملية تجميعهم فيها، ومن ناحية أخرى فإن هذا هو
الاختيار المفضل للقوى الغربية لأسباب تختلط فيها الأسباب الدينية مع
الاستراتيجية.
ولا يفوتنا هنا أن نؤكد على أن مشروع الوطن القومي لليهود خارج أوروبا
عموماً وفي فلسطين بصورة خاصة قد اتفقت عليه القوى السياسية الأوربية المختلفة
دائماً بسبب اتفاقها على كره الوجود اليهودي داخل المجتمعات الأوروبية، والرغبة
في التخلص منه ويتفق في هذا هوى قيصر روسيا الذي أيد وزير داخليته فون
بوليفيه المعروف بكرهه لليهود إقامة وطن لليهود، وأيضاً تنسيق سلطات ألمانيا
الهتلرية مع الحركة الصهيونية في تهجير اليهود من أوروبا، وهم في هذا يتفقون
مع السياسة الأوروبية الغربية في محاولة التخفيف من الوجود اليهودي المستعصي
على الاندماج في المجتمع الأوروبي. ولكن السياسة الأوروبية تخطو خطوة إلى
الأمام وهي محاولة استغلال هذه التركيبة السكانية المتميزة وربطها بالمصالح
الغربية؛ وهذا يحصل في إقامة كيان مصطنع يجمعهم يكون مرتبطاً ارتباطاً
عضوياً بالغرب، ويحقق لهم مصالح استراتيجية في السيطرة على منطقة حيوية
تتوسط العالم، وتفصل العالم الإسلامي إلى قسمين. إنه مشروع نابليون
وشافتسبري ولورنس إليفانت وبلفور وغليوم إمبراطور ألمانيا في الفترة
الممتدة من 1798م حتى 1918م، ولا يخفى أن المشروع الذي شرع في
تنفيذه هو مشروع بريطانيا العظمى.
وهنا لا بد من ملاحظة أن لدى اليهود مشروعاً سابقاً لمشروع الدولة ومقدماً
عليه ألا وهو مشروع السيطرة على العالم والتحكم فيه؛ وعلى هذا الأساس تسلل
اليهود؛ إلى الكنيسة وكوَّنوا الماسونية وفروعها السرية والعلنية، وأحكموا السيطرة
على اقتصاد الدول الغربية، وتم لهم في الوقت الحاضر التحكم التام في مختلف
الأحزاب الغربية، ولم يعد سراً أن اليهود وحلفاءهم هم الذين يحكمون في كثير من
الدول الغربية وخاصة أمريكا وبريطانيا وهولندا وألمانيا؛ وهؤلاء لم يساهموا في
إقامة الدولة ودعم المشروع الصهيوني في بدايته، إلا من باب رفع الحرج كما
توضح مذكرات حاييم وايزمن، ولا شك أن قيام الدولة اليهودية واضطرارهم
لدعمها بحيث انكشفت سيطرة اليهود التامة على مقاليد السلطة في أمريكا، وأن
الرئيس الأمريكي ليس إلا لعبة في أيديهم يقول فلا يسمعون لقوله، ويقولون فيسمع
لقولهم. إنها فضيحة سببها قصيرو النظر في تل أبيب، وستؤدي إلى عواقب
وخيمة تسوّغ خلالها القوى الرافضة لسيطرة فئة محدودة ومحددة على السلطة
والمال، وسيكون الحفاظ على هذه السيطرة بعد انكشافها وتوظيفها في خدمة مصالح
دولة أخرى مهمة عسيرة، ولن يطول الزمن حتى تتراجع السيطرة السياسية من
أجل الحفاظ على الجانب الأهم وهو الاقتصاد، وهذا لا يعني فقدان دولة إسرائيل
دعم الدول الغربية؛ ولكن لن يتم رسم السياسة الغربية حول الشرق الأوسط في تل
أبيب، وستعود إسرائيل إلى حجمها الطبيعي وهو كونها مجرد محمية غربية تحقق
غرضاً استراتيجياً غربياً. لقد أوضحت مظاهرات التأييد للفلسطينيين والتنديد
بإسرائيل في المدن الألمانية ولندن ونيويورك وواشنطن أن نهاية عصر الحصانة
اليهودية قد أزف؛ فهل نستطيع المساهمة في دفع هذا التوجه؛ مع العلم أن
الصراع مع الغرب سيستمر، ولكن حدة الصراع وطبيعته ستتغير عندما تنتقل
الراية من يد يهودي حاقد إلى نصراني متعصب.
* الخطوات العملية:
لقد خرج تيودور هرتزل من اجتماعات المؤتمر اليهودي الأول في بال عام
1897م وهو يحمل جملة من القرارات من أهمها العمل على إنشاء وطن قومي
لليهود في فلسطين، وكان همه وضعها موضع التنفيذ، فسارع إلى الاتصال
بالسلطان عبد الحميد رحمه الله، وبعد إخفاق مهمة هرتزل عمل اليهود على إسقاط
عبد الحميد وكان المشروع كبيراً ومتشعباً، فاقترح تكوين شركة أو مؤسسة تتولى
تهيئة الأرضية للمشروع، وتم تكوين الوكالة اليهودية 1922م التي استمرت في
أداء مهامها حتى قيام دولة اليهود، وأصبح رئيسها بن جوريون رئيساً للدولة،
وأعضاء المجلس التنفيذي للوكالة أعضاء في مجلس الوزراء. أما قوات الهاجاناه
والبالماح التابعة للوكالة فتحولت إلى جيش الدولة الوليدة.
إن حجر الزاوية في نجاح المشروع هو سقوط الدولة العثمانية واحتلال
الإنجليز لفلسطين؛ مما مكنهم من العمل على تنفيذ وعد بلفور، وكان أول عمل هو
تعيين هربرت صموئيل مندوباً سامياً في القدس، وكان معروفاً بصهيونيته وذلك في
31/5/1920م؛ إضافة إلى بروز النازية في ألمانيا، ومن ثم سيطرتها على
أوروبا من أجل زيادة الهجرة.
ومن القرارات الأخرى:
- وضع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني.
- تشجيع الهجرة بالتنسيق مع الوكالة اليهودية، والاستفادة من الظروف
الدولية مثل الأزمة المالية عام 1929م.
لقد قامت الوكالة اليهودية بجهد كبير في توفير الأرضية لإقامة الدولة؛ حيث
تم بناء المستعمرات العسكرية الزراعية والاستيلاء على الأراضي، والسيطرة
التدريجية على بعض المدن؛ والأهم هو جمع اليهود على لغة واحدة، وإحياء
العبرية الجديدة.
لقد تعاملت سلطات الانتداب الإنجليزية مع الوكالة ممثلاً لليهود في فلسطين،
وكان التنسيق كاملاً؛ بحيث لم يحن عام 1947م حتى أصبح عدد اليهود في
فلسطين قد بلغ المقدار الذي يؤهلهم لإقامة دولة. وهنا برز الدهاء عند الإنجليز؛
حيث ادعوا العجز عن حل المشكلة بين العرب واليهود في فلسطين، وتم رفع
الأمر للأمم المتحدة التي خرجت بقرار التقسيم الذي ينص على إقامة دولة لليهود
على 56% في فلسطين، ودولة للعرب؛ وذلك في 29/11/1947م. نعم! لقد
قامت دولة اليهود وفق قرار دولي وليس بناءً على قرار دولة كانت يوماً ما عظمى.
* مشروع المواجهة:
لقد فطن قلة من الشعب الفلسطيني لأهداف الهجرة اليهودية المبكرة، ولكن
بعد افتضاح أمر وعد بلفور لم يعد العائق هو الجهل بقدر ما هو العجز؛ فقد كانت
فلسطين جزءاً من الدولة العثمانية، وكان الاحتلال الإنجليزي الذي تم بمعونة قوات
الثورة العربية قد فرض واقعاً جديداً؛ فإن تنامي المد القومي الوحدوي بين العرب
قد وظف في اتجاه الوقوف في وجه النفوذ الفرنسي في بلاد الشام وحصره في
سوريا ولبنان، ولم تكن أصابع الإنجليز بعيدة عن دفع الدروز للمشاركة بقوة في
الثورة السورية، وكان إخراج فرنسا للملك فيصل من دمشق وتعيينه في بغداد من
قبل الإنجليز عاملاً في توثيق التحالف الهاشمي القومي مع الإنجليز، وكان الثمن
هو إخراج فلسطين من حدود الدولة العربية الكبرى الموعودة.
ولم يكن لدى الفلسطينيين الأطر التنظيمية المناسبة سياسياً وعسكرياً من أجل
مواجهة مشروع زرع اليهود؛ ومع ذلك فقد قامت عدة ثورات ومواجهاتٍ كثيرٌ منها
بدأ عفوياً ولمدة قصيرة ما عدا ثورة 1936م، وإليك بعض هذه الأحداث:
1 - ثورة العشرين (ثورة النبي موسى) 4 - 10 نيسان 1920م.
2 - ثورة يافا (1 - 15/5/1921م) .
3 - ثورة البراق 15 أغسطس 1929م.
4 - ثورة الكف الأخضر 1930م.
5 - ثورة الشيخ عز الدين القسام 1935م.
6 - الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 - 1939م) .
وبعد حرب 1948م استولى اليهود على 78% من أراضي فلسطين، وبقي
22% مقسماً إلى جزئين هما: قطاع غزة، والضفة الغربية. وفي حين قامت
دولة اليهود بناءً على قرار التقسيم فإن بقية فلسطين قد تقاسمته مؤقتاً مصر وشرق
الأردن حتى عام 1967م؛ فبُعَيْدَ الحرب عقد المؤتمر الفلسطيني الأول في غزة في
شهر تشرين الأول 1948م، وشكلت حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي
عبد الباقي، واستمرت هذه الحكومة حتى عام 1952م، وكانت الحكومة الأردنية
قد رفضت الاعتراف بهذه الحكومة، ورتبت مؤتمراً لبعض الوجهاء الفلسطينيين
في أريحا؛ حيث بايعوا الملك عبد الله ملكاً على فلسطين، وأعلن عن قيام المملكة
الأردنية الهاشمية في شهر نيسان أيار 1950م من شرق الأردن والضفة الغربية؛
وبذا أسدل الستار على دولة فلسطين وإن بقيت عضواً في الجامعة العربية تمثلها
حكومة عموم فلسطين حتى عام 1952م، ثم أصبحت تمثل في شخص أحمد عبد
الباقي حتى وفاته عام 1963م، وتم اختيار أحمد الشقيري بدلاً منه. وبضغط من
مصر تم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية 1962م بقرار في مؤتمر القمة العربي،
وتم أيضاً تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني وجيش التحرير الفلسطيني، وكان
العامل الأساس في هذه التشكيلات هو بدء ظهور منظمات فلسطينية مثل حركة
التحرير الوطني الفلسطيني فتح (1962م) التي قامت بأول عمل عسكري عام
1965م، وقد برزت فتح بعد عام 1967م بزعامة ياسر عرفات، وحظيت بدعم
الدول العربية حتى سيطرت على الساحة الفلسطينية والمجلس الوطني الفلسطيني.
ويمكن بإيجاز تقويم حركة فتح أنها بدأت وطنية وبعناصر إسلامية، ومع
نموها بدأت تمارس اللعبة السياسية، وتغيرت الشعارات والأهداف مع الوقت؛
فبعد الميثاق القومي جاء الميثاق الوطني، وبعد تحرير فلسطين من النهر إلى البحر
تحولت العودة لحدود ما قبل الخامس من يونيو (حزيران) ، وبعد إقامة دولة
فلسطينية تحولت إلى إقامة دولة ديمقراطية لليهود والنصارى والمسلمين. إنها
تحولات مدروسة تتناسب مع الظروف.
ولا شك أن عرفات الذي يتمنى أن يكون رئيساً لدولة اسمها فلسطين قد قَبِلَ
أن يكون رئيساً لسلطة فلسطينية تتحكم فيها إسرائيل. ولا يخفى أن حال فتح
وعرفات أفضل بكثير من الذين نافسوه مثل جورج حبش ونايف حواتمة وزهير
محسن وغيرهم.
إن المشكلة الأساسية لحركة التحرير ومنظمة التحرير والسلطة هو عدم وجود
قضايا مبدئية غير قابلة للتفاوض، ولا يوجد سقف للتنازلات إلا ما حصل في
امتناع عرفات عن التوقيع على صك التنازل عن المسجد الأقصى؛ لأنه يمثل
الورقة الأخيرة بعد تنازله عن حق العودة وعن حدود ما قبل 1948م وعن أجزاء
من الضفة والقطاع، والأهم من ذلك التنازل عن السيادة عن الحدود والحق في
تكوين جيش.
إن مشروع عرفات في أساسه ليس إسلامياً؛ ولذا فلا يتوقع أن يتجاوز
المصالح الآنية له شخصياً وللمحيطين به؛ ولذا تم تضخيم حصاره وسلامته
الشخصية وإطلاق سراحه.
وباختصار فقد تم اختزال قضية فلسطين في شخصه، ولم يتردد شارون ومن
ورائه بوش في التأكيد على أنه إذا أراد عرفات أن يبقى زعيماً للشعب الفلسطيني
فعليه أن يقوم بواجبه كاملاً!! ! ولا يخفى أن المهمة المطلوبة منه هي ضرب
أعداء إسرائيل.
* الحل الأخير:
إن العجز المؤقت عن تحرير الأرض واستعادة الحقوق لا يعطي الحق للعاجز
بالتنازل عنها؛ ولذا فعلى الأمة النهوض من جديد وبراية صحيحة وصريحة أن
هدفنا هو تحرير بلاد المسلمين في فلسطين، وطرد اليهود منها، ويجب أن تعود
القضية مشروعاً إسلامياً خالصاً يؤكد على نجاحات الفئة المجاهدة الصابرة في
فلسطين. وإذا كان عز الدين القسام قد عاد من جديد فنحن نرنو إلى أن يعود إلينا
صلاح الدين، وإذا كانت قوى الكفر قد تكالبت فعلينا أن نتذكر شعار الفئة المؤمنة
المرابطة حول الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد بعد رفع الكفار راية النصر
المؤقت وقولهم: «اعْلُ هُبَلُ» و «العُزَّى لنا ولا عُزَّى لكم» وكان الرد هو
الشعار الخالد: «الله أعلى وأجلُّ» ، «واللهُ مولانا ولا مولى لكم» وكفى بالله
ناصراً ومعزاً.
__________
(*) أستاذ مساعد، كلية الهندسة، جامعة الملك سعود.(176/54)
المسلمون والعالم
مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية
حسن الرشيدي
«السلطة ليست القيادة التي يمكنها أن تقود إلى قيام الدولة الفلسطينية التي
نحتاجها» . هذا تصريح لكوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي.
ويكشف هذا التصريح أن ثمة اتفاقاً أمريكياً إسرائيلياً على التغيير الجذري للسلطة
الفلسطينية؛ فبعد خراب غير مسبوق، انتهى العدوان الإسرائيلي على الضفة
الغربية بصفقة لتحرير الرئيس عرفات من الحصار، ولم يُعْطَ عرفات الشهادة كما
يدعي، بل لم تحاول القوات الإسرائيلية المساس به رغبة لشارون.
وبقي السؤال الأخطر: ما مصير السلطة الوطنية الفلسطينية إزاء هذه
التطورات المتلاحقة؟
لشرح مستقبل السلطة الفلسطينية بعد الاجتياح الإسرائيلي لا بد من دراسة
عدة أطراف تعتبر في نظرنا لها دور رئيس في تشكيل هذه السلطة منذ بداياتها،
وكان لكل طرف أجندته الخاصة به عند قيام السلطة بممارسة دورها لأول مرة في
بدايات التسعينيات، وسوف نحاول استكشاف طبيعة هذه الأهداف، وهل تحققت
هذه الأهداف بشكل كامل أو جزئي؟ ويبقى مستقبل هذه السلطة مرهوناً باستمرار
هذه الأهداف، أو عدم تحققها، وأهم هذه الأطراف هي السلطة الوطنية نفسها
وإسرائيل.
* السلطة الوطنية الفلسطينية:
في عام 1964م وأثناء القمة العربية الأولى المنعقدة في القاهرة تمت
المصادقة على إقامة منظمة التحرير الفلسطينية.
كان للحكومات العربية حينئذ هدف مختلف من إنشاء المنظمة بحيث يخدم هذا
الهدف توجهات ورغبات كل حكومة، وتم تعيين أحمد الشقيري وهو من أصل
فلسطيني رئيساً للمنظمة الجديدة، وأثناء ذلك تسلم ياسر عرفات وهو طالب في كلية
الهندسة في جامعة القاهرة من أصل فلسطيني قيادة حركة فتح إحدى المنظمات التي
تتكون منها منظمة التحرير الفلسطينية التي تكونت عام 1965م ودعت إلى الكفاح
المسلح، وفي عام 1966م تم تأسيس مجموعة ثورية هي الجبهة الشعبية لتحرير
فلسطين برئاسة جورج حبش وهو طبيب من مواليد اللد، وفي عام 1969م انفصل
عن الجبهة نايف حواتمة من مواليد شرقي الأردن وأسس مجموعة أخرى هي
الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ويشار إلى أن حبش وحواتمة هما مسيحيان
أرثوذكسيان.
وبعد خيبة أمل هذه المجموعات من هزيمة الجيوش العربية في عام 1967م
بدأت كل مجموعة على حدة تقوم بأعمال فدائية ضد إسرائيل في محاولة منها
للحفاظ على الحماس والروح الثورية، وشكل الأردن قاعدتهم الأساسية.
وفي عام 1968م استولت حركة فتح بزعامة ياسر عرفات على المنظمة
بالرغم من أنه لم تجر انتخابات للمنظمة، وبالرغم من معارضة مؤسسات فلسطينية
مختلفة للمنظمة ولسياستها؛ إلا أن معظم الفلسطينيين اعتبروها مؤسسة تمثلهم،
وأيدوا اعتراف دول العالم بها على أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. وقد
كان الهدف الرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية عند تأسيسها تحرير فلسطين من
الاحتلال الإسرائيلي خلال سنوات عديدة من عدم الاعتراف المطلق بأي حقوق
يهودية في فلسطين، ولقد كانت وسائل تحقيق الهدف هي الكفاح المسلح.
في نهاية الثمانينيات تبلور هيكل المنظمة إلى ثلاثة أنماط رئيسة:
الأول: الجيل القديم في منظمة التحرير وهو يضم قيادات بدأت حياتها في
النضال والكفاح المسلح لتحرير فلسطين، وبالرغم من أن أغلب هذه القيادات
خرجت من محضن جماعة الإخوان المسلمين ولكن نتيجة للقمع الذي تعرضت له
الجماعة في أواخر الخمسينيات والستينيات ابتعد هؤلاء عن الفكرة الإسلامية
وانخرطوا في التيار السائد في ذلك الوقت حيث تعاظم المد القومي؛ ومن ثم كان
انهيار ذلك المد مع الهزيمة المروعة التي قادها زعماء القومية في حرب 1967م
إيذاناً ببدء انهيار الدافع الأيديولوجي وراء تلك الأعمال، ثم كان التوجه المصري
للصلح مع اليهود في كامب ديفيد وما تبعه من اجتياح إسرائيلي للبنان وفقدان
المقاومة الفلسطينية لآخر معاقلها ونقط إرتكازها في مواجهة إسرائيل إيذاناً بالانهيار
النفسي الثاني للمقاومة.
وجاء التراجع الثالث في أعقاب الغزو العراقي للكويت والتدخل الأمريكي،
وانفراده بالهيمنة على العالم، وإعلان النظام العربي والاستسلام الكامل لتلك الهيمنة.
هذه المنظومة القيادية تمحورت حول فريقين:
- فريق يأبى الاعتراف بالهزيمة ويصر على استمرار المقاومة، وعلى رأس
هذا الفريق أبو جهاد خليل الوزير، وأبو إياد صلاح خلف؛ وهذا الفريق إنما اختار
طريق الصمود ليس من باب عقيدي؛ ولكن لأنه أدرك من خلال تجاربه واتصالاته
أن إسرائيل لا يمكن أن تعطي الفلسطينيين شيئاً يذكر؛ فالاستمرار في المقاومة هو
أهون الشرين، ووجد هذا الاتجاه ضالته في الانتفاضة الأولى التي اندلعت عام
1987م، وعمل على دعمها وتطويرها. وقد بدا لبعضهم ميل للحل الإسلامي
ودعم له؛ حيث يقول أحد كوادر فتح في مذكراته: أيد الشهيد خليل الوزير أبو
جهاد فكرة الجهاد بقوة، وشدد على فكرة التنظيم الجهادي الإسلامي وعلى دعمه
مادياً ومعنوياً؛ ولذلك قامت إسرائيل بتصفية هذا الفريق تباعاً.
أما الفريق الآخر وعلى رأسه أبو عمار ياسر عرفات فكان يرى مسايرة الواقع
واتخاذ الطريق السياسي بديلاً للمقاومة المسلحة. وعندما قامت الانتفاضة الأولى
تركزت جهوده في احتواء الانتفاضة وقيادتها، وعدم خروجها عن قيادة منظمة
التحرير كخطوة تمهيدية نحو اتخاذها ورقة له في عودة المنظمة مرة أخرى للساحة
السياسية، وخاصة بعد بروز التوجه الإسلامي للشعب الفلسطيني والمتمثل في
انبعاث حماس والمقاومة الإسلامية.
وعندما وجد عرفات من يمد يده لانتشاله من التهميش الذي شعر به في أعقاب
تلك الانتفاضة سارع لقبول كل ما يطلب منه في سبيل استعادة دور مفقود وزعامة
كانت في سبيلها للنهاية؛ ومن ثم كانت أوسلو وما تبعها من اتفاقيات مرحلية
وجزئية، وقبل عرفات بتنازلات تلو تنازلات وفي النهاية وجد نفسه أمام كامب
ديفيد وضرورة التنازلات الصعبة في مسائل القدس واللاجئين والحدود، وأصبحت
تنازلات الإسرائيلية هي عبارة عن إعادة التسمية للحقائق التي فرضتها على
الأرض؛ فضواحي القدس في قرية أبو ديس أصبحت تسمى القدس التي سيعلنها
عرفات عاصمة له، واللاجئون سيتم دفع التعويضات المناسبة لهم مع إعادة بعض
الأسر ولمِّ شملها؛ وحتى الدولة التي يريدها أضحت أشبه بفرع شرطة في قرية
صغيرة يتولى إحضار المطلوبين للأمن الإسرائيلي؛ ومن هنا رفض عرفات
التوقيع؛ وحينها وجد نفسه في مأزق أشبه بمأزق السادات قبل حرب أكتوبر الذي
مد جسور المباحثات السرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل على أمل إعطائه حتى
سيناء، ولكن الصلف الإسرائيلي رفض هذا العرض فما كان من السادات إلا أن
شن حرباً محدودة على أمل أن يقتطع جزءاً من الأرض يحسن موقفه التفاوضي.
وتكررت المأساة مع عرفات، واندلعت الانتفاضة؛ ولكن عرفات نسي أن أموراً
كثيرة منذ ثلاثين عاماً قد تغيرت؛ فالبيئة الدولية في حرب أكتوبر هي غيرها الآن؛
فالنظام الدولي كان ثنائي القطبية من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، أما
الآن فتهيمن عليه الولايات المتحدة وكذلك موازين القوى في المنطقة مختلفة حيث
تمتلك إسرائيل الرادع النووي والأسلحة التقليدية التي لا يملك مثلها العرب، ولكن
الأهم من ذلك هو أن الجماهير الفلسطينية والتي يريد عرفات تحريكها هي غير
الجيوش العربية التي من السهل أن تنصاع لأوامر قادتها؛ أما الشعب الفلسطيني
فتنساب داخله روح الانتفاضة المؤسسة على بعد عقيدي ليس من الصعب تجاوزه
وإهماله.
النمط الثاني من أولئك الذين يكونون بنيان السلطة الفلسطينية هم العملاء
والمنتفعون الذين كانوا دائماً ملتصقين بقيادات المنظمة لأغراض عديدة غير هدف
المقاومة وغايات الكفاح، فكان منهم العملاء الملتصقون بالقيادة لتتبع أخبارها ونقل
تحركات أفراد المقاومة وخططهم إما إلى الموساد مباشرة أو إلى الـ CIA أو إلى
أجهزة المخابرات العربية؛ واعترف بذلك بعض المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين
باختراق المنظمات الفلسطينية، وأكدوا أنهم مارسوا ما يسمى بـ (الإغراق
الأمني) ، أي إرسال جواسيس بأعداد كبيرة بحيث إن الأمن المضاد صار لا
يصدّق أن من المعقول أن يكون الاختراق بهذا الحجم، ثم بالتدريج يصبح لديه
نوع من الارتخاء الأمني. ولقد اندهش كثير من أفراد الشعب الفلسطيني
خاصة في الثمانينيات وهم يرون المقاومين يقعون في قبضة قوات الاحتلال
الإسرائيلي وهم في الطريق لتنفيذ عملياتهم، وينجلي الغبار عن العمالة التي وصلت
إلى مستويات كبيرة داخل صفوف منظمة التحرير الفلسطينية التي تشي لأجهزة
الأمن الإسرائيلي بتحركات هؤلاء. ومن المثير أن يسر أحد زعماء المنطقة منذ
عدة أسابيع إلى زعيم آخر عند اجتماعه به ويبدي تعجبه عندما سمع باسم
أحد المرشحين لخلافة عرفات فيقول بالحرف الواحد: «ده جاسوس» .
وهذه الفئة هي التي كانت أكثر فئات منظمة التحرير اندفاعاً نحو أوسلو
والحل السلمي المزعوم، حتى إن إسرائيل والولايات المتحدة اشترطتا على المنظمة
أن تكون هذه الفئة هي المسيطرة على الأمن داخل السلطة وعلى رأس هؤلاء
رجوب ودحلان والشخصية الغامضة محمد رشيد، أو خالد سلام. ويقول يعقوب
بيري رئيس جهاز الأمن العام الصهيوني السابق الشاباك إنه قام في أعقاب التوقيع
على اتفاق أوسلو بترشيح كلاً من جبريل الرجوب ومحمد دحلان لرئيس الوزراء
الصهيوني السابق إسحق رابين للعمل معهما بشان تنفيذ الاتفاقات الأمنية بين
الجانبين الصهيوني والفلسطيني.
ويذكر بيري في مذكراته: «مهنتي كرجل مخابرات» التي صدرت
ترجمتها العربية مؤخراً أنه لم يكن يعرف الرجوب ودحلان شخصياً، ولكنه كان
يعرف عنهما كل شيء، لذلك فإنه اقترح على رابين أن يتوجه مع رئيس الأركان
في ذلك الوقت أمنون شاحاك إلى تونس لإجراء حوارات سرية مع الاثنين، ولكن
بيري تراجع عن السفر لتونس، وسافر شاحاك بمفرده؛ حيث التقى بعرفات الذي
وافق على إجراء الحوار مع الرجوب ودحلان.
ويروي بيري أنه شارك في الحوارات مع الرجوب ودحلان وتوطدت
العلاقات الشخصية بين بيري وبينهما، وأن الرجوب كان يتصل به بعد كل عملية
فدائية تقع ويسأله عن صحته وصحة زوجته والأولاد، ويؤكد بيري أن الرجوب
كان يبذل قصارى جهده لحل كل مشكلة أعرضها عليه.
وفي حديث له أثناء توقيع اتفاق أوسلو مباشرة. قال فاروق قدومي رئيس
الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية إن وزراء السلطة مفروضون من قبل
أمريكا وإسرائيل والأردن ومصر، وعقب رفع الحصار عن عرفات قدم نبيل
عمرو وزير الشؤون البرلمانية بالسلطة الوطنية استقالته من منصبه بعد أن هاجم
ومعه عدد من الوزراء ممارسات العقيد جبريل الرجوب ومحمد دحلان وخالد سلام
وحسن عصفور وزير المنظمات الأهلية وصائب عريقات وزير الحكم المحلي؛
حيث تم اتهام هذه المجموعة علنياً بأن كل ممارساتها خلال فترة العدوان الأخيرة
كانت تتلخص في الجلوس بفنادق رام الله والذهاب بسيارات إسرائيلية إلى القدس
وتل أبيب لمقابلة أطراف إسرائيلية والعودة للخطابة في الفضائيات العربية، وأن
الجانب الإسرائيلي سمح لهذه المجموعة فقط بمقابلة عرفات وإعداد قيادة بديلة له.
وتبادل الرجوب ودحلان وسلام الاتهامات علناً بالتبعية للعدو الصهيوني
والولايات المتحدة الأمريكية، واتهم البعض الرجوب بأنه اتفق مع الجانب
الصهيوني على استثناء الخليل من العدوان على الضفة الغربية حيث تقع بلدة دور
مسقط رأسه، واتهموا دحلان بالاجتماع مع مسؤولين صهاينة في مقدمتهم وزير
الحرب الصهيوني بنيامين بن إليعازر بهدف تجميع أجهزة الأمن الفلسطينية في
جهاز واحد يرأسه دحلان. أما رشيد فقد شوهد من قبل أهالي رام الله أكثر من مرة
وهو يركب سيارات صهيونية من وإلى رام الله على الرغم من الحصار.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها تبادل الرجوب ودحلان الاتهام بالعمالة على
صفحات الجرائد وفي القنوات الفضائية؛ فجبريل الرجوب أطلق اتهامات وشتائم
تجاه دحلان؛ وذلك بعد أن تسربت أنباء عن تسلم دحلان مكانه في قيادة الأمن
الوقائي في الضفة الغربية، واستغرب الرجوب في لقاء هاتفي مع محطة تلفزيون
المهد المحلية التي تبث من مدينة بيت ساحور أن تكون الحملة الحالية موجهة ضده
مستثنية دحلان وكأن لسان حاله يقول: كلنا عملاء. وقال الرجوب إن خالد سلام
مستشار الرئيس الفلسطيني الاقتصادي طفل أنابيب لا يعرف له أحد أصلاً مشيراً
إلى أصوله غير الفلسطينية؛ حيث إن سلاماً عراقي من أصل كردي. وقال
الرجوب إن رشيد يحشر نفسه في أمور أخرى في إشارة إلى تصريحات كان أدلى
بها رشيد عقب أزمة مقر الأمن الوقائي التي اتهم فيها الرجوب من قبل الرأي العام
الفلسطيني بتسليم مجموعة من المناضلين وقال فيها رشيد إن الأوامر للرجوب كانت
بالصمود واعتبر تصريح رشيد القريب هذه الأيام من عرفات بأنه محاولة من
الأخير لشطب الرجوب الذي حاول ذلك بتصريحات أطلقها فيما بعد حمل فيها
المستوى السياسي مسؤولية تلك الأزمة، وقال الرجوب إنه مجرد منفذ، ثم عاد
الرجوب وأدلى بحوار مطول لجريدة الحياة اللندنية اتهم فيها محمد دحلان بالعمالة
للمخابرات المركزية الأمريكية، وهدد بكشف الأوراق في الوقت المناسب، وفي
اليوم التالي أدلى دحلان بحوار اتهم فيه الرجوب بالعمالة للموساد الإسرائيلي،
وأوضح أن الأيام القادمة سوف تكشف تفاصيل مثيرة، والغريب في الأمر أن
الاثنين أبديا حرصهما على حياة الرئيس وأعربا عن مخاوفهما من اغتيال عرفات
أو استبعاده من قيادة الشعب الفلسطيني.
والنمط الثالث: وهو فريق غير ملوث ظاهرياً على الأقل، ولم يعرف عنه
أي عمالة، ولم يمر بما يسمونها تجارب نضالية بائرة، ومعظم هذا الفريق من
النشطاء السياسيين الشبان الذين عززت الانتفاضة من قوتهم بدرجة كبيرة وعلى
رأسهم عضو المجلس التشريعي مروان البرغوثي الشخص الأقوى في حركة فتح
في الضفة الغربية، وهو من مواليد عام 1958م في رام الله وأحد مؤسسي الشبيبة
الطلابية في الضفة الغربية، وترأس حركتها في جامعة بير زيت في بداية
الثمانينيات، وكان رئيساً لاتحاد الطلاب، وهو حاصل على بكالوريوس في التاريخ
والعلوم السياسية من الجامعة نفسها، ثم الماجستير في العلاقات الدولية.
قضى البرغوثي ست سنوات في السجون الإسرائيلية لقيامه بدور فاعل في
الانتفاضة الأولى في الفترة من 1987-1992م وتم ترحيله من فلسطين إلى الأردن
عام 1987م.
وعمل ضابط اتصال لمكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في عمان وتونس،
وبموجب اتفاقات أوسلو عاد إلى الضفة الغربية في أبريل / نيسان 1994م وعرف
عنه حماسه الشديد لاتفاقيات أوسلو.
وهذا الفريق أخطر الأنماط السابقة؛ وتتمثل خطورة البرغوثي في قيامه بدور
مزدوج أجاده وأتقنه؛ فهو في نظر الفلسطينيين زعيم شعبي وقائد للانتفاضة؛ فهو
يحاول أن يسحب زخمها ويسرق بريقها من زعمائها الحقيقيين وهم الإسلاميون،
ولكن ماذا يمثل البرغوثي في نظر الإسرائيليين؟ يقول البرغوثي للصحفي جدعون
ليفي الذي نشر حديث البرغوثي له في صحيفة هآرتس الإسرائيلية: هل تعتقد أنهم
سيجدون غداً زعيماً أكثر اعتدالاً مني يقوم بإعداد القهوة لموفاز في الصباح؟ أنا
مستعد للالتقاء مع شاس ومع الليكود، مع الجميع، للتحاور والإقناع، ولكن
الإسرائيليين لا يريدون أن يفهموا.
ويمضي ليفي فيقول: البرغوثي كان رجلاً ينشد السلام، وقلة من
الفلسطينيين كانت ترغب بالسلام مثله، وكان ضالعاً جداً في إجراء الاتصالات
والعلاقات مع إسرائيليين كثيرين ليس من اليسار فقط، ولم يُخْفِ أبداً إعجابه في
بعض الظواهر الموجودة في إسرائيل فيقول البرغوثي: أنا أنهض في الصباح،
وأنظر نحو الغرب، وليس باتجاه الشرق.
ويمضي ليفي فيقول: شخصيته في تلك الأيام كانت شخصية رجل يسير في
دروب السلام، والآن تبدو هذه الصورة صورة خيالية من عالم الهذيان مثل أيام
الراحة التي اعتاد قضاءها مع أطفاله في سفاري رمات غان يتنقل بين مراكز
الأحزاب وأعضاء الكنيست، ويبني أواصر الصداقة مع بعضهم من خلال الوفود
والبعثات المشتركة للخارج، لم يفوِّت فرصة القيام بأي لقاء، وآمن بكل جوارحه
بالحوار والتفاوض.
وقال بنيامين بن إليعازر لوفد من السلام الآن أن مروان البرغوثي ينتمي إلى
جيل القيادات الفلسطينية الذي سيرث مكان ياسر عرفات، وقال: إن هؤلاء
أشخاص سيتعين علينا الحديث معهم مع قدوم الوقت؛ فهؤلاء الأشخاص مكثوا
لسنوات طويلة في السجون الإسرائيلية وهم يعرفوننا جيداً.
وتقول صحيفة إسرائيلية متهكمة: لو اتصل أحد المشاركين في اللقاء عندما
كان بن إليعازر يحصي أمام التلفزيون جرائم البرغوثي ورغب في أن يعرف إذا
كانت إعادة البرغوثي إلى السجن بمثابة دورة الإعداد نحو ترقيته لقيادة المفاوضات
الفلسطينية.
وفي مقال نشرته قبل شهرين صحيفة واشنطن بوست صرح البرغوثي قائلاً:
اعترفنا بإسرائيل في 78% من أراضي فلسطين التاريخية، وإسرائيل هي التي
ترفض الاعتراف بحق فلسطين في الوجود في 22% المتبقية، وأوضح البرغوثي
أنه سيسعى حتى آخر قطرة من دمه نحو تسوية للتعايش بين دولتين على طرفي
الخط الأخضر وحل مشكلة اللاجئين.
* إسرائيل:
قبل أن نعرف لماذا أقدمت إسرائيل على السماح بقيام السلطة الفلسطينية لا بد
أن نفهم الأهداف الإسرائيلية عامة، ثم نحاول تتبع موقع السلطة في خريطة هذه
الأهداف.
تقوم الصهيونية على فكرة عودة اليهود إلى وطنهم المزعوم فلسطين،
وتخطط وتعمل في سبيل ذلك.
أما اليهودية بالنسبة إلى هذه العودة فإنها في نظرها لا تتحقق إلا بمعجزة إلهية؛
ولذلك نجد أن معظم من تبنّوا هذه الفكرة أي الصهيونية هم النصارى البروتستانت؛
بينما كان موقف اليهود في بادئ الأمر سلبياً إن لم يقف بعضهم ضدها. ولكن مع
تنامي التيار النصراني البروتستانتي المطالب بعودة اليهود إلى فلسطين شكَّل هذا
عاملاً ضاغطاً على اليهود، فضلاً عن ازدياد الاضطهاد لليهود في أوروبا.
كل هذا أدى إلى ظهور عدد من المفكرين اليهود الذين نشروا العديد من
الكتابات التي هاجمت الأفكار التقليدية التي ترى أن الخلاص لن يتم إلا من خلال
معجزة إلهية على يد المسيح المخلص، وكان أبرزهم يهودا الكعي الذي بدأ حياته
غارقاً في أساطير اليهود المنتظرة للمسيح المخلص، وقد سرت في أيامه شائعة
تقول إن عام 1840م سيكون عام الخلاص، ولما انقضت تلك السنة من غير شيء
تحول الكعي إلى الطريق العملي؛ فكرس ما تبقى من حياته داعياً إلى تخليص
اليهود وعودتهم بالصلاة والعمل.
وقد نشر سنة 1843م سلسلة من الكتيبات والمقالات في هذا الأمر، وطالب
اليهود بدفع العشر من أجل العودة.
ومن المفكرين الآخرين برز تسفي هوسن الذي نشر أفكاره عام 1843م في
كتاب من جزأين بعنوان: (عقيدة صافية) ، أتبعه بكتابه: (البحث عن صهيون)
عام 1862م. ومن أهم أفكاره:
- أن خلاص اليهود كما تنبأ الأنبياء يمكن أن يتم بوسائل طبيعية: أي
بمجهود اليهود أنفسهم دون أن يتطلب ذلك مجيء المسيح.
- أن الاستيطان في فلسطين يجب أن يتم دون تأخير.
وكان مما قاله في كتابه: إن خلاص إسرائيل لن يكون بمعجزة فجائية،
والمسيح لن يُرسل من السماء نافخاً في بوقه الكبير وجاعلاً جميع الناس يرتجفون؛
فالناس البلهاء فقط يمكن أن يصدقوا هراءً كهذا؛ أما العقلاء فيعرفون أن الخلاص
لا يكون إلا بالتدرج، وهو فوق كل شيء لن يكون إلا نتيجة جهود اليهود أنفسهم.
مع انتشار كتابات وأفكار المفكرين اليهود وغيرهم أصبح الجو مهيأً لتوحيد
جهود المؤمنين بهذا النهج الجديد من خلال حركة يهودية عامة؛ حيث ابتدأ
التحضير الجدي لعقد مؤتمر صهيوني مع مطلع سنة 1897م، وأعلنت الحركة
الصهيونية فيه عن برنامجها السياسي الذي يهدف إلى إقامة وطن قومي للشعب
اليهودي في فلسطين.
لقد كان أهم إنجاز لذلك المؤتمر هو انعقاده الذي يُعتبر رفضاً لتصور اليهود
التقليدي حول المسيح المنتظر وبدءاً في البحث عن طرق عملية من أجل تحقيق
الحلم القديم للشعب اليهودي؛ بحيث تكون هذه الطرق متكيفة مع عوامل الزمن
الملائمة لحركتها.
إذن فإن الفكرة التي تقوم عليها دولة إسرائيل هي إقامة وطن لليهود في
فلسطين تنفيذاً لتعليمات التوراة التي في أيديهم وإقامة الهيكل تمهيداً لنزول المسيح.
ولكن مشروع هذا الوطن اليهودي تعترضه إشكاليات تعرقل تنفيذه على
النحو المطلوب:
الإشكالية الأولى: حدود هذا الوطن اليهودي؛ فحدود أرض إسرائيل الكبرى
بداية من الاعتقاد اليهودي بالوعد بهذه الأرض في التوراة، هل هي الحدود الواقعة
من النيل إلى الفرات، أم هي حدود الخروج من مصر؟ هل هي حدود احتلال
يهوشع، أم هي أماكن استيطان القبائل اليهودية؟ هل هي حدود داود وسليمان، أم
هي حدود الهيكل الثاني؟ هذا الاعتقاد الذي ما زال موضع نقاش وخلاف حتى هذا
اليوم الذي يدور فيه النقاش حول الحدود المطلوبة لأرض إسرائيل الكبرى حسب
الاعتقاد الديني اليهودي. فقد كان هناك الكثير ممن دعوا إلى احتلال الأراضي
اللبنانية ومنهم حنان بورات من المفدال الذي دعا إبان اجتياح الأراضي اللبنانية عام
1978م، ومنهم حركة غوش أمونيم التي دعت إلى احتلال هذه الأراضي على
أساس أنها كانت حدود القبائل الخارجة من مصر، وأن هذه الأراضي هي تكملة
لحدود أرض إسرائيل الكبرى وهي أراضٍ مقدسة. إلا أن تدخل الحاخام تسفي
يهودا كوك ومن بعده الحاخام أبراهم شابيرا اللذين اعتبرا أن إسرائيل دخلت لبنان
من أجل ترتيب الأوضاع الأمنية وليس من أجل ترتيب الحدود الإسرائيلية؛ كما
تبنت حركة حيروت بزعامة بيجين مثلاً حدود الانتداب وهي أرض إسرائيل من
ضفتي نهر الأردن. وقد سأل أحد الصحفيين دافيد بن جوريون رئيس وزراء
إسرائيل الأسبق، وأحد مؤسسي الكيان الصهيوني عن حدود إسرائيل، فأجاب بأنها
حدود ديناميكية أي متحركة وليست ثابتة! وفي عام 1982م عندما اجتاح شارون
لبنان سأله صحفي غربي عن حدود إسرائيل بعدما استقرت آلة حربه في بيروت،
فقال شارون: إن المكان الذي تتوقف فيه الدبابة الإسرائيلية ولا يمكنها التقدم أكثر
تلك هي حدود إسرائيل! وهذا يعني أن إسرائيل فكرة توسعية وليست حدوداً
جغرافية.
الإشكالية الثانية: التوازن السكاني بين المسلمين واليهود وهي مصدر
الخطورة الحقيقية التي تشعر بها إسرائيل، فتشير الأرقام الإسرائيلية الصادرة عن
مكتب الإحصاء الإسرائيلي في نهاية عام 2000، إلى أن مجموع سكان إسرائيل
ارتفع من 801 ألف، منهم 650 ألف يهودي في عام 1948م، إلى 598700 في
عام 1998م، أي ازداد عدد سكان الكيان الصهيوني منذ عام 1948م حتى نهاية
عام 1998م بمقدار 7.4 ضعف، وأن الكثافة السكانية بلغت 256 نسمة في كل
كيلو متر مربع، وهي كثافة عالية مقارنة مع الكثافة في العالم، وتشير المجموعة
الإحصائية الإسرائيلية لعام 2000م إلى ارتفاع مجموع سكان الكيان الصهيوني
ليصل في نهاية العام المذكور إلى 6.3 مليون نسمة منهم 5.2 مليون من اليهود
يشكلون 82.5% والعرب 17.5%.
يتوقع مكتب الإحصاء الإسرائيلي أن يصل مجموع سكان إسرائيل في عام
2005م إلى 7 ملايين منهم نحو 5.3 يهودي، وفي عام 2010م سيصل حسب
نفس المصدر إلى 7.5 مليون نسمة.
إضافة إلى ذلك توقعت دراسة صادرة عن الجامعة العبرية في القدس أن يكون
معظم اليهود في العالم في إسرائيل خلال العشرين سنة القادمة، ويذكر أن هذه
الدراسة قدرت عدد اليهود في العالم بحوالي 13.1 مليون يهودي، ولا يتضمن
الرقم عدد اليهود في إسرائيل. لكن لا بد من التأكيد أنه خلال أكثر من قرن على
مؤتمر بال 1897-2001م، ونحو 53 عاماً على إنشاء إسرائيل فإن أصحاب
القرار فيها لم يستطيعوا جذب سوى 5.2 مليون يهودي من العالم، يمثلون أقل
من 40% من إجمالي يهود العالم.
وإزاء هذه الإشكاليات انقسم التيار السياسي الإسرائيلي إلى فريقين لكل فريق
استراتيجيته في حل هذه المعضلات، ولكنهم متفقون على أن الهدف النهائي هو
الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.
يقول إسرائيل شاحاك رئيس رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية: إن السيطرة
على الشرق الأوسط هدف كل السياسات الإسرائيلية، وإن هذا الهدف مشترك بين
كل الحمائم والصقور على السواء، وإن كان الاختلاف بينهم على الوسيلة: إما
بالحرب، أو بالسيطرة الاقتصادية.
ويرى الاتجاه اليساري (رابين - بيريز - باراك) أن إقامة علاقات
اقتصادية وثقافية وإعلامية وسياسية هي الوسيلة الأنسب لتحقيق تلك الهيمنة؛
فإسرائيل حققت الجزء الأول من أهدافها في الهيمنة، ونجحت في إقامة قلعة أو
مركز للسيطرة؛ هذا المركز له درع عسكري تحت مظلة نووية قادر على توجيه
الضربات إلى أي عضو في النظام الإقليمي يفكر في الخروج عن هذه الهيمنة.
ومن مخططات الزعيم الصهيوني القديم جابوتنسكي صاحب الحركة
التصحيحية في الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي دعا فيها إلى إقامة كومنويلث
عبري تكون فيه إسرائيل القوة الإقليمية العظمى، والتي تدور في فلكها دويلات
عربية ضعيفة مقسمة على أسس عرقية وطائفية.
ويقول ناحوم جولدمان رئيس الوكالة اليهودية عام 1952م: إن إسرائيل لا
يمكنها أن تقوم داخل قلعة محصنة في محيط عربي، ولا يمكنها أن تظل معتمدة
على السيف وحده، وأنه لا وجود لإسرائيل على المدى الطويل إلا إذا ارتبطت
بالمنطقة وأقامت جسوراً من التعاون مع العرب لتضمن الخروج من حالة الحصار
إلى حالة الامتداد والانتشار والاندماج في نظام إقليمي، إن إسرائيل التي تمثل الآن
ما يقرب من 1% من مساحة الوطن العربي عن طريق الحرب وسلاح المواجهة
الساخنة يمكنها أن تحتل مساحة الوطن العربي بأسره عن طريق السلام والتعاون
الاقتصادي.
وبعد حرب 1967م أنشأ الملياردير اليهودي روتشيلد معهداً قرب جنيف أطلق
عليه اسم: (معهد السلام في الشرق الأوسط) بهدف دراسة احتمالات التطور
الاقتصادي للشرق الأوسط بعد تسوية الموقف وإنهاء حالة الحرب والبحث عن
وسائل إقامة علاقات تجارية بين دول المنطقة أي بين إسرائيل وجيرانها العرب.
وفي مؤتمر جنيف عام 1974م أعلن أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلي أن
السلام لا يعني وقف إطلاق النار، والضمان الحقيقي للسلام هو إقامة مصالح
مشتركة بين العرب وإسرائيل تتسم بالتنوع والكثافة.
ويقول شيمون بيريز: إن إسرائيل تواجه خياراً حاداً: فإما أن تكون إسرائيل
الكبرى اعتماداً على عدد الفلسطينيين الذين تحكمهم، أو أن تكون إسرائيل الكبرى
اعتماداً على حجم واتساع السوق التي تحت تصرفها.
وفي موضع آخر يقول بيريز: اليوم تتقدم الدول وتثري عن طريق
التكنولوجيا والعلوم، وليس عن طريق الغزو والسيطرة؛ فذلك يكلف الكثير ويعد
من الأمور الغبية.
مر اليسار الإسرائيلي في سبيل تحقيق ذلك الهدف بمرحلتين:
الأولى: بعد حرب الخليج الثانية وصواريخ سكود التي أطلقها العراق برهنت
أن احتلال الأراضي الفلسطينية في زمن الصواريخ لم يعد يشكل ضماناً لأمنها؛
ولذلك قبلت إسرائيل مقررات مؤتمر مدريد التي انتهت باتفاقية أوسلو والتي أثمرت
السلطة الوطنية الفلسطينية والتي كان يهدف رابين من ورائها سحب القوات
الإسرائيلية من داخل المناطق وتسليمها إلى قيادة فلسطينية لديها القدرة على أداء ما
تعجز عنه إسرائيل في ضبط انتفاضة الشعب الفلسطيني، ولجم الجماعات
الإسلامية داخل فلسطين وهو ما قامت به السلطة وأجهزتها على أكمل وجه.
والثانية: بعد إخفاق محادثات كامب ديفيد بين باراك وعرفات وكلينتون،
واقتناع فريق اليسار باراك وعلومي ورامون أن لا حل نهائياً للقضية؛ فالطريق
الوحيد لتهدئة الوضع وإيجاد أرضية للاتفاق المستقبلي هي خطة الانفصال الأحادي
الجانب، وعلى إسرائيل تنفيذ هذه الخطة بالاتفاق مع الفلسطينيين إذا كان ممكناً
وبدعم من المجتمع الدولي. أما إذا لم تتوفر الإمكانية، فلتنفذها دون الدعم
الفلسطيني والدولي وبالاعتماد على دعم الأغلبية في إسرائيل. وهناك اتجاه ضعيف
داخل اليسار يمثله الوزير السابق يوسي بيلين من حزب العمل وزعيم حزب
ميرتس يوسي سريد يرفع شعار هو: «الخروج من المناطق، والعودة إلى أنفسنا»
والإشارة هي إلى ضرورة العودة إلى إسرائيل الصغيرة والعادلة المزعومة.
التسويغات والأسس الفكرية لهذه الكتلة لا تختلف جوهرياً عن مواقف دعاة
الانفصال الأحادي الجانب، لكنها ترفض القيام بخطوة من طرف واحد، وتصر
على العودة لمسار أوسلو وفي محاولة لتمويه موقفهما أمام الجمهور الإسرائيلي الذي
يكره عرفات يمتنع بيلين وسريد عن عقد لقاءات مع عرفات، ويظهران أمام
وسائل الإعلام مع ياسر عبد ربه وسري نسيبة وحنان عشراوي، الوجوه الجميلة
في السلطة الفلسطينية على حد زعمهم.
بيلين يدرك تماماً أن هذه الشخصيات ستكون عديمة التأثير دون عرفات،
وكتب بيلين مقالاً بصحيفة ليموند ديبلوماتيك تحت عنوان: «لماذا تحتاج إسرائيل
إلى عرفات» : «إن القرار الذي ينص على أن عرفات ليس شريكاً، قد ينتهي
بكارثة ... خلال 26 عاماً حاولت إسرائيل إيجاد شريك للسلام يكون قادراً على
السيطرة على الضفة الغربية وغزة. عرفات هو الطرف الذي وجدته إسرائيل،
والتخلي عنه لن يكون من مصلحتها» .
بينما يرى الجناح اليميني (بيجين وشارون ونتانياهو) أن القوة أو التلويح
بها هي الطريق الأفضل، وهي أداة الحسم باتجاه فرض النفوذ اليهودي، ولهذا كان
هذا الاتجاه ضد إعطاء الفلسطينيين الحكم الذاتي، ومن ثم فهؤلاء ضد أوسلو
والسلطة الفلسطينية.
ومن هنا كانت أهداف نتانياهو وشارون فور توليهم الأمور في إسرائيل هو
عرقلة تنفيذ أوسلو بقدر الإمكان ورسم مخططات على مدى متوسط لتفريغها من
مضمونها، ومن ثم الإجهاز عليها، ولكن في عهد نتانياهو لم تكن البيئة الداخلية
والخارجية في وضع مناسب لتمكينه من تنفيذ ذلك المخطط، وجاء شارون وأخذت
استراتيجيته في الصراع مرحلتين:
الأولى: تفريغ السلطة من مضمونها بعد أن دمر جهازها المدني والأمني،
واليوم يعمل على إدخال طرف ثالث: قوات دولية، لتحمل المسؤولية الأمنية
والإدارية عن الضفة الغربية بدل السلطة الفلسطينية التي من المحتمل أن تكون
شريكة في العملية، دون أن تكون المرجعية الأولى للحكم؛ حسب المعادلة الجديدة.
وسيكون عرفات حراً في التنقل أينما أراد، ولكن إذا أراد أن يحكم فعليه أن يستقر
في غزة التي استثنيت عمداً من العدوان، ولم يتم المس بنفوذ السلطة الفلسطينية
الأمني والسياسي فيها.
إن إدخال قوات بريطانية وأمريكية لمراقبة تنفيذ الحكم الصادر بحق خلية
الجبهة الشعبية، هو عبارة عن إدخال موطئ قدم للقوات الدولية. وهناك إشارات
أخرى إلى التحضير لإخضاع المناطق الفلسطينية للوصاية الأجنبية، واضحة في
الحضور المكثف للأمم المتحدة التي تبدي اهتمامها هذه الأيام بما حدث في مخيم
جنين، وفي وصول منظمات غير حكومية أجنبية تحت مراقبة البنك العالمي
وصندوق النقد الدولي، بهدف إعادة إعمار البنية التحتية.
وفي تصريح لولي العهد السعودي أثناء زيارته الأخيرة لأمريكا قال: «نحن
الآن نريد قوات دولية لحماية الفلسطينيين وتثبيت الأمن على غرار ما حدث في
البلقان» .
إذن! فقد اتفقت كل الأطراف: الأمريكية والاوروبية والعربية والأمم
المتحدة، مع شارون على عقد مؤتمر مدريد 2 الذي سيبت في الموضوع، ويشكل
المرجعية الأولى لفرض الوصاية الأجنبية على الضفة الغربية.
ما ينتظر الشعبَ الفلسطينيَ بعد كل التضحيات التي قدمها، ليس الاستقلال
والعودة والقدس كما وعدته سلطته، وإنما هو أمام احتلال أجنبي سيفرض عليه
تحت غطاء الحماية الدولية، على مثال ما حدث في كوسوفو.
في الوضع الجديد سيخضع الشعب الفلسطيني إلى ثلاثة أنواع من الاحتلال:
الحياة المدنية: ستديرها السلطة الفلسطينية بنفس النهج الفاسد والقمعي الذي لا
تعرف سواه. إسرائيل: ستحافظ على قواتها في مناطق عازلة لحماية المستوطنات،
وتواصل بذلك الحصار على المناطق الفلسطينية. أما المسؤولية الأمنية:
فستتولاها قوات دولية، بعد أن عجزت السلطة ليس عن حماية الأمن الفلسطيني بل
الإسرائيلي. رؤية شارون لحل طويل الأمد بدأت شيئاً فشيئاً تتحقق وتحصل على
شرعية دولية.
أما المرحلة الثانية من استراتيجية شارون: فلم تنفذ بعد، وهي ترحيل
الفلسطينيين وإحياء سياسة الترانسفير؛ حيث كشفت (هآرتس) عن دراسة أعدها
البروفسور أرنون سوفر أستاذ الجغرافيا في جامعة حيفا، حول الفصل أحادي
الجانب بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعنوان: (ديموغرافية إسرائيل) ، وحذر
فيها من أن إسرائيل ستزول عن الخارطة في السنة 2020م عندما يعيش 40 في
المئة من اليهود و 58% من العرب بين نهر الأردن والبحر ليدعي بأن الفصل هو
الحل، وذلك بإبقاء 30 إلى 40% من الضفة الغربية بيد إسرائيل مع الاحتفاظ
بغور الأردن والقدس كاملة. ولكنه دعا إلى إخلاء 35 مستوطنة معزولة مثل غوش
إيمونيم وآلون موريه وغيرهما وتعويضهم عن طريق ما سماه تبادل المناطق.
وذكر الكاتب أن الفكرة تلقى تأييداً في واشنطن، ونسب إلى الكاتبين المقربين
من بنيامين نتانياهو تشارلز كراوتهامر وجورج فيل، قولهما: إن على إسرائيل
أن تضرب الفلسطينيين بقوة وتوجه ضربة عسكرية شديدة تنفذ بعدها خطة الفصل
وفق نظرية الحرب ثم السور.
أما صحيفة معاريف فقد استبعدت نقل مستوطنات مثل نتساريم وكفار دروم
إلى تكتل مستوطنات جديد، داعية لدعم الفصل؛ لأنه يضمن بقاءهم في الضفة
الغربية.
ورأى كاتب آخر أن (الفصل من طرف واحد يحظى باتفاق اليمين واليسار؛
لأنه البديل الوحيد الأقل شراً بين الشرور الكبرى) .
