المسلمون والعالم
أفغانستان بعد الحكومة المؤقتة
خلفيات ونتائج
كمال حبيب
بعد محادثات استمرت ثمانية أيام في بون بألمانيا وقعت أربع فصائل أفغانية
اتفاقية تشكيل الإدارة المؤقتة الجديدة التي ستتولى مهام حكم أفغانستان لفترة انتقالية
هي مدة ستة أشهر تبدأ اعتباراً من 22 ديسمبر الماضي.
حضر توقيع اتفاق تشكيل الحكومة الجديدة رئيس الحكومة الألمانية «
جيرهارد شرودر» ووزير خارجيته «يوشكا فيشر» .. وقد تم الاتفاق من الناحية
الشكلية تحت رعاية الأمم المتحدة بغرض «إعادة بناء النظام السياسي في
أفغانستان بعد مرحلة طالبان» .. وذلك لملء الفراغ السياسي والأمني الكبير الذي
تركه انسحاب جيش طالبان من المدن الأفغانية أمام القصف الأمريكي الوحشي ثم
التحصن بالجبال استعداداً لشن حرب عصابات تعتمد الكر والفر لمواجهة الاحتلال
الأمريكي والغربي لأفغانستان.
الإدارة المؤقتة الجديدة تضم 29 عضواً يمثلهم رئيس الوزراء «الإدارة»
وخمسة نواب له و23 وزيراً ونائباً للوزراء.. ويترأس الإدارة الجديدة «حامد
كرزاي» وهو زعيم قبيلة أفغانية تتمركز في جنوب أفغانستان اسمها «بوبوك
أي» ويجيد الإنجليزية بطلاقة، وسارع مدفوعاً للعودة إلى البلاد باستدعاء أمريكي
مع بدء القصف الأمريكي الهمجي لأفغانستان يوم 16 أكتوبر الماضي. وسوف
نلاحظ أن كثيراً من أعضاء الإدارة الأفغانية الجديدة قد عادوا إليها بعد بدء
القصف الأمريكي لبلادهم. أي أنهم عادوا إلى أفغانستان تحت حماية القصف
الوحشي الأمريكي لمواطنيهم البسطاء والضعفاء والذي لم يتوقف حتى الآن رغم
أن المدة التي تعرضت فيها أفغانستان لهذا القصف زادت على ثلاثة أشهر
كاملة.
كرزاي الجديد كان مساعداً سابقاً لوزير خارجية حكومة المجاهدين أوائل
التسعينيات؛ لكنه غادر أفغانستان بعد وصول طالبان إلى السلطة عام 1996م..
ويمثل «كرزاي» نموذجاً للصيغة الجديدة التي تريدها أمريكا للرجل الأفغاني الذي
يرتدي البزة الأوروبية ويأخذ في اعتباره قواعد «الإتيكيت الغربية» .. ويتمتع
بحس براجماتي يجعله يستسيغ تدمير بلاده واحتلالها إذا كان ذلك سيدخلها عالم
الحداثة الغربي الذي سيجلب لها على الأقل التخلص من وصمة الإحساس بعقدة
النقض تجاه العالم المتقدم.
هذه الحكومة الأفغانية المؤقتة الجديدة هي التي وافقت ولا تزال على استمرار
القصف الأمريكي الوحشي للمدنيين الأفغان ولا تزال تؤيد هذا القصف باعتباره
ضرورة تفرضها الحرب الأمريكية على طالبان والقاعدة ومتابعة تصريحات الملك
العجوز ظاهر شاه وحامد كرزاي تؤكد ذلك كما أن هذه الحكومة (الإدارة) الجديدة
تتفهم جيداً حدودها أي أنها تمنح الشرعية للوحشية الأمريكية من أجل تحقيق أهدافها
فقط؛ ولذا فهي حكومة جاءت بهندسة أمريكية أممية أوروبية من أجل بناء
أفغانستان جديدة على النمط والمقاس الغربي. لهذا حين طالبت هذه الحكومة بوقف
القصف الأمريكي للمدنيين بعد قصف قرية «نبازا كلاي» في 29 من الشهر
الماضي (ديسمبر) والذي أدى لقتل 120 مدنياً في منازلهم وجرح عشرة آخرين
(لاحظ أن القتلى أكثر عشرة أضعاف من الجرحى عكس ما يحدث عادة في
الحروب؛ إذ إن الجرحى يكونون هم عشرة أضعاف القتلى) .. لم تستجب
أمريكا لوقف القصف ولم تدخر الإدارة الجديدة وسعاً في إعلان الخضوع بل
والدفاع عن المسوغات الأمريكية لاستمرار القصف.
خلفيات هندسة الحكومة الجديدة:
الأمم المتحدة برعاية الأخضر الإبراهيمي وتحت الرعاية الأمريكية إذ إن
الأمم المتحدة ليست إلا مخلب قط لتنفيذ المخططات الأمريكية تحت ستار شرعيتها
الزائفة فهي التي هندست الحكومة الجديدة بقصد عدة أهداف هي:
1- أن تكون الحكومة ألعوبة بيد أمريكا والغرب تعطي شرعية الترتيبات
الدولية لإعادة هندسة أفغانستان وفق المصالح والمخططات الغربية. وعلى سبيل
المثال فإن الحكومة الانتقالية الجديدة هي التي أرسلت في طلب القوة الدولية لما
يطلق عليه حفظ السلام في أفغانستان والتي وصلت طلائعها فعلاً إلى هناك من
ضباط بريطانيين وأستراليين وهولنديين وغيرهم.
2- الحكومة الجديدة هي مجرد حلقة لخطوات أخرى قادمة تسعى للانتهاء
بأفغانستان لتكون مجتمعاً ديمقراطياً وفق المنظور الغربي؛ فبعد انقضاء ستة
الأشهر المحددة لهذه الحكومة سيجري انعقاد مجلس الأعيان الأفغاني الذي يعرف
باسم «لويا جيركا» والذي يضم رؤساء القبائل والذي سيختار بدوره حكومة
انتقالية لمدة عامين بعدها تجري انتخابات في البلاد ويتم وضع دستور لها على
النمط الغربي والأمريكي.
3- الحكومة الجديدة هي مكافأة أمريكية أممية لتحالف الشمال المجرم الذي قام
وكيلاً عن أمريكا والغرب بتنفيذ مذابح وحشية ضد المجاهدين من الأفغان والعرب،
وهو الذي قام بملء الفراغ السياسي والأمني بعد طالبان على الأرض؛ حيث كان
درعاً للقوات الأمريكية التي خافت من النزول على الأرض في المدن الأفغانية..
ومن ثم لم يكن ممكناً لأمريكا أن تطأ أقدامها أرض أفغانستان إلا في ظل هذه
الحكومة الجديدة. وتواكب تشكيل هذه الحكومة في قلعة «بيتر سبرج» خارج
بون مع القصف الأمريكي من الجو والسيطرة الميدانية من تحالف الشمال..
وبالطبع فإن تحالف الشمال الذي يضم بشكل أساس الطاجيك والأوزبك هو الذي قام
بمواجهة طالبان على الأرض من الشمال «مزار الشريف وقندوز» وفي «
كابول» ، في «تورا بورا وقندهار» . وهو الذي استولى على المدن بعد ذلك..
ولم يكن ممكناً له أن يحقق هذه السيطرة دون المساندة الأمريكية الغربية. وللأسف
فإن الجمعية الإسلامية التي يرأسها (برهان الدين رباني) كانت مؤسسة للطاجيك
والأوزبك كأعراق بصرف النظر عن مذاهبهم وعقائدهم، وعامة الأعضاء الجدد
في الحكومة ينتمون لهذه الجمعية الإسلامية.
4- الحكومة الجديدة راعت التوازن العرقي من ناحية شكلية لكنها في الواقع
هُندِست وفق صيغة سياسية محددة بدليل أن الطاجيك هم المسيطرون على الإدارة
الجديدة؛ فمنهم وزارة الدفاع والداخلية والخارجية وأكثر من نصف الوزارات. ولم
تراع الحكومة التعبير عن الأغلبية العرقية في البلاد وهم البشتون الذين يزيد عددهم
عن 45% من مجمل سكان البلاد التي يزيد تعدادها عن عشرين مليوناً. وحدثت
خلافات هائلة بين الحاضرين في مؤتمر بون، وكانت هناك قائمة تضم 150 اسماً
جرى تخفيضهم لثلاثين، واستخدمت في ذلك وسائل الضغط والإغراء. وبشكل
عام فإن الحكومة الجديدة هي في تقديرنا تعبير عن لحظة مؤقتة في تاريخ أفغانستان
مرتبطة بالوجود الأمريكي والغربي، وليست بأي حال تعبيراً عن الشعب الأفغاني؛
ولذا تحدثت بعض التقارير الغربية عن عدم شرعية الإدارة من ناحية القبول
الشعبي. وهذه الحكومة مرتبطة بالترتيبات الراهنة في أفغانستان؛ لكن لو تغيرت
هذه الترتيبات فإن الحكومة ستؤول إلى الزوال.
5- الدور الأمريكي واضح لكن من وراء ستار؛ حيث كان الوجود الأمريكي
خارج ردهات المؤتمر لكنه كان قوياً من جانب C. I. A.. وعقد بوش
اجتماعين مع مجلس الأمن القومي لمناقشة ترتيبات الحكومة الجديدة وقال: «إننا
نريد حكومة ائتلافية ذات قاعدة عريضة، وبناء اقتصاد قوي، وتوفير قوة أمنية
لحفظ السلام» وحذر من أن الفراغ السياسي والأمني يعني أن الحملة العسكرية لم
تسفر عن شيء «. وأشار بوش» إلى أنه لا يريد حكومة مركزية قوية في
أفغانستان وإنما حكومة تعبر عن التوازن العرقي والمذهبي.
6- المثير للدهشة أنه بالتوازي مع «مؤتمر بون» اجتمعت شخصيات
نسائية أفغانية بارزة في العاصمة البلجيكية في مؤتمر قمة لبحث مستقبل أفغانستان.
نظم المؤتمر جمعيات نسوية أوروبية وأمريكية بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان
من أجل إسماع صوت المرأة الأفغانية للمؤتمر في بون. هدف المؤتمر هو تمثيل
المرأة الأفغانية، وقالت مسؤولة الشؤون الاجتماعية في الاتحاد الأوروبي «آثاديا
منتوبولو» : «إن النساء الأفغانيات يشكلن أكثر من نصف عدد سكان أفغانستان؛
لذا سيكون من الحماقة محاولة بناء البلاد دون تمثيل حقيقي للمرأة» . وفي أمريكا
عقد مؤتمر بعنوان: «نساء مؤيدة لنساء أفغانستان من أجل تأمين مستقبلهن» .
وقال «آري فلاشر» المتحدث باسم البيت الأبيض: «إن الرئيس مسرور بدور
المرأة في أفغانستان، لكن لا يزال هناك المزيد مما يجب عمله» . بينما قالت لورا
بوش: «إن محنة النساء والأطفال في أفغانستان هي قسوة إنسانية متعمدة يقوم بها
الذين يسعون للترهيب والسيطرة، وما كانت تفعله طالبان هو فصل عنصري
جنسي» . واجتمعت مع 11 امرأة أفغانية وقالت: «إن حقوق الإنسان هي جزء
واضح جداً من الحكومة الجديدة، وبالطبع حقوق الإنسان تتضمن حقوق النساء
والأطفال» . بينما قال نائب المبعوث الدولي إلى أفغانستان: «السلطة المؤقتة
ستعمل على ضمان حرية التعبير وحقوق المرأة» ، وضمت الحكومة المؤقتة فعلاً
امرأتين إحداهما من الهزارة الشيعة واسمها «سيما سمر» وهي نائبة رئيس
الحكومة ووزيرة شؤون المرأة. والثانية هي «سهيلة صديقي» علمانية طبيبة،
واحتلت موقع وزيرة للصحة. أي أن الترتيبات الغربية تهدف إلى تفكيك أفغانستان
عبر فرض خروج المرأة إلى العمل وفي الوقت نفسه اختلاطها بالرجال وخلعها
للججاب وانخراطها في الأطروحة الحداثية الغربية لتكون وفقاً للنمط الغربي..
نتائج تنصيب الحكومة الجديدة:
سيظل التاريخ الأفغاني يذكر لأعضاء هذه الحكومة أنهم خونة وعملاء
بامتياز.. وسوف نلحظ أن الحكومة تضم الوجوه القديمة المستهلكة التي أثبتت
عجزها في السابق، أو التي انخرطت في أعمال وحشية بددت الأمن في البلاد
مثل المجرم «عبد الرشيد دوستم» وهو شيوعي سابق قاتل إلى جوار السوفييت ضد
المجاهدين، وأيضاً محمد فهيم، ويونس قانوني، رئيس الوفد إلى بون، وعبد
الله عبد الله، وهؤلاء هم المسؤولون عن مجزرة جانجي، ومسؤولون عن قتل
آلاف المدنيين الأفغان التي تشير بعض التقديرات أنهم بلغوا خمسة آلاف، وتشير
تقديرات أخرى أنهم بلغوا عشرة آلاف.. ومن ثم فهي حكومة عميلة لا مستقبل لها
وهي التي مكنت لكل الخطط الأمريكية التي جري تنفيذها إلى الآن.. وتتعامل أمريكا
معها بغطرسة؛ لأنها تعرف أنها مجرد أداة لا تعبر عن حقيقة الشعب، وهي
تبصم بكل تبعية على كل ما تريده أمريكا وتسعى لفرض العولمة الثقافية على
مواطنيها عبر فرض الملابس الغربية للرجال، وحلق اللحى، وفرض السفور
على المرأة، والسعي لخروجها إلى العمل المختلط، وتغريب مناهج التعليم
والتربية.
وهي القنطرة التي سيجري عبورها لتنفيذ الخطوات القادمة في البلاد.. ولن
تحقق أي استقرار أو تقدم اقتصادي في البلاد؛ لأنها حكومة عميلة جاءت تحت
أسنة رماح الأعداء.
إن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تقوم على ما تطلق عليه «إعادة بناء
الأمم» .. أو بمعنى آخر إعادة هندستها وفق ما تقتضيه المصالح الغربية وليس
وفق مصالح هذه البلاد أو شعوبها. وهي تحاول أن تنقل إلى أفغانستان الخبرة
التي جرى تطبيقها من قبل في البوسنة وكوسوفا وألبانيا، بل لا يستبعد في
الحالة الأفغانية تطبيقات تيمور الشرقية في أندونيسيا؛ أي فرض التجزئة
والتقسيم.
نسأل الله أن يلطف بالشعب الأفغاني , وأن يجمع كلمته على أيدي أبنائه
المخلصين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(171/83)
المسلمون والعالم
كرة حماس الملتهبة بين كفي
عرفات وشارون!
أمير سعيد
تخضع القضية الفلسطينية في الوقت الراهن لسياسة عض الأصابع المتبادلة
بين طرفي النزاع: المقاومة وقوى الاحتلال. وبانتظار صرخة الألم التي سيطلقها
هذا الطرف أو ذاك تظل الأحداث على وتيرتها المتصاعدة يوماً بعد يوم؛ إذ لا
خيارات متعددة أمام طرفي الصراع؛ فكل قد حدد وجهته:
شارون وعصابته عبر الهروب إلى الأمام بتسخين الموقف من خلال
الاستمرار في سياسة الاغتيالات التي تنفذ بحق نشطاء حماس والجهاد وفتح
والشعبية، والتمادي في سياسة إغلاق مناطق السلطة وتجويع أهلها وإذلال
الفلسطينيين عند المنافذ الحدودية، واستهداف مقار السلطة وسجونها وثكنات القوة
17 (الحرس الخاص للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات) وتنفيذ أسلوب اختطاف
العناصر النشطة لدى التوغل المتكرر لقوى الاحتلال في مناطق السلطة (25
ناشطاً خلال اقتحام جنين، 9/12) بالإضافة إلى القصف المتواصل على مناطق
سكانية واغتيال أطفال ونساء في مناطق السلطة.
والشيخ ياسين ورجاله المغاوير بالرد القوي الملائم لما يلقاه الفلسطينيون من
اضطهاد وإذلال وقهر.
في الأجل القصير: إلى أي مدى يمكن للطرفين أن يصمدا في وجه بعضهما؟
الإجابة عن هذا السؤال جد عسيرة. لكن ربما أسهمت صورة أكثر وضوحاً
للموقف في الدنو من مساحة الإجابة.
ثمة متغيرات جسيمة دخلت على هذا الصراع الممتد:
أولها: أن أحداث 11 سبتمبر الماضي قد أنشبت أظفارها بعنف في القضية
الفلسطينية، ولقد تلاقت آراء معظم المراقبين السياسيين على القول بأن أحداث 11
سبتمبر وما جرته من إزالة للدولة الإسلامية في أفغانستان، وما تبعها من إجراءات
أمنية أمريكية (سنعرض لها بشيء من التفصيل فيما بعد) طالت بيد البطش
الحركات الإسلامية الجهادية في فلسطين وغيرها، قد أضرت كثيراً بالطرف
الفلسطيني المسلم، ولعلنا إذ نشاطرهم رأيهم بأن الأحداث الأخيرة ألحقت الأذى
بالفلسطينيين نخالفهم في ماهية هذا الضرر وفي مدى تأثيره الزمني؛ لأن المعركة
بين الولايات المتحدة الأمريكية وأعدائها من المسلمين الفقراء في أفغانستان وغيرها
لَمَّا تصل نهايتها. (لا يمكن بحال اختزال معركة الإسلام والغرب في جولة واحدة
مبهمة المعالم ولامع جناح من تنظيم واحد) .
إلا أن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انفلتت من عقالها وعقلها
على حد قول مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح الفلسطينية واستبد بها الكبر
والغرور.
متغير ثان: هو نجاح فرق الموت الصهيونية في اغتيال قائد كتائب عز الدين
القسّام في الضفة الغربية محمود أبو هنود مع اثنين من معاونيه (لا يزال قائد
الجناح العسكري لحماس في غزة محمد ضيف متخفياً من فرق الموت الصهيونية
والسلطة الفلسطينية في آن واحد. نسأل العلي القدير له السلامة) مما أدى إلى بث
بعض التفاؤل في نفوس قادة وعناصر الأجهزة الأمنية الصهيونية المحبطة، وبث
رغبة عارمة للثأر في نفوس عناصر الكتائب لخسارتهم واحداً من أبرز وألمع وأكفأ
من أنجبتهم تلك الطليعة المجاهدة. وبالفعل فقد جاء الرد قاسياً كما وعدت الكتائب
في بيانها التأبيني للفقيد أعاد للعالم صورة سلسلة التفجيرات الانتقامية التي نفذتها
الكتائب في أعقاب مقتل مهندس التفجيرات البطل يحيى عياش، وتلقت حركة
المقاومة الإسلامية إثرها أعنف ضربة منذ تأسيسها في عام 1987 استهدفت بناها
التحتية واحتاجت بعدها لأعوام حتى تسترد عافيتها (شارك في تلك الضربة جنود
عرفات والولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني) .
وإذا كان اغتيال أبو هنود وما استتبعه من تفجيرات وإطلاق نار من جانب
المقاومة، وتوغل وقصف من جانب الاحتلال يمثل تصعيداً خطيراً، فإن ذلك
التصعيد لا يمكن بحال فصله عما استقبله واستدبره من عمليات كبيرة من كلا
الجانبين أدت إلى انتقاص من أطراف كلا الجانبين؛ فعملية قتل رحبعام زئيفي
وزير السياحة (الإسرائيلي) أحد أبرز العناصر المجرمة في تشكيل الحكومة
الإسرائيلية على يد عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكذلك محاولة
قتل رئيس الأركان (الإسرائيلي) شاؤول موفاز خلال شهر ديسمبر أثناء جولة
تفقدية على يد نشطاء من الذراع العسكري لحركة فتح (كتائب العودة) ، ونجاح
الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في تنفيذ عملية استشهادية في إحدى
المستوطنات الإسرائيلية أدت إلى قتل العالم النووي الإسرائيلي دافيد باتسيم [يعد
باتسيم واحداً من خمسة علماء نووين يشرفون على تطوير البرنامج النووي
الصهيوني، ويعد أحد المشرفين الإسرائيليين على صنع قنابل صغيرة محملة بمواد
نووية وكيميائية وبيولوجية، وله اتصال واسع بعلماء أمريكيين وروس] ، وكذلك
عمليات اغتيال كوادر نشطاء حماس والجهاد وفتح والشعبية، والقصف المتوالي
لمقار السلطة ولاسيما رئيسها ياسر عرفات وحرسه الخاص وتدمير مروحياته ومنعه
من السفر.. كل هذا يعد دليلاً على أن هذه الحلقة الجديدة من حلقات الصراع
تختلف كثيراً من سابقاتها ومؤشراً لتغيير هائل يطال جميع العناصر الفاعلة في
الصراع؛ إذ يستحيل بحال أن يبقى هذا الوضع على ما هو عليه الآن.
رؤية الأطراف الأربعة:
تأسيساً على ما سبق فإن المتغيرات التي طرأت على الساحتين العالمية
والمحلية قد عدلت بشكل أو بآخر من رؤى وسياسات الأجنحة الفاعلة في الصراع
الإسلامي/ اليهودي في فلسطين:
الكيان الصهيوني:
قبل أقل من عام اختار اليهود سفاحهم شارون تحت شعار (100 يوم للقضاء
على الانتفاضة) من أجل تعويم ثقتهم بأنفسهم وقدرة أجهزتهم الأمنية، وقد أوهمهم
المغبون بصلفه وتكبره أنه قادر على وقف الزحف الأخضر. ولحد الآن صمد
شارون في منصبه كل هذه الفترة رغم قلتها مقارنة برفقائه من حكام دول الطوق
والنوق والمئون تمضي بدلاً من المائة المنشودة التي وعد بها شعبه ولَمَّا تفقد
الانتفاضة الوضاءة من بريقها شيئاً، بل زيدت تألقاً بفعل استشهادييها الذين نما
عددهم بشكل مثير خلال تلك الفترة، وبفعل تلاحم القوى الفلسطينية المقاومة
وتفويت فرص المؤامرة على وحدتها، ولعل سر صمود شارون لا يعود إلى تنفيذ
سياسة الاغتيالات الموجعة ذات الشعبية الإسرائيلية الجارفة بحق ناشطي الانتفاضة
فحسب، ولا اتكاؤه على حكومة وحدة احتلالية بمساندة الثعلب بيريز فحسب؛ بل
لأن القوم قد أعيتهم الحيل في وأد الانتفاضة، ولم يعد في جعبتهم سوى سكين
السفاح فأشهروه! ! لذا فمن نافلة القول الإقرار بأن المأزق الذي خلقته الانتفاضة
المباركة لليهود ليس مأزقاً لشارون وعصابته وحسب وإن كان شارون يجسده وإنما
هو مأزق كيان أفاق على حقيقة مفادها أنه بعد أربعين عاماً من إعلانه بدأت أركانه
تتصدع.
والحاصل الآن أن شارون يريد حلحلة الموقف بالإفادة من المعطيات الجديدة
التي خلفتها أحداث 11 سبتمبر وانكماش الدول العربية وانكفائها أكثر فأكثر،
وهياج الثور الأمريكي وبطشه بكل ما هو إسلامي وفاعل في المنطقة العربية
والإسلامية؛ ولذا فقد أطلق مبادرته بضرورة إنهاء السلطة لكافة أشكال الانتفاضة
بنسبة 100% وتفكيك شبكات النضال الإسلامي (حماس والجهاد) مقابل الإبقاء
على عرفات في منصبه! (أقنع بيريز شارون بتبني صيغة 100% من الجهد
الفلسطيني لوقف العنف بدلاً من 100 % من النتائج، ويبدو ذلك في الظاهر تنازلاً
من الجانب الصهيوني؛ بيد أن الخبيث بيريز أراد بهذه الصيغة الجديدة التي تم
الاتفاق عليها بحضور المبعوث الأمريكي الجنرال زيني إطلاق يد الغدر اغتيالاً
لكوادر الانتفاضة جوار الجهد الخلاق لعرفات وجنده في الزج بمن بقي من هؤلاء
الأبطال على قيد الحياة في سجون السلطة! !) ولخص شارون سياسته الحالية في
مقابلة أجرتها معه صحيفة واشنطن بوست (11/12/2001) حين قال عن
عرفات: (إن هذا سيجعل من الصعب التوصل إلى اتفاقية معه، ولكننا سوف لا
نتخذ أي خطوات خاصة ضده.. لقد حددنا تحركاته لإجباره على اتخاذ إجراءات،
وهو حر الآن ولكن ليس لديه وقت للذهاب إلى الخارج) .
وأضاف رداً على سؤال حول قصف مروحيات عرفات: (لقد علمنا أنه
عندما يكون خارج البلاد فإن الإرهاب يزداد، وعندها يعتقد أنه ليس مسؤولاً)
وقال: (إنه إذا لم يتصرف عرفات فنحن سنتصرف؛ فعندما لا يقوم بالاعتقال
نحن سنعتقل " وضيق شارون الخناق على عرفات في تلك المقابلة حين نفى أن
تكون حماس قوية مثل السلطة الفلسطينية قائلاً: (لا، باستطاعة عرفات أن
يسيطر على الوضع. إنه فقط لم يقم بأي جهد. فإذا لم يكن عرفات هناك فلا أعتقد
أن حماس ستتولى السلطة، بل أعتقد أن فلسطينيين أكثر براجماتية سيتولون
السلطة) وأفاد: (نحن نعرف أنه ما لم ير عرفات نفسه معزولاً تماماً فإنه لن يتخذ
خطوات ... وحتى في هذه الحالة فإن الخطوات ستكون لفترة قصيرة) .
الكيان الصهيوني متمثلاً برئيس حكومته آرييل شارون يراهن اليوم على
خياره القمعي وحتى النهاية ملتحفاً بالدعم اللا محدود من الولايات المتحدة الأمريكية
للوصول إلى إنهاء هذه المعضلة الفلسطينية المزمنة.
الولايات المتحدة الأمريكية:
باتت تتصرف الآن مع قضايا المسلمين وقضية فلسطين في قلب القضايا
بنوع من التبجح؛ فهي قد أرسلت مبعوثها إلى الشرق الأوسط عسكرياً: الجنرال
احتياط أنتوني زيني يتناغم اختياره مع تشكيله حكومة الحرب الأمريكية: (ديك
تشيني كولن باول دونالد رامسفيلد) ليصبح صوته رجع صدى لما يقوله جنرالات
(إسرائيل) ؛ فالصراع برأيهم هو بسبب العنف الفلسطيني الذي لا بد أن يستتبعه
انتقام (إسرائيلي) . وبدلاً من المبعوثين المدنيين الذين كانت ترسلهم واشنطن
للشرق الأوسط سابقاً أصبحت واشنطن لا يعنيها إلا الجانب الأمني من الصراع
وهو ما يتطابق تماماً مع وجهة نظر شارون؛ حيث كان لافتاً أن المباحثات الأخيرة
أجريت بين الجنرال احتياط أمريكي أنتوني زيني، والجنرال احتياط إسرائيلي
مئير داجان، ورئيس جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية العقيد جبريل الرجوب.
وصحيح أن الموقف الأمريكي منحاز دائماً للكيان الصهيوني بيد أنه في
الأخير بات (إسرائيلياً) بنحو لا يقبل الالتباس؛ حيث أخضع خطاب كولن باول
أمام جامعة لويفيل بولاية كنتاكي الأمريكية إلى المراجعة من قبل آرييل شارون
لتعديله حذفاً وإضافة (بلغت تحفظات وملاحظات شارون ستة ملاحظات) قبل أن
يلقيه باول.
الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل نقل عن شخصية أمريكية رفيعة المستوى
في مقاله الرصين بمجلة وجهات نظر (12/2001) حديثاً يختزل رؤية أمريكا في
هذه المرحلة للصراع وخفة وزن العرب فيها، ويجيب على تساؤل هيكل بشأن
برودة العلاقات بين الولايات المتحدة وأصدقائها العرب! جاء فيه: (في واشنطن
وبصفة عامة وفي الظروف العادية قدروا موقف أصدقائهم العرب، لكن طلبات
هؤلاء الأصدقاء زادت عن حدها: معظمهم لهم طلب مستمر طول الوقت من
الولايات المتحدة بأن تضغط على إسرائيل وألا تفعل شيئاً آخر، وكأن للسياسة
الأمريكية في المنطقة وظيفة يمكن اختزالها في مواصلة الضغط على إسرائيل «.
ويواصل القائل كلامه:» لقد سمحت واشنطن لبعض الأطراف العربية بأن
يعلنوا على الملأ آراء ومواقف مخالفة لما تسمعه منهم في الاجتماعات المغلقة،
وكان ذلك عن تقدير لعلاقة هؤلاء الأطراف مع شعوبهم، لكننا الآن في ظرف لا
يحتمل هذه الدرجة من المرونة، وهي في رأيهم ميوعة.
وربما تتذكر (أنهم) في إسرائيل يقولون للناس كل شيء وهذا يطمئن، لكنه
على الجانب العربي لا يعرف الناس عما يجري إلا أقل القليل «.
واختتم بالقول:» إنه لا يستطيع أن يكون صادقاً مع الآخرين من لا يستطيع
أن يكون صادقاً مع أهله، ولعلم الجميع فإن الحكومة الأمريكية لم تطلب من أي
طرف عربي شيئاً إلا واستجاب للطلب بالكامل.
ومع ذلك راح بعض العرب يقولون إنهم (تحفظوا) و (رفضوا) و (منعوا) ،
وكل ذلك يخصم من أرصدة الصديق العربي، ويخصم من بند مهم فيه، وهو
بند الثقة بالنفس والاستناد عند التصرف إلى شرعية معترف بها من الكل، مقبولة
في تعبيرها عنهم، بما لا يضطرهم إلى التغطية على (التصرف) بالإخفاء أو
بالتمويه! «.
ومن هنا يبدو الموقف الأمريكي أكثر وضوحاً وصراحة في احتقاره الكامل
للطرف العربي؛ وتجلى ذلك في رفض بوش برغم وساطة عربية مجرد مصافحة
عرفات خلال تواجدهما في مبنى الأمم المتحدة!
ولا تعنينا مصافحة عرفات وقبلاته، وإنما يعنينا أن الولايات المتحدة قد ألقت
بثقلها السياسي والعسكري وراء تفكيك حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين، وتبعها
الاتحاد الأوروبي الذي طالب عرفات بتفكيك حركتي حماس والجهاد وتحميله
مسؤولية العنف في فلسطين بلهجة وقحة لم تعهد من الاتحاد الأوروبي الذي حافظ
دوماً على توازن لفظي على الأقل في التعاطي مع القضية الفلسطينية ولا سيما أن
الاتحاد غير مسموح له بالتدخل المباشر في المفاوضات بين (إسرائيل)
و (فلسطين) .
ولقد تجلى ذهاب الولايات المتحدة الأمريكية إلى أبعد حد في محاربتها لحق
الفلسطينيين في تحرير أرضهم عندما قررت تجميد أرصدة جمعية الأرض المقدسة
الخيرية، وهى جمعية لا تقوم سوى برعاية أسر الشهداء والمعوقين.
السلطة الفلسطينية:
توقعها اللحظة الراهنة في وضع بالغ الحرج، (إسرائيل) والولايات المتحدة
الأمريكية تضعان لعرفات مهلة محددة لإنجاز مهمة اعتقال كوادر ونشطاء حركتي
حماس والجهاد الإسلاميين، وليست الوطنية والورع هما اللتان تكبلان يدي عرفات
لإتمام المهمة وإنما قوة الحركتين وشعبيتهما الجارفة التي حدت بمهندس (التنسيق
المصري الفلسطيني) د. أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري إلى
القول إن حركتي حماس والجهاد ليستا إرهابيتين وإنما حركتا تحرر وطني، وذلك
برغم موقف الحكم المصري المعروف من كافة الحركات الإسلامية ولتغلغل تلك
الشعبية داخل حركة فتح نفسها؛ حيث لا يفتأ أمين سر حركة فتح مروان البرغوثي
ينوه بدورهما النضالي الوطني.
من جهة أخرى، فإن عرفات يأخذ تهديدات شارون بإطاحته على محمل الجد
لا سيما وهو يرى رجال سلطته أمثال جبريل الرجوب ومحمد دحلان ومحمود
عباس (أبو مازن) وصائب عريقات على أهبة الاستعداد لخلافته إذا ما أعطتهم
(إسرائيل) الضوء الأخضر لذلك.
السلطة إذن في تلك المرحلة الدقيقة تحاول أن تمرر الأزمة دون خسائر،
وتناور بشأن الأوامر (الإسرائيلية) المصلتة على رقابها بشأن حماس والجهاد،
وهي سعت لذلك عبر الاقتراح الذي طرحه نبيل شعث بصدد مقابلة تفكيك حماس
والجهاد بنزع أسلحة المستوطنين وتفكيك وحدات المستعربين في مناطق السلطة،
وهي بهذا تضع القاطرة أمام الحصان أملاً في تجاوز المحنة! غير أن هذه
المناورات السياسية قد لا تجدي كثيراً مع شارون الذي لا يضع خطوطاً حمراء
سوى من دماء الفلسطينيين في طريقه لتحقيق مصلحة (إسرائيل) واقتناص
الفرصة الحالية السانحة.
حركتا حماس والجهاد: كمقاتلي (القاعدة) ليس لهم سوى خيار واحد، وهو
خيار المقاومة حتى الموت، وخصوصاً أن العدو الأمريكي والصهيوني لا يرضيان
لهما سوى التفكيك الكامل، والقتل لعناصرهما أو الاعتقال والتنكيل. والحق أن
الحركتين تديران علاقتهما بالسلطة بقدر عال من الذكاء؛ فهما تنسقان كثيراً مع فتح
(آخر تجليات ذلك اتفاق الهدنة الذي وقعته الأجنحة العسكرية لفتح وحماس والجهاد
والشعبية 10/12/2001) ، وفي ذات الوقت تكبح بقوة السلاح جماح السلطة في
فرض الإقامة الجبرية على زعيم حركة المقاومة الإسلامية الشيخ أحمد ياسين.
السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول:
إطاحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات (يستبعد تماماً قتل الرئيس الفلسطيني
لما لذلك من تأثير على المستويات المحلية والعربية والدولية. وقد دلت دلائل كثيرة
جداً على أن الكيان الصهيوني كان قادراً دوماً على النيل من عرفات عندما تسوء
علاقاته باليهود، ولم يقدم على ذلك مثلما كان أثناء حصار بيروت وأثناء الأزمة
الأخيرة وغيرهما) وهذا يؤدي إلى أحد حالين:
- إما انهيار السلطة الفلسطينية تماماً: إذ تتساوى حظوظ العديد من الأسماء
المرشحة لخلافته، وهو ما قد يخلق حالة من الارتباك بين الأجنحة المتناقضة في
منظمة التحرير الفلسطينية قد تتصاعد لحال من الفوضى والاشتباك إذا ما أصرت
قوى خارجية أمريكية وعربية على فرض خيارها على الأطراف المناضلة في
المنظمة.
وهذه الفرضية قد تعني تدخلاً أمنياً دائماً لقوات الاحتلال في أراضي السلطة
وحضوراً أكبر لحركتي حماس والجهاد برغم تعرضهما لأقصى درجات القمع
واختراقاً استخبارياً أقل لهما.
- الحال الثانية: هي تمكن البراجماتيين الفلسطينيين (الرجوب و..) من
إحكام قبضتهم على السلطة من دون انهيارها، وسعيهم لتنفيذ كل الإجراءات القمعية
بحق المعارضة الفلسطينية التي تأمرهم بها (إسرائيل) وفي كلا الحالين يستشرف
طغام (إسرائيل) المشهد الأفغاني؛ إذ ليس سراً أن شارون يبدي إعجابه بالمجازر
التي نفذها الجيش (الصليبي) الأمريكي بحق المسلمين الأفغان، ويستلهمها
أنموذجاً يصلح للتطبيق في الأراضي المقدسة، ولا يخفي الجزار رغبته في وجود
سلطة فلسطينية لا تنتمي إلى دين أو وطن.
وفي كلا الحالين كذلك سيكون على المقاومة الاستعداد لمرحلة أكثر شراسة
وتضحية.
وفي كلا الحالين يتوقع أن يؤدي تسلط العملاء الواضحين الذين لم يشهد لهم
التاريخ أي دور نضالي (اللهم إلا في نهب أموال الإغاثة) أو الفوضى العارمة إلى
استقطاب لعناصر فتح المناضلة إلى حركتي حماس والجهاد؛ فمن الجدير ذكره أن
هناك جيلاً من نشطاء فتح قد ولدوا من رحم الانتفاضة الأولى (1987) وتربوا
على معان فدائية وكفاحية لا يفهمها مناضلو الفنادق (التوانسة) في منظمة التحرير
الفلسطينية، وأن الفجوة بين هؤلاء وأولئك تتسع يوماً بعد يوم، وربما حدث
الانفصال التام بينهما في حال نفذت (إسرائيل) هذا السيناريو. فما زال أبو عمار
يمثل رمانة الميزان لهذين الجناحين لما له من قبول لدى الطرف البراجماتي،
ولتاريخه (النضالي) السابق، ولانخداع العديد من نشطاء فتح بسياسته المتأرجحة
(على رأس هؤلاء مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح الذي ما تزال أسرته
رهينة بيتهم الذي تحتجزهم فيه سلطات الاحتلال لحين تسليم البرغوثي نفسه لهم ما
تزال كذلك حتى كتابة هذه السطور) . ولعلنا لا نبالغ إذ نقول: إن هذا الاستقطاب
بدأ يحدث منذ فترة.
السيناريو الثاني:
تشديد الضغط على عرفات عبر قصف مقاره ومنعه من السفر وعزله تماماً
لدفعه لتنفيذ الأوامر الأمريكية (الإسرائيلية) ، وهذا السيناريو يرتكن إلى أن حاجة
شارون إلى عرفات ما زالت كبيرة؛ فالختيار ما زال قادراً على ضبط الشارع
الفلسطيني (المنفلت) وغيره لا يملك قدراته ودهاءه.
السيناريو الثالث:
بقاء الحال على ما هو عليه الآن، وهذا السيناريو هو أكثر السيناريوهات
استبعاداً؛ فما طرأ على القضية الفلسطينية والانتفاضة كفيل بنقلها إلى طور آخر
أكثر شراسة.
دخلت الانتفاضة الفلسطينية مرحلة دقيقة ومسننة؛ فالحلقة المفرغة التي تدور
فيها الأطراف جميعها (تضرب قوى الاحتلال الفلسطينيين والمقاومة، فترد
المقاومة، فتضغط قوى الكيان الصهيوني على السلطة فتقمع المقاومين الذين يفلتون
من القتل (الإسرائيلي الانتقائي) ولا بد وأن تتغير معادلاتها؛ إذ إن توازن الدم:
850 شهيداً وأكثر من عشرة آلاف جريح فلسطيني، ونحو 250 قتيلاً و 950
جريحاً يهودياً يمثل عنصر ضغط عالٍ على كافة الأطراف؛ فشارون بدأ يفقد
شعبيته إيذاناً بانهيار ائتلافه، وعرفات بدأ في فقدان سلطته، وكلاهما بصدد العمل
على تدمير المقاومة؛ بينما الشعوب العربية والإسلامية تستهويها مشاهدة
(إرهابيات شارون) .
وهذه المقاومة بدورها تؤرجحها أمواج الأزمة في بحر بعيدة شطآنه؛ ذاك أنها
قد أصبحت عرضة للتفكيك إذا ما استمرت العمليات الاستشهادية أو التضحية بجميع
مكتسبات الانتفاضة وترك الكيان الصهيوني يهريق الدم الفلسطيني، ويتلذذ باغتيال
قادة ونشطاء حماس والجهاد من دون رادع يثأر لأرواح الشهداء.
ولأن قادة حماس السياسيين لا يقلون روعة ولا بهاء عن قادة جناحها
العسكري؛ فقد تبنوا خياراً مرحلياً مسؤولاً يضع جميع التغيرات الآنية في حساباته
ليحد نوعياً من غلواء الصهيونية / المسيحية (التي أغرتها أصوات أجراس
احتفالات أعياد الميلاد في كابول السليبة) بالتقليل من أخطار الإجراءات السلطوية
القمعية من دون أن يسقط خيار الانتفاضة من حساباته؛ وذلك حين قررت قيادة
حماس (تبعها بعد ذلك حركتا الجهاد والشعبية) في النصف الثاني من شهر ديسمبر
الماضي تعليق العمليات الاستشهادية في فلسطين المحتلة 48، وكذلك تعليق إطلاق
قذائف الهاون وصواريخ (قسام 1) مقابل توقف الجانب الصهيوني عن سياسة
الاغتيالات وقتل المدنيين.
حركة حماس اتخذت إذن قرارها الذي بنته على أسس تأخذ في الاعتبار ما
يلي:
1 - سحب البساط من تحت أقدام شارون وعصابته المجرمة، ودفعه تدريجياً
إلى تخفيف الطوق الأمني والحصار والمطالبة الدائمة بدحر حركتي حماس والجهاد
الإسلاميتين.
2 - توسيع الطوق قليلاً عن عنق عرفات، ودفعه إلى اتخاذ موقف أقل
تشدداً حيالها، وربما إنقاذ عرفات شخصياً من الاغتيال السياسي في هذه المرحلة
العصيبة بالذات، والتي يعد فيها عرفات أقل ضرراً من خلفائه القمعيين المنتظرين؛
إذ إن حماس أحرص الآن على انهيار حكومة شارون أكثر من حرصها على
إطاحة عرفات.
3 - الحد من افتراس السلطة الفلسطينية لمناضلي المقاومة الإسلامية،
وتخفيف وطأة القمع عليها.
4 - وأد الفتنة الداخلية ومنع الاحتراب الفلسطيني/ الفلسطيني.
5 - المحافظة على بقاء الحركة كفصيل من فصائل التحرر الوطني (على
حد اعتراف المستشار السياسي للرئيس المصري / أسامة الباز) .
6- اقتصار الانتفاضة - في هذه المرحلة - على الأعمال الاحتجاجية
» السلمية «، والأعمال الفدائية التي تستهدف عسكريين والتي هي بالأساس موجعة
لكنها لا تثير ضجيجاً كالذي تثيره العمليات الاستشهادية - في ظرف عالمي متحفز
لوصم جميع العمليات الجهادية بالإرهاب (يشار في ذلك إلى أن عملية الحدود
الأردنية/» الإسرائيلية «والتي استهدفت عسكريين يهود لم تلق الإدانة ذاتها التي
تلقاها العمليات الاستشهادية) ؛ وذلك بالطبع بحجة استهدافها لمن تدعوهم
» إسرائيل «مدنيين) .
وقد اختارت حماس توقيتاً دقيقاً لإعلان قرارها هذا حيث أرادت إحباط مهمة
الأمريكي الجنرال زيني، وإيصال رسالتين إلى» إسرائيل «والسلطة الفلسطينية
قبل تعليق عملياتها الاستشهادية:
* الأولى: تتعلق بإفهام الكيان الصهيوني أن دماء قادة حماس ليست رخيصة،
وأن الثأر لهم يسمو على كل حسابات الموقف (بدا ذلك في عمليات الثأر لمقتل
المجاهد البطل محمود أبو هنود) .
* الثانية: تقول لعرفات إن حرص حماس على اللحمة الشعبية ومنع
الاحتراب الداخلي لا يعني صمتها على اعتقال أي من كبار رموزها، وأن السلطة
الفلسطينية يجب أن تعيد التفكير أكثر من مرة قبل أن تلبي المطالب» الإسرائيلية «
بطريقة أوتوماتيكية (تصدت حماس بنجاح لعمليتي تحديد إقامة الشيخ أحمد
ياسين واعتقال د. عبد العزيز الرنتيسي) . وأن حماس ستتصدى بكل حزم
للمطالب» الإسرائيلية «الخمسة لوقف إطلاق النار.
خلاصة القول أن حماس والسلطة و» إسرائيل «يتعرضون الآن لمحن
سياسية وعسكرية كبيرة حدت بهم جميعاً إلى اتخاذ سياسات متوازنة بين تطلعاتهم
والضغوط المؤثرة عليهم. وهم جميعاً قد أجروا حساباتهم بدقة تتلاءم مع دقة تلك
المرحلة التي تتبدى فيها بجلاء سنة التدافع الإلهي بين الفئات المتصارعة في
الأرض المباركة. والمراقب الإسلامي لن يخطئه اليقين بديمومة الانتفاضة
كرة حماس الملتهبة بين كفي عرفات وشارون!(171/88)
المسلمون والعالم
المخيمات والمهجرون.. حصاد أم حصيد؟
وائل عبد الغني
تعد قضية المهجرين الفلسطينيين (اللاجئين) نتاجاً لعلاقة غير شرعية
تواطأت أطراف هذه العلاقة على إيجادها، واليوم وبعد أن أصبحت حملاً ثقيلاً
عليهم اتفقوا على حتمية التخلص منها بأي ثمن. وهذا ما عبر عنه أحدهم قائلاً:
«إن الحل الأفضل لقضية المخيمات هو الحل» !
واليوم فإن المخاطر التي تتهدد المخيمات مأوى المشردين لم يسبق لها أن
اجتمعت من قبل: الإغراء بالتوطين، تجفيف منابع الدعم المادي، التخريب
المنظم على أيدي اليهود في الداخل وعلى أيدي عملائهم في لبنان، وسكوت
الأنظمة العربية أو رضاها، وإدارة الأمم المتحدة ظهرها للقضية، وتحفيز حلفاء
واشنطن على فتح شهية المهجرين بإغراءات الهجرة وتوديع حياة البؤس في
المخيمات؛ فالمخيمات هي الشاهد الحي الوحيد والباقي على جريمة اليهود
والأطراف الدولية على أرض فلسطين، والكيان الذي يعبر عن أصحاب الحق الذي
يثير قلق إسرائيل، كما أن مخيمات الداخل مصدر رئيس لحركات المقاومة الداخلية
يعبر عن نبض الأمة الذي يراد له أن يتوقف؛ ومخيمات الخارج هي مشروع على
الطريق.
لا يسعنا ونحن نتحدث عن أبعاد المشكلة أن نتجاهل مفرادت القاموس الغربي
التي أصبحت ثابتاً من ثوابت القضية الفلسطينية، ومظهراً من مظاهرها حتى على
مستوى الخطاب السياسي الإعلامي الداخلي التي أدت بالفعل إلى إضعاف القضية
وتشويه نظرة الأجيال الصاعدة لها؛ مثل اللاجئين (وليس المشردين أو المهجرين)
.. حق العودة (وليس واجب التحرير) .. مرجعية الأمم المتحدة (وليس الإسلام)
.. قرارات الشرعية الدولية (وليس شريعة العدل السماوي) ... ، هذه
المصطلحات وأمثالها تحتاج إلى معالجة تأصيلية بل إلى إحلال الألفاظ التي تعبر
عن حقيقة القضية بتعبيرات القرآن والسنة التي تقدم مفاهيم واضحة تستند إلى
رصيد تاريخي ملهم.
حقائق للتذكير:
إن إلمامة سريعة بتطور الخريطة السكانية لأرض فلسطين خلال القرن
الماضي يكشف لنا قدر الجرائم التي ارتكبت وسوف ترتكب في سبيل تمكين اليهود
من فلسطين؛ فمع مطلع القرن الماضي وفي عام 1903م كان عدد اليهود في
فلسطين 56 ألفاً (8% من السكان) نصفهم تقريباً قدموا من روسيا هرباً من
الاضطهاد القيصري، بينما كان عدد المسلمين: 644 ألف نسمة (92%من
السكان) معهم قلة قليلة من النصارى.
ونتيجة للنشاط الصهيوني العالمي صدر وعد بلفور وكان بمثابة الانطلاقة
الخطيرة في تغيير خريطة فلسطين عن طريق الهجرة؛ إذ قفز تعداد اليهود نتيجة
للحماية البريطانية فبلغ قبيل حرب 1948م إلى 650 ألف نسمة، لكنه لم يتعد
31 % من مجموع السكان (أي أن الرقم تضاعف 11. 6مرة خلال 45 سنة) :
مقابل 2. 065مليون نسمة للمسلمين (تضاعف الرقم 3. 2مرة في نفس الفترة) .
ومع إخفاق اليهود في شراء المزيد من الأراضي بدأت عملية الترحيل
القسري للسكان من أراضيهم، ومع اشتعال الموقف بعد قرار التقسيم عام 1947م
وإعلان قيام الدولة اليهودية ثم وقوع حرب 1948م، تعرض للطرد والتشريد
مليون فلسطيني بخلاف الذين قتلوا أو فقدوا في ذلك الوقت وهو رقم ضخم جداً
بمقاييس تلك الفترة.
وتشير الملفات الإسرائيلية إلى أن عدد القرى التي تعرض أهلها للطرد على
يد القوات اليهودية بلغ 531 قرية تم تفريغها على النحو الآتي: 89% عن طريق
المجازر والأعمال العسكرية، و10% عن طريق الحرب النفسية، و 1% منها
فقط خرج أهلها طواعية. واستمرت عمليات التهجير والتفريغ المنظم دون توقف
في وقت حرب أو وقت سلام. وفي نفس العام 47 صدر قرار الأمم المتحدة رقم
194 بالاعتراف بإسرائيل؛ وحتى لا يعترض العرب ذُيّل القرار بشرط هو إعادة
المهجرين؛ إلا أن الذي كان هو أن الدولة المغتصبة بقيت وزال الشرط ضمن
سياسة الأمر الواقع.
وفي عام 1951م اقتنص اليهود قراراً أخطر من القرارين الأولين يعترف
باعتبار كل يهودي في العالم إسرائيلياً وأحقيته في الهجرة إلى إسرائيل متى قرر
ذلك.
وفي عام 1967م هُجِّر 410 أربعمائة وعشرة آلاف نسمة من الفلسطينيين
إلى خارج الأراضي التي استولى عليها اليهود، وعلينا أن نأخذ في الحسبان ما هو
أكثر من هذا العدد من الذين سلبت حقوقهم واستمروا في العيش تحت نير الاحتلال.
هذا بخلاف السوريين الذين طردوا من الجولان والمصريين الذين أخرجوا من
سيناء. ومنذ أن قامت إسرائيل وحتى الآن لم تتوقف سياسة الطرد والتهجير في
غفلة من الإعلام العربي.
ولو أخذنا في الاعتبار طبيعة النفسية اليهودية والعقيدة الصهيونية، وامتثال
الطريقة الأمريكية في الاحتلال القائم على استئصال السكان الأصليين، لعلمنا أنه
ما منع اليهود من الاستيلاء على الأراضي دفعة واحدة وإبادة السكان حتى آخر
صرخة إلا الخوف من ارتفاع أصوات الجهاد التي فزعت لمصاب أهل فلسطين من
قبل لكنها أخمدت بفعل فاعل! ولولا التآمر الذي وقع حينها لما كان لهم ما كان.
إنشاء المخيمات:
في عام1950م أقيمت الوكالة الدولية لغوث اللاجئين «أونروا» لاحتواء
الموقف الموشك على الانفجار، فأقامت الخيام، وقدمت بعضاً من مواد الإغاثة، ثم
بعد سنوات بنيت لهم أكواخ للاستقرار على أراض خصصتها حكومات البلاد
العربية. وفي الحقيقة فإن إقامة هذه المؤسسة التي ظاهرها الشفقة على الفلسطينيين
وباطنها المساعدة في إيجاد أجواء جديدة لهؤلاء المشردين تساعد على توطينهم بعيداً
عن ديارهم؛ لأن عودة هؤلاء كفيل بإنهاء فكرة الوطن القومي لليهود على أرض
فلسطين، وخاصة إذا ما علمنا أن الأراضي التي سلبت تعادل 92% من الأرض
التي أقيمت عليها إسرائيل.
رباط على الحدود:
ظل المهجرون على مدى نصف قرن وأكثر يعيشون على حدود بلادهم وحتى
الآن في محيط لا يتجاوز إطاره 100 كم2 في انتظار الساعة التي يستعيدون فيها
حقوقهم وديارهم؛ إذ تبلغ نسبة الذين يقيمون في هذا الإطار من سكان ومهجرين
88% من مجموع الفلسطينيين البالغ 8. 25 مليون وفقاً لإحصائيات عام 2000 م.
ونلاحظ صلة اللاجئين في كل دولة بالمدن الفلسطينية القريبة منهم؛ حيث
هاجر أهل الضفة الغربية إلى الأردن، وأهل الشمال نحو سوريا ولبنان، وأهل
الجنوب إلى مصر.. بالإضافة إلى الهجرات الداخلية في غزة والضفة؛ حيث
استقر كل طرف في أقرب مكان إلى داره، وبعد اتفاق أوسلو بدأت أعداد من سكان
غزة الأقل حظاً بالهجرة إلى الضفة؛ حيث التكدس أخف والظروف المعيشية أفضل
نوعاً ما.
خريطة المهجرين:
يتوزع المهجرون الفلسطينيون على 132 دولة في أعداد متفاوتة، ويقيم
الغالبية العظمى منهم في فلسطين والدول المحيطة، وتقديراتهم على النحو الآتي:
*الأردن: 865. 856 مهجراً.
* لبنان: 437. 068 مهجراً.
* سوريا: 476. 610 مهجرين.
* قطاع غزة: 820. 690 مهجراً.
* الضفة الغربية: 699. 354 مهجراً.
داخل أراضي 48 تحت الاحتلال: 258. 750 مهجراً.
ويقيم غالبية هؤلاء داخل المخيمات.
كما توجد أعداد متفاوتة في عدد من الدول العربية تختلف بشأنها التقديرات،
بالإضافة إلى نصف مليون يقيمون في الدول الغربية.
ويجدر بالذكر أن أرقام المهجرين تقديرية لعدم وجود إحصاء رسمي يشملهم،
بالإضافة إلى تشتتهم بين الدول، ولكن التقديرات ترجع لعمليات إحصاء سابقة مع
حساب معدل نمو سنوي مفترض قدره: 3. 5%، ويعد هذا التقدير أكثر
التقديرات توثيقاً من قِبَل عدد من الجهات البحثية المتخصصة.
اتفاقيات السلام والحصاد المر:
كما كان اللاجئون ضحية للحرب كانوا ضحية للسلام، ويكفي في هذا السياق
أن نشير إلى دور كل اتفاقية في خلخلة القضية داخلياً وإضعافها خارجياً. جاءت
كامب ديفيد الأولى لتؤسس للتفريق بين لاجئي (1948م) ، والنازحين (1967م) ،
وقبلت في الإطار العام أن يتم التفاوض مستقبلياً حول عودة مهجري 67 إلى
غزة والضفة الغربية؛ بينما أغفلت تماماً أي حق للاجئي 1948م.
ثم جاءت اتفاقيات «مدريد» لتجعل مرجعية القرار 194 الذي رفضت
إسرائيل اعتباره مرجعية للعودة رغم أنه القرار الذي يعترف بها دولة شرط أن تعيد
المهجرين إلى ديارهم، وقد حولت القضية إلى لجنة مشتركة اجتمعت مرات في
حلقات نقاشية حول تعريف اللاجئ، ومن يحق لهم العودة والمراد بالعودة ... من
غير أن يكون لهذه اللجنة أي صلاحيات ... وانتهت إلى النتيجة المرغوبة إسرائيلياً:
لا شيء! ..
وفي «أوسلو» الأولى والثانية تم تهميش القضية بتأجيل الكلام حولها إلى
مفاوضات الحل النهائي، وحددت إطار عودة «النازحين إلى غزة» ؛ لكن ما تم
الاتفاق عليه لم يكن سوى تكتيك لصهينة الرأي العام العربي خطوة خطوة، لتقبل
ما يريده اليهود في النهاية؛ حيث يعد اليهود عودة اللاجئين أو النازحين خيانة كما
صرح بذلك باراك وغيره.
ثم جاءت «واي ريفر» لإعلان المساومة على الملأ عن هذا الحق صراحة
مقابل بضعة كيلو مترات تتخلى عنها إسرائيل للسلطة الفلسطينية، لكن الشارع
الفلسطيني جاء ضاغطاً بشدة ضد اتخاذ مثل هذه السقطة فلسطينياً، وإن كان قد تم
الاتفاق عليها سراً كما تشير بعض الدراسات، ثم قطع قانون الكنيست قول كل
مفاوض إبان مفاوضات «كامب ديفيد» الثانية بتصفية قضية اللاجئين من جانب
واحد؛ باعتبار أي اتفاق يقضي بعودة اللاجئين اتفاقاً لاغياً وغير ملزم لإسرائيل.
هموم.. في انتظار الحل!
هموم الحياة الفلسطينية عموماً وسكان المخيمات خصوصاً هي مشكلات من
نوع معقد وخاص؛ فهم مع كونهم ضحايا أكبر جرائم العصر الحديث، إلا أن
النظرة العربية الرسمية إلى أفرادهم تبقى نظرة مشوبة بالشكوك! ومع كونهم
مسلمين يقيمون بين ظهراني إخوان لهم إلا أنهم لم ينالوا ما تفرضه حقوق الإسلام
من نصرة وكفالة، بل أصبحوا كما صورهم الغرب صفقة أو مشروع صفقة
سياسية يمكن التفاهم بشأنها في حدود المسموح به إسرائيلياً والمتاح غربياً. هذه
النظرة بحد ذاتها هي أحد أكبر العوامل فيما يعانيه إخواننا الفلسطينيون في
المخيمات، وإن الإشارة إلى بعض ما يعانونه هو دعوة في المقام الأول إلى تغيير
النظرة الرسمية إلى قضيتهم، وحل ما يتفرع عنها من مشاكل.
ومن بين هذه المشاكل والهموم:
* مشكلة الحقوق الكاملة: حق السفر.. حق العمل.. حق التملك.. حق
الحماية الأمنية، حيث يعاني الفلسطينيون من مشاكل لا حصر لها ناتجة عن حملهم
لوثيقة السفر الفلسطينية؛ فهي غير معترف بها لدى كثير من الدول، ويتعرضون
في غالب الدول لنوع من المتابعة الأمنية اللصيقة لتحركاتهم ونشاطاتهم خاصة بعد
اتفاقية «واي ريفر» التي أدخلت الدور الاستخباراتي وجعلته جزءاً من التسوية.
* هناك مشكلة تقابل عدداً كبيراً من المهجرين، وهو عدم الاعتراف بهم من
قِبَل الأونروا؛ حيث لا يوجد في سجلات الأونروا سوى 3. 737. 494 مليون
لاجئ من المقيمين في داخل فلسطين ودول الجوار، أما الذين يقيمون في بقية
الدول وعدد غير قليل من الذين يقيمون في ذات الدول، فغير معترف بهم لاجئين؛
مما يعرض حقهم في العودة والتعويض للضياع، وإذا كان كلامنا عن المخيمات
فلأنها عنوان ورمز للمهجرين، ولأن مشاكل أهلها هي قاسم مشترك بين غالب
المهجرين أو جميعهم.
* عدم كفاية البنية التحتية للمخيمات في توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة
سواء شبكات الصرف والمياه والطرق، أو حتى في المدارس والمستشفيات
والمرافق الأخرى؛ فغالب هذه المرافق قد أنشئت منذ عقود بطاقةٍ تستوعب طاقة
المخيمات، لكنها اليوم مع تقادمها تضيق عن استيعاب الزيادات الكبيرة الناتجة عن
نمو سكان المخيمات.
وقد ازدادت الحالة سوءاً منذ مطلع التسعينيات؛ حيث خفضت عدد من الدول
المانحة حصصها بناء على التوجه الغربي المنسق لتفكيك هذه المخيمات، وتوطين
أهلها، متى أتيحت الفرصة، فتشكو المدارس التي غالبها تابع للأونروا من تكدس
الطلاب داخل الفصول، وعدم كفاية الخدمة التعليمية لهم؛ مما يجعل العملية
التعليمية نوعاً جديداً من المعاناة؛ فالمباني التعليمية كهيئتها دون زيادة أو ترميم،
والدراسة على فترتين أو ثلاث لسد العجز في المباني، وعدد المدرسين لا يكفي
نتيجة لعدم كفاية الميزانية لتوظيف مدرسين جدد، ويزداد هذا الأمر وضوحاً في
المخيمات الأكثر فقراً في لبنان وغزة، ويبقى التعليم المجاني في حدود التعليم
الأساسي والفني. أما الجامعات فغير متاحة إلا لذوي القدرات العالية أو من يظفر
بمنحة من الجامعات العربية أو الأجنبية، وتقدم الجامعات التنصيرية فرصاً غير
قليلة للطلبة سنوياً.
* أدى ضرب البنية التحتية لنشاط الجمعيات الخيرية الإسلامية إلى ازدياد
معدلات الفقر والمرض ومن ثم الجريمة داخل مخيمات القطاع والضفة؛ حيث
نجحت السلطة في هذا الدور، وأخفقت في تقديم البديل رغم تلقيها المساعدات!
* عملية الاستقطاب السياسي كما يحدث في سوريا ولبنان؛ حيث تسيطر
على المخيمات قلة من المنتفعين مدعومة من الدولة المضيفة تتبنى الفكر السائد،
بحيث يسبب تسلط هذه الفئة واستبدادها بالأمر صراعات قوية داخل المخيمات
ويخلف آثاراً هي أغنى ما تكون عنها.
* تعقد مسألة التمثيل؛ حيث هناك أكثر من طرف يمثل المخيمات من
النواحي المختلفة قانونياً واقتصادياً وسياسياً، وعلى المستوى السياسي لا يوجد
تمثيل سياسي رسمي يعبر عن قضايا المهجرين، مما ينشأ عنه ضياع الصوت
الفلسطيني بعيداً عن التأثير في قضاياه المحلية داخل المخيمات. لكن في الفترة
الأخيرة بدأت عدة تجمعات في البروز ونشطت في الحركة والدفاع عن حقوقها
وخاصة بعد أن يئس الجميع من السلطة الفلسطينية في نيل حقوقهم.
* هناك عامل مشترك هو أن تجمع الفلسطينيين في مخيمات أصبح أمراً غير
مرغوب فيه من الدول المضيفة على تفاوت في أسلوب التعبير عن ذلك، ويبلغ
أشدها في لبنان؛ إذ يتعرض المهجرون هناك لكل أنواع الضغط والإهانة يستوي
في ذلك الدولة والطوائف.. فالدولة تفصل القوانين من أجل حرمانهم من العيش
بكرامة، وتمارس ضدهم أشد الإجراءات الأمنية، وتحرمهم من تملك المنازل ومن
ترميم أكواخهم، ومن حرية الحركة والتنقل وحرية العمل، فيمنعون بالقانون من
مزاولة 70 مهنة، بينما تتاح فرص العمل للقادمين من الفليبين وتايلاند، دون أدنى
عقبات! إلى جانب عدم توفير الحماية الكافية لهم من اعتداءات بعض الطوائف
المتربصة، وما زالت الذاكرة حافلة بمشاهد تحالف حركة أمل الشيعية مع
الميلشيات المارونية مع شارون في الثمانينيات في تطويق المخيمات الفلسطينية كما
في مذابح (صبرا وشاتيلا) وغيرهما في لبنان.
* مؤامرات التوطين: تماماً كما يتابع الفلسطينيون عمليات اليهود العسكرية
في الضفة والقطاع فإنهم أصبحوا يتابعون مستجدات التآمر عليهم لتضييع حقوقهم
بعد ما يزيد عن نصف قرن من الرباط والرفض التام لكل العروض البديلة عن
حقوقهم، وكأن نيل أحدهم لجنسية أخرى يهدر حقه في أرضه بينما يبقى حق
اليهودي في نيل الجنسية والأرض حقاً أبدياً! فجعلهم يرفضون أي جنسية،
ويصبرون على مرارات السنين.
ولا يحصي الفلسطينيون عدد المؤامرات من كثرتها، وقد كان من بين
المطروح مؤخراً:
- فتح باب التوطين في سوريا والأردن، وتوطين مهجري لبنان في العراق
في صفقة لرفع الحصار عنه.
- فتح عدد من الدول الغربية الباب أمام هجرة الفلسطينيين، كما حدث من
كل من كندا وبريطانيا وأستراليا.
- حث دول الخليج على توطين مجموعات من الفلسطينيين سراً من خلال
فتح باب التجنس للراغبين، وقد وردت بعض الأنباء عن حدوث ذلك بالفعل في
دولة الإمارات.
- مزيد من التهجير.. مزيد ومزيد!
إن قيام إسرائيل على الفكر الصهيوني يعني أول ما يعني قيامها على
استئصال السكان الأصليين، وقيام دولة يهودية بنسبة 100%؛ ولئن لم يتحقق لها
ذلك بصورة كاملة من قبل لعوامل تاريخية ودينية وجغرافية خاصة، إلا أنها ما
زالت ماضية في استئصال البقية الباقية عبر مئات الإجراءات، وفي صمت تام من
الحكومات العربية، ومن هنا فإن الكلام عربياً عن تطبيق القرارات الدولية
والشرعية الدولية إنما هو كلام للاستهلاك المحلي؛ لأن الجميع يعلم ما تنويه
إسرائيل؛ لأن إسرائيل تسير فيما يخص قضية اللاجئين في اتجاه محدد وفق الفكر
الذي تتبناه بيمينها ويسارها على حد سواء، ومن هنا فإن الكلام عن عودة اللاجئين
هو كلام قد فات أوانه منذ زمن وحسمته البنود السرية في الاتفاقيات السابقة،
وموقفها اليوم كما يستند إلى العقيدة الصهيونية وإلى هذه البنود السرية، فإنه يستند
كذلك إلى إجراءات على الأرض فرضت واقعاً جديداً لا يمكن لإسرائيل التراجع
عنه إلا في ظروف ردع قصوى يعلمها الجميع، هذه الإجراءات لا تقف بأرقام
المهجرين عند حد النمو الطبيعي بل ترهقه بزيادات سنوية في أرقام الضحايا عبر
عدة إجراءات وسياسات وبرامج إسرائيلية تتماشى مع ما تطمح إليه إسرائيل:
* التهويد التام للقدس والضفة، واستيعاب ربع مليون مستوطن في المرحلة
الحالية، وإنهاء الوجود الرسمي الفلسطيني من خلال اختلاق مئات الأسباب
للاستيلاء على أراضي المسلمين ومصادرتها؛ فقد دمرت السلطات الإسرائيلية ما لا
يقل عن 2650 منزلاً من منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك
القدس الشرقية منذ عام 1987م، بسبب عدم حصولها على تراخيص بناء، وكان
من نتيجة ذلك أن عدداً من الفلسطينيين يبلغ 16700 شخص (من بينهم 7300
طفل) فقدوا بيوتهم، بمتوسط 226 منزلاً كل عام إلى جانب 1300 منزل يقيم
فيها رُبع سكان المنطقة «ج» قد صدر بشأنها إزالة نحو 12000 منزل في القدس
الشرقية وحدها، ولم توقف اتفاقيات السلام مثل هذه الجرائم، بل تشير الأرقام إلى
ارتفاع طفيف في المعدل السنوي منذ 1993م وحتى عام 1999م.
وتتواتر الروايات عن الضحايا أنهم يفاجَؤون بالجنود والهادمات دون مقدمات،
ولا يمهلون سوى ربع ساعة لأخذ ما يستطيعون من متاعهم، ويهدم المنزل على
ما تبقى! هذا المشهد المكرور سبب صدمات نفسية عميقة لأصحابها من الأفراد
والأُسر الذين رأوا بيوتهم تهدم أمام أعينهم؛ ليسكنها اليهود فيما بعد، إلى جانب
مصادرة حوالي 700 بطاقة زرقاء سنوياً (من المقدسيين) ؛ مما يعرضهم للحرمان
من الإقامة في موطنهم ومعهم أسرهم، ويتبع ذلك عدم جواز التصرف في أملاكهم
لأي أحد مهما كان، ومن ثم غصب هذه الممتلكات؛ فماذا على هؤلاء إذا ما تحولوا
بسبب هذا القهر إلى قنابل بشرية تطهر أرضهم من بعض الغاصبين؟ !
* تهويد منطقة الخليل: والتي تشمل مدينة الخليل وما حولها كجزء متاخم
للقدس من أجل توطين مليون يهودي حسب ما يخطط له شارون لزيادة الرقعة
اليهودية في القلب الفلسطيني.
* التدمير المنظم لمخيمات الداخل من خلال الغارات الجوية وقتل القادة
المؤثرين داخل المخيمات، وضرب البنية التحتية للمخيمات، والتضييق على
سكانها في التنقل والخروج للعمل، والهدم المتواصل للبيوت الفلسطينية،
وإجراءات التفتيش الحافلة بكل صور الإهانة، ومنع المواد الإغاثية من الوصول
إلى المخيمات أثناء فترات الحصار التي تطول يوماً بعد يوم. كل هذا يحدث
بصورة تفوق الوصف لدرجة أن المفوض العام لوكالة شؤون اللاجئين صرح في
حوار معه مؤخراً أن استمرار الانتفاضة وتخطيها لسنة مثَّل له مفاجأة كبيرة؛ إذ
كان يقدر في ظل الحصار المشدد على التجمعات الفلسطينية ومنع وصول مواد
الإغاثة ومنع خروج الفلسطينيين لأعمالهم ألا تستمر الانتفاضة أكثر من شهرين
على أقصى تقدير له، وهي إدانة واضحة ضد ما يمارس ضد المدن الفلسطينية
عموماً والمخيمات بصفة أخص والتي تزداد فيها المواجهات.
* دفع الدول الغربية للتخلي عن دورها في تمويل مشاريع إغاثة المخيمات،
وقد بدأت الولايات المتحدة وألمانيا منذ بداية التسعينيات في تقليص حصتهما في
الأونروا مما يعني تخفيض مستوى الخدمات المقدمة على ضعفها وقلتها.
* الضغط على الدول العربية المضيفة لتشديد إجراءاتها الأمنية على
المخيمات، وخاصة تحركات القادة والتواجد الخيري الإسلامي الذي يغني
الفلسطينيين عن تكفف الأونروا، ويخفف من تأثير الضغوط الاقتصادية المتزايدة
عليهم، وقد حدث هذا بالفعل في الأردن؛ حيث جمد نشاط عدد من المنظمات هناك،
وفي مؤتمر نظم مؤخراً في عمان منع نصف المشاركين في المؤتمر من دخول
الأردن رغم أن دعوات المشاركة قد أرسلت بإذن من الحكومة وتحت علمها،
وكذلك الأمر في لبنان على ما فيها من تضييق دائم على الفلسطينيين.
وقد كانت مخيمات الداخل الفلسطيني فاتحة هذه السياسة؛ إذ ضربت البنية
التحتية للمنظمات الإسلامية العاملة، واعتقل أبرز قادتها، وحددت حركة الباقين
حتى عبَّر بعض الكتاب الصهاينة عن ذلك بقولهم: «نجح العريف (عرفات) فيما
أخفق فيه الجنرال (رابين) » .
وعلى ما سبق فإن ما حل بالمخيمات الفلسطينية باعتباره رمزاً للصمود
والمرابطة ودليلاً على حق كل المشردين في استعادة حقوق الأمة لا تسأل عنه
الدولة اللقيطة وحدها , وإنما هونتيجة طبيعية لحاصل ضرب مسؤولية جميع
الأطراف بعضها ببعض. بدءا بالمتعهد
البريطاني ثم الراعي الأمريكي والأمم المتحدة والحكومات العربية والسلطة الوطنية ,
وإن تحليل النتائج اليوم يوضح جليا قدر كل طرف ونصيبه من جريمة العصر.(171/97)
المسلمون والعالم
مخيمات اللاجئين الفلسطينيين
في لبنان آلام وآمال
خالد بن عبد الله الخليوي
كم سمعنا عن شيء اسمه «المخيمات الفلسطينية» ، وكم تردد على ألسنة
الباكين على الأمة والمتحسرين على أوضاعها الحديث عن مخيمي «صبرا
وشاتيلا» وما حصل فيهما من المجازر والمظالم من قِبَل اليهود وعلى رأسهم شارون،
ومن قِبَل أعوانهم من الروافض وكتائب النصارى، ولقد صدق المثل القائل:
«ليس الخبر كالمعاينة» و «ليس راء كمن سمع» ؛ فمهما قرأ الإنسان أو ذُكر
له من تفصيلات إلا أن التصور الحقيقي لا يتم إلا بالوقوف على الحدث،
والمعاينة له.
وقد يسَّر الله لي مع بعض الإخوة الأفاضل زيارة المخيمات الفلسطينية في
لبنان، فكان هذا المقال الميداني.
ما سبب وجود المخيمات؟
إن الإجابة عن هذا السؤال لا تحتاج إلى كثير بحث وتأمل؛ إنها الحروب
الطاحنة والهجمة الشرسة، والخيانة العربية، والتواطؤ الخبيث بين نصارى
الغرب ونصارى العرب مع ثالثة الأثافي الصهيونية؛ كل ذلك من أجل بناء هيكل
سليمان المزعوم، وإقامة دولة اليهود كورم خبيث في قلب الأمة الإسلامية وإن كلف
الأمر ما كلف؛ وفعلاً كلف الأمر منذ عام 1947م عشرات الألوف ممن نحسبهم
من الشهداء، وحرق مئات الألوف من المزارع، وهدم ما لا يحصى من المنازل،
وملايين من المشردين الهاربين من جحيم الحرب والتسلط، وهم الذين نحن بصدد
الحديث عنهم لا لمجرد الإخبار فقط وإنما لتوسيع دائرة المسؤولية أمام الله تعالى،
وعسى أن نرزق قلوباً حية، تحيى بحياتها الجوارح فينطق اللسان بالحق، وتبسط
اليد بالبذل، ويجهد الذهن بالتفكير والتخطيط والتأمل لعلَّنا نفوز بوعد الله تبارك
وتعالى: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ]
(العنكبوت: 69) .
ماذا تعني المخيمات، وما واقعها العام؟
إنها الجموع الغفيرة التي خرجت مضطرة من بلادها لتلجأ إلى أقرب مكان
تجد فيه الأمن والأمان؛ وإن كان على حساب أي أمر آخر.
ثلاث يعزّ الصبر عند حلولها ... ويذهل عنها عقل كل لبيب
خروج اضطرار من بلاد تحبها ... وفرقة إخوان، وفقدُ حبيب
وكان من كثرة هذه الأعداد التي هربت ما جعلها تحتل المرتبة الأولى على
مستوى العالم كله في عدد اللاجئين؛ فقد بلغوا في إحصائيات عام 1998م ثلاثة
ملايين وسبعمائة وثلاثة وخمسين ألف نسمة، ويأتي لاجئوا أفغانستان في المرتبة
الثانية بعدهم. ولا عجب أن تحتل الشعوب الإسلامية المراتب الأولى؛ فإن ما يزيد
على 80% من نسبة اللاجئين في العالم هم من المسلمين.
وكان النصيب الأكبر من لاجئي فلسطين في الضفة وقطاع غزة، وفي
الدول الثلاث المجاورة وهي: لبنان، وسورية، والأردن. وأمّا البقية الباقية
فإلى ما تيسر من الدول العربية والأجنبية، وصمد داخل فلسطين ما يقارب ثلاثة
ملايين.
وكان استقبال تلك البلاد لهؤلاء اللاجئين مختلفاً في درجته ومتفاوتاً في دوافعه؛
فكان القبول المبدئي لضيافتهم في أراضٍ مكشوفة نصبت فيها الخيام في بادئ
الأمر ليبدأ الشعب الفلسطيني داخل هذه المخيمات مأساة أخرى لا تقل ضراوة عن
مأساتهم ومعاناتهم من قبل.
ففي سوريا وحدها ما يقارب 400 ألف من اللاجئين يسجل منهم 111712
في المخيمات لدى منظمة الأونروا، وكلهم يعيشون في أوضاع لا يمكن أن تقارن
على الإطلاق بأوضاعهم في لبنان؛ فالفلسطيني في سوريا كالمواطن السوري في
معظم الأمور؛ ففرص العمل متاحة، والحقوق محفوظة، وقل مثل ذلك عن الأردن
التي فيها أكبر عدد من اللاجئين؛ إذ بلغوا مليوناً ونصف مليون؛ بل زادوا عليه،
ومنهم 280191 لاجئاً هم المسجلون في مخيمات وكالة الأونروا.
أما في لبنان فحقاً يتصاغر التعبير بـ «كارثة» أمام أوضاعهم، ولك أن تتصور
كيف تعيش مثل هذه الأعداد الهائلة في مخيمات، وقد سجل 210715 لاجئاً في
مخيمات الأونروا، وقريب منهم خارج إشراف الوكالة وهم يمثلون 10% من
مجموع اللاجئين الذين تفرقوا في شمال البلاد وجنوبها مروراً ببقاعها ليعيشوا في
مخيمات لا تعدو مساحة الكثير منها كيلو متراً مربعاً واحداً، وفي هياكل بنايات أكل
عليها الدهر وشرب، بل أكلت الحروب بعضها ودمرته.
وإن زيارة واحدة لمخيمي (صبرا وشاتيلا) لكافية للتحقق من هذا الوصف؛
إنها مبان يكاد يُقبِّل بعضها بعضاً من شدة تجاورها؛ فواجهة هذه البناية تبعد عن
واجهة التي أمامها متراً واحداً فقط في أحيان كثيرة، بل مررنا بين مبانٍ المسافة
بين واجهاتها يقيناً أقل من المتر، فكم يساعد هذا الواقع في إيجاد بيئة موبوءة
صحياً وخلقياً.
وكالة الأونروا:
في عام 1949م قررت هيئة الأمم المتحدة إنشاء وكالة لغوث اللاجئين أطلق
عليها اسم: «الأونروا» وذلك بعد رفض الدولة العبرية تطبيق القرار رقم
(194) الذي يقضي بعودة اللاجئين إلى أوطانهم.
واتخذت هذه الوكالة «فيينا» مقرّاً لها إلى ما قبل سنوات قليلة، ثم أصبح
المقرّ الرئيسي لها في غزة.
وقد بدأت هذه الوكالة بمباشرة أعمالها، في 1/5/1950م، فقامت بفتح
مراكز لها في الضفة وقطاع غزة، وفي الدول الثلاث المجاورة، لمحاولة رفع
جزء من المعاناة عنهم، وفعلاً قامت الوكالة بعدة برامج غذائية وكسائية وتعليمية،
واختارت للإشراف على تلك البرامج والقيام بها أفراداً من أهل المخيمات أنفسهم،
وقد بلغ العاملون في هذه المنظمة 22000 ألف موظف كلهم فلسطينيون ما عدا مائة
موظف تقريباً.
ولتعلم أن الداعم الأساس لهذه الوكالة من الناحية المادية هي الدول الغربية
بالغين المعجمة، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.. فوا عجباً
كيف يخططون لقتل الضحية ثم يشاركون في تشييعها والبكاء عليها؟ !
إن أمريكا وحدها كانت تشارك بأربعة وسبعين مليون دولار سنوياً للاجئين
الذين يقارب عددهم (ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة) ، أي بمعدل عشرين
دولاراً في السنة لكل لاجئ، لكنها في المقابل تشارك بثمانين مليون دولار سنوياً
للمهاجرين الروس القادمين إلى فلسطين لكي يعيشوا في بيوت اللاجئين أنفسهم، أي
بمعدل ألف ومائتين وثلاثين دولاراً في السنة للمهاجر وهو ما يساوي ستين ضعفاً
مما تدفعه للفلسطيني؛ فأين الذين يلهثون وراء أمريكا ويدافعون عنها، وأنها داعية
السلام وحامية الديمقراطية؟ !
إنها الحرب العقائدية، وما أمريكا وإسرائيل إلا وجهان لعملة واحدة.
وعلى كل حال فمنذ سنة 1984م بدأت خدمات (الأونروا) بالانحدار السريع
وخاصة في المجال الصحي، إلى أن تم ما يسمى بـ «اتفاق أوسلو» 1993م
حيث وصلت أو أوشكت الخدمات أن تصل في انحدارها إلى القاع، فلم تبق على
ما كانت عليه من قبل بل ولا على نصف ما كانت عليه، وإنما تواضعت جهودها
لتصل إلى 20% تقريباً مما كانت تقوم به سابقاً.
التركيبة السياسية والدينية في لبنان:
وهذه القضية من الأمور التي يجب أن نستحضرها ونحن نتحدث عن مآسي
إخواننا الفلسطينيين في لبنان.
فلبنان (صاحب الأربعة ملايين نسمة تقريباً) ذو تركيبة معقدة، كان لها
الأثر الكبير في عدم استقرار البلاد ونشوء الحروب الأهلية فيها؛ ففي لبنان ما
يقارب ثماني عشرة طائفة يشكل المسلمون منها أعلى نسبة؛ حيث يصلون إلى
60 % من عدد السكان، 27% منهم شيعة، و 30% سنة، والبقية القليلة الباقية
من النصيريين والدروز، وأما النصارى فيشكلون 40% ما بين موارنة
وكاثوليك وأرثوذكس.
ومع هذه النسبة للمسلمين، وبالأخص أهل السنة منهم إلا أنهم يأتون في آخر
القائمة؛ فعدد السنة كثير لكنهم أضعف الموجودين، لا لعدم وجود إمكانيات لديهم،
ولا لعدم وجود من يمثلهم في البرلمانات بل ربما وصل من ينتسب إليهم إلى
منصب رئيس الوزراء ولا لعدم وجود من يملك الأموال فيهم؛ ولكن لعدم من يحمل
همهم بصدق ويمثل الإسلام والسنة بحق.
وبناءً على تلك التركيبة أصبحت كل طائفة ترى أن لبنان لها أو على الأقل
يجب أن يكون لها النصيب المرضي منه؛ فالرافضة وبدعم من أمّهم إيران تسيطر
على بعض المواقع، وتدافع عنها وكأنها مملوكة لهم منذ غابر العصور والأزمان،
وسورية النصيرية ترى أن لبنان وخاصة الشمال منه (طرابلس وما حولها) ما هو
إلا محافظة من محافظاتها.
وإسرائيل ما تزال تكرر المحاولات مع إخفاقها ليشمل احتلالها أجزاء كبيرة
من جنوب لبنان الذي يحاذي حدودها الشمالية.
وإن الزائر لهذا البلد لبنان لا يجد أدنى مشقة في الخروج بهذا التصور؛ فهذه
صورة الرئيس النصيري الهالك وابنه، وعبارات التأييد لهما ربما تجدها أكثر من
رئيس وزراء لبنان نفسه، وقل مثل هذا عن الرافضة بدءاً بصور الخميني زعيم
الثورة المزعومة، وانتهاءً بحسن نصر الله زعيم (حزب الشيعة) الحالي والذي
كان قد انشق عن منظمة (أمل) عام 1982م ليصبح مرتبطاً بإيران مباشرة، وكل
له من يبكيه، ومن يتابع أخباره، ومن يتضامن حقاً معه، ومن يدعمه ويدافع عنه
إلا أهل الإسلام وبخاصة أهل السنة منهم؛ فما زلنا نحتاج الكثير والكثير لكي
نصل إلى الحد الأدنى من دعمهم.
المخيمات وشيء من معاناتها:
بقي في لبنان بعد حروبها الأهلية اثنا عشر مخيماً قد تفرقت في شمال البلاد
وجنوبها وسهلها؛ حيث تعيش وضعاً متشابهاً في الفقر، والمجاعة، والحاجة،
وطبيعة الظلم الواقع عليها؛ فهم يعيشون فعلاً على أرض لبنان، لكنهم محرومون
من كل شيء، بخلاف الفلسطينيين النصارى وهم قلة إلا أنهم تمكنوا من الحصول
على الجنسية اللبنانية وبكل سهولة؛ فلهم ما للبنانيين وعليهم ما عليهم؛ ففي
السبعينيات جُنّس أكثر من (خمسين ألفاً) طبقاً للسياسة المعتمدة آنذاك لتكثير عدد
النصارى مقابل الأعداد المتزايدة للمسلمين.
أما المسلمون فليس لهم إلا هذه المخيمات وبصورتها التي أسست عليها، وفي
مخيمات الجنوب ليس لأي أحد أن يدخل للمخيمات أي مادة من مواد البناء التي
يمكن أن تساعد ولو بشيء يسير في إصلاح بعض المباني التي عسى أن تكون
مناسبة للبهائم، فضلاً عن الإنسان!
وليس لأحد أن يهدم في هذه المخيمات جداراً أو يبني فيها آخر.
أما إذا خرج الفلسطيني من أروقة مخيمه بحثاً عن مصدر رزق في مكان آخر
في لبنان، فإنه سيجد الباب موصداً بل ومثقلاً بالأقفال؛ فالفلسطيني ممنوع من كل
وظيفة حكومية؛ وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة فهو ممنوع من (ثلاث وسبعين
وظيفة) منها أن يكون «زبالاً» فضلاً عن أن يكون طبيباً أو مهندساً.
وها هي نبذة عن أحوال تلك المخيمات:
1 - مخيم (نهر البارد) : ويقع في مدينة طرابلس، وفيه ما يقارب ثلاثين
ألفاً.
2 - مخيم (البدّاوي) : ويقع في طرابلس كذلك، وفيه ما يقارب ثمانية
عشر ألفاً.
3 - مخيم (ويفل) : ويقع في مدينة بعلبك، وفيه ستة آلاف نسمة تقريباً.
4 - مخيم (ضبية) : وفيه ما يقارب ثلاثة عشر ألفاً.
5 - مخيما (صبرا وشاتيلا) ، وهو في العاصمة بيروت، وفيه نحو ثمانية
آلاف نسمة.
وما أكثر ما سمعنا عن هذين المخيمين، وهما من أشد المخيمات حاجة مع
أنهما في بيروت العاصمة، مع فارق ما بينه وبين الحضارة المادية والتقدم
التكنولوجي، بل ليس بينه وبين الماء والكهرباء والتعليم إلا تلك البوابة التي تتقدم
كل مخيم، والتي يعسكر عندها أفراد من الجيش اللبناني.
ولم يستفد أهل تلك المخيمات من كونهم في العاصمة إلا الغث من الأخلاق السيئة
المشينة، أما السمين فهم محرومون منه، وهو محرم عليهم في ميزان النظم
المتوالية على تلك الدولة.
وقد روى لنا بعض كبار السن هناك صوراً من مأساة صبرا وشاتيلا التي
كانت عام 1982م، وكيف تكاتف أهل الباطل من يهود ونصارى ورافضة في
إيقاع أبشع صور الظلم والتسلط على أناس عزل لم يرحموا فيهم طفلاً رضيعاً ولا
شيخاً كبيراً ولا امرأة ضعيفة [1] .
كل ذلك بحجة وجود أفراد من المقاومة الفلسطينية داخل المخيم؛ لكن العالم
الإسلامي لم يسكت آنذاك، وإنما فجر قنبلة استنكارية أثرت في اليهود أيما تأثير؛
حيث جعلتهم يستهينون بنا أكثر وأكثر! !
6 - مخيم (مار إلياس) : في مدينة بيروت كذلك، وفيه ما يقارب سبعة
آلاف نسمة.
7 - مخيم (برج البراجنة) : وهو في العاصمة، وفيه ثمانية عشر ألفا
تقريباً.
8 - مخيم (عين الحلوة) : في مدينة صيدا، وهو أكبر المخيمات في تعداد
السكان، ففيه ما يقارب سبعين ألفاً، ولا تزيد مساحته عن 2. 5 كيلو متر مربع.
9 - مخيم (المية مية) : في مدينة صيدا، وفيه ما يقارب ثلاثة آلاف نسمة.
10 - مخيم (البص) ، في مدينة صور، وفيه ثمانية آلاف نسمة تقريباً.
11 - مخيم (البرج الشمالي) : ويقع في مدينة صور، وفيه نحو من
عشرين ألفاً.
12 - مخيم (الرشيدية) : في مدينة صور كذلك، وفيه قريب من عشرين
ألف نسمة.
وملخص القول: أن 70% من فلسطينيي لبنان يعيشون في المخيمات، ولا
يعني هذا أن البقية في أحسن حال؛ بل الجميع لاجئون، ولكن بعضهم غير
مسجلين عند وكالة الغوث (الأونروا) ؛ فلذلك لا تشملهم الإحصائيات الرسمية؛
فوصف (اللاجئ) إنما تطلقه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين
(الأونروا) على الأشخاص الذين كانت فلسطين مكان إقامتهم الطبيعي في المدة
الواقعة بين يونيو (حزيران) 1946م ومايو (أيار) 1948م أي أنهم أقاموا لمدة
سنتين على الأقل في فلسطين قبل عام 1948م، وفي المقابل تشير بعض التقارير
إلى أن 20% من اللاجئين يقيمون في (ثلاثة عشر تجمعاً) غير رسمي.
أهم احتياجاتهم:
قبل أن أبدأ بذكر أهم ما يحتاجون إليه أحب أن أقدّم بين يدي هذا العنصر
ذكر الأساس الذي تنبني عليه معرفة الاحتياجات وتقدير الأوضاع، ألا وهو إقامة
جسور التواصل معهم؛ فإننا إن استطعنا تحقيق هذا المطلب مع ما يبذله إخواننا في
المخيمات من محاولات لإعلان قضيتهم، وإبراز مشكلتهم، وتدويل مأساتهم؛ فإن
بقية المطالب ستتحقق بإذن الله تعالى وبكل يسر وسهولة وخاصة أن طريق
التواصل ما زال مفتوحاً وميسراً إلى حد بعيد؛ منّا إليهم ومنهم إلينا.
وحينما نستوعب هذه المقدمة يأتي الدور لذكر أهم احتياجاتهم.
1 - الدعوة والتعليم:
يوجد في مخيمات الفلسطينيين في لبنان (سبع وسبعون) مدرسة فقط الأكثر
منها تقتصر على المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، وفي نوبتين في الغالب صباحية
ومسائية لتغطية هذه الجموع الغفيرة من الطلاب.
وإنه مما يجدر التذكير به أن الشعب الفلسطيني شعب مسلم سنِّي إلا نزراً
قليلاً من النصارى وغيرهم، وهذا يفيدنا في شيئين أولهما: في معرفة السبب
الأساس في تلك الهجمة الشرسة وذاك التواطؤ العجيب من جميع طوائف لبنان على
المخيمات الفلسطينية، والأمر الثاني: أن هذا يعني سهولة الدعوة وإقامة البرامج
العلمية في أوساطهم.
ثم لا يخفى على الجميع سعة مجالات الدعوة وتنوع وسائلها؛ فلنرسل إليهم
الكتب، ولنهدي لهم الأشرطة، ولنبعث إليهم الدعاة، ولنقم المدارس، ولنكثف هذه
البرامج ولنستمر عليها، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل.
تنبيه وتحذير:
إذا أحببت أخي القارئ أن أطلعك على مكمن الخطر وموضع الألم فإنه ليس
في جوع إخواننا هناك، ولا في عطشهم، ولا في قلة ما في أيديهم؛ وإنما هو في
نقطتين وضربتين تكاد الحيرة تملكك: أيهما أخطر وأوجع؟
الأولى: في خذلان كثير من المسلمين لإخوانهم (حكومات وتجاراً ودعاة
وعلماء) إلا ما شاء الله تعالى، وقليل ما هم.
الثانية: ولربما كانت قاصمة الظهر وهي ما يتعرض له إخواننا هناك من
إغراءات متكررة ربما سقط أمامها بعضهم أو كاد، والتي يقدمها لهم النصارى حيناً،
ويقدمها لهم الرافضة أحياناً أخرى، وقد حدثنا كثير من المشرفين على المخيمات
كم هي المرات التي يعرض عليهم الرافضة تقديم يد العون والمساعدة؛ فهذا مسجد
لم يكتمل يتكفلون بإكماله وفرشه، وهذه روضة أطفال ما زالت فكرة قائمة يتكفلون
بإقامتها على أرض الواقع، وهذه مدرسة قد شيدت ولا مناهج موجودة فلربما تكفلوا
ابتداءً بتهيئة جميع المناهج الدراسية، وبعدد زائد على النسخ المطلوبة، وهنا لا
يستغرب من أنهم ربما تكفلوا بالمناهج الدراسية التي تحددها لجان المخيمات وليسوا
هم؛ كل هذا الخداع ليهزوا نظرتك عنهم، وحكمك السابق عليهم؛ ومن ثم يُدخلون
في المناهج الدراسية ما يريدون، ولربما ضعف البعض (وهم قلة ولله الحمد) أمام
هذه الإغراءات مع علمهم بمنهج الرافضة، لا اقتناعاً بهم، وإنما غضب وضعف
واحتجاج على سكوت إخوانهم المسلمين السنة وانشغالهم عنهم، وهم يسمعون كل
يوم كيف تبدد أموال المسلمين ذات اليمين وذات الشمال.
2 - الماء:
فهو في المخيمات شحيح جد شحيح إلا ما يسَّره الله تعالى على يد بعض أهل
الخير من الجمعيات الإسلامية كالندوة العالمية للشباب الإسلامي وغيرها، ومن
الجمعيات الإسلامية في بعض دول الخليج العربي؛ ففي مخيمي (صبرا وشاتيلا)
على سبيل المثال لم توافق مصلحة مياه بيروت على طلبات الاشتراك، ووكالة
الغوث لم تعد تزودهم بالمياه الضرورية، وما كان من قبل فقد جف ونضب؛ هذا
مع أن الماء عندهم يمكن أن ينبع عذباً أحياناً على عمق لا يزيد على خمسين متراً
فقط، بل ربما كان أقل من ذلك، ويبلغ الحد الأدنى في تكلفة حفر البئر مع جميع
مستلزماته (ستة آلاف دولار تقريباً) .
3 - الكهرباء:
كثير من المخيمات تعتمد على مولدات كهربائية لا تغطي إلا جزءاً يسيراً من
المخيم، ولربما وصل شيء متقطع من الشبكات الحكومية، وفي المقابل فلا تخلو
هذه المخيمات من أجزاء منها ليس فيها كهرباء إطلاقاً؛ فنهارها إلى حد كبير كليلها
في أشد الحاجة إلى مولدات كهربائية.
4 - بناء المساجد:
الجميع يعلم كم للمسجد من أهمية من حيث إنه مكان لأداء أعظم الشعائر،
ومنطلق لكل خير، ولعله من المناسب هنا أن أنبه إلى أهمية استيفاء الدراسة لبناء
أي مسجد، ومعرفة التكاليف بدقة حتى يكون المتبرع على بينة من الأمر، فكم
رأينا هناك وفي غيرها من المساجد التي شُرع في تنفيذها بدون تهيئة المال الكافي
أو وجود من يتكفل به، وقد وقف المشروع عند مرحلة لا تكفي للصلاة فيه ولا
يوجد من يُتمّه، وليست المشكلة الكبرى هنا، وإنما ما يحصل من اهتبال بعض
المبتدعة لمثل هذه الفرص؛ حيث يقومون بإتمام بناء المسجد وما يحتاجه، ومن ثمّ
يجعلونه مسجد ضرار لهم ليصدوا عن سبيل الله تعالى.
5 - إقامة المستوصفات والعيادات الطبية:
الحكومة اللبنانية غير متكفلة بعلاج أهل المخيمات، بل حتى في الحالات
الإسعافية الخطرة، وربما تكفلت وكالة (الأونروا) بشيء من قيمة السرير فقط؛
أما الباقي فعلى المريض إن استطاع إليه سبيلاً وإلا فلا علاج.
والعيادات الحالية عندهم فيها من التواضع الشيء الكبير: نقص شديد في
الأدوية، ونقص أشد في المعدات الأساسية للقيام بعملية التطبيب، ومع ذلك كله فقد
سررنا كثيراً حينما رأينا شيئاً من التضامن من قِبَل بعض الأطباء اللبنانيين مع
إخوانهم المسلمين في المخيمات، وعلى سبيل المثال ما رأيناه في مخيم (بعلبك)
حيث إن بعض الأطباء اللبنانيين قد تركوا عياداتهم في بيروت وغيرها وهي التي
تدر عليهم المال الوفير، فرسوم الكشف هناك تكاد ألاَّ تقل عن (مائة دولار) ،
ليستقروا في المخيمات برسوم لا تزيد عن (خمسة دولارات) للمستطيع منهم،
وكشوف مجانية لغير المستطيع وما أكثرهم؛ فنسأل الله أن يبارك جهودهم، وأن
يقبل عملهم، وأن يشكر لهم.
وإن من أهم ما يحتاجونه في تلك العيادات: إقامة المختبرات؛ إذ تصل تكلفة
تجهيز المختبر الواحد إلى (خمسة وعشرين ألف دولار) ولا يقل عنها أهمية بل
ربما يزيد تجهيز غرف التوليد، وهي معاناة تتجدد معهم عند كل حالة ولادة،
وتصل تكلفة تجهيزها إلى ستة وستين ألف دولار تقريباً.
__________
(1) ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب: أمل والمخيمات الفلسطينية، لعبد الله الغريب، ص 53 وما بعدها.(171/105)
المسلمون والعالم
المخيمات الفلسطينية في الأردن
بوابة الكارثة
إياد الطوباسي [*]
في عام 1948م وبعد اغتصاب فلسطين وقيام الدولة الصهيونية استقبل
الأردن القسط الأكبر من لاجئي 1948م، وتلا ذلك استقبال نازحي 1967م، حيث
يوجد في الأردن اليوم حوالي مليوني فلسطيني يعيش منهم ما نسبته 20% في 13
مخيماً هي: الوحدات، الحسين، الأمير حسن، الطالبية، مادبا، حطين «ماركا» ،
الزرقاء، السخنة، البقعة، جرش «غزة» ، سوف، مخيم الشهيد «الحصن»
ومخيم إربد.
وتشير الإحصائيات المختلفة سواء الإحصائيات الأردنية أو إحصائيات وكالة
الغوث الدولية إلى أن عدد الوحدات السكنية لهذه المخيمات حوالي (32583)
وحدة سكنية متوسط مساحتها حوالي 80 متراً مربعاً لكل وحدة سكنية، ويقطن هذه
المخيمات الفلسطينيون من مختلف مناطق فلسطين؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر
فإن مخيم إربد يشكل توزيع سكانه حسب الإحصائيات الرسمية وحسب البلد
الأصلي 25% من شمال فلسطين، 25% من جنوب فلسطين، 45% من وسط
فلسطين، 5% من الضفة الغربية، في حين يأتي توزيع السكان حسب البلد
الأصلي لسكان مخيم الشهيد «الحصن» 19% من منطقة بيسان، 16% من
طوباس، 13% من بئر السبع، 40% من الخليل جنين، طولكرم، طبريا، يافا،
15% من حيفا.
ويعاني أبناء المخيمات أوضاعاً اقتصادية صعبة للغاية؛ حيث تعتبر
المخيمات من أكبر جيوب الفقر الموجودة ضمن منطقة التعايش السكاني المجاورة
للمخيمات؛ فأغلبية سكان المخيمات لا يملكون مقومات الوضع الاقتصادي المتوسط
ناهيك عن البطالة بين أبناء المخيم وخاصة الشباب منهم. أما الأوضاع الصحية
لهم فهي غاية في السوء ولا ترقى إلى الأوضاع الصحية السليمة؛ حيث إن
المسؤول عنها وكالة الغوث الدولية، فلا يمكن لعيادة صحية متواضعة الأجهزة،
وخدمات محدودة الإمكانيات يراجعها يومياً مئات المواطنين من أبناء المخيمات أن
تستطيع القيام بمهامها بشكل جيد في ظل التزايد السكاني الملحوظ، والتقليص
المستمر للخدمات سواء في مجال الصحة أو البيئة أو حتى التعليم.
وحول ظروف التعليم تشير الإحصائيات إلى بروز العديد من الأطباء
والمهندسين وأساتذة الجامعات وقادة التنظيمات السياسية والعسكرية من سكان هذه
المخيمات رغم الظروف التعليمية الصعبة؛ سواء من حيث عدد الطلاب في الصف
الواحد وسوء التجهيزات التعليمية، أو من حيث عدد أفراد الأسرة في المنزل،
ناهيك عن ظروف الأهل المادية الصعبة؛ فكانت إرادة الكثير من أبناء المخيمات
وظروفهم الصعبة سبباً لبروزهم وتفوقهم على الرغم من عدم تمكن غالبية أبناء
المخيمات من إكمال دراستهم للظروف نفسها.
واليوم وبعد مضي ما يزيد عن خمسين عاماً، ما زالت المخيمات قائمة، وما
زال اللاجئ يستمد هويته من بقائها ومن إصراره على العودة إلى وطنه؛ وخاصة
أن مسألة اللاجئين في القضية الفلسطينية تعتبر الأولى والأكثر تعقيداً في الصراع
مع العدو الصهيوني، والإصرار على حق العودة إلى فلسطين باعتباره حقاً ملزماً
أقرته المواثيق الدولية، والذي يقف في مجابهة المشروع الصهيوني المستند إلى
إنكار حق الفلسطيني والعربي في الإقامة في فلسطين.
ونستطيع أن نؤكد أن اللاجئ الفلسطيني يستوعب ويفهم أن تحويل قضيته من
قضية سياسية بالدرجة الأولى إلى قضية أو مظهر إنساني تستدعي العودة من أجل
لمِّ الشمل أو التوطين تحت شعارات براقة مثل: تحسين الحياة اليومية في
المخيمات، وتحسين البنية التحتية للمخيمات، وتهدف «تحويل القضية» إلى
إنهاء الحق الفلسطيني في أرضه وإلغاء حق العودة والمصير؛ وهو ما ترفضه
الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني، سواء في المخيمات أو في مختلف
مناطق المملكة الأردنية.
و «البيان» تجولت في العديد من المخيمات، وكان لها هذه اللقاءات التي
عبرت بصدق وأمانة عما يجول بخاطرها.
السيد «إياد ناجي أحمد» من سكان مخيم الشهيد «الحصن» أكد في
معرض حديثه حول قضية حق العودة أنه غير راض عن الحلول السلمية
المطروحة التي يجري الحديث عنها والتي لا تشير من قريب أو بعيد إلى عودة
اللاجئين الفلسطينيين مبيناً رفضه لهذه الحلول السلمية غير العادلة.
وقال: إننا جميعاً «أبناء المخيمات» متمسكون بحق العودة مع مطالبتنا بالتعويض
عن السنوات العجاف التي مررنا بها. معرباً عن خشيته من أن تؤدي الحلول
السلمية المطروحة إلى أن يكون الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين وهذا ما يطرحه
الصهاينة، ومن ثَمَّ تندمج المخيمات مع المدن والقرى المحيطة بها، ويشطب اسم
«المخيم» من ذاكرة الشعب الفلسطيني، والذي يعتبر مقدمة لمحو اسم فلسطين
من هذه الذاكرة أيضاً.
وتطرق إلى الظروف المعيشية التي يعانيها أبناء المخيمات في الأردن، مدللاً
على ذلك من خلال معاناة أبناء مخيم الشهيد «الحصن» المجاور لمدينة إربد
مؤكداً سوء الأوضاع الاقتصادية لدى أبناء المخيم وما يصاحب ذلك من بطالة،
ووجود غالبية أبناء المخيم تحت خطر الفقر المدقع، إضافة إلى ما يعانيه أبناء
المخيم من الأوضاع التعليمية والصحية التي تشير بمجملها إلى تدني مستوى
التحصيل العلمي لدى أبناء المخيم والوضع الصحي لعدم كفاية الخدمات الصحية
التي تقدمها وكالة الغوث الدولية.
السيد «فياض وراد الفوارس» رئيس نادي الكرمل في مخيم الشهيد
«الحصن» أوضح موقفه بوصفه لاجئاً فلسطينياً يعيش في الأردن من
الحلول السلمية المطروحة بقوله: إن اليهود لا أمانة لهم ولا يحترمون عهوداً ولا
مواثيق، وإن السنوات الماضية أثبتت صحة ذلك، وإن أيديهم التي يمدونها
للسلام ملوثة بالقتل والبطش والغدر.. أيدٍ ملوثة بالدماء؛ مشيراً إلى الحملات
الإعلامية المضللة التي يقومون بها، والادعاءات الكاذبة لتحسين صورتهم
أمام العالم. وأشار إلى همجية العدو الصهيوني وحملاتهم المسعورة لتهويد القدس
وطمس هويتها العربية الإسلامية والتي تتصدى لها انتفاضة الأقصى
المباركة.
وحول حق العودة أو التعويض، أكد «الفوارس» على حق العودة
والتعويض معاً، العودة إلى الوطن الأم والتعويض عما لحق باللاجئين من تشرد
وضياع خلال السنوات الماضية، مؤكداً أن مستقبل المخيمات في الأردن في
طريقها إلى الزوال بعد تحرير فلسطين وإقامة الدولة المستقلة معتقداً أن ما تقوم به
الحكومة الأردنية من تحسين مستوى البنية التحتية للمخيمات لا تشكل مصدر قلق
للاجئين؛ فمن حق اللاجئ أو النازح أن يعيش بظروف جيدة وخدمات متقدمة داخل
المخيمات لحين العودة إلى وطنه.
وأوضح أن سكان المخيمات في الأردن هم مواطنون أردنيون بحكم القانون
والدستور، وأن تحسين أوضاع هذه الفئة من المواطنين حق دستوري مشروع لا
يمثل التزام الحكومة الأردنية تجاه المخيمات.
المهندس «خير الدين أبو الهيجاء» من سكان مخيم إربد، أشار إلى
الظروف الاجتماعية والنفسية الصعبة التي يعيشها أبناء المخيمات من حيث صعوبة
العيش ضمن ظروف بيئية واقتصادية صعبة إضافة لمعاناتهم جراء فقدانهم وطنهم
وتشردهم وأفراد عائلاتهم بأكثر من مكان ومنطقة.
وقال: إننا لا نراهن على أي حل سياسي لا يضمن حقنا في العودة إلى وطننا
فلسطين، معتبراً أن أي حل لا يضمن حق العودة لجميع أبناء الشعب الفلسطيني
دون استثناء هو حل منقوص، مؤكداً معايشة أبناء الشعب الفلسطيني لجميع
المبادرات والحلول والاتفاقيات السياسية منذ أكثر من خمسين عاماً، وحفظها عن
ظهر قلب، لكنه لا يرى في أي من هذه المحاولات والحلول المطروحة أي أصل
في حل قضيته الفلسطينية.
وأضاف «أبو الهيجاء» بأن الشعب الفلسطيني يدرك ويفهم عدوه بشكل
كامل، ولا يرى حلاً يأتي عن طريق الحلول السياسية، وإنما الحل يكون عن
طريق الجهاد والاستشهاد لاستعادة الحقوق والأرض السليبة، مدللاً بانتفاضة
الأقصى المباركة التي أعادت الثقة لهذا الشعب الجبار ومجاهديه، وبدا الوضوح
في الرؤية بعد أن زالت غشاوة الحلول الاستسلامية التي لن تجلب سوى الذل
والعار.
وأكد المهندس «أبو الهيجاء» أنه ليس مع التوطين أو التعويض تحت أي
ظرف من الظروف، وأنه مع حق العودة القاضي بأن يعود كافة أبناء الشعب
الفلسطيني الذين أخرجوا من ديارهم، مشيراً إلى أن المطالبة بالتعويض عن
سنوات الحرمان التي عاشها الشعب الفلسطيني تكون بعد العودة إلى ديارهم، وهذا
حق تكفله القوانين الوضعية.
وحول الإجراءات التي تقوم بها الحكومة الأردنية لتحسين البنية التحتية
للمخيمات قال: لا أدري إن كان المقصود من خدمة الأمان الاجتماعي التي تنفذها
الحكومة الأردنية بدعم من مؤسسات دولية هي بداية للتوطين أم لا، ولكن كمبدأ
عام، وهو مبدأ إنساني أؤكد على حق اللاجئ الفلسطيني الذي يعيش في المخيمات
أن يعيش في بيئة صحية واجتماعية مناسبة للعيش الكريم، وهذه أبسط الحقوق
التي تعطى لأي إنسان؛ مثل حقه في العمل والتفكير، وهذه حقوق إنسانية عامة لا
بد من المطالبة بها.
المهندس «أحمد الديك» رئيس نادي الجليل في مخيم إربد تطرق إلى
الأوضاع غير المستقرة التي يعانيها أبناء المخيمات في الأردن جراء الأوضاع
الاقتصادية والمعاشية التي يعيشها أبناء المخيمات، وتأثير ذلك على الأوضاع
الاجتماعية والصحية؛ مشيراً إلى تراجع دور وكالة الغوث الدولية تجاه أبناء
المخيمات.
وأكد عقم الحلول السلمية المطروحة حالياً ووسائلها، مشيراً إلى أن الانتفاضة
البطلة هي السبيل الوحيد لإقناع العالم بأن حقوق الشعب الفلسطيني حقوق مقدسة لا
بد من استعادتها مهما طال الزمن.
وأشار «أحمد الديك» إلى أن موقفه مع حق العودة والتعويض معاً، وقال:
إن مستقبل المخيمات في الأردن مرهون بمدى قوة القوى السياسية والعالم العربي،
وإضافة إلى تصميم وإصرار الشعب الفلسطيني على إنهاء معاناته وعودته إلى
وطنه، مؤكداً أن ما تقوم به الحكومة الأردنية تجاه تحسين أوضاع المخيمات في
الفترة الماضية والحالية جاءت لتوفير بيئة صحية واجتماعية لقاطني هذه المخيمات،
وقال: إن الشعب الفلسطيني يعتبر الوطن الأم، والعودة إليه أهم وأقوى من أي
تحسينات تقوم بها الحكومة تجاه المخيمات، وأن العودة قادمة لا ريب فيها.
وأشار السيد «إبراهيم عرعراوي» من مخيم سوف إلى إنشاء مخيم سوف
عام 1967م «بعد النكبة» وتزايد عدد سكانه بعد معركة الكرامة (1968م) ؛
حيث قامت وكالة الغوث الدولية بعد فترة وجيزة بتبديل الخيم التي كان يقيم فيها
النازحون إلى مساكن من «الزينكو» على شكل غرفتين، وأعطت لكل عائلة
غرفة واحدة فقط، مشيراً إلى قيام أبناء المخيم بتطوير مساكنهم وبنائها من الطوب
على المساحات المجاورة بشكل غير منظم، إلى أن جرى تنظيم المخيم وإيصال
خدمات الماء والكهرباء إليه عام 1970م.
وأوضح أن سكان المخيم الآن هم من اللاجئين والنازحين، وأن أوضاعهم
الاجتماعية رغم ظروف التشرد والفقر والبطالة مستقرة إلى حد ما، وأن تعاون
أفراد الأسرة وتكاتفهم وتماسكهم أوجد الجو الاجتماعي المريح.
وأكد «العرعراوي» أن حق العودة والتعويض أمر مرفوض بالنسبة له في
ظل وجود اليهود على أرض فلسطين، وأنه مع تحرير كامل التراب الفلسطيني،
مشيراً إلى توجه الحكومة الأردنية إلى ربط المخيمات مع المناطق المحيطة بها من
خلال تحسين أوضاعها؛ مما سيؤدي إلى إلغاء اسم المخيم وإطلاق اسم جديد عليه
الأمر الذي سيؤثر على الحق المقدس للقضية الفلسطينية، مؤكداً أن حزمة الأمان
الاجتماعي مؤشر جديد لعملية التوطين خاصة بعد توقيع معاهدة «وادي عربة»
التي نصت صراحة على التوطين، ومن ثم تكون حزمة الأمان الاجتماعي الحلقة
شبه الأخيرة لعملية التوطين.
وتطرق «العرعراوي» إلى الأوضاع الصحية والاقتصادية والتعليمية
وغيرها وترديها؛ مؤكداً تراجع الخدمات التي تقدمها وكالة الغوث الدولية في شتى
المجالات وهو ما بات يؤثر على أوضاع أبناء المخيمات.
وأشار الدكتور «زياد الأعرج» طبيب عام في مخيم إربد إلى أن سكان
المخيم يعانون من ظروف اجتماعية واقتصادية سيئة؛ فغالبية أبناء المخيم يعملون
بمهن متواضعة في القطاع الخاص؛ مشيراً إلى أن الأوضاع المعيشية التي يعاني
منها أبناء المخيم هي نفسها التي يعانيها غالبية سكان الأردن، وأنهم لا يصلون للحد
الأدنى من الحياة الكريمة.
وأكد الدكتور «زياد» أن غالبية أبناء المخيمات الفلسطينية في الأردن
يرفضون الحلول السلمية المطروحة من منطلق أن «إسرائيل» لن تعطي شيئاً
أخذته بالقوة للفلسطينيين؛ وخاصة مع تردي الأوضاع العربية الرسمية. وتطرق
إلى دور انتفاضة الأقصى المباركة وتأثيرها على أبناء الأردن بشكل عام وأبناء
المخيمات بشكل خاص، مؤكداً أن الانتفاضة أثبتت أن الحلول السلمية المطروحة
أصبحت هباءً منثوراً.
وأشار إلى أهمية حق العودة والتعويض لجميع أفراد الشعب الفلسطيني،
مؤكداً أن المخيمات باقية ما دامت الأراضي العربية محتلة من قبل العدو الصهيوني.
وأكد الأستاذ «فرج شلهوب» من مخيم غزة أن معاناة أبناء مخيم غزة
تختلف عن معاناة بقية المخيمات الفلسطينية في الأردن من حيث حرمان سكان
المخيم من الجنسية الأردنية أو حصولهم على جواز سفر أردني، وأنهم يعامَلون من
قِبَل الحكومة الأردنية باعتبارهم مواطنين غير أردنيين على عكس سكان بقية
المخيمات، مشيراً إلى أن حجة الحكومة في ذلك أن سكان المخيم قدموا من قطاع
غزة المحتل في حين أن غالبيتهم جاؤوا من مناطق 1948م، حيث غادروا بعد
النكبة باتجاه قطاع غزة وسكنوا هناك المخيمات حتى عام 1967م، وفي ظل
الهزيمة أو النكبة الثانية لجؤوا إلى الأردن.
وأشار إلى أن سكان المخيم البالغ عددهم حوالي 35 ألف نسمة يعانون من
أوضاع اقتصادية واجتماعية سيئة وخاصة أنهم لا يستطيعون العمل في أجهزة
ووظائف الدولة المختلفة، ولأن متوسط دخل الفرد داخل المخيم لا يتجاوز 80
ديناراً شهرياً، وأن غالبيتهم يعملون في قطاع الزراعة. وأشار «شلهوب» إلى
أن غالبية سكان المخيم مع حق العودة وتقرير المصير.
وأشارت مجموعة من سكان مخيم البقعة إلى أهمية حق العودة وضرورة تنفيذ
هذا الحق، معتبرين ذلك إصراراً على مجابهة المشروع الصهيوني المستند إلى
إنكار حق الفلسطيني والعربي في فلسطين والإقامة فيها، وأكدوا أن حق العودة
للاجئين لا يعني أننا ننتقص من الحقوق المدنية للمواطنين الأردنيين من أصل
فلسطيني، موضحاً أن بقاء اللاجئين في الأردن هو بقاء مرحلي مؤقت والأصل
عودتهم، مؤكدين أهمية نضال الشعب الأردني والفلسطيني في الدفاع عن عروبة
فلسطين وإقامة الدولة المستقلة.
وأشارت مجموعة أخرى إلى أن حل مشكلة اللاجئين لن يكون إلا باعتماد
قرار (194) المتعلق بالعودة والتعويض وعدم حل المشكلة بشكل قسري من أي
جهة كانت، وأن يترك الخيار للاجئين أنفسهم، وأن قرارات ما يسمونه بالشرعية
الدولية ضمنت حق العودة والتعويض؛ داعين إلى تطبيق تلك القرارات المتعلقة
بحق العودة للاجئين.
__________
(*) صحفي مقيم في الأردن.(171/113)
المسلمون والعالم
(ندوة) لمحاولة فهم أمريكا
(2 - 2)
خالد أبو الفتوح
في ندوته الافتراضية التي عقدها الكاتب بين مجموعة من الكتب محاولاً فهم
أمريكا.. استعرض في الحلقة الماضية عدة محاور دارت حول: طبيعة نشأة
أمريكا وأثرها على مجتمعها وسياستها، وحقيقة الرأسمالية السائدة فيها وعلاقاتها
بأجهزة الحكم والإعلام، وعلاقتها بالرغبة في نهب الآخرين والهيمنة عليهم،
وحقيقة مكانة الدين في المجتمع الأمريكي، والأسباب الكامنة وراء استهداف العالم
الإسلامي بالعداء، وصور من النفاق السياسي الأمريكي.. ويواصل الكاتب في هذه
الحلقة استعراض نقاط أخرى..
- البيان -
سقوط: من هذه النقطة أصل حديثي المقطوع عن سمات الرأسماليين
(الجمَّاعين) وأمراض المجتمع الأمريكي التي تؤذن بسقوطه، وهي الأمراض نفسها
التي عصفت بنظام جمَّاعين سابق هو نظام الإقطاع.
المجتمع الغربي يعبر عصر الجمَّاعين منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر،
و «الرجال الأغنياء هم الذين يقبضون على مقاليد الأمور فيه. الطبقة الحاكمة
إذن تستمد نفوذها من سيطرتها على الثروة وعلى وسائل الإنتاج، مع أن الطبقات
الأخرى (المقاتلين، المثقفين، والشغيلة) تخضع طوعاً للنخبة المحظوظة. خلال
هذا العصر (عصر الجمَّاعين) يكون نظام الحكومة مغالياً في عدم مركزيته،
وبالنتيجة: يعم الإجرام، وتتفكك العائلة، وتنتشر الدعارة. وفي النهاية تطبع
الفردية المتطرفة النظام الاجتماعي. وقد عرف الغرب نظاماً اجتماعياً اقتصادياً من
هذا النمط خلال الجزء الثاني مما عرف بالعصر الوسيط وهذا ما يدعى عادة إقطاعاً.
اليوم يسود مجدداً النمط نفسه ويسمى رأسمالية. رغم الاختلافات الكثيرة
الظاهرية، فإن الإقطاع والرأسمالية يملكان عدة خصائص مشتركة.. موت
الرأسمالية لا يمكن تفاديه تماماً كما لم يكن ممكناً تفادي موت الإقطاع»
(ص 277) .
ف «الرأسمالية تتشابه كثيراً مع نظام الإقطاع الذي ساد المجتمع الغربي ما
بين عام 900، 1400م، الرأسمالية ليست فقط نظاماً اقتصادياً، ولكنها أيضاً
نظام اجتماعي واقتصادي متلازمان؛ لأنه بدون الإقرار بحق الملكية غير المحدود
للرأسماليين اجتماعياً، فإن عالم الأعمال لن يعيش أكثر من يوم واحد، وإذا بحثنا
عن أسس القوة عند الطبقة الحاكمة، فإن التماثل في النظامين يبدو واضحاً. نفس
الشيء: الفلسفة السياسية والاجتماعية التي يعتمد عليها النظامان تُظهر وحدة أكبر
مما اعترف به حتى الآن.
بالنسبة لعقلية الطبقة الحاكمة: الرأسمالية والإقطاع يكونان شقيقين في تلك
الفترة في الإقطاع كما اليوم في الرأسمالية. الثروة هي المسيطرة في الإقطاع،
الأغنياء يحكمون بفضل السيطرة التي يمارسونها على الأراضي الشاسعة، وهذه
كانت آنذاك عامل الثروة، اليوم: الأغنياء يحكمون لأنهم يسيطرون على الأسهم
والأوراق المالية. الإقطاع كدَّره عراك مستمر حدث بين كبار الملاك العقاريين
الذين كانت الأرض موضوع تنافسهم. الرأسمالية تكدرها الآن حرب صناعية،
حيث تكون الشركات الصغيرة باستمرار فريسة للمجموعات الصناعية الكبرى. في
أوروبا القديمة (القرون الوسطى) كانت الثروة مركزة في أيدي ملاك الأرض:
دوقات، بارونات، كومتات، إنها اليوم مركزة في أيدي الرأسماليين: رؤساء
الشركات، نوابهم، الإداريين. النظام الإقطاعي كان بربرياً ويضطهد الفلاحين
والأقنان، والرأسمالية قاسية ووحشية، تضطهد البلدان النامية والعمال غير
المؤهلين، في الحالتين الاستغلال يقوم على عدم الملكية وعلى الظلم الاقتصادي»
(ص 301 302) .
و «فيما يتعلق بالحياة اليومية توجد أيضاً عدة تماثلات بين الإقطاع
والرأسمالية: الدعارة والانحراف كانا وباء الإقطاع كما هما بالنسبة للرأسمالية اليوم.
آنذاك كما اليوم العلاقات والروابط العائلية تراخت، آنذاك كما اليوم السلطة
السياسية والإدارية غير مركزية. في نظام الإقطاع الفرسان يحاربون باسم ولاتهم،
اليوم حل محل الفرسان الجنرالات والكولونيلات والجيش. باختصار: آنذاك كما
اليوم، العقلية الاستحواذية هي السائدة وهي التي تصنع القانون. لهذه الأسباب
جميعاً أعتبر النظام الإقطاعي والرأسمالية فرعين مختلفين لنفس الشجرة المسماة
عصر الجمَّاعين» (ص 303) .
الرأسمالية الغربية التي تمثلها أمريكا أعظم تمثيل تنحدر، «أعراض هذا
الانحدار في الحاضر يمكن رؤيتها لكل من يتجشم مشقة النظر: معدلات الجريمة
المروعة، تفكك الروابط العائلية وآثارها على المسنين، نسبة الطلاق المرتفعة،
والتسامح الفاضح مع البورنوغرافي (الفن الخليع) والدعارة، وموجة سوء
استخدام المخدرات، وإدمان الكحول، وتحول الفن والرياضة وعملياً كل شيء إلى
تجارة، وعدم إحساس العمال العاملين بالآخرين العاطلين.. هي جميعاً أعراض
أزمة تعصف بالرأسمالية اليوم. إنها جميعاً أعراض لا تظهر إلا في نهاية عصر
الجمَّاعين» (ص 305) .
الإعداد: إن ما يذكره الدكتور (سقوط) عن ظهور أمراض اجتماعية في
المجتمع الأمريكي صحيح تماماً، «وتعكس هذا: الأوضاع الصحية المتفاوتة،
وبنية الثروة والمداخيل الحالية في أمريكا؛ حيث يكسب مدير مؤسسة كمعدل
وسطي ما يبلغ حوالي 90 مرة أكثر مما يتقاضاه العامل الصناعي (مقابل 40
ضعفاً عام 1980م) وفي الوقت نفسه: يكسب 30% من الأمريكيين السود و20%
من الإسبان أقل من حد الفقر الرسمي ويعيشون في مدن الصفائح.
وما يزيد هذه الوضعية خطورة: كمية المخدرات التي يستهلكها الأمريكيون، ووفق
بعض التقديرات: تستهلك الولايات المتحدة التي تضم من 4 إلى 5% من سكان
العالم 50% من الكوكايين العالمي، ويؤدي مثل هذا الإدمان إلى ضغوطات قوية
على الأجهزة الصحية. ولا يقتصر الأمر على علاج الراشدين؛ إذ ولد عام 1989
م وحده 375000 من الأمريكيين وهم مدمنون أصلاً، وخاصة على الكوكايين
والهيرويين.
وبدورها، تغذي المخدرات الجريمة التي تبدو في الولايات المتحدة أعلى من
أي بلد صناعي آخر، وبفضل ما لرابطة National Rifle Association من
سلطة سياسية، يستطيع الأمريكيون اقتناء الأسلحة القاتلة واستخدامها بسهولة تذهل
المراقبين الأجانب. ويقدر أن بحوزة الأمريكيين 60 مليون مسدس و 120 مليون
بندقية، وأنهم يتقاتلون بمعدل 19000 شخص كل سنة بالمسدسات بصورة رئيسة.
ويصل معدل جرائم القتل بالنسبة لعدد السكان إلى أربعة أو خمسة أضعاف ما هو
عليه في أوروبا الغربية، (فيما يصل معدل حوادث الاغتصاب إلى سبعة أضعاف،
والاغتصاب مع العنف إلى عشرة أضعاف) ويعتقد الخبراء أن لهذا العنف جذوراً
ثقافية، ولا يمكن رده حصراً إلى الفقر؛ فمعدل جرائم القتل أعلى بكثير في
نيويورك منه في أكواخ كالكتا [بالهند] مثلاً، وفي سياتل Seattle المدينة
المزدهرة التي اعتبرت مؤخراً الأولى في الولايات المتحدة بالنسبة لنوعية الحياة،
يصل عدد جرائم القتل إلى سبعة أضعاف عددها في بيرمينغهام Birgmingham
في إنجلترا. كما أنه لا يمكننا رغم ذلك تفسير العنف بغياب القمع وتقصير الشرطة؛
فانطلاقاً من الأرقام الأخيرة: تؤوي السجون الأمريكية أكثر من مليون محكوم،
أي نسبة أعلى من تلك التي نجدها في جنوب إفريقيا وفي الاتحاد السوفييتي السابق،
ومن أصل كل 100. 000 أمريكي زنجي نجد 3000 في السجن، فيما كانت
إفريقيا الجنوبية ولفرض التمييز العنصري تسجن 729 أسود من أصل كل
000,100» (ص 196 198) .
هذا، بينما «تبلغ نسبة المجرمين المسجونين في الولايات المتحدة 426 من
أصل كل 100. 000 نسمة، أما المعدل في أستراليا فهو 72، وفي هولندا 42
فقط، وكان المعدل السوفييتي 268 لكل 000,100 ويشكل السود الذين لا
يتجاوز نسبتهم 12% من السكان في أمريكا نصف المساجين تقريباً»
(ص 238) .
طليعة: أضف إلى ما ذكر:
في الأمن: يكشف «التقرير الأخير لـ» صندوق حماية الأطفال «المؤسسة
الرئيسة لحماية الأطفال في الولايات المتحدة رصد الخط البياني الصاعد بلا توقف
للأطفال والمراهقين المقتولين بالأسلحة النارية:» منذ عام 1979م وحتى 1991م
قتل ما يقرب من 50 ألف أمريكي أقل من تسعة عشر عاماً (9 آلاف أقل من
أربعة عشر عاماً، و40 ألفاً بين خمسة عشر وتسعة عشر عاماً) قتلوا برصاصات
أو حوادث أو جرائم متشابكة. في خلال الفترة ذاتها، نجد أن عدد المحتجزين
لارتكاب جرائم قتل وذبح ممن هم دون سن التاسعة عشرة قد تزايد بنسبة 93% «
وحسب ما ورد في التقرير ذاته، فإنهم في الأغلب الشباب الذين يقتلون أو يصيبون
شباباً آخرين» (ص 97) .
وفي العدالة الاجتماعية: «أثبتت إحدى الدراسات التي أعقبت أحد
المؤتمرات، ونشرت في مارس عام 1989م أثبتت أن:» الخمس الأكثر حرماناً
الأقل من مستوى خط الفقر من السكان، رأى انخفاض عائداته بـ 6% من عام
1979م حتى عام 1987م، في نفس الوقت ارتفعت الدخول بنسبة 11% بالنسبة
للخمس الأكثر رفاهية «هذه الإحصاءات قد رصدت أيضاً التضخم، وشملت
المبالغ المنفقة في الدعم الاجتماعي والضرائب، فالخمس الأكثر حرماناً انخفضت
بالفعل عائداته الشخصية بنسبة 9. 8%، بينما ارتفعت العائدات الشخصية للخمس
الأكثر رفاهية بنسبة 15. 6%.
لقد اعترف التقرير ذاته» بالمعازل «الاقتصادية:» فلقد اتسعت الفجوة بين
الأمريكيين الأغنياء والفقراء في الثمانينيات، بحيث أمست في عام 1990م،
عائدات ميلونين ونصف المليون من الأغنياء تساوي مجموع عائدات مائة مليون
مواطن قابعين أسفل السلم الاجتماعي « (مكتب ميزانية الكونجرس، 1989م) »
(ص 90) .
«كما أن هناك» عنصرية اقتصادية «حقيقية تقسم الولايات المتحدة إلى
أمتين؛ ففي هذا البلد الذي يجوع فيه طفل بين كل ثمانية أطفال، لا يَكُف عدد
الأطفال الذين يموتون في الأحياء الأكثر فقراً عن الزيادة، وتتعدى معدلات موت
الأطفال في مثل هذه الأحياء الفقيرة معدَّله في دول مثل سري لانكا وبنما وشيلي
وجاميكا» (ص 98) .
وفي الاقتصاد: تعيش الولايات المتحدة «أعلى بكثير من إمكاناتها:
فاستغلال العالم يتم على نفس النحو الذي تمت به مجازر الهنود، كما لو كانت
مذابح الهنود الحمر لم تكفها، ويبرز هذا التعدي للحدود في التسلط القائم رغم أن
الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأغنى رسمياً في العالم، ولكنها في الواقع
أكثر دولة مدينة أيضاً بما يقدر بـ 3000 مليار دولار من الدين الخاص، ومبلغ
مماثل من الدين العام، وهذا يعني ما يساوي ثلاثة أضعاف ديون كل دول العالم
الثالث مجتمعة» (ص 97) .
وفي الاطمئنان النفسي: «يتساوى حجم تجارة المخدرات مالياً مع حجم
تجارة السيارات والصلب داخل الولايات المتحدة، كما يتزايد الاستهلاك يومياً مع
افتقاد معنى للحياة وتفشي البطالة والإقصاء، ولأسباب أخرى عديدة. كما أصبحت
الغاية الوحيدة لاستهلاك المخدرات هي الإحساس بسعادة التسوق في السوبر ماركت
التي تسمح بها.
وهكذا، فمما له مغزى كبير: أن انتحار المراهقين ترتفع معدلاته في البلدان
الأغنى كما في الولايات المتحدة والسويد ومن ثم ينتحر الشماليون لغياب الغايات،
بينما يموت الجنوبيون لنقص الوسائل!» (ص 42) .
ولكني مع كل ذلك أقول: إن من أهم أسباب الانحطاط في المجتمع الأمريكي
: الانحطاط الثقافي الذي يسوده منذ زمن «ذلك أن انحطاط الثقافة ينبع من تاريخ
الولايات المتحدة ذاتها ومن تكوينها؛ لأن الثقافة لا تلعب أي دور منظم في حياة
المجتمع الأمريكي» (ص 47) .
وقد رصد ألكسيس دي توكفيل هذه الظاهرة في كتابه عن «الديمقراطية
الأمريكية» في عام 1840م عندما قال: «لا أعرف دولة يوجد بها هذا القدر
القليل أو المنعدم لاستقلالية العقل والمناقشة كما في الولايات المتحدة» (ص 65)
أي: ديكتاتورية في الفكر.
و «في القرن العشرين، أصبحت تلك السيطرة على الفكر أكثر إحكاماً،
شخصيات عامة، وباحثون في العلوم السياسية، وصحفيون، وممثلو الصناعة،
ورجال العلاقات العامة التي يتعاظم نموها، وآخرون، اعترفوا بأنه في بلد يصبح
فيه صوت الشعب مسموعاً يكون ضرورياً أن يظل هذا الصوت يقول ما يتناسب
مع النظام العام!» (ص 65) أي: مسايرة العامة وحتى لو كانوا غوغاء!
الإعداد: أحب أن أشير هنا إلى أن الأزمة في ثقافة المجتمع وليست في
نظامه التعليمي، فيؤكد الخبراء: أن «الأزمة ليست موجودة في المدرسة، بل إن
المجتمع الذي بناه الأمريكيون أعطاهم بدوره نظام التعليم الذي يستحقونه، وهم
يرون أن ميل الثقافة الأمريكية إلى الابتذال أي: التركيز على رغبات المستهلك،
وثقافة البوب، والرسوم المتحركة، والضجة واللون واللهو بدل التشجيع على
التفكّر الجدي، هو بمثابة جرح ناتج عن طعنة وجّهها المجتمع إلى جسده، يشاهد
الطفل الأمريكي المتوسط خمسة آلاف ساعة أمام الشاشة الصغيرة قبل أن يدخل إلى
المدرسة، وعندما سيخرج منها يكون قد مكث عشرين ألف ساعة أمامها.
وما يفاقم هذه الثقافة الشبابية غير التفكرية التي تستمر فيما بعد عبر الانجذاب
إلى الرياضة والمنشورات السيئة إنما هو تفككُ العائلة، خاصة في أوساط الزنوج
الأمريكيين، وهو ما يدفع بالكثير من الأمهات إلى مواجهة مصيرهن بمفردهن،
وكذلك تعاظم عدد النساء العاملات الذي يؤدي (وبعكس ما هو سائد في مجتمعات
شرق آسيا) إلى غياب الأم» المربية الأولى «عن البيت خلال فترة طويلة من
النهار، وعدا أطفال بعض المجموعات التي تشدد على أهمية التربية (الأمريكيون
من أصل آسيوي) يتشرب الطفل الأمريكي المتوسط القيمَ التي تنتجها صناعة
ترفيهية فارغة، بدل القيم التي تستند إلى مرجعيات أخلاقية وتنشر الانضباط وحب
التطلع الفكري الذي يدفع إلى التدريب، ومن غير الممكن رغم ذلك الطلب من
المدارس، خاصة في المدن، أن تعالج الأزمة الاجتماعية الثقافية»
(ص 203 204) .
«أليس هذا ما يفسر لماذا يتناقص إقدامُ الأمريكيين على الاقتراع؟ فإذا كان
الأمريكي المتوسط لا يهتم إلا قليلاً بالثقافات الأجنبية، ولا يستطيع تعيين الخليج
العربي على الخريطة؛ فكيف سيفهم حيثيات التدخل في الخارج أو الحاجة إلى
زيادة المساعدات المخصصة للتنمية، أو كيف سيتابع التغيرات التي تُحدثها القوى
العالمية؟» (ص 204 205) .
يجب دائماً أن ننتبه إلى أنه «فيما يتركز قسم كبير من الجدل حول (أفول
وتجدد) الولايات المتحدة على الاقتصاد، فإن فشل النظام التربوي إضافة إلى
النسيج الاجتماعي ورفاهية الناس وحتى حياتهم السياسية يشكل أيضاً موضوعاً
لمناظرات عديدة، وذلك على الأرجح لوجود تخوف من أن يكون العجز عن
المنافسة ناتجاً عن أسباب عميقة وليس فقط مثلاً عن معدل غير كافٍ للتوفير.
والواقع: تبقى الفرضية بأن الشعب الأمريكي قد اختار الطريق السيئ ما يتميز به
أساساً هذا الفكر. وكما يقول المعلق التلفزيوني الشهير جون شانسلور:» القوة
متوافرة، غير أن مجموعة من عوامل الضعف تقوضها ... «» (ص 195) .
المضيف: أفهم من ذلك أن عوامل انحطاط أمريكا تكمن داخلها..
سقوط: في الحقيقة، لو تحدثنا على المستوى المادي فإنه يوجد «في أمريكا
جيل جديد من الاقتصاديين الكلاسيك الجدد بدأ يعترف ببعض فشل الرأسمالية، مثل:
غياب المنافسة الكاملة، قلة إنتاج الخيرات المطلوبة اجتماعياً مثل الطرق
والحدائق، وجود آثار جانبية غير مرغوبة اجتماعياً مثل تلوث الجو وتوسيخ البيئة،
وفوق كل شيء الأزمات الاقتصادية» (ص 298) .
وفي المقابل «المدافعون عن الرأسمالية يؤكدون أن النظام لا زال سليماً،
وأنه لم يشهد في التاريخ مثل هذا الازدهار، وأنه رغم التركيز الهائل للثروات في
بعض الأيدي، فإن أي نظام لم يقدم مثل هذا القدر من الرفاهية والسعادة لهذا العدد
الكبير من المواطنين، هنا بالضبط يخدعون أنفسهم! ؛ الشيء الوحيد الذي له
حساب عندهم هو المادة، ولكن في العمق هذه المادية الفائقة خاصة هذه المادية التي
نراها والنفاق الرأسمالي هما المسؤولان عن كل أمراض المجتمع، قادة العالم
الغربي لا يوحون اليوم لا بالثقة ولا بالاحترام، كل ما يثيرونه هو الغيرة: الغيرة
من حياتهم المرفهة، الغيرة من السهولة التي يخدعون بها الجمهور العام»
(ص 305) .
وكما ذُكِر سابقاً فإنه «حتى في المستوى المادي، بعض ادعاءات الرأسمالية
وليس كلها زائفة. أمريكا التي تضم 6% من سكان العالم تستهلك على الأقل 30%
من الموارد الطبيعية في العالم كله. ومع ذلك يوجد داخل حدودها فقر حاد خاصة
بين السود والأقليات الأخرى فإذا كان هذا أفضل ما تستطيع الرأسمالية عمله بعد أن
تستنزف كل سنة ثلث الموارد العالمية، فإننا نتساءل: لماذا الازدهار الاقتصادي
يكون موضع هذاالصخب؟ !» (ص 306) .
الإعداد: «الواقع أن حجم الاقتصاد الأمريكي، وما يتصف به من تعقيد،
لا يسمحان بتصنيفه في خانة الاقتصاد الضعيف إلى حد اليأس، ولا بالمقابل في
خانة الاقتصاد الجبار: إنه مزيج من القوة والضعف.» (ص 183) هذا إذا
تحدثنا عن الاقتصاد، وهو جانب مهم جداً من وجهة نظري.
ولكني ألفت النظر إلى وجود أبعاد خارجية أيضاً بالنسبة لتقدم أو تأخر (أو
ما تسمونه انحطاط) أمريكا، وخاصة في الجانب الاقتصادي، وهي تتمثل في
المنافسة الشديدة، ليس فقط مع خصومها، بل حتى مع أصدقائها، كما تتمثل في
أولويات الإنفاق والاهتمام بالنسبة لأمريكا مقارنة مع هؤلاء الأصدقاء والحلفاء
«ففي عام 1988م مثلاً خصص أكثر من 65% من الأموال الموجودة للأبحاث
الفدرالية للدفاع، مقابل 15، 0% لحماية البيئة و 2، 0% لتطوير الصناعة.
ولْنُشر هنا أيضاً إلى أن الولايات المتحدة عمدت وهي تخوض سباقاً مكلفاً على
التسلح مع موسكو، ولتحسين حصتها من السوق العالمية.. إلى منازلة حلفاء لها
مثل اليابان وألمانيا اللتين لا تخصصان إلا نسباً أدنى من مواردهما للدفاع،
ويتوفر لهما بذلك ما يلزم من رساميل وجهاز بشري وأبحاث للصناعة التجارية،
أي ما لا يحصل عليه قسمٌ من القاعدة الصناعية الأمريكية. إذاً والحال هذه، يطلب
الأمريكيون من حلفائهم المزيد من المساهمة في الدفاع المشترك؛ بحيث يتمكنون
من عصر النفقات العسكرية لتلبية الحاجات اليومية» (ص 182) .
المضيف: كلامك الأخير يوضح لنا لماذا تصر أمريكا دائماً على إشراك
حلفاء وأصدقاء لها في حروبها المعاصرة حتى لو لم يكن لهؤلاء الحلفاء ناقة ولا
جمل في هذه الحروب، وهنا تختلط مصلحة أمريكا بمصلحة النظام العالمي الذي
روجته ثم أعلنت نفسها حامية له.
نشوء [1] : دعني أوضح لك الأمر بجلاء أكثر وأضرب لك مثالاً: عندما
تكون في سباق ما: لا يعد تقدمك للأمام وحده تقدماً، ولكن ينبغي أن يقاس هذا
التقدم نسبة إلى مواقف منافسيك الآخرين، فلو كنت تتقدم ومنافسوك يتقدمون أكثر
منك فإنك في الحقيقة تعد متأخراً.. أليس كذلك؟ وقد يزيد من صعوبة موقفك وجود
أثقال تحملها وحدك أو وجود انحراف في مسار سعيك للوصول للهدف، لذا: فمن
طرق تحقيق تقدمك: إلقاء بعض هذه الأثقال على منافسيك، فإذا نجحت في ذلك
فإنك سوف تتخفف منها ويزداد تقدمك في الوقت الذي يقل فيه تقدم منافسيك نتيجة
الأثقال التي أُلقيت عليهم، ومن هذه الطرق أيضاً: تصحيح مسار سعيك نحو
الهدف أو وضع منافسيك في مسار خاطئ يبعدهم عن الوصول إلى الهدف.. تعال
نطبق ذلك على التنافس (أو الصراع) بين الدول، فأقول:
«إن القوى النسبية لدول المقدمة ذات التأثير على الشؤون المالية العالمية لن
تبقى ثابتة أبداً؛ لسببين: أولهما: تباين معدل النمو للمجتمعات المختلفة، وثانيهما:
تفاوت الاتجاهات التكنولوجية والتنظيمية التي تأتي في نهاية المطاف بمنفعة
كبرى لهذا المجتمع على حساب الآخر. وهنا نذكر على سبيل الذكر أن قدوم السفن
الشراعية ذات القدرة على الإبحار لمسافات طويلة والمزودة بالمدفعية، وكذلك
نشوء التجارة عبر المحيط الأطلسي بعد عام 1500م، لم يأتيا بالمنفعة (المتساوية)
لجميع أوروبا، بل إن بعضها انتفع أكثر بكثير من البعض الآخر. كما أزاد
التطور الأخير الذي شهدته الطاقة البخارية وكذلك نمو مصادر الفحم والمعادن من
القوة النسبية لبعض البلدان، وبالتالي: قلل من القوة النسبية لبلدان أخرى. فالبلدان
حيثما أدركت أن قدرتها الإنتاجية قد تعاظمت كان يسيراً عليها أن تتحمل أعباء
الإنفاق على تسليح واسع النطاق في عصر السلم، وأن تحافظ على جيش جرار
وأساطيل ضخمة تأتيها بالذي تحتاجه في أيام الحرب. قد لا يبدو هذا التعبير
ناضجاً من وجهة النظر التجارية، لكن الثروة سلاح لدعم القوة العسكرية، والقوة
العسكرية ثروة مكتنزة تتيح الحصول على الثروة وحمايتها. فلو خصصت الدولة
نسبة كبيرة من مصادرها لأغراض عسكرية فحسب بدلاً من توظيفها لأغراض
إيجاد الثروة وتنميتها لاختطت لنفسها طريق التداعي على المدى البعيد. وستلقي
الدولة بنفسها في خطر توسعها الاستراتيجي المفرط أي احتلالها لمناطق شاسعة أو
ولوجها حروباً باهظة التكاليف لو رجحت كفة الإنفاق الهائل على مثل هذا التوسع
الخارجي الفائدة المرجوة منه، وتلك مصيبة ستزداد حدة عندما تدخل تلك الدولة
مرحلة الانهيار الاقتصادي النسبي. ويبين لنا تاريخ نشأة وسقوط بلدان كانت
طليعية في ميزان القوى العظمى منذ التقدم التي شهدته أوروبا خلال القرن السادس
عشر (إسبانيا هولندا فرنسا الإمبراطورية البريطانية وحديثاً الولايات المتحدة)
ترابطاً دالاً (على المدى البعيد) بين الإنتاج ونمو عوائده من جهة وبين القوة
العسكرية من جهة أخرى» (ص 12 13) .