وتحدثت يديعوت أحرونوت عن مخطط يقوم على أساس عملية عسكرية
شاملة تحوِّل المناطق الفلسطينية إلى جزر محاصرة بقوات إسرائيلية، وتصفية
البنى التحتية السلطوية للفلسطينيين، ثم التخطيط لحرب حاسمة في المستقبل تنتهي
بالترحيل، ويحذر الكاتب مائير من تنفيذ هذه الخطة، ويدعو إلى الكشف عنها قبل
فوات الأوان.
* الخاتمة:
إن الموقف الدولي ليس ثابتاً والتاريخ يشهد بذلك؛ وإذا كان ميزان القوى الآن
ليس في صالح المسلمين فإن ميزان القوى لن يظل جامداً على حاله؛ فعلم السياسة
يشهد بذلك، وسنن الله في أرضه تقول بتلك الحقائق، وعقيدتنا تقول إن اليوم الذي
سينطق فيه الحجر والشجر لآت ولكن وفق شروط وخصائص، وإشكالية كبرى
تواجه مسلمي اليوم وهي تحقيق العبودية لله في الأرض.(176/58)
المسلمون والعالم
الصومال.. أزمة حكومة، ومأساة شعب
عبد الرحمن بن عبد القادر الحفظي [*]
إن المتتبع لأحوال المشكلة الصومالية الحالية منذ ما يزيد على أحد عشر عاماً،
يدرك تضاؤل حجم القضية الصومالية وتراجع أهمية أخبارها في الإعلامين:
العربي والعالمي وشيوع حالة من اللامبالاة تجاهها، حتى إن أخبارها لم تعد
تسترعي الانتباه؛ على الرغم من التهديدات الأمريكية والعالمية لتوجيه ضربة
عسكرية لهذه البلاد لمحاربة ما يسمى بـ (الإرهاب) .
ورغم غرق الصومال في مشاكلها الداخلية وعدم وجود حكومة مركزية
وانتشار الفوضى في أنحائها فإنه لا يبدو أن مشكلتها تحظى باهتمام إعلامي يوازي
خطورتها، وليس لدينا تفسير يسوِّغ هذا الموقف الإعلامي وخصوصاً العربي
والإسلامي سوى التيه الذي يعيش فيه هذا الإعلام.
ولكن يجدر بنا التوقف مع محنة الصومال خصوصاً بعد التهديدات الأمريكية
غير المسوَّغة وبعد مضي ما يزيد على عقد من الصراع الداخلي؛ لنتعرف على
حصاد هذا العقد من خلال خمسة محاور.
* أولاً: جذور وأسباب النزاع الصومالي الحالي:
تكالبت على الدولة الصومالية منذ استقلالها عدة عوامل سياسية (هيكلية)
واقتصادية واجتماعية (قبلية) أدت إلى نشوء حال من الفوضى والصراع الداخلي
الدامي؛ فقد عانت الحكومة الصومالية منذ استقلالها من الافتقار إلى الفهم الواضح
لإدارة مؤسسات الدولة؛ فظهر الضعف الإداري جلياً، وبقيت القواعد والأعراف
القبلية هي التي تحكم البلاد، فزادت قوة القبيلة والولاء لها، وانتشرت المحسوبيات
القبلية والعرقية في أطراف البلاد.
ورغم قيام النظام الديمقراطي المدني منذ 1960م - 1969م، ثم النظام
الثوري العسكري من عام 1969م - 1991م؛ إلا أن النظامين لم ينجحا في تقوية
الشعور الوطني مقابل قوة العصبية القبلية في ذلك المجتمع؛ مما أدى إلى انتشار
نوع من الفوضى الإدارية التي تعتمد على المحسوبيات القبلية من حيث التعيينات
والترقيات في الدولة [1] ، فوضعت المصلحة الشخصية القبلية فوق المصلحة العامة،
وكان البحث عن المُوالي لا الكفء للتعيين في المناصب العليا.
فإذا ما انتقلنا إلى سبب هيكلي سياسي آخر وجدنا أن بناء الأحزاب والحركات
السياسية في الصومال قد نشأ على العصبية القبلية البحتة؛ فقد ارتكزت طموحات
القيادات السياسية والعسكرية على تعددية قبائلية عشائرية عبرت عن نفسها في
صورة فصائل مسلحة مما تسبب في وجود عقبة كؤود أمام عمليات التسوية
والمصالحة بين القوى المتصارعة فيما بعد [2] ، وقد اتسمت هذه الأحزاب
والحركات السياسية بالعصبية القبلية، والتسلح العسكري، وأسست بنسبة 99%
من أعضائها من قبيلة واحدة، وبلا لوائح تنظيمية، وبنت أهدافها ونظمها على
أساس قبلي بحت، وظهرت أحزاب كثيرة ومتعددة حسب القبائل والعشائر المنتشرة
من شمال البلاد إلى جنوبها [3] .
وحينما نتتبع الأمر نجد أن ضعف علاقة الصومال الخارجية كان واحداً من
أهم الأسباب في النزاع الصومالي؛ فقد بدأت الحكومات المتوالية في الصومال في
استعداء محيطها الإقليمي (إثيوبيا - كينيا - جيبوتي) من خلال المطالبة ببعض
أقاليم الدولتين: الصومال الفرنسي (جيبوتي) ، والصومال الكيني (مانديرا)
وكامل إقليم الصومال الغربي (أوجادين) مما أدى إلى مواجهات حربية مع تلك
الدول وخصوصاً الحرب المستمرة حتى اليوم مع أثيوبيا حول إقليم أوجادين التي
بدأت عام 1964م [4] ؛ مما أنهك البلاد واستنزف قدراتها الضئيلة، بل قد أبدى
النظام العسكري الماركسي في الصومال عداءً للدول العربية التي كانت علاقاتها
مقبولة مع الصومال خوفاً من انجراف الصومال في النظام الماركسي كلياً؛ فقد
وافقت الدول العربية على انضمام الصومال إلى الجامعة العربية عام 1974م؛ بل
قررت الجامعة العربية أن يعقد مؤتمر القمة في مقديشو عام 1975م بعد انضمامها؛
تقوية لمركزها.
كما أن الاعتماد على المصادر والمساعدات الخارجية في تمويل مشروعاتها
كان سبباً رئيساً من أسباب النزاع والفتن هناك [5] .
* ثانياً: خريطة الفصائل الصومالية:
قسم الأستاذ محمد عاشور الفصائل الصومالية إلى نمطين [6] :
1 - فصائل ذات صبغة قبلية.
2 - فصائل ذات صبغة إسلامية.
في بداية الأمر يسعى كل قائد فصيل من الفصائل القبلية إلى بسط نفوذه على
منطقته وبين أفراد عشيرته ثم قبيلته، ثم يبدأ بالمطالبة ببسط نفوذه على كل الدولة،
وبدلاً من أن ينظروا إلى الدولة على أنها شركة مساهمة هدفها تحقيق الحماية
المتبادلة بين الأفراد؛ نظر إليها كل قائد على أنها متجر له يتصرف فيه كيف يشاء،
ولمصلحة قبيلته فقط.
والحقيقة أن كل قبيلة، بل وكل عشيرة قد تلبست بثوب حزب سياسي أو
حركة سياسية، وهي دعوة نتنةٌ في حقيقتها [7] ، وهناك واحد وعشرون حزباً
سياسياً في الصومال، وكل حزب يمثل قبيلة أو عشيرة قبلية؛ بالإضافة إلى
عشرات الحركات والمسميات السياسية الكاذبة التي يصعب على الباحث
استقصاؤها.
فقبيلة كبيرة كقبيلة طارود (دَّارود) أو قبيلة (هوِية) تضم الواحدة منهما
أكثر من خمسة عشر حزباً أو حركة سياسية حسب العشائر والبطون في تلك القبيلة؛
فالجبهة الوطنية لإنقاذ الصومال تنتمي إلى المجرتين أحد بطون دَّارود، ويسكنون
في الأجزاء الشرقية من الصومال، والحركة الوطنية الصومالية تنتمي إلى قبيلة
إسحاق في المناطق الشمالية الغربية، والحزب الصومالي الموحد ينتمي إلى قبيلتي
دولبهنتي وورسنجلي وهما من بطون دَّارود، والجبهة القومية الصومالية تنتمي
إلى المريحان من دَّارود في جنوب الصومال، واتحاد الجبهات الصومالية ينتمي
إلى قبيلة قدبورسي في شمال البلاد [8] وجيبوتي.. وهكذا دواليك.
ويمكن رصد هذه الأحزاب والحركات السياسية حول خمس بطون قبلية
رئيسة في البلاد هي: القبائل الإسحاقية في الشمال، وقبائل المجرتين في الشمال
الشرقي ووسط الصومال، وقبائل هوِية وهي من أخطر القبائل وأعنفها، وأكثر
أمراء الحرب من بطون هذه القبيلة في الجنوب والوسط وأجزاء من الشرق،
وقبائل الرهنويين (الرحنوين) في جنوب البلاد، وقبائل الأوجادين على امتداد
غرب البلاد [9] .
أما الفصائل والحركات الإسلامية فتتمثل في مجموعة من الحركات
والجماعات الإسلامية السنية، وهي الحركات التي اعترف وزير الدفاع البريطاني
جيف هون بتدريب وحدات عسكرية صغيرة لشن هجمات خاطفة لاغتيال بعض
رجالاتها المتهمين بالإرهاب [10] ، ومن أهم هذه الفصائل والحركات: الاتحاد
الإسلامي الصومالي، والحركة الإصلاحية الإسلامية، ووحدة الشباب الإسلامي،
وأنصار السنة، ومجمع علماء الإسلام برئاسة الشيخ محمد معلم رحمه الله،
والمسلمون المستقلون، وحركة التبليغ والدعوة، والمحاكم الإسلامية. ومن أهم
سمات هذه الحركات الإسلامية الصومالية التي تميزها عن الأحزاب والحركات
السياسية القبلية:
1 - أنها لا تلبس الثوب القبلي، بل تطرح نفسها قوة للأمة كلها.
2 - اهتمامها بوحدة وتماسك الأراضي الصومالية كلها.
3 - مساهمتها في إعادة التوطين في كل فرصة تسمح لهم بهذا.
4 - ألقت على كتفها أعباء التعليم والتربية في الصومال على الضعف الحاصل
في وقت ضاعت فيه سنوات من عمر أبناء المسلمين الصوماليين بدون تعليم.
5 - استعادة شيء من الأمن والاستقرار في بعض المناطق عن طريق
المحاكم الشرعية [11] .
* ثالثاً: أحوال الصومال الحالية:
شهدت الصومال في ظل غياب الحكومة خلال السنوات الماضية أزمة سياسية
واقتصادية واجتماعية وتعليمية وصحية، بل وإنسانية لم تشهدها دولة في العصر
الحاضر؛ بل عدّها كثير من المنصفين مثالاً للتخلف العالمي في هذا العصر.
فعلى الصعيد السياسي والحربي لا تزال تشهد حروباً تشتد في بعض الأحايين،
وتلين في بعضها، أودت بأكثر من خمسة ملايين ما بين قتيل ومعاق ومشرّد
ومهجّر، ولا يزال أمراء الحرب والميليشيات القبلية يتمتعون بصلاحيات وقوات
بشرية وعسكرية، في ظل الإمدادات الغربية وبعض الدول الإقليمية والعربية حسب
المصالح والمشارب ولعل آخر هذه الاشتباكات الدامية ما وقع بين ميليشيات وادي
جوبا الموالية للحكومة الانتقالية وبين ميليشيات مجلس المعارضة بزعامة وزير
الدفاع السابق محمد سعيد مورجان، والذي تسبب في سحب الأمم المتحدة لجميع
موظفيها من جنوب الصومال [12] ، ومما زاد الأمور سوءاً أن أثيوبيا تمد
بالمساعدات العسكرية والحربية والمادية فصائل عدة تختلف باختلاف مصلحتها
ونظرتها؛ فعدوها بالأمس يمكن أن يكون صديقها اليوم، وهي تتمثل بقول اللورد
بالمرستون: (ليس لنا عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، وإنما مصالح دائمة) .
وخير دليل لنا تأكيد بعض المسؤولين الأثيوبين أن أسامة بن لادن زعيم
القاعدة قد هرب ودخل الصومال بعد شهرين من بداية (الحرب الكونية) وهو الآن
في حمى حركة الاتحاد الإسلامي التي تعاونت معه في عام 1993م في قتل 18
أمريكياً [13] ، واستضافتها لقائد الحرب حسين عيديد (من قبيلة هوية فخذ هبر جدر
عشيرة سعد جالاف، وقائد التحالف الوطني الصومالي) منذ أكثر من عام وحتى
اليوم رغم أنه كان عدواً لها منذ موت والده، وإمدادها غير المحدود للقائد محمد
إبراهيم عقال وهو من عشيرة هبر أول الإسحاقية وقائد الحركة الصومالية الوطنية
رئيس ما يسمى صومال لاند (أرض الصومال) [14] والتي تدعمها دعماً غير
مباشر بريطانيا وإسرائيل.
وكذا إمدادها لمجرم الحرب عبد الله يوسف أحمد من قبيلة المجرتين وقائد
الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال، رئيس بونت لاند (أرض البخور) في الشمال
الشرقي.
ولعل آخر ما قامت به إثيوبيا في شهر رمضان الماضي مساعدة الضباط
الأمريكيين للدخول سراً إلى بيدوا للاتصال بميليشيات بيدَوَا التي تدعمها الحكومة
الأثيوبية غرب مقديشو بـ 240 كم [15] .
والمسؤولون الصوماليون يعرفون هذا التنسيق القديم الحديث بين أمريكا
وأثيوبيا، ولذا فقد حضّ رئيس الوزراء في حكومة الصومال الانتقالية الحالية حسن
أبشر فارح واشنطن على العمل مع حكومته بدلاً من أثيوبيا التي تتمتع بعلاقات
وثيقة ومشبوهة مع زعماء الميليشيات المعارضة [16] ، وقد قامت أثيوبيا، والتي
تعد نفسها شرطياً للمنطقة بمباركة غربية وأمريكية بعقد عدة مصالحات واتفاقيات
ومؤتمرات بين الفصائل الصومالية المتناحرة منذ حصولها على رئاسة اللجنة العليا
لشؤون القرن الإفريقي عام 1992م، ومروراً باجتماع سودري في عام 1996م،
والمؤتمر الكبير الذي استضافته في بلادها عام 1998م وحضره إضافة إلى دول
الإيغاد كل من أمريكا وفرنسا وإيطاليا ومصر، وكل هذه المؤتمرات والاتفاقيات
كانت تخرج بتوصيات تخدم المصلحة الأثيوبية التي ترى أن ظهور قوة صومالية
موحدة خطر على مصالحها والتحكم في المنافذ البحرية التي تستغلها، والأمر يتكرر
في اجتماعات نيروبي عاصمة كينيا التي تمثل الزاوية الثانية لدول الجوار، وقد
كان آخر مؤتمر للمصالحة في نيروبي بتاريخ 10/10/1422هـ وكانت نتائجه
رفض بعض الفصائل توقيع اتفاقية السلام مع الحكومة الانتقالية [17] .
أما أمريكا فلم تولِ الصومال أي اهتمام إلا بعد تأكدها عن طريق البحوث
والاكتشافات والاستطلاعات الجوية والمركبات الفضائية من وجود آثار بترولية
يمكن التنقيب عنها، ووجود خام اليورانيوم، وهو ما يحصل اليوم في مراقبة
السواحل الصومالية والاستطلاع الجوي عبر الأسطول الخامس الأمريكي بحجة
الإرهاب [18] ، وبعد ضغوط وسائل الإعلام على الرأي الأمريكي لضرورة التدخل
لوجود انتهاكات واضحة وفاضحة لحقوق الإنسان الصومالي؛ مما حدا بجورج
بوش الأب وللمرة الثانية في 9/12/1992م إلى اتخاذ قرار بالتدخل العسكري في
الصومال، وقادت التحالف الدولي ثانية بعد حرب الخليج في عملية إعادة الأمل
(يونوصوم 2) بعدد فاق الـ 37000 جندي غالبيتهم من الجنود الأمريكيين ثم
الفرنسيين ثم الإيطاليين. وحقيقة هذا التحالف أنه كان طرفاً في الحرب الصومالية،
وكان من نتائجه قتل 18 أمريكياً، ولم ينجزوا أمراً يذكر، بل زادت من التردي
والاقتتال الصومالي، خصوصاً بعد الخلاف الأوروبي الأمريكي حول المصالح من
هذا التدخل، مما جعل بيل كلينتون يسحب قواته من الصومال عام 1994م.
ولكن الأمر لدى الأمريكيين لم يتوقف عند هذا، بل وُضِعَ ملف للصومال
لدراسته، وما هو مستقبل أمريكا في الصومال منذ خروج آخر جندي أمريكي في
آخر يوم من مارس 1995م، وقد خرجت آثار هذه الأبحاث والدراسات ظاهرة
للعيان اليوم [19] ؛ فقد بدت تظهر على الساحة بدعوى قتال الإرهابيين في الصومال؛
حيث طلب الرئيس الحالي للحكومة الانتقالية من وفود أمريكية زيارة الصومال
والبحث عن هؤلاء الإرهابيين، وتوضيح أمر المؤامرة ضد الصومال [20] .
وكان تصريح وولتر كانستاينر مساعد وزير الخارجية الأمريكي الدليل الأخير
على كذب ادعاءات أمريكا ضد شعب الصومال [21] ، وستبقى سياسة الحرب
بالوكالة (النيابة) من السياسة الأمريكية الحديثة بعد نجاحها في أفغانستان فتبحث
عمن يقوم بدورها من قِبَل الميليشيات المتحاربة ومن دول الجوار.
أما فرنسا وبريطانيا وإيطاليا فسياستها في الصومال مبنية أيضاً على
مصالحها، وكذا الاتحاد الأوروبي برمته؛ فمشاركاته لم تتعد مصالح أوروبا في دعم
المنظمة الحكومية للتنمية (إيغاد) بناء على مصالح بريطانيا وإيطاليا وفرنسا،
حتى إن مبعوث الاتحاد الأوروبي قد زار بونت لاند عام 1998م، ودعمها مالياً،
رغم عدم اعتراف أوروبا بهذه الدويلة، بل زار السفير الإيطالي في نيروبي
مقديشو بنفسه في عام 1998م أيضاً، ودعم كلاً من عيديد وعلي مهدي، اللذين
يمثلان القبائل الحامية لمزارع الموز الإيطالية على نهر جوبا في جنوب
الصومال والتي تقدر بآلاف الهتكارات.
والمتصفح للملف الصومالي في أوراق الغربيين عموماً لا تنفك عيناه عن
مشاهدة الحرب المعلنة ضد الصحوة الإسلامية هناك في تقاريرهم السرية والمعلنة
في وسائل الإعلام المختلفة، ومحاولة إحلال مفاهيمهم الغربية النصرانية محل
المفاهيم الإسلامية.
يقول سفير أمريكا في نيروبي: لقد جثت الصومال على ركبتيها ونحن ننتظر
أن تنبطح تماماً.
ويقول رونالد مارشال (المتخصص في شؤون القرن الإفريقي) : لقد لحق
تغيير كبير بأخلاقيات المجتمع الصومالي؛ فلقد كان يميل إلى العلمانية بعض
الشيء، أما اليوم فأصبحت الملابس التقليدية الإسلامية تحل محل الملابس
والعادات الغربية، والسبب أن الصوماليين التفتوا نحو الخليج، وأصبح النفوذ
والتأثير لجماعات المتدينين [22] .
وقد كانت جيبوتي أول دولة دعت إلى المصالحة الصومالية، وقد كانت
أصدق الدول في دعواتها، والتي تأتي بمباركة فرنسية وأوروبية وأمريكية، وقد
عقد مؤتمر للمصالحة الصومالية في يونيو من عام 1991م، تلاه مؤتمر ثان في
يوليو 1991م أيضاً، وكان آخر هذه المؤتمرات في جيبوتي في عام 2001م،
وكان بمبادرة جريئة وخطوات كانت الأفضل على جميع مستويات هذه المؤتمرات
من الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي الذي قال في هيئة الأمم المتحدة: «لم
يظهر لنا حتى الآن من يخشى على الصومال، لا نقول إنه لم يولد بعد، بل الأمل
في الله كبير في أن يسخر للصومال من يأخذ بيده إلى ضفاف الأمان» [23] ، وقد
نتج من هذا المؤتمر الحكومة الانتقالية الموجودة الآن.
أما الموقف الأريتيري فلا يختلف عن الموقف الأثيوبي في الدعوة إلى بعض
مؤتمرات المصالحة المبنية على مصالح تلك الدول، مما يلقي بظلال الشك على
مصداقية هذه الدول.
أما الجامعة العربية عموماً فصدر عنها القرارات تلو القرارات للدعوة إلى
المصالحة الوطنية، ودعوة الدول الأعضاء إلى تقديم المساعدات الثقافية والتعليمية
للصومال، ولم تعدُ أن تكون حبراً على ورق، وخير دليل على ذلك قرار الجامعة
بمنح الحكومة الانتقالية الصومالية مبلغ 450 مليون دولار أمريكي، ولم تتسلم منه
الحكومة سنتاً واحدا [24] ، ولكن بعض الدول العربية كمصر والسعودية وليبيا
واليمن كانت لها مبادراتها بين مؤتمرات مصالحة باءت بالإخفاق، بسبب معارضة
بعض دول الجوار لهذه المؤتمرات، وعدم رضا بعض هذه الفصائل، أو بسبب
عدم إعطائها الوجه الشرعي العادل لجميع الفصائل المتنازعة كما تفعل ليبيا وربما
بسبب بعدها عن بؤرة الصراع وعدم اكتراثها به، رغم أن مصر كانت من الدول
المكثرة في المؤتمرات وبتنافس شديد مع أثيوبيا، ولعل آخرها مشاركة وزير
خارجيتها في مؤتمر (إيغاد) في الخرطوم وحمل بعض المقترحات المصرية لحل
المشكلة الصومالية [25] ، وبحث مسؤولين مصريين مع أمثالهم من الحكومة اليمنية
لحل المشكلة الصومالية في ذي القعدة الماضي [26] . ولكن الأهم أن كلاً من هذه
الدول الأربع الأخيرة بالإضافة إلى دولة الإمارات العربية قد شاركت في دعم التعليم
والإغاثة والأعمال الإنسانية والرعاية الصحية والبيطرية. وهناك مشاركات لا
ترقى للمستوى المطلوب من خلال منظمات تلك الدول.
وعلى الصعيد الاقتصادي: فقد شهدت أجزاء الصومال جميعاًَ تدهوراً
اقتصادياً مخيفاً من جراء عدم وجود حكومة مركزية ترعى مصالح البلاد والعباد،
ومن جراء الأمراض المهلكة وعدم وجود المراكز الصحية والمشافي وضعف
الموجود منها، والفقر الذي يكبر وينمو يومياً حتى إن الشلن الصومالي فقد قيمته
تماماً، فمائة دولار تساوي 2300000 شلن صومالي! وكان منع السعودية ودول
الخليج استيراد المواشي من الصومال سبباً آخر في تدهور الوضع الاقتصادي؛
حيث كانت تزيد صادرات الصومال إلى السعودية ودول الخليج من المواشي على
ستة ملايين رأس من المواشي سنوياً، يستهلك منها في السعودية فقط أكثر من 4
ملايين رأس [27] .
وأكبر تدهور اقتصادي في الصومال كان بسبب الاشتباكات المسلحة بين
الفصائل المتناحرة في شمال البلاد وشرقها وجنوبها وغربها، مما حدا بأمراء
الحرب إلى طباعة الشلن الصومالي بكميات كبيرة ومزورة، ولم تهدأ هذه
الاشتباكات منذ السنوات العشر الماضية في جميع أنحاء البلاد عدا ما يسمى
بصومال لاند وأجزاء من بونت لاند، والتي تشهد شيئاً من الاستقرار في ظل
الحكومتين المزعومتين.
إضافة إلى السرقات البحرية المنظمة وغير المشروعة للأسماك والأستاكوزا
والروبيان من سواحل المياه الإقليمية الصومالية والتي تمتد إلى أكثر من 3200 كم
على بحر العرب والمحيط الهندي من سفن الصيد العملاقة التابعة لليابان وماليزيا،
وأمريكا، وفرنسا، إضافة إلى دفن الأشعة والمواد السامة في تلك السواحل
القريبة من كينيا.
كما أن تعرض المناطق الزراعية الجنوبية لفيضانات متوالية أدت إلى تلف
المحاصيل الزراعية وخصوصاً الحبوب منها، وتجريف كثير من الأراضي
الزراعية، وكذا ظهور موجات من الجفاف والسنوات القاسية نفقت بسببها مئات
الآلاف من المواشي، وتعرض أكثر من مائتي ألف من البشر للمجاعة، وقد كشف
تقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) الصادر في 30/9/1422هـ أن 800
ألف شخص يواجهون مجاعة متوقعة بسبب الجفاف في شرق الصومال وجنوبها
[28] ، وهذا ما جعل لاجئي الصومال يمثلون 11% من إجمالي لاجئي القارة
الإفريقية.
وعلى الصعيد الاجتماعي: يدرك المتابع خطورة الأوضاع في الصومال؛
فهناك أكثر من مليون مهجّر، وضياع جيل من الصوماليين تتراوح أعمارهم بين
سنة إلى خمس وعشرين سنة بلا تربية ولا تعليم ولا رعاية اجتماعية أو صحية،
ومعاناة الشعب برمته من عدم وجود البنى التحتية، وبعض المظاهر التي تدل على
تدهور إنسانية وكرامة الإنسان؛ فلا اتصالات أو إعلام، ولا تثقيف أو توجيه أو
تربية أو عمل يحفظ ماء الوجه.
* رابعاً: الصراع الثقافي في الصومال [29] :
كان للصوماليين مساهمة فعّالة في نشر الإسلام في جنوب ووسط القارة
الإفريقية، وقد تعمقت اللغة العربية في نفوس الصوماليين بفضل الإسلام وتعلقهم به
عبادةً، وتلاوةً للقرآن الكريم، فانتشرت الثقافة الإسلامية في ربوع الصومال،
وحفظ البدوي القرآن قبل ساكن الحاضرة، وقد حاولت أوروبا فرض ثقافتها على
المجتمع الصومالي عن طريق تغيير الثقافة الشعبية عن طريق السينما والإذاعة،
ونشر نمط السلوك الغربي المتفسخ في شوارع الصومال.
وقد نجحت إيطاليا وبريطانيا في كتابة اللغة الصومالية بالأحرف اللاتينية،
بدلاً من العربية، بهدف تحطيم الثقافة الإسلامية والعربية؛ ففي عام 1972م أعلن
رئيس مجلس الثورة سياد بري كتابة اللغة الصومالية بالحروف اللاتينية بدلاً من
العربية، وأن هذه اللغة بوضعها الجديد هي اللغة الرسمية للبلاد، كما ألغى هذا
الرئيس وتحت ضغوط خارجية الاتفاقية التي أبرمت مع الجامعة العربية ورابطة
العالم الإسلامي وبدعم مالي من السعودية لبناء جامعة عربية إسلامية في مقديشو،
وقد بالغت الثورة الاشتراكية الصومالية في نشر الثقافة الماركسية الاشتراكية،
ومقاومة الثقافة والمعرفة الإسلامية إلى درجة وصلت إلى حد التصفيات الجسدية
للعلماء والدعاة هناك.
وخلطت الجنسين في التعليم، وأنشأت مركزاً للأيديولوجية الشيوعية،
ومرقصاً للشباب والشابات، وقتلت الفضيلة بإقامة مسرح قومي لنشر المفاهيم
الشيوعية، ومنع الحجاب في المدارس وأنذرت بعض المدارس التي لم تلتزم بهذا
القرار، بل الأدهى والأمرُّ هيمنة الدولة على المساجد، وتوحيد الخطب، وحظر
المواعظ في المساجد [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى
فِي خَرَابِهَا] (البقرة: 114) ، بل غيرت وبدلت في الأحكام الشرعية،
فأصدرت مادة يصبح الطلاق بموجبها من حق المحكمة فقط، ومادة أخرى لتغيير
أحكام المواريث وأصحابها [30] .
والتاريخ اليوم يعيد نفسه، فيتلعثم المسؤولون الأمريكيون بينما هم يبحثون
عن الحجج المباشرة الحديثة التي تصلح للاستخدام بخصوص الصومال [31] .
إن أمريكا حقيقة لا تحارب الإرهاب في الصومال كما تدعي، ولكنها تحارب
المدارس الإسلامية الأهلية، وحلقات القرآن المنتشرة هنا وهناك، وأكبر دليل على
ذلك زعم أمريكا واتهامها لبعض الجمعيات الخيرية بدعم الإرهاب في الصومال
رغم أن نشاطات تلك الجمعيات لا تعدو أن تكون في الإغاثة والتعليم في مقديشو
وجنوب الصومال مما حدا بوزارة الشؤون الاقتصادية السويسرية إلى تجميد
حسابات واحدة من تلك الجمعيات، وذلك تمشياً مع معاهدة لجنة الأمم المتحدة
لتجميد كل ما له صلة بالإرهاب زعموا والذي دخل حيز التنفيذ في 31/3/2002م
[32] ، وتريد أمريكا أيضاً تغيير الثقافة الشعبية البسيطة التي انتشرت في ظل غياب
الراعي التعليمي خلال السنوات العشر الماضية، وأنقذت ما يزيد على مائة
وخمسين ألف طفل وشاب من الجنسين من الجهل والفقر، وفي المقابل ضاع
أضعاف هذا العدد بلا تربية ولا توجيه أو تعليم.
إن التقارير التي بيد المخابرات الأمريكية لم يكتب فيها حرف واحد عن
الثكنات والمعسكرات التي تدعي وجودها هناك، ولكنها ملئت بمتابعات الدعاة
العاملين المخلصين لدينهم، ملئت بإحصائيات أعداد المدارس الابتدائية التي تعلم
المواد والمقررات الإسلامية والعربية المأخوذة من مقررات التعليم في السعودية
ومقررات وزارة التربية والتعليم بمصر واليمن والإمارات العربية، ملئت بأعداد
الدعاة الذين ملؤوا الفراغ الثقافي الذي زاد على عشر سنوات في المساجد والجوامع
والمدارس تطوعاً من أنفسهم.
* خامساً: مستقبل الصومال:
تكشف بعض الدراسات من خلال الوضع الراهن والقراءة السريعة للأحداث
أن هناك أموراً يجب عدم إغفالها عند وضع أي تخطيط لمستقبل هذا البلد، ومنها
النظرة القبلية المتأصلة لدى الكثير منهم، وقوة بعض أمراء الحرب حسب قبائلهم،
وقوة بعض تجارهم (عثمان عاتو) مثلاً، ووجود شيء من الاستقرار الأمني لدى
بعض الحكومات المزعومة التي زاد عمر بعضها عن خمس سنوات، كصومال لاند
وبونت لاند، وتلوح في الأفق جوبا لاند في الجنوب.
ومنها عدم تدخل الدول الإقليمية المجاورة؛ لأن كل دولة منها تنظر إلى
مصالحها أولاً في حل القضية مما يعطي انطباعاً سلبياً مبدئياً لتدخل أي دولة من
هذه الدول، والحل في الصومال لا يكون إلا بملء الفراغ السياسي من خلال
حكومة قوية تحكم البلاد، وتقوم هذه الحكومة على أسس منطقية إدارية وحزبية
شورية، لديها حس وطني.
وأخيراً:
لا بد أن تلتزم هذه الحكومة التزاماً داخلياً وخارجياً بمبادئ وقيم الإسلام، وأنه
الخيار الوحيد للصوماليين، وهذا ما يشهد به الوضع التعليمي الراهن رغم نقص
كبير في نواحيه المختلفة كشمولية التعليم وانعدام التمويل وتعليم المرأة، وضياع
التربية، وقد صرح بهذه الحقيقة وزير الثقافة والتعليم العالي في الحكومة الانتقالية
الصومالية السيد محمد علي أحمد، وقال: إن الإسلام هو ديننا منذ آلاف السنين
[33] ، وقد شهدت نتائج عمل المحاكم الإسلامية في مقديشو والجنوب على نجاح هذا
الخيار الوحيد، علماً أن النظم والمذاهب السياسية غير الإسلامية قد أخفقت واقعياً
في الصومال لأكثر من خمسة وثلاثين سنة خلت من عمر هذه الدولة.
ويجب عدم الخلط بين مفهوم الإرهاب والإسلام الذي تدعيه أمريكا وأوروبا
لأمر كانوا يقصدونه كما ينبغي لهذه الحكومة أن تحسن علاقاتها الخارجية الإقليمية
منها والعربية والدولية.
وهناك سؤال يلوح في الأفق في هذه الأيام: هل سيوجه النصارى ضربة
عسكرية للصومال؟! ولماذا؟
والواقع المبني على الحقائق أنه لا يوجد في الصومال ما يدعو لضربة
عسكرية؛ ولذا يؤكد كثير من المحللين السياسيين عدم وجود ضربة عسكرية
محتملة للصومال رغم كل ما يذكر وينشر ولكن ربما عن طريق الاغتيالات
لشخصيات قدمتها تلك التقارير بدعوى النشاط المشبوه، وبناء علاقات إرهابية على
حد زعمهم وهذا هو الواقع اليوم؛ حيث تسلل ستة عسكريين بريطانيين تابعين
للوحدات الخاصة بالسلاح الجوي مرتين في أعماق الأراضي الصومالية [34] ،
ولكن دون جدوى، وهذا ما صرح به وزير الدفاع البريطاني جيف هون أنه قد تم
تدريب وحدات عسكرية صغيرة لشن هجمات خاطفة لاغتيال بعض رجالاتها
المتهمين بالإرهاب [35] ، وقد قامت الحكومة الأثيوبية في شهر رمضان الماضي
بمساعدة الضباط الأمريكيين للدخول سراً إلى بيدوا للاتصال بميليشيات بيدوا التي
تدعمها الحكومة الأثيوبية غرب مقديشو [36] لهذا الغرض.
وربما تكون ضربتهم المزعومة عن طريق تغيير عام وتغييب للثقافة المنتشرة
في أطراف الصومال اليوم، وأقصد بها الثقافة العربية الإسلامية، وذلك بتولي
المؤسسات التعليمية عن طريق هيئة الأمم المتحدة وعبر منظماتها المختلفة.
ولكن الضربة الحقيقية التي تريد أمريكا توجيهها للصومال هي اختيار حكومة
موالية لها وقادرة على التغيير المطلوب في ملاحقة المطلوبين في قائمة أمريكا
السوداء - ولذا فهي تهيئ اليوم تلك الحكومة لتخرجها لنا في ثوب مقبول كما فعلت
في حكومة كارازاي - إلا أن هناك معارضة كبيرة من أثيوبيا، والاتحاد الأوروبي؛
فأثيوبيا لا تريد حكومة مركزية قوية في الصومال مهما كان نهجها واتجاهها؟!
وأوروبا تريد تقاسم الكعكة بالسوية؛ لأن لها تاريخاً استعمارياً في تلك البقعة،
فلا تريد أن تخسره حفاظاً على ماء وجهها الذي بدأ في الجفاف أمام الهيمنة
الأمريكية.
ومع ذلك فقد قررت أمريكا التدخل مرة رابعة في الصومال بعد أحداث 11
سبتمبر، وهي تهيئ الشعب الأمريكي لهذا التدخل؛ رغم القرار الذي اتخذه كلينتون
بعدم التدخل في هذه البلاد.
ومن العجيب أن البنتاجون قدم مساعدات مالية ولوجستية إلى هوليود
(السينمائية) لإنتاج وإخراج فيلم: (سقوط الصقر الأسود الأمريكي في الصومال)
والذي يستحق كما يقال جائزة الأوسكار في المونتاج والصوت، وقد شارك فيه
المونتير الإيطالي بيترو سكاليا (صوتياً بالموسيقى) .
في بداية الفيلم يقول أحد القواد العسكريين عن سبب التدخل الأمريكي في
الصومال (وهو يرفع النبل الأمريكي لنشر الحق والحرية في أنحاء المعمورة) :
هذه دولة فقيرة بلا مستقبل، إما أن نساندها أو ندعها تموت..!!
ولسان حال الفيلم في نهايته الحربية المؤثرة يقول: إن قرار كلينتون بعدم
التدخل في مثل هذه البلاد ليس قراراً صائباً، فقدر الأمريكان أن ينشروا السلام
والحق والحرية والحب في العالم، وهذا لن يتحقق إلا بالقوة والتضحيات، وإلا
فسيسقط هذا الصقر الأسود رابعة.. والأيام حبلى بكل جديد؟!
__________
(*) رئيس لجنة الصومال وجيبوتي في المنتدى الإسلامي.
(1) جذور النزاع الصومالي، محمد حسن علي.
(2) أمتي في العالم (مركز الحضارة للدراسات السياسية) محمد عاشور.
(3) الفصائل ذات الصبغة القبلية، انظر الجدول رقم: 1.
(4) الصومال وجذور المأساة الراهنة، د/ علي الشيخ أحمد.
(5) أمتي في العالم، محمد عاشور.
(6) المصدر السابق.
(7) دعوها فإنها منتنةٌ - من الحديث الشريف.
(8) جذور النزاع الصومالي، محمد حسن علي.
(9) أمتي في العالم، محمد عاشور.
(10) صحيفة الإندبندنت البريطانية في 4/12/2001م.
(11) المصدر السابق.
(12) الأهرام، 8 ذو الحجة، 1422هـ، عدد 42079.
(13) الحياة، يوسف الخازم، عدد 14080.
(14) ما أن أكمل محمد عقال صف اللؤلؤة الأخيرة من عقد جمهوريته المزعومة لإعلان استقلالها عام (1991م) وبدأت مظاهر الاحتفالات بالذكرى 11 لإعلان استقلالها حتى نمى إلى مسامع مواطنيها نبأ وفاته في جنوب أفريقيا إثر عملية جراحية له أجريت في العشرين من صفر 1423هـ، مخلفاً وراءه الحكومة الانتقالية برئاسة كاهن ريالة من قبيلة إسحاق قدبورسي.
(15) صحيفة ذي ديلي تلجراف البريطانية، 11 ديسمبر 2001م.
(16) الحياة، عدد 14154.
(17) الأهرام، عدد 42023.
(18) الأهرام، عدد 42034، وعدد 42033، وعدد 42007.
(19) الأهرام، 25/10/1422هـ، عدد 42037.
(20) الأهرام، عدد 42031.
(21) الأهرام، عدد 42006.
(22) مجلة الإكسبريس الفرنسية، الأهرام، عدد 42013.
(23) جذور النزاع الصومالي.
(24) الأهرام، عدد 42929.
(25) الأهرام، عدد 42037.
(26) الأهرام، عدد 42070.
(27) المواقف الدولية والإقليمية تجاه الأزمة الصومالية، د / نجوى الفوال.
(28) الأهرام، عدد 42013.
(29) الصومال وجذور المأساة الراهنة.
(30) المصدر السابق.
(31) الحياة، نهلة الشهال، عدد 14186.
(32) جريدة الحياة، العدد (14267) ، 29/1/1423هـ.
(33) الأهرام، عدد 42031.
(34) الأهرام، عدد 42056.
(35) صحيفة الإندبندنت البريطانية، في 4/12/2001م.
(36) صحيفة ذي ديلي تلجراف البريطانية، 11/12/2001م.(176/66)
المسلمون والعالم
النظام العالمي الجديد.. ستار الهيمنة
د. عبد الله بن هادي القحطاني [*]
لقد أصبح الوعي الثقافي أكثر انتشاراً بين الناس في أقطار شتى وخاصة مع
التطور المضطرد في وسائل الاتصال الذي تعدى كل توقع. ومع سقوط الشيوعية
بأفول نجم الاتحاد السوفييتي السابق وكثير من الدول الشيوعية، ظهرت أطروحات
تدفع إلى تبني قوانين وأخلاقيات ومبادئ عالمية جديدة لتحكم العلاقات بين شعوب
العالم.
ومنذ زمن ليس بالبعيد تم اقتراح فكرة ما يطلق عليه بـ «النظام العالمي
الجديد» من علا منبر هيئة الأمم المهترئة لفرض قوانين ومبادئ أحادية الرؤية
على شعوب الأرض. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: مبادئ من؟ قوانين من؟
نظام حياة من سوف يفرض على العالم تبنيها؟ إنه نظام الحياة الأمريكي المطروح
بقوة الإعلام، والمال، والسلاح. أليست الولايات المتحدة هي القوة البشرية
العظمى اليوم كما أنه يقع على كاهلها أكثر العبء المالي لمنظمة الأمم المتحدة؟
والذي ما فتئ كثير من الساسة الأمريكان في الضرب على هذا الوتر لكي تتجاوب
الأمم المتحدة أكثر للمصالح الأمريكية.
وفي هذا الإطار يقول الكاتب الأمريكي المؤثر في مجلة الشؤون الخارجية
(Affairs Foreign) : «إن فرصة أحادية التحكم في العالم وتوجيهه وفقاً
لمصالح الولايات المتحدة ورؤيتها قد حان، وعلى الولايات المتحدة الواثقة من
قدرتها أن تمارس دورها الجديد» .
ونتسأءل عن إخفاق البحبوحة الاقتصادية والقوة العسكرية والتأثير على
مجريات الأحداث في العالم في أن تجلب السعادة والشعور بالأمن والراحة النفسية
للملايين من الأمريكان؛ فلقد حطمت المخدرات، والإدمان، والجريمة، والتفكك
الأسري والاجتماعي حياتهم. هل يستطيع ذلك النظام الذي عجز أن يستأصل
التفريق العنصري ضد السود والأقليات الأخرى أن يحقق العدالة بين سكان العالم؟
أو ربما يحل مشكلة الطبقية الاجتماعية في الهند على سبيل المثال؟
هل يستطيع نظام الحياة الأمريكي الذي تسبب في ازدياد مشكلة المشردين
والإدمان والجريمة في أمريكا أن يقدم الحلول الناجعة لمشكلة الفقر بين ملايين سكان
العالم في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية؟ كل هذه الأسئلة وغيرها كثيراً ما تطفو
على السطح عندما نسمع مزاعم ف. س. نيبول (Nipaul) وهو يقول: «إن
الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية التي توائم كل البشر» . ولكنَّ شاهداً من
أهلها يرد عليه قائلاً: «إن الولايات المتحدة عجزت أن تحقق الأمن في شوارعها
وحتى في عاصمتها، ناهيك عن باقي دول العالم» وهذا الشاهد هو ديفيد قرقن
(Gergen David) رئيس تحرير مجلة يو إس نيوز أند ورلد ريبورت
(Report World and Newes US) الواسعة الانتشار. وقد يقول قائل:
إن النظام العالمي الجديد قد يتبنى نظم حياة البريطانيين أو الفرنسيين، أو الروس،
أو ربما نظام حياة الصينيين، أليسوا أعضاء دائمين في الأمم المتحدة وأن لهم
تأثيراً عالمياً كبيراً؟ ولكن هذه النظم أيضاً قد عجزت عن أن تجلب السعادة والأمن
لأممها ناهيك عن الأمم الأخرى.
ويجب أن نعي استحالة أن يختار شخص عاقل نظاماً يتعارض مع مصالحه
الخاصة، وكذلك الحال مع الدول؛ ولهذا فإن أي نظام يفرض على العالم فهو سوف
يخدم فقط، وبدون شك مصالح أصحاب القدرة على فرضه على حساب الآخرين.
وهذا قرقن أيضاً يؤكد على هذه القضية بقوله: «إن الشعب الأمريكي
ومن خلال استطلاع للرأي الذي قام به مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية
(Chicago Council for Foreign Relations) قد أبدى رأيه حول
أولويات السياسة الخارجية الأمريكية بأن تكون وفقاً للآتي:
1 - المحافظة على وظائف العاملين من الأمريكيين.
2 - حماية مصالح الأمريكيين العاملين في الخارج.
3 - تأمين تدفق كمية كافية من الطاقة.
وكما يقول التقرير حول الاستطلاع فإن الأمور الإنسانية كانت من أقل الأمور
أهمية، بل إن الإشارة إلى المساعدة على انتشار الديمقراطية كانت في ذيل قائمة
المشتركين في الاستطلاع.
فهل من الممكن لأمة هذه اهتماماتها أن ترعى حقوق البشر الآخرين وتحقق
العدل والسعادة لهم؟ ولم يوارب هنتنجتون (Huntington) في تبيين الأسس
التي تعين الغرب على فرض مصالحهم في العالم؛ حيث قال:» إن الغرب بالفعل
يقوم بتوجيه المؤسسات الدولية ويملك القوة العسكرية والإمكانيات الاقتصادية
ليسيطر على العالم بطريقة تحمي مصالح الدول الغربية، ويفرض هيمنتها،
ويروِّج للمبادئ السياسية والاقتصادية الغربية «.
ولهذا فإن مفهوم مبادئ النظام العالمي الجديد الغربية يعني الاستسلام الكامل
للتعاليم والقيم والقوانين التي يفرضها ذلك النظام، ومن الطبيعي أن نتاج ذلك
الاستسلام هو استعلاء المنظور المادي العلماني للحياة والكون، ولكنه سوف يكون
من غير الممكن إجبار الناس على التسليم طواعية وبحرية لهذا النظام البشري
الابتزازي؛ لأنه سوف يكون غير عادل ويكيل بمكاييل، ويعكس نقص البشر
ورغبتهم في تحقيق مصالحهم على حساب الآخرين.
لذا فإن القبول والتطبيق الكامل لهذا النظام العالمي الجائر بعيد المنال،
وسوف يكون له آثار عكسية كما هو الحال مع الأنظمة العالمية القديمة مثل
الاستعمار والشيوعية وهرطقات العصور الوسطى والرأسمالية الحديثة.
ومما لا شك فيه أن غالبية سكان العالم في حاجة ماسة لنظام حياة يحل لهم
مشاكلهم ويجيب عن تساؤلات حيرتهم حول وجودهم ومستقبل أمرهم.
وبعد تزايد مستويات الفساد والعنف في العالم بأسره فإن البشرية تبحث عمَّن
ينقذها مما هي فيه؛ فالبعض ظن أنه قد وجد حلاً سهلاً في الانتحار، والآخر في
المخدرات، وهلم جراً؛ وبهذا فلا عجب أن يعيش العالم اليوم في حالة من الفوضى
الأخلاقية والروحية التي نتج عنها اضطراب في كل ميادين الحياة؛ فلقد جربت
البشرية في تاريخها الحديث جمل النظريات الاجتماعية والاقتصادية، وكل نظرية
لم تكن بأحسن من سابقتها، ولكن للأسف أن ما جرب من تلك النظريات قد أثبت
إخفاقه، وكل ما أخفق منها يعاد تجربته مرة أخرى.
فهل هناك مخرج من هذه الفوضى؟ هل هناك خيار جُرِّب ونجح، وكل
يتجنب تطبيقه، وهو الخيار الوحيد كما يقول مراد هوفمان سفير ألمانيا السابق في
المغرب وغيره كثير من المفكرين الغربيين الذين هداهم الله للإسلام، في كتابه
(الإسلام كبديل) ..؟ نعم! إنه دين الله الذي لا تتحكم فيه مصلحة وأهواء
البشر، وإنما هو نظام عالمي رباني لكل البشر.
__________
(*) أستاذ مشارك في قسم اللغة الإنجليزية، جامعة الملك خالد أبها.(176/74)
المسلمون والعالم
الجزائر بين أبناء باديس وأبناء باريس
يحيى أبو زكريا [*]
يقابل السجال الأمني الذي باتت الجزائر مسرحاً له على امتداد الولايات
الجزائريّة التي شهدت في المدّة الأخيرة العديد من أعمال العنف، والتي امتدّت
أيضاً إلى مناطق الشرق الجزائري يقابله سجال لا يقل خطورة وحدّة عن السجال
الأمني وهو مشروع الدولة في الجزائر والخط السياسي والفكري والأيديولوجي الذي
يجب أن تكون عليه الدولة الجزائريّة.
وقد أعاد اللواء المتقاعد خالد نزار هذا السجال بقوّة إلى الساحة الجزائريّة من
خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في الجزائر العاصمة ليعلن أنّه يطالب
الجزائريين بالخيار بين المشروع الديموقراطي والمشروع الإسلامي، ودافع نزار
بقوّة عن قيامه بإلغاء الانتخابات الاشتراعيّة التي فازت فيها الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ
سنة 1991م، واعتبر أنّ ما قام به كان صحيحاً، وكان خالد نزار يدلي بهذه
الأقوال على هامش إعلانه عن رفع دعوى قضائيّة في فرنسا ضدّ الملازم حبيب
سوايدية الضابط الجزائري اللاجئ في فرنسا الذي كتب كتاباً بعنوان: الحرب
القذرة في الجزائر، وفيه يتهم الجيش الجزائري باقتراف المجازر التي كانت
تشهدها الجزائر في فترات متفاوتة والذي حكمت عليه محكمة جزائريّة بالسجن لمدّة
عشرين عاماً. وفي مؤتمره الصحفي طالب نزار الديموقراطيين والعلمانيين
بالتكاتف والتحالف لمواجهة المشروع الأصولي الذي ما زال حسب زعمه يهدد
الجزائر. وقد أبدت أوساط الرئاسة الجزائريّة استياءها من هذه التصريحات وتمنّت
أن يبقى خالد نزار صامتاً. وقد كشف نزار أنّ الحفاظ على جزائر علمانيّة
وديموقراطيّة كلف الجزائر 200 ألف قتيل منذ إلغاء المسار الانتخابي. وتزامنت
تحركات خالد نزار في الساحة السياسيّة الجزائريّة مع مجموعة من كبار المتنفذين
في المؤسسة العسكريّة المتقاعدين الذين قرروا مواجهة الحملات الاعلاميّة التي
تستهدفهم وتحملهم مسؤوليّة اقتراف المجازر، مع تحركات مماثلة يضطلع بها
الموقعون على نداء الأمّة وهم مجموع الحركات الوطنية والإسلاميّة والشخصيّات
الوطنية والإسلاميّة والمطالبون بإطلاق سراح كافة المعتقلين وعلى رأسهم قادة
الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، وإجراء مصالحة وطنيّة شاملة، وجعل الإسلام واللغة
العربيّة من مرتكزات الدولة الجزائريّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الموقعين على هذا
البيان قد فاق عددهم مليون ونصف المليون من الجزائريين لحدّ الآن، وقد اعتبر
رئيس حركة النهضة الإسلاميّة الحبيب آدمي أنّ هذا البيان هو بمثابة أول نوفمبر
جديد - أول نوفمبر ذكرى اندلاع الثورة الجزائريّة في تشرين الثاني نوفمبر
1954م -. وقد وزع اللواء خالد نزار بياناً على الصحافة الجزائريّة والعالميّة في
الجزائر جاء فيه: إن الجزائر كادت تسقط في هاويّة نظام ثيوقراطي شمولي
متخلّف كان سيفرض وطأته عليها لعقود من الزمن، إلى آخر البيان.. وتأتي
تحركات اللواء خالد نزار هذه في وقت يجري فيه الحديث عن اتصالات بين
الأجهزة الأمنيّة والجماعة السلفيّة للدعوة والجهاد بقيادة حسن حطّاب في محاولة
لاستدراجها إلى صفقة مشابهة كالصفقة التي جرت بين الاستخبارات الجزائريّة
والجيش الإسلامي للإنقاذ الذراع العسكريّة لجبهة الإنقاذ الإسلاميّة. وقد قرر نزار
خوض معركته في وقت ارتفعت فيه أصوات في الجزائر تطالب بتقديم كل
الجنرالات الذين أوقفوا المسار الانتخابي الذين أدخلوا الجزائر في دوّامة العنف
والذين كان على رأسهم اللواء خالد نزار. وحسب خالد نزار والمجموعة العسكريّة
التي ساندته في إلغاء الانتخابات التشريعيّة فإنّ عبد العزيز بوتفليقة قد تخلّى عنهم
وأنّهم يشعرون بالإهانة بسبب ذلك؛ لأنّ العهد الحالي لم يدافع عنهم بصورة كافية،
وقد استقبل بوتفليقة هذه الرسائل وردّ بطريقة غير مباشرة في جريدة لكسبريسيون
المقربة من الرئاسة حيث كتب رئيس تحريرها موضوعاً افتتاحياً طالب فيه نزار
التزام الصمت، واعتبر أنّ صمته أفيد للجزائر والجزائريين على حدّ سواء،
واعتبرت الصحيفة أن خالد نزار هو المسؤول عن إدخال الجزائر في أتون حرب
أهليّة راح ضحيتها لحد الآن 200 ألف قتيل باعتراف خالد نزار في مؤتمره
الصحفي.
وقد فهم المقربون من عبد العزيز بوتفليقة أنّ إقحام نزار أنفه مجدداً في
الساحة السياسية الجزائريّة وهو الذي ما فتئ يصرّح بعدم وجود أي علاقة بين
الجيش الجزائري والواقع السياسي أنّه سيزيد في إرباك الوضع الأمني والسياسي
في الجزائر؛ لأنّه سيحرج المؤسسة العسكريّة بادعائه أنّ الجيش كان محقّاً في إلغاء
الانتخابات التشريعية التي فاز فيها الإسلاميون، كما أنّ نزاراً بتصريحاته سيجعل
التيارات الإسلامية والوطنية التي يحاول بوتفليقة التواصل معها في موقع شكّ في
السلطة حيث إن أحد أبنائها البررة خالد نزار يطالب العلمانيين والديموقراطيين
والاستئصاليين بإعادة توحيد الصفوف لمواجهة المشروع (الأصولي) في الجزائر،
وتعتبر الدوائر الجزائريّة أنّ إضافة هذا الشرخ إلى تراكمات وتداعيات الأزمة
البربريّة سيزيد في تفاقم الوضع الجزائري المقبل ويؤدي إلى تطورات خطيرة
وخصوصاً في مناطق القبائل!
* الصراع حول المنظومة التربويّة بين دعاة الأصالة والتغريب في الجزائر!
إنّ اغتيال الجزائر دوراً وفعّالية وتأثيراً في فضائها الجغرافي والفضاءات
العربية والإسلامية والثالثيّة لم ينجز مع بداية خريف الغضب في سنة 1988م، أو
مع بداية الفتنة الكبرى التي تزامن تدشينها مع إلغاء المسار الانتخابي في بداية
1992م، وانّما اغتيال الجزائر بدأ مع بدايات الاستقلال الناقص الذي لم تكن أثناءه
الاستراتيجيّة التربوية همّاً سياسياً وهمّاً استراتيجيّاً. فالصراع بين رفاق السلاح،
واستحواذ التكنوقراط الفرانكفونيين والفرانكوفيليين على مقاليد الادارة وتهميش حملة
الثقافة العربية والإسلاميّة وجعل الناهلين من المرجعية العربية والإسلامية في
مصاف المعارضين للخطّ الرسمي الذي كان مجسداً في الأدبيات اليساريّة والشيوعية
كل ذلك حال دون انبثاق استراتيجية تربوية منسجمة مع المناخ الثقافي والنسيج
الاجتماعي الجزائري، وكما كتبت في مجلة الناقد البيروتية ذات يوم أنّ الأخطاء
الكبرى في حياة الدول والشعوب لها منطلقات سنكتشفها حتماً لدى تتبعنا لمسيرة هذه
الدولة أو تلك، وحرب البنادق في الجزائر سبقتها حرب مرجعيات وأصوليّات.
وإنّ المنظومة التربويّة ليست مجرّد مناهج في هذا العلم أو ذاك، وتهدف إلى
الرقيّ بحياة الفرد والمجتمع في مدارج الحضارة.
إنّ المنظومة التربوية هي بمثابة الرؤيا والمسلكيّة التي سيكون عليها المجتمع
بعد ظرف زمني معين، ويمكن لأيّ باحث أن يستكشف فعالية مجتمع ما ومستواه
من خلال إمعان النظر في المنظومة التربويّة التي تستجمع كل العوامل لبناء مجتمع
أو هدمه، ومن هنا اندرجت المنظومة التربويّة في الدول التي تعي مغزى هذه
المعادلة ضمن الاستراتيجيات؛ ففي السويد مثلاً حيث أقيمُ يذهب ثلث ونصف
الثلث من ميزانية البلديّة التي لها استقلاليّة كاملة إلى قطاع التعليم والمنظومة
التربوية، والبحوث قائمة على قدم وساق حول تطوير المناهج بما يصبّ في خدمة
حضارية السويد، ولا ينبغي أن ننسى أنّ تاريخ السويد من المرحلة الوثنية إلى
المرحلة (المسيحية) إلى المرحلة الراهنة مادة ضرورية من التعليم الابتدائي وإلى
الجامعي، ولا يوجد في السويد من يقول إننّا أمة متحضرة ديموقراطيّة مرفهة؛
فكيف ندرّس أبناءنا تاريخ الفايكينغ مثلاً؛ بينما في الجزائر هناك مجموعة من
الذين أنجبتهم الجزائر بعمليّات قيصريّة يطالبون بالتنكر لأكثر المراحل حساسة في
تاريخ بلدهم؟ إنّ عدم رسم منظومة تربويّة من سنخ [1] المجتمع الجزائري ومن
وحي تطلعاته ورؤاه أدّى إلى تمزيق المجتمع، وإلى إقامة جزر غير مترابطة فيما
بينها، وحتى لما تأكد لبعض صنّاع القرار من أنّ الثقوب الصغيرة في الجدار
الاجتماعي وفي الجدار التربوي قد تتحوّل إلى فوهات بل إلى براكين فإنّهم استماتوا
في اعوجاجهم، ولم يبادروا إلى تصحيح الخطأ قبل تفاقم الأمور.
بين المنظومة التربويّة قبل الاستقلال والمنظومة التربوية بعد الاستقلال خيط
رقيق، ولم يجر للأسف الشديد القضاء على الموروث التربوي الاستعماري الذي
أوجد لتخريج أجيال جزائريّة مغسولة الدماغ ومنقطعة عن أي أنتماء، وبدل أن
يكون التغيير جذريّاً بعد الاستقلال فإن دار لقمان بقيت على حالها، وكما يقول أحد
رموز تلك المرحلة أحمد بن بلة فإنّ الثوّار كانوا يفتقدون إلى استشراف المستقبل
ووضع استراتيجية في ضوء هذا المستقبل.
وحدث أن عيّن على رأس وزارة التربية أشخاص لا يؤمنون قيد أنملة بهوية
الجزائر التي صاغها الإسلام بشكل حضاري، وأقصد مصطفى لشرف الذي ازدهر
التغريب في عهده في وقت كان فيه بومدين يردد بعض شعارات الأصالة المشفوعة
للأسف الشديد بواقع تغريبي.
وقد بقي لشرف في منصبه إلى تاريخ وفاة هواري بومدين، وظلّت المدرسة
الجزائريّة على حالها وهو الذي كان يقول: إنّ اللغة العربيّة لغة ميتة لا تصلح لغة
حضارة! إنّ التأخر في حسم هويّة الجزائر هو الذي يؤدّي إلى مزيد من إراقة
الدماء فيها، ولا شكّ أن أبناء فرنسا في الجزائر قد لعبوا أكبر الأدوار في تمزيق
الجزائر المعاصرة، لتتحقق بذلك مقولة الجنرال شارل ديغول وهو يغادر الجزائر
في سنة 1962م مطروداً بقوّة الثورة الجزائريّة ومفاد مقولته أنّه «سيعمل على أن
تنتهي الجزائر بالضربة القاضيّة بعد ثلاثين سنة» .
وبعد ثلاثين سنة من استقلال الجزائر بدأت الزلازل تهب على البلاد، وكان
قدر الجزائر أن تتحرك هذه الزلازل السياسية والثقافية والأمنية والاقتصاديّة
والاجتماعيّة والعرقيّة دفعة واحدة وفي توقيت واحد، وهو ما حال دون احتواء هذه
الزلازل والتصدي لها.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.
(1) السنخ: الأصل.(176/76)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
كرامة حرب الإرهاب لروسيا
اتفقت روسيا وحلف شمال الأطلسي على تشكيل مجلس جديد للقرارات
المشتركة لمكافحة الإرهاب وغيره من التهديدات الأمنية، وبذلك تدخل روسيا عملية
اتخاذ القرارات في الحلف للمرة الأولى. وقد تم التوصل إلى الاتفاق الجديد
بحضور وزراء خارجية دول الحلف ووزير خارجية روسيا إيغور إيفانوف في
العاصمة الإيسلاندية ريكيافيك، وقال وزير الخارجية الأمريكي كولن باول: إن
الاتفاق يعني صفحة جديدة في العلاقات مع روسيا وغيرها من جمهوريات الاتحاد
السوفييتي السابق مع الحفاظ على قدرة حلف شمال الأطلسي على العمل باستقلالية.
وجاء الاجتماع بعد يوم واحد من إعلان الولايات المتحدة وروسيا اتفاقًا تاريخيًّا
لخفض ترساناتهما النووية بمعدل الثلثين في السنوات العشر القادمة. وقال الأمين
العام لحلف شمال الأطلسي جورج روبرتسون إن الاتفاق شراكة تاريخية. وقال
وزير الخارجية البريطاني جاك سترو إن الاتفاق يمثل «جنازة الحرب الباردة»
ويقول مراسل بي بي سي للشئون الدفاعية جوناثان ماركوس إن المجلس الذي
سيجتمع مرة في الشهر سيكون بداية جديدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في
الولايات المتحدة. وسيضع المجلس الجديد روسيا على قدم المساواة مع أعضاء
حلف شمال الأطلسي للمرة الأولى. ويمهد المجلس الطريق لاتخاذ قرارات مشتركة
تتعلق بقضايا كثيرة بما فيها مكافحة الإرهاب والسيطرة على التسلح وحفظ السلام
والتعامل مع الأزمات الإقليمية، وقال باول إن حلف شمال الأطلسي يجب أن يستعد
لتحديات جديدة خارج الحدود الأوروبية. وقال: «إن التحديات التي يتعين على
حلف شمال الأطلسي مواجهتها في المستقبل لن تكون في وسط أوروبة ويجب أن
يكون للحلف القدرة على التحرك بسرعة» .
[موقع هيئة الإذاعة البريطانية، www.bbcarabic.com]
المرء مع من أحب
قال محمد رشيد المستشار الاقتصادي لرئيس السلطة الفلسطينية: «أنا مستعد
للذهاب إلى جهنم من أجل السلام، ولكن لست مستعدًا للذهاب إلى الجنة من أجل
الإرهاب» على حد ثرثرته. وجاءت تصريحات رشيد التي تناقلتها وكالات الأنباء
خلال الحفل الموسيقي الحاشد بالفاتنات والذي نظم على مدرج روما لتشجيع
«السلام» برفقة سفاح مجزرة قانا الإرهابي شمعون بيريس، وبعد أن قام
رشيد بمصافحته في اللقاء الذي ضم أيضًا مطربين عربًا ويهودا. وأثارت
تصريحات رشيد غضبًا عارمًا بين الفلسطينيين لا سيما في قطاع غزة الذي تتمتع فيه
الحركات الإسلامية بشعبية واسعة. يذكر أن رشيد يتفاوض باسم الفلسطينيين مع
الاحتلال، كان ضالعا في إبرام صفقة تسليم مقاومي الجبهة الشعبية، وهو ضالع
أيضًا في إبرام صفقة إبعاد الفلسطينيين الذين كانوا متحصنين في كنيسة المهد،
ويقول الفلسطينيون: إنه المسئول عن كازينو أبيحا المشبوه الذي يعتبر أحد رموز
الفساد في فلسطين.
[صحيفة السبيل العدد 435]
هذا ما فعلته العمليات الاستشهادية
أعلن السيد عبد العزيز الرنتيسي المتحدث باسم حركة المقاومة الفلسطينية
(حماس) أن ما يقرب من مليون إسرائيلي هربوا من فلسطين المحتلة بسبب
العمليات الاستشهادية التي تريد السلطة الفلسطينية إيقافها. وقال الرنتيسي في
حديث مع التليفزيون المصري: إن عددًا كبيرًا من رؤوس الأموال الإسرائيلية
سحبت من (إسرائيل) وأن الشلل قد أصاب الحياة داخل (إسرائيل) .. وكذلك
أصيبت السياحة بأضرار بالغة بسبب تلك العمليات مشيرا إلى إيقاف المفاوضات مع
العدو الإسرائيلي وطالب الفلسطينيين بالتكتل صفا واحدا. وطالب الرنتيسي من
الأمة العربية والإسلامية أن تقف بجانب المقاومة الفلسطينية معتبرا أنه عندئذ لن
يستطيع اليهود الصبر لمدة عام واحد على تلك المقاومة، وحينها سيأتي اليهود
صاغرين، ويستطيع الفلسطينيون في هذا الوقت فرض إرادتهم. وأشار الرنتيسي
إلى ما حدث في مؤتمر مدريد عندما وُجَّه سؤال إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي
شامير حول موعد إقامة السلام فرد شامير قائلا: حينما يأتي المسيح.
[جريدة الرياض، العدد 12379]
فضائح كنسية
كشفت دراسة أمريكية عن أن 167 قسا كاثوليكيا أمريكيا قد نقلوا من مواقعهم
الكنيسة منذ تفجر فضيحة الاعتداءات الجنسية على الأطفال التي ضربت الكنيسة
الكاثوليكية في الولايات المتحدة. وقالت وكالة أسوشيتدبرس للأنباء التي أجرت
المسح إن عدد القساوسة الذين أوقفوا عن ممارسة واجباتهم الدينية ربما يكون أكبر
من ذلك، لأن الكثير من الأبرشيات ترفض الكشف عن الأعداد الحقيقية. وقد
جاءت هذه النتائج في الوقت الذي كشف فيه استطلاع للرأي أجري في الولايات
المتحدة عن تراجع ثقة الأمريكيين في الكنيسة حيث أشار الاستطلاع إلى أن نصف
الأمريكيين فقط لديهم انطباع إيجابي عنها. وقالت أسوشيتبرس إن عدد القساوسة
الذين سلمت أوراقهم إلى الشرطة قد ارتفع إلى 260 قسا منذ تكشف أبعاد الفضيحة
قبل شهور قليلة. ويشير المسح الذي أجرته الوكالة إلى أن 550 شخصا قد أثاروا
مزاعم ضد رجال دين مسيحيين في ولايتي ماسوشيستس ومين فقط. وقد أظهرت
هذه الاستطلاعات تباين الوسائل التي اتبعتها الولايات المختلفة في التعامل مع
الفضيحة، إذ فضل بعضها تقديم المعلومات المتوافرة إلى الشرطة في حين قررت
ولايات أخرى مراجعة السياسات الخاصة بالأبرشيات. ويبدو أن الاجتماع الذي
عقده بابا الفاتيكان مع الكرادلة الأمريكيين كان يهدف لعلاج عدم الانسجام في
السياسة الكنسية تجاه الفضيحة. وقد قوبل الاجتماع بانتقادات بسبب عدم صدور
قرار صريح عنه يجيز عزل القساوسة الذين يثبت اعتداؤهم على الأطفال.
[موقع الإذاعة البريطانية، www.bbcarabic.com]
هل من شاجب أو مدين؟!
سمحت سلطات الرقابة في إسرائيل بنشر تفاصيل تتعلق بكشف أجهزة الأمن
الإسرائيلية عن تنظيم سري يهودي خطط لتنفيذ عمليات ضد العرب. فقد اعتقلت
قوات الأمن أربعة مستوطنين يشتبه بأنهم كانوا في طريقهم إلى تنفيذ عملية تفجيرية
كبيرة في شرقي القدس. ومددت الشرطة فترة اعتقال الأربعة، حيث يخضعون
إلى التحقيق من قبل جهاز الأمن العام (الشاباك) . ويفحص الشاباك والشرطة في
الوقت الحالي العلاقة بين أفراد الخلية اليهودية وبين ثمانية عمليات نفذت في
المناطق الفلسطينية خلال فترة الانتفاضة الفلسطينية. وعلى وجه الخصوص،
علاقتهم بالعملية التفجيرية في مدرسة البنين في صور باهر القريبة من القدس،
وعملية تفجيرية أخرى نفذت بالقرب من قرية حزمة. وقال العقيد ميكي ليفي، قائد
لواء القدس: إن المواد المتفجرة التي تضبطت مع المتهمين، كانت ستسبب خسائر
بشرية ومادية فظيعة، لو أنها تفجرت. وعثرت الشرطة في العربة التي جرتها
سيارة الجيب على أسلحة غير مرخصة. وعثر خبير تفكيك المتفجرات الذي وصل
إلى المكان على عبوة ناسفة ضخمة، خطط تفجيرها في صباح اليوم التالي. واتهم
حاخامات يهود رجال التحقيق في الشاباك بتعذيب وضرب المعتقلين الأربعة. وجاء
في بيان وقع عليه 11 من الحاخامات اليهود من داخل وخارج الخط الأخضر:
«وصلتنا معلومات من شخصية معروفة، مفادها بأن المعتلقين الأربعة قد ضربوا
وعذبوا أثناء التحقيق معهم» .
[موقع يديعوت أحروتوت، www.arabynet.com]
المذنب الوضيع بوش
فاجأ الرئيس بوش جمهوره من السود في لوس أنجلوس حين أكد أنه مجرد
«مذنب ذليل وضيع» وتحدث عن «الإيمان» الذي أنقذه من الإفراط في
تعاطي المشروبات الكحولية. وفي معرض خطابه في منطقة جنوب وسط لوس
أنجلوس، حيث اشتعلت أعمال الشغب العنصرية قبل عشرة أعوام على
خلفية تعرض المواطن الزنجي رودني كينج للضرب حتى الموت قال بوش:
إن الله ساعده في تحويل مسار حياته. وأضاف بوش: الإيمان محفز قوي، ولقد
جربت بنفسي معنى الإيمان في حياة الإنسان، لذلك فإنني أذكر وأقول للناس إنني
لست سوى مذنب وضيع تخلص من الخطيئة ودعا بوش، الذي يعتبر من أكثر
الرؤساء الأمريكيين الحديثين إظهارا لسمة التدين، الكونجرس للموافقة على خطته
الرامية لمنح تمويل حكومي للجماعات الدينية للقيام بالبرامج الاجتماعية، وذلك في
وقت تبذل فيه الإدارة الأمريكية أقصى جهدها للضغط على البلدان لتجميد أرصدة
العديد من المؤسسات والجمعيات الإسلامية بحجة الاشتباه في مساهمتها بتمويل
ما تسميه بالإرهاب. ومضى بوش: «لا أريد للحكومة أن تكون كنيسة، ولا
أريد للكنيسة أن تكون حكومة لكن لا ينبغي للحكومة أن تخشى الإيمان والبرامج
التي تقوم على الإيمان» وهو ما يعيد للأذهان عبارته الشهيرة التي أشار بها
إلى «الحملة الصليبية» التي ستنشنها أمريكا على الإرهاب التي حاولت
الإدارة الأمريكية في ذلك الحين تسويغها باعتبارها زلة لسان غير مقصودة، وفي
تناقض صارخ مع السياسات الخارجية التي تنتهجها الولايات المتحدة دعا
بوش المواطنين ليكونوا جنودا في «جيش الإحسان» .
[صحيفة البيان، العدد " 7988 "]
انتبهوا للقدس
أكد خليل التفكجي الخبير في شئون الاستيطان ومدير دائرة الخرائط في بيت
الشرق المغلق أن الحكومة الإسرائيلية تستغل الوضع المتردي للفلسطينيين وتقوم
بحملة استيطانية واسعة في القدس وباقي الأراضي الفلسطينية. وقال التفكجي: إنه
في الوقت الذي كان فيه العالم منشغلا في أحداث الضفة الغربية والمجازر التي
وقعت على أيدي القوات الإسرائيلية هناك فإن الحكومة الإسرائيلية قامت باستغلال
هذه الظروف لتهويد مدينة القدس من خلال بناء المزيد من البؤر الاستيطانية في
المدينة. وقال التفكجي إن أكبر دليل على ذلك هو موافقة إسرائيل على إقامة
205 وحدات سكنية في رأس العامود، وتنتظر الحكومة الإسرائيلية عملية إدخال
المستوطنين إليها، وأضاف أن هناك محاولات لتوسيع عشرات البؤر الاستيطانية
منها بيت أوروت على جبل الزيتون من خلال زيادة الوحدات السكنية فيها وإقامة
بؤرة استيطانية جديدة في منطقة الثوري بالقرب من الأحياء الاستيطانية هناك.
وتابع يقول إنه في هذه المرحلة تجري محاولات للسيطرة على عدد من المنازل
الفلسطينية في منطقة الشيخ جراح.
[صحيفة الزمان، العدد 2104]
تنظيم لم يعتقل بعد
أرسلت جماعة مسيحية متركزة في وسط بريطانيا وبشكل سري عددا من
المنصرين إلى الدول الإسلامية. وقامت جماعة فرونتيرز (جبهات) التي تتخذ من
هايويكام في باكينغهام شاير بتشجيع أفرادها للعمل في مجالات الإغاثة والجميعات
الطوعية كغطاء لنشاطاتهم التبشيرية. وجاء تشجيع الحركة الدينية أعضاءها على
اتخاذ هذه الاستراتيجية من أجل الالتفاف على القوانين والرقابة التي تفرضها بعض
الدول الإسلامية على عمل مثل هذه الجمعيات التنصيرية في بلادها. وتقوم هذه
الاستراتيجية على محاولة اختراق المجتمعات الإسلامية ونشر الأفكار المسيحية بين
السكان المحليين، عبر نشاط سري يقوم به أعضاء الحركة، مما يقود في النهاية
لإنشاء كنيسة. وحسب أحد أعضاء الجميعة فإن الطريقة التي تعمل بها هذه
الاستراتيجية، قي قبول وظائف في مجال التعليم والطب والصحة، وعدم الذهاب
لهناك كمنصرين، ولكنهم يعرفون ماهية المهمة الملقاة على عاتقهم، وتقوم الجميعة
بالعمل في بريطانيا لتحقيق مهمتها منذ أكثر من عشرة أعوام دون أن تجذب إليها
أي اهتمام، ولديها الآن سبعون متطوعا بريطانيا، في شمال أفريقيا، الشرق
الأوسط، آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية. ويقوم قادة هذه الجمعية بتركيز
جهودهم على التنصير بين المجتمعات الإسلامية، ويعتقد قادتها أن عدد المعتنقين
للمسيحية بين المسلمين يمكن أن يزداد بعد الحملة الأمريكية - البريطانية ضد
الإرهاب. وكانت الجمعية قد أنشئت عام 1983 في أمريكا ولديها أكثر من ستمئة
مبشر عامل في 40 دولة إسلامية. وتقول المؤسسة المسيحية إن هدفها هو تمجيد
الرب من خلال زرع وإعادة إنتاج الكنائس بين المسلمين الذين لم يسمعوا عن كلمة
الرب، وعن طرائق تجنيد الأتباع والمبشرين، فالمبشرون يقومون بعملهم من
خلال مجموعات تتكون من 12 شخصا، ويخضعون لتدريب مكثف قبل إرسالهم
للعالم الإسلامي، حيث يتلقون دروسا في اللغة العربية، والثقافة الإسلامية،
ويدرسون القرآن.
[صحيفة القدس العربي، العدد 4035]
ألا تقتدون بأمريكا؟!!
تعتزم إدارة الرئيس الأمريكي جورش بوش تشجيع المؤسسات التعليمية على
العودة إلى مبدأ عدم الاختلاط بين الجنسين في المدارس، وذلك في إطار برنامج
لإصلاح نظام التربية في الولايات المتحدة. وأثار هذا المشروع ردود فعل متباينة
عندما أعلن في الثامن من الشهر الحالي في السجل الفدرالي (الصحيفة الرسمية
الأمريكية) وهو إجراء بعيد النظر في قانون يعود إلى ثلاثين عاما. واعتبر
البعض أن ما يريد البيت الأبيض فعله هو مواصلة العمل على تطبيق خطته
للإصلاحات المحافظة، في حين رأى البعض الأخر أن الفصل بين البنين والبنات
سيؤثر إيجابيا في مستوى التعليم. وجاء في الصحيفة الرسمية أن الوزير المختص
«ينوي اقتراح تعديلات (للتنظيمات المطبقة) تهدف إلى توفير هامش مبادرة
أوسع للمربين من أجل إقامة صفوف ومدارس غير مختلطة» . وأضافت الصحيفة
أن الهدف من هذا الإجراء هو توفير وسائل جديدة أفضل لمساعدة التلاميذ على
الانكباب على الدراسة وتحقيق نتائج أفضل، وأوضح مسئول كبير في البيت
الأبيض رفض الكشف عن اسمه أن الرئيس يسعى إلى توفير خيار أوسع للأسر
ومنح المدارس العامة مرونة أكبر. وأضاف أن المدارس الابتدائية والثانوية التي
تود الفصل بين البنين والبنات ستمنح تمويلا يفوق المدارس التي ستختار إبقاء
النظام المختلط. وقال البروفيسور إميليو فيانو وهو رجل قانون متخصص في
النظام التربوي في الولايات المتحدة إن العديد من الدراسات التي أجريت بإسهام
طلاب وطالبات أظهرت أن في بعض مراحل النمو «ينجز الفتيان والفتيات
دراستهم بطريقة أفضل حين لا يكونون مختلطين» . وقد أكدت الجمعية الوطنية
لتشجيع التعليم العام غير المختلط مؤخرا وجهة النظر هذه، فعرضت دراسة أجرتها
جامعة ميتشيغان في بعض المدارس الكاثوليكية الخاصة المختلطة وغير المختلطة،
مشيرة إلى أن الفتيان في المدارس غير المختلطة كانوا أفضل مستوى في القراءة
والكتابة والرياضيات، كما أن الفتيات في المدارس غير المختلطة حققن نتائج
أفضل من تلميذات المدارس المختلطة في العلوم والقراءة.
[موقع الجزيرة نت، www.aljazeera.net]
إلى دعاة حقوق الحيوان
خلال الأيام الماضية تم رسميا إبلاغ مئات العائلات الليبية بوفاة أقاربهم الذين
كانوا مسجونين لسنوات عديدة في سجون القذافي، دون إعطاء أي معلومات عن
تاريخ وفاة هؤلاء الإخوة الذين نسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء، ودون تقديم
معلومات عن أسباب وفاتهم ولا حتى مكان قبورهم. بل وزيادة في التنكيل بتلك
العائلات المكلومة والمظلومة لم يبلغوهم مسبقا بخبر وفاة ذويهم حتى تستعد هذه
الأسر نفسيا للتعامل مع الحادث البشع، بل أخبر بعض الأسر أن سيفرج عن
أبنائهم وذويهم، واستعدت تلك الأسر لإقامة استقبال يفرح فيه الأهل والجيران
والأصدقاء والأقارب بخروج ابنهم من السجن حيا، ولكنهم فوجئوا بالأمر الصاعق
حيث قيل لهم إن ابنهم قد توفي!
وتعاطفا من القذافي وزبانيته مع تلك الأسر سمحوا لهم على مضض بإقامة
عزاء علني يأتيه المعزون من الأهل والأقارب دون الأصدقاء والأصحاب، ومنذ
أيام قليلة نصبت الخيام في كثير من المدن الليبية وفتحت البيوت لإقامة المأتم
واستقبال المعزين دون أن يرتفع صوت قانوني أو قضائي واحد يطالب بإجراء
تحقيق بخصوص هذه المذبحة السريعة.
وتقدر التقارير والمعلومات المتوفرة عدد الذين قتلوا في سجن «بوسليم»
بطرابلس بنحو ألف وثلاثمائة مواطن.
إن هذه الكارثة الإنسانية تكشف عن عمق الخطر الذي أصبح يهدد الشعب
الليبي بأكمله، فالكل مهدد بالموت دون أي حقوق قانونية أو دينية أو إنسانية،
والإنسان في ليبيا يسجن دون أي تهمة، لا يسمح لأهله وأقاربه بزيارته، ولا
يسمح لأي منظمة إنسانية عالمية أو إقليمية بزيارة هذه السجون أو معرفة ظروف
المساجين والمعتقلين، وعندما يموتون أو يقتلون لا أحد يعرف كيف ماتوا أو كيف
قتلوا ولا لماذا قتلوا، ولا أحد يعرف أين دفنوا؟!!
[مجلة المجتمع، العدد 1499]
شاهدة هندوسية
اتهمت المؤلفة الهندية أرونداني روي الحاصلة على جائزة خاصة اتهمت
الكتاب الأصوليين الهندوس بالقيام بأعمال قتل منظمة ومخطط لها بحق المسلمين
في ولاية جوجارات وقيام حزب بهاراتيا جانتا الحاكم بدور في تلك العمليات
ورسمت روي مقارنة بين أعمال العنف الديني التي قام بها الهندوس في ولاية
جوجارات الغربية وبرنامج النازي لقتل اليهود والأقليات العرقية في أوروبا في
الثلاثينيات والأربعينيات. وقالت روي على صفحات الإصدار الأخير من مطبوعة
أوتلوك الأسبوعية، إن هناك اختلافا جوهريا بين مذبحة قطار سابارماتي إكسبريس
وعمليات القتل التي تلت ذلك. وقالت: بينما تعتبر مذبحة القطار من قبل المسلمين
عملا جنائيا، فإن الاعتداءات التالية من قبل هندوس «تمت على أحسن الأحوال
تحت سمع وبصر الولاية دون تحريك ساكن، وعلى أسوأ الأحوال بتواطؤ نشط مع
سلطاتها» ونقل عن روي قولها: «إن قادة الغوغاء (الهندوس) كان لديهم قوائم
على الكمبيوتر توضح منازل المسلمين، ومحالهم، وشركاتهم، بل وشركاءهم» .
وقالت «كان لديهم تليفونات محمولة لتنسيق العمل. وكان لديهم شاحنات محملة
بالآلاف من أسطوانات الغاز التي تم تخزينها مسبقا منذ أسابيع، والتي استخدموها
لتفجير المؤسسات التجارية للمسلمين، لم يتمتعوا فقد بحماية الشرطة وتواطؤ
الشرطة، بل أيضا تغطية الشرطة لهم بنيرانها، وأنحت روي باللائمة على حزب
رئيس الوزراء الهندي أتال بيهاري فاجبايي، حزب بهاراتيا جانتا، والمنظمات
التابعة له، بشأن استمرار سفك الدماء، وقالت إنه بعد تلقي الحزب هزائم مخزية
في الانتخابات الأخيرة، حاولت حكومة الحزب في جوجارات إثارة المشاعر
الطائفية للهندوس لإعادة الاستحواز على الأصوات. وقالت:» إن بصمة الفاشية
القاسية ظهرت في الهند. ودعونا لا ننسى هذا التاريخ: ربيع 2002م «.
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد 7986]
قاعدة» سوبر مودرن «
أشارت مجلة» درشبيجل «الألمانية إلى أن الأمريكيين باشروا ورشة بناء
ضخمة في قاعدة» العديد «بدولة قطر، التي تبعد مسافة نصف ساعة بالسيارة
باتجاه غربي العاصمة الدوحة، وذلك عبر تجهيزها بكافة الوسائل والإمكانيات
والتقنية المتطورة كي تتحول إلى أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، وصفتها المجلة
بتعيبر:» القاعدة سوبر مودرن «. وتضيف المجلة أن الحواجز والأسلاك
الشائكة تحيط حاليا بقاعدة» العديد «بينما يتواصل إقلاع وهبوط الطائرات
الحربية وطائرات النقل الأمريكية على مدار الساعة يوميا لبناء العنابر وتوسيع
مدرجات الطيران وزيادة طول بعض المدرجات إلى مسافة 4500 مترا. وترى
المجلة أن الأمر يبدو استعداد لحرب متوقعة على العراق تشنها الولايات المتحدة
الأمريكية في شهري يناير أو فبراير من العام المقبل. وتشير المجلة الألمانية إلى
أن الموقع الجغرافي لقاعدة» العديد «مثالي، فهي بعيدة عن مناطق في حالة
حرب مع العراق» كالكويت «وليست بعيدة جغرافيا، كعمان، وهي تبعد حوالي
مئة كيلو متر من حدود المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، وهذا ما
يخولها أيضا لتكون المركز» اللوجيستي «العسكري المثالي والعقل المخطط
لضرب نظام صدام حسين. وترى مجلة» درشبيجل «أن قطر ستستفيد من وجود
القاعدة العسكرية الأمريكية على أراضيها؛ لأنها تؤمن لها الحماية من اعتداءات
خارجية كما تساعد على توفير الأمن الداخلي، وقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية
منذ أشهر قليلة عملية نقل لمعداتها إلى قاعدة» العديد «في قطر، وتضمن ذلك
انتقال أسراب طائرات» إف-16 «وطائرات شحن ضخمة ومعدات تقنية
متطورة كالردارات وأجهزة التنصت الدقيقة.
[صحيفة الوطن السعودية، العدد 584](176/80)
مقالات معربة
المواثيق الدولية.. عندما تدوسها أمريكا
الكاتب: رتشارد دو بوف - مجلة زي ماغ
ترجمة: أحمد المكاشفي دفع الله [*]
يدفع رحم الدعاية الأمريكية في كل يوم بمصطلح سياسي جديد في ميدان
العلاقات الدولية والذي لا يلبث أن تتلقفه وسائل الإعلام العالمية لتبثه وتردده على
مسامع جمهورها في كل فج عميق. ومن أمثلة هذه المصطلحات: الإرهاب،
معاداة السامية، النظام الدولي الجديد، محور الشر والدول المارقة. وتطلق
الولايات المتحدة مصطلح الدول المارقة (states Rogue) على الدول التي
تخرج على الإجماع الدولي، بزعمها، لكنها في الحقيقة إنما تنعت بهذه الصفة كل
دولة تخالفها الرأي أو ترفض إملاءها أو تتمرد عليها. في المقال التالي يثبت
الكاتب بأدلة موثقة أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أحق الدول بهذه الصفة؛
وذلك لخروجها السافر والمستمر والموثق على الإجماع الدولي:
وإن كنا نعتقد أن المرجعية التي يجب أن يتحاكم إليها المسلمون ليس هي
المواثيق والقرارات الدولية، وإنما هي النصوص الشرعية، ولكننا أردنا التأكيد
على أن ما يسمى بالمواثيق الدولية إنما هي مجرد ألعوبة يصنعها الأقوياء ليذلوا بها
ضعفاء الشعوب!!
(المترجم)
1 - في شهر ديسمبر من عام 2001م، انسحبت الولايات المتحدة رسمياً من
اتفاقية 1972م للحد من الصواريخ البالستية. وقد كانت تلك أول مرة تُقدِم فيها
الولايات المتحدة على رفض إحدى الاتفاقيات المهمة للحد من التسلح.
2 - في عام 1972م صادقت 144 دولة من بينها الولايات المتحدة على
ميثاق الأسلحة البيولوجية والسمية لكن في شهر يوليو من عام 2001م، انسحبت
الولايات المتحدة من مؤتمر عقد بلندن لمناقشة بروتوكول جرى وضعه في عام
1995م، بغرض تعزيز الميثاق من خلال إدخال بند يسمح بتفتيش المنشآت
النووية، وقد أعلن مساعد وزير الخارجية الأمريكية في جنيف بسويسرا في عام
2001م، جون بولتين، أن «البروتوكول قد مات» ، متهماً في الوقت ذاته دول:
العراق، إيران، كوريا الشمالية، ليبيا، السودان، سوريا بخرق الميثاق لكن
دون توجيه تهم معينة أو أدلة تؤيد مزاعمه.
3 - في عام 2001م كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأولى التي
عارضت اتفاقية الأمم المتحدة للحد من تداول الأسلحة الصغيرة في العالم.
4 - فقدت الولايات المتحدة عضويتها في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم
المتحدة في شهر أبريل عام 2001م، وذلك إثر مماطلتها التي امتدت لسنين في
تسديد متأخراتها للأمم المتحدة (بما في ذلك مبلغ 244 مليون دولار المستحقة عليها
حالياً) ، وعقب ممارستها ضغطاً على الأمم المتحدة أسفر عن تخفيض حجم
مساهمتها في ميزانية الأمم المتحدة من 25% إلى 22% (كانت الولايات المتحدة
هي الدولة الوحيدة داخل لجنة حقوق الإنسان التي عارضت قرارات تهدف إلى
مساعدة الفقراء على الحصول على الأدوية المضادة لمرض الإيدز، والإقرار بحق
بني الإنسان في الحصول على حاجتهم من الغذاء، والدعوة إلى حظر عقوبة
الإعدام) .
5 - في شهر يوليو من عام 1998م صادقت 120 دولة على مشروع اتفاق
عقد بروما يقضي بإنشاء محكمة جنائية دولية يكون مقرها بلاهاي بهولندا تتولى
محاكمة الأشخاص، مدنيين وعسكريين، الذين توجه إليهم تهم ارتكاب جرائم حرب
وجرائم ضد الإنسانية. ورغم مصادقة الرئيس بيل كلينتون على الاتفاقية إلا أنه
أعلن أن الولايات المتحدة ستعارضها، إلى جانب ست دول أخرى من بينها الصين
وروسيا، وفي أكتوبر من عام 2001م كانت المملكة المتحدة الدولة الثانية
والأربعين التي صادقت على الاتفاقية، وفي شهر ديسمبر من عام 2001م،
أضاف مجلس الشيوخ وللمرة الثانية تعديلاً على مشروع عسكري يلزم أفراد الجيش
الأمريكي برفض الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة، وفي شهر أبريل من عام
2002م جرى الترتيب لبدء عمل المحكمة بعد أن صادق عليها 60 بلداً حاصلة
بذلك على النصاب المطلوب، إلا أن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن،
أعلنت أنها قد تنسحب من الاتفاقية [1] .
6 - في شهر ديسمبر من عام 1997م، وقعت 122 دولة في العاصمة
الكندية (أتَوَا) على اتفاقية الألغام الأرضية التي حظرت استخدام هذا النوع من
الألغام، ورفضت الولايات المتحدة التوقيع على هذه الاتفاقية منضمة إلى دول:
روسيا، الصين، الهند، باكستان، إيران، العراق، فيتنام، مصر، تركيا، وقد
علل الرئيس الأمريكي آنذاك، بيل كلينتون، رفضه للاتفاقية بحجة وجود حاجة
للألغام لحماية كوريا الجنوبية من أي هجوم قد تشنه كوريا الشمالية التي «تتمتع
بتفوق عسكري كبير على كوريا الجنوبية» ، وقد صرح كلينتون أن الولايات
المتحدة ستصادق على الاتفاقية بحلول عام 2006م، إلا أن خلفه الرئيس بوش
الابن نكث بذلك العهد في شهر أغسطس من عام 2001م.
7 - بروتوكول كيوتو: عقد هذا الاتفاق في عام 1997م، بهدف الحد من
الغازات التي تسهم في تدمير طبقة الأوزون وظاهرة الاحتباس الحراري وفي شهر
مارس من عام 2001م، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش انسحاب الولايات
المتحدة من الاتفاقية، ويجدر بالذكر أنه لم يحدث أن أعلنت دولة عن خروجها
الكامل من الاتفاقية، وتعد الولايات المتحدة أكبر مصدر لهذا النوع من الغازات إذ
إنها مسؤولة عن نسبة 20% من مجموع هذه الغازات في العالم.
8 - في شهر مايو من عام 2001م رفضت الولايات المتحدة الالتقاء بدول
الاتحاد الأوروبي لمناقشة قضايا تتعلق بالتجسس الاقتصادي والرقابة الإلكترونية
على المكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني ورسائل الفاكس، كما صعّدت،
في غضون ذلك، من معارضتها لمشروع «جاليلو» الأوروبي الذي يهدف إلى
إنشاء نظام للرقابة الجوية يمكنه منافسة منظومة الرقابة الجوية الأمريكية.
9 - رفضت الولايات المتحدة المشاركة في مؤتمر منظمة التنمية والتعاون
الاقتصادي الذي انعقد بباريس في شهر مايو من عام 2001م، وذلك للبحث عن
سبل لمحاربة ممارسات غسيل الأموال والتهرب الضريبي.
10 - في شهر فبراير من عام 2001م، رفضت الولايات المتحدة الانضمام
إلى مجموعة 123 دولة تعهدت بحظر استخدام وإنتاج الألغام والقنابل المضادة
للأشخاص.
11 - في شهر سبتمبر من عام 2001م انسحبت الولايات المتحدة من
المؤتمر الدولي حول العنصرية الذي شاركت فيه وفود حكومية من 163 بلداً بمدينة
دربان بجمهورية جنوب إفريقيا.
12 - كانت الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي عارض الخطة الدولية
لضمان مصادر نظيفة للطاقة، والتي طرحت كمشروع اتفاق على دول مجموعة
الثمانية الصناعية: (الولايات المتحدة، كندا، اليابان، روسيا، ألمانيا، فرنسا،
إيطاليا، والمملكة المتحدة) .
13 - في شهر أكتوبر من عام 2001م، أجازت الجمعية العمومية للأمم
المتحدة قراراً يدعو، وللمرة العاشرة على التوالي، لإنهاء الحظر الذي تفرضه
الولايات المتحدة على كوبا، وقد صوتت 176 دولة لصالح القرار في حين
عارضته ثلاث دول هي: الولايات المتحدة، إسرائيل، وجزر مارشال.
14 - اتفاقية الحظر الشامل على التجارب النووية، وقعت عليها 98 دولة،
من بينها فرنسا، بريطانيا العظمى وروسيا، ووقع عليها الرئيس الأمريكي السابق
بيل كلينتون في عام 1996م، إلا أن مجلس الشيوخ الأمريكي رفض المصادقة
عليها. وقد كانت الولايات المتحدة هي إحدى ثلاث عشرة دولة نووية ترفض
المصادقة على هذه الاتفاقية.
15 - في عام 1986م، قضت محكمة العدل الدولية بلاهاي بأن الولايات
المتحدة قد خرقت القانون الدولي بسبب «استخدامها غير المشروع للقوة» في
نيكاراجوا، وذلك بالفعل المباشر أو بالوكالة عن طريق قوات الكونترا الموالية لها،
رفضت الولايات المتحدة حكم المحكمة، ثم صدر بعد ذلك قرار من الأمم المتحدة
يدعو الولايات المتحدة إلى النزول على حكم المحكمة وذلك بأغلبية 94 صوتاً مقابل
صوتين (صوتت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل ضد القرار) .
16 - في عام 1984م، انسحبت الولايات المتحدة من عضوية منظمة
اليونسكو (المنظمة الدولية للثقافة والتربية والعلوم) ، وأوقفت دفع مساهمتها المالية
في ميزانية المنظمة، وذلك احتجاجاً على مشروع قانون النظام الدولي الجديد
للمعلومات والاتصالات الذي تبنته اليونسكو، وقد هدف إلى التقليل من اعتماد
وسائل الإعلام العالمية على وكالات الأنباء الكبرى (اسوشيتد برس، وكالة
الصحافة الفرنسية، وكالة الصحافة الدولية رويترز) متعللة بأنه «يحد من الحرية
الصحفية» إلى جانب ذرائع أخرى مثل سوء الإدارة وسوى ذلك من انتقادات. وقد
حدث ذلك رغم حصول القانون على مصادقة 184 دولة مقابل دولة واحدة. وكانت
منظمة اليونسكو قد أوقفت العمل بهذا القانون في عام 1995م إلا أن ذلك لم يقنع
الولايات المتحدة باستعادة عضويتها في اليونسكو.
17 - البروتوكول الاختياري في عام 1989م، الملحق بالميثاق الدولي
للحقوق السياسية والمدنية، وقد هدف إلى إلغاء عقوبة الإعدام، كما تضمن فقرة
تحظر إعدام الأشخاص تحت سن 18 سنة، لم تصادق الولايات المتحدة على
البروتوكول، لتصبح بذلك خامس دولة في العالم تتبنى نظام إعدام الأحداث، إلى
جانب كل من: السعودية، جمهورية الكونغو الديمقراطية، إيران ونيجيريا.
18 - ميثاق الأمم المتحدة للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. الدول
التي وقعت على هذا الميثاق دون أن تصادق عليه هي: الولايات المتحدة،
أفغانستان، ساوتومي وبرنسيب.
19 - وقعت الولايات المتحدة على ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الطفل لكن من
دون أن تصادق عليه، وقد هدف هذا الميثاق إلى حماية الحقوق الاقتصادية
والاجتماعية للطفل، وقد كانت الصومال هي الدولة الأخرى الوحيدة التي وقعت
على الميثاق دون أن تصادق عليه، وفي شهر مايو من عام 2002م أجازت
الجمعية العمومية للأمم المتحدة اتفاقية أخرى تحظر استخدام وتشغيل الأطفال تحت
سن 18 سنة من قبل الجيوش وميليشيات حركات التمرد، وقد وقعت 96 دولة
عليها وصادقت عليها 18 دولة ليست الولايات المتحدة من بينها؛ وذلك لأن القانون
الأمريكي يجيز التجنيد عند سن السابعة عشرة.
20 - ميثاق الأمم المتحدة الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
الذي انعقد في عام 1966م، وقد غطى نطاقاً واسعاً من الحقوق، وتولت الرقابة
عليه لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة، وقد
وقعت الولايات المتحدة على هذا الميثاق في عام 1977م، لكنها لم تصادق عليه.
21 - ميثاق الأمم المتحدة لمنع جرائم الإبادة العرقية ومعاقبة مرتكبيها لعام
1948م، لم تصادق الولايات المتحدة على هذا الميثاق إلا في عام 1988م، أي
بعد مرور أربعين عاماً على وضعه، وبعد أن أعلنت عن عدد من التحفظات بلغت
حد اشتراط مراجعة الدستور الأمريكي والتماس «توصية وموافقة» مجلس
الشيوخ الأمريكي، لتحديد إن كان أي «إجراء يحدث في سياق نزاع مسلح»
يشكل إبادة عرقية، وقد اعترضت على هذه التحفظات كل من: بريطانيا، إيطاليا،
الدانمارك، هولندا، إسبانيا، اليونان، المكسيك، إستونيا إلى جانب دول أخرى.
22 - ميثاق الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982م، والذي تلته اتفاقية عام
1994م، المتعلقة بأنشطة التعدين في أعماق البحار، التي وضعت إطاراً قانونياً
لإدارة الموارد البحرية وحماية البيئة البحرية لمصلحة الأجيال القادمة، قدم الرئيس
الأمريكي السابق، بيل كلينتون، مشروع الميثاق لمجلس الشيوخ في عام 1994م،
لإجازته لكن المجلس رفض المصادقة عليه في بادرة خرجت فيها الولايات المتحدة
على إجماع 235 دولة.
23 - ظلت الولايات المتحدة، ولوقت طويل، تخرق ميثاق فيينا للعلاقات
القنصلية والبروتوكولات الاختيارية، وذلك باعتقال الأشخاص وحبسهم دون توجيه
اتهام إليهم أحياناً، ودون إخطار حكومات بلدانهم إذا كانوا من جنسيات أخرى.
24 - بروتوكول كارتجينا للسلامة البيولوجية الملحق بميثاق الأمم المتحدة
للتنوع البيولوجي لعام 2000م، وافقت 130 دولة على هذا البروتوكول وذلك
بهدف حماية التنوع الببولوجي من الأخطار التي تشكلها الكائنالت المعدلة جينياً التي
تقذف بها معامل التقنية البيولوجية الحديثة. وقعت 95 دولة على هذا البروتوكول
في حين صادقت عليه 13 دولة، أما الولايات المتحدة فقد ظلت تحتج بعدم جدوى
مثل هذا البروتوكول، كما نجحت في إضعاف الاتفاق ولم تصادق عليه وليس ثمة
أمل أن تصادق عليه.
25 - «نحن الدولة الأولى في العالم» الدول الثلاثة الأولى في مجال تقديم
العون للبلدان الفقيرة، حسب النسبة المئوية للدعم الخارجي الذي تقدمه من إجمالي
إنتاجها المحلي هي: الدانمارك (1.01%) ، النرويج (0.91%) ، وهولندا
(0.79%) . أما أقل الدول تقديماً للعون فهي: الولايات المتحدة (0.01%) ،
المملكة المتحدة (0.23%) ، أستراليا، البرتغال، والنمسا، والتي بلغ
مجموع ما تقدم (0.26%) .
__________
(*) مدير تحرير مجلة الجمعة الصادرة عن المنتدى الإسلامي، باللغة الإنجليزية وسكانسن، أمريكا.
(1) أعلنت الولايات المتحدة خروجها الرسمي من هذه الاتفاقية في 8/5/2002م، ومن المصادفات العجيبة أنني سمعت هذا الخبر من إحدى محطات التلفزة الأمريكية في ذات الوقت الذي كنت أقوم فيه بترجمة هذه الفقرة، فسبحان الله!! .(176/84)
في دائرة الضوء
لهذا نكره أمريكا!
(مداخلة في وثيقة المثقفين الأمريكيين الستين)
(2 ـ 2)
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
بعد استعراضه لملخص وثيقة المثقفين الأمريكيين الستين في الحلقة الماضية،
تناول الكاتب بالنقد بعض المفاهيم التي احتوتها، ومنها: تقديمهم لمبادئهم وكأنها
مقدسة، وما وراء فصلهم بين هذه المبادئ وممارسات مجتمعهم المخالفة لها،
ومفهوم الحرب العادلة، والنظرة إلى الدين.. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة حديثه
عن محاور أخرى.
- البيان -
* لماذا نكره أمريكا؟ لماذا يكرهوننا؟ ..
سؤال جوهري تردد على ألسنة ساسة أمريكيين بعد أحداث سبتمبر من غير
أن يجد حظه من التحليل العميق والصدق مع النفس.. وشبيه بذلك السؤال ما
طرحته الوثيقة أكثر من مرة؟ لماذا أقدم من نفذوا تفجيرات سبتمبر على فعلتهم هذه؟
لماذا يريدون أن يقتلونا؟!
لم يأخذ السؤالان حظهما من الاهتمام والعمق رغم أنهما من العناصر
الجوهرية التي ينبغي عدم إغفالها، في إجابات الساسة والمثقفين قالوا: إنهم
يكرهوننا لأننا ناجحون، أي: حقداً وحسداً منهم على هذا النجاح، ولأن مجتمعنا
يتمتع بالحرية والديمقراطية، ولأننا ندافع عن الرأسمالية والفردية وفصل الكنيسة
عن الدولة؛ أي بسبب قيمنا، أو: لأننا أخيار جداً!
السؤال الآخر لم يكن أقل حظاً من التسطيح، فقيل في إجابات المثقفين عليه:
إنهم فعلوا ذلك لأن دافعهم كان القتل لمجرد القتل (أشرار بطبيعتهم) ، ولأنهم
يحقدون على مجتمعنا وطريقتنا في الحياة (بعد أن وصمونا بالكفر) .
مثل هذه الإجابات وإن كان من الممكن أن تخدع كثيراً من بسطاء الرأي العام
الأمريكي، إلا أن التمادي فيها وتصديقها لن يساعد على حل المعضلة المطروحة
في الواقع.
فأمريكا ليست البلد الوحيد الناجح على المستوى المادي، وتوجد في العالم
ديمقراطيات أعرق منها وأرسخ، وهناك دول أخرى تتمتع بمستوى حريات
ومساواة أكثر مما في أمريكا، والرأسمالية والفردية والعلمانية صفات لا تختص
بأمريكا، فلماذا اختصت أمريكا بهذه الكراهية وهذا العداء؟ ما زال السؤال قائماً..
علاقة الإسلام بالكفار من أهل الكتاب وخاصة النصارى علاقة متميزة؛ فهم
معدودون من أصحاب الشرائع والكتب السماوية، ومن الممكن أن يتعايش أفرادهم
في المجتمع الإسلامي كما يشهد التاريخ والواقع بل إن لهم وضعاً خاصاً مميزاً في
الزواج منهم والأكل من ذبائحهم.. وهذا كله ما لا نجده مع أصحاب الديانات
الأخرى.. فلماذا كانت أمريكا الكافرة النصرانية - دون اليابان أو الهند أو الصين
.. أو غيرها من الدول الوثنية أو الملحدة التي هي أشد كفراً وشركاً - هي
المستهدفة بهذا الكره وهذا العداء وهذه الأعمال؟
أمريكا حتى قبل أحداث سبتمبر كان بها قدر من المرونة والانفتاح مع
أصحاب الأديان الأخرى ومنها الإسلام أكثر من بلدان أوروبية أخرى، كفرنسا مثلاً
.. اليابان مثلاً تجتمع فيها مسوغات الكراهية والعداء التي ذكرها ساسة أمريكا
ومثقفوها أكثر من أمريكا، فهي دولة رأسمالية، ديمقراطية، ناجحة، أهلها وثنيون
.. ومع ذلك لا يفكر أحد بتوجيه مثل هذه الأفعال إليها، ولو حدث فلن يلقى أي
تجاوب شعبي معه.
نقطة أخرى، هي أن أمريكا لا يختص المسلمون بكرهها، بل إن كثيرين من
شعوب وأديان مختلفة تعاطفوا مع بن لادن عندما أعلنته أمريكا هدفاً لحربها، قد لا
يكون حباً فيه بقدر ما هو كراهية في أمريكا، وليس أدل على مدى هذه الكراهية
من المظاهرات الألمانية والروسية والفرنسية الحاشدة الأخيرة ضد زيارة الرئيس
بوش؛ فكراهية أمريكا تتعدى أعداءها لتصل إلى شعوب حلفائها.. لماذا؟
أمريكا أكثر دولة تعرضت لاعتداءات ضد رموزها وجيشها ورعاياها في
الخارج خلال العقدين الماضيين، وأكثر دولة تصدر لرعاياها إعلانات بتوخي
الحذر في أكثر بلدان العالم.. لماذا؟
لا تصلح أيضاً الفرضية الساذجة التي تقول إن من قاموا بأحداث سبتمبر فعلوا
ذلك للقتل من أجل القتل؛ فكما ذكرنا أن استهداف ملعب كرة مزدحم بالبشر كان
يحقق مذابح أكثر، كما أن الحادث يتحدث عن نفسه بأن المقصود (رموز)
اقتصادية وعسكرية بما لا يخفى على أحد، ثم: متى وجد في التاريخ من يمارس
القتل دون دوافع إلا عند فاقدي العقل والمجانين؟! إذا كان الساسة والعسكريون
يجيدون المراوغة والتسطيح لتحقيق مآرب خاصة بهم، فإنه كان أوْلى بالمثقفين
والمفكرين أن يبحثوا بحثاً جاداً عن الدوافع الكامنة وراء الحادث والظاهرة وينقبوا
عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه الحالة، حتى يمكنهم وضع أقدامهم على
الطريق الصحيح للحلول المنطقية والواقعية بعيداً عن التعامي والتجاهل والهيجان
العاطفي.
كان أوْلى بالمثقفين أن يكتشفوا (الآخر) اكتشافاً حقيقياً وصادقاً وموضوعياً
ومحايداً، من هم؟ ومن أين جاؤوا؟ وما تاريخهم؟ وما مشكلاتهم؟ .. وأن يفتشوا
أيضاً في أنفسهم: في قيمهم ومبادئهم مرة أخرى أيضاً.. في سياساتهم وممارسات
إدارات حكومتهم.. في تجارب احتكاكهم بهذا الآخر وتاريخهم معه..
إنني من منطلق الشفافية والمصارحة التي تعهدت بالالتزام بهما في أول المقال
أحاول تقديم ما أعتقد أنه يساهم في الإجابة عن السؤالين الجوهريين المطروحين،
وذلك بالتعريف بـ (من نحن؟) وبمحاولة البحث عن (منابع الإرهاب) مذيِّلاً
ذلك بمقترحات لنزع الفتيل هي أشبه بالمطالب أو التوصيات.
ولكن قبل أن أبدأ في هذه المحاولة أود أن أشير إلى أن الكراهية والبغض
شعور طبيعي في كل إنسان سوي، وهو شعور ناشئ بالأساس عن الصدق في
الحب، فطبيعي أن المتسامح مثلاً يحب التسامح ويبغض التعصب، وهو وإن كان
يحب الخير لكل متعصب ويحب أن يرى كل متعصب وقد تحلى بالتسامح إلا أنه
بالطبع لا يشعر بالحب تجاه من مَلَكَه التعصب، ولكنه قد يشعر بالشفقة عليه.
فالمسلم الذي يحب الله فإنه يحب رسله وكتبه والمؤمنين به وأولياءه، ويحب ما
يحبه الله من توحيد وطاعات، وطبيعي أنه يبغض ويكره من لا يحب ذلك.. وهذا
الحب والبغض في الله لا ينافي المشاعر الإنسانية الأخرى ما لم تتصادم معه وتطغى
عليه، كالحب الفطري للوالدين والولد والزوجة والعشيرة والوطن والمال ...
وإذا كان المسلم يحب على أساس الدين ويكره على أساس الدين أيضاً فإن هذا
الكره لا يعني بالضرورة العداء والحرب في جميع الأحوال، فإنه قد يصاحب الكره
والبغض - رغم ذلك - البر والتسامح وبذل المعروف، وبالتأكيد لا بد أن يصاحبه
في جميع الأحوال العدل والقسط حتى في أقصى حالات العداء والمواجهة.
لقد أحببت أن أقدم بهذه المقدمة حتى أرفع عن نفسي حرجاً مصطنعاً قد أوضع
فيه وسط زحام المجادلة والمحاججة التي في غمرة اشتعالها قد تتوه الحقائق وتطمس
النقاط من فوق الحروف! والتي يزيد من طمسها من جانب آخر فوران العاطفة
وتأججها من غير تعقل ولا اتزان من هذا الطرف أو ذاك..
نعم! نحن نكره أمريكا ونكره الغرب ونتبرأ منهم؛ لأنهم أمم كافرة! .. لا
نخجل من ذلك ولا نستتر به، بل ندين الله به ونشهد الناس على ذلك.. ولكن
نسجل أيضاً أن ذلك الكره لا يعني الصدام والحرب في جميع الأحوال. ولا يعني
كذلك عدم البر والتسامح والمحاورة معهم، ودائماً وأبداً لا يعني ظلمهم والجور
عليهم.
إذن: فما الذي حدث؟ ولماذا يصطدم الغرب دائماً بنا أو نصطدم نحن به؟
ولماذا أمريكا بالذات؟ .. هذا ما أحاول الإجابة عليه:
من نحن؟
ورث الغرب منذ الاحتكاكات الأولى بينه وبين أمة الإسلام صورة نمطية
مشوهة عن الإسلام ونبيه والمؤمنين به، ولا شك أن هناك عوامل من جهتهم
وعوامل من جهتنا ساعدت على استقرار هذه الصورة ورسوخها لدى أفراد المجتمع
الغربي، ولكني أزعم أن من أهم هذه العوامل عدم اطلاع أكثر أفراد هذا المجتمع
على حقيقة الإسلام من مصادره الصحيحة ودون واسطة رجال الكنيسة الذين
يتوارث معظمهم جيلاً بعد جيل جهلاً مركباً عن الإسلام وتعصباً مقيتاً ضده؛ فمنذ
(بطارقة الروم) الذين حالوا بين هرقل والإسلام وحتى أمثال القس جراهام
(المستشار الروحي! للرئيس بوش) الذي وصف الإسلام علناً بأنه «ديانة
قبيحة وسيئة جداً» ما زال أمثال هؤلاء هم المصدر الأول لمعلومات أفراد
المجتمع الغربي عن الإسلام التي ينشرونها في أجهزة إعلامهم ومناهج تعليمهم
وتغذيها توجهات السياسيين الباحثين عن عدو بديل.
وإذا كنت في مثل هذا المقال لا أستطيع استعراض الإسلام من جميع جوانبه،
فإنني أكتفي باستعراض ملخص لأهم النقاط التي أرى أنها من المهم أن يتعرف
(الآخر) عليها ليدرك أبعاداً أخرى غير التي يعرفها عن الإسلام، ثم أحاول إطلاعه
على صورة أخرى لنظرتنا إليه، لعله يقف على حقيقة الاختلاف وجذور
(الصراع) :
- فالإسلام الذي ندين به، والذي يعد العامل الأول والأهم في تكويننا العقلي
والوجداني، دين قاعدته الأولى هي التوحيد الخالص، توحيد الله عز وجل في
ربوبيته باعتقاد كماله المطلق المنزه عن كل نقص، في ذاته وصفاته وأفعاله، مع
تفرده بصفات الإله وخصائصه دون غيره بإطلاق، مع الاستسلام والخضوع التام
له سبحانه، دين له إجاباته الخاصة على الأسئلة الكبرى عن الكون والإنسان
والحياة، يعرف المسلم أي مسلم من خلال إسلامه: من أين أتى وإلى أين مصيره،
وما حقيقة الدنيا التي يعيش فيها، وما غاية هذه الحياة، وما قدرها، وما وظيفته
الإنسانية فيها؟ ينظم له إسلامه علاقته بربه وعلاقته بمجتمعه وعلاقته بدولته
وعلاقته بالمجتمعات الأخرى، دين لا يقتصر على (الاعتقاد) و (الضمير) ولا
يكتفي من المؤمنين به بأن يكون علاقةً بين الفرد وربه، بل هو منظومة كاملة
تشمل جميع جوانب الحياة وتنظمها، دين يوجه له مشاعره، ويشرع له قوانينه
ويقيم له موازين العدل والقسط، يأمره بعمارة الأرض والسعي الدائم لاكتشاف آفاق
الكون والأنفس.
وليس ذلك هو ما يعرف في الغرب بـ (الثيوقراطية) فالإسلام لا يعرف
حكم رجال الدين بصفتهم رجال دين، بل يعرف حكم الدين، لا امتياز فيه لهؤلاء،
بل لا توجد فيه أصلاً هذه الفئة، فليسوا رجال دين ولكنهم علماء دين، لهم
مرجعيتهم ولهم مكانتهم ولكنهم لا يدَّعون علم أسرار مقدسة؛ ولا يحتكرون كتباً
منزلة، لا امتياز مقدساً لهم، ولا يتحدث أحد منهم بتفويض مدعى باسم الله،
فالناس في الإسلام سواسية متساوون.