الإعداد: وهناك بُعْد آخر في هذا الموضوع، وهو بعد التدخل (الأجنبي)
في بنية المجتمع والدولة الأمريكية نتيجة تبني سياسة العولمة بصورة واسعة مؤخراً؛
فالعولمة كما أنها تتيح الفرصة لتدخل أمريكا في العالم فإنها أيضاً يمكن أن تتيح
الفرصة لتدخل الآخرين في أمريكا والتأثير فيها «ويتعاظم الآن هذا الاهتمام
بالوضعية الاقتصادية الأمريكية، في جو من القلق المتزايد حول ما قد تستتبعه
الميول الراهنة من نتائج تطول الأمن القومي والقوة الأمريكية وموقعها في الشؤون
العالمية. ماذا سيجري إذا ما امتلك بعضُ الأجانب احتكاراً في صناعات تزوّد
البنتاغون؟ ، أو إذا لم يعد بالإمكان الحصول على سلعة ذات أهمية عسكرية كبرى
إلا من الخارج؟ هل سيُدفع ثمن سياسي إضافة إلى الثمن المالي من جراء هذه
التبعية؟ ( ... ) وماذا سيحصل إذا ما بات الاقتصاد الأمريكي ينمو بنصف سرعة
اليابان أوالمجموعة الأوروبية طوال العشر أو العشرين سنة المقبلة؟ ، هل يستمر
توازن القوى المنتجة بالتبدل، لكي تُخلع الولايات المتحدة في نهاية المطاف عن
المرتبة الأولى؟» (ص 191 193) .
طليعة: اسمحوا لي أن أسجل نقطتين بعد هذا الكلام الجيد:
النقطة الأولى: هي عن العلاقة بين أمريكا والقوى الدولية الأخرى، فأوروبا
«لم تعد الحليف المؤكد والدائم للولايات المتحدة الأمريكية. ولم يظهر هذا الموقف
في معاهدة ماستريخت فقط؛ فتلك المعاهدة التي تهدف منذ توقيعها إلى استقطاب
كامل لأوروبا بجعلها ملحقة خاضعة وثانوية لحلف الأطلنطي، ما زالت تظهر يوماً
بعد يوم آثارها السلبية وأضرارها الاقتصادية والثقافية، وتوضح أكثر فأكثر انقسام
الأوروبيين فيما بينهم (....) يتلازم هذا الانقسام مع تحول الولايات المتحدة
الأمريكية من أكبر دولة دائنة في العالم إلى أكبر دولة مدينة في العالم. ومعدل
الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية يعد الأقل بين الدول الصناعية الكبرى؛
فبرغم قوتها العسكرية التي لا تعتمد على قوة المقاتلين والتي لا تتمنى كما تشير
تقارير البنتاجون إلا دخول حروب» لا تخسر فيها قتيلاً واحداً «، وذلك بإمكاناتها
التقنية العالية الخاصة بإدارة المعارك عبر الضغط على أزرار الكومبيوتر والمراقبة
بشاشات الرادار، بهدف أن يصبح قادتها بذلك أسياد العالم.. برغم كل ذلك تحولت
الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً إلى عملاق بكعب» أخيل «» (ص 35 36) .
«لهذا الضعف الواضح والقصور، تقامر الولايات المتحدة حتى الآن وحتى
إشعار آخر، على سياسة التسليح لمواجهة صعود أي عمالقة آخرين إلى قمة العالم
التي تعتليها. ومن ثم: فهي لا تسلح فقط مرتزقها الرئيسي في الشرق الأوسط (
إسرائيل) تسليحاً كثيفاً، بل تسعى أيضاً لعرقلة صعود الصين، بينما تسعى
إنجلترا إلى تمييع عودة هونج كونج إلى الصين، وتبعث الولايات المتحدة طائرات
تقدر قيمتها بأربعة مليارات ونصف المليار إلى تايوان، كما تبيع حليفتها فرنسا
لتايوان 60 طائرة ميراج، وذلك للحيلولة دون أن تصبح الصين الموحدة قوة
عالمية بسوقها الداخلية المحتشدة بمليار ومائتي مليون نسمة، وبمواردها الطبيعية
الهائلة، وبأيديها العاملة الكادحة» (ص 36) ، وهذا يقودنا إلى:
النقطة الثانية: والتي هي عن مكانة التسلح والحروب في الاستراتيجية
الأمريكية الساعية إلى الهيمنة على العالم؛ فمن المعروف أنه «في صبيحة الحرب
العالمية الثانية، حددت الولايات المتحدة معالم خططها الجيوسياسية، إذ إن
مجموعات بحث في» معهد العلاقات الخارجية « (المؤثر جداً في عالم المال وفي
عالم السياسة الخارجية) ، ووزارة الخارجية، قد وضعا مصطلح ما يسمى بـ
» المجال الكبير «، وهو ما يجب أن يظل خاضعاً لمصالح الاقتصاد الأمريكي،
ويجب أن يضم على الأقل نصف العالم الغربي والشرق الأقصى والإمبراطورية
البريطانية القديمة.» وبرغم خضوعها، فإنه يجب مع ذلك في حدود الممكن
تنميتها وتطويرها لتكوّن نظاماً كاملاً ومستقلاً نسبياً، وتضم في كل الأحوال أوروپا
الغربية وخزانات الطاقة بالشرق الأوسط والتي تتحول لتصبح في يد الولايات
المتحدة «.
(نعوم تشومسكي:» الأيديولوجية والسلطة «. الناشر إبو ص 20) »
(ص 73 74)
وقد كتب جورج كينان رئيس إدارة الدولة لفريق التخطيط عام 1948م (
وثيقة هيمنة) قال فيها صراحة:
«نحن نملك حوالي 50% من ثروة العالم، غير أننا نمثل 3، 6% من
سكانه فقط.. وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن تجنب أن نكون هدفاً للضغينة والغيرة
.. فمهمتنا الحقيقية في الفترة القادمة هي: تطوير نظام للعلاقات يسمح لنا بالحفاظ
على هذه المكانة، دون تعريض أمننا القومي للخطر. ولتحقيق هذا علينا أن
نتخلص من أي رومانتيكية، وأن نكف عن الحلم، مع البقاء متيقظين. ويتعين أن
يكون كل تركيزنا منصباً على أهدافنا القومية المباشرة والفورية، وألا يصيبنا
الغرور. ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا اليوم باتباع رفاهية حب الغير والخير (!)
على الصعيد العالمي. وينبغي أن نتوقف عن الحديث عن أهداف كبيرة غير محددة
فيما يخص الشرق الأقصى؛ فهو غير قابل للتنفيذ، وكذلك حقوق الإنسان، ورفع
مستوى المعيشة، وإرساء الديمقراطية. ولن يكون بعيداً اليوم الذي سيكون علينا
فيه استخدام القوة» .
(دراسات سياسة التخطيط (P. P. S. لـ 23 فبراير 1948م) «
(ص 63) .
كما عبر وزير الدفاع الأمريكي السابق قبل أن يتبوأ هذا المنصب.. عبّر
بوضوح عن أسلوب السيطرة المتوقع من أمريكا، وذلك عندما قال:» إن برامج
التعليم في الكليات العسكرية الأمريكية تتغير حسب الأهداف. ولهذا أعلنت الكليات
الحربية لتلاميذها أن الدراسات الاستراتيجية للحرب ستتركز حول الحرب في
الريف، ومكافحة الإرهاب ومعالجة الأزمات «ذات التكثيف الضعيف» ، أي
الحرب المحدودة، وعلى سبيل المثال: غزو بنما؛ لأن الصراعات المحتملة قد
تستوجب حرباً «متوسطة الكثافة» مع العدو القوي في العالم الثالث، مما يحتم
اهتماماً خاصاً، وبالأخص إذا اعتبرنا القوة احتياجاً حيوياً لفرض السيطرة على
أقاليم ومناطق جديدة للحافظ على الإمكانية المفتوحة للوصول إلى الأسواق والمواد
الأولية البعيدة «هكذا قال السيناتور ويليام كوهين، من لجنة القوات المسلحة.
(مايكل كلير:» القوات الأمريكية تواجه الجنوب «زNationس (جريدة
الأمة) ، الأول من يونيو عام 1990م) » (ص 80 81) .
و «لقد تأكدت الرغبة الواضحة للإدارة الأمريكية في الهيمنة على العالم عقب
تدمير العراق. ولقد أبرزت وثيقتان للپنتاجون هذا التوجه بوضوح: الأولى تحت
إدارة پول دي وولفوفيتش، والأخرى تحت إدارة الأميرال جيريميا نائب رئيس
لجنة رئاسة الأركان. وفيما يلي أربعة مقتطفات منهما:
*» الولايات المتحدة هي الضامن للنظام العالمي، لذلك يجب أن نتصرف
باستقلالية في حال وقوع كارثة تتطلب رد فعل سريع، أو عندما يصعب تجميع
موقف عالمي موحد «.
*» علينا التحرك لمنع تكوين نظام أمني بأوروپا، يمكنه تهديد توازن حلف
شمال الأطلنطي «.
*» إذابة ألمانيا واليابان في النظام الأمني الجماعي الذي تقوده الولايات
المتحدة الأمريكية «.
*» إقناع جميع المنافسين المحتملين بعدم ضرورة التطفل للعب دور عالمي
أكبر من الذي يلعبونه الآن بالفعل «.
» للوصول إلى ذلك يجب الحفاظ على وضع القوة الهائلة الخاصة بنا وتخليد
الهيمنة عبر إيقاع الهزيمة بأسلوب مدمر وقوة عسكرية تكفي لردع أي أمة أو
مجموعة من الأمم عن تحدي إرادة الولايات المتحدة. وذلك يجعلنا نضع في
الاعتبار رغبات ومصالح الدول الصناعية المتقدمة لكي لا نشجعها على مجابهة
القيادة الأمريكية، أو أن تسعى إلى إدانة النظام السياسي والاقتصادي الموجود «.
(كتبها پول دي لاجورس (مدير مجلة» الدفاع القومي «في» لوموند
ديپلوماتيك «الفرنسية، في أبريل عام 1992م) » (ص 82 83) .
المضيف: كلام مهم ومفيد، ولكني ألاحظ أننا ابتعدنا بعض الشيء عن
مسار حديثنا؛ فقد كنا نتحدث عن عوامل الانحطاط الكامنة في أمريكا؛ وتطرق
الحديث إلى العوامل الخارجية، ثم علاقة أمريكا بالآخرين واستراتيجيتها في
الهيمنة.. إذا أردنا إكمال الحديث من نقطة عوامل الانحطاط، تُرى ما هي رؤيتكم
للمستقبل؟
طليعة: ما ذكرته سابقاً لا ينقطع عن الحديث عن عوامل الانحطاط، بل يقدم
تصوراً للمستقبل!
سقوط: على صعيد الصراعات مع (الآخر) فإني أتوقع أنه في «عام
2000 الصراعات الداخلية التي تختمر سواء قبل أو بعد عام 2000 [2] سوف
تنتهي بأن تصبح على مستوى عالمي. نزاع عالمي يضع العالم كله في حالة
هيجان. ومن المحتمل جداً أن المخزون المتكون في العالم بفضل مصانع الأسلحة
الأمريكية والروسية والأوروپية، سوف يجد فرصته للتدخل بشكل أو بآخر، في
خلال هذا الاضطراب تبرز الحركة الروحية الجديدة إلى السطح» (ص 323) .
نشوء: وإذا وقع ذلك فإنه حتماً ستكون هناك نتائج كارثية على بعض
الأطراف المشاركة فيها، وقد تستفيد منها أطراف أخرى؛ لأنه «إذا كانت الحرب
قد أثرت بقسوة على بعض البلدان، فإن بلداناً أخرى أفلتت من لوعتها بل وتحسنت
أحوال بلدان أخرى بسببها؛ وما ذلك إلا لأن للحرب الحديثة والإنتاجية الصناعية
التي تتولد عنها نتائج إيجابية. واستناداً إلى المعايير الاقتصادية والتكنولوجية
البحتة نرى أن هذه السنين قد شهدت تطورات عديدة؛ في إنتاج السيارات
والجرارات، وفي الطيران، وتكرير النفط والمواد الكيماوية، وفي الصناعات
الكهربائية وسبك المعادن، والتبريد والتعليب، وهكذا بالنسبة لصناعات أخرى.
وسيكون من الطبيعي الاستفادة تجارياً من هذه التطورات الاقتصادية لو كان البلد
بعيداً عن نيران الخطوط الأمامية. وهكذا وجدت [في السابق] الولايات المتحدة
تحديداً ومعها كندا وأستراليا وجنوب إفريقيا والهند وأجزاء من أمريكا الجنوبية،
وجدت اقتصادياتها تنمو وتحفز بالطلب المتزايد لأوروپاالتي ترنحت بحرب
استنزاف من الصناعات والمواد الخام والمواد الغذائية. وكما هو شأن الصراعات
التجارية السابقة، فإن مصائب قوم عند قوم فوائد شريطة أن يتجنب القوم المستفيد
كلفة الحرب، أو أن يحمي نفسه في أقل تقدير من عصفة الحرب الكلية»
(ص 423 424) .
سقوط: أما على المستوى الداخلي للمجتمع الرأسمالي وعلى رأسه أمريكا فإن
«التاريخ يقول لنا إنه عندما يكتسب القادة عقلية استحواذية مفرطة، ويفقدون
الإحساس بمعاناة الفقراء، فإن الوضع الاقتصادي يسوء حتى يقود إلى ثورة لا مفر
منها. هذا ما حدث قريباً في الكتلة السوفييتية، ويحدث في كل مرة يسود فيها
الطغيان» (ص 346) .
ف «الدراسة الجادة لأهم ثورات العالم: الثورة الفرنسية، الثورة البلشفية
... ثورة ماو ... إلخ، تُظهر قضية مشتركة: أنها اندلعت جميعاً بسبب إفراط
بيروقراطي شمولي غير مبالٍ بظروف الجماهير وبسبب تدخل الرأسماليين المثقفين.
الغول البيروقراطي نفسه يهدد اليوم بتقويض العالم الغربي، هذا الغول
يتضخم يومياً ومستمر في ذلك، في المستقبل القريب ينتهي بإرغام الجماهير على
رفع السلاح لكنسه هو والذين أوجدوه» (ص 307) .
«التركز المتطرف للسلطة السياسية في الكتلة السوفييتية أدى إلى انهيار
الشيوعية، والتركز المتطرف للثروة في الغرب يسرع بسقوط الرأسمالية»
(ص 347) .
طليعة: في الحقيقة فإن المظالم التي اقترفها هذا المجتمع مستمرة منذ زمن
بعيد، وقد طالت أمماً كثيرة في بقاع عديدة من العالم وليست داخل الغرب وأمريكا
فقط:
«* فمن الذي يعيد لپيرو الـ 185 ألف كيلو جرام من الذهب، والـ 16
مليون كيلو جرام من الفضة، التي اعترف» بيت العقود التجارية «لأشبيلية
بنزحها ما بين عامي 1503م و1660م؟ !
* ومن الذي يعوض هنود أمريكا عن قتلاهم [تقلص عددهم من 10 ملايين
إلى 200 ألف] وعن نهب واغتصاب قارتهم؟ !
* ومن الذي يعوض الهند القديمة، المصدرة العالمية للنسيج، عن ملايين
أطنان القطن المنهوبة من زارعيها بأسعار بخسة؟ ! ومن يعوضها عن تدمير
وحرق الأنوال اليدوية لصالح مصانع لانكشاير الكبرى؟ ! .
* ومن يعيد إلى إفريقيا حياة الملايين من أبنائها الأشداء الذين نقلوا عبيداً
للأمريكتين عن طريق النخاسين الغربيين طوال ثلاثة قرون؟ !» (ص 208) .
سقوط: إذا صدق حسي فإن عصر الجمَّاعين الحالي «قد بدأ في الغرب نحو
عام 1860م، ليبلغ ذروته في حوالي الثلاثينيات، وهو في حالة انكماش منذ تلك
الحقبة. التجربة التاريخية تعلمنا أنه في عصر ما مدة التيارات الصاعدة والهابطة
تقريباً متساوية. إذاً الاتجاه الصاعد للرأسمالية استمر ما بين 70 و80 عاماً تقريباً،
فإن انحدارها سوف يستغرق في العموم عدد السنوات نفسه. وهذا يعني أن
الثورة الاجتماعية التي تخلع الجمَّاعين عن عرشهم يجب أن تحدث عام 2010م أو
عام 2020م تقريباً» (ص 307) .
طليعة: أريد أن أختم كلامي حول هذا الموضوع بأن أقول:
«لقد تحول الوهم الذي دام مائة عام بالحلم الأمريكي إلى كابوس أمريكي
بسبب رغبة قادة أمريكا في السيطرة على العالم، وبسبب جموحها البربري في
التسلح، وبسبب نفاق تلك» الليبرالية «الاقتصادية المفروضة على الشعوب
لامتلاك أسواقها بإنشاء عدة إمبراطوريات للشر متعاقبة، تسوِّغ إرهابها الخاص
باسم محاربة الإرهاب، وتسوِّغ» جرائمها ضد الإنسانية «» (ص 221 222) .
المضيف: إذن ماذا تريد أمريكا من نفسها ومن العالم؟ وإلى أين تتجه هذه
الصخرة التي يدحرجها طوفان المادية من علٍ؟ وما مصير من يريدون اللحاق
بأمريكا؟ هل لنا أن نفهم أنفسنا قبل أن نفهم أمريكا؟ !
__________
(1) كتاب: نشوء وسقوط القوى العظمى، تأليف: بول كيندي، ترجمة مالك البديري، نشر: الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، سنة 1414هـ/1994م.
(2) كما ذكر سابقاً، نشر الكتاب الأصلي في طبعته الأولى عام 1978م.(171/119)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
الفاشية الأمريكية
إن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة اليوم هو أكثر من مجرد معركة
مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين؛ فبحر الفاشية الإسلامية الذي يسبح
فيه الإرهابيون يشكل تحدياً أيديولوجياً هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من
الخطر الذي شكلته الشيوعية. كيف ستتقدم مسيرة التاريخ العريضة بعد هذه النقطة؟
هل سيحصل الإسلام الراديكالي على مزيد من المؤيدين وأسلحة جديدة أقوى
يهاجم بها الغرب؟ من الواضح أننا لا نستطيع أن نعرف، لكن بعض العوامل
ستشكل مفاتيح لذلك.
أول هذه العوامل هو نتيجة العمليات الدائرة الآن في أفغانستان ضد طالبان
والقاعدة وبعدها صدام حسين في العراق، وبالرغم من رغبة الناس في الاعتقاد بأن
الأفكار تعيش أو تموت نتيجة استقامة أخلاقياتهم الداخلية فإن القوة لها شأن كبير،
فالفاشية الألمانية لم تنهر بسبب تناقضاتها الأخلاقية الداخلية، بل ماتت لأن ألمانيا
احتلت وتحولت إلى أنقاض بفعل قصف جيوش الحلفاء. وقد كسب أسامة بن لادن
شعبية هائلة لنجاحه في الهجوم على البرجين التوأمين، وإذا ما علق مجازاً على
عمود كهربائي في ميدان عام من قبل القوات الأمريكية مع من حماه من طالبان
فإن جاذبية حركته ستقل كثيراً، وبالعكس إذا استمرت المواجهة العسكرية بشكل
غير مؤثر فإن الفاشية الإسلامية ستحصل على مزيد من التأييد.
يجب على المسلمين المهتمين بصيغة إسلامية أكثر ليبرالية أن يتوقفوا عن
لوم الغرب على أنه يرسم الإسلام بريشة عريضة جداً، وأن يتحركوا لعزل
المتطرفين بينهم وتقويض شرعيتهم، وهناك بعض الدلائل على أن ذلك
يحصل الآن؛ فالمسلمون الأمريكيون يستيقظون الآن ليكتشفوا مدى تأثير الوهابية
داخل مجتمعاتهم نفسها ويحتمل أن يدرك الذين يعيشون في الخارج منهم هذه الحقيقة
إذا تحول المد بشكل واضح ضد الأصوليين في أفغانستان.
إن الصراع بين الديمقراطية الليبرالية الغربية والفاشية الإسلامية ليس صراعاً
بين نظامين حضاريين يتمتعان بقابلية البقاء نفسها ويستطيع كلاهما ركوب
العلم والتكنولوجيا وخلق الثروات والتعامل مع التنوع الموجود في عالمنا المعاصر،
وفي هذه المجالات كافة فإن المؤسسات الغربية تسيطر على الأوراق كلها؛ ولذلك
فهي ستستمر في الانتشار في أنحاء العالم على المدى الطويل لكن الوصول إلى
هذا المدى الطويل يتطلب أن نبقى أحياء على المدى القصير، ولسوء الحظ فإن
التقدم التاريخي ليس حتمياً، وهناك القليل من النتائج الجيدة عدا القيادة
والشجاعة والتصميم على خوض المعركة دفاعاً عن القيم التي تجعل المجتمعات
الديمقراطية المعاصرة ممكنة.
[فرانسيس فوكوياما، مجلة نيوزويك، العدد: (81) ]
وعتوا وعتواً كبيرا
أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بيانًا يحاكي أسلوب الإعلانات الدبلوماسية
الهامة لتعبر عن أسفها لغياب الثلج مع حلول أعياد الميلاد ورأس السنة.
وأعلن ريتشاردباوتشر الناطق باسم وزير الخارجية كولن باول في البيان "
إننا ندين تخلف الثلج عن موسم الأعياد " راجيا " الطبيعة الأم " أن تعالج هذه
المسألة، وجاء في البيان أنه " لا يمكن الشيء أن يسوغ إفساد هذا الحدث الهائل،
إننا ندعو الطبيعية إلى القيام بمبادرة فورية! !
وأكد باوتشر خلال حفل استقبل للصحافيين بمناسبة حلول نهاية السنة أن
عدم تساقط الثلوج في العاصمة الأمريكية هو من العوامل المسببة للمشكلات
التي تعصف بالعالم. وقال الناطق: إننا نعتبر استمرار الطبيعة في رفض
القيام بواجباتها حيال الدول المتحضرة عملا استفزازيا وغير إيجابي. لذا ندعو
الطبيعة إلى اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية بغية تساقط كمية مناسبة وذات
مصداقية من الثلج! !
وأضاف باوتشر أن الولايات المتحدة " تجدد التزامها بتمضية أعياد مجيدة
سواء مع تساقط الثلوج أو بدونها ".
[صحيفة السبيل، العدد (415) ]
سلام.. على الأمن
1- قوى «السلام» التي تقودها الأمم المتحدة من البريطانيين والتي
تتشكل من عدة آلاف تعتقد أنها ستضطر للدفاع عن بعثات المساعدات الإنسانية من
اللصوص والمنشقين عن حركة طالبان.
في الواقع، ستضطر إلى محاربة المافيات التابعة لقوات التحالف الشمالي،
وتجار المخدرات والقادة العسكريين، وكذلك رجال حرب العصابات الذين يرسلهم
الناجون من أتباع أسامة بن لادن. أقل ما يمكن قوله هو أن حركة طالبان جعلت
طرقات وقرى أفغانستان آمنة للأفغان وكذلك للأجانب. أما الآن، فنادراً ما يمكنكم
القيادة من كابول إلى جلال أباد.
الكاتب الإنجليزي، روبرت فيسك، موقع جريدة الشعب
http://alarabnews.com/alshaab
2- بالنسبة للكثيرين من سكان مدينة جلال أباد الحدودية الواقعة شرق
أفغانستان كان انسحاب ميليشيات طالبان مؤخراً من المدينة بمثابة فقدان غطاء
أمني.
وفيما تتوارد الأنباء عن عمليات النهب، يشكو الأفغان من انهيار القانون
والنظام.
وأسر أحد أصحاب المحلات في جلال أباد إلى صحفي باكستاني قائلاً إنه في
ظل حكم طالبان «كنت أترك محلي هكذا (مفتوحاً) دون خوف عليه من
أي أحد» .
ويقول تاجر آخر إن حارس محله أعاد إليه مفاتيح المحل قائلاً ليس بمقدوره
القيام بعمله في ظل هؤلاء «القادة» .
ويقول صاحب معرض سيارات إنه نقل سياراته إلى أماكن أكثر أمناً
بسبب المخاوف الأمنية في جلال أباد.
وتعرضت مكاتب برنامج الغذاء العالمي في مزار الشريف للنهب. كما
شهدت كابول أيضاً وقوع حوادث سرقة فور انسحاب طالبان، حيث تم السطو على
مكاتب الأمم المتحدة في جلال أباد ونهب ما بها من أجهزة كمبيوتر ومعدات أخرى.
ويعلق رجل يعتريه القلق من انهيار السلام والأمن: «لقد وقعت السلطة في
قبضة لصوص» .
موقع: ميدل إيست أونلاين
www.middle-east-online.com
الإقامة الطويلة
سؤال: متى تستكمل المهمة في أفغانستان؟
بوش: في أفغانستان؟ لقد قضي على طالبان وباتت البلاد آمنة، وباتت
مستقرة، فكما تعلمون، يتم اعتقال خلايا القاعدة، وقدم مقاتلو طالبان كما تعلمون
إلى العدالة؛ قوات يزيد عددها على ستة آلاف شخص تم أسرهم، إنهم أسرى
حرب اعتقلهم حلفاؤنا واستجوبوا وأخذت بصماتهم. وأعني أنه يجري القيام
بالكثير. وعلى الشعب الأمريكي أن يدرك وحسب ما عنيته عندما قلت إننا
بحاجة إلى الصبر، فسنبقى هناك إلى حين. ولا علم لي بالضبط باللحظة التي
سننسحب فيها، ولكن لن يحصل ذلك إلا بعد أن تستكمل المهمة.
على العالم أن يدرك أننا لن نتراخى في مواجهة الخطر، ولن نكل عندما
يتعلق الأمر باستكمال المهام التي قلنا إننا سنستكملها. وسيدرك العالم أنه عندما
يلحق ضرر بالولايات المتحدة، فسنتابع مهمتنا إلى أن يتم إنجازها. وسيرى
العالم أنه عندما نشكل تحالفاً ونقول: «انضموا إلينا» ، فإنني أعني ما أقول.
وعندما أطلب من آخرين المشاركة، فإنني أعني ما أطلب. ولكي نقود التحالف،
ينبغي علينا أن نثبت ذلك أي أننا سنتابع ما بدأنا به.
الرئيس الأمريكي، جورج بوش، موقع وزارة الخارجية الأمريكية
http://usinfo.state.gov/arabic
2- قال مسؤولون كبار في البنتاغون إنه على الرغم من انهيار حركة
طالبان ومحاصرة ما تبقى من مقاتلي «القاعدة» فإنه «وحتى يتم إنجاز وتحقيق
أهداف الولايات المتحدة في أفغانستان، فإن ذلك قد يتطلب إرسال المزيد من
القوات الأمريكية إلى أفغانستان، وأن تلك القوات قد تحتاج إلى وقت طويل،
وربما لسنوات حتى تحقق الأهداف المرجوة منها.
وكان الرئيس جورج بوش وكبار أركان إدارته قد أعلنوا منذ بدأ الحملة
العسكرية في أفغانستان أن الحرب ستستغرق وقتاً طويلاً، وطلبوا من الشعب
الأمريكي الصبر، وتوقع حصول خسائر بين قتلى وأسرى في صفوف القوات
الأمريكية. وأكد مجدداً هذا الاتجاه بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأميركي
بقوله:» من المهم جداً للشعب الأمريكي أن يتفهم أن أهدافنا في أفغانستان لا
تزال كبيرة جداً ويجب علينا تحقيقها.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8414) ]
عَود خبيث! !
عادت زراعة الخشخاش المستخدم لإنتاج الأفيون إلى حقول أفغانستان بعد
أن حظرتها حركة طالبان، وفق ما أفاد مكتب الأمم المتحدة المتخصص. وفي
1999م كانت أفغانستان تنتج 73% من استهلاك السوق العالمية للأفيون. وفي السنة
التالية سجل هذا الإنتاج تراجعاً بمعدل 94% بفعل مرسوم أصدره الزعيم الأعلى
لحركة طالبان الملا محمد عمر في 27 تموز/ يوليو 2000م وحظر هذه
الزراعة.
ومن المفارقة أن بدء الغارات الأمريكية على أفغانستان هو الذي أعطى
إشارة الانطلاق للعودة إلى زراعة الخشخاش المنتشرة عادة في جنوب شرق البلاد
وشرقها بين تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر. وأشار بعض
الدبلوماسيين بأن الدول المانحة لم تشأ بالرغم من مبادرة حركة طالبان تقديم
مساعدات لدعم برنامج تعويضات للمزارعين، خشية اتهامها بتمويل
ميليشات أصولية.
موقع: ميدل إيست أونلاين
www.middle-east-online.com
التضليل الإعلامي
بعكس ما أبرزته وسائل الإعلام والصحف من عناوين تظهر مدى فرحة
الشعب الأفغاني باندحار «طالبان» وزوال آخر أيام «التزمت» والتدين
والحجاب وإطلاق اللحى فإن عبارات مثل «حلاقو كابول لا يتوقفون عن
العمل» و «الأفغانيات يخلعن الحجاب» لا تعبر تماماً عن الشعب الأفغاني
وليست إلا حرباً إعلامية قذرة تحاول أن تصور الدين الإسلامي ممثلاً بطالبان وكأنه
حمل ثقيل على صدر الشعب الأفغاني المسلم المعروف بتدينه، فقد أثبتت الأيام التي
تلت انسحاب طالبان من المدن الأفغانية مقولة «طالبان ذهبت لكن اللحى
باقية» . وكان واضحاً من خلال الصور التي التقطها المراسلون للحياة من المدن
الأفغانية بعد انسحاب طالبان منها أن قلة من الأفغان هم الذين أقدموا على حلق
اللحى وأن أغلب النساء الأفغانيات لا زلن يرتدين الخمار الأمر الذي يؤكد
تهافت وسائل الإعلام على نقل صورة غير صحيحة عن الشعب الأفغاني. إلا
أن الصحفيين الغربيين وعمال الإغاثة الذين اعتقدوا أن النساء سيجمعن البراقع في
أكوام ويقمن بإحراقها في الشوارع بعد خروج قوات طالبان، يشعرون الآن
بالصدمة. وهم يتشككون في أن ما اعتبر أكثر الدلائل على سوء وتشدد حكم حركة
طالبان لا تزال النساء يرتدينه حتى بعد انتهاء حكم طالبان.
[صحيفة السبيل، العدد: (412) ]
شاهد على الوحشية
يخشى علماء الطيور في باكستان من أن تكون الحرب الدائرة في أفغانستان قد
أدت إلى قتل الآلاف من الطيور التي كانت تهاجر من آسيا الوسطى عن
طريق أفغانستان، مما قد يمثل كارثة بيئية محققة. فقد تزامن وقت القصف
الأمريكي على أفغانستان مع وقت هجرة تلك الطيور مما يؤكد احتمالية تعرضها
للفناء. ومما زاد من تلك الإمكانية وجعل منها أمراً شبه مؤكد أن أسراب الطيور
التي كانت موجودة حول بحيرة روال، وهي من المناطق المحمية الرئيسية في
باكستان، والتي تبعد مسافة 10 دقائق فقط بالسيارة عن العاصمة إسلام أباد لم يعد
لها وجود في المنطقة التي لم تشهد أسراب الطيور التي تحط عليها في هذه الفترة من
كل عام حتى الآن. ويقول الدكتور مسعود أنور أحد نشطاء حماية البيئة في
أفغانستان: «لقد ذهبت إلى هناك ولم أسمع ولم أر أثراً لتلك الطيور من بط
وطيور برية أخرى، فقد جرت العادة على أن تبقى الطيور هناك لفترة معينة كل
عام أثناء هجرتها من آسيا الوسطى مرورا بأفغانستان , وحتى الآن لم يصل أحد
منها. إنها بلا شك كارثة بيئية»
[جريدة البيان الإمارتية , العدد: (7866) ]
من فقه الأولويات
أعلن وزير الثقافة والإعلام الأفغاني رحيم مخدوم أن الحكومة الأفغانية
الجديدة وضعت ضمن أولوياتها ترميم تمثالي بوذا العملاقين في ولاية باميان. وقال
الوزير الأفغاني في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية إن ترميم هذين التمثالين يشكل
أولوية بالنسبة لوزارته.
وتابع مخدوم: «اختفى كل شيء، التلفزيون والأفلام الأفغانية
والمسرح والموسيقى والمتاحف وعناصر أخرى من وزارة الإعلام والثقافة مثل
المكتبات العامة، وعلينا أن نعيد بناء كل شيء» . وقال الوزير: «لدينا شاعرات
وفنانات وكاتبات» . وزاد أن الأفغانيات يشكلن «غالبية المجتمع وكن هدفاً لمعظم
الفظائع التي ارتكبتها طالبان، لذلك نرغب في أن يقمن بدور كامل في إعادة بناء
البلد» . كما أعرب عن أمله بعودة السياح إلى أفغانستان لأنها «واحدة من أقدم دول
العالم» .
موقع قناة الجزيرة
www.aljazeera.net
هذا هو «كرازي»
أكد مسؤول أمريكي خبير في شؤون أفغانستان أن المسؤولين الأمريكان
شعروا بسعادة غامرة بعد تولي كرازي مقاليد السلطة لكنهم لا يستطيعون إظهار هذه
السعادة، كما هو الحال بالنسبة لكرازي؛ لأن ذلك سيظهره أمام الناس وكأنه عميل
أمريكي عاد إلى أفغانستان، وهذه الصورة إن ظهرت فهي تعني نهاية نظام
حكمه في أفغانستان. منذ وسط أكتوبر وحتى انسحاب قوات طالبان من جبال
قندهار، كانت الفرقة الخامسة من القوات الخاصة بالجيش الأمريكي تساند كرازي
وجنوده البشتون في مواجهة جماهير طالبان. وقد ذكر بعض أفراد هذه الفرقة
لجريدة الواشنطن بوست في هذا الشهر أن مهمتهم الأساسية إبقاء كرازي
على قيد الحياة.
قد سببت هذه العلاقات الوطيدة مع أمريكا مشاكل بين كرازي وبين العديد
من المسؤولين الأفغان الإسلاميين وغيرهم، من ذلك ما قاله برهان الدين رباني
بأن كرازي قد تم فرضه من قبل الولايات المتحدة.
استطاع كرازي أن يجري العديد من هذه العلاقات مع المسؤولين الأمريكان
بصفته الشخصية أو من خلال كونه عضواً للمجلس التنفيذي لحكومة ملك أفغانستان
السابق محمد ظاهر شاه الذي يعيش حالياً في منفاه بروما منذ عام 1973م.
ويذكر المسؤولون الأمريكان أن رسالة كرازي كانت واضحة منذ البداية وهي أن
الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على مساعدة أفغانستان من التخلص من
حكومة طالبان ليعود الاستقرار إلى أفغانستان مرة أخرى. يقول كارل إندرفر
الذي كان وزير شؤون جنوب آسيا في حكومة كلينتون: «كان كرازي يحرص
على إطلاع الولايات المتحدة على تحركاته كما كان يحرص على حث الولايات
المتحدة على التدخل» كما أبدى كارل إعجابه بشخصية كرازي التي قابلها خمس إلى
ست مرات خلال الأربع سنوات التي عملها كارل في منصبه.
يذكر كارل أن كرازي كان يطلب معونة الولايات المتحدة بإلحاح شديد حيث
كان يريد أن يعود إلى جنوب أفغانستان لتفعيل حركة مقاومة ضد حكومة طالبان،
كما يذكر كارل بأن كرازي كان على استعداد للمخاطرة بالذهاب بنفسه ولكنه كان
يريد الدعم من الولايات المتحدة ومن المجتمع الدولي لكي يضمن نجاح مهمته.
ولكن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لدعمه قبل أحداث الحادي عشر من
سبتمبر.
لقد استطاع كرازي أن يحافظ على ثقة أصدقائه في الحكومة الأمريكية وذلك
لكونه أحد البشتون (أكبر الفصائل الأفغانية) القلائل الذين جابهوا بإصرار حكم
طالبان علناً واستمر في نشاطه السياسي في هذا الاتجاه. ولقد تولى كرازي رئاسة
قبيلة البوبالزي البشتونية عام 1999م بعد مقتل والده (رئيس القبيلة السابق) في
مدينة كويتا في باكستان. وكان كرازي مختلفاً عن القادة الأفغان الآخرين حيث
كان يتحدث علناً عن حقوق الإنسان والحريات الشخصية للأفراد. ويذكر
المسؤولون الأمريكان بأن كرازي عاد إلى جنوب أفغانستان في وسط أكتوبر
الماضي وكان ضعف خبرته العسكرية أحد الأسباب التي أدت بالولايات المتحدة
إلى تصوره كرئيس أمثل لأفغانستان.
تمتد علاقات كرازي بالولايات المتحدة إلى أسرته أيضاً، حيث يعيش
إخوانه الأربعة وأخته في الولايات المتحدة ويقوم كرازي بزيارتهم باستمرار. ويملك
اثنان من إخوته سلسلة من المطاعم الأفغانية في بلتيمور وبوسطن وسان
فرانسيسكو، كما انضم أخوه قيوم مع معاونيه في حملته السياسية والإعلامية.
ورداً على سؤال وجه إليه في أحد البرامج التليفزيونية بخصوص الدعم
الأمريكي الذي يتلقاه كرازي قال: إن تواجده في جنوب أفغانستان منذ أكتوبر
الماضي يثبت أنه مستقل عن أي دعم خارجي وأنه يريد النضال لبلده من الأساس.
كما ذكر أن كونه أحد أكثر المعارضين لما كان يجري في أفغانستان منذ خمس
سنوات يثبت أنه مستقل عن أي دعم خارجي.
موقع مجلة العصر
ws.//alasr:http
الباكستانيون.. متعاونون جداً
1- أعلنت وزيرة العدل الباكستانية شهيدة جميل أمس أن إسلام أباد تنوي
اتخاد إجراءات صارمة بحق الجماعات الإسلامية والإثنية المتطرفة؛ بعد تشريع
قانون جديد لمكافحة الإرهاب وبفضل الدعم الذي يقدمه الغرب لباكستان.
وقالت الوزيرة في تصريحات إلى وكالة «اسوشييتدبرس» : «في أعقاب
اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية في الولايات المتحدة تلقت باكستان الكثير
من الدعم الدولي في جهودها لمكافحة الإرهاب والعنف» . وأضافت أن الولايات
المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان تقدم مساعدات تدريب لقوات الأمن الباكستانية،
وستزودها بوسائل تحقيق حديثة. وأوضحت أن بنك التنمية الآسيوية وعد بتقديم
قرض قيمته 350 مليون دولار بشروط تفضيلية، لدعم إصلاحات أمنية وقضائية.
وتابعت: «بموجب القانون الجديد لن نستهدف مجرد فرد بل الشبكة الإرهابية كلها،
بمن في ذلك الذين يمولون إرهابيين أو يؤوونهم أو يحرضونهم» . وقالت وزيرة
العدل: إن «الرئيس برويز مشرف الذي كان يقف وحده في المعركة ضد الإرهاب،
لقي دعماً دولياً هائلاً مع انضمام باكستان إلى الجهد الدولي ضد الإرهاب» .
[جريدة الحياة، العدد: (14142) ]
2- أوضحت مصادر باكستانية أن ضغوطاً أمريكية متزايدة مارسها
رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. إيه.) جورج تينيت على
الرئيس الباكستاني، من أجل الحد من نشاط الجماعات الإسلامية الباكستانية،
وكذلك المدارس الدينية التي تشكل الحديقة الخلفية لـ «طالبان» والجماعات
الإسلامية المسلحة في كشمير.
وأفيد أن الحكومة تسعى إلى تشكيل مجلس يضم بعض المسؤولين والعلماء
من أجل وضع ميثاق شرف يحكم النشاطات الإسلامية في باكستان، على أن يلتزمه
الجميع وسيتضمن القرار حظر نشاط الجماعات الجهادية الباكستانية خصوصاً
الكشميرية، ووقف جمع التبرعات التي تقوم بها الجماعات المسلحة في كشمير.
ويتوقع أن تطلق الحكومة حملة تشكيل مدارس نموذجية دينية في كل أرجاء
باكستان وتدعى «دار العلوم» ، وأن يصار إلى إقامة مدرسة واحدة في كل مدينة
رئيسية.
وترافق ذلك مع تعهد بنك التنمية الآسيوي تقديم مساعدات من أجل مواجهة
المدارس الدينية التقليدية التي تديرها الجماعات الإسلامية. وبحسب التقديرات
الأولية للحكومة الباكستانية، ثمة حاجة إلى 20 ألف مدرسة شرعية لاستيعاب
الراغبين في تلقي العلوم الشرعية والذين تستقطبهم المدارس الدينية. وستنتشر هذه
المدارس في جنوب إقليم البنجاب أكبر الأقاليم الباكستانية، وكذلك في بلوشستان
وبيشاور المحاذيين لأفغانستان.
وبحسب المصادر الباكستانية، تعهد البنك الدولي وحكومة الولايات المتحدة
وكذلك الحكومات الغربية تقديم الدعم المالي الكافي لمنع ظهور حركة «طالبان»
أخرى في المناطق القبلية المحاذية لأفغانستان، عبر إقامة هذه المدارس الدينية
العصرية. ويذكر أن المدارس الدينية الباكستانية تستوعب أكثر من مليوني طالب.
وشدد وزير الداخلية الباكستاني في لقائه الصحافيين في كراتشي على نية الحكومة
العمل على تنظيم المدارس الدينية، مؤكداً أن المدارس التي تمنح درجة معينة
وتعترف بها الحكومة هي التي سيسمح لها بالبقاء والعمل.
[جريدة الحياة، العدد: (14141) ]
والصوماليون.. خائفون جداً
1- قال رئيس الوزراء الصومالي حسن أبشر فارح أنه سيرحب بنشر قوات
عسكرية أمريكية للبحث عن أي معسكرات إرهابية في بلاده والقضاء عليها،
ولضمان عدم فرار أي من مقاتلي تنظيم القاعدة من أفغانستان إلى الصومال.
ومضى فارح الذي تتهم ميليشيات متناحرة حكومته بإيواء إرهابيين على صلة
بأسامة بن لادن أنه مستعد لمساعدة فرق تحقيق عسكرية أمريكية بالانتشار في
العاصمة مقديشو وعلى الساحل لمنع دخول أي أعوان لابن لادن فارين من
أفغانستان.
ومضى فارح يقول، في إشارة إلى جهود السلام الأمريكية في الصومال في
أوائل التسعينيات: «إننا بحاجة إلى عودة الأمريكيين ونرحب بهم.. إننا بحاجة
لمساندتهم والصومال اليوم ليس هو صومال الأمس» . وقال فارح إن الأمريكيين
الذين سيعودون إلى مقديشو للقيام بمهمة لمكافحة الإرهاب يجب ألا يشعروا بالخوف
بالرغم من الذكريات المؤلمة لأوائل التسعينيات عندما قتل أكثر من 20 جندياً
أمريكياً في القتال بينهم 18 قتلوا في معركة واحدة. وحث واشنطن على العمل مع
حكومته الانتقالية بدلاً من إثيوبيا المجاورة في محاولة لتحقيق الاستقرار في
الصومال، مشيراً إلى أن أثيوبيا تتمتع بعلاقات وثيقة مع زعماء الميليشيات
المعارضة لحكومته.
واستطرد «بإمكان الأمريكيين الحضور معنا إلى مقديشو إذ إنه ليس لدينا ما
نخفيه.. إننا مستعدون ونعلم أنه لا يوجد معسكر للقاعدة هنا ولا نحب أن تكون هناك
مثل هذه المعسكرات في الصومال. قمنا بإعداد وحدات من الشرطة والجيش
لمرافقة الأمريكيين ومعرفة ما يوجد هناك واتخاذ أي إجراء ضد الإرهابيين، وإذا
رغبوا فبإمكانهم نشر قوات على سواحلنا لأن لدينا أطول ساحل في إفريقيا ولا
يمكننا السيطرة على كل هذا الساحل الطويل» .
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8419) ]
2- وصل فريق يتكون من 9 أمريكيين يحملون هواتفهم المتصلة بالأقمار
الصناعية إلى الصومال.
وقضى الوفد الأمريكي معظم اليوم مع جيش مقاومة رحاوين وغيره من
الفصائل التابعة لمجلس المصالحة وإعادة التعمير، وهو تحالف من أمراء الحرب
الذين توحدوا ضد الحكومة الوطنية الانتقالية. وذكر أن الأمريكيين قاموا بتحر
شديد واستجواب لزعماء الحرب الصوماليين حول وجود المجموعات الإرهابية في
الصومال، وعن قدرات تحالف المعارضة القتالية.
وقال الجنرال محمد سعيد مرجان وعبد الله شيخ إسماعيل، وهما من كبار
الأعضاء في التحالف المعارض، بعد حضورهما الاجتماع، إن منظمة الاتحاد
الإسلامي وثلاث منظمات صومالية أخرى ذات صلة بالحكومة الصومالية، هي
جزء من «تنظيم القاعدة الأم» .
وقال مرجان إن ضباطاً تابعين للتحالف المعارض بعثوا لقيادة التحالف بقائمة
تحتوي على أسماء 20 ألفاً و480 إرهابياً من جميع أرجاء البلاد. ومضى مرجان
يقول: «لقد أخطرنا الأمريكيين بأن تنظيم القاعدة استولى على الصومال» .
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8421) ]
العروة الأوثق
«بادئ ذي بدء لا يوجد لإسرائيل صديق أفضل من الولايات المتحدة حسب
رأيي. إن إسرائيل دولة ديمقراطية، ونحن نشاركها الكثير من القيم. إن لدي حلماً،
وهو بأن تحظى إسرائيل بالسلام. أظن أن الشعب الإسرائيلي يريد السلام،
ولكننا علمنا بشكل مثير للغاية أن هناك عناصر في الشرق الأوسط تمقت فكرة
السلام وهي على استعداد لاستخدام الإرهاب من أجل دفع أي عملية للسلام عن
مسارها» .
«وهكذا تتسلط الأضواء من جديد على الشرق الأوسط بشكل مريع، كما هو
واضح، ولكنها تذكّر الناس حول العالم بأننا إذا أردنا السلام فإنه من المهم لدعاة
السلام المساعدة في القضاء على الإرهاب وتقديم مرتكبيه إلى العدالة. إنه يتوجب
على السيد عرفات الآن أن يرد بقوة لقمع هؤلاء الذين قتلوا (الناس) . إنه يتوجب
على أصدقاء وحلفاء آخرين في كل أنحاء العالم، أن يساهموا في تقديم هؤلاء
الإرهابيين إلى العدالة إذا كان لنا أن نحظى بالسلام، وهو ما أريده فعلاً» .
الرئيس الأمريكي، جورج بوش، موقع وزارة الخارجية الأمريكية
http://usinfo.state.gov/arabic
إرهاب مستمر
اليوم نتخذ خطوة مهمة أخرى في الحرب المالية ضد الإرهاب. منذ بداية هذه
الحرب، أعلنت أن أعداءنا هم شبكات إرهابية ذات باع عالمية، كما أن جميع من
يؤونها ويدعمونها هم أعداؤنا كذلك. وقد بدأنا بالقاعدة وطالبان وحددنا هوية بعض
داعمي القاعدة الماليين، واتخذنا إجراءات بحق حساباتهم البنكية. وفي تشرين
الثاني/ نوفمبر اتخذنا خطوة أخرى إلى الأمام. الرسالة التي نبعثها بهذا الإجراء
هي التالية: إن أولئك الذين يتعاملون تجارياً مع الإرهاب لن يكون بمقدورهم
التعامل التجاري مع الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر يمكن للولايات المتحدة
أن تصله.
إن حماس جماعة متطرفة تدعو إلى تدمير دولة إسرائيل تدميراً تاماً. وهي
إحدى المنظمات الإرهابية الأشد فتكاً في العالم اليوم.
إن حماس تحصل على الكثير من أموالها التي تدفعها من أجل القيام بعمليات
القتل من الخارج، ومن هنا في الولايات المتحدة، وهي أموال جمعتها في الأصل
مؤسسة الأراضي المقدسة وهي مؤسسة مسجلة لدى مصلحة الضرائب الأمريكية
كجمعية خيرية معفاة من الضرائب وتتخذ من مدينة ريتشاردسون مقراً لها. وقد
جمعت هذه الجمعية 13 مليون دولار من أناس في أمريكا في العام الماضي.
وتزعم المؤسسة أن الأموال التي تسعى لجمعها تخصص لرعاية المحتاجين
الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. إن الأموال التي تجمعها المؤسسة
تستخدمها حماس لتمويل المدارس وتعليم الأطفال كي يصبحوا مفجرين انتحاريين.
والأموال التي تجمعها المؤسسة تسخرها حماس لتجنيد مفجرين انتحاريين ولدعم
أسرهم.
الرئيس الأمريكي، جورج بوش، موقع وزارة الخارجية الأمريكية
http://usinfo.state.gov/arabic(171/129)
مصطلحات ومفاهيم
الأممية
أ. د. محمد يحيى
من الممكن القول بأن مصطلح «الأممية» في عموم معناه هو السلف
لمصطلح «العولمة» الذي أصبح الآن موضع الحديث عند المفكرين والكتاب في
كل المجالات، وهو في عموم معناه كذلك ينصبُّ على أي دعوة أو فكرة أو مبدأ أو
أيديولوجية تتجاوز في انطباقيتها الحدود المحلية الضيقة، أو حتى الإقليمية
الجغرافية واللغوية والثقافية، أو حتى الدولية الدينية والسياسية لتصل إلى مستوى
العالمية لمخاطبة عموم البشر في كل مكان، ووضعهم في الاعتبار عند التفكير
والعمل؛ بصرف النظر عن أي حدود سياسية وجغرافية وثقافية ولغوية ودينية
وما أشبه.
ومن المفارقة أن هذا المصطلح الذي سبق مصطلح العولمة اقترن على العكس
من الأخير بالحركة الشيوعية العالمية في دعوتها للعمال والطبقات الضعيفة
المسحوقة في كافة أنحاء الدنيا بأن تنهض للثورة على الاستغلال والاستعمار، أقول
للمفارقة؛ لأن المصطلح الابن وهو العولمة يقترن الآن بسيطرة وتوسع وهيمنة
نفس القوى الرأسمالية الطاغية التي كان مصطلح الأممية في مصطلح القرن
العشرين يستنهض الهمم العمالية والثورية لدحرها وردها.
و «الأممية» في الطرح الأوروبي ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً
تتعارض مع القومية والإقليمية الضيقة؛ لأن ارتباط هذا المصطلح بالفكر
الاشتراكي والشيوعي نقل إليه فكرة أن القومية ترتبط دائماً بالطبقات المالكة أو
البورجوازية التي يرفضها الفكر اليساري عموماً ويسعى إلى دحرها في حدودها
القومية والإقليمية الضيقة بفكر العالمية أي عموم وشمول واتساع نطاق الثورة
الشيوعية.
والواقع أن فكرة «الأممية» وبعيداً عن ارتباطها في مرحلة مهمة من
مراحلها بالفكر الاشتراكي الشيوعي أو بالأصح بممارساته العملية ودعواته وحركاته
الاجتماعية ترجع في أبعادها إلى عملية الانطلاق والزحف الأوروبي العام على
العالم منذ القرن الثاني عشر في حركة الاستعمار ثم الإمبريالية، وفي خضم هذه
الحركة بدأ الأوروبيون ينظرون إلى العالم كوحدة واحدة واقعة أو في سبيلها للوقوع
تحت سيطرتهم، وينبغي أن تتمشى مع عقائدهم وأفكارهم وقيمهم وتصوراتهم،
مثلما ينبغي أن تلتحق بهم وتصبح المسرح لنشاطاتهم، والمصدر لقوتهم الاقتصادية
ونموهم اللانهائي نحو مجتمع الرفاهية. في هذا الإطار أخذ الغربيون عموماً (وقد
ورثت أمريكا مركز الصدارة في هذه العملية فيما بعد) يفكرون ويتصرفون على
أساس أممي أي على أساس وجود ساحة عالمية عابرة للدول والبلدان والشعوب
والثقافات واللغات والقوميات يتحركون فيها، ومن هنا مثلاً كانت الحركة
التنصيرية الكبرى للكنائس الغربية (والمعروفة فعلاً باسم الحركة الأممية) تسعى
إلى تنصير شتى شعوب العالم على اختلاف عقائدها وثقافاتها الأصلية بالترويج
بينها لعقيدة مسيحية موحدة ونظام قيمي واحد موحد، ولم يثبت هذا التوجه الأممي
في الحقبة الاستعمارية بسبب تدخل التنافس الإقليمي أو بالأصح القومي للدول
الاستعمارية بريطانيا وفرنسا في المقام الأول، وقبلهما إسبانيا والبرتغال،
وبعدهما على نحو أقل ألمانيا وهولندا وإيطاليا، ثم على نحو أشمل بكثير أمريكا
وتنافسها على بسط نفوذها السياسي ومعه لغاتها وثقافاتها الخاصة على الدول التي
استعمرتها.
ولكن على الرغم من هذا التنافس القومي الحاد بين الدول الاستعمارية ظل
هناك طابع أممي واضح في الحركة الغربية الاستعمارية من حيث أن الثقافة العامة
والمفاهيم الفكرية والقيمية العامة التي روجت بين الشعوب المستعمرة ظلت هي
ذات الطابع الأوروبي العام الموحد في جذوره في المسيحية والثقافة الوثنية الأصلية
والمسار الفكري الأوروبي الموحد الراجع إلى عصور النهضة والتنوير والمصبوغ
بالفكر العقلاني الإنساني المادي العلماني.
وإذا كان هذا هو تاريخ مصطلح «الأممية» قبل تبني الحركة الشيوعية له
إلى حد أنه اقترن بها وصار صنواً لها؛ فإن تاريخه بعدها يتلخص في تحوله من
دعوة إلى الثورة العالمية إلى تعبير ووصف عن نمو وتوسع وانتشار المجتمع
الغربي الرأسمالي الليبرالي بثقافته وقيمه التي أخذت في التوحد؛ وذلك على
مستوى العالم كله بفضل الثورات المتتالية في وسائل المواصلات ثم الاتصالات؛
مع تعمق النفوذ السياسي الغربي في الدول المستعمرة السابقة وغير المستعمرة
بفضل نشوء نخب علمانية متغربة وصلت إلى مواقع السلطة، وتحالفت مع الغرب
ضد ثقافاتها وتاريخها الأصلي ولا سيما الإسلامي الذي أصبح يوصف بالتقليدي
القديم البالي، وهنا أخذ المصطلح يتحول تدريجياً ليصبح بمعنى العولمة بل اختفى
وأصبح منبوذاً بسبب ارتباطه السابق الوثيق بالحركة الشيوعية الساقطة والذاوية.
لقد أخذنا منذ الستينيات نسمع شعارات ومسميات من عينة «القرية العالمية» و «
العالم كالقرية الصغيرة» وما أشبه، وكانت كل تلك المفاهيم نقاط تحوُّل وذوبان
لمصطلح الأممية في مصطلح العولمة أو الكوكبية الصاعد، كما كانت علامات على
الانتقال من القديم إلى الجديد، ومن مضمون للدعوة والفكرة الأممية ينطوي على
دلالات ماركسية يسارية إلى مضمون يجسد الصمود والهيمنة الجديدة للنظام العالمي
الواحد والقطب الدولي الأوحد بمضمونه ونظامه الرأسمالي الليبرالي البراجماتي
الأمريكي الطابع.
ومن ناحية الإسلام فربما يمكننا القول بأنه دين أممي أو دعوة أممية بمعنى أنه
موجه لكل البشر وليس دعوة للعرب فقط كما تحاول بعض الأصوات الآن القول.
ولكن قد يكون من الأفضل تجنب مصطلحات مثل الأممية أو العولمة في الحديث
عن طابع الدعوة الإسلامية بسبب ارتباط هذه المصطلحات بمضامين تاريخية
ومعاصرة تتعلق بتطور الغرب نفسه وتطور أفكاره وفلسفاته وممارساته، ومما لا
شك فيه أن الإسلام أممي من حيث إنه لا ينغلق على قبيلة أو أمة أو شعب واحد
كالعديد من المعتقدات البشرية الوضعية؛ فهو دعوة موجهة للبشر كافة لكنه إذا
تابعنا وضع المصطلح ليس أممياً بمعنى الفرض والسيطرة الاستعمارية العالمية أو
الارتباط بحركة سياسية تدعي الثورية لإحداث انقلابات اجتماعية عارمة لصالح
فكر هو في النهاية (الماركسية) ابن أصيل للغرب وقيمه اللادينية المادية الغالبة.(171/137)
من ثمرات المنتدى
من ثمرات المنتدى الإسلامي
أخي الحبيب هذه بعض ثمرات المنتدى الإسلامي التي تم إنجازها في الفترة
من أول شعبان 1422هـ حتى شوال 1422هـ نضعها بين يديك سائلين المولى
عز وجل أن يتقبل من كل من ساهم في إنجازها بجهد أو مال أو بالدعاء.
* دعاتنا في رمضان:
رمضان شهر الخيرات وموسم الطاعات يحرص فيه المسلم على الاستزادة
من الطاعات والتقرب إلى الله تعالى بفعل الخيرات.
وقد حرص المنتدى الإسلامي بحمد الله تعالى على التعاون مع المسلمين
للخروج من هذا الشهر بالثواب العظيم؛ وذلك بعمل خطة دعوية متضمنة أربعة
جوانب:
الأول: برنامج استقبال رمضان: ويشمل (13) درساً قدمت قبيل بداية
شهر رمضان لتهيئة المسلمين وتعريفهم بمقاصد الصيام وأحكامه والأعمال التي
تشرع فيه.
الثاني: إعداد (118) مادة علمية ودعوية، وجعلها في متناول طلبة العلم
والدعاة في الميدان؛ ليستفيدوا منها في برامجهم خلال الشهر الكريم.
الثالث: برنامج العشر الأواخر: ويهدف لتعريف المسلمين بهدي النبي
صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر وما يشرع فعله فيها من العمل الصالح.
الرابع: برنامج الاعتكاف؛ ويهدف لإحياء سنة الاعتكاف، وتوفير محضن
تربوي يتواصل فيه المسلمون في معايشة تامة لتقوية الإيمان والترابط والمحبة بين
المسلمين.
وقد تم تنفيذ هذا البرنامج في عدة دول: منها (توجو، مالي، غانا، كينيا،
نيجيريا، الصومال، جيبوتي، إثيوبيا، تشاد، السودان، بنجلاديش، لندن)
وآتى ثماراً جيدة بفضل الله ونعمته منها: إسلام (181 شخصاً) في دولة توجو،
و (55 شخصاً) في دولة مالي، و (30 شخصاً) في كينيا، و (8 أشخاص)
في تشاد.
هذا فضلاً عن القوافل الدعوية التي تجوب البلاد للدعوة إلى الله، والبرامج
الدعوية المصاحبة للإفطارات التي يقيمها المنتدى في كثير من دول العالم.
نسأل الله تعالى أن يتقبل من كل من شارك في هذا العمل بجهد أو مال.
* دورة لدعوة غير المسلمين في لندن:
أقام مكتب المنتدى الإسلامي بلندن دورة لتدريب الدعاة على دعوة غير
المسلمين إلى الإسلام في الفترة من 7 شوال حتى 13 شوال 1422هـ، انتظم فيها
(50 مشاركاً) زادوا في بعض الأيام إلى 90 مشاركاً رجالاً ونساء.
وقد تضمنت الدورة عدداً من المحاضرات حول موضوعات: (فقه الدعوة
إلى الله، طرق الدعوة وكيفية التخاطب مع غير المسلمين، المقارنة بين الأديان) .
وتم عقد مجموعات عمل ونماذج تطبيقية في دعوة غير المسلمين، وختمت
الدورة بعمل اختبار، وتوزيع جوائز على الطلاب الثلاثة الأوائل.
* ودورات في إفريقيا:
أقام مكتب المنتدى الإسلامي في توجو ملتقى دعوياً للدعاة لمدة (3) أيام
شارك فيه (24) داعية، وآخر لمدرسي الحلقات حضره (19) معلماً، ودورة
شرعية لموظفي الدولة لمدة (3) أشهر شارك فيها (100) من موظفي الدولة،
كما أقام مخيماً لمدة (14) يوماً بعنوان: (ناشئ في رحاب القرآن) شارك فيه
(100) شخص.
وفي غانا أقيم مخيم تربوي لمدة (9) أيام شارك فيه (30) شخصاً.
وفي إثيوبيا دورتان، شرعيتان في العشر الأواخر من رمضان؛ إحداهما لمدة 7
أيام شارك فيها (45) شاباً، الثانية لمدة (5) أيام حضرها 80 من طلاب
المدارس.
* عناية المنتدى بالناطقين بغير العربية:
يحرص المنتدى الإسلامي على التعاون مع المسلمين في الاهتمام بالقرآن
الكريم من خلال حلقات التحفيظ التي يشرف عليها في عدة دول، ومن ذلك:
ما قام به مكتب المنتدى الإسلامي في لندن:
حيث نظم عدة حلقات لتحفيظ القرآن الكريم مقسمة لعدة مستويات، تم
تتويجها بمسابقة لحفظ القرآن الكريم مكونة من خمسة مستويات إضافة إلى مستوى
خاص للناطقين بغير العربية. وقد شارك فيها (50) طالباً بعضهم كان يحفظ
القرآن الكريم كاملاً.
وتهدف هذه المسابقة إلى حفظ القرآن الكريم كاملاً خلال خمس سنوات لمن
يحرص على المشاركة فيها، كذلك تهدف إلى حفظ جانب من الأحاديث النبوية
الشريفة، وقد تم توزيع الجوائز في حفل أقيم بهذه المناسبة بمسجد المنتدى
الإسلامي بلندن يوم السبت 23 رمضان 1422هـ بحضور عدد كبير من المشايخ
وطلبة العلم وأولياء الأمور، وتم في هذا الحفل توزيع الجوائز على الفائزين بواقع
ثلاثة فائزين لكل مستوى، بلغت قيمتها ما يقارب 15 ألف ريال سعودي، وتخلل
الحفل بعض الكلمات حول أهمية حفظ القرآن الكريم والعمل به، واستماع لنماذج
من تلاوة بعض الطلاب
وفي توجو (43) يتمون حفظ القرآن الكريم:
شارك (200) شخص من توجو في مسابقة القرآن الكريم التي عقدها مكتب
المنتدى الإسلامي في توجو خلال شهر رمضان المبارك، كان من نتائجها (43)
شخصاً يتمون حفظ القرآن الكريم، ولغتهم التي يتحدثون بها الفرنسية.
وفي غانا أتم (38) شخصاً حفظ القرآن الكريم، ولغتهم التي يتحدثون بها
الإنجليزية.
* المئات يدخلون الإسلام مع إفطارات رمضان:
للعام العاشر وبالتعاون مع المحسنين من أهل الخير يمد المنتدى الإسلامي يد
العون والمساعدة لفقراء المسلمين الصائمين في أكثر من خمسين دولة في العالم
تخفيفاً لمعاناتهم وعوناً لهم على الطاعات، ويصاحب هذه الإفطارات عادة برامج
دعوية وتربوية لتعريف المسلمين بأمور دينهم ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام،
وقد أثمر هذا المشروع ثمرات جيدة في السنوات السابقة، وبفضل الله تعالى تم
مشروع إفطار الصائمين هذا العام في (56) دولة قدمت فيها أكثر من
(000.500, 2) وجبة إفطار، صاحبها برامج دعوية مكثفة كان من نتائجها:
إسلام أكثر من 250 شخصاً في دول: (توجو، مالي، تشاد، كينيا) فضلاً
عن تفقيه المسلمين وتعليمهم أصول الإسلام وقواعده.
* (700) بئر يتدفق منها الماء:
قد لا يشعر كثير منا بما يعانيه أكثر من سدس سكان العالم من صعوبة في
الحصول على الماء النقي معظمهم من المسلمين وقد حرص المنتدى الإسلامي على
المساعدة في تخفيف جزء من هذه المعاناة، فقام بحفر ما يقارب (700) بئر كان
آخرها حفر (24) بئراً في شرق السودان خلال شهري شعبان ورمضان وشوال
من هذا العام.
* النجاشي يعلم أبناءه اللغة العربية:
- افتتح مكتب المنتدى الإسلامي بأثيوبيا (معهد النجاشي لتعليم اللغة العربية
والتدريب المهني) في إقليم أوروميا على بعد (15) كم جنوب غرب العاصمة
أديس أبابا.
ويتكون المعهد من ثلاثة مبان على مساحة 40 ألف متر مربع:
المبنى الأول: يتكون من (6) فصول دراسية.
المبنى الثاني: سكن الطلاب ويتكون من (5) غرف تتسع الواحدة منها
لستة طلاب.
المبنى الثالث: سكن المدرسين، ومطبخ لخدمة الطلاب والمدرسين، إضافة
إلى مسجد ملحق بالمعهد.
وقد استقبل المعهد (50 طالباً) تم اختيارهم من بين (150) متقدماً من
خريجي المدارس الثانوية الحكومية فيهم عدد ممن يحفظون القرآن الكريم، والباقون
في سبيلهم إلى الحفظ.
والمعهد يمنح شهادة الدبلوم بعد ثلاث سنوات دراسية.
* معرض للكتاب بمقر البيان:
أقام المنتدى الإسلامي معرضاً للكتاب بمقر مجلة البيان بالرياض خلال شهر
رمضان المبارك، وضم المعرض عدة جوانب منها: جناح كتاب المنتدى الذي
يضم (36) إصداراً باللغة العربية كان آخرها كتاب: (تدبر القرآن) لمؤلفه
سلمان بن عمر السنيدي، وكتاب (الفيزياء ووجود الخالق) للدكتور جعفر شيخ
إدريس. وجناح كتاب الجمعة الذي يضم ثمانية كتب باللغة الإنجليزية. هذا فضلاً
عن مجلدات مجلة البيان، ومجلة الجمعة، وموسوعة البيان الإلكترونية.
كما التقى رواد المعرض بكتَّاب المجلة في أمسيات رمضانية حول
موضوعاتها.
وتجدر الإشارة إلى كتابين سيصدران لاحقاً هما: (الإسلام لعصرنا) تأليف
الدكتور جعفر شيخ إدريس، والثاني لرئيس التحرير أحمد الصويان بعنوان: (في
البناء الدعوي) .
* الجمعة تبلّغ صوت الإسلام إلى الغرب:
لم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر أحداثاً عابرة، بل كان لها أكبر الأثر
على المجتمعات الغربية بكافة فئاتها وطبقاتها، وثارت تساؤلات متعددة حول
الإسلام ومبادئه ونظرته للغير، وعلاقة المسلمين بغيرهم وتساؤلات أخرى كثيرة.
وفي ظل التشويه المتعمد للإسلام في وسائل الإعلام الغربية كان لزاماً على
دعاة الإسلام القيام بواجبهم في توضيح مبادئ الإسلام ومنهجه للمجتمعات
الغربية بالطريقة التي تناسب ثقافاتهم في عرض قوي بعيد عن الانهزامية والضعف،
وبيان شمولية المنهج الإسلامي وعلاقته بالديانات الأخرى.
من هنا أخذ المنتدى الإسلامي زمام المبادرة في مخاطبة شرائح المجتمع
الغربي المؤثرة من خلال صوته الناطق بالإنجليزية (مجلة الجمعة) لعرض منهج
الإسلام الشامل لمبادئ الخير والعدل والمساواة، وحفظ الحقوق للمسلمين وغير
المسلمين.
لذا فقد خصص المنتدى الإسلامي عدد شوال لعام 1422هـ من مجلة الجمعة
لهذا الغرض، وقد طبع من هذا العدد أكثر من (000، 150) نسخة لتوزيعها
على فئات متنوعة في المجتمعات الغربية خاصة، ودول العالم عامة يوضحها
الجدول أدناه.
وسوف يتواصل عطاء المنتدى الإسلامي الهادف إلى تبليغ صوت الإسلام إلى
الغرب وذلك بإصدار كتاب مستقل يخاطب غير المسلمين في المجتمعات الغربية
يتضمن محاور جديدة وفريدة في إطار تعريفهم بالإسلام الحق.
م ... الكمية ... ... ... الشريحة المستهدفة ... ... ...
1 ... 16.249 ... ... الإعلاميون (صحافيون، محللون، مقدمو برامج ...
... ... ... ... ، معدو الأخبار)
2 ... 21.000 ... ... مكتبة عامة ومكتبات أقسام جامعية متخصصة في ...
... ... ... ... الأديان
3 ... 9.000 ... ... مديرو شركات ومسؤولو العلاقات العامة في ... ...
... ... ... ... المؤسسات الكبرى
4 ... 1.3000 ... ... عمداء مدن كبرى ورؤساء بلديات
5 ... 4.388 ... ... أخصائيون اجتماعيون
6 ... 20.000 ... ... محامون بارزون
7 ... 20.000 ... ... طلبة جامعيون من خلال مراكز الدعوة في
... ... ... ... الجامعات
8 ... 10.000 ... ... شخصيات ومؤسسات هامة في كندا
9 ... 10.000 ... ... شخصيات ومؤسسات هامة في بريطانيا
10 ... 10.000 ... ... شخصيات ومؤسسات هامة في بلدان أخرى(171/139)
الورقة الأخيرة
ماذا يحدث إذا كان العلم بلا إيمان؟
إبراهيم بن محمد الحقيل
لا يستطيعُ المرءُ أن يعرف أثر العلم في حياة البشر على اختلاف المستويات
وتنوع المجالات إلا إذا قارن بين عالِم متبحر، وبين أمِّيٍّ نشأ في أحد الأدغال بعيداً
عن أيِّ منفذ معرفي. لا شك أنه سيجدُ أن ما يُفرق بينهما أكثر مما يجمع، كما أنه
سيجد أن عيش هذين الرجلين في مكانٍ واحد يكاد يكون مستحيلاً.
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن علمهم ورزقهم وسائل تحصيل العلوم
والمعارف؛ فأعطاهم الأسماع ليسمعوا العلم فيستفيدوا، وأعطاهم الأبصار ليبحثوا
ويقرؤوا، وأعطاهم الأفئدة حتى يتفكروا ويتدبروا ويستنبطوا. قال تعالى: [وَاللَّهُ
أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ] (النحل: 78) .
لقد علّمهم الله تعالى ما يوصلهم إليه وإلى رضوانه وجنته، فأرسل لهم
الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأراهم من آيات عظمته، وعجائب قدرته ما يدل
على ربوبيته وإلهيته.
وسخر لهم الأرض وما عليها، ورزقهم وسائل الانتفاع بها، وجعل إفادتهم
منها على قدر بحوثهم وتجاربهم، وعملهم وجِدِّهم. وحكمةُ هذا التسخير جَعْلُه
وسيلةً إلى الغاية العظمى الموصلة إلى رضوانه وجنته.
والعلمُ بحرٌ لا ساحل له، سواءٌ منه ما ينفعُ في الدنيا أو ما ينفع في الآخرة،
ولا يستطيعُ أحدٌ الاستحواذ على كل العلم؛ فهناك دائماً من هو أكثر إحاطة به وهو
الله تعالى، كما قال سبحانه: [نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ]
(يوسف: 76) .
إن القرآن يقررُ وجوبَ أخذ العلم عن أهله، ورجوع من لا يعلمُ إلى من يعلم
لكي يتعلم؛ فحين أنكر مشركو مكة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله
أعظم من أن يكون رسولُه بشراً فهلاَّ بعث ملكاً! حينذاك أنزل الله تعالى قوله:
[وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
* بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ] (النحل: 43-44) . أي: اسألوا يا معشر قريش العلماء
بالتوراة والإنجيل يخبروكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً إن كنتم لا تعلمون ذلك.
وحقيقةٌ كبرى يقررُها كتابُ الله تعالى تتمثلُ في أن أكثر الكفار إنما أعرضوا
عن اتباع الحق بسبب عدم توافر العلم الصحيح لديهم. قال تعالى: [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ] (الأنبياء: 24) ، وهذا يلقي مسؤولية عظمى على
أمة الإسلام؛ حيث إن عليها إيصال الحق إلى الناس وبيانه لهم ودعوتهم إليه.
إن كثيراً من عبَّاد الأوثان، وعبَّاد البقر، وعبَّاد الصليب، وعبَّاد العجل
ظنوا جهلاً أن عبادتهم تقربهم إلى الله زلفى، فعبدوا ما عبدوا من دون الله تعالى.
وإن كثيراً من عبّاد المادة وعبّاد العقل البشري ظنوا أن (لا إله، وأن الحياة
مادة) فعملوا للدنيا وأهملوا الآخرة؛ لأن ما ينقصهم من حقيقة العلم جعلهم يجهلون
حتمية الآخرة. فكيف السبيل إلى إخراج هذه الجموع من شركها وتحويلها من عبادة
غير الله إلى عبادة الله وحده إلا أن يُعلَّموا حقيقة الدنيا وما لها، وحقيقة الآخرة وما
يجب لها، وأن يُبصَّروا بالحق المبين، والصراط المستقيم.
وفي جانب آخر فإن العلم إذا لم يُضبط بالإيمان عاد نفعه ضراً، وخيرُه شراً؛
حيث يقود إلى الاستكبار عن الحق على علمٍ وبكل إصرار وجحود؛ منكراً
صاحبُه نعم الله عليه. وقد قص الله علينا أخبار أقوام أوتوا من العلم ما أوتوا لكنهم
أوتوا علماً بلا إيمان فجحدوا نعم الله تعالى، واستكبروا عن الحق المبين. قال
تعالى: [فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] (غافر: 83) . وقارون جحد نعمة الله عليه ونسب ما أوتي من
مال إلى علمه ف [قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] (القصص: 78) .
وحضارةُ اليوم توصفُ بأنها حضارةٌ علمية لكنها علمانية، أي: لا دينية، لا
إيمانية، ليس للإيمان بالآخرة فيها مكان، ولا للتصديق بالغيب مجال. هي
حضارة سعت في عمارة الأرض مادياً، وحصرت اهتمامها بالحياة الدنيا في
انفصال تام عن الموت وما بعده، وأصحابُها كما أخبر الله تعالى: [َيعْلَمُونَ ظَاهِرًا
مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: 7) .
وها هنا سؤال يرد: هذا النوعُ من الحضارة المبني على علوم الدنيا بانفصالٍ
تام عن علوم الآخرة هل أسعد الإنسان وحقق له ما يريد؟ ! لا؛ فالجميعُ لاحظوا
أنه كلما خطا الإنسانُ خطوات في التقدم الدنيوي زاد عددُ زائري العيادات النفسية،
وكلُ الناس يتفقون على أن الحياة البسيطة أكثرُ سعادةً من الحياة المادية المعقدة.
إن العلوم الدنيوية التي حازها البشرُ في القرون المتأخرة قد أسهمت وبشكل
مباشر في رفاهية الإنسان وراحته؛ فقد تنوعت مآكله ومشاربه، وتعددت ملابسه
ومراكبه، وصار مَن في طرف الأرض الشمالي يستطيع محادثة من في طرفها
الجنوبي، والحدث الذي يحصلُ في أقاصي البلدان، ووراء الجبال والبحار يعلمه
من هو في أدناها، والمنتجات التي كان الإنسانُ ينتج القليل منها في عام كامل
أصبحت الآلاتُ تنتج الكثير منها في ثوانٍ معدودة. كلُّ هذا حصل ولا زال يحصل
؛ ولكن ماذا حدث حينما انفصل العلم عن الإيمان، وأصبح علمانياً دنيوياً مادياً لا
يؤمنُ بالغيب ولا يعرفُ للآخرة سبيلاً؟
إنه صارَ علماً يسعى في تدمير الأرض ومن عليها، في سبيل الهيمنة
والسيطرة على العالم. لقد فقد الإنسان السيطرة على العلوم التي تعلمها، فصارت
بعد فقد الإيمان أهم سبب لتدمير العالم؛ فبواسطة العلوم الفيزيائية صنع الإنسان
القنابل الذرية والنووية والبيولوجية والجرثومية التي يعلم مكتشفو نظرياتها وصانعو
صواريخها أنها لو أطلقت لأهلكت ملايين البشر بمن فيهم صانعوها ومطلقوها ومع
ذلك صنعها الإنسان؛ لأنه لا إيمان يضبطه، ولا خوف من الآخرة يردعُه عن
الإسهام في دمار البشرية. وكم من الوزر يحملُه صانعو هذه المدمرات التي أطلق
بعضها في الحرب الكونية الثانية فأهلكت ملايين البشر! !
وفي مجال الهندسة الوراثية صاروا بالعلم يلعبون بالأجنةِ يريدون أن يخلقوا
كخلق الله تعالى.
إنهم وبالعلم لوَّثوا البحار والأنهار، وأفسدوا الزروع والأشجار؛ حتى ما عاد
لأثمارها طعم بسبب الكيميائيات التي تنضجها قبل وقتها، وتجعلها أكبر من حجمها،
وتزيد في محصولها، والضحية من يأكلها. وأعظم من ذلك أنهم صاروا يأكلون
ما يُخرجون بعد تحليله ومعالجته كما تفعل الجلاّلة من الحيوان! !
إنهم وبالعلم أطلقوا الأقمار الصناعية التجسسية فهل سعدوا؟ !
إن التجسس يدل على الخوف، والخوفُ دليل شقاءٍ لا دليل سعادة! !
إنهم وبالعلم سهلوا ارتكاب الفواحش وعرضوها عبر فضائياتهم، وتفننوا في
مداعبة الغرائز والهبوط بالإنسان إلى الحيوانية وإلى ما هو أقلُّ منها؛ فهل شبعوا؟ !
لا؛ لأنهم يريدون فناً أكثر إثارة وأكثر غريزية وبهيمية، ولستُ أعلم في مجال
الشهوات شيئاً يُعرض أقل وضاعة من الزنا واللواط والسحاق وسائر الشذوذ فماذا
يريدون؟ وإلى أي مدى سيصلون؟
إنهم وبالعلم نوّعوا التجارات، وعددوا سبل الحصول على المال، وصار
البيعُ والشراء عن طريق شبكات الاتصال العالمية؛ فهل شبع أهلُ المال من المال؟
لا؛ فإنهم يريدون المزيد والمزيد، وإلى متى؟ وكلُّ ما يجري على الأرض
يجري إلى متى؟ !
إن له أجلاً وإن له نهاية فهل يعقلون؟ وهل يضبطون ما أوتوا من علوم
الدنيا بالإيمان بالغيب والإيمان بالدارِ الآخرة؟ ! إنهم لن يتعظوا ولن يعقلوا حتى
تقع الواقعة. فلينظر كل عاقل إلى أي مدى وصل العلمُ: إنه لما انفصل عن
الإيمان أشقاهم في الدنيا ويوشك أن يدمرهم.
وصدق الله العظيم إذ يقول: [فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ
الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ
اهْتَدَى * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى] (النجم: 29-31) .(171/143)
ذو الحجة - 1422هـ
مارس - 2002م
(السنة: 16)(172/)
كلمة صغيرة
حقوق الضعفاء
طالما تشدقت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بحقوق
الإنسان، وربما رسمت بعضاً من سياستها الخارجية بناءً على هذه الشعارات
والمبادئ الإعلامية التي سلبت قلوب كثير من المستغربين، حتى زعم أحد كبار
المفكرين الأمريكيين أن من أعظم إنجازات الحضارة الأمريكية رعايتها لحقوق
الإنسان مهما اختلف لونه أو عرقه أو دينه ... !
ولكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي كشفت الأقنعة، وأظهرت
الوجه العنصري الكالح الذي تخفيه تلك الابتسامات الصفراء الباهتة، والشعارات
النفعية الباردة؛ ففي أيام قلائل غُيرت القوانين وحُرِّفت الدساتير، وأصبح الغرب
ينظر بعينين مختلفتين؛ فالعين الناظرة إلى بني جلدتهم لا زالت ترعى الحقوق
وتلتزم القوانين والعهود، والعين الأخرى الناظرة إلى المسلمين هي التي سنَّت
قانون الأدلة السرية، والمحاكم العسكرية، والاعتقال لمجرد الاشتباه، والتعذيب
لانتزاع الاعترافات، وانتهاك حقوق الأسرى ... ! !
إنها صورة فاضحة من صور التناقض ... صورة صارخة تؤكد أن المُثُل
والقيم التي يصنعها الأقوياء هي القوانين التي يجب أن يُصفق لها الضعفاء ... !
وعلى الرغم من هذا السقوط المريع وانكشاف تلك الصور الفجة في الظلم والعداء
إلا أن بعض الصحفيين العرب لا زال يغني أمجاد العدالة الغربية؛ بل إن أحد
مرموقيهم يطالب أمريكا بلا خجل أن تتدخل لإنقاذ بلادنا العربية لدفعها إلى الرقي
والتقدم كما تدخلت في أفغانستان ... وصدق المتنبي:
مما أضرَّ بأهل العشق أنهمُ ... هوَوْا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعاً وأنفسهم ... في إثر كل قبيح وجهه حسنُ(172/1)
الافتتاحية
سر الغطرسة الأمريكية وواجبنا حيالها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فلا شك أن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وتداعياتها انعكست بالضرر ليس
على المسلمين في أمريكا وإنما على المسلمين في شتى ديار الإسلام، وهذا الموقف
الذي رأيناه في الحرب الهمجية التي جيشت له دول العالم ضد أفغانستان، وأطاحت
بدولة طالبان بدعوى أنها تحمي المشتبه الرئيس في هذه الأحداث، وما يتبعه من
تصرفات أمريكية هوجاء يحتاج إلى تأمل ومعرفة لأبعاده الواقعية والمنتظرة.
وبغض النظر عن الشكوك في هوية الفاعلين وعن الموقف من الحدث؛ فإن
الملاحظ أن ردة الفعل الأمريكية كانت أعظم من الفعل بمراحل لأهداف غير متعلقة
بالفعل نفسه؛ فالناظر المحايد كان يتوقع من أمريكا أن تعالج الموضوع بعقلانية ولا
تستخدم القوة بهذه الصورة التي أحدثت الدمار الشامل في البنى التحتية
والمستشفيات والمساجد والمدارس في أفغانستان، ولكن أمريكا عالجت مقتل بعض
(الأبرياء) حسب حضارتها وفلسفتها، فقتلت من الأبرياء ألوفاً ومن الجرحى
والمقعدين أمثالهم، وأسرت المئات وعاملتهم معاملة غير إنسانية بالرغم من أنهم
أسرى حرب، ثم عاملتهم بتصرفات لا تمت للسلوك الإنساني والحضاري بصلة؛
حيث وضعت الأصفاد في أرجلهم، وأُخِذوا مكتوفي الأيدي مكممي الأفواه مع ربط
عصابات على أعينهم، مع إذلالهم بحلق شعورهم بما في ذلك لحاهم، وتخدير
بعضهم وسوقهم في رحلات من قندهار إلى القاعدة الأمريكية في خليج (جوانتانامو)
بكوبا، وإدخالهم في أمكنة أشبه ما تكون بأقفاص الحيوانات، وحينما ضج العالم
ومنظمات حقوق الإنسان حتى الغربي منها بالاحتجاج على تلك المعاملة السيئة لهم،
وضرورة تطبيق الأنظمة الدولية عليهم صرح وزير الدفاع الأمريكي بكل
غطرسة (بأنهم) ليسوا أسرى حرب وإنما هم مقاتلون خارجون على القانون.
ويأبى الله إلا أن يفضح (الديمقراطية الأمريكية) ؛ حيث كان من بين
الأسرى أوروبيون أفراد من بريطانيا، بل أحدهم (أمريكي) ؛ فماذا كانت المعاملة
للغربيين؟ هل كانت هي المعاملة آنفة الذكر أم أنها معاملة أخرى؟ يؤسفنا القول
إن المعاملة كانت مختلفة تماماً؛ فالأمريكي أحيل للقضاء المدني، والبريطانيون لهم
معاملة خاصة ومختلفة تماماً؛ فلماذا كان لغير المنتمين إلى جنسيات العالم الإسلامي
معاملة (حضارية) ؛ بينما كان لمواطني العالم الإسلامي معاملة دون ذلك بكثير؟
لا شك أن لذلك أسباباً وهي:
* العداء للعالم الإسلامي؛ فهم أول من اتهم بأنهم وراء الأحداث المذكورة،
رغم أنه لم تتبين حينها أي أدلة، وبقوا لعدة أشهر حتى زوَّروا فيلماً مصطنعاً يشير
بالتهمة لأفراد من المسلمين كان محل السخرية من كثير من المتابعين له.
* استهتار الغرب واستهانتهم بالمسلمين؛ لأن جل حكوماتهم لم تحرص على
كرامتهم ولم تعطهم الحريات المسؤولة؛ فكيف يحترمهم الآخر؟
* العمل على إيقاف المد الإسلامي في العالم بعامة وفي الغرب بخاصة.
* يقينهم أن شعوب العالم الإسلامي وحكوماته لن تواجههم على جرأتهم، ولن
تحتج لتلك التصرفات الهمجية حيالهم.
هذه أسباب يعرفها الجميع، لكن ما يلزم تسليط الضوء عليه وفضحه أمام
العالم هو أن موجِّه العقلية الأمريكية يكمن في تشبُّعها بالفلسفة البراجماتية وتسمى
أحياناً (الذرائعية) أو (النفعية) ، حيث يورد مؤصلو هذه الفلسفة من الأمريكان
أن قيمة الشيء أو الفعل لا تكمن في ذاته، بل في مدى منفعته المحسوسة للفرد وما
يمثله من عائد على تحقيق غايته بغض النظر عن تعارض ذلك مع القيم الأخلاقية
ومع غايات الآخرين. ويقول (وليم جمس) في كتابه (إرادة الاعتقاد) : «إن
الحقيقة تقوم في مطابقتها للواقع الملموس؛ وهذه المطابقة تقاس بمدى نفعها» .
ويهمنا في هذا المقام مطابقة هذا الموقف الفلسفي بأمرين:
* نمط الثقافة الأمريكية، وهي ثقافة لا أساس حضارياً لها من حيث النشأة؛
وبذلك تعتبر ثقافة اللحظة والحاضر أكثر من اهتمامها بالماضي وقيمه وتأثيره؛ ولذا
فكثيراً ما تثير قضايا صراع الحضارات ودعوى (نهاية التاريخ) بها.
* نمط السياسة الأمريكية القائم على النفعية في التوجه العام والسلوك واتخاذ
القرار.
وإذا جمعنا الأمرين معاً فعلى ضوئهما نفهم مغزى التأييد المستمر للسياسة
الأمريكية لدولة عدوة لنا هي (إسرائيل) ؛ حيث النشأة واحدة؛ فكلهم من
المهاجرين الذين حطوا الرحال في أرض مغتصبة على حساب شعب آخر.
كما أن نفعية (إسرائيل) لأمريكا على المدى الزمني المنظور (ماضياً وحاضراً
ومستقبلاً قريباً) عن طريق اللوبي الصهيوني هو بالنسبة لها أفضل من نفعية
العرب (المضمونين) لها في المدى نفسه؛ ولذلك وجدنا أمريكا تقف مع عدونا
الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، وتسكت عن الحرب الهمجية
ضدهم بما فيها الإبادة والظلم والاستهتار بحقوق الإنسان؛ ومع ذلك تناصر العدو،
بل تتبنى موقف حكومة العدو المتطرفة بينما الشعب اليهودي فيه اتجاهات أخرى
ترفض النهج الليكودي انطلاقاً من النظر إلى مصلحة اليهود في المدى
البعيد، وهكذا أصبحت أمريكا صهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم.
ولا يغيب عن البال عند النظر في السياسة الأمريكية أثر الفلسفة الغربية
المعروفة بـ (الميكيافيلية) والتي تعني أن الغاية تسوِّغ الوسيلة؛ فالموقف
الأمريكي من معاقبة من تتهمهم بأحداث 11 سبتمبر مثلاً هو محاولة استئصالهم
والقضاء عليهم؛ فلا يهم بأي وسيلة يتم ذلك سواء بالقصف الجوي بشتى وسائل
الدمار أو بضرب المدنيين أو باستعمال الأسلحة المحرمة دولياً ما دام ذلك يحقق
شيئاً من الأهداف المرسومة سلفاً حتى ولو خالفت الأنظمة الدولية المرعية، بل
حتى لو ضربت بحقوق الإنسان عرض الحائط فحسبها أن تحقق أهدافها وكفى.
لكن الشيء الذي يحز في النفس أن كثيراً من حكومات دول العالم العربي والعالم
الإسلامي والتي أيدت ما يسمى بحرب الإرهاب خوفاً أو قهراً لم تطالب بتحديد
المعنى الحقيقي للإرهاب حتى لا يدخل فيه حق جهاد المحتل والغاصب وحق تقرير
المصير والدفاع عن الحرمات والأعراض، فهرولت هذه الحكومات وراء أمريكا
غير مدركة حقيقة العقلية البراجماتية الذرائعية الأمريكية التي حدودها في النفع
والنفع وحده؛ حتى لو كان على حساب القيم المرعية؛ بل تمادت في التهديد
بضرب دول إسلامية أخرى بدعوى أنها مأوى لمن تسميهم الإرهابيين بدعاوى
وأوهام لم توافقها عليها حتى كثير من الدول الغربية.
بل زادت على ذلك بأن دعت وبكل وقاحة إلى تجريم وجود بعض الجمعيات
الخيرية وأنشطتها ومصادرة حساباتها، ونفذت ذلك بالفعل، ودعت إلى تغيير
المناهج الإسلامية في الدول الإسلامية، ولا يُستبعد أن تطالب بإلغاء فريضة
الزكاة؛ لأن فيها دعماً للإرهاب المزعوم؛ وصدق الله العظيم: [وَلاَ يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) .
إننا نطالب بتحديد المعنى الحقيقي للإرهاب الذي تتهرب منه أمريكا حتى لا
يتم تجريمها هي وربيبتها (إسرائيل) .
وبدون موقف موحد يراعي احترام ثوابتنا وتقدير مشاعرنا وإيقاف التحيز
الكبير لأعدائنا فلن تتوقف تلك المهازل التي سخر منها كثير من الغربيين حينما
قالوا بأن حرب الإرهاب الأمريكية تحولت إلى إرهاب حقيقي. وإلا أصبحنا لعبة
في يد أمريكا.
لقد افترضنا أن بعض حكومات العالم العربي والإسلامي قد (تضطر) إلى
توقيع معاهدات واتفاقيات مجحفة مع أمريكا، وأنها لن تجرؤ على الوقوف في
وجهها؛ لكننا نقول: لماذا لا تترك الشعوب تؤدي واجبها بالمقاطعة الاقتصادية؟ !
ثم حتى متى تجعل الدول الإسلامية الدولار الأمريكي غطاء عملتها؟ ! وحتى متى
نضع أموالنا في البنوك الأمريكية؟ ! وحتى متى تُستثمر أموالنا لحساب الاقتصاد
الأمريكي ما دام أنها تعلن العداء لأمتنا بكل وضوح مستغلة قوتها وهيمنتها؟ !
إن مثل هذه المواقف هي التي يمكن أن تلفت نظر أمريكا إلى وجود أخطار
عليها إذا ما ثأر المسلمون لحقوقهم المهدرة؛ وحينها تفهم أمريكا حقيقة الضرر
الماحق من جراء معاداة المسلمين؛ وهذا ما فطن له رجل له خبرة كبرى في
السياسة الخارجية هو (هنري كيسنجر) وحذر منه في كتابه: «مفهوم السياسة
الخارجية الأمريكية» حينما قال: «إن غطرسة القوة التي تفرض نفسها على
عمل مجمل السياسة الخارجية الأمريكية قد جعلت من أمريكا الشرطي الذي يحاول
خنق أصوات الاحتجاج التي تصدر حتى عن حلفائه وأصدقائه، وهي سياسة ضالة
لا بد أن تؤدي مع الأيام إلى صحوة هؤلاء الحلفاء والأصدقاء، ثم إلى نقمتهم
واعتراضهم بكل الوسائل وبجميع الأشكال؛ فتغدو قوة أمريكا سبب دمارها» .
وعبَّر وليم فولبرايت رئيس لجنة العلاقات الخارجية الأسبق بمجلس الشيوخ
الأمريكي وهو مؤلف كتاب «غطرسة القوة» معبراً عن هذا المعنى: «مما لا
يخطئه التقدير أن أمريكا قد أخذت تدريجياً في إظهار دلائل الغطرسة التي أذلت
وأضعفت أمماً عظيمة في الماضي؛ بل سحقت بعضاً منها، وعندما نمارس ذلك
نكون قد فقدنا قدرتنا وعهدنا في أن نضرب أمام العالم مثال الدولة المتحضرة،
وتصورنا هذا هو الذي يحفز (الرجل الوطني) إلى إبداء الاعتراض علينا؛ لأن
هذا ما يفرضه عليه الواجب» .
إن تعامل أمريكا معنا بعقليتها البراجماتية الذرائعية وسياستها المكيافيلية يجعلنا
ونحن الأمة الإسلامية التي لها عقيدتها ولها كرامتها المستمدة من دينها الذي تعتز به
نطالب بكل قوة أن تنظر أمريكا في عدالة مواقفها منا بالمعيار نفسه الذي تزن به
مواقفها مع حلفائها الأقربين ومع ربيبتها (إسرائيل) ، وإلا كنا أذلة وتابعين، وهذا
ما لا يقبله أي مسلم شريف. ويجب على أمريكا الموضوعية في مواقفها بعيداً عن
الانحياز الأعمى والكيل بمكيالين وعليها أن تدرك الأسباب الحقيقية للأحداث
الأخيرة، فهل تعي ذلك وتتفهم ما قاله بعض مفكريها ممن سبق الإشارة إليهم؟
قال تعالى: [أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ
فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن
يَمْشِي مُكِباًّ عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياًّ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (الملك:
20-22) .(172/4)
خير الهدي
الطائفة المنصورة تنقذ الموقف
د. أحمد بن عبد الله الزهراني [*]
وردت الآثار النبوية بذكر الطائفة المنصورة واستمراريتها حتى تقوم الساعة.
والطائفة المنصورة هم من الأمة الإسلامية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
والطائفة تطلق في العرف اللغوي على ما زاد على اثنين فصاعداً، وورد في بعض
الروايات أنهم عصابة. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن لها عدة صفات:
1 - كونها منصورة.
2 - قائمة بأمر الله تعالى.
3 - ظاهرة على الحق، أو على الحق ظاهرة، أو ظاهرون على الناس.
4 - يقاتلون على أمر الله.
5 - قوّامون على أمر الله.
6 - قاهرون لعدوهم أو لعدوهم قاهرون.
وذكرت الآثار النبوية أنهم مع ما هم عليه من تلك الصفات الحميدة سيلاقون
عقبات في طريقهم، وأن تلك العقبات تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: عقبات داخلية تتمثل في التخذيل، وفي المخالفة.
القسم الثاني: عقبات خارجية تتمثل في مجابهة العدو وملاقاته ومناوأته لهم.
وإن هذه العقبات بشقيها تلازم تلك الطائفة المنصورة حتى يأتي أمر الله تعالى
وهو قيام الساعة وهم لا يزالون متمسكين بما هم عليه. وإن هذه الأوصاف للطائفة
المنصورة لتحمل في طياتها البشارة لهم بالنصر والتمكين لهم في الدنيا والفوز
والفلاح في الآخرة لكونهم مستمرين وملتزمين بأمر الله تعالى، ويدعون إليه بل
ويقاتلون عليه من ناوأهم من خلق الله حتى يأتي أمر الله تعالى. وذكر أهل العلم أن
تلك الطائفة تتعدد وتتنوع؛ فمنهم من يقوم بالعلم ونشره، وآخرون بالدعوة
وتبليغها،وآخرون يرفعون راية الجهاد، وآخرون أهل زهد وعبادة وغير ذلك [1] .
وليست الطائفة المنصورة مجتمعة في قطر أو مكان محدد، بل ربما اجتمعوا
وربما كانوا مفرقين في أقطار متعددة وربما يكثرون أو يقلون. ولا يعكر هذا ما
ورد في بعض الروايات أنهم بالشام، وبعضها ذكرت أنهم ببيت المقدس وأكناف
بيت المقدس، وفي بعضها (ولا يزال أهل الغرب) وفسر بعض أهل العلم (أهل
الغرب) بأنهم أهل الشام. وهذه الروايات مفادها والله أعلم أن الطائفة المنصورة
تكون في آخر الزمان ظاهرة في بلاد الشام وستقع بينهم وبين أعدائهم ملاحم عظيمة،
وهم مع ذلك ظاهرون وصامدون لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال
طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم
الدجال» [2] .
والدجال ستكون المواجهة معه في بلاد الشام. أما حصر الطائفة المنصورة
ببلاد الشام فقط ففيه حصر للنص، وحرمان لمن كان على الحق وناصراً له في
غير بلاد الشام من دخولهم ضمن الطائفة المنصورة.
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا يزال
أناس من أمتي منصورين لا يبالون من خذلهم حتى تقوم الساعة» [3] .
فالحديث أثبت ميزة لأهل الشام، لكنه لم يربط الطائفة المنصورة بهم، بل
جاء الخبر عاماً فيهم وفي غيرهم. يقول الحافظ النووي رحمه الله: «ولا يلزم أن
يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض» [4] . ويقول الحافظ
ابن حجر رحمه الله: «ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد بل يجوز
اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في
البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها
من بعضهم أولاً فأولاً إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد؛ فإذا انقرضوا جاء
أمر الله» [5] .
وإن من أبرز سماتهم وصفاتهم ثباتهم على الحق وقتالهم عليه من ناوأهم حتى
يوم القيامة لا يبالون من خذلهم، ولا من خالفهم، ولا من نصرهم. ففي صحيح
مسلم عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين
يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» [6] ، كما روى
مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم
القيامة» [7] . وروى أبو داود والحاكم عن عمران بن حصين رضي الله عنه
مرفوعاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون
على الحق، ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال» .
والمراد بظهورهم في الحديث أي غير خافين ولا مستترين بل غالبون
وظاهرون على غيرهم حساً ومعنى؛ لأن الظهر في اللغة خلاف البطن. فهو يدل
على الارتفاع مع بروز، والبطن يدل على تستر وانخفاض. وهذه الروايات
ربطت بين القتال والظهور؛ فهم في قتالهم لهم الغلبة ولا تكون الغلبة إلا بظهور.
وعلى هذا تفسر الروايات الأخرى التي ورد فيها ذكر الظهور فقط دون ذكر القتال.
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم
ظاهرون» [8] .
وعن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم
حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس» [9] . وعن سعد ابن أبي وقاص
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أهل الغرب
ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» [10] . وعن ثوبان رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» [11] . وفي رواية عند
ابن ماجة: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين لا يضرهم من خالفهم
حتى يأتي أمر الله» . وعن قرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا يزال أناس من أمتي
منصورين لا يبالون من خذلهم حتى تقوم الساعة» [12] . وفي رواية عنه: «لا
تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة» . ويؤيد
هذا حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه مرفوعاً: «لن يبرح هذا الدين قائماً
يُقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» [13] . وفي لفظ عند الحاكم:
«لا يزال هذا الدين قائماً يقاتل عليه المسلمون حتى تقوم الساعة» [14] .
وروى مسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: «أما أنا
فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون
على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على
ذلك «. فقال عبد الله: أجل ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك، ومسها مس الحرير،
فلا تترك نفساً في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلاّ قبضته، ثم يبقى شرار الناس
عليهم تقوم الساعة» [15] .
والقهر للعدو لا يكون إلاّ بالغلبة والظهور عليه. وقد جاء في الروايات تفسير
الظهور بالقهر كما جاء تفسيره بالنصر، وكلها معان تفسر كلمة (ظاهرين) . قال
الإمام القرطبي: «وظاهرين منصورين غالبين كما قال في الحديث الآخر:»
يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خذلهم «أي من لم ينصرهم من
الخلق» [16] . وسبق ذكر حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عند أبي داود
في الجهاد، وعند الحاكم في الجهاد، والفتن.
إن هذه النصوص النبوية تدل دلالة واضحة على أهمية الجهاد في سبيل الله،
وأنه لا ينقطع بل إنه مستمر حتى قيام الساعة من أجل حماية الدين ونصرة الحق
ودمغ الباطل. ومن هنا تعلم عظمة فقه السلف عندما أوجبوا الجهاد مع البر
والفاجر حتى مع الحاكم الظالم الفاجر الجائر، وأن ما هم فيه من الجور والظلم لا
يسقط الجهاد معهم.
ورحم الله الإمام الخطابي عندما بين معنى حديث عمران بن حصين عند أبي
داود فقال: «فيه بيان أن الجهاد لا ينقطع أبداً؛ لأن الأئمة كلهم لا يتفق أن يكونوا
عدلاً؛ فقد دلّ هذا على أن جهاد الكفار مع أئمة الجور واجب كهو مع أهل العدل،
وأن جورهم لا يسقط طاعتهم في الجهاد وفيما أشبه ذلك من المعروف» [17] . وإن
الحكمة من ذلك والله أعلم هي المحافظة على أمر الشارع الحكيم في استمرارية
شعيرة الجهاد حتى لا تتعطل، ومن ثم يتعطل ما ينتج عن الجهاد من الآثار
العظيمة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ] (التوبة: 52)
قال ابن تيمية رحمه الله: «يعني إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة؛ فمن
عاش من المجاهدين كان كريماً له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ومن مات
منهم أو قتل فإلى الجنة» [18] .
إنّ طريق العزة في الدارين هي إعلان راية الجهاد في سبيل الله، وبذل المال
والنفس في سبيله حتى تنعم البشرية المسلمة بالنصر والعزة في واقعها البشري، أو
تنعم بالفوز والفلاح في واقعها الأخروي. ولقد أخبرتنا الآثار النبوية بأن الطائفة
المنصورة ستواجه المخذلين والمعوقين والمخالفين في طريق الجهاد وهؤلاء غالباً ما
يكونون داخل صف المسلمين، وهم أيضاً من الابتلاءات في الطريق من يوم أعلن
النبي صلى الله عليه وسلم حالات الجهاد الفعلية، وسيبقون حتى ينتهي الجهاد يوم
تقوم الساعة.
فمن ذلك ما قصه الله سبحانه وتعالى علينا في غزوة الأحزاب: [وَإِذْ يَقُولُ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت
طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ
سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ
يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ
القَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً
أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ
المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً]
(الأحزاب: 12-18) .
إنها صورة مظلمة جمعت من اللؤم وخسة الطبع ودناءة النفس ما الله به عليم؛
ولذا توعدهم الباري سبحانه في آخر السورة بالطرد والقتل وعدم الجوار؛ وتلك
سنة الله المطَّردة التي لا تتغير ولا تتبدل.
قال تعالى: [لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا
وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]
(الأحزاب: 60-62) .
والآثار النبوية ذكرت أصناف الناس أربعة وهم:
الصنف الأول: الطائفة المنصورة، ووصفتهم بأنهم قائمون بأمر الله تعالى،
وأنهم منصورون، وأنهم ظاهرون على الناس، وأنهم يقاتلون على الحق، وأنهم
قاهرون لعدوهم، وأنهم غير مبالين بمن خذلهم أو خالفهم أو نصرهم، وأنهم على
ذلك حتى يأتي أمر الله تعالى.
الصنف الثاني: المخذلون. وهم القاعدون عن الجهاد وأهله.
الصنف الثالث: المخالفون. وهم الذين ضد الطائفة المنصورة.
الصنف الرابع: الذين يناصرون القائمين بأمر الله تعالى، ولكنهم ليسوا في
منزلة الطائفة المنصورة.
فعلى المسلم أن ينظر لنفسه من أيّ الطوائف يكون: أيكون من المنصورة،
أو من المناصرة، أو من المخذلة، أو من المخالفة؟ والله سبحانه هدى الإنسان
وعرّفه الطريق. قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً]
(الإِنسان: 3) ، وقال تعالى: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] (البلد: 10) ، وقال تعالى:
[بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ] (القيامة: 14-15) .
وليعلم القائمون بأمر الله تعالى أنه مطلوب منهم أن يعدوا العدة لإرهاب أعداء
الله وأعدائهم، وأن يحرضوا المؤمنين على القتال، وأن يهيئوا أنفسهم للنفور في
سبيل الله خفافاً وثقالاً، وأن يصبروا على ما يلاقون في طريقهم من الأذى والعنت
والمشقة، وأن يتوكلوا على الله وحده حق التوكل. ومع كل هذا لا بد أن تستقر
الحقيقة الكبرى في النفوس أن النصر من عند الله العزيز الحكيم مهما بذلوا من
الأسباب والوسائل، قال تعالى: [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
المُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ
اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ] (آل
عمران: 121-127) .
قال تعالى: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي
يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران: 160) إنّ سنن
التغيير مربوطة بيد الله تعالى: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ]
(التكوير: 29) ، لكن مطلوب من العباد أن يأخذوا بالأسباب مع عدم الاتكال
عليها. قال تعالى: [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا
لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ] (الرعد: 11) .
وإذا نظرت إلى المعارك التي دارت بين المسلمين وأعدائهم لم تجد التكافؤ
بين الفريقين، وأظنه لن يكون والله أعلم حتى قيام الساعة؛ لأن الله سبحانه له
حكمة في ذلك؛ فالنصر مع القلة والضعف ليس كالنصر مع الكثرة والقوة؛ ولذا
أثنى على القلة وذم الكثرة. قال تعالى: [قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 249) . وقال
تعالى: [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] (التوبة: 25) .
وقال تعالى: [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] (يوسف: 103) .
وقال تعالى: [وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ] (الأنعام: 116) .
وإذا انتقلت من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام مع العلم أنهم
هم القدوة في كل شيء؛ لأن الله تعالى يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21) ، ولو
انتقلت إلى العهود المتأخرة وبعد الأمة الإسلامية عن الالتزام بدينها مثل عهد القائد
عماد الدين زنكي، وعهد نور الدين محمود زنكي، وعهد صلاح الدين الأيوبي،
ومقابلة هؤلاء العمالقة لجحافل الصليبيين لما رأيت تناسباً ولا تناسقاً ولا تكافؤاً في
العدد ولا في العدة، ومع ذلك كتب الله لهم النصر [19] .
ولو انتقلت إلى عهد الدولة السعودية الأولى دولة التوحيد التي أسس بنيانها
وأقامه وشيده الداعية المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع من
حولهم من أمراء الأقاليم في نجد والشريف في الحجاز، وأمير الأحساء ومن حوله،
وكل هؤلاء قاموا ضد دعوة التوحيد وتآمروا على القضاء عليها ومع ذلك نصرهم
الله عليهم وكتب لهم النصر والتأييد [20] . فليعِ القائمون بأمر الله تعالى أن الابتلاء
في الطريق إلى الله تعالى سنة من سننه التي لا تتغير ولا تتبدل، كما أن شعيرة
الجهاد في سبيل الله أبدية حتى تقوم الساعة، وأن تربية النفس البشرية بعيداً عن
روح الجهاد تربية ناقصة وهزيلة. كما أن النصر والغلبة في الواقع البشري ليس
بكثرة العدد والعتاد؛ فما نفعت المسلمين كثرتهم يوم حنين، بل إن النصر والغلبة
قد يأتي والمسلمون في حالة ضعف ظاهرة كما حصل لهم يوم بدر كما قال تعالى:
[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (آل عمران:
123) .
وعلى القائمين بأمر الله أن لا يخافوا إلا الله، وأن لا يخشوا إلا إياه؛ فقد
حذرنا ربنا سبحانه من الوقوع في خشية غيره أو الخوف من سواه أو الرهبة من
غيره. فهذه أمراض قلبية لا يعلمها إلا الله سبحانه؛ فإذا خلصت النفوس من هذه
الأمراض الداخلية الخفية حصل لها النصر في ذات نفسها وهذا هو المطلوب أولاً،
ثم حصل لها النصر بعد ذلك في الواقع البشري؛ وهذان الأمران متلازمان؛ فإن
النصر العلني المشاهد لا يتحقق إلا بعد النصر الخفي في قرارة النفس. قال تعالى:
[إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل
عمران: 175) . وقال لعموم بني إسرائيل تنبيهاً لنا: [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]
(البقرة: 40) . وقال تعالى: [فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ] (المائدة: 44)
وقال تعالى: [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (البقرة: 150) . وقال تعالى:
[اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ] (المائدة: 3) . وقال
تعالى: [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ] (التوبة: 18) .
وقال تعالى: [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى
بِاللَّهِ حَسِيباً] (الأحزاب: 39) . وقال تعالى: [أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (التوبة: 13) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: «ولن يخاف الرجل غير الله إلاّ لمرض في قلبه؛
كما ذكروا أن رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال: لو
صححت لم تخف أحداً. أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك؛ ولهذا أوجب
الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان، بل لا يخافوا غيره تعالى» [21] .
ورحم الله سيد قطب عندما قال: «وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني
على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي
تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله ... وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى
استئناف حياة إسلامية بعون الله. إن منهج الله ثابت، وقيمه وموازينه ثابتة،
والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور
وقواعد السلوك، ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على المنهج، ولا مغيراً
لقيمه وموازينه الثابتة. وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك فإنه يصفهم
بالخطأ، وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف ولا يتغاضى عن خطئهم
وانحرافهم مهما تكن منازلهم وأقدارهم ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم. ونتعلم
نحن من هذا أن تبرئة الأشخاص لا يساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة
المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون
والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه أياً كانوا وألا تسوَّغ أخطاؤهم
وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج، وتبديل قيمه وموازينه؛ فهذا التحريف والتبديل
أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف؛
فالمنهج أكبر من الأشخاص، والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل، وكل
وضع صنعه المسلمون في تاريخهم وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقاً
تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على
الإسلام وعلى تاريخ الإسلام، إنما يحسب على أصحابه وحدهم، ويوصف أصحابه
بالوصف الذي يستحقونه: من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام.
إن تاريخ الإسلام ليس هو تاريخ المسلمين ولو كانوا مسلمين بالاسم أو
اللسان، إن تاريخ الإسلام هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام في تصورات الناس
وسلوكهم، وفي أوضاع حياتهم ونظام مجتمعاتهم. فالإسلام محور ثابت تدور حوله
حياة الناس في إطار ثابت؛ فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار أو إذا هم تركوا ذلك
المحور بتاتاً فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على
الإسلام، أو يفسر بها الإسلام، بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا
عن منهج الإسلام، وأبوا تطبيقه في حياتهم، وهم إنما كانوا مسلمين؛ لأنهم
يطبقون هذا المنهج في حياتهم، لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين، ولا لأنهم يقولون
بأفواههم إنهم مسلمون؛ وهذا ما أراد الله سبحانه أن يعلمه للأمة المسلمة وهو
يكشف أخطاء الجماعة المسلمة ويسجل عليها النقص والضعف، ثم يرحمها بعد ذلك
ويعفو عنها ويعفيها من جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء» [22] .
إن منهج الله تعالى ثابت لا يتغير ولا يتبدل، وهذه حقيقة يجب على كل مسلم
معرفتها وإدراكها، كما يجب على كل مسلم أن يحافظ على هذا المنهج الذي رضيه
الله لعباده وأتمه وأكمله. وإن من أهم الوسائل التي تحافظ على هذا المنهج وتحميه
من العوادي أيًا كانت رفع راية الجهاد واستمراريته حتى تقوم الساعة، وأن تربى
الأجيال على ذلك. فإن قصَّر المسلمون كما نراه ونشاهده في رفع راية الجهاد لما
حلّ بهم من الوهن والضعف، فعلى الطائفة المنصورة والقائمة بأمر الله تعالى أن
تبادر بالقيام فيما قصر فيه المسلمون وترفع راية الجهاد: إنفاقاً في سبيل الله،
ومرابطة في الثغور، وتجهيز الغزاة، وإعداد القوة، وغير ذلك من متطلبات هذه
الشعيرة الغالية؛ لأن من صفات هذه الطائفة أنها تقاتل على الحق من ناوأهم إلى
يوم القيامة.
لقد اختل لدى المسلمين مفهوم الجهاد وحقيقته وغاياته وأهدافه ودوافعه، حتى
أصبح لدى كثير منهم وصم من كان مرابطاً في بعض ثغور المسلمين بالتطرف
والإرهاب. وأصبحت حكومات العالم الإسلامي تسعى جاهدة في القضاء على
شعيرة الجهاد وتطارد من نذر نفسه للموت في سبيل الله؛ ولذا وجب على الطائفة
القائمين بأمر الله أن يستغفروا ربهم ويبيعوا أنفسهم لربهم كما ذكر الله تعالى ذلك
عنهم في قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ]
(التوبة: 111) . فإذا خلصت النية، وتوفرت الشروط، وانتفت الموانع فحيهلا
إلى ساحات الوغى مع أُسد الشرى من أجل تحقيق المنى في رفع رايات العلا.
ورحم الله ابن القيم القائل: «وكفى بالعبد عمى وخذلاناً أن يرى عساكر
الإيمان وجنود السنة والقرآن وقد لبسوا للحرب لأمته، وأعدوا له عدته، وأخذوا
مصافهم، ووقفوا مواقفهم، وقد حمي الوطيس، ودارت رحى الحرب واشتد القتال
وتنازلت الأقران: النزال النزال؛ وهو في الملجأ والمغارات، والمدخل مع
الخوالف كمين، وإذا ساعد القدر، وعزم على الخروج قعد فوق التل مع الناظرين
ينظر لمن الدائرة ليكون إليهم من المتحيّزين، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيْمانه
إني كنت معكم وكنت أتمنى أن تكونوا أنتم الغالبين؛ فحقيق بمن لنفسه عنده قدر
وقيمة أن لا يبيعها بأبخس الأثمان، وأن لا يعرضها غداً بين يدي الله ورسوله
لمواقف الخزي والهوان، وأن يثبت قدميه في صفوف أهل العلم والإيمان، وأن لا
يتحيز إلى مقالة سوى ما جاء في السنّة والقرآن» [23] .
أمّا واقع العالم الإسلامي اليوم فقد امتنعت حكوماته عن تحقيق الدين كله لله
تعالى، بل أمثلهم طريقة أخذ بعضاً من الدين، وترك بعضه الآخر، فامتنعوا عن
ترك الربا المحرم وهو من آخر ما حرّمه الله تعالى، وامتنعوا عن تحريم الفواحش
كالزنا والخمور والمخدرات، وامتنعوا عن تحريم الاختلاط والسفور باسم الحرية
والحقوق الشخصيّة، ومن حق أيّ إنسان أن يعيش كيف يشاء! كما عقدوا صفقة
أيديهم مع أعداء الله على محاربة شعائر الإسلام العملية عموماً كإقامة الحدود والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعظم تلك الشعائر التي وقفوا ضدها هي شعيرة
الجهاد في سبيل الله ضد الكفر وأهله، بل الأدهى والأمرُّ أنهم عقدوا المعاهدات
الدولية، وأقاموا المنظمات والاتفاقات الدولية على محاربة من أراد أن يقوم بفرض
الجهاد، والزج بهم في السجون، بعد رصد حركاتهم والتربص بهم في كل قطر.
والأعظم والأمرُّ أن ملة الكفر بجميع أنواعها تترست بأولئك الحكام، فوقفوا سداً
منيعاً ضد من يدعو إلى الله، وينادي بالجهاد في سبيل الله.
نسأل الله أن يعز دينه، وأن يعلي كلمته، وأن ينصر عباده المجاهدين. آمين.
وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) عميد كلية القرآن الكريم سابقاً، وأستاذ مساعد في التفسير وعلوم القرآن سابقاً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (1) انظر: الفتاوى، ج 4، ص 97، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج 13، ص 16 67، وفتح الباري، ج 13، ص 293 295.
(2) انظر: سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في دوام الجهاد، ج 3، ص 11، والمستدرك للحاكم، ج 2، ص 71، ج 4، ص 450.
(3) رواه أحمد رقم (19473) وهذا لفظه ورقم (19468) ، ورقم (15043) ، والترمذي في الفتن رقم (2118) ، وابن ماجة في المقدمة (6) .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي، ج13، ص 66 67.
(5) فتح الباري، ج 13، ص 295.
(6) انظر: كتاب الإمارة رقم 3549.
(7) انظر: كتاب الإيمان رقم (225) ، وكتاب الإمارة رقم (3547) .
(8) رواه مسلم في كتاب الإمارة رقم (3545) وهذا لفظه والبخاري في المناقب رقم (3368) وفي الاعتصام رقم (6767) وفي التوحيد رقم (6905) ، ورواه أحمد في المسند رقم (17433) ورقم (17493) ، والدارمي رقم (2325) .
(9) رواه مسلم في الإمارة رقم (3548) ورقم (3549) ، والبخاري في فرض الخمس رقم (2884) والمناقب رقم (3369) ، وأحمد رقم (16305) (16323) (16324) .
(16276) ، وابن ماجة في المقدمة رقم (9) .
(10) انظر: كتاب الإمارة رقم (3551) .
(11) رواه مسلم في الإمارة رقم (3544) وأحمد (21369) ، والترمذي في الفتن (2155) ، وابن ماجة في المقدمة (10) والفتن (3942) .
(12) رواه أحمد رقم (19473) وهذا لفظه ورقم (19468) ، ورقم (15043) ، والترمذي في الفتن رقم (2118) ، وابن ماجة في المقدمة (6) .
(13) رواه مسلم في الإمارة رقم (172) .
(14) انظر: المستدرك، ج 4، ص 449.
(15) انظر: كتاب الإمارة رقم (176) .
(16) المفهم، ج 3، ص 762.
(17) معالم السنن، ج 2، ص 236.
(18) كتاب الجهاد، ج 2، ص 63.
(19) انظر: كتاب الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، للأستاذ محمد الناصر.
(20) انظر: كتاب تاريخ الجزيرة العربية في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(21) كتاب الجهاد، ج 2، ص 86.
(22) في ظلال القرآن، ج 1، ص 533.
(23) مقدمة الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية المعروفة بالقصيدة النونيّة، ص 5.(172/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
إنها السنن
د. عبد الغني بن أحمد مزهر التميمي [*]
أود في هذه الصفحات أن أتناول شيئاً من دراسة الواقع اليهودي في فلسطين،
وما يمتد له من حبل الناس على ضوء السنن الإلهية التي بيَّنها الكتاب العزيز
والسنة النبوية الثابتة، وأختصر قدر ما يسعني الاختصار.
وألخص هذا الموضوع في نقاط تسهيلاً على نفسي وعلى القارئ:
1 - عندما يطرأ حدث كبير أو تقع مشكلة كبيرة لها أثرها وانعكاسها على
الواقع سواء على المستوى الفردي، أو المستوى الجماعي، فأول ما ينبغي على
المسلم أن يفعله لالتماس المخرج هو الحكم الشرعي، أي حكم الله تعالى في ذلك؛
وبناءً عليه يقوم بتحديد موقفه من هذا الحدث أو من هذه المشكلة.
إن ما يميز المسلم عن غيره أنه أعلن استسلامه وأعطى قياده وخضوعه لحكم
الله وشرعه، فلم يعط القياد والطاعة لا لقبيلة، ولا لمصلحة خاصة، ولا لقوم،
ولا لأكثرية ... ولا لغير ذلك. وكل معالجة للمواقف والأحداث لا توزن بهذا
الميزان فهي خطأ ولو وافقت الصواب «أجل خطأ ولو وافقت الصواب» .
2 - الانتفاضة في فلسطين المحتلة حدث كبير له آثاره وانعكاساته على الأمة،
فينبغي الرجوع ابتداءً إلى الحكم الشرعي لتكييف وتأصيل هذا الحدث، ومن ثم
اتخاذ الموقف الحق منه.
وهذا أمر في غاية الخطورة والأهمية؛ لأن معنى الرجوع إلى الحكم الشرعي
ابتداءً المسارعة إلى الامتثال والعمل بعد وضوح الرؤية؛ فإن لم نستطع نعذر؛
لأننا لم نُكَلَّف فوق طاقتنا [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا]
(التغابن: 16) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه
فاجتنبوه» [1] .
هذا هو الأصل في تلقي المسلم لأمر ربه؛ وليس النظر ابتداءً إلى الظروف:
هل هي مساعدة على ذلك أو لا؟ أو تمحّل الأعذار لترك العمل؛ وهنا أي في شأن
الانتفاضة ليس المطلوب ابتداءً النظر إلى توازن القوى، أو الظروف الدولية
والإقليمية حتى نحدد الموقف من الانتفاضة على ضوئه، وإلا لم يكن هناك فرق
بين المسلم وبين غيره في هذا.
إن هذا النهج قد أصبح مع الأسف شأن كثير أو بعض من المسلمين؛ وذلك
لتأثر المجتمعات بمنهج «فصل الدين عن الحياة» وهو ما أنشأ ما يسمى بالموقف
الديني، والموقف السياسي أو ما يسمى برجل الدين، ورجل السياسة؛ ليس عن
تنوع اختصاص بل عن افتراق كامل بين الموقفين، وبين الرجلين، وهذا لا علاقة
لدين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده به. أما منهج الإسلام فيتمثل في قول الله
جل وعلا: [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن
يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (النور: 51) .
إن موقف المسلم من أي قضية ينبغي ألاَّ يتكون من تأثير بيئة أو عرف
تعارف عليه قومه، أو أكثرية تضغط باتجاهه، أو ظرف دولي مهما بلغ؛ بل
ينبغي أن يكون من رؤية واضحة جلية منبثقة من فهم الحكم الشرعي ثم الاستعداد
التام للانقياد له، وما يطرأ بعد ذلك أو خلاله من ظروف وضغوط تحلل وتدرس
دراسة شرعية على ضوء الأدلة الخاصة والأصول العامة التي تتضمن رفع الحرج،
وإزالة الضرر، وتقدير الضرورات بقدرها، والموازنة بين المصالح والمفاسد..
وغير ذلك من القواعد الشرعية.
3 - لا ينبغي أن نفهم قضية فلسطين مهما بلغت حماستنا لها، وغيرتنا عليها،
وتألمنا على مسارها إلاّ من منظور الحكم الشرعي، وهذا واجب علينا باعتباره
جزءاً من مفهوم متكامل ومنهج شامل للحياة، وعلى ذلك لا تكون نصرتنا لإخواننا
في فلسطين باعثها الشفقة، ولا العاطفة الإنسانية، ولا الحماسة الوطنية، ولا
المروءة والنخوة العربية والقومية، ولا أواصر الدم أو الجوار، بل يكون باعثها
الالتزام والتقييد بالحكم الشرعي الذي تعيّن علينا معرفته، وما يترتب عليه من
مسؤولية تجاه المسلمين المظلومين في فلسطين، وهذا الفهم هو الذي يظل يضخّ
الحياة في قضايانا الإسلامية المتعددة، ويطبع أعمالنا بطابع التعبد لله سبحانه.
4 - معرفة الحكم الشرعي وحدها لا تكفي بل لا بد من حشد القوة الإيمانية
وإيجاد الطاقة التربوية التي تدفع إلى امتثال أمر الله واجتناب نهيه برضى وتسليم
وصبر وتضحية.
وإلا فكم من المسلمين يعرفون أن الربا حرام ويأكلونه، والخمر حرام
ويشربونها، والصلاة ركن من أركان الدين ويهدمونه!
5 - مما يجمّد الطاقة الإيمانية ويقلص أثرها اليأس الناتج عن النظرة
والمقارنة الواقعية بين المسلمين وبين أعدائهم؛ ولهذا لا بد من اقتلاع جذور اليأس
من نفس المسلم، ومما يساعد على ذلك:
أ - إدراك أن اليأس من كبائر الذنوب وموبقاتها، وأنه لا يجتمع مع الإيمان
الحق كما قال تعالى: [يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن
رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف: 87) .
ب - شواهد التاريخ تمنع من وقوع اليأس؛ فإن الأيام دول، والدهر قُلَّب،
وإذا كان المؤمن يأوي إلى ركن الله الوثيق ففيم اليأس؟ أليس الله بكافٍ عبده،
وهو على كل شيء قدير؟ وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ولا
يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكل يوم هو في شأن سبحانه؛ ففيم
اليأس؟ ! لكن على المسلم أن يرى أين موقعه من دين الله: هل في الصفوف
الأولى، أو هو خارج الميدان؟
ج - لقد كان اليهود أقوى حصوناً وأمنع قلاعاً وأكثر مالاً من المسلمين في
المدينة حتى حملهم هذا على ظنّ أنهم مانعتهم حصونهم وقلاعهم، وظن بعض
المسلمين أنهم لن يخرجوا، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا؛ فهم حسبوا حساب
جند المسلمين أن يأتوا من الأبواب، أو من فوق الأسوار، فأخذوا حذرهم، وإذا
بالرعب الذي لا تمنع منه حصون ولا أسوار يتسلل إلى قلوبهم ويقذف فيها قذفاً
فيستسلمون، قال تعالى: [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ
لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ] (الحشر: 2) .
د - قد أخبر الله تعالى عن اليهود أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم
القيامة. قال سبحانه: [وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ] (المائدة:
64) ، وكما قال سبحانه في شأن النصارى: [فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى
يَوْمِ القِيَامَةِ] (المائدة: 14) .
وبين (ألقينا) (وأغرينا) فرق يحتاج إلى تأمل.
أما فيما بين اليهود وبين حلفائهم فقد أخبر سبحانه وهو الحكيم الخبير أن هذا
أمر ظاهري فقط وإلاّ فإن مصالحهم شتى، وقلوبهم شتى. قال جل وعلا: [لاَ
يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] (الحشر: 14) ، أي تراهم
مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف. قال إبراهيم النخعي
رحمه الله: «يعني أهل الكتاب والمنافقين» [2] .
ولو فرض أن حلفاء اليهود من نصارى ومنافقين وغيرهم أخلصوا لليهود فإن
اليهود لا يخلصون لجنسية أخرى ولا لأهل دين آخر مهما بذل لهم، وما زالوا
يتآمرون على حلفائهم، ويتجسسون عليهم، ويسرقون أسرارهم العسكرية، وغير
ذلك على رغم كل ما بذلوه لهم.
هـ - إن اليهود قد ضرب الله تعالى عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا،
واستثنى من ذلك حالتين كما قال سبحانه: [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ
بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ] (آل عمران: 112) .
وحبل الله تعالى هو عقد الذمة لهم، أما حبل الناس فقد ذهب بعض المفسرين
إلى أنه الأمان كما في المعاهَد والمهادَن والأسير، وهذا غير صحيح؛ لأن الأمان
هو من حبل الله تعالى كعقد الذمة، والأصح أن المقصود بحبل الناس هو الدعم
والتأييد الذي يكون من الناس لهم، وهذا يشير إلى أنهم أبداً في حاجة إلى دعم من
الناس.
وهذا الدعم والتأييد تمثل في عصرنا في القوتين العظميين: روسيا،
وأمريكا. أما روسيا فقد آلت إلى ضعف وهوان، وأما أمريكا فإنها في الأثر طال
الزمن أو قصر.
وهذه الصفات التي ذكرت في اليهود من الهوان والذلة والمسكنة، والحاجة
إلى دعم غيرهم لهم وغير ذلك تجعلهم غير مؤهلين لإمامة العالم، وقد سحبت هذه
الإمامة منهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وصلاتُه في بيت المقدس بجميع
الأنبياء إشعار بهذا الأمر.
6- لا يجوز للمسلم أن ينسى حقائق القرآن أو يهتز إيمانه بها لعوارض
الواقع؛ فمن حقائق القرآن أن اليهود ضربت عليهم الذلة والمسكنة، ومن عوارض
الواقع أنهم يملكون ويبطشون، وأن العالم يستمع لهم وينحني لهم في هذه الأيام.
ومن حقائق القرآن أن الله تعالى يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء
العذاب، وأنهم كلما أوقدوا ناراً للحرب أو فتنة مؤامرات أطفأها الله.
ومن عوارض الواقع أن دولاً عظمى تقف إلى جانبهم، وأن كيدهم ومكرهم
مستمر؛ لكن ينبغي النظر إلى أن هذا الذي يبدو مخالفاً في الظاهر هو أمر عارض
سريع التحول، وهو قصير إذا ما قورن بواقع الاضطهاد والذلة في التاريخ
اليهودي؛ فقد تعرض اليهود للقهر في العصر الحديث من قِبَل ألمانيا وفرنسا
والنمسا والمجر وأوروبا الشرقية. إن الأمور بحقائقها لا بظواهرها، وبما تؤول
إليه لا بما تبدو عليه، وهذا من أعظم محكَّات الإيمان؛ فإن المنافقين ومن في
قلوبهم مرض وضعاف الإيمان يتهاوى ما لديهم من إيمان مع أدنى خوف وفزع،
وتبرز لديهم الظنون بالله سبحانه: هل ينصُر دينه، هل ينتصر أولياؤه، أو
سيُتَأصَل الدين ولا يقوم للمؤمنين بعد اليوم قائمة؟
لما ابتلي المؤمنون في الأحزاب، وزلزلوا زلزالاً شديداً حينئذ ظهر النفاق،
وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم. قال سبحانه: [وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً] (الأحزاب: 12) ،
وقال بعض هؤلاء: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا
يقدر على أن يذهب إلى الغائط» [3] . إنه الإغراق في الإيمان بالمحسوس، وعدم
اليقين بالغيب، وبوعد الله ورسوله.
ولهذا يجب أن يكون فهمنا للمتغيرات الواقعية والتاريخية في الأمم والجماعات
والأفراد أكثر عمقاً، وأدق تصوراً، وأن يكون على ضوء قواعد يقينية مقطوع بها
وليس مستنداً إلى أمور ظاهرية آنية.
ومن هذه القواعد:
- للكون إله خالق مدبر سميع بصير، حكم عدل قاهر قادر، يعز من يشاء
ويذل من يشاء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
- الكون يخلو من العبثية والفوضى والمصادفة. قال جل وعلا: [وَإِذْ يَقُولُ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً]
(الأحزاب: 12) ، وقال: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ]
(الأنبياء: 16) .
- الإنس والجن قاطبة مخلوقون لتوحيد الله تعالى وطاعته وعبادته، وليس
هناك أمة منهم أو فئة لا تجري عليها سنن الله تعالى في الخلق عزاً وذلة أو عقوبة
ومثوبة.
قال تعالى: [فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي
الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً] (فاطر: 43-44) .
وهنا يرد سؤال واقعي:
هل الحضارة المعاصرة على اختلاف مواطنها لها استثناء من الإهلاك
وحصانة من الزوال والعقاب الإلهي؟ هل هي أكبر من أن تنالها قدرة الله؟ أم أن
الحضارة المعاصرة بما يمثلها من دول ومجتمعات ما هي إلا حلقة من حلقات
التاريخ البشري يجري عليها كل ما يجري على غيرها من حضارات سابقة اتجهت
وجهتها وبغت بغيها؟
هذا هو جواب الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل من حكيم حميد:
قال جل وعلا: [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: 51) .
وقال سبحانه: [فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ]
(الزخرف: 8) .
وقال: [أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ] (التغابن: 5) .
وقال: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا] (محمد: 10) .
وقال سبحانه: [وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] (هود: 83) .
وقال جل وعلا: [أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ]
(القمر: 43) .
إذن الحضارة المعاصرة ليست نموذجاً فريداً في تاريخ البشرية يستثنى من
العقوبة الإلهية، وليست أكبر من أن تعاقَب، وليست أفضل من غيرها مما سبق
من الحضارات. هذا ملخص مضمون الآيات القرآنية المتقدمة.
وإن المتتبع لآيات القرآن العظيم المعجز يجد أن أهم الأسباب، وأبرز
العوامل المؤدية إلى انهيار الحضارات، ودمارها وكنسها من التاريخ ثلاثة عوامل،
وليس كما ذهب إليه بعض المؤرخين كالمؤرخ «بول كندي» الإنجليزي الأصل
الأمريكي الموطن؛ حيث تناول الحقبة الممتدة من (1500-2000م) ، وتناول
سقوط الإمبراطورية الإسبانية والبريطانية والعثمانية والروسية، وبيَّن أن
مواصفات السقوط لهذه الإمبراطوريات تنطبق على الولايات المتحدة؛ فهو بمعنى
آخر يبشر بسقوطها وانهيارها، وعلى رغم ما واجه من نقد لنظريته فهو مُصرّ
عليها، ويدافع عنها، لكنه - ولا يستغرب من أمثاله ممن يفسرون التاريخ على
ضوء المادية الجدلية - عزا أسباب السقوط إلى الإفراط في القوة والتوسع؛ بحيث
إن الالتزامات الاستراتيجية للإمبراطورية إذا زادت عن القوة الاقتصادية لها أدت
إلى عجزها وسقوطها [4] .
أما العوامل الثلاثة التي تحمل استحقاق الغضب الإلهي، وعقوبة الدمار
والانهيار التي أشار القرآن الكريم إليها فهي:
الكفر، الظلم والاستكبار، والفساد الخلقي والاجتماعي.
- أما الكفر فقد وردت آيات كثيرة تدل على أن الكفر بالله تعالى ونكران
توحيده وطاعته من أسباب الدمار، وأكتفي بالاستدلال بنماذج من الآيات؛ فالحصر
متعسر، ولا يتسع له المقام:
قال تعالى: [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ] (الأنفال: 52) .
وقال جل وعلا: [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ
قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ] (الرعد: 31) .
وقال سبحانه في شأن دمار سبأ: [ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ
الكَفُورَ] (سبأ: 17) .
والآيات أكثر من أن تُحصَر في هذا المقام؛ فقد وردت كلمة الكفر ومشتقاتها
في الكتاب العزيز في نحو سبعة وعشرين وخمسمائة موضع.
- وأما في سبب الهلاك بالظلم والاستكبار فقال جل وعلا: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ] (هود: 102) .
وقال: [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً] (الكهف: 59) .
وقال سبحانه: [فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ] (الحج: 45) ، وقال
سبحانه: [وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ]
(الأنبياء: 11) .
فالقاسم المشترك لإهلاك هؤلاء هو الظلم والبغي كما توضح الآيات الكريمة.
وقال: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ] (فصلت: 15-16) ، وهذا جزاء الاستكبار
والتطاول والتعالي.
وقال سبحانه: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً]
(القصص: 4) .
- وأما الفساد في الأرض فقد بين القرآن الكريم فساد قوم لوط في آيات
متعددة، وكذلك فساد قوم شعيب وما حلّ بهم من عقوبة إلهية، وفساد قوم فرعون
ومن سبقه. قال جل وعلا: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ
* الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ]
(الفجر: 6-13) .
وخلاصة ما تقدم توضح لنا الآتي:
1 - إن اليهود بدؤوا يقتربون من نهايتهم المحتومة منذ بدؤوا هجرتهم إلى
فلسطين؛ وذلك لأنهم انتقلوا من كونهم أهل ذمة ينعمون في ظل دولة الإسلام إلى
محاربين مغتصبين ظالمين، وإن انتقالهم وتجمعهم واغتصابهم لفلسطين هو باللغة
العسكرية (إعلان حرب على الأمة الإسلامية) ، وقد فعل ذلك من قبل إخوانهم بنو
قريظة حينما نقضوا ذمتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا الحرب مع
قريش والأحزاب.
2 - إن الحائط الذي يستند إليه اليهود، والدعم الذي يعتمدون عليه آيل
للسقوط، وقد تهاوى بعضه وبقيته في الأثر، فإن امبراطورية «الجنس والربا»
مصيرها هو مصير من سبقها من امبراطوريات الفساد في الأرض.
3 - إن من البلادة، وقلة الفهم أن يقرأ المسلم كتاب الله عز وجل وما يخبر
به خبر اليقين من هلاك الأمم الكافرة المستكبرة الظالمة، ثم يذهب كل فهمه إلى
قصر ذلك على أهله، وعلى حقبة تاريخية مضت وحسب.
إن سنن الله تعالى لا تتغير، ولا تتبدل؛ فهو الذي [وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى
* وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى] (النجم: 50-51)
[وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى] (النجم: 52) ، وكم
أهلك من القرون من بعد نوح، ولن تتغير سننه فيمن سلك مسلك هؤلاء من أمم
الكفر وطواغيت الأرض في كل عصر.
4 - من البلادة أيضاً أن لا يربط المسلم بين ما يحدث في الأرض من
كوارث، وزلازل وأعاصير وفيضانات وأوبئة، وغير ذلك، وبين سنن الله عز
وجل وهو يقرأ كلام الله الفصل: [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا
قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ] (الرعد: 31) ، ويقرأ مثلاً في دمار سدّ مأرب
وتمزيق سبأ: [ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا] (سبأ: 17) وغير ذلك من آيات،
ولم يدر بخَلَده أن هذه العقوبات تتجاوز قرونها وأزمانها وأممها إلى أمم علت في
الأرض ونازعت الله تعالى كبرياءه وعظمته في عصر الأقمار الصناعية
والصواريخ العابرة للقارات، والتبجح العلمي، والعنجهية المادية المغرقة في
الضلال، ألم يقرأ قول الله تعالى: [إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] (الفجر: 14) .
فهذه حضارات ثلاث كان لها مكان عظيم في التاريخ، وضربت بجذورها في
الأرض، من مدنية وعمران، وبناء مدن صخرية، وتوسع في الأموال والأنعام
والزراعة، وعظم في الأجسام وغير ذلك مما يعد مقومات للمدنية والتحضر، فاذا
هي تمحى من الوجود ولا يبقى لها باقية؛ وذلك لأنهم (أكثروا) في الأرض الفساد.
ويمكننا القول استنباطاً مما يشير إليه قوله تعالى: [فَأَكْثَرُوا] (الفجر:
12) : إن هناك خطوطاً حمراً إذا تجاوزتها أي أمة أو فرد نزل به غضب الله جل
وعلا، ولن تنفعه قوته ولا جبروته شيئاًَ من عقاب الله تعالى؛ وذلك أن الكبرياء
والعظمة لله تعالى وحده العظيم المتكبر فمن نازعه فيهما قصمه سبحانه ولم يبال به
في أي واد هلك.
والذي أروم الوصول إليه من خلال هذه المعالم القرآنية أصبح واضحاً، وهو
أن الحائط الذي يستند إليه اليهود في عصرنا هذا بات آيلاً للسقوط؛ وهذا ما يمكن
أن نسميه حتمية قرآنية، لا أدعي ذلك تهويلاً ومبالغة ولا تخديراً للعواطف، بل
هذه حقائق مسلَّمات تعتمد على نصوص قطعية محكمة، وليس إلى أحد من البشر
تقدير ذلك بالأيام والسنين؛ فالأمر كله لله جل وعلا.
قال سبحانه: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ
* وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: 49-51) .
__________
(1) أستاذ مشارك في الحديث الشريف وعلومه، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
(1) البخاري مع الفتح (13/264) ، ومسلم (2/975) .
(2) تفسير الطبري (23/293) ، المصباح المنير (1387) .
(3) ابن هشام، 1/522.
(4) جريدة الشرق الأوسط، العدد (836) .(172/16)
دراسات في الشريعة والعقيدة
المحكمات في أمور العقيدة والشريعة وسياسات الحرب والسلم
لكم دينكم ولي دين
د. عابد السفياني [*]
قال الله تعالى: [إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً] (النساء: 101) .
وقوله سبحانه: [إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ] (القمر: 47) .
وقوله سبحانه: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً]
(النساء: 89) .
والمراد بالمحكمات هنا: ما ورد في قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ
الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ] (آل عمران: 7) ، المراد بها
أساسيات الدين الواضحات البينات التي هي الأصل الذي يُردُّ إليه، ويُبنى عليه،
وهي دين الرسل عليهم السلام جميعاً، ومنها الأمر بعبادة الله وحده بلا شريك،
وتحريم الكفر والشرك والنفاق، والظلم، والربا والفواحش، والأمر بمحبة
المؤمنين، وعداوة الكافرين، وإقامة أركان الدين، ووجوب التحاكم إلى الشريعة،
وإبطال أحكام الجاهلية والأمر بالصدقة والعفاف، وصلة الأرحام، وغير ذلك مما
دعت إليه الرسل عليهم الصلاة، وما جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم،
وهذه المحكمات لا يزال الكفار يستنكرونها ويجحدونها.
وتقول العرب: بناء محكم أي وثيق، وكذا قولهم: أمر مُحْكم، وقول مُحكم
أي سليم من الاختلاف والاضطراب، وضده المتشابه في هذه الآية، وهو ما يشتبه
على البعض؛ فإن رده إلى المحكمات سَلِمَ مِن الاختلاف والاضطراب، وكان قوله
محكماً وبناؤه وثيقاً [1] .
ويجب أن نبدأ بالمحكم الأول: وهو الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك
والخرافة والظلم، والحذر من الكفار ومناهجهم وشركهم وفتنهم؛ لأنهم مجرمون
بكفرهم، وبصدهم عن سبيل الله، وبأنهم أعداء للمؤمنين يودون لو يكفر المسلمون
مثلهم. وهذا المحكم هو أم المحكمات وأساسها، وهو الذي بدأ به الرسل عليهم
الصلاة والسلام دعوتهم، ولا تصح دعوةٌ إلاّ به، وهو أصل الدين الذي نازع فيه
الخصوم، وما زال العلمانيون ينازعون فيه، ويتعجبون منه.
ألا ترى إلى بعضهم كيف يستغرب أن يوصف الذين اجتمعوا على جريمة
الكفر بأنهم كفار؟ فكيف لو عَلِمَ أن الله سماهم في القرآن «مجرمين» ؟ وهل بعد
الكفر جريمة؟
لقد تعجب بعضهم وسمى هذا: «انشطاراً» ، وأراد أن يسمي اليهود
والنصارى بغير ما سماهم الله، ويقول نكتفي بتسميتهم غير مسلمين. ونقول نحن:
وغير المسلمين هم الكفار.
إن الهجمة الشرسة على مناهجنا، والتي يقوم بها المارد الأمريكي في
صحافته، ويتابعه فيها أنصاره يريدون منها القضاء على ثوابتنا ومحكماتنا! !
ونسأل هنا ونقول: ما الفرق بين الإجرام والإرهاب؟ إنّ أكبر جريمة
عرفتها البشرية هي الكفر، وتُضاف إليه جريمة أخرى هي الصد عن سبيل الله،
ومنع الناس من عبادة الله وإضلالهم؛ ولهذا كان أعظم المجرمين هم الرهبان
والسدنة والكهان والفراعنة؛ وهؤلاء طواغيت العالم، وما العدو في نظرهم إلا
الإسلام؛ ولهذا جاء الاستعمار الفكري الجديد يقوده الفرعون الأمريكي ويمارس
الضغط العسكري والاقتصادي ويتدخل في الرأي والفكر ويمارس ما لم يمارسه
الاستعمار سابقاً، وأمام هذا الطغيان يجب أن نزن الأمور بالميزان القرآني ونصِف
الذين يتسترون على الكفر والشرك ويزيّنونه للناس باسم الحضارة المادية، بأنهم
من أكابر المجرمين. قال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا
لِيَمْكُرُوا فِيهَا] (الأنعام: 123) .
وقد وصف الكفار بأنهم مجرمون في أكثر من خمسين آية وفي أكثر من
ثلاثين سورة من القرآن، وقد تضمنت هذه الآيات الأسباب التي مِنْ أجلها وصف
الكفار بأنهم مجرمون ومنها:
الكفر التكذيب ترك الإيمان التولي عن الحق الإعراض عن شريعة الله عداوة
الرسل السخرية بالمؤمنين الاستكبار عن الحق ... ومن هذه الآيات قوله تعالى: [
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ] (يونس: 75) ، [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] (الأنعام: 55) ، [وَرَأَى المُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا
أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا] (الكهف: 53) ، [إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ
يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى] (طه: 74) ، [وَامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ * أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا
صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ] (يس: 59-61) ، [هَذِهِ جَهَنَّمُ الَتِي يُكَذِّبُ بِهَا المُجْرِمُونَ] (
الرحمن: 43) ، [كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ] (المرسلات: 46) ، [
إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ] (القمر: 47) ، [أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ
* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (القلم: 35-36) ، [إِلاَّ أَصْحَابَ اليَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ
يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ المُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ
نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ]
(المدثر: 39-46) ، وهذه الآيات بإجماع أهل العلم في هذه الأمة من لدن الصحابة
رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا في الكفار والمشركين.
فمن أحق بوصف الإجرام والإرهاب: الذين يعبدون الله عز وجل ولا
يشركون به شيئاً، ويعملون بشريعته، ويدعون الناس إلى الهدى ودين الحق، أم
الذين يكفرون به ويصدون عنه؟ والذي سماهم هو ربهم الذي خلقهم وهو أعلم بهم
سماهم كفاراً، ومجرمين، وأعداءً للمسلمين، ومفسدين في الأرض. وموقفنا منهم
أن ندعوهم للإسلام، وأن نحرص على هداهم، وسيهتدي منهم أقوام؛ فهم حينئذ
إخواننا، ويُصر على الكفر آخرون، فهم معرضون، وإذا لم يهتدوا فلا بد لنا من
موقف، فإن كفرنا مثلهم فرحوا كما قال تعالى: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَوَاءً] (النساء: 89) ، نحن نفرح إذا كنا سواء في عبادة الله وترك
الشرك والكفر والإباحية، وهم يفرحون إذا كنا مثلهم في الكفر؛ فشتان بين الفريقين:
بين المسلمين الذين يريدون الخير بالبشرية، وبين الكفار المجرمين الذين يريدون
الكفر للناس، ويسعون للتدخل في شؤون الآخرين وإفسادهم لصالح الكفر والإجرام
والإباحية والاستعمار الفكري.
لقد تدخل المارد الأمريكي من خلال العولمة في سياسة جيرانه واقتصادهم
وتفكيرهم فضجوا واستنكروا؛ أفلا يحق لنا نحن المسلمين أن نستنكر؟ !
لقد نسي الماردُ المبادئ التي كان يُتاجر بها ليأكل ضحيته، وضاعت مبادئ
الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتقرير المصير تحت الهجمة الشرسة التي
يمارسها العدو الصهيوني والمارد الأمريكي، وأفلست العلمانية يوم خلع أنصارها
جبة الحرية وحقوق الإنسان، وإذا بالغرب يتبع المارد الأمريكي وينزع عن
حركات المقاومة عند أهل السنة صفة الشرعية وهي تسعى لرد العدوان وتقرير
المصير، وجاء الاستعمار الفكري الجديد وطاردنا في أفكارنا ومناهجنا.
لقد جاءت أمريكا لتثبت للعالم أنها تمارس دوراً جديداً يتمثل في فرض التقليد
على العالم، ومن لم يكن معها فهو مع الإرهاب، لقد فرضت أمريكا التقليد على
العالم، فمن لم يكن معها فهو مع الإرهاب، وفرضت على العالم طغيان الفرعون:
[مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] (غافر: 29) وحددت معنى
الإرهاب وألبسته من شاءت ونزعته عمن أرادت، وأصبح المسلمون يستجدون
الكفار لكي لا يُلبسوا حركات المقاومة صفة الإرهاب. ونقول للمنصفين في العالم:
ما شأن المحافظين على دينهم، وما شأن المحافظين والإرهاب؟ وما شأن المناهج
العلمية والإرهاب؟ وما شأن الدفاع عن المقدسات وبلاد المسلمين والإرهاب؟
يا حسرة على العلمانيين! ويا خيبة الحرية والديمقراطية! هل سيصدق
المسلمون كلام ربهم ويوقنون به [إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً] (النساء:
101) ، [فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ] (الأعراف: 133) ، [وَلَن
تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ، [وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا] (النساء: 89) .
لقد التزم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقتدي بإخوانه المرسلين بهذه
المحكمات، وجعلها ثوابت لا تقبل التغيير، وقواطع لا تقبل التردد، وكان في
خصومته مع الكفار وفي جميع أحواله في السلم والحرب، والقلة والكثرة، والنصر
والهزيمة ملتزماً بها؛ لأنها الحق؛ ولأنها مبادئ الدين الأساسية لا تتغير بتغير
الظروف والأحوال.
لقد مرت بالمسلمين على طول التاريخ الإسلامي في علاقتهم مع الكفار أحوال
متغيرة؛ فتارة يكونون في حالة سلم ومعاهدة، وتارة في حالة حرب؛ ففي حالة
السلم يوفون بالعقود والعهود، وفي حالة الحرب يبذلون الأسباب المادية والمعنوية؛
فتارة ينتصرون، وتارة يُهزمون إما بسبب قوة عدوهم، وإما بسبب تقصير
المسلمين وأخطائهم وجهلهم بسياسات الحرب والسلم، وفي جميع الأحوال كانوا
يعتصمون بالمحكمات وهكذا فعل الجيل القدوة.
وهكذا ربى النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأمة فكانت تردُّ ما اشتبه عليها
إلى هذه المحكمات.
لقد نصر بعض الكفار المسلمين كما صنع أبو طالب عم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولكن ذلك لم يغير من المحكمات في عقيدة المسلمين شيئاً.
ولقد تلاقت مصالح المسلمين مع بعض مصالح الكفار ولم يُغير من المحكمات
شيئاً؛ فقد دخلت خزاعة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مشركة،
وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش، وبقيت المحكمات
في أذهان الأمة وعقيدتها بحالها لم يتغير منها شيء، وكان المسلمون قبل صلح
الحديبية وبعده محافظين على عقيدتهم وشريعتهم ومناهجهم وأمتهم [2] .
ومن الشبه في هذا الموضع ما قد يصوره بعض المتعجلين من أن القول
بالعمل بالمحكمات يمنع وقوع الصلح والهدنة ووضع الحرب؛ وهذا غلط فاحش؛
فقد كان أعظم الناس تمسكاً بها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه علماء
الصحابة رضوان الله عليهم لا يزالون يقاتلون ويُسالِمون، ويستفيدون من حركة
السلم كما يستفيدون من الحرب، بل قد يستفيدون من مدة السلم أكثر كما حصل في
صلح الحديبية الذي سُمي «فتحاً» .
وقد سيطرت هذه الشبه على كثير من المتعجلين حتى صبغوا حركة الدعوة
الإسلامية في بعض اتجاهاتها بالعنف مع أنه من المعلوم أنه ليس من الضروري أن
يسيطر العنف على الدعوة حتى لو بدأ به الكفار! ! ولهذا أمر الله رسوله بالدعوة
إلى المحكَمات والصبر على خصومه وإن قابلوه بالعنف، ثم أمره «بالدفاع» الذي
قد يسميه البعض في لغة العصر بـ «المقاومة» أو الدفاع عن بلاد المسلمين [3] ،
ثم شرع له الرجوع إلى الصلح إذا احتاج إليه، وكل هذا معلوم من سيرته صلى الله
عليه وسلم، ويدل عليه الكتاب والسنة.
ولم أجد لأحد من العلماء بعد التتبع والاستقراء في كتب التفسير القول بأن
الكفر وحده يقتضي دائماً أن يُقابل بالعنف والقتال، بل الذي في كتب الفقهاء
التفصيل الوارد في الكتاب والسنة، وحتى كتب المعاصرين تفسر آيات القتال، كما
تفسر آيات السلم، وتذكر كلام أهل العلم في مقاصد القتال، وفي مقاصد السلم
ومصالحه.
إن العالم والداعية إذا وقف مع المحكمات وقفةً قوية وحذّر من الكفر والكافرين،
ومن مناهجهم وضلالتهم، ومن المنافقين والمرتدين، ليس عليه بالضرورة أن
يجعل هذا متلازماً مع وجوب القتال في جميع الأحوال، وليس عليه بالضرورة أن
يلغي النصوص التي شُرع فيها السلم والمهادنة [4] .
إنني لا أعلم أن أحداً من العلماء يقول إن هناك تلازماً بين الكفر ووجوب
القتل والقتال؛ بل الإجماع الثابت أن التحذير من الكفر وأهله والتحذير من أسباب
الشرك والردة شيء، والقتال والسلم ومصالحهما وأحكامهما شيء آخر، وكتب
التفسير صورة صادقة لهذا المنهج الذي انعقد عليه الإجماع.
إن إدخال الدعوة الإسلامية المعاصرة في القتال والقتل وإلغاء الاستفادة من
نصوص السلم والمعاهدة والهدنة إنما هو بسبب اشتباه وقع لبعض الدعاة وكان
الأوْلى بهم أن يدعموا حركات المقاومة الإسلامية في الدفاع عن المقدسات، ويدعوا
الدعوة تسير في مسيرتها السلمية في العالم.
وهذا التفريق الذي عليه علماء الفقه هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم وهو
يجمع بين أمرين:
الأول: المحافظة على المحكمات، وتميز مناهج المسلمين عن مناهج الكفار،
وتبليغ الدعوة وتربية الناس عليها ولو كره خصومها، وخططوا لها وآذوا أهلها؛
وعلى الدعاة الصبر والاحتساب.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم ملتزم تجاه خصومه بالمنهج القرآني في
سياسة السلم والحرب، وإعداد العدة المعنوية والمادية، ولم يصبغ الدعوة دائماً
بالقتال؛ بل تارة يصبر، وتارة يسالم، وتارة يرد العدوان فقط، وتارة يطلب
عدوه [5] ، وينظر في هذه الأمور حسب مصلحة الإسلام والمسلمين وإمكانياتهم
المعنوية والمادية، وحسب مواقف الكفار وإمكانياتهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يلوم أصحابه إذا أخطأ بعضهم ويربيهم ويعلمهم،
ويُبين لهم أن ما يصيبهم من الهزيمة كما وقع في أُحُد أنه من عند أنفسهم، كما قال
تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ
أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) .
ويعالج الأخطاء في ضوء المحكمات، ويكشف مواضع الاشتباه بالتي هي
أحسن بخلاف حال المسلمين اليوم؛ فقد فرط كثير منهم في المحكمات؛ فإذا وقع
الاشتباه والخطأ سواء في اختبار السلم أو الحرب انقلب المسلمون على بعضهم
البعض فإذا هم فريقان يختصمان، وفي بعض الأحيان يقتتلون، وقليل منهم الذين
يصححون أخطاءهم ويصلحون أمرهم ويستفيدون من التمحيص والبلاء،
وينتظرون المحق لعدوهم وهم موقنون بنصرة هذا الدين [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا
وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ
الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 139-142) .
__________
(*) عميد كلية الشريعة في جامعة أم القرى سابقاً، وأستاذ العقيدة في الكلية نفسها حالياً.
(1) انظر: كتاب المحكمات للكاتب، طبعة دار ابن الجوزي.
(2) انظر الجواب عن شبهة بعض المعاصرين من أن العلاقات السلمية توجب المودة بين المسلمين والكفار في كتاب: العولمة وخصائص دار الإسلام ودار الكفر، للكاتب، نشر دار الفضيلة.
(3) لم يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم قتال عدوه أول الأمر بل اقتصر على رد العدوان مراعاة لمصالح المسلمين ودفاعاً عن بلادهم.
(4) راجع النصوص الداعية للسلم، وبيان مقاصده ومصالحه في تفسير ابن كثير، وكتاب الظلال، سيد قطب، سورة الأنفال، 3/1540 1541، وقد نقل كلام ابن القيم في هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين.
(5) زاد المعاد، لابن القيم، 207، 208.(172/22)
دراسات في الشريعة والعقيدة
طريقة القرآن في عرض هدايته وأحكامه
د. أحمد بن أحمد شرشال [*]
إن القرآن الكريم لم يأت على نسق الكتب الموضوعة؛ إذ ليست فيه مباحث
موضوعية مرتبة لها مقاصد وأغراض في فصول وأبواب، وإنما كان القرآن
مشتملاً على عدة سور، وكل سورة منه احتوت على آيات متعددة، وكل آية أو
آيات في غرض؛ فهذه في الوعظ، وتلك للزجر، وهذه قصة، وتلك للأمر،
وأخرى للنهي، وهذه في العقيدة، وأخرى في الأحكام، وتلك في التشريع، وهذه
في الأخلاق، وهلم جرّاً ...
واختلفت أنظار العلماء وتأملاتهم في سبب ذلك. وقد علل لهذه الظاهرة فخر
الدين الرازي، فقال:
«إن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد، وبيان الوعظ والنصيحة،
وبيان الأحكام مختلطاً بعضها بالبعض ليكون كل واحد منها مقوياً للآخر
ومؤكداً له» [1] .
ويرى في موضع آخر من تفسيره غير ذلك فيقول: «ليحمله ذلك على
القبول والخضوع» [2] ، ويرى في موضع ثالث أن ذلك يدفع عنه الملل والسآمة،
فقال: «لأن بقاء الإنسان في النوع الواحد يوجب الملل والضجر؛ فإذا انتقل من
نوع من العلوم إلى نوع آخر ينشرح صدره ويجدد الهمة والنشاط والمتابعة» [3] .
وتبعه على هذا التعليل الأخير الشيخ محمد رشيد رضا في بعض المواضيع
من تفسيره فقال: «لنفي السآمة والملل عن القارئ والسامع» [4] ، وتبعهما على
مثل ذلك الشيخ عبد العظيم الزرقاني في مناهله [5] .
أما سيد قطب رحمه الله فيرى غير ذلك فيقول: «إن منهج القرآن يتألف من
هذه وتلك على السواء، وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله» [6] .
ولعل وجه الحكمة في تنوع موضوعات القرآن أن يستفيد كل حافظ ودارس
للقليل والكثير من سوره وآياته مسائل الإيمان والفضائل والأحكام والتشريعات
المنوعة المبثوثة في السورة الواحدة وفي كل سورة.
ولو جمعت المواضيع على حدة، ورتب كل مقصد منها في سورة واحدة لفاته
الشيء الكثير، ولم يستطع أن يجمع ويحصل هذه الفضائل والأحكام والحكم إلا إذا
حفظ القرآن كله.
تفريق وتنوع هذه العناية الإلهية والحكم الربانية والأحكام العملية في السور
المختلفة وتكرارها بالعبارات البليغة يفيد منها كل من تناول القرآن بالحفظ والدراسة،
ولم يعدم الفوائد المنوعة في أي سورة أراد أن يتلوها قال تعالى: [انظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] (الأنعام: 65) .
فإن القارئ لكتاب الله لا يعدم النفع؛ وقد جاء هذا المعنى صريحاً في قوله
تعالى: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ] (الزمر: 23) ، يشبه
بعضه بعضاً ويثنى ويكرر فتثنى فيه العقائد والأحكام والحكم المواعظ والأمثال،
كما تثنى وتكرر تلاوته، فإنه مكرر الأعراض لتكون مقاصده أرسخ في نفوس
الناس، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبل [7] .
ومن أعظم الموضوعات تكراراً وانتشاراً علم التوحيد؛ فتجده مبثوثاً في كل
سور القرآن غالباً مكرراً بشتى أنواع الأساليب، فتجده في أقصر السور كما تجده
في أطولها [8] .
وهذا الترتيب في طريقة القرآن مقصود وليس فيه خلطاً كما ذكروا ليجد فيه
الناس كل ما يقوِّمهم ويزكيهم وينمي فيهم الخير والرشاد؛ فإن كثرة أغراض الكلام
وتكراره وتنوعه أشد تأثيراً في بناء الإنسان السوي.
وما ذهبنا إليه يؤيده قول الله: [وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] (
القصص: 51) ، قال مجاهد في تفسير هذه الآية: «جعلناه أوصالاً: أي أنواعاً
مختلفة من المعاني وصل بعضها ببعض» [9] . قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «
وللتوصيل أحوال كثيرة؛ فهو باعتبار ألفاظه وصل بعضه ببعض.... وباعتبار
معانيه وصل أصنافاً من الكلام وعداً ووعيداً وترغيباً وترهيباً وقصصاً ومواعظ
وعبراً ونصائح يعقب بعضها بعضاً، ويتنقل من فن إلى فن، وفي كل ذلك عون
على نشاط الذهن للتذكر والتدبر» [10] . والله أعلم والموفق والهادي إلى سواء
السبيل.
__________
(*) كلية الشريعة جامعة الكويت.
(1) تفسير الفخر الرازي (3/24) .
(2) تفسير الفخر الرازي (3/175) .
(3) تفسير الفخر الرازي (4/3) .
(4) تفسير المنار (2/445) .
(5) مناهل العرفان (2/388) .
(6) في ظلال القرآن (2/849) .
(7) انظر: التحرير والتنوير (22/387) .
(8) شرح الطحاوي 41، معارج القبول (1/57) .
(9) فتح البيان (10/131) ، القرطبي (13/262) .
(10) التحرير والتنوير (20/142) .(172/26)
درسات في الشريعة والعقيدة
الابتغاء من فضل الله
سليمان بن محمد الهذال [*]
إن التجارة وطلب الرزق من الأمور المشروعة في الإسلام؛ فالأصل فيها
الإباحة؛ بل قد تكون مستحبة بحسب المقصد منها. والمال من الضروريات التي
لا تستقيم مصالح الدنيا إلا به، وهو قوام حياة البشر ومعاشهم. يقول ابن حجر:
«إن الله جعل المال قياماً لمصالح العباد؛ وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح» [1] ،
ولا يمكن تحصيل المال إلا عن طريق التكسب والمضاربة والإجارة وغيرها من
الوسائل المباحة شرعاً. والناظر لعامة المسلمين اليوم يجدهم بين أمرين: مغرق
فيها، وشغله الشاغل جمعها والسعي في تحصيلها، ولا نصيب له من هموم الإسلام
والمسلمين. وآخر محجم عنها محذر منها يرى من امتهنها أنه ناقصٌ عديم النفع
قليل البركة. ويمكن بحث هذا الموضوع من خلال ما ورد من نصوص الكتاب
والسنة وما أثر عن سلف هذه الأمة. وقد قسمت هذا الموضوع كما يلي:
أولاً: المقدمة وتشمل ما يلي:
أ - أهمية الموضوع:
1- المال عصب الحياة كما قال تعالى: [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً] (النساء: 5) . أي: «تقوم بها معايشكم» [2] ، والحاجة
للمال ماسة في حق الفرد والجماعة، وبيان حاجة الفرد للمال: أن حفظ حياته
متوقف على الأكل والشرب، وكذلك الملابس الواقية من الحر والقر، وكل هذه
الأشياء تتطلب مالاً، وهذا ما يكون أكثر وضوحاً في البلاد الفقيرة التي شح فيها
المال بأيدي الناس.
وأما في حق الجماعة فالحاجة إليه من وجوه:
أ - أن الأمة هي مجموعة من الأفراد؛ فإذا دخل النقص على كل فرد دخل
على الأمة جميعاً.
ب - أن الأمة مطالبة بمجموعها بالدفاع عن دين الله والجهاد في سبيل الله،
ولا بد لذلك من عدة، ولا يكون ذلك إلا بالمال كما قال تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60) .
ج - أن وجود المال في يد الأمة يغنيها عن أعدائها؛ وهذا واقع لا يحتاج إلى
دليل [3] .
2 -أن من يمارس التجارة تجده مغرقاً فيها مفرطاً في الواجبات المنوطة به.
3 - ظن بعض الذين لا يمارسون التجارة أن من امتهنها رقيق الديانة، عديم
الفائدة.
4 - حاجة كثير من الذين يمارسون التجارة للضوابط الشرعية أثناء مزاولة
التجارة.
ب - تعريف التجارة:
التجارة: من تجر يتجر تجراً: إذا باع وشرى، وكذلك اتجر وهو افتعل،
وفي الحديث: «من يتجر على هذا فيصلي معه؟» ، قال ابن الأثير: «هكذا
يرويه بعضهم، وهو يفتعل من التجارة؛ لأنه يشتري بعمله الثواب» [4] .
وعرفها الجرجاني بقوله: «هي عبارة عن شراء شيء ليبيع بالربح» [5] .
وعرفها بعضهم بقوله: «هي الاسترباح بالبيع والشراء» [6] .
ثانياً: التجارة في نظر الشرع:
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ] (البقرة:
267) .
وقال: [رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ] (النور: 37) ،
فمدح الله إقامتهم لذكر الله في وقت التجارة. وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ] (الجمعة: 9) .
فأمرهم بترك البيع في وقت محدود، وهو يوم الجمعة؛ مما يدل على جوازها في
غير ذلك.
ثم قال: [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ]
(الجمعة: 10) ، أي: من التجارة ونحوها [7] . وقال: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] (الملك: 15) .
وقال: [وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ] (المزمل: 20) .
قال ابن كثير: «يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر» [8] .
وقال السيوطي: «هذه الآية أصل في التجارة» [9] . وقد قدم الله عز وجل
هنا التجارة على الجهاد الذي هو سنام الدين؛ فتأمل ذلك! بل قدَّم الله في آية الجهادِ
الجهادَ بالمال على الجهاد بالنفس: [وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] (الصف: 11) .
وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ
تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ] (النساء: 29) .
وقال: [إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ] (البقرة: 282) .
وقال تعالى: [وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] (البقرة: 275) .
وكان الأنبياء عليهم السلام يؤجِّرون أنفسهم عند الحاجة، وقد أُمرنا بالتمسك
بهديهم. قال تعالى: [فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] (الأنعام: 90) وقد قص الله علينا نبأ
موسى عليه السلام مع شيخ مدين حينما قال له: [قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ] (القصص: 27) . فمكث موسى
عليه السلام عشر سنوات؛ لكي يعف فرجه ويشبع بطنه، وقال تعالى: [وَمَا تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا
مَآرِبُ أُخْرَى] (طه: 17-18) .
وقال في قصة داود عليه السلام: [وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ
فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا] (سبأ: 10-11) ؛ حيث كان عليه الصلاة والسلام
يصنع الدروع، فاحترف مهنة الحدادة التي يمتهنها بعض الناس اليوم.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم؛ كنت
أرعى الغنم، وكنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» [10] .
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في بدء أمره يريد الشام للتجارة [11] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بحقه
ووضعه في حقه فنعم المعونة» [12] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح» [13] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن داود النبي عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده» [14] ، وأخرج مسلم
بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن زكريا عليه السلام كان نجاراً» [15] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان آدم عليه السلام حراثاً، ونوح
نجاراً، وإدريس خياطاً، وإبراهيم ولوط زارعين، وصالح تاجراً، وداود
زراداً [16] ، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم وسلم رعاة» [17] .
وكان سلف الأمة يرون أن طلب الرزق وكسب المال خير من القعود؛ فعن
أنس رضي الله عنه قال: «قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة فآخى النبي صلى
الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وكان سعد ذا غنى، فقال لعبد
الرحمن بن عوف: أقاسمك مالي نصفين وأزوجك. قال: بارك الله لك في أهلك
ومالك. دلوني على السوق؛ فما رجع حتى استفضل إقطاً وسمناً» [18] .
وأورد البخاري هذا الحديث في كتاب البيوع؛ والغرض من إيراده لهذا
الحديث ليدل على اشتغال بعض الصحابة بالتجارة في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم وتقريره ذلك [19] .
وجاء عن أبي المنهال أنه قال: «سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن
الصرف، فقالا: كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف، فقال: إن كان يداً بيد فلا بأس،
وإن كان نسيئاً فلا يصح» [20] .
وما جاء عن عروة بن الجعد الأزدي البارقي، وهو «أن النبي صلى الله
عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما
بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب
لربح فيه» [21] .
وجاء في البخاري في كتاب البيوع عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم» [22] ، وكانوا يتجرون في
البر والبحر ويعملون في نخيلهم [23] ، ولم يؤثر عن واحد منهم أنه ترك العمل
والتكسب وجلس في بيته، بل ورد عنهم ذم ذلك. قال عمر رضي الله عنه: «لا
يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر
ذهباً ولا فضة» [24] .
وكذلك من جاء بعدهم من السلف اقتفوا أثرهم في الحث على التكسب بالطرق
المشروعة. قال سعيد بن المسيب: «لا خير فيمن لا يجمع المال فيكف به وجهه،
ويؤدي به أمانته، ويصل به رحمه» ، وحكي أنه لما مات ترك دنانير فقال:
«اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها ديني وحسبي» [25] .
وسئل إبراهيم النخعي عن الرجل يترك التجارة ويُقبل على الصلاة أيهما
أفضل؟
قال: «التاجر الأمين» [26] .
وقال رجل للإمام أحمد: إني في كفاية، فقال: «الزم السوق؛ تصل به
الرحم، وتعود به نفسك» [27] .
وقال ابن حزم: «وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح» [28] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز
أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ] (البقرة: 198) في مواسم الحج» [29] .
وبعد هذا العرض يتبين أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة رضي
الله عنهم على جلالة قدرهم وعظيم منزلتهم وحرصهم على ما يرضي ربهم كانوا
يمارسون التجارة بقصد التعفف عن الناس.
ثالثاً: الغاية من التجارة:
الغاية منها هو تحصيل المال، وللمال فوائد دينية ودنيوية، أما الفوائد
الدنيوية: فالخلق يعرفونها؛ ولذلك تهالك الناس في طلبها والسعي في تحصيلها.
وأما الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع:
1 - أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة كالحج والعمرة والصدقة ونصرة
المسلمين، وإما يستعين به على العبادة كالمطعم والملبس والمسكن وغيرها من
ضرورات المعيشة؛ فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر لم يتفرغ القلب للدين والعبادة.
2 - ما يصرفه إلى الناس، وهو أقسام:
أ - الصدقة: وفضائلها كثيرة مشهورة.
ب - المروءة: كضيافة الإخوان والأصدقاء.
ج - ما يعطيه أجرة على الاستخدام: فالأعمال التي يحتاج إليها الإنسان
كثيرة؛ فلو تولاها بنفسه لضاعت أوقاته.
3 - ما يصرفه في وجوه البر: كبناء المساجد ودعم الهيئات الدعوية
والإغاثية وغيرها من وجوه البر [30] .
رابعاً: من فوائد التجارة:
1 - الاستغناء عن الناس:
فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استغن عن الناس
ولو بشوص السواك» [31] .
2 - أنها سبب في إقامة ألوان من العبودية لله عز وجل:
فمن يمتلك المال يستطيع أن يضيف إلى نفسه أجوراً مضاعفة، كالأوقاف،
والدعوة إلى الله، والصدقات، ونصرة المستضعفين، وتفطير الصائمين، وغيرها
من ألوان العبودية؛ فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ذهب أهل الدثور
بالأجور» ، وفي رواية: «بالدرجات العلى والنعيم المقيم» [32] . وهم أصحاب
الأموال؛ فقد أضافوا لأنفسهم نوعاً من العبادة وهو الصدقة، ولم يستطع غيرهم أن
يفعله؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
3 - أنها تقوي التوكل على الله:
فالتجارة نوع من المخاطرة؛ فقد يكسب الإنسان وقد تركبه الديون؛ فلذلك
تجد قلبه متعلقاً بالله محتاجاً إليه.
4 - أنها تنمي الإبداع والتفكير:
ويظهر ذلك في كون التاجر يسعى جاهداً في تطوير تجارته والإبداع فيها
لينجح في تجارته ويحقق ما يريد.
5 - أنها تحقق الأمن الاقتصادي للأمة الإسلامية:
فالأمة التي لا تملك اقتصادها لا تملك قرارها؛ فالذي يملك التجارة والمال
يؤثر في الناس، وهذا ما حصل مع ثمامة بن أثال عندما أسلم قال لقريش: «والله
لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم» [33] .
خامساً: ما يجب على التاجر:
1 - ألا تلهيه عن طاعة الله:
فإن هناك واجبات عينية وكفائية لا بد من مراعاتها وعدم الإخلال بشيء منها
على حساب ما يقوم به من عمل تجاري، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من
ذلك فقال: «تعس عبد الدينار والدرهم» [34] .
وقال الله جل وعلا: [فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا
اللَّّهَ كَثِيراً] (الجمعة: 10) .
يقول الشيخ السعدي: «ولما كان الاشتغال بالتجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله
أمر الله بالإكثار من ذكره، لينجبر بهذا فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} » [35] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري: «إن الاشتغال بالتجارة إذا أحدث نقصاً
في الطاعة لم يكن مباحاً، بل يكره أو يحرم، على حسب ما يحصل على الطاعة
من خلل؛ فمن شغلته التجارة عن تحية المسجد، أو عن فضيلة إدراك تكبيرة
الإحرام في الصلاة، كانت مكروهة، ومن شغلته عن صلاة الجماعة أو عن أدائها
أول الوقت كانت محرمة عند ضيق الوقت، وكذلك من شغلته عن فعل واجب ولو
مع أهله كان انهماكه المشغل عن ذلك حراماً» [36] .
وجاء عند البخاري في كتاب البيوع: (باب التجارة في البز: قال قتادة في
تفسير قوله تعالى: [رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ] (النور:
37) : «كان القوم يتبايعون ويتاجرون ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله» ) [37] .
2 - أن يؤدي الحقوق الشرعية في تجارته: وذلك كزكاة عروض التجارة.
3 - أن يتجنب التجارة بالحرام ويتحرى الرزق الحلال:
فيتحرى الحلال، ويجتنب الحرام، ويتورع عن المشتبه؛ فقد جاء في
الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ من حلال أم حرام» [38] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في رُوعي أن نفساً لن
تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا
يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله لا يُنال ما عنده إلا
بطاعته» [39] .
يقول الشاعر:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
4 - ألا يكون همه الشاغل:
فيجعل من عمله هذا وسيلة للتقوى على طاعة الله؛ فالهم هم الآخرة، فيجعل
الآخرة في قلبه والدنيا في يده، وأما من أصبح وهمه الدنيا، فهذا الذي لا تحمد
عقباه؛ وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: «من أصبح والدنيا
أكبر همه فرق الله عليه صنيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما
كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع الله عليه صنيعته، وجعل غناه في
قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» [40] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من جعل الهموم هماً واحداً يعني آخرته كفاه
الله ما أهمه من أمر دنياه، ومن شغلته هموم أحوال الدنيا لم يبالِ الله تعالى في أي
أودية النار أهلكه، وأي أودية النار عذبه» [41] .
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما له حمار فباعه، فقيل له: لو أمسكته!
فقال: «لقد كان لنا موافقاً؛ ولكنه أذهب بشعبة من قلبي، فكرهت أن أشغل
قلبي بشيء» [42] .
5 - أن يتعلم أحكام البيع والشراء:
فيعرف الحلال والحرام؛ فلا يبيع للناس المحرمات، ولا يغشهم، ولا
يخدعهم، ولا يروِّج سلعته بالكذب واليمين الغموس.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لا يبيع في سوقنا إلا من قد
تفقه في الدين» [43] .
يقول العلامة أحمد شاكر: «حتى يعرف ما يأخذ وما يدع، وحتى يعرف
الحلال والحرام، ولا يفسد على الناس بيعهم وشراءهم بالأباطيل والأكاذيب،
وحتى لا يدخل الربا عليهم من أبواب قد لا يعرفها المشتري، وبالجملة: لتكون
التجارة تجارة إسلامية صحيحة خالصة، يطمئن إليها المسلم وغير المسلم، لا غش
فيها ولا خداع» [44] .
ومن هنا كان لزاماً على من يبيع ويشتري أن يتعلم أحكام البيع والشراء
والمعاملات، وغيرها مما يحتاجه في تجارته.
6 - النصح للمشتري:
لحديث: «فإن صَدَقَا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كَتَمَا وكذبا مُحقت
بركة بيعهما» [45] .
7 - أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر:
فالتاجر أثناء تجارته قد يرى من المنكرات التي لا ترضي الله، فواجب عليه
إنكارها وعدم السكوت عنها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم
منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
الإيمان» [46] .
سادساً: قواعد عامة:
أولاً: أن يتحلى بالأخلاق الإسلامية في بيعه وشرائه:
وذلك كالمسامحة؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا
اقتضى» [47] ، ومراقبة الله في السر والعلن، والصدق في الكلام، والأمانة في
المال، وغيرها من الأخلاق التي حث الشرع عليها.
ثانياً: أن يقنع بما رزقه الله:
فالقناعة كنز عظيم [48] ، وقد علق النبي صلى الله عليه وسلم الفلاح لمن
رُزق كفافاً وقناعة بما عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم وكان
رزقه كفافاً وقنعه الله بما آتاه» [49] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض لكن الغنى غنى
النفس» [50] .
وقال أبو حازم: «ثلاث من كن فيه كمل عقله: من عرف نفسه، وحفظ
لسانه، وقنع بما رزقه الله عز وجل» [51] .
وقد قال بعض أهل العلم في قوله عز وجل: [فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً]
(النحل: 97) ، قال: «إن الحياة الطيبة المراد بها القناعة» [52] .
وقال سعد بن أبي وقاص لابنه عمر: «يا بني! إذا طلبت الغنى فاطلبه
بالقناعة؛ فإن لم يكن لديك قناعة فليس يغنيك مال» [53] .
ثالثاً: أن يعلم أنه لن يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له.
فمهما جد واجتهد، وبذل الغالي والنفيس، فلن يأتيه من الدنيا إلا ما قد كتب
له. قال تعالى: [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ] (الزخرف: 32) . فتوقن بأن المقدر لك يأتيك، وإن لم يقدر
فلا يأتي؛ فمن أيقن بذلك أورث الله عز وجل قلبه خصلتين:
1 - أن يأمن قلبه من أن يفوته ما قدر له.
2 - أن ييأس من أن ينال ما لم يقدر له.
فمن فعل ذلك قلَّ همه وغمه، وخضوعه للخلق، والمداراة لهم؛ لأن ينال
بهم منفعة؛ فهذا الغنى بالله عز وجل [54] .
وليس رزق الفتى من حسن حيلته ... لكن جدود بأرزاق وأقسام
كالصيد يُحرمَه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيرزقه من ليس بالرامي
رابعاً: أن يكون زاهداً:
فليس الزهد هو كثرة المال ولا قلته، وإنما ألا يكون المال في قلبك ولو كان
في يدك، وقد ثبت عن جمع من السلف أن الزهد هو قصر الأمل.
وقال بعضهم: «إنما الزهد هو أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى
نفاسة الآخرة» [55] .
يقول شيخ الإسلام: «هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة وهو
فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله» [56] . وقد قال رجل لسفيان بن
عيينة: يكون الرجل زاهداً وعنده مائة دنيار؟ قال: نعم. قال: وكيف ذلك؟ !
قال: إن نقصت لم يغتم، وإن زادت لم يفرح، ولا يكره الموت لفراقها [57] .
ويقول أحد أئمة السلف: «في الدنيا طغيانان: طغيان العلم، وطغيان المال،
والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال
الزهد فيه» [58] .
خامساً: الحذر من فتنة المال:
فلا بد من النظر بعين التوازن. يقول حذيفة رضي الله عنه: «ليس خياركم
من ترك الدنيا للآخرة، ولا من ترك الآخرة للدنيا؛ ولكن خياركم من أخذ من
كل» [59] .
فقد يبدأ الإنسان في مزاولة التجارة وقصده التحرر من قيود الوظيفة، وادعاء
أن المال الصالح للرجل الصالح، ثم يغرق في دنياه، ولا يكون له نصيب من
الدعوة إلى الله. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما جاء في حديث
كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف
لدينه» [60] .
سابعاً: التجارة مع الله:
وأخيراً: ألا ينسى الإنسان التجارة مع الله؛ فهي التجارة المضمونة الربح
التي لن تبور، ولن تكسد وتفسد، بل تجارة هي أجلُّ التجارات، وأعلاها وأفضلها،
ألا وهي رضا الله [61] . قال الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ] (فاطر: 29) .
وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ]
(الصف: 10) .
ثم ذكر نوع هذه التجارة في الآية التي بعدها: [تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]
(الصف: 11) .
فمن التجارة التي مع الله وهي من أسباب حصول الرزق:
1 - تقوى الله:
فإن تقوى الله سبب من أسباب جلب الرزق. قال تعالى: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] (الطلاق: 2-3) .
قال: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأعراف: 96) .
قال بعض السلف: «إن العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه» . ويقول ابن
عباس رضي الله عنهما: «إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة
في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه،
وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق» .
2 - الاستغفار:
قال تعالى عن نوح عليه السلام: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً *
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ
أَنْهَاراً] (نوح: 10-12) .
وروي: «مَنْ أكثر َمن الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل
ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب» [62] .
3 - صلة الرحم:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل
رحمه» [63] .
وعن عمرو بن سهل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «صلة القرابة مثراة في المال محبة في الأهل منسأة في الأجل» [64] .
وقال أبو الليث: «وفي صلة الرحم خصال محمودة:
أولها: رضا الله؛ لأنه أمر بتقواه، وصلة الرحم فقال: [وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ] (النساء: 1) .
الثاني: إدخال السرور عليهم؛ وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن.
الثالث: فرح الملائكة، وحسن الثناء من المسلمين، وزيادة في العمر وبركة
في الرزق» [65] .
4 - المتابعة بين الحج والعمرة:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير
خبث الحديد والذهب والفضة» [66] .
5 - حُسن الخُلُق:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن حسن الخلق وحسن الجوار وصلة
الرحم تعمر الدار، وتزيد في الأعمار» [67] .
ويقول يحيى بن معاذ: «في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق» [68] .
6 - الدعاء:
فإن الدعاء بذاته عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة»
[69] ، وهو كذلك سبب في تحصيل ما عند الله من أرزاق؛ فقد أرشدنا صلى الله
عليه وسلم إلى سؤال الله عز وجل كما في الحديث: «اللهم إني أسألك الهدى
والتقى والعفاف والغنى» ، وروت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يدعو بعد صلاة الفجر ويقول: «اللهم إني أسألك رزقاً طيباً، وعلماً
نافعاً، وعملاً متقبلاً» [70] .
7 - الزواج:
قال الله تعالى: [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ] (النور: 32) .
8 - التوكل على الله:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما تُرزَق الطير تغدو خماصاً،
وتروح بطاناً» [71] .
قال أبو حاتم الرازي: «هذا الحديث أصل في التوكل وإنه من أعظم
الأسباب التي يستجلب بها الرزق» [72] .
وختاماً: نسأل الله أن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، وأن يغنينا
بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(*) مدرس العلوم الشرعية في ثانوية الأندلس، الرياض.
(1) فتح الباري، 10/ 408.
(2) التسهيل في علوم التنزيل، لابن جزي الكلبي، 1/233.
(3) انظر: دليل مقاصد الشريعة الإسلامية، للدكتور محمد اليوبي، ص 284 285.
(4) انظر: لسان العرب، 2/ 19، والنهاية لابن الأثير، 1/ 181.
(5) التعريفات، للجرجاني، ص 53.
(6) البركة في فضل السعي والحركة، للحبيشي، ص 202.
(7) تفسير ابن كثير، 4/ 321.
(8) تفسير ابن كثير، 4/ 383.
(9) تفسير القاسمي، 9/ 346.
(10) رواه البخاري في الإجارة (2143) .
(11) راجع السيرة، لابن هشام، 1/ 204.
(12) رواه البخاري في الرقاق (6076) ، ومسلم في الزكاة (2419) .
(13) أخرجه أحمد، 4/ 197، والحاكم في المستدرك (2130) ، وصححه الألباني في غاية المرام، ص 261.
(14) رواه البخاري في البيوع، (2073) .
(15) رواه مسلم في الفضائل (2379) .
(16) أي: حدَّاداً يصنع الزرد وهو درع من الحديد يلبسه المحارب.
(17) فتح الباري، 4/ 306.
(18) رواه البخاري في البيوع (2049) .
(19) فتح الباري، (4/ 340) .
(20) رواه البخاري في البيوع (2060) .
(21) رواه البخاري في المناقب (3443) .
(22) رواه البخاري في البيوع (2071) .
(23) انظر إحياء علوم الدين، للغزالي، 2/ 65.
(24) المصدر السابق.
(25) شرح السنة، للبغوي، 14/219، وسير أعلام النبلاء، 4/ 245.
(26) الآداب الشرعية، لابن مفلح (3/ 269) .
(27) الآداب الشرعية، لابن مفلح (3/ 269) .
(28) مراتب الإجماع، لابن حزم (155) .
(29) رواه البخاري في الحج (1681) .
(30) مختصر منهاج القاصدين، لابن الجوزي، بتصرف يسير، ص 189.
(31) رواه البزار (96) ، والطبراني (3/154/1) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (812) .
(32) رواه البخاري في صفة الصلاة (807) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1346) .
(33) رواه البخاري في المغازي (2024) ، ومسلم في الجهاد والسير (3310) .
(34) رواه البخاري في الجهاد (7/175) .
(35) تفسير السعدي (5/ 242) .
(36) صفوة الآثار (3/ 377) .
(37) رواه البخاري في البيوع، 4/ 297.
(38) البخاري في البيوع (2059) .
(39) رواه البزار (2/ 82) ، والبيهقي في الآداب (460) وغيرهم، وصححه الألباني في تخريج أحاديث مشكلة الفقر (15) .
(40) رواه الترمذي في صفة القيامة والرقائق (2465) ، وابن ماجة في الزهد (4105) ، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/670.
(41) رواه ابن ماجة في المقدمة (257) ، والحاكم في التفسير (3658) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6189) .
(42) تهذيب مدارج السالكين، لعبد المنعم العزي، ص 73.
(43) رواه الترمذي (487) ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 151.
(44) من تعليقه على سنن الترمذي (2/ 357) .
(45) رواه البخاري في البيوع (2076) .
(46) رواه مسلم في الإيمان (70) .
(47) رواه البخاري في البيوع (9207) .
(48) يقول الشيخ عطية سالم عن شيخه محمد الأمين الشنقيطي: سمعته يقول: «لقد جئت معي من البلاد بكنز عظيم يكفيني مدى الحياة وأخشى عليه من الضياع فقلت له: وما هو؟ قال القناعة؛ وكان شعاره في ذلك قول الشاعر: الجوع يطرد بالرغيف اليابس / فعلام تكثر حسرتي ووساوسي انظر مقدمة أضواء البيان.
(49) رواه مسلم في الزكاة (2423) .
(50) رواه البخاري في الرقاق (6081) ، ومسلم في الزكاة (2417) .
(51) مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة المقدسي، ص 299.
(52) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 556.
(53) عيون الأخيار، لابن قتيبة، 4/ 207.
(54) المكاسب، للحارث المحاسبي (55) .
(55) مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ص 324.
(56) مكارم الأخلاق لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ جمع محمد الحاجي، ص 295.
(57) كتاب الحث على التجارة، لأبي بكر الخلال (49) .
(58) اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، رقم (26) .
(59) شرح السنة، للبغوي، 14/291.
(60) رواه الترمذي (2376) ، وأحمد (15357) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5620) ، والمشكاة (5181) .
(61) تفسير السعدي (4/ 217) .
(62) رواه أحمد 1/ 411، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5471) والضعيفة (705) .
(63) رواه البخاري في البيوع (4638) ، ومسلم في الأدب والبر والصلة (4639) .
(64) أخرجه الطبراني في الأوسط (7810) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3768) .
(65) البركة في فضل السعي والحركة، للحبيشي، ص 95.
(66) رواه أحمد (168) ، والترمذي في الصوم (4/ 26) ، والنسائي في المناسك (5/ 116، ح 2629) ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (650) .
(67) رواه أحمد (24731) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3767) .
(68) الإحياء، للغزالي، 3/ 57.
(69) رواه البخاري في الأدب المفرد (714) ، وأبو داود (1/551) ، شرح عون المعبود، والترمذي (4/ 178) ، وابن ماجة (2/428) ، وغيرهم وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (550) .
(70) رواه ابن ماجة في إقامة الصلاة والسنة (925) ، وأحمد (25982) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة، 1/ 152.
(71) رواه الترمذي (8/7) ، واللفظ له وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (310) .
(72) تزكية النفوس، جمع أحمد فريد، ص 98.(172/28)
دراسات تربوية
الإنترنت وتربية الأولاد
عبد الرحمن بن عبد الله المطرودي
تدفقت الإنترنت في المعمورة، واتسع نطاقها وتعددت مصادرها، وتكالب
الناس عليها حتى صار لها أدوار في الحياة الخاصة والعامة، وغيرت الكثير من
المفاهيم والطرائق، وأصبح لها شأن كبير في الحياة
وسارعت الأمم جماعات وأفراداً لدعمها ودفع عجلتها نحو التقدم، وساعد في
ذلك المشاركة فيها واصطناع المواقع والصفحات.
والحديث عن الإنترنت ليس في معزل عن الحاسب؛ حيث إن الإنترنت لا
تعدو أن تكون إحدى تطبيقات الحاسب ومجالاته.
لكن حديثنا هنا سوف ينصب على جزء من تطبيقات الحاسب وهو الإنترنت،
وعلى جزء من محتوياتها وهو ما يتعلق بتربية الأولاد.
ولعل الحديث عن تربية الأولاد في الإنترنت له جزءان: أحدهما ما يقدم
لذوي الاختصاص من مربين وعلماء وأولياء أمور وباحثين. والآخر هو ما يقدم
للأولاد والشباب والأطفال.
ودراسة العنصر الأول من الموضوع والبحث فيه نتائجه يعرفها أهل
الاختصاص؛ إذ إن الشبكة لا تحتوى على مواقع رصينة وقوية (حسب علمنا) ؛
وذلك في مجال التربية وخصوصاً الدينية أو النفسية والاجتماعية وما يتطلبه ذلك
من وسائل وأساليب حديثة ودراسات ميدانية تفيد الباحثين الأكاديميين
والاختصاصيين في مجال التربية والمربين من معلمين وأولياء أمور، ومؤسسات
اجتماعية؛ مما له علاقة بالنشء وتربيتهم.
إذ إن المواقع الموجودة على الشبكة والمصنفة تحت جانب التربية تعنى غالباً
بالتربية البدنية والصحة وتتناسى الجوانب الأخرى للتربية إلا ما ندر من مواقع،
منها صفحات قليلة جداً ومواضيع قصيرة تهتم ببعض جوانب التربية الأخرى.
وتجد الغالبية منها تهتم بالدراسة الأكاديمية وربما تعليم الحاسب وبرامجه والإنترنت
واللغة، لكن الجانب الأكبر والهدف الذي يأخذ قدراً وحيزاً منها هو العناية
بالموسيقى والرياضة البدنية والترفيه غير التربوي وما حذا حذوه [1] .
ولقد قمت باستعراض للعديد من المواقع المتنوعة مما هو مدرج تحت قسم
التربية، فوجدتها لا تعدو أن تتحدث عن الصحة الجسدية والبدنية إلا ما ندر منها
ويكون بجزيئات صغيرة ومحدودة من المقالات أو المواضيع في بعض الصفحات.
ولعل ذلك يتجلى واضحاً في المواقع العربية والإسلامية؛ حيث العناوين
التربوية ولكنك لا تجد فيها ما يهتم بوسائل وطرق التربية الحديثة وخصائص
مراحل العمر وأساليبه وما يتعلق به.
غير أنه يوجد إشارات ولفتات ليست بذات شأن، وليس لها حيز يذكر في
مواقع الشبكة إلا بعض من المواقع، وهي بحاجة قوية وملحة إلى المنهجية والعلمية.
ويأخذ اللب أحياناً بعض المواقع بمسمياتها فإذا ولج إليها الباحث فوجئ بأنها تفي
فقط بالموسيقى والأغاني والمجلات والصحة الجسدية والبدنية والشراء والأفلام
وغيرها [2] .
والحديث عن الناحية الثانية من هذا الموضوع وهي ما يقدم للأولاد والشباب
والأطفال على الشبكة العالمية.
حديث طويل وممتد ويشغل بال العالم أجمع على مختلف المشارب والعقائد
والأديان؛ وذلك لعدم وجود رقيب ولا حسيب على الشبكة [3] .
ولقد تنوعت وتعددت مصادر الإفساد للشباب على الشبكة وتعددت مجالاتها
فتجدها أحياناً جنسية وإباحية، ومرة تجارة بالرقيق، وأخرى نشر للصور والأفلام
المخلة بالآداب، وكذلك تعليم المخدرات وطرق استخدامها والحصول عليها والعنف
وبذاءة الألفاظ والعنصرية والممارسات الشاذة.
كتبت إحدى المجلات [4] عنواناً باسم: (عالم الإنترنت السفلي ... قرصنة
برامج ... إباحية ... مافيا ... غسيل أموال ... مخدرات ... قمار ...
عنصرية ... منظمات الهاكر ... إرهاب ... متفجرات ... ) ثم عنونت داخل
المجلة: (عالم إنترنت السفلي يناديك، يبسط لك ذراعيه، يلوح لك بكافة
المغريات القذرة التي ابتكرها الإنسان عبر التاريخ ... برامج كاملة بالمجان ...
صور وأفلام إباحية ... مخدرات ... قمار ... أموال قذرة ... فهل تستجيب؟)
هكذا كان العنوان، واستمر العرض اثنتي عشرة صفحة في نفس العدد.
قال المؤلف في نفس الموضوع: (ربما يقول البعض إن العديد من البلدان
العربية حجبت هذه المواقع عن مستخدمي إنترنت فيها فلا توجد ضرورة لفتح هذا
الملف. ونقول لهؤلاء: إن الواقع يؤكد استحالة الحجب الكامل لأسباب عديدة أهمها:
- تظهر على شبكة ويب يومياً آلاف المواقع الجديدة ومن المستحيل حجبها
مباشرة وفق التقنيات المستخدمة حالياً في عملية الفلترة.
- يمكن استخدام خدمات إنترنت مثل التخاطب والدردشة والبريد الإلكتروني
للاتصال مع المشبوهين وتبادل معلومات ممنوعة أو صور فاضحة.
- توفر تقنيات لتجاوز البروكسي وإلغاء الفلترة المرتبطة به.
- تتوفر حالياً إمكانية استقبال إنترنت عبر الأقمار الصناعية) .
ويستمر المؤلف في دراسة عالم الشبكة السفلي في أعداد من المجلة منها العدد
الثاني.
وفي العدد الثامن لذات المجلة من نفس العام جاء غلاف المجلة يحمل العنوان
الآتي: (أول جريمة قتل بسبب منتديات ويب العربية) . وكتبت مجلة الإسلام
والإنترنت تقول: (كيف نحتمي من شرور الإنترنت - كفر وجنس وعنف و..؟)
كان هذا هو عنوان المقال، وبدأ كاتب المقال بقوله: (اكتسب الإنترنت سمعة
سيئة بسبب انفتاحها غير المحكوم أخلاقياً ولا سياسياً ولا ثقافياً، وبسبب استغلالها
البشع من قبل عصابات الجريمة المنظمة وتجار الأعراض والداعين إلى كل رذيلة
وفاحشة وفوضى تمردية ... ففرغت كثير من فوائدها العظيمة وإنجازاتها الضخمة
في بحر آسن كريه من الرائحة والمنظر ... ) إلى قوله: (هذه مشكلة لا نعاني
منها في الشرق فحسب كما يظن البعض ... بل إن العائلات الغربية تشكو مر
الشكوى ما يغزو عقر بيوتهم وعقول أولادهم وحواسبهم عبر أجهزة الكمبيوتر
المنزلية الموصولة بالإنترنت. كما أن عدداً من الدول تشكو من الغزو الثقافي
الغربي الذي يتدفق عليها من كل مكان عبر الأرض والفضاء وعبر خطوط الهاتف
وأسلاك الكهرباء) [5] .
وهذه مجلة (سعودي شوبر) تكتب في العدد العاشر للسنة الثانية مقالاً بعنوان:
(إغلاق «ياهو» لماذا؟) وقد نقلت المجلة تفسيرات على لسان المتحدث باسم
مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية يقول فيها: (إن حجب أندية «ياهو» جاء
بدعوى إلحاق الضرر بالأخلاق والقيم والآداب الشرعية ... إلخ) [6] .
وفي حوار من خلال مجلة (الجندي المسلم) حول الإباحية في الإنترنت مع
د. مشعل بن عبد الله القرحي الأستاذ المساعد في معهد بحوث الحاسب الآلي في
مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية قال: (قامت بعض الشركات بدراسة عدد
زوار صفحات الدعارة والإباحية في الإنترنت فوجدت إحدى الشركات أن بعض
هذه الصفحات يزورها عشرون ألف زائر يومياً، وأكثر من 200 صفحة مشابهة
تستقبل 1400 زائر يومياً؛ ولذلك صرحت وزارة العدل الأمريكية قائلة: لم يسبق
في فترة من تاريخ وسائل الإعلام بأمريكا أن تفشى مثل هذا العدد الهائل من مواد
الدعارة أمام هذه الكثرة من الأطفال في هذه الكثرة من البيوت. كما تفيد
الإحصائيات بأن 63% من المراهقين الذين يرتادون صفحات وصور الدعارة لا
يدري أولياء أمورهم بطبيعة ما يتصفحونه على الإنترنت. علماً بأن الدراسات تفيد
أن أكثر مستخدمي المواد الإباحية تتراوح أعمارهم ما بين 12 - 17 سنة) [7] .
هذا وتنتشر مقاهي الإنترنت في كل صقع من أصقاع المعمورة، بل لقد
وصلت الحال على أن الحي الواحد بل الشارع الواحد تتعدد فيه المقاهي.
وأجرت إحدى المجلات المتخصصة بالحاسب وهي (سعودي شوبر) لقاء
مع أحد ملاك ومديري المقاهي فأفادوا بأن الإقبال الكبير على المقاهي هو من
الشباب، ثم الطلاب ابتداء من أعمار 15 سنة.. انتهى.
ولقد زرت بعضاً من هذه المقاهي، وتحدثت مع أحد مديريها عن الشباب
فأفاد بأنها تستغل استغلالاً سيئاً من ناحية ما يأتي على الشبكة من جديد ومواقع
يتعالم بها الشباب، ومن ناحية أخرى التقاء عناصر متنوعة من الشباب تؤثر على
بعضها خصوصاً صغار العمر.
وللأخ الكريم الشيخ سعد البريك محاضرة عن مقاهي الإنترنت جمع فيها مادة
طيبة وأجاد فيها وأفاد.
هذه هي بيئة الإنترنت الشبابية، وهذا ما يقدم فيها الآن؛ وخصوصاً أن
الشباب غالباً في هذه المرحلة من العمر يحتاج إلى الإرشاد والتوجيه والرقابة لوجود
دوافع الشهوات والغرائز والاندفاع الشديد منه مع الفراغ الكبير وعدم اتزان العاطفة
وسيطرة العقل.
وإذا أدرت بصرك تبحث عن مواقع ذات أهداف تربوية فإنك بالجملة لا تجد،
وإذا حصل ووقعت عينك على موقع طيب فستجد نصيب الشباب قليلاً إلا ما ندر [8] .
وإذا بحثت باسم الأطفال أو الشباب أو التربية بأسماء عربية أو غير عربية
مثل KIDS أو غيرها فإنك لن تجد إلا ترفيهاً غير تربوي أو محلات بيع أو
موسيقى أو مجلات فنية حسب ما يسمونها، ويتسابق الشباب عادة إلى المواقع التي
تكرس حب الرياضة والتشجيع لا الممارسة والتطبيق، وكذلك الألعاب الإلكترونية
ومواقع المحادثة (الشات) وساحات الحوار.
هذه المواقع مع مواقع المجون والفسق والدعارة هي أكثر المواقع التي ينطلق
إليها الشباب مع النظر إلى غلاء أسعار الاشتراكات والاتصال وبطء الشبكة، فهي
تثقل الأعباء والكاهل بالمادة. ويوجد بعض المواقع التي هي مكررة ونسخة من
بعضها في الموضوع إلا ما ندر تعتني بتعليم اللغات والبرامج والحاسب والصحة
البدنية والتي ربما يرتادها الشباب.
ولا ننسى ما يعود به طول الجلوس أمام الشاشة للشباب والأطفال من آثار
نفسية وعقلية وجسدية تحدث عنها الاختصاصيون كثيراً. وما زالت الشبكة عقيمة
في مجال التربية والإعداد الصحيح للفرد، وتحتاج إلى سنين عديدة ورؤوس أموال
عالية حتى تصبح مفيدة في مجال التربية أو حتى التعليم.
صحيح أن الحاسب لديه إمكانيات هائلة ومتعددة ومتنوعة إذا استخدمت لكنها
لم تدخل الشبكة بعد، وليس فيها أرباح؛ لذا فهي تعتمد على الحكومات وفاعلي
الخير حتى تتواجد على الشبكة. ومع هذه البيئة والمناخ الذي يسيطر على أروقة
الإنترنت إلا أنك تسمع نداءات متعجلة ومتسرعة تنادي بأن يكون التعليم على
الشبكة وكذلك التربية، وأن يفتح المجال رحباً أمام الطلاب والتلاميذ، بل ربما
نادى بعضهم برفع الحجب والقيود فيا عجباً؟ !
ولعل أحد الأسباب الرئيسة لدى بعض هؤلاء المنادين. هو الانبهار بالتقنية
الحديثة تقنية الاتصالات والألوان والأفلام وغيرها مما يستخدمه أصحاب المواقع
لجذب الناس.
ولهذا نجد أن بعضاً منهم ينادي بهذا النداء على حذر، ويضع تنبيهاً ولو
يسيراً.
فهذه مجلة تعتني بالشبكة وضعت عنواناً على غلافها هو: (أطفالك
والإنترنت آمنون وسعداء دائماً) ثم كتبت في الداخل تقول: (الإنترنت مصدر
إمتاع للأطفال سواء استخدمت للعب أو لأداء الواجبات ببرامجها المفيدة وصورها
الجميلة وألعابها، ومع ذلك فهي لا تخلو من الخطر عليهم) . إلى أن تقول:
(رغم روعة الإنترنت إلا أنه لا يخلو من الأخطار خصوصاً على الأطفال؛ وذلك
بسبب العدد الضخم من المواقع غير اللائقة الموجودة في مواقع الويب؛ لذلك فإن
شبكة الإنترنت لا تعد المكان المناسب ليبحث الأطفال فيها ويجولون دون رقابة؛
فهي تمتلئ بطوفان من المواقع التي تحض على العنصرية والضغينة، وتشجع على
تعاطي المخدرات وصنع القنابل وكل الطرق الأخرى التي من الممكن جداً أن تؤثر
سلباً على سلوك أطفالنا) [9] .
ولقد أخرجت دار الشبكة العربية عدداً بعنوان: (الإسلام والإنترنت) وكان
أحد المواضيع بعنوان: (الطفل المسلم مظلوم) قال فيه كاتبه: (الطفل المسلم
مظلوم على الإنترنت؛ فلا يكاد يجد في المواقع الإسلامية ركناً يأوي إليه ويجد فيه
ما يشد انتباهه ويشبع نفسيته ويراعي عقله) إلى أن يقول: (وإنما نشير إلى
حقيقة أن هذه المواد جميعاً ليس فيها ما هو مصاغ خصيصاً للطفل يناسب عقله
وتفكيره) [10] .
وكاتب آخر في مجلة (مفتاح الإنترنت) يقول: (للأسف لم نجد مواقع
عربية للأطفال تهتم كما تهتم المواقع الأجنبية وتقدم لأطفالنا ما يقدمون سواء في
المعلومات وروعة في التصميم، وكلنا أمل في رؤية شيء عربي ملفت وقيم) [11] .
وبعد هذا كله ننظر إلى بعض الصيحات التي أطلقها بعض ممن تعمقوا في
مواضيع الشبكة (معايير لحماية الأطفال من مواقع الإنترنت) هذا عنوان في مجلة
عصر الحاسب قال فيه كاتبه: (دعا عدد من الخبراء المتخصصين في مجال الأمن
على شبكة الإنترنت إلى وضع معايير فنية تحدد طبيعة المواقع التي يتعامل معها
الأطفال وتحديد الفئات السنية المناسبة) إلى قوله: (وكان مسح أجراه مركز أن
برج للسياسات في واشنطن الأمريكية قد أكد أن أطفالاً تتراوح أعمارهم بين 8 -
17 سنة قد أبدوا رغبتهم في كشف أسرارهم على الإنترنت والأوضاع المالية
لآبائهم مما يعتبر مؤشراً لنشر خلافات أسرية يتسبب فيها الأطفال عبر
الإنترنت) [12] .
ومما كتب أيضاً حول الموضوع عنوان في مجلة (مفتاح الإنترنت) هو:
(نصائح في التصفح الآمن) قال فيه كاتبه لأحد الأبوين: (نقول أخبر أطفالك ألا
يعطوا أية معلومات عن مكان سكنهم أو عن أنفسهم. أخبرهم ألا يردوا على أية
رسائل إلكترونية عن مصادر غير معروفة. أخبرهم أن يعلموك إذا استلموا أية
رسائل إلكترونية غريبة. راقب أطفالك عندما يتحدثون عبر الإنترنت واعرف مع
من كانوا يتخاطبون. أخبر أطفالك ألا يقابلوا أشخاصاً تعرفوا عليهم عبر الإنترنت
مقابلة شخصية) [13] .
وكتبت مجلة (آفاق الإنترنت) [14] في زاوية (آباء وأبناء) بعنوان: (لا
تتكلم مع الغرباء) وبجانبه عنوان كبير هو: (راقب أولادك) ذكر فيه المؤلف
وأطال عن الأضرار والطريقة لحماية الأطفال، وبعض المواقع السيئة التي
حصلت عليها لبعض الأطفال من جراء الاتصال بالإنترنت.
أخي القارئ العزيز:
وبعد أن تجولنا بك في بعض المصادر المختصة بالإنترنت، ونقلنا لك ما
كتب فيها من قِبَل ذي الاختصاص فإننا نخلُص إلى أن واقع الشبكة تجاه تربية
الأولاد سلبي جداً، وأنه لا توجد مواقع مجدية في تربية الأولاد عدا العناية في
بعض الجوانب الجزئية وخصوصاً في المواقع الغربية مثل العناية بالجسم والصحة
والرياضة والفن فقط.
وقليل جداً حول الدراسة والتعليم وأن الشبكة ما زالت تزحف وببطء في هذا
المجال، وأنها خطر كبير على الأطفال ومواقعها الموجودة لا تستحق أن يبذل لها
جهود في استخراجها وعمل التصنيف وبرامج التحديد والحجب والفلترة لاحتمال
كبير في تضرر الأطفال منها.
وإننا ننادي المؤسسات التربوية وأصحاب الفكر وأصحاب المال بإيجاد مواقع
قيمة ورصينة تدعم المجالات التربوية، وتساند الباحثين وأولياء الأمور في شراء
المواضيع التربوية وتأصيلها، والأخذ بالوسائل والطرق الحديثة حتى يحصل
التعاون في إيجاد البيئة التربوية المحاطة بكل مفيد وجديد لحماية الجيل والناشئة،
والأخذ بهم إلى شواطئ الأمان، وجعل كل ذلك في متناول الجميع وبإمكانات واسعة
وكبيرة! ! مما يؤمَّل بإنتاجية ومخرجات لدور التربية والمربين تكون على مستوى
مَرضي في ظل أجواء العولمة والاتفاقات الدولية والسيطرة الفكرية لوسائل الاتصال.
__________
(1) للاستزادة راجع مجلة (إنترنت العالم العربي) العدد الأول السنة الرابعة، ص 56 وتتوالى المؤتمرات والبحوث والمقالات في كل مكان على اختلاف جغرافيتها وتكوينها تنادي بالعمل على إيجاد المواقع التي تخدم التربية راجع كتاب (شبكة الإنترنت ما لها وما عليها) الموسم الثقافي التربوي لمركز البحوث لدول الخليج.
(2) انظر موضوع: (الأدوار التربوية للإنترنت) في كتاب (شبكة الإنترنت ما لها وما عليها) ، ص 64.
(3) كما عنونت لذلك إحدى المجلات التي تهتم بالشبكة العالمية (إنترنت العالم العربي) ، العدد الأول السنة الرابعة.
(4) في عددها الثاني للسنة الثالثة (إنترنت العالم العربي) .
(5) ص 36.
(6) ص 16.
(7) ص 107.
(8) اطلعت على موقع لأحد الإخوة الاختصاصيين في مستشفى الأمل صممه وأنشأه له، وأخبر الاخوة الكرام وجعلوه عن محاربة المخدرات، ويحتوي على صور مآسي أصحاب المخدرات.
(9) مجلة مفتاح الإنترنت العدد الثالث، ص 14.
(10) ص 26.
(11) ص 16.
(12) ص 28، السنة الأولى، العدد الأول.
(13) العدد الثالث، ص 16.
(14) العدد الثاني، السنة الأولى، ص 69.(172/38)
دراسات تربوية
كذب الأطفال في نظر علماء الاجتماع
عبد الرزاق زعال
الكذب هو الإتيان بقول يخالف الحقيقة، ويتصل الكذب بالغش والسرقة من
حيث إن كل هذه الأفعال تنتمي إلى خصلة واحدة هي عدم الأمانة.
فكما أن الغش هو فعل أو قول يزيف الحقيقة، والسرقة هي فعل لا يتصف
بالأمانة، فكذلك الكذب هو قول تنقصه الأمانة؛ لأنه لا يطابق الواقع. وقد يستخدم
الكذب وسيلة لتغطية الغش والسرقة؛ فعندما يرمي الكاذب من كذبه التضليل،
يصبح الكذب غير بريء، وإذا كان الكذب أمراً شائعاً فإن ممارسته محرمة؛ لأنه
قادر على إيقاع الاضطراب في العلاقات الاجتماعية والإنسانية القائمة بين الأفراد،
والواقع أنه لا يمكن تصور الحياة الاجتماعية إذا لم تكن مبنية على بعض العلاقات
التي تتضمن الثقة المتبادلة النسبية، إلا أن هذه الثقة الضرورية تتزعزع إذا دخل
الشك في كل كلمة أو حركة أو موقف؛ ولذلك كان علينا أن نحلل الكذب الذي يعد
مسؤولاً عن كثير من المنازعات والأوبئة الاجتماعية، والذي يجب أن نتقي نتائجه
إذا لم نتمكن من شفائه.
وضع الكذاب:
الكذاب سطحي: إنه سطحي؛ لأن الكذب قبل كل شيء كذب على الذات،
أي أنه رفض للذات الأصلية ورفض لممارسة القوى الجوهرية الدفينة في النفس
الإنسانية، ونوع من التملق يظهر عند إنسان يتصنع الكياسة متخلياً عن الدوافع
الخارجية البسيطة وعن احترام ما في الإنسان من قيم رائعة في سبيل الوصول إلى
غاية رخيصة.
الكذاب متوتر: إن الكذاب (متوتر الأعصاب) دائماً؛ والسبب في ذلك أن
(الكذب طبيعة ثانية يحصل عليها المرء بإرادته تجعله لا يملك النية الحسنة الراسخة
والإيمان بأهمية ما هو صحيح) [1] ؛ لذلك يظل الكاذب في حال تأهب وأرق وقلق،
والسبب في ذلك هو أن الكاذب يبني أبنية لا وجود لها، ويحاول توكيد وجودها
في كل لحظة وتزيينها وترميمها والدفاع عنها ضد الواقع الذي ينكر وجودها دائماً.
الكذاب وحيد: الكذاب وحيد، بصورة خاصة؛ لأنه منغلق على نفسه، من
جهة، ولأنه نسف المفاهيم الاجتماعية الشائعة التي تنصح بعدم إغواء الآخرين
وتضليلهم. والكذب يخلق فئة من المنعزلين الوحيدين لا تكون على شكل جماعة
واضحة المعالم ضمن المجتمع بل تكون على شكل عزلة ضمن هذا المجتمع.
الكذب عند الأطفال:
وأسباب الكذب وأنواعه عند الطفل متنوعة؛ فقد يعتبر مظهراً لانحراف
سلوكي [2] ، وقد يعتبر حالة مرضية تحتاج إلى علاج نفسي متكامل، وهناك كذب
يأتي في سن معينة ويسمونه: (الكذب الأبيض) وهو يعتبر مرضاً في سن أخرى.
على سبيل المثال: أطفال المدارس يحبون اللعب الخيالي بعيداً عن الواقع، وهم
يجدون إثارة ومتعة في الخيال، ويعتقدون مخترعاتهم الخيالية حقائق واقعية حتى
يظن الكبار أن كذبهم قد وقع بالفعل، وهذا النزوع للكذب الخيالي عندهم مرتبط
بعدم قدرتهم على ضبط خيالهم الخصب، وهذا نوع من البراءة وليس كذباً بالمعنى
المتعارف؛ لأنه لا يهدف لضرر أو مصلحة ويكمن في عواطف الطفل الجامحة،
وإذا ثبت هذا النزوع عند الطفل وأصبح عادة فإنه يجب النظر إليه باعتباره انحرافاً
سلوكياً في حاجة للعلاج.
العوامل المؤثرة في نشوء ظاهرة الكذب [3] :
قد ينسج الأبناء والأطفال الكذابون على منوال الكبار في لجوئهم للكذب؛ ذلك
أن عالم الكبار مغمور بالكذب؛ فهم يستخدمونه بدافع التملق، أو التهذيب أو الخداع
المتبادل، أو التستر أو بدافع حل المشكلات، فيقوم الصغير بتقليدهم؛ وإذا ما
اقترن سلوك الكاذب بالنجاح في حل مشكلاته فإن ذلك يدفعه إلى التعلق بهذا السلوك.
كما أن الخوف أحد أسباب الكذب؛ فالكذب ستار نخفي وراءه أخطاءنا التي
يمكن أن نحاسب أو نعاقب عليها، ومن عوامل الكذب الاستعداد الشخصي؛ ذلك
أن الشخص النشط الخيال والذلق اللسان، والذي يمتلك القدرة اللازمة على تنميق
الألفاظ واستخدامها بمرونة كافية يكون على الغالب أكثر استعداداً للكذب من غيره.
ويرتبط نوع الكذب بالطبع؛ إذ إن المنطوين يصطنعون أكاذيبهم على شكل (إنكار
وتستر) بمعنى عدم قول الحقيقة أو إنكار الوقوع؛ في حين يميل الانبساطيون إلى
اختلاق وقائع جديدة أو تشويه للوقائع كما يتَّسمون بالميل إلى المبالغة.
أكاذيب الأطفال:
في البداية يجب التفريق بين الكذب والتخريف؛ فالتخريف هو تشويه للواقع
لا تتوفر فيه النية لتضليل الآخر؛ فقد يكون التخريف ناتجاً عن ضلال أو وهم
إدراكي، أو أن الذاكرة حين تختزن ما سمعت تقوم بعملية حذف واختيار وإعادة
بناء.
كما أن للتخريف علاقة بنوع البنية العقلية للشخص؛ فالشخص الميال
للتركيب في بنائه العقلي قد يحذف كثيراً من التفاصيل لصالح البناء الكلي. كما أن
الشخص الذي لا يدقق في الوقائع التي نقلت إليه قد يكذب من حيث لا يريد الكذب.
وقديماً قيل: «ناقل الكفر ليس بكافر» [4] .
وبالنسبة للطفل الصغير فإنه بالإضافة إلى هذه العيوب المتصلة بالخلل
المعرفي ميال إلى بناء عالم وهمي يشبع فيه رغباته.
وهذا العالم القريب من الحلم، البعيد عن الواقع يكون إطاراً مناسباً لنشوء
الأكاذيب التخريفية.
إن التخريف بالرغم من عدم مطابقته للواقع فإنه لا يشكل مشكلة، ويمكن
معالجته معالجة خارجة عن نطاق معالجة الكذب. وسبب عدم اعتبار الخرِّيف
كاذباً يعود للأسباب الآتية:
- لأنه أولاً: في بعض حالاته جزء من البنية العقلية للطفل الصغير،
واستمرار النمو كفيل بالتخلص منه.
- ولأنه ثانياً: لا يتضمن عنصر الخديعة؛ فالطفل إذ يخرف لا يوجه كلامه
للآخر بقدر ما يوجه كلامه لذاته، فضلاًَ عن أن الكبار لا يأخذون كلامه مأخذ الجد.
- ولأنه ثالثاً: لا يتوفر فيه عنصر النية.
يظهر الكذب عند الطفل منذ اللحظة التي يصبح فيها الطفل ذا إحساس بأن
الكذب هو عدم قول الإنسان لما يعرف، أو هو إرادته قول شيء آخر غير ما
نعرفه؛ فإلى أي شيء تتجه هذه الإرادة؟ يرى بعض علماء النفس أن أهم الأهداف
التي يرغب الطفل في تحقيقها دائماً هدف تجنب المضايقات من جهة (اللجوء إلى
حكاية خرافية تجنباً للعقاب) ، ومن جهة أخرى هناك هدف الحصول على بعض
المكاسب (التصريح بالحصول على علامات جيدة للفوز بمكافأة موعودة، أو تصنع
الاستياء أو الادعاء بالمرض للبقاء في البيت بدلاً من الذهاب إلى المدرسة) . وإذا
تعرضنا إلى ميدان العواطف بالإضافة إلى ميدان الوقائع، أمكن أن نضيف إلى
الهدفين السابقين غاية الطفل في أن يكون شيئاً مهماً في عيون الراشدين.
فالطفل قد يثير مواقف يتخذ منها بعض العواطف التي يعتقد أن (جمهوره)
ينتظره منه. إن آثار الكذب مضرة بالنسبة للكاذب ذاته كما هي مضرة بالنسبة
للآخرين؛ فالكاذب غير راض عن ذاته؛ لأنه يستبدل ذاته التي يرفضها بذات
أخرى تشوه الواقع.
وبذلك فالكذب تدليس على الذات أولاً فضلاً عن أن الكاذب يصبح موضع شك
حتى حين يقول الحقيقة.
والكذب أيضاً مضر بالآخرين؛ ففي الكذب نظرة ضمنية تعني احتقار الآخر
والنظر إليه على أنه وسيلة يستخدم الكاذب غفلتها للوصول إلى أغراضه؛ ومن
هذه الزاوية تبدو لا أخلاقية الكاذب.
أنواع الكذب:
إن أنواع الكذب متداخلة، بل لا تحدث وحدها؛ وإنما تكون في إطار أكبر
من الانحرافات السلوكية التي تعبر عن خلل نفسي؛ فقد تحدث السرقة والعدوان
والتزويغ من المدرسة من نفس الطفل الذي ثبت لديه الميل للكذب؛ فالجوهري في
المشكلة ليس الكذب في حد ذاته ولكن في الدوافع التي تحركه والأسباب الكامنة
وراءه. وعلى أي حال فهناك الكذب الخيالي (في الطفولة المبكرة وهو كذب أبيض
بريء في أغلب الأحوال) ، والكذب الادعائي، والكذب الأناني المغرض، وكذب
الانتقام، والكذب الدفاعي، وكذب التقليد، وكذب العناد، والكذب المزمن المرضي.
فالكذب الادعائي هو نوع من الكذب يستخدم لتغطية الشعور بالنقص؛
فالكاذب في هذه الحالة ينسب إلى نفسه أدواراً لم يلعبها أو ربما لعبها بشكل أقل مما
يدعيه.
وقد يشمل التضخيم في الكذب الادعائي لا تضخيماً للذات ليس بوصفها
مصدراً للسلوك بل بصفتها ذات موقع اجتماعي؛ فقد يكذب حول المركز الذي
يحتله أبوه، أو يكذب بخصوص صلة عائلته بأشخاص من ذوي نفوذ، أو بما
تمتلكه العائلة.. إن كل ذلك تعويض عن المركز الاجتماعي الذي تحتله العائلة التي
ينتمي إليها.
كما قد يستهدف الكذب الادعائي الحصول على العطف والاهتمام؛ كأن
يتحدث الطفل كاذباً عن مرضه أو اضطهاده ليحصل على أكبر قسط من الرعاية.
وكذب الوقيعة حيث يكذب الطفل في هذه الحالة من أجل الوقيعة بالآخرين
واتهامهم بذنوب وآثام لم يرتكبوها؛ وذلك بغية الانتقام منهم بسبب نوالهم حظوة
لدى جهة يعتقد الطفل أنها صاحبة سلطة كالأب والمعلم. وبذلك فإن هذه النوع من
الكذب له علاقة بالشعور بالغيرة.
وقد يتجه كذب الوقيعة لا لإفساد بين شخص يغار منه وصاحب سلطة، بل
بين شخص يحبه وآخر يغار منه وينازعه هذا الحب.
وعدم المساواة التي يشعر بها الطفل قد تكون من أسباب هذا النوع من الكذب؛
فالطفل الذي يشعر بأن أبويه يعاملان أحد إخوته بصورة أكثر محاباة قد ينسج
حبلاً من الأكاذيب حول أخيه من أجل تهديم مكانته لدى والديه.
أما الكذب بغية الوقاية فهذا النوع من الكذب كثير الشيوع بين الأطفال؛
فالطفل الذي يعتبر نفسه كائناً ضعيفاً يكذب ليخفي ارتكاباته أو إخفاقاته؛ ذلك لأن
معرفة هذه الارتكابات أو الإخفاقات تستتبع عقوبته.
كما أن الكذب الوقائي قد يتجه لحماية مكانته المهددة؛ فقد يكذب مثلاً
بخصوص درجات المدرسة؛ نظراً لأن موقعه في الأسرة وامتيازاته مرتبط بمقدار
ما يحصل عليه من درجات مدرسية، في حين أن قول الصدق يفقده مكانته تلك.
أما الكذب العنادي فقد يستخدم للتحايل أو التشفي من سلطة شديدة الوطأة قوية
الرقابة تحصي على الطفل أنفاسه. إن الكذب في هذه الحالة نوع من الانتقام،
وإظهار السلطة على جبروتها بأنها قابلة للخديعة، وأنها مهما بلغت من هيمنتها
وقسوتها فإن الإفلات منها ممكن؛ ولذلك فإن الطفل الكاذب يشعر بنشوة عارمة من
لذة الانتصار.
والكذب اللاشعوري حيث يصل الكذب ليتحكم بالطفل ليصبح كذباً مَرَضياً،
ويصدر عن الطفل بالرغم من إرادته وحبه لقول الحقيقة.
إن أساس هذا النوع من الكذب هو الكذب الادعائي، وفي بعض الحالات
يكبت الدافع المسبب للكذب الادعائي كأن يكبت الكاذب شعوره بنقصه، أو حاجته
للمكانة، أو حاجته للعطف والرعاية، وبذلك حين يتصل هذا الكذب بعامل لا
شعوري يفلت من رقابة المنطق الواعي، ومن رقابة الأنا الأعلى، ويتحول إلى
كذب مزمن ولا شعوري ولا يمكن معالجته إلا بكشف الأسباب العميقة الكامنة خلفه
في عيادات التحليل النفسي.
قواعد علاجية:
«إن علاج الكذب في ذاته بالضرب أو السخرية غير مفيد؛ ففي كل حالات
الكذب المفرطة والدائمة يلعب الوسط الاجتماعي الدور الحاسم في العلاج، وفي
علاج حالات الكذب نحن نختار الأسلوب الملائم حسب نوع كل طفل وسماته العامة
وظروفه العائلية وفهم دوافع كذبه مستخدمين رؤية متكاملة تشمل الجوانب
البيولوجية والاجتماعية والتعليم السلوكي» [5] .
ولكن في كل الأحوال يجب مواجهة كل كذبة وفهم دوافعها؛ فالكذب كذب لا
أبيض ولا أسود.
__________
(1) علم النفس التربوي، عبد الرزاق جعفر، سعيد صويري، منصف فلوح، طبعة عام 1977م، دمشق.
(2) مجلة العربي، العدد 409، ديسمبر 1992م، الكويت.
(3) علم النفس التربوي، الدكتور كمال بلان، إسماعيل الملحم، خالد عبد الرحيم، طبعة عام 1986م، دمشق.
(4) المصدر السابق.
(5) مجلة العربي، العدد 409، ديسمبر 1992م، الكويت.(172/43)
تأملات دعوية
انتحار المشروعات
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
حين تتاح للإنسان فرصة متميزة فإنه يعاب على تفريطه في استثمارها
واغتنامها، ويزداد العتب حين تكون الفرص محدودة والمكاسب المضاعة عالية.
لكن أشد من ذلك وأوْلى بالعتب أن يتمكن من فرصة فيفرط فيها، وينقض
غزله بيده ويخرب بيته بنفسه.
وثمة حالات من ذلك تحصل للدعاة إلى الله تعالى وهي ليست بالقليلة، ومن
ذلك:
* أن يكون الشخص في موقع له أهميته وتأثيره، فيضحي به نتيجة إصراره
على أعمال أو مواقف لا ترقى أهميتها وتأثيرها إلى ما هو فيه.
* أن يرتكب شخص أو مؤسسة دعوية مخالفات قانونية أو إدارية تؤدي إلى
التعويق عن أعمال أكثر أثراً وأهمية.
* أن يتسبب في القضاء على مشروعات قائمة بسبب الإصرار على ما هو
دونها في المصلحة، بل قد يفوت الأمران كلاهما.
إن من يقرأ التاريخ سيجد أن الأمر قد يصل إلى أن حكومات إسلامية سقطت
وقضي عليها بسبب استثارتها للأعداء نتيجة ما ترى أنه مصلحة، وفات في ذلك
من المصالح أضعاف أضعاف ما كانت ترنو إليه من عملها، بل قد ضاعت
المصلحتان كلاهما.
إننا قد نعتذر عن أخطائنا بأعذار نعتقد صحتها وليست كذلك:
* فتارة نعتذر بأننا مستهدفون من أعدائنا، ونشن حملة ضارية عليهم وعلى
ما فعلوه، والأعداء لا ينتظر منهم إلا ما هو أسوأ مما فعلوا، ولِمَ لا نعيب أنفسنا
أننا لم نستطع اكتشاف مؤامرة العدو، أو تفويت الفرصة عليه؟
* وفي مواقف ليست بالقليلة نفسر كل ما يصدر من الآخرين بأنه مؤامرة
وباعثه النكاية بنا لديننا ودعوتنا وسلامة منهجنا ... وهذا قد يحصل كثيراً، لكن
ليس كل ما يفعله الآخرون يمكن أن يفسر بالضرورة بهذا التفسير.
* وتارة نعتذر بسلامة منهجنا ونسوِّغ إخفاقنا ونجاح الآخرين بأننا أسلم منهجاً
وأثبت طريقاً.
* وتارة نعتذر بأن كل ما يصيبنا إنما هو ابتلاء من الله ليرفع به درجاتنا
ويمحصنا ... إلخ.
* وتارة نحول انهزامنا إلى نصر، وإخفاقنا إلى نجاح مبالغين في وصف
منجزاتنا ومهونين من شأن خسائرنا.
* وتارة نشن هجوماً على من ينتقدنا متهمين رأيه وتارة نواياه.
لقد قال الله عز وجل عن صفوة خلقه وخيرهم بعد الأنبياء حين هزموا في
أحد وأصابهم ما أصابهم: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 165) ، ومع
ذلك لم يكن هذا الأمر منقصاً من شأن ذاك الرعيل؛ بل كان دافعاً له لاستيعاب
الدرس وتجاوز الأزمة.
إن إدراكنا لمسؤوليتنا عن أعمالنا، والتفكير الجاد في العواقب والمآلات،
وموازنة المصالح والمفاسد يعيننا بإذن الله على تجنب إخفاقات ومواقف فشل،
ويزيد من فرصة المحافظة على مشروعاتنا وأعمالنا.
ونحتاج أن نضيف إلى ذلك الجرأة على انتقاد أنفسنا ومراجعة أعمالنا،
والفصل بين سلامة المنهج والممارسة، والفصل بين صحة الحقائق والمنطلقات
وبين مدى انطباقها على الواقع أو ما يعبر عنه الأصوليون بتحقيق المناط.
ونحتاج أن نضيف إلى ذلك تقليل المساحة التي تحتلها العاطفة من تفكيرنا
ومواقفنا، والنظر البعيد الذي يتجاوز ما تحت أقدامنا.
وذلك كله لن ينقلنا للعصمة؛ فسنبقى بشراً نخطئ ونصيب، ونكبو وننهض،
لكنه سيقلل من حالات الإخفاق، وسيحافظ أكثر على مشروعاتنا ومنجزاتنا.(172/47)
البيان الأدبي
الأدب الإسلامي والتدافع الحضاري
الحسين زروق [*]
تتخذ هذه الورقة «الأدب الإسلامي ودوره في النهضة الحضارية» موضوعاً
لها، وتنطلق من مسلَّمة مفادها أن أزمتنا أزمة حضارية شاملة وهي أزمة أدب،
وتربية، وإعلام، واقتصاد، وسياسة ... إلخ، وأن الخروج من هذه الأزمة لن يتم
إلا بتقديم بديل حضاري شامل ومتوازن، وسنتناول الموضوع من خلال ثلاث
زوايا:
- أزمة الأدب وأدب الأزمة.
- مقومات الأدب الإسلامي ووظيفته.
- دعم الأدب الإسلامي.
وبعبارة أخرى فهذه الورقة تتولى تجريح الأدب المأزوم، وتقريب الأدب
الإسلامي، والدعوة إلى تغليبه.
أولاً: أزمة الأدب وأدب الأزمة:
لدينا مؤشر تاريخي يفيد أن الأدب المأزوم يمكن أن يظهر في المجتمع
السليم، وأنه من غير اللازم أن تتأزم الأمة ليتأزم الأدب، ويتمثل في عودة أدب
الفحش والهجاء المقذع في أواخر الخلافة الراشدة وبعدها.
ويفيد ذلك في أن الأدب قد يعيش الأزمة، وإن كانت الأمة في وضعية صحية؛
لكن أزمة الأدب قد تسهم في تأزيم الأوضاع إلى جانب عوامل أخرى؛ ولهذا
فليس من الضروري أن تكون الأزمة ليتأزم الأدب، كما أنه ليس من الضروري أن
يكون أدب الأزمة أدباً مأزوماً، وإن كانت هناك علاقة تأثير وتأثر بينهما بدرجة ما.
وإذا شئنا حصر عناصر الأزمة الحالية للأدب فإننا سنجدها تكمن في الثورة
على المقدس والانقلاب الوظيفي، والنزعة الشكلية.
1 - الثورة على المقدس:
كان المقدس عندنا واحداً وهو الجانب الشرعي، ثم صار مقدسين: سياسياً
وشرعياً، ثم صار السياسي أكثر قداسة من الشرعي بعدما أقام الساسة متاريس
حماية قداستهم والدفاع عنها، وتركوا حبل القداسة الشرعية لكل من هب ودب،
ومن هنا نفهم لماذا نجد الأدب العربي الحديث يتجرأ على الله أكثر مما يتجرأ على
أي مخلوق، بل قد لا نبالغ إذا قلنا إنه قد استقر في عرف الحداثة أن الحداثي لا
يكون حداثياً حتى يكون جريئاً على الله وعلى الإسلام؛ ويكفي للتمثيل على ذلك
إيراد نماذج لشيخ الحداثيين العرب وزعيمهم في المجال الأدبي أدونيس.
أ - يقول في قصيدة «لغة الخطيئة» :
أحرق ميراثي أقول: أرضي
بكر ولا قبور في ثيابي
أعبر فوق الله والشيطان
(دربي أنا من دروب الإله والشيطان) [1]
ب - يقول في قصيدة «الإله الميت» :
آه كم أطعمت عيني بجوع الشجرة
ولكم سرت على أهدابي المنكسرة
للقاء، لعناق وثني
أنا والله وأنقاض النهار [2]
ج - يقول في قصيدة «طرف العالم» :
نمضي ولا نصغي لذلك الإله
تقنا إلى رب جديد سواه [3]
إن أدونيس الجريء على الله هو نفسه أدونيس الذي يحرص أشد الحرص أن
تظل سمعته السياسية مَرْضية عند الأنظمة العربية، ويحرص أن يظل ذوو القداسة
من السياسيين مقدسين، ويلح أشد الإلحاح على أن الأدب يجب أن يظل بعيداً عن
الإيديولوجيا، أي بعيداً عن القداسة السياسية، ولا مانع عنده من تمريغ القداسة
الشرعية في التراب.
2 - الانقلاب الوظيفي:
في نفس اللحظة التي عطلت فيها الوظيفة الحضارية للأدب في البلاد العربية
والإسلامية، ظهرت ثلاثة اتجاهات:
أ - سياسي (الأدب الشيوعي، والقومي، والوطني ... ) .
ب - إباحي (أدب الزنا واللواط.... .) .
ج - جمالي (أدب الصمت الإيديولوجي، والاعتكاف في محراب اللغة) .
وقد ظل القاسم المشترك بينها هو الجرأة على القيم الحضارية لأمتنا، لكن
الاتجاه السياسي ضعف بسبب تراجع المد الشيوعي، والفكر القومي، وانتصار
الأنظمة العربية على حركات المعارضة، فأخلى الساحة للاتجاهين الآخرين:
الإباحي بزعامة نزار قباني، والجمالي بزعامة أدونيس. ثم إننا نلاحظ في أواخر
التسعينيات تراجعاً للأدب الإباحي أمام اكتساح الأدب الجمالي الأدونيسي للساحة
الأدبية، وهو اكتساح يفيد بأن الأدب لن يعود له وفق هذا التصور من دور سوى
تفجير اللغة ونسفها.
3 - النزوع الشكلي:
إن قطب الحداثيين العرب وشيخهم علي أحمد سعيد المعروف بأدونيس قرر
ضرب ثلاثة أمثلة جعلته محط تقدير واحترام كبيرين لدى مريديه، وجعلتهم يقتفون
أثره بشكل جعل الشاعر أحمد مطر يعبر عنه بعبارة لا تخلو من سخرية لاذعة
بقوله: «فإذا أصيب أدونيس مثلاً بالزكام فعلى جميع هؤلاء أن يعطسوا» [4] .
أ - دعا إلى الفصل بين الأدب والإيديولوجيا، وبدأ بنفسه، فأعلن براءته من
ديوانه «قالت الأرض» الذي كشف فيه عن قوميته، عندما حرص على عدم
نشره ضمن آثاره الكاملة [5] .
ب - قطع الصلة بالموروث الأدبي، بل وبكل إنتاج أنجزه، لكونه يلح
باستمرار أن تظل كتابته «حداثية» ، وكما وصفه محمد بنيس ممثل المذهب
الأدونيسي بالمغرب: «وكاشف باستمرار عن لا نهائية تخومه، في الشعر والقلق
والسؤال» [6] .
ج - حرص أن يحول الشعر إلى فضاء للتشكيل البصري وتشكيل السواد في
البياض أو العكس، وإلى تصاميم هندسية، ومسائل رياضية، كما في الشاهد
التالي من «قصيدة قبر من أجل نيويورك» :
«نيويورك + نيويورك = القبر أو أي شيء يجيء من القبر.
» نيويورك - نيويورك = الشمس « [7] .
ولا أجد في ختام هذا المحور كلاماً خيراً من مقطع من قصيدة الكارثة»
لأحمد مطر «يلخص فيه جناية الحداثة على أدبنا، يقول:» سامح الله وكالات
الإغاثة إنها لو عدلت، واستعرضت كل الرزايا لم تجد كارثة ماحقة مثل
الحداثة « [8] .
ثانياً: مقومات الأدب الإسلامي ووظيفته:
يمكن الوقوف على مقومات الأدب الإسلامي ووظيفته من خلال أربعة عناصر
أساسية: المفهوم، والعبادة، والانسجام الكوني، ثم الرسالية.
1 - المفهوم:
الأدب الإسلامي وفق التعريف الذي تبنته رابطة الأدب الإسلامي العالمية هو:
» التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون في حدود التصور الإسلامي
لها « [9] ، وهو يفيد أن الأدب الإسلامي يتطلب من أجل أن يكون أدباً مستوى فنياً
جمالياً، ويتطلب من أجل أن يكون إسلامياً مستوى تصورياً إسلامياً، أي لا بد أن
تتوفر فيه الأدبية والإسلامية.
2 - العبادة:
إن غاية وجود الإنسان في الحياة وفق التصور الإسلامي هي عبادة الله عز
وجل؛ لأن الله لم يخلق الخلق عبثاً وإنما لعبادته. قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) ، ولم يخلق الخلق ليعبدوه في الأوقات
الخمسة أو في مدة محدودة، بل لعبادته في كل وقت: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] (الأنعام: 162) .
فنحن إذن أمام» وظيفةٍ من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر
عنها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده، وأصبح بلا وظيفة « [10] ، والأديب لا
يخرج عن أن يكون إنساناً، أي عبداً من عباد الله من الواجب عليه أن يبرهن على
عبوديته لله عز وجل، ولذلك يصير أدبه حلقة في سلسلة عباداته، ولن يقبل أدبه
إلا إذا توخى فيه الإحسان مثلما يتوخى فيه الإخلاص لله عز وجل، والصوابية في
التزام التصور الإسلامي.
3 - الانسجام الكوني:
يخبرنا الله عز وجل أن مخلوقاته كلها، بما فيها الملائكة والدواب والسماوات
والأراضي السبع تسبحه مطلق التسبيح، وذلك في ثماني عشرة مرة [وَإِن مِّن
شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ] (الإسراء: 44) ، ويأمرنا في
سبع عشرة مرة أن نسبحه [11] ، [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ] (الحاقة: 52) ،
[وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] (آل عمران: 41) ، وهي دعوة
مباشرة للإنسان أن ينخرط في التسبيح الكوني، والانسجام مع الكون في توجهه إلى
الله عز وجل، وهي الخاصية التي تدفعنا إلى القول: إن حضارتنا هي حضارة
التسبيح الكوني، والانسجام مع الكون؛ لأنها تدفعنا إلى أن نتوجه بنفس إيقاع
الكون نحو الله تعالى، ولهذا فإن عقلية الصراع هي عقلية غير حضارية، بل
صدامية تتجرأ على الله وعلى مخلوقاته؛ ومن هنا فكل أدب يسبِّح لله ويدعو إلى
ذلك على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أدب إسلامي، وكل أدب
يصرف عن ذلك هو أدب غير إسلامي، هو أدب يعيش الصراع مع الله ومع
الطبيعة بنفس طريقة دونكيشوت في صراعه مع طواحين الهواء.
4 - الرسالة:
لما كان الأدب الإسلامي أدب عبادة أولاً، وأدب انسجام مع الكون ثانياً صار
لزاماً عليه أن يحمل رسالة إلى الإنسانية جمعاء، رسالة تتضمن دعوة إلى الانسجام
مع الكون في توجهه بالتسبيح لله عز وجل، باعتبار هذا التسبيح هو الحل الوحيد
لتخليصها من القلق الوجودي والاضطراب النفسي والصراع المزعوم؛ لأنه يدفعه
إلى الإحساس بكونه جزءاً من الكون، والتمتع بمشهد كوني فريد من نوعه يتمثل
في توجه كل مخلوقات الله بنفس الإيقاع وفي انسجام تام بالتسبيح لله عز وجل كل
يوم، وكل شهر، وكل عام، وكل قرن، وما دامت السماوات والأرض.
ثالثاً: دعم الأدب الإسلامي:
إن الأدب الإسلامي باعتباره عبادة ودعوة للانسجام مع الكون في تسبيحه لله
عز وجل، أي: باعتباره رسالة حضارية ضرورة ملحة مثل ضرورة الاقتصاد
الإسلامي، والإعلام الإسلامي ... إلخ، ولن يقوم بدوره اعتماداً على النوايا الحسنة،
بل لا بد له من أسباب القوة، أي لا بد له من مقومات التدافع، وإذا كانت
المقومات الداخلية له من شأن الأديب المسلم» غير المريض بداء الانفصام بين
أدبه ودينه «فإن المقومات الخارجية في كثير من الأحيان من شأن غيره من قراء
وصحافيين وأعضاء جمعيات وغيرهم.
وإذا كان الأدب الإسلامي إلى الآن أدباً قائماً في غالبه على جهود فردية
للأدباء الإسلاميين وتضحياتهم الخاصة، فإنه لا يمكن أن يصمد طويلاً أمام زحف
الأدب المأزوم الممكن في الأرض بترسانة مادية وبشرية هائلة، وبمراكز علمية
وثقافية قوية وعالمية أحياناً. إن الوجه الحقيقي لوضعية الأدب الإسلامي يمكن
معرفته من خلال إطلالة على المقررات التربوية لكثير من الحركات الإسلامية على
سبيل المثال، وهي مقررات خالية تماماً من شيء اسمه الأدب الإسلامي. كيف
يمكن لحركة إسلامية أن تربي في أعضائها الحس الجمالي والذوق، وتدعوهم إلى
تذوق القرآن الكريم وهي تعطل وسيلة تربية هذا الذوق؟ ! وهل يمكن تقديم بديل
حضاري للوجه المأزوم لأمتنا انطلاقاً من الفقه والسياسة والتعليم فقط، إن الأدب
الإسلامي ضروري بنفس ضرورة الاقتصاد الإسلامي والتعليم الإسلامي، والإعلام
الإسلامي ... إلخ؛ ولذلك لا بد له من دعم لتغليبه على الأدب المأزوم بالتعريف به
وإقامة الندوات واللقاءات والأمسيات له، والإسهام في طبعه، وتنظيم مسابقات
لأبنائه، والتربية عليه، ومن دون ذلك لن يستطيع الأدب الإسلامي أداء رسالته
الحضارية بالصورة المطلوبة.
ويوم يعي المسلمون أهمية الأدب الإسلامي في حياتهم اليومية، وفي مواجهة
الفساد الذي ظهر في البر والبحر، ويوم يبذلون كل جهدهم ومالهم من أجل تغليبه،
وتغليب البديل الإسلامي في الميادين الأخرى، يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله
الذي ينصر من يشاء، وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) أديب مغربي، مقيم في مدينة فاس (1) الآثار الكاملة، أدونيس، 1/413، دار العودة، الطبعة الأولى، 1971م، بيروت.
(2) ن م: 1/ 368.
(3) ن م: 1/ 498 500.
(4) الشعر بين طاووس وغراب: أحمد مطر، مجلة» الناقد «: ع: 6/12/ 1988م، ص 51.
(5) رجاء النقاش في حوار معه: أسئلة النقد، جهاد فاضل، ص 145، الدار العربية للكتاب، بدون ذكر رقم الطبعة أو تاريخها.
(6) أدونيس: الشعر وما بعده، محمد بنيس، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، ص 3 ع: 13/5/ 1994م.
(7) الآثار الكاملة: 2/ 670.
(8) لافتات 5، أحمد مطر، ص 73، الطبعة الأولى، 1994م، لندن.
(9) تعريف برابطة الأدب الإسلامي العالمية، نشر الرابطة نفسها، ص 9، الطبعة الثانية، 1413 هـ 1993م.
(10) في ظلال القرآن، سيد قطب، 6/3387، دار الشروق، ط 22، (1417هـ 1994م) ، بيروت، القاهرة.
(11) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص، 430 431، دار الفكر، الطبعة الرابعة، (1418هـ 1997م) ، بيروت.(172/49)
البيان الأدبي
طاقية الإعفاء
وفاء الحمري
جلس في الحافلة المتجهة إلى شمال فلوريدا في مهمة تجارية ... عبث بلحيته
الكثيفة وهو يحسب حجم الأرباح في هذه الصفقة التي جاءت في ظروف سياسية
واقتصادية خاصة ... وهو المعتاد على الربح الوفير من صفقاته التجارية المزدهرة
منذ حل بهذا البلد.... لم يلحظ النظرات المصوبة إليه كالسهام من طرف الركاب
الذين يجلسون أمامه، وتوجسهم خيفة من خلقته ... تحسس وجهه بيديه ونظر
إليها ... فإذا هي بيضاء صافية ... مرر يديه على رأسه ليتحسس طاقيته
الدائرية الصغيرة فسقطت من على أم رأسه، فالتقطها ووضعها في جيبه إلى حين
يتخلص من النظرات الفاحصة الهلعة المصوبة نحوه ... وقفت الحافلة عند حاجز
دركي (شرطة) ، فصعد رجال الأمن والدرك، وأطلقت صفارات الإنذار،
وصوبت الأسلحة الرشاشة في وجوه الراكبين مارة بهم وجهاً وجهاً حتى وصلت
إلى وجه الراكب ذي اللحية الكثيفة فتوقفت.. وأعطى رجال الأمن إشارة لشل حركة
الراكب الفزع دون أن يعرف ما الذي يحصل ... أوقفوه عند مؤخرة الحافلة ويداه
مرفوعتان للأعلى وصوت أحد رجال الأمن يصرخ في الكتيبة العسكرية التي
حضرت للتو على وجه السرعة لعين المكان ... ضبطت الإرهابي، ضبطت
الإرهابي، صاح بفخر ... فما تسمع إلا طقطقة البنادق ورفع أجهزة الهواتف
البوليسية النقالة وصمت مرعب من طرف الركاب الذين وضعوا أكفهم على قلوبهم
من هول الواقعة ... أراد الراكب ذو اللحية الكثة أن ينزل يده إلى أسفل ليأخذ
شيئاً ما من جيبه فصرخ الرجال في وجهه. أراد أن يتفوه بكلمات فأسكتوه بضربة
من عقب البندقية على الرأس ... تململ يمنة ويسرة في حركة خاطفة فإذا بقبعة
صغيرة بحجم مؤخرة الرأس تسقط من جيبه.. التقطها ضابط أمن وهو يبتسم في
وجوه القافلة العسكرية والاستخبارات: عفواً.. عودوا إلى مواقعكم؛ فالبلاغ خاطئ.(172/53)
البيان الأدبي
قضية الإبداع
أ. د. محمد يحيى [*]
من القضايا التي يكثر الإلحاح على طرحها في هذه الفترة تلك المسماة بـ
(مسألة الإبداع) ويجري طرحها عادة من زاوية الزعم بالحرص على حرية وطلاقة
التأليف والتعبير الأدبي والفني؛ لأنه فيما يقال يؤدي إلى تقدم وخير الأمة، وعادة
ما يأتي طرح هذه القضية والدفاع عنها من جهات ومنابر علمانية التوجه لم يعهد
عنها اهتمام يذكر بالإسلام وبقضاياه. والإبداع عند أصحاب هذا الطرح له قدسية
وحصانة مطلقة لا تعلو عليها أي اعتبارات أخرى، وهم يروجون القول بأنه لا
يحق لأحد أن يحجر على هذا الإبداع (الذي يختصون وحدهم بتعريفه وتحديده)
ولو بالدفع باعتبارات مجافية للدين والقيم والتقاليد والأعراف. والواقع أن هذه
القضية تحوطها منذ البداية التباسات عديدة؛ فالمثيرون لها يستخدمون لفظة لها وقع
خاص وإيحاءات جذابة هي مصطلح «الإبداع» ولا يستخدمون المصطلحات
الأدق وصفاً مثل التأليف أو التعبير أو الكتابة أو حتى التشكيل الفني أو الأدبي،
ومصطلح «الإبداع» يوجد هالة من القداسة حول الأعمال الأدبية والفنية
المقصورة؛ كما أنه وبذكاء يحصنها من النقد الذي يميز بين الجيد والسيئ؛ ذلك
لأنه إذا كان كل ما يقدم في هذه الأعمال يوصف بأنه «إبداع» أي تأليف متفرد
متميز وعبقري فإن يد النقد تغل عنه؛ حيث إن الناقد سواء كان ناقداً للمضمون أو
للشكل لن يرقى إلى مكانة المبدع الذي يفترض (حسب التعريف) أنه في مرتبة
أعلى وأسمى، وهذا الطرح لمصطلح «الإبداع» يرتكن على أصول معينة
معروفة في التراث الغربي منها الوصف الإغريقي للشاعر كشخص يتلقى الوحي
والإلهام من بعض معبوداتهم، أو رؤية الحركة الرومانسية الأوروبية للأديب
والفنان (كنبي) أو ملهم له رؤية ثاقبة في الكون، والحياة لا يصل إليها سواه من
الأفراد العاديين الذين هم لذلك في مرتبة أدنى منه. كذلك فإن حركة الحداثة الأدبية
والفكرية في الغرب شاركت سابقتها الرومانسية (ولو لاعتبارات جد مختلفة) في
النظر للأديب والكاتب والفنان باعتباره من طينة بشرية أسمى وأرقى؛ ليس لأنه
يتلقى الإلهام، أو لأن له رؤية ميتافيزيقية سامية؛ بل لأنه صاحب حساسية وذوق
وقدرات تخيلية أرقى ممن حوله من الناس العاديين المنغمسين في المادة والسياقات
الحياتية التي أولع دعاة الحداثة بالحط من شأنها بوصفها بألفاظ شتى تفيد الحط من
المكانة والتحقير من شأن البورجوازية إلى الجلافة وما أشبه ذلك.
ويتبين من ذلك أن مصطلح «الإبداع» أو ما يسمونه (الخلق الفني) تحيط
به في الاستخدامات الغربية المتنوعة وعلى مدى تاريخ الثقافة الغربية هالة من
القداسة من ناحية، وإيحاءات من الناحية الأخرى تضع ذلك «الإبداع» والمنتجين
له في مواجهة صدامية عنصرية مع مجتمع ينفرون منه ويتعالون عليه ويسعون إلى
إيجاد نظام خاص بهم من القيم والرؤى والسلوكيات في مواجهته.
والحق أن مستخدمي وناقلي مصطلح «الإبداع» في الأوساط العربية
والإسلامية ينحون بشدة إلى هذا المعنى الأخير حتى وإن بدا من كلامهم أنهم
يقصدون فحسب ذلك التقديس الساذج وغير المسوَّغ للأعمال الأدبية الذي يتجلى في
كتاباتهم؛ ففي نهاية المطاف نجد أن المنظور الذي ينطلق منه الحديث المكرر
والملحّ عن الإبداع والمبدعين في كتابات العلمانيين عندنا هو المنظور الحداثي
الغربي الذي لا يركز على إلهام ميتافيزيقي للمبدع ولا على رؤية سامية في ذهنه،
بل على كونه المبتدع لقيم اجتماعية جديدة تقف في مواجهة القيم السائدة الموصوفة
بالجمود والتخلف والتقليدية.
وتتضح الصورة أكثر عند طرح هذا الموقف في المجتمعات الإسلامية؛ فإذا
كان حداثيو الغرب يطرحون قيماً جديدة خاصة بنخبتهم في مواجهة ما يسمونه بالقيم
البورجوازية السائدة فربما يكون في هذا الرأي بعض الوجاهة لطبيعة هذه القيم
المادية والمتولدة عن مجتمع رأسمالية القرن التاسع عشر. أما عندما يطرح دعاة «
الإبداع» المحليون قضية الإبداع فإن القيم المرفوضة والمطلوب إقصاؤها تصبح
هي القيم الإسلامية؛ بينما تصبح القيم الجديدة التي يروج لها «المبدعون» من
خلال الأعمال الأدبية والفنية هي قيم النخبة الغربية المعنية (النخبة الحداثية) التي
تتلخص في معاداة المجتمع القائم ومصادمة قيمه من خلال التركيز مثلاً على نبذ
العقيدة الدينية وطرح الأخلاق جانباً بحجة أنها زائفة أو غير صالحة. وينقل
«المبدعون» المحليون هذه المواقف والتصورات بلا تدبر ولا نقد باعتبارها
هي المضمون الوحيد لفكرة «الإبداع» الفني دون الالتفات إلى كونها نبت بيئة
معينة وسياق تاريخي وثقافي واجتماعي خاص لا يجوز نقله كنقل
النسخة.
وجوهر المشكلة كله وحل الالتباس في رأينا وكما قلنا هو في العودة إلى
تسمية الإنتاج الأدبي والفني باسمه الحقيقي كتأليف، ووضع لتصورات ورؤى وقيم
حياتية واجتماعية خاصة من خلال أشكال وأساليب لغوية وشكلية متعارف عليها
داخل الثقافة المعنية التي يطلق عليها التقاليد الأدبية والفنية.
إن قضية «الإبداع» ليست في النهاية سوى الاستخدام المغلوط للمفاهيم
ترويجاً ودعماً لموقف علماني معين.
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(172/54)
نص شعري
الجراحات.. ثقيلة
جمال الحوشبي
مسجدٌ يشكو طُلولَه ... هائمٌ يبكي قتيله
حُرَّةٌ تندُبُ عِرضاً ... والجراحات ثقيلة
ألفُ مليون تنادوا ... ليس في الإمكان حيلة
أرصدوا (الشجب) شعاراً ... والقراراتُ ... طويلة
نكث الكلُ عهوداً ... وشفى الكفر غليله
أمةٌ ترقُب نصراً ... في غدٍ أرخى سُدُولَه
من (صلاح الدين) تبني ... قلعةَ المجد الأثيلة
وشبابُ الجيل نهبٌ ... للتفاهات الهزيلة
لم تَصُنْ عِرضَ فتاةٍ ... سامها الكفرُ غُلُوله
لم تُقم فوق شعارا ... تِ الأباطيل شعيرة
يا صلاحاً مثل ومضٍ ... عزّ في الكون مثيله
لم تكن قطّ دليلاً ... قائدُ الكفر دليله
أنت نبضُ الجيل دوماً ... أنت للمجد سليله
قمت من بين ضحايا ... غدرة الكفر الطويلة
لم تقم فوق بساطٍ ... زوّق الغربُ خميله
عُصبةٌ تنفخُ فيها ... نفخةَ العِزّ.. مهولة
والملايين بأرضٍ ... لم تكن فيها.. قليلة
أطلق الغرب نداءً ... ردّد الكونُ عويله
ليس للإرهاب دينٌ ... إنما الشرق مقيله
وغدا (المجلسُ) يُذكي ... حِيلةً تعقُب حيله
من رحى (الإرهاب) غدراً ... يُقتل الإسلامُ غيله
قد حكى القرآن عنهم ... لو تدبّرنا نُقُولَه
قادةَ الحق (أعدوا) ... ناقضَ الغربُ أصوله
قسمٌ يتلوه ألفٌ ... إن للظلم أُفُولَه
من رحى اليأس ستعلو ... رايةُ الحق بديلة
سنةٌ تمضي وتبقى ... سنةٌ أخرى دليلة(172/56)
نص شعري
وداعاً ... يا حليمة ... !
فيصل محمد الحجي
على لسان شاب فلسطيني أحاط جسمه بالمتفجرات وذهب ليفجر نفسه في
تجمع للمستعمرين الصهاينة.
شُقِّي لِجامَ الحِلْمِ يا حليمة ... لم تَبْقَ للحِلْمِ لَدَيْنا قيمة
هذا أوانُ الجهلِ والطيشِ ... فلا ... جدوى من النصائح القديمة
الحِلم عزٌّ إن فرى سيفُ الهدى ... كلَّ يَدٍ غدّارةٍ أثيمة
والحِلم ذلٌّ حين يغشانا العدا ... في خُطةٍ نكراءَ مستديمة
الدار داري.. والعدوُّ يدَّعي ... أنِّي دخيلٌ سارقٌ قديمَهْ
الدار داري.. دارُ أجدادي الأُلى ... في الشرق أَجْلَوْا فُرْسَهُ ورُومُهْ
الدار داري والعدوُّ سامَني ... خسفاً بها.. واحترفَ الجريمة
في كفّهِ كلُّ أساليبِ الفنا ... وليس في كفِّي سوى رضِيمة
سيلُ البلاءِ دافقٌ مِن حولنا ... في كلِّ حيٍّ نافثٌ سُمومَهْ
القتلُ ... فالقتلُ توالى عاصفاً ... لا راحمٌ يحنو ولا رحيمة
هيا اغضبي.. وانتفِضي.. فما لنا ... إلا الفِدا والبذلُ والعزيمة
لا ترقُبي نَصْرَ ابنِ عمٍ أو أخٍ ... أو فزعةً من خُلَّةٍ حَميمة
حتى ولو كانوا كأعداد الحصا ... فالتجرباتُ كلُّها أليمة
سيوفهم حُبْلى بأحلام الْعُلا ... لكنّها عند الوغى عقيمة
أُسْدٌ على الشعب ... وشعبي أعزلٌ ... أرانبٌ في ساحة الخصومة
قومُكِ أذكياءُ يا حليمة ... جاؤوا لنا ببدعةٍ عظيمة
قالوا: لِمَ القتال في ساح الوغى ... والتضحيات في الوغى جسيمة؟
دَعُوا الأعادي يدخلوا أوطانَنا ... مهما بَغَوْا فما لهم ديمومة
وليظلموا.. وليقتلوا.. ولينهبوا.. ... بالحِلْم نمحو بيننا السخيمة
يكفيك أنّا قد خدعناهم.. فهم ... لم يفطنوا للخطة الحكيمة
قد لعقوا (مرارةَ) النصر.. لكي ... نذوقَ نحن (لذَّةَ) الهزيمة
مَن أدمنَ الخِذلانَ أضحى عنده ... أَلَذَّ مِن أطايب الوليمة
قد جعلوا الجهاد إرهاباً لكي ... نَذِلَّ ذُلَّ الأَمَةِ اليتيمة
ما بين خصم ونصيرٍ غادرٍ ... ضاع الحمى في خُطَّةٍ مرسومة
(أبو رغالٍ) بائعٌ بلادَهُ ... و (العلقميُّ) بائعٌ حَرِيمَه
هُبِّي معي.. ثوري معي.. وانتفضي ... واجتنبي حكمتَكِ السقيمة
هيا ادفعيني فوقَ أرتالِ العدا ... حتى أُبيدَ الزمرة اللئيمة
لم تَدُمِ الأمجادُ إلا بِدَمٍ ... يغسلُ أدرانَ الخنا الوخيمة
هُبِّي معي.. أو فارحلي إلى المدى ... رحيلَ خصمٍ دائمِ الخصومة
بالعزم والإيمان ألقى المعتدي ... مُندفِعاً مُزدرياً جحيمَه
أفنى وأفنِي جمعَهم.. لكنّني ... أحيا وأُحْيِي أُمَّةً مظلومة
كي تعلمَ الأجيالُ بعدي أنّنا ... عشنا ومُتنا ميتةً كريمة(172/57)
نص شعري
وقفة أمام فلول الأحزاب
محمد بن عبد الرحمن المقرن
وَدَاعاً أيُّها الجيش العَرَمْرَمْ ... فَمَوْعدنا قريباً عندَ زَمْزَمْ
رَحَلْتَ كما أتيتَ فأيُّ شأن ... أصابك أيها الجيش المحطَّمْ
ظننتَ الحربَ راحلةً وسيفاً ... ولم تَعْلمْ بما هو منه أعظمْ
جنودُ اللهِ ما وضَعَتْ يديها ... بأمر إلهها لو كنت تعْلَمْ
ألاقيتم كهذا اليوم رعباً ... وريحاً من بقايا الرّعْب تَلْهَمْ
سقيتَ الخزيَ يا جيشاً تربّى ... على كفِّ الهنا عيش المنعَّمْ
فَلَمْلِمْ جيشك الباقي وغادرْ ... فقد يَفنَى غداً إن لم يُلَمْلَمْ
أأنت القوة العظمى؟ محالٌ ... فلم نعهدْك ذا الوجه المذمَّمْ!
قريشُ بأي بأسٍ قد لقيتم ... جنودَ الله.. إنَّ العوْدَ أَسْلَمْ
محمّدُ يضربُ الصخر ابتهاجاً ... ستفتح فارسٌ والرُّوم تُهزَمْ
تألمنا وما خاضَ المنايا ... جوادٌ في الوغى إلا تألّمْ
وزُلْزِلْنا ولكنّا انتصرنا ... وأنجزَ وعدَه ربي وَتمَّمْ
لنا في الحسنيين مُنىً عِظَامٌ ... وما للكافرين سوى جهنَّمْ
فيا لجحافل الأحزاب ذاقت ... مرارة خزيِها والخزي عَلْقَمْ
سيُسمعكم «بلال» غداً أذاناً ... به تدرون من فينا المعظّمْ
أرى لبني «قريظة» وجهَ غدرٍ ... ووجهاً بالظغينة قد تجهَّمْ
رأتْ نصر الإلهِ فألفُ ويلٍ ... لها.. جند الإله لها تقدَّمْ
لقد هُزمت جيوش الكفر قهراً ... ولو بالظن قلنا ليس تُهْزَمْ
سلوا في ليلة الأحزاب نصراً ... نراه ولو له ثغر تكلَّمْ
تبسمْ أيها المحزون هذي ... حكايا النصر تصرخ أن تبسمْ
أرى بجحافل الأحزاب درساً ... من الآمال لمَّا بَعْدُ يُفْهَمْ(172/59)
مراجعات في السيرة والتاريخ
خطر النفاق.. حقيقة أم خيال؟
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
التاريخ لا يصنعه العظماء فقط، بل إن للوضعاء الحقراء والتوافه الخبثاء
دوراً كبيراً في صناعته وتسيير دفته.
لا تعجب! فالتاريخ ليس خيراً كله، فهو وعاء لما يُقضى من القدر خيره
وشره؛ فأقدار الخير يهيئ الله لها رجالاً عظماء شرفاء؛ فبعد الرسل صلوات الله
وسلامه عليهم كم من رجال تألقوا في التاريخ، بل تألق التاريخ بهم، وأما أقدار
الشر فقد خُلق لها الأشرار، ولم يعدم التاريخ منهم من يعكر صفو صفحاته العظيمة،
ومن يجرف مجرى سيره نحو الانحدار، لا نتحدث هنا عن التاريخ الإنساني
بعامة؛ فهذا ليس موضوعنا، ولكن عن التاريخ الإسلامي خاصة؛ حيث كان ذلك
التاريخ مشطوراً بين نصيبين: نصيب للصادقين السائرين على المحجة البيضاء،
ونصيب للكذابين الخاطئين من حزب المنافقين أو ضحاياهم من العصاة الفاسقين،
أما المنافقون منهم فكانوا ولا يزالون كالورم الخبيث الكامن في الجسد بانتظار لحظة
من الوهن والإنهاك حتى يفرض نفسه منتشراً بالداء والبلاء.
تعالوا نستنطق التاريخ، ونستخرج شهاداته، ونقلب بعض ملفاته وصفحاته
لعلنا نستحضر بعض ملامح الواقع العملي لقول الله تعالى عن المنافقين في كل
زمان ومكان: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) .
منافقو العرب وفتنة الردة:
أبو بكر رضي الله عنه هو أعظم عظماء هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه
وسلم، لا يشك في ذلك مؤمن، ولكن انظر لهذا العظيم الكريم: مَنْ شغله واستغرق
جهده في سنيِّ حكمه القصيرة، حتى لم تكد همومه تخرج عن حدود الجزيرة إلا
قليلاً؟ ! إنهم فئام ممن كُتم نفاقهم وأُسكت صوتهم أيام تنزُّل الوحي؛ حيث كانوا
دائمي الخوف وهذا سر انقماعهم من تنزل القرآن بأخبارهم وأسرارهم: [يَحْذَرُ
المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا
تَحْذَرُونَ] (التوبة: 64) ، فلما أمنوا تجدُّد ذلك التنزيل بوفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم، استعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاق كان مستوراً،
وجهروا بالامتناع عن ركن الإسلام الثالث، بأن منعوا الزكاة التي كانوا يؤدونها
كُرهاً على عهد الرسالة: [وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ
الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (التوبة: 98) ، وبدأت معالم فتنة
تولى كبرها مبكراً أعراب منافقون في المدينة وحولها، كان القرآن قد حذر منهم:
[وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] (التوبة: 101) ، بدأت
هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتى توسعت كنار الهشيم
بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى ردة معلنة استوعبت أرجاء الجزيرة حتى لم يبق
على الإسلام في تلك الجزيرة التي وحَّدها محمد صلى الله عليه وسلم على صحيح
الدين إلا أهل المسجدين؛ فقد بدأ الأمر بشبهة أثاروها حيث قالوا عن الزكاة: «
كنا نؤديها لمن كانت صلاته سكن لنا» متذرعين بأن الله تعالى قال: [خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ] (التوبة: 103) ، وأنشد بعضهم يقول:
«أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر» [1] .
حجة داحضة ودليل ساقط؛ إنه لحن المنافقين في القول؛ ذلك اللحن الذي لم
تكد أذن الصدِّيق تصغي إليه حتى ازدرته ثم لفظته؛ فقد رفض فقهه البصير أن
يهضم تلك الحجج الفجة، ولم ينطل عليه ذلك الزخرف من القول، فقال في حسم
مسؤول وتلقائية صادقة، وهو يستشعر خطر ذلك النهج الأعوج: «والله لأقاتلن
من فرَّق بين الصلاة والزكاة» [2] ، وقد كان الجهر بجحد الزكاة وحمل السلاح
لمنعها كافياً لأن يُطلق على هؤلاء وصف (المرتدين) وأن يرفع أبو بكر في
وجوههم سيف الحق.
قال ابن كثير: «وفي جمادى الآخرة ركب الصدِّيق في أهل المدينة وأمراء
الأنقاب إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا
عليها» [3] ، ولم يتلعثم رضي الله عنه في قول ولم يتردد في فعل، وقال لمن
خالفوه في عزمه: «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي؛ ولو خالفتني يميني لقاتلتهم
بشمالي» ، وقام في الناس فخطبهم؛ فكان مما قال: «إن مَنْ حولكم من العرب
منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم
هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا» ، ثم قال: «والله لا أدع أن
أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويُقتَل من قتل منا شهيداً
من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته في أرضه» [4] .
وشاء الله تعالى أن يطفئ تلك النار التي شبت في أرجاء الجزيرة بثبات بدأ به
رجل واحد استطاع أن يختار للمرحلة ما يناسبها من الحسم والحزم.
وطارد أبو بكر المرتدين في أرجاء الجزيرة حتى ردها كلها إلى الإسلام. ولا
ندري أي مستقبل كان يمكن أن يكون لهذا الدين لو ترك أبو بكر هؤلاء المنافقين
الذين تحولوا إلى مرتدين؛ ليعبثوا في ثوابت الدين ويعيثوا فساداً داخل حصن
الإسلام والمسلمين.
وجاء بعد الصديق عمر الفاروق رضي الله عنهما، الذي خنس النفاق في
عهده وانقمع؛ وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل،
وهو الذي كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غيره؟ !
ومع هذا؛ فقد جرى في شأن مقتله لغط بسبب شبهات ثارت حول تواطؤٍ مَّا
حدث بين قاتله المجوسي أبي لؤلؤة، ورجلين آخرين، حيث ترجَّح لدى ولد
الفاروق (عبيد الله بن عمر) رضي الله عنهما أنهما تآمرا مع أبي لؤلؤة على قتل
أبيه، وكان أحدهما من أمراء الممالك الفارسية ويدعى (الهرمزان) وقد أعلن
إسلامه بين يدي عمر رضي الله عنه، والآخر يدعى (جفينة) وقد مات على
النصرانية، وقد باشر عبيد الله قتلهما بنفسه ثأراً لأبيه [5] . أما حقيقة القصة فلن
تظهر كاملة إلا يوم تُبلى السرائر.
النفاق وتأسيس الفتنة الكبرى:
انجلت الظلمة بعد اغتيال الفاروق بإشراق عهد ذي النورين، وشرع الخليفة
الثالث عثمان رضي الله عنه في إكمال ما بدأه أسلافه من تمكين للدين في الداخل
ونصرته في الخارج، وتعززت في عهده رايات الفتوح حتى سارت قافلة الإسلام
في عهد عثمان بأرواح ملائكية لا تخلو من هنات البشر، ولكن بشراً آخرين
أوغلوا في الغلو، وتنطعوا في طلب الكمال الذي لم يقتربوا هم من حده الأدنى، بل
لم يلج بعضهم دين الإسلام أصلاً؛ حيث كشف النفاق عن حزبه الجديد، ممثلاً في
عبد الله بن سبأ وجماعته؛ حيث أظهر ذلك الرجل اليهودي الملقب بـ (ابن
السوداء) الإسلام في زمن عثمان، وانطلى نفاقه على كثيرين، بل قل: اجتمع
على نفاقه الكثيرون، فبدأ ينشط في الشام والعراق ومصر زاعماً النصح للمسلمين،
وهو لا يريد إلا تفريق صفوفهم وبث الخلاف بينهم [6] ، وتجمع حوله أشباهه من
المنافقين، فكان منهم نفر ممن نزلوا مصر واستوطنوها مع الفاتحين، ونفر آخر
كانوا في العراق وآخر في الشام [7] ، وبدأ المنافقون فتنتهم بالتنادي بلا حياء بعزل
من كان يستحي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتجمع رعاع آخرون ممن لا يفقهون حول المطالبة بعزل عثمان، بل تأثر
بذلك بعض الصادقين من المؤمنين الذين شوشت عليهم دعايات المنافقين
وتهويلاتهم، وصدق الله إذ قال عن شأن المسلمين مع المنافقين: [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ
لَهُمْ] (التوبة: 47) .
لقد نشبت الفتنة ودب الصراع، فكانت الثورة وكانت المصيبة التي انتهت
بقتل عثمان رضي الله عنه بعد أن حاصره هؤلاء الخوارج في بيته مدة أربعين
يوماً، وقتله المجرمون فأسالوا دمه مفرَّقاً على المصحف الذي جمع الأمة عليه،
ولم يكن يدور بخلد أحد من أهل الإسلام أن تتطور فتنة النفاق السبئي لتصل إلى ما
وصلت إليه؛ حيث استغل المنافقون فرصة انصراف أكثر الصحابة إلى مكة للحج،
ليسيطروا على المدينة ويتسلموا مقاليدها فاتحين بذلك باب الفتنة التي لم تغلق بعد
ذلك؛ فقد ظل (قتلة عثمان) موضوعاً لمزيد من الفتنة ومزيد من المصائب التي
رزئ الإسلام بها بسبب النفاق وأهله.
المنافقون وتنشئة الفِرق:
لما قتل المنافقون من عصابة ابن سبأ عثمان رضي الله عنه؛ وبُويع علي
رضي الله عنه بالخلافة، باتت ظلال المصيبة مخيمة على الأجواء، واختلطت
مشاعر الحزن بمشاعر الغضب حتى استحالتا إلى رغبة في الانتقام ثم عزيمة على
الثأر، وأخذ بعض المسلمين القميص الذي قتل فيه عثمان ملطخاً بدمه رضي الله
عنه ووضعوه على منبر المسجد بالشام؛ حيث كان هناك معاوية رضي الله عنه ابن
عم عثمان وواليه على الشام، فاعتبر معاوية نفسه ولي دم عثمان، وندب الناس
للأخذ بثأره ممن قتلوه، وانضم لهذا الطلب جمع من الصحابة، وألحَّ صحابة
آخرون على علي رضي الله عنه في المدينة أن يقيم الحدود على قتلة عثمان، فلم
يمتنع رضي الله عنه عن ذلك، وتبرأ من قتل عثمان وقَتَلَته ولعنهم [8] ، ولكنه
طلب التمهل حتى تستقر الأمور؛ لأن القوم كانت لا تزال لهم شوكة في المدينة بعد
أن توافدوا إليها من الأمصار، فأراد أن يداريهم حتى يتمكن منهم.
ولولا نفاق هؤلاء وتسترهم بالإسلام مع اختلاطهم في الناس لما أشكل أخذهم
والثأر منهم، ولكنه النفاق الذي يخدع ويخادع، ويخلط الأمور كلما كادت أن تصفو؛
ولهذا عندما بدأ علي رضي الله عنه في ترتيب الأمور وتعيين ولاة جدد على
الأمصار، اختلفت كلمة الناس في معظم تلك الأمصار على أمراء علي، كأثر
مباشر على الاختلاف بشأن الموقف من القَتَلَة، حيث ظل هؤلاء الأنكاد سبباً للفرقة
التي تفرقت في الأمصار كلها، لا بل إن جمعاً منهم حاولوا أن يصطنعوا من
أنفسهم بطانة لعلي رضي الله عنه فارضين أنفسهم عليه؛ مما حال بينه رضي الله
عنه وبين اقتراب كبار الصحابة منه.
وكان من أثر تمهل علي رضي الله عنه في الثأر من قتلة عثمان أن رأى
معاوية رضي الله عنه مع من معه من أهل الشام ألاَّ طاعة لعلي حتى يقتل قتلة ذي
النورين رضي الله عنه، وبدوره رأى علي أن ذلك منهم خروج وافتئات على
الولاية الشرعية الجديدة، والتبست الأمور بعوامل مختلطة، وأمور مشتبهة تكاد لا
تعرف منها حقيقة إلا حقيقة وجود منافقين تؤزهم الشياطين لتفريق المؤمنين، ولكن
الأمور كانت تظهر وكأنها تداعيات طبيعية للأحداث.
وكان من ذلك أن اتخذ الإمام علي قراراً بقتال أهل الشام باعتبارهم بغاة
خارجين على ولايته [9] .
وقبل خروجه رضي الله عنه إلى الشام، كانت مكة تمور بأمر آخر؛ إذ كان
لا يزال فيها جمع كبير من الصحابة ممن كانوا في الحج، فانتهزت أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها فرصة وجودهم وصارحتهم بضرورة الاجتماع للمطالبة بدم
عثمان، فاستجاب الناس لها ونزلوا على طلبها، وأشار بعضهم باللحوق إلى الشام
والانضمام إلى معاوية رضي الله عنه ليكونوا جميعاً قوة في وجه قتلة عثمان الذين
استحوذوا على الأمر في المدينة، وأشار آخرون بالقدوم إلى المدينة نفسها ليطالبوا
جميعاً الإمام علي رضي الله عنه بأخذ القتلة بالشدة والحرب، وأشار فريق ثالث
بالذهاب إلى البصرة حيث يمكنهم هناك التقوِّي والاستعداد حتى تكون لهم شوكة
يقاتلون بها أهل الشوكة في المدينة من الخوارج الذين صنعوا الفتنة بعد أن يبدؤوا
بأنصارهم في البصرة نفسها، واستقر الأمر على ذلك، وتم العزم على الخروج من
مكة إلى البصرة؛ حيث وافق الأكثرون على هذا الرأي إلا بقية أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم اللائي فضلن العودة إلى المدينة مع جمع آخر من الصحابة. ويلاحظ
هنا أن جميع الصادقين من الصحابة والتابعين كان لهم هدف واحد وإن اختلفوا في
طريقة الوصول إليه، وهو: كتم الفتنة وعقاب المتسببين فيها، إحقاقاً للحق
وانتصاراً من الباطل، أما أصحاب الفتنة نفسها ومن افتتن بهم؛ فكانوا لا يزالون
سائرين في طريقها لا يلوون على شيء غيرها مدعين في الوقت نفسه أنهم بهذا
الفساد مصلحون [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] (البقرة: 12) .
الذي حدث بعد ذلك أن جيش عائشة رضي الله عنها قصد البصرة حتى
اقترب منها؛ فلما علم بذلك واليها أرسل إليهم يستفسر عن سبب قدومهم، فأعلمه
قادة الجيش بذلك، وظهر بعدها أن للخوارج قتلة عثمان نفوذاً في البصرة، فقد
تحرشوا بجيش عائشة، حتى اضطروهم للقتال وهم لم يكونوا يريدون ذلك في ذلك
الوقت، ولكن الأمر انتهى باستقرار الأمر في البصرة للقادمين من مكة مع عائشة
رضي الله عنها بقيادة طلحة والزبير رضي الله عنهما.
ولما علم علي رضي الله عنه بسيطرة هؤلاء على البصرة عدل عن التوجه
إلى الشام، وعزم على قصد البصرة، وانتدب الناس لذلك، فامتنع الأكثرون
مفضلين اعتزال الفتن الواقعة بين المسلمين، ولكن تحمس لهذا الانتداب أهل الكوفة،
وأصر آخرون على إعطاء مسعى الصلح فرصة بين الفريقين؛ وذلك بتفهم مراد
الفريقين وإزالة اللبس بينهما، وانتدب لذلك الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو
رضي الله عنه، فسأل أهل البصرة عما يريدون، فأجابوه أنهم يريدون الإصلاح
الذي يبدأ بقتل قتلة عثمان، فأجابهم القعقاع بأن ما حدث من قتال في البصرة يكفي
الآن، وقد نال القتل في معارك البصرة عدداً من قتلة عثمان، ثم إن بقية القتلة لو
كان في قتلهم مصلحة الآن، فالمفسدة المترتبة على ذلك أكثر من المصلحة،
فاستحسن أهل البصرة كلامه، ووافقوا على الصلح ولمِّ الشمل. واجتمعت كلمة
عائشة وعلي رضي الله عنهما على ذلك، وفرح المسلمون بهذا الاتفاق على إبرام
الصلح، وعزم عليٌ رضي الله عنه على العودة، وطلب من الناس ذلك مستثنياً من
شارك بأي عمل في قتل عثمان رضي الله عنه.
وهنا ثار المنافقون لأنفسهم، واغتموا بأخبار اجتماع كلمة المسلمين، واجتمع
رؤوس الفتنة منهم مرة أخرى على ابن السوداء، فتألف منهم جمع مشؤوم من ألفين
وخمسمائة، ليس فيهم صحابي واحد، وأنكروا على علي رضي الله عنه استجابته
للصلح، وصرحوا بخوفهم أن يجمع عليٌّ عليهم الناس
غداً، وقال أحدهم وهو الأشتر النخعي: «إن صلح علي مع طلحة والزبير سيكون
على دمائنا، وإذا فعل ذلك فسنلحقه بعثمان فنقتله كما قتلناه» فقام ابن سبأ ونهره
وقال: «لو قتلنا علياً قُتلنا به، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة،
وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم»
فرفض خطة قتل علي فسألوه: ماذا ترى إذن؟ فقال: «يا قوم! إن خيركم في
خلطة الناس، فإذا التقوا فأنشبوا الحرب والقتال بينهم ولا تدعوهم يجتمعون» [10]
! ! فرضوا رأيه واجتمعوا عليه منصرفين إلى مسعى بث الفرقة والاختلاف عن
طريق الاختلاط بالناس كما أشار خبيثهم وبينما الجيشان المسلمان يسيران إلى
طريق العودة للصلح، تشاور الأشرار، ثم عزموا على إثارة الحرب بينهما مع
طلوع الفجر، فنهضوا قبل الفجر بعد أن رتبوا بين ألفي مقاتل منهم أن يبتدئوا
الحرب بالهجوم على من يلونهم في جيش طلحة والزبير، ونفذوا ذلك بالفعل
وبدؤوا الهجوم، فتثاور الناس مغاضبين، وتفاجؤوا بما يحدث، ولم يكن هناك
متسع للتأني والنظر في حقيقة ما يحدث، بل سرعان ما خوَّن كل فريق الآخر،
وتقاذف الجيشان الذاهبان للصلح تهم الغدر والخيانة، ونشبت الحرب وازداد
سعيرها بقتال المسلمين بعضهم بعضاً في طائفتين دعواهما واحدة [11] ، وقتل من
المسلمين خلق كثير فجع لأجلهم علي رضي الله عنه حتى تمنى لو كان مات قبل أن
يرى ذلك؛ فقد قال لابنه الحسن لما رأى القتل يستحرُّ في أمة محمد صلى الله عليه
وسلم: «يا حسن! ليت أباك مات منذ عشرين سنة. فقال الحسن: يا أبَهْ! قد
كنت أنهاك عن هذا. قال: يا بني! إني لم أرَ أن الأمر يبلغ هذا» [12] . وصدق
رضي الله عنه فلم يكن ممكناً لأحد أن يتصور أن تبلغ خيانة المنافقين على الأمة
إلى أن تنشب مثل هذه المعركة التي قتل فيها نحو عشرة آلاف من الطرفين منهم
طلحة بن عبيد والزبير بن العوام المبشريْن بالجنة.
لم يقنع أصحاب الفتنة من السبئية بهذا، بل طالبوا علياً رضي الله عنه أن
يقسم بينهم أموال من قتلوا في الجيش الآخر ونساءهم، فلما أنكر عليهم ذلك طعنوا
عليه، وقالوا: كيف تحل دماؤهم ولا تحل أموالهم؟ ! « [13] .
لقد أدى اختلاط الفجار واندماجهم في جيش علي رضي الله عنه إلى وقوع
مقتلة الجمل على النحو الذي سارت عليه، وكان هذا نفسه سبباً كبيراً من أسباب
تطور الأحداث حتى وصلت إلى موقعة صفين وما تلاها. قال الطحاوي رحمه
الله:» وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين
قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما
فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله « [14] .
وقد كان علي نفسه رضي الله عنه قد وصف أولئك المنافقين بقوله:» طلبوا
الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على
أدبارها « [15] .
وقد بدت آثار ذلك كله في الأحداث التي وقعت بعد معركة الجمل؛ فالجريمة
التي أقدم عليها قتلة عثمان كانت هي الخلفية التي تحرك الأحداث كلها؛ فبقايا
المشاركين في عملية القتل كانوا سبباً في استمرار الفتن، حتى تحولوا في النهاية
إلى فرقة هي شر الفرق التي خرجت على الأمة ألا وهي فرقة الخوارج الذين يكفي
في إظهار شرهم وفتنتهم أن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:» هم شرار
الخلق والخليقة « [16] .
وكانوا قد خرجوا على علي رضي الله عنه بعد أن كانوا ضمن جنوده بدعوى
أنه قبل التحكيم والصلح مع معاوية رضي الله عنه، وعدُّوا هذا التحكيم حكماً بغير
ما أنزل الله، وعدوا الصلح موالاة لأعداء الله [17] ، وقد اضطر علي رضي الله
عنه لقتالهم في آخر الأمر بعد أن بارزوه بالعداوة والشقاق، وأوقع بهم هزيمة
نكراء في موقعة النهروان التي قتل فيها نحو أربعة آلاف خارجي، وهم بدورهم لم
يتركوه رضي الله عنه بل كانت نهايته على أيديهم؛ حيث قتله الخارجي الأثيم عبد
الله بن ملجم، فأضافوا إلى جريمة قتل الخليفة الثالث عثمان قتل الخليفة الرابع
علي رضي الله عنهما، ومنذ أن اتخذ الخوارج ذلك الموقف اعتراضاً على التحكيم
والصلح عام 38 هـ، نشأت الفرق السياسية والاختلافات المذهبية الاعتقادية التي
فرقت الأمة منذ ذلك الحين وإلى اليوم.