لا يدعي المسلمون العصمة، فقد يخطئ بعضهم في تطبيق الإسلام كما هي
طبيعة البشر ولكنهم لا يجيزون تسويغ هذا الخطأ بتحريف مرجعيتهم وأسس دينهم،
لأنهم حينذاك يخرقون قاعدة التوحيد ويشركون الإنسان مع الله كما حدث في الغرب.
كل ذلك من طبيعة هذا الدين، ومن ثم: فإن المطالبة بالتخلي عن ذلك أو
بعضه والسعي في ذلك هو مطالبة بالتخلي عن الإسلام ذاته وسعي في إخراج الناس
منه، وهذا ما لا يقبله أي مسلم.
- ولأن للإسلام هذه الصفات وهذا التفرد في القيم والمبادئ؛ فإن له أيضاً
مذهبتيه الخاصة في حقوق الإنسان التي تنطلق من هذه القيم والمبادئ، وهو يطالب
مجتمعه بالمحافظة على هذه الحقوق ويشدد على ذلك.
كما أنه لا يصادر الحريات المعروفة، ولكنه يُنْظُمُها في إطار ثوابته بحسب
ترتيب (الهرم القيمي) فيه [1] ، تماماً مثلما تفعل أي منظومة ثقافية عندما تصل
إلى سدة التوجيه (الحضاري) للمجتمع؛ فالإسلام كما أنه دين متسامح فإنه أيضاً
دين مهيمن يعلو ولا يعلى عليه.
فمن أراد أن يبدل هذه المنظومة أو ينتقص من شأن هذه الحقوق فهو في
الحقيقة يريد أن تعلو منظومة أخرى على هذا الدين، وهذا ما لا نقبل به.
- ونحن - المسلمين - أمة واحدة وإن فرقتنا الحدود وتباعدت بنا الديار،
يجمعنا ديننا من مشارق الأرض ومغاربها، لا تفرقنا ألواننا ولا أعراقنا، علاقتنا
ببعضنا كعلاقة أعضاء الجسد بعضه ببعض، إذا اشتكى منا عضو تداعى له سائر
الأعضاء بالسهر والحمى، نحن يد واحدة على أعدائنا، نتبرأ منهم ونردهم عن
ظلمهم لأنفسهم وظلمهم لنا ولغيرنا.. إذا حدث بين فئات منا منازعة ومخاصمة،
فإنها تكون كما يحدث في الأسرة الواحدة، لا يهتك ذلك رابطة الأخوة بيننا، ولا
يكون مدعاة لخذلان أخ لأخيه، ما دامت رابطة الأخوة الإيمانية حية نضرة، وما
يخذل أخ أخاه منا إلا لخلل في هذه الرابطة، وما يلبث أن يفيء إليها مرة أخرى.
أمة كما أنها ممتدة في أصقاع الأرض فإن جذورها ضاربة في أعماق التاريخ،
تاريخنا يبدأ من آدم عليه السلام ويستمر عبر تاريخ البشرية ليشمل كل من آمن
بالله إيماناً صحيحاً وعبده ولم يشرك به، لنا عالميتنا التي نؤمن بها حتى ولو تخلفنا
عن ركب القوة والتقدم المادي، لأننا لا ننسى أبداً أننا أمة رسالة.
ولأجل ذلك - لاعتدادنا برسالتنا وواقع تخلفنا - أطلق من أطلق نظرية
(صدام الحضارات) وأسقطها علينا، تأكيداً منه أن (هذا) هو العدو الحالي، وظناً
منه أن (هذه) هي الفرصة السانحة.
- ديننا دين عزة وكرامة يأبى الذل ولا يرضى الضيم، لا يقبل أن يملي أحد
عليه إرادته ولا أن يتدخل أحد في شؤونه، لا يعرف الإسلام ولا الغرب أيضاً!
(من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) ، ولا يعرف ولا الغرب أيضاً
(أحبوا أعداءكم ... باركوا لاعِنيكم) ، ولكنه يعرف بواقعية وعدل: (العين بالعين
والسن بالسن) ويعرف أيضاً [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ] (البقرة: 194) ، ومع ذلك فإنه يحض على العفو عند المقدرة والصفح
عند التمكن، لا عفو الأذلاء وصفح الخانعين.
وفوق أنه دين عدل فإنه دين رحمة: شملت رحمته الحيوان والإنسان:
فللحيوان فيه حرمة ومكانة، فقد نهى الإسلام عن إيذائه ما لم يأت من قبله إيذاء
متحقق أو متوقع، ونهى عن قتله للتسلي واللهو كما يحدث عندما يتخذ غرضاً
للرماية أو المصارعة، وأمر ألا يذبح إلا لمأكلة، وعندما يفعل ذلك فينبغي ألا يكون
إلا بإذن خالقه وباسمه وبالطريقة التي شرعها، كما أن لذلك آداباً تراعي (نفسية)
الحيوان المذبوح مما لا نجده في ذبح البشر للبشر عندما ينحرفون عن المنهج الإلهي؛
فلا تحد السكين تحت بصره، ولا يذبح آخر أمامه، «وليحد أحدكم شفرته
وليرح ذبيحته» [2] .
وإذا كان ذلك في الحيوان فالنفس الإنسانية أشد حرمة، [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] (المائدة: 32) ، فللنفس الإنسانية
حرمة ذاتية، ويزيدها إسلامها حرمة فوق حرمة، ولا تنتهك هذه الحرمة إلا بما
حدده خالقها: نفساً بنفس أو فساد في الأرض.
والذات الآدمية ذات مكرمة ومفضلة من قِبَل خالقها سبحانه: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ
خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] (الإسراء: 70) ، لذا: ينبغي الوقوف أمام هذا التكريم والتفضيل
الإلهي الذي أسبغه الله على البشر منذ خلق أباهم آدم عليه السلام، وقد لا يستخدم
الإنسان ما كرمه الله به من نعم ومن أهمها العقل والبصر والسمع استخداماً لائقاً،
فيهبط دركات عن سمو هذا التكريم، حتى يصير من الذين [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ
أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] (الأعراف: 179) .
- ولأن رسالة الإسلام تدعو إلى (الإيمان) وليس مجرد (الاعتقاد) بحقيقة
العبودية لله عز وجل والتزام هذه الحقيقة في الباطن والظاهر، فقد نهى القرآن
صراحة عن الإكراه في الدين، وهذا ما نجده متحققاً في سيرة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وتاريخ الفاتحين من بعده؛ فكثير من البلاد التي فتحها الإسلام بالجهاد
ظل أهلها على دينهم سنين وتركهم المسلمون بغير إكراه ولا إلجاء، وما زال
بعضهم على دينه حتى الآن، أما من آمن منهم فقد آمن لأنه [قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الغَي] (البقرة: 256) .
- ومما سبق كله تتكون صورة (الجهاد) في الإسلام، وإذا كانت الوثيقة
التي عرضنا لها حاولت التأكيد على أن حرب أمريكا الحالية حرب عادلة؛ لأنها
حفاظ على كيان الإنسان ودفاع عن مبادئ وقيم، وفي الوقت نفسه أكدت على أن
من هذه المبادئ: أن القتل باسم الله مخالف للإيمان، وهو خيانة لمعنى الإيمان بالله
كما ذكرت ... فإن الجهاد في الإسلام وهو من أعلى مراتب الإسلام هو دفاع عن
أسمى مبدأ وأعز قيمة بشتى السبل والوسائل المشروعة، لأنه يهدف إذا كان جهاداً
حقيقياً أن تكون كلمة الله هي العليا، وثمرته المرتجاة واضحة، فأهله هم: [الَّذِينَ
إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
المُنكَرِ] (الحج: 41) .
فهذا الجهاد ليس لتسلط البشر على البشر ولا لاستغلال القوي للضعيف ونهبه،
ليس فيه طلب لأرض ولا مال إلا لرد ما اغتصب وتحرير ما انتهك، فحينها
يكون هذا الرد والتحرير أيضاً إعلاءً لكلمة الله التي تأبى الظلم وتسلط الطغاة. وهو
خلاف ما يعرف في الغرب باسم (الحرب المقدسة) ؛ فالجهاد في كتاب الله ليس
مرادفاً للقتل، كما أنه لا يقتصر على الحرب أو القتال، وعندما يكون قتالاً
مشروعاً فلا يوجد في الإسلام من يدعي امتلاكه تفويضاً من الله بالقتل باسمه؛ فهو
ليس قتلاً باسم الله، ولكنه - في أجلى صوره - تضحية بالنفس والمال إعلاءً لكلمة
الله.. صحيح أن مشروعيته باسم الله ويستعان فيه بالله وتلتزم فيه شريعة الله،
ولكن لا يملك منفذوه عصمة عن خطأ أو وقوع في تجاوز، فهم بشر يجتهدون في
طاعة الله قد يصيبون وقد يخطئون وليسوا معصومين يدعون تفويضاً عن الله.
آداب الحرب في الإسلام منارة للبشرية، لم يعرف الغرب قريباً منها نظرياً
إلا في السنين المتأخرة، ولم يمارسها عملياً حتى الآن؛ فلأنها حرب من أجل
إعلاء كلمة الله كان إعلام العدو بهذه الكلمة، حتى يعرفوا على أي شيء يُقَاتَلُون،
وكان إنذارهم، وكان وضعهم أمام خيارات متعددة، بل إن التاريخ يشهد للمسلمين
انسحابهم من مدينة كانوا فتحوها، بعد شكوى من أهل هذه المدينة إلى خليفة
المسلمين بأن جيشه لم ينذرهم ولم يخيرهم كما هو معروف في حروب المسلمين.
كما نهى الإسلام عن قتل غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ
والمنقطعين للعبادة بحسب دينهم، وهذا مما هو معروف في السنة النبوية وكتب
الفقه.
* فتش عن الإرهاب:
إن المسلمين لا يدعون لأنفسهم العصمة والتنزه عن الأخطاء بدعوى انتسابهم
لهذا الدين، ولكنهم أيضاً لا يتحرجون من البحث عن الجاني والإشارة بإصبع
الاتهام إليه أو حتى الطرق على رأسه عندما يعميه غرور القوة عن رؤية الحقيقة،
لقد تساءلت الوثيقة: «منذ 11 سبتمبر سأل ملايين الأمريكيين أنفسهم: لماذا كنا
هدف هذه الهجمات البغيضة؟ لماذا يريد هؤلاء أن يقتلونا؟» ولم يكلف
الأمريكيون أنفسهم مراجعة أفكارهم وآرائهم والبحث في ذاتهم وتاريخهم للتفتيش
عن أسباب العداء وجذوره، لم يحاولوا الوقوف أمام مرآة الحقيقة ليروا: من أين
ينبع الإرهاب والظلم والهيمنة؟ ومن الذي يغذي هذه المنابع ويحميها؟ ومن
صاحب المصلحة في ذلك؟
والتزاماً مرة أخرى بالصراحة والشفافية أحاول من جديد تقديم جانب آخر من
الصورة التي نراها وقد لا يلتفت إليها (الآخر) ، وهذا الجانب هنا هو عن
(الآخر) نفسه.
فالحضارة الغربية الحديثة استمدت جذورها واستلهمت فكرها بشكل مؤثر من
تراث (الحضارتين) اليونانية والرومانية القديمتين، وقد كان شائعاً فيهما أفكار
أساسية مثل: عقدة التفوق، وسيطرة المركز على الأطراف، وتمجيد القوة،
وحتمية الصراع: الصراع بين الآلهة، والصراع بين الإنسان والإله، والصراع
بين الإنسان والطبيعة، والصراع بين قوى الشر وقوى الخير ... هذه الأفكار
ورثتها (الحضارة) الغربية الحديثة والمعاصرة، ولم تستطع تعاليم (المسيحية)
أن تحول بينها وبين خروجها في صورة ممارسات فظيعة وفواجع دارت بين
الشعوب الأوروبية نفسها أو بينها وبين الشعوب المحيطة بها، بل نجد أن هذه
الأفكار احتوت هذه التعاليم وحاصرتها في مجال ضيق ومحدود لا يتعدى مكانه
أسوار الكنيسة، ولا يتعدى طموحه دائرة الضمير الفردي، وأحياناً تجاوزت هذه
(الحضارة) ذلك الحصار واستغلت هذه التعاليم ووظفتها لصالح الهيمنة والصدام
واستغلال الشعوب الأخرى.
وقد كان نتاج سريان هذه الأفكار في (الحضارة) الغربية وفي الوقت نفسه
تمكنها من بعض أسباب القوة المادية: سجلاً حافلاً بالمآسي والفظاعات، كان جديراً
بمن سطره أن يتوارى خزياً، وعاراً وأن يبدي الندم والاعتذار عنه بدلاً من
المكابرة والتعامي والهروب إلى ملجأ الإسقاط النفسي والمتاجرة بمبادئ وشعارات
زائفة.
فما أن تعافت أوروبا من عصورها المظلمة حتى انطلقت دولها إلى شتى بقاع
العالم لنهب ثرواته وخيراته وغزوه (حضارياً) والسيطرة عليه اقتصادياً وسياسياً
وعسكرياً بأبشع أساليب الإرهاب والإخضاع التي استمرت مئات السنين، والتي
كان من المعتاد فيها قتل المدنيين وإحراق قرى أو أحياء بأكملها بذريعة القضاء على
المخربين و (الإرهابيين) الذين كانوا يقاومون ذلك الاحتلال، ولا يسعنا في هذا
المقام ذكر تفاصيل وحشية الممارسات الأوروبية على البلاد المستعمرة، ولكن نشير
إلى نموذج واحد فقط، وهو أنه لأجل إخضاع فرنسا للشعب الجزائري شن
جنرالاتها حرب إبادة وحشية «إلى حد أن سكان الجزائر تناقصوا حسب تقرير أحد
الضباط الفرنسيين من 4 إلى 3 ملايين في مدى سبع سنوات، أما إذا صدقنا تقرير
أحد الجزائريين الذين عاشوا في ذلك الوقت [بداية الاحتلال منذ عام 1830م]
وهو حمدان خوجة، يكون السكان قد تناقصوا من عشرة إلى ثلاثة ملايين» [3] ،
أي: إفناء شعبها بمعدل مليون نسمة كل عام، وبنسبة 70% من عدد السكان، وقد
كان شائعاً في هذه الحرب إبادة قبائل كاملة عن بكرة أبيها، وإحراق الكهوف في
الجبال على الهاربين فيها، وإحراق المنازل بعد إقفالها على السكان (المدنيين
الأبرياء!) ، ناهيك عن جلب المستوطنين الأوروبيين إلى البلاد ونهب خيراتها
وتدمير اقتصادها، وتعطيل مؤسساتها التعليمية والقضائية والاجتماعية، ونشر
الفساد والانحلال وفرنسة المجتمع ثقافياً واقتصادياً وقضائياً، واستنبات عملاء
فرنسا وزرعهم في البلاد ليواصلوا المسيرة (الحضارية) التي بدأها المستعمر
صاحب شعار (حرية - مساواة - عدالة!) .
وهذا نموذج واحد لسياسة كانت شائعة - بهذا الشكل الفج - في طول بلادنا
وعرضها بأيدي مختلفة وأساليب متعددة ... أتتوقعون أن تمحى بسهولة هذه المآسي
من ذاكرة شعوبنا لمجرد أنكم أقوياء؟!
وإذا تركنا هذه التفاصيل (الصغيرة) وبحثنا أكثر في تاريخ سفك الدماء
والإرهاب فسنجد أن الغرب جر على العالم ويلات حربين كبيرتين أطلق عليهما
اسم (عالميتين) ، وهما في حقيقتهما وخاصة الأولى (أوروبيتين) ، ولم تكونا
عالميتين إلا لكون ساحتهما عالمية وضحاياهما عالمية، وقد راح ضحية الحرب
الأولى زهاء عشرين مليون قتيل ومثلهم تقريباً من الجرحى والمعوقين، أما الحرب
الثانية فقد راح ضحيتها حوالي 55 مليون قتيل و 35 مليون جريح، وثلاثة ملايين
في عداد المفقودين، وقد كان معظم هؤلاء الضحايا من أبناء (المستعمرات) ومن
المدنيين، حيث كان شائعاً في أخلاقيات هؤلاء المتحاربين استهداف المدنيين
لتحطيم إرادة العدو.
يقول وليام بفاف في (الهيرالد تريبيون) في 10/1/2002م: «إن بريطانيا
بعد هزيمة البليتز بدأت بقصف ألمانيا وكان هذا أسلوبها الوحيد لتحطيم إرادة
الألمان، فالطائرات الثقيلة لم تكن قادرة على التفريق بين المصانع والأحياء السكنية،
ثم اتخذ قرار باستهداف المدنيين مباشرة لتحطيم إرادة ألمانيا في الاستمرار
بالحرب، ومن هنا بدأت غارات العاصفة النارية في 5/4/1944م تقلد الغارات
الأمريكية على المدن اليابانية، وقد بلغت أوجها بتسوية مدينة» درسدن «مع
الأرض، أما على الجبهة اليابانية فقد قتلت القنابل الحارقة من المدنيين في صيف
1945م أكثر مما سقط في هيروشيما ونجازاكي، وينقل بفاف عن المؤرخ
العسكري البريطاني مايكل هيوارد أن الحرب العالمية الثانية كانت حرب إبادة وأن
جميع المحاربين يعتبرون المدنيين الآن أهدافاً مشروعة. وهذا الافتراض كان ولم
يزل متضمناً في الردع النووي» [4] ومن المعلوم أن طائرات (29 B) الأمريكية
كانت أسقطت في 6/8/1945م قنبلة ذرية تعد بدائية مقارنة بترسانة الأسلحة
النووية الحالية على مدينة هيروشيما اليابانية، وأسفر انفجارها عن 118661 قتيلاً
و79130 جريحاً، ثم أسقطت قنبلة ثانية على مدينة نجازاكي في 9/8/1945م
فأسقطت 73884 قتيلاً و 74909 جريحاً مع دمار شامل للمدينتين.
ونبذة يسيرة عن هذه القنبلة (البدائية) فإن رطلاً واحداً من مادة هذه القنبلة يعادل
قوة (5) ملايين رطل من الفحم أو (4) ملايين جالون من البنزين أو (15)
ألف طن من أشد أنواع الديناميت انفجاراً.
إن الغرب لم يوقف الحروب فيما بينه حباً في السلام، ولكنه أوقفها لقناعة
ساسته بأنهم وصلوا إلى مدى بعيد في التكافؤ الإرهابي بينهم بعد سباق التسلح
المعروف، وأوقفها عن قناعة بأن دخولهم في حرب جديدة في ظل هذا التطور
التسلحي الإرهابي القائم يعني دمارهم جميعاً.
ولكن الغرب (الأخلاقي) لم ير بأساً في تصدير هذه الحروب وهذا السباق
التسلحي والإرهابي إلى دول العالم (الثالث) ؛ فمن المعروف أن تجارة السلاح
العالمية هي أغنى نشاط اقتصادي على مستوى العالم، وفي دراسة مقدمة إلى وحدة
البحث في الكونجرس الأمريكي تحت عنوان: (نقل الأسلحة التقليدية إلى الدول
النامية 1993م -2000م) جاء فيه أن «مبيعات الأسلحة ارتفعت بنسبة 8%على
العام الماضي، وقد احتلت الولايات المتحدة المكانة الأولى، أي 68% بمبلغ 18.6
بليون دولار (على المجموع الكلي الذي ارتفع إلى 36.19 بليون دولار) ،
وأن 68% من الأسلحة الأمريكية وهذا بيت القصيد بيعت إلى دول نامية.
ويمضي التقرير في تحليل توزيع أرقام تصدير التسليح: تأتي روسيا بعد
الولايات المتحدة بمبلغ 7.17 بليون دولار، ثم فرنسا بمبلغ 4.1 بليون دولار،
ثم ألمانيا بمبلغ 1.1 بليون دولار، ثم إنجلترا بمبلغ 600 مليون دولار، وبعد
ذلك ينخفض رقم المبيعات العسكرية للصين إلى 400 مليون دولار فقط بعد أن كان
3.7 بليون دولار عام 1999م، وأخيراً إيطاليا بمبلغ 100 مليون دولار.
أما عن التوزيع الجغرافي فالأرقام مذهلة: إن ارتفاع مبيعات السلاح
الأمريكي ارتفعت من 12.9 بليون دولار عام 1999م إلى ما يقرب من 18.6
بليون دولار عام 2000م» [5] .
ولم تقف آثار عقلية القوة والسيطرة الغربية على العالم بإيقاف الحروب بين
دول الغرب وتصديرها إلى العالم الثالث، بل إن نتائج هذه العقلية ما زالت تنبعث
من الغرب، لتجني البشرية كلها ثمارها حتى مع التوقف (الافتراضي) لهذه
الحروب:
فعلى سبيل المثال ما زالت مشكلة الألغام المتخلفة عن هذه الحروب توقع
كثيراً من الضحايا وتعطل مسيرة التنمية في كثير من البلدان؛ فهناك ما يزيد عن
150 مليون لغم تمت زراعتها في أراضي ما يزيد عن 65 دولة، وتأتي مصر في
مقدمتها؛ حيث يوجد فيها نحو 17 مليون لغم كثير منها منذ الحرب العالمية الثانية
بين دول الحلفاء ودول المحور والتي لم يكن لمصر فيها ناقة ولا جمل، وتوقع هذه
الألغام ما يزيد عن 25 ألف شخص (من المدنيين الأبرياء!) كل عام (ما زال
الحديث عن مصر وحدها) إضافة إلى تعطيل الاستفادة من مساحات هائلة من
الأراضي التي توجد بها هذه الألغام. هذا في الوقت الذي تشير فيه التقارير إلى أن
ما يزيد عن 2.5 مليون لغم يتم زراعتها سنوياً، كما تشير إلى تطور هذه الألغام
حتى بلغت 35 نوعاً وإلى انخفاض التكلفة الإجمالية للَّغم الواحد إلى 3.5 دولار،
في الوقت الذي ارتفعت فيه التكلفة الإجمالية لإزالة الألغام حول العالم إلى 100
بليون دولار [6] .
وإذا أخذنا بُعداً آخر لما جرَّته عقلية القوة والسيطرة الغربية على البشرية فإن
المعلومات حول التلوث البيئي الناجم عن التسلح والتهديد الذي يشكله على سلامة
الإنسان وصحته لا يمكن الوصول إليها بدقة، ولكن يمكن الإشارة إلى بعض ذلك
ليتضح مدى خطورة هذا التلوث: «تستعمل الجيوش حوالي 3% من الأراضي
على صعيد عالمي، وحوالي 3% من إنتاج النفط العالمي، وتبلغ حركة الطيران
الحربي: في ألمانيا حوالي 15% من مجموع حركة الطيران فيها، وحوالي 50%
من حركة الطيران في الولايات المتحدة. وتستهلك الدبابة من نوع ram-M1 Ab
1113 لتراً من البنزين في الساعة الواحدة، بينما تستهلك الطائرة المقاتلة B-52
13671 لتراً، ويتحمل التسلح مسؤولية 6 - 10% من تلويث الهواء عالمياً
ويتسبب في 13% من دمار طبقة الأوزون.
في الولايات المتحدة الأمريكية هناك 21401 موقع ملوث تلوثاً كبيراً والعديد
منها ملوث بالإشعاعات العالية بسبب تفجير 1800 قنبلة هيدروجينية في مختلف
أنحاء العالم خلال العمليات التجريبية، تم تفجير ربعها في الجو، وينتج التسلح 97%
من مخلفات المواد عالية السمية، و 78% من المواد ذات الخاصية الإشعاعية
المتوسطة والمنخفضة السمية، أي ما يعادل 1.4 مليار كوري، وهذا يساوي 82
ضعف الإشعاعات التي أطلقتها حادثة تشيرنوبل (50 مليون كوري) .
ويحدث كل هذا تحت ظروف التدريب العادية بدون نشوب الحروب ...
فإذا ما دخلنا في التفاصيل وجدنا أنه في أوائل التسعينيات تم تخزين أو نشر
الأسلحة التالية:
- 50 ألف رأس حربي نووي (ما يعادل 31 مليار طن من مادة T.N.T
شديدة الانفجار) .
- 70 ألف طن من الغازات السامة.
- ملايين الأطنان من الذخيرة والمتفجرات التقليدية.
- حوالي 45 ألف طائرة حربية.
- 172 ألف دبابة عسكرية.
- 155 ألف مدفع.
- وحوالي ألفي غواصة وسفينة حربية.
واتفاقيات الحد من التسلح مثل CWC و Start، ولا تشمل حكومات ودول
العالم الثالث، وتنص معاهدة 1 Start على تخفيض الترسانة النووية من 60 ألف
رأس حربي في سنة 1998م إلى 22 ألف رأس في سنة 2005م، ولكن تفكيك
هذه الرؤوس النووية سيطلق 257 طناً من البلوتونيوم و 1310 أطنان من
اليورانيوم غني الخواص. إن إنتاج كيلو غرام واحد من البلوتونيوم ينتج المخلفات
التالية: 1300 لتر من السوائل ذات الخاصية الإشعاعية العالية، أكثر من 200
ألف كيلو غرام من المخلفات ذات الخاصية الإشعاعية المتوسطة والمنخفضة،
وحوالي 10 ملايين لتر من مياه التبريد الملوثة. إن حوالي 150 كيلو غراماً من
البلوتونيوم هي كمية كافية لإحداث سرطان رئة لكافة سكان الأرض إذا ما وزعت
توزيعاً مناسباً [7] .
هل شاهدتم في تاريخ البشرية إجراماً في حق الإنسان أكثر من ذلك الذي جنته
أيادي أدعياء السلام وزاعمي محاربة الإرهاب؟!
* فإذا ما فتشنا مرة أخرى عن منابع الإرهاب وبحثنا بدقة أكثر عن أسباب
كراهية أمريكا وهي ظاهرة لا تقتصر على المسلمين والعرب نجد أن أمريكا قامت
على رفات عدة ملايين من سكان البلاد الأصليين (الهنود الحمر) واستلاب حرية
وكرامة ملايين أخرى من الزنوج الأفارقة الذين كانوا يُسرقون من بلادهم ويساقون
قسراً ومهانة إلى الأرض الجديدة (أرض رعاة البقر والبشر!) .
وما أن أحس هؤلاء (الرعاة) بالقوة وانتشوا بالاستقلال حتى خاضوا حربهم
التوسعية الأولى على أقرب جيرانهم (المكسيك) عام 1846م، فابتلعوا نصف
الأراضي المكسيكية التي أصبحت غربي الولايات المتحدة الأمريكية.
ثم توالت حروب أمريكا وتدخلاتها العسكرية في بلدان العالم الأخرى لتصل
إلى 232 حرباً وتدخلاً عسكرياً في مدة 522 عاماً هي مدة استقلالها عن بريطانيا،
» ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم هناك 75 حرباً وتدخلاً عسكرياً أو
دعماً لانقلاب عسكري، وكلها لا علاقة لها بالدفاع عن النفس، وإنما للتوسع
والسيطرة « [8] ، وسوف أذكر هنا بعض هذه الحروب والتدخلات (الظاهرة) في
بلادنا العربية والإسلامية، متجاوزاً ملايين المدنيين الذين سقطوا ضحايا حروبها
في نيكاراجوا وكوريا وكمبوديا وفيتنام والفلبين ...
- في عام 1953م تمكنت المخابرات الأمريكية من إعادة شاه إيران وإسقاط
حكومة مصدق بعد تأميمه صناعة البترول التي كانت تحتكرها بريطانيا، وقد
قبضت أمريكا ثمن هذا الانقلاب: هيمنة شركات بترولها على منابع النفط الإيرانية.
- وفي 15/7/1958م أنزلت أمريكا عدة آلاف من قوات مشاة بحريتها على
شواطئ لبنان بحجة مساعدة الحكومة اللبنانية على (التعايش الطائفي في لبنان)
وحماية الأمريكيين في لبنان.
- وفي 25/8/1982م وصل إلى ميناء بيروت 800 عنصر من قوات
المارينز الأمريكية للمشاركة في قوة (أمريكية - فرنسية - إيطالية) تشرف في
حقيقة الأمر على خروج القوات الفلسطينية من لبنان، ثم خرجت هذه القوات
الأمريكية في 10/9/1982م، لتعود لاحقاً مرة أخرى بحجة (حفظ السلام) الذي
فرضته (إسرائيل) باتفاق 17/5/1983م على لبنان المحتل، وقد استهلت القوات
الأمريكية وجودها بقيام المدمرة نيوجرسي بقصف مواقع القوات غير المسيحية في
الجبال المطلة على بيروت، ثم أجبرت هذه القوات على الخروج من لبنان في العام
نفسه بعد تدمير مقر المارينز في بيروت الذي أسفر عن مقتل 241 جندياً أمريكياً.
- وفي عام 1986 قصفت صواريخ الطائرات الأمريكية العاصمة الليبية
طرابلس ومدينة بنغازي بحجة تأديب النظام الليبي (ما زال يحكم حتى الآن!) بعد
تعرض بعض الأمريكيين لعدة هجمات في مدن مختلفة من العالم.
- وفي 17/11/1991م اشترك أكثر من نصف مليون جندي أمريكي في
عملية عاصفة الصحراء التي قادت فيها أمريكا تحالفاً دولياً لإخراج القوات العراقية
من الكويت، وقد سقط في هذه العملية أكثر من 200 ألف قتيل من الجنود
والمدنيين بينما لم تفقد أمريكا سوى 148 مقاتلاً لا غير.
وبغض النظر عن ملابسات هذه الحرب، فإن من الثابت أن القوات الأمريكية
استخدمت فيها أخطر أنواع الأسلحة وأكثرها فتكاً بالبشر والبيئة وكل الكائنات الحية،
وهي أسلحة لم تشهد الساحات العسكرية لها مثيلاً في الحروب الإقليمية والدولية
السابقة لها.
وبحسب كتاب: (حرب الخليج: الحرب القذرة النظيفة) للكاتبة الفرنسية
كرستين عبد الكريم ديلان فإنه منذ الساعات الأولى من القصف الجوي تم تدمير 90
% من محطات الطاقة الكهربائية في العراق، وأربع محطات كبرى لضخ المياه من
مجموع سبع محطات يمتلكها العراق، كما تعرضت أغلب مواقع النفط ومخازن
الوقود إلى جانب مراكز التموين الغذائي والمواقع المدنية من مساكن ومدارس
ومستشفيات ومراكز اتصال ومساجد وكنائس إلى عمليات قصف مسترسل.
وقد نفذت طائرات التحالف ما يزيد عن 100 ألف طلعة جوية على امتداد
43 يوماً من القتال حسب التقرير الرسمي الذي قدمته وزارة الدفاع الأمريكية
للكونجرس في شهر أبريل 1992م، وكانت حصة القوات الأمريكية منها 56 ألف
عملية. وتم إنزال ما يزيد عن 95 ألف طن من القنابل على امتداد ستة أسابيع
متتالية أي بمعدل 16 ألف طن في الأسبوع، وهو رقم يزيد كثيراً عن مجموع كمية
القنابل التي تم قصفها على ألمانيا والأراضي الخاضعة لسيطرة الجيش الألماني في
الحرب العالمية الثانية.
وفي عملية خرق واضح للاتفاقيات الدولية تم استخدام قنابل النابالم ضد
الجيش العراقي سواء في الثكنات أو الخنادق الأرضية علماً بأن هذا النوع من
الأسلحة الفتاكة لم يتم استخدامه منذ حرب فيتنام.. كما أن القنابل الانشطارية القاتلة
والمحظورة دولياً والتي استخدمت للمرة الأولى في حرب فيتنام تم استعمالها هذه
المرة ضد العراق بشكل أكثر» تطوراً «وتعقيداً؛ إذ أصبح بمقدور كل واحدة منها
الانقسام إلى مئات من القنابل الصغيرة، وإحداث آلاف الانفجارات عند ملامسة
الجو. لقد استخدم ما بين 60 ألفاً و 80 ألفاً من هذه القنابل ضد السكان المدنيين
العراقيين، وقتل ما لا يقل عن 25 ألف شخص نقلاً عن السلطات العسكرية
الأمريكية نفسها أثناء هروبهم في الطريق الرابط بين الكويت ومدينة البصرة جنوبي
العراق.
هذا فضلاً عن استهداف مواقع مدنية بحتة، كقصف ملجأ العامرية ليلة 13/2/
1991م بصواريخ موجهة بالليزر صهرت أجساد الأطفال والنساء والشيوخ في
درجة حرارة وصلت آلاف الدرجات المئوية، في وقت كان الملجأ الذي يسع ألف
شخص ممتلئاً باللاجئين إليه؛ مما أوقع أكثر من 400 قتيل.
ومن المعروف أن الطائرات الأمريكية والبريطانية ما زالت تواصل طلعاتها
على العراق حتى الآن.
وبعد أكثر من 10 سنوات على حصار العراق ظهرت نتائج مخيفة في جميع
مجالات الحياة العامة الصحية والبيئية والاجتماعية والتربوية والعلمية والاقتصادية؛
فقد بلغ حجم التضخم في نهاية عام 1994م معدل 24000% سنوياً، وإن كان قد
خف قليلاً في السنوات اللاحقة التي شهدت تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء،
وتعمقت مظاهر التردي والترهل إلى الحد الذي أفقد المجتمع العراقي سمات
المجتمع المتحضر المتماسك الذي كان عليه قبل غزو الكويت.
فنظراً لعدم قدرة الحكومة على تأمين الوظائف الحكومية وفي القطاعات
الصناعية التي توقفت نتيجة الحصار فقد تم تسريح ما يقارب ثلثي القوى العاملة؛
مما ساهم في زيادة معدلات البطالة وتمزق الحياة العائلية نتيجة ارتفاع معدلات
الجريمة، والعنف الاجتماعي، والرشوة، والانتحار، والسرقة، والتهريب،
والبغاء، وجنوح الأحداث، وظواهر اجتماعية أخرى تؤكد الخلل الخطير في بنية
المجتمع العراقي.
وقد كان أطفال العراق من أكثر الشرائح تضرراً بسبب هذا الحصار، حيث
تشير تقارير اليونيسيف إلى أن أكثر المناطق تأثراً في العراق هي المنطقة الجنوبية
والوسطى، حيث يقطنها 85% من مجموع السكان؛ إذ إن معدل وفيات الأطفال
دون سن الخامسة زاد عن الضعف؛ فقد قفز من 56 حالة وفاة لكل ألف مولود
خلال الفترة من 1984م - 1989م إلى 131 حالة وفاة في الفترة من 1994م -
1999م، وكذلك تزايد معدل وفيات المواليد من 47 لكل ألف مولود إلى 108 حالة
وفاة خلال نفس الفترة السابقة.
وقد تزايد معدل الوفيات أثناء الولادة من 50 لكل مائة ألف حالة ولادة عام
1989م إلى 117 لكل مائة ألف حالة ولادة عام 1997م، وزادت نسبة وفيات
الأطفال دون سن الخامسة من 30.2 لكل ألف حالة ولادة إلى 97.2 خلال
الفترة نفسها. وارتفع نقص وزن وفيات المواليد (أقل من 2.5 كجم) من 4%
عام 1990م إلى حوالي ربع المواليد المسجلين عام 1997م، بسبب سوء التغذية
عند الولادة. وهناك حوالي 70% من نساء العراق يعانين من الأنيميا (فقر
الدم) ، ناهيك عن الآثار الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية الأخرى [9] .
ولا يلتفت إلى كل ذلك ما دامت أمريكا هي المستفيد الأول من هذا الحصار؛
إذ إنها أكبر مستورد للبترول العراقي الرخيص في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء،
أما مئات الآلاف من أطفال العراق الذين يموتون بسبب هذا الحصار فإنه» ثمن
كان من الضروري دفعه «على حد تعبير أولبرايت عندما سئلت عن مقتل نصف
مليون طفل عراقي. ولكنها لم توضح: لأي شيء هذا الثمن؟ .. ربما لرخص هذا
البترول ولاستمرار هذا التواجد في المنطقة، وهذه معادلة (النفط مقابل الدماء)
التي تطبقها أمريكا في أحيان كثيرة.
- وفي 9/12/1992م وبعد انهيار حكم سياد بري أرسلت أمريكا 21 ألف
جندي إلى الصومال - المهمة استراتيجياً - لقيادة تحالف دولي صوري ينفذ عملية
(إعادة الأمل) التي كانت ترفع شعار رفع المجاعة عن الصومال، وقد لفظ الشعب
الصومالي هذه القوات، واصطدمت بها قوات الميليشيات الصومالية، فقرر الرئيس
كلينتون في 31/3/1993م سحب القوات الأمريكية، وانسحبت في إثرها القوات
الدولية الأخرى.
- وفي صيف عام 1998م شنت أمريكا هجمات صاروخية على أفغانستان
والسودان انتقاماً لتفجير السفارة الأمريكية في كل من كينيا وتنزانيا، وبزعم إنتاج
(أسلحة كيمائية) دمرت مصنع الشفا السوداني للأدوية، فقضت على ما يقارب
نصف طاقة إنتاج الأدوية في هذا البلد، وقد اعترف لاحقاً وزير الدفاع الأمريكي
حينها بأن الإدارة الأمريكية لم تكن على علم بأن المصنع ينتج أدوية، كما أنها لا
تملك أي أدلة على أن لأسامة بن لادن أي حصة مالية فيه.
* وفي بحثنا عن منابع الإرهاب فسوف نجد أن أي مسلم لا ينسى أن
الخطيئة الكبرى التي اقترفتها أيادي الغرب منذ بدايات القرن الميلادي الماضي
وتلقفتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالرعاية والمتابعة منذ خرجت إلى حيز الوجود
وحتى الآن ... هي استجلاب ملايين اليهود من آفاق المعمورة وتوطينهم ودعمهم
وتمكينهم في فلسطين، لزرع دولة (إسرائيل) الشاذة عن كل شيء في نسيج هذه
البقعة المباركة من قلب عالمنا العربي والإسلامي، مع استخدام كافة السبل
العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية لإعاقة جميع جهود مقاومة هذا التعدي.
وقد تم هذا الاغتصاب عبر ممارسات إرهابية ومجازر وحشية عديدة ما زالت
مستمرة حتى الآن وقد بلغت أكثر من ثلاثين مذبحة مع محو أكثر من 320 قرية
ومدينة فلسطينية، ونذكر أبرز هذه المذابح وأشهرها فيما يأتي [10] :
- مذبحة بلدة الشيخ، في 31/12/1947م، والتي قتل فيها 600 شخص
(مدني بريء) داخل بيوتهم.
- مذبحة قرية سعسع، في 14/2/1948م، ونسف فيها 20 منزلاً على
سكانهم الفلسطينيين العزل.
- مذبحة دير ياسين، في 10/4/ 1948م، والتي قتل فيها أكثر من نصف
سكان القرية، وهي المذبحة التي تفاخر بالقيام بها مناحم بيجن (الحاصل على
جائزة نوبل للسلام!) .
- مذبحة اللد، في 11/7/1948م، والتي قتل فيها 426 مدنياً تجمعوا في
مسجد القرية، فاقتحمه اليهود وقتلوا كل من فيه.
- مذبحة قبية، التي قام بها الجيش الإسرائيلي النظامي في 14/10/1953م،
عندما طوق 600 جندي القرية وقصفوها بالمدفعية ثم اقتحموها وهم يطلقون النار
بشكل عشوائي، وكانت الحصيلة تدمير 56 منزلاً ومسجد القرية والمدرسة وخزان
المياه.
- مذبحة كفر قاسم، في 10/1956م، والتي قتل فيها 49 مدنياً من الأطفال
والنساء.
- مذبحة صبرا وشاتيلا، في 18/9/1982م، والتي نفذها في لبنان مجرم
الحرب شارون (رجل السلام حالياً بحسب تعبير الرئيس بوش) بالتواطؤ مع
قوات الكتائب المسيحية اللبنانية، فقتلوا في مجزرة استمرت 72 ساعة 3500
فلسطيني ولبناني معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، لم تكن لهم أي جريمة
سوى هويتهم الإسلامية.
- مذبحة المسجد الإبراهيمي، في 25/4/1994م، التي نفذها أحد جنود
الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع عناصر أخرى من هذا الجيش ومن المستوطنين،
وقتل في هذه المذبحة 29 مصلياً داخل المسجد و 50 خارجه وأصيب أكثر من
350 من المصلين.
- مذبحة قانا، في 18/4/1996م، وفيها قامت الطائرات والمدفعية
(الإسرائيلية) بقصف ملجأ لقوات الأمم المتحدة في قانا بلبنان بقنابل تنفجر في الجو
لزيادة الإصابات، فقتلت 160 مدنياً فلسطينياً ولبنانياً معظمهم من النساء والأطفال
والشيوخ رغم علمها بهويتهم المدنية، وكانت هذه المذبحة بأمر مباشر من شيمون
بيريز (الحاصل على جائزة نوبل للسلام أيضاً!) الذي كان رئيساً للوزراء حينها.
وما زالت هذه المذابح مستمرة حتى الآن، وآخرها مذبحتا نابلس وجنين،
التي رفضت (إسرائيل) مجرد دخول لجنة دولية للتحقيق فيها، وهي مذابح
تستهدف بالقصد مدنيين أبرياء، حتى إن أكثر من 30% من قتلى الانتفاضة
الفلسطينية هم من الأطفال الذين سقط كثير منهم برصاص أصاب الجزء العلوي من
أجسامهم، وهذا القصد عبَّر عنه مجرم الحرب شارون صراحة بقوله:» يجب
ضرب الفلسطينيين ضرباً مؤلماً، وعلينا إلحاق الخسائر بهم وإيقاع الضحايا كي
يشعروا بفداحة الثمن «، وهذا ما أوردته منظمة العفو الدولية في تقرير لها بتاريخ
12/4/2002م، تضمن نماذج وإشارات لهذه الممارسات التي شملت استهداف
سيارات الإسعاف والمرافق الطبية وإطلاق النار عشوائياً على المنازل والناس
المارة في الشوارع، وتحطيم الأثاث وتمزيق الكتب بما فيها القرآن الكريم، والقيام
بعمليات اعتقال تعسفية جماعية على نحو يهدف إلى إذلال المعتقلين (الوثيقة رقم
MDE 15/045/2002) .
وقد خرجت هذه الممارسات الوحشية من جذور دينية اعتقادية تدعو إلى قتل
كل من ليس يهودياً (الأغيار) وطردهم والاستيلاء على أموالهم، ثم ترجمت إلى
تعاليم وتعليمات مباشرة موجهة لأفراد المجتمع (الإسرائيلي) وجيشه.
يقول إسرائيل شاحاك في كتابه: (الديانة اليهودية وتاريخ اليهود.. وطأة
3000 عام) :» فقد استنتج عدد من الحاخامات بأن جميع (الأغيار) في زمن
الحرب الذين ينتمون إلى السكان المعادين: أغيار يمكن قتلهم، بل يجب قتلهم..
ومنذ عام 1973م وهذا المبدأ يبث علناً من أجل إرشاد الجنود المتدينين، وكان أول
حض رسمي من هذا النوع مضمناً في كتيب نشرته قيادة المنطقة الوسطى في
الجيش الإسرائيلي وهي المنطقة التي تشمل الضفة الغربية وقد كتب الكاهن الرئيس
لهذه القيادة في هذا الكتيب: عندما تصادف قواتنا مدنيين خلال الحرب، أو أثناء
عملية مطاردة، أو في غارة من الغارات، وما دام هناك عدم يقين حول ما إذا كان
هؤلاء المدنيون غير قادرين على إيذاء قواتنا فيمكن قتلهم بحسب الهالاخاه
(الشريعة اليهودية) ، بل ينبغي قتلهم؛ إذ ينبغي عدم الثقة بالعربي في أي ظرف من
الظروف حتى وإن أعطى انطباعاً بأنه متمدن، ففي الحرب يسمح لقواتنا وهي
تهاجم العدو بل إنها مأمورة بقتل حتى المدنيين الطيبين، أي المدنيين الذين يبدون
طيبين في الظاهر.. «.
فهل رفعت أمريكا عقيرتها وطالبت بمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة؟ أو
حشدت تحالفاً دولياً وشنت (حرباً عادلة) على الإرهابيين التلموديين؟ أو أنزلت
قواتها على سواحل فلسطين لـ (إعادة الأمل) إلى المستضعفين المضطهدين؟ أو
حاصرت (إسرائيل) حتى تذعن وتنفذ جميع قرارات (الشرعية الدولية)
بحذافيرها كما يقتضيه المذهب العناني؟ أو حتى طالبت بتغيير المناهج اليهودية
والخطاب الإعلامي الصهيوني الذي يحض على الكراهية والإرهاب؟
إنها لم تفعل أياً من ذلك؛ لأنها في الحقيقة هي راعية هذا الإرهاب، وهي
التي تدعمه سياسياً وإعلامياً وتمده بالمال والعتاد؛ فرعاية أمريكا للإرهاب لا
تقتصر على توفيرها ملاذاً آمناً لأكثر من عشرة آلاف شخص مطلوب القبض عليهم
لممارستهم انتهاكات لحقوق الإنسان باعتراف أمريكا نفسها حتى إنها أصبحت
» ملجأ آمناً لمرتكبي التعذيب «تمنح بعضهم جنسيتها كما يقول تقرير لمنظمة العفو
الدولية (الشرق الأوسط، 12/4/2002م) بل إنها تتعدى ذلك لتصبح أكبر راعية
للإرهاب الدولي منذ أن كوّن فيها الصهيوني البروتستانتي بلاكستون أول جماعة
ضغط (لوبي) صهيونية عام 7881م.
فإلى جانب إمدادات أحدث الأسلحة وأشدها فتكاً التي لا تنقطع لضمان تفوق
(إسرائيل) على العرب، والتي تستخدم في مواجهة الفلسطينيين العزل وقتلهم..
دعمت أمريكا إسرائيل بمنح ومساعدات (رسمية) بلغت 130 بليون دولار في
فترة 35 عاماً فقط (1948م - 1983م) ، وعلى الصعيد السياسي والدبلوماسي
يكفي أن نذكر أن أمريكا استخدمت حق النقض (الفيتو) 72 مرة لتعطيل قرارات
تدين (إسرائيل) من أصل 79 قراراً متعلقاً بالقضية الفلسطينية قدمت إلى لجنة
حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؛ وذلك خلال 30 عاماً (1968م -1998م) ، كما
استخدمت أمريكا حق (الفيتو) لإبطال أكثر من 29 قراراً ضد إسرائيل أقرته
(الشرعية الدولية) في مجلس الأمن.
وقد تبلور هذا الدعم العسكري الاقتصادي السياسي فيما يعرف باتفاق التعاون
الاستراتيجي بين البلدين مع صعود الرئيس الجمهوري (اليميني) ريجان (في
11/1981م) ، والذي كان يقضي بتكوين لجنة مشتركة للتعاون العسكري، وعمل
مناورات عسكرية مشتركة، وتخزين أسلحة ومواد طبية أمريكية في (إسرائيل) ،
وزيادة الدعم الاقتصادي والتكنولوجي لها، والتفاوض لإقامة منطقة حرة بين
البلدين، ولعل هذا الاتفاق مما شجع (إسرائيل) على غزو لبنان في العام التالي
مباشرة.
يرى كثير من المتابعين صعوبة تغيير الموقف الأمريكي من (إسرائيل) ؛
لأنه موقف قائم على أسس (أخلاقية) ومصالح اقتصادية واستراتيجية تعشش في
أذهان معظم ساسة أمريكا وأفراد شعبها؛ فبحسب استطلاع للرأي حول الدين
والسياسة مولته جامعة (أكرون) عام 1996م فإن ثلث المسيحيين الأمريكيين
يعتقدون أن نهاية العالم ستكون خلال معركة (هرمجيدون) علي أرض فلسطين،
وهذا هو اعتقاد الأصوليين الإنجيليين الذين ينتشرون ويملكون إمكانات ونفوذاً
واسعاً في الدوائر الأمريكية، ويلخص الدكتور يوسف الحسن الاتجاهات الصهيونية
لدى هؤلاء في النقاط التالية:
» 1 - أن دعم (إسرائيل) وتأييدها ليس قضية أخلاقية أو إنسانية أو أمراً
اختيارياً، أو يعود إلى اعتبارات سياسية أو عسكرية، بل إنه قضاء إلهي، ومن ثم:
فإن معارضة (إسرائيل) خطيئة دينية، وإن دعمها وتأييدها هو في سبيل الخير
وإرضاء الله.
2 - أن وجود مدينة القدس تحت السيطرة اليهودية هو محور عودة المسيح
الثانية جغرافياً وتاريخياً، وأن المعبد اليهودي لا بد أن يقام قبل هذه العودة الثانية،
وعلى أرض المسجد الأقصى الذي لا بد له من زوال.. [تجمع الأموال في أمريكا
برعاية رسمية لبناء الهيكل الثالث على جبل (موريا) مكان المسجد الأقصى] .
3 - أن الالتزام بتدعيم أمن (إسرائيل) وتقويتها عسكرياً واقتصادياً، وإقامة
تحالف استراتيجي شامل معها، ومساعدتها بالتبرعات وشراء وتسويق منتجاتها
وسنداتها، وإنشاء صناديق الاستثمار الدولية لمصلحتها، وتشجيع الاستثمار
الأمريكي الخاص داخلها، واستصلاح الأراضي، وبناء المستوطنات فيها وفي
الضفة الغربية وغزة والجولان، وتوفير فرص التدريب للإسرائيليين داخل
مؤسسات ثقافية أمريكية.. هو التزام مسيحي مبني على اعتبارات روحانية
وتاريخية وأمنية.
4 - اعتبار كل أراضي الضفة الغربية وغزة والجولان ملكاً للشعب اليهودي،
وتسويغ حروب (إسرائيل) التوسعية، والدفاع عن غزواتها وعملياتها العسكرية
الخارجية، وحث الولايات المتحدة على دعم هذه الحروب والسياسات باعتبار أن
الله هو الذي عين حدود (إسرائيل) وأيد مطالبها في الأرض.
5 - وصم العرب بعامة والفلسطينيين بخاصة بالإرهاب، وممارسة الضغوط
المنظمة على صانعي القرارات السياسية والتشريعية لمنع بيع الأسلحة الأمريكية
إلى البلدان العربية ... وكذلك المطالبة بتوطين الفلسطينيين في البلدان التي نزحوا
إليها، والدعوة إلى الاعتراف الدولي بإسرائيل، ومطالبة أمريكا بالانسحاب من أي
منظمة دولية أو إقليمية أو خاصة ترفض عضوية إسرائيل أو الإسرائيليين
فيها.. « [11] .
وهذا ما يؤمن به ساسة أمريكا، الذين نقتطف تصريحات يسيرة لبعض
رؤسائهم:
-» إن الرئيس سعيد لأن أبواب فلسطين مفتحة اليوم أمام اللاجئين اليهود،
وعندما يتم التوصل إلى قرارات في المستقبل فسوف ينصف أولئك الذين ينشدون
وطناً قومياً لليهود «.. من تصريح للرئيس فرانكلين روزفلت في 16/3/1944م.
-» إن الولايات المتحدة.. اتخذت الموقف الذي لا تزال تَلْزَمُه، ألا وهو
تهيئة هذه الشعوب للحكم الذاتي ووجوب إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في
فلسطين «.. الرئيس ترومان في 28/10/1946م.
-» ... إسرائيل هي الضوء الساطع في الشرق الأوسط «الرئيس جون
كنيدي في 24/2/1957م.
-» إن إقامة إسرائيل هي تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها «
الرئيس جيمي كارتر.
-» ربما نكون الجيل الذي سوف يرى هرمجيدون «الرئيس رونالد ريجان
أثناء حديث له مع وزير خارجيته جيم بيكر 1981م.
-» رحلتكم هي رحلتنا، وأمريكا إلى جانبكم الآن وعلى الدوام «.. من
كلمة للرئيس بيل كلينتون أمام الكنيست الإسرائيلي ألقاها أثناء زيارته لإسرائيل في
27/10/1994م.
لقد لخص إسرائيل شاحاك علاقة أمريكا بإسرائيل عندما سئل في إحدى
محاضراته في واشنطن: ماذا يمكن أن تفعل إسرائيل لكي تغضب الولايات المتحدة؟
فأجاب:» إنه لا يوجد أي شيء تقوم به إسرائيل يستطيع أن يثير غضب
أمريكا! «.
وتسألون بعد ذلك: لماذا نكره أمريكا؟!!
* ثم أتت الحرب (العادلة!) الدائرة حالياً في أفغانستان وغيرها من بلدان
العالم الإسلامي لتكمل مسيرة العداء الأمريكي للعالم الإسلامي، وتروي عطش
الهيمنة الأمريكية على العالم وخيراته.
ومهما يكن من أمر، ورغم كل الظروف المحيطة بهذه الحرب والمسوغات
التي أشيعت لشنها، فإننا نستطيع القول بثقة: إن هذه الحرب مخطط لها منذ زمن
بعيد، بل يرجع بعض المحللين استهداف هذه المنطقة إلى أيام إيزنهاور، أوائل
خمسينيات القرن الماضي، وقد كشفت شبكة تلفزيون (C.B.N) الأمريكية
أن خطة الحرب الأمريكية كانت على مكتب بوش قبل يومين من 11 سبتمبر
(الحياة 22/5/2002م) .. وإن هذه الحرب تأتي في إطار الرغبة المحمومة لأمريكا
ولحلف الناتو في البحث عن عدو، وأنها حلقة في مسلسل يستهدف محاصرة رجوع
الأمة الإسلامية الحميد إلى إسلامها الصحيح، وإلا فما علاقة أحداث سبتمبر بقضايا
المرأة والتعليم والإعلام والدعوة وجمعيات الإغاثة ومعاهد الفكر ومؤسسات
الاقتصاد؟ كما تأتي هذه الحرب تحقيقاً لمصالح استراتيجية واقتصادية بعيدة سيكشف
التاريخ عنها ولا بد، ومسيرتها تقول: إنها حرب إجرامية تشهد أحداثها أنها لا
تراعي أي قيم أو مبادئ، وبتعبير الدكتور نعوم تشومسكي في لقاء مع قناة
الجزيرة:» إن الحرب الحالية في أفغانستان هي حرب إجرامية باختيار مرتكبيها؛
لأنهم أرادوها أن تكون كذلك، وهي فعلاً كذلك ... «.
وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه البروفيسور (فيدريكو مايور) المدير العام
السابق لليونسكو، بقوله لجريدة (العربي) القاهرية:» إن ما يحدث في أفغانستان
هو ثأر أمريكا الشخصي، وهو أمر متوقع من قبل قوى عظمى جبارة، وعلينا
الآن أن نكون في منتهى الحذر، ونتعلم من أخطاء الماضي؛ فلم يعد الأمر الآن
يتعلق بمواجهة جيش لجيش، إن ما نحتاجه الآن أكثر من السلام هو العدل الحقيقي
لا العدل على الطريقة الأمريكية «، ولكننا نعود ونذكِّر بأن هذه العدالة (الأمريكية)
المشوهة قائمة على جذور فكرية تستمد منها تأصيلها وأخلاقيتها [12] ، وهذا هو
مكمن الخطورة في وثيقة المثقفين الستين.
* مطالب عادلة:
وإزاء كل ما سبق فإنني أرى أن من حق المثقفين والمفكرين في بلادنا، ومن
حق شعوبنا أن يقدموا وجهة نظرهم في الموقف الذي عليهم اتخاذه، وفي كيفية
تحقيق (العدالة) التي نكأت الوثيقة جرحها، ومن خلال هذا المقال أقدم بعض ذلك
من وجهة نظر شخصية لا تعبر إلا عن صاحبها:
1 - أن ينأى أهل الفكر والثقافة بأنفسهم عن أن يكونوا أداة لتسويغ العدوان
وبوقاً لفلسفة القهر، فالمثقفون هم ضمير الأمم وليسوا أجهزة دعاية الحكومات،
وعليهم أن يرتفعوا عن الأحداث ويتجردوا من الهوى والمصالح ويتجاوزوا عوائق
الأنظمة وقيودها؛ ليكونوا بحق عقولاً لشعوبهم.
2 - أن يهتم الصف الإسلامي بضرورة إبراز حقيقة الإسلام للعالم بوضوح
وشجاعة أدبية، وبذل الجهد في مخاطبة فعاليات وجمهور العالم الغربي لإيصال هذه
الحقيقة، ومتابعة الافتراءات والشبهات التي تطلق على الإسلام والمسلمين وإيضاح
جانب الحق فيها. وفي الوقت نفسه يجب على هذا الصف الاهتمام بتنقية صفوفه
من الدخلاء أو من يشوهون حقيقة الإسلام، حتى لا تختلط الأوراق وتلتبس الحقائق
بأفعال أو أقوال منسوبة إلى العمل الإسلامي.
3 - وكما أن الغرب لا يقبل ولا يرضى أن يملي عليه أحد أفكاره ونمط
حياته وطريقة عيشه، فإن عليه أن يخلي بين الشعوب ورغباتها في طريقة حياتها،
وعليه أن يرفع يده عن التدخل في شؤوننا الداخلية ومحاولة فرض قيمه وتصوراته
على مجتمعاتنا، أما الحوار والمجادلة وهو أمر لم تطلبه الوثيقة فإن بابها عندنا
مفتوح، ولكنها يجب أن تكون عن رغبة صادقة وحقيقية وبدون ضغوط وقيود
تحول دون وصول هذا الحوار إلى الجماهير ودون تشويه الحقائق أو ممارسة ألوان
الدجل السياسي والإعلامي، كالذي نراه في الإعلام الغربي الصهيوني ومن دار في
فلكه في كمِّ أفواه كل من غرد خارج سربه حتى ولو كان من أبناء جلدته والمنتسبين
إليه (روجيه جارودي، ونعوم تشومسكي، وديفيد ديوك مثالاً) .
4 - أن يقف العالم الغربي وقفة محاسبة صادقة مع نفسه تجاه ماضيه
الاستعماري وحاضره الاستغلالي والهيمني، وأن يعمل على إزالة آثار ذلك الماضي
وهذا الحاضر من نفوس الشعوب المستضعفة بوضوح وبإجراءات ملموسة وفعالة.
5 - مع اعتبار أن ممارسات النهب المنظم والقهر المقنن التي مارسها الغرب
كانت أحد أسباب تأخر (العالم الثالث) وفقره، وفي الوقت نفسه أحد عوامل تقدم
الغرب وإحدى ركائز منجزاته (الحضارية) ، فإن العدالة تقتضي إعادة اقتسام
خيرات الدنيا ونواتج هذا النهب والاستغلال بالقسط، ويدخل في ذلك الثروات
الطبيعية وإنجازات العلوم والتكنولوجيا بما فيها حقوق الملكية الفكرية وبراءات
الاختراع، وإذا تعارض هذا الحق مع الحقوق الشخصية والمؤسساتية فإن على
المجتمع الغربي كله معالجة هذا الوضع بتحمله إعطاء الحقوق لأصحابها مع
تعويض أصحاب الحق المسلوب.
6 - وبما أن الغرب هو المسؤول الأول عن الفساد والدمار الذي لحق وما
زال بالأرض والبيئة، وهي تخص جميع البشر وجميع الأجيال.. فإن الموقف
الأخلاقي يحتم عليه أن يهتم بهذا الشأن ويتحمل تكاليف معالجة هذه الأوضاع دون
أدنى تكلفة أو إضرار بالشعوب الأخرى التي كانت ضحية لتقدم الغرب المادي.
7 - أن يوقف الغرب وخاصة أمريكا دعمهم الجائر والمطلق لـ (إسرائيل) ،
وأن يحملوا حكومتها بشتى السبل التي تستخدم مع الدول والشعوب الأخرى على
تنفيذ القرارات التي رأى الغرب نفسه بحسب قيمه ومعاييره شرعيتها، وأن يمكنوا
أهلنا في فلسطين من حقوقهم ويوقفوا مسلسل القهر والذل الذي يمارسه اليهود عليهم،
وهذا ما تقتضيه العدالة عند أي (ظالم عاقل) .
هذه هي النقاط (المطالب) التي أرى أنها الحد الأدنى الذي بغيره سيكون
هنتجنتون هو ملهم القرن الحالي! ..
__________
(1) انظر: المحايد وحرية التعبير.
http://www.alfjr.com
(2) أخرجه أصحاب السنن وأحمد بن حنبل وابن حبان، وصححه الألباني.
(3) المغرب العربي، دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة، د/ صلاح عقاد، ص 116.
(4) منير شفيق، مقال (أمريكا وسجلها المتخم بقتل المدنيين)
http://arabgate.info/politics/viewpoints/index/amiricarecord html.
(5) مقال: من حوليات الإرهاب والصحوة، د/ أنور عبد الملك.
(6) انظر: جريدة السلام الأخضر المصرية
http://www.tacc.eg.net.net/webjunior/green%20peace%5Cindex html.
(7) http://www.environment.gov.jo/society_encyclopadia/scwor15 htm.
(8) منير شفيق، ستون مثقفاً أمريكياً يوجهون بياناً إلى المسلمين، الحياة، 24/2/2002م.
(9) انظر: آثار الحصار على العراق، إعداد أمين شحاته.
http://www.aljazeera.net/in-depth/Iraq_file/2001/2/2-22-11 htm.
(10) انظر: جرائم الحرب الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين، د/ حسام علي الشيخة، مجلة المنار الجديد، العدد 18.
(11) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، ص 191، 192.
(12) انظر المقال القيم لحسن أبو حلو (الجذور الفكرية للتدخلات الأمريكية المسلحة في العالم) ، مجلة البيان، العدد 130، 6/1419هـ 10/1998م.(176/88)
مصطلحات ومفاهيم
الراديكالية
أ. د. محمد يحيى [*]
الأساس لهذا المصطلح الذي شاع استخدامه في دنيا الصحافة والسياسة حتى
وقت قريب هو الكلمة اللاتينية التي تعني «الجذر» مع اشتقاقاتها المختلفة،
وحسب هذا الأصل اللغوي يعني المصطلح عامةً: أي توجه أو نشاط أو فعل
ينصبُّ على أصول وجذور أو أسس المسائل والقضايا في المجال المعين الذي
يستعمل المصطلح فيه. غير أن هذا الوصف العام لمعنى المصطلح لا يفي ولا
يشفي في وصف كيفية استعماله في الفكر السياسي والاجتماعي الغربي على مدى
القرن العشرين؛ فالمصطلح أطلق في نهايات القرن التاسع عشر ثم بدايات القرن
العشرين على الحركات السياسية والفكرية والاجتماعية الرامية إلى إحداث تغيير
شامل وانقلاب عام في حياة المجتمعات الغربية، ولما كانت هذه الحركات في المقام
الأول هي الحركات الثورية ذات الميل اليساري بأطيافه الشيوعية والاشتراكية
لصق استعمال المصطلح بها في المقام الأول.
ولكن مع تعدد هذه الحركات وكثرة الانقسامات والانشقاقات فيها أصبح
المصطلح على درجة من التجرد والعمومية وسعة الانطباق؛ مما كاد أن يخرجه من
دائرة المصطلح المضبوط إلى أن يصبح مجرد وصف معمم يصلح للكتابات
الصحفية المتسمة عموماً بعدم الدقة والعمومية، ومع هذا التحول في انطباقية ودلالة
المصطلح توسع إطلاق هذا اللفظ من مجرد وصف حركات ذات طابع سياسي في
المقام الأول إلى وصف التوجهات الفكرية في شتى مجالات المجتمع مما تسعى إلى
إدخال التغيير الواسع النطاق والكيفي (قبل الكمي) في تلك المجالات.
وهكذا أطلق لفظ الراديكالية مع تقدم سنوات القرن العشرين على حركات في
المجتمع والأدب والفن في الغرب تسعى لقلب الأوضاع التقليدية المستقرة،
والممارسات والمفاهيم الراسخة في ميادين الفلسفة والنقد الأدبي والفكر الاجتماعي.
وبعد ذلك تخصص استعمال المصطلح على سعته ليطلق فقط على حركات
التغيير الشديد والحاسم، ودعوات القطيعة مع التقاليد وقلب الأوضاع، والثورية في
شتى ميادين الحياة في وجه حركات تدعو للتغيير المعتدل أو المحدود أو التدريجي.
باختصار: ألصق المصطلح بمعنى «الثورية» في العقود الأخيرة؛ وهنا
حاق به ما حاق بمفهوم «الثورية» نفسه الذي أصبح سيئ السمعة في الغرب،
وفقد بريقه مع ترسخ النظام الرأسمالي الجديد وسقوط الأنظمة الشيوعية، ومن
التطورات الأخيرة التي مست المصطلح في العقدين الأخيرين بالذات إطلاقه على
العديد من الحركات الإسلامية في بلدان عديدة، وفي هذه الحالة مثَّل مصطلح
«الراديكالية» بديلاً يحمل رائحة الموضوعية لمصطلحات أخرى تتسم بالطابع
الإثاري والغوغائي مثل: «الأصولية» و «التطرف» و «الإرهاب» .. إلخ.
وعند وصف الحركات الإسلامية يُستخدم المصطلح في بعض الكتابات الغربية
وحتى في البلاد الإسلامية ذات الطابع المتسم بالأكاديمية ليدل على تلك الجماعات
والتوجهات التي تسعى لقلب الأنظمة العلمانية وإحلال حكومات إسلامية محلها أو
على تلك الحركات التي تسعى لتغيير اجتماعي شامل في البلدان الإسلامية يواجه
الأوضاع العلمانية المتغربة التي سادت على مدى معظم فترات القرن العشرين في
بعض تلك البلاد. ومن الواضح أن إطلاق مصطلح الراديكالية على حركات
إسلامية معينة يحمل في طياته تمييزاً لها عن حركات أخرى يراها الدارسون
والكتَّاب من وجهة نظر غربية أو علمانيةٍ يرونها معتدلةً من حيث إنها في ظنهم لا
تعمل على إحداث تغيير إسلامي شامل في مواجهة المفاهيم المتغربة والعلمانية
الرائجة في البلدان الإسلامية. والوصف هنا يعني وسم هذه الحركات بالثورية في
وقت أصبحت فيه «الثورية» من أي نوع اتجاهاً مكروهاً في الغرب؛ وحتى في
تلك البلدان التي كانت حتى الماضي القريب تعتبر من رواد دعوة الثورية في
السياسة والاقتصاد.
وهكذا ظلت معاني ودلالات مصطلح الراديكالية ثابتة تقريباً على مر القرن
وإن تغيرت الظلال السلبية والإيجابية لهذه الدلالات والمواقف المتخذة من المصطلح
مع تأرجح وتغير وتبدل المواقف من قضية الثورية والتغير الجذري الشامل في
المجتمعات والفلسفات الأوروبية؛ فبعد صعود طويل وجاذبية مستمرة لفكرة الثورية
انقلب المد وانعكس إلى جذر، وبعد أن كانت الراديكالية تعني عندهم جدة وجرأة
الفكر والتطبيق والابتكارية في الفهم واقتراح الحلول والسير في طريق الإصلاح
إلى مداه تحولت لتعني الطيش والرعونة والجمود وعدم المجاراة للواقع والإخفاق
في الفهم لدقائق وتفاصيل القضايا، ولعل هذا هو أحد أسباب إطلاق المصطلح على
الحركات الإسلامية الثورية لتشويه صورتها بوضعها في صورة التيار الرجعي
الغابر، أو للإيحاء بعدم واقعيتها وعدم فهمها لحقائق العصر الحديث.
والواقع أن سقوط مفاهيم وتوجهات الراديكالية (الثورية) في الفكر والفعل
الغربي قد أدى في السنوات الأخيرة إلى شبه اختفاء لهذا المصطلح بحيث لم يعد
يطلق إلا على حركات خارج الإطار الغربي في البلدان الإسلامية أو في بعض
بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، وربما كان لعدم وجود حركات سياسية واجتماعية
وفكرية ثورية في الغرب الدور الأساس في شبه الاختفاء أو لذوبان هذا المصطلح
الذي يبدو أنه تعرض للمسار المألوف الذي يحدث لبضاعة الغرب الكاسدة، وهو أن
تصدر للاستعمال في الخارج!
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(176/100)
دراسات إعلامية
والت ديزني
والضحايا بإرادتهم
د. أحمد إبراهيم خضر [*]
aiakhedr@hotmail.com
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في الفوائد: «قبول المحل لما يوضع فيه
مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في
الاعتقادات والإرادات. فإن كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه
لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع، لم
يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك
الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها؛
فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته، والشوق إليه والأنس به، لا يمكن
شغله بمحبة الله وإرادته والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، فإذا امتلأ
القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع، لم يبق فيها موضع للشغل بالله
ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه.
وسرُّ ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن؛ فإذا صغى إلى غير حديث الله
لم يبق فيه إصغاء، ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله، لم يبق فيه
ميل إلى محبته، فإذا نطق القلب بغير ذكره، لم يبق فيه محل للنطق بذكره
كاللسان» .
* ما علاقة ما قاله ابن القيم بوالت ديزني وجهاز استخباراتها؟
لنبدأ القصة من أولها [1] .
أنتجت مؤسسة والت ديزني في أوائل التسعينيات فيلماً استوحته من روايات
«ألف ليلة وليلة» بعنوان: «علاء الدين» واعتبرته واحداً من أهم أعمالها،
وفي ربيع 1995م كتب «تريموثي هوايت وجي ون» مقالاً أكدا فيه أن في هذا
الفيلم إساءة للعرب والمسلمين وتعرضاً للشريعة الإسلامية، واعتبر أن ذلك أمر
يسهل فهمه تماماً.
وعندما عرض الفيلم في أمريكا الشمالية احتجت منظمات الأمريكيين العرب،
واتهمت المسؤول التنفيذي اليهودي لديزني بأنه تعمد تشويه صورة العرب. لكن
ديزني دفعت هذه التهمة عن هذا المسؤول اليهودي، خاصة بعد أن حقق الفيلم عائداً
يزيد عن مائتي مليون دولار في أمريكا الشمالية وحدها. لم يكن يهم ديزني ردود
فعل الأمريكيين العرب تجاه الفيلم؛ فالمسألة محسومة فيما يطلقون عليه هناك:
«حرية التعبير» ، كما أن ديزني كانت على دراية وفهم كاملين بصدى الفيلم
فيما يسمونه: «منطقة الشرق الأوسط» ، وآثرت أجهزة ديزني أن ترصد ردود
الفعل تجاه الفيلم في منطقة تضم أكثرية ساحقة من المسلمين وهي منطقة جنوب
شرق آسيا، وجاءت تحليلات «هوايت وون» لتبين أن المؤسسات الأمريكية
تشكل لنفسها أجهزة استخبارات خاصة يدخل موظفوها عادة تحت اسم موظفي
«العلاقات العامة» ، وتخدم هذه الأجهزة هدفين في وقت واحد:
أولهما: الحفاظ على استمرارية تدفق الدولارات الأمريكية إلى خزينة
هذه المؤسسات.
والثاني: الاستفادة من هذه المعلومات في خدمة المصالح الغربية عامة
والأمريكية خاصة.
يرى كلٌّ من «وايت وون» أن فيلم «علاء الدين» هو واحد من أنجح
محاولات ديزني في تغريب أو حتى «أمركة» منتج فني يخص ثقافة غير
أمريكية.
ولا يهتم الأمريكيون عادة بالثقافات غير الأمريكية إلا في ضوء الفائدة التي
يمكن أن يجنوها من ورائها، هكذا كان الأمر في حرب الخليج على حد قول
هوايت وون حيث قام الأمريكيون بتقويم ثقافة الخليجيين في حدود النفع الذي يعود
على العالم الغربي منها.
وعلى أساس هذه القاعدة، كانت رواية «علاء الدين» مادة خاماً استغلتها
آليات ديزني في إنتاج تصور معين يخص ثقافة شرقية، هذا التصور ليس
بالتصور الصادق الممثل لهذه الثقافة، وإنما كان تصوراً أمريكياً يصور العالم
العربي (الأجنبي) بطريقة هزلية ساخرة.
ويمكن القول هنا إن استغلال القضايا العرقية والقومية للشعوب، والتعبير
عنها بشخصيات ديزني الكارتونية ليس أمراً جديداً عليها وإنما تعود جذوره إلى
الأربعينيات من القرن الماضى.
* مكمسة العالم كيف؟
نجحت ديزني باستخدامها لشخصيات الروايات التي تنتجها ليس فقط في
الدعاية لنفسها، وإنما أيضاً فيما نسميه بـ «مكمسة العالم» نسبة إلى شخصية
ميكي ماوس الشهيرة. وعلى أساس ذلك فهي لا تستهلك الثقافات الأخرى فحسب،
بل إنها تبيع الثقافة الغربية للعالم عبرها أيضاً.
وتكشف ديزني عن حقيقة هامة مؤداها «أنها تنظر إلى مشاهدي منتجاتها
على أنهم ضحايا ولكنهم ضحايا بإرادتهم» بدليل هذه المبالغ الضخمة التي ينفقونها
على أفلامها. ومن هذا المنطلق خططت ديزني لغزو سوق جنوب شرق آسيا،
وتوقعت عائداً من السوق الدولي يصل إلى حدود مائتين وخمسين مليوناً من
الدولارات يأتي أكثرها من آسيا، وبالفعل لم تخيب آسيا توقعات ديزنى. اعتمدت
استراتيجية ديزني على تأسيس مكاتب وشركات لها بعواصم دول هذه المنطقة،
وعلى إقامة مظلة كبيرة يدخل تحت غطائها إلى المنطقة كل وسائل وأجهزة ديزني
من أفلام وأسطوانات وشراط فيديو وكاسيت وغير ذلك. حرصت ديزني على
عرض فيلم «علاء الدين» في فترة عطلة المدارس وعلى ألا يقتصر عرض
الفيلم على الصغار فقط، بل للشباب والكبار، وحرصت ديزني كذلك على تقديم
بعض التذاكر المجانية والمخفضة سواء للأفراد أو العائلات؛ هذا بالإضافة إلى
الجوائز والمسابقات وبيع الدمى التي تمثل شخصيات الفيلم. كما تعمدت ديزني
إدراكاً منها للصورة السلبية التي تسيء إلى العرب والمسلمين إلى اتباع إجراءات
تخفف من حدة هذه الصورة، لكنها تقيس في نفس الوقت مدى فاعلية هذه
الإجراءات وآثارها على المشاهدين. مثال ذلك أن أول عرض للفيلم في كوالالمبور
كان لصالح الأطفال اليتامى بها، وتبين لديزني بعد العرض أن الأطفال لم
يعترضوا على شيء مما شاهدوه.
بدأت ديزني بسنغافورة؛ حيث الأقلية المسلمة الهامة هناك، وكانت قد أعدت
خطتها لغزو السوق السنغافوري في عام 1998م. افتتحت ديزني فيلم «علاء
الدين» مع بدايات مايو 1993م وكانت هذه أول مرة يعرض فيها فيلم رسوم
متحركة على نطاق واسع، وقياساً على نجاح فيلمها السابق «الجميلة والوحش»
الذي شاهده 400 ألف متفرج وحقق عائداً قدره 1.2 مليون دولار أمريكي في
دورة ستة شهور، توقعت نجاح فيلم «علاء الدين» وخاصة أن سنغافورة بلد لا
يزيد عدد سكانه على ثلاثة ملايين نسمة، وكان سعر تذكرة الدخول أربعة دولارات
أمريكية.
* رأي السنغافوريين:
أنفق السنغافوريون على منتجات ديزني حوالي عشرة ملايين دولار أمريكي
بخلاف ما أنفقوه على الفيلم، لكن ديزني كانت حريصة على تتبع ردود أفعال
السوق السنغافوري على الفيلم عامة، وردود أفعال الأقلية المسلمة خاصة. وتبين
لها الآتي:
1 - أن هناك إدراكاً من السنغافوريين لمخططاتها في المنطقة؛ فقد كتبت
إحدى الصحف السنغافورية الهامة عندما أنشأت ديزني شركة حديثة لها بسنغافورة
أن مؤسسة والت ديزني تمهد الأرض لهجوم واسع النطاق على قلوب وعقول
وجيوب المستهلكين في جنوب شرق آسيا.
2 - كانت سيادة غير المسلمين على سنغافورة حائلاً دون حدوث أي مشكلات
لديزني بسبب الفيلم؛ فغير المسلمين لا يهتمون بمشاعر المسلمين، وإن كانت هناك
معارضة من قِبَل المسلمين فلا تحسب ديزني حساباً لها؛ فهم في جملتهم لا تزيد
نسبتهم على 16% في حين يشكل البوذيون والطاويون نسبة 56% بخلاف
النصارى والهنادكة.
* رأي الماليزيين:
عبرت ديزني بفيلم «علاء الدين» بحر الصين الجنوبي متجهة إلى
«ماليزيا» في التوقيت نفسه الذي تحركت فيه إلى سنغافورة تقريباً. ولماليزيا
عند ديزني ملامح خاصة حددها «هوايت وون» على النحو الآتي:
أولاً: إن 53% من سكان ماليزيا مسلمون والباقي من البوذيين والصينيين.
ثانياً: إن مالكي المسارح التي تعرض فيها ديزني أفلامها من غير المسلمين.
ثالثاً: إن الصحف الماليزية تعتمد في تمويلها بدرجة كبيرة على إعلانات هذه
المسارح التي يمتلكها غير المسلمين.
رابعاً: إنه وإن كانت ماليزيا معروفة بتمسكها بالإسلام فإن ولاياتها ليست
جميعها على درجة واحدة في هذا التمسك باستثناء ولاية «كالتنج» التي عارضت
الحزب الحاكم، ووقفت ضد الروايات والمسرحيات التي تتنافى مع الإسلام.
خامساً: إن في ماليزيا حركة إسلامية قوية وهي حركة الشباب المسلم
الماليزي (الأبيم ABIM) ، وهى حركة تسعى إلى تأسيس دولة إسلامية ذات نظام
اقتصادي وقانوني قائم على الشريعة الإسلامية.
سادساً: إن الحزب الحاكم في ماليزيا يؤكد على مسألة الانسجام العرقي
والسلالي أي على القومية بدلاً من الإسلام.
سابعاً: إن هناك تحالفاً بين حركة الشباب المسلم (الأبيم) وبين الحزب
الحاكم، تمثل وقتها في اختيار رئيس هذه الحركة نائباً لرئيس الحزب الحاكم، ثم
وزيراً للتعليم، فنائباً لرئيس الوزراء في نفس الوقت الذي حافظ فيه على روابطه
مع الحركة.
هذه الملامح السبعة التي حددتها ديزني لماليزيا جعلتها تراهن على نجاح فيلم
«علاء الدين» بالرغم من مثالبه المشار إليها.
بدأت ديزني في رصد ردود الأفعال الماليزية تجاه الفيلم في ضوء الأبعاد
السابقة. صدر أول رد فعل من حركة (الأبيم) التي طالبت الحكومة في نداء لها
بإيقاف عرض الفيلم ومقاطعة كل وسائل توزيعه بسبب العنصرية التي تبرزها
مقدمة أغنية الفيلم التى تقول على لسان أحد الشخصيات العربية: «إنني جئت من
أرض في مكان بعيد حيث تطوف قوافل الجمال هناك، إنهم يقطعون أذنك إذا لم
يكن يحبون وجهك، إن هذا فعل بربري، لكن هذا هو الحال في بلادنا» .
علق السكرتير العام للحركة على الفيلم بأنه عنصري يسخر من العرب
والمسلمين على السواء، وأنه يجب منعه؛ لأنه لا يتناسب مع المشاهد الماليزي.
ولم تكن (الأبيم) وحدها هي التي عبرت عن مشاعرها نحو الفيلم بل كانت هناك
جهات أخرى عديدة هاجمت تصورات ديزني عن العرب والمسلمين كما أظهرها
الفيلم.
* ولكن لماذا لم يتدخل الحزب الحاكم لإيقاف عرض الفيلم؟
فسر «هوايت وون» ذلك بعدم وجود ضغط شعبي قوي يجبر الحكومة على
اتخاذ قرار في ذلك، كما أن الفيلم لم يعرض في أيام انتخابات بالرغم من أن
الإساءة للعرب والمسلمين تشكل أرضية كافية لاتخاذ قرار في ذلك، ولكن في
ظروف وأحوال أخرى.
أما عن التحالف بين حركة الشباب المسلم الماليزي وبين الحزب الحاكم فقد
جاء لصالح ديزني؛ فبعد أن بدأت (الأبيم) بالاعتراض على الفيلم بالصورة التي
أشرنا إليها عادت وتخلت عن نداءاتها بطلب الإيقاف تماماً مما يعني لديزني أن
النداء بطلب الإيقاف لم يكن إلا من قبيل إظهار التعاطف مع الشباب المسلم وخاصة
العربي المتحالف معها على المستوى الدولي.
رصدت ديزني أيضاً ردود فعل الصحف الماليزية تجاه الفيلم، فتبين لها
محدودية هذه الردود وعدم استجابة هذه الصحف لنداء (الأبيم) بإيقاف عرض
االفيلم. لم تكن هناك إلا صحيفة واحدة ناطقة بالإنجليزية كانت قد غطت الأحداث
المرتبطة بالفيلم في حين لم تنشر أي صحيفة ناطقة باللغة الوطنية هذا النداء.
علقت صحيفة ماليزية واحدة على الفيلم لكنها لم توفق في العرض السليم للجدل
الذي أثير حوله. لم تتعرض هذه الصحيفة لعنصرية الفيلم، بل على العكس من
ذلك تحمست له ودعت الأطفال والكبار لمشاهدته.
أما التفسير الذي وضعته ديزني لأسباب تجاهل الصحف الماليزية لنداء
(الأبيم) بمقاطعة الفيلم فقد حصرته في اعتماد الصحف الماليزية بدرجة كبيرة على
الدعاية والإعلانات التي يقوم بتمويلها أصحاب المسارح من الصينيين الذين يعرض
الفيلم على مسارحهم. والصينيون ليست لديهم هذه الحساسية التي تجعلهم يراعون
مشاعر المسلمين الخاصة بالفيلم. وقد فندت ديزني الزعم القائل بأن مالكي المسارح
وموزعي الفيلم قد ضغطوا على الصحف لكي تغض الطرف عن نداء الجماعات
الإسلامية بالمقاطعة بأن قرار عدم الاستجابة لهذه النداءات قد يكون مصدره
المسؤولين عن هذه الصحف نفسها أو رؤساء تحريرها. وخلاصة الأمر أنه ليس
من مصلحة الصحف نشر النداءات بمقاطعة الفيلم وخاصة أن عائداً مالياً كبيراً يعود
عليها من إعلانات مالكي المسارح.
وقد حاول «هوايت وون» تفسير الأسباب التي كانت وراء عدم اهتمام
الإعلام الماليزي بنداء (الأبيم) بالمقاطعة، وكذلك الأسباب الكامنة وراء عدم
وجود استنكار شعبي معارض للفيلم كالذي حدث إبان كتاب سلمان رشدي على
النحو الآتي:
1- الماليزيون مسلمون، ولكنهم ليسوا عرباً، وهذا لا يعني أنهم لا يتأثرون
بما يجري لإخوانهم العرب، إنما سيكون الأمر أكثر شدة إذا كانت شخصيات الفيلم
إسلامية بوضوح أكثر مما هي عربية.
2- أن الناس لا تنظر إلى الرسوم المتحركة أنها تدور حول فكرة أو قضية
معينة؛ فهذا لا يكون إلا لأصحاب الفكر العميق، وهذه الرسوم والأفلام بالنسبة
لعامة الناس هي مجرد أفلام يستمتع بها الأطفال وكذلك الكبار. ونادراً ما يؤخذ
الأمر بجدية كالحال في أمور الدين والسياسة.
3- أن الماليزيين قد أعجبوا بشدة بالفيلم رغم إساءته للعرب بدرجة أكبر
وللمسلمين بدرجة أقل، وقد طرحت ديزني هنا سؤالاً هاماً: كيف يشاهد ويستمتع
من هو مخلص لدينه بفيلم معروف بأنه عدائي لأصحاب هذا الدين؟ إن هذا أمر
غير عادي. وبصورة أخرى: لماذا أصر المشاهد الماليزي على تجاهل هذه
النداءات التي تطالب بإيقاف عرض الفيلم؟
فسر «هوايت وون» ذلك بما يلى:
أولاً: الفيلم عبارة عن «رسوم متحركة، وهذا أمر يحبه الماليزيون كثيراً،
كما أنه نوع من الميلودراما المؤثرة؛ بمعنى أنه يتضمن قصة حب بين أميرة جميلة
تدعى (ياسمين) وشاب فقير وسيم يدعى (علاء الدين) ، ويتضمن الفيلم العديد
من الأغاني الرومانسية والقليل من أحداث العنف. والفيلم بصورة عامة صورة
مماثلة لما يجري في السينما الماليزية، وقد تفاعل الماليزيون مع رومانسية الفيلم،
ولم يدركوا تعرض الفيلم للشريعة الإسلامية؛ لأن التعرض لم يكن واضحاً ومحدداً؛
حيث أظهر احتمال بتر يد الأميرة (ياسمين) لسرقتها غير الواضحة لتفاحة،
وقطع رأس (علاء الدين) لاحتمال رفقته للأميرة (ياسمين) أو لسرقته. ويبدو
لنا هنا أن ديزني ربطت بين رومانسية أحداث الفيلم وبين عملية بتر اليد أو قطع
الرأس لتؤثر بطريقة ماكرة على المشاهد المسلم فتدفعه لا شعورياً إلى اتخاذ موقف
متشكك من شريعته الإسلامية.
ثانياً: أن قبول الإسلام مع الاعتقاد في فكرة تناقضه كالسحر أمر شائع عند
الماليزيين، كما هو شائع أيضاً في الديانات الأخرى؛ ولهذا فليس من المستغرب
أن يستمتع الماليزيون بفيلم يتضمن هجوماً على العرب والمسلمين في الوقت الذي
يعتنقون فيه الإسلام ويتحمسون له.
ويرى» هوايت وون «أن من أشد المواقف التي تدعو إلى السخرية هو أن
ديزني قد اتخذت بعض الخطوات لمعالجة ما تضمنته مقدمة أغنية الفيلم من إساءة
للعرب وللمسلمين، كما أنها اتخذت في نفس الوقت إجراءات لمجابهة الأنشطة غير
المشروعة في تقليد النسخ الأصلية للفيلم كلفتها ما يقرب من سبعة ملايين دولار،
ثم تبين لها انتشار شرائط الفيديو المقلدة وذات النوعية الرديئة من فيلم» علاء
الدين «في أنحاء ماليزيا، وكانت هذه النسخ المقلدة تتضمن تعديلاً أجري على
أغنية الفيلم، لكنه استبقى هذا المقطع الذي يقول:» إن هذا فعل بربري، لكن
هذا هو الحال في بلادنا «.
مر الفيلم بسلام في باقي دول جنوب شرق آسيا؛ ففي أندونيسيا التي تبلغ
نسبة سكانها من المسلمين ثمانياً وثمانين في المائة من جملة السكان افتتح الفيلم في
جاكارتا في 10/6/1993م وأنهى دورته بنجاح في 14 يوليو، وصاحبته الدعاية
وتقديم الجوائز والتذاكر المجانية والهدايا ومسابقات الأطفال كالحال في ماليزيا كما
بيعت في الأسواق دمى شخصيات الفيلم كعلاء الدين وياسمين والجني والوزير
جعفر - يرتدون زياً مستوحى من هذه الشخصيات في الفيلم.
وقد تجاهلت الصحف الأندونيسية - كالحال في ماليزيا - الفيلم ما عدا
صحيفة (جاكارتا بوست) الناطقة بالإنجليزية التي نشرت تنديد الأمريكيين العرب
بأغنية الفيلم، ولم تعر الصحف الأندونيسية الكبرى انتباهاً لنداء (الأبيم) بمقاطعة
الفيلم أو أي نداء آخر للمنظمات الإسلامية الأندونيسية. أما التعليقات التي كتبت
عن الفيلم سواء بالإنجليزية أو باللغة الوطنية فقد كانت في غالبيتها إيجابية، مقرظة
للفيلم، مثنية على صناعته وإبداعاته، وعلى القيم والأخلاقيات التي أظهرها مثل
قيم الأمانة والعدالة والحرية والتعاون والمثابرة والإخلاص في الحب. واعترف
النقاد مع هذا الثناء بأن الفيلم يقدم صورة مشوهة عن العالم العربي والإسلامي،
وكتب أحدهم على استحياء» أنه على الرغم من التكنولوجيا المعقدة المستخدمة في
الفيلم وقصته الجذابة فإنه قدم العرب في صورة ملونة عبر الإحساس الفني الغربي،
وصف «هوايت وون» هذا الكاتب بأنه يعاني من تناقض وجداني ظهر في
قوله إنه يتعجب لماذا لم تفعل هوليود مع الروايات الأندونيسية مثلما فعلت مع رواية
«علاء الدين» ؟
امتدت تحليلات ديزني لتعقد مقارنة بين أندونيسيا وماليزيا، وانتهت إلى أنه
بالرغم من أن الدولتين مسلمتان وتنتميان إلى منطقة جنوب شرق آسيا فإنهما
تختلفان في اتجاه كل منهما تجاه الغرب اختلافاً كبيراً؛ فباستثناء الانقلاب الشيوعي
منذ عام 1948م، كان لماليزيا تاريخ سلمي في استقلالها عن بريطانيا التي أرادت
أن تتجنب محنة كالتي عاشها الفرنسيون في فيتنام؛ ولهذا فإن الثقافة الغربية
محبوبة في ماليزيا، ولها نفوذها الكبير هناك، ويظهر ذلك بوضوح في التليفزيون
الماليزي الذي يعرض أغاني مادونا وفرقتها الموسيقية، وترى هذه التحليلات أنه
بغضِّ النظر عن هذه (القعقعات) التي يظهرها البعض كالدعوة إلى الحد من
استخدام اللغة الإنجليزية في الإعلانات وغيرها، فإن اتجاه الحكومة والشعب
الماليزي نحو الغرب اتجاه إيجابي، وقد كان هناك بعض النقد للغرب في السنوات
الأخيرة، لكن هذا النقد يظل في غالبيته للاستهلاك المحلي وعادة ما يستخدم للتأثير
على السكان المحليين.
أما أندونيسيا فقد حصلت على استقلالها عبر ثورة عارمة ضد الهولنديين،
ومن المعروف عن أندونيسيا اتجاهاتها العدائية ضد الغرب من قبل الحكومة على
الأقل إذا لم يكن من غالبية السكان. ويضاف إلى ذلك أن لأندونيسيا صناعة فيلمية
متطورة أكثر من ماليزيا ويعكس تاريخها الحديث صراعاً مع صناعة السينما في
هوليود مما يجعل الأندونيسيين لا يتعاطفون معها؛ وذلك على العكس من ماليزيا
التي كانت محرومة من أفلام هوليود. المهم هنا هو أنه ليس في أندونيسيا اتجاه
يعترض على فيلم «علاء الدين» بالإضافة إلى أن هناك خوفاً من رد الفعل
العنيف الذي قد تتخذه الولايات المتحدة ضد أندونيسيا وخاصة أن الأولى قد وضعت
الأخيرة في قائمة المراقبة لمخالفتها قوانين حقوق التأليف والطبع. ورغم شعور
الأندونيسيين بعدم العدالة التام من قبل الولايات المتحدة التي هددت بفرض عقوبات
عليها من جراء ذلك، فإنهم يتجنبون إثارة أي نوع من الحرب التجارية مع
الولايات المتحدة. وخلاصة ذلك أن المطالبة بوقف عرض فيلم علاء الدين أمر
غير مرغوب فيه ولن يكون له أثره المطلوب.
* رأي البروناويين:
أما (بروناي) هذه الدولة الصغيرة ذات الأغلبية المسلمة فقد كانت ردود
الفعل الرسمية تجاه الفيلم محدودة. لم تكن (بروناي) قد شاهدت الفيلم إلى أن
افتتح في أحد مسارح الدولة في 12/8/1993م لمدة أسبوعين. كانت الصحافة في
بروناي قد غطت أحداث الجدل الذي أثير حول الفيلم في الولايات المتحدة وبصورة
لم تحدث في أي دولة من دول جنوب شرق آسيا. وعلى عكس الصحافة في هذه
الدول فإن الصحف الكبرى في بروناي أبرزت نداء (الأبيم) بمقاطعة الفيلم، إلا
أن ذلك كله كان قد حدث قبل عرض الفيلم في بروناي، ولما عرض الفيلم توقف
الجدل وأصبح الحديث عنه كحديث عن أخبار قديمة. وانتهت ديزني من تحليلاتها
عن ردود الفعل تجاه الفيلم في بروناي إلى القول بأنه «على الرغم من أن بروناي
دولة مسلمة تعتبر أن تجارة المشروبات الكحولية غير قانونية فإنه نادراً ما تجد
هناك فيها حاجة إلى التاكيد على المعتقدات الإسلامية سواء كان ذلك على مستوى
الشعب أو الحكومة» .
* كيف اختُرق العقل المسلم؟
ما يهمنا من هذا كله هو: كيف استطاعت ديزني اختراق العقل المسلم سواء
في جنوب شرق آسيا أو في غيرها من بلاد العالم الإسلامي؟ وكيف استطاعت
«أمركة» جزء من الثقافة العربية وأعادت تقديمه إلينا في صورة استعلائية
تهكمية ساخرة؟ والأهم من هذا وذاك كيف استطاعت أن تحول ضحاياها من
المسلمين إلى ضحايا بإرادتهم يقبلون على أفلامها ويدفعون لها ثمن ما يستمتعون به
من عروض تحقِّر من شأن المسلمين وتسخر من دينهم وشريعتهم.
إن رجال استخبارات ديزني توصلوا إلى حقيقتين أساسيتين اخترقت بهما
العقل المسلم:
الأولى: أن مهابة المسلمين قد نزعت من قلوب أعدائهم بدليل جرأة هؤلاء
الأعداء على الإسلام وشريعته وسخريتهم من المسلمين، بل وجعل المسلمين
يدفعون بإرادتهم ثمن هذه السخرية. في البلاد التي يسود فيها غير المسلمين تجدهم
لا يعبؤون بمشاعر المسلمين، وإذا اعترض المسلمون على إيذاء مشاعرهم، فلا
أحد يقيم لذلك وزناً. أما في البلاد التي يسود فيها المسلمون فإن الأقلية غير المسلمة
تتحكم فيهم؛ فهم يملكون المال؛ ومن تملك المال سيطر على الإعلام وتحكم في
الكلمة. عرف رجال ديزني أن المسلمين ليسوا على قلب واحد، سواء اختلفت
أقطارهم أو كانوا في قطر واحد، وإذا اعترض المسلمون على تحدي مشاعرهم
فبضع تذاكر أو هدايا مجانية ترضيهم، أو حفل لصالح اليتامى، كما يسهل إقناعهم
بأن أفلام الكارتون لا تحمل فكراً وإنما هي مجرد أعمال فنية للتسلية فقط، وخاصة
أنه يصعب عليهم إدراك مقاصد هذه الأعمال الفنية. تأكد رجال استخبارات ديزني
أن المسلمين لا يختلفون عن النصارى أو البوذيين في اعتقادهم في دينهم مع
الاعتقاد فيما يناقضه في نفس الوقت. وهذه الأمور من شأنها أن ترجئ استخدام
الأعداء لسلاح القوة بالتدخل أو استخدام العقوبات إذا لزم الأمر.
الثانية: أن المسلمين مصابون بالوهن؛ فهم يحبون الدنيا. صحيح أن
الإسلام قوة لها اعتبارها؛ لكن هناك منافسون أقوياء للإسلام في قلوب المسلمين،
إنه حب المسلمين للمال وحبهم للفن كما عبر عن ذلك هوايت وون. إنهم موزعون
بين إخلاصهم لدينهم وحبهم للأعمال الفنية وخاصة الدرامية منها، سواء عرضت
في صورة فيلم عادي أو كارتوني. عرف رجال ديزني ذلك الوهن في قلوب
المسلمين من نتيجة تحالف أي حركة إسلامية مع الحزب الحاكم، ومن تملق الحزب
الحاكم لمشاعر العامة أيام الانتخابات، ومن خضوع رجال الصحافة من المسلمين
لمن يدفع أكثر حتى ولو كان غير مسلم، ومن سطحية تفكير النقاد المسلمين لأفلام
ديزني، ومن عدم قدرة دولة كاملة يسيطر عليها المسلمون من إعلان هويتها
ومعتقداتها الإسلامية وما كان خلاف ذلك فهو استثناء لا يعتد به.
لهذا كله تتداعى على المسلمين الأمم من كل أفق كما تتداعى الأكلة إلى
قصعتها؛ فقلوبهم ممتلئة بالباطل اعتقاداً ومحبة؛ فأين موضع اعتقاد الحق ومحبته؟
وجوارحهم مشتغلة بغير الطاعة فلا يمكنهم شغلها بالطاعة، إلا إذا فرغوها من
ضدها، وآذانهم تصغي إلى غير حديث الله؛ ولهذا لم يبق فيها إصغاء وفهم لحديثه،
ومالوا لغير محبة الله؛ فلم يبق فيهم ميل إلى محبته، وألسنتهم نطقت بغير ذكر
الله، فلم يبق لهم محل للنطق بذكره.
وأخيراً: كما قال ابن القيم: «.. كذلك إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من
ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها، ولا تلج فيه، ولكن تمر مجتازة لا مستوطنة» .
__________
(*) أستاذ مساعد علم الاجتماع المنتدب بجامعة الأزهر، وبجامعة القاهرة (فرعي الفيوم، وبني سويف) .
(1) انظر تفصيل للمقالة الآتية:
Timothy R White and J E Winn, Sslam Animation and jMoney, the reception of disney's Aladdin in southeast Asia. htt://www.arts.uwaterloo.ca/Fine/juhde/white95 1.htm.pp1 - 13.(176/102)
المنتدى
ردود
يبقى التفاعل مع قراء وكتاب المجلة عنصرا رئيسيا من عناصر نجاح مجلة
البيان، وإن كانت المجلة قد استأنست برأي محبيها في النقلة النوعية الجديدة للمجلة،
وتقديرها لكل رأي وافق هذا التطوير أو عارضه. من هذا المنطلق تعرض
المجلة رأيين متناقضين حول التطوير الأخير. مع تأكيدنا على أن الخلاف في
الرأي لا يفسد الحب ولا يذهب بالثقة، مؤكدين ترحيبنا بكل نقد جاد يسعى
للتصحيح والتكامل. سائلين الله - عز وجل - أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
* الرسالة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأسأل الله لكم ولجميع الإخوة الذين معكم العافية والتقدم، والفلاح والسداد في
الدين والدنيا والآخرة.
وصلني العدد 173 من البيان الحبيبة في شكلها الجديد المتطور وكانت كالعادة
تحتوي على موضوعات تغني العقل، وتخصب الوجدان، وتسهم في إثراء المعرفة،
وتقدم المادة العلمية والثقافية بطرائق تزيد إقبالي عليها وتعلقي بها، وتزيد المجلة
رونقا وبهاء وجمالا.
الحمد لله: إن البيان تعد مدرسة مرموقة؛ فطروحاتها المنهجية وموضوعاتها
العلمية وأفكارها الشاملة لجميع أنواع المعرفة قد جعلها في مقدمة المجلات المحترمة
على الساحة الإسلامية والدولية بعيدا عن المنظور الضيق الذي يغلب عنصر الإثارة
وتسويق المطبوعة دون احترام لعقل القارئ ورأيه.
الحمد لله: قد مرت البيان بمراحل من التجدد شكلا وموضوعا حتى وصلت
إلى ما وصلت إليه بفضل الله ثم بالجهد الكبير الذي تبذلونه مع الإخوة الذين معكم،
ولا يخفى عليكم - يا أخي الكريم - أن المجلات المحترمة - و «البيان» في
طليعتها - تأتي أهميتها من خلال ما تقدمه من مادة علمية ومضامين مفيدة
وموضوعات نافعة شاملة، وليس من خلال التطوير في الشكل فقط، وكم من
المجلات العلمية المحترمة القديمة التي لم تطلها يد التغيير والتجديد من عشرات
السنوات وهي محل تقدير واحترام ورضى من قرائها، وهذا بخلاف من المجلات
السوقية التي تتغير في كل يوم ضمانا لتسويقها.
وبعد: فإن تطوير شكل المجلة وحجمها في الطول والعرض لفي حاجة إلى
إعادة نظر؛ لأنه يسبب مشكلة للاحتفاظ بها مع أخواتها، ويفقد البيان صورتها
المعروفة المرسومة في أذهان قرائها ومحبيها، ويا حبذا لو كان هذا التطوير في
صورة إضافة صفحات جديدة لا في تغيير شكلها وطولها وعرضها؛ ولهذا فإني
بحكم علاقتي بالبيان من فجر ولادتها وكوني من كتابها وقرائها ومحبيها ومن
الحريصين على تطورها واستمراريتها فإني أطلب وأرجو وآمل وألح أن تعيدوها
إلى شكلها وحجمها السابق.
ولكم مني جزيل الشكر ووافر الامتنان، وتقبلوا تحياتي لكم وللإخوة جميعا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... أخوكم: الدكتور محمد طاهر حكيم
... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ بجامعة الإمام
... ... ... ... والمبعوث إلى الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، باكستان
* الرسالة الثانية:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
اطلعت على مجلتكم الغراء البيان، ووجدتها درة ثمينة تدثرت بثوب قشيب،
وأطلت على محبيها بوجه حسن يليق بما تحتويه من كنوز ثمينة، وصفحات لامعة
تعكس أصالة معادنها النادرة.
وإنني أهنئكم على هذا التحول الجديد الذي استجاب لاستجداءات إخوانكم
ولنداءات أحبابكم التي بحت مطالبة بالتمشي والمواكبة مع متطلبات العمل الإعلامي
المتغير بتسارع.
كما أنني أخصكم بالتهنئة والتبريكات لاستجاباتكم لرأي الأغلبية القارئة، وهذا
في حد ذاته وعي كبير وتوجه مبارك يوحي ويدل على أن البيان ملك وحق للجميع.
وإننا ومحبيكم في انتظار قفزات تطويرية متلاحقة، وتحسين مستمر، وتجديد
دائم يحفظ للبيان مكانتها القيادية بين المطبوعات الرصينة الهادفة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوكم د. أحمد الشميمري
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس قسم إدارة الأعمال
جامعة الملك سعود - فرع القصيم
* الإخوة: رابطة طلاب لامو بكينيا: ضياء الدين أحمد كامل، الشريف
محمد الحارثي، خالد بن صالح النجدي: وصلتنا مقترحاتكم وملاحظتكم، والمجلة
إذ تشكر لكم هذا الحرص والتواصل تدعو الله تعالى أن يبارك جهودكم وأن ينفع بكم.
* الأخ: أحمد بن حمدان الشهري: نشكر لك تواصلك مع المجلة، ونرجو
التكرم بإعادة إرسال مقالكم: (الصناعة في القرآن الكريم) حيث إنه قد وصلنا
غير مكتمل.
* الإخوة والأخوات: محمد بن يحيى مفرح، إبراهيم بن يوسف آل الشيخ
سيدي، عبد الباري العطار، إسلام دعدوشة، د. إسماعيل منصور، محمد شلال
الحنانة، الحسن زروق، جمال الحوشبي، عبد الرحيم عبد الواحد الشرعبي،
عبد الله بن عبد اللطيف الحميدي، محمد الغريش، محمد جمال سالم باحيدرة،
فيصل مصطفى إبراهيم، عبد السلام إبراهيم، جمعة سعد، سعد بن محمد
الكثيري، حسن باكور، موسى راجح الرحيلي، حسام الذيب، إبراهيم عبد الله
محمد، موسى محمد هجاد الزهراني، علي يعقوب سلامة، علي بن سعد
الغامدي، إبراهيم يحيى العمري، عبد الله موسى بيلا، محمد سالم محمد،
عبد الله عبد الرحمن الزهراني، أيمن إبراهيم شحاتة، طارق عبد العزيز
الغامدي، نسرين محمد شريف: نشكر لكم تواصلكم الكريم مع مجلتكم،
ونرجو التكرم بإفادتنا بعناوينكم البريدية للمراسلة.(176/108)
الورقة الأخيرة
الصحافة الإسلامية بين الغياب والتغييب
جمال سلطان [*]
في العالم المعاصر درج علماء السياسة والاجتماع على وصف الصحافة
بـ «السلطة الرابعة» ؛ وذلك بالإضافة للسلطات الثلاث التي تتوزع عليها السيادة
في المجتمع الجديد وهي: «السلطة التشريعية» وتمثلها البرلمانات والمجالس
النيابية، و «السلطة القضائية» وتمثلها مؤسسة القضاء بأفرعه ودرجاته
المختلفة، و «السلطة التنفيذية» وتمثلها الحكومة حسب أنواع الحكومات
المختلفة؛ وذلك على الرغم من الاختلاف الجوهري في طبيعة تكوين الصحافة
عن المؤسسات الثلاث المذكورة، واستقلاليتها التي تصل إلى حد الفوضوية
في بعض البلدان.
وإنما وُضعت الصحافة في هذه المنزلة لما لها من تأثير خطير في توجيه
الرأي العام في المجتمع، وهو الذي يصنع في النهاية توجهات الاختيار للسلطة
التشريعية «البرلمان» ، كما تمثل دعماً للعدالة التي تمثلها مؤسسة القضاء من
خلال كشفها عن مظاهر الفساد والاختلال وغيرها التي قد تقع في المجتمع، وكذلك
فهي تمثل رقابة حقيقية على السلطة التنفيذية بما لها من متابعات حية وكثيفة ومعقدة
مع أجهزتها ورجالاتها.
ولعل القارئ لا ينسى أن الصحافة كانت السبب المباشر في عزل رئيس أكبر
دولة في العالم الآن مرتين، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن الصحافة في
المقابل هي آلة صناعة النخبة السياسية والثقافية والأدبية، ويزداد حضور
الشخصية في هذه المجالات ونفوذها بقدر قربها من الصحافة وامتلاك خبرة التعامل
معها. وحتى الآن، وعلى الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه أجهزة الإعلام
الأخرى كالتلفزيون والإذاعة وشبكة الإنترنت، فإن الصحافة ما زالت تحتفظ
بدورها الكبير والخطير في صياغة اتجاهات المجتمع المعاصر على النحو الذي
أشرنا إليه، بل إن هذه المنابر الإعلامية جميعاً إنما تلجأ إلى الصحافة من أجل
الحصول على الكوادر الإعلامية الفعالة والقادرة على التأثير والتي تمتلك خبرة
الحضور القوي لدى المتلقي.
وعلى سبيل المثال في القنوات الفضائية التي غزت العالم العربي اليوم، نجد
أنجح البرامج الإخبارية أو السياسية أو حتى الفنية والاجتماعية هي التي يقوم عليها
صحافيون إعداداً وتقديماً؛ مما جعل هناك سباقاً بين القنوات المختلفة لاختطاف
الكفاءات الصحافية المتميزة، وهذه الحقيقة التفتت إليها مبكراً مختلف القوى
السياسية التي تفاعلت في القرن الأخير كله، من يساريين وشيوعيين وليبراليين
وقوميين ودعاة للمذاهب الأدبية والفكرية، وحكومات وحركات التحرر الوطني،
وزعامات كانت عبارة عن صناعة صحافية مجردة.
وإلى الحد الذي كانت فيه بعض الحركات اليسارية خاصة تملأ الأفق حضوراً
ودعاية وتأثيراً رغم أن عدد أعضاء التنظيم الذين انتسبوا إليه لا يتجاوز أصابع
اليدين، وكان التيار الوحيد الذي غابت عنه هذه المسألة غياباً مؤثراً هو التيار
الإسلامي، على الرغم من كونه التيار الأساس في المجتمع العربي والإسلامي
المعاصر، بل إن الحقيقة المرة هي أن الإسلاميين كانوا يقفون موقفاً شديد السلبية
والاتهام أمام الظاهرة الصحفية، وكعادة الإسلاميين في حرصهم على تصنيف كل
شيء، وبسرعة، كان تصنيفهم للصحافة أنها أداة من أدوات الشيوعية العالمية،
والحركة الماسونية العالمية لتخريب العقل الإسلامي وتخريب المجتمع المسلم،
وترسخ هذا المعنى في أذهان أجيال منا، كانت تسمع عن الصحافيين والصحافة
كما تسمع حكايات الجدات عن الغيلان والعفاريت وجنيات البحر.
وكان هذا الموقف له تأثير شديد السلبية على الحركة الصحافية والدعوة
الإسلامية معاً، فأما الحركة الصحافية فلأن انعزال غالب الإسلاميين عنها جعلها
أشبه بالوقف على قطاع واسع من المنحرفين أخلاقياً وفكرياً، والمرتزقة وخدام أي
سلطة؛ الأمر الذي أساء إلى رسالة الصحافة ودورها في المجتمع وصورتها كذلك،
وأما في الدعوة فقد خسرت خسارة كبيرة؛ لأنها تركت ساحة التأثير الخطيرة
والجديدة والمبهرة التي تمثلها الصحافة لمن لا يؤتمنون على عقول الناس وقيمهم
ودينهم؛ مما أدى إلى تزايد وتيرة التغريب في المجتمع واندفاع أجيال من أبناء
المسلمين إلى أحضان التغريب أو الحركات الشيوعية والقومية التي كانت تبهرهم
بقوة حضورهم عبر هذه الآلة المبهرة والرائعة «الصحافة» ؛ في حين ظلت
الدعوة الإسلامية محصورة في منابر المساجد، وبقدر محدود أيضاً، أو في بعض
كتب ومجلات جامدة أقرب إلى المطبوعات الفكرية والأدبية منها إلى الصحافة،
وكان هذا القدر المتواضع يوهم الإسلاميين بأنهم قد أرضوا ضمائرهم والناس
باستخدام المنابر الجديدة الجذابة، وكانت هذه مشكلة معقدة عند الإسلاميين فقد
درجوا على حصر أنفسهم في زوايا المجلات الدينية، وهي في الغالب تكون
مجلات فكرية أو دعوية، تبشر في المهتدين كما يقولون، دون قدرة على النفاذ إلى
المحيط الأوسع من الناس والرأي العام، وتعتمد على المقالات الجزلة، والأبحاث
والدراسات ونحو ذلك، وكانوا يكتفون بهذا القدر من الممارسة التي يصعب نسبتها
على الحقيقة إلى الصحافة بمفهومها الشامل، وإن كانت لها قيمتها الفكرية والمنهجية
التي لا شك فيها، وظل هذا هو حال الفعل الإسلامي في مجال الصحافة على مدار
ثلاثة أرباع القرن الماضي كله، ومن يراجع الصحف أو المجلات التي كانت
محسوبة على التيار الإسلامي طوال هذه المدة يتأكد بوضوح من هذه الملاحظة.
ولم يبدأ الإسلاميون في الانتباه إلى الصحافة بوصفها علماً وفناً وسلطة حقيقية
في المجتمع المعاصر إلا مؤخراً وبما لا يزيد على عقدين من الزمان، وفي مصر
على سبيل المثال، ولها سبق كبير في مجال الصحافة تاريخياً، عندما تبحث في
كشوف أعضاء نقابة الصحافيين المصريين من المنتسبين إلى التيار الإسلامي،
ستجد أن متوسط أعمارهم يدور حول سن الثلاثين، قبلها بقليل أو بعدها بقليل،
ونادراً ما تجد منهم من هو أكبر من ذلك سناً، وأنا على ثقة من أن نفس الملاحظة
سيجدها الباحث في البلدان العربية الأخرى، وهذا ما يؤكد حداثة عهد الإسلاميين
بالصحافة، فضلاً عن المنابر الإعلامية الأخرى، وهذا ما عكس نفسه على طريقة
تعاطي الإسلاميين مع الصحافة، والإعلام المعاصر، ومن ثم خسر الإسلاميون
كثيراً من المعارك السابقة السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية، بسبب إهمالهم لهذه «
السلطة» الجبارة، والنظر إليها باستخفاف، أو وقوفهم عند التصور الساذج بأن
الصحافة إنما هي نافذة للماسونية العالمية، وما أشبه ذلك من الخرافات.
والمثير للدهشة أن الشباب الجديد من الإسلاميين عندما اندفعوا بقوة إلى العمل
الصحفي نجدهم قد تميزوا وبرعوا وتفوقوا كثيراً، بل إن معظم المعارك الصحفية
المهمة، والقضايا الملتهبة التي تجتذب الرأي العام العربي الآن، إنما قام أو يقوم
بها صحافيون إسلاميون، وهذا مما يدلنا على حجم الطاقات المغيبة أو التي غيبت
وأهدرت على مدار السنين، وهذا أيضاً ما يعطينا مؤشراً إيجابياً على أن الفرصة
ما زالت مواتية للمواهب الإسلامية في مجال الإعلام المعاصر لكي تتبوأ مكانها
الذي يليق بها، وأن تمارس دورها التنويري الحقيقي في الواقع العربي الإسلامي
الراهن، ولا شك في أن انتشار الثقافة الإعلامية الجديدة بين الإسلاميين، سواء
منهم من يشتغل بالإعلام أو من هو مجرد متلق له، كفيلة بتصحيح الكثير من
المواقف الخاطئة، وكفيلة بقطع الطريق على محاولات الإساءة إلى الإسلام ودعاته
والحركات القائمة بنصرته، ولعل الصدمة التي عاشها كثير من الإسلاميين، داخل
العالم الإسلامي أو في المهجر، من جراء انفتاح طوفان الإعلام العالمي عليهم
مؤخراً، لعلها تكون موقظاً لوعي غاب كثيراً، وطاقات طالما تعطلت دون مسوِّغ
معقول.