ومن الفتن التي تولدت عن الفتنة الأولى ثم ما تلاها من أحداث: ظهور فرقة
الشيعة؛ فقد نظر هؤلاء إلى علي رضي الله عنه على أنه يمثل موقف بيت النبوة،
وأن كل من خالفه فقد خالف هدي النبوة وأمانة الرسالة، وبدأ هذا الموقف عاطفياً،
ثم تطور مذهبياً حتى اجتمعت حوله فرقة ذات طموحات سياسية، وكانت نشأتها
حين انفصل الخوارج عن جيش علي، فرأى من بقي منهم أنهم هم وحدهم شيعة
علي ومن ثم شيعة أهل البيت، ولم يكونوا وقتها يطعنون على أحد من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عمل فيهم النفاق عمله أيضاً؛ حيث ظهر
فيهم من يفضل علياً على أبي بكر وعثمان بمجرد الهوى، ثم تطور إلى رفض
خلافتهما وشتم من يراها شرعية، ثم تطور الأمر إلى القول بعصمة آل البيت
والأئمة الإثني عشر منهم، وقد ساهم منافقو الفرس الذين فتح الفاروق عمر بلادهم
ثم أكملها عثمان رضي الله عن الشيخين ساهم هؤلاء المجوس في بث العداوة
والفرقة في الأمة بالطعن على السلف والتآمر ضدهم، وكان ذلك قد بدأ بقتل عمر
رضي الله عنه على يد أبي لؤلؤة المجوسي، ثم تحول إِلى تبني ذلك المذهب
الشيعي الذي لا يزال أخطر مذهب مناوئ لمذهب السلف وطريق أهل السنة
والجماعة اعتقادياً وسياسياً.
ومما يجدر ذكره هنا أن فتنة قتل عثمان رضي الله عنه ولَّدت أيضاً إضافة
إلى فرقتي الخوارج والشيعة فرقة ثالثة هي فرقة المرجئة؛ فقد ظهر هؤلاء بموقف
ثالث مختلف عن موقف الخوارج وموقف الشيعة من علي، فقالوا: لا نشهد عليهما
بإيمان ولا كفر وكان هذا مبدأ قولهم، وقد سئل سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال:
» قوم أرجوا أمر علي وعثمان؛ فقد مضى أولئك، فأما مرجئة اليوم فهم يقولون:
الإيمان قول بلا عمل، فلا تجالسوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصلُّوا
معهم، ولا تصلُّوا عليهم « [18] .
إنك تكاد ألاَّ تنظر في تاريخ تأسيس فرقة من الفرق الضالة إلا وتجد خلف
تنشئتها والتأصيل لها رجالاً مشبوهين متهمين على دينهم من أفراخ أعداء الإسلام
الظاهرين.
دور المنافقين (الفاطميين) في استقدام الصليبيين:
تظاهر رأس من رؤوس المنافقين بالتشيع وكان يُدعى أبا الخطاب ابن الأجدع،
وهو الذي نُسبت إليه الفرقة الخطابية، وسلك طريق النفاق المعتاد بادعاء
الصلاح، فصاحب جعفر الصادق في حياته، وادعى أنه وصيه بعد مماته رغم
تبرؤ جعفر منه وتتلمذ على أفكار ذلك المنافق زنديق آخر هو ميمون القداح المنحدر
من أصول يهودية، وعمد هذا الآخر إلى الدعوة للتشيع على الطريقة الإسماعيلية
المنحرفة، وتحركت بإيحاء من تلك الأفكار الحركة القرمطية التي تبنت نشر
المذهب الإباحي الداعي إلى إباحة كل المحرمات وإسقاط الواجبات.
وكان لميمون القداح حفيد يُدعى (سعيد) ادعى أنه أحد أبناء الأئمة
المستورين من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق؛ فزعم على هذا أنه علوي يستحق
الخلافة! ! وقد بدأ يدعو إلى نفسه بالخلافة بعد أن سمى نفسه (عبيد الله) ،
وشايعه جمع من المنافقين على ذلك وأشاعوا أنه حقاً من العلويين من ولد فاطمة
رضي الله عنها، وتطورت دعوتهم بعد أن كسبت الأنصار فأقاموا الدولة (الفاطمية)
بالمغرب، وكان إخوانهم القرامطة والإسماعيلية قد أقاموا دولاً قبل ذلك في
البحرين واليمن. واستمرت دولة العبيدين في المغرب من عام 297 هـ حتى عام
363 هـ حيث انتقلت بعد ذلك إلى مصر في عهد الخليفة العبيدي (المعز لدين لله)
فأقام لدولة النفاق الشيعي [19] كياناً بمصر.
وقد كان هؤلاء العبيديون الخبثاء طيلة عهود يقرِّبون الكفار، وبخاصة
النصارى، ويتخذون منهم البطانة ويولونهم المناصب، ويكثرون من الزواج منهم،
وكانت هذه البطانة سبباً أساسياً من أسباب استفحال أمر النصارى في الشام بعد
سيطرة العبيدين عليها، حتى آل أمر الشام إلى أن سقطت في أيدي الصليبيين بعد
أن فرَّ أمراء العبيديين منها وتركوها لقمة سائغة لهم حتى احتلوا القدس وسيطروا
على المسجد الأقصى، ورفعوا الصلبان على مآذنه! [20] .
النفاق وسقوط الخلافة العباسية:
تساهل آخر خلفاء العباسيين الخليفة المستعصم بالله، في اتخاذ بطانة من
المنافقين؛ فقد قرب إليه أحد الروافض الخبثاء وجعله وزيره ومستشاره وهو:
محمد بن أبي طالب مؤيد الدين العلقمي، وكان هذا الزنديق راغباً في تحويل
الخلافة عن أهل السنة إلى الشيعة، ولما كان الشيعة وقتها في حالة من الذلة لا
تسمح لهم بذلك، فقد عزم ذلك المنافق المتسمي بالإسلام أن يستخدم لهذه الغاية
الكفار الصرحاء، فأغرى ملك الدولة الوثنية التتارية (هولاكو) بغزو دولة الخلافة
العباسية، وكاتبه في ذلك، فاستجاب هولاكو، وطلب من ابن العلقمي أن يمهد
لذلك أولاً من طرفه بأن يستغل قربه من الخليفة لكي ينصحه بتسريح أكبر عدد
ممكن من الجيش العباسي. وبالفعل استطاع العلقمي أن يقنع الخليفة بتسريح خمسة
عشر ألفاً من فرسان الجيش بذريعة خفض النفقات، ولما أُعفوا من الخدمة في
جيش الخلافة أمرهم الوزير المشؤوم بأن يغادروا بغداد ويبحثوا عن أرزاقهم
خارجها، وبعد ذلك بمدة أقنع الخليفة بتسريح عشرين ألفاً آخرين مدعياً أمامه أن
البلاد في أمان ولا تحتاج إلى كل هؤلاء
الجنود، وظل هذا الخبيث وغيره من المنافقين سائرين على هذه الطريقة في
إضعاف الدولة العباسية عسكرياً حتى استيقن بأنها قد بلغت أشد حالات الضعف؛
فقد أصبح جيشها لا يزيد عن عشرة آلاف جندي بعد أن كانوا في آخر عهد الخليفة
السابق نحو مائة ألف جندي. وعندما أنجز تلك المهمة القذرة في غفلة الولاة
اللاهين عن جهاد المنافقين، أوعز العلقمي إلى هولاكو بأن يقدم إلى عاصمة
الخلافة ولا يضيع الفرصة.
فقدم الملك الوثني بجيوشه جرارة من مئتي ألف مقاتل، وفاجأ أهل بغداد
وجنودها، فاستقبله ابن العلقمي مع جمع من أنصاره وحاشيته، ثم عاد فأشار على
الخليفة بأن يخرج إلى هولاكو ليصالحه على نصف خراج العراق، فخرج ومعه
سبعمائة من القضاة والعلماء والأمراء، فأمر هولاكو بعزل هؤلاء جميعاً عن الخليفة
إلا سبعة عشر شخصاً وقتل الباقين، وأحضر الخليفة ومن معه إلى مجلسه وأهانهم
ثم أعادهم إلى بغداد ومعهم ابن العلقمي ليأتوا بما في بيت المال من كنوز وأموال.
ويبدو أن هولاكو كان مستعداً لأن يكتفي بهذا ويقبل الصلح على أن يُعطى نصف
خراج العراق، ولكن المنافقين الشياطين نصحوه بغير ذلك. قال ابن كثير:» وقد
أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح
الخليفة، وقال الوزير ابن العلقمي: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا
عاماً أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة؛
فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله « [21] .
وقد قُتِلَ الخليفة بمشورة» مؤيد الدين «العلقمي،» ونصير الدين «
الطوسي [22] .
ويحار المرء عندما يقرأ عن الطريقة التي قتل بها الخليفة من أيهما يعجب:
من طغيان وجبروت الكفار الظاهرين الذين باشروا القتل، أم من خسة وذلة ونذالة
المنافقين الذين أشاروا بالقتل؟ !
لقد وضعوا الخليفة في كيس.. وقتلوه رفساً! ! أما بغداد وأهلها فقد فتح
عليهم الوثنيون التتار أبواباً من الجحيم، فأباحوها أربعين يوماً يُعمِلون القتل فيها
ويشيعون الدمار، حتى أحصي القتلى في تلك المدة بألفي ألف نفس! وكوفئ
الوزير (مؤيد الدين) فعينه هولاكو وزيراً في الحكومة الجديدة على أطلال بغداد
التي خربها النفاق.
المنافقون وإسقاط الخلافة العثمانية:
مهما قيل عن خلافة آل عثمان من الأتراك وما كان عليها من المآخذ، فإن
التاريخ يحفظ لهم أنهم حافظوا على وحدة العالم الإسلامي في كيان سياسي عالمي
استمر ما يزيد على خمسة قرون صدوا خلالها عن المسلمين الحملات الشرسة من
كفار الشرق والغرب من الروس والأوروبيين.
ولكن تلك الخلافة التي أذلت كبرياء طواغيت العالم في العديد من الملاحم،
تكرر معها في أواخر عهدها أمر قريب مما حدث مع الدولة العباسية، حين استوزر
الخلفاء وقربوا عناصر من المنافقين الحاقدين على الإسلام الحاملين لأسماء
المسلمين؛ فقد سيطر على مقاليد الأمور في تركيا في أواخر عهد الخلافة شرذمة
من منافقي اليهود الذين كانوا قد قدموا إلى تركيا من أسبانيا بعد أن طردهم
النصارى من هناك بعد انتهاء حكم المسلمين في الأندلس، وتكوَّن تحالف غير
مقدس من اليهود الصرحاء والنصارى في الخارج، مع المنافقين الأتراك في
الداخل سواء كانوا من أصول تركية، أو من هؤلاء الدخلاء المهاجرين الذين كانوا
مع أعداء الأمة قلباً وقالباً. واللافت هنا أن عصابة المنافقين هؤلاء الذين كان يطلق
على أسلافهم: يهود الدونمة؛ لم يتحركوا في بلاد الإسلام إلا تحت مسمى الإسلام،
ويعجب المرء: كيف أمن المسلمون لهؤلاء أن يتركوهم على هذه الحال من الترقي
في مناصب الدولة وهم يعلمون أصولهم وخبثهم ولم تكن لهم دلائل صدق في
الإيمان حتى يصلوا إلى مناصب الوزراء وقادة الجيوش؟ ! لقد نشط هؤلاء منذ
هلاك مؤسس حركتهم (سباتي زيفي) عام 1675م في توهين أمر الإسلام في
تركيا؛ وذلك من خلال التحرك ضمن جمعيات سرية مشبوهة ظهر بعد ذلك أنها
كلها كانت تتحرك بإيعاز من اليهود. وتطور ذلك مع تطور السعي اليهودي للعودة
إلى مسرح السياسة في العالم في أواخر القرن التاسع عشر [23] .
ومع مجيء القرن العشرين كان التنسيق بين اليهود وبين المنافقين الأتراك قد
بلغ مداه، وبخاصة عندما رفض السلطان العثماني عبد الحميد أن يعطي اليهود
فلسطين ليقيموا عليها دولة لهم. فعندها عزم زعيم الصهيونية الحديثة (تيودور
هرتزل) على إزاحة تلك العقبة أعني الخلافة ليقيم اليهود على أنقاضها دولة
للمنافقين المرتدين في تركيا، ثم دولة لليهود الظاهرين في فلسطين، ولم يكن
بوسع هرتزل ولا من حوله من المنظمات اليهودية المدعومة بنصارى أوروبا أن
يصلوا إلى هذين الهدفين لولا أولئك المنافقون المتسمون بأسماء المسلمين داخل
تركيا.
فقد تأسس المحفل الماسوني المسمى بـ» محفل الشرق العثماني «في
تركيا، ليكون نادياً للضرار يضم في أعضائه كل عدو لدود للإسلام، وشكل
المنافقون الأتراك أيضاً جمعية (الاتحاد والترقي) وحزب (تركيا الفتاة) ليضموا
في أعضائها عناصرهم من القادة في الجيش وغيره من مرافق الدولة، وبدأ الجميع
يتحركون في غفلة من الساسة والعلماء وأهل الفكر من المسلمين الذين غفلوا أو
تغافلوا عن حكم الله في إبعاد المنافقين وجهادهم والغلظة عليهم، حتى انتهى الأمر
إلى إسقاط الخلافة العثمانية وإلغاء منصب الخليفة على يد أكبر رموز النفاق في
القرن المنصرم: مصطفى كمال أتاتورك؛ وعندها خلع المنافقون رداء الإسلام،
وارتدوا ثوب الردة المسماة بـ (العلمانية) تلك الراية الكفرية الفضفاضة التي
أظلت تحت جناحها كل جبار عنيد.
ولكن تلك الردة تلك أعني العلمانية أبت أيضاً أن تستأنف مسيرتها إلا على
الطريق نفسه الذي سار عليه ابن سلول وابن سبأ وميمون القداح والعلقمي
وسبتاي زيفي وكمال أتاتورك ... إنه طريق النفاق وهو الطريق الذي ظل موصولاً
إلى يومنا هذا؛ حيث يمكننا أن نقول: إن مسيرة الذل التي تسير فيها الأمة منذ
أكثر من قرن من الزمان لم يذلل سبلها ويمهد طرقها إلا طوائف المنافقين الذين
اتخذوا من الكافرين أولياء، فأسلموهم أمة الإسلام وأخضعوها لهم، ومكنوهم من
تركيعها عسكرياً واستلابها حضارياً، والتحكم فيها سياسياً واقتصادياً في غيبة
سلطان الحكم بدين الإسلام الذي عملوا قبل الأعداء على محاربته ومحاربة أهله
بالأصالة عن أنفسهم حيناً، وبالنيابة عن الأعداء أحياناً.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية، م 3، ج 6، ص 317.
(2) انظر: الأحاديث والآثار في ذلك في فتح الباري (3/211) .
(3) البداية والنهاية، (6/317) .
(4) البداية والنهاية، (6/316) .
(5) انظر: البداية والنهاية، 7/154.
(6) أنكر بعض المستشرقين وأكثر المتشيعيين، وتبعهم فريق من العرب الباحثين المعاصرين أن يكون هناك وجود حقيقي لشخصية باسم عبد الله ابن سبأ، ولكن دواوين التاريخ الإسلامي تثبت وجوده وتؤكد دوره في الفتنة، انظر: تاريخ الطبري (4/340) وتاريخ ابن عساكر (9/329) ، وتاريخ ابن كثير (7/183) ، وتكلم المؤلفون في الفرق والملل والنحل عن فرقته المسماة بـ (السبئية) انظر: مقالات الإسلاميين، ص 15 بل إن بعض معاصري الشيعة اعترفوا بوجود هذه الشخصية، كصاحب كتاب (لله ثم للتاريخ) بما أورده من النصوص الواردة في دواوين الشيعة المعتبرة لديهم.
(7) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير، (7/178) .
(8) انظر: تاريخ الطبري (4/513) ، والبداية والنهاية (7/250) .
(9) ليس مرادنا هنا التأريخ أو التذكير بتاريخ الفتنة، ولكن المراد رصد دور النفاق في تسلسل تلك الفتنة أما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتقاد أهل السنة والجماعة الذي ندين به أنهم جميعاً مجتهدون، سواء كانوا مخطئين أو مصيبين، وهم بإذن الله مأجورون لنشدانهم الحق ونصرته، ولكنهم جميعاً كانوا ضحايا تلك الفتنة التي زرعها المنافقون وحدهم، وحصد الجميع ثمارها
الخبيثة.
(10) البداية والنهاية (7/251) .
(11) في الحديث:» لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة «أخرجه البخاري في الفتن 25، ومسلم في الفتن 17.
(12) البداية والنهاية، (7/251) .
(13) البداية والنهاية، (7/256) .
(14) شرح العقيدة الطحاوية، ص 546.
(15) تاريخ الطبري، (4/493) .
(16) أخرجه ابن ماجة في المقدمة /12، والترمذي في التفسير سورة 3، وأحمد في مسنده (5/253، 296) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1/34) ، ح (140) .
(17) انظر قصة التحكيم في تاريخ الطبري (5/49) .
(18) تهذيب الآثار، للطبري (2/658) .
(19) نقول ذلك لأنهم لم يبلغوا حتى أن يكونوا من الشيعة الروافض، بل كان شأنهم كما قال ابن تيمية رحمه الله:» ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض «.
(20) انظر: الكامل، لابن الأثير، 10/194.
(21) البداية والنهاية (م 7 ج13، ص 214) .
(22) نصير الدين الطوسي من الشيعة الإسماعيلية، وقد قربه هولاكو بعد أن استولى على بعض البلدان الخاضعة للإسماعيلية، وكان قبل ذلك وزيراً لدى بعض الأمراء العبيديين، البداية والنهاية (13/214) .
(23) راجع تسلسل دور المنافقين في (أسرار سقوط الخلافة العثمانية) للدكتور مصطفى حلمي، و (العثمانيون في التاريخ والحضارة) للدكتور محمد حرب، و (يهود الدونمة) لمصطفى حوران.(172/60)
ندوات ومحاضرات
التعليم بالمغرب على مفترق الطرق!
(2 - 2)
أعد الندوة: د. فريد بن الحسن الأنصاري [*]
في الحلقة السابقة دار الحديث حول مفهوم التعليم وعلاقته بالتربية، ثم معركة
التربية الإسلامية في المغرب. وتطرق الحديث بعدئذٍ إلى ما سمي بالمسودة الأولى
لإصلاح التعليم واقتراح مادة الحضارة الإسلامية. ثم تحول الحديث إلى الموازنة
بين حرية التعليم والقيم الثابتة. وفي هذه الحلقة يتابع أهل الندوة الحديث عن
التعليم في المغرب.
- البيان -
ضيوف الندوة:
- د. خالد الصمدي: رئيس قسم الدراسات الإسلامية، وأستاذ التعليم العالي
بالمدرسة العليا لتكوين الأساتذة، جامعة عبد المالك السعدي بتطوان المغرب.
- د. حسن العلمي: أستاذ كرسي الحديث والفكر الإسلامي، جامعة ابن
طفيل بالقنيطرة المغرب.
- الشيخ الداعية أبو سلمان محمد العمراوي: عضو رابطة علماء المغرب.
- الأستاذ أحمد إبراهيم: أستاذ العلوم الطبيعية بمدرسة المعلمين بمدينة
مكناس المغربية.
(البيان) : عرف تعريب التعليم بالمغرب تعثراً شديداً؛ بسبب تعصب الفئة
الفرنكوفونية لمصلحة التدريس باللغة الفرنسية، فكان أن عُرِّبَ في خضم الصراع
السياسي بعض مراحل التعليم، تعريباً جزئياً لم يسلم من انتقادات، وبقي الآخر
فرنسياً على ما كان عليه في العهد الاستعماري؛ فإلى أي حدٍّ يمكن أن يلعب
التعريب فعلاً دوراً حقيقياً وفعالاً في معركة الهوية بالمغرب؟ ثم إلى أي حد يمكن
اعتبار ما تدعيه الفئة الفرنكوفونية من أن التعليم باللغة الفرنسية يسهم في تطوير
القدرات العلمية للتلاميذ، وكذا قدرتهم على المواكبة العالمية؟
- د. خالد الصمدي: أعتقد أن الإشكال بخصوص هذه النقطة يسير في
اتجاهين: الاتجاه الأول هو لغة التدريس، والاتجاه الثاني هو تدريس اللغة. فيما
يتعلق بالجانب الأول، وهو لغة التدريس؛ فشيء عادي وطبيعي في مجتمع عربي
إسلامي أن تكون لغة التدريس هي اللغة العربية. هذا من حيث المبدأ، مع الانفتاح
طبعاً على تعلم اللغات الأخرى. بالنسبة لنظامنا التعليمي في المغرب، بعد عهد
الاستقلال، كانت مجموعة من المواد الأدبية والإنسانية تدرس باللغة الفرنسية
كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة، بالإضافة طبعاً إلى المواد العلمية المعروفة،
كالكيمياء والفيزياء والرياضيات، وغير ذلك. وكان كل ذلك بدعوى تحديث النظام
التربوي، والنظام التعليمي بالمغرب. وبدعوى أن هذه العلوم نفسها نشأت في
محاضن الغرب. إذن شيء طبيعي أن لا تستوعب إلا بلغة الغرب. لكن هذا
الطرح فاسد من أساسه، على اعتبار أن اللغة الفرنسية الآن تراجعت بشكل كبير
جداً، حتى على الصعيد العالمي، في البحث العلمي والتكنولوجي، وأصبحت
الصدارة للغة الإنجليزية. إذن ليس هناك مسوغ لكي نقول: إن التدريس باللغة
الفرنسية سيساهم في انفتاح التلاميذ على العلوم الكونية بشكل أفضل. ثم إن
تجارب بعض الدول في تعريب النظام التعليمي قد أدى إلى تحقيق مكتسبات مهمة
جداً في نظام التربية والتكوين.
أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية التي هي تدريس اللغة كما قلت فأقصد بالذات
هنا أولاً تدريس اللغة العربية؛ ذلك أنه كما عانت مادة التربية الإسلامية في التعليم
الثانوي من عدم تطوير البرامج والمناهج، فنفس الشيء وقع بالنسبة للغة العربية؛
إذ افتقرت في كثير من الأحيان إلى برامج ومناهج متطورة، وافتقرت إلى كفاءات
مقتدرة، وافتقرت إلى رؤية مستقبلية في التدريس، في الإطار التربوي والتعليمي
بالمغرب. وإن كانت الإصلاحات كلها تؤكد الخيارات الثلاثة: المجانية،
والتعريب، والاستقلالية. وهكذا بقي تدريس اللغة العربية في التعليم الثانوي
والتعليم الأساسي ضعيفاً؛ بحيث نجد الآن الكثير من التلاميذ لا يستطيعون النطق
السليم بجملة، أو جملتين من اللغة العربية الفصيحة. فإذا كان التلاميذ لا
يستطيعون استيعاب مادة اللغة العربية، من حيث إنها لغة مُدَرَّسَة؛ فكيف يمكنهم
أن يتعاملوا بها كلغة لتدريس المواد الأخرى؟ لذلك أرى والله أعلم أن تعريب
تدريس المواد الأخرى يبدأ بالضرورة بتقوية تدريس اللغة العربية.
- د. حسن العلمي: قضية التعريب هي قضية أمة، وقضية حضارة، هي
قضية المسلمين، وإن شئنا أن نقول هي دعامة من دعائم البناء الحضاري لهذه
الأمة؛ لأن الذي يكتب بالعربية، ويفكر بالأعجمية مثلاً، لا يستطيع أن ينتج فكراً
سليماً لهذه الأمة؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن الكريم عربياً مبيناً،
وألزم الناس أن يقرؤوه في الصلوات بالعربية كما أنزل؛ لأنه لا يمكن لأي لغة أن
تعبر عن كلام الله عز وجل، وأن تعبر عن معانيه، مهما بلغت الترجمة من الدقة.
إن قضية مهاجمة اللغة العربية قضية قديمة ثارت وتثور اليوم من جهة النعرات
القومية العميلة للتيارات الغربية. والقضية بدأت في العصر الحديث مع الذئب
الأغبر كمال أتاتورك الذي أعلن العلمانية في بلده، ومنع كتابة اللغة التركية
بالحروف العربية، ومنع الأذان بالعربية؛ حتى جاء من أعاد ذلك إلى البلاد. ثم
سار على ذلك النهج بعض الكتاب العلمانيين، مثل سلامة موسى، وجماعة من
العلمانيين الحداثيين الذين ارتموا في أحضان الغرب، ورموا العربية بالعجز عن
أن تساير العلوم الحديثة، باعتبار أن هذه العلوم لم تنشأ في حضنها، فدعوا إلى
دراسة العلوم باللغات الأجنبية، وكانت بلاد دول المغرب العربي مع الأسف من
أكثر البلدان تأثراً بهذا المنحى الفرنكوفوني. وإن كانت بعض البلاد العربية قد
حافظت على تدريس العلوم البحتة باللغة العربية، وهي الآن في القمة في هذا
الباب؛ إذ نجد الأطباء الذين درسوا الطب بالعربية، والعلماء الذين درسوا
الرياضيات بالعربية لا ينقصهم شيء، بل هم من النوابغ. منهم من يُدَرِّسون، أو
باحثون في مؤسسات أمريكية، ومؤسسات غربية، وهي تعترف بعلمهم وشواهدهم.
ونحن في المغرب ظلت اللغة الفرنسية جاثمة على صدورنا، وجاثمة على عقولنا
وأفكارنا؛ وبذلك صارت الألسن أعجمية، والعقول أعجمية. وأما التعريب الجزئي
الذي حصل؛ فهو مثل قصة الغراب الذي أراد تقليد الحمامة، لا هو تعلم مشية
الحمامة، ولا هو حافظ على مشيته.
الشيخ محمد العمراوي: التدريس باللغات الأجنبية عموماً خطر. والخطر في
ذلك آفتان أساسيتان:
الآفة الأولى: هي رضاعة ثقافة تلك اللغات منذ الوهلة الأولى؛ لأن اللغة في
نهاية المطاف وعاء الثقافة. فاللغة ليست مستقلة، أنا أرى في تقديري أنه يخطئ
من يظن أن اللغة محايدة. اللغة ليست محايدة. يعني أنا عندما أتحدث مع أطفالي
في المنزل بالعربية ولو بصيغتها العامية فإني ألقنهم ثقافتها الإسلامية الكامنة في
عباراتها وأمثالها. يقولون في الأمثال الشعبية مثلاً: (فينا اللي يؤذن، وما فيناش
اللي يقيم الصلاة) ، فهذه مصطلحات شرعية. ومثل هذا كثير. فاللغة إذن هي
وعاء للثقافة، وعاء للتاريخ، وعاء لما في الباطن، ولما في الشعور. والعرب
قالوا هذا قديماً في شعرهم:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ونحن نستغرب ونأسف عندما نجد أطفالاً يتغنون باللغة الأجنبية، إذن ماذا
يغنون؟ وجدان الأجانب. إن اللغة فيها حمولات خطيرة على النفسية، وخاصة
في مرحلة الطفولة. هذه آفة أولى، وهي خطيرة جداً على النشء.
الأمر الثاني: هو إقصاء اللغة الأم، أعني العربية؛ لأن اللغة الأم تصير
محاصرة، ومزاحمة باستعمال اللغة الأجنبية؛ ولذلك إذا تعلمها الإنسان فإنما يتعلمها
كأنها لغة أجنبية؛ فلا تبقى لديه لغة أصلية؛ لأنه في الوقت الذي يكون عمره
خمس سنوات، أو أربع سنوات، بل ثلاث سنوات يعلمونه اللغة الأجنبية. هكذا
في هذه السن الصغيرة جداً. فلا يمكن لنا أن نقول: هذه لغته الدخيلة وهذه لغته
الأصلية. وهذه آفة أخرى يعيشها كثير من الناس.
الأستاذ أحمد إبراهيم: هذه الحرب التي يعلنها البعض على التعريب هي خير
دليل على مدى أهمية التعريب في تحديد هوية المواطن المغربي؛ فبعدما نجحت
الفرنكوفونية في القضاء على اللغات الأصلية لكثير من الشعوب، في معظم
مستعمراتها الإفريقية. نراها الآن لم تفقد الأمل في ضم المغرب إلى لائحة
الضحايا؛ وما ذلك إلا لعلمها علم يقين أن صلاح وفلاح المواطن المغربي إنما
يكمن في معرفته للغته الدينية، وهي اللغة العربية التي تمكنه من فهم دينه، ومن
بناء شخصيته وفق معايير شرعية مضبوطة تضمن له الانضباط والطمأنينة
والاستقرار النفسي.
ومما لا يخفى على المتابعين لسلوك الدول الاستعمارية أن استبدال اللغة الأم
بلغة المستعمر كان هدفاً أساسياً حرصت عليه كل دولة مستعمرة. ومن هنا فإن
أهمية اللغة العربية في حياة المسلم لا تقل عن أهمية الماء والهواء والطعام، بل
هي أعظم من ذلك؛ فبدونها لن يفهم القرآن، بل لن يفهم نفسه؛ وهذا يكفي ليهيم
على وجهه في بحر من الظلمات. ذلك أننا إذا اعتبرنا الإنسان سيارة قائدها
العقل، ومحركها القلب، فكما أنه لا يمكن ضمان سلامة السيارة إضافة إلى سلامة
قائدها إلا أن يحترم قائدها قانون السير وعلامات المرور المختلفة؛ فكذلك هلاك
الإنسان محقق إن لم يحترم قانون السير المخصص له، والمحدد بوضوح في
القرآن، وأنى له أن يفهم هذا القانون، أو أن يحفظه، وهو لا يعرف اللغة التي
كتب بها؟
أما ما تدعيه الفرنكوفونية من أن التعليم باللغة الفرنسية سيسهم في تطوير
القدرات العلمية للتلاميذ، وكذا قدراتهم على المواكبة العالمية؛ فهذا كلام لا يستند
إلى أي أسس منطقية مقنعة؛ لأن كل لغة يمكنها أن تسهم في ذلك، لو تشبث
أبناؤها بها وعرفوا لها قدرها، وأنتجوا من خلالها. ولا توجد لغة تنافس اللغة
العربية في سعة الدلالات؛ لأنها لغة القرآن، كلام الصانع الخبير بما يناسب
صنعته سبحانه وتعالى.
إن الدعوة إلى الفرنكوفونية على حساب اللغة الأم إنما هي دعوة إلى استمرار
سياسة السيد والعبد، وتكريس لسياسة التبعية والتقليد الأعمى التي تضمن دوام
السيادة للسيد ودوام التبعية للعبد.
(البيان) : تتمتع ظاهرة إنشاء الجامعات والمعاهد الأجنبية بالمغرب بامتياز
خاص من الدولة؛ حيث تعتمد مقررات فرنسية أو أمريكية، ونرى أن الأعيان من
النخبة الفرنكوفونية يتسابقون لتسجيل أبنائهم بها، بعضهم يراها إيجابية؛ باعتبار
أنها نوع من الإثراء والتنويع الثقافي، بينما يرى آخرون أنها تهدد هوية المغرب
ووحدته الثقافية؛ فهل هذه ظاهرة صحية أم مرضية؟
د. خالد الصمدي: لا بد أن أبدأ بشيء مهم جداً: وهو أن أي بلد لكي يرسم
سياسة تعليمية مستقلة، لا بد أن يعتمد على موارده الذاتية؛ حتى يكون له استقلال
في اتخاذ القرار، وفي بناء نظام تعليمي غير مستورد. لكن جل بلدان العالم الثالث
مع الأسف لا تملك من المؤهلات البشرية، ومن الموارد المادية، ما يمكنها من
بناء نظام تعليمي مستقل؛ لذلك فهي تفتح أبوابها لدعم الأجنبي. شيء طبيعي
إذن؛ أن دعم الأجنبي لا بد أن يكون مشروطاً بمجموعة من الضرائب المعنوية.
ففي المغرب مثلاً يتجلى هذا في النظام التعليمي، في تعدد الأنساق التعليمية على
الصعيد الوطني. ليس لدينا نسق تعليمي واحد. صحيح أنه يوجد لدينا في المغرب
مؤسسات ثانوية، وأساسية أجنبية فرنسية بوجه خاص، ولكني أرى أن الأخطر
من ذلك هو اعتماد مناهج تعليم فرنسية في المدارس المغربية؛ بحيث إن رياض
الأطفال الآن في المدن الكبرى: فاس والرباط والدار البيضاء، مثلاً، تعتمد
اللغات الأجنبية في رياض الأطفال، منذ البداية. ثم إن الكتب المدرسية المقررة
تأتي مباشرة من فرنسا وإنجلترا. وليست كتباً مغربية! فإذا كانت المؤسسات
الأجنبية مؤسسات محدودة في العدد؛ فإنها لا تشكل في اعتقادي الخطر الأكبر؛
فخطرها أقل من خطر اعتماد المؤسسات التعليمية المغربية خاصة على مستوى
رياض الأطفال والتعليم الابتدائي والأساسي برامج ومناهج فرنسية؛ لأن هذه
تستوعب شريحة واسعة من أبناء المغاربة الذين يرون في تعلم الإعلاميات،
والإنجليزية، واللغة الفرنسية، وغيرها من المواد، منذ التعليم الأولي المنقذ
المستقبلي المادي. هذا من ناحية. أما من ناحية ثانية فوزارة التربية الوطنية،
حين نطرح عليها هذا السؤال، يعني حول البرامج والمناهج التي تعتمدها مؤسسات
التعليم الأجنبي بالمغرب؛ فإنها لا تفتأ تؤكد أنها ستعمل بحزم على ضرورة احترام
البرامج والمناهج التعليمية المغربية الأساسية في هذه المؤسسات؛ على اعتبار أن
هذه المؤسسات توجد فوق التراب المغربي، ويدرس فيها أبناء المغاربة. لكن مثل
هذه الرؤية، ومثل هذا القرار كما قلت سابقاً يحتاج إلى استقلال حقيقي، يحتاج
إلى سيادة، يحتاج إلى رؤية واضحة لبرامج ومناهج التعليم، يحتاج إلى توفر البلد
على الموارد المادية والبشرية للتحكم في نظامه التعليمي. أمَّا ونحن نمد أيدينا إلى
المؤسسات الممولة الأجنبية، فشيء طبيعي أن مثل هذا القرار لا يمكن أن نتخذه؛
لأنه من شرط التمويل الأجنبي أن يسمح لهامش من برامجه ومناهجه أن يتغلغل،
ويتوسع في النظام التربوي والتعليمي بالمغرب.
طبعاً نتيجة كل هذا هو أننا في المغرب نعيش بأنظمة تعليمية متعددة؛ فمن
النظام الفرنكوفوني من التعليم الأساسي والثانوي، إلى النظام التعليمي العصري
(المغربي) ، إلى نموذج التعليم الأصيل. نرى كل هذا في التعليم الثانوي
والأساسي. وعلى مستوى التعليم الجامعي هناك النظام الأنجلوساكسوني الذي
تعتمده جامعة الأخوين، والنظام الفرنكوفوني المعتمد في كثير من الشعب بكلية
الآداب، وكليات العلوم، وكليات الحقوق، خاصة على مستوى لغة التدريس.
وذلك يصارع نظاماً عربياً إسلامياً يتمثل في شعب الدراسات الإسلامية، واللغة
العربية. إذن هناك خليط في الأنساق التعليمية؛ بحيث لا يمكننا أن نقول: إننا
نعيش نمطاً واحداً موحداً من النظام التعليمي التربوي بالمغرب. وأنتم تعلمون أن
جامعة الأخوين، في الإصلاح الجامعي الحالي استثنيت بمادة خاصة في القانون
التنظيمي من الإصلاح الجامعي؛ لأنها جامعة لها خصوصياتها في التكوين،
وفي البرامج والمناهج. فإذن هي جامعة غير مغربية على التراب المغربي! على
اعتبار أنها لا تخضع لنفس الإصلاح الذي عنى باقي الجامعات الأخرى. لكن
تصوَّرْ معي! لو أن جامعة القرويين نفسها طالبت أن يكون لها نفس هذا الاستقلال،
على اعتبار أنها جامعة لها خصوصياتها، فشيء طبيعي أن يرفض مثل هذا؛ فكيف
يمكننا أن نكيل بمكاييل متعددة في نظام تعليمي يفترض أن يكون موحداً؟
الشيخ محمد العمراوي: أولاً المصيبة عمت! وأنا لا أوافق على المقولة
المشهورة: إنه (إذا عمت هانت) . بل إذا عمت عظمت! لم يعد الأمر اليوم
مقتصراً على الطبقات الأرستقراطية، وإنما وصل ذلك الطبقات المتوسطة في
المجتمع. وأنا أعرف ناساً من متوسطي الحال أقدموا على تسجيل أولادهم
بالخصوص في جامعة إفران. هذا أمر خطير جداً. ثم إن المدارس الابتدائية
والثانوية الخصوصية صار سوقها نافقاً في المجتمع المغربي، وصارت مجال
استثمار واسع. فنظرة سريعة على الدار البيضاء تريك حجم تسابق الناس على
تسجيل أبنائهم بأموال باهظة، من هذه الطبقات المتوسطة، بل الطبقات الضعيفة
أيضاً. الكل يبادر إلى تسجيل أبنائه في هذه المؤسسات التي ظاهرها مغربي،
وباطنها فرنسي، أو أمريكي. في تقديري هذا ليس تنوعاً ثقافياً، ولا إثراء للثقافة
المغربية التي هي ثقافة إسلامية في الأصل. لماذا؟ لأننا لم نختر التعامل مع هذه
الثقافات كي نستوعبها في إطار منظومتنا الثقافية العامة، وإنما هي ثقافات غالبة،
وافدة، غازية تحتوي وتبتلع ثقافتنا! أهم ما في ثقافاتنا هو الإنسان، وليس لدينا
شيء آخر في التثقيف الإسلامي يتقدم الإنسان مطلقاً. الإنسان هو المحور الأساسي
في النظر الإسلامي، كما هو واضح ومعروف. لكن الإنسان الآن مبهور مأسور
بالثقافة الأمريكية، أو بالثقافة الفرنسية! فأي تنوع ثقافي، وأي إثراء ثقافي، وأي
تلاقح ثقافي، يكون والحال هذه بيننا وبين الآخر؟
تاريخنا شاهد على أننا نحن استوعبنا الثقافات كلها، استوعبنا الثقافة اليونانية،
استوعبنا الثقافة الهندية، استوعبنا الثقافة الفارسية، استوعبنا كل الثقافات،
وأدرجناها ضمن منظومتنا العامة. وصار عندنا تنوع ثقافي حقيقي. وصارت
عندنا مجموعة من المدارس داخل هذه المنظومة الإسلامية، بتأثير هذه الثقافات
الأخرى. ولكن لم تكن وافدة بالمعنى الذي هي عليه اليوم. اليوم هي ثقافات غازية،
ثقافات مستعمرة، أو مستدمرة بتعبير البشير الإبراهيمي ولذلك فنحن نقبلها من
منظور آخر، وهو أن تكون لنا نحن موازين القبول والرد، موازين الأخذ والعطاء،
أن تكون لنا استقلاليتنا. عندما نكون نتحكم في قراراتنا، ولا تفرض علينا هذه
الأمور، عندها نعم، نقول هذه الثقافة نأخذها ونتعامل معها؛ فالنبي عليه الصلاة
والسلام أمر زيد بن ثابت بأن يتعلم العبرية؛ وهو في صحيح البخاري. نحن
عندما تكون لنا شخصيتنا السياسية، والثقافية المستقلة، ونختار؛ فهذا أمر ليس فيه
مشكلة.
الأستاذ أحمد إبراهيم: ظاهرة إنشاء الجامعات والمعاهد الأجنبية في المغرب،
التي تعتمد مقررات فرنسية أو أمريكية، وتهافت الناس على إلحاق أبنائهم بها،
أرى أنها ظاهرة مرضية تسهم بدورها في سلخ الإنسان المغربي عن هويته، ولا
أرى فيها تنويعاً ثقافياً كما يدعون، بل أراها ذبحة للوحدة الثقافية، لحساب ثقافات
معينة، مستغلين في ذلك لهفة الشباب على الهروب من عالم البطالة، ومن عالَمٍ
آفاقه المادية محدودة، إن لم تكن مسدودة. إلى عالم آخر عكس ذلك؛ حيث الحرية
والمال والأعمال.
(البيان) : هناك إجماع وطني رسمي وشعبي على إخفاق مشروع التعليم
بالمغرب، بكل مراحله وأصنافه، منذ مراحل بداية الاستقلال إلى اليوم؛ فإلى أي
شيء ترجعون هذا الإخفاق في نظركم؟
د. خالد الصمدي: في اعتقادي أن هذا الحكم الذي ذكرتموه أعني إخفاق
مشاريع إصلاح التعليم في المغرب يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
السبب الأول: هو عدم وضوح الرؤية، وعدم توحدها، في مستقبل النظام
التعليمي؛ بحيث إن الأجنحة المتصارعة الآن في الساحة الوطنية، هي أجنحة
أيديولوجية كل منها يرى من زاويته الخاصة الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه
المتعلم في المستقبل. إذن ليست هناك رؤية واحدة ومحددة؛ وهو ما يجعل مشاريع
الإصلاح مشاريع غير موحدة بقدر ما تكون مشاريع توفيقية تحاول ما أمكن أن
ترضي جميع الأطراف. هذا سبب.
أما السبب الثاني: فيعود إلى عدم الاستقلالية في اتخاذ القرار، واتخاذ
الموقف؛ بخصوص الملفات الكبرى. ومنها ملف التعليم. فقد سبق أن ذكرت لك
أن الاستقلال في اتخاذ أي قرار، خاصة في المجال الاقتصادي، والمجال التعليمي
بوجه أخص يحتاج إلى التضحية، يحتاج إلى بذل خاص، يحتاج إلى صبر،
يحتاج إلى الاعتماد كلياً على الطاقات والموارد الذاتية. وحيث إن هذا غير متوفر
في المغرب؛ فشيء طبيعي أن إصلاح التعليم الذي يتطلب وسائل وإمكانات كبيرة
جداً لا يمكن أن يتم إلا عن طريق استجداء المؤسسات الدولية، والذي يقابله فرض
إملاءات من جهتها، وتوجيهات ملزمة لتكييف النظام التعليمي حسب حاجاتها هي،
وحسب مصالحها هي. فعلى سبيل المثال: لو أنك قررت مثلاً أن تضع في برامج
التعليم وفي مادة التربية الإسلامية بوجه خاص مجموعة من المواضيع التي تحرم
الخمر، والقمار، والعلاقات الجنسية غير الشرعية؛ والحال أن الاستثمار الأجنبي
والتابع له، سواء في العالم العربي والعالم الإسلامي، يسير في اتجاه التمكين
لمجموعة من المؤسسات التجارية التي لا تروج إلا هذا؛ فإن الجهات الممولة
تتدخل؛ لحذف مثل هذه المواضيع من نظامنا التعليمي! حتى تفتح المجال بشكل
أوسع للاستثمارات الأجنبية. إذ منطق حالها يقول: لا يمكنني بوصفي مشاركاً
اقتصادياً، أو مؤسسة منفتحة اقتصادياً، أن أثق في نجاح الاستثمار داخل بلد
يشتمل نظامه التعليمي على مجموعة من العوائق والمحددات التي لا تفتح المجال
أمام الأجيال القادمة للتعامل بحرية مع المنتج الاقتصادي الجديد.
أما النقطة الثالثة في اعتقادي التي أسهمت في إخفاق مشاريع إصلاح التعليم
بالمغرب، فهي الارتباط الكبير بالنظام التعليمي الفرنسي القديم، المعروف عالمياً
أنه من الأنظمة المتخلفة التي لم تنتج إلا التبعية. فحتى نظام التعليم الفرنسي نفسه
هو الآن عالة على التعليم الأنجلوسكسوني. ونحن نعلم أن البلدان التي اعتمدت
النظام الأنجلوسكسوني كمصر، أو الأردن، أو غيرها، خاصة في منهج تكوين
المكونين، وفي بناء البرامج وبناء المناهج؛ قد قطعت أشواطاً كبيرة جداً،
ونجحت إلى حد ما في إصلاح التعليم. أما بالنسبة للبلدان المغاربية بشكل عام التي
التصقت بشكل كبير جداً بالنموذج الفرنسي القديم، فلم تتطور، ولم تنتج، وكانت
نسبة النجاح فيها أقل بكثير جداً من مساحة الإخفاق!
الأستاذ أحمد إبراهيم: يرجع إخفاق مشروع التعليم بالمغرب إلى عدة عوامل،
أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - غياب استراتيجية واضحة ثابتة لنظام التعليم تطبق عبر مراحل مدروسة.
2 - تبعية نظام التعليم للأيديولوجيات الحزبية، ولمذاهب المسؤولين فيه.
3 - التقليد الأعمى للنظام التعليمي بفرنسا، دون اعتبار لخصوصيات
المجتمع المغربي.
4 - أمانة التعليم أحياناً تسند لغير أهلها.
5 - تهميش المواد التي تحدد الهوية، والتي تضمن الوحدة الثقافية؛ لحساب
مواد أخرى أجنبية.
6 - الاهتمام بالكم على حساب الكيف.
7 - اضطراب نظام الامتحانات، وأساليب التقويم بالمدارس.
(البيان) : يُرجِع بعضهم ازدهار الصحوة الإسلامية بالمغرب إلى إنشاء
شعبة الدراسات الإسلامية بالجامعات المغربية، وفي كليات الآداب على الخصوص؛
مع العلم أنه تزامن إنشاء شعبة الدراسات الإسلامية مع التقليص من عدد مواقع
شعبة الفلسفة وفروعها؛ مما جعل الاعتقاد يسود بأن الإسلام ضد الفلسفة من ناحية،
وبأن رجوع الفلسفة للتدريس بكل الجامعات رهين بحذف شعبة الدراسات
الإسلامية؛ فهل هناك عداء حقيقي بين الإسلام والفلسفة من جهة؟ وهل ثمة
ضرورة لعدم التعايش بين الشعبتين من جهة ثانية؟ ثم ما علاقة شعبة الدراسات
الإسلامية بالمجتمع وتحولاته؟
د. خالد الصمدي: بخصوص إسهام شعبة الدراسات الإسلامية في ازدهار
الصحوة الإسلامية بالمغرب، فهذا أمر ظاهر وجلي، بحيث إن نهاية الثمانينيات
وبداية التسعينيات، شهدت تخرج الأفواج الأولى، على مستوى دبلوم الدراسات
العليا، ودكتوراه الدولة، في شعب الدراسات الإسلامية. وكان لهذا انعكاس كبير
في تأطير الشعبة نفسها في التعليم الجامعي؛ إذ لم تكن قد استكملت أطرها. ثم بعد
ذلك صدرت كثير من الدراسات والأبحاث، وطبعت من طرف خريجي الدراسات
الإسلامية، وهكذا بدأت كثير من الأجيال خاصة بعد نهاية الثمانينيات في الالتحاق
بشعبة الدراسات الإسلامية، واتسع مجال الاهتمام بها، وازدهر الاهتمام من جديد
بالعلوم الشرعية؛ إذ كان الأمر مقتصراً على خريجي جامعة القرويين، وخصوصاً
كلية الشريعة وكلية أصول الدين. وشيء طبيعي أن ازدهار هذه العلوم يؤدي إلى
ازدهار الدعوة الإسلامية والإرشاد الديني. فكان تأسيس مجموعة من الجمعيات من
طرف خريجي الدراسات الإسلامية، وكذلك الإشراف على مجموعة من دور
القرآن الكريم، وتدريس العلوم الشرعية بها ... إلخ، فهذه بعض الانعكاسات
للتعليم والتكوين بشعب الدراسات الإسلامية.
(البيان) : تتمة لما تتحدثون عنه: ما الجديد الذي جاءت به هذه الشعبة،
وقد كانت هناك جامعة القرويين بكلياتها الثلاث بالمغرب تدرس العلوم الشرعية؟
د. الصمدي: نعم طاقة كلية الشريعة وكلية أصول الدين، وكلية اللغة
العربية، المنتمية جميعها لجامعة القرويين، طاقة محدودة جداً. وكلية الشريعة
توجد بمدينة فاس، وبمدينة أجادير، وكلية أصول الدين توجد في مدينة تطوان،
وكلية اللغة بمراكش، ولا يمكن لهذه الكليات أن تستوعب هذه الأعداد الغفيرة من
الطلبة المقبلين على تعلم العلوم الإسلامية. أضف إلى هذا أن طبيعة التكوين في
القرويين ينقسم إلى قسمين: منه ما هو شرعي، ومنه ما هو قانوني وضعي. كما
أن التخصص في كلية أصول الدين يهتم بالعقائد وعلم الكلام أكثر من الاهتمام
بالعلوم الشرعية الأخرى، والذي يميز شعبة الدراسات الإسلامية هو الاهتمام
بالعلوم الشرعية في قالب معاصر؛ إذ يدرس بها مثلاً الاقتصاد الإسلامي، والأدب
الإسلامي، كما أنها مطعمة بعلوم حديثة، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع،
واللسانيات. بالإضافة إلى التعمق في العلوم الشرعية الحقة، كعلوم القرآن
والتفسير والحديث والفقه وأصوله. فهي تحمل تصوراً جديداً، ونظرة جديدة في
طريقة تقديم العلوم الشرعية. والدليل على أن الحاجة كانت ملحة لإنشاء شعبة
الدراسات الإسلامية هو هذا الاهتمام الكبير جداً الذي يظهر في حجم الملتحقين بها
من أعداد الطلبة؛ بحيث يمكن أن نقول: إن شعب الدراسات الإسلامية اليوم هي
على الصعيد الوطني الأكثر استيعاباً للطلبة الجامعيين.
وأما بخصوص النقطة الثانية: وهي علاقة إنشاء شعب الدراسات الإسلامية
بإغلاق شعب الفلسفة، فنحن نعلم أن شعبة الفلسفة في نهاية السبعينيات، وبداية
الثمانينيات، كانت تحت سيطرة اليسار المغربي الذي كان مهيمناً عليها، وموجهاً
لها، وواضعاً لبرامجها، وطرق تدريسها، ووسائلها، بوصفها مادة بالتعليم الثانوي،
ثم باعتبارها شعبة بالجامعة؛ مما أسهم بشكل كبير جداً في ترسيخ أيديولوجية
اليسار، وخاصة انتشار الإلحاد في كل تلك المرحلة. إلا أنه في بداية الثمانينيات
تم إنشاء شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بالمغرب؛ حيث كان تسجيل الفوج
الأول بها سنة: 1981م، فتزامن ذلك مع التقليص من عدد شعب الفلسفة بتلك
الكليات، وهذا صنع نوعاً من الصراع بين الإلحاد الذي كانت شعب الفلسفة
محضناً لأفكاره؛ وبين الصحوة الإسلامية التي كانت شعب الدراسات الإسلامية
متنفساً مهماً لها؛ حيث كانت تستغل لمزيد من التأطير في العلوم الإسلامية. لكني
أرى والله أعلم أنه لا يمكن أن نربط بين حذف شعبة الفلسفة، وإنشاء شعبة
الدراسات الإسلامية. الأمر في اعتقادي لا يعدو أن يكون تأسيساً لشعبة، وحذفاً
لشعبة أخرى، دون أن تكون بديلاً عنها؛ لأن في الجامعة المغربية متسعاً لمزيد من
الشعب والتخصصات التي تُكوِّن في مختلف الاتجاهات، وبمختلف التصورات،
دون أن يكون لذلك أثر كبير على الصراع الأيديولوجي القائم بين الشعبتين. وأؤكد
بهذا الصدد أن هذه المعركة اختلقها اليسار المغربي نفسه؛ بحيث لم يختر خريجو
الدراسات الإسلامية استمرار شعبتهم بحذف شعبة الفلسفة. لذلك لم يكن من المنطق
تماماً أن ترجع الفلسفة على حساب حذف شعبة الدراسات الإسلامية. فأعتقد أن
الأمر أيديولوجي أكثر مما هو مرتبط بالبعد التربوي.
- د. حسن العلمي: الحقيقة أن الدراسات الإسلامية في المغرب جاءت في
مرحلة كان الجو الفكري والثقافي في بلاد المغرب قد بلغ مبلغاً من العتو في الإلحاد،
وطغيان المادية الماركسية اللينينية الملحدة. واليسار كان قد بلغ مبلغاً لم يبلغه في
أي زمن من شتى أنواع الهجوم على الإسلام، ومحاصرة الدين، ومحاصرة الإيمان
بالله عز وجل؛ حتى إن الطالب وقتها لم يكن يجرؤ أن يتلفظ بالبسملة! هذا أمر
عشناه جميعاً بل الأستاذ نفسه كان يخاف أن ينطق بها؛ حتى لا يتهم بالفكر الغيبي
والخرافي؛ فتقوم عليه القائمة! والحقيقة أن موجة الإلحاد التي عتت في الجامعات
المغربية كانت تستدعي من المصلحين أن يلتفتوا إلى ذلك؛ لأنه سينقلب هذا الإلحاد
ضد المجتمع المغربي المتدين بفطرته، فكان من لطف الله عز وجل أن قامت شعب
الدراسات الإسلامية بدافع من بعض المخلصين من أبناء هذا الوطن الذين دافعوا
بحرارة لإعادة التعليم الديني كما كان، وإعادة دور القرويين الذي قتله الاستعمار،
فأنشئت شعبة الدراسات الإسلامية عام 1981م، فكانت والحمد لله فتحاً جديداً
للصحوة الإسلامية فتح أبواب النور على هذه البلاد. والحقيقة أن شعبة الدراسات
الإسلامية مهما ذكرنا عنها من نقص، ومهما تكلمنا في قضية ضعف مناهج
التدريس والأطر التي أطرت هذه الفترة مما ذكر الدكتور الصمدي فالحقيقة أن
المرحلة كانت مرحلة انتقالية؛ بحيث إنه لم يوجد هناك جيل من العلماء، وجيل
من المدرسين المتخصصين؛ إنما جلب إليها من المشرق بعض العلماء الذين
والحمد لله كان لهم أثر كبير على الدراسات الإسلامية في المغرب، من أمثال
الدكتور محسن عبد الحميد، والدكتور عبد الله الجبوري، ممن لا يزال أثرهم يذكر
إلى الآن، وكذلك تمت الاستعانة ببعض أساتذة التربية الإسلامية من الثانوي، إلا
أن الحق يقال إن الله سبحانه وتعالى فتح بها باباً عظيماً من الخير؛ بحيث إن جل
قيادات العمل الإسلامي، والصحوة الإسلامية في المغرب، وجل المفكرين
والباحثين الإسلاميين، هم من خريجي هذه الشعبة.
أما بالنسبة للقضية الثانية: وهي مسألة التعايش بين الفلسفة والدراسات
الإسلامية؛ مع العلم بأن اليسار يقول: إن الدراسات الإسلامية جاءت ضرة
ومزاحمة للفلسفة؛ فنحن نقول: إن الإسلام عدو للإلحاد، وللمادية. إلا أن الذي
حصل هو أن هؤلاء اليساريين العلمانيين الحداثيين بالمغرب؛ ما أرادوا فلسفة،
ولا أرادوا فكراً، ولا أرادوا منطقاً. إن الفلسفة قد تكون علماً من العلوم المحايدة،
وليست شراً كلها. أئمتنا الكبار مثل الإمام ابن الصلاح رحمه الله، والإمام الذهبي،
رغم أنهم هاجموا الفلسفة إلا أنهم ما كانوا يقصدون فلسفة العلوم التي تسمى الآن
بالأبستمولوجيا، وهي ينبغي أن تدرس الآن في الجامعات، إلا أن هؤلاء اليساريين
جعلوا الفلسفة هي الفلسفة المادية الملحدة فقط! وهذا حقيقة يتعارض مع الفطرة
الإسلامية والعقيدة التي نشأ عليها المغاربة.
(البيان) : تعتبر دور القرآن الشعبية، والمعاهد الشرعية غير الرسمية
بالمغرب ظاهرة ناشئة من بعد موات طال أزيد من قرن من الزمان. فهل هذا في
نظركم راجع إلى انبعاث الصحوة الإسلامية، وإلى الرغبة في تلبية حاجتها من
الأطر الدعوية، أم هو راجع إلى السخط الشعبي على اضطراب التعليم الرسمي؟
أم إلى شيء آخر لا هذا ولا ذاك؟ ثم كيف تُقَوِّمُون هذه المعاهد الدينية ببرامجها
العتيقة؟ هل هي فعلاً كفيلة بتخريج علماء جدد أقوياء أمناء، كما هو أمل
الساهرين على تسييرها اليوم؛ أم أنها لن تعدو تكرار النموذج التقليدي، والساذج،
للطلبة القرآنيين الذين امتهنوا في ظروف شظف العيش مع الأسف احتراف قراءة
القرآن على المقابر، والتكسب به في المناسبات؟
نبدأ بالشيخ أبي سلمان العمراوي، باعتباره أحد العلماء المتخرجين من هذه
المعاهد أساساً، ثم مشتغلاً بعد ذلك بإدارتها:
الشيخ محمد العمراوي: أولاً في كل الأحوال، نحن إذا قارنا المتخرجين من
هذه المؤسسات، قديمها وحديثها، مع المتخرجين من مؤسسات التعليم العام؛ نجد
أن الفرق شاسع، وأن البون كبير؛ ذلك أن المتخرج من هذه المؤسسات الشرعية،
في أقصى صور سوء حالها يكون إنساناً غير صالح، إما لا يؤدي حقوق الله، أو
لا يؤدي حقوق العباد، نقول على كل حال: هو إنسان فاسق، هذا هو التعبير
المناسب. أما في التعليم العام فالكارثة كبرى؛ فربما تخرج منه الملاحدة، أو
العلمانيون المحاربون للدين. هذه المفارقة ينبغي أن توضع في الحسبان، من
واجب دعم المؤسسات الشرعية، خصوصاً في هذه المرحلة، والتي هي مرحلة
صراع حقيقي بين نموذجين: نموذج مفروض على الأمة بالقوة، ومدعوم من قبل
مؤسسات عالمية كبرى، والقائمون عليه لن يستسلموا بسهولة. وبين نموذج أصيل
ينبعث في المجتمع من جديد على يد ناس أقوياء في طموحاتهم، وفي أهدافهم،
ولكنهم ضعاف في إمكانياتهم المادية والبشرية، وما إلى ذلك. نعم! نظراً لهذه
المعطيات وغيرها؛ يجب أن تكون هذه المؤسسات حريصة كل الحرص على
تخريج ناس يمثلون الإسلام خير تمثيل. لا بد لإنجاح ذلك من شروط تتعلق بثلاثة
أمور: أولها الرؤية، وثانيها المنهاج، وثالثها البرنامج.
أما الرؤية: فجواب عن: ماذا نريد من هذه المؤسسات؟ نحن لا نريد
تخريج مجموعة من الدراويش. نحن نريد العالم المتمكن من العلوم الشرعية،
المطلع في الوقت نفسه على ثقافة العصر، العالم الذي يستطيع أن يكون مثل أبي
حامد الغزالي في موسوعيته، أو مثل إمام الحرمين في قوة حجاجه، أو مثل الإمام
الشافعي في قوة إبداعه، أو مثل الإمام مالك في استنباطه وحفظه وزهده وورعه.
نريد أن يكون العالم الموسوعي المعاصر. ولا يمكن أن يكون العالم الموسوعة في
عصرنا الحاضر إلا بشروط. إذن فالرؤية ينبغي أن تكون لدينا واضحة. أنا
أشاطرك الرأي في أن كثيراً من هذه المؤسسات تقوم على غير رؤية مطلقاً. وإنما
هو من باب التنافس في الخير، ومن باب الرغبة في الخير، والحب فيه.
بالمناسبة عاينت مشكلة من مثل هذا القبيل في أوروبا، وقعت للناس هناك عندما
وصلوا إلى هولندا. ففي بداية الهجرة بدؤوا يؤسسون المساجد؛ رغبة في إيجاد
أماكن الصلاة. لكن أسسوا المساجد ثم بدؤوا يتقاتلون فيها على أشياء تافهة! ثم
جاءت مرة أخرى ظاهرة تأسيس المدارس الإسلامية. القانون الهولندي يسمح بذلك
في تفاصيل ليس هذا محل لذكرها. ففي بداية تأسيس المدارس الإسلامية، عقدت
ندوة شاركت فيها بكلمة، فقلت من بين ما قلت: (أنا أحذر الإخوان من تكرار
تجربة المساجد، أن نؤسس، ونؤسس، دون كفاءات، ودون طاقات، ودون رؤى
واضحة، وإنما رغبة في الخير، فالرغبة في الخير ليست كافية في تأسيس
مشاريع) . نعم هذه مشاريع خطيرة جداً في مستقبل هذه الأمة. ونحن نعرف أن
الحركة العلمانية الراديكالية في تركيا، لما أرادت أن تضرب الإسلام بدأت بضرب
هذه المؤسسات! هذه أسميها ركائز المجتمع الإسلامي. أسميها حصون الأمة.
ليس من السهل بناء قلعة. يجب أن تكون هناك شروط للبناء. أنا في اعتقادي وفي
تفكيري أننا نريد تخريج علماء يعيدون لهذه الأمة مجدها، علماء يشاركون في
الحياة العامة بقوة ويقودون الأمة. وفي نهاية المطاف علماء يكونون هم المرجعيات
الكبرى في العالم الإسلامي. كان عندنا من قبل الإمام الفقيه هو رأس الأمة، إذن؛
وكما قال الأستاذ مصطفى بن حمزة جزاه الله خيراً في إحدى المداخلات في مؤتمر
عقد لهذه المدارس؛ قال: (نحن نريد عالماً يحل المشاكل، ولا نريد الفقيه
المشكلة!) فيمكن أن يقال إذن: إن بعض المؤسسات تخرج لنا ناساً تسبب المشاكل.
نحن نريد عالماً منفتحاً واقعياً يعرف وجهته في هذه الحياة، ويكون قادراً على قيادة
هذه الأمة، قادراً حتى على القيادة السياسية. فالعلماء دائما كانوا في مقدمة
الأمة، وكانت تنعقد البيعات للأمراء والخلفاء على يد العلماء أولاً، ثم الشعب يكون
تبعاً.
أما المنهاج، فهناك نوعان من المناهج للدراسة معروفان:
النوع الأول: هو النوع الموجود اليوم في الجامعات المغربية الذي هو
المحاضرات العامة؛ فالأستاذ كما تعلمون يلقي محاضرة على الطلاب، ثم ينصرف
إلى حال سبيله، ويرى الطلاب مرة في الأسبوع، بل حتى إن بعض الطلاب لا
يرون الأستاذ إلا عند الامتحانات. فيما نرى هذا الأسلوب بهذه الصورة أسلوباً
عقيماً لن يخرج العالم إطلاقاً؛ والدليل على ذلك واضح في كثير من حاملي
الشهادات العليا: الدكتوراه فما دونها، ولكنهم في كثير من الأحيان مع الأسف أبعد
ما يكونون عن العلم؛ لأنه لا يمكن تخريج العالم بالحفظ الذي لا يحصل إلا قبيل
إجراء الامتحانات بأيام قلائل. هذا أسلوب عقيم.
ثم هناك أسلوب آخر كان يسلكه علماؤنا القدامى في العصور المتأخرة، وهو
أسلوب حفظ المتون، أي حفظ المقررات على مدى طويل، واستظهارها، ولكن لم
يكونوا مع الأسف يستثمرون ملكة الفهم. أما المدرسة الإسلامية اليوم، أو المعاهد
الشرعية اليوم، فيجب عليها أن تسلك مسلكاً أصيلاً، هو مسلك السلف الأوائل
الذي كان يمزج بين الأمرين: الحفظ والفهم؛ فلا ملكة الفهم تطغى على ملكة الحفظ،
ولا ملكة الحفظ تطغى على ملكة الفهم. بعض الناس اليوم يزهدون في ملكة
الحفظ تزهيداً. فأي عالم يكون إذا لم يكن يحفظ النصوص؟ ويحفظ الشواهد؟
ويحفظ القواعد؟ وما أصدق قول الناظم:
وإن لم تكن حافظاً واعياً ... فعلمك في الكُتْب لا ينفع
وتحضر بالجهل في مجلس ... وعلمك في البيت مستودع
ومن يكُ في ذهنه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
إذن لا بد من استثمار ملكة الحفظ إلى أقصى حد ممكن، وفي الوقت نفسه لا
بد من استثمار ملكة الفهم إلى أقصى حد ممكن. فباستثمار الملكتين يتخرج لدينا
العالم الحافظ المبدع؛ لأنه إذا لم يكن حافظاً، ففي أي شيء يبدع، وفي ماذا؟ وإذا
كان حافظاً بلا فهم، فهذا هو والشريط المسجل على حد سواء!
أما البرنامج: فهو يختلف باختلاف المستويات الدراسية، وهو على العموم
كما كان قديماً في تاريخ هذه الأمة برنامج يشتمل على مواد أساسية، هي مواد
شرعية. وعلى مواد تكميلية، هي علوم رياضية وكونية مختلفة.
د. خالد الصمدي: معلوم أن هذا النمط من التعليم هو نمط متجذر في التاريخ
المغربي، ليس أمراً جديداً. ونحن نعلم أنه هو الذي أسهم بشكل كبير جداً في
محاربة الاستعمار، والحفاظ على الهوية المغربية الإسلامية؛ ولذلك لم تكن هناك
قطيعة في هذا النمط من التعليم عبر تاريخ التعليم بالمغرب. وإنما الجديد الذي
ظهر الآن هو محاولة اعتماد هاته المؤسسات على بنيات جديدة، وطاقات جديدة،
وعلى طرق ووسائل جديدة في التدريس. فأعتقد أن هذا التغيير هو الذي حصل.
أما النمط التعليمي الشرعي بصورته الشعبية فهو تعليم موجود منذ القدم.
ويلاحظ فعلاً أنه يلقى اليوم إقبالاً كبيراً سواء على مستوى إنشاء الجمعيات القَيِّمة
على التعليم الشرعي التي تعمل على بناء دور القرآن الكريم، والمعاهد الشرعية،
وعلى مستوى الطلبة الذين يزداد توافدهم يوماً عن يوم لتلقي العلم بهذه الدور. فهذا
مرده في اعتقادي إلى أمرين أساسيين:
الأمر الأول: هو أن النظام التعليمي العام قد أفلست سوقه المادية رغم الشعار
الذي رفعه: وهو أن الخريجين يلجون سوق الشغل بسهولة. هذه الخرافة انتهت؛
وبذلك ظهر بالفعل أن النظام التعليمي الآن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يؤدي
إلى سوق الشغل بالشعار الذي رفع له. إذن؛ بقي للطلبة الخيار في التلقي من أي
نوع من أنواع التعليم الذي يشاؤون. ولذلك في ظل الصحوة الإسلامية ربطوا
التعليم بأخراهم، وأقبلوا على تحصيل العلوم الشرعية، وحفظ القرآن الكريم،
وإتقان اللغة العربية.
وأما العامل الثاني: فهو عامل الصحوة الإسلامية التي دعت إلى مزيد من
الاهتمام بالتكوين الشرعي، وتخريج العلماء؛ لحاجة المجتمع إلى ذلك. هذا هو
العامل والحافز الأهم الذي دفع الطلبة إلى الاهتمام بهذا المجال.
إنما التخوف الأساسي في اعتقادي الذي يراودني، وأنا أتحدث عن هذا النوع
من التعليم، هو التحديات الكبرى التي يواجهها على مستوى التأطير، وعلى
مستوى إحداث البرامج، والمناهج، ووسائل التدريس، وأما بناء البنايات،
وتوفير الأسرة للنوم، والأغطية، والتغذية ... إلخ. فأعتقد أنه التحدي الأصغر.
د. حسن العلمي: دُورُ القرآن الكريم والمعاهد الإسلامية التي نشأت وما
تزال تنشأ الآن في بلاد المغرب هي في الحقيقة امتداد لجامع القرويين، وامتداد
للمؤسسات الإسلامية العريقة. وفي القديم كان هذا النموذج يكثر في جنوب المغرب
، في مناطق تافيلالت، ومناطق سوس، ومراكش وغيرها، وهو الآن في شكله
الجديد الذي بدأ إبان نضج الصحوة الإسلامية ينتشر في كل مكان. والحاصل أنه
إذا وقعت العناية به من حيث المنهج، ومن حيث المضمون أمكن أن يخرج العلماء
الربانيين، والدعاة المتعلمين السائرين على سبيل النجاة الذين بهم ترشد هذه
الصحوة.
حقيقة يمكن أن نقول: إن سببين معاً كان لهما الأثر في ظهور دور القرآن،
والمعاهد العلمية:
- السبب الأول: نوع من السخط على المدارس العصرية التي أدخلها الغزو
الفرنكوفوني، والتي لم تخرج لنا علماء؛ فحيث بدأت تزدهر الصحوة الإسلامية
بالمغرب، صار الناس وهذا إلى عهد قريب يبحثون عن الخطيب، وعن الداعية
إلى الله، وعن الواعظ؛ فلا يجدون من يعتلي المنابر؛ لأن المدارس لم تخرج إلا
هذا النمط المائع من الشباب في غياب شُعَب الدراسات الإسلامية آنذاك، وضمور
جامعة القرويين التي لم يعد لها ذلك الأثر الذي كان لها قبل دخول الاستعمار؛ فهذا
النوع من السخط حقيقة ولَّد تفكيراً جدياً وحركة فعلية اتجهت نحو إيجاد دور القرآن،
والمعاهد الشرعية.
- السبب الثاني: حاجة الشعب المغربي المسلم إلى هذا، وكذا حاجة الصحوة
الإسلامية التي وجدت نفسها أنها كتلت جموعاً من الناس، وأنها لم تخرِّج علماء
لتأطيرهم؛ وعلي رضي الله عنه كان يقول: (إن القلوب أوعية، والناس ثلاث:
فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق لم
يعتصموا بالعلم ولم يأووا إلى ركن وثيق) .
فالمعاهد القرآنية ودور القرآن، إذا وقعت العناية بها خرَّجت لنا حفظة كتاب
الله عز وجل الذين امتلأت قلوبهم وصدورهم بمتون الشريعة الإسلامية،
ونصوصها، وأدلتها، وعلومها. ومن هنا فإلى جانب ذلك لا بد أن يمزج المنهج
بين محكمات الشرع، ومتطلبات الواقع. أما إذا سن على النمط القديم الذي يخرج
من يقرؤون على القبور، ويغسلون الموتى، ويحضرون في الجنائز والمآتم،
فهؤلاء الذين كانوا يسمون عندنا في الأيام السالفة: فقهاء الجنائزية، وفقهاء المآتم
المتكسبين بذلك، لا يكادون يحدثون أثراً في الأمة. بل أقول: إن بعض ما دخل
من الرجس الفكري قد دخل من خلال بعض هؤلاء النماذج السيئة الذين لم يكونوا
واعين بدينهم غفلة منهم؛ ذلك أن طائفة من حملة كتاب الله عز وجل لم يضعوه
حيث أمر الله سبحانه وتعالى بل صاروا يقرؤونه على الأموات، في حين أن
القرآن إنما أنزل ليُقرأ على الأحياء. فإذا بقيت بعض المعاهد على النَّفَس القديم في
تعليم القرآن الكريم دون رعاية الأخلاق، ودون رعاية لعلوم العصر، ودون رعاية
لما يتطلبه الداعية إلى الله في هذا الزمان، فإنها لا تستطيع أن تخرِّج ذلك العالم
الرباني الذي ينفع مجتمعه، وينفع الله عز وجل به أمته.
وخلاصة القول: أن عودة المعاهد الشرعية إلى المغرب من جديد ظاهرة
صحية، وانبعاث إسلامي جديد؛ فلعلها إن شاء الله تعالى أن تكون من إرث جامع
القرويين الذي كان يزلزل أركان الاستعمار، وكان الاستعمار يحسب له ألف حساب!
إن الاستعمار كان يخاف من خريجي القرويين أكثر مما كان يخاف من رجال
الأحزاب السياسية! وخريجو القرويين كانوا هم المجاهدين حقاً؛ إذ كانوا هم الذين
أنشؤوا الحركة الجهادية بالمغرب.
الأستاذ أحمد إبراهيم: لا شك أن انتشار دور القرآن الشعبية، والمعاهد
الشرعية، راجع بالدرجة الأولى إلى انتشار الصحوة الإسلامية التي أدركت خطورة
البعد عن القرآن، في أمة عرفت بحفظها للقرآن. ثم بالدرجة الثانية هو يرجع إلى
حالة اليأس وخيبة الأمل التي أصابت الناس في التعليم الرسمي. وخير دليل على
ذلك أن كثيراً من الناس يسعون لإلحاق أبنائهم بهذه الدور في العطل، وفي غير
العطل، رغم تفوقهم في الدراسة؛ مما يدل على أن الرجوع إلى الأصل أصل.
إلا أن هذه المعاهد الدينية يجب أن تجمع في برامجها بين العتيق والمعاصر.
أي بين أصالة العلوم الشرعية، ومعاصرة العلوم الإنسانية، في زمن المعلوميات
والحاسوب؛ لكي لا نكرر النموذج القديم الذي أثر عن زمن الانحطاط، وحتى
تكون الدراسة بهذه المعاهد غاية وليست وسيلة للتكسب. فدراسة علم الحيوان،
والنبات، والفلك، وعلوم الرياضيات بالغة الأهمية لتطوير هذا النموذج؛ حتى
اللغات الأجنبية أرى أن تدرس بوصفها لغة، وذلك لتيسير مهام الخريجين في أمور
الدعوة إلى الله.
(البيان) : الملاحظ على الحركات الإسلامية بالمغرب، أنها في السنوات
الأخيرة أهملت التعليم، ليس بوصفها قضية سياسية تناضل من أجلها وتجاهد؛
فهذا حاصل إلى حد ما، ولكن باعتبارها ممارسة تربوية في صفوفها، وفي
إشعاعها الدعوي والاجتماعي العام؛ فهل ذلك يعتبر فعلاً من نافلة العمل الإسلامي
ومحسناته؟ ومن هنا فلا خطورة في إهماله، أم أنه جوهر العمل الإسلامي، وركن
من أركانه؛ فيكون الإهمال إذن نوعاً من الانحراف عن المنهج يهدد مستقبل العمل
الإسلامي؟
د. خالد الصمدي: أعتقد أن الحركات الإسلامية الآن في المغرب لا تشتغل
بمنطق الملفات، ولكن تشتغل بمنطق التعبئة لرد الفعل تجاه ما يلقى في الواقع من
طرف الجهات الأخرى من تصورات ونظريات. وهذا أثّر بشكل كبير على ملف
التعليم؛ بحيث لا نجد لدى الحركات الإسلامية المغربية اعتماد منطق الخبراء
المتخصصين في أي مجال من المجالات كالمجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو
الثقافي ... إلخ. فالمفروض أن يكون هناك خبراء يشتغلون بإنجاز تصورات
واضحة لملف التعليم على سبيل المثال بمختلف قضاياه وإشكالاته، وإنجاز البدائل
العلمية، حتى إذا فتح ملف التعليم كان التصور واضحاً وناضجاً. لكن الأمر عكس
هذا؛ بحيث نجد أن الحركات الإسلامية، حين تطرح قضية التعليم تفتقد حينئذ
المشاريع الناضجة بالشكل الكافي؛ ولذلك تكون النتيجة هي العمل بمنهج ردود
الأفعال، وانتقادات المقترح الآخر، وتحاول ما أمكن أن تدفع السلبيات أكثر مما
تحاول أن تبني الإيجابيات؛ لأن بناء الإيجابيات معناه بناء بديل متكامل، لا مجرد
النقد؛ لذلك أرى أن العمل الإسلامي اليوم في المغرب يشتغل بمنهج تقليص هامش
الخطر عن طريق التدافع الإعلامي والسياسي. لكن إيجاد البديل الناضج الذي
ينجزه خبراء عبر دراسات متقنة وموسعة في الزمن، وغير مضغوطة بردود
الأفعال؛ فهذا أمر ما زال لم يتبلور بعد، وأعتقد أن الحركات الإسلامية قد تأخرت
بشكل كبير جداً، في تبني مثل هذا التصور؛ لأن العمل الاجتماعي والسياسي
والاقتصادي وغيره، هو عمل مؤسساتي. ولم يعد الظرف يسمح بوجود ردود
الأفعال في مثل هذه القضايا.
الشيخ محمد العمراوي: الحقيقة، أنا لا أريد أن أبخس الحركات الإسلامية
حقها؛ فالإخوان جزاهم الله خيراً قاموا بجهود كثيرة في إعادة الوعي الإسلامي إلى
الأمة من جديد، وإن كانت الحركة الإسلامية بالمغرب لها طبيعتها الخاصة؛ ففي
النشأة الأولى كانت امتداداً للحركات الإسلامية في المشرق، أعني من حيث الفكرة.
وهذا لا ينكره أحد. وأقصد الحركات التنظيمية. أنا عندما أتحدث في هذا
الموضوع أفرق بين أمرين: بين الدعوة التي تمارس على مستوى الأفراد والعلماء،
وبين الحركات الإسلامية التي هي تنظيمات سياسية، تنظيمات جمعوية،
تنظيمات بأي شكل من أشكال التنظيم، أي العمل الدعوي المنظم. فهذه هي التي
كانت في البداية امتداداً للحركة الإسلامية في المشرق من حيث الفكرة، ومن هنا
فإن كثيراً مما تقوم به هو ردود أفعال، لواقع يعيشه المغرب، يعني أنها تتأثر
بالمحيط، وتتأثر بالزمان والمكان، ومن ثم فبرامجها ورؤاها محاولة لإصلاحٍ هي
محكومة به في الواقع. فهي اختارت أن تسير في هذا الطريق، ونحن لا نبخسها
حقها على كل حال، وهي مشكورة على ما تقوم به، لكن أنا سمعت مرة من
أستاذي الدكتور محمد حسن هيتو كلمة جميلة جداً، وأكررها في كثير من المجالس،
قال: إن صلاح الدين الأيوبي لما قضى على الدولة الفاطمية في مصر؛ إذ كان
هو آخر من أجهز عليها، فكر بأن يصدر مجموعة من القرارات والأوامر لإبطال
كل مظاهر التشيع في المجتمع المصري، ونحن نعلم أن الدولة الفاطمية نشأت أول
ما نشأت في المغرب، ولكنها بسطت نفوذها في مصر؛ وفي مصر أظهرت كل ما
كانت تؤمن به من آراء وأفكار، ولم تستطع أن تظهر ذلك في المغرب، لا في ما
يسمى بالمغرب الأقصى، ولا فيما يسمى قديماً في التاريخ بإفريقية التي هي تونس
اليوم، ولم تستقر في المغرب الأوسط. ويذكر الشيخ الشاذلي النيفر رحمه الله في
مقدمة كتاب (المعلم على صحيح الإمام المسلم) للإمام المازري، أحد أئمة المالكية
المشاهير، أنه لشدة مقاومة علماء السنة في القيروان لم تستطع العبيدية (الشيعة)
أن تُظهر أياً من آرائها، ولا أفكارها، وقد عملوا أعمالاً كبيرة جداً على أن
(يشرِّقوا) المغاربة، أي أن يحملوهم على آرائهم المشرقية، فلم يفلحوا في ذلك.
قال: لشدة شكيمة أهل السنة، ولمقاومة العلماء. حتى إنه قال كلمة ينبغي أن
يذكرها الناس، قال: رحم الله فلاناً، وفلاناً، وفلاناً من العلماء على صبرهم؛
لأنهم لو لم يصبروا لكفرت العامة. فالعلماء دائماً هم حصون الأمة، بهم تتترس
من الكفر، ومن الانحراف، وما إلى ذلك. قلت: لما فكر صلاح الدين في أن
يصدر القرارات والأوامر لإبطال كل مظاهر التشيع في مصر أتى إليه بعض
العلماء ناصحين قالوا: لا تفعل هذا، وإنما أنشئ في كل مدينة مدرسة، ووظف
فيها علماء وطلاباً يتعلمون العلم؛ فبهم ينتشر العلم في الأمة، ويقضون على
مظاهر التشيع بشكل تلقائي، وعلى كل مظاهر الانحراف.
فالأساس إذن في إصلاح هذه الأمة هو إصلاح الجذور، هو إصلاح الأعماق.
والحركات الإسلامية الآن تتصارع صراعاً عمودياً، منشغلة برأس الهرم الذي
هو العمل السياسي، والعمل الحزبي الذي يعني الصراع على مواقع النفوذ. وقبل
يومين أو ثلاثة أيام قرأت مقالاً نقدياً لبعض الفضلاء من العاملين في المجال
السياسي، يقول: إنه من الخطأ البين هو يرد التهمة عن نفسه أن نعتقد أنه بتولينا
الحكم نستطيع أن ننفذ كل قراراتنا. قال: هذه تجربة خاضها الماركسيون فأفلسوا.
إنما كل ما فعلوه أنهم حكموا الناس بالاستبداد، وبالظلم، وبالقهر، وأرادوا أن
يمرروا على الناس آراءهم بالحديد والنار! لا بد من إيجاد قاعدة. إذن كيف توجد
هذه القاعدة؟ إنما توجد هذه القاعدة بنشر العلم والتعلم. فالصراع السياسي والتدافع
فيه مفيد بالنسبة إلينا، لا ننكره، والمعركة الاجتماعية هي أيضاً باب من الأبواب
الكبرى، ولكن أصل العلاج، وبداية الدواء، هو أن نؤسس مجموعة من
المؤسسات التعليمية لتخريج أجيال تؤمن بما ندعو إليه، تحمل هذا الهم، تحمل هذا
الفكر؛ لأن الناس اليوم هم طلاب خبز، حتى إذا وصلت ما وصلت إليه انقلبوا
ضدك، وانتفضوا عليك!
الأستاذ أحمد إبراهيم: لا أتصور أبداً أن تغيب قضية التربية والتعليم في
المجال الدعوي عن أي حركة إسلامية يمكن تسميتها بحركة إسلامية. فإذا أمكن أن
يعيش الجسد بدون روح فيمكن آنذاك أن نقبل القول بوجود حركة بدون تربية،
حتى ولو كنا نتحدث عن أي حركة أخرى غير إسلامية. إن حركة لا تبالي
بالتربية والتعليم هي كالبرتقالة التي أفرغت من لبها، ولم يبق إلا قشرتها! فماذا
سيأكل من اشتراها؟
(البيان) : كلمة أخيرة للأستاذ الدكتور خالد الصمدي، هي عبارة عن
سؤال (تربوي) حول منهجية ما يسمى بـ (أسلمة مناهج التعليم الرسمي) . فهل
لديكم فضيلة الأستاذ تصور خاص عن إدماج المادة الإسلامية في كل الشعب
التعليمية بالمغرب، وبكل الأسلاك، وجميع التخصصات؛ باعتبار أن كل المغاربة
كيفما كانت تخصصاتهم يجب أن يعرفوا دينهم؟
د. خالد الصمدي: هذا سؤال واسع ومفتوح، لكن يمكنني أن أتحدث فيه
على مستويين:
المستوى الأول: هو إدراج لا أقول المادة الإسلامية ولكن أقول: القيم
الإسلامية، في مختلف المواد الدراسية في التعليم العام.
والمستوى الثاني: هو تدريس مادة التربية الإسلامية بجميع الشعب،
باعتبارها مادة مرتبطة أساساً بالقيم الإسلامية. إذن؛ هناك إطار عام، وإطار
خاص. الإطار العام: هو إطار أسلمة التعليم، والإطار الخاص: هو محاولة
تقوية موقع مادة التربية الإسلامية. وأنا أرى أن إدماج القيم الإسلامية في مختلف
المواد الدراسية بالتعليم العام يمر عبر مجموعة من المحطات:
المحطة الأولى: هي محطة تفصيلية. وأقصد بالتفصيلية: محاولة بيان
طبيعة العلاقة التي يمكن أن تربط مختلف المواد الدراسية بالقيم الإسلامية كأهداف؛
بحيث إن أستاذ التاريخ مثلاً يستهدف إدماج تلك القيم، وكذلك كل من أساتذة
الجغرافيا والرياضة والعلوم الطبيعية ... إلخ. وهذا يحتاج إلى بحث تربوي
يؤصل لكيفية إدماج القيم الإسلامية في مختلف المواد.
وأما المحطة الثانية: فهي تتمثل في تكوين المدرسين؛ ذلك أننا لا نجد إشكالاً
في وجوه الربط بين القيم والمواد الدراسية، ولكن قد نجده في الربط بينها وبين
المدرس. فالمدرس الذي سينقل هذه القيم عبر أي مادة تعليمية هو المحطة الهامة
هنا؛ إذ يجب أن يكون رجلاً مقتنعاً بهذه القيم أولاً، ثم يحاول نقلها إلى التلاميذ
عبر مادته التعليمية.
وأما المحطة الثالثة: فهي إعادة النظر في البرامج والمناهج؛ بحيث إن
الهدف العام للتعليم هو تكوين المواطن المسلم المعتز بدينه وعقيدته، فينبغي
للأهداف الخاصة المرتبطة بكال مادة على حدة أن لا تخرج عن هذا الهدف العام،
على عكس ما نلاحظه نحن في نظامنا التعليمي الحالي القائم في الأهداف العامة
على تكوين المواطن المسلم، ولكن الأهداف الخاصة قد تناقض هذا الهدف العام؛
بحيث قد تتضمن بعض المواد مجموعة من الدروس التي تناقض الهدف العام،
وتطعن في مقومات الشخصية الإسلامية. وهذا ما يجعل التلميذ يعيش تناقضاً في
شخصيته.
هذه محطات ثلاث أعتقد أنها مهمة جداً لبناء تصور واضح لإدماج القيم
الإسلامية في مختلف المواد الدراسية. هذا الإطار العام.
أما الإطار الخاص الذي هو إطار مادة التربية الإسلامية فينبغي أن تكون
مقرراتها ومحتوياتها لها امتداد في جميع التخصصات والشعب الأخرى؛ ولذلك
أعتبر أن أخطر مادة للتدريس هي مادة التربية الإسلامية! على اعتبار أن محتوى
المادة له ارتباط بما هو تاريخي، وما هو اقتصادي، وما هو اجتماعي، وما هو
بيئي.. إلخ. وهذا يقتضي من الأستاذ أن يطلع على المواد الأخرى اطلاعاً عاماً
إلى جانب تخصصه في المادة الإسلامية. لذلك كانت التربية الإسلامية هي المادة
المحورية التي ينبغي أن نعطي لبرامجها ومناهجها الأهمية الكبرى.
(البيان) : نشكر الأساتذة الكرام جزيل الشكر، راجين من الله جلت قدرته
أن يحفظ هذه الأمة، ويعصمها من الزيغ والضلال، وأن يقيض لها من يقوم
بتربية أجيالها على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس المغرب، ومراسل المجلة في المغرب.(172/70)
آفاق
ثقافة التساؤل
د. عبد الكريم بكار
المتأمل في مداولاتنا الفكرية في وسائل الإعلام، وفي مجالس السمر، وفي
كل مكان يجد أن ما نردده اليوم من شكوى حول سوء أوضاعنا، وما نطرحه من
حلول هو عين ما ردده أسلافنا قبل أكثر من قرن من الآن. وإذا شئت أن تستوثق
من ذلك، فارجع إلى مداولات المؤتمر الإسلامي الوهمي الذي صوره لنا الكواكبي
في كتابه (أم القرى) . ونحن إلى الآن غارقون في طرح المشروعات الحضارية
التي نعتقد أنها ستخرج الأمة من مشكلاتها المتأسنة. وأملي أن نكف عن ذلك مؤقتاً؛
فقد حصل لدى الناس تشبُّع من الحلول والمقترحات النهضوية، وقد وصلوا إلى
حافة اليأس والإحباط!
دعونا الآن نخطو في اتجاه طرح الأسئلة حول الحلول التي قدمت: لماذا
نملك قدراً هائلاً من المشروعات والمقترحات والحلول لكل أدوائنا، ونملك مع ذلك
أضعف نتائج على الصعيد العملي؟ !
قد يكون من المفيد أن نعقد لكل مشكلة كبرى جلسات لعصف الأفكار، لا تُقدَّم
فيها الحلول، ولكن تثار فيها التساؤلات، ونتداول فيها التعليلات بغية فهم أعمق
لطبيعة المشكلات والأزمات التي تعاني منها الأمة. لا ريب أن طرح الأسئلة فن
كبير، وما يحتاجه من ثاقب النظر وواسع الخبرة لا يقل بحال عما يحتاجه تقديم
الأجوبة والحلول. وليس من باب التشاؤم القول: إننا لا نملك الأدوات الفكرية
والمعرفية التي تمكننا من طرح أسئلة عميقة ومعقدة. ونحن إذ ندعو إلى تكثيف
طرح الأسئلة نأمل أن نرتقي في هذا المجال الحي، ونمتلك عتاده المطلوب. إننا
من وراء طرح مزيد من الأسئلة لا نطمع في قطع دابر الخلاف حول تحديد جوهر
مشكلاتنا أو تحديد أكثرها خطورة؛ فذاك أمر قد يكون عسير المنال في المدى
المنظور؛ لكن الذي نطمح إليه هو إيجاد أسس متينة للخلاف وبناء معقوليات وأطر
تتحرك داخلها أقوال المتحاورين والمنظرين والمشخصين؛ مما يضيق بدوره دائرة
الخلاف، ويقرب بين الأقوال المتباينة.
في جلسات عصف الأفكار يطرح كل واحد من المشاركين ما شاء من أسئلة
وتعليلات دون أن ينقده أو يرد عليه أحد. ويقوم أحد المشاركين بتلخيص كل ما
قيل وتوزيعه على الحاضرين، وفي جلسة تالية يتم القيام بمناقشة حصيلة الجلسة
السابقة وغربلة ما قيل فيها من أجل تحديد الأسئلة والتعليلات الأكثر محورية،
وتلك التي لاقت استحسان معظم المشاركين، واستبعاد غير الجوهري. وإذا تم
التحضير الجيد للموضوعات التي سيتم التساؤل حولها؛ فإن ما يمكن أن نحصل
عليه قد يكون أكبر بكثير مما نظن.
وللحديث بقية. والله ولي التوفيق.(172/84)
المسلمون والعالم
العصر الروماني الحديث قراءة في واقعنا السياسي
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
Yosof@albayan-magazine.com
قامت الإمبراطورية الرومانية على أنقاض الحضارة اليونانية، وعاشت فترة
تمثل ما يمكن تسميته: (القطب الواحد) فهي دولة استعمارية ذات حضارة مادية
وثنيةٍ العدلُ فيها والحرية والسلطة والثروة هي فقط لطبقة الأسياد من الرومان؛ أما
البقية فهم عبيد؛ حتى الشعوب الخاضعة لهم مستعبدة لم تشاهد من الحكم الروماني
سوى القلاع والمدن العسكرية، وحتى الطرق المرصوفة فهي أساساً لأسباب
عسكرية، أما المسارح الرومانية فهي خاصة للترفيه عن الطبقة الحاكمة، وهي
تعبّر عن نفسية الروماني ونظرته للآخرين، إنها مسارح ضخمة بُذلت جهود كبيرة
في بنائها. أما النشاطات فهي تتراوح بين مصارعة رومانية، أو سباق للعربات،
وبين تمثيل واقعي للمعارك البحرية تتقابل فيها السفن وتتقاتل ويموت البشر..
آسف لا إنهم مجرد عبيد يموتون في سبيل إسعاد الأسياد.
وأخيراً يمكن التلذذ بمشهد الصراع بين الإنسان والحيوان المفترس،
والمعركة تنتهي غالباً بأكل الضحية البائسة أمام الجماهير، وأحياناً بانتصار البطل؛
إنها مجرد عقوبة شائعة للعبيد الآبقين.
وفي النهاية سقطت الدولة الرومانية ولم تخلف للعالم سوى مجلس للشيوع
وبقايا حجرية تحكي قصة حضارة مادية لم يبق لها أثر في واقع الناس أو أفكارهم؛
لأنها مجرد قوة غاشمة مرت وولت؛ ولأنها حجرية لم يبق منها سوى الحجر.
والذي يهمنا هنا أننا نعيش اليوم في عصر روماني جديد تمثله الولايات المتحدة
الأمريكية؛ إنها حضارة مادية مجردة من الفكر تعبد القوة وتحلم بالسيطرة الكاملة
على العالم. نعم! لقد أقامت الهيئات السياسية والاقتصادية العالمية مصدرةً من
خلالها الأنظمة والقوانين ذات البريق والتي تطبقها أحياناً على من تشاء، وتدوسها
عندما تشاء؛ فمثلاً عقدت محاكمات عديدة لمجرمي الحرب منذ الحرب العالمية
الثانية حوكم فيها الأعداء ولم يحاكم فيها غربي واحد من غير النازيين من الذين
أحرقوا المدن الألمانية وقتلوا مئات الآلاف من المدنيين في أوروبا أو من الذين
دمروا طوكيو ومن بعدها هيروشيما وناجازاكي، أو من الذين دمروا المدن الكورية
والفيتنامية! أما في بلاد المسلمين فقد حصلت الجرائم الفظيعة ضد الشعوب
المستضعفة؛ فأين محاكم مجرمي الحرب عمن قتل الآلاف واستعمل الأسلحة
المحرمة في مراكش والجزائر وليبيا ومصر؟ ! وأين هم من جريمة سلب
فلسطين من أهلها وتسليمها لحلفائهم من اليهود؟ ! وأين هم مما يجري في كشمير
والشيشان؟ ! إنها ببساطة مبادئ وقوانين مصابة بعمى الألوان. والأدهى من ذلك
أن النظام التشريعي والقضائي الأمريكي قد تعرى ولم يصمد أمام التجربة الحالية،
وأصبح مجلس الشيوخ والنواب لا يختلف عن مجالس الشعب واللجان المركزية في
مظاهر التصويت الصورية التي لا تصدر عن نقاش وطرح فكري، بل هي مجرد
صدى لموقف سياسي فوقي يراد له أن يسود..!
إذا كان الهوس بالقوة وإظهار التفوق قد أبرز في العصر الروماني الأول عن
طريق المسابقات الدموية التي سبق ذكرها فإننا نجد الشبيه بها والبديل عنها هو الكم
الهائل من إنتاج هيوليود والآلة الإعلامية الأمريكية الذي يدور حول محور أساسي
هو محاولة تسويق فكرة التفوق في كل شيء حتى في المثل العليا وطريقة الحياة
والأكل.
ويتبين لك مدى التزييف المتعمد عند استعراضك كيفية عرض وتسويق وجهة
النظر الأمريكية في عملية إبادة السكان الأصليين وتصويرهم أنهم أناس بدائيون لا
يستحقون إلا الموت؛ لأنهم لم يرحبوا بالمستعمرين ويرحلوا طوعاً عن ديارهم من
أجل رسل التطور وطليعة السلام؛ ولأنهم مارسوا العنف كما يمارسه الشعب
الفلسطيني الذي يتطلع قادته الحاليون للتدخل الأمريكي النزيه!
إن المفهوم الأمريكي للحق والعدل يعني القوة والقوة فقط، وكما قيل فإن
المنتصر هو الذي يكتب التاريخ.
لقد كتب المنتصرون تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية، وصوروها زوراً
وبهتاناً أن مئات الألوف من البيض ماتوا في سبيل تحرير العبيد. والذي حصل هو
مجرد تحول العبيد من عمالة مجانية في مزارع الأغنياء في الجنوب الأمريكي إلى
عمالة رخيصة في مصانع الرأسماليين الشماليين. وأيضاً فإن المنتصر هو الذي
كتب تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية والتي لا تعدو كونها حرباً نشبت بين
الذين تداعوا على القصعة ولم يتفقوا على القسمة، وهي بالنسبة لأمريكا حرب
أخلاقية عادلة؛ لأن ألمانيا هددت التوازن في أوروبا والشرق الأدنى، واليابان قد
اعتدت على المستعمرات الأوروبية في آسيا مما يعني أن من حق أوروبا الغربية
وأمريكا احتلال الهند وجنوب شرق آسيا والفلبين وإندونيسيا، وليس هذا من حق
اليابان؛ لأنه استعمار آسيوي بغيض. ونحن هنا لا نقول إن الاستعمار الياباني
حسن، ولكن الحرب هي مجرد تنافس استعماري ليس له أي جانب أخلاقي.
ونعود إلى تأكيد أن القوة هي الأداة الوحيدة في نظرهم التي تجعل حججك مقبولة
وأقوالك معتبرة ومفهومة. ولقد صورت الدعاية هتلر على أنه مجرم العصر،
وتعاملت في الوقت نفسه مع السفاح ستالين وتحالفت معه واتفقت معه في مؤتمرات
طهران والدار البيضاء ويالطا على تقاسم العالم.
وبعد مرحلة التحالف الشيوعي الغربي ضد الفاشية والنازية البغيضة أصبحت
الشيوعية التي تنافس الغرب على العالم هي الوحش الكاسر، ورفع شعار تحرير
أوروبا الشرقية، وظهرت الدعوات لاتحاد المؤمنين ضد الملاحدة، وبرزت الدعوة
للحوار بين الأديان، ولكن ما أن تداعى النظام الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفييتي
حتى رفع الغرب شعار صراع الحضارات، وبدأت البحوث والدراسات تحذر من
خطر الإسلام، وظهرت أفلام عنف تمثل الشخصية العربية المسلمة في قالب العدو
الشرس، وتراجع الهندي الأحمر والألماني والياباني والروسي والفيتنامي ليحل
محله صاحب اللباس العربي واللحية الطويلة في عملية إعداد وتهيئة لغوغاء الغرب
للدخول في صراع طويل مع العدو الجديد.
ولا يفوتنا هنا تداخل هذه الأفلام مع أفلام رعب خيالية تساهم في تشكيل
الشخصية النمطية للفرد الروماني الحديث المستعد لتطبيق المشاهد التلفزيونية
والكمبيوترية على أرض الواقع في حروب أهم ما فيها هو النصر والنصر فقط،
أما سبب الحرب وأسلوبها فهي أشياء ثانوية؛ وقد دخلت روما الحديثة حربها
التلفزيونية الأولى مع العراق وهي حقاً حرب تلفزيونية سهلة تشبه ألعاب الكمبيوتر:
الخسائر فيها من طرف واحد، وهي تحاول تكرار التجربة في حربها الثانية في
أفغانستان؛ فهل تنجح أم أن هذه الحرب ستكون مختلفة في وسائلها وتداعياتها؟
وهل تستطيع روما الجديدة تحقيق النصر في حرب تحتاج إلى أكثر من القوة
المجردة؟ هذا ما سأحاول إلقاء الضوء عليه عن طريق تحليل مجريات الحرب في
أفغانستان، وتلمس الاحتمالات التي يمكن أن تؤول إليها الأحداث.
حكومة التحكم الآلي:
حتى نتصور حال الحكومة المفروضة على أفغانستان فإنه يكفي مراقبة
تصرف رئيس الحكومة المعين حامد قرضاي فإنه من خلال جولاته في روما لمقابلة
الملك، أو في طوكيو في اجتماع الدول المانحة، أو خلال مراسم التنصيب، أو
أثناء انعقاد مجلس الوزراء يتصرف كالتائه؛ فهو في حركته يكثر التلفت والوقوف؛
فهو يجمع بين عدم الثقة والخوف والإحساس بالعجز، وهو رجل أمريكا المعين
على مضض؛ فلم تكن الأحداث المتسارعة تسمح بالتأني في اختيار الرجل
المناسب، ولم يكن يدور في خلده أو خلد أمريكا أنه سيصبح رئيس حكومة
أفغانستان؛ فقد كانت مهمته الأصلية مجرد إزعاج طالبان في جنوب أفغانستان
ومحاولة تأليب القبائل ضدها، وقد سبقه في مهمة مماثلة من هو أقدر منه وهو
المجاهد السابق عبد الحق الذي كلفته أمريكا بمهمة ضد طالبان، ولكنه وقع في أسر
طالبان وتم إعدامه، أما قرضاي فقد تم إنقاذه من مصير مشابه عن طريق
الطائرات الأمريكية، وكان دوره هو قيادة بعض رجال القبائل المناوئين لطالبان،
وهو في ذلك الدور أضعف من القادة الجدد في جلال آباد الذين شاركوا في مطاردة
القاعدة في تورا بورا، وأيضاً لا يبلغ قوة حاكم قندهار السابق الذي أعاد السيطرة
عليها بعد انسحاب طالبان منها، وكان اختياره لتمثيل البشتون نابعاً من أنه إذا كان
الآخرون من أعداء طالبان لهم تاريخ أسود فهو ليس له تاريخ؛ فهو مجرد زعيم
قبلي حديث العهد يحمل الجنسية الأمريكية طرح اسمه وفرض ترشيحه في المراحل
الأخيرة من مؤتمر روما، وتم تنصيبه وفوق رأسه صورة ضخمة لأحمد شاه
مسعود القائد العسكري الحقيقي السابق للجمعية الإسلامية التي تسيطر على كابل؛
مما يدل على حقيقة القوى على الأرض في كابل؛ حيث يعتمد قرضاي في كابل
على القوات الدولية وهي قوات تابعة لحلف الأطلسي تستظل بعلم الأمم المتحدة.
ونظراً لعدم قدرة قرضاي والقوات الدولية على السيطرة على كابل بدون
قوات أفغانية فقد تراجعت الحكومة عن إخراج قوات الجمعية، واستبدلت ذلك
بتعيين دوستم نائباً لوزير الدفاع لإيجاد توازن ظهر أثره في الصراع الدموي بينهما
في قندز والمناطق الحدودية مع طاجكيستان.
وإذا كانت السيطرة على كابل مشكلة فإن بسط السيطرة على مختلف الولايات
مشكلة أخرى بلغ من صعوبتها أن القوات المساندة لأمريكا والتي تستظل بعلم الأمم
المتحدة قد حصرت مهمتها في حماية المؤسسات الحكومية في كابل فقط وحماية
قوافل الإغاثة إذا كان هناك قوافل، وقبلت بريطانيا قيادتها لمدة ثلاثة أشهر فقط يتم
بعدها توريط دولة أخرى يبدو أنها ألمانيا، بيد أن هناك مطالب بقيادة أمريكية لكل
القوات من أجل القضاء على التناقض القائم بين مهمة تثبيت الحكومة في كابل
ومهمة أخرى غير واضحة؛ لأنها ترفع شعار القبض على أسامة بن لادن حيناً،
والقضاء على جميع أعضاء القاعدة حيناً آخر.
أما بالنسبة لطالبان فالأمر كذلك فيه تردد في طريقة التعامل؛ فهو أحياناً
الإبادة في الشمال ورفع شعار أنه لا مكان للأسرى في هذه الحرب. وأحياناً أخرى
إعلان الاكتفاء بنزع السلاح في المناطق الجنوبية، ولكن الثابت أن القوات
الأمريكية ترى أن لها الحق بالقيام بأي عمل عسكري أو أمني بدون الرجوع لأي
جهة في أفغانستان حتى لو كانت حكومة يرأسها شخص فرضته هي نفسها. وإذا
كان هناك اسم يمكن إطلاقه على حرب أمريكا في أفغانستان حتى الآن فهو (حرب
المرتزقة) ؛ فنحن أمام حرب يحركها المال، والمصالح المتشابكة فيها نجاحات
وإخفاقات للجانبين؛ مع العلم أن الحرب ما تزال في بداياتها؛ فقد انتهت المرحلة
الأولى وهو ما يمكن تسميته الحرب التقليدية أو الحرب الجوية أو الحرب
التلفزيونية؛ حيث إن عدم التكافؤ في آليات هذه المرحلة جعلها تمارس من طرف
واحد، وأصبح همُّ الطرف الآخر وهم طالبان الخروج من هذه المرحلة بأقل
الخسائر الممكنة والوصول إلى وضع يمكن معه تدشين مرحلة جديدة يمكن فيها
لطالبان ومن معهم من المجاهدين الدخول في مواجهة مباشرة غير تقليدية يملكون
فيها عناصر تفوُّق على الخصم المحروم من استخدام قوته المفرطة أمام عدو غير
محدد بوضوح لا من حيث الهيئة ولا من حيث الوجود الجغرافي، وهذه المرحلة
تعتبر المرحلة الثالثة. أما المرحلة الحالية فهي المرحلة الثانية وهي مرحلة انتقالية؛
حيث تمكن الطالبان من تجاوز المرحلة الأولى بنجاح.
وهمّ كل طرف من الأطراف الاستعداد للمرحلة التالية؛ فمن جانب القوات
الأمريكية فهي تحاول جاهدة جس نبض المجاهدين عن طريق عمليات خاطفة تريد
منها أيضاً رفع معنويات قواتها؛ وكانت النتيجة عكسية نظراً للقصور الاستخباراتي
الشديد؛ فقد أعلنت القوات الأمريكية قيامها بعمليات تفتيش في قندهار ومهاجمة
بعض مخيمات البدو الأفغان، وكانت النتائج سلبية، وقد تبين لها أيضاً أن جميع
الأسرى لديها ليس لهم علاقة مباشرة بالقاعدة لحداثة عهدهم بالجهاد في أفغانستان؛
ولذا لجأت إلى مهاجمة الجرحى المتحصنين في المستشفى الصيني في قندهار لعلها
تقبض على أول العناصر التي يغلب على ظنها أنهم من القاعدة، لكنها لما لم
تستطع القبض عليهم أجهزت عليهم جميعاً.
ومن جانب آخر تستعين القوات الأمريكية الخاصة بقوات بريطانية وأسترالية
تفوقها في القدرات الفردية، ولكن حتى الآن لم تنجح القوات الأمريكية في استثارة
المجاهدين للبدء بحرب العصابات؛ لأن عدد القوات الأمريكية الحالي لا يغري ببدء
مرحلة يراد منها أكثر من إخراج القوات الأجنبية؛ فالهدف يجب أن يكون هزيمة
الجيش الأمريكي وإذلاله؛ وهذا لا يحصل إلا عندما يتضاعف العدد، ويكون فيه
الانسحاب أصعب من الاستمرار في حرب مكلفة.
ويلاحظ في هذه المرحلة الانتقالية توجس المرتزقة الأفغان واستعدادهم
للمرحلة القادمة بتقديم خدمات للمجاهدين، وإطلاق بعض الأسرى، وحماية الأسر،
والامتناع عن القيام بعمليات مؤثرة ضد المجاهدين؛ وكل هذا ليكون لهم يد عند
المجاهدين في مستقبل الأيام، ولم يشذ عن هذا حتى قرضاي؛ حيث قام بإطلاق
مئات الأسرى من طالبان من أجل إظهار حسن النية، ولا يكون إظهار حسن النية
إلا لطرف موجود يرجى ويخشى.
أما نجاح المجاهدين الكبير فهو التواري عن الأنظار ومعهم سلاحهم الخفيف
والثقيل؛ مما أوقع عدوهم في حيرة وارتباك من هذا العدو الموجود وغير الظاهر
للعيان.
حرب أفغانستان: ملامح وتوقعات:
إن أهم خصائص الحرب الأفغانية: هو كونها حرباً دينية؛ فقد أعلن بوش
أنها حرب صليبية، وقد أعلن علماء أفغانستان الجهاد في حالة حصول العدوان
الأمريكي وهو الذي حصل.
ويمكن إيجاز خصائص وملامح الحرب الأخرى بما يلي:
1 - إنها حرب أحلاف؛ ففي جانب وقفت دولة روما الجديدة وأجبرت دول
العالم الأخرى على الوقوف معها، وفي الجانب الآخر كان هناك تأييد شعبي كبير
في العالم الإسلامي مع تعاطف عالمي على مستوى الأفراد، وكانت القوات المتجهة
إلى أفغانستان بين رسمية مع أمريكا، ومتطوعين أفراد وجماعات متحمسين للجهاد
مع طالبان.
2 - التركيز على القوة الجوية واستعمال الأسلحة الذكية والمحرمة، ونشر
الألغام، وتدمير البنى التحتية؛ مما يدل على عدم مراعاة المرحلة التالية وهي إقامة
نظام بديل وإعادة إعمار أفغانستان كما يدعون.
3 - تعمد قصف الأهداف المدنية؛ حيث تم استهداف الأحياء السكنية والقرى
ومراكز توزيع الإغاثة؛ وذلك من أجل الضغط الأدبي على طالبان من أجل إخلاء
المدن والتجمعات السكنية خاصة بعد اكتشاف تأثير الحملة الجوية الضئيل على
القدرات العسكرية لطالبان والقاعدة.
4 - عدم وضوح الخطة السياسية للتعامل؛ حيث حاولت أمريكا في البداية
استرضاء باكستان وتوريطها عن طريق تبني وجهة نظرها في محاولة شق طالبان
وتأليب القبائل مع تجاهل التحالف الشمالي المدعوم من قبل روسيا وإيران. ولكن
بعد إخفاق هذه السياسة اضطرت للتنسيق مع التحالف الشمالي وتأمين الغطاء
الجوي له، وتقدمت قوات الشمال المدعومة بالمرتزقة الروس والحرس الثوري
الإيراني تحت غطاء القاذفات الأمريكية، وتمكنت من احتلال مزار الشريف.
5 - ارتباك عملية تشكيل الحكومة الأفغانية نتيجة انسحاب طالبان السريع في
كابل، ودخول قوات الجمعية الإسلامية، وإعلان رباني نفسه رئيساً لأفغانستان من
جديد، وكان الروس يطلقون عليه: الرئيس الشرعي. أما أمريكا وحلفاؤها
فيطلقون عليه الرئيس المعزول، وفعلاً تم عزله وتعيين قرضاي ولكن مع بقاء
وزرائه الأساسيين في الدفاع والداخلية والخارجية.
6 - السادية في التعامل مع الأسرى العزل؛ ولم تتردد القوات الأمريكية في
استعراض عضلاتها أمام الأسرى في قلعة جانجي التي هي بقدر ما وصمة عار
لأمريكا وبريطانيا اللتين تبجحتا في البداية بمشاركة قواتهما في المجزرة مع قوات
الهزارة الرافضية ودوستم الشيوعية؛ فإنها وسام للمجاهدين الذين فضلوا الموت
بشرف بدل الموت بذل ومهانة أثناء التحقيق الهمجي الذي كان يمارس معهم. وقد
اكتشفت 150 جثة في ساحة القلعة مقيدة الأيدي! ومع ذلك فإن وزير خارجية
بريطانيا ووزير الدفاع الأمريكي لا يريان داعياً للتحقيق؛ لأن الأسرى قتلوا وانتهى
الأمر، ولكن ما يزال الواجب هو تسجيل هذه الجرائم وتوثيقها وجمعها مع مهزلة
أسرى غوانتنامو التي أدت الغطرسة الأمريكية في التعامل مع الأسرى إلى عكس
المراد، وأدت إلى انشقاق علني في مواقف وزير الخارجية ووزير الدفاع مع ردود
الأفعال السلبية حتى بين الجمهور داخل أمريكا.
7 - تنامي التعاطف الشعبي مع طالبان داخل وخارج أفغانستان؛ فقد أدى
تدهور الأمن وعودة الأمور إلى ما قبل طالبان إلى الحنين إلى أيام طالبان،
والمجاهدين العرب الذين حاول الإعلام تشويههم؛ فقد صعقت جماهير الأفغان
الغفيرة التي تزور قبورهم في قندهار مع وجود حكومة قندهار العميلة ومن وراءها.
أما في الخارج فقد عاد اهتمام الناس بأفغانستان، وسيؤدي تطور الأحداث واشتداد
العمليات إلى تجذر هذا التعاطف وتناميه.
8 - محاولة الغرب الاستئثار بأفغانستان واتخاذها قاعدة مركزية لمراقبة
الصين وروسيا والتحكم في باكستان وإيران. ئوتبين هذا من اقتصار القوات
المشاركة على قوات حلف الأطلسي تحت علم الأمم المتحدة في كابل، ومشاركة
كندا وأستراليا مع القوات الأمريكية، وسيكون لهذا التجاهل لمصالح الدول
المحيطة أثر كبير في مستقبل الأحداث.
9 - ضعف الموقف الرسمي الإسلامي وتجاهله لمخاطر الانتصار الأمريكي
السهل في أفغانستان، وأنه سيقوي شهية القيصر الجديد لالتهام دول أخرى وإعادة
تشكيلها.
10 - الارتباك الشديد الذي يسود الإدارة الأمريكية وقيادة القوات الأمريكية
في كيفية التصرف أمام حرب عصابات متوقعة في أفغانستان تتزامن مع عمليات
انتقامية قد تقع حتى داخل أمريكا، والمشكلة الأساسية هو حرص الإدارة على نصر
بدون أي خسائر معلنة؛ وذلك أمام عدو لديه استعداد للمواجهة حتى الموت!
وإذا كان خيال حرب فيتنام وهزيمة الروس في أفغانستان ماثلاً أمام القيادة
الأمريكية فإن الصمود البطولي في الشيشان يمثل المثال الذي يحتذى أمام قيادة
المجاهدين؛ حيث إن عملية الانسحاب من كابل وقندهار والصمود في تورا بورا
يشبه إلى حد كبير عملية الانسحاب في جروزني والانحياز إلى جبال القوقاز.
وأخيراً فإن أهم ما أفرزته الأحداث وسيكون له أثر كبير على مستقبلها هو أن
العلاقة بين طالبان والقاعدة لم تعد هي العلاقة بين إمارة إسلامية ذات إطار محلي
داخل أفغانستان توفر الحماية والملجأ لتنظيم جهادي عالمي إلى شبه اندماج سيفرز
حركة جديدة تزداد تجانساً كلما طالت الحرب في أفغانستان والتي تعتمد أساساً على
قدرة أمريكا على تحمل تبعات الحرب وتكاليفها؛ مع العلم أن انسحاب أمريكا من
أفغانستان يستلزم تقليص أو إزالة الوجود العسكري الأمريكي في مختلف أنحاء
العالم الإسلامي، وكما قال بوش إنها الحرب العالمية الأولى في هذا القرن؛ ولذا
فإن الحرب قد تخرج عن نطاق أفغانستان لتشمل وسط آسيا وشبه القارة الهندية
التي تشهد عملية تسخين بين الهند وباكستان قد تؤدي إلى نشوب حروب تخلط
الأوراق.
__________
(*) أستاذ مشارك في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود.(172/86)
المسلمون والعالم
ماذا وراء التصعيد الهندي لضرب باكستان؟
حسن الرشيدي
في عام 1947م وعقب إعلان قيام دولة باكستان أعلن أكبر علماء التكنولوجيا
المسلمين في مختلف التخصصات رغبتهم في مغادرة الهند والتوجه للاستقرار في
باكستان، وأظهرت الهند حينئذ عدم ممانعتها في هذا الخروج الجماعي، واستقل
آلاف العلماء القطار المتجه إلى باكستان وكان على القطار عبور نفق في أحد
الجبال على الحدود بين الدولتين، وتجمهر عدد كبير من الباكستانيين على الجانب
الآخر من النفق ابتهاجاً بوصول هؤلاء الصفوة من العلماء الذين هم كنز باكستان
وأملها الذي تنتظره في بداية نهضتها؛ وإذا بالقطار بعد أن عبر النفق يمتلئ بجثث
هؤلاء العلماء وقد ذبحوا بالحراب والخناجر؛ فقد قتلهم عصابات الهندوس وأفنوهم
عن بكرة أبيهم.
كانت هذه الحادثة إيذاناً ببدء مذابح نصبها الهندوس للمسلمين عقاباً لهم على
جرأتهم ومطالبتهم بدولة مستقلة عنهم، ووصل عدد القتلى من المسلمين إلى أكثر
من مليون قتيل في أوسط التقديرات لضحايا هذه المذابح، وأضيفت هذه المصيبة
إلى مثيلاتها في واقع المسلمين المعاصر وصارت خنجراً مصوباً إلى الجسد
الإسلامي ضمن مئات الخناجر التي تطعن فيه، ومن حينهاً كان الصراع الذي ظل
حتى هذه الساعة بين المسلمين والهندوس عباد البقر.
وكانت إحدى حلقاته تلك المواجهة الأخيرة؛ وذلك بعد أن أسفر الهجوم
الانتحاري على البرلمان الهندي في 13/12/2001م عن توتير العلاقات بين إسلام
آباد ونيودلهي وصلت إلى حد حشد القوات على الحدود والتهديد باستخدام السلاح
النووي.
ولتحليل هذا الصراع وسبر أغواره وإدراك السنن والقوانين المتحكمة فيه؛
ومن ثم توقع تطوراته وأشكال تمدده لا بد من إطار تحليلي يأخذ في اعتباره عدة
أمور:
* الإصرار الهندي على توتير الأجواء في ذلك التوقيت والتمسك برفض
جميع الوساطات.
* الانحياز الأمريكي البريطاني لموقف الهند في هذه المواجهة الأخيرة،
وعلاقة الحرب الأمريكية في أفغانستان بهذه المواجهات.
حقيقة الموقف الباكستاني والإصرار الهندي على التصعيد:
تنظر الهند إلى نفسها بإمكانياتها الضخمة باعتبارها قوة كبرى تتمتع بالعوامل
التي تؤهلها لذلك؛ فهي تملك عدداً هائلاً من السكان، ومساحة جغرافية واسعة
مديدة، وإمكانيات اقتصادية وتقنية عسكرية ضخمة.
كل ذلك جعل نظامها السياسي منذ استقلالها عن بريطانيا يحاول إثبات هيمنته
ليس داخل الدائرة الإقليمية فحسب؛ بل يمتد على المستوى الدولي. ويدرك أركان
النظام أن هذا الدور لن يتم إلا عبر اعتراف الدول الأخرى بدورها الإقليمي في
المنطقة، وأنها اللاعب الأساسي في جنوب آسيا. ولكن تبقى هناك عدة عقبات في
سبيل تحقيق هذا الطموح هي: اعتراف الدول الكبرى الأخرى، ومنافسة باكستان
وتنامي التطلعات الانفصالية بداخلها.
مسارات الهند لتحقيق أهدافها تلك:
1 - افتعال مشكلة كشمير بينها وبين باكستان لتكون ورقة ضغط عليها لتبقى
باكستان في إطار وحجم معين تحت الهيمنة الهندية؛ فقد نص قانون استقلال الهند
على أن الإمارات داخل الدولة الهندية حرة في أن تنضم إلى أي من الهند أو
باكستان أو أن تبقى مستقلة مع الأخذ في الاعتبار بعض العوامل مثل الوضع
الجغرافي ورغبات الشعب. ولكن الهند تجاهلت هذا المبدأ عند الاستقلال
وخصوصاً في ما يتعلق بإمارات جوناكره (غرب الهند) وحيدر آباد (جنوب
الهند) وكشمير (شمال) . وكان في الإمارتين الأوليين غالبية هندوسية يحكمها
أميران مسلمان، أما في كشمير فكان الوضع على عكس ذلك؛ إذ إن غالبية السكان
كانوا مسلمين وحاكمها كان هندوسياً.
وقررت غالبية الإمارات المستقلة ذاتياً حسب وضعها الجغرافي أن تنضم إلى
الهند أو باكستان بعد ظهورهما. وقرر حاكم إمارة جوناكره أن ينضم إلى باكستان
ولكن الهند أرسلت على الفور قواتها المسلحة لاحتلال الإمارة، وقالت تسويغاً لذلك
إن سكان الإمارة هم من الهندوس بنسبة 81%؛ ولذلك لا يجوز لحاكمها الانضمام
إلى باكستان طبقاً لمبادئ التقسيم.
وتذرعت الهند بالحجة نفسها فيما يتعلق بحيدر آباد التي كان يحكمها أمير
مسلم، فأرسلت قواتها المسلحة لاحتلال الإمارة بالقوة. ولكن الهند تجاهلت هذه
الحجة حين تعلق الأمر بإمارة كشمير. وحين تردد مهراجا كشمير في إعلان
انضمام الإمارة إلى باكستان تمرد المسلمون الكشميريون الذين كانوا يمثلون نسبة
82% من السكان. وقام جنود الحاكم الهندوسي بارتكاب المذابح في منطقة بونش
وميربور في سبتمبر/ أيلول 1947م، ويقال إنه قتل في هذه الاضطرابات ما لا
يقل عن مائة ألف مسلم. وجرت هذه المجازر لإجهاض انتفاضة مسلمي كشمير
ضد الحاكم الهندوسي.
وفي محاضرة لوزير الدفاع الهندي جورج فرنانديز ألقاها في جامعة هارفارد
في الولايات المتحدة عام 1991م قال: «هناك اعتقاد واسع النطاق بأن أيادي
خارجية تقف وراء أحداث كشمير، وتتم في كل مرة الإشارة إلى باكستان باعتبارها
المسؤولة عما يحدث، لكنني أعتقد أنه لا دخل للأيادي الخارجية في قضية كشمير؛
فنحن (أي الهنود) الذين صنعنا مشكلة كشمير، وإذا ما قرر آخرون الإفادة من
الوضع فلا أعتقد أنه يجب أن نصنع من هذا الأمر قضية تشغل البال» . وظلت
الهند تنتهج سياسة مزدوجة تجاه هذه القضية؛ فعلى الصعيد الرسمي ظلت تعتبر
ولاية (جامو وكشمير) جزءاً من الهند منذ عام 1947م؛ بينما استمرت في الوقت
نفسه في إجراء المحادثات مع باكستان حول هذه القضية كلما شعرت بضغوط
تمارس عليها.
2 - استعمال القوة أو التهديد باستعمال القوة، وتجلى ذلك في 5 حروب
عسكرية مع باكستان. أما التهديد باستعمال القوة فكان في المواجهة الأخيرة.
ففي الحرب الأولى عام 1947م كانت إثر تدخل الجيش الهندي لدعم حاكم
كشمير الهندوسي الذي أعلن ضم كشمير للهند رغماً عن أهلها وجلهم من المسلمين،
وانتهت هذه المواجهة بسيطرة الجيش الباكستاني على ثلث كشمير، ووقع حوالي
ثلثي أراضيها في قبضة القوات الهندية.
أما الحرب الثانية عام 1965م فجاءت في أعقاب إعلان الحكومة الهندية إلغاء
الوضع الخاص لكشمير، بناءً على المادة 370 من الدستور الهندي، وبذلك
أصبحت كشمير ولاية هندية، وجزءاً لا يتجزأ من الهند.
وبعدها بعدة أشهر وقعت المواجهة الثالثة بين الجيشين، وحقق الجيش
الباكستاني في البداية عدة انتصارات، ولكن القوات الهندية نجحت في النهاية في
إرغامه على الانسحاب والعودة إلى المفاوضات.
وفي عام 1971م اندلعت المواجهة الرابعة بينهما بسبب التدخل الهندي لصالح
انفصال باكستان الشرقية وقيام ما يعرف ببنجلاديش، ولحقت بالجيش الباكستاني
هزيمة ماحقة أشبه بهزيمة الجيوش العربية قبلها بقليل في عام 1967م كانت
نتيجتها أنه قبل حرب ديسمبر 1971م كان موقف الهند من مشكلة كشمير هو
المطالبة بالإرجاء والتأجيل، بينما كانت باكستان ترى ضرورة إيجاد الحل الجذري
لتلك المشكلة المستعصية. وبعد هزيمة باكستان في حربها عام 1971م مع الهند
تبدلت مواقف الدولتين، وأصبحت كل منها تأخذ مكان الأخرى إزاء مشكلة كشمير؛
فلقد أصبحت الهند تنادي بالمواجهة الفعالة الحاسمة والإنهاء القاطع لمسألة كشمير،
بينما تسعى باكستان إلى التسويف والإبطاء بشأنها.
وفي 22 مايو 1999م دفعت الهند بتعزيزات عسكرية كبيرة قوامها خمسة
آلاف جندي إلى حدودها مع باكستان عند ولاية كشمير المتنازع عليها، كما
وضعت سربين من طائراتها الحربية على أهبة الاستعداد عقب نجاح مقاتلين من
ثوار كشمير في التسلل عبر الحدود الهندية والسيطرة على نحو عشرين موقعاً.
وشرعت الهند منذ 26 مايو 1999م في شن غارات جوية مكثفة ضد مواقع القوات
الباكستانية والكشميرية المتمركزة في كارجيل وغيرها من المواقع التي تقع على
عمق سبعة كيلو مترات داخل الشطر الهندي من كشمير بعيداً عن خط الهدنة. وقد
استخدمت الهند طائرات من طراز ميج 23، وميج 27، وميراج 2000 التي
تستطيع حمل قنابل نووية؛ فضلاً عن طائرات الهليكوبتر. وقالت وزارة الدفاع
الهندية في بيانها يوم 26 مايو إن الغارات التي تعد الأولى من نوعها منذ بداية
التسعينيات أسفرت عن وقوع عدد كبير من الضحايا في صفوف «المتسللين»
الذين زعمت أنهم يتلقون دعماً من القوات المسلحة الباكستانية.
أما التهديد باستعمال القوة فهو أسلوب من أساليب إدارة الصراع على الساحة
الدولية وهو التأثير على نفسية الخصم وعقله ومن ثم قراره. ومنذ وقت قصير
لجأت تركيا إلى هذا الأسلوب عند تهديدها لسوريا إن لم تسحب تأييدها لحزب
العمال الكردستاني، ولجأت إليه أيضاً إيران ضد الحكومة الإسلامية في أفغانستان
عندما تصدت طالبان بحزم للتمدد الرافضي في أفغانستان، وها هي الهند تمارسه
الآن مع باكستان لكي تتخلى عن القضية الكشميرية.
3 - تعميق التحالف مع أمريكا وإسرائيل: وفي هذا السياق كشفت مجلة «
إنديا توداي» الهندية عن مباحثات بين نيودلهي وواشنطن بشأن تشكيل تحالف
عسكري كبير طويل المدى. وأوضحت المجلة أن التحالف العسكري المقترح يشمل
إقامة قواعد عسكرية وميادين للتدريب على إطلاق النار وشبكة اتصالات مشتركة
ومنشآت تدريب لقواتها في الهند إلى جانب تأمين البحرية الهندية للمصالح
الأمريكية الواقعة في منطقة المحيط الهادي. ويرى مراقبون أنه لم تكن مصادفة أن
تعلن الولايات المتحدة عن موافقتها على بيع إسرائيل رادارات فائقة التطور للهند
في الوقت الذي كانت نيودلهي على شفا الانزلاق في حرب قد تكون نووية مع
باكستان بسبب تحميل الهند إسلام آباد مسؤولية الهجوم الذي تعرض له البرلمان
الهندي.
ويحظى التعاون الهندي الإسرائيلي بالمباركة الأمريكية، ويلاحظ أن هذا
التعاون قد شهد تصاعداً كبيراً؛ ففي خلال شهر واحد فقط قام مسؤولون إسرائيليون
بزيارة الهند ثلاث مرات إحداها قام بها شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي
الذي صرح بأن إسرائيل تقف بجانب الهند في برامجها ضد (الإرهاب
والإرهابيين) عسكرياً وسياسياً، ومن قبله كشف السفير الإسرائيلي في
الهند في مقابلة أجرتها معه صحيفة «صنداي الهندية» الأسباب الرئيسة لهذا
التحالف، فقال: «إن قضية الإرهاب الأصولي تشكل تحدياً مشتركاً للهند
وإسرائيل، وعلينا أن نستأصل هذا الخطر من جذوره» .
4 - بناء قوة ردع نووي فعال ضد الصين في البداية، ثم رأت بعد ذلك أن
باكستان تأتي في استراتيجية متقدمة في مجال التهديد العسكري قبل الصين.
وجاءت أحداث تفجير البرلمان الهندي في 13 ديسمبر الماضي، واندهش
كثير من المراقبين من سرعة التعبئة الهندية وتجهيز جيوشها وصواريخها وآلياتها
على الحدود الباكستانية، واستغلت الهند الأحداث لتصفية القضية الكشميرية للأبد
وإغلاق هذا الملف نهائياً، وطلبت من باكستان إقفال معسكرات المنظمات
الكشميرية الجهادية وتسليم قيادات جماعات المقاومة للهند لمحاكمتهم، واستمدت من
النموذج اليهودي الأمريكي في محاربة ما يسمونه إرهاباً عندما رفضت تقديم أي
أدلة تستند إليها في اتهام جماعات كشمير في هذه الأحداث فيما بدا للمراقبين أنه
تحالف هندوسي يهودي صليبي لضرب التيار الإسلامي، وتصفية قضيته من على
الساحة الدولية.
الانحياز الأمريكي:
تعتبر السياسة الأمريكية في شبه القارة الهندية امتداداً لسياسة بريطانيا التي
كانت تستعمر هذه المنطقة من قبل حيث خاضت في بداية استعمارها للهند في
القرن التاسع عشر معارك ضارية ضد المسلمين الذين كانوا يحكمون البلاد في هذه
الفترة، وتحالف الإنجليز مع الهندوس حتى ملكوا زمام البلاد، وعمل الإنجليز
على إيجاد طبقة من المسلمين المتغربين وانضم هؤلاء بعد ذلك إلى حزب الرابطة
الإسلامية لتمارس سياستها المعروفة: (فرق تسد) ولتحكم سيطرتها على البلاد؛
وعند انسحابها يكون التناحر بين المجموعات العرقية والدينية المختلفة ضماناً
لاستمرار هذه الدولة عاجزة عن أن تتبوأ مكانة عالمية.
وورثت الولايات المتحدة بريطانيا في السيطرة والنفوذ، ومرت سياستها في
جنوب آسيا بثلاث مراحل:
مرحلة الحرب الباردة:
وفي هذه المرحلة اعتمدت الولايات المتحدة على باكستان نظراً لقربها من
الاتحاد السوفييتي الذي شكل في هذه المرحلة العدو الأساسي للولايات المتحدة،
ودعمت الحكومات المتعاقبة لهذه الدولة؛ ولكن في نفس الوقت احتفظت بعلاقات
وثيقة مع الهند دون إخلال بموازين القوى في المنطقة التي تتبوأ فيها الهند المكانة
الأكبر؛ فعند نشوب الحرب بينهما عام 1971م وقفت أمريكا باعتبارها حليفاً
لباكستان موقفاً سلبياً؛ مما نتج عنه هزيمة مروعة للجيش الباكستاني؛ ولكن
باجتياح الاتحاد السوفييتي لأفغانستان ازداد اعتماد أمريكا على باكستان في خططها
الرامية لإضعاف الاتحاد السوفييتي، وفي هذه الفترة حدث ما يشبه التعادل؛
ونتيجة لحاجتها للدعم الباكستاني غضت الطرف عن الإلحاح على باكستان لوقف
تطوير خيارها النووي.
مرحلة ما بعد الحرب الباردة:
لا شك أن انهيار حلف وارسو، وسقوط حائط برلين، وتفكك الاتحاد
السوفييتي قد أحدث تغيراً أساسياً في الرؤية الأمريكية لعلاقاتها الدولية؛ إذ لم تعد
إمبراطورية الشر قائمة، وبدأت الولايات المتحدة تبحث عن أعداء لقائمة الشر
الجديدة الذين تعتبرهم أعداء الحضارة الإنسانية من كل القوى التي يبدو أنها لا تخدم
مصالح الولايات المتحدة، وهذه إمبراطورية جديدة تعرف الولايات المتحدة أنها لا
تستطيع تفكيكها على النحو الذي فككت به الإمبراطورية السوفييتية.
وكانت بداية التحول في الحقيقة في زيارة الرئيس كلينتون إلى الهند؛ حيث
اتسمت زيارته لها بالحرارة بينما اتسمت زيارته لباكستان بالبرود. وأصبح من
الواضح أن هوى الولايات المتحدة يميل نحو الهند؛ وذلك لعدة أسباب منها:
- الوقوف بوجه الصحوة الإسلامية المتنامية في آسيا عموماً وبالأخص
منطقتي جنوب آسيا وآسيا الوسطى. وتعد باكستان داعمة لحركة طالبان التي
أصبحت رمزاً لدولة إسلامية ناشئة قوية ونموذجاً تحتذيه حركات كثيرة.
- الحد من النفوذ الصيني وخاصة هذا العملاق الذي بدأ يتمدد اقتصادياً
وسياسياً وعسكرياً؛ فكان لزاماً على الولايات المتحدة أن ترمي بثقلها خلف الهند،
وتعتمد عليها كقوة إقليمية تستطيع الوقوف بوجه المد الإسلامي والخطر الصيني.
- الحد من القدرات الباكستانية النووية وخاصة بعد تزايد الحديث في العالم
الإسلامي عن القنبلة النووية الإسلامية.
مرحلة ما بعد ضربات 11 سبتمبر:
في هذه المرحلة الجديدة من الأحداث رفعت أمريكا على لسان رئيسها بوش
شعار: (من لم يكن معنا فهو ضدنا) ، وأصبح القضاء على الإسلام الجهادي هو
هاجس أمريكا الأكبر وإن تبعه بعض الأهداف الأخرى وهي: احتواء الصين،
والهيمنة على منطقة آسيا الوسطى، ووضع اليد على نفط بحر قزوين.
وكان لا بد من استراتيجية جديدة في التعامل مع المنطقة، وتلخصت هذه
السياسة في الضغط على باكستان لتبذل أقصى ما تستطيع للقضاء على المنظمات
الجهادية في المنطقة وعلى رأسها طالبان والقاعدة والمنظمات الإسلامية الجهادية في
كل من باكستان وكشمير، واتبعت الولايات المتحدة في سبيل بلوغ هذا الهدف عدة
سياسات:
* استخدام الورقة الهندية والتلويح بها كلما بدا من النظام الباكستاني النكوص
أو التهاون في ملاحقة الجماعات الجهادية وخاصة زعماء طالبان والقاعدة والذين
بالقبض عليهم أو بقتلهم ينتهي الإحساس بالكرامة المجروحة لدى الشعب الأمريكي.
* التحذير من الاستيلاء على السلاح النووي الباكستاني عبر تسريب الأنباء
في الصحف الأمريكية عن وجود قوات خاصة أمريكية تتدرب للسيطرة على مجمع
«كهوتا» الذي يضم المفاعل النووي الباكستاني.
* التهديد بإطلاق يد إسرائيل في المنطقة.
* استخدام ورقة المساعدات الاقتصادية للضغط على باكستان.
ويبدو من هذه السياسات أن الضغط استهدف في المقام الأول باكستان
باعتبارها حجر العثرة في سبيل تحقيق أمريكا لأهدافها في المنطقة؛ ولذلك فإن
افتتاحية الواشنطن بوست (20/12/2001م) ترى أن الخطوة القادمة في الحرب
على الإرهاب يجب أن تكون في باكستان قبل العراق والصومال لمواجهة جماعات
الإرهاب الباكستانية التي تتهمها الهند بالاعتداء على برلمانها. كما ترى الصحيفة
أن الهند مارست ضبط النفس بدرجة تدعو للإعجاب، وينبغي ألا يُحظر عليها
ممارسة حق الدفاع عن النفس كما تمارسه أمريكا وإسرائيل.
كما أنه ليس مصادفة أن تقرن الصحيفة الهند بأمريكا وإسرائيل. فالهند مثل
إسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة، والثلاثي تحكمه أحزاب عقائدية
(أصوليات هندوسية وصهيونية ومسيحية يمينية) . فطبقاً للواشنطن بوست
(24 /12/2001م) ، جاءت استقالة بات روبرتسون بوصفه رئيساً للتحالف
المسيحي لتؤكد صعود زعيم جديد لليمين المسيحي الأمريكي، وهو جورج بوش.
وإذا كان وزير الداخلية الهندي لال كريشنا أدفاني تواطأ مع الغوغاء الهندوس
منذ تسعة سنوات لتدمير المسجد البابري الأثري في أيوديا بالهند، فإن في حكومة
شارون من لهم علاقات وثيقة بالجماعات اليهودية التي تخطط لتدمير المسجد
الأقصى.
وصرح وزير الداخلية الهندي لال كريشنا أدفاني لدى عودته من زيارة
للولايات المتحدة أن واشنطن تتفهم موقف الهند الحازم. وقال: «لا أذكر أن
مسؤولاً (أمريكياً) واحداً قال لي: إن ما تفعلونه ليس جيداً» .
وفي نفس الوقت اتهم مسؤولون أمريكيون المخابرات الباكستانية بأنها على
صلة غير مباشرة ولكنها قديمة بتنظيم القاعدة، وأن المخابرات الباكستانية
استخدمت معسكرات القاعدة في أفغانستان لتدريب عملاء سريين لاستخدامهم في
حرب الإرهاب ضد الهند.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن المسؤولين قولهم: إن
المخابرات الباكستانية أيضاً لها صلات مباشرة بعمليات مقاتلي إقليم كشمير المتنازع
عليه والواقع على حدود باكستان المشتركة مع الهند.
وقال مسؤول أمريكي كبير سابق: إن المخاوف الأمريكية بشأن تعاملات
وكالة المخابرات الباكستانية مع نظام طالبان الحاكم في أفغانستان تزايدت بشدة العام
الماضي لدرجة أن المخابرات الأمريكية عارضت بإصرار زيارة مزمعة للرئيس
السابق بيل كلينتون لباكستان خوفاً على سلامته.
وقالت الصحيفة: إن هذا التخوف كان أساسه أن أجهزة الأمن الباكستانية
مخترقة إلى حد بعيد من جانب الإرهابيين لدرجة أن الجماعات المتطرفة التي
يحتمل أن يكون بينها تنظيم القاعدة الذي يتزعمه بن لادن قد تعرف خط سير رحلة
الرئيس كلينتون من المتعاطفين داخل وكالة المخابرات الباكستانية، ويحاولون
إسقاط طائرته.
وقال مسؤولون سابقون: إن كلينتون تجاهل تحذير المخابرات الأمريكية وقام
بالرحلة؛ مما استدعى اتخاذ تدابير غير عادية للحفاظ على حياته؛ حيث تم تسيير
طائرة رقم واحد التابعة للسلاح الجوى الأمريكي شاغرة بينما قام الرئيس بالرحلة
على متن طائرة صغيرة غير ملحوظة.. كما أن ركب كلينتون توقف تحت أحد
الكباري العلوية، وقام كلينتون بتغيير السيارة التي تقله.
وأشارت نيويورك تايمز إلى أن المسؤولين الأمريكيين يقولون: إن عمق
التأييد بين عناصر وكالة المخابرات الباكستانية لشن حرب على الطالبان والقاعدة لم
يتأكد بعد.. منوهين إلى أن رئيساً سابقاً للوكالة أصبح من أشد منتقدي السياسة
الأمريكية فى باكستان.
كذلك يعتقد فريق في الإدارة الأمريكية وفي الكونجرس أن النظام الباكستاني
يمارس دوراً مزدوجاً في التعامل مع الولايات المتحدة، فهو من جهة يريد إظهار
نفسه داعماً للسياسة الأمريكية تجاه ما تسميه أمريكا إرهاباً، وأنه في إمكانه أن
يذهب معها إلى أقصى ما تريده الولايات المتحدة منه؛ وفي نفس الوقت فإن النظام
يدرك جيداً أن مصلحته الاستراتيجية في وجود طالبان والقاعدة وأنها هي الورقة
التي يلعب بها؛ فإذا فقدها فإن أمريكا وحليفتها سوف تستدير عليه لتقضي على
قدراته النووية، وفي هذا السياق نجد أنه في أعقاب تصريحات قادة التحالف
الشمالي بأن قادة طالبان والقاعدة هربوا إلى باكستان وسارع قائد القوات الأمريكية
بزيارة باكستان ليتعرف على الوضع أطلقت الهند تهديداتها وحركت جيوشها.
الورطة الباكستانية:
تعتقد باكستان دائماً أن الهند لم تتقبل قط وجودها؛ ومن ثم كانت ترى أن
الهند مصممة على «إنهاء» تقسيم شبه القارة؛ مما يعني ضمناً وضع نهاية
لاستقلال باكستان؛ ففي عام 1964م صرح نهرو رئيس وزراء الهند حينذاك
لصحيفة «واشنطن بوست» أن هدف الهند النهائي هو قيام اتحاد هندي باكستاني؛
مما يعني دخول باكستان مرة أخرى تحت الهيمنة الهندوسية؛ وعليه فقد كان
الهدف الجوهري لاستراتيجية باكستان الرئيسة هو مجرد البقاء في وجه منافستها
الهند الأكبر منها حجماً، والأكثر قدرة، والتي تريد بوضوح تصحيح الوضع القائم
مع الحفاظ على سلامة استقلاليتها قدر الإمكان.
اتبعت باكستان عدة استراتيجيات للحفاظ على هذا الهدف:
* شكلت باكستان جيشاً مقتدراً لديه وحدات مشاة ودروع قوية منتشرة على أقرب
المواقع الحدودية مع الهند، كما شكلت سلاحاً جوياً صغيراً، لكنه عالي التدريب
والمعنويات، ومزود بأفضل الطائرات المتوافرة لباكستان لأداء مهام الدفاع الجوي
والهجوم الأرضي على حد سواء.. وقد اقتضت الاستراتيجية العسكرية التقليدية
لباكستان استخدام جيشها وقواتها الجوية بشكل هجومي في الظروف التي تنذر
بخطر استراتيجي. فإذا بدا النزاع وشيكاً، فقد توجه باكستان ضربة وقائية
لاحتلال أجزاء صغيرة من الأراضي الهندية؛ ومن ثم تستخدم هذه المكاسب، إما
لتحويل ثقل ردة فعل الهند نحو استرداد الأراضي التي خسرتها، أو لاستغلال تلك
الأراضي ورقة للمساومة بهدف ضمان نتيجة مواتية في المفاوضات التي تجري في
المرحلة اللاحقة للنزاع. وظهرت هذه الاستراتيجية جيداً في حوادث 1999م في
كارجيل عندما توغلت مجموعات كشميرية داخل أراضي كشمير واستولت على
مجموعة جبال بمساندة من الجيش الباكستاني لفترة من الوقت حتى تمكنت الهند في
النهاية من طردهم، ولكن عجز القيادة السياسية حينئذ ممثلة في «نواز شريف»
هو الذي منع باكستان من قطف ثمار ما حدث؛ مما أدى إلى نشوب خلاف بين
نواز وقادة الجيش الذين جاؤوا ببرويز مشرف إلى سدة الحكم.
* امتلاك قدرات نووية تمكنها من إيجاد رادع استراتيجي أمام القوة النووية
الهندية.