والحقيقة أنه من غير العادل في الطرح أن ننسب هذا الغياب الإسلامي عن
ساحة الصحافة إلى العنت الذي واجهه الإسلاميون في غير ما مكان من العالم
العربي من قِبَل السلطات المختلفة، وخاصة أيام المد القومي والتغريبي؛ وذلك أنه
على الرغم من حقيقة وجود هذا العنت بل والاضطهاد إلا أن الفرص كانت متاحة
لأفراد لا ينتظمون في حركات أو هيئات، كما أن العديد من المواقع كانت مؤهلة
لوجود دور إسلامي فاعل في هذا المجال لو وجدت الهمة، مثل لبنان والخليج،
ولكن تراكم الإدراك السلبي لدى الشباب الإسلامي تجاه الصحافة كان هو السبب
المباشر والأهم في ابتعادهم عنها، وزهدهم في المزاحمة على مواقعها ومنابرها
ونفوذها، وفي تقديري أن خروج الصحافة الإسلامية من هذا المأزق يحتاج إلى
جهد على محورين اثنين:
* المحور الأول: اقتصادي، ويتجه أساساً إلى أهل اليسر والمال من أجل
حفز هممهم نحو الاستثمار في هذا القطاع المهم، ليس كعمل خيري فقط، بل كعمل
ربحي أيضاً. والحقيقة أن المشتغل بهموم الصحافة يدرك صعوبة هذا الجانب،
وصعوبة إقناع الخيرين في هذه الأمة بالسخاء في هذا الجانب ودعمه وتنشيطه؛
لأن الإدراك العام لم يهضم بعد خطورة دور الصحافة في مسار دعوة الخير،
وهناك من إذا حدثته عن بناء مسجد تسخو نفسه بالملايين لإنجازه، ولكن إذا حدثته
عن تأسيس صحيفة إسلامية لا يعطيك الكثير من الآذان الصاغية! وإنها لمهمة
جليلة، توصيل هذا الإحساس بخطورة الصحافة والإعلام بشكل عام إلى رجال
المال من أهل الخير والصلاح، والمهمة أصبحت الآن أكثر يسراً من ذي قبل بفعل
القلق الكبير والحضور الذي أحدثته القنوات الفضائية الجديدة، لقد جعلت الكثيرين
يشعرون بأن هناك منابر جديدة ربما أكثر خطورة من منابر المساجد، وهذا مما
يعزز مساعي الإسلاميين في هذا الجانب.
* وأما المحور الآخر: فهو العمل على إنشاء مؤسسات صحافية مستقلة،
تكون مهمتها العمل الصحفي فقط، بكل نواحيه وصوره، ولا تكون مجرد واجهة
إعلامية لمؤسسات أخرى خيرية أو دعوية أو غيرها؛ إذ إن هذا الفصام ضروري
لتحقيق نهضة صحفية إسلامية وتعويض ما فات.
وقد يكون من المهم، بل والمفيد، أن تكون هناك جهود صحفية للمؤسسات
الدعوية والخيرية للتعبير عن أفكارها ومناهجها ورؤاها وطموحاتها، فهذا لا بأس
به أبداً، ولكن المقصود ألا يقتصر النشاط الصحفي على هذا الترابط؛ لأنه مكلف
للطرفين من نواح عديدة، ولكن عندما تكون هناك مؤسسات صحفية مستقلة؛
بحيث تكون الصحافة مبدؤها ومنتهاها، فإن ذلك من شأنه أن يوقد شعلة الإبداع
والتميز والسبق في النشاط الصحفي الإسلامي، ويبعد عنه الأعباء النفسية والمادية
التي لا يكون مصدرها الخبرة الصحفية ذاتها، إننا ينبغي أن ننظر إلى المؤسسة
الصحافية على أنها - هي بذاتها - مؤسسة خيرية ودعوية وإنسانية وإغاثية.
وبوضوح كامل فإن تحقيق هذا الاستقلال للمؤسسة الصحافية هو الشرط الجوهري
لإعادة الاعتبار لقيمة الصحافة الإسلامية وفاعليتها في الواقع المعاصر.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المنار الجديد.(176/110)
جمادى الأولى - 1423هـ
أغسطس - 2002م
(السنة: 17)(177/)
كلمة صغيرة
الشفافية السياسية
من الطبيعي أن يكون للدول الكبرى دور في رسم وترتيب الحياة السياسية
والاقتصادية بل وحتى الاجتماعية للدول الحليفة أو التابعة؛ ولكن ما كان هذا أبداً
يظهر على السطح، وكان العالم الغربي يستخف بالقيادات الشكلية لدول حلف
وارسو ويعتبرهم مجرد أدوات في يد القيادة السوفييتية، وأن الغرب يمثل العالم
الحر وأنه يمثل الديمقراطية الحقيقية، وبشر بالنظام العالمي الجديد الذي يذكر
بالمدينة الفاضلة، ولكن الأحداث أكدت شيئاً واحداً هو أن هناك قوةً ما تريد أن
تسيطر على العالم عن طريق أمريكا وتوابعها؛ ولذا تم طرح العولمة السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، بل ومحاولة فرضها على العالم، وتم تهميش كل
المنظمات الدولية والإقليمية؛ فالأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية
و.... تحولت إلى مجرد أدوات لأمريكا ولم يعد هناك ضابط لأي شيء؛ فمثلاً
ميلوسيفتش يعتبر مجرماً بحق الإنسانية؛ لأنه قتل المسلمين ولكن فاجبايي
وشارون وبوتين إنما يقتلون المسلمين دفاعاً عن النفس مثلهم مثل بوش، والذي
يرفع راية محاكمة ميلوسيفتش وصدام هو الذي يمنع التحقيق في جرائم شارون.
وفي هذا المقام نحن أمام مفارقات عجيبة في الحياة السياسية على مستوى
العالم؛ فمثلاً حتى دولة مثل فرنسا يكون لها بعض المواقف المختلفة بعض الشيء
عن السياسة الأمريكية، وتظهر على لسان كبار مسؤوليها بعض التصريحات
العلنية حول العراق أو الشرق الأوسط أو ... ولكن كل هذا يتبخر أثناء لقاء رسمي
مع مسؤولين أمريكيين كبار، وكذلك نجد أن هناك حديثاً عن خلافات في الإدارة
الأمريكية، وأن هناك أكثر من جناح تتضح من تضارب المواقف؛ ولكن كل هذا
يتبخر أيضاً عند قدوم رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى واشنطن.
ولنا هنا أن نتساءل: ما هو السبب الذي يجعل شيراك وبلير وبوش يغيرون
مواقفهم؟ هل نستطيع أن نتخيل أن هناك من يمارس معهم نفس الأسلوب الذي
يمارسونه مع عرفات، عندما يكرر بوش مطالبته بتنفيذ ما يطلب منه، وأخيراً بعد
أن خيب أمله طلب تغييره، أو عندما يصرح وزير الخارجية الأمريكية باول
لصحيفة النيويورك تايمز: «لقد حذرت عرفات قبل شهرين ونصف بأنه إذا لم
ينفذ تغييراً استراتيجياً في سياسته فسيتم تغييره» .
وهنا نتساءل عما بقي في أمريكا سياسياً عندما يصرح أحد كتاب يديعوت
أحرنوت الإسرائيلية «أن اللسان كان لسان الرئيس بوش؛ لكن اليد التي كتبت
الخطاب هي يد أرئيل شارون» ؛ فإلى مزيد من الشفافية السياسية، وأخبرونا من
الذي يحكم العالم؟(177/3)
الافتتاحية
ميزان الأخلاق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قال أحد الحكماء: «ثلاثة لا يُعرَفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم
إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا في الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة» [1] .
وهذا صحيح؛ فالشدائد تكشف كوامن الأخلاق، وتسفر عن حقائق النفوس،
ولهذا كانت العرب تقول: «السفر ميزان القوم» [2] ، لأنَّه يُسفر عن كثير من
أخلاقهم وطبائعهم.
وهكذا فإن الإنسان لا يُعرف عند الاتفاق بل عند الاختلاف، حيث يُسفر
الاختلاف عن مدى ورع الإنسان وحلمه، وتحريه والتزامه العدل والانصاف،
ونحوها من الآداب التي يجتمع عليها الناس عند الاتفاق، ويتمايزون فيها عند
الاختلاف والعمل؛ ولهذا قال الله تعالى: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه
وسلم: «وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب» [3] .
كما أنَّ الاختلاف يسفر أيضاً عن عقل الإنسان، وسعة أفقه، وعمق بصيرته،
ورؤيته الشمولية للمسائل.
وبيان الحق - المختلف فيه - وتصحيح المنهج مطلبان يجب التزامهما؛ لكن
الرحمة والإحسان خلقان لا ينبغي إغفالهما، وحسن الظن والتماس العذر والاستغفار
للمخطئ طرق لا غنى عنها لمريد الحق والعدل والنصيحة والإصلاح.
وإنَّ من الأدواء الخفية أن الطبائع الجِبِليَّة كسرعة الغضب وحدَّة المزاج
وصلابة الرأي تطغى عند الاختلاف، وتسيطر على مواقف الإنسان، وتريه
الأمور بمنظار يختلف عن حجمها الصحيح، ثم يفسرها من حيث يشعر أحياناً، أو
من حيث لا يشعر أحياناً أخرى بأنها من الغيرة على الحق والغضب لله تعالى؛
وحقيقة الحال أنه يسير وفق أخلاقه وطبائعه الكامنة المستترة، وينسى أنَّ الغيرة
على الحق لا تتنافى مع الحلم والأناة التي يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
وأن الغضب لله لا يعني الجور وتجاوز الحدّ الشرعي في إنكار المنكر.
ولهذا كان من الورع والتقى ترويض الطبائع الشخصية بطول المجاهدة
لتستقيم مع النصوص الشرعية، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس
الشديد بالصُّرَعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» [4] .
إنَّ مشروعية الرد على المجتهد المخطئ من أهل العلم والفضل لا تؤسس
على الإطلاق لمشروعية الجور عليه وإيذائه وازدرائه، كما أن مشروعية الرد على
المجتهد المخطئ لا تؤسس على الإطلاق لمشروعية تفريق الأمة وشرخ وحدتها.
وتصحيح خطأ المخطئ لا يعني فضحه وإسقاطه، خاصة إذا تواترت أمانته،
وعرفت عدالته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أهل السنة والعلم والإيمان يعرفون
الحق، ويتبعون سنة الرسول، ويرحمون الخلق، ويعدلون فيهم، ويعذرون من
اجتهد في معرفة الحق فعجز عن معرفته، وإنما يذمون من ذمه الله ورسوله، وهو
المفرِّط في طلب الحق لتركه الواجب، والمعتدي المتبع لهواه بلا علم لفعله المحرم،
فيذمون من ترك الواجب أو فعل المحرم، ولا يعاقبونه إلا بعد إقامة الحجة عليه،
كما قال تعالى: [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] (الإسراء: 15) ، لا
سيما في مسائل تنازع فيها العلماء، وخفي العلم فيها على أكثر الناس» [5] .
كثيرون أولئك القادرون على ردِّ خطأ المخطئ، ولكن القادرين على بيان
الحق برحمة وإشفاق، القادرين على إعانة المخطئ في العودة عن خطئه قلة قليلة.
وروَّاد الأمَّة وأولو النهى فيها هم وحدهم القادرون على إيجاد البيئة العلمية
المتزنة، والمناخ الفكري الجاد، الذي يقدر الحوار العلمي، ويحيي أدب الاختلاف،
وهم القادرون على إعادة التوازن في الأمَّة بأناتهم وحلمهم، وخاصة عند ظهور
فتنة الاختلاف وكثرة الرويبضات؛ فهم ملتزمون ببيان الحق بدليله، وتصحيح
الخطأ، ولكنهم في الوقت نفسه حريصون على تماسك الصف وثبات أركانه،
يعلمون أنَّ غفلتهم عن أحد هذين الركنين ستكون سبباً للتصدع وفساد ذات البين
وذهاب الريح.
إنَّ فتنة الاختلاف والتدابر من أشد الفتن فتكاً في صفوف الصالحين،
وبظهور الفتنة يكثر الجدل، والقيل والقال، ويصبح مطية كثير من الناس: زعموا.
وعند بداية الفتنة يكون الشيطان عشيراً لبعض ذوي العجلة يؤزهم إلى
تأجيجها، وإشعال لهيبها، وإنَّ من السوقة وذوي النفوس الضعيفة من إذا سمع
هَيْعَةً إلى نزاع طار بها فرحاً، وراح يتتبع مظان الخلاف والتهارش، ولا تسمع
منه إلا هدير المشاكسة والمجادلة، يدافع الناس بكتفيه ويباريهم بصوته وصخبه،
وربما تدثر بدثار الغيرة والدفاع عن الحق كما تقدم..!!
وباشتداد فتنة الاختلاف يكثر التنازع، ويظهر التفرق، وتفتح أوراق الماضي
وتستدعى كوامن النفس وحظوظها، وتفسر الاجتهادات بمنظار التهمة والريبة،
حتى ترتفع راية الفشل التي سمى الله في كتابه [6] ، نسأل الله السلامة! وقد يصل
بعضهم عند اختلافهم مع إخوانهم إلى ما وصل إليه ذلك الرجل الأزدي الذي رمى
بنفسه في الماء يريد إنقاذ غريق استنجد به، فما زال يسبح حتى أصبح قريباً منه،
ثم قال له: ممَّن الرجل؟ فقال له: من بني تميم! فقال الأزدي: امض راشداً..
فو الله ما تأخرت عنه ذراعاً حتى غرق! ووالله لو كانت معي لبنة لضربت بها
رأسه!! [7] .
إنَّ روَّاد الأمة يقفون على أرض راسخة من البصيرة والورع لا يستفزهم
الجدل، ولا تثيرهم أهواء الناس، بل تراهم يأخذون بحظ وافر من النصيحة
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وليس كل أحد يستطيع أن يبصر مآلات
الأمور، وليس كل مبصر لها قادر على درئها. وإنَّ الرجل المبارك ليرى المرجل
يغلي بين الصفوف، فيعينه ربه عز وجل على امتصاص الفتنة وإطفاء لهيبها، بما
آتاه الله من الهدى والحكمة والأفق الواسع؛ فهو يتجاوز ظواهر الأعراض وينفذ
إلى بواطنها، وينطلق من سطحية الأسباب إلى جوهرها، وصدق الإمام ابن القيم:
«نور العقل يضيء في ليل الهوى فتلوح جادة الصواب، فيتلمح البصير في ذلك
عواقب الأمور» [8] ، ولئن كان بيان الحق واجباً والسكوت عن الخطأ منكراً، فإن
الناصح المشفق من أهل العلم والتقى يستصحب بقية المصالح، ويدرأ ما أمكن من
المفاسد، وينظر بعين المصلح الذي يرعى المقاصد الشرعية المأمور بها جميعها،
فيقدم أولاها وأقربها لمراد الله عزَّ وجل ومرضاته.
ولهذا كان الأئمة يتركون بعض الرأي والعمل الاجتهادي رغبة في اجتماع
الكلمة ودرءاً للفتنة [9] ، اهتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي ترك بناء
الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وقال في تفسير ذلك لعائشة
رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم
أن أدخل الجَدْرَ في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض» [10] .
إن أبناء الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى التربية الإيمانية التي تهذب
النفوس وتقودها إلى الاتزان البصير في اجتهاداتها، والاعتدال الراشد في مواقفها
وردود أفعالها، وغياب هذه التربية سيجعلنا عرضة لمزيد من التمزق والتشتت،
أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ... !!
__________
(1) عيون الأخبار، (3/95) .
(2) المرجع السابق، (1/218) .
(3) أخرجه: أحمد (30/265) ، والنسائي في كتاب السهو (3/54، 55) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/411) ، والأرناؤوط في تحقيق المسند.
(4) أخرجه: البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (10/518) ، ومسلم في كتاب البر، باب فضل من يملك نفسه (4/2014) .
(5) مجموع الفتاوى، (27/238) .
(6) قال الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] .
(7) عيون الأخبار.
(8) الفوائد، (ص 49) .
(9) انظر: خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة، لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (3/115 117) ، وقاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، (3/140 142) .
(10) أخرجه: البخاري في كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، (1586) ، ومسلم في كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، (1333) .(177/4)
دراسات في الشريعة
طرق تناول التفسير الموضوعي
د. عبد الحميد غانم
تعددت طرق تناول التفسير الموضوعي تعدداً ناسب مراحله وأدواره، ومكّن
من رصد تطوره المنهجي حتى بلغ طور النضج والاستقرار على النحو الآتي:
تتبع الكلمة:
يعد تتبع الكلمة أقدم طرق تناول التفسير الموضوعي المدون، وتتحدد ملامحه
في تتبع كلمة قرآنية، بجمعها من الآيات بذاتها أو على صورة إحدى مشتقاتها، ثم
الإحاطة بتفاسير هذه الآيات ومحاولة استنباط دلالات تلك الكلمة القرآنية من خلال
استعمال القرآن لها دون أن ينبني على ذلك الاستنباط الدلالي هدايات أو توجيهات
قرآنية معينة، وإنما تدور هذه الطريقة في إطار دلالة الكلمة في موضعها المفرد
فحسب [1] .
ومعلوم أن كثيراً من الكلمات قد اكتسب معاني شرعية لم تكن موجودة من قبل،
مثل: الصلاة، الحج، الزكاة، الصوم، كما أن كلمات أخرى قد تحولت
باستخدام القرآن لها إلى مصطلحات قرآنية ذات وجوه جديدة في الدلالة والاستعمال،
مثل: الأمة، الصدقة، البر، الجهاد، الكتاب، المنافقون، أهل الكتاب،
الصدّيق، الشفاعة، الكفر، الشيطان.
ولا شك أن من يتتبع تلك الكلمات في مظانها القرآنية سيخرج بمعالم جديدة
لنظام قرآني متفرد في تناول الكلمة، وما يترتب على ذلك التناول من دلالات تبدو
في مواضعها التي جاءت فيها دون الربط بينها في بقية المواضع.
ويعد مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150 هـ) أول من بدأ هذا التناول في
كتابه: (الأشباه والنظائر في القرآن الكريم) فأتى على الكلمات التي اتحدت في
اللفظ واختلفت في الدلالة بحسب السياق القرآني، من ذلك تفسيره للطعام في القرآن
على أربعة وجوه، وانظر إليه وهو يعالج هذا الفن التفسيري فيقول:
فوجه منها: الذي يأكله الناس كما في قوله تعالى: [الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ]
(قريش: 4) .
ووجه منها: الذبائح، فذلك قوله تعالى: [وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ
لَّكُمْ] (المائدة: 5) ، يعني: ذبائحهم.
ووجه: مليح السمك؛ فذلك قوله تعالى: [أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُه]
(المائدة: 96) ، يعني: مليح السمك.
ووجه: يعني شربوا؛ فذلك قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] (المائدة: 93) يعني: شربوا الخمر قبل التحريم،
ومنه قوله تعالى: [وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي] (البقرة: 249) [2] .
وكتب يحيى بن سلام ت 200 هـ (التصاريف) ففسر القرآن بتتبع ما
اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه على طريقة مقاتل [3] .
وتابعهما الدامغاني ت 478 هـ في كتابه: (إصلاح الوجوه والنظائر) فقال
تحت مادة [خ ي ر] ما يلي [4] : [خ ي ر] تأتي على عدة أوجه: المال، الإيمان،
الإسلام، أفضل، العافية، الأجر، الطعام، الظَفَر، الغنيمة.
فوجه منها: الخير بمعنى المال، ومنه قوله سبحانه في سورة البقرة: [إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً] (البقرة: 180) ، يعني مالاً. وقوله تعالى:
[قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] (البقرة: 215) . وكقوله تعالى:
[وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ] (البقرة: 110) ، وقوله تعالى: [وَمَا تُنفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ] (البقرة: 272) . أي لا تنفقوا مالاً. وقوله تعالى: [وَمَا
تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُم] (البقرة: 272) . يعني: من مال، وقوله تعالى:
[إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي] (ص: 32) يعني: حب المال، وقوله
تعالى: [فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً] (النور: 33) يعني: مالاً.
والثاني: الخير يعني الإيمان كقوله تعالى: [وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً
لأَسْمَعَهُمْ] (الأنفال: 23) يعني لو علم إيماناً، وقوله تعالى: [وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ
تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً] (هود: 31) يعني إيماناً.
والثالث: الخير يعني الإسلام كما في قوله تعالى: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ] (البقرة: 105)
يعني الإسلام، ونظيرها قوله تعالى: [مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ] (القلم: 12) يعني الإسلام؛
نزلت في الوليد بن المغيرة منع ابن أخيه أن يسلم.
والرابع: خير يعني أفضل، ومنها قوله تعالى: [وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ] (المؤمنون: 118) يعني أفضل الراحمين، قوله تعالى:
[وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] (يونس: 109) أي أفضل الحاكمين، ونحوه قوله تعالى:
[أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ] (الزخرف: 52) يقول أفضل من هذا.
والخامس: الخير يعني العافية مثل قوله تعالى: [وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (الأنعام: 17)
يعني العافية.
والسادس: الخير يعني الأجر في قوله تعالى: [لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ] (الحج:
36) يعني لكم فيه أجر. يعني البُدْن.
والسابع: الخير يعني الطعام كما قوله تعالى: [فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] (القصص: 24) يعني الطعام.
والثامن: الخير يعني الظفر والغنيمة والطعن في القتال نحو قوله تعالى:
[وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً] (الأحزاب: 25) .
وكتب الراغب الأصفهاني ت 502 هـ مصنفه الشهير (المفردات في غريب
القرآن) فقال عند تعقبه لكلمة [الأمة] :
والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين أو زمان أو مكان، سواء كان
ذلك الأمر الجامع تسخيراً أو اختياراً. وجمعها: أُمَم.
وقوله تعالى: [وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ
أَمْثَالُكُم] (الأنعام: 38) أي: كل نوع منها على طريقة قد جبله الله عليها بالطبع.
فهي بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسُرْفَة [5] ومُدَّخرة كالنمل، ومعتمدة على
قوت وقتها كالعصفور والحمام إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع.
وقوله تعالى: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً] (البقرة: 213) أي صنفاً واحداً وعلى
طريقة واحدة في الضلال والكفر، وقوله تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً] (هود: 118) أي في الإيمان، وقوله تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ] (آل عمران: 104) أي جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح
يكونون أسوة لغيرهم، وقوله تعالى: [إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة] (الزخرف:
23) أي على دين مجتمع. وقوله تعالى: [وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ] (يوسف: 45)
أي حين. وقرئ: [بعد أمَه] [6] أي بعد نسيان. وحقيقة ذلك: بعد انقضاء أهل
عصر أو أهل دين. وقوله تعالى: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ] (النحل:
120) أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله. نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة.
وقوله تعالى: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ] (آل عمران: 113)
أي جماعة. وجعلها الزجّاج هاهنا للاستقامة، وقال تقديره: ذو طريقة واحدة.
فترك الإضمار [7] .
تتبع الموضوع:
يمثل هذا التناول نقلة منهجية في فن التفسير الموضوعي، تجاوزت إطار
التعامل مع كلمة قرآنية واحدة في استخدامات القرآن لها إلى التعامل مع موضوع
معين يتعرض له القرآن الكريم بأساليب متنوعة، فيُعنى الباحث بتتبع الموضوع
في سور القرآن، مستخرجاً الآيات التي تناولته، محيطاً بطرق المفسرين في
عرضها، مستنبطاً عناصره من القرآن ذاته، في محاولة لتقديم العلاج القرآني لتلك
القضية أو إلقاء أضواء قرآنية عليها.
ولا شك أن عملية التصور الأولي لأبعاد الموضوع جزء من نجاح الباحث في
خدمة هذه الطريقة؛ إذ الفهم يأتي بعد التصور. ويأتي من بعد ذلك اختيار العنوان
وجمع الآيات المتعلقة به وترتيبها بحسب نزولها؛ لأن ما نزل بمكة كان في الأعم
الأغلب يتعلق بأسس عامة، بخلاف التنزيل المدني الذي اتسم بتحديد معالمه، ثم
يأتي دور تفسير هذه الآيات وفهم دلالتها وما ترمي إليه ألفاظها وما تحمله من
الروابط بينها، مع الإحاطة قدر الإمكان بمعانيها مجتمعة، وفهم التوجيهات القرآنية
التي تحيط بها وتنساب في ثناياها، والاجتهاد في تلمس الهدايات القرآنية المنبثة في
نصوصها الكريمة.
والواقع أن هذا النوع من التفسير الموضوعي هو الأشهر في عرف أهل
الاختصاص؛ بحيث إذا أطلق اسم التفسير الموضوعي يكاد الذهن لا ينصرف إلا
إليه. ويمكن تفسير نقاط العمل فيه على النحو الآتي:
1 - تصور الموضوع ومحاولة تحديده وعنونته.
2 - تتبعه في سور القرآن الكريم وجمع الآيات التي تعرضت له.
3 - الوقوف على أقوال أهل التفسير في تلك الآيات وترتيب نزولها وأماكنها.
4 - استنباط عناصر الموضوع من طرق عرض القرآن الكريم له، وأقوال
أهل التفسير فيه.
5 - التنسيق بين تلك العناصر بما تقتضيه طبيعة البحث والتسلسل المنطقي
لأفكاره.
6 - وضع مقدمة تكشف عن طريقة القرآن الكريم في عرض أفكار ذلك
الموضوع.
7 - تقسيم الموضوع إلى أبواب وفصول ومباحث ومسائل، مستدلاً على ذلك
التقسيم بالآيات ذاتها.
8 - ربط الموضوع بواقع الحياة ومشكلاتها محاولاً تقديم الحلول القرآنية لها
[8] .
ولقد كثرت المصنفات التي تناولت هذا النوع قديماً، فطالت:
1 - إعجاز القرآن. ... 2 - الناسخ والمنسوخ.
3 - أحكام القرآن. ... ... 4 - أمثال القرآن.
5 - مجاز القرآن. ... ... 6 - تأويل مشكل القرآن [9] .
أما الحديث منها فلا تكاد تنتهي موضوعاته؛ إذ كلما جدّت صنوف المعارف
جدّ البحاثة من أهل العلم في استشراف هدايات القرآن بحثاً عن التوجيهات الربانية
في هذا الشأن سواء ما تعلق منها بالكون في أرضه وسمائه، أو بالإنسان في خلقه
وتكوينه وغرائزه وعقله وأخلاقه، أو بالحياة الاجتماعية وأخذ العبر من سير الأقوام
والأمم الماضية، أو بالعلاقات الدولية وأمور الاقتصاد والسياسة وأنظمة الحرب
والسلم، أو حتى ما يتعلق بأحوال الغيب.
ومن قواعد المنهجية العلمية الصحيحة لهذا النوع من التناول خاصة، أن
يتجنب الباحث الإسرائيليات والروايات الضعيفة والقصص والتاريخ، ويُعنى بشرح
الكلمات الغريبة وتوجيه القراءات وإبراز النكت البلاغية التي تعرض له أثناء
البحث وذلك في الحاشية.
وأن يحافظ في وعي على تسلسل أفكار بحثه، وتعانق فقراته، وسلاسة
أسلوبه، وإشراقة بيانه؛ فإن عمله إنما يدور حول أشرف الكلام وهو كلام رب
العالمين.
وقد عُني بذلك المنهج لفيف من أهل العلم من أمثال: الدكتور عبد الغني
الراجحي في كتابه: (المناهج الجديدة) ، والدكتور محمد البهي في كتابه: (نحو
القرآن) [10] ، والدكتور محمد محمود حجازي في رسالته للدكتوراه المعنونة بـ
«الوحدة الموضوعية في القرآن» وفيها يقول: «قد عرفنا أن القرآن نزل منجماً،
وكل وحدة في النزول ضُمت لأخواتها في مجموعة واحدة [السورة القرآنية] ، هذه
الوحدة إذا ضمت إلى وحدات أخرى لم تكن كالوحدة الحسابية إذا ضمت إلى زميلتها؛
وإنما هي وحدة ضمت إلى وحدة كما يضم العضو في الجسم إلى العضو الآخر»
[11] ثم يقول: «وأعجب العجب أن هذه الوحدة التي نزلت في موضوع خاص إذا
أخذتها وضممتها إلى الوحدات الأخرى التي نزلت في هذا الموضوع نفسه لرأيت
العجب تماسكاً وتكاملاً وارتباطاً ووحدة في الموضوع» [12] ، وقدّم صورة لهذه
الوحدة الموضوعية عند كلامه على سورة المائدة، فقال بعد عرضه لموضوعية
السورة: «أرأيت أن الوحدة الموضوعية لم تتم إلا بضميمة كل ما ذكر من آيات
في السور كلها، وهذا ما نريد أن نصل إليه. فنقول: لا يمكن تحقق كمال الوحدة
الموضوعية بالنسبة لكل سورة فيها الموضوع على انفراد، وها نحن عرفنا أن
سورة المائدة كغيرها من السور اشتملت على عدة موضوعات لا تعطينا وحدة كاملة
إلا إذا ضم لها ما ذكر في غيرها. وكل ما ذكر في السور الأخرى له وجهان: وجه
اتفاق ووجه اتحاد يتعاونان في تكوين موضوع واحد يتكامل مع بقية أجزائه
المذكورة في السور الأخرى» [13] .
تتبع السورة:
القرآن الكريم كتاب هداية ربانية تُمثل آخر اتصال بين وحي السماء وأهل
الأرض، لكونه الكتاب الإلهي الخاتم المرشد إلى الصحيح في الاعتقاد والخير في
السلوك؛ فلا غرو أن تكون طريقته في التأليف مغايرة لما أَلِفه الناس، فليست
سُوَره مجرد فصول من كتاب بحيث تستقل كل سورة عن غيرها، وإنما طريقة
القرآن ككتاب هداية تستلزم أن يسلك طرقاً عديدة يدخل منها إلى النفس، وكما أن
الهدايات تجتمع في القرآن بتمامه فإن هذه الهدايات منبثة أيضاً في سوره بصورة
تجل عن الوصف، يراها من ينعم النظر فيها، فيجد لكل سورة وحدة تجتمع حولها
آياتها وإن تعددت موضوعاتها، ويحس فيها روحاً تسري بين أجزائها، ووشائج
تربط بينها، ومقصداً يجمعها.
وهذا النوع من الدراسة هو الذي يميز التناول الثالث للتفسير الموضوعي،
فدائرته تحيط بالسورة القرآنية الواحدة، وتتجلى مهمة الباحث في الكشف عن
الهدف الجامع الذي تدور حوله السورة، وطريقته: أن يستوعب الباحث أهداف
السورة المنبثة في أسباب نزولها وترتيبها ومكيها ومدنيها وأسمائها وعدد آيها
ومقاصدها الفرعية وأساليب عرضها والمناسبات بين مقاطعها [14] .
فالسورة في مجملها كلٌّ لا تنفصم عراه وطائفة ملتئمة من الآيات لا تحتمل
تقطيعها، وإنما النظر إليها يكون في كلها لا في بعضها، ولا تتم الفائدة إلا
باعتبارها كياناً حياً واحداً، وهو ما يرتب على إدراك مقصدها النظر إليها كلها
واستيفاء معانيها بتمامها.
يقول الشاطبي (791 هـ) في الموافقات: «اعتبار جهة النظم في السورة
لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر؛ فالاقتصار على بعضها غير مفيد
للمقصود منها، كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد
كمال النظر في جميعها. فسورة البقرة مثلاً كلام واحد باعتبار النظم وإن احتوت
على أنواع من الكلام بحسب ما ثبت فيها؛ فمنها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين
يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في
الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب. ومنها الخواتم العائدة على ما
قبلها بالتأكيد والتثبيت، وما أشبه ذلك، ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام فيه
يَبِين ما تقدم: فقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 183) إلى قوله تعالى: [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (البقرة: 187) كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى،
وحاصله: بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه وقضائه وسائر ما يتعلق به من
الجلائل التي لا بد منها ولا ينبني إلا عليها» [15] .
وعلى ذلك فإن اعتبار جهة النظم في السورة الواحدة لا تتم به فائدة إلا بعد
استيفاء جميعها بالنظر، وكذا في الآية، فسورة البقرة كلام واحد باعتبار النظم وإن
احتوى على أنواع من الكلام، وسورة الكوثر نازلة في قضية واحدة، وسورة العلق
نازلة في قضيتين: الأولى: حتى قوله: [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] (العلق: 5) ،
والأخرى: بقية السورة، وسورة المؤمنون المكية نازلة في قضية واحدة وهي:
الدعاء إلى عبادة الله تعالى؛ وإن اشتملت على ما قرره القرآن المكي في معانيه
الثلاث: تقرير الوحدانية، وتقرير النبوة، وإثبات المعاد. ومن أراد الاختبار في
سائر سور القرآن فالباب مفتوح [16] .
ويدل البقاعي (ت 885 هـ) على مناسبات القرآن واتصاله بالوحدة
الموضوعية في السورة القرآنية الواحدة فيقول: «فعلم مناسبات القرآن: علم
تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال
لمقتضى الحال. وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها»
[17] .
وليس من شك في أن لكل سورة شخصيتها المستقلة وأهدافها الواضحة؛ فمن
المعلوم أن السور المكية قد عرضت أسس العقيدة الإسلامية الثلاثة بشكل مفصل:
الألوهية، والرسالة، والبعث بعد الموت.
ويمكن للباحث أن يتناول من كل سورة مكية أحد الأسس الثلاثة بجانب
اشتمال الكثير منها على أمهات الأخلاق والتنفير من مرذولها، في حين تشتمل
السور المدنية على الكليات الشرعية، وتُحيل إلى الحوار وإقامة البرهان وتفنيد
مزاعم المعارضين وأهل الكتاب وفضح المنافقين [18] .
ولقد ظفر هذا التناول الموضوعي للقرآن بعناية أكابر الأقدمين، فوردت في
تفاسيرهم إشارات إلى بعض أهداف السور، خاصة القصير منها، ووردت لطائف
تَوخَّوْا من خلالها أوجه المناسبة بين مقاطع بعض السور كما فعل الفخر الرازي
606 هـ في تفسيره الكبير [19] ، وابن قيم الجوزية 751 هـ في (التفسير القيم)
الذي جمعه: محمد أويس الندوي.
يقول محمد أحمد السنباطي: عن منهج ابن القيم في التفسير: «يظهر أن
الأساس الأول لمنهج ابن قيم الجوزية يتمثل في إبراز الوحدة الموضوعية للسورة
القرآنية، وهي التي نزلت السورة لها، وتعد أساساً لفهم آياتها؛ بحيث ترى أن كل
جزء من السورة يبدو خادماً ومخدوماً فيها» [20] .
كما تمثل هذا التناول بوضوح في تفسير: (نظم الدرر في تناسب الآيات
والسور) للبرهان البقاعي وكتاب (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور)
وفيه يقول البقاعي: «إن من عرف المراد من اسم السورة عرف مقصودها، ومن
حقق المقصود منها عرف تناسب آيها وقصصها وجميع أجزائها ... فإن كل سورة
لها مقصد واحد يدار عليه أولها وآخرها ويستدل عليه فيها؛ فترتب المقدمات الدالة
عليه على أكمل وجه وأبدع منهج، وإذا كان فيها شيء يحتاج دليلاً استدل عليه.
وهكذا في دليل الدليل وهلم جراً» [21] .
ويضرب المثال على ذلك فيقول: «سورة آل عمران مقصودها التوحيد لذلك
بُدئت به وخٍُتمت بما بُنيَ عليه من الصبر وما معه من التقوى، وسورة مريم
مقصودها شمول الرحمة ففُتحت بذكر الرحمة وخُتمت بأن كل من كان على نهج
الخضوع لله يجعل له وُدّا ثم كُرِّر الوصف بالرحمن فيها تكريراً يلائم مقصودها»
[22] .
تتبع العلاقات:
يعد هذا النوع أكثر أنواع التناول الموضوعي تطوراً وإضافة؛ فهو لا يتتبع
كلمة قرآنية ليستنبط دلالاتها، ولا يعرض لموضوع قرآني فيجمع آياته ويربط بينها.
كما أنه لا ينظر للسورة القرآنية الواحدة كوحدة موضوعية بالبحث عن
مقصدها الأكبر الذي تدور عليه، وإنما يضيف إلى عنايته بالوحدة الموضوعية لكل
سورة البحث عن آفاق العلاقة بما يجاورها من سور، فينظر في فواتح السور
وخواتيمها ويربط بينها مجتمعة تارة ومتفرقة تارة أخرى جامعاً بين موضوعات
السور ما استقام له الجمع، بحيث تبدو سور الكتاب وقد التقت معانيها ومقاصدها
كدائرة اتصل كل مبتدأ فيها بمختتمها [23] .
وقد عني بهذا التناول كوكبة من علماء التفسير فكتب فيه السيوطي (أسرار
التنزيل) [24] ، و (نتائج الفكر في تناسب السور) الذي عدَّل تسميته إلى (تناسق
الدرر في تناسب السور) [25] ، وهو (أسرار ترتيب القرآن) ، وكتب أبو الفضل
الغُماري (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) ، وانبثّ ذلك في عملي البقاعي
(نظم الدرر) ، و (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) .
وعرض الشاطبي لذلك النوع من التناول الموضوعي في القرآن فقال:
«والمدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي
بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في النزول. والدليل
على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من
كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء؛ وذلك إنما يكون
ببيان مجمل أو تخصيص عموم أو تقييد مطلق أو تفصيل ما لم يفصّل أو تكميل
ما لم يظهر تكميله. وأول شاهد على هذا أصل الشريعة نفسها؛ فإنها جاءت مصححة
لما أُفسد من ملة إبراهيم عليه السلام، ثم نزلت فيها سورة الأنعام مبيّنة لقواعد
العقائد وأصول الدين من أول إثبات الربوبية إلى إثبات الإمامة. ثم لما هاجر
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول ما نزل سورة البقرة التي
قررت قواعد التقوى المبنية على سورة الأنعام؛ فبيّنت العبادات والعادات
والمعاملات والجنايات وحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فكان غيرها من
السور المدنية المتأخرة عنها مبنياً عليها، كما كان غير سورة الأنعام من السور
المكية مبنياً عليها، وإذا نظرت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب
وجدتها كذلك حذو القُذة بالقذة، فلا يغيبن عنك هذا المعنى فإنه من أسرار علوم
التفسير» [26] .
فعلى الناظر في القرآن لفهم معناه: التوسط والاعتدال بالجمع بين فهم اللسان
الذي جاء به وهو العربية، وفهم معاني ما تركّب من الكلام؛ فإن كل عاقل يعلم أن
مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة وإنما التفقه في المُعَبّر عنه والمراد به،
كما يعلم أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات.
فلا محيص للمتفهم عن التعلق بأول الكلام وآخره ليحصل له المقصود منه،
فإن فرّق النظر لم يتوصل إلى المراد، ولا يصح تفريق النظر إلا في موطن واحد
وهو النظر في فهم الظاهر من ذلك الموطن بحسب ما يقتضيه اللسان العربي، فإذا
صح له الظاهر رجع به إلى الكلام كله فبدا له مقصود المتكلم منه [27] .
ثم الكتاب - بعد كل ما تقدم - مبني على مقاصد منها الجواهر. وأعلاها:
العلم الأشرف الذي تُراد كل العلوم له، ولا يُراد هو لغيره، وهو علم معرفة الذات
الإلهية وما يليق بجلالها من صفات وأفعال، ثم علم الآخرة المشتمل على معرفة
الصراط والمآل، ومنها الدرر، ويمثلها: بيان ما ينجّي من الأقوال والأعمال.
وسر الكتاب حاصل في دعوة العباد إلى ربهم المعبود، ولذلك انحصرت
سوره في ستة أنواع: ثلاثة مهمة؛ تناولت معرفة الله تعالى والصراط والمآل،
وثلاثة مُتمة؛ تناولت أحوال الأولياء والأعداء وسبل الطاعة.
وانشعبت علومه إلى: علوم اللباب وهي قصص القرآن، ومحاجَّة الكفار
ومنه انشعب علم الكلام لرد البدع والضلالات، وعلم الحدود ومنه انشعب علم الفقه،
وعلوم الصرف وهي علوم اللغة والنحو والقراءات والتفسير، فهذه مجامع العلم
التي تنشعب من القرآن ومراتبها [28] .
__________
(1) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 23 بتصرف.
(2) الأشباه والنظائر، البلخلي، 188.
(3) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 20.
(4) إصلاح الوجوه والنظائر، الدامغاني، 167، وبعدها طبعة دار العلم للملايين.
(5) السُرْقَة: بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء دودة القز، القاموس المحيط، الفيروزآبادي، 1508، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1415هـ.
(6) هي قراءة الحسن البصري، انظر: تفسير ابن كثير، 2/498، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ.
(7) المفردات في غريب القرآن، الراغب، 19، وانظر: آل عمران 113، طبعة دار الفكر، بيروت.
(8) (9) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 27، 28 بتصرف.
(10) الإمام محمد عبده ومنهجه، الدكتور عبد الغفار، ص 222، 224.
(11) (12) الوحدة الموضوعية، الدكتور حجازي، ص 91.
(13) المصدر السابق، ص 125.
(14) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 28، 29، بإيجاز.
(15) الموافقات، الشاطبي، 3/415، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1395هـ، وانظر: البقرة، 183، 187.
(16) الموافقات، الشاطبي، 3/415، وبعدها بإيجاز.
(17) مصاعد النظر، 1/142 وبعدها.
(18) (19) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 29 بتصرف.
(20) منهج ابن القيم في التفسير، محمد أحمد السنباطي، ص 84، وبعدها.
(21) مصاعد النظر، 1/149، 150.
(22) المصدر السابق، 1/150، 153.
(23) مدخل إلى القرآن الكريم، دراز، ص 119، ومباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 44، 46.
(24) أسرار ترتيب القرآن، السيوطي، ص 65، الطبعة الأولى، 1396 - 1976م، دراسة وتحقيق عبد القادر أحمد عطا.
(25) المصدر السابق، ص 67.
(26) الموافقات، الشاطبي، 3/406، 407 بإيجاز يسير.
(27) الموافقات، الشاطبي، 3/409، وبعدها بإيجاز.
(28) جواهرالقرآن، الغزالي، ص 17 وبعدها، تحقيق الدكتور محمد رشيد القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة الثالثة، 1411هـ.(177/6)
دراسات في الشريعة
واجبات الأمة نحو السنة
جلال راغون [*]
من الملاحظ في عصرنا وجود طوائف مختلفة تسيء إلى السنة النبوية؛
فطائفة لا تتثبت عند استدلالها بالسنة مما يقودها إلى أن تستدل بالأحاديث الضعيفة
والموضوعة بدون علم، وطائفة ثانية تسيء فهم السنة النبوية بتأويلات فاسدة لا
تستند إلى علم، وطائفة ثالثة تدعو إلى الاستغناء عن السنة وترك العمل بها لأسباب
أوهن من بيت العنكبوت.
ولا شك أن هذه الطوائف أساءت إلى الإسلام وساهمت في إبعاد الأمة عن
دينها الذي يعتبر مصدر عزها وقوتها.
وفي هذه الدراسة المتواضعة سألقي بعض الأضواء على واجبات الأمة نحو
السنة؛ فعساها إن قامت بها أن تسترجع عزتها، وما ذلك على الله بعزيز.
وسأتناول الموضوع من خلال أربعة مسائل:
1 - بيان مدلولات السنة لغة واصطلاحاً.
2 - بيان الواجب الأول نحو السنة وهو التثبت والتمحيص.
3 - بيان الواجب الثاني نحو السنة وهو حسن الفهم.
4 - بيان الواجب الثالث نحو السنة وهو الالتزام والعمل.
أولاً: تعريف السنة لغة واصطلاحاً:
للسنة لغةً عدة معان [1] منها:
- الطريقة والسيرة سواء كانت حسنة أو قبيحة، ومن هذا القبيل قول خالد
بن عتبة الهذلي:
فلا تَجْزَعَنْ من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ سُنَّةً من يسيرها
- الطبيعة والسجية. وبه فسر بعضهم قول الأعشى:
كريمٌ شمائله من بني ... معاوية الأكرمين السنن
واصطلاحاً يختلف مدلول السنة من علم لآخر [2] :
فالسنة في علم الحديث هي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول
وفعل وتقرير ووصف وسيرة سواء كان ذلك قبل مبعثه أو بعده.
والسنة في علم أصول الفقه هي ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من قول وفعل وتقرير بقصد التشريع؛ فهي بهذا المعنى مصدر من مصادر التشريع
الإسلامي.
والسنة في علم الفقه حكم من الأحكام الشرعية؛ فهي مرادفة للمندوب
والمستحب؛ فالسنة ما يطلب فعله على وجه الترغيب بحيث يثاب فاعله ولا يعاقب
تاركه.
وهناك استعمالات اصطلاحية أخرى للسنة منها إطلاق السنة على العقيدة
الصحيحة التي كان عليها سلف الأمة، والرد على عقائد المبتدعة، ومن هذا القبيل
الكتب التي سميت باسم السنة ككتب عبد الله ابن الإمام أحمد، وابن أبي عاصم،
والخلال، رحمهم الله جميعاً.
بعد هذا البيان فالمقصود بالسنة في هذه الدراسة هو المعنى الأصولي أي
السنة باعتبارها مصدراً للأحكام الشرعية.
ثانياً: واجب التثبت والتمحيص:
أول واجب على الأمة نحو السنة هو التثبت والتمحيص؛ إذ من المعلوم عند
أهل العلم أنه ليس كل ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو صحيح،
بل هناك أحاديث ضعيفة وموضوعة، ومن ثم يجب تصفية السنة من هذه الأحاديث
المردودة حتى لا ننسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يصدر عنه.
وقبل أن أذكر أين يتجلى واجب الأمة في عصرنا نحو السنة بالنسبة للواجب
الأول، أود أن أقدم صورة مجملة عن بعض جوانب جهود علماء الأمة في العصور
السابقة نحو هذا الواجب، وسأقتصر على جانبين:
الجانب الأول: علم مصطلح الحديث:
وهذا العلم وضع بالأساس لتمحيص السنة وتمييز ما ثبت منها مما لم يثبت،
وهو خلاصة علوم كثيرة على رأسها علم العلل، وعلم الجرح والتعديل، والدارس
لهذا العلم يعلم المجهودات الضخمة التي بذلها المحدثون لتصفية السنة وصيانتها،
فجزاهم الله عن الإسلام خير الحزاء.
الجانب الثاني: علم تخريج الأحاديث:
لما انتشرت السنة في مصنفات كثيرة وفي علوم مختلفة، ولم يقم كثير ممن
ذكر الأحاديث في تآليفه بواجب التمحيص بعزو الأحاديث إلى مصادرها وبيان
مرتبتها من حيث القبول والرد، كان لزاماً على علماء الحديث أن يقوموا بواجبهم
بتخريج تلك الأحاديث وبيان مرتبتها حتى لا يغتر بها من لا علم له، وهكذا ظهرت
وانتشرت كتب التخريج عبر العصور وما أكثرها.
فهذه لمحة سريعة عن جوانب قليلة مما بذله علماء سلف الأمة نحو السنة
بالنسبة لواجب التثبت والتمحيص.
فما هو واجب الأمة في عصرنا الحاضر؟
حسب رأيي المتواضع وباختصار شديد يتعين على الأمة إيجاد مؤسسة علمية
متخصصة على صعيد العالم الإسلامي مهمتها الأساسية جمع السنة ثم تمحيصها
ونقدها من طرف أهل الاختصاص، وهذا العمل يتطلب إمكانيات بشرية ومادية
ضخمة؛ إذ المطلوب جمع جميع الأحاديث الموجودة سواء في المصادر المطبوعة
أو المخطوطة، ثم دراسة أسانيدها دراسة نقدية مما سيسفر عن إصدار موسوعتين
للسنة: الأولى: موسوعة السنة المقبولة، والثانية: موسوعة السنة المردودة.
ولا شك أن الأمة في عصرنا تمتلك الإمكانيات لتحقيق ذلك، وقد أنشئت في
بعض الأقطار الإسلامية مراكز لخدمة السنة النبوية، فالمرجو أن تكون تلك
المراكز اللبنة الأولى لإنشاء المؤسسة المنشودة على صعيد العالم الإسلامي؛ إذ
تحقيق هذه الأمنية يتطلب المساهمة من جميع الأقطار الإسلامية.
ثالثاً: واجب حسن الفهم:
بعد القيام بالواجب الأول وهو التمحيص والتصفية يأتي الواجب الثاني وهو
حسن فهم السنة النبوية، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العلماء الصالحين
سيقومون بهذا الواجب وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: «يحمل هذا العلم من
كل خلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»
أخرجه ابن جرير، وتمام في فوائده، وصححه الحافظ العلائي، وابن القيم
وغيرهما [3] .
وقبل أن أذكر أين يتجلى واجب الأمة في عصرنا بالنسبة لهذا الواجب سأقدم
نظرة مجملة عن بعض المجهودات العلمية التي قام بها علماء الأمة في العصور
السابقة نحو هذا الواجب، وسأقتصر على أربعة جوانب:
1 - علم غريب الحديث، وهو العلم الذي يشرح الألفاظ الغامضة الواردة في
متن الحديث، وهذا العلم لبنة أساسية في حسن فهم السنة النبوية، وقد سئل الإمام
أحمد رحمه الله عن حرف من الغريب فقال: «سلوا أصحاب الغريب؛ فإني أكره
أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن فأخطئ» [4] .
والمصنفات في هذا العلم كثيرة من أشهرها (النهاية في غريب الحديث)
لابن الأثير المتوفى سنة 606هـ.
2 - علم مختلف الحديث، و «هو العلم الذي يبحث في الأحاديث التي
ظاهرها متعارض، فيزيل تعارضها، أو يوفق بينها، كما يبحث في الأحاديث التي
يشكل فهمها أو تصورها، فيدفع إشكالها، ويوضح حقيقتها» [5] ، ويعرف أيضاً
بمشكل الحديث، وهو من أهم العلوم التي وضعت لحسن فهم السنة النبوية. من
أشهرها ما ألف فيه (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ،
و (مشكل الآثار) للطحاوي المتوفى سنة 321هـ.
3 - علم ناسخ الحديث ومنسوخه. والنسخ كما عرفه الحافظ ابن حجر رحمه
الله هو: «رفع تعلق حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه» [6] . ومعرفة ما وقع
فيه النسخ من الحديث النبوي من أهم ما يساعد على حسن فهم السنة النبوية. مَرَّ
الإمام علي رضي الله عنه على قاصٍّ فقال: «تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال:
لا. قال: هلكت وأهلكت» [7] ، ومن أشهر ما ألف في هذا الفن: (الاعتبار في
الناسخ والمنسوخ من الآثار) للإمام الحازمي المتوفى سنة 584 هـ.
4 - علم أسباب ورود الحديث، «وهو ما ورد الحديث متحدثاً عنه أيام
وقوعه» [8] ، ومنزلة هذا العلم من السنة كمنزلة أسباب النزول من القرآن،
«وهو طريق قوي لفهم الحديث؛ لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب» [9] ،
وأوسع كتاب ألف فيه هو (البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف)
لابن حمزة الدمشقي المتوفى سنة 1120هـ.
فهذا بعض ما قام به العلماء في العصور السابقة نحو السنة لحسن فهمها.
فما هو واجب الأمة في عصرنا الحاضر؟
في رأيي المتواضع يتجلى هذا الواجب بالأساس في إخراج (موسوعة فقه
السنة) التي تعتبر امتداداً لموسوعة السنة المقبولة التي تقدم الكلام عليها. وعلى
ذلك فالمؤسسة المنشودة لخدمة السنة النبوية على صعيد العالم الإسلامي هي التي
تناط بها أيضاً هذه المسؤولية، ولتحقيق ذلك لا بد أن يساهم الجميع لتوفير
الحاجيات البشرية والمادية وما أكثرها. ولا بد من الاستفادة من التراث الضخم
الذي تركه لنا أسلافنا لإنجاز هذا المشروع المهم، كما أنه لا بد من الاستفادة من
المعطيات المعاصرة التي تمكننا أيضاً من حسن فهم السنة النبوية، وبالخصوص
المعطيات العلمية التي تجلي الحقائق العلمية الواردة في السنة النبوية، ولا بد أيضاً
أن نراعي في هذه الموسوعة لغة العصر؛ إذ الهدف تقريب السنة إلى الأمة، وقد
أحسن الشيخ العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله حيث قال: «إن السنة في حاجة
إلى شروح جديدة تجلي الحقائق، وتوضح الغوامض، وتصحح المفاهيم، وترد
على الشبهات والأباطيل؛ مكتوبة بلسان الناس ومنطقهم في هذا العصر لنبين لهم»
[10] .
رابعاً: واجب الالتزام والعمل:
بعد التثبت وحسن الفهم يأتي الواجب الأساسي وهو الالتزام بسنة خير الأنام،
والمقصود بذلك وجوب الرجوع إلى السنة للعمل بما دلت عليه من أحكام شرعية،
فما كان واجباً من أحكامها التزمنا به، وما كان مستحباً فالأوْلى الالتزام به، وما
كان محرماً اجتنبناه، وما كان مكروهاً فالأوْلى اجتنابه، وما كان مباحاً فلنا الاختيار
بين الفعل والترك، وقد دل القرآن على وجوب الالتزام بالسنة في آيات كثيرة، بل
لن أبالغ إذا قلت بأن هذه المسألة من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، ومن
الآيات القرآنية الواردة في الموضوع قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] (النساء: 59) ، وقوله تعالى: [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (آل عمران: 132) .
وحذرنا القرآن الكريم من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في
قوله تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ] (النور: 63) .
وأقسم الله عز وجل على نفي الإيمان عمن أعرض عن تحكيم سنة الرسول
صلى الله عليه وسلم أو لم يقبل حكمها راضياً مسلِّماً؛ وذلك في قوله تعالى: [فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء: 65) .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الالتزام بسنته طريق إلى الجنة؛
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا
من أبى. قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن
عصاني فقد أبى» [11] .
كما أنه صلى الله عليه وسلم حذر من دعوى الاستغناء بالقرآن عن السنة؛ فقد
أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن أبي رافع مرفوعاً: «لا أُلفينَّ أحدكم متكئاً على
أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري؛ ما
وجدنا في كتاب الله اتبعناه» [12] . فهذه الأدلة من القرآن والسنة تدل دلالة قطعية
على وجوب الالتزام بالسنة النبوية.
وإذا ألقينا نظرة على موقف سلف الأمة نحو السنة في هذا المجال فسنجد
الحرص التام على التطبيق والالتزام، وسيطول بنا المقام إذا تتبعنا الأخبار الدالة
على ذلك، ويكفي أن أشير إلى موقف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي كان
من أشد الصحابة التزاماً بالسنة ولو كانت من أفعال رسول الله الجِبِلَّية.
وإذا انتقلنا إلى عصر الأئمة المجتهدين فسنجدهم أيضاً من أشد الناس حرصاً
على الالتزام بالسنة النبوية؛ فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: «إذا صح الحديث
فهو مذهبي» [13] ، والإمام مالك رحمه الله يقول: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب؛
فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب
والسنة فاتركوه» [14] ، والإمام الشافعي رحمه الله يقول: «أجمع المسلمون على
أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول
أحد» [15] ، والإمام أحمد رحمه الله يقول: «من رد حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم فهو على شفا هلكة» [16] .
وبالنسبة لعصرنا الحاضر يجب أيضاً على الأمة القيام بهذا الواجب وعلى
جميع مكونات المجتمع التعاون لتطبيق هذا الواجب؛ فالحكام عليهم توظيف سلطتهم
لتحقيق ذلك؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
والعلماء لهم دور فعال في الدعوة إلى القيام بهذا الواجب؛ فهم قدوة الأمة
ودعاتها إلى كل خير، والمؤسسات التعليمية والإعلامية عليها مسؤولية كبرى في
هذا المجال لتأثيرها الكبير على الأفراد والمجتمعات.
وخلاصة القول: لا بد أن تعي الأمة واجباتها نحو السنَّة، وأن تبذل ما في
وسعها للقيام بها؛ لما في ذلك من خير عظيم في الدنيا والآخرة. والحمد لله رب
العالمين.
__________
(*) تطوان المغرب.
(1) لسان العرب، ابن منظور، طبعة دار صادر، بيروت، (د ت) ، ج 13، ص 224، 226.
(2) المدخل لدراسة السنة النبوية، يوسف القرضاوي، طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الرابعة، 1419هـ، ص 12، 13.
(3) تخريج مشكاة المصابيح للتبريزي، الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت، الطعبة الثالثة، 1405هـ، ج 1، ص 82.