* تكوين ذراع مخابراتي قوي يمكنها من كشف مخططات الأعداء والمبادرة
بإحداث تغييرات في البيئة السياسية المحيطة.
* اللعب بالورقة الصينية لشك باكستان دائماً في النوايا الأمريكية؛ وحدث
ذلك في منتصف الستينيات في أثناء الحرب الثالثة مع الهند، وحدث أيضاً أثناء
الأزمة الحالية عندما زار مشرف الصين لمدة أربعة أيام ليستغل تنافس المحورين:
الصيني مع الهندي الأمريكي في تخفيف الضغط عليه من قِبَل هذا التحالف، ولكن
يبدو أن بكين ترى لها مصلحة في ضرب الإسلاميين في منطقة جنوب آسيا عن
طريق أمريكا وخاصة وهي تعاني من الحركات الجهادية في منطقة سيكيانج التي
يقطنها أغلبية مسلمة تعاني الاضطهاد من المحتل الصيني.
* رفع الإسلام عاملاً وحيداً لجمع شتات الشعب الباكستاني؛ فباكستان خليط
من الأعراق والقوميات المتناقضة وهي تنقسم عموماً إلى أربع أقاليم رئيسة:
بلوشستان الشمالية والغربية، والبنجاب، والسند. وتختلط فيه الأجناس وتتفشى
الروح القبلية. هذا الخليط من المقاطعات الجغرافية يعاني مفارقات كثيرة؛ فهناك
مفارقة اللغة؛ إذ يتحدث 65% من السكان البنجابية (لغة إقليم البنجاب) ، ويتحدث
الأردية 20 % من مجموع السكان، ويتحدث السندية 12% (لغة إقليم السند) ،
وتتوزع النسب الباقية على الباشتونية والبلوشية. بينما تتحدث النخب اللغة
العربية إلى جانب الإنكليزية.
وهناك مفارقة الأقاليم وتعداد سكانها:
فالقوة القومية الأولى هي البنجاب؛ إذ تشكل أكثرية قومية (60% من
السكان) ، وتسيطر على 65 في المئة من الإنتاج الزراعي، إضافة إلى احتلالها
معظم المواقع السياسية والاقتصادية ولكنها تعيش في إقليم مساحته ضيقة جغرافياً.
والقوة القومية الثانية هي السند وتسيطر على التجارة القديمة وبعض
الصناعات الموجودة في كراتشي، وتعاني مشكلة المهاجرين المسلمين الهنود الذين
يشكلون الآن 50% من سكان عاصمة الإقليم.
والباشتون هم القوة القومية (القبلية) الثالثة وهم يعيشون على تجارة الجوار
الأفغاني، وتعتبر عاصمتهم بيشاور من المعابر الاستراتيجية بين البلدين.
ويعتبر البلوش القوة القومية (القبلية) الرابعة وهم على قلّتهم، ينتشرون
على مساحة تمتد علي 50% من جغرافية دولة باكستان. وتعاني الأقلية البلوشية
أوضاعاً اقتصادية بالغة السوء انعكست على ضعف تمثيلها السياسي في إدارات
الدولة وأجهزتها ومجالسها التمثيلية والتنفيذية.
ولا يوجد غير الإسلام للسيطرة على هذا المزيج المكون من مائة وأربعين
مليوناً من السكان.
وتشهد الفترات التي ينزع فيها حكام باكستان إلى العلمانية المتطرفة جنوحاً
من السكان وتفجراً للمشاكل العرقية وقيام الحركات التي تطالب بالانفصال عن
الوطن الأم مثل أيام حكم بوتو في السبعينيات وابنته على فترات في الثمانينيات
والتسعينيات، وعكس ذلك فإن تشجيع المد الإسلامي من الحكام أيام ضياء الحق
شهد تماسكاً لبنية الدولة والتفاف الشعب حول قضية كبرى وهي مناصرة المسلمين
في المنطقة؛ وما مناصرة الشعب الباكستاني لإخوانه الأفغان عند اجتياح الاتحاد
السوفييتي أفغانستان إلا التعبير عن هذه اللُّحمة العقيدية.
لقد تعاقب على حكم باكستان أنظمة غفلت في معظمها عن الإسلام باعتباره
نظاماً للحياة، وباعتباره سبب قيام الدولة، ولعل دولة باكستان هي النموذج الوحيد
في التاريخ الحديث الذي اعتمد على الدين في نشأته، ولكن النخبة العلمانية التي
تسلمت الحكم وهي حزب الرابطة الإسلامية بزعامة (محمد علي جناح) كانت
كبقية النظم في ديار المسلمين التي سلمها أعداء الإسلام زمام الأمور قبل رحيلهم
عن هذه الديار. وبعد رحيل جناح اغتيل وريثه ياقوت خان في عام 1951م (عام
تأسيس العاصمة الجديدة إسلام آباد) فاندلعت حرب أهلية انتهت بالتوافق على نظام
ديموقراطي استمر إلى 1958م حين وقع انقلاب عسكري بقيادة محمد أيوب خان.
حكم أيوب خان باكستان إلى عام 1968م، شهدت خلالها باكستان حربها
الثانية مع الهند في 1965م، وسقط عسكرياً بانقلاب قاده يحيى خان في 1969م.
وعد خان الثاني بانتخابات تعيد الحكم للمدنيين في العام 1970م ونفذ وعده إلا أن
الحرب مع الهند في عام 1971م التي تحركت لدعم انفصال باكستان الشرقية
(بنغلادش) أجلت التسلم والتسليم إلى عام 1973م؛ ففي ذاك العام صدر الدستور
وتم انتخاب ذو الفقار علي بوتو على أساسه رئيساً للوزراء، واستمر إلى أن أُسقط
عسكرياً في انقلاب قاده الجنرال ضياء الحق في عام 1977م.
وضع ضياء الحق بوتو (الأب) في السجن لمحاكمته، ونفّذ فيه حكم الإعدام
تحت وقع الأزمة الأفغانية التي تفجرت بدخول السوفييت أراضي الدولة المجاورة
في نهاية 1979م.
نجح ضياء الحق في الإفادة من الغزو السوفييتي حين وظفه لشراء سكوت
المعارضة الداخلية والحد من الضغوط العالمية التي تراجعت احتجاجاً على إعدام
بوتو. وطوّر ضياء الحق حاجة الولايات المتحدة لموقع باكستان الجغرافي، فحسّن
العلاقات مع واشنطن، واشترى سكوتها عن البرنامج النووي، وثبّت علاقاته
المميزة مع جاره الصيني (زار بكين عام 1982م) . وحصل ضياء الحق على
مساعدات تسليحية أمريكية صينية، ومالية (الدولة الثالثة من موازنة الدعم
الأمريكي الخارجي) ، إضافة إلى تسهيلات اقتصادية أنعشت الحال الاجتماعية
وأعطت الدولة قوة لتثبيت نفوذها الشعبي وترسيخ سياستها المضادة لنمو التعاون
العسكري السياسي بين نيودلهي وموسكو.
وبسبب تقرب الهند من الاتحاد السوفياتي تخوفت إسلام آباد من احتمال
الضغط عليها في جبهة كشمير جامو فاقترحت على نيودلهي معاهدة عدم اعتداء في
1984م ألحقتها باستفتاء شعبي على اعتماد الشريعة الإسلامية مصدراً للدستور فنال
أنصار الشريعة 97% من الأصوات.
واصطدم مشروع التوحيد الإسلامي بمعارضة دولية (أميركية تحديداً)
وسياسية (ابنة بوتو: بنظير) واجتماعية (الإقطاعيون المسيطرون على الإنتاج
الزراعي) فشهدت البلاد اضطرابات مدعومة بنمو قوة المهاجرين (المسلمين
الهنود) في كراتشي.
ولاقت التوترات بين 1985م و1988م تشجيعاً من واشنطن والهند نظراً
لتراجع الأهمية الاستراتيجية لباكستان بعد دخول الاتحاد السوفييتي فترة غيبوبة في
أفغانستان قادها ميخائيل غورباتشوف واعداً خلالها البيت الأبيض بالانسحاب في
عام 1989م.
آنذاك بدأت واشنطن تتخوف من سياسة ضياء الحق؛ فهو قاد باكستان نحو
الاستقرار مستفيداً من حاجة الغرب لدولته، فنجح في إكمال بناء المشروع النووي
(بدعم صيني، فرنسي، كندي) ؛ كذلك قاد باكستان إلى نوع من التوازن النفسي
حين شجع قرار الناس باعتماد الشريعة مصدراً للدستور ومرجعاً لمختلف الأقاليم
والقبائل.
وفي ضوء الوعد السوفييتي بالانسحاب من أفغانستان تحيّنت واشنطن
الفرص للتخلص من حليفها ضياء الحق؛ فكان لها ما أرادت حين سقطت طائرته
في حادث غامض في أغسطس 1988م. وبذهاب المؤسس الثاني لباكستان فتحت
الطريق أمام عودة ابنة بوتو وانتخابها بدعم أوروبي (بريطاني تحديداً) في نهاية
1988م، وحاولت بوتو تحسين علاقات بلادها مع الهند إلا أنها اصطدمت بشروط
قاسية. وبتحريض من أمريكا وإسرائيل طالبت نيودلهي إسلام آباد بالتخلي عن
مشروع بناء القنبلة النووية وبرنامج الصواريخ إضافة إلى إلغاء الاستفتاء على
الشريعة الإسلامية، وأخيراً تحسين العلاقات مع إسرائيل تمهيداً للاعتراف بها.
وجدت بوتو صعوبة في تلبية تلك الشروط المذلّة، فحاولت إيجاد صيغ
تسوية تخفف عنها الضغط الداخلي وترضي بعض طلبات الغرب والهند شرط عدم
فتح جبهات حدودية تعطل إمكانات نشاطها على جبهة تهدئة المؤسسة العسكرية التي
شهدت في فترة الأزمة الأفغانية نمواً متزايداً لموقعها القيادي في إدارات الدولة
ودورها المستقل في رسم الاستراتيجيات بعيداً من رقابة الهيئات التشريعية
والقضائية.
إلا أن تردد بوتو في تسريع خطواتها دفع الهند للضغط عليها من خلال أزمة
كشمير، فدخل جيش نيودلهي عاصمة كشمير الهندية سريناغار في عام 1990م في
وقت أعلنت واشنطن تعليق مساعداتها المالية والتسليحية لباكستان (في العام نفسه)
بذريعة أن إسلام آباد لم توقف نشاطها النووي المحتمل امتداده جغرافياً وتحوله إلى
قنبلة إسلامية.
وأنتج تردد بوتو المحلي والإقليمي والدولي قوة ثالثة تمثلت في بروز حزب
نواز شريف. فشريف عكس بوتو الإقطاعية، ينتمي إلى عائلة عُرفت بنشاطها
المبكر في القطاع الصناعي وتقربها من المؤسسة العسكرية والحركات الإسلامية.
جاء شريف في ظروف دولية مغايرة وبروز الولايات المتحدة قوةً وحيدة لا
منافس استراتيجياً لها خصوصاً بعد نجاحها العسكري في حرب الخليج الثانية.
أدرك قادة الدولة تراجع أهمية باكستان، بعد الانسحاب السوفييتي 1989م
وتبخر المعسكر الاشتراكي بغض النظر عن رئيس الحكومة وتوجهاته السياسية
والاقتصادية. إلا أنهم تأخروا في صوغ استراتيجية دولية بديلة. فالضغوط من
طريق الهند تركزت على تصعيد الحملة العسكرية في كشمير وعلى الحدود
(البنجاب) مترافقة مع ضغط إسرائيلي (مدعوم أمريكياً) بوضع المنشآت النووية
تحت رقابة دولية، وهي أمور فرضت ترتيبات دفاعية على إسلام آباد.
ومنذ العام 1993م شهدت باكستان سلسلة تجاذبات دولية وإقليمية ومحلية؛
فهناك المؤسسة العسكرية وطموحها في إنجاز القنبلة النووية، وهناك ملاك
الأراضي المؤيدون لبوتو (إقليم السند) المنزعجون من قوة شريف، وهناك
الصناعيون المؤيدون لشريف (إقليم البنجاب) المتخوفون من عودة بوتو، وهناك
القوة الجديدة الصاعدة المتمثلة بالجماعات الإسلامية وتفرعاتها. يضاف إلى ذلك
صراع بوتو الابنة مع شقيقها مرتضى الطامح لأخذ زعامة حزب والده من شقيقته
... وكل هذه المشكلات الداخلية معطوفة على ضغوط إقليمية بدأتها الهند في عام
1994م بتصعيد التوتر على حدود البنجاب ومقاطعة كشمير إلى ضغوط أمريكية
تمثلت بإلغاء صفقة طائرات عسكرية (إف 16) رداً على رفض إسلام آباد وضع
مؤسساتها النووية تحت الرقابة وتمنُّعها عن توقيع معاهدة منع انتشار السلاح
النووي قبل أن توقّع نيودلهي.
وحين جدد انتخاب بوتو في عام 1993م كانت باكستان على حافة الانهيار.
فالحزب (الشعب) الذي أسسه والدها في 1967م انقسم إلى أجنحة وتيارات محلية
وعائلية؛ بينما حزب الرابطة الإسلامي الذي انشطر إلى ثلاث شُعب في عام
1958م استعاد حيويته في ضوء توجه ضياء الحق الإسلامي. إلا أن الرابطة لم
تعد كما كانت حين تأسست في عام 1930م وقادت الانفصال (الاستقلال) عن
الهند في 1947م؛ فالرابطة تفككت لتقوم مكانها مجموعة جبهات؛ فهناك الجماعة
الإسلامية برئاسة قاضي حسين أحمد، وهناك جماعة فضل الرحمن، وهناك
جماعة سميع الحق.
وعندما تسلم نواز الحكم مرة أخرى وجاءت أحداث كارجيل عام 1999م
حيث هاجمت الجماعات الجهادية الكشميرية الجزء المحتل من المقاطعة واستولت
على بعض المرتفعات بدعم وتنسيق من الجيش الباكستاني ادَّعت المخابرات الهندية
أنها رصدت وقتها محادثة هاتفية بين الجنرال مشرف وكان وقتها قائداً للجيش وبين
المجاهدين في كارجيل يحثهم فيها على الصمود. وتصاعدت الضغوط على نواز
شريف فسافر إلى البيت الأبيض وتحادث مع كلينتون، وقدم له تنازلات تلو
الأخرى؛ مما أغضب الجيش والمخابرات الباكستاتية ليستولي مشرف على الحكم.
هذه ظروف استيلاء مشرف للسلطة في باكستان ليوقف مسلسل التنازلات في
وجه الهيمنة الأمريكية الذي قام به نواز شريف، والغريب أنه بعد عامين تقريبا من
هذا الانقلاب اندفع مشرف في نفس القاطرة أي قاطرة التنازلات أمام العربدة
الأمريكية في أفغانستان.
بدا لكثيرين وإلى ما قبل أحداث تفجيرات نيويورك في 11 سبتمبر أن موقف
الرئيس الباكستاني برويز مشرف الداخلي قوي؛ فقنبلته النووية جعلت موقفه
العسكري والاستراتيجي مع الهند على قدم المساواة، وعمقه الاستراتيجي في
أفغانستان مستتب بوجود نظام طالبان الحليف، وجاءت التفجيرات وتوالت الأحداث
ووجدت باكستان نفسها بين ناري الانخراط في المخطط الأميركي الذي استهدف
حكماً له علاقة بإسلام آباد وله جذور في داخلها وبين أن تصنفها واشنطن دولة
إرهابية معادية وفقًا للشعار الذي رفعه الرئيس بوش: «من ليس معنا فهو ضدنا» .
وتتابعت الضغوط على مشرف بفك تحالفه مع طالبان فاستجاب مشرف، ثم
طلبت أمريكا استخدام أربع قواعد عسكرية في باكستان للتموين والأعمال اللوجستية
الخاصة بالحرب فسمح مشرف، وارتفع سقف المطالب قليلاً بحصار الجيش
الباكستاني للحدود، ومنع تسلل قيادات طالبان وأفراد القاعدة من دخول باكستان
والقبض على المتسلل منهم، وقبض مشرف، وبدا مشرف في موقف ضعيف
داخلياً إزاء هذه التنازلات التي لم ترض أمريكا والتي بعد اجتياحها أفغانستان
شعرت أن انتصارها لا يساوي شيئاً دون اعتقال زعماء طالبان والقاعدة فطلبت من
باكستان تسليم المعتقلين لديها من أفراد القاعدة وتمنعت باكستان في البداية. وفي
نفس التوقيت اندلعت أحداث الهجوم على البرلمان الهندي، واستغلت أمريكا الحدث
كما هي عادتها، وأوعزت إلى حليفتها الهند بتجييش الحشود العسكرية على الحدود
الباكستانية، وسرعان ما أذعنت باكستان وسلمت إلى أمريكا سجناءها من أفراد
القاعدة، واعتقلت العديد من أفراد الجماعات الكشميرية والإسلامية في باكستان.
وبعد أن تعالت تصريحات وزراء الإدارة الأفغانية الجديدة في كابول بأن زعماء
القاعدة وطالبان هربوا إلى باكستان ازدادت الضغوط الهندية وزاد مشرف من
ضغوطه وحصاره لأفراد القاعدة.
ويتساءل كثيرون: لماذا قدم برويز مشرف كل هذه التنازلات: هل هو خائن
؟ أم هو غافل عن ألاعيب السياسة ودهاليزها؟ والواقع أن دفة الحكم والقرار
السياسي في باكستان لا تعتمد على شخص واحد فقط؛ فهناك مؤسسة عسكرية
ومخابرات قوية وغيرهم من سياسيين الذين يلتفون حول مشرف ويستشيرهم في
صياغة هذه الأمور، ولكن هؤلاء الأفراد أو المؤسسات تتحكم فيها لغة البراجماتية
السياسية، وكذلك تتحكم في أي نظام لا يرتكن إلى العقيدة في حكمه. والبراجماتية
في اللغة السياسية هي باختصار تبادل المنافع والمصالح بين أطراف الصراع؛
واستغلت أمريكا هذه البراجماتية.
لقد حاول نظام مشرف من وجهة نظره إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الخسائر سواء
في أفغانستان أو في كشمير أو في القنبلة النووية فلم يندفع إلى التنازل في هذه
القضايا إلا تحت الضغوط الشديدة. وتتحدث بعض التقارير عن اجتماع حدث في
إسلام آباد عشية تفجيرات نيويورك طلبت فيه السفيرة الأمريكية الدخول في تحالف
مع أمريكا، وتمنع مشرف في البداية وفي أثناء ذلك اللقاء قالت بعض الأنباء إن
طائرات أمريكية وإسرائيلية حلقت في سماء باكستان وعجزت الدفاعات الباكستانية
عن رصدها، وفي ظل هذه الأجواء ألقت السفيرة بكلامها فقالت: هذه هي الأمور
بلا لف ولا دوران: سنقيم تحالفاً هندياً إسرائيلياً بقيادتنا وسندمر ترسانتكم النووية.
ناور مشرف ولم يقدم التنازلات مباشرة، ولكن إزاء الضغوط بدأ في التنازل
عن أفغانستان ثم بدأت تنازلاته تطول كشمير؛ والطامة الكبرى لو جاءت تنازلاته
في قنبلته النووية.
ولكن في النهاية أحس مشرف بأن التنازلات التي قدمها ليس هناك ما يقابلها
من جانب الولايات المتحدة؛ وبالمنطق البراجماتي بدأ في تهدئة وتيرة الاستجابة
للطلبات الأمريكية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛ فقد نقلت وكالات الأنباء عن
مسؤولين باكستانيين أن حكومة بلادهم تجري مباحثات مع الولايات المتحدة بشأن
المدة التي ستظل فيها القوات الأمريكية في القواعد الجوية الباكستانية الأربع التي
كان لها دور حيوي في الحرب في أفغانستان.
وأضاف مسؤولو باكستان أن حكومتهم قد أبلغت الولايات المتحدة بالتوقف عن
استخدام قاعدتين من القواعد الأربع الباكستانية التي تستخدمها الولايات المتحدة في
حربها ضد أفغانستان، وقد أكد جنرال بالجيش الأمريكي على مثل هذه التقارير،
كما أشار إلى أن الولايات المتحدة لم تعد في حاجة ماسة لتلك القواعد.
وكان مسؤول عسكري باكستاني قد ذكر الشهر الماضي بعد تزايد حدة التوتر
بين الهند وباكستان أن باكستان أخطرت الولايات المتحدة بأنها ربما تحتاج
القاعدتين الجويتين اللتين تستخدمهما الولايات المتحدة في مدينتي يعقوب آباد
وباسني لوضع القوات الجوية الباكستانية في وضع الاستعداد للحرب.
وقال المسؤول الباكستاني إن إسلام آباد قدمت هذا الطلب إلى الولايات
المتحدة بعدما اكتشف المسؤولون الباكستانيون أنهم كانوا مخطئين عندما اعتقدوا بأن
الوجود الأمريكي في باكستان سيثني الهند عن تعبئة قواتها.
وبعد هذا الإجراء القوي استغلت الولايات المتحدة الخطاب الذي ألقاه مشرف؛
ورغم أن الخطاب لم يعلن فيه مشرف أي إجراءات جديدة سوى إغلاق مقرات
بعض الجماعات الجهادية والشيعية وهي إجراءات كانت قد اتخذت بالفعل سارعت
الولايات المتحدة إلى الثناء على هذا الخطاب وطلبت من الهند التهدئة.
وتظل أمريكا تتحين الفرصة للانقضاض على باكستان بمجرد فراغها من
أهدافها في أفغانستان ويظل سيفها الهندي مشرعاً ومن خلفه يتحين يهود بمكرهم
وكيدهم.(172/92)
المسلمون والعالم
عام على حكومة أرئيل شارون
قراءة في ملفات الحصار والإنجازات التي حققتها هبة الأقصى
باسل النيرب
جاءت هبَّة الأقصى على خلفية إخفاق مباحثات كامب ديفيد الثانية التي
اعتبرت أن التسوية الناتجة عنها هي النهائية إزاء قضايا المرحلة النهائية: القدس
واللاجئين والاستيطان. وبعد ما يزيد عن تسعة أعوام على مؤتمر مدريد للسلام،
وسبعة أعوام على اتفاق أوسلو، وما نتج عنها من مفاوضات مباشرة فرضت
إسرائيل خلالها شروطها المذلة والتي قيدت حياة الشعب الفلسطيني حاولت خلالها
كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة رسم سياسة عبثية تقييدية تجاه الشعب الفلسطيني
لتنسف أحلام الشعب في الحرية والاستقلال.
لماذا الانتفاضة؟
بعد زيارة أرئيل شارون المخططة إلى المسجد الأقصى في 28/9/2000م
وزرع إسرائيل لأكثر من ثلاثة آلاف شرطي ورجل من حرس حدود في الأقصى
لحراسة السفاح، وتحول ساحة الأقصى إلى ميدان حرب تدافع خلالها أبناء فلسطين
للدفاع عن الأقصى وطرد المدنسين له جاءت الانتفاضة في القدس أولاً، ثم
تجاوبت معها كافة المناطق المحتلة من رفح حتى جنين، ومع الدعوات لمواجهة
غطرسة المحتل أصبح شعار هبة الأقصى هو زوال الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية
كاملة السيادة عاصمتها القدس وعودة اللاجئين على أساس القرار 194، ومع
تصاعد العمل الجماهيري من الاعتصام إلى الحجر انطلقت المقاومة المسلحة ضد
قطعان المستوطنين ورجال حرس الحدود والصهاينة وكل من يمت لهم بصلة،
وأصبحت الانتفاضة ومع كل ما مر بها من مراحل: شعارها وهدفها وقانونها هو
كنس الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأمام التداعيات التي تعرضت لها حكومة إيهود باراك في أواخر عام 2000م
في النطاقين السياسي والعملي، تقرر إجراء انتخابات لرئاسة الحكومة أفرزت هذه
الانتخابات صعود مجرم الحرب أرئيل شارون لرئاسة الحكومة بنسبة 62. 6%
مقابل 37. 4% لباراك، وفازت الحكومة بثقة الكنيست بأغلبية 72 صوتاً مقابل
21 صوتاً ودون امتناع أحد.
وأمام توحد المجتمع الإسرائيلي ظاهرياً مع رئيس الحكومة شارون، ومع
ازدياد المطالب الإسرائيلية بضرورة توفير الأمن تعالت تصريحات أرئيل شارون
منذ اليوم الأول لوصوله إلى سدة الحكم في إسرائيل، وفي أول تصريحاته لصحيفة
يديعوت آحرنوت أكد شارون أن حكومته ستضمن الأمن المطلق لمواطني إسرائيل،
وأنه لا يمكن أن تجرى مفاوضات في ظل «الإرهاب» ومع تسوية تقضي بأن
لا حرب ومن دون جدول زمني وإنما مع جدول توقعات، كما اقترح شارون اتفاقاً
لعدم اعتداء بدل اتفاق سلام شامل ولكن دون جدول زمني للتطبيق.
وكان شارون قد أكد قبل صعوده إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل نجاح
سياستي الضغط الاقتصادي والحصار الخانق اللتين من شأنهما أن تقضيا على
الانتفاضة، ومؤكداً أن إسرائيل إذا فرضت ضغوطاً على عرفات من خلال تقييد
إمدادات الوقود والطاقة للسلطة الفلسطينية، أو تحويل الضرائب التي يدفعها العمال
الفلسطينيون في إسرائيل فمن شأنه أن يخفف أعمال العنف إن لم تتلاش.
ومع استمرار الانتفاضة ومع ازدياد الضغط على السلطة الفلسطينية والشعب
الفلسطيني أعلن شارون خطة 100 يوم لوقف الانتفاضة. وتهدف الخطة إلى
الضغط على الجانب الفلسطيني تمهيداً إلى إعلان دعوة من الرئيس ياسر عرفات
لوقف أعمال العنف بشكل علني، وتنص الخطة على حصار مطبق على كل بلدة
فلسطينية من جهة، وحصار آخر حول الضفة الغربية وقطاع غزة، وعزل مدينة
القدس عزلاً تاماً عن جميع البلدات المجاورة لها، وحشد قوات ضخمة بآليات ثقيلة
بشكل واضح على الحواجز العسكرية وفي مداخل المدن وعلى رؤوس التلال،
واحتلال البيوت والعمارات الواقعة في المنطقة «ب» .
وأمام تسارع الأحداث على الصعيد الفلسطيني ومع استمرار سياسة إسرائيل
الرامية إلى وضع نهاية للسلطة الفلسطينية، ظهرت الدراسات والأبحاث في دائرة
الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، ومنها ما صرح به الجنرال عاموس غلعاد
رئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية التي أكد فيها أن رئيس السلطة
الفلسطينية يسيطر سيطرة كاملة على الأوضاع في الأراضي الفلسطينية نافياً أن
تكون السلطة على وشك الانهيار، كما أكد أن السلطة تبني استراتيجية واضحة
تقضي بمواصلة انتهاج العنف والإرهاب لتحقيق الأهداف المحددة، وهي إقامة دولة
فلسطينية مستقلة في حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، ويؤكد غلعاد أن قادة
الجيش توصلوا إلى استنتاج مفاده أن اتفاق أوسلو وصل إلى نقطة النهاية؛ ولذلك
اضطرت السلطة الفلسطينية إلى البحث عن صيغ بديلة تخدم مصالحها. ويؤكد
رئيس قسم الأبحاث أن السلطة وعناصرها الأمنية تتحمل المسؤولية الكاملة عن
الأعمال والاعتداءات ضد الجيش والمستوطنين.
وأمام التصعيد الخطير والقلق الدولي الذي يظهر حيناً ويختفي أحياناً زارت
ماري ربنسون المفوضة الدولية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة الأراضي المحتلة
، وأصدرت تقريراً أصبح وثيقة من وثائق الدورة السابعة والخمسين للجنة حقوق
الإنسان أكدت فيه:
* أن اتخاذ قوات الدفاع الإسرائيلية بعض الخطوات المحددة يمكن أن يساعد
على كسر حلقة العنف.
* تنطبق اتفاقية جنيف عام 1949م بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب
على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
* ينبغي وقف بناء مستوطنات جديدة، وإزالة المستوطنات الموجودة في
المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية العالية.
* ينبغي لقوات الأمن الإسرائيلية أن توفر الأمن للفلسطينيين من اعتداءات
المستوطنين.
* لا ينبغي في حال من الأحوال استخدام حظر التجول واتخاذه تدبيراً عقابياً.
* ينبغي التمتع بالحقوق الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها
حق التنمية.
* ينبغي احترام جميع الأماكن المقدسة ووصول السكان لها.
الحصار الإسرائيلي:
وحتى هذه التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة وغيرها من القرارات الأخرى
الهامة لم تجد الصدى عند حكومة الإرهابي شارون؛ فالفلسطينيون يعيشون وسط
سجن كبير فرضه عليهم مجرم حرب أخذ على عاتقه قتل وتشريد واغتيال الآلاف
من الشعب الفلسطيني.
وحالياً ومع اشتداد الحصار الإسرائيلي على أراضي السلطة الفلسطينية
وحصار رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات ومنعه من الخروج من رام الله؛
فإن سياسة الحصار الإسرائيلي التي بدأت منذ اللحظة الأولى لانطلاقة هبة الأقصى
في 28/9/2000م هدفت إلى تقطيع أوصال المناطق الفلسطينية، فباتت مناطق
الضفة الغربية وقطاع غزة عبارة عن مربعات أمنية ذات درجات إغلاق متفاوتة،
وأصبح هناك 150 حاجزاً في الضفة الغربية و40 في قطاع غزة. ويعمل الإغلاق
الذي تفرضه إسرائيل على المناطق الفلسطينية على منع التنقل بين الضفة والقطاع، وبين الضفة والقدس، ثم تحول إلى منع التنقل بين المدينة والقرى المحيطة بها،
ثم بين القرى نفسها، وأخيراً بين الأحياء في ذات القرية، وقد جاء هذا التحول بعد
مقتل رحبعام زئيفي العنصري الصهيوني المتطرف، وبات عرفات ذاته محاصراً
داخل رام الله، وفي إطار هذا الحصار تتحكم القوات الإسرائيلية في كافة مجالات
الحياة الفلسطينية، ويكون هذا التحكم إما بواسطة قرارات مجلس الوزراء المصغر،
أو بقرار من وحدة عسكرية مرابطة على مدخل حي أو قرية أو مدينة. كما يعني
الإغلاق منع نقل البضائع سواء كانت مواد غذائية أو أدوية بشكل كامل أو جزئي؛
كما أغلقت إسرائيل الطرق الالتفافية حول القرى مما ضيق الحصار وأصبح أقل ما
يوصف بأنه خانق.
وقبل التعرض إلى بعض الأرقام والإحصائيات في ما سببه الحصار
الصهيوني إلى المناطق الفلسطينية، لا بد من التأكيد على بعض المعطيات
الأساسية التي تتماشى مع مواثيقهم الدولية ومعاهداتهم التي تنكرها إسرائيل ومنها
حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في
تقرير مركزها السياسي، وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي
والثقافي. وتنص المادة (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية لعام 1966م على عدم جواز تجريد أحد من ممتلكاته، ولكل
فرد حرية مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده، كما حظرت المواثيق العقوبات الجماعية،
وبالمثل جميع تدابير التهديد والإرهاب، كما نصت اتفاقية جنيف الرابعة بشأن
حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب لعام 1949م، على كل طرف من الأطراف
السامية المتعاقدة أن يكفل حرية مرور جميع رسالات الأدوية والمهمات الطبية
ومستلزمات العيادة المرسلة حصراً إلى سكان طرف آخر حتى ولو كان خصماً،
وعليه كذلك الترخيص بحرية مرور أي إرساليات من الأغذية الضرورية والملابس
والمقويات المخصصة للأطفال دون الخامسة عشرة من العمر والنساء الحوامل
والنوافس، كما نصت المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية على أن تعترف الأطراف في هذا العهد بالحق في العمل الذي
يشمل ما لكل شخص من حق في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو
يقبله بحرية، وتقوم باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق كما نصت ذات الحقوق
على حرية التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه، وتنص
على تهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حالة
المرض. وفيما يخص التربية والتعليم فهي تنص على وجوب توجيه التربية
والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والإحساس بكرامتها وإلى توطيد
واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وفيما يلي نذكر بعضاً من الخسائر التي أدت إليها سياسة الحصار
الإسرائيلي [*] .
الصناعة:
شهد قطاع الصناعة الفلسطيني تراجعاً كبيراً، فانخفضت إنتاجية جميع
المصانع الفلسطينية بسبب عدم السماح بدخول المواد الخام، وعدم السماح بخروج
المواد المصنعة للتصدير، وقطع التيار الكهربائي بشكل جزئي ومتكرر، ووقف
العمل داخل المناطق الصناعية، وعدم تمكن العمال من الوصول إلى أماكن عملهم؛
وكل هذه الأسباب تؤدي إلى زيادة تكلفة الإنتاج وتعطيله في مجالات عدة.
كذلك فإن حجز البضائع والمواد الخام في الموانئ الإسرائيلية يترتب عليه
دفع غرامات ورسوم أرضيات وأجور حاويات زيادة على الفائدة المترتبة، وكما
تجبر إسرائيل أصحاب البضائع أن يتم نقلها بواسطة الشاحنات الإسرائيلية مما أدى
إلى ارتفاع تكاليف النقل، والأمر ذاته ينطبق على المواد التموينية.
وقد قدرت وزارة الصناعة عدد العاطلين عن العمل 342689 عاطلاً،
ودمرت الآليات العسكرية الإسرائيلية 45 مصنعاً، وانخفض الإنتاج من
50 - 80 % حسب الصناعة، هذا وقد بلغ مجموع الخسائر العام 905. 84
مليون دولار، وقدرت خسائر وزارة الصناعة بـ 8. 723. 113 دولار.
التعليم:
تواجه وزارة التربية والتعليم الفلسطينية مشكلة توفير البنايات المدرسية
عوضاً عن التي قصفتها إسرائيل وتجهيزها بما يلزم من أثاث ومستلزمات تعليمية،
وكذلك العجز في موازنات الجامعات نتيجة توقف عدد كبير من الطلبة عن دفع
الرسوم الجامعية بسبب الظروف المالية الصعبة؛ كما توقفت المساعدات التي
تقدمها الدول المانحة إلى السلطة الفلسطينية.
وأمام هذا الحصار الخانق، وأمام الأحداث المستمرة لهبة الأقصى يقبع في
سجون الاحتلال الإسرائيلي 850 طالباً، كما تعطل العام الدراسي لمدة 255 يوماً،
وأغلقت 174 مدرسة، ومنع 90 ألف طالب من الوصول إلى مدارسهم، ووصل
النقص في الهيئات التدريسية إلى 90% حداً أعلى و10% حداً أدنى من المعلمين
الأصليين بسبب سد مداخل المدن والقرى والأحياء؛ كما يوجد 275 مدرسة على
خطوط التماس مع الاحتلال مما يعرضها إلى الانتهاكات والمخاطر المستمرة،
وتحولت أربع مدارس إلى ثكنات عسكرية إسرائيلية، وأغلقت 6 مدارس بأوامر
عسكرية، وقصفت 95 مدرسة واقتحمت 23 مدرسة، وتعطلت الدراسة في 66
مدرسة.
الصحة:
قبل استعراض منجزات الحصار الشاروني على الوضع الصحي العام لا بد
من التأكيد أن هناك مشاكل اجتماعية ونفسية لا تسجلها أغلب الإحصائيات الصادرة
وتتجاوز الموضوع الصحي (البدني والجسمي) وخلفتها التصرفات والأحداث
الجارية. هذا وقد اعتدت إسرائيل على 300 منشأة صحية، وقصفت ثلاثة
مستشفيات بالطائرات وقذائف الدبابات، ودمرت 93 سيارة إسعاف من جراء
القصف أو إطلاق النار عليها.
الزراعة:
بلغ عدد الأشجار التي تم اقتلاعها 394642 شجرة، وتقدر وزارة الزراعة
الأضرار المباشرة نتيجة الممارسات الإسرائيلية بـ 344. 968. 503 مليون
دولار، أما القطاع الحيواني فتقدر خسائره بـ 345 مليون دولار.
العمال:
بلغت نسبة العاطلين عن العمل من الشعب الفلسطيني 53% من إجمالي
القوى العاملة البالغين 650. 000 ألفاً، وقد تعطل 342. 698 عاملاً، وبلغت
إجمالي الخسائر اليومية 6. 250. 000 دولار يومياً في كافة القطاعات، وبلغ
معدل الفلسطينيين الذين يعيشون تحت خط الفقر 57%.
السياحة:
يمثل قطاع السياحة 11% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع سياسة الحصار
الإسرائيلي فقد تكبد خسائر فادحة من جراء الحصار، وقامت إسرائيل بقصف
وتدمير المدن السياحية وإغلاق مطار غزة الدولي وتجريفه واحتلال أسطح المباني
والفنادق وتدمير بعضها مما ترتب عليه أن فقدت أكثر من خمسة آلاف عائلة
فلسطينية تعمل في مجال الصناعات السياحية مصادر دخلها، وبلغ إجمالي خسائر
قطاع السياحة خلال عام من الانتفاضة 497 مليون دولار.
الانتهاكات الدينية:
مع سياسة الحصار استمرت إسرائيل في الاعتداء على الأماكن المقدسة
الإسلامية؛ فقد سجل خلال عام من الانتفاضة 70 حالة اعتداء على المساجد في
الضفة والقطاع، وإحراق 20 نسخة من القرآن الكريم، وعمدت إسرائيل إلى
احتلال مسجد بيت جالا وكنيستها وتحويلهما إلى قاعدة عسكرية، وتجريف المقبرة
الإسلامية في جبل جرزيم في نابلس ومقام الشيخ غانم، وتحويل مسجد الخان
الأحمر إلى متحف لمستعمرة معاليه أدوميم، وسرقة الآثار الإسلامية الموجودة في
متحف روكفلر وإرسالها إلى متاحف داخل المناطق المحتلة 1948م، وتحويل
بعض المقابر الإسلامية إلى ثكنات عسكرية، كما استمرت في تغيير الطابع الديني
للمسجد الإبراهيمي في الخليل.
هدم المنازل:
استمراراً لسياسة شارون القائمة على الاعتداءات والجرائم فقد بلغ عدد
المباني التي طالها القصف خلال عام من هبة الأقصى 6193 منها 430 منزلاً
ومبنى دمر تدميراً كاملاً و 5747 مبنى دمر جزئياً، وقدرت وزارة الإسكان
الخسائر 19. 669. 380 مليون دولار، وتحتاج هذه المنازل المدمرة إلى 21
مليون دولار لإعادة التعمير، والمرافق تحتاج إلى 18 مليون دولار، وبلغت
أضرار الطرق في الضفة الغربية 3. 32 مليون دولار، وفي غزة 1. 15 مليون
دولار عدا خسائر المطار؛ وخلال عام قصفت إسرائيل 84 منشأة عسكرية تابعة
للسلطة الفلسطينية.
ومع استمرار تزايد الصمت العالمي إزاء سياسة الغطرسة الشارونية استمر
رئيس الحكومة الإرهابي شارون بهدم المنازل الفلسطينية وأجرى اللقاءات
والأحاديث الصحفية التي تسوغ سياسة الهدم؛ فعقب تدمير 70 منزلاً في رفح قال
إن المنازل المدمرة كانت تخفي أنفاقاً لتهريب السلاح من مصر إلى رفح في غزة،
وأن معظمها لم يكن مؤهولاً مؤكداً أن من واجبه وواجب حكومته التي يتولى
رئاستها أن توفر الأمن. وفي سياق آخر قال إن عملية هدم المنازل مفيدة لإسرائيل
من أجل توسيع القطاع الأمني الخاضع لسيطرتها والذي يفصل بين رفح والحدود
المصرية مقترحاً أن يتم دفع أموال الفلسطينيين بهدف توسيع القطاع الأمني.
كما أعلن وزير الخارجية شمعون بيريز في حديث للإذاعة الإسرائيلية أنه
أبلغ أعضاء لجنة الخارجية والأمن قرار وقف عمليات هدم منازل الفلسطينيين
بسبب الأضرار البالغة التي ألحقتها عمليات الهدم لضررها بصورة إسرائيل في
العالم مؤكداً أنه ضد الهدم لأسباب تتعلق بالتراث اليهودي. وفي نفس الوقت رفض
مكتب شارون عروض وكالات الأنباء العالمية تصوير الأنفاق المزعومة لتهريب
السلاح في تأكيد لبطلان الادعاءات التي يبثها شارون.
الاغتيالات:
في البداية لا بد من التعريف بأن المقصود بالاغتيال هو حالات القتل
العشوائي والمنظم الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين؛ ففي
مقابلة مع قائد القوات الإسرائيلية في رام الله غال هيرش قال رداً على سؤال قناة
C. N. N حول عمليات «القتل» : سنقتل كل من يهدد أمننا ويعرض أمن أي
إسرائيلي للخطر، وأكد أن الحجارة هي تهديد لحياة جنودنا وأمتنا؛ ولذلك نقتلهم
وسنقتلهم حتى يتوقف الآخرون عن ذلك. وأكد الجنرال الكاذب هيرش أن الجنود
الإسرائيليين لا يطلقون النار على الرأس والصدر إلا لمن يحمل السلاح ضدهم.
وفي الإحصائيات الصادرة عن دائرة العلاقات القومية في منظمة التحرير
الفلسطينية أكدت التقارير أن 45. 9% من مجموع الإصابات خلال عام من هبة
الأقصى تقع في منطقة الرأس والرقبة، و 14. 9% في الصدر؛ أي ما نسبته
60. 8% من الإصابات في الجزء العلوي من الجسم، والباقي في الجزء السفلي
وإصابات غاز.
كما نشرت صحيفة هآرتس مقابلة مع قناص في الجيش الإسرائيلي أكد فيها
أن كل من بلغ الثانية عشرة لم يعد طفلاً، ومؤكداً أن أوامر إطلاق النار تأتي من
قائد الكتيبة بعد رؤية شاب يتحرك بشكل مثير للانتباه، أي أن كل نشطاء
الانتفاضة هم عرضة لنيران القناصة الإسرائيليين.
وفي سياسة إسرائيلية تهدف إلى المزيد من الشهداء، وبعد سبعة أشهر من
هبة الأقصى ألغت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بشكل كامل استخدام إجراء
اعتقال المشتبه به ضد الفلسطينيين الذين يحملون السلاح، وأصدرت أوامر
واضحة للجنود بإطلاق النار بهدف القتل في مناطق مختلفة من الأراضي
الفلسطينية، ونشرت صحيفة كول هودوعير الأسبوعية الإسرائيلية أن التعليمات
تنص حتى على الحالات التي لا تشكل خطراً على حياة الجنود أو المواطنيين؛
وهذا ينطبق على كل من يحمل سلاحاً في منطقة إسرائيلية إذا أطلق النار أو ألقى
سلاحه أو هرب ولم يطلق النار.
وتسوق الآلة الإعلامية الإسرائيلية ملفات الاغتيال وعمليات التصفية بأنها
تندرج في إطار أن الذين تمت تصفيتهم هم من الذين ارتكبوا أفعال مخلة بالأمن
الإسرائيلي، أو من الذين يخططون للقيام بمثل هذه الأعمال، إضافة إلى أن
عمليات الاغتيال تأتي تدبيراً احترازياً وإجراءاً وقائياً في سبيل تلافي الضرر
المتوقع وتهدف عمليات الاغتيال كإجراء لردع السكان للتأثير على الروح المعنوية؛
ولذلك تلجأ إسرائيل إلى تصفية القادة الميدانيين للانتفاضة، وكمظهر من مظاهر
التأثر والاقتصاص والرد الفوري على عمليات المقاومة.
ولا بد من التأكيد هنا على مسؤولية إسرائيل من الناحية الجنائية الدولية عن
حوادث الاغتيال والتصفية؛ ففي اتفاقية جنيف أيار 1989م تحظر الحكومات
بموجب هذا القانون جميع عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي،
ولا يجوز التذرع بالحالات الاستثنائية بما في ذلك حالة الحرب أو التهديد بالحرب
أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي أو أية حالة طوارئ عامة أخرى لتسويغ عمليات
الإعدام. كما نصت المادة 136 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م: «تتعهد
الأطراف السامية المتعاقدة بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية
فاعلة على الأشخاص الذين يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة» وإحداها
التصفية الجسدية أو الإعدام خارج نطاق القانون «ويلزم كل طرف بملاحقة
المتهمين وتقديمهم إلى المحاكمة أياً كانت جنسيتهم» .
ومع سقوط ما يزيد عن 57 شهيداً نتيجة سياسة الاغتيالات فقد تراوحت
عمليات الاغتيال الإسرائيلية ما بين إطلاق صواريخ واستخدام الرصاص الحي
والرصاص الثقيل، والسيارات المفخخة، والقنابل الموقوتة، وبعد اندلاع
الانتفاضة وشيوع التسويغات الإسرائيلية في وسائل الإعلام نشرت صحيفة يديعوت
أحرنوت استطلاعاً للرأي بعد عام على هبة الأقصى أكد فيه 71% من المستطلعين
أنهم مع سياسة الاغتيالات، و 73% مع إجراءات ضد السلطة الفلسطينية،
و74 % مع الفصل التام، و44% غيروا آراءهم بالأمة العربية بشكل سلبي
بسبب الانتفاضة، و 58% غيروا آراءهم بالفلسطينيين، و 66% في عرفات،
و37% من العينة أصبحوا أكثر تشدداً، و 63% أكدوا أن الانتفاضة دلت على
استحالة التوصل إلى سلام.
هذا ومع مرور عام على حكومة شارون نادراً ما تخرج قرارات المطبخ
الأمني عن الفكر الصهيوني الرامي إلى القتل والإرهاب، وقد نصت جل القرارات
على المزيد من أعمال تصفية المقاومين الذين يخططون لعمليات مسلحة، والقيام
بمزيد من العمليات الخاصة في المنطقتين «ب» و «ج» وتعزيز محاور الحركة
العسكرية في الأراضي الفلسطينية، وكان أفي بارنز المتحدث باسم الإرهابي
شارون صرح عقب استشهاد محمود أبو هنود أن اغتيال أبو هنود من أبرز
الانتصارات التي حققتها إسرائيل عقب عملية نفذتها المروحيات الإسرائيلية.
الانتفاضة حققت الكثير:
على الرغم من تعالي بعض الأصوات الانهزامية المطالبة بإيقاف الانتفاضة
كونها لم تحقق شيئاً، فإنا نسلط الضوء في هذا السياق على الخسائر الإسرائيلية
التي بالطبع من شأن استمرارها أن تسبب نكبة إلى إسرائيل لن تشهد مثيلها أبداً.
كشفت أغلب المصادر حالة التردي الذي يعيشه الاقتصاد الإسرائيلي من جراء
هبة الأقصى، وقد امتدت هذه الحالة لتشمل كافة فروع الاقتصاد؛ حيث يلاحظ أن
الحركة البشرية لقطعان المستوطنين تتلاشى بعد الثامنة مساء سواء في الأسواق أو
المطاعم وحتى الطرقات الداخلية والخارجية، ولم يحقق النمو الاقتصادي أكثر من
2 5. 2% بعد أن كان 6 8% عام 2000م، كما تراجع الناتج المحلي بنسبة 0.
5% وذلك حسب مكتب الإحصاء المركزي.
أما الصناعة فقد ساد جمود صناعي وأظهرت نتائج استطلاعات أن 41% من
المصانع قلصت إنتاجها، و 35% قلصت من عدد عمالها، وقدرت خسائر
الصناعة بـ 150 مليون شيكل، ولا يختلف الحال في التجارة فقد أكدت معطيات
اتحاد الغرف التجارية أنها ستكون الأدنى منذ عام 1998م، ولن تزيد عن
5. 1 % وهي النسبة الأدنى منذ 12 عاماً، كما تقلص التصدير بنسبة
كبيرة إلى الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى.
أما المستوطنون فهم القطاع الأهم في هذه الخسائر؛ حيث تشير المعطيات
إلى انخفاض بيع الشقق العامة بنسبة 50% مقارنة مع النصف الأول من عام
2000م، كما تواجه عمليات البناء في المستوطنات مشكلة كبيرة بسبب عدم توجه
المقاولين وعمال البناء من غير العرب إلى الضفة وغزة خوفاً على حياتهم، إضافة
إلى عدم إقبال المستوطنين على شراء بيوت جديدة.
ويسجل للانتفاضة أن سرَّعت هجرة المستوطنين من الضفة والقطاع إلى
داخل ما يسمى الخط الأخضر «المناطق المحتلة عام 1948م» ، وتؤكد مصادر
غير إسرائيلية أن أكثر من مليون مستوطن هاجروا إلى أوروبا الغربية وروسيا
والولايات المتحدة وكندا، وللتغلب على هذه الظاهرة تحاول بعض العائلات المتدينة
أن تنتقل وتعمل على افتتاح مدرسة دينية، كما عمد الجيش إلى استئجار بيوت
المستوطنات من أجل استخدامها قواعد عسكرية، وقد شكل المستوطنون عبئاً على
الموازنة الإسرائيلية؛ فقد خصصت الحكومة الصهيونية مليار دولار لتحصين
المستوطنات من أسوار وبوابات إلكترونية وأسياج مكهربة، وتزويد سيارات
المستوطنين بوسائل لطلب النجدة في حال التعرض للخطر وزجاج واقٍ من
الرصاص، ومع تدهور الوضع الأمني داخل المناطق المحتلة عام 1948م أعلن
وزير الشؤون الاجتماعية شالومو بن عيزري ارتفاع معدلات البطالة شهراً بعد
شهر، وارتفعت نسبة البطالة حالياً إلى 9%، كما ذكرت شركة الطيران
الإسرائيلي أن أرباح شركة العال في الفترة 2001م تبلغ 500 مليون دولار،
والنفقات 40 مليون دولار وكانت خسائر الأرباح 150 مليون دولار؛ حيث بلغت
نفقات الإنتاج 12 مليون دولار، وانخفضت نسبة الزوار إلى 60% عن معدلاتها
السابقة لعام 1999م، وأمام هذه الخسائر لا تنسى إسرائيل تزايد عدد القتلى ومقتل
أول شخصية بدرجة وزير هو رحبعام زئيفي خلال هبة الأقصى.
مكاسب الانتفاضة:
بعد صعود شارون إلى سدة الحكم في إسرائيل أعلن عبر وسائل الإعلام كافة
أنه سيقضي على الانتفاضة في 100 يوم، واستمرت الانتفاضة حتى الساعة،
وأخفقت خطة (جهنم المتدحرجة) للقضاء على هبة الأقصى.
وأمام ما سبق من استعراض آثار الحصار على الشعب الفلسطيني والهزائم
المتلاحقة التي مني بها شارون والدولة العبرية لا بد من استعراض المكاسب التي
حققتها الانتفاضة عبر رفضها المشروع السلمي الرامي إلى إجهاض حق العودة
وتجاهل المسجد الأقصى.
ساهمت هبة الأقصى في إحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله، والتفاف الناس
حول القيادات الإسلامية، وتوحيد الشعب الفلسطيني ضد قطعان المستوطنين وجنود
الاحتلال عبر الاشتباكات اليومية، وفي خلق نوع من التعبير المشترك بين المناطق
المحتلة 1948م والأراضي الفلسطينية التابعة للسلطة الفلسطينية بعد استشهاد 13
عربي من سكان المناطق المحتلة عام 1948م، كما أسقطت الانتفاضة مشاريع
التسوية التي قدمها باراك في كامب ديفيد، ويحاول أن يسوق شارون بعضها عبر
خطة تينت أو ميتشل وأصبحت إسرائيل أمام خيار واحد ألا وهو استمرار المقاومة
خياراً شعبياً أو تقديم الحل العادل الذي تسعى له هبة الأقصى والرامي إلى دولة
فلسطينية والقدس عاصمة لها، وعودة اللاجئين، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية.
كما سببت الانتفاضة خسائر دبلوماسية وسياسية وإعلامية؛ فقد سحبت الأردن
ومصر سفيريهما، وأغلقت المكاتب الإسرائيلية في دول عربية، وتصاعدت
دعوات المقاطعة العربية مرة أخرى لإسرائيل.
وعلى الصعيد العربي أصبحت الانتفاضة هي الحدث الشعبي والرسمي الأهم
رغم عدم إعطائها كافة الاهتمام من كل المستويات الرسمية العربية؛ إلا أن
تصدرها القمم العربية الطارئة في القاهرة والدورية في عمان والدورة في مارس
2002م في بيروت يشكل أهم إنجازات سياسية حققتها الانتفاضة بعد سياسة
التجاهل التي تعرضت لها القضية الفلسطينية. ودولياً فبعد مؤتمر دوربان أصبح
العالم ساحة لاستعراضات هبة الأقصى.
ومن الناحية الأمنية على إسرائيل، فقد زعزعت الانتفاضة نظرية وثوابت
الأمن الإسرائيلي بانشغال الجيش الإسرائيلي في حرب مع رماة الحجارة وحراسة
مداخل قرى ومدن وحصار خانق على الشعب.
ساهمت الانتفاضة في إبراز تناقضات المجتمع الإسرائيلي وظهور العديد من
الأسئلة التي كان المجتمع يحاول إخفاءها عبر توجيهه الصراع إلى الخارج ومن
المقالات التي ظهرت في الصحف العبرية كتبت ياعيل غفيرنس في يديعوت
أحرنوت مقالات طالبت بوقفة مع الذات، وقالت: حان وقت استفاقة المجتمع
الإسرائيلي من حالة الذهول الخاضع لها منذ سنتين، حان وقت الاستفاقة من خيبة
الأمل والكبت والشلل والصمت والاندماج في حساب النفس الذي يجريه العالم،
وعدم الانقياد وراء ماضيه فقط بل وراء مستقبله كذلك، كما ظهرت مقالات أخرى
في ذات الصحيفة تؤكد على صعود عسكرة المجتمع وتآكل المجتمع المدني نتيجة
تضخم القوى الأمنية والعسكرية.
وفي خطوة جديدة أعلن 52 جندياً وضابط احتياط في جيش الدفاع الإسرائيلي
رفضهم أداء الخدمة والمشاركة في قمع الفلسطينيين.
وإجمالاً فإن الانتفاضة أحدثت هزة في الكيان الصهيوني، وزلزلت المنطقة التي
أفاقت على وقائع جديدة.
السلام المستحيل:
يقول ابن جوريون رئيس وزراء إسرائيل إبان فترة إعلان الكيان الصهيوني:
«إن السلام والاتفاق الشامل هو بلا شك أمر مستبعد، ويأتي السلام بعد أن يدب
اليأس الكامل في نفوس العرب ذلك اليأس الذي يأتي ليس من إخفاق الاضطرابات
ولكن من تنامي قوتنا في هذا البلد، عندها يمكن للعرب أن يذعنوا لوجود إسرائيل
اليهودية» .
وقال مناحيم بيجن أحد مجرمي الحرب الصهيونيين عام 1948م في بيان
لمقاتلي الجماعات السرية عقب قرار تقسيم فلسطين: «إن تقسيم فلسطين غير
شرعي ولن نقبل به أبداً، والقدس كانت وستظل عاصمتنا إلى الأبد، وإسرائيل
الكبرى سوف تعود إلى شعب إسرائيل كل إسرائيل» .
تأتي استحالة التوصل إلى سلام على الأقل في المرحلة الراهنة ليس بسبب
الظرف الموضوعي والمتمثل في ميل المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف بل
من عزم أرئيل شارون على إسقاط ياسر عرفات ومنعه من الخروج، ويصرح
بوقاحة غريبة مع استمرار خطة القتل اليومي والاغتيال المنظم والعشوائي أن على
عرفات البقاء في أراضي السلطة والقيام بالنشاطات المتعلقة بمحاربة الإرهاب
والزج بالإرهابيين في السجون وجمع الأسلحة.
ومع استمرار الخسائر داخل إسرائيل وخاصة ارتفاع عدد القتلى مقارنة
بالانتفاضة الأولى ومقارنة بالقتلى الإسرائيليين في جنوب لبنان تميل كفة المجتمع
الإسرائيلي المتأرجح ما بين الحرب والسلم إلى معارضة إعادة احتلال الضفة
الغربية؛ حيث أفاد 58% أنهم يعارضون أن تساهم إسرائيل في انهيار السلطة وأيد
المساهمة في انهيار السلطة 38% منهم.
وإبان ظهور خطة شمعون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي مع أحمد قريع
رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني للسلام والتي لم ينظر لها شارون فقد أيد 61%
وقف إطلاق نار خلال ستة أسابيع، وإقامة دولة فلسطينية على 42% من
الأراضي الفلسطينية، وعارض 33% ذلك.
أما المجتمع الفلسطيني والذي يمنى كل يوم بالمزيد من الخسائر، فقد أكد
70 % منه أنه مع استمرار هبة الأقصى و 17% يعارضون استمرارها، و 54%
مع أشكال شعبية وعسكرية للانتفاضة، و 15% الشكل الشعبي فقط، وأيد
18% الشكل العسكري فقط للانتفاضة.
وختاماً ومع استمرار إظهار الأحداث أن السلام وإن نجحت خطط الفصل لن
يجدي؛ ولا يبقى إلا التأكيد على أن السلام النهائي بالمفهوم الإسرائيلي لن يتحقق
إلا بتحقيق كامل المشروع الصهيوني، فشارون يقود هيئة أركان وليس دولة
وحكومة تسعى للسلام؛ فالحقائق الموجودة على الأرض الفلسطينية حالياً لا تنذر
بفتح صفحة جديدة بعد إخفاق خيار التسوية الراهن.
__________
(*) كل البيانات الواردة حول الحصار الإسرائيلي تغطي الفترة من (28 / 6 /1421 هـ الموافق 28 / 9 /2000 م) .(172/104)
المسلمون والعالم
السهم الدرزي في ظهر العرب
أمير سعيد [*]
بعمائمهم التي تشبه عمائم الأزهريين يبدو شيوخ الطائفة الدرزية كما لو كانوا
من علماء المسلمين، ولربما تحدث وجهاؤهم بلسان مسلم، أو حاكوا المسلمين في
بعض مفرداتهم: (لا فضل لدرزي على سني إلا بالنضال! ! أخذاً بقول الرسول
صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» ) مثلما قال
سميح القاسم الشاعر الفلسطيني الدرزي.
بيد أن المخابر لا تبديها المظاهر، وإنما تكشفها العقائد والأصول والمواقف.
والحق أن هذه الطائفة بعيدة النجعة عن طريق الإسلام والمسلمين؛ فالدين غير
الدين، والولاءات متعارضة، والمواقف السياسية متباينة.
وإذ يعتري بعض المسلمين العجب وهم يظنون أن الدروز هم إحدى فرق
المسلمين، وأنهم وإن اختلفوا عن السنة إلا أنهم لا يخرجون عن دائرة الإسلام
والمسلمين، وهم يشاهدون درزياً (صالح طريف) وزيراً بلا وزارة في حكومة
شارون، ويعجبون كذلك وهم يرون العديد من شباب الطائفة ورجالها يخدمون في
الجيش الإسرائيلي ويصوبون رصاصهم في قلوب (إخوانهم من العرب
الفلسطينيين) .
إلا أن هذا العجب سرعان ما يتبدد حينما يستبين لهؤلاء حقيقة القوم، وحين
نجلِّي عن الدروز حجاب الإسلام عبر هذه السطور فنستطيع وقتها أن نراهم عن
كثب على حقيقتهم التي ربما تخفى على العديد من المسلمين.
تعريف الدروز ونشأتهم:
هم فرقة باطنية تقترب عقيدتها من عقيدة الإسماعيلية تخفي عقيدتها عن
الناس، وقد نشأت إبان حكم الطاغية الحاكم بأمر الله الفاطمي (408 هـ) على يد
محمد ابن إسماعيل الدرزي (بنشتكين) الذي تسرَّع في إعلان ألوهية الحاكم بأمر
الله مما أثار المسلمين ضده في مصر، فاضطر للفرار إلى الشام؛ وهناك دعا إلى
مذهبه فاستجاب له بعض الناس فأسس الفرقة الدرزية التي ارتبط اسمها باسمه،
على الرغم من أن الدروز يلعنونه لتسرعه ويلقبونه بالغطريس الذي تغطرس في
الكلام دون علم أو يقين، ويفضلون اسم الموحدين على الدروز؛ غير أنهم لا
ينكرونه، والدروز عرب خُلَّص من قبيلتي لخم وتنوخ وليسوا أكراداً كما يظن
بعض من الناس.
عقيدتهم:
- يعتقدون بألوهية الحاكم بأمر الله، ويعتقدون بغيبته ورجوعه.
- ينكرون جميع أحكام الإسلام من صلاة وحج وصيام وتحريم للميتة والخمر.
- يزعمون أن شريعة محمد بن إسماعيل نسخت شريعة محمد بن عبد الله.
- يؤمنون بالتقية.
- لا يؤمنون بجنة ولا بنار؛ وإنما يؤمنون بتناسخ الأرواح.
- يبغضون جميع أهل الديانات الأخرى لا سيما المسلمون، ويستبيحون
دماءهم وأموالهم.
- لا يؤمنون بالأنبياء سوى أنبيائهم المزعومين.
- لا يتلقى الدرزي عقيدته إلا إذا بلغ الأربعين.
طبقات الدروز:
الناس في الطائفة الدرزية طبقتان:
أ - الروحانيون: وهم أهل العلم من الطائفة العالمون بأسرارهم، وينقسمون
إلى: (شيوخ عقل) : وهم كبار علمائهم، و (أجاويد) : وهم بمثابة طلاب العلم
عند أهل السنة.
ب - الجثمانيون: وهم عامة الطائفة المعنيون بأمور الدنيا من أمراء وعامة.
الخريطة الدرزية في العالم:
يبلغ عدد أبناء الطائفة الدرزية في العالم نحو 250 ألف درزي؛ منهم 120
ألف في فلسطين، و 90 ألف في لبنان، و 17 ألف في الجولان السورية (جميع
سكان الجولان المحتلة) ، والباقي في أنحاء سوريا وأستراليا والبرازيل.
وللدروز في فلسطين ولبنان وسوريا شأن وتميز واضح.
ففي فلسطين: لا يخفى على ذي عينين وجود تأثير يهودي عميق في نشأة
معظم الفرق التي مرقت من الإسلام، وليس سراً أن الحاكم بأمر الله أبا علي
المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي إله الدروز كانت له ميول
يهودية، والفرقة الإسماعيلية التي انبثقت عنها الدرزية إنما ولدت أفكارها من رحم
يهودية، وليس غريباً أن يحن الفرع إلى الأصل، وأن يحدث نوع في توافق
الأفكار وتلاقي المصالح بين اليهود والدروز، وعليه فإن من أولويات الكيان
الصهيوني فور إنشائه في العام 1948م كان انتقاء الدروز من بين العرب وتمييزهم
عنهم واحتواؤهم أو على الأقل تحييدهم. وفي المقابل رأى دروز فلسطين دولة
اليهود فرصة للعب على التناقضات بين المسلمين واليهود خروجاً بأعلى مكسب
يمكن أن تحققه أقلية لا تزيد عن 250 ألف بين عرب يزيد تعدادهم عن 250
مليون (1%) .
بدأت الاتصالات مبكراً بين نشطاء الحركة الصهيونية والدروز، منذ عام
1930م وخلال هذا وقَّع معظم زعماء الدروز على البيان الذي يعلن أن موقف
الطائفة الدرزية من (النزاع اليهودي الفلسطيني) هو موقف محايد، وفي عام
1948م أنشأ الكيان الصهيوني وحدة الأقليات في الجيش الإسرائيلي، وحاول
تهميش دور المتحفظين من كبار العائلات الدرزية، إلا أن هؤلاء سرعان ما لحقوا
بركب المتعاونين مع اليهود، وسمحوا للدروز بالانخراط في جميع مؤسسات الدولة
الوليدة في مقابل الاعتراف في الوقت المناسب بالطائفة الدرزية طائفة مستقلة لها
محاكمها الخاصة وتنظيمها الديني المستقل. ومن أكبر العائلات الدرزية التي
احتوتها الحركة الصهيونية عائلة طريف التي ينتمي إليها أول وزير عربي في
حكومة إسرائيلية (صالح طريف وزير عمالي بلا وزارة في حكومة شارون) .
وإلى جانب اهتمام (إسرائيل) المبكر باحتواء الدروز سياسياً عبر تميزهم
عن بقية العرب واستيعاب ساستهم ضمن منظومة «إسرائيل» الحزبية؛ انصرف
جل اهتمام اليهود إلى تحقيق أقصى استفادة عسكرية من وجود الدروز على أرضهم
المزعومة وتوافر النية لدى الأخيرين بالتعاون اللامحدود مع الكيان الصهيوني.
ويعتبر الرئيس «الإسرائيلي» الأسبق إسحاق تسقي أبرز المسؤولين الذين اهتموا
بقضية الدروز؛ حيث أكد في خطاب شهير له أمام الكنيست أن تجنيد الدروز يعتبر
أمراً حيوياً حتى يتحولوا لسكين حاد ينغرز دائماً في ظهر العرب، مما دفع
«إسرائيل» إلى إنشاء وحدة خاصة بالجيش هي وحدة الأقليات؛ وتكلف تلك
الوحدة بالقيام بالعمليات العسكرية داخل الدول العربية وخارجها.
ويبلغ عدد الدروز حالياً في الجيش قرابة 19000 مجند موزعين على نقاط
التماس مع العرب (جنوب لبنان - الضفة - غزة) كدروع بشرية لليهود،
وموزعين كذلك على الوحدات الخاصة مثل وحدات المستعربين (الدوفدفان) والتي
تعنى باغتيال واختطاف ناشطي جماعات المقاومة الفلسطينية، والتي كان لها دور
مخز كبير في اقتحام باحة المسجد الأقصى أواخر شهر يوليو الماضي (أكثر من
400 مستعرب شاركوا في الهجوم التتري على الأقصى) ، بجانب انخراط عدد
كبير منهم في أجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» المختلفة نظراً لصعوبة تمييزهم
عن بقية العرب من حيث الشكل واللغة (مثل الجاسوس المسجون في مصر
عزام عزام) .
وما يزال وضع العسكريين الدروز في تصاعد، وتتزايد حاجة الجيش
(الإسرائيلي) واطمئنانه لهم مع الأيام، ويتأكد ذلك كلما أبلى هؤلاء آثاماً في حرب
اليهود ضد الفلسطينيين. وفي الانتفاضة الحالية تم مكافأة الدروز بترقية أحد
ضباطهم وهو يوسف مشلب لرتبة جنرال خلال يونيو الماضي، وهي أعلى رتبة
يصل إليها ضابط درزي.
اقتصادياً: اندمج الدروز في الاقتصاد «الإسرائيلي» حسب نموذج يختلف
عن نموذج بقية العرب أو اليهود؛ فما يقرب من 50% من قوة العمل بين الرجال
الدروز مندمجون في قطاعات لا يَقبل اليهود العمل فيها، ولا يُقبل العرب المسلمون
بها، 40% يشتغلون في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المختلفة، 10% يعملون
في مصانع البتروكيماويات والموانئ وغيرها من الأماكن الحيوية (ربما في
الأعمال الوضيعة فيها فحسب) .
وفي لبنان: كما في فلسطين تتحكم عائلات محدودة ذات الثراء والصيت
والمنعة في إدارة الشأن الدرزي اللبناني مثل عائلة جنبلاط (ينتمي إليها زعيم
الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني الحالي والسابق وليد وكمال جنبلاط) ، وعائلة
أرسلان (ينتمي إليها دماً فقط المجدد المسلم السني الأمير شكيب أرسلان سفير
الإسلام في العالم) ، وعائلة الأطرش (ينتمي إليها المغني فريد الأطرش وأخته
الجاسوسة أسمهان التي لقيت حتفها في حادث استخباري غامض) .
العائلة الثالثة ذات تأثير محدود الآن بين الدروز.
العائلة الثانية تميل إلى مسايرة الدولة والمحافظة على المكتسبات الدرزية.
أما العائلة الأولى فلها اليد الطولى في توجيه السياسة الدرزية، ولقد قام
زعيماها بإدارة دفة السفينة الدرزية باقتدار مما جعلهما قمينين بأن تسلط الأضواء
عليهما:
أراد كمال جنبلاط أن يجد للدروز ولزعامته المدى العربي ومكانة لبنانية تفوق
حصة حجمهم العددي، ومن أجل أن يصبح لامعاً قرر أن يكون معارضاً، فأنشأ في
أواخر الأربعينيات الحزب التقدمي الاشتراكي، وتبنى منذئذ قضايا الفقراء كعادة
الاشتراكيين واستفاد بذلك من القاعدة الفقيرة غير الدرزية في مد شعبيته وصقل
زعامته، حتى إذا كانت الحرب اللبنانية كان جنبلاط قد أصبح رقماً من أرقام
المعادلة اللبنانية الصعبة، وانضم إليه العديد من القوى الفلسطينية والشيعية
واليسارية إلى أن قُتل عام 1976م، وقد تولى بعده ابنه وليد زعامة الحزب
والطائفة، وفي الحرب استطاع أن يدحر الموارنة (المسيحيين) عن مناطق
الدروز بالتعاون مع قوات أمل الشيعية وبدعم سوري واضح.
وحين وضعت الحرب أوزارها شط الدرزي الأول في مطلب في اتفاق
الطائف برئاسة رابعة للدروز (يتكون نظام الحكم اللبناني من ثلاث رئاسات:
رئاسة الدولة للمسيحيين، ورئاسة الحكومة للسنة، ورئاسة البرلمان للشيعة)
ورفضه السوريون والسعوديون، وعليه فقد بدأ جنبلاط في التحول من موالاة
سوريا إلى الحياد معها أثناء الرئاسة القوية لحافظ الأسد، ثم التحول إلى مجاهرة
سوريا بضرورة كف يدها عن التدخل في لبنان عندما شعر بضعف الرئيس
السوري الشاب بشار الأسد، مع تقربه في الوقت نفسه إلى القوى المسيحية
المطالبة برحيل السوريين (البطريرك صفير، ورئيس الحكومة السابقة العماد
ميشيل عون) ؛ مما حدا بوزير الدفاع السوري العماد مصطفى طلاس إلى لمزه من
قناة قائلاً: نحن صنعناهما (صفير وجنبلاط) وها هما ينقلبان علينا.
ويستمر الحرباء السياسية في تقلباته ليحقق فوزاً (تحالفياً) بارزاً في
الانتخابات الدرزية الأخيرة، ويخطو خطوة واسعة في طريق الدولة الدرزية التي
يطمح إليها الدروز بالشوف في لبنان استناداً إلى مشروع غربي تمنيهم به فرنسا
بمساعدة «إسرائيلية» .
أما في سوريا: فلعل أبرز تأثير للدروز هو في مواطنيها المقيمين في
الجولان السوري المحتل الذين يمثلون نحو 17 ألف درزي سوري هم جميع قاطني
الجولان، ويعد ولاء الدروز المذبذب بين «إسرائيل» وسوريا أكبر معضلة
لسوريا في مفاوضاتها المترنحة مع الكيان الصهيوني، وما من شك في أن الدروز
سيخذلون السوريين حينما يطلب منهم موقف انحيازي حاسم، وقد بدت أعراض
ذلك الخذلان في فبراير قبل الماضي حينما طلبت حوالي 300 أسرة درزية تعيش
في هضبة الجولان، من الحكومة «الإسرائيلية» ضمانات بأنها ستستمر في
العيش تحت الحكم «الإسرائيلي» إذا تمت إعادة هذه المرتفعات السورية، وقد
قالت الإذاعة «الإسرائيلية» وقتها إن هؤلاء الدروز الذين حصلوا على الجنسية
الإسرائيلية قد طالبوا نائب وزير الدفاع «الإسرائيلي» مساعدتهم في تكاليف
الرحيل وتقديم تعويضات لهم عن أي ممتلكات سيتخلون عنها، مشيرة إلى نية
العشرات منهم إقامة دعاوى قضائية ضد الحكومة «الإسرائيلية» مفضلين البقاء
في كنف «إسرائيل» على العودة لسوريا! !
ماذا يجري الآن في الشام؟
تشهد منطقة الشام اليوم مرحلة مخاض جديدة تتبدل فيها الولاءات وتتغير فيها
التحالفات، والطائفة الدرزية فيها بأقطابها البارزة: زعيم الحزب التقدمي
الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط، والوزير بلا وزارة في حكومة شارون صالح
طريف، والنائب في الكنيست (الإسرائيلي) عزمي بشارة، يقومون بأدوارهم
المتباينة التي تصب جميعها في المصلحة الدرزية العليا التي تقوم على إجادة اللعب
على كل الحبال، والاتكاء دوماً على الطرف الرابح، ولربما ظهر للمشاهد تعارض
واضح بين مواقف هؤلاء، إلا أن المتأمل سيلحظ حتماً إدارة ذكية للأحداث بما يفيد
الطائفة بشكل جيد.
فوليد جنبلاط قد فطن جيداً للتغيرات الأمنية في منطقة الشام: فتولي شارون
وصعود السفاحين لسدة الحكم في إسرائيل، وتولي بشار الأسد الذي رغم كفاءته
النسبية لا يملك حنكة والده في حكم سوريا ولبنان معاً، وتنامي نفوذ العسكريين
السوريين واللبنانيين في لبنان، وفقدان الرئيس اللبناني إميل لحود الموالي لسوريا
لنفوذه بين النصارى الموارنة، وصعود نجم البطريرك صفير الموالي لفرنسا في
بكركي، والرغبة القوية لدى واشنطن وباريس لتقليم أظفار الشيعة الإمامية
المتمثلة بحركة أمل بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري، وحزب الله بزعامة حسن
نصر الله الموالية لسوريا وإيران، وتجدد ضغط تيار القائد السابق للجيش اللبناني
ميشيل عون الموالي قلباً وقالباً لفرنسا (دولة الاحتلال السابقة للبنان) باتجاه
المطالبة برحيل القوات السورية من لبنان؛ حيث يصف عون وتياره وجودها بـ
(الاحتلال السوري للبنان) ، والرغبة الجموح لدى رئيس الوزراء اللبناني (الزعيم
السياسي للسنة) الملياردير رفيق الحريري بتحرير لبنان من ربقة التبعية لسوريا
عسكرياً واقتصادياً.
كل هذه العوامل التي فطن إليها جنبلاط دفعته إلى الآتي:
1 - طرح نفسه زعيماً درزياً في الشام كله عبر إطلاق دعوته لرفض الدروز
للتجنيد في صفوف جيش الكيان الصهيوني (8% من الشباب الدرزي في فلسطين
المحتلة يخدمون في الجيش الصهيوني) ، وتبنيه لمؤتمر التواصل القومي بعمان
الذي عقد قبل شهور للدعوة لرفض الانخراط في الجيش (الإسرائيلي) ، والذي
استقبل فيه جنبلاط لدى انعقاد المؤتمر استقبال الأبطال، وكان جنبلاط قد اجتمع
سراً بممثلي دروز (إسرائيل) في عمان قبل المؤتمر برعاية المفكر الدرزي البارز
النائب بالكنيست (الإسرائيلي) عزمي بشارة (الذي واجه تحقيقاً «إسرائيلياً»
تبعاً لذلك لإطاحته من الكنيست) من أجل توحيد الصف.
2 - اقترابه من رئيس الحكومة السني رفيق الحريري، ومحاولته تشكيل
جبهة ثلاثية معه ومع الموارنة (68 عضواً البرلمان اللبناني) ، بعد أن أذاب
الجليد مع الموارنة بعد زيارة البطريرك صفير للجبل، وشكل معهم ثنائية على
أنقاض ثنائية (المارون الشيعة الإمامية) التي لا يرضى عنها الأمريكيون
والفرنسيون والإسرائيليون، ولا سيما بعد أن نجح حزب الله في بسط سلطته
وشعبيته في الجنوب اللبناني، ورفض هؤلاء لنشوء دولة شيعية ترعاها إيران
في الجنوب.
3 - مد بعض الجسور مع دمشق مجدداً بعد رفضه لاعتقالاتها للمعارضة
اللبنانية النصرانية الموجودة هناك، وذلك عبر عزمي بشارة أيضاً.
وصالح طريف من جهته، قد أظهر ولاءً منقطع النظير نحو (إسرائيل) ؛
مما حدا بسلطتها إلى محاولة تلميعه ليتبوأ زعامة مجلس عالمي للدروز تزمع
(إسرائيل) إنشاءه وتوجيه دعم مالي كبير له؛ ليضطلع بدوره الجدي لتوحيد الدروز
في العالم تحت إمرة الدروز (الإسرائيليين) الموالين للكيان الصهيوني.
الطلاق الدرزي:
يطيب لبعض الكتاب تجسيم مواقف الدروز من قضايا الأمة المصيرية على
أنها مواقف تنم عن خيانة للأمتين العربية والإسلامية، وإذا كنا نوافق هؤلاء على
أن مواقف الدروز هي خيانة علنية للعرب والعروبة باعتبارهم من القبائل العربية
الأصيلة، إلا أننا لا نشاطرهم الرأي فيما يخص الإسلام؛ فالدروز لا يعدون
طابوراً «إسلامياً» خامساً؛ لأنهم بكل وضوح ليسوا بمسلمين وقد طلقوا انتماءهم
للإسلام طلاقاً درزياً (لا رجعة فيه) منذ مرقوا من الدين حين أنشؤوا دينهم عام
407 هـ، وليس في القول جرأة، بل هذا الكلام قد قال نظيره شيخ الإسلام ابن
تيمية حين سئل عن الدروز فأجاب: «هؤلاء الدروز كفار باتفاق المسلمين لا يحل
أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم بل ولا يقرون بالجزية؛ فإنهم مرتدُّون عن الإسلام
ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى وإن أظهروا الشهادتين وهم من القرامطة
الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب» [1] ، وقال أيضاً
عن الدروز: «كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون؛ بل من شك في كفرهم
فهو كافر مثلهم؛ فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم» [2] .
وعطفاً على ما قال شيخ الإسلام، فإن هؤلاء حقاً باطنيون يظهرون ما لا
يبطنون، ومن تتخلف عنه هذه المسلَّمة يهوله التناقض الرهيب في مواقف الدروز؛
فكما تقدم رأينا حرباء لبنان كم يتقلب بأطياف السياسة اللبنانية، وكيف يتأرجح
الجولانيون بين اليهود والعرب، وكيف يحاول دروز فلسطين تارة ارتداء مسوح
المقهورين على خدمة «إسرائيل» ، وتارة يتبخترون بلباس الجندية الإسرائيلية.
وأخيراً نسوق ذلك الموقف الطريف من صالح طريف الوزير الشاروني:
حين أجرى التلفزيون الفلسطيني في يناير الماضي مقابلة مع ذلك الدرزي عضو
اللجنة المركزية في حزب العمل قبل توزيره وأثناء الانتخابات قال: إن زيارة
شارون للحرم القدسي الشريف كانت تدنيساً للحرم، وأنه يأسف؛ لأن الدروز
يخدمون في الجيش «الإسرائيلي» ويحاربون إخوتهم، وأنه إذا لم تضع
«إسرائيل» حداً للنزاع بإقامة دولة فلسطينية، فلن يكون أمام الطائفة العربية
الدرزية بد سوى إعادة ترتيب أوراقها، وتبني موقف شجاع مهما كلف الثمن.
وعندما تم اختياره وزيراً في التشكيلة الشارونية ونشرت صحيفة يديعوت
أحرونوت «الإسرائيلية» مقتطفات من الحوار السابق متهمة إياه بالنفاق سارع
طريف على الفور بالاتصال بالإذاعة «الإسرائيلية» طالباً بصفته وزيراً إجراء
حوار معه، وفي الحوار قال إنه أدلى بأقواله للتلفزيون الفلسطيني ليقنع الفلسطينيين
بالتصويت لمصلحة باراك، وأضاف: لقد حصل لي ما يحصل لآخرين يتفوهون
بتصريحات خلال معركة انتخابية ثم يندمون عليها، ولو سئلت اليوم السؤال نفسه
لما قلت إن شارون دنس الأقصى بزيارته.
وعندما سأله المذيع عما إذا كان يتخبط بين تعاطفه مع الفلسطينيين وتضامنه
مع «الإسرائيليين» قال: «يبدو أنك نسيت أنني كنت جزءاً من معركة الدفاع
عن دولة» إسرائيل «مدة ثماني سنوات ضابطاً في الجيش، ولم أخجل ذات مرة
من القول إنني خدمت في الجيش» الإسرائيلي «، وإنني على استعداد لإرسال
أبنائي إلى الجيش للدفاع عن الدولة، حتى إذا تعرضت حياتهم للخطر؛ فأقاربي
جميعاً يخدمون في الجيش» !
لا عجب يا طريف! فقد أحسنت حين جسَّدت لنا الطبيعة الدرزية التي
أُشربت عقيدة التقية، واتخذت الباطنية ديناً.
__________
(*) صحفي مصري.
(1) مجموع الفتاوى، ج 35، ص 161.
(2) مجموع الفتاوى، ج 35، ص 162.(172/114)
المسلمون والعالم
لماذا لا يحتفل المسلمون عام 2000م
بإخفاق أشرس غارة صليبية على أفقر بقاع الإسلام؟ !
موسى شداد الطارقي [*]
منذ قرابة ثلث قرن أعدت المجامع الكنسية العالمية برئاسة الفاتيكان خطة
مدروسة لتنصير مسلمي القارة الإفريقية مع حلول عام 2000 م.
ولقد أعد لهذه الغارة الصليبية من الإمكانيات المادية والمعنوية ما لا عين رأت،
ولا أذن سمعت.
وعلى سبيل المثال لا الحصر خصصت لها ميزانية مالية قاربت 200 مليار
دولار، أما المنصرون الأجانب والمحليون فلا تسل عن أعدادهم. كما أن الأجهزة
والوسائل السمعية والمرئية والأرضية والجوية فحدث عنها ولا حرج.
كان المخططون والمنفذون يُقْسِمون بأربابهم ولا يستثنون على أنهم سينصِّرون
القارة الفقيرة عامة ومسلميها خاصة مع حلول عام 2000 م، وجاء الموعد وبدأ
الغزاة يطوون أوراق وملفات غارتهم المترنحة.
وكانت الخسائر المادية مذهلة بحق؛ يعترف بذلك قادة الحركة ومخططو
الغارة جهاراً ووراء الكواليس. نعم لم يجن المنصِّرون من تلك المليارات الكثيرة
والأجهزة العديدة سوى خيبة الآمال وضياع الجهود وخسارة الأموال.
ونعتقد أنه لولا سياسة النفس الطويل التي يتبعها المنصِّرون في غارتهم على
العالم الإسلامي، وكثرة إمكانياتهم المادية، والتأييد والدعم الكبير الذي يجدونه لدى
الأنظمة الحاكمة هنا وهناك لما فكروا في العودة إلى هذه القارة التي ظنوها لقمة
سائغة فإذا هي غصة قاتلة.
حقائق ملموسة عن إخفاق الغارة:
المراقبون لهذه الغارة يعترفون بأن تكاليف تنصير مسلمي إفريقيا يكلف
المنصرين مئات الملايين إن لم يكن قرابة مليار، وعلى من يشك في هذه الحسابات
مراجعة الميزانيات التي خصصت لكافة الهيئات التنصيرية والعاملة تحت إدارتها
في صحراء مالي فقط أي في الأقاليم الشمالية من مالي (كيدال، تمبكتو، وغاوو)
من بداية الغارة عام 1973م إلى عام 2000م، وعند معرفة المبالغ المصروفة
في تلك المدة والمقارنة بينها وبين عدد المرتدين من الطوارق (البيض والسود)
في الأقاليم الثلاثة المذكورة والتي تعرضت للغارة أكثر من غيرها في عموم دولة
مالي عند ذلك يدرك المرء أن تنصير فرد واحد يكلف مبالغ
ضخمة جداً.
أما أنا ابن المنطقة فأستطيع أن أؤكد للقارئ الكريم أن عدد المرتدين من
الطوارق البيض فقط لا يتجاوز الخمسة. ولكيلا يشك القارئ فإني أضطر إلى ذكر
أسمائهم هنا: زودا أغ دوهو، ومحمد أغ إبراهيم من قبيلة إدنان من تاركينت بين
غاوو وكيدال، وهما الآن يعملان برتبة قساوسة، ثم ظودا من قبيلة إمغاد منكا،
وموسى من قبيلة ذوي إسحاق منكا، والخامس هو حفيد نوتنوت من «كل» تنصر
في غوس، وهو مترجم الإنجيل إلى اللغة الطارقية.
أما الطوارق السود فقد تنصر منهم العشرات في إقليمي «غاوو، وتمبكتو» ،
ومن رؤسائهم «سبدج أغ اليغي» وكان أبوه كاهناً ولا يحسب على الإسلام. أما
إقليم «كيدال» فلم يتنصر منه أحد أبداً، وحاكم المنطقة التقليدي «انتالا أغ
الطاهر» كان على رأس حكام الطوارق الرافضين للحركة التنصيرية في بلاده،
وقد حاول المنصرون بناء كنيسة في بلده «كيدال» عدة مرات في الجمهورية
الأولى والثانية والحاضرة، فرفض رفضاً باتاً بناء كنيسة في بلده.
هذه حقائق واقعية ولا يستطيع أي منصر تفنيدها بحال من الأحوال.
أهم أسباب إخفاق الغارة الصليبية على إفريقيا:
أعتقد أن السبب الأول والأخير هو إرادة الله سبحانه وتعالى الذي حفظ دينه
وعباده من كيد عبّاد الصليب الأقوياء كما حفظهم منهم سابقاً في أزمنة وأمكنة
مختلفة.
بعد هذا أذكر بعض الأسباب البشرية التي كانت مؤثرة بحول الله وقدرته:
أولاً: عراقة الدين الإسلامي في كثير من بقاع القارة وعند العديد من شعوبها
المسلمة.
ثانياً: انتشار الصحوة الإسلامية لدى السود من مسلمي القارة منذ عقود من
الزمن، واستغناء الكثير منهم عن مغريات وجنة المنصرين، وبعبارة أقصر،
وجود نوع من المناعة والحصانة لديهم ماديًا ومنعوياً.
ثالثاً: من الثابت والمشاهد أن النصارى الأفارقة أنفسهم في تناقص مستمر
في ساحل العاج وبوركينا فاسو وغانا وغيرها من دول القارة؛ بسبب اعتناق
الكثير منهم للإسلام، وهجرهم لدين التثليث لمصادمته للعقل في عقيدة التثليث.
رابعاً: المسلمون البيض سكان الصحراء من الطوارق والعرب والفلان لم
تنجح الغارة الشرسة في تنصيرهم رغم الجهود الجبارة التي قامت بها الإرساليات
التنصيرية في أوساطهم مدة عشرات السنين؛ ويرجع السبب إلى عراقة الدين
عندهم، وإن كان قد شاخ الآن وتقوس ظهره ويحتاج إلى التجديد.
خامساً: قيام الحركات والثورات الإفريقية ضد النظم القديمة الحاكمة للقارة؛
مما جعل أكثر الهيئات التنصيرية تلملم أمتعتها هاربة من الموت وتاركة القارة
لأهلها يعيشون فيها بسلام من شرور التنصير في السنوات العشر الأخيرة من القرن
العشرين.
واليوم نسمع من الوسائل السمعية والمرئية والمقروءة الصليبية أن هناك خطة
جديدة تبدأ من عام 2001م إلى عام 2025م أعدت لها المجامع الكنسية برئاسة
الفاتيكان كل الإمكانيات؛ ونقول لهم: [وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ]
(سبأ: 54) .
يعيدون الكرّة بعدما لم يفلحوا في المرات السابقة، وعلينا نحن أن لا نتجاهل
خطر العدو، وأن نواجهه بما يستحق ليهزمه الله كما هزمه سابقاً: [إِن تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) .
من أين جاء الدعم المادي والمعنوي لمسلمي القارة؟
وقف عُبَّاد الصليب جميعاً وراء حملتهم الصليبية الماضية لتنصير مسلمي
أفريقيا مع عجز المسلمين عن دعم إخوانهم؛ فالحق أن نصرتهم لإخوانهم
المستهدفين محدودة ومقصورة على عدد من الأقطار العربية الإسلامية لا يتجاوز
أصابع اليد.
نعم! عدد قليل من الأقطار العربية الإسلامية التي قامت بواجبها الإسلامي
تجاه إخوانهم المنكوبين والمغزوين ممثلة في دعم الدعاة المنتشرين في طول القارة
وعرضها والمنح الدراسية التي تقدمها لأبناء القارة والمساعدات المادية والمعنوية
التي قدمتها لكافة الأنشطة الإسلامية ومن بينها كفالة مئات المدرسين الأفارقة
لتدريس اللغة العربية.
أخي المسلم: لا تصدق أقوال المنصرين!
قد يندهش قراء الصحافة التنصيرية عندما يقرؤون فيها أرقاماً مذهلة عن
أعداد الأفارقة والمسلمين المتنصرين في السنوات الأخيرة من عمر الحملة، وهي
أرقام وهمية لا أساس لها من الصحة والحقيقة التي يجهلها الكثير من المسلمين هو
أن لدى الحركة التنصيرية في كل مكان وسائل عديدة للتنصير: كالتعليم والتطبيب
والأعمال الاجتماعية وغيرها من الوسائل، ولقد استغل المنصِّرون تلك الوسائل في
السنوات الأخيرة أسوأ استغلال لإثبات ترهاتهم وأكاذيبهم التي أرادوا بها التغطية
على الهزيمة الفادحة لغارتهم الصليبية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد أن لوائح أسماء المرضى، والطلاب،
والأساتذة، ونزلاء بيوت الطلبة، ورواد الأندية الرياضية، ودور الضيافة،
وملاجئ المرضى والمنكوبين، ودور اليتامى وغيرها، كل هذه اللوائح ترسل
باستمرار إلى الفاتيكان والمجامع الكنسية في أوروبا وأمريكا على أن ما تحويها قد
أصبح في عداد أهل الصليب، ومن مكاسب الغارة الصليبية. والذي يشهد به
الواقع هنا أن الحقيقة من هذا الادعاء لا تساوي 5%؛ إذ ليس كل من يدخل عيادة
أو مستشفى صليبياً يعلن ارتداده وتنصره، ولا كل من يدرس في مدرسة مسيحية
يصبح مسيحياً ولا كل من لعب الكرة في ملاعب النصارى يصبح نصرانياً. وعلى
هذا نقول لإخواننا البعيدين عن الميدان: لا تقلقوا ولا تصدقوا ما تقوله لكم جرائد
التنصير وإذاعاته؛ فهو أكذب من الشيطان.
ونحن هنا ندرك أن المسلم البعيد عن الميدان يجهل الواقع وقد يتألم أشد الألم
عندما يقرأ تلك اللوائح في الصحافة الصليبية على أنها أسماء إخوانه المسلمين الذين
ضمهم الصليب إلى حظيرته، ونقول لهؤلاء الإخوة في الإسلام: اطمئنوا؛ فالعدو
لم يجن من جهوده الجبارة سوى الخيبة والإخفاق.
لطمة قوية في جبين التنصير الدولي من كف أجوع أمة مسلمة على وجه
الأرض:
منذ عقدين ونيف من الزمن شهد سكان صحراء مالي (غاوو) ظهور أخبث
إرسالية تنصيرية في أفريقيا وتدعى الرؤية العالمية (فزيون مونجيال) ، وقد
ظهرت تلك الإرسالية بثوبها الصليبي الصحيح؛ فهي لا تعرف المداهنة ولا سياسة
احترام مشاعر الناس.. إنها صريحة. وسياستها مبنية على كلمتين لا ثالث لهما:
(تنصر، وخذ) تلك هي سياستها المكشوفة والتي عرفها بها الصغير والكبير
والعاقل والسفيه على حد سواء؛ فكانت من نتيجة تلك السياسة الخاطئة أن سخر
منها الناس وتندروا في مجالسهم بأخبارهم وسفاهتها وتصرفاتها الحمقاء المخالفة
لأدنى قواعد الحكمة والتعقل ... وهذا ما جعلها من أخسر الإرساليات المسيحية
العاملة في الصحراء رغم كونها من أنشطها وأغناها على الإطلاق.
وفي خلال تلك السنة المجدبة الصعبة على أهل الصحراء وبالتحديد في العشر
الأوائل من شهر محرم من عام 1419هـ صممت تلك الإرسالية على استغلال
معاناة المسلمين ودفعهم إلى التنصُّر، والرافض طبعاً سوف يحرم مما يقدمونه من
المساعدات والإغاثات.... وتنفيذاً لخطتها عزمت على إقامة حفلة ليلية لدعوة سكان
البلدة إلى اعتناق دينها وتعليق صلبانها بعيداً عن التعقل والحكمة، وبدون مراعاة
واحترام لمشاعر المسلمين ظناً منها أنها الفرصة التي لا تعوض.. وعندما شعر
عقلاء ووجهاء البلدة من السود والبيض بما عزمت عليه تلك الإرسالية أرسلوا إليها
تحذيراً شديد اللهجة بعدم القيام بدعوة سفهائهم وفقرائهم إلى اعتناق النصرانية في
هذا الظرف العصيب؛ غير أن القساوسة المتهورين تجاهلوا هذا التحذير، وأقاموا
ليلتهم ولم يتركوا عبارة استفزاز إلا قالوها أو فعلوها.
وفي صبيحة الثلاثاء 2/1/1419هـ تحركت الجماهير المسلمة الغاضبة نحو
دار الحاكم الرسمي يتقدمهم العلماء ورؤساء البلدة؛ وعندما قابلوه طلبوا منه إيقاف
تلك الإرسالية عند حدها، ثم عادوا فوجهوا إليها تحذيراً آخر عن طريق الحاكم
غير أنها تجاهلته وضربت به عرض الحائط بدعوى أن لديها أمراً رسمياً يجيز لها
دعوة الناس إلى دينهم متى وأينما شاؤوا.
وفى الليلة التالية عادت لإحياء ليلة أخرى، وأعدت كل الوسائل اللازمة
لتنفيذ الحفل، وبدأ الحفل بأقوال استفزت مشاعر المسلمين، وعندئذ نفد صبر
الجماهير المسلمة، وهجموا على الحفل، وضربوا كل من وقع بين أيديهم من
عمالها، كما كسروا وأحرقوا كنيستها وممتلكاتها، والتجأ بعضهم إلى الحاكم
وبعضهم الآخر هربوا إلى الصحراء؛ لأنهم من المواطنين المرتدين؛ وبهذه الحادثة
سلمت مدينة «منكا» من خطر التنصير في تلك السنة الصعبة.
وهنا نقول لمدينة «منكا» الصحراوية المسلمة الجائعة: مثلك فلتكن المدن
والقرى المسلمة المستهدفة، ولا غرو أن يكون منك ما كان؛ فأنت مدينة أحفاد
يوسف بن تاشفين، وأذكيا محمد، وعاصمة إمارة الأمازغيين الأبطال (إو يلمدن)
سادة الصحراء منذ القرن السادس عشر الميلادي. لا غرو أن يكون منك ما كان؛
فكل من يعرفك يعرف أن على ثراك التقى العز والفقر، والسؤدد والجوع،
والشموخ والبساطة، والإباء والعوز، وعراقة الدين وأصالة التقاليد الراسخة
رسوخ الجبال الشامخات؛ فمن يعرفك يا مدينة فهر بن الأنصار لا يستبعد أن
تعطي درساً في الإباء والشجاعة لكل غاز معتد يريد أن يسلبك عزك ومجدك
الموروث.
أما (فزيون مونجيال) التي استخدمت كافة الوسائل الدنيئة للتغرير بأبناء
وسفهاء وفقراء المسلمين في هذه السنة الصعبة التي لا يصدق من يرى أهالي بلدة
«منكا» خاصة والصحراء عامة بأنهم سيصبحون إن أمسوا ... أو يمسون إن
أصبحوا ... من شدة المعاناة؛ فلتأخذ درساً جراء استفزازها وتحديها لمشاعر
المسلمين، ولتعلم أيضاً من اليوم فصاعداً أن ليس هناك مسلم صحيح العقيدة
والنسب يبيع دينه الإسلامي بعرض من أعراض الدنيا إلا هيان بن بيان.
خلاصة القول أن الإرسالية المسماة (الرؤية العالمية) نالت جزاء تهورها،
وكان الجزاء صفعة قاسية على جبينها من كف أفقر وأجوع أمة مسلمة في القارة
السوداء، وبذلك علمت بأن المسلم الصحيح الإيمان لا يمكن أن يبيع دينه بدنياه ...
وإن كان على الرمق الأخير من الجوع.
__________
(*) داعية من مالي من قبيلة الطوارق، مقيم في الصحراء الكبرى.(172/120)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
أمريكيون أكثر من الأمريكان! !
الكراهية للغرب وحداثته، أو هذه النظرة الإقصائية أو سمها ما شئت غير
مبررة ويصعب تفسير ممارستها بهذه العدوانية والحدة، والإصرار على بقائها
مستعرة في الصدور والنفوس طول الوقت، فالاستعمار قد رحل عنا منذ زمن بعيد،
وقد نسيناه، والقرار الوطني يتخذ بكل حرية واستقلال، مما يجعل من تلك
السياسة غير مبررة حقاً، والتاريخ لا يذكر أن العرب سبق أن مارسوها على هذه
الصورة، وفي ظروف مفهومة ووضع مبرر أيضاً كالاستعمار مثلاً، إذ تكاد تكون
هذه الممارسة غائبة، ولا أقول مغيبة كل أيام الاستعمار الطويلة، فقد ظل يسرح
ويمرح قروناً حتى مل ورحل بكل هدوء، ودون مقاومة تذكر. فالعلاقة مع الآخر
هي، بالطبع، علاقة إنسانية بدهية، قبل كل شيء منحها الإسلام جل احترامه
واهتمامه، وأكد على أتباعه الالتزام بعهودها ومواثيقها المغلظة والمقدسة. أما
مسار التوظيف المشبوه الذي يعمد إليه الخطاب الأصولي المتطرف، فإنه يحقق
أهداف القطع مع العالم والسيطرة على الشعوب الإسلامية، وبناء نظام شمولي
إقصائي على غرار نواتهم وتجربتهم المنهارة في أفغانستان. ليس هذا فحسب، بل
بلغت بهم بشاعة توظيف هذه الآفة العروبية إلى التشكيك في المبادرات الإنسانية
وفي حملات الإغاثة الدولية. ولعلنا نذكر المبادرة الأمريكية لإنقاذ الشعب
الصومالي من هلاك المجاعة والأوبئة، وكيف أفسدنا على الصوماليين هذه الفرصة
حينما مارسنا آفتنا، وقمنا بمطاردة الأمريكيين وشككنا بحضورهم، ولا أحد ينسى
تلك الصورة البشعة، والتي تابعها العالم عبر وسائل الإعلام، وتابعها الشعب
الأمريكي، وهو يرى أمريكيين مكبلين بالحبال ومشدودين إلى عربات تجرهم
وتسحلهم عبر شوارع مقديشو حتى تمزقت أجسادهم إرباً، وكل ذنبهم إنهم بادروا
إلى مساعدة من كانوا يعتقدون أنهم بحاجة إلى مساعدتهم، إنه حمق وعمل قبيح،
تمجه الطبيعة البشرية، لقد أدى ذلك إلى ترك الأمريكيين الصومال على عجل،
مخلفين شعبه يتضور جوعاً وضياعاً، فهل بادر العرب بعد طرد الأجنبي إلى مد يد
العون والمساعدة لهذا الشعب المنكوب؟ بالطبع لا. ماذا لو تُركت أمريكا تفعل ما
تشاء مقابل أن يستعيد الشعب الصومالي عافيته وأمنه؟
لكن هذا لا يعني خلو الأمة من عمل جاد. ففي ظل هذه المحيطات من
التفريط بالفرص كانت هناك باكستان التي استطاعت التعامل مع الأزمة بشكل
واقعي ومختلف، وبلغة يفهمها العالم وهي لغة المصالح، فخيبت آمال الكثيرين من
العرب والمتطرفين الإسلاميين عندما غلبت خيار المشاركة دون تردد أو خوف من
سطوة شارعها الهائج والشرس. وكانت قراءة باكستان للأزمة قراءة موفقة، لأن
رهانها كان من وحي العقل. تجنبت كل مؤثرات الشارع وصداه بالرغم من قوة
تهديده وبشكل أثار إعجاب العالم من حولها، ولا تسأل عن المكاسب بعد ذلك،
فليس أقلها شطب معظم الديون الثقيلة أو المزمنة وجدولة الباقي، ومنح قروض
جديدة، وفك الحصار عن الصفقات العسكرية والتجارية، وفوق هذا وذاك، كسبت
احترام العالم ودخلت كشريك استراتيجي يعتمد عليه ويوثق به، وحليف قوي عند
الملمات. وبذلك كسرت حواجز الأوهام والعقد التي تلف أذهان العرب
والمسلمين اليوم.
كل هذا الكلام الذي قيل ليس جلداً للذات، بل مراجعة سريعة تكشف لنا كم
هو خطير مرضنا. وكم هي كبيرة خسارتنا، وكم أننا قادرون على تضييع الفرص
على شعوبنا.
[الكاتب السعودي: سليمان النقيدان، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8449) ]
شريعتنا أم شريعتهم! ؟
2 - أنا من المهتمين بإعادة النظر في المناهج الإسلامية وإزالة ما بها من أية
بذور تورث الكراهية والنفور والتعصب ضد الآخرين، ضد المرأة، ضد المختلف
معنا في الدين أو المذهب السياسي أو المذهب الديني.
من الأخطاء الكبيرة التي نرتكبها بحق أنفسنا وفي حق الآخرين أن نصنف
علاقتنا بالغرب عامة أو بأمريكا خاصة بالعداء، بل إن ذلك من الخطورة التي
تصل إلى حد التهلكة والانتحار أو العزلة والتهميش، والسماح بوصول العلاقة إلى
حالة العداء؛ يعني أننا على استعداد للتفريط بكل المنجزات التي حققناها والتنازل
عن مستوى المعيشة التي نحياها لنقبل بمستويات عيش لدول صنفت بمعاداة أمريكا
كالعراق والسودان سابقاً وإيران، بل إنه من الحماقة أن نترك الخلافات المتعلقة
بقضية الصراع العربي الإسرائيلي لتدفعنا إلى حافة الهاوية.
أمريكا حكومة وشعباً لا تعادي الإسلام ولا المسلمين، بل الشعب الأمريكي
أكبر شعب يقبل ويرحب بالإسلام، وقد أكدت الحكومة الأمريكية مراراً وتكراراً
احترام الإسلام والمسلمين وبخاصة الرئيس بوش الذي يعد أكثر رئيس متحمس
للدفاع عن الإسلام إلى أبعد مما كنا نتصور. نعم أمريكا منحازة لعدوتنا ولكن هل
نترك هذه العقدة تحكم علاقتنا وتصبغ نظرتنا؟ ! ماذا نستفيد من كسب عدواتها؟
ألا يكفينا ما خسرناه عندما عادينا أمريكا وراهنا على روسيا حليفاً مناصراً لقضايانا
على أيدي الثوريين الذين رفعوا شعارات العداء وضرب المصالح الأمريكية؟ ألم
يكن رهاناً خاسراً بكل المعايير لا نزال ندفع ثمنه؟ والآن يعود الخطاب الديني
ليرفع نفس الشعار من منطلق ديني دون استفادة من دروس الماضي، ماذا تستفيد
الأمة من صب اللعنات على رأس واشنطن والدعاء عليها؟ ماذا نستفيد من نفث
الأحقاد والكراهية عبر الفضائيات والصحف؟ وماذا عملت التظاهرات التي رفعت
صور بن لادن وأحرقت العلم الأمريكي؟ ما قيمة الفتاوى التي صدرت كغطاء
سياسي وحزبي ومصلحي؟ يجب أن نفهم أن الإسلام ليس موضع تآمر من أحد
وأن الغرب عامة وأمريكا خاصة لا تعادينا، كما أن أمريكا والغرب ليستا كلاً واحداً
متجانساً متحداً ضدنا، هناك تيارات وثقافات والساحة مفتوحة للجميع بل إن تلك
المجتمعات حتى في داخلها نزاعات، فيجب إن نتحرر من عقد الكراهية والعداء
ولا نظل أسرى لنظريات المؤامرة العالمية في نظرتنا للغرب وأمريكا نحو إرساء
أسس علاقة صحية ناضجة. هذه المدارس الدينية هي التي فرخت لنا هذه
الجماعات المتعصبة التي لا تعرف التعامل مع حقائق العصر، ما المانع أن تدعم
أمريكا الباكستان حالياً من أجل تغيير هذه المناهج؟ ! فالشحن والتطرف والدعاء
بتدمير النصارى أعداء الإسلام، أصبحت لازمة لدى بعض الخطباء، ترى لو دمر
الله هؤلاء النصارى لن يلقى الخطيب الميكرفون الذي يتكلم به، ولن يجد المكيف
أو السيارة التي يتنعم بها، نحن الأمة الوحيدة التي تدعو على أتباع الأديان الأخرى،
وهي دعوات تزرع بذور الكراهية والحقد في النفوس.
ليس من العدالة أن نصف الرد الأمريكي بالإرهاب؛ إذ بذلك نقع في خطأ
خلط المفاهيم بين الإرهاب والدفاع عن النفس أو رد العدوان في الوقت الذي نطالب
فيه المجتمع الدولي بعدم الخلط بين الإرهاب والمقاومة المشروعة، وما وقع في
أمريكا إرهاب متفق عليه، والرد الأمريكي رد للعدوان بإجماع دولي ولا معنى
لوصفه بالإرهاب إلا من قبل أناس يحملون عقدة الكراهية لأمريكا، وهدفهم تفويت
الفرصة لإفلات الفاعلين.
[د. عبد الحميد الأنصاري، عميد كلية الشريعة بقطر، جريدة الراية القطرية،
العدد: (7183) ]
للمسلمين فقط
1 -حاولت مانيلا التقليل من شأن المخاوف التي سادت الأوساط اليسارية
والمعارضة السياسية في الفلبين عقب انتشار قوات أمريكية في جنوب البلاد، في
أكبر انتشار أمريكي خارج أفغانستان منذ انطلاق الحملة الأمريكية ضد الإرهاب،
وأعلن مستشار الرئيسة الفيلبينية الجنرال ادواردو ارميتا أن الجنود الأمريكيين
المنتشرين في الفلبين لمواجهة جماعة «أبو سياف» المتطرفة في الجنوب لن
يؤذن لهم بالتدخل ضد المتمردين الشيوعيين في بقية البلاد. وجاء الإعلان رداً
على تصريحات أدلى بها الشيوعيون الفلبينيون عبروا فيها عن مخاوفهم من أن
يشن الجنود الأمريكيون أيضاً حملة ضد حركة التمرد الماوية. يذكر أن حركة
«الجيش الشعبي الجديد» الفلبينية اليسارية التي تضم 12 ألف عنصر مدرجة
على اللائحة الأمريكية للمنظمات الإرهابية.
[جريدة الحياة، العدد: (14188) ]
2 - قررت الحكومة الهولندية إلزام الأئمة بحضور دورات تدريبية خاصة
تهدف إلى تعليمهم أسس القوانين الهولندية واللغة والثقافة السائدة بالمجتمع الهولندي،
ولا يستثنى من هذه الدورات سوى الأئمة القادمين من الخارج من دول إسلامية
وعربية للعمل فترات محدودة.
ويعد اجتياز الإمام بنجاح لهذه الدورات التدريبية شرطاً أساسياً لمنحه
التصريح بمزاولة الإمامة.
ويهدف القرار من وجهة نظر البرلمان الهولندي إلى إلزام الأئمة بأداء مهامهم
من منطلق التزامهم واحترامهم لعادات وتقاليد المجتمع الهولندي وعدم محاولة فرض
التقاليد الإسلامية عليه، ومن المتوقع فرض رقابة على الأئمة حتى من سيتم منحهم
التصاريح لضمان التزامهم بالتعاليم التي يتم تلقينها لهم في الدورات التدريبية.
وكان البرلمان الهولندي قد ناقش هذا القرار العام الماضي لتطبيقه على كافة
رجالات الأديان المختلفة الإسلام والمسيحية واليهودية، وواجه معارضة من بعض
نواب البرلمان ثم قصر على رجالات الدين.
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (418) ]
اللهم إياك نستعين
أكد وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم آل ثاني أن العرب لا يستطيعون
مساعدة الفلسطينيين وعليهم أن «يتوسلوا» إلى الولايات المتحدة لوقف العنف.
وقال الشيخ حمد من واشنطن: «ليست لدينا القوة. نحن في الوقت الراهن
أمة لا تستطيع مساعدة الفلسطينيين» في نزاعهم مع (إسرائيل) .
وأضاف: «يتعين علينا أن نتوسل إلى الأمريكيين للتوصل إلى تسوية.
وكلمة (توسل) تزعجني لكنها البديل الوحيد» .
وأكد: «بكل صراحة، وضع العرب لا يسمح لهم بمساعدة الفلسطينيين أو
ممارسة ضغط» لمصلحتهم.
«التوسل هو نفسه الترجي، ولذلك نحن نتوسل للوسيط الأمريكي لأنه
الطرف الوحيد الذي يمكنه ردع شارون ووقف حمام الدم ضد إخواننا في فلسطين،
وهذا هو الموضوع العملي الذي أستطيع أن أعمله لأننا لا نستطيع أن نحارب، ولا
نستطيع أن نساند ولا نستطيع أن نخرج (الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات) من
الحصار الذي هو واقع فيه» .
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7892) ]
زيف الحرية الدائمة
باسم «الحرب العادلة» ، تجاهلت أمريكا الأفكار الوردية الجميلة التي
أغرت العالم بها، وجعلت ما سُمي بالعالم الثالث يعيش أوهام «الحرية والعظمة» ،
ولم تتورع عن الدخول في تحالف مع زعماء لم تكن لتحتك بهم قبل 11 سبتمبر،
وفي مقدمتهم الجنرال مشرف حاكم باكستان، والطاغية المستبد إسلام كاريموف
حاكم أوزبكستان، وبهذا تنسحب القيم «المؤسسة» للولايات المتحدة من الساحة
السياسية تاركة وراءها منطق السطو والسيطرة.
عشية وقوع أحداث 11 سبتمبر، يؤتى بـ «عدالة استثنائية» لتفرض في
الحال. ويدشن وزير العدل الأمريكي آشكروفت عهد الطوارئ وحالة الحرب
بقانون «الوطنية» الذي يسمح بتوقيف المشتبه فيهم إلى أجل غير مسمى، كذا
ترحيل المتهمين، وحجزهم في زنزانات معزولة، ومراقبة المحادثات الهاتفية،
والبريد، والرسائل الإلكترونية، ومداهمة البيوت وتفتيشها بغير إذن ولا رخصة.
لم يتردد مسؤولون في الـ FBI في اقتراح تهجير مجموعة من المتهمين
لدول عربية موغلة في الوحشية والتعذيب في التعامل مع الإسلاميين، لتمكين الأمن
السري المحلي من التحقيق معهم بوسائل «قاسية وفعالة» ، ويعنون بها الاستنطاق
بالتعذيب والضرب والصعق.
حتى قرار 1974م الذي يحظر على عملاء الاستخبارات الأمريكية اغتيال
المسؤولين الأجانب، تجاوزه الرئيس بوش، حيث أعطى الضوء الأخضر لـ
CIA لقيادة العمليات السرية للقضاء على العناصر القيادية لتنظيم القاعدة من خلال
التصفية الجسدية تحسباً لأي متابعة قضائية في الخارج ضد العسكر الأمريكان،
باركت واشنطن مشروع المحكمة الجنائية الدولية CPI، ولهذا الغرض وافق
مؤخراً مجلس الشيوخ الأمريكي على قانون (ASPA) American
Servicemembers Protection الذي يتيح لأمريكا اتخاذ إجراءات وتدابير
عسكرية تصل إلى حد الغزو العسكري لبلد معين لاسترجاع أي مواطن أمريكي
مهدد بالمثول أمام المحكمة الدولية الجنائية.
خالد حسن، موقع مجلة العصر
www.alasr.sw
التفكيك القادم
باشر صناع القرار في موسكو درس سيناريوهات مختلفة لتطور الأوضاع في
آسيا الوسطى. وأشار المحلل أنطون سيرغييف إلى وجود خطط لإنشاء «
طاجيكستان الكبرى» التي تضم طاجيكستان الحالية والمناطق الشمالية من
أفغانستان ومحافظتي بخارى وسمرقند اللتين تسكنهما غالبية طاجيكية على رغم
أنهما تقعان في أوزبكستان.
وذكر سيرغييف أن طهران ترعى هذا المشروع وقد تعمل لتنفيذه لاحقاً.
وتوقع أن تُطرح أفكار لإنشاء «باشتونستان الكبرى» بحيث تضم جنوب
أفغانستان وعدداً من إقاليم باكستان التي يسكنها باشتون (المحافظة الشمالية الشرقية)
أو البلوش القريبون منهم.
وكل هذه المخططات يثير مخاوف روسيا التي ترى أن تمزيق أفغانستان
سيكون كارثة على آسيا الوسطى، لكن غالبية المحللين في موسكو ترى أن أمريكا
وليس القوى الإقليمية أو المحلية هي التي ستتخذ القرار الأهم في شأن مستقبل
المنطقة، وفي ضوئه مستقبل روسيا ذاتها.
[جريدة الحياة، العدد: (14172) ]
الدعم الهندي! !
أعلنت الهند أنها سوف تشارك في إعادة الأمل إلى أفغانستان، وتقول إنها
رصدت مبلغ 10 ملايين دولار لفتح استوديو للفن الهندي في مدينة كابول؛ حيث
سيقوم المشروع بتوزيع الملايين من الأفلام الهندية والأغاني المختلفة على الشعب
الأفغاني الذي حرم منها بعد أن حرمته طالبان من ذلك. وقالت الحكومة الهندية إن
المشروع سيكون ثاني أكبر مركز فني بعد مدينة دبي، وسيكون في متناول الشعب
الأفغاني بشكل عام وشبابه بشكل خاص. ويحتوي المشروع على توزيع الأفلام
بشكل مجاني وفتح فروع له في مناطق مختلفة من البلاد وإنجاز بعض الأفلام
الهندية بالتعاون مع فرق فنية أفغانية، وإعدادها لإنتاج أفلام فنية باللغات المحلية
لإرواء عطش الشعب الأفغاني. وأعلنت أنها ستساهم في بث شبكات الإنترنت
واستخدامها في نشر المواقع الفنية الهندية وغيرها. وتعتبر الهند أن أفغانستان في
حاجة إلى الثقافة الهندية التي ترتبط معها بعلاقات تاريخية عريقة. وهذا يعني أن
الهند تريد نشر الرذيلة والإباحية وإفساد الشباب الأفغاني المسلم واغتنام الظروف
الصعبة التي يمر بها لسلخه عن عقيدته ودينه الإسلامي. ولدى الهند أكثر من مائة
ألف أفغاني مهاجر جلهم من الأسر الشيوعية التي فرت عقب وصول المجاهدين إلى
الحكم، والكثير منهم تركوا دينهم وتخصصوا في برامج الفساد والخلاعة.
وستقوم الهند باستغلالهم باعتبارهم أفغاناً ويعرفون لسان قومهم ويمكن أن
ينجزوا المشروع الهندي، وإبعاد أفغانستان عن الجماعات الإسلامية وعن الأصولية
وتحويلها إلى دولة علمانية لا دينية. وإلى جانب المخطط الذي يدبر لأفغانستان
سياسياً واقتصادياً فإن الهند تؤدي مهمة المخطط الفني والثقافي وإفساد عقيدة الشعب
الأفغاني المسلم.
[مجلة سياحة الأمة، العدد: (48) ]
تحرير المرأة الأفغانية
1 - قالت اللجنة الأولمبية الأفغانية إنها تأمل في إرسال فريق يضم سيدات
للمشاركة في الألعاب الأولمبية الصيفية في أثينا عام 2004م بعد عقد من غياب
أفغاني شبه تام حتى للرجال عن المسابقات الرياضية الدولية. ولم تشارك لاعبات
رياضة محترفات أفغانيات في بطولات دولية منذ عام 1992م، وقد منعن تماماً من
جميع الأنشطة الرياضية بعد ذلك بأربع سنوات عندما تولت حركة طالبان السلطة
في البلاد. ومنذ إقصاء حركة طالبان في كابول في تشرين أول الماضي يقوم
مسؤولو الأولمبياد بالبحث عن اللاعبات المحترفات السابقات على أمل إلحاقهن
مجدداً بالتدريبات بعد عشر سنوات من التوقف. وقال مدير اللجنة الأولمبية
الأفغانية سيد محمود ضياء داشتي: «إنها حقبة جديدة، وستكون هناك ألعاب قوى
للسيدات» ، وأضاف: «سوف نعد فرق السيدات لتكون قادرة على التنافس» .
[جريدة السبيل الأردنية، العدد: (418) ]
2 - صدرت في العاصمة الأفغانية كابل أول مجلة نسائية في أفغانستان منذ
انهيار النظام الشيوعي قبل نحو عشرة أعوام، وسجلت مجلة «صراط»
الأسبوعية التي تشرف عليها ثلاث نسوة أول عودة للصحافة النسائية. وقد تصدَّر
العدد الأول من مجلة صراط عنوان كبير: «أبواب الأمل فتحت» ، وقد دفعت
النسوة الثلاث من أموالهن الخاصة تكاليف طبع المجلة الأسبوعية، وطلبن موافقة
وزارة الإعلام على مضمون المجلة حيث شكلت الوزارة لجنة لقراءة المقالات التي
لم يتغير محتواها بحسب ما أكدن. ودعت ماري البالغة من العمر 38 عاماً النساء
إلى استعادة حقوقهن. كما دعت ماري النساء الأفغانيات إلى خلع البرقع
(التشادري) وأشارت إلى أن زمن الضرب بالعصي قد ولى. وقالت إنه إذا لم تجرؤ
أقلية على فعل ذلك فلن تتبع الأكثرية أبداً.
[مجلة سياحة الأمة، العدد: (49) ]
من لهذه الردة؟
نشرت صحيفة LصEchos dصOran (صدى وهران) الصادرة بغرب
الجزائر سلسلة مقالات خصصتها لسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
تضمنت إساءة وقدحاً مفضوحاً برسول الإسلام، وشككت في أن تكون الرسالة
المحمدية تنزيلاً من الله. ونشرت الصحيفة مقالاتها متسلسلة نقلاً عن العديد من
المعاجم الأوروبية القديمة، أو مما نشره كتاب غربيون جهروا بعدائهم للإسلام
والمسلمين منذ بداية القرن الثامن عشر من أمثال رينو وبايلي وفولتير وغوت
وديدرو. وعنونت الصحيفة مقالاتها بـ (محمد كلمة الله) ، وبعنوان فرعي آخر:
(محمد والأدب) . ورغم الصفات القبيحة التي نعتت بها شخص الرسول إلا أن
الجريدة نشرت هذه المقالات دون تعليق وكأنها تتبنى ما جاء فيها من تحريف
وتشويه لحقائق سماوية مقدسة لدى المسلمين عامة والجزائريين خاصة. ومما نقلته
الصحيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مصاباً بالعجز الجنسي، وأنه كان
يخفي ذلك على أولى زوجاته خديجة رضي الله عنها متذرعاً في كل مرة أن سبب
هذا العجز حياؤه عندما يأتيه جبريل عليه السلام بالوحي وتبليغه تعاليم دينه الجديد.
وقالت الصحيفة نقلاً عن هذه الكتب إن الرسول كان يطالب أتباعه بعدم الحديث مع
العلماء لجهله أن في مناطق أخرى من العالم كانت هناك علوم وأنوار، مضيفة أن
القرآن الكريم مليء بالتناقضات والخرافات ويفتقد إلى كل معرفة بالفيزياء الطبعيية
وحتى بأبسط القوانين التي يعرفها الجميع.
وقالت: هذه هي الأخطاء التي وقعت فيها الديانات الكاذبة والتي يعتقد
أصحابها أنها من العناية الإلهية رغم أن الله ليس جاهلاً، ولكن الفاجر في إشارة
إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرى أخطاءه مشيرة إلى أن محمداً هو الرسول
المزيف الذي تكلمنا عنه. وتضيف في حلقة أخرى من سلسلة المقالات المسيئة إلى
الرسول وكل المسلمين أن محمداً كان شخصاً طموحاً وشرساً لا يعرف لا القراءة
ولا الكتابة ولا يستأهل أن يكون رسولاً لله. يذكر أن العديد من الصحف اليومية
والأسبوعية أوقفت عن الصدور أو منع توزيعها في آخر لحظة بسبب نشرها
مقالات قدرت السلطات الأمنية بالبلاد أنها تشيد بالإرهاب.
[جريدة القدس العربي، العدد: (3948) ]
شكراً لتعاونكم! !
قال دبلوماسي في مجلس الأمن إن غالبية الدول تجاوبت مع مطلب مجلس
الأمن التابع للأمم المتحدة الخاص بإعداد الدول لتقارير حول خططها لمكافحة
الإرهاب، غير أن عملية المراجعة الشاملة للوثائق وردود مجلس الأمن ستكون
سرية، وأوضح جيرمي جرينستوك، سفير بريطانيا لدى الأمم المتحدة ورئيس
لجنة مكافحة الإرهاب التي شكلها مجلس الأمن حديثاً، أن المجلس تسلم بالفعل
117 من التقارير المطلوبة من الدول الـ 189 الأعضاء في الأمم المتحدة.
وأوضح جرينستوك أن 40 دولة أخرى أشارت إلى أنها سترسل ردودها
الخاصة بهذا الشأن في وقت قريب، معتبراً أن رد الدول حتى الوقت الراهن يعتبر
«بداية طيبة للغاية، طبقاً للمعايير التاريخية للمنظمة» .
الجدير بالذكر أن مجلس الأمن طالب الدول بتقديم توضيحات مفصلة لمدى
سيطرتها القانونية على عمليات جمع التبرعات لصالح المنظمات الإرهابية وتصعيد
حرية الحركة والعمل بالنسبة للإرهابيين المشتبه فيهم. التعاون مع جهود المجلس
في مجال مكافحة الإرهاب، إذ جاءت الاستجابات المبكرة من جانب دول تتهمها
الولايات المتحدة ودول أخرى بإيواء أو دعم الإرهابيين بما في ذلك سورية والعراق
واليمن والسودان وليبيا وكوريا الشمالية.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8446) ](172/125)
الباب المفتوح
حروبهم وحروبنا
د. عوض بن خزيم الأسمري
وزير الدفاع الأمريكي (رامسفيلد) يعلن على الملأ رغبته الأكيدة في قتل
طالبان والأجانب في أفغانستان، حتى لو تم استسلامهم. يا ترى ما هو السر في
استمتاع الوزير بحمامات الدماء؟ هل لأنه اكتشف أن دماء المسلمين رخيصة «ما
يحصل في فلسطين خير دليل على ذلك» ؟ أم لأن قلبه مليء بالحقد على أبناء
الأمة العربية والإسلامية «فأطفال العراق دليل آخر على ذلك» ؟ أم أنه يريد أن
يجعلهم عبرة للآخرين «كما يفعل في أرض أفغانستان الآن» ؟ أم هناك شيء آخر
لم نفهمه بعد؟ الرجل يعبر عن السياسة الأمريكية؛ إذ إنه ركن من أركانها، بل
من أهم أركانها. هل هذا قانون جديد لأسرى الحرب يندرج تحت مسمى النظام
العالمي الجديد الذي بدأ بوضع أركانه بوش «الأب» ؟ من أين أتت أمريكا بهذا
القانون، ولماذا؟ هل نسيت أمريكا أنه كما تدين تُدان، أم نسيت أن الحرب دول:
مرة لك ومرة عليك؟ أم نسيت أن قوتها العظمى الحالية لن تدوم؟ أم نسيت أمراً
مهماً في القوانين الدولية التي هي أيضاً ركن من أركانه والمسيرة له في معظم
الأحيان وهو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته عن طريق المحاكمة العادلة؟ أمريكا
لم تستطع إلى هذه اللحظة إعطاء إثباتات مقنعة للرأي العام «المحايد» يدين
القاعدة التي يزعمون أنها وراء أحداث 11 سبتمبر. بل هناك في الإعلام لأمريكي
من يشكك في ذلك، ولكن التعتيم الإعلامي الذي فرضته أمريكا على وسائل
الإعلام بلد الحرية «الزجاجية التي تكسرها حذفة حجر» هو الذي يخفي الحقائق
والنقاشات المنطقية لهذا الحدث؛ فهناك آراء مخالفة في أمريكا عن الأحداث
التي تطالعنا على الإنترنت فقط؛ مما حدا بأمريكا وبريطانيا إلى النظر في كيفية
القضاء على مثل هذا الآراء المخالفة عن طريق التحكم في الإنترنت.
اسمح لي بأن أعرج قليلاً على تاريخ أمريكا مع الحروب السابقة؛ ومن ثم
مقارنته مع الحضارة العربية والإسلامية التي يسخر منها الإعلام الغربي أحياناً.
عندما انتصر المسلمون على الصليبيين في فلسطين سأل قادة الغرب في ذلك الحين
قادة المسلمين عن مصيرهم ومصير جنودهم بعدما تمكن منهم المسلمون. ماذا كان
رد القائد المسلم آنذاك «صلاح الدين الأيوبي» ؟ أخرج السيف، ثم وضع عليه
قطعة قماش قائلاً: هكذا. يعني لن نمسكم بسوء ولن نؤثر عليكم إلا كما أثر السيف
على قطعة الحرير؛ من شاء منكم أن يبقى فلا ضير، ومن شاء منكم أن يرحل فله
ذلك. رغم ما فعله الصليبيون بالعرب في فلسطين «كما يذكره مؤرخو الغرب في
كتبهم» .
هذا قانوننا يا أيها الوزير «من أكثر من خمسة عشر قرناً» ولكن قد تكون
متأثراً بحادثة أصحاب الأخدود، عندما أحرق اليهودُ النصارى جميعاً؛ لأنهم خالفوا
عقيدتهم؛ فهذا مذهب قديم يدين به اليهود تجاه من خالفهم. يا ترى لماذا أثر فيك
هذا المذهب؟ بل لماذا أصبح عقيدة واضحة للساسة الأمريكيين؟ هل لأن المذهب
اليهودي (العقيدة الشارونية حالياً) أصبحت عقيدة غالبية أصحاب القرار السياسي
في أمريكا هذه الأيام؟ سبق أن تبجح شارون في الكنيست بأن أمريكا لا تحكم
اليهود بل اليهود هم الذين يحكمون أمريكا [1] .
أم أن تجربة القنبلة الذرية (الإرهاب النووي) على دولة اليابان فتحت شهية
أمريكا إلى إخضاع مزيد من دول العالم للغطرسة الأمريكية في القرن الجديد؟ ما
هو السبب في تبني أمريكا لقوانين الثنائيات بالنسبة لمحاربة الإرهاب مثلاً «1»
أو «صفر» ، «أبيض» أو «أسود» ، «معي» أو «ضدي» ؟ ولماذا لا
ترغب مع الأسرى في أفغانستان إلا بتطبيق القانون الأحادي فقط مثل «صفر» ،
«أسود» ، «ضدي» ، «موت» ؟ أما عندما تأتي المصالح العربية أو قضية
فلسطين فيتغير المقياس العددي ليصبح مقياساً رمادياً يبدأ من «الصفر» وينتهي
إلى ما لا نهاية! وعلى العرب حك رؤوسهم لكي يجدوا الرقم المناسب لإسرائيل
أولاً ومن ثم أمريكا؛ إذ إن العرب لم ينجحوا في معرفة هذا الرقم السري منذ أكثر
من خمسين سنة، ولكن أعتقد بأن المفتاح المشفر أصبح مكشوفاً للأمة الإسلامية
والعربية وخصوصاً بعد أحداث أفغانستان المصطنعة (حسب رأيي الشخصي)
وما رافقها من أحداث مشابهة في الوقت نفسه وبنفس الشراسة في فلسطين من
دولة بني صهيون. ألا ترى يا معالي الوزير أن المفتاح المشفر أصبح واضح
المعالم لأمتي؟
اسمح لي يا أيها الوزير بأن أقول لك الحقيقة المرة والتي يجب أن تعرفها
أمريكا وهي أن معظم دول العالم يشبِّهون هذه القوة التي بأيديكم كمسدس بيد مجنون؛
ذلك لأنكم تعتقدون أن لغة القوة هي لغة التفاهم الوحيدة مع من خالفكم الرأي.
هل تذكرون ما فعلتموه بالهنود الحمر عندما كنتم تهدون لهم البطانيات
المسممة في الشتاء؟ ما أشبه ذاك بحاويات الطعام (الحديدية) التي أسقطتموها
على منازل الأفغان فتسببت في الهدم والقتل والتدمير والتشريد! «إضافة إلى نوع
الطعام ولونه وما يتعلق بها من قصص ليس هذا مجالها» .
هل تذكر أيها الوزير المعاملة العنصرية التي كنتم تعاملون بها الأمريكيين
ذوي البشرة السوداء في أمريكا بلد الحرية والسلام؟ ! وكذلك أثناء الحرب العالمية
وقصص السجون الجماعية والتعذيب لليابانيين؟ بل في هذه الأيام هل سمعت عن
عمليات الاعتقالات غير المسوغة للمسلمين في أمريكا العظمى؟ بل هل سمعت عن
المداهمات والاحتجازات والتعذيب والقتل للمسلمين وخصوصاً العرب في بلد
الحرية؟ بل بلغ الأمر بأن تغير كثير من القوانين لأجل التضييق على المسلمين
والعرب في أمريكا. لماذا هذه الحرب الموجهة ضدنا نحن المسلمين والعرب؛
بحيث لا يقتلنا إلا السلاح الأمريكي في كل مكان؟
__________
(1) المصدر ديفيد ذي دوك (www theduck org) .(172/131)
قضايا ثقافية
قصور العقل
د. عبد الكريم بكار [*]
كان من أشد ما يهلك بني البشر على مدار التاريخ احتقارهم لأشياء كبيرة،
وتعظيمهم لأمور صغيرة، وقد كان العقل البشري من جملة الأشياء التي أخطأت
الحضارة الحديثة في تعاملها معها؛ حيث إن الغرب بعد أن نفض يديه من إصلاح
النصرانية ومن جعلها مصدراً يعتدُّ به لتغطية عالم الغيب عمدت إلى (العقل)
تستنجد به في توفير مظلة روحية ومادية لكل شؤون البشر واحتياجاتهم. واليوم
ينسج على منوال الغرب في هذا العلمانيون الجدد الذين يشنون حملات منظمة ضد
التدين والمتدينين، ويحاولون تفتيت مرجعية الوحي، واختزالها بطرق عديدة.
وأود هنا أن أوضح في مسألة «قصور العقل» النقاط الآتية:
1 - العقل البشري عقل محدود، وهو يوفر بيئة لنمو الدلالات والمفاهيم،
كما أنه قادر على استخدام ما تنقله إليه الحواس في محاولته الوصول إلى بعض
الأشياء المجهولة؛ لكن العقل غير قادر على الخوض في مسائل لا تتوفر له عنها
معلومات جيدة؛ فهو لا يستطيع تحديد الغاية من الخلق: أي لماذا نحن هنا كما لا
يستطيع سن تشريعات تأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع الناس وأوضاعهم دون أن
يقع حيف على بعض منهم. أضف إلى هذا أنه لا يستطيع أن يخبرنا عن الأمور
المهمة في حياتنا والأمور التافهة؛ حيث ليس فيه أبواب ندخل منها إلى مجالات كل
منها.
والعقل البشري بعد هذا وذاك بنية يسهل خداعها؛ فحين نزوده بمعلومات
خاطئة فإنه يقع في الخطأ بسهولة؛ إنه عقل قادر على البحث في الأدوات والأشكال
والأساليب وكل الأمور المحدودة؛ لكنه غير قادر على البحث في مصيره الذاتي.
وهو على مقدار ما يبدي من البراعة في التعامل مع (الكم) يبدي القصور في
التعامل مع (الكيف) أو ما يسمى (الصفات) . وتجاهل كل هذه الأمور المحددة
لقدرة العقل على العمل يؤدي إلى حدوث أخطاء فاحشة تتعلق بمصير الإنسان على
هذه الأرض.
2 - العقل البشري ليس بنية مكتملة متميزة منحازة معزولة عن السياقات
المعرفية أو عن المشكلات والقضايا التي يعالجها أو يشتغل عليها. وإنما هو
إمكانات ومفاهيم وبدهيات ملتبسة بالمعطيات المعرفية ومتفاعلة معها، كما أنها
ملتبسة بالمشكلات الوجودية المختلفة، ومتفاعلة معها أيضاً وهذا يعني أننا ونحن
نحاور نؤثر ونتأثر، كما أننا حين نعلِّم نتعلم، كما أن عقولنا تتأثر بالمعلومات التي
تعالجها والمشكلات التي تسعى إلى حلها. وهذا كثيراً ما يؤدي إلى اضطراب العقل
وتراجعه عن كثير من مقولاته وطروحاته؛ ولهذا فإنه ليس هناك أي ضمان لاطِّراد
تقدم أي مفكر في خط واحد مهما كان ألمعياً ومتمكناً من الأفكار والمفاهيم التي
يتبناها، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى، هذا (هوسرل) بعد أن كتب
ألوف الصفحات في استجلاء علم (الظاهريات) محاولاً الوصول إلى البُنى
الموضوعية للماهيات المحضة نراه يتحول من رجل يبشر بمنهج جديد إلى واعظ
يحذر أوروبا من المخاطر التي تنتظرها إذا هي استمرت في منهجيتها العلمية
والفكرية؛ بل إنه يهاجم (العقل) ويتساءل في محاضرة له عام 1935م: هل
استقال العقل وفقد دوره في الحياة، أم أنه خلافاً لذلك كشف عن وجهه الحقيقي
الانتهازي الماكر والنفعي؟
هذا يعني أن تفويض كل شؤون الحياة للعقل وسدنته يشتمل على مخاطرة
كبرى، وليس هناك أي حل سوى العودة بالعقل إلى وظيفته الأصلية في الحركة
ضمن أطر ومسلَّمات كبرى يؤمنها الوحي بما يصوغه من أصول ومبادئ، وبما
يرسمه من خطوط عريضة لترشيد حركة الإنسان وعلاقاته.
3 - العقل البشري أبدع حلولاً كثيرة لمشكلات الناس، وأسهم في توفير
الراحة لهم، وفي تخليصهم من الكثير من أشكال العناء، وهذا موضع تقدير منا
جميعاً، ولكن علينا أن نقول: إن إبداعات العقل أوجدت مشكلات كثيرة مثل تلوث
البيئة ومخاطر الطاقة النووية وسيطرة الآلة على حياة الإنسان وفشو أمراض
الحضارة.... وعقولنا غير قادرة على إبداع الحلول للمشكلات التي أوجدتها؛ إنها
تكشف دائماً عن مساحات فاصلة بين وجود المشكلات والقدرة على حلها؛ وما ذلك
إلا لأن منتجات العقول تدخل في تعقيدات وملابسات يعجز العقل عن فك رموزها
والتحكم بها. وماذا يمكن للعقل أن يفعل لشخص أدمن الجلوس إلى
(التلفاز) واستسلم لرغباته فأضاع الكثير من واجباته؟
وهذا يعني أن الاعتماد على العقل في تصحيح مسار البشرية بعيداً عن القيم
والمبادئ التي يوفرها الوحي مجافٍ للصواب وباعث على خيبة الأمل والخذلان.
4 - أكثر الناس استخداماً لعقولهم واستثماراً لها هم الفلاسفة؛ حيث إن
صياغة المفاهيم بواسطة العقل هي شغلهم الشاغل؛ ومع ذلك فإن كل المشتغلين
بالفلسفة يعترفون أنه ليس من شأنها أن تمنحنا اليقين، أو تحدد لنا موطن الداء في
قضية من القضايا، أو تصف لنا الدواء، أو تقدم لنا مفاتيح حلول المشكلة من
المشكلات، إنها نشاط فكري لا يتوقف عن إثارة الأسئلة، وإعادة صوغ المشكلات؛
إنها أشبه بمسلسل ليس له نهاية، وهي دائماً في حركة مستمرة من إشكال إلى
إشكال أعمق وأكثر تعقيداً من سابقه. ولست أقصد هنا إلى الإزراء بالفلسفة؛ وإنما
أريد أن أقول: إن الناس بحاجة إلى اليقين وإلى أطرٍ مهما تكن واسعة إلا أنها في
النهاية موجودة وواضحة. وتلك الأطر تضع حداً لكثير من الأسئلة التي يطرحها
العقل، كما ترشد إلى المسار الذي يمكن أن يسلكه في الإجابة على الأسئلة
المطروحة. وهذه الأطر لن يجدها الناس إلا في الدين الذي جعله الله جل وعلا
مستوعباً لكل الخير الذي جاءت به الأديان السابقة.
5 - العقل البشري عاجز عن التنبؤ الدقيق بما يمكن أن يقع في المستقبل؛
وقد حاول بعض مفكري أوروبا أن يستعينوا على معرفة ما يمكن أن يقع في
المستقبل ببلورة رؤية شاملة للكون: بنيته، وعناصره، ونواميسه، على قاعدة:
إذا أردت أن تعرف ما سيحدث في المستقبل فانظر إلى ما حدث في الماضي.
والحقيقة أنه لا يعرف الغيب إلا الله تعالى، وأن عقولنا تستطيع أن تتوقع حدوث
أمور صغيرة في المستقبل القريب. أما توقع الأحداث الكبيرة في أزمنة متباعدة
فهذا ما يكون غالباً غير ذي جدوى، ويظل في دائرة الظن أو الوهم؛ وما ذلك إلا
لأننا عاجزون عن معرفة كل التغييرات التي ستقع في المستقبل، والتي ستؤثر في
نوعية الأحداث والتحولات التي يمكن أن تقع.
أما قراءة التاريخ لاستخراج النواميس والسنن الكونية منه، فإن عقولنا تكشف
عن قصور مدهش في هذا الجانب؛ والسبب في ذلك أن معرفتنا بالأسباب الحقيقية
التي أدت إلى ولادة أحداث التاريخ الكبرى تظل دائماً معرفة ناقصة. وحين نحاول
حصر أسباب الأحداث الكبرى، ونوفق في ذلك فإن المشكلة التي تنتظرنا تكمن في
تحديد وزن كل سبب وحجم تأثيره في وقوع تلك الحوادث، لكن حين نتأمل سنن
الله تعالى في الخلق كما وردت في نصوص الكتاب والسنة، فإن دائرة خطئنا
تضيق، ودرجة اليقين لدينا تكون أكبر.
6 - لا يملك العقل البشري أي عتاد حقيقي يمنعه من التورط في صناعة
الخرافة وقبولها. ولست أبالغ إذا قلت: إن البنية العميقة لعقول معظم الناس هي
بنية خرافية؛ حتى كأن الخرافة هي الأصل لديهم؛ إذ بمجرد حدوث ضعف في
التثقيف الجيد أو وقوع الناس في حالات استثنائية من الشدة والكرب تطفو تلك
البنية على السطح.
لو تساءلنا: من أين تأتي قابلية عقولنا للسقوط في مستنقع الخرافة؟ لوجدنا
أننا تجاه حالة لا تخلو من الغموض؛ لكن يبدو لي أن مصدر ذلك يعود إلى أمرين
جوهريين:
الأول: هو جهلنا بمعظم ما يقع في الوجود من أحداث؛ فإذا قلنا: إنه يقع
على الكرة الأرضية في الدقيقة مئة مليون حدث، فإن الواحد منا قد لا يشاهد منها
سوى خمسة أو عشرة؛ والباقي يقع بعيداً عن النظر، أضف إلى هذا أن خبرتنا بما
حدث في الماضي أيضاً محدودة جداً. ولدى الناس إحساس بأن هناك عوالم لا
تغطيها حواسنا؛ ونحن المسلمين مثلاً نعتقد بوجود عالميِ الجن والملائكة؛ فإذا ما
حُدِّثنا عن حصول بعض الأمور الخارقة أو غير المألوفة، فإن عقولنا كثيراً ما
تتقبلها على أنها تنتمي إلى عالم من العوالم التي لا يراها الإنسان، أو تتصل
بالأحداث التي لم يشاهدها، وتكون تلك الأمور من الخيال أو من الكذب المحض.
الثاني: هو أن عقولنا تتقبل الأخبار التي نسمعها ما دامت تقع في دائرة
المعقول، وترفضها إذا خرجت عن تلك الدائرة؛ فإذا ما قيل لنا: إن الناس في
البلد الفلاني رأوا شخصاً يحمل عشرة قناطير على ظهره، فإننا نرفض ذلك،
ونعده من قبيل الخرافة؛ لأنه يقع خارج دائرة المعقول بالنسبة إلينا؛ لكن المشكلة
هنا أن الذي يرسم دوائر المعقول وغير المعقول في غالب الأمر ليس العقل، وإنما
الثقافة والخبرة؛ فإذا ما قال لك شخص: أعطني ألف دينار لأتاجر لك به،
وستربح مائة ألف في آخر السنة فإن القناعة بذلك وعدم القناعة به لا يقودان إلى
العقل وإنما إلى الخبرة والمعرفة بالتجارة وأحوال السوق في تلك السنة؛ فصاحب
الخبرة ربما يقول لك: لا تصدق ذلك؛ فأمهر التجار لا يستطيع اليوم مضاعفة
رأس ماله مرتين أو ثلاثاً في العام فضلاً عن أن يضاعفه مئة مرة؛ لكن يأتي
شخص آخر عديم الخبرة، أو له خبرة مختلفة بأحوال السوق، فيقول: كلام ذلك
الرجل معقول، وقد حدث مثل ذلك في العام الفلاني مع الشركة الفلانية، ولا مانع
من أن يحدث الآن، وهكذا فمضاعفة رأس المال مئة مرة في السنة تعد من قبيل
المعقول في خبرة شخص معين، وتعد من قبيل الخرافة والاحتيال في خبرة شخص
آخر؛ ولهذا فطالما انقسمنا تجاه بعض الأخبار والأحداث إلى فريقين: فريق يقول:
هذا معقول، وفريق يقول: هذا غير معقول.
وهكذا فقد ظُلم العقل مرتين مرة من قِبَل المشعوذين والمخرِّفين الذين ألغوا
دور العقل، ومرة من قِبَل الذين حرموا نعمة الهداية بأنوار الوحي، فألهوا العقل،
وطلبوا منه أموراً ليس من شأنه الاشتغال بها.
والله ولي التوفيق.
__________
(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.(172/133)
في دائرة الضوء
نعمة الألم
د. ماهر عباس جلال [*]
galalmaher@hotmail.com
لقد أنعم الله على الإنسان بنعمه الوفيرة، فقال سبحانه: [وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ
اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم: 34) . وقد يكفر الإنسان ببعض هذه النعم جاهلاً أو
غافلاً؛ إذ قد يبدو الشيء في ظاهره نقمة لكنه في حقيقته نعمة. ومن الألم ما له
وجهان، ونحن قد لا نرى إلا وجهاً واحداً منهما فقط، وهو جانب الشقاء والعذاب.
تعريف الألم:
يعرّف أهل اللغة الألم بأنه الوجع [1] ، أما عند الفلاسفة فهو «حالة نفسية
يصعب تعريفها، وتتميز بإحساس مادي أو معنوي بعدم الراحة أو بالضيق أو
بالمضض» [2] . ويرجع السر في تعريف حالة الألم إلى كون الألم إحساساً
شخصياً إلى حد كبير؛ فالإصابة مثلاً التي تسبب ألماً حاداً لأحد الأشخاص قد
تسبب ألماً أخف لشخص آخر [3] .
وأحياناً يكون الألم عند بعض الناس متضخماً، فيبدو أكبر من أسبابه [4] .
والألم في الطب «إحساس مرهق يتسبب عن تنبيه نهايات عصبية
ميكروسكوبية تختلف عن سواها من النهايات الحساسة بكونها عارية» [5] .
أسباب الألم:
تتنوع أسباب الألم؛ فبعضها بدني مادي، والآخر نفسي. أما الأسباب
الجسمية المادية فنحو: الجوع، والعطش، والجروح، والحروق.... إلخ.
والأسباب النفسية مثل: القلق، والهم، والمخاوف ... إلخ [6] . والناس عادة ما
يقرنون الألم بالإصابات البدنية أو المرض متناسين أن الأحاسيس أو العواطف
يمكن أن تسبب ألماً أيضاً، فالإزعاج على سبيل المثال يمكن أن يسبب توتراً مؤلماً
في عضلات الرقبة [7] .
وأحياناً تبدو بعض الآلام مجهولة السبب، مثل: الألم العصبي، والألم
العضلي للالتهاب الدماغي النخاعي [8] .
ولا شك أن تحديد سبب الألم ومعرفة مصدره بدقة من الأمور الضرورية
لعلاج الألم أو الوقاية منه مستقبلاً، وإن كان يصعب أحياناً تحديد مصدر الألم،
وأحياناً يلتبس على المريض تحديده؛ فالمريض مثلاً بالذبحة الصدرية لا يشعر
بالألم في قلبه، بل يشعر به في ذراعه اليمنى أو في رقبته أو مقدم صدره [9] .
وهذه الآلام المجهولة السبب أو المصدر من أخطر أنواع الآلام؛ فقد تتحول إلى
آلام مزمنة تهدد راحة الإنسان زمناً طويلاً.
أنواع الآلم:
تتنوع الآلام حسب شدتها أو ضعفها، وكذلك حسب مدتها الزمنية.
(أ) أنواع الآلام حسب الشدة والضعف:
تنقسم الآلام حسب شدتها وضعفها إلى آلام ضعيفة، وآلام متوسطة، وأخرى
حادة.
(ب) أنواعها من حيث المدة الزمنية:
تنقسم الآلام حسب المدة الزمنية إلى آلام قصيرة الأجل، وهذه تزول بمجرد
زوال السبب أو المؤثر، وغالباً ما تكون حادة [10] ، وآلام مزمنة تدوم وقتاً طويلاً
وتعاود صاحبها كل فترة زمنية. وهذا النوع الأخير من الآلام يعد من أخطر أنواع
الآلام؛ وذلك لأنه يصعب علاجه بصورة نهائية، مثل أنواع معينة من السرطان،
والتهاب المفاصل، كما أنه يقاوم العلاج، وقد يؤدي إلى انهيار عقلي وإدمان
العقاقير المخدرة. وحتى التدخل الجراحي في مثل هذه الآلام قد لا يكتب
له النجاح [11] .
ويدخل المريض الذي يعاني من هذه الآلام المزمنة في دوامة ودائرة متصلة
من الآلام؛ فتوقعه للآلام وانتظاره لها يسبب له آلاماً نفسية ريثما تعاوده الآلام
المزمنة مرة أخرى، وهكذا تصبح حياته عبارة عن سلسلة من الآلام المتصلة يسلم
بعضها إلى بعض.
هل الألم شَرٌّ خالص؟
يقرن كثير من الناس الألم بالشر والإحساس بالبغض أو الكُره، ويتضح هذا
في تعريف التهانوي للألم؛ حيث يقول: «الألم إدراك ونَيْل لما هو عند المدرك
آفة، وشر من حيث هو كذلك» [12] . ويعرف بعضهم الألم بأنه إحساس
مرهق [13] ، أو بأنه إحساس بغيض [14] .
فهل يعني هذا كله أن الألم في جميع أحواله شر خالص؛ فلا يرتجى من
ورائه نفع أبداً؟
إن النظرة العجلى والتفكير السطحي يمكن أن يسلما إلى إجابة متسرعة وهي
أن الألم فعلاً شر خالص؛ لكن النظرة المتأنية والتفكير العميق الذي يقلب الأمور
على جميع أوجهها، ويبحث عن الحقيقة من جميع وجوهها - يثبتان عكس ذلك؛
فالله سبحانه هو خالق كل شيء. والألم شيء من الأشياء، ومن صفاته سبحانه أنه
حكيم وخبير، ومقتضى حكمة الله ألا يخلق الشيء عبثاً دون نفع أو جدوى؛ فمن
المؤكد إذن أن ثمة منفعة من ورائه للبشر عَلِمَها مَنْ عَلِمَها وجَهِلَها مَنْ جَهِلها. وما
علينا إلا أن نتريث ونتأمل هذه الآلام، وندرسها بشيء من المثابرة والتعمق لنعرف
ثمارها وفؤائدها أو الحكمة منها.
فوائد الألم:
إن الحديث عن فوائد الألم متشعب؛ وذلك أن فوائد الألم متنوعة، بعضها
مادي، وبعضها نفسي معنوي، وبعضها يتحقق للفرد، وبعضها يتحقق للجماعة أو
الأمة. وأبرز هذه الفوائد:
1 - الألم ذو فائدة بيولوجية؛ فهو بالرغم من أنه إحساس غير مرغوب فيه
يشبه ناقوس الخطر، ويؤدي إلى أعمال عصبية انعكاسية تهدف إلى حماية الجسم
من المؤثر الخارجي أو الداخلي الذي قد يتلف الأنسجة، فضلاً عن أن الألم يجبر
الإنسان على الراحة وعلى استشارة الطبيب؛ مما لا يترك الفرصة للمرض حتى
يستفحل وحينئذ يصعب علاجه [15] .
فبذا يكون الألم وقاية للإنسان من آلام أكبر. هذا بالنسبة للألم المادي.
وكذلك الحال بالنسبة للألم النفسي، فإن الألم النفسي الناشئ عن خوف العبد من
عذاب الله يقيه من وقوع العذاب الأليم به في الدنيا أو الآخرة؛ ومن ثم فإننا نرى
أن العذاب وُصِف بكلمة (أليم) في القرآن الكريم في اثنين وسبعين موضعاً [16] .
2 - الألم ذو فائدة دينية عظيمة؛ فهو ابتلاء، والابتلاء مع الصبر نعمة
تستوجب الشكر، فيطهِّر الله به الإنسان من الآثام والذنوب، بل إن الله إذا أحب
عبداً واصطفاه ابتلاه، وأشد الناس بلاءً هم الأنبياء؛ فعن مصعب بن سعد عن أبيه
قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل
، فيُبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤُه، وإن كان في
دِينه رِقَّةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركهُ يمشي على
الأرض ما عليه خطيئة» [17] .
فالألم يصهر مَعْدِن الإنسان المسلم، فتصفو رُوحه، ويزكو خلقه، وتَطْهُر
نفسه؛ فألم الابتلاء سبيل إلى لذة التقوى ونعيم القرب من الله، وهل يبرق الذهبُ
إلا إذا ذاق آلام النار؟ !
3 - الآلام قد تصحح مسار المسلم، وتفيقه من غفوته، فيرجع عن سالف
عهده من الذنوب والمخالفات، فمن رحمة الله أنه جعل الآلام نذيراً لخطر داهم
وعقوبة شديدة. فإذا أفاق العبد وتضرع إلى الله رفع عنه الضر. قال سبحانه:
[وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ]
(الأعراف: 94) .
فإذا لم يفقه المسلم حكمة الله في هذا الابتلاء، وتمادى في غيه حقت عليه
كلمة العذاب. قال عز من قائل: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] (الأنعام: 42-45) .
4 - الألم قرين الإحساس، والإحساس آية الحياة، ولا يمكن أن تُتصور حياة
خالية من الإحساس؛ فأنا أتألم إذاً أنا موجود. فمن أراد أن يعيش بلا ألم ومعاناة
فقد اختار لنفسه الموت لا الحياة؛ فأنا موجود إذاً لا بد أن أتألم، وقد خلق الإنسان
في كبد ونصب كما قال سبحانه مقسماً: [لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ
* وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ] (البلد: 1-4) .
5 - الآلام تربي فينا نعمة الإحساس بالآخرين، فنقدم لهم يد العون والمساعدة،
فيتحقق بذلك التكافل الاجتماعي؛ فالغني يتألم للفقير فتكون الصدقة والزكاة،
والمقتدر يتألم للمعوزين فتكون المشروعات الخيرية، والقوي يتألم للضعيف فيكون
العون والمساعدة، والعالم أو المخترع يتألم لمأساة مجتمعه ومعاناته فتكون
الاختراعات والاكتشافات العلمية، وهكذا.
6 - الآلام تقوي العزيمة والإرادة، وتثبت دعائم الرجولة الحقة، فيكتسب
المسلم حصانة من آلام الحياة، ويستمد من مقاومتها قوة وصلابة يستطيع بها
مواجهة صعوبات الحياة وظروفها القاسية؛ فألم الإخفاق يبصر صاحبه بطريق
النجاح، وألم القهر والتسلط يدفع صاحبه إلى البحث عن طريق الحرية، وألم الندم
على المعصية يقود إلى لذة الطاعة، وألم الفقر يخطو بصاحبه صوب الغنى والثراء.
ولا غرو إذا علمنا أن الأعمال الشاقة تزيد المرء قوة وقدرة على تحمل الأعباء،
ولنا في أنبياء الله أسوة؛ فإدريس عليه السلام كان خياطاً [18] ، ونوح كان
نجاراً [19] وداود كان حداداً [20] ، وموسى كان راعياً للغنم [21] ، وكان محمد صلى
الله عليه وسلم راعياً للغنم كذلك، مع ما في الرعي من تعلم الصبر وتعوُّد حسن
سياسة الرعية. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله
عنه: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم» ، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال:
«نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» [22] .
7 - تسهم الآلام في صنع مستقبل الشعوب وقيام حضاراتها؛ فكثير من الأمم
عانت آلام التخلف والفوضى ردحاً من الزمان، فما كان منها إلا أن تحسست
خطاها نحو العلم والحضارة، مثل أوروبا كانت تعيش في ظلام دامس في العصور
الوسطى، ثم ما لبثت أن قامت الثورة الصناعية ثم الحضارة الغربية التي يزهو
العالم بها اليوم، وكثير من الدول عانت آلام الذل والاستعمار، فكان ذلك سبباً في
سعيها لاسترداد حريتها ونيل استقلالها، مثل جنوب أفريقيا في ظل الحكومة
العنصرية؛ فهي حرية حمراء مقرونة بدماء الشعوب كما قال شوقي:
وللحرية الحمراء بابٌ ... بكلِّ يدٍ مُضَرَّجةٍ يُدَقُّ [23]
وعندما تعاني الشعوب ويلات الحروب وآلامها، تسعى جاهدة إلى السلام
والوئام؛ فإذا كان الإيلام لطرفي النزاع معاً، كان السلام رغبة مشتركة بينهما، أما
إذا كان السلام من طرف واحد وهو الذي يحس بالإيلام الحقيقي، فهو استسلام
وإذعان.
متى يكون الألم نعمة؟
الألم يمكن أن يكون نعمة لصاحبه، كما يمكن أن يكون نقمة عليه؛ شأنه في
هذا شأن كثير من الأحاسيس والمشاعر؛ فمتى يكون الألم نعمة؟ يمكن للألم أن
يكون نعمة إذا توافرت فيمن ابتلي به بعض الشروط الضرورية، وهي:
1 - الإيمان بالقضاء والقدر، وبأن هذه الآلام من قضاء الله وقدره. قال
تعالى: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ] (التغابن: 11) . وقال سبحانه: [وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً]
(النساء: 78) .
2 - التحلي بالصبر؛ فإن ذلك من عزم الأمور. قال سبحانه على لسان
لقمان واعظاً ولده: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (لقمان:
17) . والصبر على آلام البلاء عاقبته خير؛ فها هو موسى يوصي قومه بالصبر
على أذى فرعون وآله ليورثهم الله الأرض من بعدهم. قال سبحانه: [قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف: 128) . وأيوب عليه السلام لما صبر على الآلام والمرض
والابتلاء جعل الله عاقبته خيراً. قال سبحانه: [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ *
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ] (ص: 41-43) .
وقد مدحه سبحانه بقوله: [إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ] (ص:
44) .
3 - قوة الإرادة، حتى يمكن تحمل الآلام؛ فلو استسلم لآلامه لدب اليأسُ في
قلبه، وتحول الألم إلى نقمة عليه، فنراه يقنط من رحمة الله، وتُثبَّط همته. ولذا
على المسلم دائماً العناية بتربية إرادته وتقويتها، وتدريب نفسه على تحمل آلام
الحياة وصعابها، ثم عليه أن يتخطى هذه الآلام ويتناساها ليتجه إلى العمل النافع
والإنتاج المثمر.
4 - الأخذ بالأسباب في معالجة الألم والتخلص من أسبابه إذا استطاع؛ وذلك
للحيلولة دون استفحال الألم؛ فإهمال الألم سيؤدي حتماً إلى اشتداده واستفحاله،
وحينئذ قد لا يجدي معه علاج، ولا تنفع معه أية مقاومة، فتخور قوى المسلم،
ويتحول إلى طاقة معطلة فيعجز عن مواصلة الكفاح وأداء رسالته في الأرض.
5 - حسن التقدير وُبعد النظر؛ فينبغي على المسلم أن يحسن تقدير آلامه
وتشخيصها، وكذا تقدير الوسيلة والوقت اللازمين لعلاج الألم ومقاومته، والإنسان
من طبعه التعجل. قال سبحانه: [خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ] (الأنبياء: 37) .
ثم عليه أن يتحلى ببعد النظر؛ فالشفاء من الآلام بقدر معلوم، وقد جعل الله
لكل شيء قدراً؛ فعلى المرء أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح.
فإذا ما توافرت هذه الشروط فعندئذ يكون الألم نعمة، ويثاب عليه المسلم،
ويصبح الألم باعثاً للهمم، ومحركاً للطاقات البناءة، ومثيراً للعقول المفكرة المبدعة،
ويصير أداة بناء في المجتمع الإسلامي لا معول هدم، وسيوصف حينئذ بأنه نعمة
الحياة وسر من أسرار النجاح فيها.
__________
(*) جامعة الإمارات العربية المتحدة.
(1) المعجم الكبير، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (1/436) .
(2) المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، المطابع الأميرية ببولاق، 1979م، ص2.
(3) الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، السعودية، 1996م، طبعة أولى، 2/581.
(4) المعجم الكبير (1/437) .
(5) المعجم الكبير (1/436) .
(6) المعجم الكبير (1/436، 437) .
(7) الموسوعة العربية العالمية (2/581) .
(8) الموسوعة العربية العالمية (2/582) .
(9) الموسوعة العربية الميسرة، دار الشعب، القاهرة، طبعة أولى، 1965م، (1/208) .
(10) الموسوعة العربية العالمية (2/581) .
(11) الموسوعة العربية العالمية (2/582) .
(12) المعجم الكبير (1/437) .
(13) الموسوعة العربية الميسرة (1/208) .
(14) الموسوعة العربية العالمية (2/581) .
(15) الموسوعة العربية الميسرة (1/208) .
(16) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص 47 49.
(17) الجامع الصحيح للترمذي، تحقيق كمال يوسف الحوت، كتاب الزهد، باب (ما جاء في الصبر على البلاء) ، دار الكتب العلمية، بيروت، دون تاريخ، (4/520) .
(18) تاريخ الطبري، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، طبعة أولى، 1985م، (1/88) .
(19) المرجع السابق (1/93) .
(20) المرجع السابق (1/242) .
(21) قصص الأنبياء، لابن كثير، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الفكر عمَّان، طبعة أولى، دون تاريخ، ص276.
(22) صحيح البخاري، كتاب (الإجازة في الإجارات) ، باب (رعي الغنم على قراريط) ، دار الكتب العلمية، بيروت، طبعة أولى، 1992م، (3/67) .
(23) الشوقيات، أحمد شوقي، شرح وتعليق د يحيى شامي، دار الفكر العربي، بيروت، طبعة أولى، 1996م، (2/401) .(172/137)
الورقة الأخيرة
تيار النسوية في الفكر الغربي
د. رقية طه جابر العلواني
برز التيار النسوي تاريخياً في المجتمع الليبرالي الرأسمالي على أنه حركة
لتحرير المرأة في القرن التاسع عشر باعتباره من ردة الفعل لأوضاع المرأة
المتردية أثناء الثورة الصناعية وما تلاها. وعلى الرغم من تعاقب المحاولات
لتغيير وضع المرأة في المجتمع الغربي إلا أنها لم تكلل بالنجاح إلى القرن العشرين؛
حيث تبلورت مطالب ذلك التيار بشكل أكثر تحديداً من خلال إنشاء بعض
الجمعيات هناك. وفي عام 1966م تم إنشاء الجمعية الوطنية للمرأة في الولايات
المتحدة The National Organization for Womenللمطالبة بحقوق
المساواة للمرأة.
وقد اتسم هذا التيار منذ بداية نشأته باتهام الدين بتكريسه لفكرة الأبوية، كما
قام بدور مضاد للكنيسة ورجالاتها على اعتبار أن الكنيسة كانت وراء تردي أوضاع
المرأة وتخلفها عبر التاريخ الأوروبي. فقد تفجرت العديد من الممارسات الممقوتة
تجاه المرأة الغربية بناءً على قواعد راسخة في الذهنية الغربية وطدت دعائمها
جذور الأساطير اليونانية والتقاليد الرومانية من جهة، وما جاء فيما يسمى على
لسان بولص من جهة أخرى. وتضايفت تلك العوامل لتشكل في الذهنية الغربية
تصوراً سلبياً عن المرأة ودورها في الحياة والمجتمع.
كما استعرت نيران تلك التصورات السلبية بشكل ممارسات اتسمت بالوحشية
والعنف تجاه المرأة. وتعد حملات القمع التي وقعت في نهاية القرن الخامس عشر
حلقة في سلسلة الاضطهادات التي تعرضت لها المرأة في المجتمع الأوروبي،
واستمرت تلك الحملات إلى عام 1680م تحت دعوى محاربة الساحرات
والمتشيطنات التي راح ضحيتها من النساء بقدر ما راح في حروب أوروبا قاطبة
حتى عام 1914م [1] .
وسرت رياح التيار النسوي إلى عدد من بلدان العالم خاصة تلك التي وقعت
تحت الاحتلال الغربي في منتصف القرن التاسع عشر وما بعده، وقد لاقت تلك
الدعوى دعماً واسع النطاق من قبل منظمة الأمم المتحدة التي أعلنت في عام 1945 م
أول وثيقة عالمية معاصرة تبنت فيها حقوق المساواة بين المرأة والرجل.
ولم تفرق تلك الحركات الناشئة في مختلف بلدان العالم بين البيئة التي تمخض
عنها التيار النسوي في الغرب وما واجهته المرأة في الغرب من ممارسات عنيفة،
وبين موقع المرأة وظروفها المغايرة في مجتمعاتهم المحتضنة لتلك التيارات.
فقد قام أصحاب هذا الاتجاه ببناء تصورات حول المجتمع الغربي تعبر عن
الحرية الظاهرية التي تتمتع بها النساء هناك. إلا أنهم في الواقع لم يدركوا حجم
الانتهاكات التي تعاني منها النساء في أوروبا كما لم يدركوا جسامة تورط النساء
هناك [2] . كما أغفلوا الخلفية التاريخية التي نشأت في أعقابها تلك الحركات
والتيارات التي جاءت تعبيراً صارخاً عن معاناة المرأة ووضعها الاجتماعي هناك.
لقد جاء التيار النسوي في الغرب ثورة على تعاليم دينية محرفة وأقوال وسلوكيات
بشرية تحكم فيها الجهل والأثرة. وعلى هذا قامت بمحاولات عديدة للانفكاك من
مختلف الموروثات الدينية والاجتماعية المتراكمة؛ مما أدى في النهاية إلى اتساع
البون والشقة بين الحركات النسوية في الغرب من جهة، وبين الدين والكنيسة من
جهة أخرى.
إن إغفال الوعي بالخلفية التاريخية والظروف الاجتماعية التي قارنت ظهور
التيار النسوي في المجتمع الغربي يمكن أن تسوق إلى الوقوع في مزيد من عمليات
تقمص الآخر والسير على طريقه دون إدراك كاف لما يمكن أن ينجم عن ذلك من
مغالطات وثغرات.
__________
(1) للمزيد حول هذه الممارسات انظر المراجع الآتية على سبيل المثال: Alvin J Schmidr, Velied and silenced, Meroer University press, Georgia, 1989, 51- 54 judith A Sabroskuy, From Rationality to Liberation: The Evaluation of Feminist Ideology, Greenwood Press, London, 1979, 13-19 Sheila Rowbotham Hidden From History, Pluto Press, New York, 1971, 7-26.
(2) انظر ما ذكره الكاتب الغربي المنصف ويلثر: Welther, Wiebke In Islam Women From Medieval To Modern Times, Markus Wiener Publishing, New York, 1993, p 9.(172/143)
المحرم - 1423هـ
أبريل - 2002م
(السنة: 17)(173/)
كلمة صغيرة
نقلة جديدة
الأعمال الجادة أياً كانت طبيعتها تحتاج إلى ثلاث قوى متكاملة يتمم بعضها
بعضاً: قوة تمكنها من تجاوز عقبات البداية، وقوة تعينها على الاستمرار
والمواصلة، ثم قوة للإبداع والتجدد التي تكسب العمل حيوية وجاذبية.
ونحرص في مجلة البيان قدر طاقتنا على التجدد شكلاً وموضوعاً؛ وها نحن
نُخرج المجلة في ثوب جديد نتمنى أن يجد فيه القارئ جاذبية جديدة تزيد من صلته
بمجلته.
لقد حرصنا ألا نخطو هذه الخطوة إلا بعد أن نستطلع آراء كثير من كُتَّابنا
وقرائنا فرأيهم مقدر، ورضاهم محل حرصنا وعنايتنا فأظهرت لنا نتائج الاستبانة
أن 78. 6% أيدوا تغيير الإخراج وزيادة عدد الألوان. ومع ذلك فقد ترددنا كثيراً؛
لأنه يعزُّ علينا مخالفة بقية الآراء، لكننا تجرأنا على المبادرة في التغيير متوكلين
على الله تعالى، ثم معتمدين على سعة صدور إخواننا وتقديرهم لاجتهاد إخوانهم.
وممَّا زاد في ترددنا أننا سنضطر إلى رفع سعر العدد قليلاً في بعض الدول، خاصة
أننا لا زلنا نبيع المجلة في دول أخرى بأقل من سعر التكلفة، ونحسب أن قراءنا
الفضلاء سبَّاقون بعون الله تعالى لدعم مسيرتنا الدعوية، حريصون على الوقوف
معنا في هذا الثغر لإيصال كلمة الحق.
ومع حرصنا على الشكل الفني الهادئ الذي يتناسب مع طبيعة المجلة، إلا أن
ذلك لن ينسينا بإذن الله تعالى الحرص على تقديم المادة العلمية الجادة التي يتطلع
إليها الدعاة والمثقفون وطلبة العلم؛ فهي الأصل والثمرة. ويسعدنا كل السعادة أن
نسمع اقتراحات القراء وملحوظاتهم؛ فبالمحبة والتناصح يستقيم العمل، وتنضج
الثمرة. قال الله تعالى: [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (َالعصر: 1-3)(173/3)
الافتتاحية
من يمثل «الموقف الإسلامي الصحيح» ؟
للمرة الثانية خلال عقد واحد تسقط الأمة في هاوية اختلاف عميق على جميع
مستوياتها بسبب حدث من الأحداث، وللمرة الثانية في حيز زمني لا يزيد عن
عشر سنين تجد الأمة نفسها مفتقدة حيال أزمة واحدة لوحدة الكلمة والرأي؛ فضلا
عن وحدة الهدف والوسيلة.
كانت المرة الأولى عندما وقعت أزمة الخليج الثانية التي قسمت الأمة بشعوبها
وحكوماتها وعلمائها ودعاتها ومثقفيها إلى شطرين متضادين في الرؤية، ومتناقضين
في التقويم ومختلفين في الموقف، ولعل تفاصيل ذلك لا تزال في الذاكرة الجمعية
دون أن تنسخ أو تنسى. ومن أبرز الظواهر العالقة في الذهن حول المواقف من
تداعيات ذلك الحدث وقتها هو شيوع التساؤل لدى عامة الناس في أنحاء العالم
الإسلامي بعد تنافر الآراء: «من يمثل الموقف الإسلامي الصحيح» ؟ فقد كان
هؤلاء الناس يسمعون من أهل العلم والفتوى، فضلاً عن غيرهم آراء تتخالف إلى
حد التضارب أوجدت نوعاً من الشقاق على مستوى الجماعات والشعوب.
لن نعيد الكلام هنا بداهة عن تلك المعمعة الفكرية التي شوهت ما تبقى من
مظاهر الوحدة الشكلية للأمة وقتذاك، ولكن نتجاوزها إلى هذه القعقعة الجديدة التي
حقنت أمتنا في صميم شرايينها بمادة خلافية جديدة، ستظل تسري في العروق إلى
حين، نرجو أن يكون إلى أمد لا إلى أبد.
فها نحن أمام وقائع تتوالى منذ أحداث سبتمبر في أمريكا، يتكرر بشأنها
السؤال نفسه كلما تباينت الآراء: «من يمثل الموقف الإسلامي الصحيح» ؟ !
لقد برز عدد من المستجدات والتفاعلات تعددت بشأنها الرؤى، واختلفت
لأجل ذلك المواقف، وتناقضت الفتاوى. وأطل من بين الركام عدد غير محدود من
علامات الاستفهام والتعجب التي تحوَّل بعضها إلى علامات استهجان وترقب،
تتجمع كلها محاوِلة تكوين جملة مفيدة تجيب عن السؤال الكبير: «أين الحقيقة» ؟
إنه سؤال واحد يتكرر بصيغ متعددة: حيناً بلسان المقال، وأحياناً بلسان
الحال، ثم لا يلبث جمهور المسلمين أن يُخلد إلى التناوم أو التناسي هرباً من
ضغوط الإحباطات والصدمات من جرَّاء التعارض والتناقض بين ما يسمع وما يرى.
إننا ومنذ وقعت أحداث أمريكا وما تلاها من أحداث في أفغانستان وباكستان
نجد الجميع يتكلمون بتنديد أو تأييد، ولكن يبقى أن كلام الجميع غير ملزم للجميع،
فلْيتكلم من شاء بما شاء؛ فسوف يواجه بسؤال يُقذف عليه من كل جانب: «هل
أنت تمثل الإسلام» ؟ !
تأمل معنا هذه المواقف المعلنة باسم (الموقف الإسلامي الصحيح) في عدد
من القضايا والأحداث في الفترة الأخيرة، لتكون على ذكر بمدى الخطر المحيق
بالأمة بسبب اختلاف الكلمة بين علمائها ودعاتها، دعك من مفكريها ومثقفيها:
- فبدءاً من أحداث نيويورك وواشنطن التي تنوع بشأنها الخلاف إلى حد
التضاد، جاءت مسألة الاستجابة للمطالب الأمريكية المفروضة على حكومة
أفغانستان قبل الحرب بشأن تسليم المطلوبين لأمريكا بلا قيد أو شرط! وقبل أن
تثبت التهمة، لقد رأى فريق أنه كان على الحكومة الأفغانية وقتها أن تستجيب
للطلب الأمريكي ارتكاباً لأخف الضررين، ولإخراج الأمة كلها من محنة عامة.
بينما رأى آخرون أن تلك الاستجابة لو وقعت لكانت إهانة وخيانة للأمة الإسلامية
وتضحية بمبادئها التي تحرِّم وتجرم تسليم المسلمين للكفار في قضية يمكن إجراء
التقاضي بشأنها في إحدى بلدان العالم الإسلامي القريبة من ستين دولة.
- وعندما قبلت حكومة طالبان التحدي الأمريكي المعلن بالحرب الصليبية مع
انعدام التكافؤ بين القوتين؛ برزت آراء علماء تكلموا باسم الموقف الإسلامي
الصحيح تقول إن الإقدام على دخول تلك الحرب سيكون بمثابة تضحية بالشعب
الأفغاني وتفريط في مكاسب حكومته، وتعريض لجيشها ودولتها للتدمير وشعبها
للتشريد والتهجير، بينما رأى آخرون كثيرون من أهل العلم أن الحركة على
صواب فيما فعلت، وأن في الإسلام شيئاً يمثل ذروة سنامه اسمه الجهاد، وأن على
المسلمين جميعاً أن يكونوا مع المعتدَى عليه ضد المعتدي، وقالوا: إذا سلمنا
لأمريكا بما تريد في أفغانستان فعلينا أن نسلم لروسيا بما تريد في الشيشان، وللهند
بما تريد في كشمير، ولليهود بما يريدون في فلسطين.
- وعندما شرع التحالف الشمالي المعارض في عرض خدماته على أمريكا،
كان هناك رأي وهو الغالب بين الآراء أن ما أقدم عليه التحالف الشمالي هو خيانة
لله ورسوله والمؤمنين، مع أن كثيراً من أصحاب ذلك الرأي كانوا لا يرون شرعية
لما قامت به طالبان من قبول المواجهة، بينما ذهب آخرون وباسم الموقف
الإسلامي الصحيح أيضاً بتصحيح موقف تحالف الشمال باعتبار أن في ذلك إنقاذاً
لأفغانستان من مصير مظلم على يد حكومة طالبان، وباعتبار أن طالبان في رأيهم
هي التي بدأت فصائل الشمال بـ (الخروج) عليهم وشق عصاهم، مع كونهم
ولاة الأمر الشرعيين في البلاد؛ بدليل أن أكثر بلدان العالم الإسلامي كانت لا تزال
تعترف بحكومتهم!
- ثم ثارت الأحداث في باكستان تفريعاً على ما حدث في أفغانستان، فاختلفت
الآراء حول موقف الحكومة الباكستانية من المشاركة في ضرب الحكومة الأفغانية
تحت الغطاء الأمريكي. لقد رأى بعضهم باسم العلم والدين أن موقف الحكومة
الباكستانية كان حكيماً، أو هو على الأقل موقف يأخذ حكم الاضطرار؛ لأن البديل
كان تعريض باكستان لخطر الحرمان من سلاحها النووي على يد الأمريكيين أو
الإسرائيليين، ورأى آخرون أن الموقف الباكستاني الرسمي كان مداناً إلى حد
الخيانة؛ لأنه يأخذ حكم التولي الظاهر للكفار ضد المسلمين في عدوان صريح،
وعدوا لذلك هذا الفعل من أفعال الردة، وإن لم يحكموا بذلك على الأعيان.
- وتكررت أزمات أخرى في باكستان، بعد التصعيد الهندي للحرب ضدها،
بعد حادثة البرلمان الهندي التي اتهم فيها إسلاميون من كشمير، وأصبح مطلوباً من
باكستان أن تفعل ما سبق أن طُلب من أفغانستان: تسليم المطلوبين المتهمين بلا
بينة ولا دليل، إضافة إلى قائمة من المطالب الهندية المضافة للمطالب الأمريكية
بضرب الحركة الإسلامية في باكستان، واعتقال زعمائها وتجفيف منابعها وإغلاق
مكاتب المجاهدين الكشميريين وحل جماعاتهم، وهنا تكررت المواقف نفسها
لتتحدث باسم «الموقف الإسلامي الصحيح» : ماذا يملك «مشرف» أن يفعل
غير ذلك، إنه مضطر! فأجابهم الآخرون: وهل لا تجوز التضحية في كل مرة إلا
بالإسلام وأهله..؟ ! إنه ليس اضطراراً، ولكنه الفرار أمام زحف الكفار من دولة
تملك سلاح الردع النووي، فما فائدته إذن؟ !
يستطيع المراقب أن يرصد مثل تلك التناقضات الحادة في عدد كبير آخر من
القضايا التي تفاعلت في الآونة الأخيرة قبل أحداث أفغانستان وبعدها؛ فقد حدث
التضارب في الآراء بشأن واقعة تحطيم أصنام بوذا، وثار لغط عندما أعلنت فتاوى
بشأن جواز التبرع بالدم للأمريكيين المصابين في واشنطن ونيويورك، وجرى
اختلاف في مسألة تجويز قتال الأمريكي المسلم إخوانه المسلمين في أفغانستان أداءً
لـ «واجب» المواطنة! أو نحو ذلك.
أما قضية المسلمين الأولى في فلسطين، فكأنها كانت وليدة الأمس القريب؛
حيث تخالف الناس في قضايا عديدة بشأنها، بدءاً من اعتبار اليهود المدنيين أعداء،
ومروراً بجواز الاعتراف بدولتهم والتطبيع مع عصابتهم وعقد الصلح الدائم معهم،
وانتهاء بحكم الأعمال الجهادية التي تستلزم التضحية بالنفس ضدهم، والتي
أسماها بعضهم (انتحارية) ! وعدها آخرون (استشهادية) .
إن ما مثَّلنا به من وقائع قد يكون أكثرها سياسياً لكنه لا ينفي وجود العشرات
من مسائل النوازل في مجالات أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية وتعليمية، فضلاً
عن المعضلات الناشئة عن الشبهات الاعتقادية، وكل هذا يحتاج إلى صفوة تنظر
للأمة بمجموعها فيما يصلح شأنها.
وهنا لا بد أن نعترف أن من يدلون بآرائهم علانية في أكثر هذه القضايا قلة
قليلة من أهل العلم والفتوى، أما الكثرة الكثيرة إلا من رحم الله فهي تؤثر الصمت،
وتسكن إلى السكوت.
لمن تسمع الأمة إذن؟
إن الجميع من المنسوبين للعلم وطلب العلم في بلدان العالم الإسلامي يمكنهم
التحدث في تلك القضايا، ولكن أحداً لا يسلِّم لأحد، ولا جهة تسلم لجهة، ولا
جماعة تسلم لجماعة بأن له، أو لها، أو لهم الحق الأخير بالكلام في شيء من ذلك.
- فإذا تكلم الحكوميون وجدوا من يقول لهم: مَنْ تمثلون؟ هل تمثلون
الأنظمة والحكومات؟ ! لا حاجة لنا بكم؛ لأنكم لا تستطيعون قول كل ما تعلمون
ولا يمكنكم الجهر بما تقتنعون؛ ولهذا كانت آراؤكم في مثل تلك المسائل تفتقر إلى
ركن مهم في الفتوى وهو حرية من يفتي ... أنتم لا تمثلون في هذه المسائل الموقف
الإسلامي الصحيح!
- وإذا تكلم المستقلون أو شبه المستقلين، قيل لهم: من أوكلكم بالفتوى التي
لا يُسمح بها إلا لمن أذن له بذلك من أهل الدراية بما يدور في الخفاء، ولا يطلع
عليه إلا الرسميون القريبون من الساسة، والجديرون بشمول الرأي ودقة النظر،
إن فتاواكم لا تمثل الموقف الإسلامي الصحيح!
- وإذا تكلم الدعاة وطلاب العلم في حال سكوت هؤلاء وهؤلاء، قيل لبعضهم
من أعطاكم حق الفتوى وأنتم لم تتأهلوا لها ولم تصلوا لدرجتها، ولم تعطوا
منصباً يخوِّلكم بالكلام في الأمور العظام؟ ... أنتم أيضاً لا تمثلون الموقف
الإسلامي الصحيح!
- وإذا تكلم مفكرون ومنظِّرون من غير أهل العلم أو طلبة العلم، كان الرد
السابق عليهم أبلغ، والمأخذ عليهم أقرب؛ لأنهم ليسوا من المتخصصين الملمين
بأمور الشريعة، وكذا إذا تكلم مؤهلون متخصصون ولكنهم محسوبون على اتجاهات
أو جماعات؛ نُظر إلى اجتهاداتهم نظرات ريبة، خشية أن يكونوا ممثلين لآراء
حزبية معينة ذات خلفيات فكرية محددة.
لقد أظهرت الأحداث الأخيرة ظاهرة غياب (ولاية الأمر العلمية العامة)
وعندما نقول إن الأحداث أبرزتها، لا نقول إنها أفرزتها، فهي موجودة منذ أن
افترق السلطان والقرآن في أكثر بلدان المسلمين. وغياب الولاية العلمية لا يعني
بالطبع غياب أفرادها أنفسهم؛ فهم موجودون لم يخلُ منهم زمان، لقول الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي ألا يجمع أمتي على ضلالة
فأعطانيها» [1] . فالأمة لا تجتمع على ضلالة لوجود أهل العلم بالحق فيها.
ولكن.... إذا كان العلماء في هذه الأمة لا يجتمعون على ضلالة؛ فأين اجتماعهم
على الحق في عصرنا؟ بل أين نجد صوت (الجمهور) منهم على ذلك الحق في
أزمنة الأزمات والفتن التي نعيشها؟ !
السؤال المهم هنا: هل هذا الاجتماع المطلوب لولاية الأمر العلمية العالمية
للمسلمين هو مطلب شرعي، أم أمل قدري؟ ! بمعنى: هل هناك وسائل أخرى
غير الأماني والآمال يمكن أن توصل إلى هذا المطلب العادل العاجل الذي يطالب به
جميع المسلمين الصادقين؟ !
لا نجافي الحقيقة إن قلنا بأنه لم تبذل حتى الآن محاولة ترقى في شمولها
وعمومها وقوتها وقوامتها إلى مستوى هذه المسؤولية العامة المتطلبة للشمول والقوة
والقوامة. صحيح أن هناك محاولات بذلت ومحاولات لا تزال تبذل لإيجاد قيادة
شرعية علمية تمثل مرجعاً للمسلمين السُّنة في العالم وهي محاولات مشكورة مأجورة
بإذن الله لكننا نرى أن هناك ضمانات تتضمن بعض المحاذير يجب أن يستصحبها
أصحاب تلك المساعي؛ لأنها يمكن أن تتيح فرصاً أوفر لنجاح مساعيهم، ولعل
منها ما يلي:
1 - استشراف شمول الولاية العلمية أو المرجعية الموحدة لأكثر بلدان العالم
الإسلامي؛ بحيث تغطي بتمثيلها الحد الأوسع من الأوطان الإسلامية، بما يصلح
أن ينتج (إجماعاً) بالمعنى الشرعي، إذا ما احتاج الأمر إلى هذا الإجماع.
2 - الانتباه إلى خطر النزوع إلى الحزبية أو الفئوية التي فتكت آفاتها بالكثير
من مشروعات التوحد في الحقل الإسلامي، حيث سيبرز هذا النزوع حتماً،
وسيحاول فرض نفسه على فرص الأداء الراشد لفريضة إعادة الولاية العلمية العامة.
3 - التخفف من ضغوط الإقليمية والمحلية التي تختزل العالم الإسلامي
الرحب إلى نمط بقعة واحدة من بقاعه، دون نظر إلى التنوع الفكري الطبيعي أو
القسري في أرجائه وأنحائه.
4 - اليقظة أمام الولوع بالاحتواءات «الرسمية» للعمل الإسلامي في بعض
البلدان؛ حيث إن مثل تلك الاحتواءات سوف تضفي بلونها الباهت وضوئها الخافت
ظلالاً رمادية من شأنها أن تطفئ بريق أي مسعىً جاد للخروج بالأمة من أزمتها
المزمنة والمتمثلة في تفرق الكلمة.
5 - قد تحاول نزعات فردية نحت صيغ جماعية، تؤول في النهاية إلى
(تجمع فرداني) لن يستطيع أبداً أن يضطلع بمهام أمة مليارية، عانت الفردانية في
كثير من شؤونها.
6 - اقتضاء العلم العمل شرط لا يصح التغاضي عنه؛ فمرجعية العلم تحتاج
إلى رجَّاعيين علماً وعملاً، وإلا فلا أمل في علم ولا عمل.
7 - فصائل الحركة الإسلامية بعلمائها ودعاتها هي من أكبر الممثلين للواقع
الإسلامي، ولكنها ليست الممثل الوحيد؛ ففي الأمة شرائح عريضة غير منتمية إلى
تلك الحركات، وفيهم علماء فضلاء كثيرون، ومن الغبن أن يوضع هؤلاء خارج
الدائرة.
8 - ويرتبط بالنقطة السابقة أمر هام، وهو ضرورة الالتزام المنضبط
والواقعي بالمنهجية الوسطية؛ وذلك بالتشبث بمنهج السلف دون التفاف عليه أو
التفات عنه انسياقاً وراء أوهام التقارب مع الفرق الضالة قديمة أو حديثة؛
فالمرجعية العلمية ميزان ولا يصلح الوزن إذا اختلت الموازين.
9 - المرجعية لا تنفك عن المصداقية، وإذا فُقدت المصداقية لم تعد هناك
فائدة للمرجعية.
10 - سيأبى الشيطان لعنه الله كما هو دأبه، إلا أن يأخذ بحظ وافر من كل
جهد خالص لوجه الله تعالى، فليكن التحرر من حظوظ النفس جسر العاملين للتحرز
من حظوظ الشياطين، ولا يكون ذلك إلا بالتجرد وخلوص القلب في النصيحة لله
ولرسوله وللمؤمنين خاصتهم وعامتهم.
والله من وراء القصد،
__________
(1) مسند الإمام أحمد، الحديث رقم (25966) ، (مسند القبائل) .(173/4)
دراسات في الشريعة
سجود السهو
يوسف بن عبد الله الأحمد [*]
إن حاجة الناس إلى معرفة أحكام سجود السهو ظاهرة؛ ولا أدل عليه من
كثرة أسئلتهم؛ فهذا الموضوع
1 - عن عَبْداللَّهِ بن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
صَلَّى بِهِمُ الظَّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا
قَضَى الصَّلاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ؛ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ
ثُمَّ سَلَّمَ» [1] .
2 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ أي الظهر أو العصر قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو
هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا. قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ
فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ
أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ
الْمَسْجِدِ فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي
الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَسِيتَ أَمْ
قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ قَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ. فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا:
نَعَمْ! فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. فَرُبَّمَا
سَأَلُوهُ أي محمد بن سيرين: ثُمَّ سَلَّمَ، فَيَقُولُ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ
سَلَّمَ» [2] .
3 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلاثِ رَكْعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ
الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ، وَخَرَجَ
غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إلى النَّاسِ. فَقَالَ: أَصَدَقَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ!
فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ « [3] .
4 - عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال:» صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم - قَالَ إِبْرَاهِيم لا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ - فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!
أَحَدَثَ فِي الصلاة شَيْءٌ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ
وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ: إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي
الصَّلاةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ
فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدْ
سَجْدَتَيْنِ « [4] .
وفي رواية لهما:» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا،
فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ
بَعْدَمَا سَلَّمَ «. وفي رواية لمسلم بلفظ:» صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
خَمْسًا؛ فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ!
هَلْ زِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ: لا. قَالُوا: فَإِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَانْفَتَلَ، ثُمَّ سَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْن «.
5 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم:» إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى: ثَلاثًا أَمْ أَرْبَعًا؛
فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ
صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا
لِلشَّيْطَانِ « [5] .
6 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ:» إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثِنْتَيْنِ فَلْيَبْنِ
عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ: ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلاثًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ:
ثلاثاً صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلاثٍ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ « [6] .
ومن فوائد هذه الأحاديث:
أولاً: أن سجود السهو واجب على من سها في صلاته بزيادة أو نقص أو شك
في الأركان والواجبات. قال ابن تيمية بعد أن أورد الأدلة من فعل النبي صلى الله
عليه وسلم وأمره في السجود:» وهذه دلائل بينة واضحة على وجوبهما، وهو
قول جمهور العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة، وليس مع من لم
يوجبهما حجة تقارب ذلك « [7] .
ثانياً: مشروعية التكبير لسجود السهو. قال ابن الملقن:» يشرع التكبير
لسجود السهو، وهذا مجمع عليه « [8] .
ثالثاً: إذا تكرر السهو في الصلاة فإنه يكفيه بسجود السهو مرة واحدة؛ فالنبي
صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول، والجلوس له ولم يكرر سجود السهو، كما
في حديث عبد الله بن بحينة. قال ابن دقيق معلقاً على هذا الحديث:» فيه دليل
على عدم تكرار السجود عند تكرار السهو؛ لأنه قد ترك الجلوس الأول والتشهد معاً،
واكتفى لهما بسجدتين « [9] .
رابعاً: إذا كان سجود السهو بعد السلام، فيشرع له سلام آخر بعده. وهو
الراجح من قولي العلماء لظاهر حديث أبي هريرة وعمران وابن مسعود رضي
الله عنهم.
خامساً: من شك في صلاته فعليه أن يتحرى الصواب أولاً؛ فإن ترجَّح له
أحد الأمرين عمل به، وإن لم يترجح له شيء بنى على اليقين وهو الأقل؛ ويدل
عليه مجموع حديث عبد الله بن مسعود، وحديث أبي سعيد، وابن عوف رضي
الله عنهم» .
سادساً: هل يكون سجود السهو قبل السلام أو بعده؟ هذا الأمر فيه خلاف
بين العلماء على أقوال:
القول الأول: أن محل السجود كله قبل السلام. وهو مذهب الشافعية، وقول
الزهري، ومكحول، والأوزاعي، والليث بن سعد.
القول الثاني: أن محل السجود كله بعد السلام. وهو مذهب الحنفية، وقول
الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والثوري.
القول الثالث: أن الأصل في السجود أن يكون قبل السلام، إلا ما جاءت
السنة بالسجود فيه بعد السلام؛ فإنه يسجد بعده. وهو المشهور عن الإمام أحمد.
القول الرابع: أن الأصل في السجود أن يكون بعد السلام، إلا في حالين
فيكون المصلي مخيراً فيهما بالسجود قبل السلام أو بعده: إذا نسي الجلوس للتشهد
الأول، وإذا شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً. وهو قول ابن حزم.
القول الخامس: أن ما ثبت في السنة من السجود قبل السلام أو بعده فإنه يفعل
كما ورد، وما عدا ذلك فإن المصلي مخير بين السجود قبل السلام وبعده. وهذا
قول الشوكاني.
القول السادس: أن المصلي مخير بين السجود قبل السلام وبعده مطلقاً. وهو
قول بعض الشافعية، واختيار الصنعاني.
القول السابع: إذا كان السهو عن نقص سجد قبل السلام، وإن كان عن زيادة
سجد بعد السلام. وهو مذهب المالكية. وهذا القول جزء من القول الذي يليه.
القول الثامن: إذا كان السهو عن نقص سجد قبل السلام [10] . وإذا كان عن
زيادة سجد بعد السلام. وإذا كان عن شك فإنه يتحرى الصواب؛ فإن غلب على
ظنه شيء عمل به وسجد بعد السلام، وإن لم يغلب على ظنه شيء بنى على اليقين
وهو الأقل، وسجد قبل السلام. وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام
ابن تيمية.
وهذا أرجح الأقوال وأقربها إلى الصواب وبه تجتمع الأدلة ولا تتعارض.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام جبراً للنقص حين ترك التشهد الأول؛
كما في حديث عبد الله بن بحينة. وسجد بعد السلام حين زاد في الصلاة ركعة
خامسة كما في حديث عبد الله بن مسعود، وسجد بعد السلام أيضاً حين زاد سلاماً
بعد الثانية في صلاة الظهر كما في قصة ذي اليدين. وأمر بالسجود قبل السلام عند
الشك في عدد الركعات بعد البناء على اليقين كما في حديث أبي سعيد، وحديث ابن
عوف رضي الله عنهما وأمر بالسجود بعد السلام إذا شك ثم تحرى وعمل بما ترجح
له بعد التحري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فهذا القول الذي نصرناه هو الذي
يستعمل فيه جميع الأحاديث، لا يترك منها حديث مع استعمال القياس الصحيح فيما
لم يرد فيه نص، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص» [11] .
مناقشة الأقوال الأخرى:
أما القول الأول فهو مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود بعد
السلام.
والقول الثاني مخالف أيضاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود قبل
السلام.
والقول الثالث جعل الأصل في السجود قبل السلام، وهذا يحتاج إلى دليل
خاص.
والقول الرابع جعل الأصل في السجود بعد السلام، ودليلهم حديث ثوبان أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل سهو سجدتان بعدما يسلم» [12] .
وعلى فرض صحته فإنه محمول على الأحوال التي يكون السجود فيها بعد
السلام جمعاً بينه وبين الأحاديث الأخرى التي ثبت فيها السجود قبل السلام من فعل
النبي صلى الله عليه وسلم وأمره.
وتتمة القول الرابع: أنه ذكر حالين يكون المصلي فيهما مخيراً بعد السلام.
وكيف يكون مخيراً والنبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام في الحال الأولى،
وأمر بالسجود قبل السلام في الحال الثانية، والصواب الاقتداء بفعله وامتثال أمره.
والقول الخامس شبيه بالقول الراجح إلا أنه جعل المصلي مخيراً بالسجود قبل
السلام أو بعده في كل صورة لم يرد فيها دليل خاص. فمثلاً: النبي صلى الله عليه
وسلم صلى العصر ثلاثاً وسلم، ولما نُبه أتى بركعة وسجد بعد السلام كما في حديث
عمران رضي الله عنه فلو صلى الإمام ركعة في صلاة الفجر ثم سلم ناسياً، ثم نُبه؛
فهل يسجد بعد إتيانه بالركعة بعد السلام إلحاقاً بنظيرها في حديث عمران وقصة
ذي اليدين، أو يكون مخيراً؛ لأنها صورة جديدة؟ ! الأقرب أن يسجد بعد السلام
وهو الراجح كما سبق لأن إلحاق النظير بنظيره أوْلى من إفراده بحكم آخر من غير
دليل صريح عليه.
أما القول السادس وهو القول بالتخيير مطلقاً؛ فضعيف أيضاً؛ إذ كيف يكون
المصلي مخيراً والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسجود قبل السلام في أحوال،
وأمر به بعد السجود في أحوال أخرى؟ ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم
خير بالسجود، أو أمر بالسجود قبل السلام وبعده في حال واحدة، أو أنه فعل ذلك.
قال شيخ الإسلام: «ولم ينقل عنه في صورة واحدة أنه سجد تارة قبل السلام وتارة
بعده، ولو نقل ذلك لدل على جواز الأمرين» ثم قال: «الشارع حكيم لا يفرق
بين الشيئين بلا فرق، فلا يجعل بعض السجود بعده، وبعضه قبله، إلا لفرق
بينهما» [13] .
أما القول السابع فهو جزء من القول الثامن.
سابعاً: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة أنه تكلم بعدما
سلم وقبل أن يأتي بما بقي من صلاته وسجود السهو. وغيَّر مكانه، وخرج من
المسجد، وأن الصحابة تكلموا، وتشوشوا، وخرج بعضهم من المسجد وهم
يتكلمون قبل أن يتموا صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أتم النبي صلى
الله عليه وسلم ما أخل في صلاته، ولم يجعل هذا الفصل بالكلام والخروج من
المسجد وبمضي قدر من الوقت مبطلاً للصلاة بل أتم عليه.
وقد اختلف العلماء في من سها في صلاته وسلم ناسياً ثم خرج من المسجد أو
تكلم أو طال الفصل قبل أن يتم صلاته ويسجد للسهو: هل يبدأ من جديد لطول
الفصل، أو يتم صلاته ويسجد للسهو ولو طال الفصل؟ وفي هذا خلاف بين
العلماء على أقوال:
القول الأول: أن الضابط هو البقاء في المسجد فإذا خرج وجب عليه إعادة
الصلاة.
وهذا القول لا دليل عليه، ثم هو مردود بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
والصحابة الذين خرجوا من المسجد.
القول الثاني: أن الضابط هو الكلام؛ فإذا تكلم في غير مصلحة الصلاة وجب
عليه الإعادة.
وهذا القول لا دليل عليه أيضاً، ثم إن الصحابة تشوشوا، وخرج السَّرَعان
وهم يتكلمون، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته، كل ذلك قبل أن يسجدوا
للسهو، ويبعد جداً أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ويخرج الصحابة من
المسجد بصمت تام دون مخاطبة الآخرين. ثم لو كان الكلام في غير مصلحة
الصلاة قبل السجود مبطلاً لها لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولسأل الصحابة
الذين شوشوا وخرجوا من المسجد أن من تكلم في غير مصلحتها فعليه الإعادة. فلما
لم يحصل شيء من ذلك كان مؤكداً لضعف هذا الضابط.
القول الثالث: أن الضابط هو طول الفصل، فإذا طال الفصل وجب عليه
الإعادة، وطول الفصل ضابطه العرف.
وهذا القول أيضاً لا دليل عليه. والقاعدة أن ما ورد في الشرع ولا ضابط له
فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف. أما اعتبار طول الفصل فلم يرد في الشرع
أصلاً حتى يضبط بالعرف.
والذي يظهر من الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر طول الفصل
لمنع الإتمام على ما سبق من صلاته وسجود السهو؛ فدخول النبي صلى الله عليه
وسلم بيته، وخروج السرعان من المسجد يأخذ وقتاً ليس بالقليل، ولو كان طول
الفصل معتبراً في منع البناء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الرابع: أنه يتم صلاته ويسجد للسهو ولو طال الفصل أو تكلم أو خرج
من المسجد. وهذا أقرب الأقوال كما يظهر من مناقشة الأقوال السابقة. قال ابن
تيمية: «وعن أحمد رواية أخرى أنه يسجد وإن خرج من المسجد وتباعد، وهو
قول للشافعي وهذا هو الأظهر؛ فإن تحديد ذلك بالمكان أو بزمان لا أصل له في
الشرع، لا سيما إذا كان الزمان غير مضبوط؛ فطول الفصل وقصره ليس له حد
معروف في عادات الناس ليرجع إليه ولم يدل على ذلك دليل شرعي ولم يفرق
الدليل الشرعي في السجود والبناء بين طول الفصل وقصره، ولا بين الخروج من
المسجد والمكث فيه، بل قد دخل هو صلى الله عليه وسلم إلى منزله وخرج
السرعان من الناس كما تقدم» [14] . وقال أيضاً عن خروج السرعان من المسجد:
«لا ريب أنه أمرهم بما يعملون. فإما أن يكونوا عادوا أو بعضهم إلى المسجد،
فأتموا معه الصلاة بعد خروجهم من المسجد، وقولهم قصرت الصلاة، قصرت
الصلاة. وإما أن يكونوا أتموا لأنفسهم لما علموا السنة، وعلى التقديرين فقد أتموا
بعد العمل الكثير، والخروج من المسجد. وأما أن يقال: إنهم أمروا باستئناف
الصلاة: فهذا لم ينقله أحد ولو أمر به لنقل، ولا ذنب لهم فيما فعلوا» [15] .
ثامناً: هذا التفصيل في السجود قبل السلام وبعده هل هو على الوجوب أو
على الاستحباب؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ذهب كثير من أتباع الأئمة
الأربعة إلى أن النزاع إنما هو في الاستحباب، وأنه لو سجد للجميع قبل السلام،
أو بعده جاز.
والقول الثاني: أن ما شرعه قبل السلام يجب فعله قبله، وما شرعه بعده لا
يفعل إلا بعده. وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة وهو الصحيح.. فهذا
أمر فيه بالسلام ثم بالسجود، وذلك أمر فيه بالسجود قبل السلام، وكلاهما أمر منه
يقتضي الإيجاب ...
ولكن من سجد قبل السلام مطلقاً، أو بعده مطلقاً متأولاً فلا شيء عليه، وإن
تبين له فيما بعد السنة استأنف العمل فيما تبين له، ولا إعادة عليه» [16] .
مسألة: من نسي التشهد الأول وذكره أثناء الصلاة، فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يتذكر التشهد الأول بعدما استتم قائماً في الركعة الثالثة.
فهذا يتم صلاته، ويسجد للسهو قبل السلام جبراً لنقص هذا الواجب.
الحال الثانية: أن يتذكره أثناء النهوض، وقبل أن يستتم قائماً؛ فالواجب
عليه أن يرجع فيجلس للتشهد، ولا يلزم في هذه الحالة سجود سهو.
والدليل على هذا التفصيل ما رواه قيس بن أبي حازم قال: «صلى بنا
المغيرة بن شعبة، فقام من الركعتين قائماً، فقلنا: سبحان الله! فأومأ وقال:
سبحان الله! فمضى في صلاته؛ فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم
قال: صلى بنا رسول الله فاستوى قائماً من جلوسه فمضى في صلاته، فلما قضى
صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: إذا صلى أحدكم فقام من الجلوس، فإن
لم يستتم قائماً فليجلس، وليس عليه سجدتان، فإن استوى قائماً فليمض في صلاته
وليسجد سجدتين وهو جالس» [17] . قال: «حدثنا ابن مرزوق (وهو إبراهيم بن
مرزوق بن دينار الأموي) قال: حدثنا أبو عامر (وهو عبد الملك بن عمرو
العقدي) ، عن إبراهيم بن طهمان، عن المغيرة بن شبيل، عن قيس بن أبي حازم
به» [18] .
مسألة: قال ابن المنذر: «وأجمعوا على أن ليس على من سها خلف الإمام
سجود. وانفرد مكحول وقال عليه» [19] .
ولم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا ينفردون بسجود السهو خلف إمامهم وهو
النبي صلى الله عليه وسلم، والسهو في الصلاة لا يسلم منه البشر، مع كثرة
المصلين خلف النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، واستمرار الصلاة خلفه
أكثر من عشر سنوات؛ فيبعد جداً أن لا يقع من أحدهم سهو وهو مؤتم. ولو
سجدوا لنقل إلينا لتوافر دواعي النقل.
مسألة: إذا سجد المصلي للسهو بعد السلام؛ فإنه يسلم بعد سجود السهو، ولا
يتشهد على الصحيح من قولَيِ العلماء؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في سجود السهو من قوله
وفعله وليس في شيء منها حديث صحيح أنه تشهد أو أمر به. قال النووي عن
التشهد بعد سجود السهو: «لم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء»
اهـ.
أما حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه
وسلم سها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم» [20] .
فإن قوله: «ثم تشهد» زيادة شاذة تفرد بها أشعث بن عبد الملك عن محمد
بن سيرين. وقد رواه جمع من الثقات عن ابن سيرين دون هذه الزيادة. وممن حكم
بشذوذها البيهقي وابن عبد البر وابن حجر، ومن المعاصرين الألباني في
الإرواء [21] .
قال ابن حجر: «وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما، ووَهَّموا رواية
أشعث لمخالفته غيرَه من الثقات عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في
حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد، وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة
أيضاً في هذه القصة: قلت لابن سيرين: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئاً.
اهـ فصارت بزيادة أشعث شاذة؛ ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في
سجود السهو يثبت. لكن ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي
داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي، وفي إسنادهما ضعف. فقد يقال إن
الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن. قال العلائي:
وليس ذلك ببعيد، وقد صح عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبي شيبة» [22] .
فالتشهد عند ابن المنذر والعلائي محتمل للتحسين، لكنهما لم يجزما به.
والأصل في العبادات هو المنع حتى يتبين ثبوت الدليل.
مسألة: قال ابن قدامة: «ولا يشرع السجود للسهو في صلاة جنازة.. ولا
في سجود تلاوة.. ولا في سجود سهو. نص عليه أحمد. وقال إسحاق: هو
إجماع» [23] .
__________
(*) محاضر بكلية الشريعة جامعة الإمام الأحساء.
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) أخرجه مسلم.
(4) متفق عليه.
(5) أخرجه مسلم.
(6) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: «هذا حديث حسن غريب صحيح» ، وصححه النووي في المجموع (4/107) ، وصححه من المعاصرين الألباني (صحيح سنن الترمذي، ح 399) . (7) مجموع الفتاوى (23/28) .
(8) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/294) .
(9) إحكام الأحكام، ص 283.
(10) والمراد بالنقص هنا ترك الواجب: كترك التشهد الأول، والجلوس له، وتكبيرات الانتقال، وقول سبحان ربي العظيم في الركوع، وقول سبحان ربي الأعلى في السجود، وقول ربي اغفر لي في الجلوس بين السجدتين , فمن ترك شيئاً من ذلك فإنه يجبر بسجود السهو قبل السلام.
(11) مجموع الفتاوى (23/25) .
(12) أخرجه أبو داود، رقم 874 كما أخرجه أحمد وابن ماجه، وفي إسناده عندهم زهير بن سالم العنسي، وهو ضعيف , قال عنه الدارقطني: «منكر الحديث» , وقال عبد الحق الإشبيلي عن هذا الحديث في الأحكام الوسطى (2/29) : «وليس إسناده مما تقوم به حجة» , وقال النووي في المجموع (4/155) : «حديث ضعيف ظاهر الضعف» .
(13) مجموع الفتاوى (23/ 21 22) .
(14) مجموع الفتاوى (23/43) .
(15) مجموع الفتاوى (23/40 41) .
(16) مجموع الفتاوى (23/ 36 37) .
(17) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/440) .
(18) وهذا إسناد جيد قال الألباني في الإرواء (2/110) : «إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات» .
(19) الإجماع له (ص 8) ، وانظر المغني (2/439) .
(20) أخرجه الترمذي، رقم 361.
(21) (2/128) .
(22) الفتح (2/79) .
(23) المغني (2/444) .(173/8)
دراسات في الشريعة
نكهة التمرد [*]
فهد التميمي
tmimi@ayna.com
إذا كان للمأكولات والمشروبات نكهات فإن للأطروحات الفكرية نكهاتها أيضاً
ولقد ولقد جذبتني إحدى هذه النكهات إلى تذوقها و (تشمم) رائحتها في منظومة
من الأطروحات ولا سيما أن رائحتها قد تشم بمجرد قراءة الأسطر الأولى. فإن
شئت أن تتذوق معي تلك النكهة وتشم هذه الرائحة فإليك جملة تعاملات تعرفك بها،
ومنها:
1 - التعامل في تفسير النصوص من القرآن الكريم أو السنة الشريفة بحسب
فهم المتحدث أو الكاتب دون أن يُكلف نفسه الرجوع إلى كتب التفسير أو شروح
السنة، ودون أن يُكلف نفسه النظر إن كان ذلك مما يحتمله النص أو لا.
ذلك أنه لا سلطة لديه إلا للنص (المجرد) ، وما عداه لا يعدو أن يكون جملة
من التراكمات التاريخية، أو الأقوال المحكومة بالجمود والتقليد.
2 - التعامل مع كتب الفقه، بوصمها (كلها!) بالجمود (واجترار!) ما
كان من المسائل الميتة والتي (عفا عليها الزمن!) .. إلخ.
3 - التعامل مع بعض القواعد الشرعية؛ حيث يتناولها بعضهم بتلك الخلفية
(المشحونة) والنفسية (المتمردة) فلا يلبث أن يسقط هذه القاعدة أو يشكك فيها أو
يُحيلها أو يفرغها من معناها إلى غير المعنى ذاته.
4 - التعامل مع التاريخ الإسلامي؛ حيث يتناوله الناقد المثقل بهذه النفسية،
فيجعل منه سحابة سوداء من الأخطاء لا يرى الصواب فيها إلا كالشعرة البيضاء في
جلد الثور الأسود.
ولا بأس لديه من مصادرة جميع روايات التاريخ أو جلها بدعوى وقوع كاتبها
تحت ضغط التوجه العام لمجتمعه، أو السلطة السياسية في زمنه؛ كما فعل آخرون
بالنتاج الفقهي مدعين أنه (وتأمل هذا التعميم) انعكاس للواقع الذي فرضه
السياسيون.
5 - التعامل مع تفسير التاريخ وتحليل وقائعه؛ فمن خلفية ردة الفعل ضد
فكر معين (والتي بدورها تشكل نوعاً من التمرد) يقوم بعضهم بتفسير جميع
أحداث التاريخ تفسيراً سياسياً فلا تشذ عنده واقعة، ولا تفلت حادثة من منظوره
السياسي الضيق طارحاً بذلك سائر التفسيرات والتحليلات الأخرى التي قد تشكل في
بعض الحوادث نسبة عالية ربما ينعدم معها التفسير السياسي، ولو أنه جعل التفسير
السياسي ضمن تفسيرات أخرى وأعطى النسبة التي يستحقها بحسب الحادثة لكان
ذلك تفسيراً منطقياً معقولاً.
6 - التعامل مع الأئمة السابقين والعلماء المتقدمين بنوع من التشنج تارة، أو
بالازدراء (ولعله غير المقصود) تارة، أو وصمهم (بعبارات التعميم) بالوقوع
تحت ضغط سلطة ما سياسية أو غير سياسية، وعلى أقل الأحوال أن تساق أقوالهم
بالصيغة التي تنتهي بالقارئ إلى إسقاط أو سل عباءة الاحترام منهم أو من أقوالهم
(وليس القول المنتَقَد فحسب) .
وقفات:
وإزاء هذه التعاملات أقف بعض الوقفات:
1 - إن راية التمرد هذه سوف يتناولها آخرون ليقولوا لهؤلاء: إنكم إن
اقتحمتم بها معسكر الجمود والتقليد والتراكمات التاريخية (كما يسمونها) فإننا
بدورنا سنقتحم بها معسكركم الذي تأخذون فيه (بالنص) من السنة إذا صح ولو
كان من أحاديث الآحاد؛ إذ لا يؤخذ من السنة إلا المتواتر.
ويرفع تلك الراية من يسمون أنفسهم القرآنيين ليطرحوا السنة كلها
(ويتمردوا) عليها.
ويرفعها الرافضون لعامة الصحابة رضي الله عنهم.
بل ويرفعها الناقمون على الإسلام كله بما فيه.
ولن يعجز كل هؤلاء أن يجدوا من بقايا أسلحة (المتمردين) ما يخوضون به
معاركهم.
فإذا كان الإسلام هو أن نأخذ النصّ مجرداً عن كل شيء، ومقطوعاً من كل
فهم سوى فهمنا نحن؛ فمن السهل جداً على من لا يأخذ بحديث الآحاد (ويمثل
النسبة العظمى من السنة) أن يطرح كل عناية الأئمة بالإسناد وتحرّيهم في الرجال؛
لأن ذلك ليس بـ (نصّ) .
ومن السهل جداً على من لا يأخذ بالسنة جُملةً أن يشكك فيما سوى القرآن؛
لأنه ليس بـ (نصّ) فحتى قبول الحديث المتواتر ليس إلا محض آراء؛ لأن
(المتواتر) سيدَّعى أنه غير منضبط في تعريفه ولا فيما يشمله من أحاديث.
ومن السهل جداً على رافضي الصحابة أن يرفضوهم بالحجة ذاتها؛ فليس
الدين إلا (النصّ) وما عداه قابل للنقد وإن كان صحابياً وإن بلغ النقد ما بلغ.
ومن السهل جداً أن يفسر (النصّ) بما لا يمت إلى (النصّ) بصلة؛ لأن
كل ما يمكن الاعتماد عليه من آليات تفسيره قابل للنقد (وإن شئت قل للنسف) ؛
ولذا فما على الرافض للإسلام والناقم عليه من أي ملة كان أو من منابذي الأديان إلا
أن يفسر (النصّ) وفق مرامه ومبتغاه.
2 - إننا بحاجة إلى التفاعل مع واقعنا، وتنزيل الأحكام على مستجدات
عصرنا ومعاملاته الحادثة، ونحن نعارض الوقوف عند حد الأمثلة الواردة في كتب
الفقه التي مثل بها مؤلفوها من واقعهم، وندعو إلى أن يتجاوزها الفقيه مفتياً أو
معلماً أو باحثاً إلى أمثلةٍ من صميم واقعنا؛ بل لا ينبغي إهدار الوقت في أمثلة
ذكرها السابقون ربما اندثرت في واقعنا أو أضحت نادرة الوقوع.
ولكن كل ذلك لا يعني أن ننقلب على من سبقونا، وأن نتنكر لهم، وأن
نصمهم بالخوض في تشقيقات لا واقع لها ... إلخ.
إن الاجتهاد باق، وبابه مُشرَع لأهله ولله الحمد إن كلياً أو جزئياً؛ بيدَ أني لا
أظن أن من أمارات التوفيق والاجتهاد لطالب العلم أن ينبتَّ عن اجتهادات سابقيه أو
يتعالى على نتاجهم وعطائهم فلا ينظر إليه ولا يرفع به رأساً؛ بل الفقه كل الفقه أن
يكون لديه من سعة المدارك ووفور العقل ما يدعوه إلى النظر في فهم من سبقه؛
ليضيف فهماً إلى فهمه، وعلماً إلى علمه، وعقلاً إلى عقله.
روى ابن عبد البر رحمه الله في جامع بيان العلم [1] عن قتادة أنه قال: من
لم يعرف الاختلاف لم يشمّ الفقه بأنفه. ونحوه عن سعيد بن أبي عروبة، وروى
أيضاً عن عطاء قال: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف
الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه.
وأظن أن من السهل جداً أن نعفي أنفسنا من النظر في فقه من سبقنا وعلمه،
وأن نأخذ (مباشرةً) من النص.. لكن: هل هذا بالفعل هو (فقه النص) و (فهم
النص) ؟ ! !
كم من القضايا المعاصرة (معاملات اقتصادية وغيرها) لم يهتد المجتهدون
إلى تكييفها الفقهي الدقيق ومن ثم تنزيل الحكم الشرعي عليها بعد توفيق الله تعالى
إلا بعد تأملهم في أقوال الفقهاء المتقدمين في مسائل مشابهة! بل ربما كان الشبه في
بعض صور المسألة أو بعض جوانبها فقط، ولكن توارد التفقه في تلك المسائل أنتج
خيوطاً من الفقه تذكّر الناظر فيها بما قد يكون غافلاً عنه، وتصقل الملكة الفقهية
لديه، فيهتدي إلى الصواب فيما بين يديه.
فرحمة الله على أولئك الأعلام الذين أفنوا أعمارهم في خدمة العلم وأهله:
[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (الحشر: 10)
3 - قد نفهم النقد للخلل الواقع من بعضهم (وليس الكل) في تطبيق قاعدة ما
أو تنزيلها على واقعة ما، وما أجمله إذا سلم من (نكهة ما) ، لكننا لا ندري ما
ذلك النقد الذي ينتهي بنا إلى الإسقاط التام أو شبه التام أو التعميم للتجاوزات أو
التعميم لكل من كتب في القاعدة أو استند إليها.
4 - ستشرئب أعناق لتقول باستغراب: وهل ملكتَ حق إغلاق باب النقد؟ !
وهل من نافحتَ عنهم معصومون؟ ! وهل كل ذلك (التراث) مبرأ من الخطأ؟ !
فأقول: وهل لا نقد إلا بالتمرّد؟ !
ولكن عفواً: إن النقد بغير تمرد لن يضيف جديداً في نظر بعضهم، ولن يثير
شهية القراء، وهذا السر في تطعيمه بنكهة التمرد؛ فنقد بغير هذه النكهة لا طعم له
لديهم ولا ذوق، وإلا فالنقد لم يزل موجوداً؛ فإنه ولد حيث ولدت تلك العلوم التي
يحلو لبعضهم تسميتها بـ (التراث) ، وما زال عطاء تلك الأجيال يحمل لنا الفكرة
ونقدها، ومناقب الرجل وما قيل فيه.
فما لنا نزعم أن النقد من روائع هذا العصر؟
إن قوماً لا يحترمون (رموزهم) وصانعي (تراثهم) خليق ألا يهتدوا لمعرفة
كلامهم.
وإنك مهما بلغت بالنقد فلست بحاجة إلى الازدراء أو التنقص أو التهكم أو
الإسقاط.
إن الاحترام والتقدير لا يستلزم التسليم لكنه يستلزم الاعتدال الذي يعني أنني
كما لا أفترض فيهم العصمة فكذلك لا أفترض الخطأ من أول وهلة وأدنى نظرة بله
التوارد على الخطأ حتى لم يعد للإجماع معنى ولا لقول عامة العلماء وزن.
لك أن تحقق أن مسألة ما لم يثبت فيها الإجماع، ولك أن تحقق أيضاً
بالبرهان أن قولاً ما ليس هو قول عامة أهل العلم، لكن ليس لك أن تضرب بحجية
الإجماع أصلاً عرض الحائط، وليس من اليسير وأقول: من اليسير ألا تعتبر قول
العامة من أهل الشأن ما دمت مسلِّماً بأنه قول العامة.
هذا أمر، والأمر الأهم: هب أنك أدركت خطأ قول ما (واكتشفت هوة
سحيقة) فلا حاجة للتعميم، ولا داعي للتطاول، ولك ألف مندوحة ومندوحة عن أن
تصوغ نقدك بقالب التمرد.
خلطات أخرى:
ويمكن أن ينضاف إلى نكهة التمرد هذه عند بعض الناس شيء من الخلطات
الأخرى، منها:
1 - انتحال الأفكار والطروحات:
تقرأ لبعضهم أو تستمع إليه فتجده يتحدث عن أفكار وطروحات وكأنها من
بنات أفكاره وأبكار طروحاته.
نعم! إن الفكر والعلم مشاع للجميع، ولكن ثمة أفكار يكون لها كيان ونسق
منتظم فطرحها بكيانها ونسقها دون عزوها لصاحبها نوع من التدليس الذي لا يحبذه
أرباب الإنصاف والتجرد لا سيما إن كان في هذا الطرح ما يُشعر أنها مبتكرة من
قبل هذا المتحدث أو الكاتب [2] .
(أما إذا اشتمل حديث المتحدث على أفكار من هنا وهناك ولا سيما بصياغة
منه فلسنا نشترط له العزو) .
ومن سنة الله الماضية أنه ما من منتحل إلا ويقيض الله له من يكشف انتحاله
فمستقل ومستكثر.
2 - دعوى الحياد بلا حياد:
إنني أستطيع أن أدعي تناولي لقضية ما بالتجرد والحياد المطلقين لكنني أول
الموقنين بكذب الدعوى؛ لأني أعتقد (حسب رأيي القاصر) أن التجرد المطلق
والحياد المطلق كمدينة أفلاطون الفاضلة حبيس التصور العقلي فقط.
وإنما وصفت التجرد والحياد بوصف (المطلق) لأن هذا الذي أحسب أن لا
أحد يستطيعه، ولكننا لو اشترطنا تجرداً وحياداً ما فهذا معقول ومقبول، والفرق
بينهما أن الحياد المطلق يستلزم عدم استصحاب فكر ما حول القضية المطروحة في
حوار أو كتاب أو نحو ذلك، وهذا الذي أدّعي أنه متعذر أو متعسّر، إلا أن يكون
الشخص خِلواً من كل فكر حول القضية المطروحة؛ وهذا ما ليس مفترضاً هنا.
وأما التجرد المقيد والحياد المقيد فلا ينافيه استصحاب ذلك الفكر المشار إليه،
وإنما يشترط له أن يكون لدى الشخص استعداد لقبول الحق إذا تبين له الحق، حتى
وإن اقتحم الحوار أو شرع في الكتاب مقتنعاً بما يعتقده.
وبعضهم مع هذا قد يدعي الحياد الأول ويدعو إليه مع تعذره ثم هو في حقيقة
الأمر لا يلتزم الوفاء بالحياد الثاني الواقعي.
3 - النقد لذات النقد:
إذا كان من الناس من يحترف المعارضة لذات المعارضة لا لخدمة مبدأ ما،
فإن ثَمّ من ينتقد لذات الانتقاد، ومن كان هذا شأنه فما أسرع أن يهوي به نقده، وما
أبعده من منهج النقد السوي.
ولئن كان هذا مستبعداً، فإنه واقع ويدل عليه لحن القول، وقد تدل عليه
(نكهة التمرد) .
4 - النقد من غير أرضية للنقد:
«إن لنا على المفهوم التقليدي للسنة تحفظات» ، أما الأرضية في علم السنة
التي انطلق منها هذا الناقد فهي أنه يعزو الحديث إلى (مسلم) ويقول: انظر
(المحلى) .
إن رجل الشارع بل الأستاذ في أي علم سوى الطب لو قال: إن لي على
تعريف مرض السرطان أو حتى الرشح (الأنفلونزا) تحفظات. لضحك منه الناس؛
فكيف بشخص لم يكلف نفسه معرفة البدهيات في علم السنة أن ينتقد تعريف
الأئمة للسنة، إنني أجزم أن لو درس السنة كما ينبغي لعرف كيف يكتب.
كأني بك تقول: وهل ستضع للنقد قيوداً من قِبَلك؟ وهل ستلزم الناس بها؟
فأقول: إنني حين أتحدث عن الأرضية الصحيحة للنقد فإنني مع ذلك لست
مقنِّناً ولا ملزماً؛ لأني لا أملك على الناس ذلك، غير أني ألمح بهذا إلى خطأ ذلك
الناقد الذي ينتقد من غير ما أرضية ينطلق منها (على الأقل في العنصر المنتقد)
تماماً كذاك الذي ينتقد الطبيب من غير خلفية عن المرض الذي انتقده فيه، مع أن
الناس لا يقبلون منه ما لم يكن طبيباً حتى وإن ملك الخلفية عن ذات المرض؛ فما
لنا لا نطبق ذلك على تخصصات أخرى؟ !
إن مجرد الإسلام واشتراك أهله فيما أوجبه الله عليهم تعلماً وعملاً لا يؤهل
كل من كان مسلماً أن يخوض فيما لا علم له به من أمر الدين لمجرد كونه مسلماً،
كما أن اشتراكهم في العلم بأساسيات الصحة لا يؤهل كل أحد أن يتناول من مسائل
الطب ما شاء كيف شاء.
إنني أرمي إلى ترسيخ هذه القاعدة إذا اتفقنا عليها في مثال الطب لتعميمها
على غيره، ولا يعنيني الاتفاق على ضوابط وقيود تفصيلية، ولكن حسبي أن تتفق
معي أن ثمَّ ضوابط لا بد منها، وأن الناقد الذي ينتقد ما يشاء كما يشاء قد أخطأ
السبيل، والبرهان العقلي الذي يدعم هذا الادعاء القائل بضوابط ما للنقد هو الاتفاق
على تخطئة ذلك المنتقد للطبيب في المثال السابق.
وليس الفرق بين هذا المثال وبين غيره في وجود ضوابط أو عدم وجودها
وإنما الفرق بين الماديات والأدبيات؛ فالعلم المادي المحسوس تكون الضوابط فيه
أوضح وأدق بخلاف العلم النظري فلن تكون الضوابط فيه بتلك الدقة لكنها موجودة
لا تنكر، وهذا هو المقصود.
أما أن ينطلق النقد بغير خطام ولا زمام ولا احترام فليس ذلك من منهج
الإسلام.
5 - اضطراب المنهج:
بينما تجد بعض الناس يتلمس الأقوال الشاذة للأخذ بها لملابسات يدعيها إذا
هو يطرح بعض الآراء مجلجلاً بأنها ليست إلا رواية في مذهب ما، وتكون تلك
غاية حجته.
وبينما هو لا يقدِّر للعلماء قدرهم إذا به يرفع أحدهم ويبجِّله؛ لأنه (تمرد)
حسب فهمه على ذهنية التقليد، ولو في قضية ما، مع أنه ربما شنع عليه في
مواطن أخرى بما لا يتناسب مع ذلك التبجيل.
6 - بناء النتائج على مقدمات هشة:
ومرد ذلك في نظري إلى طائفة من الأسباب، منها: عدم الفهم والفقه العام
للنص أو القصور فيهما أو اختلال منهجية الاستدلال؛ حتى إنها أحياناً تبقى لدى
بعضهم مضطربة بحيث لا يمكن بلورتها ضمن منهج محدد مطرد.
ومنها حمل عبارات عالم أو مؤلف على غير محملها ومن ثم الحكم عليه من
خلال هذا الإسقاط.
ومنها عدم تكامل التصور لمنهجية مؤلف أو عالم، أو للمؤلفات في فنٍّ من
الفنون، أو القصور في إدراك العلاقة الترابطية لمسائل علم من العلوم، وكل ذلك
يحمل الكاتب على استنتاجات لا تخلو من غرابة.
وأخيراً: فهذه معالم نكهة التمرد، وتلك إشارة لبعض الخلطات المرافقة أحياناً
والرأي لك أخي القارئ إن كنت ترى أن تلك النكهة تستحق أن تكون من النكهات
الصناعية المصرح بها في (المنتجات) الفكرية أو لا؟
__________
(*) لكون هذا المقال يناقش أطروحات فكرية معينة تُنشر في بعض المجلات والصحف؛ فقد كان الأليق به أن يُنشر في تلك المجلات والصحف ذاتها، وبالفعل أخذ طريقه إليها؛ بيد أن الانتظار أكثر من شهرين بعد وصوله إليهم دون أن يتفضلوا بنشره يدل على أن الرأي الآخر الذي يدّعون أنهم يفسحون المجال له لا وزن له عندهم، وليسوا آبهين لأصحابه! .
(1) جامع بيان العلم، 2/ 46.
(2) مجرد مثال: ما قد يفعله بعضهم من جمع لمواضع منتقدة من كتاب، فيخيل إليك أنه ناشئ عن استقراء وتتبّع ثم تكتشف إذا رجعت إلى هذا الكتاب أن صاحبك (المتتبع) ليس إلا عالة على محقق الكتاب في هذه المواضع المنتقدة دون أدنى إشارة إلى هذا المحقق، والفرق إنما هو في ذات الصياغة التمردية التهكمية عند (السارق) ، والأدب في النقد عند المحقق.(173/14)
دراسات في الشريعة
علماء الشيعة والنسب الهاشمي
د. سلمان الظفيري
كنت في جلسة مع بعض الأساتذة الشرعيين قبل سنوات فقلت: لماذا لا نحقق
وندقق في قضية النسب الهاشمي التي كثرت كثرة فاحشة عند علماء الشيعة ولا
سيما العجم منهم؟
وهذه القضية مهمة؛ لأن تفنيدها وكسر أضلاعها مما يساهم في تفتيت كثير
من باطل الشيعة ولا سيما هذه التكأة أعني أهل البيت وتسترهم خلف هذا الاسم
الشريف اللامع.
غير أن هؤلاء الإخوة منهم من سكت، ومنهم من قال الأمر فيه صعوبة؛
وذلك لأن النسب الهاشمي لا يعدو أن يكون نسباً يملكه صاحبه فقط فلا توجد
سجلات عامة يمكن للباحث الاستفادة منها وتحقيق الدخيل في النسب.
وقفات مع هذا الادعاء:
أولاً: العادة المعروفة عند علماء الشيعة أن من كان هاشمياً فإنه يلبس العمامة
السوداء، ومن كان من غير بني هاشم فإنه يلبس العمامة البيضاء.
وهذه العادة سارية مثل القانون في جميع البلاد التي يكون فيها للشيعة علماء
مثل إيران والعراق وغيرها من البلاد.
ولكننا نجد هؤلاء الهاشميين فيما زعموا ألقابهم منسوبة إلى مدن من مدن
البلاد الأعجمية مثل الميلاني والأردبيلي والخميني والخوئي.
وهؤلاء أحدهم لا يعرف نسب أجداده وإلا لانتسب إليهم بدل أن ينتسب إلى
أسماء المدن.
وهذه الحقيقة المرة يقف الباحث إزاءها ويتعجب من كثرة من ينتسب إلى
النسب الهاشمي بهذه الكثرة العظيمة من علماء الشيعة؛ ثم بعد ذلك هم ينتسبون إلى
مدينة من مدن إيران؛ مما يدل على عدم قناعة أحدهم بهذا النسب.
ثانياً: من شعارات الشيعة المعروفة: (التقية ديني ودين آبائي، ومن لا تقية
له لا دين له) ، فإذا عرف هذا لاح لنا أن الكذب في هذه القضية له نصيب كبير.
ثالثاً: مما يشكك بهذه الدعوى رغبة علماء الشيعة في اللغة الفارسية
واهتمامهم العظيم بها حتى إن الخوئي كان بالنجف يدرس باللغة الفارسية، وبنو
هاشم هم عرب ولغتهم اللغة العربية وسيدهم صلى الله عليه وسلم هو أفصح من
نطق بالضاد؛ فكيف لا يدعوهم هذا إلى الاهتمام بلغة القرآن الكريم ولغة سيدهم
(سيد بني هاشم) والإنسان ميال إلى أصله؟ !
رابعاً: من المضحكات في هذه الدعوى أن المدعو التيجاني التونسي مؤلف
كتاب (ثم اهتديت) الذي زعم أنه كان تيجانياً صوفياًَ ثم صار شيعياً جلداً قال وهو
يتكلم عن مذهب الشيعة وعن ترجيحه الفاشل له: «وأبي أخبرني بأننا أصولنا من
العراق، وأن نسبنا ينتهي إلى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) » .
أقول وبهذه السهولة بحث في ذكرياته القديمة ودفاتره العتيقة إن كان صدق
فإذا به سيد هاشمي يستطيع أخذ الخمس، وتأوي إليه كل راغبة ببركة المتعة لعلو
أرومته ونصاعة نسبه! !
خامساً: شكك الدكتور موسى الموسوي بنسب الخميني (النسب الهاشمي) ؛
وذلك لأن أصله من الهند؛ فقد جاء جده من الهند واستقر في مدينة خومين وتديرها؛
فلماذا قطع الخميني صلته بأقاربه؛ والعهد ليس ببعيد؛ فلا يعرف له صلة بقومه
وأقاربه؛ فعلامَ يدل هذا؟ [1] .
أقول: يدل هذا على سر سعي الخميني إلى إخفائه تلك الصلة، وأن وراء
الأكمة ما وراءها.
سادساً: ذكر الأستاذ أحمد الكاتب أن الخوئي كان أبوه يلبس العمامة البيضاء
فلما صعد الخوئي بدأ يلبس العمامة السوداء [2] !
وهذا معناه أنه زوَّر نسبه وادعى الهاشمية.
سابعاً: ومما يزيد الشبهة قوة ما وقع من حوادث وقعت في النجف كشفت
المغطى بستور غليظة؛ وقد سجلها بعض علماء الشيعة العائدين؛ إذ يقول:
«توفي أحد السادة المدرسين في الحوزة النجفية، فغسلت جثمانه مبتغياً بذلك
وجه الله، وساعدني في غسله بعض أولاده، فاكشتفت أثناء الغسل أن الفقيد الراحل
غير مختون» [3] .
والختان شائع عند المسلمين واليهود ولا يعمله النصارى، وهذا السيد الفقيد
محسوب على بني هاشم؛ فهل بعد هذا التزوير في الدين والنسب تُصدَّق دعواهم؟ !
ويقول أيضاً: «وهناك بعض السادة في الحوزة لي عليهم ملاحظات تثير
الشكوك حولهم والريب؛ وأنا والحمد لله دائب البحث والتحري للتأكد من
حقيقتهم» [4] .
أي حقيقة: حقيقة الدين، أم حقيقة النسب؟
لا شك أنه يريد حقيقة الدين: هل هم يهود، أم نصارى، أم مجوس؟
فهؤلاء أساتذة الحوزة من السادة (من بني هاشم) هذه حقيقتهم؛ فماذا تكون
حقيقة السادة السياسيين؟
اعترافات خطيرة:
في السنوات الأخيرة تاب ثلة من علماء الشيعة من أباطيلهم، واعترفوا بفساد
العقيدة الشيعية، ومن هؤلاء الشيخ حسين الموسوي مؤلف كتاب: (لله ثم للتاريخ)
حيث ذكر أحوالاً سافلة في تزوير النسب الهاشمي بأبخس الأثمان وأحط الأحوال.
ويحسن بي أن أنقل كلامه حول النسب الهاشمي وتزويره في النجف إذ يقول:
«ويحسن بنا أن ننبه إلى أن الفقهاء والمراجع الدينية يزعمون أنهم من أهل
البيت؛ فترى أحدهم يروي لك سلسلة نسبه إلى الكاظم (عليه السلام) . اعلم أنه
يستحيل أن يكون هذا الكم الهائل من فقهاء العراق وإيران وسوريا ولبنان ودول
الخليج والهند وباكستان وغيرها من أهل البيت، ومن أحصى فقهاء العراق وجد
أن من المحال أن يكون عددهم الذي لا يحصى من أهل البيت؛ فكيف إذا ما
أحصينا فقهاء البلاد الأخرى ومجتهديها؟ لا شك أن عددهم يبلغ أضعافاً مضاعفة؛
فهل يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً من أهل البيت؟
وفوق ذلك فإن شجرة الأنساب تباع وتشترى في الحوزة؛ فمن أراد الحصول
على شرف النسبة لأهل البيت فما عليه إلا أن يأتي بأخته أو امرأته إذا كانت جميلة
إلى أحد السادة ليتمتع بها، أو أن يأتيه بمبلغ من المال وسيحصل بإحدى الطريقتين
على شرف النسبة وهذا أمر معروف في الحوزة.
لذلك أقول لكم: لا يغرنكم ما يضعه بعض السادة والمؤلفين عندما يضع
أحدهم شجرة نسبه في الصفحة الأولى من كتابه ليخدع البسطاء والمساكين كي
يبعثوا له أخماس مكاسبهم» [5] .
وبعد فإن نبينا صلى الله عليه وسلم نهانا عن الطعن في الأنساب، وأنها من
الجاهلية وأخلاقها؛ غير أن الأمر هنا يتعلق بالدين والافتراء عليه، والتعلق
بالنسب الهاشمي الشريف لتضليل العباد وتكفيرهم وهدم الإسلام والتفريق بين أبنائه؛
فكان على من علم أن ينصح ويحذر المسلمين، وعسى أن تكون هذه الكلمات
طليعة لأقلام أخرى تساهم في إماطة اللثام عن وجه الحقيقة في هذه القضية الخطيرة.
__________
(1) انظر: الخميني في الميزان، د موسى الموسوي، ص 148.
(2) وقد ذكر ذلك في المسجد المركزي في لندن لبعض إخواننا من طلبة العلم، والكاتب هذا في علماء الشيعة الذين يدعون إلى تصحيح المذهب ونبذ الخرافات، وقد نقض الإمامة الشيعية بأدلة
قوية، وله كتاب في ذلك اسمه: (تطور الفكر الشيعي) .
(3) انظر: لله ثم للتاريخ، حسين الموسوي، ص 101، ط 4 دار الأمل القاهرة.
(4) المصدر السابق.
(5) لله ثم للتاريخ، مصدر سابق، ص 771 72.(173/18)
دراسات تربوية
تعبير الأحلام والاستسلام لخدرها
سامي بن عبد العزيز الماجد [*]
فيما تعاني الأمة أنواعاً من المآسي والنكبات تتنوع الطرائق في مواجهة هذه
المحن ولكل وجهة هو موليها. والذي يعنينا في هذه الكليمة فريقٌ وجد ملاذه في
تتبع الرؤى والأحلام وتعبيرها بطريقة حالمة أيضاً ثم الاستسلام لِخَدَر هذه الأحلام
وترقُّب تعبيرها.
إنّ شدة المعاناة والضعف، وثقل الهزيمة، وخور العزائم، وغلبة اليأس آلام
محرقة تبعث النفوس التي تعانيها على التعلل بالأماني الكواذب والهروب من الواقع
المأزوم إلى أطياف الأحلام؛ لتجد فيها سلوى عن آلامها وهزائمها وما هي إلا
أوهام لا تغني من الواقع شيئاً. فما أضغاث الأحلام إلا سراب من الأوهام يحسبه
الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
وهذا الهروب الموهوم من الواقع المأزوم إلى أطياف الأحلام هو صورة
أخرى من صور الهزيمة النفسية، وشاهد آخر من شواهد غيبة الوعي وسذاجة
التفكير التي إن غطت على العقول، فلا يؤمَن عليها حينئذ التياثها بدجل الشعوذة،
وأساطير الخرافات، ونبوءات أهل الكتاب الكاذبة، ولا تقوم إلا فيمن هان عليه أن
يعيش بغير عقل وازع يزعه عن شطط الضلال والظنون الذي كان يرجع إليه في
أكرم مقاصده وأعزها عليه، ومن هان عليه أن يعيش بغير هذا العقل الوازع
الحصيف لم يكن ليعز عليه أن يكون محلاً لخديعة الأحلام والمنامات، وأكاذيب
النبوءات.
إن الذي يعيش عالم الأحلام الموهوم، فيؤثره على واقع الحياة المشهود لجدير
أن يقول ما لا يفعل، وأن يفعل ما لا يقتضيه عقل صريح، ولا يقضي به شرع
صحيح؛ لأنه يريد أن يحقق بها أحلامه، ويرضي بها وساوس منامه، وإنْ أسْخطَ
بها الرحمن وأجلب على نفسه وعلى غيره المفاسد والفتن؛ فمنهجه وسلوكه يصبح
نهباً لعواطفه وأحلامه، توجهه إلى العمل بمقتضاها، أو تؤثر في منهجه وعمله
إيحاءاتها ودلالتها، فتزج به إلى مخالفة المنهج السوي والهدي المحمود، وتعرضه
لفتن ومحن لم تكن أصلاً في طريقه لولا اغتراره بتلك المنامات والنبوءات.
وما أكثر هؤلاء في أمتنا اليوم الذين غرتهم الأحلام، فاستجرَّتهم إلى مزالق
مهلكة، واجتالتهم عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كأنما يريدون أن يعيدوا
تجارب السابقين، وأن يعيشوا حاضراً غير موصول بأي سبب إلى الماضي، فتعيد
المأساة نفسها، وتصبح تجارب الآخرين صدى لتجارب الأولين، وبالمزالق
نفسها ... وهكذا يذهب الاتعاظ والاعتبار مع غياب الوعي وتعطيل
العقول.
وما أشقى الأمة التي لا تحنكها التجارب ولا تزعها الحوادث.
وما زلنا نذكر سلفاً ومثلاً قريباً لهؤلاء اتخذوا الأحلام هادياً ومبشراً ونذيراً،
فأعملوها في منهجهم وسيرتهم؛ فهم يسيرون في ظلها ويتفقدون إيحاءاتها ودلالاتها،
قد اطمأنوا بها، واستناموا إليها لا يبغون عنها مَصْرفاً، فأعقبهم ذلك أن فُتنوا بها
وفتنوا، ورأوا أنهم قد ضلوا يوم جعلوا تلك المنامات هادياً لهم يزاحمون به هدي
الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما أُتي هؤلاء يوم استهوتهم الأحلام فأردتهم في المهالك إلا من قلة الفقه في
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغلبة العاطفة على العقل.
وهذان شاهدان من سيرته صلى الله عليه وسلم تمنعان الرؤى مهما بلغ صدقها
ومهما حوت من المبشرات، أن يكون لها سبيلٌ إلى توجيه العمل وتصريفه، أو
سلطان على المنهج تحيله عن جادته، أو تشترع له جديداً، أو تصرف رجاله عن
السعي في تحقيق ما تقتضيه مقاصد الشرع وتبليغ رسالاته.
إن نبينا صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق
الصبح، وأما بعد النبوة فرؤياه صلى الله عليه وسلم وحي يوحى، وهو المعصوم
صلى الله عليه وسلم من تلاعب الشيطان، وهو الذي تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومع
هذا كله فهذه شواهد من تعامله مع الرؤيا:
أما الشاهد الأول: فإنه لما حشدت قريش رجالها، وخرجت في غزوة أحد
لتثأر لقتلاها ببدر: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم،
أم يمكث في المدينة؟ وأخبرهم أنه قد رأى رؤيا، وما رؤياه إلا من الوحي،
فقال: «رأيت بقراً تُنحَر، ورأيت في ذُباب سيفي ثَلْماً، ورأيت أني قد أدخلت
يدي في درع حصينة» .
فتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب
من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة.
فكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها؛ فإن دخلها المشركون
قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت.
فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه
بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، وقال بعض الأنصار: «والله ما دخلت علينا في
الجاهلية؛ أفتدخل علينا في الإسلام؟ !» .
وأبى أكثرهم إلا الخروج، فقال صلى الله عليه وسلم: «فشأنكم إذن!» .
ثم نهض، ودخل بيته، ولبس لأمته، وخرج عليهم، فقالوا: «أكرَهْنا رسول َالله
على الخروج. فقالوا: يا رسول الله! إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال:
ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» .
فنجد ها هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمد المشورة ثباتاً منه
على المنهج الذي ارتضاه له ربه، وترك العمل بإيحاءات رؤياه تلك ودلالاتها فلم
تثنه عن الخروج للقتال، ولم تُغرِهِ به.
وإنما دفعه للخروج مشورة أصحابه لما استشارهم، ومشايعة منه لرغبتهم في
الخروج، وترك صلى الله عليه وسلم الرؤيا تدور مدار الإنذار والتبشير.
إنه الثبات الذي لم تصرفه الرؤى عن التزام المنهج الصحيح والانقياد له.
وأين عن هذا الثبات أولئك الذين جعلوا الأحلام والرؤى هادياً لهم لا يريمونه
وإن هداهم إلى ما لا تقتضيه مقاصد الشرع، أو إلى ما يخالف هدي الرسول
صلى الله عليه وسلم.
وأما الشاهد الآخر: فإنه عليه الصلاة والسلام أُري في المنام وهو بالمدينة أنه
دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا وحلق
بعضهم وقصّر بعضهم، فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ففرحوا بها
فرحاً عظيماً؛ فهي تلك الرؤيا التي عناها الله بقوله: [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ
لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً] (الفتح: 27) .
ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه عام الحديبية إلى مكة يريد العمرة
وما كانوا يشكُّون أنهم سيعتمرون عامهم ذلك تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما وقع من أمر الصلح مع المشركين بالحديبية ما وقع، وما اقتضاه
ذلك الصلح من أن يرجع المسلمون عامهم ذلك من غير عمرة على أن يعودوا من
قابل ثقل ذلك على المسلمين كثيراً، وعزَّ عليهم أن يرجعوا إلى المدينة من غير أن
يطوفوا بالبيت الحرام؛ حتى ذهب عمر يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
ذلك حتى قال له: «أوَلستَ تحُدِّثنا أنَّا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال: بلى!
أفأخبرتك أن تأتيه العام هذا؟ فقال: لا. فقال: فإنك آتيه ومطوِّف به» .
ونجد في هذا الشاهد كذلك أن رؤياه تلك لم تكن لتصرفه عن منهجه الذي
ارتضاه لنفسه، وأراد أن يربي عليه أصحابه وأمته، ومن ذلك حسن النظر في
العواقب، وتقدير المصالح، واهتبالها إذا سنحت، فلما رأى النبي صلى الله عليه
وسلم المصلحة في الصلح رضي به وانقاد له غير آبه بشيء، ولم تكن الرؤيا هي
همه، ولا غاية يسعى لتحقيقها، بل ولم تكن أفعاله خاضعة لدلالتها ومقتضاها،
وإنما ترك تأويل رؤياه يأتي تباعاً في الطريق الذي نهجه والتزم سلوكه.
وهكذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤيا في حدودها ومكانها اللائق بها
فهي عنده مُبشرة لا موجهة.
هذا، ورؤياه عليه الصلاة والسلام جزء من الوحي؛ فكيف برؤيا غيره التي
ربما اختلطت بأضغاث الأحلام وتحديث الشيطان! ! !
وإذا كان من الخطأ في المنهج اتخاذ الرؤى هادياً ودليلاً يترسَّم به المرءُ
الطريق، ويتبصر به الحق، فإن من الخطأ كذلك أن يسارع المرء إلى التصديق
بكل ما يحكى من الرؤى، أو يغترَّ بتأويلها؛ لا سيما في هذا الزمان الذي رق فيه
الإيمان، وكثر فيه الكذابون المتفيهقون، وأصبح اشتغال الناس بالرؤى وتأويلها
أكثر من اشتغالهم بالعمل الذي يواجهون به حقائق الواقع الأليم.
إننا لمن الموقنين بقوله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحة جزء من
ستة وأربعين جزءاً من النبوة» متفق عليه.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لم يبقَ بعدي من النبوة إلا المبشرات» ،
فقالوا: وما المبشرات؟ فقال: «الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له» متفق
عليه.
ولكننا نرتاب كثيراً أن تكون كل المرويات من أحلام الناس اليوم هي من
جملة تلك الرؤى الصالحة المبشرة.
فثمة أمور تدفعنا للتريث كثيراً، وتبطئنا عن المسارعة إلى تصديق كل ما
يروى من الأحلام وبما يحكى من تأويلها.
الأمر الأول أن يكون المرء الذي نسبت إليه تلك الرؤيا كاذباً، قد تحلَّم بحلم
لم يره. وهذا احتمال وارد، والوعيد في ذلك شديد. يقول صلى الله عليه وسلم:
«من تحلَّم بحلم لم يره كُلِّفَ أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل» رواه البخاري.
ثم إذا فرضنا صحة الرؤيا وصدق صاحبها؛ فثمة أمر آخر يرد عليها، وهو
كون ذلك الحلم من قبيل حديث النفس؛ فإن بعض المنامات تتأثر بالهموم الشخصية
والحالة النفسية؛ وقد أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم هذا في قوله: «الرؤيا
ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا من تحزين الشيطان، والرؤيا مما
يحدِّث به الرجل نفسه» أخرجه الترمذي بسند صحيح.
ثم إن سلمنا أن الرؤيا ليست من حديث النفس، فثمة وارد يمنع أن تستخفَّنا
تأويلات تلك الأحلام فنسارع إلى تصديقها واستظهار الغيب بها.
وهذا الوارد هو احتمال خطأ المُعبِّر؛ فليس لزاماً أن يوافق تأويله عين
الحقيقة؛ لأن تأويله اجتهاد يحتمل الخطأ والوهم، كما يحتمله كل اجتهاد.
وقد أخطأ في تأويل بعض الرؤى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأوْلى أن يخطئ غيرهم ويهم.
ومن ذلك أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني رأيت
رؤيا. ثم قصّها عليه في حديث طويل، فقال أبو بكر: يا رسول الله! بأبي أنت،
لتدعني فأعبرها. فأذن له، فعبرها، ثم قال: فأخبرني يا رسول الله! أصبتُ أم
أخطأت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أصبتَ بعضاً، وأخطأت بعضاً» .
وقد وجدنا شيئاً من تأويل المعبِّرين اليوم تخالف سنناً ربانية لم تخرمها قرون
متطاولة، أفيخرمها حلم حالم؟
وقد تسامع الناس في هذه الأيام برؤى عُبرت بنصر من الله وفتح قريب يقع
في فلسطين محدد باليوم والشهر في مدة قريبة جداً! !
وإننا لنوقن أن ذلك ليس على الله بعزيز، فما كان ليعجزه من شيء في
السماوات ولا في الأرض. ولكن أين نحن من سنن الله التي ذكّرنا بها، وأمرنا أن
نتدبرها؟ !
أين نحن من قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
(الرعد: 11) ، وهذه سنة جارية في الخير والشر جميعاً. وأين نحن من قوله
عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]
(محمد: 7) مع قوله [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]
(محمد: 38) ؟ !
ولسنا في شك من أن الله سينصر دينه ويُعلي كلمته، ولكن هل نحن بواقعنا
اليوم أهل لاستحقاق هذا النصر والتمكين؟ وهل تحديد يوم النصر ذلك بيوم بعينه
هو مما تحتمله تلك الرؤى بصورها ومدلولاتها؟
ألا فلنربأ بأنفسنا وعقولنا عن هذا الإسفاف والاستخفاف، والقصدَ القصدَ في
الاشتغال بالرؤى والانسياق لتأويل المعبرين؛ فإنه ليس يجدينا الآن الفزع إلى
المنامات والأحلام، ومحاولة تنزيلها على الواقع.
إنما الذي يجدينا تلك الحلول الواقعية العملية التي تأخذ سنن الله الثابتة
وتستهدي بنورها، والتوجه إلى الإيجابيات من الأعمال التي تستفرغ التفكير
والجهد؛ وإن ذلك لجدير أن يطرد عنا هذا الوهم والانخداع.
__________
(*) محاضر بكلية الشريعة الرياض.(173/20)
ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
مناهجنا.. آخر الحصون
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها
جدعاء؟) [1] ، وفي رواية للترمذي والبيهقي ( ... أو يشركانه..)
والحديث يشير إلى دور التنشئة الاجتماعية التي يقوم بها الأبوان لإحداث
تحولات جذرية في عقيدة النشء الجديد وإيمائه، تلك التحولات التي تحدث عن
طريق الفعل المقصود الذي قد يصل إلى مرحلة القسر غير المحسوس (يهودانه)
و (ينصرانه) و (يمجسانه) و (يشركانه) ..
وإذا كان الأبوان في الماضي هما اللذان يقومان بالدور الأكبر في إحداث هذه
التحولات فإن طبيعة المجتمعات المعاصرة جعلت لهما شركاء في إحداث هذه
التحولات، تتمثل في المدرسة ووسائل الإعلام والمنتديات والبيئة الاجتماعية ...
ولكن يبقى الأبوان دائمًا هما المسؤولان الأساسيان عن هذه التحولات، إذ إنهما هما
اللذان يوجهان وليدهما أو يدفعانه أو يلقيان به إلى هذه (البدائل الأبوية) الجديدة
لتعيد تشكيل عقله وصياغة عاطفته وقلبه.
وقد فطن أعداؤنا إلى أهمية هذه (البدائل الأبوية) فاعتنوا بها وركزوا عليها
ففتحوا في بادئ الأمر مدارس الإرساليات التبشيرية (التنصيرية) واستقطبوا
فيها أبناء الطبقات المؤثرة في المجتمع، ثم عملوا على شطر نظم التعليم إلى شقين:
تعليم ديني وتعليم أسموه تعليمًا مدنيًا، مع احتواء الأخير على بعض المناهج
الشريعة، ثم علموا بعد ذلك على إضعاف هذه المناهج الشرعية في هذا التعليم
المدني بعدة طرق، منها: طريقة وضع المنهج، وطريقة تدريسه، وموقع
حصصه في اليوم الدراسي، ومنها: الحط من مدرسية وإهمالهم، ثم عملوا بعد
ذلك على تخفيض عدد ساعات هذه المناهج، وفي مرحلة لاحقة عمدوا إلى تعديل
هذه المناهج بما يتوافق مع الاتجاهات العلمانية والعولمية.
أما التعليم الديني فلم يسلم هو الآخر من أذاهم، فباسم التطوير أدخلوا فيه
مناهج لبعض المواد غير الشرعية، لا لتوسيع أفق الطالب ولكن لمزاحمة مناهج
المواد الشرعية، وبعد ذلك طالبوا - تخفيفًا على الطالب - تخفيض حجم المواد
الشرعية.
وفي حقبة ما بعد 11 سبتمبر ازدادت الهجمة شراسة ووضوحًا وصراحة على
المناهج الشرعية في التعليم الديني وغيره بدعوى أن هذه المناهج هي المسؤولة عن
تفريخ الإرهاب بزعمهم، بل طالت هذه الهجمة الإسلام نفسه ومصادره الأصلية كما
صرح بذلك بعض المسؤولين الغربيين، ووضعوا الخطط للتدخل في هذا التعليم كما
يظهر في عدة بلدان وتعد باكستان واليمن أبرز نموذجين لذلك.
فما هي جذر هذه الهجمة، وما هو واقعها؟ وما حقيقة العلاقة بين التعليم
الديني والإرهاب؟ وما أثر تغيير هذه المناهج على حياتنا وحياة أبنائنا، وفي
المقابل: ما هو موقع التعليم الديني وحجمه عند الطرف (الآخر) ؟
كل ذلك وغيره نحاول الإجابة عنه في هذا الملف الذي نرجو أن يكون إسهامًا
في توضيح هذه القضية المهمة.
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 138.(173/23)
ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
حاجتنا إلى منهاج إسلامية
د. سعد الشدوخي [*]
التربية عملية شاملة يتم بها الانتقال بالفرد أو المجتمع من الواقع الذي هو
عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه، وهي وفق هذه الرؤية عملية
تغيير مستمرة تتكامل مؤسسات تربوية اجتماعية كثيرة في تحقيقها؛ فالأسرة
والمدرسة والمسجد ونحوها تشترك في وظائف تربوية كثيرة، وقد يتميز بعضها
عن بعض في أدائها لبعض وظائفها التربوية، كما قد يستقل بعضها بأداء وظائف لا
يشاركه فيها مؤسسات أخرى. وهذه المؤسسات التربوية تتكامل أيضاً مع مؤسسات
اجتماعية أخرى غير معنية بالتربية كالمؤسسات الإعلامية والثقافية؛ وأدنى درجات
التكامل الذي تتوقعه المؤسسات التربوية من المؤسسات الاجتماعية الأخرى هو عدم
المناقضة أو الإعاقة: أي أن لا تعوق تلك المؤسسات الاجتماعية المؤسسات
التربوية في أداء وظائفها.
والمدرسة واحدة من أكثر المؤسسات التربوية أهمية، وهي تضطلع بوظائف
تربوية كثيرة منها ما هو اجتماعي ثقافي ميدان التغيير فيه هو المجتمع، ومنها ما
هو تربوي نفسي ميدان التغيير فيه هو الفرد المتلقي للتربية.
والمنهج هو وسيلة المدرسة لتحقيق أهدافها ووظائفها التربوية وكثير من
وظائفها الاجتماعية، ويعرّف المنهج بأنه «مجموع الخبرات والنشاطات التي
تقدمها المدرسة تحت إشرافها للتلاميذ بقصد احتكاكهم بها وتفاعلهم معها، ومن نتائج
هذا الاحتكاك والتفاعل يحدث تعلّم أو تعديل في سلوكهم، ويؤدي هذا إلى تحقيق
النمو الشامل المتكامل الذي هو الهدف الأسمى للتربية» وهو بهذا التعريف لا
يقتصر على الكتاب المدرسي وإنما يمتد ليشمل عناصر كثيرة منها الخطة الدراسية،
وطرق التدريس، والمواقف التعليمية والتربوية، والنشاطات الصفية وغير
الصفية، وكثير من عناصر البيئة المدرسية.
أسس بناء المنهج:
إن عملية بناء المنهج حينما تتم على أسس علمية تربوية عملية معقدة نوعاً ما
بحيث تتضمن عمليات فرعية دقيقة ومتداخلة في أحيان كثيرة، تضع في الحسبان
المجتمع وقيمه ومعتقداته وتطلعاته ومشكلاته والتحديات التي تواجهه من جهة،
والتلميذ وخصائص مرحلة نموه ولغته وطرائق تفكيره واحتياجاته ومشكلاته
وتوقعات مجتمعه منه من جهة ثانية، والمعرفة وطبيعتها وخصائصها من جهة ثالثة
حتى يصير المنهج نسيجاً متكاملاً محكم الحياكة وليس مجرد خيوط مهلهلة.
ومن أكثر مدخلات هذه العملية أهمية تحديد الأسس التي يبنى عليها المنهج.
ويتفق كثير من التربويين على تصنيف هذه الأسس بالنظر إلى مجالاتها في أربعة
أنواع: الأسس العقدية، الأسس المعرفية، الأسس الاجتماعية، الأسس النفسية.
الأسس العقدية:
أشرت في بداية هذه المقالة إلى أن التربية عملية تغيير يتحقق بها الانتقال
بالفرد والمجتمع من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون
عليه، وهذا الوصف للتربية وإن كان يصدق على جميع التربيات سواء كانت
إسلامية أم غير إسلامية إنما تتحدد فيه هوية التربية بتحديد تصورها للمثل الأعلى
الذي ينبغي أن يصار إليه سواء في تربية الفرد أم في تربية المجتمع. ولكل أمة
من الأمم رؤيتها الخاصة بها للإنسان الأمثل، ولذا فإن من نافلة القول أن المثل
الأعلى للإنسان في المجتمعات الاشتراكية مثلاً مغاير للمثل الأعلى للإنسان في
المجتمعات الرأسمالية، والمثل الأعلى للإنسان في الإسلام يختلف عنه في كل من
اليهودية والنصرانية.
والتصور عن الإنسان في وضعه الأمثل (فرداً أو مجتمعاً) لا يمكن فصله
عن التصور عن الكون والوجود والحياة. إن التصور عن هذه القضايا الكلية
الكبرى يشكل جزءا من الأسس العقدية التي يبنى عليها المنهج، وتتحدد على
أساسها مع بقية الأسس الأخرى أهدافه ووسائله ومحتواه؛ وعلى هذا الاعتبار فإنه
لا يمكن أن يُتصور منهجٌ تربوي لأمة من الأمم دون أن يكون مبنياً على معتقداتها
وتصوراتها عن الوجود والكون والإنسان والحياة، ومن ثم فإنه لا يمكن أيضاً أن
يُتصور إمكان استعارة أمة من الأمم مناهج تعليمية من أمة أخرى أو أن تبني أمة
مناهجها أو تطورها وفق مواصفات تحددها أمة أخرى.
ولا يتسع المقام هنا للحديث المفصل عن الأسس العقدية للمنهج في المجتمعات
المسلمة، ولكن أقتصر على الإشارة إلى بعض منها:
الإنسان في وضعه الأمثل هو الإنسان الذي تحققت فيه غاية وجوده، وهي
تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى. يقول الله سبحانه: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ
إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) ، وعلى هذا الأساس تتحدد رسالة التربية في
المجتمع المسلم بأنها العمل على مساعدة الإنسان على إدراك غاية وجوده ومن ثم
تحقيقها، وفي هذا الإطار تفعّل التربية في الإنسان خصائصه الفكرية والوجدانية
والحركية على نحو يجعله قادراً على التفاعل مع الأشياء والأحياء بما يحقق هذه
الغاية، ويجعله منتجاً في عمارة الأرض وفق منهج الله. وكل هذا يقتضي إثراء
المنهج بالمعارف والخبرات التي من شأنها أن تعرّف الطالب بغاية وجوده، وتنمي
فيه الاتجاه لتحقيقها.
- الله خالق كل شيء ورب كل شيء ومليكه، وهو وحده المستحق للعبادة؛
وبناء المنهج على هذا الأساس يقتضي في جملة أمور أخرى تعريف الطالب بربه
وحق ربه على نحو يجعله يدرك استحقاقه سبحانه للعبادة دون سواه، ويجعله يعبد
الله مخلصاً له الدين.
- أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين يطاع
فيما أمر، ويصدَّق فيما أخبر، ويُنتهى عما نهى عنه، وقد وصفه الله بأنه لا ينطق
عن الهوى.
- أن الكون خلق لله، وأنه ليس إلهٌ ولا أي من أجزائه كذلك، كما أنه ليس
عبداً للإنسان، وأن العلاقة بينه وبين الإنسان إنما هي علاقة تسخير؛ حيث سخّر
الله للإنسان ما في السماوات وما في الأرض؛ يقول تعالى: [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الجاثية:
13) ، وأن الإنسان مستخلف في الأرض ليعمرها وفق منهج الله، وأن الله يسيّر
هذا الكون وفق سنن ونواميس سنّها لتستقيم بها حياة الإنسان على هذه الأرض،
وهي مظاهر من مظاهر التسخير لكنها ليست حدوداً لقدرة الله. وهذه السنن
والنواميس الكونية يمكن أن تكون مجالاً للبحث والدراسة وكلما تمكّن الإنسان من
اكتشاف المزيد منها أمكنه توسيع دائرة استفادته من التسخير على نحو يسهّل عليه
أمر معاشه ويعينه في تحقيق عبوديته لله وعمارته للأرض وفق منهج الله.
- أن الحياة ميدان للابتلاء؛ يقول الله تعالى: [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ
العَزِيزُ الغَفُورُ] (الملك: 1-2) ، وجعل من طبيعة الحياة أنها مليئة بعناصر
الابتلاء بالخير والشر، وجعل الأصل في الإنسان الخيرية. يقول الله سبحانه:
[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين: 4) ، وجعله ذا طبيعة مزدوجة
فيها استعداد لتمييز الخير والشر، وللاستجابة لنوازع الخير ودواعي الشر؛ يقول
الله تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: 7-10) ، ويتم تفاعل النفس الإنسانية مع
عناصر الابتلاء في الحياة من خلال ما ركّب في النفس من دوافع وغرائز فطرية
تتأثر بما ركّب في الحياة من عناصر الابتلاء بحيث يمثل عنصر الابتلاء
«مثيراً» ، ويمثل السلوك الذي يصدر عن الإنسان في مواجهة عنصر الابتلاء
«استجابة» .
ومن أمثلة عناصر الابتلاء في الحياة ما زيّنت به من مال وبنين وأزواج
ومنازل ومراكب وغبرها؛ يقول الله تعالى: [المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً] (الكهف: 46) . وقد ركّب
الله في النفس الإنسانية القابلية لإدراك جانب الزينة (الجمال) في هذه العناصر
والقابلية للانجذاب إليها والسعي لتحصيلها؛ وذلك ليتحقق بها الابتلاء، ولو لم
تفطر النفس الإنسانية على ذلك لما كان ثمة فرق بين رؤية الفتاة الجميلة اللعوب
الطروب وبين رؤية القرد أو الحجارة مثلاً. يقول الله تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ
وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ] (آل عمران:
14) ، وجاء الشرع لينظم للإنسان منهج التعامل مع عناصر الابتلاء متضمناً
الاعتراف بالدافع الفطري وتنظيم إشباعه ببيان ما يحل وما يحرم، وتوجيه الإشباع
بربطه بغاية وجود الإنسان (عبادة الله) ، وترتيب الجزاء على سلوك الفرد في
مواجهة الابتلاء بناء على مدى قرب ذلك السلوك أو بعده من أن يكون مظهراً
لتحقيق تلك الغاية. وقد أورد الله في كتابه الكريم نماذج كثيرة لمواقف ابتلاء
اختلفت استجابات الذين مروا بها باختلاف نظرتهم إلى الحياة ومدى ارتباط
مناشطهم فيها بغاية وجودهم، ولا يتسع المقام هنا لذكر أمثلة لهذه المواقف.
الأسس المعرفية:
بالنظر إلى أن المعرفة تشكّل جانباً مهماً من محتوى المنهج فإن بناء المنهج أو
تطويره يتأثر بالموقف الذي يُنطلق منه فيما يتعلق بالمعرفة من حيث غايتها
وطبيعتها وموضوعها ومصادرها وحدودها وعلاقتها بالمنهج وإحلالها فيه ووضع
المعرفة في عصر الانفجار المعرفي ووحدات المعرفة ومستوياتها في المنهج.
إن من أهم ما يميز «المعرفة» في المنظور الإسلامي مصادرها؛ ففي حين
تنحصر المصادر الرئيسة للمعرفة في كثير من الفلسفات في مصدرين رئيسين هما:
الحس والعقل، نجد أن المنظور الإسلامي للمعرفة يتفق مع تلك الفلسفات على
اعتبار كل من الحس والعقل مصدراً رئيساً من مصادر المعرفة، لكنه يضيف إليهما
مصدراً ثالثاً أكثر أهمية وهو (الوحي) المتمثل في القرآن الكريم كلام الله والسنة
النبوية الصحيحة، والوحي يستقل بمصدريته للمعرفة في مجال الغيبيات، ويشترك
مع كل واحد من المصدرين الآخرَيْن في مجاله ويهيمن عليه فيه. وما جاء عن
طريق الوحي مما ينتمي في موضوعه إلى أي من المجالين فهو ضابط للمعرفة في
ذلك المجال.
والمعرفة في الإسلام لا تنفصل عن التصور الإسلامي للكون والوجود والحياة
والإنسان، وإنما تستند إليه وترتكز عليه، ومن ثم فهي مبنية على مسلَّمات عقديه
من أهمها:
- أن الله خالق كل شيء وإرادته ماضية في خلقه، وأنه ذو العلم المطلق،
وأن القرآن الكريم كلام الله، وأن محمداً رسول الله، وأنه لا ينطق عن الهوى،
وأن قوانين السببية جزء من النواميس الكونية التي سنها الله لتستقيم بها حياة
الإنسان، وهي جزء من إرادة الله وتقديره وليست حداً لها؛ يقول تعالى: [إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ] (يس: 82) .
كما يمتاز المنظور الإسلامي للمعرفة بتفسيره لغاية المعرفة؛ إذ إن غاية
المعرفة في التصور الإسلامي معرفة الله، ومعرفة حق الله، ومعرفة كيفية أداء ذلك
الحق وأداؤه فعلاً؛ ويتضح هذا عند التأمل في سياق ذكر الحقائق الكونية أو النفسية
أو التاريخية أو غيرها في القرآن الكريم. إن تلك الحقائق لا ترد في القرآن لمجرد
العلم والمعرفة، وإنما ترد في سياق التعريف بالله وبحق الله. انظر مثلاً في مثل
هذه الآيات المتضمنة لحقائق كونيه غايتها التعريف بالله وبحق الله: [وَآيَةٌ لَّهُمُ
الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَباًّ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن
نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ
يَشْكُرُونَ * سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ
يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ] (يس: 33-40) .
وانظر مثلاً في مثل هذه الآيات المتضمنة لحقائق تاريخية وردت في سياق
التعريف بالله وبحق الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ
جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ
جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت
طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ
سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ
يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ
القَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً
أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً]
(الأحزاب: 9- 17) .
ثم إن معرفة الله ومعرفة حقه ومعرفة كيفية أداء ذلك الحق لا تكفي وحدها،
بل لا بد من أداء حق الله فعلاً؛ ولذلك عاب الله على الذين يعلمون ولا يعملون؛
فقال تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً
بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (الجمعة:
5) كما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أوائل من تسعّر بهم النار يوم
القيامة: « ... ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه، قال:
فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيهكِ القرآن، قال: كذبتَ،
ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالم، وقرأتَ القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمربه
فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» [1] .
ولا يُفهم من قولنا إن غاية المعرفة في التصور الإسلامي هي معرفة الله
ومعرفة حق الله ومعرفة كيفية أداء ذلك الحق وأداؤه فعلاً أن هذا يقتضي قصرها
على ما يسمى بالمعرفة الدينية أو على علوم الشريعة، بل هي أعم من ذلك وأشمل؛
وذلك بالنظر إلى أن عمارة الأرض وفق منهج الله داخلة في عموم حق الله،
وعمارة الأرض هذه تتطلب العلم بكل الميادين المشروعة سواء ما كان منها
موضوعه الشريعة أو ما كان منها موضوعه الطبيعة؛ ولذا فإن المنظور الإسلامي
للمعرفة تتكامل فيه علوم الشريعة وعلوم الطبيعة على أساس أن الوجود الموضوعي
للأشياء والأحياء خلق لله والقرآن الكريم كلام الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم
مبلّغ عن الله، وكل خبر من الله عن خلقه جاء في كتابه أو على لسان نبيه صلى
الله عليه وسلم لا يمكن أن يخالف حقيقة المخلوق، هذا من جانب، ومن جانب آخر
فإن العلم بسنن الله في الأنفس والآفاق وحياة الأمم والمجتمعات يزيد في معرفة
الإنسان لله، كما يزيد في قدرة الإنسان على الاستفادة من التسخير ومن ثم عمارة
الأرض وفق منهج الله.
الأسس الاجتماعية:
بالنظر إلى كون المدرسة مؤسسة اجتماعية وتتولى تربية أفراد ينتمون إلى
مجتمع يرتبط مستقبله بمستقبلهم، ويتطلع إليهم من حيث هم حملة هويته وعدّته في
مواجهة التحديات المحيطة به وحل مشكلاته، كانت الأسس الاجتماعية من أهم
الأسس التي يبنى عليها المنهج.
ويقصد بالأسس الاجتماعية المقومات والقضايا ذات العلاقة بالمجتمع الذي
يعيش فيه الطلاب التي يجب على مخططي المنهج أو مطوريه أن يأخذوها
بالحسبان.
وفي هذا الإطار لا بد أن يراعى في بناء المنهج ما يلي:
- ثقافة المجتمع: لكل مجتمع ثقافته التي يتميز بها عن غيره، ومن
خصائص الثقافة أنها متجددة، وتختلف المجتمعات في درجات الثبات والتغير في
ثقافاتها، وثقافة المجتمع المسلم شأنها شأن غيرها من الثقافات فيها عناصر ثابتة
وعناصر متغيرة، والعناصر الثابتة هي القيم والمقومات التي تشكل هوية المجتمع،
ومن ثم تضطلع المدرسة بالتكامل مع مؤسسات اجتماعية أخرى بوظيفة الحفاظ
على ثقافة المجتمع ونقلها إلى الأجيال الجديدة، ويتم ذلك من خلال المنهج الدراسي
حيث يجب أن يعنى بتأصيلها أي بربطها بأصولها التي تنامت منها، وبتسهيلها
وتيسيرها حتى يفهم الطالب عناصرها ويتشربها وينصبغ بصبغتها ويعتز بحمله لها
وانتمائه إليها.
أما المتغيرات فهي تلك العناصر ذات العلاقة بمظاهر الحياة التي تتشكل بالقيم
والمقومات؛ فهي أشكال تدور حول القيم والمقومات وتنضبط بها. وتسهم عوامل
كثيرة في حركة هذه المتغيرات كالاحتكاك الثقافي والتقدم العلمي وغيرهما.
وفي إطار مهمة المدرسة في الحفاظ على ثقافة المجتمع وتجديدها يجب أن
يعنى المنهج بهذه المتغيرات؛ وذلك بتقويمها على أساس من الثوابت؛ وأي متغير
يحقق مصلحة ولا يعود على ثابت بضرر فإنه يمكن للمنهج أن يسهل اندماجه في
ثقافة المجتمع. وعلى العكس فإن المتغيرات التي لا تحقق مصلحة أو تعود على
الثوابت بالضرر يتوقع من المنهج أن يبصّر الطلاب بجوانب عوارها، وأن يكسب
الطلاب المعايير، وينمي لديهم القدرات ومهارات التفكير التي بها يستطيعون أن
يواصلوا مهمة التقويم بأنفسهم في ميادين الحياة الاجتماعية الواسعة.
ولبناء المنهج على ثقافة المجتمع وعنايته بها سواء في تأصيل ثوابتها أو
تقويم متغيراتها أهمية كبيرة في تنمية الشعور بالانتماء الاجتماعي والثقافي عند
الطلاب، والاعتزاز بالهوية، ومن ثم تنمية الشعور بالمسؤولية الاجتماعية عند
الطالب، كما أن لعناية المنهج بتأصيل الثوابت الثقافية وإكساب الطالب معايير
التقويم الثقافي أهمية كبيرة في تحقيق التجانس الاجتماعي الذي يعدّ شرطاً للأمن
الداخلي للمجتمع؛ إذ إن هناك علاقة طردية بين التجانس الاجتماعي والأمن
الداخلي للمجتمع.
- التحديات الثقافية والحضارية: تواجه المجتمعات المسلمة في هذا العصر
تحديات حضارية وثقافية كثيرة، ومن أكثرها أهمية التحديات ذات العلاقة بالعولمة
وأدواتها الاقتصادية والسياسية والإعلامية والمعلوماتية، وحينما تراعى الأسس
الاجتماعية في بناء المنهج أو تطويره فإن الطالب يُعدّ ليكون جزءاً من مشروع
الأمة لمواجهة هذه التحديات.
- المشكلات الاجتماعية: لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات من وجود
مشكلات اجتماعية يعاني منها، وتختلف هذه المشكلات من مجتمع إلى آخر،
والمجتمعات الإسلامية ليست استثناء وإنما لديها مشكلاتها التي يتوقع من المنهج أن
يسهم في تربية أبنائها ليكونوا جزءاً من حلولها. وتعاني كثير من المجتمعات
الإسلامية من مشكلات مثل ارتفاع معدلات البطالة ومعدلات الطلاق ومعدلات
حوادث المرور، وتفشي المخدرات وانخفاض معدلات الإنتاج وغيرها؛ وبناء
المنهج على الأسس الاجتماعية يقتضي أخذ مشكلات المجتمع بالحسبان.
ونختم حديثنا حول الأسس الاجتماعية للمنهج وأهمية أخذها بالحسبان عند بناء
المنهج أو تطويره بالتأكيد على أن لكل مجتمع هويته التي تميزه عن غيره من
المجتمعات، كما أن لكل مجتمع ظروفه ومشكلاته وتطلعاته والتحديات التي تواجهه
وطريقته في المواجهة، وكل هذه الأمور تُعدّ من الخصوصيات الاجتماعية التي
ينفرد بها المجتمع عمّا سواه، ومن ثمّ تقتضي بناء مناهجه التعليمية والتربوية على
ما يعزز هويته ويُعدّ أبناءه وبناته ليكونوا عُدّته في بناء مستقبله على نحو يحقق
التوازن بين ثبات مقوماته وتغيّر أدواته، وأي إخلال بهذا التوازن أو تجاهل له
يُنتج مجتمعاً مأزوماً تتوالد مشكلاته حتى تقعد به ليس فقط عن أن يكون له موقع
صدارة بين الأمم وإنما عن أن يكون جديراً بأي احترام.
الأسس النفسية:
إن كل ما سبق أن ذكرناه في سياق حديثنا عن الأسس السابقة إنما ينبغي أن
يتجلى أثر العناية به في سلوك الطالب وفكره ووجدانه من حيث هو مُنتَجٌ للعملية
التعليمية والتربوية، وقد سبقت الإشارة في بداية المقالة إلى أن التربية عملية تغيير
ميدانها الإنسان، ومن ثم فإن تحقيق التغيير في الإنسان يتوقف على مدى فهم
المربين له وإدراكهم لمراحل نموه ومجالات ذلك النمو وسماته وخصائص كل
مرحلة نمائية، وإدراكهم لعملية التعلم ذاتها وكيف تتحقق، وإدراكهم لاحتياجات
المتعلمين ومشكلاتهم وسبل تحقيق ذواتهم، ونحو ذلك من المعلومات التي تمثل
معطيات يقدمها علم النفس للتربية وتشكل أسساً نفسية ينبغي لمعدي المنهج
ومطوريه أخذها بالحسبان عند تنظيم محتوى المنهج وبيئة التعلم وتصميم المواقف
التعليمية والتربوية سواء في الكتاب المدرسي وبقية المواد التعليمية أو في مكان
التعلم أو زمانه.
إن المعرفة المضمّنة في المنهج المدرسي ليست مقصودة بذاتها، وإنما
المقصود تنمية شخصية الطالب بها وبالسياق النفسي والاجتماعي الذي تقدّم من
خلاله، وبالخبرات التي يهيئها المنهج، وذلك كله ينبغي أن يتتوّج بتحقيق النمو
السليم للطالب في جميع مجالات النمو حسب طبيعة المرحلة النمائية التي يمر بها
الطالب وخصائصها.
إن كل ما سبق ينبغي توظيفه في إحكام حياكة المنهج على نحو يمكن أن
يتجسد مُخرَجُه في سمات الطالب من حيث انتماؤه إلى دينه واعتزازه بهوية مجتمعه
وتمكنه من مهارات التفكير بأنماطه المختلفة بما يتناسب مع سنه وميوله واستعداده،
وتمكنه من مهارات الاتصال الاجتماعي والثقافي وتمكنه من مهارات التعلم الذاتي،
وشعوره بالمسؤولية تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، وتقديره للعمل والإنتاج والتزامه
بقيمه وإدراكه لأهمية الوقت وحفاظه عليه وحسن استثماره له.
__________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض، قسم التربية.(173/24)
ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
هل لمناهجنا صلة بالتطرف والإرهاب؟
محمد بن عبد الله الدويش [*]
أفرزت أحداث أمريكا الأخيرة توجهاً غربياً وأمريكياً بدرجة أولى نحو مواجهة
الإرهاب، وقد اتسعت دائرة التعامل مع ظاهرة الإرهاب رغبة في اجتثاث مصادره،
وكان من الطبيعي أن تلتفت الأنظار إلى مناهج التعليم بحثاً عن مسؤوليتها في
تفريخ الإرهاب. وشنت الدوائر الرسمية ووسائل الإعلام في الغرب حرباً ضروساً
على مناهج التعليم في العالم الإسلامي متهمة إياها بأنها المسؤول الأول عن ظاهرة
الإرهاب.
وتبع هذه الحملة وسار وراءها طائفة من المستغربين من بني جلدتنا، وكثر
الحديث حول ذلك في الصحف والفضائيات وشبكة الإنترنت.
ومع وجود مشاركات من عديد من الغيورين إلا أنها لا تتناسب مع حجم هذه
الحملة الشرسة.
ومن ثم كان لزاماً على من لهم مشاركة في الدعوة إلى الله أن يسهموا في
الحديث عن هذه الظاهرة، ويزداد الأمر تأكيداً في حق المتخصصين في هذا
الميدان.
محاور الهجمة:
ركزت محاور هذه الهجمة على محورين أساسين:
المحور الأول: المدارس والمعاهد الشرعية:
وقد جاء على رأس هذه القائمة المدارس الإسلامية في باكستان، باعتبارها
المصدر الذي خرجت منه طالبان.
وبناء على ذلك قدمت الحكومة الأمريكية دعماً لباكستان مقداره 100 مليون
دولار لبناء بنك معلومات عن طلاب المدارس القرآنية يهدف لتأمين معلومات
أساسية عن كل طالب ومدرس في هذه المدارس. وسيكون من أهداف هذه البرنامج
أيضاً الرقابة على منشورات هذه المدارس ودور النشر التابعة لها.
هذا المبلغ سيستخدم أيضاً في إيجاد برامج دراسية جديدة في هذه المدارس
التي لم تكن تدرس سابقاً سوى القرآن، وسيكون على المدرسين أن يوافقوا على
الخضوع لدورات تدريبية لمتابعة البرامج الجديدة؛ في حين سيفقد المعارضون منهم
وظائفهم.
المحور الثاني: المقررات الشرعية:
لم يقف الأمر عند حدود المدارس والمعاهد الشرعية؛ بل تجاوز ذلك إلى
المقررات الشرعية التي يدرسها طلاب التعليم العام؛ على أساس أن الكمَّ الذي
يدرسه الطالب من العلوم الشرعية كما يرى أهل الهجمة يفوق احتياجاته، ويسهم
في تغذية روح التدين؛ كما أن محتوى هذه المناهج يحوي ما يغذي التطرف
والإرهاب.
الحملة ليست جديدة:
إن الحملة على المناهج وتوجيه أصابع الاتهام إليها ليست وليدة هذه الأحداث
وتزايُدُ حدتها هذه الأيام إنما هو لحرارة الحدث وضخامته.
ومن أبرز مواقف الحديث عن المناهج:
1 - الصراع العربي الإسرائيلي:
ارتبط الحديث عن ضرورة تغيير المناهج بالصراع العربي الإسرائيلي
ارتباطاً وثيقاً، وفي جميع مشروعات السلام كان اليهود يطالبون بمراجعة المناهج
وإزالة كل ما يؤدي لغرس الكراهية فيهم، ويعكر على مسيرة السلام والمصالحة.
وفيما يلي نماذج من محاولات تغيير المناهج المرتبطة بمسيرة السلام:
أ - السلام المصري الإسرئيلي:
عقدت ندوة في جامعة تل أبيب عنوانها: (دراسة تأثير القرآن الكريم في
عرقلة التطبيع مع إسرائيل) وشارك فيها مصطفى خليل رئيس وزراء السادات
السابق، وبطرس غالي. ثم طالب بيجن بإغلاق دور القرآن الكريم في مصر
وتأميم المساجد.
وقد تم من ذلك الكثير على المستوى العملي؛ فجرى حذف بعض آيات القرآن
الكريم من المناهج التي يدرسها الطلاب كما سيأتي بيانه.
ب - السلام الفلسطيني الإسرائيلي:
تتهم الدوائر الإسرائيلية الفلسطينيين بأنهم غير جادين في السلام، ومن
منطلقات هذه الاتهامات المناهج الدراسية.
وقد أفادت دارسة أنجزتها منظمة أميركية غير حكومية نشرت يوم الاربعاء 21
/11 /2001م أن البرامج الدراسية الجديدة التي اعتمدتها السلطة الفلسطينية في
الضفة الغربية وقطاع غزة «لا تدرس مبادئ السلام والمصالحة مع إسرائيل» .
واعتبر نائب مدير الفرع الإسرائيلي لهذه المنظمة يوهانان مانور أن «النصوص
الجديدة لا تدرس مبادئ السلام والمصالحة مع إسرائيل حتى إنها ترفض وجودها؛
» مضيفاً «أن المنحى التعليمي للسلطة الفلسطينية ليس متطابقاً مع المبادئ
التي حددتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) » .
وأعربت الدراسة عن الأسف؛ لأن اللغة العبرية لا تعتبر من اللغات المستخدمة
في البلاد، وأن توصف إسرائيل بالدولة «المغتصبة» و «المحتلة» منذ
قيامها سنة 1948م، وأنها لا تظهر على أي خارطة. وشددت الدراسة على
«أنه لم يشر إلى أي من الأماكن المقدسة اليهودية، وأن القدس تظهر وكأنها
ملك للفلسطينيين وحدهم، وأن الكفاح من أجل تحرير فلسطين موضوع عسكري
محض» . وأكدت أيضاً على أن الكتب الدراسية «تقدس الشهيد والجهاد» مع
أنها «لا تعرب مباشرة عن دعمها للإرهاب» [1] .
2 - أعمال العنف في الدول العربية:
أدى انتشار أعمال العنف في بعض الدول العربية إلى المطالبة بمراجعة
مناهج التعليم، وقد أجريت دراسات عدة وعقدت ندوات ومؤتمرات للبحث عن
مدى صلة مناهج التعليم بالإرهاب.
ونادى عدد من التربويين إلى تنقية المناهج من كل ما يغذي الإرهاب ويزيد
جذوته، بل قطعت خطوات عملية في ذلك؛ ففي الجزائر أصدر وزير التربية
قراراً بحذف التعاليم والأذكار التي تلازم عملية غسل الميت، وآيات وأحاديث
الترهيب بعذاب القبر وفقه الجهاد. كما استبدلت الرسومات والصور التي كانت
تظهر الطفل الذي يتوضأ أو يؤدي الصلاة مرتدياً العباءة أو القميص الإسلامي
بصورة أخرى تظهره بسروال جينز [2] .
3 - الأقليات المسلمة:
تعاني كثير من الأقليات المسلمة من مضايقات وانتهاك لحقوقها في التعليم،
وتفرض كثير من الحكومات قيوداً صارمة على التعليم شعوراً منهم بمخاطره.
وقد «شددت السلطات الصينية الرقابة على التعليم الإسلامي في إقليم
سينغيانغ ذي الأغلبية المسلمة. وتقول السلطات إنها تعمل على إصلاح وتوحيد
الفصول الدراسية لتأهيل الأئمة المحليين» [3] .
4 - الحكومات العلمانية في العالم الإسلامي:
شنت بعض الحكومات العلمانية في العالم الإسلامي هجوماً على التعليم
الشرعي.
نماذج من التطرف المزعوم في المناهج:
حين نعود إلى ما يقوله من يصم المناهج بالإرهاب نرى أن من صور
الإرهاب والتحريض عليه ما يأتي:
1 - تكفير غير المسلمين.
2 - الولاء والبراء.
يقول أحدهم متحدثاً عما يدرجه ضمن قائمة الإرهاب: «من الواجب على
المسلم أن يكون مخلصاً للآخر المسلم وأن يعتبر الكفار أعداء له» «ويركز
المتدينون جل اهتمامهم على الأمور الاجتماعية عن طريق توزيع مطويات وكتيبات
في صالات التسوق؛ وفي إحدى تلك المطويات كتب:» إن قضاء الإجازة في
الغرب ذنب. كما انتقد آخر تهنئة غير المسلمين بأعيادهم. ونفس هذه الدروس
يتردد صداها في حوالي عشرين صفحة من الكتاب المدرسي المقرر على المرحلة
الثانوية تحت موضوع الولاء والبراء. ويقول الكتاب الدراسي: إن تجاهل
الطقوس والأعياد الخاصة بالكفار وإظهار العداوة لهم أحد المتطلبات الأساسية لكره
الكفار. ثم ينتهي هذا الجزء بتوصية الشباب السعودي بعدم تقليد الغرب في لباسهم
وأكلهم وشربهم « [4] .