(4) منهج النقد في علوم الحديث، نور الدين عتر، طبعة دار الفكر، بدمشق، الطبعة الثالثة، 1401هـ، ص 332.
(5) أصول الحديث علومه ومصطلحه، عجاج الخطيب، طبعة دار الفكر، بلبنان، 1409هـ، ص 283.
(6) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، ابن حجر، طبعة دار النمير، بلبنان، الطبعة الثانية، 1414هـ، (تحقيق) نور الدين عتر، ص 74.
(7) منهج النقد في علوم الحديث، نور الدين عتر، ص 336.
(8) المصدر السابق، ص 334.
(9) المصدر السابق.
(10) المدخل لدراسة السنة النبوية، يوسف القرضاوي، ص 210.
(11) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، طبعة دار الفكر، (د ت) ، ج 13، ص 249، ح 7280.
(12) السنن، أبو داود، طبعة دار الحديث، بحمص سورية، الطبعة الأولى، 1394هـ، (تحقيق) عزت عبيد الدعاس، ج 5، ص 12، ح 4605.
(13) صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة السادسة، 1391هـ، ص 24.
(14) المرجع نفسه، ص 27، 28.
(15) المرجع نفسه، ص 30.
(16) المرجع نفسه، ص 34.(177/11)
دراسات تربوية
إلى أخي المبتلى بالوسوسة
محمد عيد العباسي
الوسوسة داء وبيل، وكيد من الشيطان، وتنكيل، والمبتلون بها كثيرون،
وشفاؤهم عسر جد عسير، وحالهم يدعو للإشفاق؛ فرغبة في إنقاذهم وتخليصهم
مما هم فيه كتبت هذه الكلمة راجياً أن ينتفع بها كثير منهم، وبالله العون والسداد،
ومنه التوفيق والرشاد.
* أخي المبتلى بالوسوسة!
* الوسوسة من عمل عدونا اللدود الشيطان:
اعلم وفقني الله وإياك إلى كل خير، ووقانا من كل شر أن الوسوسة من عمل
الشيطان، ومما يبغضه الله ويمقته، وليست من الدين في شيء، بل الدين حرب
عليها وبراء منها؛ ذلك أن الشيطان لنا عدوٌّ مبين، وقد طفحت آيات الكتاب العزيز
بذلك، وحسبنا منها قوله سبحانه: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] (فاطر: 6) ، فهو يريد أن يوقع الإنسان في
كل عنت وعذاب، ويسبب له كل مشقة واضطراب؛ فأمله الأعظم ومنتهى مناه أن
يدخل البشر جميعاً في الكفر الأكبر فَيَصْلَوْا معه الجحيم، ويشاركوه في العذاب
الأليم والهوان المقيم، فيشفي بذلك غيظه، ويروي منهم غليله.
وسبب ذلك معروف، وقد أخبرنا الله تعالى عنه في مواضع كثيرة من كتابه
الكريم، وخلاصته أن الله تعالى لما خلق آدم أبا البشر عليه السلام أمر الملائكة
وإبليس [1] بالسجود تحية له، فسجدوا جميعاً إلا إبليس؛ فقد أبى واستكبر، وعاند
وجحد، ورفض واعترض قائلاً: [أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً] (الإسراء: 61) ،
وتبجح بأنه خير منه، فقال: [أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ]
(الأعراف: 12) . وأصر على ذلك وتحدى خالقه العظيم، غير مبالٍ بما يجرّه
عليه سفهه وحمقه من المصير الوخيم، فكان أن لعنه الله لعنة دائمة إلى يوم الدين،
وتوعده بالعذاب المقيم، وطرده من الجنة إلى الأرض مسربلاً بالخزي والهوان
وغضب الله ذي البطش والانتقام.
ولما رأى ما حل به طلب من الله أن يمهله ويبقيه حياً إلى يوم القيامة، فأجابه
الله تعالى إلى ذلك ابتلاء للناس به، واختباراً لهم، لتنكشف حقيقة كل واحد منهم:
أيؤثر طاعة الرحمن، أم يحالف عدوه ويكون ظهيراً له على ربه؟ ومنذ ذلك الحين
والشيطان قد أعلن على الإنسان الحرب الضروس، وآلى على نفسه أن يقعد له
بكل سبيل، لإضلاله وإهلاكه، وألا يدخر وسعاً ولا جهداً ولا وقتاً ولا حيلة في
سبيل إيذائه وتعذيبه والانتقام منه؛ لأنه برأيه السبب فيما أصابه من الغضب
واللعنة والطرد والنقمة، وهذا سفه منه شديد، وجهل منه بالغ؛ إذ لا دخل للإنسان
في ذلك، والسبب كل السبب هو نفسه الأمارة بالسوء، وتكبره وعناده، ولؤمه
وغروره، ولو أنصف وفكر بعقله لا بهواه لعلم أنه عبد لله ومخلوق من مخلوقاته،
عليه واجب الطاعة والعبادة والاستسلام لربه ومولاه، والتواضع لعباد الله، واتخاذ
كل عبد صالح أخاً له وصديقاً، وحبيباً له ورفيقاً، ولكنه بدلاً من ذلك ركب رأسه
وأصرّ على رأيه واستنفر ذريته وأتباعه، وحشد كل قواه للانتقام من آدم وذريته،
يسوقه الحقد الدفين، والغضب والهياج الذي لا يضعف ولا يلين، بل يغلي ويزيد
على مر السنين.
وكان يود الشيطان أن يخلي الله بينه وبين الإنسان، ليقضي منه أربه،
ويشفي غيظه، ولو نال ذلك لما نجا من شره أحد؛ فهو يرى الإنسان، والإنسان لا
يراه، ولديه قوة في الجسم وخفة في الحركة ونشاط عجيب، ودأب وهمة وعزيمة
لا تعرف اليأس والكلل والملل، ولكن الله تعالى رأفة بعباده ورحمة بهم، وخذلاناً
لعدوهم منعه من ذلك، فجعل للإنسان حرساً من الملائكة، وذلك قوله سبحانه: [لَهُ
مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه] (الرعد: 11) [2] ،
فلا يدعون أحداً من الشياطين يؤذي الإنسان بشيء إلا بإذن الله، وحال بينهم وبينه،
ولم يسمح لهم إلا بالوسوسة يتسلطون بها عليه، إلا في أحوال نادرة لله تعالى فيها
حكمة.
فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة
(أي رماداً) أحب إليه من أن يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر، الله
أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة» ، وفي رواية: «الحمد لله
الذي رد أمره إلى الوسوسة» ، وفي أخرى: «الحمد لله الذي لم يقدر منكم إلا على
الوسوسة» [3] .
* خطر الوسوسة وأنواعها:
ولكن الوسوسة ليست بالأمر الهين؛ فعن طريقها يسيّر الشيطان الغالبية
العظمى من البشر أفراداً وجماعات ودولاً، ويستغل ما في أنفسهم من الأهواء
والحاجات، ويؤجج ما بينهم من الخلافات، ويشعل نيران الفرقة والعصبية
والغضب والخصام فيسوقهم ليفني بعضهم بعضاً، ويدمروا حياتهم وأمنهم
واستقرارهم بأيديهم.
وهو عن طريق الوسوسة يقلب حياتهم إلى شقاء وتعاسة بصرفهم عن شريعة
الله ودينه، وتزيين الدنيا وزينتها في أعينهم، وتلميع الأنظمة الكافرة المحاربة لله
ورسله، فينشر بينهم الخمور والمسكرات والمخدرات ويسميها بغير أسمائها،
فيعرضها على أنها مشروبات روحية تنعش الروح وتنشطها وتغذيها، كما يسمي
لهم الفجور والتهتك والخلاعة وقلة الحياء والاختلاط والفاحشة بأنها تحرر وتقدم
وفنون وأمور شخصية خاصة لا يجوز لأحد أن يتدخل فيها، ويسمي لهم الربا التي
هي من أكبر الكبائر والتي أعلن الله الحرب على مقترفيها والمشاركين فيها يسميها
فائدة، ويسمي التطاول على الذات الإلهية والتشكيك بأصول الدين ومسلَّمات
الاعتقاد وثوابته حرية فكر، وهكذا.
ومن أنواع الوسوسة التي يتسلط فيها الشيطان على كثير من الناس الوسوسة
في أمور العبادات والمعاملات التي يكون ضحاياه فيها من المتدينين والصالحين؛
فقد يشككهم في أقدس مقدساتهم: في ربهم تبارك وتعالى، وفي نبيهم والآخرة
والقدر والرسل وغير ذلك، فيجعلهم يعيشون في قلق دائم وخوف شديد على إيمانهم
ومصيرهم عند الله، ومصير عباداتهم وأعمالهم، وقد يتسلط عليهم في أمور
الطهارة من النجاسات والغسل والوضوء وطهارة الثياب والأمكنة وغيرها، فيقضي
أحدهم الوقت الطويل في الاستنجاء والاستبراء وغسل الثياب الداخلية والألبسة
والفرش، ويعيد الوضوء مرات ومرات خوفاً من ألا يكون الماء قد وصل إلى
بعض الأعضاء أو أخطأ في عدد الغسلات، وأما الصلاة فحدث ولا حرج عما
يوقعهم فيه من المشقة والعنت في صحتها وخشوعها وعدد ركعاتها، فقد يوقعهم في
شكوك لا حصر لها عن صحتها وقبولها، فيعيدون الصلاة الواحدة مرات، ويفوّت
عليهم الجماعات، وقد يؤدي بهم إلى إخراجها عن وقتها بسبب تلك السلسلة الطويلة
من الشبهات والتشكيكات ناهيك عن الخشوع الذي خلا تماماً من صلاة أولئك
الموسوسين المساكين. وقد مثل ذلك في أمور الزواج والطلاق والحج والبيوع
والأطعمة والأشربة والعقود المختلفة وهكذا.
ولا شك أن هذا يوقع الإنسان في عنت ومشقة وعناء وعذاب، فيقض عليه
مضجعه، ويشغل وقته، ويحرق أعصابه، ويضيع ماله، ويؤثر ذلك على عمله
فيفسده بكثرة الأخطاء التي تعتريه لانشغال فكر الموسوس في وساوسه، وقد يسبب
ذلك له المشاكل الكبيرة مع مسؤوليه في العمل، ومن يتعامل معهم في أمور الحياة
المختلفة قد تؤدي إلى إخراجه من عمله فيعاني من الحاجة والحرمان، فتضاف
مشاكل جديدة إلى مشاكله، ويؤثر على صحته وحال تكيفه مع أسرته وأقاربه
وزملائه، ويستمر حاله في التدهور والانهيار والشقاء، وقد يدفعه ذلك إلى الانتحار
للتخلص من هذا البؤس والعذاب، فيخسر بذلك الدنيا والآخرة.
ويوهم الشيطان الموسوس بأن ذلك من الورع والتقوى والدين والصلاح،
ومن الحرص على تنفيذ أمر الله وسلامة العبادة والعقيدة، وتجاه ما يعانيه من الشقاء
يتوجه لأهل العلم يسأل الواحد بعد الآخر، ولكنه لا يزيد بسؤال غالبهم إلا شقاء،
فيفكر في أقوالهم ويحتار في عباراتهم، ويشك في علمهم فلا يكتفي بسؤال الواحد أو
الاثنين، بل تراه يعرض مسائله على الكثيرين، ولا يستقر على رأي ولا يطمئن
إلى حال. وقد يزيد الطين بلة إذا صادف بعض طلبة العلم المتشددين الذين يغذون
فيه الوسوسة ويكونون عوناً للشيطان عليه.
ولعلاج هذا الداء الخطير والشر المستطير، وللخلاص منه يجب على كل
من ابتلي به أن يعلم ما يلي:
1 - أن يعلم مما سبق بيانه أن الوسوسة من عمل الشيطان عدونا الأكبر.
2 - أن يعلم يسر الإسلام وسماحته.
إذ من المتفق عليه لدى العلماء أن من أهم صفات الشريعة الإسلامية ومزاياها
أنها شريعة سمحة، وأن تكاليفها ميسرة سهلة بعيدة عن الإعنات والمشقة؛ فهذا
كتاب الله يعلن ذلك بكل صراحة ووضوح ودون لبس ولا غموض فيقول: [يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] (البقرة: 185) ، ويقول: [وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78) ، ويقول: [يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ
وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً] (النساء: 28) ، ويصف نبيه خاتم الرسل محمداً صلى
الله عليه وسلم فيقول: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]
(الأعراف: 157) ، والإصر: الحمل الثقيل، والأغلال: القيود الشديدة
والتكاليف الشاقة؛ فقد امتن الله عز وجل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه
خفف عنهم التكاليف الشاقة التي كانت على من قبلهم، ورحمهم ويسّر لهم الدين،
وأتم عليهم النعمة.
ويبين الله تعالى أنه لو شاء لكلفنا ما يشق علينا ولكنه رفع عنا ذلك رحمة بنا
وتفضلاً منه علينا، فقال: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ] (البقرة: 220) ، وقال:
[مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ] (النساء: 147) ، فهو الغني عن
تعذيب عباده، ولكنه يمتحنهم ويختبرهم، ويريد أن يرحمهم، وكل الذي يريده منهم
أن يخلصوا التوحيد له، ويصدقوا معه، ويطيعوه، وإذا أخطؤوا أو أذنبوا تابوا
وأنابوا، وهو يخبرهم أنه يغفر الذنوب جميعاً، ولو تكرر من العبد الذنب بعد
الذنب ولو كان من الكبائر؛ فهو يحب عبده التواب الأواب المنيب. ويقول سبحانه
معلماً لنا أن ندعوه فيقول: [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ] (البقرة: 286) .
ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقائق ويزيدها قوة ووضوحاً فيقول:
«إني بعثت بالحنيفية السمحة» [4] ، ويقول: «إن أحب الأديان إلى الله الحنيفية
السمحة» [5] ، ويوصي أصحابه وأمته بالتبشير والتيسير، فيقول: «يسروا ولا
تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» [6] ، ويتوعد المتشددين والمتزمتين والمعسّرين
فيقول: «ألا هلك المتنطعون قالها ثلاثاً» [7] .
وكان بعض الصحابة في سفر فأصابت أحدهم جراحات، وأصبح جنباً،
فسأل أصحابه ماذا يفعل؟ فأمروه بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ الخبرُ النبيَّ
صلى الله عليه وسلم، فغضب غضباً شديداً ودعا عليهم فقال: «قتلوه، قتلهم الله؛
ألا سألوا إذا لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال» [8] .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم
يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن
يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. قال مروه فليتكلم وليستظل
وليقعد، وليتم صومه» [9] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
رجلاً يُهادَى بين ابنيه، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يمشي، فقال: «إن الله لغني
عن تعذيب هذا نفسه» وأمره أن يركب [10] .
وقد تعلم منه الصحابة الكرام هذا التوجيه الكريم؛ فها هو عمرو بن العاص
رضي الله عنه يرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية ذات السلاسل يقول:
«فاحتلمت في ليلة باردة، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت
بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو!
صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني
سمعت الله يقول: [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] (النساء: 29) ،
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً» [11] .
والأحاديث في هذا كثيرة فأكتفي بما سبق.
وقد تجلى يسر الشريعة الإسلامية في كثير من الأمور؛ فمنها وضع الصوم
عن المسافر والمريض، والحامل والمرضع، والرخصة لهم في الفطر والقضاء،
وللأخيرتين بالكفارة والقضاء، ومنها السماح لمن لا يستطيع القيام أو يشق عليه أن
يصلي قاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب، ومنها إباحة ما حرم عند الضرورات
كإباحة أكل الميتة والخنزير إذا لم يجد الطعام الحلال وخشي على نفسه الهلاك،
ومنها عدم المؤاخذة في لغو اليمين، ومنها إباحة الغيبة والكذب والنميمة في بعض
الحالات، ورفع الإثم والمؤاخذة عما يفعله الإنسان في حالة الخطأ والنسيان
والاستكراه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه» [12] .
3 - وعلى من ابتلي بالوسوسة إذا أراد الشفاء منها أن يعلم أنه غير مؤاخد
على خواطر النفس:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما
وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم» [13] ، وهذا فضل من الله
عظيم، ونعمة منه سابغة؛ فكثير مما يرهق الموسوس ما يورده الشيطان على
خاطره من خواطر السوء عن الله والدين والقرآن والرسول، فيخيل إليه أنه بذلك
خرج من الدين، وصار من المرتدين، ويستتبع ذلك حرمة بقائه مع زوجته،
وبطلان عباداته وغير ذلك من الأمور؛ فإذا علم أن ذلك لا تأثير له، ولا مؤاخذة
فيه ارتاح باله وهدأت نفسه.
ومثل ذلك ما يورده الشيطان على خاطره من نية طلاق زوجته أو قطع
صلاته أو صومه أو وضوئه، فذلك كله غير مؤثر ولا ينبني عليه شيء، ولا إثم
فيه، فعليه أن يستمر في عباداته هذه ولا يشك فيها.
وانظر إلى عظم فضل الله ورحمته، فإنه لم يكتف بعدم مؤاخذة الإنسان على
الوساوس والخواطر السيئة عن الدين والإله والمقدسات، بل عد استعظامه ذلك
علامة على قوة الإيمان؛ فقد «جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا:
نعم! قال: ذاك صريح الإيمان» [14] .
وفي رواية: «شكَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدون من
الوسوسة، وقالوا: يا رسول الله! إنا لنجد شيئاً لو أن أحدنا خرّ من السماء كان
أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك محض الإيمان»
[15] .
وقد هوّن السلف من شأن خواطر السوء هذه، وعدوها أمراً عادياً لا تستحق
الوقوف عندها؛ فقد سأل أبو زحيل [16] عبدَ الله بنَ عباس رضي الله عنه فقال:
ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به، قال: فقال لي:
أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله
عز وجل: [فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن
قَبْلِك] (يونس: 94) ، فقال لي: إذا وجدت من نفسك شيئاً فقل: [هُوَ الأَوَّلُ
وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (الحديد: 3) « [17] .
4 - وعلى المبتلى بالوسوسة أن يتبع إرشادات النبي صلى الله عليه وسلم
العملية للقضاء عليها:
وقد سبق ذكر بعض هذه الإرشادات، وهناك إرشادات أخرى أذكر بعضها
الآن، فمنها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خَلْقُ اللهِ الخَلْقَ، فمن خلقَ اللهَ؟ فمن
وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله « [18] ، وفي رواية:» يأتي الشيطان أحدكم،
فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ
بالله ولينته « [19] .
قال النووي:» معناه: إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في
دفع شره، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة
الشيطان، وهو إنما يسمى بالفساد والإغراء، فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته،
وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها «.
ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال:» هكذا
الوضوء؛ فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم « [20] .
فهذا يفيد تحريم الزيادة في غسل أعضاء الوضوء أكثر من ثلاث مرات،
والزيادة على مواضع الغسل أو المسح المشروعة، ووصف من يفعل ذلك بأنه
مسيء ومتعدٍ وظالم؛ وكفى بذلك زاجراً لكل وسوسة لمن اتقى الله.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم سئل
عن بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها الحِيَض ولحم الكلاب والنتن فقال:» إن
الماء طهور لا ينجسه شيء « [21] ، زاد في رواية ضعيفة ولكن معناها مجمع عليه:
» إلا ما غلب على لونه أو ريحه أو طعمه من النجاسة «.
وحديث ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال:
» إن الماء ليس عليه جنابة، ولا ينجسه شيء « [22] ، ومثله حديث ابن عباس
مرفوعاً:» إن الماء لا يجنب « [23] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:» كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله
عليه وسلم من إناء واحد ونحن جنبان « [24] .
وعن ابن عمر قال:» كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله
صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ندلي فيه أيدينا « [25] .
وهذه الأحاديث ونحوها جديرة بأن تقضي على كل وسوسة في موضوع
الطهارة والمياه لمن عقل واتقى الله.
ومنها أنه كان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أن يأخذ كفاً من ماء
فينضح به فرجه [26] ، وذلك للقضاء على أي وسوسة بخروج بول بعد ذلك، فإذا
أحس المرء ببلل ما نسبه إلى الماء الذي نضحه بيده، وما ذلك إلا ليقطع على
الشيطان أي سبيل إليه.
ومنها حديث أنس رضي الله عنه:» أن أعرابياً بال في المسجد، فقام إليه
بعض القوم (وفي رواية فصاح به الناس) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
دعوه ولا تزرموه، فلما فرغ دعا بدلو من ماء، فصبه عليه « [27] .
ومعلوم أن صب الماء على البول لا يقضي عليه ولكنه يزيل نتنه ويغلب عليه،
فاكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم يأمرهم بإزالة التراب الذي وقع عليه
البول.
ومثل ذلك أو قريب منه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:» إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهور «وفي
رواية:» إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورها التراب « [28] .
وحديث أم سلمة والمرأة الأشهلية أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
» يا رسول الله! إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ قال:
أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه « [29] ولفظ
حديث أم سلمة قال النبي صلى الله عليه وسلم:» يطهره ما بعده « [30] .
وفي هذين الحديثين بيان سماحة الإسلام ويسره في مسائل الطهارة؛ فهذه
المرأة التي تجر ذيلها على الأرض النجسة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بطهارته
إذا مرت بعد ذلك على أرض طاهرة؛ فهل بعد هذا يبقى مجال لوسوسة الشيطان
إذاً لمن عقل هذا واحتكم إلى الحجة والبرهان؟
وهذا الرجل الذي تيقن من وطئه بنعليه النجاسة اكتفى النبي صلى الله عليه
وسلم بأمره بأن يدلكها بالأرض لتطهر، ومعلوم أن الدلك لا يزيل كل النجاسة، بل
تبقى منها أشياء وذرات تتخلل في ثناياهما، ومع ذلك سامح الشارع فيها، وأجاز
الصلاة فيهما، مكتفياً بزوال كيان النجاسة وكتلتها.
وشكا أحد الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل: يخيل إليه
أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال:» لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً «
[31] .
هذه أخي المسلم المبتلى بالوسوسة أمثلة عملية صحيحة تبين كيف كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعالج أمر الوسوسة، ويعلم أمته طريق القضاء عليها بما
يزيل كل عنت، ويقضي على كل مشقة، ولو تتبعنا بقية الأحكام المشابهة لضاق
المقام، فخذ من هذا منهجاً تسلكه في أمور عباداتك وحياتك وقسه على باقي الأمور،
وإذا علمت هذا واعتقدته سهل عليك التخلص من الوسوسة؛ لأن الشيطان يدخل
عليك من باب الحرص على صحة العبادة، واستكمالها شروطها وأركانها، وسلامتها
من نواقضها ومبطلاتها، فلا تصغ إلى وساوسه، ولا تدقق في الأمور ولا تشدد،
ولا تتكلف ولا تتعمق؛ فإن ذلك من سبيل اليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم؛
فعندما أمرهم نبيهم موسى عليه السلام بذبح البقرة أي بقرة ولم يعين لها عمراً، ولا
شكلاً ولا لوناً ولا علامة راحوا يسألونه أن يسأل ربه عن عمرها ولونها وشكلها
وعلاماتها، فشددوا فشدد الله عليهم حتى لم يجدوا إلا بقرة واحدة بهذه الصفات،
واستغل ذلك أصحابها فباعوهم إياها بأغلى الأثمان.
وأما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فبعيدة عن التشدد والتنطع بريئة من
التكلف، يقول الله تعالى: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ]
(ص: 86) ، وقال عمر رضي الله عنه:» نهينا عن التكلف « [27] ، وقال صلى
الله عليه وسلم:» ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم،
واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بشيء، فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم
عن شيء فدعوه « [32] ، وقالت عائشة رضي الله عنها:» صنع النبي صلى الله
عليه وسلم شيئاً ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم
فحمد الله، ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني أعلمهم،
وأشدهم له خشية « [33] . ففي ذلك كله عبرة وأي عبرة لمن وعاه وتدبره وعمل به.
5 - وقبل ذلك كله على المبتلى بالوسوسة أن يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء
ليعيذه من وساوس الشيطان: فإن الله تعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، وبين
أصابعه قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فإذا لجأ المسلم إلى ربه خاشعاً متضرعاً،
يسأله أن يقيه من نزغات الشيطان، بكل إخلاص وصدق، وفقر وتذلل، وانتهز
أوقات الإجابة وأحوالها التي بيّنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كالثلث الأخير
من الليل، وعند السجود وقبل السلام، وفي الساعة الأخيرة من الجمعة، فإنه
لحريّ أن يظفر بالإجابة، ومن أحسن الأدعية والمعوذات ما ورد في كتاب الله
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: [وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ] (المؤمنون: 97-98) ،
وقوله سبحانه: [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ]
(فصلت: 36) ، وقد تعهد الله عز وجل بأن يحمي من يلجأ إليه ويستعيذ به
من عباده من مكائد الشياطين، فقال مخاطباً رأس الضلال إبليس لعنه الله فقال:
[إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ] (الحجر: 42) ،
وقد انصاع إبليس لذلك مكرها، فقال: [قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي
الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ] (الحجر: 39-40) ،
وقال تعالى في الحديث القدسي عن عباده الصالحين، وأوليائه الذين يتقربون إليه
بأداء الفرائض والنوافل:» ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه «
[34] .
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن وسوراً نتلوها وأدعية
واستعاذات نقرؤها في مناسبات مختلفة لنتحصن بها من الشياطين؛ فمن تحصن بها
نجا، ورد الله كيد الشيطان في نحره؛ فمنها قراءة سورة البقرة؛ فقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم:» اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم، فإن الشيطان لا يدخل
بيتاً يقرأ فيه سورة البقرة « [35] .
وفي حديث أبي هريرة حينما أمسك الشيطان الذي كان يحاول السرقة من بيت
الصدقة فعرض عليه الشيطان مقابل إطلاق سراحه أن يعلمه كلمات ينفعه الله بها،
قال:» إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ،
ولا يقربك شيطان حتى تصبح «فقال النبي صلى الله عليه وسلم:» أما إنه
صدقك وهو كذوب « [36] .
وقال صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه عن المعوذتين [قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ] (الفلق: 1) و [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ] (الناس: 1) :
» ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ]
(الفلق: 1) ، [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ] (الناس: 1) « [37] وقال صلى الله عليه
وسلم أيضاً:» ما سأل سائل بمثلها، ولا استعاذ مستعيذ بمثلها « [38] ، وقال لابن
عباس رحمه الله:» ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون «فذكر السورتين
[39] ، وفي رواية:» أنزلت علي سورتان، فتعوذوا بهن؛ فإنه لم يتعوذ بمثلهن
يعني المعوذتين « [40] .
وعن عائشة رضي الله عنها:» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يتعوذ من أعين الجان، وأعين الإنسان؛ فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما
سواهما « [41] .
وهناك أدعية واستعاذات كثيرة في كتب السنة المختلفة؛ فمن شاء فليرجع
إليها، وقد جمعت كثيراً منها كتب الأذكار والأدعية المأثورة.
6 - وعلى المبتلى بالوسوسة أن يعتمد في تفقهه بدينه على النبع الصافي
والمصادر الأصيلة وهي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهدي
السلف الصالح رحمهم الله، ويسأل العلماء المتبعين هذا المنهج القويم.
ذلك لأن الفقهاء المتأخرين قد ضعفت واضمحلت فيهم ملكة الاجتهاد، وقلَّت
جداً، وغلب عليهم التقليد، وصار هو ديدنهم وطريقهم، فابتعدوا عن فهم الإسلام
الصحيح، وتأثروا بالثقافات الأجنبية، وانتشرت في فقههم عيوب كبيرة، ومآخذ
كثيرة، ومن ذلك أنه قد انتشر فيهم التشدد والجمود، والاختلاف والتعصب،
والتنطع والغلو، وكثير من الموسوسين زاد في وسوستهم وجعلها تستفحل وتقوى
تعلُّمهم الدين من كتب متأخرة، وأخذهم من متفقهين مقلدين ضعيفي الصلة بالكتاب
والسنة، فشددوا على أنفسهم وعلى الناس بحجة الاحتياط، وأوقعوا الناس في
الحرج والوسوسة، وهيؤوا الأجواء لنمو جراثيم هذا المرض العضال في المجتمع
الإسلامي، فلا بد من إعادة الصلة مع الكتاب والسنة والاهتداء بهديهما، والسير
على نهجهما، وصدق القائل:» لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به
أولها «.
__________
(1) أصل إبليس من الجن كما هو صريح القرآن، (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه) (الكهف: 50) ، وكما يذكر في آيات أخرى أنه خلق من نار، وهذه مادة الجن، وأما مادة الملائكة التي خلقوا منها فهي النور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:» خلقت الملائكة من نوره وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم «رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها، وأما سبب وجوده مع الملائكة فلكثرة تعبده رفعه الله ووضعه معهم كما وردت بذلك بعض الآثار.
(2) انظر تفسير الحافظ ابن كثير؛ ففيه بيان ذلك ونُقول عن عديد من السلف بمعناه.
(3) رواه أحمد (1/340) ، وأبو داود (5112) واللفظ له، والرواية الأولى له ولأحمد، والثانية لأحمد، وسنده صحيح.
(4) رواه أحمد في المسند 6/116، عن عائشة رضي الله عنها، وذكرت أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم لعب الحبشة بالدرق في المسجد ونظرها إليهم.
(5) رواه أحمد في المسند، 1/386 والبخاري في الأدب المفرد رقم (267) ، والطبراني في المعجم الكبير رقم (468) ، عن ابن عباس، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، 881.
(6) رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أنس، وقوله:» هلك المتنطعون «إما إخبار عنهم بأنهم هالكون وخاسرون، وإما دعاء عليهم بالهلاك والخسران.
(7) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود.
(8) رواه أبو داود (1/240/336، 337) عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن عباس، وروى حديث ابن عباس ابن ماجه برقم (572) ، وحسنه الألباني بمجموعهما في (تمام المنة 131) .
(9) أخرجه مالك (2/475) ، والبخاري (7/234) ، وأبو داود 33، وابن ماجه (2136) ، أحمد (4/168) .
(10) رواه البخاري (2/220) ، (7/234) مختصراً، وأبو داود (3301) واللفظ له.
(11) رواه أبو داود (1/238/ 334، 335) ، وإسناده صحيح.
(12) رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في الإرواء (82) .
(13) رواه البخاري (7/225) ، وأبو داود (2209) عن أبي هريرة.
(14) رواه مسلم (1/19) .
(15) رواه أحمد (6/106) ، ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، ومسلم (1/119) عن ابن مسعود.
(16) هو سماك بن الوليد الحنفي ثقة من رجال الستة إلا البخاري.
(17) رواه أبو داود (5110) وسنده جيد.
(18) (19) رواه البخاري (4/92) ، (8/144) ، ومسلم (1/119/212) ، وأبو داود وأحمد (2/282، 317) واللفظ الأول لمسلم، والثاني له وللبخاري.
(20) رواه النسائي (1/88) ، وابن ماجه، رقم (422) ، وإسناده حسن.
(21) رواه أبو داود (1/53 55 / 66، 67) والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 1925.
(22) رواه أحمد والدارقطني وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 1926.
(23) رواه أبو داود (1/55/68) ، والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 1927.
(24) رواه أبو داود (1/61، 77) وسنده صحيح.
(25) رواه أبو داود 1/62/ 79 80) وسنده أيضاً صحيح.
(26) ثبت هذا في أكثر من حديث، أصحها حديث الحكم بن سفيان الثقفي عند ابن ماجة (1/157 /461) .
(27) رواه مسلم (1/236، 237) من طرق.
(28) رواه أبو داود (1/267، 268) من طرق وسنده صحيح.
(29) (30) رواهما أبو داود (1/266، 267) والترمذي وابن ماجه، وسنده صحيح (31) رواه البخاري (1/43، 52) ، ومسلم (1/276) ، وأبو داود (1/122/ 176) ، وابن ماجه والنسائي، وابن ماجه عن عباد بن تميم عن عمه.
(32) رواه البخاري (8/143) .
(33) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.
(34) رواه البخاري (8/145) .
(35) جزء من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة (7/190) .
(36) رواه الحاكم والبيهقي في (الشعب) عن ابن مسعود، وصححه أستاذنا الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم 1521.
(37) رواه البخاري (3/63، 64، 6/ 104) ، والنسائي في اليوم والليلة، وابن مردويه، وهو عند البخاري في الموضعين معلق، وذكر أستاذنا الألباني في مختصره للبخاري (2/106) أنه وصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم بسند صحيح.
(38) رواه مسلم.
(39) رواه النسائي (8/252) .
(40) (41) رواه النسائي (8/251، 254) ، وأحمد (3/417، 4/ 144، 153) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم 1104.(177/15)
قضايا دعوية
الأوليات.. وضوابط تحديدها
د. عادل بن محمد السليم [*]
** تعريف وتمهيد:
أ - التعريف اللغوي:
الأوّل هو: نقيض الآخر ... تقول: هذا أوّل بَيّن الأوليّة [1] . ومنه تكون
النسبة: (أوَّلِيَّات) . ومؤنث الأول: الأُولى، مثل أفعل وفُعلى، وجمع الأُولى:
أُولَيَات مثل الأخرى [2] .
وأوْلى اسم تفضيل، يقال: فلان أوْلى بهذا الأمر من فلان: أي أحق به،
وفلان أوْلى بكذا أي: أحرى به وأجدر [3] . ومنه تكون النسبة: (أوْلَويّات) ،
يقال: له الأوْلوية في هذا العمل: أي له الأحقية [4] .
ب - التعريف الاصطلاحي:
الأوليات: هي الأعمال والأنشطة التي حقها التقديم على غيرها.
وتقديم الأهم على المهم والفاضل على المفضول حقيقة شرعية، وبدهية
عقلية.
أما كونها بدهية عقلية: فلأن العقول السليمة أجمعت على تقديم ما منفعته
غالبة، أو ما مصلحته راجحة على ما منفعته ضعيفة أو مصلحته مرجوحة.
أما كونها حقيقة شرعية: فلأن نصوص الكتاب والسنَّة قد دلت على ذلك،
ومن هذا ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي
قوماً أهل كتاب؛ فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً
رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات
في كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ
من أغنيائهم فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم،
واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» [5] .
ومراتب الأعمال متفاوتة؛ فمنها ما يكون من الأركان، ودونها الواجبات، ثم
دونها السنن ... وهكذا، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «الإيمان
بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة
الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [6] .
كما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: «إيمان بالله ورسوله» . قيل: ثم ماذا؟ قال:
«الجهاد في سبيل الله» . قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» [7] .
وكذلك مصالح العباد متفاوتة؛ فقد بيَّن الأصوليون أنها ثلاث مراتب:
فأعلاها الضروريات، تليها الحاجيات، ثم التحسينيات.
فإذا تعارضت الأعمال أو المصالح، أو تعسَّر الجمع بينهما؛ فإن الواجب
تقديم الأوْلى فالأوْلى؛ فلا يجوز تقديم الواجب على الركن؛ كما لا يجوز تقديم
النفل على الواجب.
** مفاسد غياب فقه الأوليات:
غياب فقه الأوليات باب من أبواب الانحراف والاضطراب، ويؤدي إلى
مفاسد عظيمة على مستوى الأفراد والمؤسسات [8] ، ومن هذه المفاسد:
1 - سوء فهم الشريعة:
حيث تُنَزَّل الشريعة في غير منازلها المأمور بها؛ وذلك «يؤدي إلى فوضى
فكرية عارمة تشوِّه الشريعة وتخل بتوازنها، ولقد أرسى الشرع بين المأمورات
والمنهيات توازناً لا يجوز الإخلال به؛ تماماً كنسب الدواء الواحد، قد يؤدي
تغيرها إلى إفساده وإلغاء خصائصه، إن لم ينقلب إلى سم قاتل» [9] .
2 - ضياع الأجر:
فالجاهل بمراتب الأعمال يهتم بالعمل قليل الأجر على حساب كثير الأجر،
ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسنات قليلة [10] .
3 - الاضطراب الدعوي:
إن المتابع للواقع الدعوي اليوم يلمس قصوراً بيناً في معرفة مقاصد الشريعة
وأصولها وأولياتها؛ مما أدى إلى اضطراب واسع في كثير من البرامج والأنشطة،
واستهلاك كبير لكثير من الطاقات البشرية والموارد المادية في أمور غيرها أوْلى
منها، وكثيراً ما نرى استغراق المؤسسات الدعوية أو الأفراد في الأعمال المفضولة
على حساب الأعمال الفاضلة، وينعكس ذلك بوضوح على نتائجها التي تبدو ضعيفة.
قال الدكتور سعد الدين العثماني: «فسوء فهم الشريعة واختلاط مراتب
أحكامها يؤدي إلى عجز الدعاة عن البدء بما يجب البدء به؛ فإذا كان في أحكام
الدين واجب ومستحب، وفاضل ومفضول؛ فإن الدعوة إلى الواجب والفاضل مقدم
على الدعوة إلى ما دونها، لكننا نرى من بين شباب الصحوة الإسلامية ودعاتها من
ينشغل بالمسائل المرجوحة والأحكام الخلافية، وتُبَدَّد الجهود والطاقات فيها.
والأوْلى البدء بالدعوة إلى أصول العقيدة والشريعة، وبذل الجهد في معالجة القضايا
المصيرية الكبرى للأمة. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد من اعتبار
درجة المعروف ودرجة المنكر، حتى لا يُفسِد الإنسان بدلَ أن يُصلح، وحتى لا
يُنفِّر بدل أن يُبشِّر» [11] .
4 - تشتيت جهود الدعاة والمؤسسات الإسلامية:
إن اتفاق الدعاة والمؤسسات الإسلامية على تحديد الأوليات يقوي ثمراتها،
ويرسخ جذورها، ويجعلها بإذن الله تعالى متراصة متماسكة تتعاون في تحقيق
أولياتها بيسر وسهولة. أما اختلاف الدعاة والمؤسسات الإسلامية في تحديد الأوليات
فإنه يضعف من أنشطتها، ويفرق من ثمراتها، ويجعلها تسير في طرق متباينة
متباعدة ... !
5 - إهدار الأوقات:
إن تقديم المهم على الأهم، والمفضول على الفاضل يطيل الطريق على الدعاة
والمؤسسات الإسلامية، ويهدر أوقاتاً كثيرة كان يمكن أن تستثمر في الأصلح
والأنفع للأمة.
ولهذا كان من فضل الله على العبد أن يبصِّره بأفضل الأعمال، ويثبِّته عليها. وإذا
أدركنا ضخامة الواجبات والأعباء التي يجب أن يتبناها الدعاة والمصلحون وتتبناها
المؤسسات الإسلامية؛ تبيَّن أهمية استثمار الوقت، وشغله بالأوْلى فالأوْلى.
والتميز في إدارة الوقت واستثماره من التحديات الكبيرة التي تواجه الدعاة
والمؤسسات الإسلامية الجادة.
6 - البعد عن مدارج الكمال:
فكلما اشتغل المرء بالمفضول على حساب الفاضل، وبالمهم على حساب
الأهم؛ ابتعد عن مدارج الكمال، ومنازل العلو والرفعة.
قال الإمام أبو عبيدة: «من شغل نفسه بغير المهم أضرَّ بالمهم» [12] .
وللإمام ابن القيم كلام متين جامع في بيان العقبات التي يسعى الشيطان للظفر
بها من العبد، وذكر العقبة السادسة وهي: «عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة
من الطاعات، فأمره [الشيطان] بها، وحسنها في عينه، وزينها له، وأراه ما
فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسباً وربحاً؛ لأنَّه
لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته
العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله
عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له. ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟!
فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأُوَل. فإن نجا منها بفقهٍ
في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز
بين عاليها وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها؛
فإن في الأعمال والأقوال سيداً ومسوداً، ورئيساً ومرؤوساً، وذروة وما دونها ...
ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، السائرين على جادة
التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه» [13] .
** ضوابط تحديد الأوليات:
1 - الاعتماد على المصادر الأصيلة في الاستدلال والتلقي:
لقد بليت الأمة الإسلامية بألوان وألوان من التفرق والاختلاف، وأصابها ما
أصابها من الانحراف والبعد عن دين الله تعالى، ولم يسلم من ذلك بعض الدعاة
والمصلحين؛ حيث راح بعضهم يُشرّق ويغرب، ويتقلب في متاهات علمية وعملية،
بلا ضابط علمي أو منهجي، وأصبحت الأوليات الدعوية تُحدَّد في كثير من
الأحيان بناء على الاجتهادات والأهواء الشخصية، أو بناء على تجارب ورؤى
قاصرة ضيقة الأفق، فرأينا من يقدم ما حقه التأخير، ويؤخر ما حقه التقديم،
وانعكس ذلك على كثير من الأنشطة والبرامج ... !
ولا مخرج للأمة من هذه الكبوة إلا بالعودة الصادقة إلى المصادر الأصيلة
للاستدلال والتلقي، وهي الكتاب والسنة، أو ما دلَّ عليه الكتاب والسنة كالإجماع
والقياس ونحوهما، ومن ثَمَّ تحدّد الأوليات الدعوية بالرجوع إلى هذه المنابع
الكريمة التي لم تكدرها شوائب البدع والضلالات والأهواء. قال الله تعالى: [وَمَن
يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (آل عمران: 101) ، وقال: [وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام: 153) .
2 - النظرة الشمولية للإسلام:
إن من فضل الله تعالى على أمة الإسلام أن جعل هذا الدين ديناً شاملاً لجميع
شؤون الحياة، ولا يجوز بحال قصر الدين على شعبة من شعبه وإهمال شعبه
الأخرى؛ ولذا قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]
(البقرة: 208) ، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: «يقول الله تعالى
آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه،
والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك» [14] .
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الدعاة في هذا الباب:
أ - وضع الجزئيات في موضع الكليات، والاشتغال بها على حساب الكليات؛
فمن الناس من لا يعرف من الإسلام علماً وعملاً ودعوة إلا مجموعة من الفروع،
مع إهمال مفرط لأصول الدين وأركانه ... !
ب - التهوين من شأن السنن، بل والواجبات أحياناً؛ بحجة أنها من
الجزئيات الفرعية التي لا ينبغي الانشغال بها، وإهدار الوقت في تحصيلها ... !
وكلا هذين الأمرين خطأ بلا شك؛ فكل ما ثبت في الشرع فحقه التقدير، ووضعه
في مكانه اللائق به شرعاً؛ فكما أنه لا يجوز الاشتغال بالجزئيات على حساب
الكليات، أو تقديم التحسينيات على الحاجيات أو الضروريات، فكذلك لا يجوز
الإعراض عن الجزئيات استخفافاً بها، وتهويناً من قدرها؛ فإن في ذلك قدحاً في
الشارع الحكيم الذي سنَّها وحثَّ على فعلها. والتوازن مطلوب في إعطاء النصوص
حقها علماً وعملاً ودعوة، ومن الشواهد المفيدة التي تدل على عظيم فقه الصحابة
رضي الله عنهم ورسوخهم في العلم والعمل: أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كان ينتظر أخبار فتوح الشام، فقدم عليه عقبة بن عامر الجهني رضي الله
عنه يبشره بفتح الشام، وعليه خفان غليظان، فنظر إليهما عمر، فقال: (كم لك
منذ لم تنزعهما؟ فقال عقبة: لبستهما يوم الجمعة، واليوم يوم الجمعة ثمان. فقال:
أصبت السنة) [15] .
فحِرْصُ عمر بن الخطاب على أخبار الجهاد في سبيل الله وفتح الديار، لم
يمنعه من سؤال عقبة عن مسألة علمية ربما يتهاون في شأنها بعض الناس ... !
3 - تقديم ما قدَّمه الشارع الحكيم:
إنَّ من الأصول المقررة عند علماء الإسلام قديماً وحديثاً: وجوب تقديم ما
قدمه الشارع الحكيم علماً وعملاًً، وإعطاء كل أمر شرعي حقه من التعظيم
والإجلال. فالدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، ونبذ الشرك والبراءة منه
ومن أهله هي المنطلق والأساس الذي بدأ به جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قال الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 25) ، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى
اليمن قال له: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن
لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض
عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ... الحديث» [16] . فبدأ بالدعوة إلى
التوحيد الذي هو أول واجب على العبد، ثم ثنَّى بعد ذلك بالدعوة إلى بقية الأركان.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح الحديث:
«وفيه دليل على أن التوحيد هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك
عبادة ما سواه هو أول واجب؛ فلهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام؛ كما
قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 25) ، وقال: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت] (النحل: 36) » [17] .
إنَّ الشرك والخرافة والبدع والضلالات تنتشر في العالم الإسلامي اليوم
انتشاراً عظيماً، حتى أصبح التوحيد الخالص غريباً في كثير من الديار نسأل الله
تعالى السلامة؛ ولهذا كان الواجب على العلماء والدعاة والمؤسسات الإسلامية أن
يتصدروا الدعوة إلى الإيمان والتوحيد علماً وعملاً وتقديم ذلك على كل معروف،
ويحذروا من الشرك وأهله قديمه وحديثه، ويجعلوا ذلك مقدماً على التحذير من كل
منكر؛ فصلاح التوحيد سبب لكل صلاح بإذن الله تعالى، كما أن الشرك سبب لكل
فساد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في
الأرض سببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل شر في
العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة الرسول صلى الله
عليه وسلم والدعوة إلى غير الله» [18] ، وقال أيضاً: «التوحيد أصل كل خير
وجماعه، والشرك أصل كل شر وجماعه» [19] .
ومع تفوق الحضارة الغربية المادية المعاصرة واغترارها بتفوقها الصناعي
غزت العالم كله المذاهب الإلحادية والمبادئ المادية التي كفرت بالله تعالى، وراحت
تقدس الأهواء وتعبد المادة وتنفلت من قيود الفضيلة. ومسخت هذه المذاهب الكفرية
بعض العقول المريضة في العالم الإسلامي التي انسلخت من دينها وهويتها،
وسقطت مسلوبة القوى تحت أعتاب الغرب..!
ويحزن المرء أشد الحزن عندما يرى بعض المؤسسات أو المراكز الإسلامية
أو الدعاة يقصرون في الدعوة إلى التوحيد الخالص، ويفرطون في الرد على
التيارات الإلحادية المعاصرة، ويشتغلون في المفضول على حساب الفاضل، وهذا
بلا شك من نقص العلم وقلّة الفقه في دين الله تعالى.
4 - معالجة حاجات البيئة:
تختلف البيئات من حيث احتياجاتها الدعوية، ومن حيث الانحرافات السائدة
فيها، ولهذا يجب أن تحدد الأوليات الدعوية التي تتصدر لها المؤسسات والمراكز
الإسلامية بناء على حاجات كل بيئة. فما يجب تقديمه في البيئة العربية قد يختلف
عن البيئة في أوروبا الشرقية أو الغربية أو أفريقيا ... وهكذا.
نعم هناك قواسم مشتركة بين جميع البيئات يجب مراعاتها، ولكن هناك
اختلافات لا ينبغي إغفالها، وهذا يؤكد ضرورة إدراك بيئة العمل التي تتحرك فيها
المؤسسة أو الداعية، والفقه الدقيق في واقع الناس واحتياجاتهم؛ ولهذا كانت وصية
النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن:
«إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله ... الحديث» [20] .
فبصَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالواقع الذي سيبلغ فيه دين الله عز
وجل؛ ليكون على بينة من أمره، ولهذا قال ابن حجر: (قوله: «ستأتي قوماً
أهل كتاب» هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل
علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان) .
إن توافر المعلومات الصحيحة محور أساس لسلامة التصور واستقامة
التخطيط، ولهذا لا بد من حرص الدعاة والمؤسسات الإسلامية على توفير
المعلومات الصحيحة عن بيئة العمل والبرامج المنفذة والمستجدات الحادثة..
ونحوها، ثم يتم تبادل هذه المعلومات وتوظيفها التوظيف الأمثل.
5 - الموازنة بين المصالح والمفاسد:
من المسائل الدقيقة المهمة التي تعين في تحديد الأوليات: الموازنة بين
المصالح والمفاسد؛ فبعض الأعمال والبرامج قد يترتب على فعلها مصالح شرعية
أكثر من بعض، والواجب الجمع بينها لتحقيق جميع المصالح قدر الإمكان، وإذا
تعذّر الجمع بينها أو تعسر؛ فإن الحكمة تقتضي تقديم الأعمال الراجحة التي يترتب
عليها مصلحة أكبر، وتأخير الأعمال المرجوحة التي يترتب عليها مصلحة أقل.
وهكذا عندما يقترن ببعض الأعمال والبرامج شيء من المفاسد؛ فإنها تقدر
بقدرها وتدرأ قدر الإمكان.
قال الإمام العز بن عبد السلام: « ... لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع
أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره
محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأنَّ درء أفسد
المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة
محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن،
واتفق الحكماء على ذلك ... » إلى أن قال: «واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح،
ودرء الأفسد فالأفسد، مركوز في طبائع العباد نظراً لهم من رب الأرباب ... ولا
يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلا
ما بين المرتبتين من التفاوت» [21] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الشريعة مبناها على تحصيل المصالح
وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر
الشرين، حتى يقدَّم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين» [22] .
وقال الإمام ابن القيم: « ... وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده،
وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن
تزاحمت قدَّم أهمها وأجلَّها، وإن فاتت أدناها. وتعطيل المفاسد الخالصة أو
الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال أدناهما،
وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالّة عليه، وشاهدة له بكمال علمه
وحكمته، ولطفه بعباده، وإحسانه إليهم، وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق
من الشريعة، وارتضع من ثديها، وورد من صفو حوضها، وكلما كان تضلعه فيها
أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل، ولا يمكن أحد من الفقهاء أن يتكلَّم في
مآخذ الأحكام وعللها، والأوصاف المؤثرة فيها إلحاقاً وفرقاً إلا على هذه الطريقة»
[23] . وقال أيضاً: «إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان،
وأن لا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت، وإن تزاحمت ولم يمكن
تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض، قُدِّم أكملها وأهمها وأشدها طلباً للشرع» [24] .
إنّ من السهل على أكثر الدعاة والمؤسسات الإسلامية أن يفرقوا بين الحسن
والرديء، ولكن التفريق بين الحسن والأحسن يحتاج إلى فقه راسخ، وأفق واسع،
وبصر عميق.
والموازنة بين المصالح والمفاسد من المسائل الاجتهادية التي قد تختلف فيها
الأنظار والآراء، وتقديرها يتطلب أموراً في غاية الأهمية [25] ، منها:
أ - فقه دقيق بالأحكام الشرعية وأدلتها ومقاصدها ومراميها.
ب - تجرّد تام وورع صادق في الترجيح بين المصالح، ونبذ الأهواء والشهوات
الشخصية.
ج - معرفة جيدة بالواقع الذي سوف تنزل فيه تلك الأعمال.
د - تجارب واسعة في العمل الميداني لمعرفة مآلات الأمور ونتائجها.
هـ - أفق واسع، وقدرة على استيعاب الاجتهادات المختلفة وتمييزها.
6 - تقديم العناية بالأعمال التي يبنى عليها غيرها:
إن من دلائل الحكمة والرشد والفقه في دين الله تعالى، تقديم العناية بالأعمال
والبرامج التي تبنى عليها أعمال كثيرة، ولا يحسن قيامها إلا بإتقانها وإحكامها،
والأمثلة التي توضح هذا كثيرة جداً، أذكر منها ما يأتي:
أ - العناية بالبناء المؤسسي المحكم:
البرامج والأنشطة الدعوية المختلفة تحتاج إلى تخطيط وتنظيم، كما تحتاج
إلى متابعة دائمة وتقويم مستمر من شتى النواحي المنهجية والعلمية والإدارية
والمالية ... وهكذا.
فإذا كان البناء المؤسسي محكماً باستيفاء جميع الآليات والأدوات العلمية؛
كانت إدارة جميع البرامج والأنشطة - بإذن الله تعالى - محكمة. أما إذا كان البناء
المؤسسي ضعيفاً فإن إدارة البرامج والأنشطة ستكون في الغالب ضعيفة.
ولهذا كان من الأوليات المهمة التي يجب الاعتناء بها: العناية بالبناء
المؤسسي المحكم، فعلوّ البنيان وقوته مرتبطة بقوة الأساس وتماسكه.
ب - العناية بإعداد الدعاة:
لا يخفى أنَّ لإعداد الدعاة أهمية كبيرة جداً في النجاح الدعوي؛ فالداعية هو
عماد العملية الدعوية، وبناؤه المحكم هو البداية الصحيحة لعمل سليم متين.
ومهما صح المنهج وتوافرت الإمكانات المادية فإنه لا مضاء للدعوة نحو الأمام
ما لم يعط بناء الدعاة أولية مطلقة.
وهناك أصول علمية ودعوية عامة يحتاجها جميع الدعاة لا يصح التقصير
فيها، وهناك أصول خاصة يحتاج إليها الداعية تختلف باختلاف التخصص
وباختلاف البيئة التي ينشط فيها الداعية.
فالداعية الذي يخاطب الخاصة يختلف عن الداعية الذي يخاطب العامة،
والداعية الذي يخاطب المسلمين يختلف عن الداعية الذي يخاطب النصارى أو
الوثنيين، والداعية الذي يعمل في وسط الصوفية الغلاة المتعصبة يختلف عن
الداعية الذي يعمل في أوساط أخرى ... وهكذا.
ولهذا فإن العناية بإعداد الدعاة وصقل قدراتهم وتدريبهم كل ذلك من الأوليات
المهمة التي تفتح أبواباً من الخير كثيرة جداً.
ج - العناية بالعلم الشرعي:
العلم هو الطريق الصحيح للبصيرة والفقه في دين الله تعالى، وعليه تبنى كل
الأعمال والأنشطة؛ فكلما رسخ العلم استقام العبد على جادة الصراط المستقيم،
وسلم من الزيغ والانحراف. فالعلم مقدم على كل عمل، ولهذا قال الإمام البخاري
في كتاب العلم من صحيحه: «باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى:
[فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ] (محمد: 19) » [26] .
والعلم هو طريق الإيمان بالله تعالى. قال الله عز وجل: [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا
العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُم] (الحج: 54) ؛ فالعلم يبني
الإيمان، والإيمان يبني الإخبات، ولهذا رفع الله عز وجل أقدار العلماء وفضَّلهم
على غيرهم. قال الله تعالى: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ
دَرَجَاتٍ] (المجادلة: 11) .
إنَّ من الظواهر اللافتة للنظر في حقل العمل الإسلامي تقصير كثير من
المؤسسات الإسلامية في نشر العلم الشرعي؛ مما أدى إلى خلل عريض وشرخ
واسع في كثير من الأنشطة والبرامج، وأوْلى الناس بالعلم والفقه في دين الله تعالى
هم الدعاة والمصلحون؛ لأنهم حملة رسالة عظيمة. قال الله تعالى: [قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ]
(يوسف: 108) .
7 - تقديم الأعمال ذات النفع المتعدي إلى الآخرين على النفع الخاص:
من تمام الفقه والبصيرة في دين الله تعالى تقديم الأعمال ذات النفع المتعدي
على الأعمال ذات النفع الخاص؛ لأن فوائدها أكثر نفعاً للناس؛ فالذي يتقرب إلى
الله تعالى بالعبادة الخاصة مأجور إن شاء الله؛ لكن الذي يتقرب إلى الله تعالى
بالجهاد في سبيل الله والسعي في حاجات الناس أفضل عند الله تعالى. قال الله عز
وجل: [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الفَائِزُونَ] (التوبة: 19-20) .
فسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من أعمال البر المحمودة؛ لكن الإيمان
بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أعظم درجة عند الله تعالى لأن نفعها أعظم
للأمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم،
وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة،
أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة
أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهراً» [27] .
8 - مراعاة قدرات الأشخاص:
تختلف قدرات الناس وملكاتهم باختلاف أشخاصهم؛ فما يصلح لبعضهم قد لا
يصلح للآخرين؛ ولهذا كان من الفقه أن يقدم المرء ما يستطيع أن يبدع فيه وينفع
به الأمة على الأعمال الأخرى التي نفعه فيها أقل؛ فمن وهبه الله تعالى قوة في
الفهم والحفظ وقوة في العقل والبصيرة فالمقدم في حقه طلب العلم. ومن وهبه الله
تعالى شجاعة وقوة في القلب فالمقدم في حقه الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ... وهكذا بقية الأعمال، وبهذا يحدث التآلف والتكامل بين
أعمال الناس.
ولهذا تنوعت إجابات الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه لمَّا كان يُسأل
عن أفضل الأعمال، وفسر الحافظ ابن حجر سبب ذلك بقوله: «اختلف لاختلاف
أحوال السائلين؛ بأن أعلم صلى الله عليه وسلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما
لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون
العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره» [28] .