3 - الجهاد في سبيل الله:
يقول أحدهم» فقه الموت هو الذي ما زال يدرسه أبناؤنا في مدارس العالم
الإسلامي وجامعاته باستثناء تركيا وتونس «؛» لأن برامج التعليم العتيق غسلت
أدمغتهم ولقنتهم منذ نعومة أظفارهم فقه الحروب الصليبية القائل: الجهاد فرض
عين على كل مسلم ومسلمة إذا غزت الحربُ دارَ الإسلام سواء كانت ظالمة أو
مظلومة « [5] .
4 - أحكام الزواج والأسرة:
تقول إحدى الكاتبات في النيويورك تايمز:» هل تتصور أن المرأة في
السعودية ليس من حقها أن تتزوج على زوجها؛ في الوقت الذي يتزوج الزوج
عليها؟ «» هل تتصور أن الرجل في السعودية يطلق امرأته؛ بينما المرأة لا
تستطيع أن تطلق زوجها؟ «» هل تتصورون أن الرجل في السعودية يتزوج من
كتابية، ولكن المرأة السعودية لا تستطيع أن تتزوج من كتابي؟ «، وتطالب
السيدة الأولى في أمريكا أن تتدخل لدى الدول العربية والإسلامية لإنصاف المرأة
كما تدخلت لإنصاف المرأة الأفغانية.
5 - الحجاب:
وارتداء الحجاب أو الدعوة إليه مظهر من مظاهر التطرف والإرهاب.
يقول أحد الباحثين:» في مقرر اللغة العربية لطلاب الفرقة الثالثة الإعدادية
وفي مادة النصوص، طبعة عام 91/1992م، قصيدة بعنوان: (يا بنيتي)
للشاعر علي الجارم، وهذه القصيدة مكرسة كلها إلى تمجيد الحجاب بوصفه فضيلة
الفضائل. والسؤال: ما موقف الطالب والطالبة المسيحية الذي يجب عليه أن يحفظ
تلك القصيدة. وما موقف الطلاب من غير المحجبات؟ ! أسئلة كثيرة تطرح نفسها
وكان يجب أن تكون هذه القصيدة للدراسة وليس للحفظ صوناً لوحدة الوطن « [6] .
وإذا كان وجود فتاة غير محجبة يفرض علينا ألا نثني على الحجاب ونعده
فضيلة لاحظ أن الأمر لا زال في دائرة الثناء والحث حتى لا يسيء النظرة تجاهها؛
فكيف نذم التدخين والمجتمع مليء بالمدخنين؟ بل هناك من يمارس الفواحش فلِمَ
نذمها ونعيبها؟
ويقول آخر:» خذ إليك هذا المظهر أو هذا المثال: عندما تلمح سيدة أو
آنسة تغطي وجهها بما يشبه العباءة ولا تترك من نقابها إلا فتحتين صغيرتين كفم
العصفور أمام عينيها، من أين جاءت بهذا الزي العجيب؟ « [7] .
6 - الثناء على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:
حتى الحديث في أخبار خير النساء وتعليم الطلاب والطالبات سيرتهن مما
يغذي الإرهاب ويذكيه. يقول أحد التربويين:» أيضاً في مقرر اللغة العربية
للصف الثاني الإعدادي في مادة النصوص في طبعة عام 91/1992م موضوع
بعنوان: «المرأة العربية» وفي هذا الموضوع تمجيد وتركيز مبالغ فيه على
زوجات الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. والسؤال: أليس هناك نماذج أخرى
من تاريخنا الممتد عبر الآلاف من السنين سواء في الحقبة الفرعونية أو الحقبة
القبطية تحدث توازناً ما بين تلك النماذج المقدمة في فترة معينة؟ « [8] .
7 - آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم:
لا يقف الاعتراض على المغالطة بأن هذا فهم بشري لنصوص القرآن والسنة
بل يمتد للنصوص نفسها فيطالَبُ بحذف ما لا يروق لأهوائهم مما يدرسه الطلاب.
قال بيجن لوزير التربية المصري:» كيف تريد أن أصدق أن هناك نية
عندك للتطبيع وطلاب مصر ما زالوا يقرؤون الآية التي تقول: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ] (المائدة: 78) .
ويقول محمد طبل (خبير بوزارة التربية المصرية) عن دليل لمنهج الدين
للتعليم الأساسي أرسل له من قبل مركز التطوير (الذي كان يشرف عليه خبراء
أمريكان) : «وعندما تصفحت الموضوعات موضوعاً موضوعاً وجدت أنها لا
توضح حقيقة الإسلام، كما وجدتها قد حذفت منها كل الآيات والوقائع التاريخية عن
اليهود والغرب» [9] .
وحين اعترض علي إسماعيل على باحثة أمريكية في لجنة تطوير المناهج في
مصر دعت إلى حذف آيات قرآنية وأحاديث وأحداث تاريخية فوجئ باستبعاده من
لجنة تطوير التربية الدينية [10] .
ومما تم حذفه في بعض المناهج الدراسية قوله تعالى: [وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ] (النور: 31) ، وقوله: [لاَ تَجِدُ
قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] (المجادلة: 22) ،
وحديث: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» [11] .
8 - أحداث السيرة:
بعض أحداث السيرة تدرج عند هؤلاء ضمن الأعمال الإرهابية؛ ومن ثم فهم
بين أحد خيارين: إما وصم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يمارس الإرهاب، أو
الطعن فيما ثبت منه.
يقول أحدهم معلقاً على ما رود من أحاديث اغتيال كعب بن الأشرف وغيره
من رؤوس الكفر: «ومع أننا ضد الدعوى التي بدأت تظهر وتشيع زاعمة أن
التاريخ الإسلامي كله قد زيف وحرف، إلا أننا نعتقد أنه يتعين على كل مسلم أن
يترفع بالنبي صلى الله عليه وسلم عن الموافقة على هذه الواقعات، بل والأمر بها
صراحة أو ضمناً، كما أنه ينبغي على كل إنسان أن يطهر تاريخ الدين من مثل
هذه الواقعات مهما قيل عن دوافعها وأسبابها، ورائدنا في ذلك طبيعة النبوة وصفات
النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وما جاء في القرآن الكريم وما تضمنته كتب
التاريخ الإسلامي ذاتها؛ فطبيعة النبوة صفاء وتسامح وعفو ومغفرة، ولم تكن
النبوة أبداً وما كانت لتكون غدراً أو غشاً أو خيانة أو اغتيالاً، وتاريخ النبوات كلها
شاهد بذلك، وصفات النبي صلى الله عليه وسلم تقطع بأنه كان دائم العفو شديد
التسامح نافراً من الخيانة بأي صورة من صورها، يقابل خصومه مواجهة ليقارعهم
الحجة بالحجة أو يدفع عنهم أذاهم سيفاً بسيف» [12] .
ولئن لم يتجرأ الكاتب على وصم الرسول صلى الله عليه وسلم بالإرهاب
واستبدل ذلك بتكذيب النصوص الثابتة في سيرته، فقد تجرأ على علماء الأمة؛
ومن صور تجرئه عليهم قوله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وبهذا التشدد الصارم،
والاتجاه الإرهابي، والألفاظ المطاطة، والتعبيرات الغامضة والنزعة الانفصالية،
وبمعارضة الحكام ومحاربة المجتمعات، استطاع ابن تيمية أن يؤثر تأثيراً بعيد
المدى على بعض الحركات والتيارات الإسلامية خلال القرنين الماضيين حتى اليوم.
وقد أثر ابن تيمية كذلك على بعض الحركات الإصلاحية التي تثير مشكلة العودة إلى
أصول الإسلام لتحقيق تعاليمه واتباع تقاليده وتنفيذ منهجه، بأسلوب عسكري
واتجاه حربي، في نزعات انفصالية وممارسات سياسية» [13] .
وفي أحد كتب المرحلة الإعدادية يوجه للطالب السؤال الآتي: «اذكر قصة
الثلاثة المتطرفين الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن التطرف» [14] .
كما يعد بعضهم مجرد تدريس أحداث السيرة أمراً يغذي الإرهاب، فيقول:
«وفي مقرر النصوص والبلاغة والأدب طبعة 90/1991م مليء بقصائد
لشعراء المدح ويمجد الشعر في صدر الإسلام؛ وهو شعر مليء بالروح
الانفعالية تجاه العقيدة الإسلامية دون سواها من العقائد الأخرى» [15] .
9 - إنشاء المدارس الدينية:
إن مجرد إنشاء مدارس تعنى بتعليم الدين وأحكامه، وتربي الطلاب عليه يعد
عاملاً مهماً من عوامل انتشار الإرهاب.
وها هو أحد الباحثين يقول: «إن إنشاء مدارس للروابط والهيئات الدينية
والخيرية باسم الإسلام أمر غير مطلوب، حيث يتم اختيار الطلاب والمعلمين الذين
يقومون بالتدريس على أساس ديني صرف» [16] .
ومن هنا جاءت الحملة على المدارس والمعاهد الشرعية في باكستان،
واليمن، والسعودية، وقبل ذلك كله تركيا.
وقد وصف الرئيس اليمني المدارس الدينية قبل هذه الحملة بأنها (الجيل
الطاهر، الجيل النظيف، الجيل المخلص. درع حماية الثورة والمبادئ والمنجزات
العقدية) [17] .
10 - أحاديث افتراق الأمة:
أطبق عامة علماء أهل السنة والجماعة على الاستشهاد بقول النبي صلى الله
عليه وسلم: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا
واحدة» ، وجعلوه في مقدمة تصنيفهم في الاعتقاد والفرق، إلا أن هذا الحديث قد
لا يروق لبعضهم.
يقول أحد عمداء الكليات الشرعية مستشهداً على تضمن المناهج ما يدعو إلى
التطرف والإرهاب: «في العقيدة مثلاً هناك تركيز على مسألة الفرقة الناجية،
فيجري التركيز على أن الأمة تختلف على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية،
والفرق الأخرى كلها في النار، والطالب عندما يدرس هذا الشيء يعتقد أنه يملك
الحقيقة المطلقة والصواب المطلق، وأن الآخرين كلهم على ضلال وجهل، فينشأ
على ذلك» [18] .
11 - الدين والتدين:
وينتهي الأمر إلى الدعوة إلى الإلحاد والخروج من الدين؛ فها هي منظمة
الإسلام والغرب (وهي منظمة عالمية يرأسها اللورد كارادون وتتكون من خمسة
وثلاثين عضواً عشرة أعضاء منهم من المسلمين، وقد نشأت برعاية اليونسكو
وأصدرت دستورها في 3/10/1979م وفيه: «إن مؤلفي الكتب المدرسية لا
ينبغي لهم أن يصدروا أحكاماً على القيم سواء صراحة أو ضمناً، كما لا يصح أن
يقدموا الدين على أنه معيار أو هدف» وفيه «أن المرغوب فيه أن الأديان يجب
عرضها ليفهم منها التلميذ ليس خصائصها الأساسية ولكن أيضاً ما تشترك فيه مع
غيرها من الأديان» وفيه: «يلزم فحص الكتب الدراسية التي قامت بتقديم
الظاهرة الدينية على أن يقوم بذلك علماء من كافة التخصصات وكذلك أعضاء من
أصحاب العقائد الأخرى وكذلك اللادينيون» [19] .
إذاً فهذه هي حقيقة المطالبة، وعلى أولئك الذين يظنون أن الأمر سيتم بمجرد
تعديل عدة عبارات من محتوى المنهج تزيل حساسية الآخرين وغضبهم، عليهم أن
يدركوا أن الأمر لن ينتهي إلا عند انخلاع الأمة من دينها؛ وقد وصفهم لنا تبارك
وتعالى وبين حقيقة موقفهم منها فقال: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
وقال عز وجل مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ
مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (الجاثية: 18) .
ثغرات في المطالبات بالتغيير:
ثمة ثغرات علمية ومنهجية في المطالبة بالتغيير في المناهج لتنقيتها مما يولد
التطرف والإرهاب، وتشمل هذه الثغرات:
1 - غموض مفهوم التطرف والإرهاب:
رغم الحديث المستفيض حول التطرف والإرهاب إلا أنه لا يوجد تعريف
محدد يمكن الاحتكام إليه، وتحديد التعريف المتفق عليه هو الخطوة الأولى.
وها هو أحد المتعاملين مع ظاهرة الإرهاب وهو اللواء الدكتور أحمد جلال عز
الدين مساعد وزير الداخلية ومدير مركز بحوث الشرطة في مصر يقول:
«الإرهاب في تعريفه يمثل إشكالية قانونية وسياسية بالغة التعقيد لاختلاف
وجهات النظر حيال الفعل الواحد؛ حيث يعتبره البعض إرهاباً، وينظر إليه
الآخرون باعتباره عملاً من أعمال النضال الوطني، وقد أخفق المجتمع الدولي في
الوصول إلى تعريف للإرهاب، والذي يتابع مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة
في اللجنة السادسة القانونية منذ عام 1973م وحتى الآن، يستطيع أن يتبين
بوضوح مدى اختلاف وجهات نظر الدول نحو الإرهاب والتي تتوقف على
النظرة المصلحية للدولة بصرف النظر عن المبادئ والقيم الأخلاقية» [20] .
ولذا فقد دعا أحد الكتَّاب إلى العدول عن مصطلح الإرهاب إلى مصطلح الظلم
معللاً ذلك بقوله: «أما الإرهاب فإنه حمّال أوجه ومتعدد المفاهيم، لم يتفق له على
معنى محدد، أو تعريف جامع مانع بعد ... والظلم مفهومه واضح، لا لبس فيه ولا
غموض، يدركه الإنسان بفطرته، بينما الإرهاب لا تزال مفاهيمه غامضة،
ودوافعه متعددة، يسمح تحالف الناس على مكافحته بسوقهم إلى حرب مدمّرة
يخوضونها باسمه، ثم سرعان ما يكتشفون أنهم خدعوا بشعارات براقة تخفي
وراءها تحقيق مصالح خاصة تنطلق من رغبة بالاستئثار والتسلط» [21] .
ومع عدم وجود تعريف دقيق للتطرف والإرهاب فهو أيضاً معنى نسبي يتأثر
بالشخص نفسه وموقفه من الدين.
ويؤكد هذا المعنى كاتب غير مسلم فيقول: «وهو معنى نسبي يختلف من
زمن إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، وفقاً لنسق القيم السائدة فيه؛ فما يعتبر
تطرفاً في زمن قد لا يكون مقبولاً في زمن آخر، وما ينظر إليه على أنه تطرف
في مجتمع ما قد يكون مألوفاً في مجتمع آخر، والاعتدال يتغير مفهومه بتغير
البيئات والحضارات والثقافات والديانات» [22] .
كما يؤكد هذا المعنى باحث آخر فيقول: «وبذلك يمكن القول بأنه التطرف
وصف معياري، حيث لا يمكن تحديد التطرف دون تحديد الحد المعياري الذي
ينبغي تجاوزه لنطلق على الفعل أو الشخص لفظ متطرف» [23] .
ومن ثم فحين يَرفع لواء مواجهة التطرف والإرهاب قوم لا صلة لهم بالدين،
أو ممن رق دينهم فسيكون واقعهم هو المعيار الذي يتخذونه للحكم على التطرف؛
ذلك أن «مقدار تدين المرء وتدين المحيط الذي يعيش فيه من حيث القوة والضعف
له أثره في الحكم على الآخرين بالتطرف أو التوسط والتسيب. فمن المشاهد أن من
كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي يعيش فيه شديد الالتزام بالدين
يكون مرهف الحس لأي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم لا
حظَّ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي مقابل هذا نجد الشخص الذي قل زاده
من التدين علماً وعملاً، أو عاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه
يعتبر التمسك بالحد الأدنى من الدين ضرباً من التعصب أو التشدد» [24] .
ومن الأمثلة على ذلك أن أحد الباحثين التربويين عدَّ إجبار الطلاب على
الوضوء وصلاة الظهر، وإجبار الفتيات على لبس الحجاب أمثلة على قيام بعض
المدرسين بالدعوة للأفكار المتطرفة [25] .
وفي البحث المذكور كان من وسائل نشر الفكر المتطرف أن إدارة المدرسة
تترك الطلاب يعظ بعضهم بعضاً، وتفصل البنين عن البنات، وتجبر الطلاب على
عادات معينة، وتغلق دورات المياه، وتمنع الأكل في الفسح وتغلق الكافتيريا في
رمضان [26] .
2 - أين الدراسة العلمية؟
وإذا اتفقنا على مفهوم واضح ومحدد للتطرف والإرهاب، مفهوم يستند على
أسس موضوعية وعلمية فحينئذ نحتاج إلى أن نقوم باشتقاق معيار من هذا المفهوم،
ونقوم بتطبيق هذا المعيار على المناهج الدراسية لمعرفة مدى صلتها بالتطرف
والإرهاب.
فأين هذه الدراسة؟ وأين الخطوات العلمية المتخذة في ذلك؟
إن الأمر لا يعدو أن يكون محاولة تحوير أجزاء من محتوى المنهج دون
خطوة علمية موضوعية تنظر إلى المنهج بكافة عناصره نظرة شاملة.
3 - الحملة لمصلحة من؟
حين يتحدث الغرب عن تنقية المناهج مما يغذي الإرهاب فإنه يتحدث عن
نوع محدد من الإرهاب؛ إنه يتحدث عن الإرهاب الذي يتهدد مصالحه، أو بعبارة
أخرى يسعى إلى تنقية كل ما يعارض مصالحه ونفوذه.
فقد تم استبعاد عضوين من لجنة تطوير التربية الدينية في مصر نتيجة خلاف
وقع بينهما ومقررة اللجنة (ليندا لامبرت) الأمريكية الجنسية حول المحرمات
الإسلامية؛ فقد رأت ليندا أن منهج التربية الدينية يصور الغرب بالنسبة للأطفال
تصويراً سيئاً في مثل موضوعات الخمور والربا وغيرها من المحرمات، وعندما
اعترض الباحثان على ذلك بسبب تحريم القرآن للخمور والربا تم استبعادهما من
اللجنة [27] .
ورغم أن أمريكا تمارس التدخل في خصوصيات المجتمعات الأخرى، إلا
أنها لا ترضى ذلك لنفسها وهي القائلة قبل عشرين عاماً: «لو قامت قوة بفرض
نظام تعليمي علينا لكان ذلك مدعاة لإعلان حرب» .
4 - الظروف الحالية:
ترتبط المناهج بهوية الأمة، وتشكل عاملاً مهماً في إعدادها وتربيتها، ومن
ثم فالتعامل معها لا يسوغ أن يخضع لظروف طارئة؛ فالظروف تتغير وتتبدل؛
فكيف بمثل هذه الظروف التي أحدثت ضخامتها هزة في طريقة التفكير والتعاطي
معها؛ فلا عجب أن صدرت تصريحات طائشة ومواقف مندفعة.
ولئن عظم الخطب في قرارات ومواقف اتخذت استجابة لهذا الاندفاع غير
المتزن مع الحدث؛ فالخطب سيكون أعظم حين يمتد إلى مناهج التعليم التي تحتاج
إلى أن يُتَعامل معها في ظل أوضاع هادئة بعيداً عن التشنج والانفعال، وبعيداً عن
الاستجابة لردود الأفعال.
5 - هل الدين يغذي الإرهاب أم يعالجه؟
تنطلق الحملة على المناهج الشرعية والمدارس الدينية من فرضية مؤداها أن
التعليم الشرعي يغذي الإرهاب؛ لكن هناك من رجال التربية من يعكس الأمر
فيقول: إن زيادة الجرعة الشرعية هي التي تقي من التوجه للإرهاب والتطرف.
ويسجل أحد الذين درَّسوا في كل من جامعة الأزهر والقاهرة وعين شمس
والزقازيق والمنصورة هذه الملاحظة فيقول: «وقد لاحظت ملاحظة هامة وهي أن
الطلبة في جامعة الأزهر لا ينتسبون أو يتصفون بالتطرف على الإطلاق، وإنما هم
طلاب معتدلون في أفكارهم يقبلون الأمور ببساطة، ويفهمون دينهم فهماً واسعاً
عميقاً وشاملاً مختلطاً بالعلوم المدنية الحديثة. وعلى الجانب الآخر كنت أجد في
الجامعات الأخرى كثيراً من التطرف ربما يكون سببه من وجهة نظري مظاهر
الاستفزاز الموجودة داخل هذه الجامعات من بهرجة قد تستفز بعض الطلاب. وربما
يكون افتقاد دراسة الدين الصحيح في هذه الجامعات؛ ذلك لأن طلابها بصفة عامة
لو أجريت إحصائية ستجد أنهم أكثر تطرفاً. أما طلاب جامعة الأزهر فأقل
تطرفاً» [28] .
وقد أيد هذا الرأي دراسة علمية نشرها مركز الدراسات السياسية
والاستراتيجية [29] .
ويقول في موضع آخر: «ولا أجد سوى زيادة الجرعة الدينية التي تعتبر
عاصماً من التطرف» [30] .
6 - هل الطالب مُخْرَجٌ للمدرسة وحدها؟
حين تبدو من فئة من طلاب المدارس مظاهر من التطرف ويمارسون أعمالاً
تصنف على أنها إرهابية فهل مصدر هذه الأعمال هو مناهج التعليم؟
إن الطالب مخرج لعوامل ومؤثرات عدة: في الأسرة، والرفقة، والمجتمع،
ووسائل الإعلام، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؛ فهل من المقبول علمياً أن
نختار طائفة من سماته وأعماله لنحيلها إلى المدرسة؟
إننا حين نتأمل في واقع طلاب المدارس فنرى أن ثمة أعداداً وقعت في جرائم
جنائية، وأخرى وقعت في المخدرات، وأن هؤلاء أضعاف أولئك الذين اتهموا
بالقيام بالأعمال الإرهابية، فلِمَ يقال بأن الإرهاب من مخرجات مناهج التعليم، ولا
يقال إن الجريمة والانحراف وتعاطي المخدرات والبطالة هي من مخرجات مناهج
التعليم؟
وها هي الدولة التي تنصِّب نفسها حامية للعالم من شرور الإرهاب تتعرض
لأعمال العنف والإرهاب في مدارسها، ويمارس طلابها أعمال الإرهاب البشعة قبل
أن يتجاوزوا أسوار المدرسة؛ ففي 11/3/2000م قُتِل شاب رمياً بالرصاص
وأصيب اثنان آخران بجروح قرب إحدى المدارس الثانوية في ولاية جورجيا
الأمريكية. وفي أبريل من العام نفسه قَتَلَ طالبانِ 12 من زملائهما وإحدى
المدرسات بعد أن راحا يطلقان النار بشكل عشوائي في إحدى مدارس دينفر بولاية
كولورادو. وفي مايو/ أيار التالي أصاب طالب ستة من زملائه بجروح حين أطلق
النار عليهم في مدرسة ثانوية قرب بلدة كونييرز في ولاية جورجيا. ومنذ عشرة
أيام أطلق صبي في العاشرة من العمر النار على زميلة له فأرداها قتيلة في إحدى
مدارس ولاية ميتشيجان « [31] .
7 - كم نسبة المتهمين بقضايا الإرهاب؟
إن من يتهمون اليوم بالضلوع فيما يصنف على أنه أعمال إرهابية لا يشكلون
إلا نسبة ضئيلة جداً من ملايين طلاب المدارس الذين يدرسون المناهج نفسها،
ويعلمهم المعلمون أنفسهم؛ فلِمَ لم يظهر أثر هذه المناهج إلا على هذه الفئة المحدودة
جداً من التلاميذ؟
وهل يتناسب هذا مع ما يقال حول حجم ما يؤدي إلى الإرهاب ويغذيه؟
وقد كانت مناهج التعليم كما هي عليه اليوم، والتغيرات التي طرأت عليها لا
تخرجها من دائرة ما يوصف بأنه تغذية للإرهاب فلِمَ لم يظهر أثرها إلا اليوم وفي
هذه الظروف بالذات؟» لو أن المناهج والمقررات الدراسية هي التي تخرج
«الإرهابيين» لكان هؤلاء الإرهابيون بمئات الألوف، بل لربما كانوا
و «كُنَّ» بالملايين، ولكانت الأوضاع غير الأوضاع والأحوال غير
الأحوال « [32] .
بل إن معظم المتهمين بالضلوع في هذه الأعمال هم ليسوا من خريجي المعاهد
الشرعية، ونسبة منهم ممن لم يكملوا تعليمهم، وقليل منهم كانوا متفوقين في
دراستهم.
فلِمَ لا يقال إن هناك عوامل أخرى أدت إلى نشوء هذه الظاهرة غير تأثير
المناهج والمعاهد الشرعية؟
بل لو جزمنا بنفي تأثير المناهج والمعاهد الشرعية من خلال حجم المتهمين
بذلك لكنا أكثر منطقية وموضوعية من نسبة التأثير إليها.
8 - الكيل بمكيالين:
الإرهاب تهمة تتركز غالباً نحو المسلمين، أما غيرهم ممن يمارس أبشع
صور الإرهاب فهم بريئون منه، وعلى رأس هؤلاء قطبا الإرهاب في العالم:
أ - القطب الأول: أمريكا:
لا تحتاج أمريكا أن تدافع عن نفسها؛ فقد تطوع بالدفاع عنها أحد عمداء
الكليات الشرعية، وهو ممن شن حملة شعواء على المناهج متهماً إياها بالإرهاب،
بل نادى بإتلاف كتاب الكبائر وإحياء علوم الدين؛ لأنهما يهينان المرأة. وهذه
المطالبة تمثل قمة التسامح والتعايش مع الآخر واحترام المخالف، وهو أسلوب لم
يَرْقَ إليه المتحجرون الذين يطالبون بمنع الروايات التي تسب الله تعالى أو تسب
رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيقتلون الإبداع والأدب! !
يقول هذا الأستاذ عن أمريكا:» وقد أكدت الحكومة الأمريكية مراراً وتكراراً
احترام الإسلام والمسلمين وبخاصة الرئيس بوش الذي يعد أكثر رئيس متحمس
للدفاع عن الإسلام إلى أبعد مما نتصور « [33] .
ويقول أيضاً:» ليس من العدالة أن نصف الرد الأمريكي بالإرهاب؛ إذ
بذلك نقع في خطأ خلط المفاهيم بين الإرهاب والدفاع عن النفس، أو رد العدوان
في الوقت الذي نطالب فيه المجتمع الدولي بعدم الخلط بين الإرهاب والمقاومة
المشروعة، وما وقع في أمريكا إرهاب متفق عليه، والرد الأمريكي رد للعدوان
بإجماع دولي، ولا معنى لوصفه بالإرهاب « [34] .
والسبب تتحمله كما يقول الكاتب طالبان:» إننا نحزن حقاً للأبرياء ونترحم
عليهم؛ ولكن ذلك جناية طالبان عليهم وعلى المسلمين في كل مكان؛ فهي عدوة
للمسلمين وعدوة لنفسها وعدوة لشعبها «أما أمريكا فهي تحترم الإسلام والمسلمين
كما قال ورئيسها أكثر الرؤساء احتراماً للإسلام، ولعل الكاتب نسي أن يذكر أن من
مظاهر احترام أمريكا للإسلام دعمها لرجل السلام المتميز شارون الذي يقتل
الأطفال ويهدم البيوت؛ لأنها تمثل بؤرة خطيرة للإرهاب تهدد السلام العالمي والأمم
المتحضرة. كما نسي أن يشير إلى الأسلوب الحضاري المتميز الذي عاملت به
أمريكا أسرى طالبان والقاعدة، وأن العالم الغربي الذي استنكر هذا الأسلوب
واستنكر أيضاً قتل أسرى» جانجي «المتخلفين المتحجرين لم يَرْقَ إلى مستوى
العقلية الأمريكية المتسامحة مع الآخر.
وانتشار المدارس الدينية اللاهوتية في أمريكا لا يعد مشكلة، ولا أثر له في
الإثارة ضد الآخر، أو تحريك النزعات الدينية؛ ففي عام 1954 1955م كان عدد
المدارس الدينية اليومية في الولايات المتحدة الأمريكية لا يزيد عن 123 مدرسة
تضم 13 ألف تلميذ، وفي عام 1980م وصل إلى 18 ألف مدرسة تضم أكثر من
مليوني تلميذ [35] .
أما عقلية العنف والإرهاب في المجتمع الأمريكي فيعبر عنها كاتبان أمريكيان
كان عنوان أحد فصول كتابهما (أكثر دول العالم عنفاً في العام) ومما جاء في
المقابلات التي أجراها هؤلاء مع شريحة من المجتمع الأمريكي: (أحب قتل الناس
من أجل الترفيه والتسلية فقط، وذلك بنسفهم بالمتفجرات) (أشعر بحاجة للقضاء
على كل الناس المزعجين الذين يضايقونني) (أشعر برغبة في ضرب الناس لأني
لا أحبهم) (أريد أن أبيد العالم وأبدأ من جديد، أريد أن أقتل كل الناس) [36]
ومهما قيل بشذوذ هذه الحالات فهي حالات موجودة فلِمَ لا تصنف ضمن دائرة
الإرهاب؟
ب - القطب الثاني إسرائيل:
في إسرائيل يتعلم الطالب كل ما يغذي الإرهاب لكن ذلك لا يعد مشكلة تستحق
النظر.
تبلغ نسبة المنتسبين من التلاميذ في إسرائيل إلى التعليم الديني الحكومي في
المرحلة الابتدائية 21. 6% كما تبلغ نسبة المنتسبين إلى المدارس التابعة للأحزاب
الدينية الأرثوذكسية 9. 9%. [37] أي أن 31% من طلاب المرحلة الابتدائية
يدرسون في مدارس دينية، ولا يوجد في العالم الإسلامي دولة تبلغ نسبة الملتحقين
بالتعليم الشرعي هذا الرقم.
ومع انتشار التعليم الديني في إسرائيل فمناهجهم تطفح بما يغذي الإرهاب
ويُذْكي جذوته، ويقضي على أي انفتاح في النظر للآخر أو التعايش معه.
وهناك دراسة أجريت على 380 كتاباً ألحقت العرب بالمهن الآتية:
لصوص: (42) كتاباً، مخربون: (36) ، قناصون وقتلة: (27) ، مختطفو
طائرات (31) ، مغتصبو أملاك: (41) ، يحرقون الحقول والأشجار: (17)
أعمال قاسية دون تحديد: (181) [38] .
كما أثبت البروفيسور كوهين في بحثه المنشور بالعبرية تحت عنوان: (بانيم
مخوعارت بمرآة) أي وجه قبيح في المرآة، أنه في تحليله لمضامين ألف كتاب
عبري تظهر صورة العربي في شكل قاتل أو مختطف للأطفال، وأن هذه الصورة
مستقرة لدى 75% من أطفال المدارس الابتدائية [39] .
ومما ورد في بعض الكتب المدرسية في إسرائيل:» كل ما مر بالقدس ليس
سوى غزوات عابرة حتى سعدت بعودتنا لتصبح عاصمة لإسرائيل مرة أخرى «
(كتاب: هذا موطني، تأليف ش. شكيد) . وفي كتاب وقائع شعب إسرائيل للصف
الخامس تستخدم أسطورة فيها صورة حجارة تتساقط من السماء على الكنعانيين.
وفي مقرر الصف السابع هجوم سيئ على النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه
بالغارق في الأحلام، وأنه يأمر أتباعه بنشر الدين بقوة السلاح، وأنه يستعمل
المكائد والمؤامرات في حربه مع اليهود. وفي كتاب علم التربية المدنية المقرر
على طلبة المدارس الثانوية أن العرب يعدون لحرب إبادة ضد إسرائيل بحيث
يقذفون بالسكان اليهود في البحر، وأنهم إذا لم ينفذوا هذا الوقت تهديداتهم فلعدم
القدرة لا لعدم الإرادة [40] .
في لقاء أجراه مركز مراقبة تداعيات السلام مع طالب عمره سبعة عشر عاماً
يدعى (دانيال بافوليجي) وجاء فيه:» إن تلك الكتب تعلمنا أن كل ما يفعله اليهود
صحيح وشرعي، بينما تصور العرب بأنهم دائماً على خطأ ويحاولون إرهابنا «،
وذكر أن أحد أصدقائه بادله الرأي بقوله إنه شعر بسخط شديد في أعقاب محاضرة
له بالمدرسة، وأحس برغبة شديدة في قتل أول عربي يقابله وقال: يعلموننا
التباغض بدل التسامح، والكثير من مدرسينا يثيرون سخطنا نحو العرب» . ومن
العبارات التي تزخر بها الكتب المدرسية في إسرائيل: «من الصعب على أبناء
إسماعيل التخلي عن رغبتهم في السرقة» .
إننا لن ننتظر من اليهود إلا ما هو اسوأ من ذلك، لكن القصد من إبراز هذه
النماذج الإشارة إلى الانتقائية في التعامل مع ظاهرة الإرهاب، والواجب إبراز هذه
النماذج وغيرها من الواقع الأمريكي والإسرائيلي في وجه الاستعماريين الجدد.
التوصيات:
وبعد هذا العرض لهذا الموضوع يؤكد الكاتب على التوصيات الآتية:
1 - الاعتناء بالتخصصات التربوية:
نحن اليوم في عصر التخصص، وقد مضى الوقت الذي يمكن أن نجد فيه
من يعرف كل شيء ويتحدث في كل فن أو لا نجد أحداً، وحتى العلوم الشرعية لم
تعد فرعاً واحداً يدركه المتخصص، إنما اتسعت لتشمل فروعاً عدة في التخصص
الواحد.
ومع خطورة التربية بوجه أخص، والدراسات الإنسانية بوجه أعم فهل يليق
أن تلقى الجفاء والإهمال من الإسلاميين؟ إن النابغين والمتفوقين يوجهون في
الأغلب إلى التخصصات العلمية التطبيقية (الطب، الحاسب، الهندسة ... ) أما
التخصصات الإنسانية فيتجه إليها أولئك الذين لم تسعفهم معدلاتهم.
بل إنك تجد طائفة من الخيرين وحملة العلم الشرعي بحاجة إلى أن يقنع
بأهمية الدراسات التربوية والاعتناء بها. أحد الأفاضل من حملة الدكتوراه في
تخصص شرعي كان يناقشني بأنه لا ضرورة للتخصصات التربوية، فيكفينا ما في
فتح الباري وكتب الحافظ ابن رجب وابن القيم!
ألسنا إلى وقت قريب نناقش في جدوى دراسة علم النفس وغيره، وننظر إليه
بريبة وانتقاص؟
وهل لا زلنا نعتقد أن مجرد تحصيلنا الشرعي رغم ضحالته يؤهلنا لأن نتكلم
في كل فن، وأن نخوض كل بحر نحسنه أو لا نحسنه؟
2 - توثيق الصلة بالخيِّرين:
ثمة فئام من الخيِّرين في مواقع القرار في المؤسسات التربوية، أو من أهل
الاختصاص في ذلك، لكن لديهم قصور في التدين، وربما رددوا بعض ما يسمعونه
من أفكار.
ونحن نمارس مع كثير من هؤلاء ألواناً من القطيعة، بل ربما المعاداة
والمواجهة، ونصنف كثيراً منهم في دائرة حملة الفكر السيئ لمجرد أنه اختلف معنا
في رأي من الآراء، ولو اتسع أفقنا لرأينا أن كثيراً ممن يخالفنا في الآراء والأفكار
ليسوا أهل علمنة وفجور.
إننا بحاجة إلى أن نبحث عن نقاط الاتفاق مع هؤلاء أكثر من نقاط الاختلاف
وعلى أن نبحث عن فرص التعاون أكثر من فرص الصراع، وسيبقى هؤلاء في
مجتمعاتنا يدرِّسون ويحاضرون ويتخذون قرارات عملية ربما كانت مصيرية في
حق مجتمعاتنا، وصراعنا معهم لن يلغي دورهم بل سيزيد الهوة ويوسع دائرة
الخلاف، بل ويقربهم من التيار العلماني المتطرف.
3 - تفعيل المجتمعات:
إن التربية ليست قضية النخبة، ولا همَّ المثقفين والمتخصصين وحدهم، بل
هي همُّ المجتمع كله، وكل فرد من أفراد المجتمع يعنيه مستقبل المؤسسات التربوية،
وعدم التأهل لتناول هذه القضايا وفهم الجانب المتخصصي فيها لا يلغي كونها
تعنيه وتهمه.
ومن ثم فلا بد من تفعيل اهتمام المجتمع بقضايا التربية، ودعوته لممارسة
حقه الطبيعي والشرعي في الاحتساب على ما يراد بها من سوء، والإسهام في
تطويرها نحو ما يحقق مصلحة المجتمع بأسره في الآخرة والدنيا.
وهذا يتطلب منا أن نحدِّث الناس بما يعرفون، وأن يرتقي خطابنا وأسلوب
حديثنا، وألا نقف عند مجرد مطالبة الآخرين للاستماع لما نقول لكوننا متدينين.
4 - المشاركة الإعلامية الفعالة:
تسهم وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، وكثير من المشروعات
والقرارات المصيرية في حق المجتمع كانت بذرتها قد انطلقت مما يثار في وسائل
الإعلام.
ومع ذلك كله فحضور الإسلاميين في وسائل الإعلام لا يزال دون المستوى
المطلوب، ولا تزال المسافة واسعة بين الحديث عن أهمية الحضور الإعلامي
وممارسة ذلك على أرض الواقع.
إننا نطيل الحديث في المجالس الخاصة، ونتحدث عن الكيد والتآمر على
مجتمعات المسلمين، وتبدو منا غيرة وتفاعل؛ لكن الأمر يقف عند هذا الحد، ولا
يتناسب مطلقاً تفاعلنا العملي مع مشاعرنا وحديثنا.
5 - دفع المتخصصين للمشاركة:
مع أهمية المشاركة في الرأي والحديث؛ فنحن بحاجة إلى أن نتجاوز الوقوف
عند مستوى المطالبة عن بعد بالمشاركة الفعلية في صنع القرار، وهذا يتطلب الدفع
بالمتخصصين من الخيرين والغيورين إلى العمل في هذه المواقع المهمة، والتعاون
معهم في ذلك وتذليل الصعوبات أمامهم.
6 - الاعتناء بالبحث العلمي:
لقد راجت سوق البحث العلمي اليوم، وصار له أثره البالغ في صنع القرار
وتوجيهه، وتضاءلت تبعاً لذلك أهمية الآراء والانطباعات الشخصية.
ومع كثرة القضايا التربوية التي تمثل لدينا حساسية وأهمية، إلا أننا نتعامل
معها بطريقة بدائية؛ فنتناولها من خلال الآراء والانطباعات الشخصية ونحول ذلك
كله إلى حقائق لا تقبل الجدل.
كما أننا نتعامل مع نتائج البحث العلمي التي لا تتفق مع اقتناعاتنا بالرفض
والتهوين من شأنها بعيداً عن المنهج العلمي الموضوعي.
إننا بحاجة إلى الاعتناء بتوجيه البحث العلمي في هذه التخصصات نحو ما
يخدم مجتمعاتنا، وبحاجة إلى تكوين قاعدة معلومات تجمع البحوث العلمية التي
بذلت فيها جهود من متخصصين، وبحاجة إلى أن نناقش البحوث العلمية الأخرى
وننقدها نقداً علمياً بعيداً عن الانطلاق من الآراء والانطباعات الشخصية.
كما نأمل أن نرى مؤسسات ومراكز للبحث العلمي التربوي؛ فالأعمال
والجهود الفردية لن تكفي في ظل هذا السيل الطامي.
7 - تشكيل جمعيات للمعاهد الدينية:
تنتشر المعاهد والمدارس الشرعية في أنحاء شتى من العالم الإسلامي، ويغلب
عليها الطابع الخاص؛ فكثير منها ليست مدارس حكومية؛ وبقدر ما يعطيها ذلك من
استقلالية في القرار ومرونة في التغيير، إلا أنه يزيد من الصعوبات والعقبات الفنية
أمامها.
ومع اتفاق كثير منها في الهموم والمشكلات، إلا أنه يندر أن توجد جمعيات
ومؤسسات تنسق الجهود بين هذه المدارس.
ووجود هذه الجمعيات والمؤسسات له أثره في الارتقاء بها، وفي تبادل
الخبرات والتجارب، وفي تنسيق المعادلة بين شهاداتها، وفي التقليل من تكرار
الجهود وازدواجيتها.
والتحدي الذي تواجهه اليوم يزيد من أهمية التعاون والتكاتف، ومن ثم فهي
بحاجة إلى أن تتداعى للتنسيق والتعاون، وتشكيل مؤسسات تعنى بذلك.
8 - تواصل المعاهد والمدارس الشرعية مع المجتمع:
إن المنتظر من حملة العلم الشرعي ودارسيه أن يسهموا في التغيير في
مجتمعاتهم، وأن يكون لهم حضورهم الفاعل فيها.
وهذا يتطلب من المدارس والمعاهد الشرعية أن تعيد النظر في مدى صلتها
بالمجتمع ومشاركتها في بنائه.
وليس صحيحاً أن يكون هدف هذه المعاهد تخريج العديد ممن يكتفون بعدم
الرضى عن واقع مجتمعاتهم، وممن يضعون حول أنفسهم أطراً من العزلة، بعيداً
عن الروح التي تسعى للدخول في مؤسسات المجتمع، والتأثير الإيجابي.
وهذا يدعو إلى التغيير في عقلية الانعزال التي تسود لدى المنتمين لهذه
المؤسسات التربوية من عاملين ودارسين، وإلى تفعيل الأنشطة الاجتماعية لهذه
المؤسسات، وإلى التفكير الجاد العملي في برامج تسهم في خدمة المجتمع.
وما لم نخطُ هذه الخطوات التصحيحية فينبغي ألاَّ ننتظر تفاعل المجتمع
ووقوفه معنا، وهو لا يزال يشعر أننا كائن غريب عنه، مهمته تخريج أفواج من
العاطلين [41] .
9 - الارتقاء بالتعليم الشرعي:
رغم انتشار مدارس التعليم الشرعي ومعاهده في العالم الإسلامي، ورغم آثاره
الحميدة في نشر العلم الشرعي والحفاظ عليه، إلا أنه يعاني من ضعف وقصور،
ويتسم بالنمطية والتقليدية، ويدار بطريقة بدائية.
ومخرجات التعليم الشرعي اليوم دون تحديات الواقع ومتطلباته، ومعلمو
العلوم الشرعية بحاجة إلى نقلة في طريقة أدائهم وتفكيرهم.
وكثير من مطالب التغيير في التعليم الشرعي التي يثيرها الآخر منطلقها
المعلن على الأقل الواقع الفعلي لهذا التعليم وحاجته إلى التطوير.
وما لم يتم التطوير من الداخل، وما لم تكن الأصوات المطالبة به صادرة من
العاملين فيه الغيورين عليه فلن يكون التطوير في مصلحة التعليم الشرعي.
إننا بحاجة إلى أن يقتنع القائمون على هذا التعليم ومؤسساته بأن الحملة التي
يشنها الآخر عليه لا تعفينا نحن من التقويم والمراجعة الجريئة، وإلى أن يقتنعوا
بضرورة احترام التخصص، وأن مجرد تخصص المرء في العلم الشرعي،
ومشاركته في تعليمه لسنوات ليس كافياً لتأهيله بأن يعد المناهج ويرسم السياسة
التربوية، وأنه ثمة فرق شاسع بين محتوى العلم الشرعي، وبين طريقة تقديمه
للناس وتدريسه لهم.
وتشمل متطلبات التطوير بوجه أخص:
1 - تطوير أداء المعلمين؛ فنحن بحاجة ماسة إلى الارتقاء بكفايات وقدرات
معلمي العلوم الشرعية في مجتمعاتنا، حتى يسهموا في تضييق الفجوة بين إمكانات
التعليم ومخرجاته.
2 - تطوير المناهج والأخذ بالمفهوم الحديث للمنهج؛ ومن ثم فالتطوير يجب
أن يشمل كافة عناصر المنهج من أهداف ومحتوى وطرق تدريس ووسائل وتقنيات
وأنشطة وكتاب مدرسي.
3 - تطوير الأداء الإداري والبيئة المدرسية للمعاهد والمدارس الشرعية.
__________
(1) موقع باب، 20/2/2002م.
(2) عن موقع العصر.
(3) قناة الجزيرة، 20/10/1422هـ.
(4) موقع نيويورك أون لاين.
(5) العفيف الأخضر، جريدة الحياة، عدد 14091، 27/7/1422هـ.
(6) شبل بدران، المؤسسة التعليمية والتطرف، مجلة التربية المعاصرة، ع 31 س 11 مارس 1994م، ص 318.
(7) خالد محمد خالد، أسباب أربعة للتطرف، مجلة العربي، ع 287، ربيع الأول، 1402هـ، ص 53.
(8) شبل بدران، المؤسسة التعليمية والتطرف، مجلة التربية المعاصرة، ع 31 س 11 مارس 1994م، ص 318 319.
(9) انظر: جمال عبد الهادي وآخرون، تطوير أم تضليل في مناهج التربية الإسلامية، ص 37.
(10) انظر: جمال عبد الهادي وآخرون، تطوير أم تضليل في مناهج التربية الإسلامية، ص 37.
(11) انظر: جمال عبد الهادي وآخرون، تطوير أم تضليل في مناهج التربية الإسلامية، ص 17 18.
(12) مجلة الأمن العام، 120، ص 30.
(13) مجلة الأمن العام 120، ص 37.
(14) انظر: جمال عبد الهادي وآخرون، تطوير أم تضليل في مناهج التربية الإسلامية، ص 36.
(15) شبل بدران، المؤسسة التعليمية والتطرف، مجلة التربية المعاصرة، ع 31 س، 11/3/ 1994م، ص 319.
(16) شبل بدران، المؤسسة التعليمية والتطرف، مجلة التربية المعاصرة، ع 31 س، 11/3/ 1994م، ص 320.
(17) جريدة الثورة اليمنية، 18/10/1982م، نقلاً عن مجلة البيان العدد 90 (18) عبد الحميد الأنصاري، جريدة الراية القطرية، 6/1/2002م (19) انظر: جمال عبد الهادي وآخرون، تطوير أم تضليل في مناهج التربية الإسلامية، ص 41.
(20) الأمن والحياة، العدد 77، التعريف الواحد، ص 31.
(21) محمد عدنان سالم، موقع دار الفكر.
(22) ميشيل حليم شنودة، علم الاجتماع والمشكلات الاجتماعية، دار المعرفة الجامعية، 1998م، ص 337.
(23) سامح جميل عبد الرحيم، التعليم ومواجهة التطرف والإرهاب، مجلة البحث في التربية وعلم النفس، ع 2 م 10، أكتوبر 1996م، ص 245.
(24) يوسف القرضاوي، ست علامات للتطرف الديني، مجلة العربي، عدد 278، ربيع الأول، 1402هـ، ص 32.
(25) سامح جميل عبد الرحيم، التعليم ومواجهة التطرف والإرهاب، مجلة البحث في التربية وعلم النفس، ع 2 م 10، أكتوبر 1996م، ص 262.
(26) المصدر السابق، ص 269.
(27) انظر: جمال عبد الهادي وآخرون، تطوير أم تضليل في مناهج التربية الإسلامية، ص 37.
(28) محمد إسماعيل علي، التربية المعاصرة، ع 31 س 11 مارس، 1994م، ص 322.
(29) اللواء محمد فتحي عيد، واقع الإرهاب في الوطن العربي، أكاديمية نايف للعلوم الأمنية، 1420هـ.
(30) المصدر السابق، ص 324.
(31) موقع البي بي سي.
(32) حمد الماجد، جريدة الشرق الأوسط.
(33) عبد الحميد الأنصاري، جريدة الراية القطرية، 6/1/2002م.
(34) عبد الحميد الأنصاري، جريدة الراية القطرية، 6/1/2002م.
(35) محمود سلطان، موقع محيط شبكة المصادر العربية.
(36) جيمس باترسون وبيتر كيم، يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة، ترجمة محمد البشر، 1414 هـ، ص 89 - 90.
(37) هيثم الكيلاني مؤسسات التعليم الإسرائيلية، ضمن كتاب: التعليم في إسرائيل ديني أم علماني، نشر مجلة المعرفة، ص 23.
(38) فهمي هويدي، العرب في عيون الإسرائيليين، ضمن كتاب: التعليم في إسرائيل ديني أم علماني، نشر مجلة المعرفة، ص 59.
(39) إبراهيم البحراوي، الشحن العدواني للنشء الإسرائيلي، ضمن كتاب: التعليم في إسرائيل ديني أم علماني، نشر مجلة المعرفة، ص 133.
(40) انظر: هارون هاشك رشيد الصهيونية في الكتب المدرسية الإسرائيلية، ضمن كتاب: التعليم في إسرائيل ديني أم علماني، نشر مجلة المعرفة.
(41) يعاني كثير من خريجي المدارس الشرعية في الدول الإسلامية من صعوبة فرص العمل، ومع يقيننا بأن العلم الشرعي بحد ذاته مطلب، إلا أننا مدعون لأن نفكر بجد في حلول عملية لهذه المشكلة، ولا بد أن نعلم أن المجتمع يفكر بغير طريقتنا بغض النظر عن موقفنا من ذلك.(173/30)
ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
مناهج التعليم وخطيئة التبديل
محمد أحمد منصور
مع أن قضية تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية لم تفتر منذ معاهدة
كامب ديفيد، مروراً باتفاقيات مدريد وما تلاها، إلا أنها طفت على السطح
وازدادت زخماً في ظل أحداث سبتمبر الشهيرة، وذلك من خلال الربط الأمريكي
بين المناهج التعليمية المقررة في عدد من الدول من بينها مصر والسعودية
وباكستان وبين ما تسميه الولايات المتحدة إرهاباً، وزاد حجم التركيز خاصة على
التعليم الديني، ورأت الدول الغربية الفرصة مناسبة من أجل إجراء عمليات تغيير
واسعة في المناهج وفقاً لما كانت تطالب به تلك الدول سراً من قبل. وقد رأينا
بعض الأقلام التي تتكلم بكلامنا كيف قلبت الأمور في الوقت الذي انكشف المستور،
وبان وجه العداء وهدفه.
وازدادت مطالب الدول الغربية حدة وصراحة بتغيير المناهج، والتلويح
بالاتهام بالمروق في وجه الدول التي تأبى التغيير.
لقد أصبح جلياً أن قضية المناهج التعليمية لم تعد شأناً داخلياً ترتبه الحكومات
متى وكيف شاءت، وتهمله أو تؤجله متى فترت، وإنما أصبحت شأناً عالمياً في
ظل ثقافة العولمة وبفعل أدواتها، وأصبحت في منطقتنا العربية والإسلامية قضية
ذات أبعاد ثقافية واقتصادية وسياسية بل وربما عسكرية إن لزم الأمر.
صحيح أنها لم تكن المرة الأولى التي تكتسب فيها هذه الأبعاد لكنها هذه المرة
كانت الأكثر وضوحاً، والتي حشدت كل الأبعاد فيها دفعة واحدة، بحيث لم تعد
مسألة تغيير المناهج التعليمية وفق الجداول المطلوبة شأناً داخلياً بل أصبح إدارة
عالمية وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط.
والأبعاد المختلفة: سياسية يطرحها مندوبو الدول على طاولة المفاوضات.
واقتصادية تشترطها الجهات المانحة على تعدد انتماءاتها من أجل منح قروض
ومعونات أو إسقاط بعض الديون [1] .
ودينية تطرح ضمن أوراق حوار الأديان، بل تعدى الأمر ذلك إلى تلويح
بالقوة من أجل تغيير المناهج وفقاً للهوى الأمريكي، وربما اكتست ثوب البحث
العلمي حيناً آخر، فتقام من أجلها المؤسسات وتخصص لها الموازنات.
لقد عملت منظمة اليونسكو من قبل في هذا المجال، لكنه لم يكن عملاً ملزماً
للحكومات لوجود الصراع القطبي، لكنه مع تغير معادلة النظام الدولي بدأ الأمر
يأخذ شكل الإلزام.
والأمر كما هو مطروح ضمن برامج المساعدات والمنح، مطروح أيضاً
ضمن بنود اتفاقيات السلام مع اليهود، ويطالب به اليهود باستمرار ضمن مشروع
الشرق أوسطية.
ومطروح أيضاً ضمن شروط البنك الدولي لمساعدة الدول في برامج التنمية،
ومطروح في مباحثات الشراكة البحر متوسطية، واللجان البحثية المشتركة، إلى
جانب عشرات أو ربما مئات الندوات والمؤتمرات المختلفة المشارب والتوجهات
التي تستعلن حيناً وتستخفي حيناً، وتُجمل حينا وتُفصل حيناً.
كما لم يعد سراً أن تغيير المناهج وفقاً للمنظور العولمي مدرجة ضمن البنود
الثقافية لاتفاقية تحرير التجارة العالمية التي تتبناها الدول الكبرى، والتي يتم
مناقشتها باستمرار في المنتديات الاقتصادية التي أصبحت تعقد بصورة منتظمة؛
وفي أحد هذه المؤتمرات قال وزير خارجية مصر السابق (عمرو موسى) : «إن
الوقت قد حان لوضع تصور جديد لمنطقة الشرق الأوسط في حقبة ما بعد انتهاء
الصراع العربي الإسرائيلي الذي أعاق المنطقة بصورة كبيرة عن تحقيق التقدم» ،
ويضيف: «إن عنوان منتدى دافوس للعام الحالي:» هو بدايات جديدة «، لذلك
لا بد من إعداد الأرضية المناسبة للمفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي والشعوب
للإسهام في وضع تصور جديد لمنطقة الشرق الأوسط» ومن ثم أصبحنا أمام
عشرات الطرق التي تؤدي إلى تحفيز الدول أو دفعها في اتجاه علمنة أو عولمة
المناهج التعليمية، ومن لم تُجْدِ معه هذه الأساليب فهناك أساليب أخرى ليست عن
واقعنا المشهود ببعيدة.
الخطير في الأمر أن المطالب الغربية الأخيرة صادفت قلباً عربياً خالياً بل
مخلىً لهذا الغرض، وقراراً مسكوناً بحلم التغيير، فسهل لهم ما أرادوا وبصورة
فجة في عدد من التجارب كما حدث في باكستان واليمن والأردن مؤخراً، وقد
اعترف سياسيون في الأردن واليمن أن عملية تبديل المناهج تخضع لإشراف البنك
الدولي.
لقد جاء صوت التغيير هذه المرة أكثر وضوحاً وأعلى صوتاً وأكثر جرأة،
وطاول مرتقى صعباً من مكنون بيضة التعليم الإسلامي؛ إذ فُتح باب التغيير على
مصراعيه، وشمل مجاله زوايا كانت بادي الرأي في مأمن من أن يتطرق لها
الحديث، وكانت الطامة في بوادر الاستجابة التي أبداها البعض هنا أو هناك، على
طريقة و «بيدي لا بيد عمرو» «عض قلبي ولا تعض رغيفي» ، والرغيف في
التعبير هنا حمال أوجه لما يكون من نصيب أو عرض زائل من متاع الدنيا.
وهنا تجدر المقارنة بين التطوير الذي يجري هنا والذي يجري في إسرائيل؛
فالتعليم في إسرائيل يسير وفق الخط البياني المرسوم له منذ قيام الدولة لا يخطئ
قدر أنملة، بل يتقدم على المرسوم والمستهدف في قفزات تطويرية ضمنت للدولة
اللقيطة التفوق العلمي والتقني على مجموع الدول العربية. وفي الوقت الذي يطالَبُ
فيه المسلمون بتصفية المدارس الدينية يزداد التعليم الديني في إسرائيل رواجاً
وانتشاراً ويحظى أصحابه بمزايا عديدة تمنحها لهم الدولة لا يحظى بها خريج التعليم
العلماني هناك، على أن ما يسمى بالتعليم العلماني هناك ما زال يحمل بوضوح
الحلم اليهودي بأفكاره وقيمه التلمودية وأساطيره الصهيونية، وتاريخه التوراتي.
تبديل المناهج:
تتم عملية التغيير تحت مسميات براقة يجعل منها صنم عجوة يقدس حيناً
وتنزع القداسة عن سواه، ثم لا يلبث أن يؤكل أمام جوعة من الجوعات ليصنع
صنماً جديداً مثل ألفاظ التطوير والتنمية والثورة العلمية؛ فالعملية لا بد أن تتم
بأسماء براقة. والحقيقة أن التطوير لم يكن تطويراً بشهادات الواقع، واعترافات
المسؤولين، وتقويمات المتخصصين من أهل الشأن، وإنما هي واقعة ضمن التبديل،
بدلالته القرآنية.
أما لفظ «المنهج» فهو يتخطى حقيقة مادة المقرر التعليمي إلى خلفيات
العقدية والتربوية؛ لأن المنهج لا يحمل مادة معلوماتية مجردة، وإنما يحمل إلى
جانب حقائق العلم أو أغاليط التصور؛ منهجية الحكم، وأسلوب التعامل، وطريقة
الحياة.. وهذه التي يسعى الغرب إلى تغييرها، ومن ثم فإن حذف عبارة معينة من
منهج مقرر للدراسة قد لا تعني مجرد تغيير ألفاظ بغيرها فقط، ولكن تعني لوناً من
التحريف والتبديل الذي يراد به ما بعده، ومن هنا نجد أن عملية التبديل التي تمت
في المناهج إنما عمدت إلى طريقة بعينها، فقامت على طمسها بعناية يعوزها في
كثير من الأحيان اللياقة.
ولا يعني وصفنا له بالتبديل هنا أن الأصل سالم مبرأ.. لا! .. وإنما للإشارة
إلى أمر خطير هو أن التبديل إنما عمد إلى معاني الكمال فمحاها، وكثيراً ما أبقى
ما سواها، والتتبع لهذه المسألة أمر يطول، ولكن يمكن ببعض الأمثلة من النموذج
المصري بما يمثله من تجربة لها ريادتها وخبرتها في هذا المجال أن يطلع القارئ
الكريم على قدر العناية التي كانت تصفى بها مادة الإسلام من مقررات التعليم،
ربما للأمور التي ذكرناها وربما لمآرب أخرى.
تجربة التغيير في مصر:
بين عام 1979 إلى 1981 تغيرت مناهج التربية في مصر، مواد التاريخ
والقراءة، وحذفت كل النصوص التي تتعلق بالحروب بيننا وبين إسرائيل [2] .
ففي مقررات الثانوية العامة قررت هذه العبارة حول ردود الأفعال على
معاهدة السلام المصرية مع اليهود:
«رحبت جميع دول العالم المتحضرة باتفاقية السلام في هذه المنطقة الهامة
بالنسبة لدول العالم، أما الدول العربية التي عجزت عن فهم المتغيرات الدولية
واختلال ميزان القوى في العالم، فإنها لم ترحب بالاتفاقية» يعني سبب إحجام
العرب هو تخلفهم وضيق أفقهم فلم يقبلوا بهذا السلام، في حين أن الدول المتحضرة
هي التي استوعبت التطور الجديد «!
ثم تتابع التغيير بمعدل بطيء، حتى أواخر الثمانينيات.
ثم بدأت مرحلة جديدة في أواخر الثمانينيات بتولي الدكتور أحمد فتحي سرور
وهو قانوني تعلم في فرنسا حقيبة التعليم في مصر، فقام بقفزة واسعة في تصفية
المناهج وفقاً للمطالب الصهيونية، وكانت المرة الأولى منذ تمصير التعليم التي
يشرف على تغيير المناهج لجان أجنبية ضمن مراكز التطوير، ويشارك في وضعها
أسماء أجنبية.
ثم تسلم الحقيبة بعده د. حسين كامل بهاء الدين طبيب أطفال معروف
بعلمانيته الشديدة، فأكمل ما بدأه الدكتور سرور وكان من أعماله:
- تصفية مادة الدين تماماً من معاني العبودية وإبقاؤها في ثوب التعاليم
الأخلاقية والإرشادات التي تسير على الطريقة الفلسفية في الأخلاق، كما هو الحال
تماماً في الخطاب النصراني.
- زيادة جرعة الإفساد في مناهج اللغات، من خلال تضمين الكتب عبارات
ماجنة، وإشاعة حياة الرقص والاختلاط والموسيقى والغناء، وقد احتوت المناهج
الحديثة على عدد من المغنين، والشعراء والقصاصين الذين ألبسوا ثوب العالمية،
وقدموا للطلبة نماذج تحتذى للنجاح في الحياة العملية.
- تم تقرير مادة الثقافة الجنسية على طلبة وطالبات السنة الأولى والثانية من
المرحلة الثانوية أي في سن المراهقة، وقد أشار بعض الطلبة إلى أن طلبة السنة
الأولى لا ينتظرون حتى ينقلوا للسنة الثانية، وإنما يقومون باستعارة مقرر السنة
الثانية لقراءته! وقد أكدت الدراسات الاجتماعية إلى شيوع عدد من المنكرات
الشرعية من جراء شؤم هذه المادة ومنها انعدام الحياء وخصوصاً لدى النساء
كالحديث عن أدق قضايا الفراش على الملأ وفي المجالس العامة، والتي يستحيي
المرء العف في كثير من الأحيان أن يصرح بها حتى لزوجته أو الزوجة لزوجها،
ومنها انتشار ظاهرة الزنا المقنن المسمى زوراً بالزواج العرفي داخل دور العلم،
هذا فضلاً عن شيوع ثقافة العشق، إلى غير ذلك من زيادة في معدلات ألوان أخرى
من المعاصي والفواحش.
- تقرير اللغة الإنجليزية من السنة الأولى الابتدائية، أي أن الطالب سيتعلم
مبادئ اللغتين معاً، كما أن هناك توجهاً لتعميم سياسة المدارس التجريبية (اللغات
التابعة للوزارة) في تدريس شطر المواد أو غالبها باللغة الإنجليزية.
- السعي إلى إلغاء مادة الدين (التربية الإسلامية للمسلمين، والتربية
المسيحية للنصارى) وتقرير مادة الأخلاق والتي تختلط فيها نصوص الكتاب
والسنة، بعبارات التوراة والإنجيل، وأقوال الفلاسفة، وربما حوى نصوصاً من
التعاليم البوذية، ليصبح التعليم في مصر كما قال سعد زغلول عن الجامعة:» لا
دين لها إلا العلم «ليضع الرئيس الرتوش الأخيرة في شكل الدولة العلمانية.
- وتشهد هذه الأيام مرحلة جديدة من التغيير وتصفية المناهج، بل من
المتوقع في هذه المرحلة أن تتضمن الكتب ثقافة العولمة ومفاهيمها صراحة.
التغيير القادم في المناهج الذي بدأ الحديث عنه الشهر الماضي قبيل مؤتمر الدول
المانحة مباشرة من المتوقع أن يوظف كلية لصالح الرؤى الصهيونية، وقد سألت
الهيرالد تريبيون مستشاري التعليم المصريين عن شكل التغيير القادم في المناهج،
فقالوا: سنغير مناهج التربية والتعليم بما يعكس عملية السلام، وبما يزيل الكثير
من أسباب العداوة في الشرق الأوسط. وإننا نتساءل: أتحت شعار» التربية من
أجل السلام «، وهو الشعار الذي تسرب إلى مؤسساتنا التعليمية في ضوء التطبيع
مع اليهود، أم هو سلام آخر أبعد مدى؟ !
حقائق حول التطوير:
وهكذا كلما زاد الحديث في بلادنا عن التطوير أو قطع فيه شوط علمنا يقيناً
أن التعليم قد فقد من التطوير بنسبة ما تم من حديث؛ لأن بوصلة التطوير في بلادنا
لم تزل متوجهة عكس الاتجاه الصحيح، والمشكلة خلاف ما يخال المرء منا ليست
مادية إذ تشير تقارير البنك الدولي ومنظمة التربية والعلوم» اليونسكو «إلى أن
الدول العربية تنفق على التعليم مبالغ باهظة لا تقل عن التي تنفقها الولايات المتحدة
أو دول أوروبا واليابان، إلا أن الغرب ينهض بينما العرب يتراجعون؛ فالولايات
المتحدة الأميركية تنفق على التعليم 5. 5% من الناتج القومي الأميركي، وفي
الوقت الذي تصل فيه نسبة الإنفاق على التعليم في الدول العربية إلى 5. 8% من
الناتج القومي (مع الفارق بين الناتج القومي لدى الجانبين) ، واستبعاداً لفارق
الناتج القومي، فإن ما تنفقه مصر على كل 1000 طالب أكثر مما تنفقه الولايات
المتحدة على نفس العدد [3] .
وإذا أخذنا في الحسبان حجم النفقات الشعبية على التعليم علمنا حجم الكارثة؛
فالإحصاءات تشير إلى أن ما ينفقه المصريون على الدروس الخصوصية يصل إلى
4 مليارات جنيه في السنة لتقوية الضعف الراهن في أساليب التعليم داخل المدارس،
كما أن حجم المواد التي يدرسها طلاب التعليم في مصر أضعاف ما يدرسه الطالب
الأمريكي، وأن ما يقضيه الطلبة المصريون في المذاكرة يفوق أضعاف ما يقضيه
الطلبة الأمريكيون، وإذا ما قورنت بما يدرسه الطالب في اليابان أو سنغافورة
المتقدمتين تعليمياً؛ فالأمر يزداد فداحة.
ورغم هذا ما زال التطوير سائراً والتخلف سارٍياً.. رغم الإمكانيات الكبيرة
المتاحة لوزارة التعليم؛ إذ أصبحت من بين أهم الوزارات الأوْلى بالرعاية في
برنامج المعونة الأمريكية، وتعد أول وزارة أدخلت نظام الإدارة عن بعد بنظام
(الفيديو كونفرانس) ، إلى جانب العديد من المزايا المادية التي توفرت للوزارة ربما
لأول مرة في تاريخها، ومع هذا فالجميع متفقون على أن التعليم في بلادنا لم يزل
متخلفاً بمعدلات خطيرة؛ لأن التطوير باختصار وبشهادة القائمين عليه أنفسهم قد
نحا منحى بعيداً عن مصالح الأمة المسلمة؛ إذ إن قوة التعليم لا بد أن ترتكز إلى
عقيدة يدين بها المجتمع وسياسات هادفة ومناهج بانية بغض النظر عن حجم هذه
المناهج لدرجة أن أحد الأساتذة التربويين المتخصصين في التخطيط التربوي كتب
شهادته على برنامح التطوير تحت عنوان:» إنهم يخربون التعليم «.
نماذج من السياسات التعليمية المتخبطة:
وحتى يظهر قدر التخبط نعرض فقط لنموذحين مما يتم باسم التطوير الذي
يعاني منه الطلبة وأولياؤهم أشد معاناة، وتعاني من ورائه الأمة كلها:
* الأول خاص بالشهادة الابتدائية: فمنذ أكثر من عقد ألغي الصف السادس
من المرحلة الابتدائية، وحمّل عقل الطالب فاتورة هذا التقليص الذي تم باسم
تخفيف الأعباء عن ميزانية التعليم وتتبع خطى الدول المتقدمة! وإذا بنا نفاجَأ بعد
أربع سنوات فقط بإعلان يقول: إن التجربة قد أخفقت؛ لأنها أرهقت ذهن الطالب
دون أن تؤدي إلى تقوية مستواه. وعاد الحديث عن مزايا السنوات الست من جديد
وشق طريقه للتطبيق بعد ذلك بسنوات أربع أخرى.
* والثاني خاص بالشهادة الثانوية: ما زال نظام الثانوية يشهد تجريباً في
شكل الشهادة وطريقة الامتحانات منذ حوالي ثماني سنين، وفي كل عام تتراجع
الوزارة عن بعض قراراتها السابقة، مما يصيب أولياء الأمور بحالة من الدهشة
حين يتحول مستقبل أبنائهم إلى حقل تجارب لقرارات لم تأخذ حقها من التفكير
ودراسة الآثار المستقبلية قبل اعتمادها.
وقفات مع التطوير:
ولنؤكد أن هذين النموذجين يعبران تعبيراً صحيحاً عن مزاجية التطوير في
مجال التعليم نعرض لأهم خصائص هذا التطوير في عدة نقاط:
1 - كون التطوير جاء لتحقيق رغبات خارجية، من أجل تخدير الشعوب
الإسلامية وشغلها عن واقعها بالتفاهات، جعله لم يسر في الاتجاه الذي يطمح إليه
المجتمع؛ فعملية التطوير لم تنبع من اختيار المتخصصين ولا وفق إرادة شعبية،
فضلاً عن تعبيرها عن إرادة الأمة ومصالحها حتى يمكن القول بأن التطوير قد
انبثق ولو جزئياً من أرضية المجتمع، وإنما هو أمر عهد به غير متخصص إلى
غير مختص.
2 - إن تضخيم الجانب النظري في المواد الدراسية على حساب الجانب
التطبيقي العملي، فضلاً عن الجانب السلوكي العقدي، لا يخدم إلا مخططات اليهود
وغيرهم من أعداء الأمة الذين يرمون إلى جعل التعليم في بلادنا تعليماً نظرياً وليس
تعليماً تطبيقياً، وقد حذفت كثير من التجارب والتطبيقات العلمية من كتب الفيزياء
والكيمياء التي تنمي في الطالب روح البحث والتطوير، وحب الابتكار والإبداع،
أو التي تلفت نظره إلى الاستفادة من ظواهر الكون المحيطة به، وتسخير قوانينها
لخدمة الإسلام.
3 - زيادة الحشو في الكتب نظراً لأن التطوير كان يعني من قبل زيادة المادة
التعليمية فقد سعى إلى مضاعفة المقرارت الدراسية في التعليم العام والأزهري،
وبعد مضي عشر سنين نظراً لتبني التطوير لرؤية المناهج المخفضة فسوف تخضع
المناهج للاختزال والحذف. والخطير أن المعيار في الحالين لم يراعِ حقيقة النهضة
العلمية وسبلها؛ فالآن تجري مناقشة تخفيض المواد من الحشو بنسبة الثلث؛ فهل
سيكون هذا الحشو هو ما زيد في التطوير السابق، أم سيحذف ما تبقى من أبواب
وعبارات تشير ولو من بعيد إلى الإسلام والعروبة؟
4 - تفريغ المقررات من الموضوعات التي تعزز الروح الإسلامية، أما ما
يوجد فهو ما يعبر عن القيم الفردية التي لا تتعارض مع أهداف العلمنة، مع حشو
المناهج بمفاهيم الفكر الغربي، وما يتعلق به من مفاسد وسلبيات، وإشاعة للتفسخ
والانحلال.
5 - تعبئة المؤلفات بالقيم المادية التي تربط بين حركة الإنسان، وزيادة
الأفكار التي تدعو إلى الخرافة، كالتعامل مع العرافين الكهنة، ومعرفة الأبراج،
والحظ.
6 - إشاعة روح التفسخ والانحلال بين الأجيال، وقد لِيمَ أحد وزراء التعليم
في ذلك، فقال: سأجعلكم لا تفرقون بين البنت والولد.
7 - إذابة مفاهيم الولاء، وتشتيت نطاق الهوية؛ فنجد أن المقررات قلقة لا
ترسخ معنى معيناً للهوية ولا لوناً واحداً من ألوانها؛ وإنما نجد الهوية داخل
المقررات تتنوع وتتوزع توزعاً عجيباً جداً بين هوية فرعونية في المقام الأول،
عربية في المقام الثاني، إنسانية عالمية في المقام الثالث، إسلامية في المقام الرابع،
ثم تأتي الانتماءات الأخرى الشرق أوسطية، والبحر متوسطية، الأفريقية،
والمسيحية أخيراً لتزيد من تشتت الهوية، وهذا يؤدي بدوره وبمساعدة عوامل
أخرى ضمن المقررات مثل تكثيف دراسة اللغات الأجنبية، وزيادة التعبيرات
العامية في المقررات إلى قتل قضية الولاء والبراء لدى الشباب، ضمن شعار
التربية:» من أجل السلام «.
وأصبحت الهوية الإسلامية بعد أن كانت الأكثر حضوراً أصبحت هي الأقل
حضوراً. نعم! قد تفرض الوظيفة الحيوية لمصر أن تلعب دوراً على كل هذه
المستويات أو أغلبها؛ لكن شتان بين أن تلعب دوراً من منطلق العقيدة الأصلية
لأهل البلاد على كل هذه المجالات، وبين أن تصبح عقيدتها خليطاً من هذه الدوائر.
8 - أشار بعض الباحثين في مسألة التطوير إلى أن التطوير نتيجة لتبيته
بليل بعيداً عن مشورة المتخصصين ورأيهم، وبعيداً عن قياسات الرأي العام أن هذا
التطوير وقع في أخطاء فادحة لا يمكن أن تصدر عن جهات متخصصة قد أخذت
فرصتها من الوقت والتفكير لإقرار التغييرات.
9 - تركيز المقررات على الترويج لثقافة السلام وإقحام مفرداتها بأسلوب فج
ومثال ذلك ما جاء في مقرر الفصل الدراسي الثاني من مادة القراءة الصف الثاني
الابتدائي - أي بعد أن يتعلم الطفل القراءة مباشرة - ضمن موضوع (قرية السلام)
وهو موضوع يكاد يحتل نصف المقرر ويدور حول قصة ثلاثة جيران هم:
حمدان صاحب الأرض، وسمعان صاحب الساقية، وعواد صاحب البقرة،
وتحدثت عن الشيخ الذي يبدو أقرب إلى هيئة راهب نصراني جاء ليعظ سكان
القرية بأهمية السلام، وبعد أن ذهب إلى ثلاثتهم ووعظهم اكتشف الثلاثة أن الموانع
من التعاون هي عداوات تاريخية موروثة لا يعرفون عنها شيئاً، ولم يشارك في
صنعها أحد منهم، ومن ثم فالمصلحة تقتضي أن يتناسى الثلاثة العدوات التاريخية،
ويبدؤوا صفحة جديدة ليعمل الجميع في القرية» قرية السلام «كما سماها المؤلفون،
ويتقاسمون ثلاثتهم أرض حمدان العربي بالطبع؛ لأنهم تعاونوا جميعاً في زراعته!
حمدان» العربي «.. وسمعان» المسيحي «صاحب الساقية.. وعواد صاحب
البقرة الذي يوحي اسمه بفكرة العودة المقدسة لدى اليهود أصحاب البقرة، ولتكبر
ثقافة القرية مع الطفل ليتعامل من خلال رؤاها في القرية الأكبر الشرق الأوسط.
وقد وضعت هذه المادة في مؤخرة الفصل الدراسي الثاني لتظل راسخة في
ذهن الطفل، فمعلوم تربوياً أن معلومات هذه الفترة الدراسية من كل عام هي من
أكثر المعلومات رسوخاً في الذاكرة.
نماذج أخرى مما فعله التطوير:
التبديل الذي حدث للمناهج منذ أن شرع في التطوير يكاد لا يصدقه عقل كمّاً
وكيفاً؛ فكما عملت مقصات الرقيب عملها في كتب ولأبواب كاملة، عملت مناقيشه
داخل بقية الأبواب، ولم يدع الحذف كتاباً من الكتب حتى الرياضيات إلا وحذف
منها ما يذكِّر الطالب بدينه وتاريخه، ولو ذهبنا نستقصي لما أسعفنا المقام، ولهذا
نقدم نماذج تعبر عن حجم المصيبة التي رزئت بها الأمة في تربية أجيالها:
* فمن بين النماذج التي نزعت فيها جمل وعبارات:
1 - حذف حديث:» خيركم من تعلم القرآن وعلمه «من كتاب القراءة
للصف الأول الابتدائي.
2 - موضوع (أهلاً وسهلاً) حذف عبارة السلام عليكم، بعدما كانت العبارة
» إذا مررت بجماعة أقول لهم السلام عليكم «، حل محلها:» إذا مررت
بجماعة ألقي عليهم التحية «.
3 - موضوع: (الأصدقاء السعداء) الصف الثاني الابتدائي جاء فيه عبارة
» الخصام لا يحبه الله ولا يحبه رسول الله «، تم حذف جملة:» ولا يحبه رسول
الله «.
4 - في الصف الثالث في موضوع: (النظافة من الإيمان) حذف منه
حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:» تسوكوا؛ فإن السواك مطهرة للفم مرضاة
للرب «، وحديث:» بركة الطعام الوضوء قبله وبعده «.
5 - ومن موضوع: (طبيب الأسنان) حذفت عبارة:» سوف ألتزم
بنصائح معلمنا في استعمال السواك مع كل صلاة «.
6 - موضوع (الشمس) حذفت عبارة:» التي تذكر بأوقات الصلاة «.
7 - ومن الصف الرابع من موضوع شجاعة مصرية عن حرب العاشر من
رمضان مع اليهود:» العدو المحتل كان اليهود احتلال الأراضي المصرية لا
أرضى به.. «.
كما حذفت عبارة:» ويرتبط العرب بالتاريخ واللغة والدين «.
* وحذفت عدة أناشيد كلها إسلامية من الصف الثالث، فعلى سبيل المثال
حذف نشيد الصلاة الذي أوله:
بني توضأ وقم للصلاه ... وصل لربك تكسب رضاه
ونشيد رباه الذي أوله:
رباه أنت خلقتني ... ومنحتني سر الحياة
* ومن بين الموضوعات الإسلامية والتربوية الأخرى التي حذفت بكاملها:
1 - موضوع (البطل الصغير) وهو موضوع يحث على الجهاد في سبيل
الله دفاعاً عن الإسلام ومن عباراته قول قائد الجيش:» إن جيشاً فيه مثل هذا
الغلام لا يمكن أن يهزم، ولا بد أن ينتصر بإذن الله «.
2 - موضوع (فاعل خير) : يحض الطلاب على إماطة الأذى عن الطريق.
3 - قصة الولد الشجاع: وهي تحكي القصة الشهيرة بين عبد الله بن الزبير
مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. كما حذفت قصته أيضاً التي بعنوان:
» ذكاء وحسن تصرف «من الصف الثالث.
* ألحقت كتب الموضوع الواحد في مراحل التعليم الثانوي والأساسي مثل
كتاب عبقرية عمر بكتب القراءة لضغط النفقات؛ بينما بقيت كتب الموضوع الواحد
الخاصة باللغة الإنجليزية رغم أن تكاليفها المالية أكبر لطباعتها الفاخرة وصورها
الملونة، أما مقررات الموضوع الواحد في اللغة العربية فغيرت تماماً بحجة أن
دراستها تثير فتنة طائفية.
* تم حذف اسم فلسطين من الخرائط واستبدالها باسم إسرائيل، في الوقت
الذي يرفع فيه من شأن اليهود وتخفى فيه سوءاتهم وعدوانهم المستمر على ديارنا،
وإلغاء موضوعات الجهاد والتضحية والشجاعة وغيرها مما ورد في الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية وسير الأبطال.
* من بين المواضيع التي قررت بدلاً عن الموضوعات المحذوفة: موضوع
(التاجر والعفريت) للصف الخامس الابتدائي، وهي مقتبسة من قصص ألف ليلة
وليلة، وموضوع بعنوان: (نجيب محفوظ وجائزة نوبل) للصف الأول الإعدادي،
وموضوع آخر له بعنوان: (أنا ابن حضارتين) للصف الثالث الإعدادي.
* أما بالنسبة للتاريخ فإنا نجد أن الطالب أصبح لا يدرس من تاريخ أمته إلا
قشوراً شوهاء:
فتلميذ المرحلة الابتدائية لا يدرس من تاريخه الإسلامي إلا بعثة الرسول صلى
الله عليه وسلم ونشر الإسلام، ويتوقف الأمر على ذلك دون ذكر للغزوات التي
حدثت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا ذكراً عابراً في قصة عبد
الرحمن بن عوف.
ويستمر الحال خلال المرحلة الإعدادية، فلا يأخذ من التاريخ الإسلامي إلا
نشأة بعض الدول مثل نشأة الدولة الإخشيدية، ثم نشأة الدولة الأيوبية، ثم نشأة
الدولة المملوكية، ولا يعرف بعد ذلك عن هذه الدول أي شيء.
ثم لا يدرس الطالب الملتحق بالقسم العلمي من التاريخ الإسلامي إلا ما سبق
ذكره في الصف الثاني الإعدادي فقط؛ إذ يتم التركيز على التاريخ الفرعوني
والبطلمي والروماني، خلال مراحل التعليم (الرابع الابتدائي، الخامس الابتدائي،
الأول الإعدادي، الأول الثانوي) .
* أما عن كتب اللغات التي تصدر في شكل جذاب وتؤلف بعناية، فهي مليئة
بالصور الجنسية الفاضحة وبالعبارات التي تكرس لثقافة الجنس، وبالاهتمام
بالرقص والطرب.
* أما كتاب الفلسفة المقرر على طلبة المرحلة الثانوية القسم الأدبي، فقد كان
الكتاب يحوى في الحاشية تعليقات أشعرية على ما جاء في مسالك الفرق المذكورة
في الكتاب، وقد كانت في مجملها لا تشفي في الرد على الفرق، فجاء التطوير
فحذف التعليقات وأبقى على المذاهب والأقوال الفلسفية ليدرسها الطالب على علاتها،
والنتيجة أن يحيا الطالب مشتتاً لا يدري أين الحق إلا أن يوفقه الله إلى من يبصره
خارج نطاق التعليم، وهذا الأمر بدوره يراد لأجل أن تنشأ نسبية فكرية تسمح
بوجود ما يطلقون عليه: (الآخر) أياً كان هذا الآخر، والسماح هنا يتجاوز حد
السكوت بالطبع إلى التعايش والتفاهم، وربما ما هو أكثر من ذلك [4] .
__________
(1) قديماً كان السائد مبدأ الرق مقابل الدين أي من لم يستطع سداد دينه جعل عبداً للدائن إذا حل الأجل، واليوم عاد الرق بثوب جديد الدين في مقابل البيئة، والدين في مقابل المناهج والدين في مقابل الثقافة، وهكذا تستعبد الشعوب من حيث يصور لها التحرر! .
(2) في 25/8/1981م زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بيجين القاهرة، وكان من بين ما تباحث فيه مع السادات صدق الرغبة المصرية في التطبيع، وقد طمأنه السادات بتأكيد الرغبة في ذلك وانتهزها بيجن فقال للسادات: كيف تريد أن أصدق أن هناك نية عندك للتطبيع وطلاب مصر مازالوا يقرؤون الآية التي تقول: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ] (المائدة: 78) ؟ وفي نفس اللحظة استدعى السادات وزير التعليم المصري وأمره أن يحذفها من المناهج المصرية مع كل الآيات التي تتحدث عن عداوة بني إسرائيل للإسلام) .
(3) تنفق المغرب ربع ميزانيتها على التعليم، كما تنفق الجزائر 30% من ميزانيتها على التعليم، أما السعودية والكويت وباقي دول الخليج فتعد من أكبر دول العالم إنفاقاً على التعليم.
(4) لاحظ أن العلمانيين في بلادنا حين يتملكون لديهم القابلية على التعايش مع أي ملة واعتقاد وأي مذهب، وتبقى نظرية الإقصاء مطبقة على كل من يلتزم بإسلامه فقط.(173/40)
ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي
كمال حبيب
عرف العالم الإسلامي منذ وجوده الأول المدارس الدينية التي قامت بتفسير
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، صحيح أن ذلك بدأ بشكل فردي حيث كان
الصحابة يقومون ينقل ما سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم شفاهة ثم جاء
التابعون من بعدهم لنقل ما أثر عن الصحابة ثم تكونت المدارس الفقهية واللغوية
والأدبية، وكان كل نشاط العقل المسلم يدور حول الإسلام والقرآن والسنة، علماء
التفسير والبيان والسنة والجرح والتعديل جميعهم كان نشاطهم العقلي والفكري
يستلهم الإسلام ويدور حوله من أجل بيانه وشرحه والحفاظ عليه، ولم تكن المدارس
الفقهية أو اللغوية أو الحديثية أو البيانية، ذات بيان ولها رسوم مقررة، لكنها في
أغلبها عمل تطوعي وأهلي ومجتمعي.
فأبو حنيفة مثلاً كان تاجراً لكنه متوافر على تأسيس مدرسة فقهية عريقة تعود
بجذورها إلى الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يحكم
ويقضي ويجتهد؛ هذه المدرسة الفقهية هي تلامذته الذين نقلوا العلم عنه «كأبي
يوسف» و «محمد بن الحسن الشيباني» وغيرهم من المجتهدين والعلماء والقضاة،
ثم تبلور في النهاية «المذهب الحنفي» الذي هو طريقة في المنهج لفهم الشريعة،
وكذا الشافعي وكذا «الإمام مالك» إمام أهل المدينة بلا منازع ثم الإمام «أحمد
بن حنبل» .
وكان يحدث في هذه المدارس الإسلامية تلاقح فكري وقواعد في الفهم
والاجتهاد وهي آية في التضلع الفكري والعلمي العقلي بمعناه الواسع؛ فالنشاط
العقلي والفكري للحضارة الإسلامية هو بالأساس نشاط حول الإسلام وعلومه، وهذا
الذي مثل النسق المعرفي الإسلامي بالأساس، ثم ظهرت جماعات من شذاذ الفكر
الذين تلوثوا بالفكر اليوناني الوثني، والأفكار النصرانية والخوارجية البدعية،
وكان ذلك في الواقع جزءاً من محاولة العدوان على الفكر الإسلامي الأصيل، لكن
هذا الفكر الشاذ ظل هامشياً، وكان أهله محاصرين بحكم الشعور الإسلامي العام
وبحكم علو الشريعة فكراً وسلطة. كما أن طبيعة العصر التي لم تكن تحقق
التواصل، وكان كل عالم يعيش وحده، وهو ما جعل آثار هذا التفكير محدودة
وليس لها واقع في حياة الأمة والناس؛ لكنه مع نهاية القرن السابع عشر ومع
هزيمة الدولة العثمانية عسكرياً أمام الجيوش النصرانية الغربية، بدأت السفارات
إلى الغرب، وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة ذات الطابع العسكري
بالأساس، ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في الجيوش
الإسلامية؛ كما بدأ إرسال المبعوثين، وهنا جرى أول اختراق حقيقي للعالم
الإسلامي؛ حيث تكونت البذور الأولى داخل المؤسسات الإسلامية والتي تحمل
أشواقاً لعالم الأعداء، وتؤمن أن تقليدهم في القيم والأفكار يمكن أن يحقق النهوض
للعالم الإسلامي، ثم صار الإيمان بهذا الفكر الوافد قيمة للعمل من أجل تحطيم العالم
الإسلامي وليس النهوض به.
ومن المثير أن يكون الجيل الأول من العلمانيين في العالم الإسلامي قد اشتد
عوده وقويت شوكته في مؤسسات الدولة العثمانية حاملة راية الإسلام في هذا الوقت،
بل إن السلاطين أنفسهم كانوا من الذين حملوا الترويج لهذه الأفكار منذ منتصف
القرن التاسع عشر. نعم كانت هناك ضغوط غربية من الخارج! لكن نمط التعليم
الغربي اخترق أعلى مؤسسات الدولة كما حدث في الدولة الأموية والعباسية والتي
جرى اختراق مؤسسة صنع القرار فيها عبر تبني الخلفاء والملوك للمذاهب القدرية
والباطنية، وتسلط على مؤسسة الخلافة ذاتها المعتزلة والمبتدعة. ثم انتقل الأمر
من عاصمة الإسلام إلى مصر؛ حيث رحل طلاب العلم إلى أوروبا في كافة الشُّعَب
لكن أخطرهم كان «رفاعة الطهطاوي» إمام أول هذه البعثات، وجاء من بعده
«محمد عبده» ومن قبله «الأفغاني» وتأسست مدرسة يمكن وصفها
بالمصطلحات المعاصرة «مدرسة التفسير الاستعماري للإسلام» . ومن المدهش
أن يكون سعد زغلول، وقاسم أمين، وعلي عبد الرازق وغيرهم تلامذة في هذه
المدرسة التي كانت وثيقة الصلة بالإنجليز. لكن التعليم الإسلامي استرد عافيته
بهبة الأمة من أجل الدفاع عن دينها وإسلامها وتعليمها.
تدمير الأزهر:
وظل الأزهر في مصر المدرسة التي تحمي التعليم الديني، وكان لها تقاليد
صارمة علمية في الضبط والتحرير والإنتاج العلمي، ثم ظهرت مدرسة «دار
العلوم» التي تخرج فيها الشيخ حسن البنا، والأستاذ سيد قطب، ودار القضاء
الشرعي التي تخرج فيها الشيخ جاد الحق، وكان القصد منها ضرب الأزهر، لكنه
ظل قوياً.
ثم جاء انقلاب يوليو وأصدر قانون «تطوير الأزهر» حيث فصل أوقافه
عنه، واستولت عليها وزارة الأوقاف، كما جعل شيخه تابعاً لوزير يساري في هذا
الوقت هو كمال رفعت، وأدخل التعليم المدني فيه مثل الطب وغيره بقصد تخريج
كوادر دعوية لمواجهة التبشير.
وهنا أصبحت المؤسسة الأزهرية التي هي بالأساس مؤسسة أهلية علمية لها
أوقافها المستقلة وتمارس الاجتهاد، ولها تقاليدها بعيداً عن يد الدولة أصبحت في
قبضة الدولة، وحدثني «الشيخ الشعراوي» الذي كان يعمل مديراً لمكتب الشيخ
حسن مأمون شيخ الأزهر أنه أي الشيخ حسن مأمون لم يكن يستطيع أن ينقل
الفراش من مكتبه؛ أي نزعت من الأزهر كل أسلحته، وصار شيخ الأزهر الذي
كان يمثل ضمير الأمة كلها مجرد موظف لدى المؤسسة الحاكمة لا يخرج قيد أنملة
عما تطلب منه رغم أن العلماء في التقاليد الإسلامية هم بالأساس مراقبون للسلطة
وضابطون لسلوكها، وهم معبرون عن الأمة من مواجهة السلطة.
ثم مضى التطوير قدماً حالياً حيث جرى تقصير مدة الدراسة في الفترة الثانوية
لتصبح ثلاث سنوات بدلاً من أربع مثل الثانوية العامة، وتم إلغاء دراسة المذاهب
الفقهية تماماً والتي هي حافظة لطريقة فهم الشريعة وهي ناقلتها عبر الأجيال، ثم
منع الطلاب الراغبون من خارج الأزهر من الالتحاق به وكانوا يمثلون دماءاً فيه
لتجديد روح الأزهر وشبابه، ثم رفع سن القبول في المرحلة الابتدائية، وتضاءلت
دراسة القرآن الكريم؛ كما حوصرت الكتاتيب، وضعف مستوى طلاب العلوم
الشرعية والقسم الأدبي، رغم أن الشيخ الشعراوي قال لي: إن إصلاح الأزهر
يكون عن طريق دعم القسم الأدبي والتخلي عن القسم العلمي تماماً للتعليم العام فدعاة
الأزهر هم خريجو العلوم الشرعية بالأساس؛ وكل ذلك يجري في إطار ما أطلق
عليه: «علمنة الأزهر» أي نزع صفة كونه معهداً لتدريس العلوم الشرعية
وتخريج متخصصين في العلوم الشرعية الإسلامية.
وخالف الأزهر عبر شيخه الحالي أعز تقاليده في تحمل الاختلاف الفقهي،
فحوصر المخالفون لشيخ الأزهر وحوكموا وعزلوا وشردوا في الآفاق، وظن شيخه
أن المركز الذي منحته السلطة له يتيح له أن يستخدم سلطة الإكراه في مواجهة
خصومه رغم أن سلطة العلماء بالأساس هي سلطة معنوية لا تستند إلى الإكراه؛
والمتأمل في الاجتماع الإسلامي يلاحظ بوضوح أن السلطة السياسية كانت تعمد إلى
فرض الرأي الواحد عبر القوة بينما كان العلماء يعمدون إلى إعطاء الفرصة لكافة
الآراء الاجتهادية لا يحتكرها عالم واحد أو مجتهد واحد؛ وموقف الإمام مالك رحمه
الله في هذه المسألة واضح حين عرض عليه المنصور أن يجعل من «الموطأ»
دستوراً فقهياً موحداً للأمة لكنه رفض.
كان كل ذلك يتم في إطار علمنة ثقافة الأمة وتحطيم هويتها عبر مصطلحات
مثل «تجفيف الينابيع» ؛ فبما أن الأزهر رصيد لتخريج علماء الدين فليجفف،
وطالما أن الطلبة الذين يرغبون في الالتحاق به من خارجه يشتبه في أن يكونوا
متطرفين فليمنعوا، وهكذا.
وطالما أن مادة الدين في التعلم العام يمكن أن تكون مصدراً لتدين الشباب
فلتجعل مادة للثقافة المشتركة مع غير المسلمين حفاظاً على الوحدة الوطنية. لم يكن
كل ذلك تحت قصف النيران الخارجية أو في إطار خطة مفروضة من الخارج، بل
كان من يقومون بكل هذا ينكرون أن يكون للخارج أي تدخل في فرض أجندته التي
تريد أن تفرض التبعية الثقافية على عالمنا الإسلامي وخاصة دول القلب والمركز
فيه، لكن أحداث سبتمبر جاءت لتقلب الأمور رأساً على عقب.
ما بعد سبتمبر والقصف الأمريكي لمناهج التعليم:
كما هو معلوم أن العقل الأمريكي ذي الطابع البراجماتي لا يملك القدرة على
الغوص في الأمور لفهمها وتحليلها وهو يعتمد منهج التجريب فيما ينهيه إليه أقرب
نظرة له أو أقرب طرفة عين عقلية، فإن ثبت خطأه جرب غيره، وهكذا.. وهذا
وصناع القرار فيه اتهموا «بغير بينة» ما يطلق عليهم «فوكوياما» الأصوليين،
وفي ظن الأمريكيين أن هؤلاء الأصوليين إسلاميون درسوا علوم الشريعة؛ وإذن
فالمدارس الدينية في باكستان هي التي أخرجت طالبان والمدارس الدينية في
السعودية هي التي تخرج أصوليين، ومناهج التعليم الديني هي التي تحفظ للإسلام
قوامه؛ إذن تجب محاصرة هذه المدارس والمناهج، والضغط من أجل ذلك، ومن
هنا فما كانت تقوم به الحكومات المحلية في السابق على استحياء أصبحت أمريكا
رأساً هي التي تقوم بذلك، وهي تقوم به بعصبية شديدة وانفعال وقلة خبرة تحت
تأثير ضربة سبتمبر، وهي تجهل أنها تدخل في قلب الوجود الإسلامي وفي قلب
هوية الأمة، وهو ما يعد عدواناً قاسياً وخطيراً يصل إلى حد الحرب.
بيد أن أمريكا لم تكتف بذلك، بل إن مسؤولين كباراً في وزارة الخارجية
اقترحوا تمويل أئمة المسلمين الذين يعارضون الإرهاب على حد زعمهم ويؤيدون
الحرية الدينية. وقالت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون العالمية أمام اجتماع «لجنة
الحريات الدينية» المعنية بمتابعة الحالة الدينية في العالم وفق الرؤية الأمريكية:
«يتحدث كثير من المسلمين عن معارضة الإرهاب لكن ذلك غير كاف، وعلينا
أن نواصل القيام بالمزيد لحث المسلمين في الخارج على التحدث علناً عن قيم
دينهم التي تعلي من شأن الحياة، وأوضحت أنه» يجب التفكير خارج الإطار
التقليدي وتوظيف وسائل خلاقة للنهوض بالحرية الدينية، وهنا علينا التفكير في
تمويل علماء مسلمين وأئمة وأصوات أخرى للمسلمين «وزادت توضيحاً بالقول:
» علينا أن نضم المزيد من علماء المسلمين إلى برامج التبادل الثقافي والأكاديمي التي
تمولها أمريكا، إننا نريد الوصول إلى جمهور أكبر في المجتمعات الإسلامية؛ وذلك
بهدف دعم أصوات التسامح في الدول الأخرى وعودة الناس للتسامح «.
أي أن أمريكا تريد من المسلمين» إعلاء القيم الدينية التي تحافظ على قيمة
الحياة «ويستبطن هذا المعنى إلغاء كل ما يتصل بالقتال في القرآن الكريم والسنة
النبوية باعتبار أن آيات القتال في التصور الأمريكي تهدد حياة الآخرين، كما أن
إعلاء قيمة الحياة تعني منع العمليات الاستشهادية في الأراضي المحتلة ضد
الصهاينة باعتبار أن اليهودي في التصور الأمريكي هو إنسان محفوظ الدم والحياة؛
لأنه لم يعتد على أرض لهم بل هو صورتهم في الاعتداء على الآخرين.
وأفكار التسامح تعني إلغاء كل ما يتصل بمفهوم الولاء والبراء والتمايز على
أساس العقيدة؛ فهم ينظرون» للإنسان «من وجهة نظرهم باعتبار الإنسان الغربي
ابن الحضارة الأمريكية والغربية أو التي تصله بها آصرة الثقافة والدين كاليهود.
وهم يروجون لفكرة» الإنسان الكوني «أي الإنسان الذي لا يشعر بأي انتماء
خاص لدين أو لوطن أو لعقيدة أو لقضية، وحين يكون إنسان» العالم الإسلامي «
أو الإنسان الشرق أوسطي» كما يزعمون بهذه الحالة فإنه سيكون نهباً وعبداً لكل
ما يطلب منه.
وتبقى العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي هي حصانة العالم الإسلامي في
مواجهة الهيمنة الأمريكية الثقافية.
إن أمريكا تسعى اليوم عبر التدخل في مناهج التعليم الديني على وجه
الخصوص للتأثير على الأجيال القادمة للأمة الإسلامية، أي أنها تعمل للسيطرة
على المستقبل في العالم الإسلامي، وهي تشعر أنها لا يمكنها السيطرة على هذا
المستقبل إلا عن طريق السيطرة على عقول شبابه وأبنائه، وهذا لا يمكن تحقيقه
إلا عن طريق العبث بمناهج التعليم الديني خاصة.
إن الأمة الإسلامية بحكم صفتها هي أمة روحها هو الدين وتاريخها وثقافتها
ونشاطها كله بالأساس حول الدين، ونزع دينها أو التلاعب به من قبل قوة خارجية
هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه؛ لأنه خطر وقصف موجه إلى
العقل والروح، هو قصف موجه إلى الجذور، وهو خطر يستهدف اغتيال الأمة،
ونحن نثق أن الله «غالب على أمره» وحافط دينه [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) وأن هجمة أمريكا ومكرها سيمتد إلىها [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]
(الأنعام: 123) . لكن الأمة كلها بحاجة إلى تدبر طبيعة الحرب التي تواجهها:
إنها حرب صليبية، الإجلاب فيها بالخيل والرجل من جانب، وبالغزو الفكري
والثقافي لهدم قواعد الأمة وأسسها من ناحية أخرى.
أمريكا وتغيير خصائص الشعوب:
دارسو السياسة الخارجية الأمريكية يعلمون أنها تعتمد على المدرسة السلوكية
وما بعد السلوكية، وهي في جوهرها تقوم على ما يعرف بـ «الخصائص القومية
للشعوب» أي تغيير الطبيعة القومية والنفسية للشعوب، وقد نجحت في ذلك مع
ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تشن حرباً نفسية على العالم
الإسلامي عن طريق محاولة تغيير خصائصه؛ لكن العقيدة الإسلامية هي التي
تحفظه وتقف به صلباً أمام موجات العولمة الحديثة كما وقفت أمام موجات الحرب
الصليبية والتبشير والاستشراق والاستعمار «الاستخراب» ومن ثم فالحرب
الحضارية بين أمريكا والغرب من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى هي حرب
عقيدية حول الأساس وحول القضايا الثابتة، وهي حرب تضرب في الجذور،
وسوف تسعى أمريكا بشكل أساسي لتجنيد العملاء، لكنهم هذه المرة من قلب المحتل
الذي تريد أن تحطمه كما قال «زويمر» من قبل: «الشجرة لا يقطعها إلا أحد
أبنائها» فالعملاء لن يكونوا يساريين أو علمانيين؛ لكنهم سيكونون من علماء الدين
والمتخصصين في العلوم الشرعية من المفتين والقضاة والرؤوس في علوم الإسلام،
وأمريكا سوف تمنح وتعطي وتغري وتخاتل وتبدو كالمسيخ الدجال الذي يتلاعب
بظواهر الأشياء ويقلب المسميات ويصور للناس أنه يملك الجنة والنار، وهي تقول:
«من ليس معنا فهو ضدنا» ؛ لذا فالأمر خطير؛ وليحذر كل امرئ وخاصة
العلماء من فتنة أمريكية عمياء، القابض فيها على دينه وعلى الحق كالقابض على
الجمر. إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى «كير» تتبع
المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية
والتعليم المصرية.
والدهشة ستمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد الـ F. B. I قد التقى شيخ
الأزهر، ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر.
ونورد ما قاله وزير التعليم المصري في حوار مع إحدى الصحف قال:
«المناهج الدينية تتم صياغتها بإشراف شيخ الأزهر وهو رجل لا يستطيع
أحد التشكيك في استنارته وتقدمه، وهو يعلن مسؤوليته دائماً عن كل ما يدرس
من تربية دينية داخل وزارة التربية والتعليم، وشارك بنفسه في دورة تدريبية
لمدرسي التربية الدينية بالوزارة؛ وبالفعل تم تغيير الكثير من هذه المناهج حتى
يمكن صياغة عقل الإنسان الجديد غير المتطرف؛ وذلك لأننا نعتقد أن العقل هو
جوهر الإسلام وعشرات الآيات تحض على العقلانية وإعمال العقل والفكر وقبول
الآخر والتسامح والأخلاق والتكامل والرحمة» وهذا بالفعل هو ما تريده أمريكا،
ونحن نندهش ونتساءل: وهل كانت الوزارة قبل هذا الوزير ومنذ وجدت وزارة
التعليم في داهية عمياء بلا عقل ولا فكر ولا قبول الآخر ولا التسامح معه؟ وهل
كان الطلاب لا يعرفون كل هذا؟ لكنها الأجندة الأمريكية الجديدة، حين يرتبط
العقل والتسامح بها فإنها تعني عقلاً خاصاً وتسامحاً خاصاً تجاه أعداء هذه الأمة
وتجاه تاريخها. ومن الإنسان غير المتطرف؟ «أي الإنسان الأمريكي، الإنسان
الشرق أوسطي الذي لا يشعر بالهوية ولا يعترف بالقيم وإنما يؤمن فقط بالمصلحة
إنسان البراجماتية والنفعية.
وتدرك أمريكا ويدرك الغرب معها أن التعليم في أوروبا كان المدخل للسيطرة
على الفرد وعلى الأمة، وكان أساس بناء الدولة القومية العلمانية في أوروبا؛ ففكرة
العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة
والإخضاع عبر التعليم، عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية
وباكستان واليمن؛ وعبر القضاء على المدارس الدينية والجمعيات الخيرية التي
تدعمها.
وذلك يعني محاولة تدجين المجتمع الأهلي الإسلامي الذي يمثل قاعدة نبض
الأمة وحيويتها.
ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان؛ لأنها تحاول توظيف هذه الصداقة
عبر ترويج فكرة السلام، في اختراق وتسميم هذه المجتمعات الإسلامية.
وهنا فالخطر داهم على الأمة حكاماً وشعوباً؛ ولذا يجب على الكل أن يستيقظ
ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد، وعلى الجميع أن يعرف أن
روح الأمة أقوى من كل شيء، والحمد لله أن هذه الهجمة الأمريكية واكبت في
الأمة حياة ووعياً مؤثراً، وأجيالاً جديدة حية تدرك وتسعى.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .(173/46)
ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
أزمة التعليم الديني في باكستان
فيض الرحمن العثماني [*]
E.mailiisi@isb.paknet.com.pk
قبل أن نتكلم عن التعليم الديني في باكستان يحسن بنا أن نعرف نبذة من
تاريخ التعليم الديني في شبه القارة الهندية بشكل عام. ولفهم هذا التاريخ فهماً
صحيحاً لا بد أن نضع نصب أعيننا ثلاثة أمور:
أ - أن الهند موطن لأقدم الحضارات الوثنية ولها تقاليدها الحضارية العتيدة
وعاداتها وأساليبها الاجتماعية الراسخة التي تميزها عن غيرها من الحضارات؛
مما يجعل تأثيرها الحضاري بالغ الأثر حيث يصهر الأمم الوافدة إليها، ولذا سميت
بآكلة الأمم.
ويلاحظ أن المسلمين استطاعوا تغيير العادات والأساليب الاجتماعية في
البلدان الأخرى التي فتحوها أو وصلوا إليها حتى إنهم تمكنوا من تغيير لغات بعض
الشعوب؛ إلا أن تأثيرهم في هذه المنطقة ذات الميزات الخاصة (الهند) كان
ضئيلاً، بل نستطيع القول: إن الحياة الإسلامية التي عاشها المسلمون في الهند
تأثرت بالمؤثرات المحلية، وما زالت تلك التأثيرات واضحة جلية في حياة مسلمي
القارة إلى الآن.
ب - لم يأت الإسلام إلى القارة الهندية من جزيرة العرب مباشرة، وإنما أتى
ماراً بديار العجم، مما جعله يصل مشوباً بالاتجاهات الفكرية التي كانت سائدة في
تلك الديار.
ج - لم يبذل السلاطين المسلمون في الهند جهوداً كافية في نشر القرآن والسنة
مما كانت تحتاج إليها تلك المنطقة ذات المؤثرات المذكورة آنفاً.
ولهذه الأسباب المذكورة بقيت الهند بعيدة عن منابع القرآن والسنة الصافية
حتى قيض الله لها الإمام الجليل أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الشهير بشاه ولي الله
الدهلوي (1114هـ 1176هـ) وأولاده من بعده وأحفاده.
الهند بين منهجين:
وفي حياة الإمام الدهلوي وضع العلاَّمة نظام الدين الأنصاري
(م 1161هـ) منهجاً للعلوم العربية والإسلامية وهو ما اشتهر بالدرس
النظامي نسبة إليه، واستمر تدريس هذا المنهج طوال حكم المسلمين المغول
في الهند، وكان التركيز فيه منصبّاً على علم الصرف والنحو والمنطق والفلسفة
والفقه وأصول الفقه وعلم الكلام دون إعطاء القرآن والسنة ما يستحقانه من
الاهتمام. وقد أعطى الإمام الدهلوي وأبناؤه من بعده أهمية خاصة لتدريس
القرآن والسنة في مقابل المنطق والفلسفة وعلم الكلام.
وعلى كل حال فالدرس النظامي مع أن فيه ما فيه من سلبيات وإيجابيات ظل
يمد الهند الإسلامية بالمفتين والقضاة وقادة الجيش والشرطة وغيرهم من رجال
الدولة إلى أن دهمها المحتل الإنجليزي، وتمكن من بسط سيطرته على البلاد،
وأعلن تغيير نظام التعليم عام 1835م، وكان يهدف من ذلك إلى نشر الثقافة
الإنجليزية الغربية، أو بمعنى آخر تغريب المجتمع الهندي، وقد قدم واضع النظام
الجديد اللورد ميكالي تقريراً إلى الحكومة البريطانية حول هذا المنهج قال فيه:
«نريد من هذا التعليم تكوين جيل من الهنود لونه ودمه هندي، وفكره وذوقه وأخلاقه
إنجليزية» . ثم تقدم المحتل نحو تحقيق هدفه خطوة أخرى معلناً في عام 1844م
أن الوظائف الحكومية حكر على المتخرجين من المدارس التي أقامها، وقد كتب
أحد المسؤولين الكبار في أواخر عهد الإنجليز معلقاً على هذه الخطوة في كتابه
المعروف بـ (شهاب ناما) «وباتباع هذه السياسة وإحلال الإنجليزية محل
الفارسية لغة رسمية أصبح آلاف العلماء والفضلاء من المسلمين غير متعلمين عند
الحكام الجدد» .
وعندما رأى علماء الهند هذه الحال أدركوا الخطر الذي يتمثل في هذه الخطوة
الماكرة على العلوم الدينية حيث خافوا من اندثارها والقضاء عليها، فبدؤوا بإنشاء
مدارس غير رسمية، ففي عام (1283هـ 1863م) افتتحت مدرسة على هذا
النمط وهي مدرسة دار العلوم بمدينة ديوبند أسسها الشيخ محمد قاسم نانوتوي،
وأسس الشيخ سعادة علي مدرسة أخرى تعرف بـ (مظاهر العلوم) بسهارنفور،
وتعد هاتان المدرستان هما الأهم من بين كثير من المدارس والحلقات التي بدأت
تنتشر بجوار المساجد في أرجاء الهند، واستمر تدريس المنهج النظامي في هذه
المدارس مع التركيز على القرآن والسنة وعلومهما، حيث يلزم الطالب بدراسة
الصحاح الستة حتى سنة التخرج ومن ثم يرسله أساتذته إلى المكان المناسب حتى
يخدم الدين.
وإذا قلنا إن الإسلام في شبه القارة الهندية ظل حياً بفضل الله ثم بفضل هذه
المدارس فلا نكون مجانبين للحقيقة، فلولا هذه المدارس لامَّحى الوجود الإسلامي
من هذه المنطقة، أو نشأت صورة مشوهة للدين لا تمت إلى الإسلام الحق بأدنى
صلة.
التعليم الديني في باكستان:
ظل الوضع على ذلك المنوال حتى تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947م إلى
دولتين هما الهند وباكستان، فاستبشر العلماء بأن الدولة المسلمة الناشئة ستقيم
مدارس إسلامية تدرس فيها المناهج العصرية والإسلامية جنباً إلى جنب، إلا أنهم
صدموا بالواقع التعليمي الذي لم يتغير وخاصة الفئة التي ناصرت إقامة الدولة؛
ولذلك قرروا إنشاء مدارس أهلية على نمط (دار العلوم) بديوبند و (مظاهر العلوم)
بسهارنفور في كل أرجاء البلاد، فأصبح لكل اتجاه أو فرقة رئيسية مدارسها
الخاصة بها (الديوبندية، والبريلوية، وأهل الحديث، والجماعة الإسلامية،
والشيعة) ، ثم نشأت بعد ذلك خمس لجان عليا للمدارس، لكل طائفة لجنة تشرف
على مدارسها؛ حيث تعقد امتحانات تحت إشراف كل لجنة من هذه اللجان الخمس،
ويمنح الدارس بعد امتحان التخرج شهادة تسمى (شهادة العالمية في العلوم العربية
والإسلامية) ، وتعترف بها الحكومة كماجستير في العلوم العربية والإسلامية وتقبل
في المجال الديني فقط، وتمكن حاملها أن يكمل تعليمه في مجاله فقط حتى درجة
الدكتوراه، وبحكم أنها لا تؤهل صاحبها للسير في مجالات الحياة الأخرى ظل
الوضع الوظيفي والاجتماعي كما كان في عهد الإنجليز مع بُعد شاسع بين (الملا)
و (المستر) ، وهذا الوضع بدوره يتسع يوماً بعد يوم.
الحاجة إلى تطوير المنهج النظامي:
لقد كانت تجرى بعض التعديلات على المنهج النظامي من حين لآخر دون
إدخال تعديلات أساسية كان المنهج النظامي يفتقر إليها، ومن المسلَّم به أنه لا يمكن
التغيير في القرآن ولا السنة إلا أن بعض الكتب المقررة لتعليم الفنون الأخرى قد
تضعف الحاجة إلى تدريسها الآن، كما أن متغيرات العصر تقتضي إدخال مقررات
دراسية حديثة تواكب متطلبات الحياة المعاصرة؛ فعلى سبيل المثال يمكن إضافة
مادة اللغة العربية الوظيفية والإنجليزية وتعليم مقدمات العلوم التجريبية، بل يمكن
أن تدرس جميع المناهج الأدبية المقررة في المدارس الحكومية من الابتدائية إلى
الجامعة (بعد التنقيح) ولنا في ذلك تجربة خاصة سأذكرها في حينها، ولقد بدأت
بعض المدارس بتطبيق بعض ما ذكر إلا أن المسألة ستأخذ وقتاً لتعميمها على
مستوى المدارس كلها، ولا أظن أن علماءنا سيغضُّون الطرف عن هذه الضرورة
لوقت طويل.
المحاولات المعاصرة للسيطرة على التعليم الديني:
بدأ الصراع بين العقيدة الإسلامية والفكر العلماني منذ بدء إقامة الدولة
الباكستانية عام 1947م، وهو مستمر إلى الآن. ولكن لم تهاجم منابع تعليم العقيدة
الإسلامية (المدارس الدينية) بهذه الصورة المنظمة والشرسة قبل الأحداث الأخيرة؛
فقد بدأ هذا الهجوم المنظم بعد خطاب الجنرال برويز مشرف يوم 12/1/2002م،
وتعد هذه الحملة جزءاً من مخطط عالمي للقضاء على العقيدة الإسلامية النقية
والتصور الصحيح للإسلام أو ما يطلقون عليه: تجفيف منابع التطرف، والذي
خصصت له مبالغ طائلة، وكان يتوقع تنفيذ المخطط على مهل، غير أن أحداث
الحادي عشر من سبتمبر والهجوم على البرلمان الهندي عجل خروجه قبل أوانه
المنتظر.
ويمكن القول منذ سنوات مضت إن الجو لتنفيذ هذا المخطط يهيأ عبر وسائل
الإعلام المختلفة التي يسيطر علىها الاتجاه العلماني، وقد استطاعت هذه الوسائل
أن تضع في أذهان العامة عبر الدعاية المسمومة التشكيك في الهيئات والجمعيات
الإسلامية والمنتمين إليها؛ مما هيأ هذه الأذهان للترحيب بخطاب الجنرال مشرف
بشكل عام، وإن كان عدد لا يستهان به من الشعب استاء من خطوات الحكومة غير
أن ردة فعلهم لم تظهر في الإعلام لضعف الإعلام الإسلامي داخل البلاد.
الآثار المتوقعة لهذه الحملة:
ويظهر أن أكبر أهداف هذه الحملة وكما يبدو من خطاب الجنرال مشرف هو
السيطرة على المدارس الدينية وخاصة مدارس الديوبندية التي كانت منطلقاً لكثير
من الحركات الإسلامية في الماضي من حركة المناديل الحريرية، وحركة ختم
النبوة التي استهدفت تكفير القاديانية، وحركة نظام المصطفى، إلى حركة طالبان
أخيراً، ولكن يبدو أن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد؛ لأن وراء هذه المدارس
أفراداً وجماعات تتعاون معها، وكذلك المنظمات الجهادية التي أسسها بعض
المتخرجين من هذه المدارس والجماعات الدينية السياسية؛ فهم ينظرون إلى مدارس
التعليم الديني على أنها معامل تفريخ لهذه المنظمات؛ ومن ثم فإن القضاء على هذه
المنظمات وإضعافها يبدأ من السيطرة على هذه المدارس.
ففي رأيي أن المخطط الذي يستهدف المدارس الدينية يريد أصحابه منه تحقيق
هدفين رئيسين هما:
1 - إماتة الروح الجهادية أو إضعافها.
2- فصل الدين عن السياسة تماماً وحصره في المساجد.
وفي تصوري أن الهدفين المذكورين لا يمكن تحقيقهما بيسر في باكستان
للأسباب المذكورة قبل هذا، ثم إن (الملا) في شبه القارة الهندية شيء قوي
الشكيمة لا ينثني، يقف صامداً رغم الرياح العاتية، فلا يسهل القضاء على (الملا)
وإخماد صوته في هذه المنطقة، ودول الكفر كانت ولا تزال تدرك ذلك:
ولفهم المخططات المستقبلية للحكومة، وتصور رد الفعل المناسب على هذه
الخطوات من قبل المتأثرين بها.. لا بد لنا أن نعرف العناصر التي ستتأثر بالقرار
الحكومي ومدى حجمها؛ ومن ثم رد فعلها المتوقع على هذه الخطوات.
فالعناصر التي يمكن أن تتأثر بالخطوات الحكومية يمكن ذكرها فيما يأتي:
1 - المنظمات الجهادية ضد المحتل الهندي في كشمير.
2 - المنظمات السنية والشيعية المتهمة بإثارة النزاعات الطائفية والتقاتل فيما
بينها.
3 - المنظمات الدينية الثورية الجهادية داخل الدولة الباكستانية والتي لا ترى
صحة العمل الديمقراطي أو جدواه لتطبيق الشريعة، وتؤمن بالعمل المسلح لتحقيق
ذلك، مثل منظمة تنفيذ الشريعة المحمدية في مالاكند برئاسة الشيخ صوفي محمد
وشعارها الشريعة أو الشهادة.
4 - الجماعات الإسلامية السياسية والتي تعتمد على العمل السياسي
والديمقراطي لتطبيق الشريعة، ومن أهمها: جمعية علماء الإسلام ويرأسها الشيخ
فضل الرحمن، والجماعة الإسلامية وأميرها القاضي حسين أحمد، وجمعية علماء
باكستان (البريلوية) وأميرها شاه أحمد نوراني، وجمعية أهل الحديث وأميرها
البروفيسور ساجد مير.
5 - جماعة التبليغ والدعوة.
6 - أئمة المساجد وخطباء الجوامع.
7 - المدارس الدينية.
الآثار المتوقعة لهذه الحملة على العناصر الإسلامية المذكورة:
وبعد هذه المقدمة يطيب لنا أن نذكر العناصر المتأثرة بالخطوة الحكومية
ومدى تأثرها وردة فعلها المتوقعة بشيء من التفصيل.
1- المنظمات الجهادية:
يقول المثل السائر: «السياسة لا تحمل في صدرها قلباً رحيماً» ، وتصدق
هذه المقولة على الرئيس الباكستاني الذي كان بالأمس يدافع عن هذه المنظمات
بقوله: «إن هناك فرقاً بين الإرهاب وحرب التحرير، وهؤلاء يحاربون دفاعاً عن
الحرية وليسوا بإرهابيين» وفجأة تغيرت الظروف فتغير خطاب مشرف وظهر في
يوم 12/1/2002م على شاشات التلفاز معلناً للعالم أن هذه المنظمات منظمات
إرهابية يجب أن تحظر ويلقى قادتها وأعضاؤها العقاب، وبالفعل أُودِع كثير من
قادة وأفراد هذه المنظمات خلف القضبان الحديدية، ولنا أن نترقب الخطوة القادمة
ضد هذه المنظمات، وأتصور أن هناك احتمالين حول مصير هذه المنظمات:
الأول: إذا رضيت الهند بالمفاوضات حول كشمير بسبب الضغوط الدولية
عليها وبإجراءات مشرف الأخيرة، ونتج عنها حل سياسي لقضية كشمير والذي في
غالب الظن يتمثل في تقسيمها فستفقد هذه المنظمات مسوِّغ وجودها، ويطوى
بساطها، وسيفرج عن قادتها وأعضائها مع مراقبة تحركاتهم من قبل الحكومة،
وهذا أقوى الاحتمالين.
الثاني: ألا تعقد مفاوضات بين الدولتين أو لا تفلح بعد عقدها في إيجاد حل
مرضٍ لقضية كشمير، فسيصعب على الحكومة عندها السيطرة على هذه المنظمات،
وستتجه هذه المنظمات إلى العمل السري لتشارك بقوة في حركة تحرير كشمير.
2 - المنظمات السنية والشيعية المتقاتلة:
أعتقد أن الحكومة جادة في القضاء على هذه المنظمات وإبقاء الحظر على
نشاطها وعقد محاكمات خاصة لأعضائها، وقد أنشئت لهذا الغرض محاكم خاصة
تتكون من قاضيين وضابط من الجيش لا تقل رتبته عن عقيد.
3 - المنظمات الإسلامية الثورية:
هذه المنظمات تريد تطبيق الشريعة عن طريق الثورة والعمل المسلح دون
اللجوء إلى العمل السياسي، وأعتقد أن الحكومة ستقضي عليها وستبقي عليها
الحظر، وستواجه مصير المنظمات السنية والشيعية.
4 - الجماعات الإسلامية السياسية:
أظن أن حكومة مشرف لا تريد التورط في صراع مع هذه الجماعات في
الوقت الراهن على الأقل، ولا تريد فتح عدة جبهات في وقت واحد خاصة أنه لا
توجد أي ضغوط لفرض حظر عليها؛ واعتقال قادة بعض هذه الجماعات التي
ساندت حكومة طالبان أمر مؤقت في رأيي.
5 - جماعة التبليغ:
نشاط هذه الجماعة لا يطالها أي قانون، ولا تشكل أي مصدر إزعاج
للسلطات، ولا يتوقع معارضة الجماعة للخطوات الحكومية المتخذة ضد العناصر
المذكورة قبل هذا.
6 - أئمة المساجد وخطباء الجوامع:
يبدو أن الحكومة قررت الضغط على هؤلاء وسلب حقهم في حرية التعبير
عن الرأي وتريد منهم ألا يتحدثوا أمام الناس إلا بما تمليه عليهم، وتريد توحيد
خطبة يوم الجمعة، وسأذكر ردة فعلهم على الإجرءات الحكومية فيما بعد إن شاء
الله.
7 - المدارس الدينية:
الإجرءات التي تنوي الحكومة اتخاذها في حق المدارس هي:
أ - تسجيل المدارس الدينية.
ب - إضافة المواد العصرية إلى مناهجها.
ج - ضمان عدم تدريب هذه المدارس لأفرادها على الإرهاب حسب تعبيرهم.
د - ألا تؤسَّس المساجد والمدارس إلا بموافقة مسبقة من الحكومة.
ويمكن ذكر الموقف من هذه الإجراءات على النحو الآتي:
1 - التسجيل:
أظن أن تسجيل المدارس شيء طيب، وأغلب المدارس مسجلة مسبقاً، وكل
مدرسة تود ذلك، ولكن الحكومة كانت تماطل في ذلك، وأعرف شخصياً كثيراً من
المدارس في إسلام آباد تسعى للتسجيل منذ سنين لكن الحكومة لم تسجلها؛ فإن
أرادت الحكومة أن تسجل هذه المدارس وفق القوانين العامة للمدارس والمؤسسات
التعليمية الأخرى فأظن أن القائمين عليها لن يمانعوا في ذلك. وأثناء كتابة هذه
السطور ورد خبر مفاده أن مجلس اتحاد المدارس الإسلامية أبدى تعاونه في مجال
تسجيل المدارس وفق قانون المؤسسات التعليمية للدولة المعمول به سابقاً دون
التعديل فيه.
وأظن أن الحكومة إذا أرادت تسجيل المدارس حسب قانون جديد أو لوائح
خاصة فإن القائمين على هذه المدارس سيقاومون هذه الخطوة ويحق لهم ذلك.
2 - أما إضافة المواد العصرية في مناهج المدارس الدينية، فإن المدارس
الدينية أدخلت سابقاً التعليم العصري بصورة أو بأخرى في مناهجها وحسب ما
تسمح لها ظروفها ومواردها المالية؛ فجامعة دار العلوم بكراتشي من أكبر
المؤسسات التعليمية الدينية في باكستان تشترط في القبول والتسجيل أن يكون
الطالب مجتازاً اختبار الثانوية الحكومية على الأقل.
وفي معهدنا معهد العلوم الإسلامية بإسلام آباد تدرس المناهج العصرية المقررة
لدى الحكومة إلى جانب المواد الدينية من الصف السادس إلى درجة البكالوريس.
فإذا كانت الحكومة تهدف من هذا الإجراء ما ذكرناه؛ فإنه من الممكن أن تضع
قانوناً لذلك بعد أن تكسب ثقة اللجان التعليمية الخمسة للمدارس الدينية.
3 - المدارس الدينية والإرهاب:
في الحقيقة دأب الإعلام الحكومي والعلماني منذ سنوات على شن حملة
مغرضة على المدارس الدينية، حيث يتهمها بدعم الإرهاب وتدريب الإرهابيين.
ورغم أن أكثر هذه المدارس يقع داخل الأحياء السكنية وهي مفتوحة للجميع،
فإن أي حكومة باكستانية لم تستطع إثبات صحة هذه المزاعم؛ وعلى العكس من
ذلك فإن كل مسؤول في الدولة زار هذه المدارس صرح بأنها لم تتورط في الإرهاب،
ورغم ذلك لم يتوقف الإعلام العلماني عن هذه الحملة المغرضة. فإن كانت
الحكومة صادقة في محاربة الإرهاب فلتحارب تلك الجماعات العرقية وتضيق عليها
الخناق والتي ثبت بما لا يدع مجالاًَ للشك أنها أقامت حكوماتها داخل الدولة،
وأنشأت أماكن لتعذيب من يعارض اتجاهاتها، فلا يمر يوم دون أن نسمع خبراً عن
جرائمها البشعة من خطف وقتل وسرقة للسيارات وسطو على البيوت وترويع
للآمنين في الطرقات.
4 - الترخيص لبناء المساجد أو المدارس (N. O. C) :
إن كانت الحكومة تهدف من هذا الإجراء منع إقامة وبناء المدارس والمساجد في
أراض ليست مخصصة لبنائها فهذا أمر لا يعارضه أحد.
أما إن كانت تريد من ذلك أن لا تقام مدرسة أو مسجد إلا بإذنها المسبق فالذين
يعرفون الوضع الاجتماعي الباكستاني يدركون أن الهدف من وراء هذا الإجراء
يكون هو منع إقامة المدارس والمساجد؛ لأن أكثر من 75% من الشعب الباكستاني
يعيشون في قراهم أو أراضيهم الزراعية التي لا تطالها قوانين البلديات، وكذلك
الأمر بالنسبة للأراضي المحيطة بالمدن والتي يمتلكها الأفراد؛ فإن الإنشاءات عليها
لا تحتاج إذناً مسبقاً من الحكومة؛ فكيف إذا أراد شخص إقامة مسجد أو مدرسة في
أرضه التي يمتلكها؟ فالذي يجب أن يكون عليه الحال بالنسبة للمدارس والمساجد
أن تيسر لها القوانين أو على الأقل تطبق عليها قوانين بناء المنشآت الأخرى، فإذا
أصرت الحكومة على تطبيق قانون أو لوائح خاصة لبناء المدارس والمساجد على
أراض لا يطبق فيها نفس القانون على المنشآت الأخرى، فإن العلماء سيقاومون
هذه الخطوة الحكومية أيضاً.
الموقف من هذه الخطوات:
إن أقدمت الحكومة الحالية أو أي حكومة أخرى قادمة على هذه الخطوات أو
بعضها فإن ردة الفعل المتوقعة في تقديري على النحو الآتي:
1 - قيام جبهة موحدة وقوية من اللجان الخمسة للمدارس الدينية، وقد تكونت
باسم (مجلس الدفاع عن باكستان) التي سترفض جميع الإجراءات الحكومية التي
تهدف إلى السيطرة على الدعوة الدينية.
2 - ستتعاضد جميع العناصر الإسلامية التي ذكرت من أجل الدفاع عن
حرية التعبير واحترام المساجد والمدارس الدينية؛ لأنهم ورغم اختلافهم في كثير
من الأمور يتفقون في هذا الهدف المشترك.
3 - إن عامة الشعب بمختلف مستوياته الاجتماعية والذي يدعم هذه المدارس
من أيام الاحتلال الإنجليزي ولا يزال يزداد تعداده يوماً بعد يوم رغم الدعاية
المضادة، سيقف مع المدارس إن شاء الله، بل نتوقع أن يتمخض عن هذه
الإجراءات الحكومية ضد المدارس تعاطفاً شعبياً معها.
4 - الجبهة القائمة باسم مجلس الدفاع عن باكستان ستقاوم (وقد بدأت بالفعل)
الخطوات الحكومية بالوسائل السلمية؛ فإن فرضت الحكومة الإجراءات الجديدة
بالقوة فإن ردة الفعل ستكون وخيمة وقوية ولا يمكن تصورها الآن، وستشترك في
المقاومة جميع المنظمات الجهادية والمنظمات الإسلامية الثورية والجماعات
الإسلامية السياسية، والحركات السنية والشيعية وجميع الأئمة وخطباء المساجد
وبعض أفراد جماعة التبليغ، وكذلك بعض المنتمين إلى الجماعات السياسية
الأخرى الذين لديهم قدر من التوجه الديني، بالإضافة إلى الكثير من أفراد الشعب
غير المنتمين إلى الجماعات، ويحملون في قلوبهم الود والاحترام للمدارس الدينية
والمساجد.
5 - وفي ضوء ما ذكر فإن الساسة العقلاء والحريصين على مصلحة
باكستان يرون أن على الحكومة الباكستانية أن لا تضغط على العناصر الإسلامية
التي لا أحد يشك في أنها مخلصة ومحبة للوطن أكثر من غيرها، وأكاد أجزم أن
الحكومة لو اتخذت سبيل التفاوض وأرادت حل القضايا بطرق هادئة فإن (الملاَّ)
الباكستاني لن يرفض أي حل مناسب للقضية، فقد نشر خبر بتاريخ 20/1/2002م
في الجرائد، أن جلسة عقدها «مجلس اتحاد المدارس العربية بباكستان» في ملتان
أصدرت قراراً ينص على أن الحكومة إذا اتخذت أي قرار بالتشاور مع اللجان
الخمسة للمدارس الدينية فإننا سنقبل الحل الحكومي برضى تام.
ولكنني أشك في نية الحكومة، فإن كانت الحكومة جادة في توحيد التعليم
الديني والعصري فلماذا لا تدرس المواد الدينية في مناهج المدارس الحكومية
بالكثافة المستحقة لها؟ !
6 - وهناك فرضية تبرز إذا تخيلنا أن الحكومة سيطرت لبعض الوقت على
التعليم الديني في باكستان بالقوة، والمتوقع حينئذ أن تكون هذه السيطرة على
المنشآت والمباني فقط؛ لأنها لا تستطيع أن تدير المدارس الدينية وإن نجحت في
مدرسة أو مدرستين فإن الشعب الباكستاني لن يقبل بالخطباء والأئمة المتخرجين
منها.
وسيدِّرس العلماء الطلاب في بيوتهم كما كان الأمر قبل إنشاء المدارس بهذه
الكثرة الموجودة الآن، فإنني وكثيراً من زملائي درسنا في بيوت المشائخ وكنا
نعيش على الأرزاق التي تأتينا من بيوتات الحي؛ فالبنايات الحديثة هي نتاج
سنوات قليلة ماضية؛ إذ إن المدرسة ليست هي البناية أو المنشأة فحسب، بل إن
المدرسة تتكون في الأساس من طالب وكتاب وأستاذ؛ فمدرسة دار العلوم ديوبند
بدأت بأستاذ وكتاب وطالب واحد فقط تحت شجرة الرمان.
هذا الاحتمال وارد ويمكن أن لا تعود المدارس على النطاق الواسع إذا
سيطرت الحكومة عليها؛ ولكن رجال العلم سيزدادون، فإني أرى المدارس الدينية
وأتباعها منذ ما يزيد على خمس وثلاثين عاماً وهي تزداد عدداً، إلا أن عدد العلماء
المخلصين المتبحرين في العلوم قليل، فلعل البنايات والخدمات الجديدة أحرقت
وأتت على مزرعة الإخلاص ومع نهايتها سيعود الربيع إلى هذه المزرعة إن شاء
الله.
__________
(*) مدير ومؤسس معهد العلوم الإسلامية، بإسلام آباد.(173/50)
ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
التعليم الإسلامي في الغرب إلى أين؟
د. عبد الرحمن الجمهور [*]
إحدى ثمار العولمة البغيضة تتمثل في السيطرة التامة على الأمم والشعوب،
ومصادرة الحقوق، وتبديل المعتقدات والمفاهيم والأعراف، ونشر معتقدات ومفاهيم
وأعراف مصدّري العولمة. ومقولة: «أنت ضدي إن لم تكن معي» صورة من
صور تصدير العولمة على أساس ومبدأ القوة والإرهاب، وبهذه المقولة وبهذا
المفهوم خاطب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن العالَمَ متهماً المسلمين بالإرهاب.
وعلى أساسها دشن مشاريعه وبرامجه المعادية للإسلام؛ فشملت هذه المشاريع
ميادين عديدة بما فيها التعليم. ولا يخفى على ذي بصيرة أن الأمم الغربية تكيل
للمسلمين بمكيال يختلف عن الأمم الأخرى؛ حتى لو كان هذا المسلم أمريكياً أو
يعيش في بلاد غير إسلامية.
ومن المعلوم أن عدداً من المسلمين يقيمون في دول الغرب إقامة دائمة،
وينخرطون في مجتمعات هذه الدول، ولا ريب أن لهذه المجتمعات تأثيراً على
مستوى المعتقد والثقافة والأخلاق والمفاهيم. ويحاول كثير منهم تخفيف حدة تأثير
هذه المجتمعات الدينية والثقافية من خلال إقامة المدارس الإسلامية التي تعنى بتربية
النشء وتعليمهم أساسيات الدين، وتغرس في نفوسهم أصول التربية الإسلامية
والأخلاق الكريمة المستمدة من القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة، وتسعى هذه
المجتمعات إلى ربط أبنائها بثقافتهم الأم.
وأهم قضية تؤرق المسلمين في المجتمعات غير المسلمة هي قضية الحفاظ
على الهوية الإسلامية، والحفاظ على تميز الأبناء والبنات عن أقرانهم الغربيين؛
ولذلك اشتدت الرغبة لدى السواد الأعظم من المسلمين في البلاد الغربية في التعليم
الإسلامي، وارتداء الحجاب، وارتياد المراكز والمساجد الإسلامية، رغبة في حفظ
الهوية والبعد عن مسببات المسخ الغربي.
وينظر الغرب إلى قضية حفاظ المسلمين على هويتهم بمنظارين مختلفين:
فمنهم من يرى أن هذا الإجراء إجراء سليم يتطلبه الولاء للدين والثقافة ولا يمكن
التخلي عنه بأي حال من الأحوال؛ فاليهود والهندوس والصينيون يقيمون مدارسهم
ومعابدهم لتحقيق الأهداف نفسها التي يسعى إليها المسلمون؛ بل لقد برز اليهود في
قضية التعليم الديني في أمريكا وبريطانيا وبقية الدول الغربية بصورة جعلتهم
يتفوقون على المسلمين وغيرهم في مسألة الحفاظ على الهوية والتمايز الديني من
خلال فتح مدارس منظمة ينخرط فيها مربون ومعلمون متمكنون في مجال التربية
والتعليم، ومختصون في دراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية للجالية اليهودية في
المجتمعات الغربية.
وقد دافع أصحاب هذا الرأي عن المسلمين وغيرهم من الثقافات الأخرى،
وشجعوا هذا الاتجاه وطالبوا الحكومات الغربية بتقديم العون لهم وإمدادهم بالمقررات
والمناهج والمعامل ومساعدتهم في تحقيق رغباتهم؛ لأنهم جزء من المجتمع العام،
ولهم حقوق كما أن عليهم واجبات. وقد ذهب بعض أصحاب هذا الرأي إلى مطالبة
المدارس العامة في البلاد الغربية بتبني منهج يقوم على احترام الثقافات الأخرى
ويركز على:
1- إعطاء الثقافات الأخرى الحق من التقدير والاحترام وعدم الازدراء.
2 - تشجيع تعليم اللغات الأخرى في المجتمعات التي تكثر فيها الجاليات التي
تتحدث لغة غير اللغة الرسمية.
3 - تطعيم الكتب الدراسية بأحداث وتاريخ الثقافات الأخرى مثل الإسلام
ورموزه ومقدساته.
4 - التركيز على مبدأ المساواة وعدم التفرقة العنصرية.
ومن المناصرين لهذا الرأي عالم الاجتماع البريطاني جون ريكي الذي وجه
تحذيراً من خلال دراسات جادة ومستفيضة بيَّن فيها مغبة الوقوف أمام هجرة
المسلمين ومناهضة قدومهم إلى بريطانيا؛ مما قد يسبب حنق هذه الطائفة ويشعرها
بأنها مضطهدة فتتصرف على هذا الأساس فيحدِث خللاً في التركيبة السكانية.
وقد أشارت دراسة حديثة إلى أن تنامي تيار تشجيع التمايز العرقي في
المجتمعات الغربية؛ واهتمام الآباء المسلمين بحفظ أبنائهم ساعد في انتشار المدارس
الإسلامية في الغرب عامة وفي أمريكا الشمالية بصفة خاصة؛ لدرجة أنك تجد في
مدينة مثل شيكاغو وحدها أكثر من 42 مدرسة إسلامية.
وتقوم المدارس الإسلامية في الغرب على ثوابت وأهداف عليا تتمثل في:
1 - تعليم أبناء المسلمين أمور دينهم.
2 - ترسيخ القيم والأخلاق الإسلامية الكريمة.
3 - حفظ أبناء المسلمين من الذوبان في الثقافات الغربية.
4 - إمداد الطالب المسلم بتعليم أكاديمي رفيع المستوى.
5 - تمثيل المسلمين في المجتمعات الغربية.
أما الرأي الآخر فيرى في انتشار المراكز والمدارس الإسلامية خطراً كامناً
يهدد المجتمعات الغربية ويمثل فيروساً داخلياً ينخر في بنيان المجتمع الغربي الذي
يقوم على ثوابت وأسس لا تتوافق مع النظرية الإسلامية، بل هما نقيضان من
الدرجة الأولى؛ ولذلك لا بد من التصدي لأي تمثيل للمد الإسلامي داخل المجتمعات
الغربية وتقزيمه، ومن أجل ذلك ظهرت تقارير تشجع الحكومات الغربية على
الضغط على المراكز والمدارس الإسلامية وتحديد أدوارها بحجة أنها مفرخة
للإرهاب ومصدر له؛ فهذا جهاز المخابرات الهولندي BVD يعد تقريراً حول
نشاط 32 مدرسة إسلامية في المدن الهولندية الرئيسة مثل: أمستردام، وايندهوفن
يؤكد فيه أن هذه المدارس تمارس أنشطة إرهابية، وتلقن فكراً متطرفاً يشكل تهديداً
مباشراً لبنية المجتمع الهولندي، وأن مناهج هذه المدارس تحتوي على نصوص
متشددة تنظر إلى الغرب على أنه عدو يستحق القتل والتشريد. ودعا هذا التقرير
إلى التدخل السريع والمباشر في مناهج هذه المدارس وتقنين سياسة توظيف الأساتذة
والمربين. وكانت ردود الفعل عند مسؤولي التعليم في هولندا على ضوء هذا
التقرير عنيفاً؛ إذ صرحت نائبة وزير التعليم: أنه «لن يسمح لهذه المدارس
بالاستمرار في نشاطها وترويج الفكر المتطرف، وأننا سنضرب هؤلاء بيد من
حديد» .
بل ذهب بعض الكتاب إلى أن التعليم الإسلامي في الغرب يمكن أن يسبب
أزمات سياسية بسبب تطرفه ونظرته للغرب وتأصيله للارتباط العرقي بين
المتعلمين وأوطانهم الأصلية، وطالب بعض الكتاب بالحد من انتشار المدارس
الإسلامية، وبالتدخل العاجل في مناهج ومقررات المدارس الإسلامية، وتقنين
اختيار المدرسين والمشرفين على هذه المدارس للحد من ظواهر تصدير الإرهاب
وتجفيف منابعه.
وذهب بعض المفكرين الغربيين أمثال أنتوني هاريكي إلى أن المسلمين لا
يتوافقون مع إيقاع الحياة الغربية؛ فحاجاتهم تسبب تعطيلاً للحياة الغربية؛ فهم
يريدون أماكن للعبادة وأطعمة خاصة وألبسة معينة، حتى إنهم يتمايزون في المقابر؛
لذلك لا بد من التخلص منهم والتضييق عليهم، [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ
مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل
عمران: 118) . وما تصوره الآية الكريمة واضح منذ عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وفهمناه بصورة جلية عندما وقع انفجار أكلاهوما، ونادى الإذاعي الأمريكي
الشهير (رش لمبو) بطرد المسلمين من أمريكا بصورة عاجلة؛ لأنهم إرهابيون
وأعداء حضارة. ومن فضل الله تعالى أنه بعدها بساعات قلائل أعلن عن القبض
على مرتكب الجريمة وأنه من أبناء أمريكا النصارى.
والمنادون بتقليص دور المدارس الإسلامية يدركون طبيعة التربية الإسلامية،
وأن عمودها الفقري يتمثل في توجيه الأجيال وتسليحها بالأهداف النبيلة الصحيحة
المعتمدة على القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة التي تكفل بإذن الله حفظ المسلم
من التأثير الغربي.
وخرج تيار آخر يخوِّف من تنامي التيار الإسلامي في الأوساط السياسة، لكن
هذا الرأي واضح الأهداف والمساعي؛ إذ يحاول الالتفاف على المجتمع المسلم في
الغرب، ويؤلب عليه لقمعه، وهذا ما أكده الدكتور آغا سعيد، أستاذ العلوم السياسة
في إحدى الجامعات الأمريكية عندما وصف هذا الرأي بالسخف؛ لأن التيار
الإسلامي لا يملك تأثيراً يذكر في المجال السياسي.
إن وضع المسلمين السياسي والتعليمي في البلاد الغربية لا يزال في بدايته،
ويفتقر إلى الكثير؛ فلا يوجد لهم تمثيل سياسي في المحافل السياسية بصورة تبين
ثقل هذا المجتمع، والمدارس الإسلامية تفتقر إلى الأساسيات المهمة مثل تأهيل
المعلمين، والاعتماد على مناهج تعليمية مبنية على أسس نفسية واجتماعية تتناسب
والتركيبة السكانية لمسلمي الغرب؛ مما أفقد هذه المدارس الثقة عند كثير من أولياء
الأمور المسلمين؛ إذ بلغت نسبة طلاب المدارس الإسلامية 12% إلى 20% من
مجموع أبناء المسلمين في الغرب ممن هم في سن الدراسة النظامي. وهذا يعني أن
نسبة 80% من أبناء المسلمين على الأقل في المدارس الغربية، ولا يتلقون تعليماً
مبنياً على الأسس الإسلامية إلا من خلال مدارس عطلة نهاية الأسبوع، وغالباً ما
تكون لساعات قليلة وتفتقر إلى كثير من الأسس التربوية.