ويحسن التأكيد هنا إلى خللين يقع فيهما بعض الناس:
أ - بعض المربين يريد أن يربي تلاميذه على هيئة رجل واحد دون مراعاة
للقدرات والميول الفردية؛ ممَّا يؤدي إلى ضعف ظاهر في التربية.
ب - بعض الدعاة قد يضخم من أهمية العمل الذي يقوم به بسبب استغراقه
فيه وحرصه عليه، وقد يؤدي ذلك أحياناً إلى ازدراء الأعمال والتخصصات
الأخرى والتهوين من شأنها، دون نظر فقهي وبصر علمي، وربما يكون بعض
تلك الأعمال المهوَّن من شأنها أوْلى من العمل الذي يقوم به..!!
والواجب أن يعطى كل عمل ما يستحقه، وكل عامل ما يتقنه ليحدث التكامل
بين العاملين والأعمال.
وقد كان الإمام مالك فقيهاً فطناً، فعندما كتب إليه عبد الله العمري يحضه على
الانفراد والعمل، ردَّ عليه قائلاً: «إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب
رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له بالصوم، وآخر فتح له بالصدقة ولم يفتح له
بالصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت
بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على
خير» [29] .
9 - الإعراض عن المسائل التي لا ينبني عليها عمل جاد:
الاشتغال بالمسائل النظرية التي لا ينبني عليها عمل جاد سبيل من سبل
البطالين العجزة الذين يهدرون أوقاتهم وأوقات مؤسساتهم فيما لا نفع فيه للأمة،
وكثيراً ما رأينا من يهدر أوقاته في قيل وقال وجدل عقيم لا فائدة من ورائه على
الإطلاق.
قال الإمام الشاطبي: «كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض
فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل
الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً؛ والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا
رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به؛ ففي القرآن الكريم: [يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ] (البقرة: 189) ، فوقع الجواب بما
يتعلق به العمل، إعراضاً عما قصده السائل من السؤال عن الهلال....» . ثم قال
الشاطبي كلاماً عظيماً يجب الاعتناء به، وهو قوله: « ... ومنها أن الشرع قد
جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها؛ فما
خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة العادية: فإنَّ
عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة
والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع
والتدابر والتعصب، حتى تفرقوا شيعاً، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم
يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب؛ حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني،
وخرجوا إلى ما لا يعني؛ فذلك فتنة على المتعلم والعالم. وإعراض الشارع مع
حصول السؤال عن الجواب: من أوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو
تعطيل للزمان في غير تحصيل ... » [30] .
ونحسب أن المؤسسات الإسلامية لو اشتغلت بالمسائل الجليلة التي ينبني عليها
عمل مثمر، وتركت الخوض في المسائل النظرية والشكلية، لكانت ثمراتها أكثر
نضجاً، وأرسخ جذوراً، وأعظم بركة بإذن الله تعالى.
__________
(*) أمين عام المنتدى الإسلامي، أستاذ مشارك في قسم الكيمياء، جامعة الملك سعود بالرياض.
(1) الصحاح للجوهري (5/1838 - 1839) ، وانظر: لسان العرب، مادة: وأل، (15/195) .
(2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس (1/158) مادة: أول.
(3) لسان العرب، مادة: ولي، (15/401) .
(4) المعجم العربي الأساسي، مادة: ولي.
(5) أخرجه البخاري، رقم (4347) ، مسلم، رقم 29، وقد ذكر هذا الحديث الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وذكر في مسائل الباب: (المسألة الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم) ، وفي شرح الحديث قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وفيه البداءة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم) ، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص 101.
(6) أخرجه: مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان (1/63) ، رقم 35، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ: (الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان) ، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، (1/51) ، رقم 9.
(7) أخرجه: البخاري، رقم 26، ومسلم، رقم 83.
(8) في تشبيه لطيف يبين ستيفن كوفي معضلة تحديد الأوليات بقوله: «يمكن إيضاح معضلة وضع الأشياء الأهم أولاً بالمقارنة بين أداتين لهما وظيفة التوجيه: الساعة والبوصلة؛ فالساعة تمثل مواعيدنا والتزاماتنا وجداولنا وأهدافنا وأنشطتنا؛ أي: كيف ننفق وقتنا ونوزعه، أما البوصلة فهي تمثل ما نحمله داخلنا من رؤية وقيم ومبادئ ومهام ووعي وتوجه؛ أي: ما هي الأشياء ذات الأولوية في حياتنا، وما هو المنهج الذي ننهجه في إدارة تلك الحياة، يأتي التعارض عندما نشعر بالفجوة بين الساعة والبوصلة؛ أي: عندما نجد ما نقوم به لا يسهم كثيراً في إنجاز ما نعتبره الأهم في حياتنا ---» ، كتاب (إدارة الأولويات: الأهم أولاً) ، تأليف ستيفن كوفي وصاحبيه، ترجمة د/ السيد المتولي حسن، ص 17.
(9) فقه مراتب الأعمال، د/ سعد الدين العثماني، مقال منشور في مجلة البيان العدد (97) .
(10) المرجع السابق.
(11) المرجع السابق.
(12) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، (2/160) ، وكلام أبي عبيدة هذا قاعدة إدارية في غاية الأهمية يقول بها أخيراً بعض الإداريين المعاصرين؛ ففي كتاب: «إدارة الأولويات: الأهم أولاً» صدّر المؤلفون أحد أبواب الكتاب بالعبارة الآتية: «إن غياب الوعي بما هو مهم هو التزام بما هو غير مهم» ، ص 37.
(13) مدارج السالكين، (2/225) .
(14) تفسير القرآن العظيم، (1/247) .
(15) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، (1/280) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار، كتاب الطهارة، (1/80) ، وصححه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/178) .
(16) تقدم تخريجه.
(17) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص 101.
(18) التفسير الكبير، (4/309) .
(19) الاستغاثة، ص 134.
(20) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء، (3/357) ، رقم (1496) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين، (1/50) ، رقم 19.
(21) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (1/4 - 5) .
(22) منهاج السنة النبوية، (6 /118) .
(23) مفتاح دار السعادة، ص 350.
(24) المرجع السابق، ص 347.
(25) قال العز بن عبد السلام: «من المصالح والمفاسد ما يشترك في معرفته الخاصة والعامة، ومنها ما ينفرد بمعرفته الخاصة، ومنها ما ينفرد بمعرفته خاصة الخاصة، ولا يقف على الخفي من ذلك كله إلا من وفقه الله بنور يقذفه في قلبه، وهذا جار في مصالح الدارين ومفاسدها، وفي مثله طال الخلاف والنزاع بين الناس في علوم الشرائع والطبائع، وتدبير المسالك والمهالك، وغير ذلك من الولايات والنيات وجميع التصرفات» ، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (1/50) .
(26) صحيح البخاري، كتاب العلم، (1/159) ، وقال الإمام ابن القيم: «إنّ العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به؛ فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتدياً به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه» مفتاح دار السعادة، (1/82) .
(27) (28) فتح الباري، (2/13) .
(29) سير أعلام النبلاء، (8/114) .
(30) الموافقات، (1/ 46 - 51) .(177/22)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
(1 ـ 2)
ما الفرنكوفونية؟ ولماذا الحديث عنها؟
الفرنكوفونية: حركة فكرية، ذات بعد أيديولوجي، تهدف إلى تخليد قيم
(فرنسا الأم) في كل مستعمراتها التي انسحبت منها عسكرياً، ومدافعة التيارات
القومية واللغوية الأخرى؛ وذلك من خلال اعتماد اللغة الفرنسية باعتبارها ثقافة
مشتركة بين الدول الناطقة بها كلياً أو جزئياً.
إنه إذا كان الحديث عن العلمانية، أو الشيوعية، أو القومية العرقية
الانفصالية هو قلب الصراع في كثير من بلدان العالم الإسلامي، فإن الحديث عن
الفرنكوفونية يعتبر حقاً هو قلب الصراع في الكثير من البلدان الإسلامية بإفريقيا
وخاصة بلدان المغرب العربي؛ ذلك أن الأخطبوط الفرنكوني استطاع أن يحفظ
الحياة لكثير من المقولات التي ماتت في الشرق بسبب التحولات العالمية الكبرى
بدءاً بانهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، وانتصاب الهيمنة الأمريكية
على العالم؛ ذلك أن الماركسية اللينينية الراديكالية، وكذا (المعتدلة) منها، وما
شابه ذلك من المنظمات والأحزاب التي غيرت أسماءها واتجاهاتها في بعض
البلدان، استطاعت أن تجدد امتدادها في بلدان المغرب العربي، وتحفظ بقاءها،
بسبب الاحتضان الفرنكوفوني لها.
وكذلك التيارات الأمازيغية الانفصالية التي لم يكن يؤبه لها إبان الصراع
الثنائي العالمي بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، برزت اليوم في الواجهة،
لكن من خلال الاحتضان الفرنكوفوني أيضاً؛ بل لقد استطاعت الفرنكوفونية، هذا
الشيطان القديم الجديد، أن تحول بعض الاتجاهات الماركسية إلى اتجاهات
(ماركسية / أمازيغية) بإحياء الظهير البربري الذي أصدره الاستعمار الفرنسي
بالمغرب والجزائر إبان الاستعمار، والذي كان يقتضي فصل العرب عن الأمازيغ
(البربر) ، وعدم خضوع هؤلاء لما يخضع له إخوانهم العرب من جريان مناهج
القضاء والتعليم الإسلامية عليهم، وأحدثوا لذلك قضاء عرفياً.
ومن هنا صرنا نسمع اليوم لدى هذه التيارات الخطيرة شعارات مرفوعة باسم
(كُسَيْلَةَ البربري) ، باعتباره رمزاً (وطنياً) ! وإنما كُسَيْلَةُ البربري هذا هو قاتل
القائد المجاهد المسلم الذي فتح المغرب: عقبة بن نافع.
إن معنى ذلك أن على الأجيال الجديدة المتخرجة من محاضن الفرنكوفونيين
(الشيو / أمازيغيين) أن يعودوا إلى مغرب ما قبل الفتح الإسلامي، وهو مغرب
كانت تتنازعه الوثنية والنصرانية. والمغرب في الاصطلاح التراثي القديم إنما
هو مجموع الغرب الإسلامي.
إن معالجة ملف الفرنكوفونية هي من الأهمية بمكان؛ بحيث تعتبر ضرباً في
عمق التدافع الحضاري، ووقوفاً بثغر من ثغور الإسلام، لا عدوُّه يقل خطورة،
ولا معركتُه تقل ضراوة، عما يواجهه المجاهدون في ساحات القتال هنا وهناك!
إن العارفين بالخطر الفرنكوفوني يرون فيه نوعاً من الحرب يشبه إلى حد
قريب ما عرف في تاريخ الأندلس بـ (معارك الاسترداد) التي خاضها النصارى
الإسبان لطرد المسلمين منها. لذلك، ولأن «المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين»
كان هذا الملف، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف:
21) .
__________
محتويات الملف:
- الفرنكوفونية في سطور - د. فريد الأنصاري.
- جوانب من تأثير الفرنكوفونية في نظام التربية والتعليم بالمغرب -
د. خالد الصمدي.
- الأبعاد الثقافية والأيديولوجية للفرنكوفونية بالمغرب - د. محمد خروبات.
- الفرنكوفونية ومحنة اللغة العربية بالمغرب - أ. عبد الناصر المقري.
- اغتيال اللغة العربية في الجزائر - يحيى أبو زكريا.(177/29)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
الفرنكوفونية في سطور
د. فريد الأنصاري [*]
* ما هي الفرنكوفونية؟
يعود مصطلح الفرنكوفونية إلى عالم الجغرافيا الفرنسي: (أونزيم ركلو)
(Reclus Onesime) الذي وضعه في أواخر القرن التاسع عشر: 1880م؛
للدلالة على الدول التي تستعمل اللغة الفرنسية. ثم صار فيما بعد دالاً على مجموع
المستعمرات الفرنسية القديمة الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية؛ مما جعله يحمل
كل معاني الهيمنة الثقافية والسياسية.
- 1906م تم تأسيس الجمعية العالمية للكُتّاب باللغة الفرنسية.
- 1944م ألقى الرئيس الفرنسي آنئذ الجنرال (دوجول) خطابه الرامي إلى
مشروع بناء الاتحاد الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية؛ لربط مؤسسات
المستعمرات الفرنسية بفرنسا الأم.
- أكتوبر 1946م تأسس الاتحاد الفرنسي، وهو يتألف من فرنسا الأم وسائر
مستعمراتها؛ حيث تم إعلان أن لكل مستعمرة الحق في تسيير نفسها بنفسها لكن في
إطار المجتمع الفرنسي والسيادة الفرنسية؛ وذلك لترسيخ فكرة: (فرنسا الإفريقية)
عبر الثقافة الفرنسية والمدرسة والخدمة العسكرية.
- 1950م تأسس الاتحاد العالمي للصحافة الناطقة بالفرنسية.
- 1960م انعقد المؤتمر الأول لوزراء التربية والتعليم في فرنسا وإفريقيا؛
حيث تبلور مفهوم الفرنكوفونية نظرية ومنهجاً.
- 1961م تأسس اتحاد الجامعات الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية.
- 1962م نشرت مجلة (الفكر) الفرنسية عدداًً خاصاً حول محور (اللغة
الفرنسية لغة حية) واعتبر محتوى العدد بمثابة البيان الأول للفرنكوفونية.
- 1964م تأسست فديرالية الجمعيات للانتشار الفرنسي.
- 1966م تشكلت اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية، وأُقِرت بمرسوم
جمهوري. ويرأسها رئيس الوزراء الفرنسي، وتتألف من عشرين شخصية تنتمي
لعالم السياسية والأدب والفن والعلوم والإعلام والصناعة. وتحددت مهمتها في
تطوير العلاقات الثقافية بين الدول الفرنكوفونية من المستعمرات وغيرها، ودراسة
الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك.
- 1966م في الفترة نفسها تأسس المجلس الدولي للغة الفرنسية، وهو عبارة
عن أكاديمية فرنسية دولية للبت في النزاعات اللغوية المتوقعة بين مستعملي اللغة
الفرنسية من الدول الفرنكوفونية، وسائر المشتغلين بها من أهل الفكر.
- 1966م أيضاً تأسست المنظمة الدولية للبرلمانيين الناطقين بالفرنسية،
بمطالبة من الرئيس السنيغالي السابق (ليوبولد سوار سنغور) ؛ حيث جعلت مقر
إقامتها في بروكسيل، ومقر أمانة سرها في باريس. ثم انبثقت عنها مؤسسة
(كوكبة المشاهير) التي بدأت تمنح جوائز أدبية لأفضل الكتاب والشعراء
الفرنكوفونيين.
- 1969م تأسست في باريس الفيديرالية الدولية للمعلمين الناطقين بالفرنسية.
-1970م تأسست الفرنكوفونية بمفهومها الجديد، باسم (وكالة التعاون
الثقافي والفني للتبادل الثقافي مع الحكومات) ، واعتبر تاريخ تأسيسها الموافق ليوم:
(20 مارس) بمثابة اليوم العالمي للفرنكوفونية. وقد اجتمع لذلك رؤساء ثلاث
دول تحت الرعاية الفرنسية، يمثلون العرب والإسلام والمسيحية، وهم: الرئيس
التونسي السابق الحبيب بورقيبة، والرئيس السنيغالي السابق ليوبولد سوار سنغور،
والرئيس النيجيري السابق حماني ديوري. فضمت الوكالة الفرنكوفونية 12 دولة
أصبحت بعد ذلك 50 دولة تمثل القارات الخمس، وتضم ربع دول العالم.
- 1974م تأسست الجمعية الفرنكوفونية للاستقبال والاتصال.
- 1986م انعقد المؤتمر الأول للفرنكوفونية بباريس بعدما تم التحضير له
سنة 1985م في دكار بالسنيغال. وقد ضم بالإضافة إلى المستعمرات القديمة بلداناً
أخرى مثل بلجيكا واللكسمبورغ ومقاطعة الكيبك الكندية. وقد تتابعت المؤتمرات
كل سنتين، في كل من كيبك، ودكار، وجزر موريس، وكوتونو، وهانوي ...
إلخ، وكان آخرها حتى كتابة هذه السطور مؤتمر بيروت الذي انعقد سنة:
2001م.
- 1992م بلغ عدد المتحدثين بالفرنسية 150 مليون نسمة.
- 1997م انعقد مؤتمر الفرنكوفونية في هانوي؛ حيث تم إحداث منصب
الأمين العام للفرنكوفونية الذي يكون بمثابة سكرتير عام لها، وناطق رسمي باسمها،
وممثل لها في المحافل الدولية، والمؤتمرات، والهيئات، والمنظمات؛ وقد تم
انتخاب السيد بطرس بطرس غالي لشغل ذلك المنصب.
- 1998م انعقدت المناظرة الوزارية للفرنكوفونية، في بوخارست؛ حيث
تم إقرار مصطلح (المنظمة الدولية للفرنكوفونية) للدلالة على مجموع هيئات
الفرنكوفونية.
- 2001م، انعقد مؤتمر القمة التاسع للفرنكوفونية في بيروت.
- 2002م مشاركة الأمين العام للفرنكوفونية السيد بطرس غالي في مؤتمر
القمة العربي المنعقد أخيراً في بيروت: 26/3/2002م؛ حيث قدم تقريراً خطيراً
عن مشاركة الفرنكوفونية في صنع القرار في عدد من الدول الإسلامية والعربية،
وإشرافها على الانتخابات الرئاسية فيها. كما تحدث عن عقد معاهدات مع الدول
العربية؛ لاحترام تعدد الثقافات، والتعدد اللغوي؛ تأميناً لنشاط الفرنكوفونية بها؛
وتحييداً لأي مقاومة لها.
* تسيّر الوكالة الفرنكوفونية مجموعة من المؤسسات هي:
1- القمة الفرنكوفونية: وتضم رؤساء الدول والحكومات الأعضاء. تجتمع
كل سنتين في إحدى العواصم، وتهتم بالقضايا السياسية، والاقتصادية، والثقافية،
والتقنية، وتقر برامج التعاون.
2- المؤتمر الوزاري للفرنكوفونية: يسهر على سير المنهج السياسي الذي
تقره القمة، ويضم وزراء خارجية الدول الأعضاء، ويعتبر مؤتمراً للمتابعة.
3- المجلس الدائم للفرنكوفونية: وهو الهيئة السياسية الدائمة التي تتابع
تنفيذ مقررات القمة، وتتكون من الممثلين الشخصيين لرؤساء الدول والحكومات،
وهي مجلس إدارة الوكالة.
4- الأمانة العامة: الأمين العام ينتخبه رؤساء الدول والحكومات، وهو
رئيس المجلس التنفيذي، والناطق الرسمي السياسي باسم الفرنكوفونية.
5- المكاتب الجهوية: للوكالة الفرنكوفونية مكاتب جهوية. نها مكتب إفريقيا
الغربية الذي أنشئ في التوغو سنة: 1983م، ومكتب إفريقيا الوسطى الذي أنشئ
في ليبرفيل سنة: 1992م، ومكتب فيتنام الذي أنشئ سنة: 1994م.
6- مكاتب الاتصال: للوكالة مكاتب للاتصال مثل مكتب نيويورك للاتصال
مع الأمم المتحدة، ومكتب جنيف للاتصال مع المنظمة الدولية، ومكتب بروكسيل
للاتصال مع المجموعة الأوروبية.
7- المراسلون: وللوكالة مراسلون في الدول الأعضاء، معينون من قبل
حكوماتهم تحت إمرة وزارة الخارجية أو وزارة الفرنكوفونية.
* مشاركات الوكالة الفرنكوفونية:
- شاركت الوكالة في مؤتمر السكان بالقاهرة سنة: 1995م، وفي القمة
الدولية من أجل التنمية: 1995م، وكذلك في المؤتمر الدولي الرابع حول المرأة
والتنمية في بكين: 1995م. وفي مؤتمر الأمم المتحدة حول الإنسان والسكن:
1996م. وما زالت تعقد مؤتمرات للوزراء متخصصة عن الثقافة والاقتصاد
والعدل والأطفال منذ سنة: 1990م إلى اليوم؛ وذلك في كل من مدينة لييج
والقاهرة وتونس ودكار ومونتريال ومراكش.
- تعتبر القناة التلفزيونية الخامسة الفرنسية المؤطر الإعلامي الأساس
للشعوب الفرنكوفونية، والموجهة لاستقطاب المهتمين باللغة الفرنسية، ولتعزيز
الحضور الفرنسي والفرنكوفوني بصورة قوية؛ وذلك بإنشاء المسابقات اللغوية
والثقافية، ورعاية كل أنماط المتحدثين بالفرنسية.
- تعلن الفرنكوفونية وصايتها على الشأن السياسي في العالم بالنسبة للدول
الأعضاء، وتخصص ميزانية للعون والمشورة للحكومات الفرنكوفونية؛ لمساعدتها
على تنظيم الانتخابات واستيعاب بعض مشاريع التنمية الاقتصادية. كل ذلك طبعاً
مع الشروط الفرنكوفونية السياسية، والثقافية واللغوية [1] .
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس المغرب، ومراسل مجلة البيان في المغرب.
(1) الأرقام مستفادة من كتاب رهانات القومية للأستاذ عبد الكريم غلاب، ومن مقدمة المجلس القومي للثقافة العربية، سلسلة الدفاتر القومية: 8 الطبعة الأولى: 1999م، وكذلك من موقع: الوكالة الفرنكوفونية بالإنترنيت: www.francophonie.org(177/30)
ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
جوانب من تأثير الفرنكوفونية في نظام التربية والتعليم بالمغرب
د. خالد الصمدي [*]
مقدمة:
إذا كان التعليم والتربية يضطلعان بدور خطير وحاسم في ترسيخ القيم
والخصوصيات الحضارية للشعوب، فإن الاستعمار في العالم العربي والإسلامي
سعى بكل الوسائل إلى تغيير بنية التعليم والتربية كجزء من مخطط واسع للفصل
بين الإنسان ومقوماته الحضارية بهذه الدول [1] . وسنركز على النموذج الفرنسي
بالمغرب، ومدى تأثيره كاستعمار مباشر أولاً، واستعمار غير مباشر ثانياً، في
صياغة مشاريع إصلاح التعليم بهذا البلد، ومدى تأثير ذلك في تشكيل المنظومة
الفكرية والثقافية به، والتي تنعكس آثارها بجلاء على الحياة الاقتصادية
والاجتماعية، مما يتجلى تأثيره المباشر والظاهر حتى في تشكيل منظومة القيم،
والذي يؤشر على أقصى درجات التحول في المجتمعات والأمم.
ويمكننا أن نجمل محاور المخطط التعليمي الفرنسي بالمغرب في:
- التعليم الانتقائي الطبقي.
- لغة التدريس، وتدريس اللغة.
- تمزيق الهوية الوطنية.
- احتواء وتوجيه النظام التعليمي السائد.
وبيان ذلك هو كما يلي:
* التعليم الانتقائي الطبقي:
ونقصد به التمييز بين طبقات المجتمع في تلقي أنماط من التعليم لا تكون
بالضرورة ذات توجه واحد، بل تتميز عن بعضها في الأهداف والطرق والوسائل.
والقصد من ذلك حسب ما يستفاد من النصوص خلق نخبة مثقفة تثقيفاً فرنسياً
تفوض إليها على المدى المتوسط والبعيد صلاحية تنفيذ مخططات فرنسا السياسية
والاقتصادية والثقافية، بمقابل شريحة متعلمة من ذوي النفوذ المتوسط وخاصة على
المستوى الاجتماعي، وتبقى بعد ذلك الجماهير البدوية المبعثرة في جميع أنحاء
البلاد التي ليس من الضروري تعليمها وثثقيفها إلا بقدر ما يسمح به محيطها
الفلاحي والرعوي، وينفصل عن كل هذا وذاك طائفة اليهود والأوروبيون الذين
يجب الحفاظ لهم على نمط خاص من التعليم يساير كلياً النظام الأوروبي دون أن
يكون له تأثر بأنساق التعليم التى يراد تسويقها في البلد.
وهكذا يحدد هاردي hardy الخطوط العريضة لهذا التصور في لقاء له
بمكناس سنة 1920م مع جماعة من الحكام الفرنسيين؛ إذ يقول في خطابه: «منذ
1912م دخل المغرب في حماية فرنسا، وقد أصبح في الواقع أرضاً فرنسية رغم
استمرار بعض المقاومة في تخومه، تلك المقاومة التي تعرفون أنتم وإخوانكم في
السلاح مدى ضراوتها، فإنه يمكن القول إن الاحتلال العسكري لمجموع البلاد قد تم،
ولكننا نعرف نحن الفرنسيين أن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل، إن القوة
تبني الإمبراطوريات ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام، إن
الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة
والانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان. إن كانت هذه المهمة
أقل صخباً من الأولى فإنها صعبة مثلها، وهي تتطلب في الواقع وقتاً أطول» [2] .
ومن أجل إخضاع هذه النفوس وجب وضع مخطط لإعادة هيكلة التعليم
بالمغرب يكرس نوعاً من الطبقية التعليمية؛ وفي هذا الصدد يقول هاردي أيضاً:
«وهكذا فنحن ملزمون بالفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية، وتعليم لعموم
الشعب: الأول يفتح في وجه أرستقراطية مثقفة في الجملة توقفت عن النمو الفكري
بسبب تأثير العلوم الوسيطة ... إن التعليم الذي سيقدم لأبناء هذه النخبة الاجتماعية
تعليم طبقي يهدف إلى تكوينها تكويناً منظماً في ميدان الإدارة والتجارة، وهي
الميادين التي اختص بها أبناء الأعيان المغاربة. أما النوع الثاني وهو التعليم
الشعبي الخاص بالجماهير الفقيرة والجاهلة جهلاً عميقاً فيتنوع بتنوع الوسط
الاقتصادي: في المدن يوجه التعليم نحو المهن اليدوية خاصة مهن البناء، وإلى
الحرف الخاصة بالفن الأهلي. أما في البادية فيوجه التعليم نحو الفلاحة ...
وأما في المدن الشاطئية فسيوجه نحو الصيد البحري والفلاحة، أما عن المواد
العامة التي ستتخلل هذا التعليم التطبيقي فهي اللغة الفرنسية التي بواسطتها سنتمكن
من ربط التلاميذ بفرنسا» [3] .
* لغة التدريس، وتدريس اللغة:
إن خاتمة كلام هاردي تكشف عن قوة العلاقة بين اللغة والثقافة والمجتمع،
في مخطط التعليم الفرنسي الاستعماري بالمغرب، وخاصة في قوله: «اللغة
الفرنسية التي بواسطتها سنتمكن من ربط التلاميذ بفرنسا» ، ولئن كانت اللغة
الفرنسية العامل الحاسم في التواصل، ونقل الثقافة؛ فإن السياسة اللغوية في النظام
الاستعماري الفرنسي عرفت تخطيطاً دقيقاً تمثل في تشجيع التلقين باللغة الفرنسية،
والتقليل من مساحة التلقين باللغة العربية، وعدم اعتبار هذه الأخيرة لغة علم، مع
الاحتفاظ بها تدريجياً كلغة للتواصل اليومي فقط، على أن يعمل الاستعمار بعد ذلك
على الفصل بين العرب والبربر في استعمال اللغة العربية، عن طريق تشجيع
استخدام اللهجات البربرية إلى جانب الفرنسية كلغة للتدريس.
ولا نشك أن هذا التوجه اللغوي كان القصد منه هو إضعاف الروابط القوية
القائمة بين اللغة العربية والدين باعتبارها لغة القرآن، وبها دونت أغلب مصادر
التراث والثقافة الإسلامية.
ولم يُخْفِ المقيم العام بالمغرب رمز الاستعمار الشهير: الجنرال ليوطي هذا
التوجه، حين أصدر دوريته الشهيرة بتاريخ 16/6/1921م حول لغة التعليم
بالمغرب؛ إذ يقول: «من الناحية اللغوية علينا أن نعمل مباشرة على الانتقال من
البربرية إلى الفرنسية ... فليس علينا أن نعلم العربية للسكان الذين امتنعوا دائماً
عن تعلمها، إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام؛ لأن هذه اللغة يتم تعلمها
بواسطة القرآن بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام» [4] .
ومباشرة بعد صدور دورية ليوطي نجد (leglay maurice موريس
لوجلي) ينشر مقالة مؤيدة لهذا التوجه، وذلك في السنة نفسها يقول فيها: «إن
التعريب سيقود البربر إلى إسلام تام ونهائي، وإلى أن توجد بالمغرب وعلى أيدينا
نحن، وهو ما نرفضه كتلة إسلامية منسجمة لا نظير لها ... والمشروع يفرض
أن يتم تطوير سكان الجبال باللغة الفرنسية المعبرة عن فكرنا، سوف يتعلم السكان
البرابرة اللغة الفرنسية وسوف يحكمون بالفرنسية ... علينا أن نُقلع في كل
مكان عن الحديث باللغة العربية، وإعطاء الأوامر بالعربية إلى قوم هم مجبرون
على فهمنا وإجابتنا.. ولذلك ينبغي العمل قبل كل شيء على تحويل مصالح الشعب
المغربي في اتجاه مصالحنا نحن، وأيضاً تحويل مصيره إن أمكن، وليس هذا بدافع
عاطفي محض، ولكنه بدافع فهم واضح للهدف المبتغى، والنتائج المتوخاة لصالح
قضيتنا» [5] .
وكانت هذه السياسة اللغوية والتعليمية قد جربت في الجزائر منذ نهاية القرن
التاسع عشر حين أصدر والي فرنسا آنذاك الأميرال كيدون سنة 1871م أوامره إلى
الآباء البيض (وهم أعضاء منظمة تبشيرية فرنسية كانت تعمل من أجل تنصير
البربر في الجزائر وتونس) قائلاً: «إنكم إذا سعيتم إلى استمالة الأهالي بواسطة
التعليم وبما تسدون إليهم من إحسان تكونون بعملكم هذا قد قدمتم خدمة جليلة لفرنسا؛
فليس في وسع فرنسا أن تنجب من الأطفال ما يكفيها لتعمير الجزائر، ولذلك فمن
الضروري الاستعاضة عن ذلك بفرنسة مليونين من أبناء البربر الخاضعين لسلطتنا.
واصلوا عملكم بحنكة ودربة وحيطة، ولكم مني التأييد، وفي إمكانكم أن تعتمدوا
علينا كل الاعتماد) » [6] .
* تمزيق الهوية الوطنية:
وقد توخت الدولة المستعمرة من برنامجها هذا بإعلان الظهير البربري سنة
1930م «وهي السنة التي سيكشف فيها النقاب عن منحى آخر للسياسة التعليمية
الفرنسية بالمغرب، وكان هذا الظهير يهدف إلى النيل مباشرة وبصورة خطيرة من
الكيان المغربي وهويته العربية والإسلامية، وذلك بالفصل بين ما كانت سلطات
الحماية تسميه بالعنصر العربي من جهة، والعنصر البربري من جهة ثانية، فصلاً
حضارياً شاملاً كان المقصود منه فرنسة وتنصير القسم الأكبر من الشعب المغربي
(البربر) » [7] .
وهكذا قررت فرنسا إنشاء ما سمته بالمدارس الفرنسية البربرية لتمزيق الهوية
المغربية وإيجاد جيل تابع لفرنسا هجين الثقافة، مفتقد للهوية مستعد للتضحية من
أجل فرنسا عند أول نداء. وقد أفصحت فرنسا بوضوح عن الهدف من إنشاء هذه
المدارس. يقول (المسيو مارتي) : «لقد حصل الاتفاق بين إدارة التعليم العمومي
وإدارة الشؤون الأهلية، وتحددت بذلك مبادئ سياستنا التعليمية البربرية بكامل
الدقة.
إن الأمر يتعلق بمدارس فرنسية بربرية تضم صغار البربر يتلقون تعليماً فرنسياً
محضاً ويسيطر عليها خصوصاً اتجاه مهني فلاحي. إن البرنامج الدراسي في هذه
المدارس يشتمل على دراسة تطبيقية للغة الفرنسية، لغة الحديث والكلام، بالإضافة
إلى مبادئ الكتابة والحساب البسيط، ونتف من دروس الجغرافيا والتاريخ، وقواعد
النظافة ودروس الأشياء ... إن المدرسة الفرنسية البربرية هي إذن مدرسة فرنسية
بالمعلمين، بربرية بالتلاميذ، وليس هناك أي مجال لأي وسيط أجنبي. إن أي
شكل من أشكال تعليم العربية، أو أي تدخل من جانب الفقيه، أو أي مظهر من
المظاهر الإسلامية لن يجد مكانه في هذه المدارس؛ بل سيقصى منها جميع ذلك
بكل صرامة» [8] .
هكذا يصبح في المنظومة التربوية الفرنكوفونية فقيه الكتاب، ومعلم القرآن،
ومدرس العربية، كل ذلك (وسيطاً أجنبياً) كما عبر في النص، والحال أن
الميدان الخاضع لتلك المنظومة هو وطن المسلمين وأبناء المسلمين!
* احتواء النظام التعليمي السائد:
وبعد هذا التصور التعليمي الذي خطه المستعمر؛ يبقى الإشكال قائماً في كيفية
التعامل مع النظام التربوي والتعليمي السائد في البلد، وخاصة نظام التعليم بجامعة
القرويين، ولم يكن التخطيط لمواجهة هذا الإشكال ليعزب عن بال المستعمر؛
ويتجلى ذلك واضحاً في ما كتب الميسيو مارتي من توجيهات إلى الحماية الفرنسية
بالمغرب في كتابه: «مغرب الغد» الصادر سنة 1925م حين يقول: «إنه على
الرغم من أن القرويين تجتاز أزمة خانقة فإنها لن تموت، بل لا بد أن تتطور ذاتياً
بتأثير الأفكار الواردة من المشرق، وفي هذه الحالة سينقلب الأمر ضد الحماية
وتصبح عاجزة عن التحكم في الأحداث. ولذلك يجب أن نعمل على تجديد القرويين؛
لأنه إن لم نفعل فإن هذا التجديد الذي تفرضه الظروف؛ سيتم بدوننا وضدنا. إن
تجديد القرويين سيمكننا أن نحتفظ في المغرب بأولئك الشبان النازحين من عائلات
مرموقة، بدل تركهم يذهبون إلى الشرق لتلقي العلم الذي ستحرمهم منه جامعة
القرويين في حالة عدم تجديدها! .. ماذا يمكن أن يأتي به هؤلاء الشبان من الشرق؟
ألا يعودون بميول إنجليزية؟ أو بروح النهضة الإسلامية والتعصب الوطني؟» [9] .
ومن هنا يتضح أن التدابير المختلفة المقترحة من أجل تجديد القرويين،
والخاضعة لمراقبة فرنسية دقيقة، ليست أبداً تدابير ثورية، إنها تدابير ستمكننا من
توجيه التطور الداخلي لهذه الجامعة، وهو التطور الذي بدأ يعلن عن نفسه من الآن.
إن المثل القائل: (لا تحرك من لا يحرك ساكناً) هو بكل تأكيد من أحسن
المبادئ السياسية، ولكن عندما يتململ النائم ويهدد بالاستيقاظ فإن الحكمة تقتضي
ولا شك أن لا يترك الإنسان نفسه يفاجأ بالأحداث [10] .
ولئن كانت جامعة القرويين تضم أسلاك التعليم كلها من الابتدائي إلى الجامعي؛
فإن المستعمر قد وضع مخططاً لبناء تعليم جامعي مواز للقرويين؛ فتم تأسيس
معهد عال تحت اسم: (المدرسة العليا الفرنسية البربرية) سنة 1914م ثم تحول
سنة 1920م إلى (معهد الدراسات المغربية العليا) حيث احتلت دراسة اللهجات
البربرية والإثنوغرافيا والفلكلور المغربي مكان الصدارة فيه، وقد تحول هذا المعهد
إلى كلية للآداب والعلوم الإنسانية غداة الاستقلال [11] .
وقد انتقلت هذه الدراسات والأبحاث إلى الأقسام الاستشراقية المتخصصة
بفرنسا بعد الاستقلال، وشجعت بشكل كبير عن طريق تخصيص المنح وإمكانات
البحث والتأطير المتطورة.
* موقف الشعب المغربي من السياسة التعليمية الفرنسية قبل الاستقلال:
يملك الشعب المغربي هوية إسلامية ضاربة في أعماق التاريخ، فلم يكن لمثل
هذه التدابير التعليمية التي لا تنفصل في العموم عن السياسة العامة للاستعمار
الفرنسي أن تجد مكاناً مريحاً لها في النظام التعليمي المغربي؛ إذ كانت مقاومة هذا
المخطط جزءاً لا يتجزأ من مقاومة الاستعمار بكافة أشكاله. ويمكننا أن نجمل
مظاهر هذا الرفض في تجليات أساسية تتفرع عنها جزئيات تجد أثرها في مظاهر
الحياة العامة، وتتمثل هذه التجليات الأساسية في:
- زيادة تمسك المغاربة باللغة العربية باعتبارها لغة القرآن، ووسيلة التفقه
في الدين، ووسيلة لإظهار التماسك والتلاحم الوطني في وجه المستعمر. «وبذلك
أصبحت المطالبة بجعل اللغة العربية لغة التعليم والإدارة، ولغة كل المغاربة بدون
استثناء؛ مطلباً شعبياً، ترفع حوله الشعارات في كل المناسبات الوطنية، بل من
المبادئ الأساسية التي ترى فيها الحركة الوطنية مظهراً من مظاهر الاستقلال،
وهذا ما أجهض مشروع المدارس الفرنسية البربرية، ومن ثم المشروع اللغوي
الذي كانت فرنسا تأمل تحقيقه بالمغرب» [12] .
- إجهاض الظهير البربري في مهده عن طريق قيام الحركة الوطنية المنظمة
التي خاضت المعارك العسكرية والثقافية ضد المستعمر، بعد أن كانت المقاومة قبل
صدور الظهير البربري مقتصرة على ما يشبه حروب العصابات المتقطعة، في
أنحاء البلد، بحيث لا يربطها عقد ناظم، ولا تخضع لتصور مشترك، ولا تحمل
مشروعاً ثقافياً واجتماعياً يحول دون المسخ الثقافي للبلد.
- وضع مبادئ أساسية لإعادة هيكلة وتحديث النظام التربوي والتعليمي
بالمغرب تواجه المخطط الاستعماري، وتتمثل هذه المبادئ في اعتماد مبدأ التوحيد
(توحيد أنماط التعليم) ، في مواجهة مخطط الفصل، وتعدد أنماط التعليم الذي
تحدثنا عنه تحت عنوان (التعليم الانتقائي الطبقي) ، واعتماد مبدأ التعريب في
مواجهة السياسة اللغوية في النظام التعليمي بالمغرب التي كانت تحاول إضعاف
اللغة العربية وتشجيع اللهجات البربرية، كخطوة لتعميم استعمال اللغة الفرنسية.
- إنشاء مدارس وطنية أهلية، سميت (بالمدارس الحرة) ، والتي لقيت
تشجيعاً وتمويلاً من طرف الأهالي. «وقد افتُتِحت أربعون مدرسة في ظرف سنة
واحدة! وهو رقم قياسي في شمال إفريقيا، بل حتى في عالم المستعمرات ...
وتجددت في القرى حملة 1930م (حول التمدرس) وسارت بوتيرة سريعة،
وأعيد فتح معظم المدارس التي أقفلت في سنة 1937م، وفتحت مدارس جديدة في
بعض المداشر (أي قرى بدوية بالجبال) ، هذه الظاهرة قلما شوهد لها مثيل قبل
هذا التاريخ» [13] .
هذا بالإضافة إلى التعليم الممارس في المدارس العتيقة والمساجد والزوايا.
وهكذا شكلت المسألة التعليمية ساحة للصراع بين التوجه الاستعماري
الفرنكوفوني والحركة الوطنية؛ مما يجسد وعياً متقدماً لدى زعماء التحرير بخطورة
المعارك الثقافية، بشكل لا يقل درجة عن المعارك العسكرية.
* مشاريع إصلاح التعليم بالمغرب بعد الاستقلال بين الدعوة لتعزيز التعريب
وازدواجية القرار:
ككل البلدان التي تتخلص من الاستعمار العسكري، وتتوقد فيها جذوة إثبات
الذات بعد الفترات العصيبة، حاول المغاربة استثمار الرصيد القومي المفعم بالحماس
الوطني، واستثمار الشعور الإسلامي الذي شكل الرصيد المعنوي والروحي للحركة
الوطنية، في إعادة بناء ما أفسد المستعمر، غير أن ثقل الموروث الاستعماري،
جعل المغرب (على المستوى الرسمي) ، مكبلاً بقيود أملتها طبيعة المفاوضات التي
كانت بينه وبين فرنسا؛ إذ لم يشهد المغرب قطيعة كلية مع نظام المستعمر
الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛ «فطبيعة العلاقات التي سينسجها المغرب
المستقل مع فرنسا فيما بعد، وكذا نوعية الحلول المرتقبة للقضايا الموروثة عن عهد
الحماية، ومنها قضية التعليم بكل أبعاده، ستكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطبيعة
المفاوضات السياسية التي تمت بين الطرفين في (إكسليبان) ، وبالكيفية التي تم بها
نقل السلط من رموز سلطة الحماية إلى من تسلم هذه السلط بعد الاعتراف الرسمي
باستقلال المغرب» [14] .
ومن هنا كان الطابع العام الذي طبع الوضع الجديد في المغرب؛ «هو
(الاستقلال في إطار الاستمرارية) على - حد تعبير الجابري - إن هذا يعني أنه
كان على الحكومة أن تقبل الوضع كما هو، وأن تتسلم السلطة تدريجياً بإحلال
موظفين مغاربة مكان الموظفين الفرنسيين، وأن تعالج مختلف القضايا بالتشاور مع
فرنسا» [15] .
وهذه الازدواجية بين الحماس الديني والوطني، وثقل التركة الاستعمارية،
أثرت ولا زالت تؤثر في مشاريع البناء والإصلاح على جميع الأصعدة. ويمكننا
أن نلمس هذا التأثير على صعيد التعليم في تعثر مشاريع الإصلاح المتوالية منذ عهد
الاستقلال، والتي لم تستطع بناء نموذج تعليمي واضح المعالم، محدد المقاصد
والغايات، يستمد مشروعيته من الأصالة المغربية، ويجد امتداده في المعاصرة
المتوازنة؛ فكان الاضطراب هو السمة الغالبة في التعامل مع كثير من القضايا
المفصلية في النظام التعليمي، وطغى هاجس التفاوض والتوافق على مشاريع
إصلاح التعليم، بين التيار الفرنكوفوني الذي يجد سنده في المعاهدات المغربية
الفرنسية غداة الاستقلال من جهة، وتغلغله ونفوذه في مراكز القرار والسلطة من
جهة ثانية، وبين التيار الوطني المدعوم شعبياً والمفتقد لأدوات الضغط الإدارية
الكافية للتأثير في صياغة المشاريع وتنفيذها.
ومن مظاهر هذا الاضطراب التعامل مع مبدأ تعريب التعليم؛ فهو المبدأ الذي
لا زال حتى الآن يرزح في مكانه، ويكفي أن نذكر أن أول مشروع تعليمي أقره
المغرب غداة الاستقلال أكد ضرورة اعتماد اللغة العربية لغة رسمية للتدريس،
واعتبر أن مبدأ التعريب هو أحد الأعمدة الأربعة التي سيقوم عليها إصلاح التعليم
بالمغرب، والمحددة في التوحيد والتعميم والتعريب والْمَغْرَبة. وقد أعلن وزير
التعليم آنذاك محمد الفاسي في ندوة صحفية في نهاية السنة الدراسية 1955 -
1956م أن اللغة الأساسية للتعليم هي اللغة العربية. غير أن الازدواجية ستظهر
في أول خطوة تطبيقية بحيث أقرت اللجنة نفسها في اجتماعها بعد سنتين أي سنة
1958م تدريس العلوم باللغة الفرنسية، منذ القسم الأول، ويعلق الدكتور الحسن
مادي على ذلك قائلاً: «إن تدريس العلوم منذ القسم الأول من التعليم الابتدائي،
وترك بعض المواد تدرس باللغة العربية مثل التربية الإسلامية، والأخلاقية،
وقواعد اللغة، وكل ما يتصل بالأدب؛ سيخلق لدى التلميذ إطاراً مرجعياً، ينظرون
من خلاله إلى كل لغة على حدة: لغة علوم، ولغة أدب، لغة تسمح باكتساب
المعرفة الإنسانية العلمية، وتسمح بالانفتاح على العالم الخارجي، ولغة أخرى لا
تسمح بالتعامل إلا مع الأدب والشعر والحكايات والأساطير، وكل هذا يتم كما
حددته اللجنة الملكية لإصلاح التعليم، بداية من السنة الأولى بالتعليم الابتدائي، أي
منذ دخول التلميذ إلى المدرسة الحكومية. إنها فعلاً ازدواجية ستصاحب هذا التلميذ
خلال دراسته كلها، وتلك وضعية لم يخترها الطفل المغربي بنفسه، بل هي
استمرارية لمواقف سياسية لم تحسم بشكل واضح أثناء التفاوض على الاستقلال»
[16] .
وقد بقي هذا الاضطراب سائداً في جميع مشاريع الإصلاح سواء في التصميم
الخماسي 1960 - 1964م أو التصميم الثلاثي 1965 - 1967م، أو التصاميم
الحكومية الموالية، أو مخططات اللجان الملكية المستحدثة لإصلاح التعليم، والتي
بنيت في أغلبها على تقارير البنك الدولي التي تشخص الوضعية التعليمية بالمغرب،
في ارتباطها بالمجال الاجتماعي والاقتصادي [17] .
ويكفي أن نشير إلى أن النظام التعليمي في المغرب الآن يعرف العمل بمبدأ
تدريس العلوم التجريبية والطبيعية باللغة العربية، في حدود التعليم الثانوي، مع
اعتماد اللغة الفرنسية في تدريس هذه المواد بالتعليم العالي؛ مما خلق ارتباكاً
واضحاً في مستوى التحصيل لدى التلاميذ، وأجهض عملية تعريب التعليم من
أساسها كتجربة كان يمكن أن تنجح لو حضرت الإرادة الوطنية القوية، وخف
ضغط التيار الفرنكوفوني المتنفذ الذي لا يخفي تخوفه من حملة مدروسة لتطبيق
مبدأ التعريب، يتم الاستفادة فيها من التجارب الناجحة لبعض الدول العربية كسوريا
والأردن. ويحمل مسؤولية التخلف العلمي والتقني إلى اللغة العربية، وكأن بلدان
العالم العربي التي تدور في فلك الفرنكوفونية وتعتمد الفرنسية لغة للتدريس قد حققت
بفعل ذلك طفرة نوعية في هذه المجالات، والواقع أنها فقدت هويتها، ولم تحقق ما
كانت تنشد من تقدم.
نحن لا نستغرب حين نجد من يقول: «وفي حالة المغرب اليوم وربما لحقبة
تاريخيةٍ ما يبقى التعريب الشامل للتعليم العلمي والتقني والمهني حاملاً لخطر إقصاء
ملايين الشباب من عوالم الاقتصاد، والإدارة، والتواصل، المفروض أن يحققوا
فيها ذواتهم ويساهموا بمقدراتهم في الرفع من القدرة التنافسية لبلادهم ككل. بل من
شأن هذا الإقصاء أن يحشرهم فيما قد يبدو مجرد مخيم هائل للفقر الثقافي،
والتهميش السوسيو اقتصادي، وهو مخيم قد يواسى فيه المرء بشعور الافتخار
الذاتي بالهوية اللغوية المسترجعة، لكنها في الأغلب هوية مفقرة بالأحادية اللغوية
وملتبسة معها، هوية مرتجلة وممنوحة من فوق؛ ومن ثم مستلبة سلفاً بصفتها هذه،
هوية لفظية مقصورة على الفم، ومستندة إلى تربية مختزلة، ومعرفة متجاوزة،
هوية سرعان ما تكون مجروحة، مصدومة ومعقدة بفعل الكبت الاقتصادي
والتواصلي» [18] .
ولا أجد تعقيباً على هذا أصدق من قول الدكتور المهدي المنجرة خبير
المستقبليات في أحد حواراته: «لا أقبل من أي أحد أن يقول إنها قضية بيداغوجية،
وأن لنا مشاكل، وأن التعريب صعب، وصعب أن نستعمل اللغة العربية في
تعليم الكيمياء والبيولوجيا. فهذا كلام لا أساس له؛ لأن التجارب في العالم بأسره
برهنت أنه بدون الاعتماد على اللغة الوطنية، وبدون لغة الأم في تعليم العلوم، لن
يكون هناك تقدم حقيقي، وأستطيع أن أقدم لك نماذج من كوريا وتايوان واليابان
وماليزيا والصين وغير ذلك. هناك ضغط من الخارج، وتخوف من نخبة معينة
لها مناصبها ووظائفها، وحياتها كلها مبنية على اللغة الأجنبية؛ فالاستعمار كان
واضحاً.. راح الاستعمار وخلف أفراداً معينين قائمين بالعمل.. وأظن أنه لم يتبق
وقت للكلام في هذا الموضوع؛ لأنها ليست قضية تقنية أو فنية. يجب أن نتفق
أنها قضية سياسية» [19] .
وأقول إن تشبث النظام التعليمي المغربي باللغة الفرنسية هو الذي حرم الكثير
من خريجي هذا البلد من الانفتاح على سوق الشغل العربية الواسعة؛ لضعفهم في
اللغة العربية أولاً، ثم لضعفهم في اللغة الإنجليزية ثانياً، ثم لتخلف البحث العلمي
وأساليب التكوين في النظام الفرنسي بسنين عديدة عن النظام الأنجلوسكسوني
المعتمد في بلدان المشرق العربي.
ويجزم كثير من الباحثين الاقتصاديين والاجتماعيين أن هذا الخيار هو السبب
المباشر في تقوقع الخريجين المغاربيين، ضمن الدائرة الفرنكوفونية الضيقة بأوروبا
(فرنسا وشطر من بلجيكا) والبعيدة بعد المشرقين (كندا) ، والنامية أو المتخلفة
(الدول الإفريقية الفرنكوفونية) التي تتنازعها الحروب، ولا توجد فيها أي فرص
للاستثمار.
وقد وعى المغرب أخيراً خطأ الرهان على الخيار الفرنسي، وارتأت اللجنة
الوطنية لإعداد الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي تعمل الدولة على صياغته
الإجرائية حالياً، ضرورة تعزيز مكانة اللغة العربية، وتقوية التكوين في اللغة
الإنجليزية وبها. ومع ذلك لم يسلم هذا المشروع بدوره من السقوط في فخ
التوازنات.
وقد أقر الميثاق الوطني للتربية والتكوين المعتمد في مشاريع إصلاح التعليم
الجارية الآن إجراءاتٍ لتعزيز مكانة اللغة العربية في النظام التعليمي بصفة عامة
ومنها:
- تأسيس أكاديمية للغة العربية.
- اعتبار مادة اللغة العربية إجبارية في جميع التخصصات.
- الدعوة إلى إنشاء مسالك تعتمد التدريس باللغة العربية في كليات العلوم بالتعليم
العالي.
غير أن ذلك لم يمنع من إعادة التمكين للغة الفرنسية لغة للدراسة، ولغة
للتدريس مع إدخال تدريس اللغة الإنجليزية ابتداء من السنوات الأولى للابتدائي،
إضافة إلى تدريس اللهجات الأمازيغية؛ وهو ما يعتبر تجنياً على التلميذ المغربي
الذي سيجد نفسه في سنواته الدراسية الأولى أمام خيارات لغوية متعددة تحرمه من
إتقان اللغة العربية، والانفتاح الموزون والمتدرج على اللغات الأخرى، كما تعتبر
هذه الإجراءات ضارة بمكانة اللغة العربية في النظام التعليمي رغم ما قرر في شأنها
من إصلاحات؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على طابع التوافقات السياسية،
وهاجس التوازنات الذي لا زال يلقي بظلاله على الخيارات التربوية، في مجال
التعليم والتربية، منذ عهد الاستقلال إلى الآن [20] .
وإلى جانب كل ذلك نجد أن هناك جهوداً كبيرة؛ للتمكين للنظام التعليمي
الفرنسي بالمغرب، أكثر من أي وقت مضى، كالتركيز على دعم تدريس اللغة
الفرنسية، وتدريسها بأغلب دور الحضانة، ورياض الأطفال، وكثير من مؤسسات
التعليم الخاص، بالإضافة إلى تعزيز مكانة البعثات الفرنسية بالمغرب، والتي
يرتادها أبناء الأعيان من المغاربة، والتي تعتمد برامج ومناهج فرنسية، لا تخضع
لرقابة وزارة التعليم المغربية، بالإضافة إلى اعتماد اللغة الفرنسية لغة للتواصل في
أغلب الإدارات المغربية والقطاعات الحيوية الاجتماعية والاقتصادية رغم القرارات
الإدارية الرسمية الداعية إلى اعتماد اللغة العربية في جميع مرافق الدولة [21] ، مما
يرشح استمرار داء الازدواجية، والصراع مع الأيديولوجية الفرنكوفونية حتى
إشعار آخر في غياب إرادة قوية وحاسمة، وقرار مستقل عن التوصيات الملزمة
التي تمليها المؤسسات الدولية، قرار يدعم اللغة الوطنية وينظم تعلم اللغات الحية،
كلغات للتواصل مع الآخر، وسيستمر هذا الأمل قائماً في ظل التحولات التي
كرست التراجع الكبير الذي تعرفه مكانة اللغة الفرنسية في قائمة اللغات الحية
العالمية، وخاصة في مجال التكوين والبحث العلمي.
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية بالمدرسة العليا للأساتذة، تطوان، المغرب.
(1) انظر كتاب واقع العالم الإسلامي بين تغريب التعليم وكشف تخريب المتآمرين، لسعيد عبد الكريم زيد، مكتبة وهبة بمصر 1997م، وانظر كذلك كتاب المناهج بين الأصالة والتغريب لمحمد صالح بن علي جان، المكتبة المكية بمكة المكرمة، 1998م.
(2) محمد عابد الجابري، التعليم بالمغرب العربي ص 17، توزيع المركز الثقافي العربي، 1989م.
(3) المصدر السابق، ص 18.
(4) د / الحسن مادي، السياسة التعليمية بالمغرب ورهانات المستقبل، ص22، منشورات مجلة علوم التربية.
(5) نفسه، ص 23.
(6) محمد عابد الجابري، التعليم بالمغرب العربي، 109، توزيع المركز الثقافي العربي، 1989م.
(7) محمد عابد الجابري، التعليم بالمغرب العربي ص 21، توزيع المركز الثقافي العربي، 1989م.
(8) نفسه، ص 22.
(9) محمد عابد الجابري، التعليم بالمغرب العربي ص 20، توزيع المركز الثقافي العربي، 1989م.
(10) نفسه، ص 19.
(11) نفسه، ص 22.
(12) د / الحسن مادي، السياسة التعليمية بالمغرب ورهانات المستقبل، ص22، منشورات مجلة علوم التربية.
(13) جون جيمس، حركة المدارس الحرة بالمغرب، مجلة أبحاث ع 17، ص 61، 1988م.
(14) د / الحسن مادي، السياسة التعليمية بالمغرب ورهانات المستقبل، ص42، منشورات مجلة علوم التربية، 1999م.
(15) التعليم بالمغرب العربي، ص 42.
(16) د / الحسن مادي، السياسة التعليمية بالمغرب ورهانات المستقبل، ص 48 - 49، منشورات مجلة علوم التربية، 1999م.
(17) انظر مسيرة إصلاح التعليم بالمغرب بتفصيل في كتاب إبراهيم السعيدي بعنوان: مشكل التعليم بالمغرب ومبادئ في الإصلاح، 1995م، وكتاب التعليم بالمغرب بين تحديات العولمة والإصلاح المنشود، سلسة بحوث ودراسات منشورات جريدة التجديد المغربية، 1999م.
(18) محمد بردوزي: تحديث التعليم بالمغرب، منشورات التحديث، 2000م.
(19) المهدي المنجرة في حوار مع مجلة عالم التربية حول قضايا التربية والتعليم بالمغرب العدد 2 و 3 سنة 1996م، وقد خصصت مجلة علوم التربية عدداً خاصاً لمسألة التعريب بالمغرب تحت عنوان: (تعريب التعليم والمحيط في انتظار القرار) ، العدد 4 خريف 1996م تناولت فيه الموضوع وإشكالاته بتفصيل.
(20) انظر كتاب قراءة نقدية في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، لمحمد الزوين وعبد الكريم حجوجي وعبد الله الهلالي، مطبوعات الهلال.
(21) انظر ذلك بتفصيل في كتاب الدكتور عبد الله الشارف تحت عنوان: أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب، منشورات كلية الآداب بتطوان سنة 2000م.(177/33)