ويمكن حصر مشاكل المدارس الإسلامية في الغرب في النقاط الآتية:
1 - ضعف تأهيل مدرِّسي المدارس الإسلامية وخصوصاً مدرسي العلوم
الشرعية واللغة العربية.
2 - ضعف المناهج الشرعية والعربية، وانعدامه في بعض المدارس، أو
الاعتماد على مناهج شرعية من دول إسلامية لا تتناسب والأسس النفسية
والاجتماعية؛ لأن هذه المناهج بنيت لتناسب مجتمعات إسلامية وبيئة خاصة.
3 - ضعف الإدارات في المدارس الإسلامية لعدم توافر المدير المؤهل القادر
على تحقيق الأهداف العليا للمدرسة الإسلامية.
4 - انعدام التخطيط وبروز العشوائية في قرارات المدارس.
5 - غياب دور التنسيق بين المدارس الإسلامية في الدولة الواحدة.
6 - قلة الموارد المالية للمدارس الإسلامية واعتماد كثير منها على التبرعات
المباشرة من الآباء أو الدول والمجتمعات الإسلامية الأخرى.
وبهذا يمكن تشخيص الوضع العام للمدارس الإسلامية في الغرب بأنها دون
المستوى المأمول. وتتأكد حقيقة لا شك فيها، أن مستقبل المدارس الإسلامية في
الغرب مليء بتحديات كثيرة تتطلب جهوداً مضاعفة من التربويين والدعاة
والجمعيات الإسلامية لينهضوا بها من عثراتها، وخاصة أن أمامهم طريقاً طويلاً
لتحقيق أهدافهم التي يرمون إليها. ومما يجدر الإشارة إليه أن المنادين بتقزيم
المدارس الإسلامية وتقليل فاعليتها يرمون إلى تقليل الاعتماد على المناهج الشرعية
من البلاد الإسلامية كدول الخليج وباكستان؛ لأن غالبية المسلمين في البلاد الغربية
هم من الهنود والباكستانيين، ويعتمدون على المناهج الشرعية الباكستانية والخليجية،
وهذه المناهج حسب تقرير المخابرات الأمريكية متطرفة وتدعو إلى الإرهاب
بجميع صوره.
أما طبيعة المدارس الإسلامية في الغرب فتبدو كما يلي:
- 73% من المدارس الإسلامية ابتدائية.
- 12 - 800 أعداد الطلاب في المدرسة الواحدة.
- 126 متوسط طلاب المدرسة الواحدة.
- 50% من المدارس فيها 65 طالباً.
- 21% من المساجد فيها مدارس نظامية.
تعداد المسلمين في الغرب:
- أمريكا 9 ملايين. - بريطانيا 3 ملايين.
- فرنسا 3. 5 ملايين. - ألمانيا 1. 9 مليون.
- بلجيكا 850 ألف. - هولندا 200 ألف.
__________
(*) رئيس قسم اللغة الإنجليزية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومستشار مؤسسة مناهج (أمريكا) .(173/54)
ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
هكذا يربي اليهود أبناءهم
نائل نخلة [*]
يقول يوري إيفانوف في كتابه: «الصهيونية حذار!» : إن دائرة الأفكار
التي يسمم بها الصهاينة عقول أطفالهم والتي يرجى منها أن تستقر في أفهامهم تبدأ
عادة بالتوراة. ويؤكد أندريه شوراكي في كتابه: «دولة إسرائيل» أن جميع
اليهود يعمدون إلى الرجوع في كل مناسبة إلى الماضي الذي تضمنته التوراة وروح
الأنبياء، وإلى الدور التاريخي والروحي للشعب اليهودي؛ أي إنهم يرجعون إلى
قلب التراث الضخم الروحي والفكري والأخلاقي والقانوني للتاريخ العبري.
أما فيكتور مالكا فيرى في كتابه «مناحيم بيغن: التوراة والبندقية» أن
اليهود استقوا من توراتهم تعليمات في أعمال العنف واستخدام القوة. فقد جمعت
قوانين الحرب في العهد القديم في سفر التثنية، وهي تحدد لهم أسلوب الاستيلاء
على المدن، وأسلوب التعامل مع أهلها، وهذه القوانين يعدها القادة الإسرائيليون
مصدراً للوحي وشريعة مقدسة لاستئناف البعث اليهودي في فلسطين، على أساس
أن كل جريمة تصبح شرعية وقانونية من أجل تحقيق وعد الرب.
ولعلنا نستشف من هذا الكلام المصدر الذي ينهل منه الصهاينة أفكارهم
وأسلوب حياتهم وهو التوراة؛ ولكن الوسيلة التي تتم من خلالها عملية نقل هذه
الأفكار والتي تنتج الاحتلال والتمييز والتفرقة والعنصرية والتعصب هي مناهج
التعليم في المدارس والجامعات الإسرائيلية؛ وهو ما أجملته الدكتورة الإسرائيلية
تسيبورا شاروني في مقدمة حديثها عن التوجه القومي في برامج التدريس في
المدرسة العبرية ضمن يوم دراسي في الكلية الأتوثوذكسية بمدينة حيفا في عام
1988م بالجمل الآتية: «إن جميع الجنود ممن يؤدون الخدمة العسكرية في
المناطق المحتلة ... أولئك الشباب الذين يسكنون أور يهودا ... حيث عمليات
إحراق العمال العرب ... إن ذلك كله نتاج مدرستنا ... نتاج البرامج التعليمية ...
نتاج التربية الرسمية وغير الرسمية ... ولكن للتربية الرسمية نصيب الأسد في ذلك.
إذ لم ترد كلمة واحدة في البرنامج التعليمي لليهود حول التطلع للسلام بين إسرائيل
وجاراتها ... فمثلاً من منا يذكر كتاباً واحداً في الجغرافيا فيه اسم جبل باللغة العربية؟
لا وجود لهذا على الإطلاق؛ فالطلاب يتعلمون ذلك، وكأنه خلق هكذا ...
الأسماء العربية لا وجود لها على الإطلاق ... أنا لا أتكلم عن قرى عربية تم
محوها.. لا يذكرونها قطعاً ... هل هذه تربية؟ ... وماذا يعني كل هذا؟ ... لا
يوجد في الصفوف إطلاقاً خارطات تشمل الخط الأخضر ... أرض إسرائيل الكاملة
في جميع الخارطات بما فيها القدس والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة بوصفها
جزءاً من دولة إسرائيل» .
الصهيونية والدين اليهودي علاقة وثيقة:
ليس تأثير الدين اليهودي والمتدينين طارئاً على دولة إسرائيل؛ فمنذ انطلاقة
الحركة الصهيونية وهذا التأثير ملازم لها؛ إذ يشير ناجي علوش في كتابه:
«الأساطير والوقائع الصهيونية والأمة العربية» أن اليهود في أوروبا الغربية
عندما نشأت الحركة الصهيونية كانوا يمرون بنوع من الانعتاق؛ ولكن الانعتاق
أخافهم؛ لأنه يقود إلى الاندماج.
ولكن يهود أوروبا الشرقية كانوا متدينين وأكثر تمسكاً بالتوراة وطقوسها. ولم
يجد رواد الصهيونية السياسية إشكالاً في ذلك، ووجدوا الحل بدمج الصهيونية
السياسية، بالصهيونية الدينية.
وهذا ما قاد الصهيونية السياسية إلى تبني الأفكار والرموز الدينية المألوفة لدى
الجماهير وتحويلها إلى رموز وأفكار قومية في صياغة شبه دينية للبرنامج
الصهيوني ليكون محل قبول من كافة التنوعات الاجتماعية والعرقية والحضارية
والثقافية ليهود أوروبا. وطبيعي أن يقود هذا إلى علاقة وثيقة بين الصهيونية
والدين اليهودي.
ويضيف العلوش أنه على الرغم من أن الصهيونية بدأت من رجال يبدون
علمانيين إلا أن رواد الحركة الصهيونية اندفعوا إلى الدعوة للتمسك بالدين وإحياء
علومه ولغته ومحاربة الزواج المختلط.
التربية العبرية تحفظ اليهودية!
يقول الباحث الفلسطيني فارس عودة: لعل الدارس لطبيعة المجتمع
الإسرائيلي يلاحظ تلك الملاءمة والتوافق القوي بين أهداف التربية اليهودية من جهة
وأهداف الحركة الصهيونية وحاجات المجتمع الإسرائيلي من جهة أخرى، فلقد
كانت التربية اليهودية بخلفيتها الدينية والتوراتية التلمودية العنصرية، وبفلسفتها
المستمدة من تعاليم الصهيونية العدوانية، هي الوسيلة الأولى والأهم التي استخدمت
لتحقيق أهداف الصهاينة في إنشاء دولة إسرائيل وبقائها.
لقد جعلت الصهيونية التربية أحد الأسس والركائز التي تعتمد عليها لبناء جيل
يهودي ووطن صهيوني.
وهو ما أشار إليه مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل في يومياته حين
خصص التربية باعتبارها أسلوباً لتحقيق هدفه، فأشار إلى بعض المواد التي يركز
عليها في مقدمة منهاجه واعتبرها ضرورية لذلك وهي الأناشيد الوطنية والدين
والمسرحيات البطولية.
أما القيادي اليهودي إلياهو كوهين فرأى في المؤتمر الصهيوني الثالث
والعشرين (1951م) أن مصير إسرائيل يرتبط بإيجاد جهاز حقيقي لتنفيذ التعليم
والتربية حسب المبادئ الصهيونية.
بينما أكد دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل في المؤتمر
الصهيوني الرابع والعشرين والمنعقد عام 1956م أنه لن يكون للحركة الصهيونية
مستقبل بدون تربية وثقافة عبرية لكل يهودي بوصفه واجباً ذاتياً.
واعتبر أن معرفة التوراة كفيلة بتزويد الفرد اليهودي بجذوره وأصله وعظمته
ومستقبله، ويضمن ارتباطه بشعبه في مملكة إسرائيل. ثم يسأل بن غوريون: ما
الذي سيحفظ اليهودية؟ ! ويجيب: «إنها التربية العبرية» .
ويحدد وزير المعارف والثقافة الإسرائيلي السابق زبولون هامر أهمية التربية
في المجتمع الإسرائيلي بقوله: «إن صمودنا أمام التحدي الكبير الذي يواجهنا
يتمثل في مقدرتنا على تربية قومية مرتبطة بالتعاليم الروحية اليهودية، تربية
يتقبلها الطفل راغباً وليس مكرهاً؛ ولهذا فإن على جهاز التعليم الرسمي والشعبي أن
يتحمل التبعية الكبيرة للصمود أمام التحديات التي تواجه إسرائيل.
الهجرة والاستيطان ... التوسع والاحتلال ... التميز والتعصب:
ويميز الدكتور وائل القاضي أستاذ التربية في جامعة النجاح الوطنية والذي
أجرى بحثاً حول التربية في إسرائيل بين الأهداف المعلنة للتربية في إسرائيل
وغير المعلنة؛ حيث يشير إلى أن الأهداف المعلنة للتعليم الحكومي في إسرائيل
والتي حددتها المادة الثانية من قانون التربية والتعليم الإسرائيلي لعام 1953م هي
إرساء الأسس في التعليم الابتدائي على قيم الثقافة اليهودية ومنجزات العلم، وحب
الوطن، والإخلاص والولاء للدولة والإعداد الطلائعي، والسعي لتشييد مجتمع قائم
على الحرية والمساواة والتساهل والتعاون المتبادل، وحب الغير من الجنس البشري.
وقد أعرب اليهود عن قلقهم من أنهم لم يشددوا على القيم القومية بما فيه
الكفاية، فشرعوا بإدخال موضوع الوعي اليهودي الذي صادقت عليه الكنيست في
عام 1977م وجاء فيه:» في التعليم الابتدائي والثانوي والعالي ستهتم الدولة
بتعميق الوعي اليهودي بين صفوف الشبيبة الإسرائيلية وتجذيره في تاريخ الشعب
اليهودي وتراثه التاريخي وتقوية انتمائه الخلقي لليهودية من خلال إدراك المصير
الواحد والمشترك والواقع التاريخي الذي يوحد يهود العالم عبر مختلف الأجيال
والأقطار «.
وهكذا نجد أن الدراسة الدينية تحتل مكاناً بارزاً في مناهج التعليم عموماً.
وكثير من الموضوعات التي تعالج تحت أسماء مختلفة ك» الوطن والتاريخ
والجغرافية واللغة العبرية «تدرس من الزاوية الدينية، وتؤكد هذه المناهج على
تنمية الوعي والحسّ اليهودي لدى الأطفال بقصد زيادة التركيز على صلة الطالب
اليهودي بتراثه القديم من خلال دراسته الدينية. ويتم التركيز في هذه المناهج على
زرع الأفكار الدينية في عقول الناشئة لتسويغ وجود رابطة دينية بينهم وبين أرض
فلسطين؛ ممّا يعطيهم الحق في بناء دولة لهم فيها، ويروِّجون أن إقامة دولة يهودية
في فلسطين هو تحقيق لما جاء في التوراة؛ فالرب قد اختار الشعب اليهودي واختار
الأرض. وما دام هذا الاختيار إلهياً فإنه يعطي امتيازاً للأرض وللشعب الموعود
بها أيضاً. وبذلك تكون (أرض إسرائيل) مخصصة لبني إسرائيل وحدهم دون
غيرهم.
كما يتم التركيز أيضاً على أن الحياة اليهودية في فلسطين لم تنقطع منذ أيام
الرومان إلى العصور الحديثة، وأن دولة الكيان هذه أنشئت في بلاد قطنها المحتلون
والغزاة العرب طوال 1300 سنة، وأن عودة المهجرين اليهود من كافة أنحاء العالم
وتوطينهم في فلسطين تحت ستار العودة إلى أرض الوطن التاريخي ليس باعتبارهم
غرباء عن هذه الأرض بل باعتبارهم سكانها الأصليين الذين ظلوا بعيدين عنها
طوال العهود السابقة.
ووفقاً لما أورده الدكتور القاضي فإن الأهداف الرسمية للتربية والتعليم في
إسرائيل تتمثل بما يلي:
أولاً: تكوين مجتمع عضوي موحد.
ثأنباً: بناء دولة عصرية تملك أسباب القوة المادية والروحية.
ثالثاً: الحفاظ على التراث اليهودي ونشره وتعميقه.
رابعاً: دعم مركزية إسرائيل بين يهود العالم والالتزام نحوها باعتبارها دولة
اليهود.
وقد حددت السلطات التعليمية في إسرائيل هذه الأهداف لإرساء الأسس
التربوية الآتية:
1 - تعميق الوعي اليهودي الصهيوني.
2 - التربية على قيم القومية اليهودية الصهيونية.
3 - الاهتمام بدور اللغة العبرية من أجل الحفاظ على التراث اليهودي وبعثه
وتعميقه بين الشباب الإسرائيلي؛ ولهذا فقد أصبح دورها يفوق كافة أدوار التدريس؛
إذ تحتل مكاناً بارزاً في مناهج المدارس الإسرائيلية.
4 - ترسيخ جذور الشباب الإسرائيلي في ماضي الشعب اليهودي، وتراثهم
التاريخي؛ وذلك لخلق أجيال إسرائيلية تؤمن بالمعتقدات الصهيونية التي اعتنقها
جيل المؤسسين (الرواد) ، للتأكيد على (الريادة) وتصوير الرواد الأوائل
مؤسسي الدولة نماذج للاقتداء بهم.
5 - التعلق بالأرض: ويرتبط هذا الهدف مع ضرورة تكوين مجتمع موحد
فيه الشتات اليهودي ويلتصق به.
6 - فلسفة» دين العمل «ويرتبط مع الهدف السابق بوصفه أحد أركان
الثقافة اليهودية والهدف من التعلق بالأرض. وفلسفة دين العمل بها هو تحقيق
الاستيطان اليهودي في النهاية على أرض إسرائيل.
أما الأهداف غير المعلنة للتربية الصهيونية فيحددها الدكتور وائل القاضي
بالآتي:
* الإيمان المطلق بحق شعب إسرائيل في» أرض إسرائيل «وملكيتهم لها
والاستيطان فيها من خلال التكرار والتأكيد بالحديث عن الحق التاريخي في
» أرض إسرائيل التاريخية «.
* تحقيق التضامن اليهودي داخل إسرائيل وخارجها لضمان استمرار الهجرة
اليهودية والدعم المادي لإسرائيل خاصة من يهود المهجر.
* تكوين الاستعداد لدى الأجيال الإسرائيلية اليهودية للتوسع والاحتلال
والعنف، وكراهية العرب؛ وذلك بحجة إنقاذ الأرض.
* تأكيد الشعور بالقلق والتوتر لتحقيق استمرارية الإحساس بالاضطهاد عند
الأجيال اليهودية المتعاقبة، لضمان عدم اندماج وانصهار هذه الأجيال في أي
مجتمع آخر غير» إسرائيل «.
* إظهار التفوق العبري الحضاري عبر العصور لتكوين الإحساس بالتمايز
والتفوق، والشعور بالاستعلاء عند الأجيال الإسرائيلية الجديدة، وعودة الشعب
المختار إلى» الأرض الموعودة «.
* تشويه وتقزيم الصورة العربية في نظر الطالب الإسرائيلي مقابل التأكيد
على صورة» السوبرمان «الإسرائيلي الذي لا يقهر.
* تربية وتنشئة أجيال صهيونية متعصبة جداً لصهيونيتها ودولتها بكل
ممارساتها مؤمنة بذلك إيماناً مطلقاً.
على كل تلميذ حفظُ مقاطع من التلمود وتشرُّب روحها. ويؤكد رئيس مركز
الدراسات المعاصرة في مدينة أم الفحم الدكتور إبراهيم أبو جابر على أن الديانة
اليهودية تعتبر مصدراً هاماً من مصادر الفلسفة التربوية عند اليهود؛ فلقد اعتمدت
التربية اعتماداً كبيراً على الدين في سبيل تشكيل أجيال متشبعة بتعاليم التوراة
والتلمود، من أجل ترسيخ مفاهيم معينة في نفوس الناشئة اليهودية.
وتهدف التربية الدينية إلى تربية الطفل جسدياً واجتماعياً وانفعالياً وعقلياً عن
طريق قصص من التوراة وأسفارها.
وفي هذا يقول حاييم وايزمن أول رئيس لدولة إسرائيل:» عندما بلغت ما لا
غنى عنه لأي طفل يهودي، وخلال السنوات التي قضيتها في مدارس الدين تلك،
كان عليَّ أن أدرس أشياء من أصول الديانة اليهودية، والذي ملك عليَّ لبي هو سِفْر
الأنبياء «وما يمكن ملاحظته وفقاً لأبي جابر هو الاهتمام الكبير بتدريس المواد
الدينية في جميع مراحل التعليم لأبناء اليهود أينما وجدوا؛ حيث تأتي مادتا التوراة
والتلمود في مقدمة الدراسات، وتعتبر المادتان أساساً وإطاراً للغايات التربوية؛
حيث يقول مائير بار إيلان أحد مفكري التربية اليهودية:» إن روح التلمود
ومعرفة عامة شرائعه وآدابه يجب أن يكون جزءاً من دراسة كل يهودي متعلم،
حتى وإن لم يكن سيجعل من حقل الدراسة هذا مجالاً للعمل، والأمر شبيه بتعليم
الفيزياء والرياضيات؛ فمع أنه ليس كل تلميذ يتخصص فيهما، ولا يستخدم جميع
ما يتعلمه فيهما في حياته العملية، إلا أنهما ضروريتان له؛ كذلك بالنسبة للتلمود
يجب أن يحفظ كل تلميذ مقاطع معينة منه وأن يتشرب روحها.
ونورد هنا بعض التعاليم والأحكام التي يحتويها التلمود؛ حيث صيغت بمهارة
فائقة:
«اليهودي لا يخطئ إذا اعتدى على عرض الأجنبية، فإن عقود الزواج عند
الأجانب فاسدة؛ لأن المرأة غير اليهودية بهيمة ولا تعاقد مع البهائم. يجوز
لليهودي أن يُقسِم زوراً ولا جناح عليه إذا حوَّل اليمين وجهة أخرى.
إن أخطأ أجنبي في عملية حسابية مع يهودي فعلى اليهودي أن يقول له: (لا
أعرف) لا أمانةً، ولكن حذراً؛ إذ من الجائز أن يكون الأجنبي قد فعل ذلك عمداً
لامتحان اليهودي وتجربته. من يقتل مسلماً أو مسيحياً أو أجنبياً أو وثنياً، يكافأ
بالخلود في الفردوس وبالجلوس هناك في السراي الرابعة» .
يقرر التلمود أن اليهودي يعتبر عند الله أفضل من الملائكة؛ لأن اليهود جزء
من الله مثلما الابن جزء من أبيه.
ولا نستطيع قراءة كل ما جاء في كتب التدريس، ونكتفي بذكر الآتي وهو
وجود كتاب لتعليم القراءة تحت عنوان: «مكريؤت إسرائيل» للصفوف الدنيا من
الصف الثالث وحتى الثامن.
وقد قام الدكتور دانئيل بارتنا محاضر علم النفس في قسم التربية بجامعة تل
أبيب بدراسة تطرَّق فيها إلى هذا الكتاب قائلاً بأنه بواسطة الكتب التعليمية تمت
عملية غسيل دماغ للطلاب ليكرهوا العرب مما ينطوي على أبعاد مزعجة؛ إذ
تصور العرب بملامح سلبية: إنهم وحوش وغير إنسانيين؛ فلا يمكننا تجاهل
النتائج التي يستنتجها طفل لدى قراءته الخلاصة والأحكام التي يخرج بها عن
العرب كلهم.
وفي كتاب آخر لتعليم اللغة أصدرته دار النشر «هكيبوتس همؤحد» في
السبعينيات وما زال يدرس حتى يومنا. جاء في ص 277: «جلب اليهود روح
التقدم والازدهار إلى الشرق الأوسط؛ بينما زاول العرب أعمال النهب والسطو
والقتل» .
وقد استطاعوا بث هذه القيم في نفوس طلابهم وتحقيق هذه الأهداف عن
طريق مناهج التعلم الموجهة بدقة، فإذا اطلعنا على حجم دراسة مواد الدين اليهودي
واللغة العبرية في مناهج الصفوف الابتدائية الدنيا (2 - 4) كمثال على ذلك نجد
أن نسبة عدد ساعات دراسة هذه المواد تبلغ 35% في التعليم المدني بينما تبلغ 51
% في التعليم الديني في الصفوف الابتدائية المشار إليها.
وكما أنهم ركزوا جهودهم لتحقيق هذه الأهداف عن طريق (الكم) فإنهم
اعتنوا أيضاً بنوع المادة المطروحة في المناهج، فمنذ نعومة أظفار الطفل اليهودي
تركز التربية التي يتلقاها على أهداف محددة واضحة، ويذكر مؤلفا كتاب (فلسفة
وأهداف تربية الطفل اليهودي في فلسطين) أن أهداف التربية في مرحلة رياض
الأطفال تندرج تحت منظومة عامة من الأهداف تتلخص في «الهدف الرئيس وهو
تكوين مجتمع موحد ويرتبط أفراده بثقافة ومشاعر مشتركة، ويتخاطبون باللغة
العبرية، ويذكر المؤلف أن إسرائيل عنيت بتعليم الأطفال اللغة العبرية والديانة
اليهودية باعتبارهما الأساس لقيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين. وثمة أهداف
أخرى للعملية التربوية منها: بناء دولة عصرية تملك أسباب القوة المادية والروحية،
والمحافظة على التراث اليهودي ونشره وتعميقه بين الناشئة اليهود. ولذلك أقامت
إسرائيل الجامعة العبرية في القدس، وسعت إلى اتباع أحدث الاتجاهات الغربية في
التعليم. وبالنسبة للمصادر التي تستمد إسرائيل منها هذه الأهداف فإنها تشمل:
الديانة اليهودية، الحضارة الغربية كحضارة عقلانية علمية، الحركة
الصهيونية كخلاصة للتفاعل بين المصدرين الأول» الدين اليهودي «، والمصدر
الثاني» الحضارة الغربية «، والناتجة عن قيم معينة تتلخص بالريادة والعمل.
وعن الغايات المنشودة من وراء رياض الأطفال فإنها وفقاً للمؤلف تدور حول تهيئة
الأطفال للتعامل الرشيد مع عالمهم المادي والاجتماعي، وتثقيفهم بالثقافة العبرية،
وإعدادهم لتحمل المسؤولية في المستقبل» [1] .
وفي الحقيقة فإن الأهداف التي تبلورت عبر التطور التاريخي للمؤسسة
التعليمية (الإسرائيلية) «قد عبرت عنها المناهج بشكل واضح، وبخاصة كتب
الديانات والتراث والتاريخ واللغة والأدب، حيث تتمحور حول المنطلقات التالية:
- هناك شعب يهودي كان في الماضي البعيد يعيش في وطنه» أرض
إسرائيل «موحداً، ثم تشتت بفعل الاحتلال الأجنبي لهذا الوطن.
- خلال سنوات» الدياسبورا/ الشتات «كان الشعب اليهودي يحلم بالعودة
إلى وطنه، وعكست تعبيراته الدينية وموروثاته الثقافية الاجتماعية هذا الحلم.
- مع بدء التفكير في العودة إلى الوطن، كان» الجوييم «الأغيار لا يزالون
يقيمون في هذه البلاد، يسيطرون عليها أو يحتلونها.
- ونظراً إلى أن الوطن» القديم الجديد «مأهول بالأغيار، فثمة ضرورة
للقيام بعدة اقتحامات في وقت واحد، أبرزها: اقتحام الأرض اقتحام العمل والإنتاج
اقتحام الحراسة ... إلخ.
- إن الروابط الدينية والتاريخية بين اليهود و» أرض إسرائيل «هي روابط
أزلية/ أبدية؛ الأمر الذي يجعل العرب في البلاد وكأنهم غير موجودين.
ويظهر من خلال الدراسة التي قام بها البروفسور أدير كوهين رئيس قسم
التربية بجامعة حيفا والتي تضمنت تحليلاً علمياً لأهم ما ورد في (42) من كتب
الأطفال العديد من تلك المعالم والمنطلقات؛ إذ يكثر في هذه الكتب الحديث عن
مملكة داود وسليمان، وعن حروب الرومان واليهود، وعن الغزو الأجنبي للبلاد،
وفي كل هذه الأمور وسواها تتناول الكتب أحداثاً مثيرة تركز على ما يسمى
(بطولات يهودية) ودفاعهم المستميت عن الوطن» [2] .
(نحن) فقط، وسوانا صفر:
وقد شهد غريبون بل يهود أيضاً بالنتائج البغيضة لهذه السياسة التعليمية التي
أثمرت العنصرية والإرهاب في أوساط اليهود، ففي عام 1946م زارت فلسطين
لجنة تحقيق إنجليزية أمريكية حول أساليب التربية الصهيونية، وخلُصت من
التحريات التي أجرتها بأن المدارس اليهودية، وهي تحت إشراف الطائفة اليهودية
وتدار بأموالها، قد أصبحت مشبعة بروح قومية ملتهبة، وغدت وسائل فعالة بالغة
الأثر لبث روح القومية العبرية العدوانية.
وفي عام 1959م وجَّه المجلس الأمريكي لليهودية في مؤتمره السنوي الخامس
عشر المؤسسات التعليمية اليهودية لتجرد مناهجها من الطابع الصهيوني والقومية
اليهودية المتطرفة التي تنادي بها الصهيونية.
وخلال مناقشات الكنيست في عام 1975م وصف النائب مائير فلنر التربية
الصهيونية في إسرائيل بقوله: «إن التربية الصهيونية في إسرائيل تسعى إلى
ترسيخ مشاعر التعالي القومي والعنصرية، ومعاداة العرب، والروح العسكرية
وإنكار حقوق الآخرين ... إن كل سياسة الحكومة الإسرائيلية غير إنسانية بما في
ذلك سياستها تجاه تربية أولادنا» .
ولعل المحامية الإسرائيلية فيليتسيا لانغر عبرت بصدق عن خلاصة واقع
التربية الصهيونية وهي تخاطب الشباب اليهودي الذي يهدم بيوت العرب في
الأراضي المحتلة إذ قالت: «لقد علموك منذ كنت صغيراً فن الحرب، وزرعوا
فيك مشاعر التعصب القومي، والحقد على العرب، وأرادوا لك أن تحقد بكل ما
أوتيت من قوة على العرب الذين أعدوك لمحاربتهم، لكي لا ترتجف يداك عندما
تضغط على الزناد، وعندما دخلت المدرسة الابتدائية كان هناك من قرر بعد اثنتي
عشرة سنة أنك ستكون جندياً؛ لذلك ستتركز تربيتك منذ الآن على تعلم الحرب،
وبدأ ذلك بتنمية مشاعر التفوق القومي فيك مع رصيد لك في ماضيك من إهانة لقيم
الشعب الآخر.
» نحن فقط ... وسوانا صفر «هذا ما استنتجته بحق من مادة التدريس» ،
وهذا الشيء في مجال السياسة معناه: «لنا كل البلاد ومن سوانا لا وجود لهم. ما
أتفه العرب: هكذا بدوا في عينيك بالقياس إلى كل هذا المجد. وعندما بلغت سن
الرشد علموك عن الطبيعة السيئة للعربي الذي لا يفهم إلا لغة القوة والقسوة،
والمستعد دائماً أن يقضي عليك بلا رحمة، فرددت وراءهم عبارة حكمائنا:» الذي
ينوي قتلك سارع إلى قتله «؛ لأنه لا يوجد لك خيار طبعاً؛ لهذا فإن السلام سيأتي
فقط بعد أن ننتصر على العرب في الحرب؛ لأنهم لا يفهمون إلا لغة القوة» .
إقبال شعبي:
لم يكن الاهتمام بالقيم التوراتية والتلمودية في التعليم الصهيوني اتجاهاً رسمياً
وحسب، بل إنه أيضاً يعبر عن رغبة شعبية متنامية في الاتجاه إلى إلحاق الناشئة
بالتعليم الديني التوراتي إيماناً منهم بالنص التوراتي الذي يقول: «من كان له ولد
فليعلمه التوراة» . وهذا الاتجاه المتنامي حقيقةٌ تشير إليه الإحصائيات والأرقام
الرسمية خاصة في الفترة الزمنية الأخيرة، حيث تشير معطيات نشرتها وزارة
التعليم الإسرائيلية بمناسبة بدء اليهود العام الدراسي الماضي أن عدد التلاميذ اليهود
الملتحقين بمؤسسات ومدارس التعليم الديني في إسرائيل ازداد بأكثر من 130%
خلال العقد الماضي.
وبحسب المعطيات الرسمية التي نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» فقد
ارتفع عدد التلاميذ في أطر التعليم الديني من 48 ألف عام 1990م إلى 111 ألفاً
عام 2000م.
ويتضح أيضاً أن عدد الطلاب في مدارس تعليم الشريعة اليهودية (التوراة)
ازداد في نفس الفترة بحوالي 88%؛ حيث ارتفع عدد الطلاب الدارسين فيها من
17 ألف طالب قبل عشر سنوات إلى 32 ألفاً في السنة الحالية.
وأشار مسؤولون في وزارة التعليم الإسرائيلية إلى أن اتجاهات الزيادة القائمة
في عدد الطلاب في أطر ومؤسسات التعليم الديني ستستمر في السنة الدراسية
المقبلة، ويعزو المسؤولون أسباب ازدياد الإقبال على هذه المؤسسات والمدارس إلى
حملات الدعاية، وتخفيضات الرسوم التي تقوم بها شبكات التعليم الخاصة التابعة
لأحزاب المتدينين المتزمتين، ولا سيما الشبكة التي يديرها حزب «شاس» الديني
الشرقي.
ووفقاً للمعطيات الرسمية ذاتها فقد سجل في مقابل هذا الارتفاع الكبير في عدد
طلاب مؤسسات التعليم الدينية انخفاض في نسبة طلاب وتلاميذ جهاز التعليم
الحكومي في إسرائيل من 73% عام 1990م إلى 67% في العام قبل الماضي.
هكذا يربى اليهود أبناءهم، وهكذا يقبل اليهود على تعلم دينهم، فما موقفنا
نحن من التعليم الديني في بلادنا؟
حقائق عن إسرائيل:
يتكون المجتمع اليهودي في إسرائيل الآن من يهود متدينيين وغير متدينين.
وبين مختلف الفئات هناك الأرثوذكس المتطرفون، وهم يغالون في التدين ويناوئون
الصهيونية، وهناك من يعتبرون أنفسهم علمانيين. ومهما يكن من أمر فليس هناك
خطوط واضحة بين هذه الفئات.
وبصورة عامة يمكن القول إن20% من السكان اليهود ملتزمون بالفرائض
والشعائر الدينية، وعلى هذا الأساس هم أرثوذكس. وهناك حوالي60% يلتزمون
بقسم من الفرائض والشعائر، حسب ميولهم وتقاليدهم السابقة في حين يعتبر 20%
غير متدينين إطلاقاً.
وهناك مقاييس أخرى يمكن استخدامها لتحديد مدى التزام جمهور معين
بأسلوب حياة متدين، منها التحاق الأطفال بالتيار التعليمي المتدين (30%) ، أو
تصويت الناخبين لصالح الأحزاب المتدينة (10 15%) .
المتدينون ينقسمون من حيث الالتزام الديني والعلاقة
مع الدولة لشرائح
وأنواع:
1 - المتدينون المتزمتون (الأرثوذكس أو الحريديم) : وهم الذين يحملون
أفكاراً معارضة لمبدأ تأسيس الدولة، ويشكلون غالبية التيار المتدين، ويسكنون
أماكن خاصة بهم، ولهم أنماط حياة أيضاً خاصة، منهم من يتعاملون مع الدولة
ومؤسساتها ويشارك هذا التيار في الانتخابات انطلاقاً من مبدأ المصلحة أمثال
(شاس، ديغل هتوراة، حباد) .
وقسم آخر يرفض ذلك جملة وتفصيلاً، بل يتهم دعاة الصهيونية بالزندقة
والكفر، ولا يحمل بعضهم الهوية الإسرائيلية، أمثال جماعة ناطوري كارتا.
2 - المتدينون الوطنيون: وهم جزء من المتدينين اقتنعوا بطروحات الحركة
الصهيونية ومبادئها، فخلطوا التدين والوطنية، فهم يشاركون منذ قيام الدولة في
الحكم، ويخدم أبناؤهم في الجيش جنباً إلى جنب مع الآخرين غير المتدينين،
وهؤلاء ينتمون لحركة (المفدال) .
3 - المتدينون الإصلاحيون: وهؤلاء وجودهم قليل في إسرائيل لكون مقرهم
الولايات المتحدة الأمريكية. وهم أشبه بالتيار التحريري لدى النصارى
(البروتستانت) ، وعلى صراع مرير مع المتدينين المتزمتين بحكم تحررهم في
المسائل التعبدية، وتجاوزهم لكثير من المعتقدات لدى اليهود الأرثوذكس.
أهداف تعليم الدين كما ينعكس في المنهج التعليمي لليهود وللعرب
... ... ... ... الأهداف لليهود ... ... الأهداف للعرب
التربية للهوية * أن يتعرف الطالب على ما كتب ... * تنمية شعور الانتماء
والانتماء القومي في التوراة عن الشعب، وعلى آبائه ... القومي عند المتعلم
وأجداده وعلى رجاله وتاريخه وعلى ... دينيا وتاريخًا
... ... صراعه المستمر من أجل الاستيطان ... وحضاريًا. ...
... ... في أرض إسرائيل والتمسك بها.
... ... · أن يتعرف الطالب على قيم مثل: الشعب
... ... المختار الأجنبي.
... ... · أن يتعرف على مكانة أرض إسرائيل في
... ... الكتاب المقدس، وعلى العلاقة بين الشعب
... ... وأرضه ومناظر البلاد وأثرها.
التربية للتعايش ... لا يوجد ... ... ... * أن يعرف الطالب أن الإسلام
... ... ... ... ... ... ... يدعو إلى التعايش بين البشر
... ... ... ... ... ... ... على اختلاف ...
... ... ... ... ... ... ... أجناسهم وألوانهم ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... وعقائدهم الدينية.
... ... ... ... ... ... ... * أن يتعرف المتعلم على
... ... ... ... ... ... ... الديانات الأخرى واحترامها.
... ... ... ... ... ... ... * تنشئة المتعلم اجتماعيًا ...
... ... ... ... ... ... ... ليتفاعل ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... مع المجتمع بفئاته المختلفة
... ... ... ... ... ... ... حيث تكون ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... علاقاته مع أفراد مجتمعه ... ...
... ... ... ... ... ... ... علاقة أخذ وعطاء وتأثير ... ...
... ... ... ... ... ... ... متبادل. ... ... ... ... ... ... ... ... ...
__________
**هامش:
(*) مراسل مجلة البيان في فلسطين.
(1) نقلاً عن عرض مجدي محمد عيسى للكتاب في مجلة المعرفة السعودية , ع / 19 , ص 92.
(2) مجلة المعرفة , ع / 20 ص 71.(173/58)
نص شعري
رسالة.. من حراس المسجد الأقصى
د. عبد الغني بن أحمد التميمي [*]
أعيرونا مدافعَكُمْ ليومٍ ... لا مدامعَكُم
أعيرونا وظلُّوا في مواقعكُمْ
بني الإسلام! ما زالت مواجعَنا مواجعُكُمْ
مصارعَنا مصارعُكُمْ
إذا ما أغرق الطوفان شارعنا
سيغرق منه شارعُكُمْ
يشق صراخنا الآفاق من وجعٍ
فأين تُرى مسامعُكُمْ؟ !
* * *
ألسنا إخوةً في الدين قد كنا.. وما زلنا
فهل هُنتم، وهل هُنّا
أنصرخ نحن من ألمٍ ويصرخ بعضكم: دعنا؟
أيُعجبكم إذا ضعنا؟
أيُسعدكم إذا جُعنا؟
وما معنى بأن «قلوبكم معنا» ؟
لنا نسبٌ بكم والله فوق حدودِ
هذي الأرض يرفعنا
وإنّ لنا بكم رحماً
أنقطعها وتقطعنا؟ !
معاذ الله! إن خلائق الإسلام
تمنعكم وتمنعنا
ألسنا يا بني الإسلام إخوتكم؟ !
أليس مظلة التوحيد تجمعنا؟ !
أعيرونا مدافعَكُمْ
رأينا الدمع لا يشفي لنا صدرا
ولا يُبري لنا جُرحا
أعيرونا رصاصاً يخرق الأجسام
لا نحتاج لا رزّاً ولا قمحا
تعيش خيامنا الأيام
لا تقتات إلا الخبز والملحا
فليس الجوع يرهبنا ألا مرحى له مرحى
بكفٍّ من عتيق التمر ندفعه
ونكبح شره كبحاً
أعيرونا وكفوا عن بغيض النصح بالتسليم
نمقت ذلك النصحا
أعيرونا ولو شبراً نمر عليه للأقصى
أتنتظرون أن يُمحى وجود المسجد الأقصى
وأن نُمحى
أعيرونا وخلوا الشجب واستحيوا
سئمنا الشجب و (الردحا)
* * *
أخي في الله أخبرني متى تغضبْ؟
إذا انتهكت محارمنا
إذا نُسفت معالمنا ولم تغضبْ
إذا قُتلت شهامتنا إذا ديست كرامتنا
إذا قامت قيامتنا ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟
إذا نُهبت مواردنا إذا نكبت معاهدنا
إذا هُدمت مساجدنا وظل المسجد الأقصى
وظلت قدسنا تُغصبْ
ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟
عدوي أو عدوك يهتك الأعراض
يعبث في دمي لعباً
وأنت تراقب الملعبْ
إذا لله، للحرمات، للإسلام لم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟ !
رأيت هناك أهوالاً
رأيت الدم شلالاً
عجائز شيَّعت للموت أطفالاً
رأيت القهر ألواناً وأشكالاً
ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟
وتجلس كالدمى الخرساء بطنك يملأ المكتبْ
تبيت تقدس الأرقام كالأصنام فوق ملفّها تنكبْ
رأيت الموت فوق رؤوسنا ينصب
ولم تغضبْ
فصارحني بلا خجلٍ لأية أمة تُنسبْ؟ !
إذا لم يُحْيِ فيك الثأرَ ما نلقى
فلا تتعبْ
فلست لنا ولا منا ولست لعالم الإنسان منسوبا
فعش أرنبْ ومُت أرنبْ
ألم يحزنك ما تلقاه أمتنا من الذلِّ
ألم يخجلك ما تجنيه من مستنقع الحلِّ
وما تلقاه في دوامة الإرهاب والقتل
ألم يغضبك هذا الواقع المعجون بالهول
وتغضب عند نقص الملح في الأكلِ! !
* * *
ألم تنظر إلى الأحجار في كفيَّ تنتفضُ
ألم تنظر إلى الأركان في الأقصى
بفأسِ القهر تُنتقضُ
ألست تتابع الأخبار؟ حيٌّ أنت!
أم يشتد في أعماقك المرضُ
أتخشى أن يقال يشجع الإرهاب
أو يشكو ويعترضُ
ومن تخشى؟ !
هو الله الذي يُخشى
هو الله الذي يُحيي
هو الله الذي يحمي
وما ترمي إذا ترمي
هو الله الذي يرمي
وأهل الأرض كل الأرض لا والله
ما ضروا ولا نفعوا، ولا رفعوا ولا خفضوا
فما لاقيته في الله لا تحفِل
إذا سخطوا له ورضوا
ألم تنظر إلى الأطفال في الأقصى
عمالقةً قد انتفضوا
تقول: أرى على مضضٍ
وماذا ينفع المضضُ؟ !
أتنهض طفلة العامين غاضبة
وصُنَّاع القرار اليوم لا غضبوا ولا نهضوا؟ !
* * *
ألم يهززك منظر طفلة ملأت
مواضع جسمها الحفرُ
ولا أبكاك ذاك الطفل في هلعٍ
بظهر أبيه يستترُ
فما رحموا استغاثته
ولا اكترثوا ولا شعروا
فخرّ لوجهه ميْتاً
وخرّ أبوه يُحتضرُ
متى يُستل هذا الجبن من جنبَيْك والخورُ؟
متى التوحيد في جنبَيْك ينتصرُ؟
متى بركانك الغضبيُّ للإسلام ينفجرُ
فلا يُبقي ولا يذرُ؟
أتبقى دائماً من أجل لقمة عيشكَ
المغموسِ بالإذلال تعتذرُ؟
متى من هذه الأحداث تعتبرُ؟
وقالوا: الحرب كارثةٌ
تريد الحرب إعدادا
وأسلحةً وقواداً وأجنادا
وتأييد القوى العظمى
فتلك الحرب، أنتم تحسبون الحرب
أحجاراً وأولادا؟
نقول لهم: وما أعددْتُمُ للحرب من زمنٍ
أألحاناً وطبّالاً وعوّادا؟
سجوناً تأكل الأوطان في نهمٍ
جماعاتٍ وأفرادا؟
حدوداً تحرس المحتل توقد بيننا
الأحقاد إيقادا
وما أعددتم للحرب من زمنٍ
أما تدعونه فنّا؟
أأفواجاً من اللاهين ممن غرّبوا عنّا؟
أأسلحة، ولا إذنا
بيانات مكررة بلا معنى؟
كأن الخمس والخمسين لا تكفي
لنصبر بعدها قرنا!
أخي في الله! تكفي هذه الكُرَبُ
رأيت براءة الأطفال كيف يهزها الغضبُ
وربات الخدور رأيتها بالدمّ تختضبُ
رأيت سواريَ الأقصى لكالأطفال تنتحبُ
وتُهتك حولك الأعراض في صلفٍ
وتجلس أنت ترتقبُ
ويزحف نحوك الطاعون والجربُ
أما يكفيك بل يخزيك هذا اللهو واللعبُ؟
وقالوا: كلنا عربٌ
سلام أيها العربُ!
شعارات مفرغة فأين دعاتها ذهبوا
وأين سيوفها الخَشَبُ؟
شعارات قد اتَّجروا بها دهراً
أما تعبوا؟
وكم رقصت حناجرهم
فما أغنت حناجرهم ولا الخطبُ
فلا تأبه بما خطبوا
ولا تأبه بما شجبوا
* * *
متى يا أيها الجنديُّ تطلق نارك الحمما؟
متى يا أيها الجنديُّ تروي للصدور ظما؟
متى نلقاك في الأقصى لدين الله منتقما؟
متى يا أيها الإعلام من غضب تبث دما؟
عقول الجيل قد سقمت
فلم تترك لها قيماً ولا همما
أتبقى هذه الأبواق يُحشى سمها دسما؟
دعونا من شعاراتٍ مصهينة
وأحجار من الشطرنج تمليها
لنا ودُمى
تترجمها حروف هواننا قمما
* * *
أخي في الله قد فتكت بنا علل
ولكن صرخة التكبير تشفي هذه العللا
فأصغ لها تجلجل في نواحي الأرض
ما تركت بها سهلاً ولا جبلا
تجوز حدودنا عجْلى
وتعبر عنوة دولا
تقضُّ مضاجع الغافين
تحرق أعين الجهلا
فلا نامت عيون الجُبْنِ
والدخلاءِ والعُمَلا
* * *
وقالوا: الموت يخطفكم وما عرفوا
بأن الموت أمنية بها مولودنا احتفلا
وأن الموت في شرف نطير له إذا نزلا
ونُتبعه دموع الشوق إن رحلا
فقل للخائف الرعديد إن الجبن
لن يمدد له أجلا
وذرنا نحن أهل الموت ما عرفت
لنا الأيام من أخطاره وجلا
«هلا» بالموت للإسلام في الأقصى
وألف هلا
__________
(*) أستاذ مشارك في الحديث الشريف وعلومه، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية الأردن.(173/64)
قصة قصيرة
وقفة مع الجموح
عبد الخالق بن حمود القحطاني
جلست يوماً إلى طاولة المكتب أُقلِّب بعض الأوراق هنا وهناك، ثم إنني
أخذت أُحرِّك القلم الذي في يدي وأعبثُ به؛ وبينا أنا كذلك أَخَذَتْ تَعْرِض لفكري
أمور كثيرة؛ فلا يكاد الذهن يشتغل بفكرة إلاّ وينتقل إلى غيرها.
وفجأة ...
إذا بشبحٍ يتراءى لي، ويقفُ بين يديّ.
- أهذا أنتِ؟
قُلْتُ لَها. فأجابتْ بغرور وهي شامخةُ الأنف، مُصَعِّرةُ الخَد:
- نعم! فماذا تريد؟ لقد كُنْتَ تُفكِّر فيَّ منذُ هُنَيْهة، أليس كذلك؟ !
- بلى أنتِ مُحِقّة؛ فهناك أشياء أُحبُّ أن أكلِّمَكِ بشأنِها.
أجابت وهي تَزُمُّ شفيتها:
- إذن قُلْ أَسْمعْ.
قُلتُ لها:
- لقد أتعبتني، بل أهلكتني!
ردَّت متعجبة:
- وكيف ذاك؟ !
اعتدلتُ في جلستي وقلت:
- إن طلبتكِ في مواطن الذكر لم أجدكِ، وإن أردت المعونة منك على خير
ألفيتك كارهة مثبطة؛ تثقلين عن الصلاة، وتكرهين الصوم، ولا تصبرين على
ترديد الأذكار.
وتسمعين من الآيات ما لو تُلِيَ على الصخر الأصمّ لَفَلَقَه، أو على الجبال
لضَعْضَعَهَا.
في الصلاة آيات،
ومن أفواه القراء آيات.
وليتك إذ غفلت عن تدبر الآيات أقمت باقي الصلاة بخشوع، بل حشفٌ وسوء
كيلة!
وأنت مع كل ذلك راغبة في اللهو، ناشطة فيه.
إذا لاحت الدنيا تطيرين لها طيراناً، ويخفق لها قلبك، وتجتمعين عليها
بكُليِّتكِ.
فأين العدل بالله عليكِ؟ !
طأطأت رأسها وهي تفكر فيما قلته. فلما رأيت كبرياءها قد انكسرت أردفتُ
قائلاً:
- وأين حفظكِ لحدود الله؟
تقترفين الذنب تلو الذنب وتقولين: صغيرة لا تضر!
وأنت تعلمين أن صغار العيدان إذا اجتمعت أنضجت اللحم.
فكم من نظرة لا تحلُّ قَارَفْتِهَا، وكم من كلام محرم أرخيتِ له سمعكِ، وكم
من كلمة زل بها لسانكِ فلم تلقي لها بالاً!
ثم إنني سكت هُنَيْهةً وأخذتُ أنظر في فعل حديثي معها، فلما رأيتها مُنصِتَة
واجمة تابعت:
- ثم الطاعات التي عملتها، كم منها يسلم لك ِمن شائبة رياء أو عجب؟ !
إن طلبتِ علماً فَلِتَبُزِّي به أقرانكِ، وليقال مثقفة!
وتزخرفين الألفاظ ليُقال مفوهة!
وإن دونتِ فائدة فليقال كاتبة!
وإن اشتغلتِ بعمل فليقال داعية!
وإن أطرقتِ فليقال خاشعة!
وقد قيل! !
يرى الناس عليك زينة الصالحين فيظنون أنك من أصلحهم وأتقاهم، وما
صلح إلا الثوب!
وجوفك خرب، كنخلة تبدو للناظر سامقة باسقة، وقد امتلأ بطنها بالسوس
والديدان.
ثمَّ أنت مع كل ما سبق ترجين مراتب الكبار، ومنازل السابقين المقربين،
وجنات ونهراً، وحوراً عيناً، وأنهار الخمر والعسل! !
وإن هذا لعين الغرور، ولا يستوي الظل ولا الحرور [1] !
ثم إنني أخذت أنظر إلى وجهها وقد علاه الحزن والكآبة، وإذا هي تقول
بصوت خفيض:
- أتوب!
- كم مرة قلتِ ذلك، ثم لا تلبثين أن تنقضي غَزْلَكِ؟ !
- أعدُكَ بأن تكون توبتي صادقة هذه المرة..
- قد قلتِ ذلك فيما مضى.
- وي.. ويلكَ! إن الله يتوب على من تاب.
- أجل هو يغفر لمن تاب سبحانه، ولكن ليس من تاب وحسب، بل [لِّمَن
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] (طه: 82) .
-.... .!
- يا نفسي! والله إني لأخاف عليك؛ فعذاب الله شديد، وأنت أول من أُمِرتُ
بوقايته من النار؛ فهل من عزمة صادقة تقهرين بها هواك، وتغسلين بها عنك تلك
الأقذار، حتى تنطلقي بعد ذلك في مدارج السالكين سبل السلام، العارفين بالله،
السائرين إليه؟ !
أجابت..
- أجل.. أفعل إن شاء الله.
- فليرحمك الله يا نفسي!
ثم إنني أخذت أرمقها وهي تبتعد متلاشية عن ناظرَيَّ.
__________
(1) فمصير الصابرين المؤمنين لا يستوي ومصير العابثين اللاهين، كما أن الظل والحرور لا يستويان وانظر تفسير ابن كثير لمزيد بيان للآيات (19 22) من سورة فاطر التي وردت فيها هذه المغايرة.(173/66)
حوار مع: الدكتور عبد العزيز الرنتيسي
أحد قادة حركة المقاومة
الإسلامية حماس في فلسطين المحتلة
حاوره: نائل نخلة [*]
تزداد الأحداث في فلسطين حدة وتفاعلاً يوماً بعد يوم بل ساعة بعد ساعة؛
يتعرض فيها إخواننا المسلمون هناك لممارسات أليمة ومآس مفجعة على أيدي
المحتلين اليهود؛ دون تمييز بين رجل وامرأة، أو كبير ووليد، أو شيخ وشاب.
ورغبة من مجلة البيان في الوقوف على تطورات الأحداث هناك، والتعرف على
مسيرة الانتفاضة من مصادر موثوقة؛ بعيداً عن التضليل الإعلامي الغالب على
كثير من أجهزة الإعلام؛ تلتقي المجلة أحد قادة حركة المقاومة الإسلامية في الحوار
الآتي:
البيان: في مقابلة مع صحيفة (له رببليكيه) الإيطالية قال عرفات: «هل
تسمعون بالقسَّام.. صواريخ، إنها نكتة! هذه الأدوات البدائية لم تجرح إنساناً أبداً؛
حتى القطط لا تخشاها. ووصفها أنها صواريخ هذه دعاية إسرائيلية كي تسوِّغ
عدوانها على الشعب الفلسطيني، لن ننسى أن حركة حماس هي من صنع
إسرائيل» . سؤالي إليكم دكتور: ما هو ردكم على ذلك، وهل حماس
بالفعل صنيعة إسرائيل؟
* إن كان السيد عرفات قال ذلك فإنما نشكوه إلى الله، مذكراً بقول الحق
تبارك وتعالى: [وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً
مُّبِيناً] (النساء: 112) .
إنها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تجري فيها محاولة النيل من
حركة حماس، ولكنها محاولات باءت بالهزيمة؛ لأن شعوبنا العربية والإسلامية
تعيش واقعاً ملموساً يتمثل في قيام سلطة حكم ذاتي فلسطينية تم الاتفاق على إقامتها
مع العدو الصهيوني في أوسلو، وبناءً على الاتفاق تمت موافقة العدو الصهيوني
على كل كوادر وعناصر السلطة، فاختار من شاء ورفض آخرين، ولم يكن ذلك
إلا لأن السلطة المشكَّلة التزمت بضرب الحركة الإسلامية التي كانت تؤرق مضاجع
العدو.
وكانت منظمة التحرير في تونس تقول للصهاينة: إن لم تتفاوضوا معنا فلن
يكون أمامكم إلا مواجهة حركة حماس. وأتمنى أن يعود القراء إلى هذه التصريحات
قبل أوسلو، وهذه «كونداليزا رايس» مستشارة الأمن القومي الأمريكي تقول:
«القضية لا تتعلق بما يجب أن تفعله أمريكا، وإنما بما يجب أن يفعله عرفات؛
إنه يعلم ما يجب أن يقوم به» ، وتضيف قائلة: «إن اتفاقية أوسلو لا تتفق
مع الإرهاب وتهريب الأسلحة إلى الشرق الأوسط، وكذلك أنشطة حماس» .
إذن هذا القول من السلطة يوافق المثل القائل: «رمتني بدائها وانسلَّت» ،
ناهيك عن أنه يفتقر لا أقول إلى دليل ولكن يفتقر إلى شبهة دليل، ولا نملك أمام
هذه الهجمات التي تستهدف (حماس) بدعوى الاستجابة للضغوط الأمريكية إلا أن
نقول: [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ] (آل عمران: 173) .
البيان: اتخذت حماس قراراً وُصِف (بالتاريخي) بوقف تعليق العمليات
الاستشهادية، وإطلاق قذائف الهاون داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة
عام 1948 م؛ فهل ما زال القرار ساري المفعول؟
* أنتم تعلمون أن أرض فلسطين وقف إسلامي استولى عليها اليهود عام
1948م بقوة السلاح، ثم تمكن اليهود من الاستيلاء على مسرى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عام 1967م، ولقد أدركت حماس أن استرداد ما اغتُصب بالقوة لن
يتم إلا بذات الشوكة؛ أي لن يتم على طاولة المفاوضات؛ ولذا فإن خيار حماس
هو خيار المقاومة، وحماس لا تتجاهل المتغيرات الدولية، ولكنها أيضاً لا تغمض
عينها عن ثوابتها الوطنية، ومن خلال هذا الوعي يأتي قرار حماس المتعلق بتعليق
شكل من أشكال المقاومة إلى حين، و «إلى حين» هذه تعني أن باب العمليات
الاستشهادية وإطلاق قذائف الهاون لم يغلق.
البيان: ما هو موقف حماس من الأنباء التي تحدثت عن عزل عرفات وإيجاد
قيادة بديلة له ... ؟ وإذا حصل ذلك فكيف سيكون موقف حماس حينها؟
* أما العزل فله هدف واحد وهو ممارسة الضغط للإذعان للإرادة الصهيونية
وأما البحث عن قيادة بديلة فأمر غير وارد في حسابات أمريكا ولا أوروبا ولا
الكيان الصهيوني؛ فالقيادة البديلة ستكون أضعف من أن تقوم بتقديم التنازلات
المطلوبة. وعلى أية حال فإن لحماس استراتيجية ثابتة لا تتأثر بتغير القيادات
الفلسطينية، وتستطيع بفضل الله أن تتعامل مع أي طارئ يحدث بما يناسبه دون
الدخول في صراع يلهيها عن مقاومة المحتل.
البيان: هل هناك تنسيق بينكم وبين مختلف التنظيمات الفلسطينية؟ وما هي
الأسس المشتركة القائمة بينكم؟
* نعم هناك تنسيق بين كافة القوى الوطنية والإسلامية في إطار لجنة المتابعة
العليا للانتفاضة؛ هناك تنسيق حول فعاليات الانتفاضة، مع احتفاظ كل فصيل
باستراتيجيته الخاصة به، ولكن هناك أيضاً محاولات جادة لوضع برنامج سياسي
يُجمِع عليه الجميع، وما زالت هذه المحاولات المخلصة مستمرة.
البيان: ما هي طبيعة العلاقة بينكم وبين السلطة الفلسطينية؟
* من جانبنا نحرص دائماً على تنقية الأجواء بيننا وبين السلطة مع احتفاظنا
باستراتيجيتنا وبرنامجنا في مقاومة الاحتلال، ولا أنكر أن استجابة السلطة أحياناً
للضغوط التي تمارس عليها من قبل الاحتلال تعكر الأجواء، إلا أننا بصبرنا
وتحديد بوصلتنا بوضوح أفسدنا على العدو كل محاولاته الرامية إلى شق الصف
الفلسطيني.
البيان: هل يوجد لكم اتصالات أمنية مع قادة في الأجهزة الأمنية الفلسطينية؟
وإذا كان ذلك، فما هي طبيعة هذه الاتصالات؟
* نحن نحرص على بقاء قنوات الاتصال مع الأجهزة الأمنية مفتوحة؛ حيث
إننا نراجعهم باستمرار بخصوص ما يقومون به من اعتقالات رأي، أو اعتقالات
بسبب الضغوط الصهيونية، وكذلك فإننا نبادر لإحاطتهم علماً بأي معلومة نحصل
عليها أو نتوصل إليها بخصوص العملاء، ونترك لهم بعد ذلك المتابعة، وتطبيق
القوانين المعمول بها.
البيان: كيف تنظرون إلى مسألة الاعتقال السياسي، وكيف يؤثر برأيكم على
وحدة الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال؟
* ما يسمى بالاعتقال السياسي في فلسطين له طعم آخر يختلف عن الاعتقال
السياسي في أي مكان في العالم؛ والسبب في ذلك أن التهمة الموجهة للمعتقلين هي
(مقاومة الاحتلال) وليس مخالفة النظام، والقوانين لا تسمح بهذا الاعتقال، ولكن
اتفاق أوسلو ألزم السلطة بممارسة هذه الاعتقالات، ويعتبر ما يسمى بالاعتقال
السياسي من أخطر العوامل على وحدتنا الوطنية، ومن أسوأ العقبات التي تعرقل
مقاومة الاحتلال؛ فأي مقاوم فلسطيني يقوم بعمل ضد الاحتلال يصبح ملاحَقاً من
قِبَل السلطة؛ مما يعيق حركته ويشل قدرته على مواصلة العمل المقاوم.
البيان: باعتقادكم ما سبب نجاح الأجهزة الأمنية الصهيونية في اغتيال عدد
من كوادر العمل المسلح لحركات المقاومة الفلسطينية؟
* يجب ألا ننسى أننا في مواجهة مستمرة مع العدو الصهيوني، وفي الوقت
الذي تنجح فيه المقاومة باختراق كل الحصون والحواجز الأمنية للعدو وضربه في
العمق والمستوطنات والطرقات والحواجز، لا يمكن ألا نتعرض لرصده؛ ومن ثم
وصوله إلى بعض أهدافه، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: [فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ]
(التوبة: 111) ، فللعدو عيونه التي تعينه على ما يحقق من نجاح، وملاحقة
السلطة للمجاهدين وإرباكهم من أهم العوامل التي تساعد العدو في تحقيق تلك
النجاحات، ناهيكم عن أن عدداً لا بأس به ممن تم اغتيالهم كانوا في معتقلات
السلطة وبعد خروجهم لساعات قلائل تم اغتيالهم من قِبَل العدو.
البيان: كيف تقيِّمون معالجة السلطة الفلسطينية لملف العملاء المتورطين في
اغتيال نشطاء الانتفاضة؟
* ملف العملاء من الملفات المؤرقة للمقاومة الفلسطينية، وفي اعتقادنا أن
القضاء عليهم وتفكيك شبكاتهم وسد الأبواب المشرعة لإسقاط المزيد من أصحاب
النفوس المريضة في أوحال العمالة أمر ممكن جداً لو أُولي هذا الملف ما يستحق من
الاهتمام من قِبَل السلطة؛ فالسلطة لا تعمل عادة إلا بعد تورط أحد العملاء في
عملية اغتيال، والأوْلى أن تتم الملاحقة قبل ذلك كإجراء وقائي، ولا أدري إن
كانت اتفاقية أوسلو تسمح بذلك أم لا؟
البيان: في حال عودة الطرفين (الفلسطيني والإسرائيلي) إلى طاولة
المفاوضات، وتم التوصل إلى اتفاقية سلام قائمة على إقامة دولة فلسطينية في حدود
عام 1967م بعاصمتها القدس الشريف؛ فأين ستتجه حماس خاصة إذا حظيت
المعاهدة بموافقة أغلبية الشعب الفلسطيني؟
* لن تجهد حماس في التفكير في هذا الأمر؛ لأننا جميعاً علينا أن ندرك أن
العدو الصهيوني الذي لا زال يحتفظ على واجهة الكنيست بخارطة «إسرائيل
الكبرى» المزعومة، وينقشها كذلك على عُمْلته، ولا زال يرفرف علمه بخطين
أزرقين أحدهما يمثل الفرات والآخر يمثل النيل، بينهما نجمة داود، هذا العدو وقد
أثبتت ذلك عشر سنوات من المفاوضات لن يقبل بما طرحتم من تصور للحل، لن
يقبل هذا العدو بالتفريط بالقدس ولا بالمسجد الأقصى، ويوم يقبل بذلك سنكون في
وضع لا يسمح له بالوجود في شبر من فلسطين المغتصبة منذ عام 1948م.
أما إذا أردنا أن نفترض حدوث المستحيل، فنقول بوضوح: سنواصل
مقاومتنا للاحتلال حتى استرداد كامل التراب الإسلامي المغتصب، ولن تلزمنا
اتفاقيات غير شرعية تأباها عقيدة المسلمين باحترامها والتقيد بها، ونقول بوضوح:
إذا لم يكن اليوم في مقدورنا تحرير فلسطين فعلينا ألا نتنازل عن شبر منها.
البيان: ما هو المطلوب (حسب رأي حماس) من القمة العربية في بيروت
المزمع عقدها في نهاية شهر آذار القادم؟
* المطلوب من القمة أن ترتقي إلى مستوى التحديات، وأن تسخر الإمكانات
المتاحة وما أكثرها من أجل تحرير فلسطين؛ فإن كانت الظروف لا تسمح لهم
بدخول الحروب فعليهم ألا يسمحوا بالتفريط بشبر من فلسطين.
ومن خلال هذه الرؤية الواضحة لحركة حماس نتمنى عليهم دعم المقاومة
الفلسطينية إعلامياً، ومالياً، ولوجستياً، وعسكرياً، ومعنوياً، وتوفير الغطاء
الدبلوماسي المطلوب للمقاومة، مع قطع كل أشكال العلاقة القائمة بين عواصمنا
العربية والكيان الصهيوني، من سفارات وقناصل ومكاتب تجارية، ووقف كل
أشكال التطبيع، وقطع الزيارات المتبادلة واللقاءات، ووقف التنسيق والتعاون
الأمني القائم بين بعض الدول العربية والعدو الصهيوني، ثم على الدول العربية أن
تعد لمعركة قادمة ستفرض عليها، وعليها أن تخلق حالة من التكامل الاقتصادي
والأمني الإعلامي على كل الصُّعُد فيما بينها، وعليها أن تتصدى للعربدة الأمريكية
بعدم تأمين مصالحها في العالم العربي ما دام أنها تدعم هذا الكيان الصهيوني المسخ.
البيان: كيف تنظرون إلى المواقف السياسية من الجانب الرسمي (العربي
والإسلامي) تجاه الشعب الفلسطيني وانتفاضته؟
* لقد كانت القضية الفلسطينية في السابق قضية عربية إسلامية، والآن
أصبحت قضية فلسطينية، وهذا ظلم فادح بحق هذه القضية، وما لم تعد القضية
الفلسطينية لتتبوأ مكانتها باعتبارها قضية الأمة فلن نكون راضين عن أي موقف لا
يرتقي إلى هذا المقام؛ لأنه سيكون فقط من باب العطف والمساندة، مع أن
المطلوب هو موقف الشراكة، ولا ننسى أن بعض الدول العربية تتخذ موقف
الوسيط بيننا وبين العدو؛ مع أن قضية القدس وفلسطين ينبغي أن تكون قضيتها
المركزية.
البيان: هل أنتم راضون عن مستوى الدعم العربي الإسلامي الشعبي
للانتفاضة الفلسطينية والشعب الفلسطيني؟
* إننا نعذر الشعوب العربية والإسلامية؛ لأننا ندرك أنها عندما أعطيت
مساحة واسعة للتحرك لم تتباطأ، ولكن عندما ضيق عليها حدث تراجع في دعمها
للانتفاضة والشعب الفلسطيني، وفي الوقت الذي نلتمس العذر لهم فإن ذلك لا يعني
أننا راضون عن مستوى الدعم، ولكننا نثق بصدق نواياهم ونشعر بتحرقهم شوقاً
للوقوف معنا، وأملنا كبير في عدم التضييق عليهم من قِبَل القادة.
البيان: ينظر إلى تدمير الدبابة (مركافا 3) التي توصف على أنها الأكثر
تطوراً في العالم، على أنه تطور نوعي في المقاومة الفلسطينية، مع أن حماس لم
تكن وراء العملية؛ فهل تتفق مع هذا الرأي؟ وهل حماس لديها القدرة العسكرية
على إلحاق الأذى بالدبابات الإسرائيلية؟
* أتفق مع هذا القول بالتأكيد، وحماس فخورة جداً بهذا العمل، وحماس
بالتأكيد لديها القدرة العسكرية إن شاء الله لفعل ما هو أكبر من ذلك؛ لأن المسألة لم
تكن في تقنية العبوة، ولكن في التوفيق في زراعتها واعتلاء الدبابة لها، والإخوة
الذين قاموا بهذه العملية الرائعة قادرون أيضاً على صناعة عبوة أقوى من العبوة
التي استخدمت، وفي تقدير الخبراء أن عبوة أقل منها لو قدر لها أن تزرع بنفس
الطريقة فستؤدي والله أعلم إلى نفس النتائج.
البيان: بعض المراقبين يقولون إن قذائف الهاون ثبت ضررها أكثر من نفعها
على الشعب الفلسطيني؛ فما ردكم على ذلك؟
* يقول الحق تبارك وتعالى: [وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ] (النساء: 72) ،
فإذا كان هؤلاء يعنون أن ردة الفعل من الاحتلال تكون قاسية، فنقول لهم: إذن
لأنه يتألم منها، ناهيكم عن أن معظم جرائم العدو ومنها اقتحام المدن كما حدث في
الخليل، وجنين، ونابلس، وطولكرم، ورام الله وغيرها، لم يكن بسبب
الهاون، ولن يهدأ بال المراقبين الذين ذكرت حتى نلقي السلاح ونرفع الراية
البيضاء؛ فعند كل عمل تثبت قدرته التأثيرية على العدو الصهيوني ترتفع أصوات
هؤلاء مطالبة بوقفه، تماماً كما ارتفعت أصواتهم ضد العمليات الاستشهادية.
البيان: ما موقف حركة حماس من وثيقة (بيرس - أبي علاء) التي
طرحت مؤخراً؟
* هناك موقف ثابت لحركة حماس وهو موقف ينبع من عقيدتها الإسلامية،
ويتمثل في عدم التنازل عن أرض المسلمين إذا اغتصبت؛ ولذلك رفضنا أوسلو،
والوثيقة المذكورة تتحدث عن قيام دولة اسماً وليس مضموناً على 42% من أرض
الضفة الغربية؛ أي ما يقارب 9% من أرض فلسطين المحتلة، ثم التنازل مع
الزمن عن حق العودة، وعن عودة القدس، وعن إزالة المستوطنات، وعن السيادة،
والمياه وغيرها، فإذا كنا قد رفضنا أوسلو بقوة فرفضنا لهذه الوثيقة سيكون أشد.
البيان: اليوم العالم يصف المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب؛ فما موقفكم
من ذلك؟ وهل ترى حماس في هذا الموقف خطراً على الانتفاضة الفلسطينية؟
* يقول الحق تبارك وتعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ، فنحن لا نكترث بهذه الأوصاف؛ لأنهم ليسوا أهلاً
للشهادة ليعطوا الفرصة بالحكم على جهادنا. هذا من جانب، ومن جانب آخر فهم
لا يخفون دعمهم لأعدائنا؛ مما يجعلهم في صف العدو، ومن العدو لا أتوقع المديح
والثناء. نحن باعتبارنا مسلمين أصحاب التقييم العادل، ونحن نقول بأن ما يقوم به
اليهود هو الإرهاب عينه، ولما كانت أمريكا هي أكبر دولة داعمة لليهود المفسدين
في الأرض فهي في تقييمنا أكبر دولة داعمة للإرهاب، ربما لا يؤثر في أمريكا
تقييمنا هذا لها الآن، ولكن سيكون له أثره ولو بعد حين بإذن الله تعالى.
البيان: هل هناك صقور وحمائم في القيادة السياسية لحركة حماس؟
* كلنا صقور في وجه الأعداء حمائم في وجه المسلمين، ومنهجنا في ذلك
كتاب الله عز وجل: [أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ] (المائدة: 54) ،
وقوله سبحانه: [أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (الفتح: 29) .
البيان: هل هناك اتصال بينكم وبين حزب الله فيما يتعلق بتبادل الأسرى مع
الجانب الإسرائيلي؟
* نحن نُزوِّد حزب الله بقوائم الأسرى، وكذلك تفعل باقي الفصائل الفلسطينية
ونترك لحزب الله باقي الجهد، واثقين أنه سيبذل قصارى جهده في تحقيق ما
يسعد الأسرى الفلسطينيين وذويهم، شاكرين لحزب الله موقفه الواضح والقوي في
تبنيه لقضية الأسرى الفلسطينيين.
البيان: هل ما زالت حماس تمثل رأس الحربة في مواجهة المشروع
الصهيوني في فلسطين المحتلة؟
* هذا صحيح وستبقى بعون الله كذلك.
البيان: البعض يقول إن عمليات حركة حماس الاستشهادية داخل فلسطين
المحتلة عام 48 تصب في ماكينة الدعاية الصهيونية في العالم والتي تصور مقاومة
الشعب الفلسطيني للاحتلال على أنها إرهاب يجب مقاومته من كل الدول الحرة في
العالم؟
* الدعاية الصهيونية ضد الفلسطينيين لن تتوقف حتى إذا توقفت العمليات
الاستشهادية، وبدلاً من الاستجابة للدعاية الصهيونية التي تستخدم ضد أطفالنا
الأسلحة الأمريكية المتطورة من طائرات حربية ودبابات وزوارق حربية
وصواريخ، علينا أن نقوم بدعاية مضادة ندافع فيها عن شرعية المقاومة ونفضح
فيها إرهاب الصهاينة وعدوانهم.
البيان: هل تؤكد أو تنفي الأنباء التي تحدثت عن اعتقال السلطة الفلسطينية
للمسؤول الأول في الجهاز العسكري للحركة محمد الضيف وبعض معاونيه؟
* أنفي اعتقاله بالتأكيد؛ فهو حر والحمد لله، ويعمل ليل نهار في التخطيط
لضرب العدو، وأسأل الله ألا تتمكن السلطة من الوصول إليه، هذا وقد تمكنت
السلطة من اعتقاله في السابق ولكنه تمكن من الفرار من المعتقل والحمد لله.
البيان: هل يمكنك أن تطمئننا على الأوضاع الصحية للشيخ أحمد ياسين،
وهل ما زال تحت الإقامة الجبرية؟
* الشيخ أحمد ياسين والحمد لله بخير وعافية، وهذا لا يعني عدم مروره بأيام
يعاني فيها من انتكاسات في صحته، ولكنها جميعها من الوعكات التي يمكن
السيطرة عليها، ولا تشكل خطراً على حياة الشيخ حفظه الله، وهو الآن لا يخضع
للإقامة الجبرية التي فرضت عليه سابقاً من قِبَل السلطة.
البيان: كيف تنظر حماس إلى نسب جورج بوش العراق وإيران لمحور الشر؟
* المحور الحقيقي للشر هو المحور الصهيو - أمريكي، وأنا على ثقة بأن
الشر في العالم بأسره سيبقى ما بقي الكيان الصهيوني موجوداً، وما بقيت أمريكا
قوية، وما بقي العالم الإسلامي في سكرة.
البيان: ما هو موقفكم من الإعلان الذي خرج به رجال دين مسيحيون ويهود
ومسلمون عقد في الإسكندرية يقولون فيه: (قتل المدنيين باسم الدين إساءة إلى اسم
الرب) ؟
* لا يقتل أحد منا مدنيين باسم الرب؛ ولذلك هؤلاء إنما أرادوا تشويه صورة
جهادنا العادل ضد الاحتلال المجرم، وكيف يمكن أن نسمي من ترك وطنه الأصلي،
وحمل السلاح واغتصب بيتي وطردني منه منذ أكثر من خمسين عاماً عانينا فيها
الحرمان والقهر والذل والعدوان المتواصل؟ ! كيف يمكن أن نسمي هذا مدنياً أو
بريئاً؟ ! ولماذا لم يخرج هذا المؤتمر الصهيوني ببند يقولون فيه إن اغتصاب
فلسطين باسم الرب إساءة إلى اسم الرب؟ أم أنهم يجهلون العدوان المتواصل على
شعبنا باسم الرب؟ ! وصدق الله إذ يقول: [قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]
(التوبة: 30) .
البيان: ستة عشر شهراً مضت على انتفاضة الأقصى؛ فكيف تنظرون إليها
وهل باعتقادكم أن المقاومة هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين؟
* الانتفاضة الفلسطينية تمثل في حقيقتها إرادة شعب يرفض ذل الاحتلال،
ويصر على تحرير وطنه مهما عظمت التكاليف وبلغت التضحيات، ولقد تكسرت
على صخرة هذه الإرادة الفولاذية على مدى ستة عشر شهراً من المواجهة كل
المحاولات المحمومة لاحتواء الانتفاضة والالتفاف عليها بهدف تجاوزها أو القفز
فوقها، ومن هنا فقد فرضت إرادة الشعب الفلسطيني معادلة جديدة على الساحة
الدولية تقول بأن الانتفاضة والمقاومة ستستمران ما استمر الاحتلال، وقد احتلت
هذه المعادلة مكانها في أذهان كل المهتمين والمتابعين للحالة الفلسطينية من شرق
وغرب، حتى غدت مسلمة تفرض نفسها عند التطلع لوضع الحلول للقضية
الفلسطينية.
ولما كانت المفاوضات العقيمة مع العدو الصهيوني أحد أهم الأسباب في
ترسيخ الاحتلال، وتثبيت أركانه، وإضفاء الشرعية عليه، وتوفير الأجواء
الملائمة لاستمرار عدوانه على شعبنا، من تمدد استيطاني كبير، وتهويد للقدس
والمقدسات، وخلق وقائع جديدة على الأرض أدت إلى تقطيع أوصال الشعب
الفلسطيني، ومحاصرته في كانتونات صغيرة، ناهيك عما تمخضت عنه
المفاوضات من تعاون أمني أهم أهدافه أن تصبح السلطة أداة قمع في يد العدو
الصهيوني يستخدمها لملاحقة الشرفاء من أبناء شعبنا المجاهد؛ مما يعني توفير
الأمن والاستقرار للصهاينة الغاصبين، وما تمخضت عنه أوسلو من تمزيق للصف
الفلسطيني ووضعه على حافة الحرب الأهلية لولا فضل الله أولاً ثم حكمة
المخلصين والشرفاء من أبناء هذا الشعب.
من هنا ندرك أن أهم إنجازات الانتفاضة بلا منازع كانت وقف التداعيات
الناجمة عن المفاوضات، وخلق رأي عام شعبي واع لمخاطرها على مستقبل
القضية؛ فلولا الانتفاضة لقضت المفاوضات قضاء مبرماً على كافة حقوق الشعب
الفلسطيني في العودة إلى وطنه الذي أخرج منه ظلماً وعدوانًا، ولولا الانتفاضة
لتمكن العدو من تهديد الوجود الفلسطيني في الضفة والقطاع؛ مما يمكنه من تصفية
القضية برمتها لصالحه. كما أن من إنجازات الانتفاضة تلك النقلة النوعية التي
أحدثتها في وجدان الشعب الفلسطيني، حيث إن التعبئة الإعلامية وغيرها لصالح
المفاوضات كادت أن تقتل فيه روح الجهاد وحب الشهادة، وكادت أن تسلخه عن
انتمائه لوطنه الذي أخرج منه بقوة السلاح.
وما من شك في أن هذه التعبئة الجهادية قد شقت طريقها في كل من الشارع
العربي والإسلامي؛ مما سيكون له عظيم الأثر في صياغة مستقبل هذه الأمة على
أسس جديدة من العزة والكرامة. ومن جهتنا نؤمن إيماناً قاطعاً أن المقاومة هي
الخيار الوحيد أمام شعبنا الفلسطيني، ونحن أصحاب حق يجب أن يحق، واليهود
على باطل يجب أن يُبطَل، والله سبحانه يقول: [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ
وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] (الأنفال: 7-8) .
البيان: هل ماتت أوسلو، برأيكم؟
* أوسلو من وجهة نظرنا ولدت ميتة؛ فهي تفتقر إلى العدل، وتركن إلى
فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني بقوة السلاح الصهيوني، مستثمرة اختلال
موازين القوة لصالحه، والموقف الصهيوني العدواني الواضح على شعبنا
الفلسطيني يؤكد أن أوسلو أصبحت أثراً بعد عين.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في فلسطين.(173/68)
الإسلام لعصرنا
يا فوكوياما! نحن مع التحديث وأبعد الله التغريب
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
إنَّ أمر بعض الكتاب الغربيين لعجب. إنهم يعترفون بأن بلادهم تعاني من
مشكلات أخلاقية واجتماعية توشك أن تهوي بها في مكان سحيق؛ لكنهم يودون مع
ذلك من كل عباد الله في سائر بلاد الله أن يتبنوا قيمهم التي توشك أن توردهم موارد
الهلاك، وإلا كانوا أعداء للحداثة مكتوباً عليهم أن يعيشوا ويموتوا متخلفين. إن
توهم اللزوم بين القيم الغربية في الأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع الذي بدأ
يشيع في عصرنا منذ زمن طويل، والذي جعل بعض المفسدين ينادي بأخذ كل
شيء من الغرب حتى الديدان التي في بطونهم! إن هذا التوهم أسطورة تقوم على
عدم التمييز بين الأسباب الفاعلة والملابسات العارضة، كالذي يقول لك إنك لا
يمكن أن تأخذ التقنية منهم وتترك رقصهم وأغانيهم وتحريمهم الزواج بأكثر من
واحدة، وينسى أو يتناسى أن هذه كانت سيرة القوم قبل أن يكون لهم علم طبيعي أو
تكون لهم تقنية، فلا علاقة لهذا بذاك ولا بالعصر الذي نعيش فيه.
لقد كتب فوكوياما كتاباً أسماه بـ (الانفراط العظيم) ذكر فيه كما قلت في
تلخيص له بهذه المجلة المباركة أن الدول الصناعية كلها تعاني من تفكك اجتماعي
عزا معظمه إلى تفكك في الأسرة، وذكر أن من أسباب تفكك الأسرة اختلاط النساء
بالرجال في أماكن العمل، وانتشار حبوب منع الحمل، ونظريات جعلت الإباحية
تحرراً، وأن هذا كله أدى إلى ازدياد في معدلات الخيانات الزوجية، ومعدلات
الطلاق. وأن تفكك الأسرة أدى إلى سوء تربية الأطفال، وإلى نقص في ما يسمونه
بالرأسمال الاجتماعي: نقص في الثقة في الزعماء السياسيين، ورجال الدين،
وازدياد في معدلات الجريمة، وتعاطي المخدرات.
أَلِمِثْلِ هذا يدعونا فوكوياما اليوم إذ يدعونا إلى تبني القيم الغربية، وإذ يزعم
أن دعوته هذه ليست ناتجة عما يسمى بالعمى الثقافي؛ وإنما لأن القيم الغربية هي
القيم العصرانية الصالحة لأن تكون عالمية، وأننا إذا لم نأخذ بها فلا أمل لنا في
تحديث مجتمعاتنا؟ إن لم يكن هذا عمى ثقافياً فلست أدري ما العمى الثقافي؟ !
ولكن ماذا نقول لفوكوياما؟ نقول:
أولاً: إن التحديث في جوهره إنما هو الأخذ بكل الوسائل العلمية والتقنية
والإدارية التي يتطلبها العصر والتي لا تكون الأمة بغيرها أمة قوية في اقتصادها
وسلاحها وإعلامها؛ فهل وجد فوكوياما في الإسلام ما يتناقض مع شيء من هذا؟
ألم يأخذ المسلمون في تاريخهم بكل ما تطلَّبته عصورهم المختلفة في هذه المجالات
حتى صاروا إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي القوة العالمية الأولى في مجال
التقدم العلمي والتقني والسلاح البري والبحري؟ فإذا كانوا قد حققوا كل هذا في
الماضي مع استمساكهم بدينهم فما الذي يمنعهم من تحقيقه تارة أخرى من غير ترك
لهذا الدين؟ إن تخلف المسلمين المعاصر في هذه المجالات إن عزي إلى أي شيء
فلا يمكن أن يعزى إلى دينهم؛ إذ ما الذي يجعلهم يَعْمَوْنَ فجأة عن حقيقة دينهم
فيرونه متناقضاً مع أمور كانت من أسباب قوتهم واستعلائهم؟
لكن فوكوياما كأمثاله من الغربيين والمستغربين يريد أن يقول لنا إن للتحديث
شرطاً آخر ضرورياً يتناقض مع ديننا: إنه العلمانية، فصل الدين عن الدولة،
وجعل الدين أمراً فردياً خاصاً.
ثانياً: إن فصل الدين عن الدولة في بلادكم شيء اخترتموه طائعين، لم
يفرضه عليكم أحد. ونحن اخترنا غير ما اخترتم. فلماذا تريدون أن تفرضوا علينا
ما لا نريد؟
ثالثاً: إن اختياركم كان لظروف خاصة بتاريخكم وطبيعة دينكم والحروب
التي نشأت بينكم، ومنها الحرب التي تذكرونها دائماً أعني حرب الثلاثين عاماً
ونحن أصحاب تاريخ مختلف عن تاريخكم، ودين مختلف عن دينكم ولم يحدث
عندنا ما حدث عندكم.
رابعاً: إنكم تقولون إن السلم المدني لا يتأتى إلا في نظام علماني لا يكون
للدين فيه نصيب. لكن تاريخكم يحدثنا بأن العلمانية لم تحقق هذا السلم على
المستوى العالمي، بل إن أول حربين عالميتين في تاريخ البشرية حدثتا عندكم وبين
بلاد علمانية، ونتج عنهما من الضحايا البشرية والدمار والفساد ما لم يكن له مثيل
في تاريخ البشرية.
خامساً: إنه إذا كان دينكم لا يقبل العيش مع الأديان الأخرى، فإن ديننا يقبل
مثل هذا التعايش ويعطي غير المسلمين من حرية العبادة وتسيير شؤونهم الخاصة ما
لا تعطيه العلمانية. نعم إن هنالك مناطق مستثناة من هذا التعايش، لكن ليس من
شرط التعايش أن تفتح أراضي المسلمين كلها لغير المسلمين. فالقول بأن
«التسامح» لا يتحقق إلا في دولة علمانية دعوى لا سبب لها إلا العمى الثقافي.
سادساً: وإذن فالقول بأن مشكلة المسلمين مع الحضارة الغربية هو تسامحها
الديني، أو ديمقراطيتها ليس بصحيح. لماذا يعادي المسلمون نظاماً يسمح لهم بأن
يدعو إلى دينهم؟ لماذا ودينهم بسبب تلك الحرية هو أكثر الأديان نمواً في
الولايات المتحدة؟ ليس المسلمون هم الذين يكرهون هذا ويريدون إيقافه،
وإنما هم المتعصبون المتشنجون من بعض المتدينين وبعض الملحدين؛ فرجاء لا
تخلطوا الأوراق كما يقولون.
سابعاً: إن كثيراً من الغربيين أنفسهم يرون أن العلمانية سبب أساس إن لم
تكن السبب الأول لتلك الأمراض التي ذكر فوكوياما أن المجتمعات الصناعية كلها
تعاني منها، والتي سرت عدواها إلى العالم كله بما فيه عالمنا الإسلامي بسبب
إصرار بعضنا على التقليد الغبي لكل ما هو غربي.
ثامناً: عجباً لأمر الغربيين الذين يقولون إن ديننا هو سبب ضعفنا وتخلفنا.
أفتراهم حريصين على أن نكون أقوياء؟ كيف وهم يعدوننا العدو الأول بعد سقوط
الشيوعية؟ كيف وهم يرون أن الصدام بين الحضارات قادم لا محالة؟ أفيريدون
لعدوهم أن يملك من القوة ما يملكون؛ ولذلك فهم ينصحونه أن يأخذ بأسبابها التي
منها إقصاء الدين؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.
تاسعاً: إن فصل الدين عن الدولة لا يكون إلا بتحريف الدين أو عدم الإيمان
بشيء منه. لكن الكفر بشيء مما أنزل الله هو كفر بالله؛ لكنه مع ذلك أمر مرد
عليه اليهود والنصارى منذ أزمان سحيقة؛ فلا عجب أن يسهل عليهم اليوم وهم
يقرؤون كتباً دلتهم دراساتهم الحديثة أنها ليست قطعاً بالكتب التي أنزلها الله على
رسله، وبرهنت لهم أن فيها أقوالاً مخالفة للحقائق التي اكتشفتها العلوم التجريبية.
بل إن المتحررين منهم وهم الأغلبية الآن يعتقدون أنه إنما كتب هذه الكتب بشر
عاديون، وأنهم تأثروا في كتابتها بالظروف الثقافية السائدة في عصورهم، وأنه ما
دامت ظروفنا الثقافية اليوم مختلفة عن ظروفهم فلا يلزمنا أن نلتزم بكلام كتب في
زمان غير زماننا. وهم لهذا السبب يبيحون أموراً كالشذوذ الذي تعده كتبهم من
الجرائم.
لكننا - نحن المسلمين - مختلفون عنهم في هذا كله؛ فنحن موقنون بأن
الكتاب الذي بين أيدينا هو كلام الله الذي أنزل على رسولنا، نقرؤه بلغته التي أنزل
بها ولا نجد فيه رغم تطاول الزمن ما يخالف حقيقة من ملايين الحقائق العلمية التي
اكتشفت بعد نزوله. بل إننا لنرى في كل يوم مصداق ما به أخبر، والحكمة في ما
عنه نهى أو به أمر؛ فلماذا نترك حقنا لباطلكم؟
أقول هذا مع أنني أعلم أن أمثال فوكوياما لا يمثلون رأي المتدينين في تلك
البلاد، بل إن فيهم من يخالفه خلافاً جوهرياً في أساس منطلقاته التي لا تعطي للدين
اعتباراً.
هذا، وسيرى الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(173/74)
آفاق
لماذا لا نتساءل؟
د. عبد الكريم بكار [*]
طالما حدثت نفسي عن الأسباب التي تجعل شهيتنا للتساؤل ضعيفة؛ مما أدى
إلى تراكم المشكلات وضعف خبرتنا العامة في التحليل والوقوف على العلل الخفية
التي دفعت بالأمة إلى الوضعية التي تعاني منها الآن، وقد بدا لي أن ذلك يعود إلى
عدد من الأسباب، أذكر منها:
1 - سيطرة الموروثات والتقاليد الشعبية على مداخل التفكير لدى معظم
الناس؛ وتلك الموروثات تنظر إلى الإكثار من طرح الأسئلة على أنه دليل الجهل
وقلة الخبرة. كما أن المبادرة إلى الإجابة على أي سؤال يُطرح تعطي انطباعاً
معاكساً؛ ولذا فإن من الملاحظ أنه حين يطرح سؤال يتعلق بالصحة مثلاً وفي
المجلس طبيب فإن أكثر من شخص يجيب قبل أن يتمكن الطبيب من إبداء رأيه!
وهذه الوضعية ذاتها تشجع الناس أيضاً على أن يجيبوا أنفسهم على التساؤلات التي
تثور في أذهانهم بعيداً عما في الكتب، وعما لدى أهل العلم، وهذا يؤدي بهم إلى
أن يشعروا بنوع من الامتلاء الكاذب، ويكونون بذلك كمن يتجشأ من غير شبع!
2 - طريقة التعليم السائدة في المدارس تكرس ما تشيعه الثقافة الشعبية؛
حيث إن أسلوبنا في تلقين المعلومات يجعل المعلم يظهر في موقف الإنسان الذي
يعرف كل شيء، أو موقف الفارس الذي يجول ويصول في الحلبة وحيداً دون أن
يحسب حساب أي شيء. وتتجلى المعلومات التي يسوقها في شكل معطيات قطعية،
تجاوزت مرحلة الجدل والنقاش. وبعض المعلمين يزيد الطين بلة، فيمنع
الطلاب من إلقاء أي سؤال؛ لأن ذلك قد يشير إلى أنه لا يشرح بطريقة وافية، أو
لأنه قد يوقعه في الحرج مما يدفع الطلاب إلى الصمت المطبق!
3 - في المجتمعات الإسلامية جماهير غفيرة يعشقون الغرائب ويروجون لها
لأسباب مختلفة منها إمتاع السامعين، وإظهار العلم بما يجهله غيرهم، والتسويق
لشخص أو جماعة أو فكرة أو طريقة.... والارتزاق من وراء الإثارة التي تحدثها
القصص والحكايات العجيبة! من طبيعة الغرائب أنها لا تعرف الوقوف عند أي حد؛
ولذا فإنها تتطور في كثير من الأحيان لتأخذ شكل الخرافة، ولتبني من ثم عقولاًَ
خرافية. من مخاطر الغرائب والخرافات أنها تمحو في أذهان الناس الفروق بين
الطبيعي وغير الطبيعي، والجائز والممنوع، والقريب والبعيد، والممكن
والمستحيل ... ومن خلال زوال الفروق بين هذه الثنائيات تتهيأ أذهان الناس لقبول
أي شيء والاستسلام للوضعية الراهنة بوصفها شيئاً لا بديل عنه.
4 - اليأس والإحباط بسبب سوء الأحوال وتدهور مكانة الأمة بين الأمم
الأخرى؛ مما يؤدي إلى الإحجام عن التساؤل حيث يفقد المحبط الحيوية الذهنية،
كما يفقد روح الانفتاح والتفاعل التي كثيراً ما تتمظهر في التساؤل، فتؤول الأمور
إلى السكون التام وانتظار المصير المحتوم.
5 - جفول الوعي الإسلامي في وقت مبكر من تاريخ هذه الأمة من (الفلسفة)
بسبب تجاوز بعض فلاسفة المسلمين للعديد من الأصول والثوابت الشرعية، وقد
أدى ذلك إلى ضعف صناعة المفاهيم لدينا، وإصابتنا بقصور مريع في عدد كبير
منها. وحين يتضاءل مفهوم ما عن المستوى الذي ينبغي أن يبلغه، ينحط مستوى
العمل ورد الفعل؛ مما يجعل الانحدار نحو القاع أمراً مقبولاً أو غير مستنكر، ومن
ثم فلا يثار حوله أي تساؤل. إذا أردنا لشهية التساؤل لدينا أن تنفتح من جديد، فلا
بد من معالجة الأسباب التي أدت وما زالت تؤدي إلى اضمحلالها. والله الهادي إلى
سواء السبيل.
__________
(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.(173/76)
المسلمون والعالم
رايات النفاق.. والحرب المعلنة علي الإسلام
عبد العزيز كامل
الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الإسلام في أنحاء العالم،
والتي أسماها الإعلام الغربي وبوقه العربي: (الحرب على الإرهاب) لم تكن هي
الأولى في طبيعتها وتسميتها؛ فقد سُبقت أمريكا بمنافقين في بلدان المسلمين أعلنوا
الحرب على الإسلام باسم (محاربة الإرهاب) . والجدل الثائر منذ مدة حول
التساؤل عن طبيعة الحرب الأمريكية، وهل هي ضد الإرهاب أم ضد الإسلام؛
إنما هو في حقيقته مجرد جدل (بيزنطي) سبق أن أُثير مرات عديدة كلما حورب
الإسلام وأهله تحت أي ذريعة من الذرائع. وإلا فأين هي أمريكا وحلفاؤها من
محاربة الإرهاب اليهودي في فلسطين، ومحاربة الإرهاب الهندوسي في كشمير،
والإرهاب الروسي في الشيشان، والإرهاب النصراني في الفلبين وإندونيسيا
وغيرها من بلدان المسلمين؟ ! ثم ... أين هو الإرهاب عند الجماعات التي عدتها
أمريكا إرهابية وهي تدافع دفاعاً مشروعاً عن حقوقها الإنسانية والدينية في فلسطين
ولبنان وكشمير والشيشان والفلبين؟ إن حرب أمريكا المعلنة على الإسلام قد شملت
كل طائفة مسلمة مضطهدة تنافح عن دينها وأرضها وعرضها في مشارق الأرض
ومغاربها، وشملت كل مظهر من مظاهر التمسك بما تبقى من عُرى الإسلام في
الحكم والتحاكم، والشعائر والشرائع، والإعلام والتعليم، فهي حرب (المواجهة
الشاملة) كما سبقت تسميتها في بعض البلدان العربية. ولكن السؤال هنا: هل
تستطيع أمريكا وحدها أن تقوم بهذه الحرب؟ بالطبع لا؛ وبالقطع لا؛ فلا بد أن
يقوم معها أو عنها نواب مخلصون لها، ليحققوا كل مستطاع مما تريده هي وما
يريدونه هم قبلها. فالحرب المعلنة من أمريكا على الإسلام؛ ما كان لها أن تُعلن
وتُنفذ بهذة الجراءة والشراسة والشمول، لولا استنادها إلى مواقف أكثر جراءة
وشراسة وشمولاً من المنافقين، وإلا فمن لأمريكا بالتدخل المباشر في الأحوال
الداخلية للدول لإعادة صوغ مناهجها والتحكم في إعلامها وتوجيه الرأي العام بها
ومحاصرة الدعوة والإصلاح فيها؟ ! ومن لأمريكا بجعل البلدان الإسلامية أرضاً
مستباحة للأغراض العسكرية والمخابراتية والاقتصادية؟
أقول: نحن نعيش حرب الغرب على الإسلام مند عقود طويلة في الكثير من
بلدان المسلمين؛ حيث ناب ولا يزال ينوب عنهم فيها منافقون ظاهرون، أو
مستخفون مستترون يحاربون الدين وأهله تارة باسم الحرب على الرجعية، وتارة
على أعداء التقدمية، وتارات ضد المتطرفين والظلاميين والمهووسين الدينيين
والأصوليين، وأخيراً استقر اصطلاح المجرمين على تسمية الحرب ضد الإسلام
بـ (الحرب على الإرهاب) ! ! والمستقرئ لتاريخ تلك الحرب يرى أنها شُنت في
الأصل منذ عقود الخمسينيات والستينيات الميلادية ضد اتجاهات إسلامية مسالمة لم
تكن تحمل سلاحاً أو تستطيع رد كيد أو ردع عدو؛ اللهم إلا إذا كان عدواً خارجياً
يحاول المخلصون التصدي له حين يجبن عن لقائه المرجفون المنافقون. ولكن
المنافقين في العديد من بلدان المسلمين استمرؤوا اللعبة في العقود التالية، وكرروها
ضد الإسلامين لمجرد أنهم إسلاميون يحملون برنامجاً إسلامياً إصلاحياً، دون حمل
سلاح أو توجه إلى أعمال سرية أو جهادية، وكان النموذج الصارخ لذلك ما حدث
في الجزائر؛ حيث انقض المنافقون على الإسلاميين بعد أن خسروا أمامهم معركة
سلمية في صناديق انتخابية، وحولوها إلى حرب ضروس قُتل فيها حتى الآن ما لا
يقل عن مائة ألف قتيل. وكانت دول الغرب وفرنسا على وجه الخصوص تقف
بكل إصرار وعناد مع الهمجية الإنقلابية العسكرية ضد التجربة السياسية السلمية
البرلمانية (الديمقراطية) ؛ فأين كان الإرهاب هنالك؟ ! صحيح أن فظاعة
الأحداث، وجسامة الصدمة ولَّدت نوعاً من الغلو والتشدد لدى بعض الشرائح
الإسلامية هناك، ولكن يبقى السؤال: من المتسبب في هذا؟ ولماذا لم يستجب
المنافقون لرغبات شعب أجمع على اختيار النهج الإسلامي في شكل سلمي؟ إن
الدنيا كلها أصبحت تعلم أن مطلب الإسلاميين الأول والأخير من أنظمة المنافقين
منذ أكثر من خمسين عاماً، هو العودة بالأمة إلى دينها بتطبيق شريعتها والحفاظ
على هويتها لضمان سعادة الدنيا ونجاة الآخرة؛ فلماذا ... ولماذا ... ولماذا ... ثم
لماذا، يصر المنافقون في كل مرة على الصدام مع هذا المطلب صداماً ثقافياً
وقانونياً وسياسياً وإعلامياً وبوليسياً وعسكرياً، بل.. ووعظياً رسمياً؟ ! لماذا لم
تقطع طوائف المنافقين حجج وأعذار من يطالبونهم بأن يعودوا بالأمة إلى الدين؟ !
لماذا هذا الصدام العنيد العنيف مع من ينوبون عن الأمة في كل مرة؟ لماذا هذه
الحرب المعلنة (فقط) ... وأكرر (فقط) على الإسلاميين في أكثر بلدان
المسلمين؟ !
إذا كان الإسلاميون (أصوليين) ولا يدركون الفهم الأصيل ولا التطبيق
الصحيح للدين؛ فلماذا لا يطبقه (المتفقهون) من المنافقين؟ ! وإذا كان
الإسلاميون (يشوهون) سمعة الإسلام ويسيئون إليه؛ فلماذا لا يحسِّنها أصحاب
الطهر المزعوم؟ !
لقد رفع الإسلاميون على اختلاف طوائفهم رايات إسلامية طوال مراحل
تصدر المنافقين لزمام الأمور، منذ إسقاط الخلافة؛ بحيث ظلت تلك الرايات تمثل
شعاراً من شعارات الإسلام إلى طريق من طرق الإصلاح. فالإخوان المسلمون،
والتبليغيون، والسلفيون، والجهاديون وغيرهم من فصائل الإسلاميين كانوا ولا
يزالون متلزمين بالسعي إلى رفع راية من رايات الإسلام لغاية من من غايات
الإصلاح؛ فماذا رفع المنافقون العلمانيون على اختلاف طوائفهم أو فصائلهم أو
أوأنظمتهم؟ ! رفعوا رايات (القومية العربية) أو (الاشتراكية الثورية) أو
(الرابطة الوطنية) أو (البعث العربي) أو (اليسار التقدمي) أو (اليمين
الليبرالي) أو (الديمقراطية الرأسمالية) ! وقد علم المنافقون أن كل تلك
الرايات رايات جاهلية بحكم محكمات الدين وفتاوى علماء المسلمين؛ فلماذا لا
يزالون مصرين عليها، بعضها أو كلها في أكثر بلدان المسلمين؟ ! وهل
هناك سر في ذلك الإصرار؟
خزان الكراهية:
لا نستطيع أن نرجع ذلك السلوك المعادي للدين وأهله عند مؤسسات النفاق
المعاصر وكياناته وأدواته المعبرة عنه في الصحافة والإعلام والفكر العلمانيين إلا
لسبب واحد هو: (كراهية ما أنزل الله) ؛ ذلك السبب الذي تتفرع عنه أسباب
أخرى كالاستكبار، وتقديم الهوى، وإيثار الدنيا، وسوء الظن، وفساد الطوية؛
فكراهية ما أنزل الله خُلقٌ دائم للكافرين، وتبعهم فيه المنافقون بدرجات تتفاوت
بحسب دركات النفاق عندهم.
فعندما تمرض القلوب بالشهوات أو الشبهات أو بهما معاً، تفسد تلك القلوب،
وينتج عن فسادها انحراف في الفطرة، وانكفاف في البصيرة، فيصبح المرء محباً
لما أبغض الله، ومبغضاً لما أحب الله، وقد يبلغ هذا البغض والكره حداً من الغلو
يصل بالمرء إلى أن يكره كل داع إلى الله وكل دعوة إلى سبيل الله؛ بل يكره أن
يذكر أمامه شيء يذكِّر بالله [وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] (الزمر: 45) ، فلا عجب
ممن هذه أحوالهم أن نرى البغضاء قد طفحت من قلوبهم على ألسنتهم لتعبر عن
مدى كراهيتهم لدين الله وشرعه والمتمسكين به والمنافحين عنه والمضحين في
سبيله، [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] (آل عمران:
118) ، يكفيك أن تطالع الأعمدة اليومية والأسبوعية لكثير من أعمدة النفاق لترى
مصداق ذلك من أقوام جُل همهم فيما يتقيؤون على أوراق الصحف والمجلات أن
يحزُن الذين آمنوا وألا ينقلب المؤمنون بأهليهم إلى سلامة أبداً، وألا يمكن الله لهم
دينهم الذي ارتضى لهم أو يبدلهم من بعد خوفهم أمناً.
ولفرط كراهية المعرضين والمنافقين لما أنزل الله، فإنهم يكرهون إحقاق
الحق وإبطال الباطل، ويكرهون أن يتم الله نور الإسلام على العالمين، ويكرهون
أن يظهر الله دينه على الدين كله؛ ولهذا بادلهم الله تعالى كرهاً بكره، وبغضاً
ببغض، فعاملهم بما يكرهون، وأعلمهم بأنه سيجري سننه على غير ما يشتهون
[لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] (الأنفال: 8) ، [وَيُحِقُّ
اللَّهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] (يونس: 82) .
إن للمعرضين من المنافقين سلوكاً شائناً تجاه دين الله وشرعه، يضاهون به
الكفار الصرحاء الظاهرين الذين قال الله تعالى فيهم: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ
وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] (محمد: 8-9) ،
وحتى لو ادعى هؤلاء وأولئك أنهم يريدون حقاً ما؛ فيرفعون بسببه الشعارات
والرايات، فإنهم يريدون حقاً مصلحياً دنيوياً نابعاً من الأهواء المحضة، أما الحق
باعتباره قيمة مجردة، فهو مرفوض ومكروه، وبخاصة إذا جاءهم عن طريق الدين
[لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ] (الزخرف: 78) ، وكراهية
الحق المطلق تستتبع عند المنافقين وأوليائهم كراهية أتباعه: [وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ
الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] (هود
: 27) ، وتستتبع كراهية التضحية من أجله: [فَرِح المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ
رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (التوبة: 81) ،
وتستتبع كراهية الإنفاق في سبيله: [وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ] (التوبة:
54) ، وتستتبع مع كل ذلك محبة المحادِّين لهذا الحق، وإظهار احترامهم والتعهد
بتنفيذ أوامرهم: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ
الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ] (محمد: 26) .
صحيح أن كراهية ما أنزل الله عمل قلبي، ولكن آثاره تنعكس على المواقف
في صور شتى، لا يسعنا وقد كُلفنا بالظاهر أن نتكلف لها محامل حسنة مع تكرارها
وتنوعها بصور مختلفة مع الإصرار عليها وكأنها مبادئ ثابتة تتخذ بشأنها سياسات
معلنة واضحة الجوهر وإن كانت خدَّاعة المظهر، مثل تلك السياسات الثابتة في
الصد عن سبيل الله، ومحاربة أولياء الله، والطعن في شريعة الله، أو السماح
بذلك عن طريق إفساح المجال لكل مستهزئ بشعائر الله، متهكم على حدود الله،
ساع في أذى المؤمنين بأنواع الأذى؛ إنها صور شتى تعكس آثار الكراهية
الواضحة لما أنزل الله، وتظل الصورة التي أشارت إليها سورة محمد: [ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ]
(محمد: 26) ، تظل هذه الصورة هي أخطر الصور إقلاقاً في أحوال الأمة
الراهنة؛ لأنها تضيف إلى خطر النفاق الكافي وحده للإضرار بالأمة خطر
الاستعانة بالكفار أو الإعانة لهم، فتتعدد الحراب على الصدور، وتجتمع السيوف
على الرقاب. فإذا وصلت كراهية المنافقين لما أنزل الله إلى حد أن يقولوا علناً
للذين كرهوا ما نزل الله: [سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ] (محمد: 26) ، فالأمر
يحتاج إلى موقف إيماني واضح وصريح، يُسأل فيه هؤلاء: أنتم مع الإسلام، أم
مع أعداء الإسلام في الحرب المعلنة على الإسلام؟ !
لقد اختلف المفسرون في تعيين مَنْ نزلت بشأنهم الآية المذكورة، فقيل: هم
اليهود، وقال آخرون: هم المنافقون أنفسهم [1] ، وإذا تجاوزنا الخلاف في تعيين
من نزلت بشأنهم الآيات، وسرنا مع عموم اللفظ الذي يُقدم الاعتبار به على
خصوص السبب، لوجدنا أن حكم الآيات عامٌّ في كل من يتناوله لفظها، وبخاصة
في أوقات الخطر وأزمنة المحن التي يتضاعف فيها جُرم التعاون مع الكفار ضد
المؤمنين.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «اعلم
أن كل مسلم يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات من سورة محمد وتدبرها،
والحذر التام مما تضمنته من الوعيد؛ لأن كثيراً ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا
شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد؛ لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين
كارهون لما نزَّل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو القرآن وما
يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من السنن؛ فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين
لما نزله الله: [سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ] (محمد: 26) فهو داخل في وعيد
الآية، وأحرى من ذلك من يقول لهم: (سنطيعكم في كل الأمر) كالذين يتبعون
القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله؛ فإن هؤلاء لا شك ممن
تتوفاهم [المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ] (الأنفال: 50) » [2] .
ماذا بقي لأمريكا:
في جولتها الأولى من الحملة الصليبية المعاصرة، لم تستطع أمريكا أن تنجز
شيئاً من أهدافها المعلنة حتى الآن في أفغانستان أو غيرها إلا بمعونة المنافقين، لا
بل إنهم يدافعون عنها، ويضحون بدلاً منها، وينبري متشدقوهم للتبشير بانتصارها،
في حين ينبزون وينبذون من يتجرأ على الجهر ببغضها ومحاولة التصدي
لحربها..! ! أجهزة إعلام مسخرة، وأجهزة أمنية وعسكرية مستنفرة، من أجل
خدمة أمريكا ودعم جهود الحرب التي تقودها أمريكا. فماذا بقي لأمريكا أن تفعله
سوى أن تتفضل بتجريب أحدث أسلحتها وتدريب كوادرها العسكرية ومعالجة
مشاكلها الاقتصادية بالمزيد من الابتزاز والاغتصاب لأموال الشعوب باسم
مساعدتها على التخلص من (الإرهاب) ؟ !
مواقف مخجلة وتصرفات مزرية أقبلت على ارتكابها فئات من المنافقين في
الشهور القليلة الماضية. خذ مواقف الحكومة العسكرية في باكستان مثلاً، تلك
الحكومة التي أبدى رئيسها في مبدأ ظهوره العلني إعجابه الشديد بتجربة وشخصية
(مصطفى كمال أتاتورك) عميد مؤسسة النفاق المعاصر، لقد خنع أتاتورك
باكستان لأمريكا إلى حد أزرى بالمسلمين، فأصبحنا مقتنعين بأن العلمانيين جبناء
ولو كانوا يملكون أسلحة نووية، ورعاديد وإن كانت صدورهم مغطاة بالنياشين
العسكرية. وإن عرضاً لجردة الإجراءات التي اتخذتها حكومة (برويز مشرف)
نيابة عن أمريكا في باكستان لتزيدنا يقيناً بأن الأمريكيين قد وجدوا في بلاد المسلمين
من يتبرع لهم بأكثر مما يطلبون؛ فبعد تسخيره أجواء باكستان وقواعدها لعمليات
الحملة الصليبية على الجارة المستجيرة (أفغانستان) وقبل يومين فقط من خطابه
المشؤوم المشهور في (12/1/2002م) كان (برويز مشرف) قد تلقى طلباً من
(كولن باول) وزير خارجية أمريكا يستعجل فيه إظهار جديته في الانضمام إلى
تحالف أمريكا على المستوى الداخلي الشعبي كما أظهره على المستوى الخارجي
الدولي، فجاءت الاستجابة السريعة بما لم تقر به أعين الأمريكيين فقط، بل أدخل
السرور على الروس والهندوس والأوروبيين. لقد ألقى برويز خطاباً مليئاً بالتهديد
والوعيد لمن وصفهم بأنهم (قلة معزولة لا تمثل الشعب الباكستاني) ، وتضمن
خطابه إعلاناً عن عدد من القرارات التي تحولت من الغد إلى إجراءات، تم
بموجبها اعتقال نحو 2000 من نشطاء وزعماء الجماعات الإسلامية الباكستانية
والكشميرية، وحظر نشاط خمسة أحزاب إسلامية، هي الوحيدة التي تحمل برنامجاً
إسلامياً من بين نحو خمسة وعشرين حزباً. وصدرت تعليمات بعدم قانونية تغيير
أسماء الأحزاب حتى لا تتمكن الأحزاب المقفلة من العودة بمسميات أخرى، وتم
إغلاق 137 مكتباً من مكاتب جماعات الجهاد في كشمير التي تُعد قضيتها
للباكستانيين كقضية القدس للفلسطينيين، ويُعد مجاهدوها لدى الشعب الباكستاني
كمجاهدي حماس والجهاد لدى الشعب الفلسطيني. وقام برويز بعملية (تطهير) في
الجيش الباكستاني من العناصر المتدينة فأخرج عدداً من الضباط والقادة العسكريين
من الخدمة ليبقى الجيش لا دينياً. ولم يخرج (برويز) عن الإطار الذي رسمه
بنفسه أو رسم له في التعامل مع الإسلاميين المتعاطفين مع محنة أفغانستان، فقامت
سلطاته بتسليم العشرات منهم لأمريكا يداً بيد، وأقبل على إجراء مخالف لكل
الأعراف الإنسانية فضلاً عن القيم الإسلامية حين رفضت أجهزته إعطاء السفير
الأفغاني السابق لدى باكستان (عبد السلام ضعيف) حق اللجوء السياسي بعد أن
تقدم به، ولم يكتفوا بذلك، بل سلموه للأمريكيين في إجراء خسيس ورخيص يجعلنا
نعيد تثمين مواقف من انقلب عليهم برويز واتهمهم بالتخلف والسطحية.
فإذا تركنا المنطقة الساخنة في باكستان وأفغانستان، وجئنا إلى البقعة المشتعلة
في فلسطين، لوجدنا حرباً تُشن على الإسلاميين المجاهدين هناك، وهي وإن كانت
حرباً معلنة بشكل أو بآخر منذ جاءت سلطة عرفات، إلا أنها الآن أصبحت فيما
يبدو جزءاً لا يتجزأ من الحرب الأمريكية واليهودية على الإسلام في المنطقة
العربية؛ فالسلطة (الوطنية) الفلسطينية التي جاءت في الأصل بعد (أوسلو)
لغرض أمني إسرائيلي بحت، جعلت توفير الأمن والأمان لدولة اليهود هدفاً أصلياً،
وظنت أنها من ورائه أنه يمكنها الوصول إلى (سلام الشجعان) الذي يوصل بدوره
إلى دولة فلسطينية عاصمتها القدس ورئيسها عرفات. ولكن أوهام السلام التي
تبخرت أمام أعين السلطة؛ لم تتبخر معها إجراءات ومستلزمات السلام التي كان
على رأسها (الأمن الوقائي) لليهود من هجمات مجاهدي فلسطين، فلا تزال
اعتقالات الشرطة الفلسطينية للعناصر الجهادية مستمرة، بل إن عرفات الذي أدمن
على التنازلات بدون مقابل، لم يتخل عن تلك العادة حتى بعد أن ظهر أمامه تحول
(الحمائم) الإسرائيلية إلى ذئاب مفترسة و (الصقور) تحولت إلى ديناصورات،
ومع ذلك لا يزال الرجل يتحدث عن أوسلو ومدريد وسلام الشجعان، ويسارع إلى
إدانة كل عملية تنفذ ضد الإسرائيليين في (أرضهم) المعترف بها من العرب! !
وإذا أحب أن يهدد اليهود أو يتوعدهم تحدث عن (شعب الجبارين) الذي يدرك
عرفات جيداً أنه وصف للوثنيين الذين كانوا يسكنون فلسطين، وكأن تاريخ فلسطين
خلا من شيء يعتز به عرفات إلا الحقبة الوثنية! !
وبالرغم من أن أمريكا وإسرائيل تتعاملان الآن مع عرفات باعتبار أنه يعيش
فترة ما بعد انتهاء تاريخ الصلاحية سياسياً إلا أنهما يعلمان أن بوسعه فعل المزيد
لدفن القضية التي تصدى لزعامتها منذ أن أسس حركة (حتف) [3] التي تحولت
إلى (فتح) ! فلا تزال فتوح عرفات تتوالى، حتى بعد أن تم حبسه على يد
شارون في مربع صغير محاط بالدبابات الإسرائيلية في رام الله، لقد تعهد عرفات
بإجراءات لمحاربة (الإرهاب) الفلسطيني، وبدأ هذه الإجراءات بتحديد إقامة
الشيخ أحمد ياسين في منزله مع قطع كل وسائل الاتصال عنه، وثنَّى ذلك باعتقال
نحو مئتين من نشطاء حماس والجهاد الإسلامي، وأغلقت سلطته مكاتب تلك
الحركات بالشمع الأحمر، وحاصرت أنشطتها السلمية الاجتماعية والثقافية بدعوى
التحرز من (تفريخ) الإرهاب! ! فهنيئاً لدولة اليهود بعد ذلك بصروحها التعليمية
التوراتية التي تشمل كافة المراحل التعليمية والتي ستفرخ لأحفاد عرفات مخلوقات
تلمودية أسطورية ستكون في طلائع جيش الدجال!
عرفات المشغول منذ مدة بسبل إنهاء الانتفاضة للمرة الثانية لا يحارب
العناصر الجهادية فقط، بل يحارب الإرادة الشعبية الفلسطينية كلما حاولت الخروج
عن الخط العلماني الصارم، وعندما خرجت تظاهرات تلقائية في رمضان الفائت
تعاطفاً مع الشعب الأفغاني أثناء تعرضه للتنكيل الأمريكي، أطلقت قوات عرفات
عليهم الرصاص الحي، وَأرْدَتْ عدداً منهم قتلى، وعندما تدافعت جموع من
المواطنين الفلسطينيين العزل لاقتحام أحد سجون الشرطة أو السلطة الفلسطينية
للإفراج عن أقاربهم وذويهم المعتقلين، غضب عرفات غضباً شديداً إلى حد أن
صفع أحد أعوانه وهو (جبريل رجوب) رئيس جهاز الأمن الوقائي على وجهه
متهماً إياه بالإهمال في القيام بدوره (الوطني) و (الوقائي) !
لا ينبغي أن يظن أحد أن سلطة عرفات تخطط لإجراءات ضرب الحركات
الجهادية أو تنفيذها بمفردها، بل إنها تأتي نتيجة (تنسيق أمني) لم يتوقف تحت
أي ظرف من الظروف حتى في أحلك أوقات التضحيات؛ فمع كل الأخبار التي
نسمعها عن استمرار اليهود في الاغتيالات والتصفيات والهدم والقصف من البر
والبحر والجو، نسمع عن استمرار الاجتماعات الأمنية (المشتركة) التي لم يسفر
اجتماع أمني واحد منها عن اعتقال (إرهابي) إسرائيلي واحد، ولو باعتبار أن
اللجان مشتركة! !
يؤسفنا أن نقول إن عرفات ليس مسؤولاً وحده عن جريمة ضرب الإرادة
الإسلامية في فلسطين، ولكن يشاركه في ذلك كل من ساهم في جعله الممثل الوحيد
للقضية الفلسطينية في العقد الأخير.
بماذا كوفئ عرفات مقابل كل هذا الذل والتنازل؟ ! .. إنه يكافأ بمزيد من
الإذلال، وسبحان الله! فهذا دأب اليهود والنصارى دائماً مع من يتخذونهم أولياء
من دون المؤمنين، منذ ابن العلقمي وحتى الشريف حسين! ولكن المؤسف أن
جزاء (سنمَّار) لا يلقاه عرفات وحده، أو يقتصر على من معه، ولكن يعود أكبر
ضرره على شعبه الذي وثق به وسلمه قياده ... فكلما أبدى عرفات مذلة واستكانة،
دفع الإسرائيليون بمزيد من الدبابات إلى أرض السلطة، وكلما أعلن الالتزام
بقرارات السلام، مضى الإسرائيليون في الاقتراب من طريق الحرب الشاملة،
وكلما استجدى لقاءً ببوش أو شارون لتحقيق (أمل العودة) إلى المفاوضات، قال
له شارون: تأدب! ! .. انتظر.. برهن على أنك تحب السلام ولو بأسبوع واحد
من الهدوء التام وسط قصف الأباتشي في جنح الظلام!
إن شارون الذي يعلم أن عرفات لم يعد بوسعه أن يمنع ثورة الغضب
الفلسطيني، ظل طوال الانتفاضة يطالبه بتلك البنود المحددة لكي يبرهن على أنه
مع (إسرائيل) في حملتها الخاصة بها ضد الإرهاب، في ظل يكرر تلك المطالب:
- القيام بمزيد من حملات الاعتقال حتى لا يبقى من يحمل حجراً أو يشعل
إطاراً.
- تجريد كل من يحمل السلاح من السلاح، إلا من يحمل هذا السلاح لحماية
أمن إسرائيل.
- تدمير ما يُجمع من السلاح بإشراف إسرائيلي وتنفيذ فلسطيني.
- التعهد بتحمل المسؤولية عند حدوث أي أعمال فدائية أو استشهادية.
- الاشتراك في وضع خطط أمنية جديدة تنفذها السلطة بإشراف الأمن
الإسرائيلي.
- إنهاء كل أشكال التحريض على الدولة العبرية في الإعلام والتعليم والوعظ!
وسواء استطاع عرفات وسلطته تحقيق (استحقاقات السلام) هذه أو عجز
عنها وسواء أراد ذلك أم لم يرده، فإن الحقيقة الثابتة التي لا ندري أيعرفها عرفات
ورفاقه أم لا؛ هي أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه، حتى يتبع ملتهم،
فشارون وبرغم كل ما فعله عرفات قال: «إن عرفات أصبح خارج اللعبة» ولهذا
عقد اجتماعات مع كل من محمود عباس (أبو مازن) أمين سر منظمة التحرير
الفلسطينية، وأحمد قريع (أبو العلاء) رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، دون
أن يمن على عرفات بقبول دعوة واحدة لعودة واحدة إلى (مائدة المفاوضات) التي
طال حنينه إليها! وإضافة إلى هذا الحرمان التأديبي، ظهر مؤخراً من خلال
مواقف الزعامات العربية من اعتقال (الرئيس) عرفات، أن هناك ما يشبه الاتفاق
على أن زمان عرفات فات! ! لأن هذا الموقف (السلبي) من إهانة شارون
لعرفات على ذلك الوجه المخزي، لا يمكن إلا أن يكون صادراً عن معرفة بأن
تصريحات الأمريكيين ومواقفهم الأخيرة من عرفات ليست مجرد مشاعر سخط
عليه، بقدر ما هي بوادر إنهاء للمشهد الأخير من مسلسل تاريخه (النضالي)
المستمر منذ ما يقرب من أربعين عاماً دون تحقيق هدف فلسطيني واحد.
وهذا ما أظهرته تصريحات كبار أركان الإدارة الأمريكية بدءاً من بوش الذي
رفض مقابلة عرفات حتى عندما كان في واشنطن، والذي صرح بعد قصة تهريب
سفينة الأسلحة أن أمله خاب في عرفات، ومروراً بنائب بوش (ديك تشيني) الذي
قال عن عرفات: إنه كذاب لا يمكن تصديقه، وانتهاء بأنتوني زيني (مبعوث
السلام إلى الشرق الأوسط) الذي وصف عرفات بأنه (زعيم مافيا) !
ما سبق ذكره عن الأحوال في باكستان وفلسطين، إنما يعطي مثالين فقط لما
يمكن أن تكون عليه مواقف الأنظمة العلمانية في أثناء الحرب الأمريكية المعلنة
على الإسلام، وإلا فإن أقوال وأفعال ومواقف المنافقين، لا تزال تصم الآذان وتأخذ
بالأبصار. وإن من مزيد التغرير بالأمة، والإغراق في إغرائها بالأوهام؛ أن يقال
لها عن أصحاب الرايات العلمانية رايات النفاق العتيدة، أنها ستكون أهلاً لحفظ
الأمانة الآن، بعد أن ضيعتها منذ أزمان، فيقيننا أن المنافقين لم ولن يكونوا يوماً
مع مصلحة الأمة ضد أعدائها، بل العكس هو الصحيح، فهذا درس التاريخ
المتكرر. نعم قد يحاربون باسم المصلحة الوطنية أو الرابطة القومية أو غيرها من
الرايات العِمِّية؛ ولكنهم سيكررون الفضائح والهزائم ما داموا مستكبرين عن رايات
الإسلام معتزين بها.
حتى لا نختلف:
أعرف أن مثل هذا الكلام سيثير نقاشاً وربما اختلافاً في شأن قضية النفاق
ومدى انطباقها أو عدم انطباقها على كثير من الأوضاع في عالمنا العربي والإسلامي،
فليكن ... فمتى توقفت الأمة عن الاختلاف في شأن المنافقين؟ فهذا من بلائهم
وشؤم سيرتهم في كل زمان ومكان؛ لكني أكرر ما سبق قوله من أن المقصود هنا
ليس الكلام عن أحكام أعيان وأشخاص، وإنما الكلام على رايات ترفع ومناهج
تعتمد، لا يستطيع أحد أن يزعم أنها إسلامية ولا حتى أصحابها، والأمر هنا ليس
قاصراً على أنظمة ترفع تلك الرايات العِِمِّية مصرة عليها، ولكنه يشمل هيئات
ومنظمات ومنابر وتشمل شخصيات ثقافية وصحافية تخرج على الأمة كل حين
بكلمات تكتب بمداد من السم لا تهدف لشيء إلا لإشاعة الإحباط واليأس والنفور من
كل شيء يتعلق بالعمل الإسلامي والأمل الإسلامي بنصرة الإسلام.
لقد اختلفنا كثيراً في شأن رايات النفاق، اختلفنا في توصيفها وفي الموقف
منها وفي كيفية التعامل معها، ووقعنا في حبائل المنافقين التي ينصبونها باختيار
أسماء وصفات لهم، نظل نلف وندور حول معناها ومبناها وحكمها وحكم من يدعو
إليها، ومن ذلك أوصاف: (العلمانية) (الحداثة) (العصرانية) (الاستنارة)
وغير ذلك، ولا يتوقع أن يخف هذا الخلاف إلا باتفاق على اعتبار النفاق بدرجاته
المختلفة وصفاً جامعاً يجمع أصحاب كل الرايات غير الإسلامية، أما التفصيلات
في أحكام ما يُخرِج وما لا يُخرِج من الملة من أفعال وأقوال المنافقين في الواقع
فسيظل الاختلاف فيه دون حسم، ولكن هذا الخلاف الواقع أو المتوقع في أمر
المنافقين ينبغي أن تكون له حدود، أدناها ما يأتي:
* ألا نخرجهم وقد شهدوا على أنفسهم بالنفاق بالأعمال والأقوال عن وصف
المنافقين على مستوى الرايات.
* وهذا يستلزم ألا نختلف في وجوب عدم إسباغ الشرعية على أوضاعهم
المنحرفة عن الدين.
* ألا يمنعنا وصف تلك الرايات بالنفاق بشكل عام، ومن وصف بعضها
بالردة الصريحة إذا توافرت الدواعي الشرعية لذلك.
* ألا نختلف عند ظهور علامات النفاق الأكبر من بعضهم أنهم محل لإنكار
المحتسبين أو جهاد المجاهدين بحسب ما تمليه الأحكام والأحوال.
* ألا نحلهم محل المخلصين في إحسان الظن بهم أو جمع الأمة حولهم؛ لأن
حالنا وقتها سيكون حال من يعالج الداء بالداء، أو من يبغي العمار ببذل أسباب
الدمار.
ودون هذه الحدود الدنيا في التعامل مع المنافقين، سنكون واقعين شئنا أم أبينا
في محذور قرآني عظيم، حذر الله تعالى فيه الأمة من الاختلاف الضار في شأن
المنافقين، عندما قال سبحانه: [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا
كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً] (النساء
: 88) وهذه الآية، حكى المفسرون في سبب نزولها نحو سبعة أقوال [4] ، ولكن
أقواها كما رجح الطبري رحمه الله أنها نزلت في شأن قوم كانوا قد نزلوا المدينة
مسلمين، ثم عادوا إلى مكة والتحقوا بالمشركين بحجة عدم الصبر على جو المدينة
المليء بالأوبئة [5] ، فاختلف الصحابة في الموقف الواجب اتخاذه منهم: فريق رأى
وجوب التبرؤ منهم لموالاتهم للمشركين، وفريق قالوا: إخواننا يتكلمون بكلمتنا؛
فمالوا إليهم ودافعوا عنهم، فأنزل الله تعالى قوله: [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا] (النساء: 88) . قال القاسمي في تفسيرها: «أي:
فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين (فئتين) أي فرقتين، ولم تتفقوا على التبرؤ منهم،
والاستفهام للإنكار، والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيخ
متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم
وتواليهم، وفرقة كانت تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك، وأمروا بأن يكونوا على
نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم» [6] .
وتعليل التعجيب في الآية من موقف الملاينة من بعض المؤمنين تجاه المنافقين
أن الله تعالى قد أظهر نفاق أولئك المنافقين بأمور ما كان ينبغي أن يختلف في
شأنها، وأوضحها ارتكاسهم مردودين إلى جانب الكفار موالاة لهم أو هجرة إليهم
بحسب سبب نزول الآية، وهذا واضح الدلالة على ضلالتهم، ولهذا قال سبحانه
للمؤمنين الذين أحسنوا الظن بهم والأمر كذلك: [أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ]
(النساء: 88) أي: يعني: «أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم
عن الحق واتباع الإسلام» [7] «ثم استُؤنف الكلام بإيضاح علامة تدل على نفاق
المنافقين بوجه عام، وهي علامة (إرادة الضلال) الملازمة لهم، والمميزة لهم
عن سائر العصاة، فإرادة إضلال الأمة بإغراقها في الشبهات والشهوات، هي من
سمات المنافقين البارزة التي تبدأ في الشبهات من البدع حتى تنتهي إلى الكفر وتبدأ
في الشهوات بالتهاون في المعاصي حتى تنتهي إلى محبة نشر الفواحش، ولهذا قال
الله تعالى بعد آية النساء المذكورة آنفاً: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ
سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا] (النساء: 89) ؛ فقطع الولاية عنهم
حتى يقطعوا ولايتهم عن الكفار الظاهرين، ولم يكن ذلك ممكناً وقتها إلا بالهجرة
من بين المشركين. فإرادة الإضلال بالشبهات من سبيل المنافقين، وإرادة الإغواء
بالشهوات من سبيلهم أيضاً، كما قال سبحانه: [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً] (النساء: 27) ، وقال: [إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النور: 19) ، إن الآيات المذكورة من سورة النساء، في
قوله تعالى: [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ] (النساء: 88) توجب على الصف
الإسلامي أن يكون له موقف متميز غير متميع من النفاق وأهله.. لهذا قال الرازي
في تفسير تلك الآية:» دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين
والمشتهرين بالزندقة والإلحاد، وهذا بعموم قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ] (الممتحنة: 1) ، والسبب فيه أن أعز الأشياء
وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين؛ لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله
تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة
الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في
الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلاً فيه [8] .
إننا نحن الإسلاميين لا نزال مختلفين في شأن المنافقين إلى فئتين؛ فمنا من
يرى شرعاً وجوب احترامهم وطاعتهم والتجمع حولهم مهما بدا أو خفي من أمرهم،
ومنا من لا يرى ذلك كذلك، بل يرى أن هناك تكاليف شرعية متوجبة علينا تجاههم،
لم تأخذ حقها من النظر أو العمل.
وعلى كل حال فإن الإسلاميين مهما اختلفوا في شأن المنافقين، فإن ذلك لن
يغير من حقيقة عدم اختلاف المنافقين في شأنهم، نظريًا أو عمليًا ولن يغير من
حقيقة عدم اختلاف المنافقين في شأنه نظريًا أو عمليًا، ولن يغير من حقيقة أن
الدنيا تتجه بسرعة في أزنتها المقبلة إلى انقسام حاد وجاد بين معسكرين متميزين لا
ثالث لهما: معسكر إيمان وصبر لا يصبر على البقاء فيه إلا المؤمنون الصادقون،
ومعسكر كفر وفجر سيتتابع إلى اللحاق به المنافقون والخائنون، وهذا ما أخبر به
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عندما حدث أصحابه عن تتابع الفتن التي
ذكر منها (فتنة الأحلاس) ثم (فتنة السراء) ثم ذكر (فتنة الدهيماء) التي وصفها
بقوله: (لا تدع أحدًا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت،
يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، حتى يصير الناس إلى فسطاطين:
فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه) [9] .
ولا حل في التعامل مع النفاق وأهله إلا بذلك الهدي النبوي العظيم (فمن
جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو
مؤمن؛ وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان) [10] .
__________
(1) قال قتادة: (إنها في كفار أهل الكتاب) ، وقال ابن عباس والضحاك والسدِّي:
(هم المنافقون) ، انظر: تفسير القرطبي (16/ 249) .
(2) تفسير أضواء البيان، (10/ 196) .
(3) (حتف) هي الحروف الأولى من عبارة (حركة التحرير الفلسطينية) .
(4) ذكرها ابن الجوزي في تفسيره، انظر زاد المسير (2/155) .
(5) انظر تفسير الطبري للآية (88) من سورة النساء (م4، ج5، ص 122) ، طبعة دار الحديث بالقاهرة.
(6) انظر: تفسير القاسمي للآية (88) من سورة النساء (5/1435) .
(7) تفسير الطبري، م4، ج 5/123.
(8) التفسير الكبير، للرازي (10/ 227) .
(9) أخرجه أبو داود في سننه، باب الفتن، ح1، انظر: بذل المجهود في حل سنن أبي داود،
(17/ 132) ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ح (3567) ، (4240) (2/ 798) .
(10) رواه مسلم، ح / 50.(173/78)
المسلمون والعالم
باكستان إلى أين؟
عبد الغفار عزيز [*]
ينص الدستور الباكستاني على أن اسم الدولة هو: «جمهورية باكستان
الإسلامية» ليس هذا فحسب؛ بل ينص في مقدمته على أن: «الله هو الحاكم
المطلق لهذا الكون، ولا شريك له في ذلك، وأن حق السلطة وصلاحياتها الذي
حصل عليه شعب باكستان أمانة مقدسة لديه» . وأن: «شعب باكستان يرغب في
تشكيل نظام تستخدم فيه الدولة صلاحياتها وسلطاتها عبر ممثلي الشعب المنتخبين
لتسود فيه مبادئ الديمقراطية والحرية والمساواة والتسامح والعدل الاجتماعي،
ويهيأ فيه المسلمون لأن يعيشوا حياتهم الفردية والجماعية وفق التعاليم والمقتضيات
الإسلامية كما حددها القرآن والسنة» .
ثم ينص الدستور في بند 227 على أن «جميع قوانين الدولة تسن وفق
الأحكام الإسلامية، ولا يمكن سن أي قانون يتنافى مع هذه الأحكام» .
وفي بند 228 ينص الدستور على تشكيل مجلس يسمى «مجلس الفكر
الإسلامي» يعينه رئيس الدولة ووظيفته أن يقدم توصياته إلى البرلمان المركزي
والبرلمانات الإقليمية حتى تصبح الحياة الفردية والجماعية لمسلمي باكستان وفق
مبادئ القرآن والسنة تماماً، وصفة المجلس صفة دستورية رسمية.
المجلس المشار إليه يعمل منذ عام 1973م، وتمكن أعضاؤه العلماء والقضاة
من إعداد توصيات شاملة لأسلمة جميع مجالات الحياة، ولا تفتقر إلا لإرادة الحكام
وقوتهم التنفيذية لتصبح باكستان دولة إسلامية مثالية يضرب بها المثل، وتتخلص
من جميع التخلف والرجعية والإرهاب التي يزعم الرئيس برويز مشرف أنه
بخطواته الأخيرة سوف يتخلص منها، ويجعل من باكستان دولة متقدمة.
جاء خطاب الرئيس الشهير وخطواته التاريخية في خضم الصراع والتوتر
بين باكستان والهند، وبعد انتظار وضجة إعلامية كبيرة، وقال عنه رئيس
الوزراء البريطاني قبل خمسة أيام من بثه: «إن الخطاب سوف يغير مجرى
التاريخ الباكستاني» . ودعت الإدارة الأمريكية مخاطبة الحكومة الهندية أن «تلتزم
الصبر والتأني وتنتظر كلمة الرئيس التي ستجد الهند فيها ما يخفف من قلقها»
وقال المسؤولون في إدارة بوش: «إننا على علم بما يأتي في خطاب الرئيس
وعلى اتصال دائم به» . ثم كان الخطاب وكان ذا شقين: الجانب الكبير منه كان
حول الأوضاع والسياسات الداخلية، والآخر كان حول قضية كشمير والوضع
العسكري المتأزم.
أما القضية الكشميرية فكان الموقف منها سليماً ومبنياً على المبادئ والذي
أكسب الرئيس نوعاً من التعاطف الشعبي الذي استغله الرئيس أو أوجده لتمرير ما
يريده من التغييرات الداخلية. هذا الجانب كان منصبّاً على «التزمت» الديني
وعلى «الإرهاب» باسم الجهاد والمدارس الدينية التي لا تنتج إلا
«المطاوعة» ، و «أئمة المساجد» ، يخطبون في الناس وأوداجهم منتفخة
(حسب وصف الرئيس) وعلى أننا نحتاج إلى «الجهاد الأكبر» والانصراف
عن الجهاد «الأصغر» وعلينا بأنفسنا أولاً، نبني دولتنا وننمي اقتصادنا ولا
«نحشر أنوفنا» في قضايا العالم الإسلامي كله.
ثم شرع بإعلان الخطوات الهامة التي سوف تضمن التنمية للبلاد حسب اعتقاد
الرئيس، وأهم هذه الخطوات هي:
* تسجيل المساجد والمدارس في مدة أقصاها نهاية شهر آذار مارس القادم.
* إدخال التعديلات في مناهج المدارس الدينية.
* حظر خمس منظمات: اثنتان منها جهادية وهما: جنود طيبة (السلفية)
وجيش محمد (الديوبندية سنة) ، وثلاثة منها شبه سياسية هي: جيش الصحابة
(سنية ديوبندية) الحركة الجعفرية (شيعية) وحركة تنفيذ الشريعة (حركة ناشئة
في المنطقة القبلية من ولاية الحدود الشمالية والتي ذهب زعيمها وآلاف من أتباعها
إلى داخل أفغانستان لدعم حركة الطالبان أثناء الهجوم الأمريكي وقتل منها حوالي
ألف شخص) .
* عدم إثارة الناس أو حثهم على دعم الجهاد أو المشاركة فيه.
* عدم جمع التبرعات لصالح الجهاد.
* عدم استخدام مكبرات الصوت إلا للأذان أو خطبة الجمعة.
* تسجيل الطلبة والأساتذة الأجانب قبل 23 من (آذار) مارس المقبل بعد
الحصول على شهادة «لا مانع» من سفارات دولهم ومن الداخلية الباكستانية، وإلا
فسوف يطردونهم بعد ذلك.
لو كان هذا الخطاب وهذه الخطوات قبل أحداث 11 سبتمبر لكان له وقع آخر
وتأثير مختلف، ولكن لأنه يأتي بعد تلك الأحداث، ويسبقه اهتمام بالغ من
الحكومات الغربية وتتبعه إشادة وتشجيع وتصفيقات دولية متتالية تثير عديداً من
الاستفسارات حوله فالناس مستغربون بين هذا الربط بين القضية الكشميرية والتوتر
العسكري بين الهند وباكستان وبين التشديد على المدارس والمساجد الدينية مع
الإصرار على أنه ليس هناك أي ضغط خارجي علينا في هذا الصدد!
توقعت الحكومة الباكستانية أن هذه الإعلانات أو هذه الاستجابة للمطالب
الأمريكية الهندية المشتركة سوف تخفف علينا من الضغوط العسكرية التي تسببها
الحشودات الهندية، ولكن دون جدوى، بل زادت لهجة الخطاب الهندي حدة
وضراوة، وتجاوزت التهديدات العسكرية من حشود القوات إلى تجارب جديدة
للصواريخ البالستية القابلة لحمل الرؤوس النووية، وبدأت الحكومة الهندية تعد
قوائم جديدة للمطلوبين لديها واللاجئين (حسب زعمها) إلى باكستان، تحت رعاية
رسمية من الوكالات الاستخباراتية. ولم تجن باكستان من وراء هذه التنازلات
سوى كلمات مدح عقيمة من الإدارة الأمريكية وإشادة الرئيس بوش بخطوات
الجنرال برويز مع المطالبة بمزيد من الخطوات العملية «لقمع الإرهاب
والإرهابيين» وتصريحات السفيرة الأمريكية لدى إسلام آباد بأننا قد أعددنا خطة
بعيدة المدى «لتنمية» باكستان، وأننا لن نتخلى عن «صداقة» باكستان، وأن
أولوياتنا في باكستان هي المساعدة على تصحيح مسار التعليم ودعم القطاع النسوي
حتى يحصل على حقوقه وتوفير الخدمات الصحية.
وفي الجانب الآخر استفادت الهند من حظر الأحزاب الدينية، ووجدت مادة
سياسية ودبلوماسية وإعلامية دسمة لدعم هجومها ضد «الإرهاب الباكستاني» في
الهند وفي كشمير، وقالت إن الجنرال برويز قد اعترف بنفسه بأن هذه المنظمات
منظمات إرهابية بعد أن كان ينفي ذلك، كما استغلت الهند خطاب الجنرال
وخطواته لكسب مزيد من التعاطف الغربي معها.
ومن هنا يبرز عديد من الأسئلة حول ما كان يقال عن الجنرال برويز بأنه
جندي محترف ووطني مخلص ولا يتنازل أمام التهديدات الهندية، وثبت ما كان
يتداول عنه في الأوساط الشعبية من أنه علماني يتلهف إلى علمنة البلاد، ويعتبر
كمال أتاتورك قدوته وأنه قيادة نموذجية يحتذى بها، ويريد أن ينال من الثوابت
الوطنية والدينية لصالح حكمه.
بعد خطابه هذا وخطواته تجاه المدارس والمناهج التعليمية اتجه الرجل نحو ما
سماه الإصلاحات السياسية والتعديلات الانتخابية، وأعلن أحد جنرالاته «تنوير
حسين النقوي» تعديلات هامة في العملية الانتخابية رفع فيها عدد المقاعد في
البرلمان، واشترط على المرشحين أن يكونوا من حملة شهادة البكالوريوس؛ ولكن
أهم هذه التعديلات هي:
* إلغاء نظام الفصل بين المسلمين وغيرهم في التصويت وفي الترشيح،
وفرض نظام التصويت المخلوط، وبذلك أصبحت الأقليات صاحبة تصويت
وترشيح عامٍّ بعد أن كان للأقليات مقاعد معينة تملأ عن طريق الأقليات.
* تخصيص 60 مقعداً للنساء بعد أن كان العدد عشرين مقعداً.
فهذان التعديلان كانا من أهم ما كان يطالب به الغرب وأذنابه، وكانوا يتهمون
باكستان بأنها تمارس الفصل بين رعاياها على أساس المذهب والجنس. وكان ردنا
عليهم بأن المقاعد المنفصلة للأقليات تحفظ لها حقوقها وتضمن وصولهم إلى
البرلمان، وأن إلغاء هذا النظام قد لا يمكِّن أحداً من أبناء الأقليات أن يصل إلى
البرلمان.
ولكن دعاة الاختلاط في التصويت يستهدفون أمرين أساسيين:
أولهما: القضاء على «نظرية الشعبين أو نظرية الأمتين التي تؤكد على أن
المسلمين أمة وغير المسلمين أمة؛ وهذه النظرية هي التي أوجدت باكستان دولة
منفصلة عن دولة الهندوس.
وثانيهما: أن هدف التصويت المخلوط هو التستر على القاديانيين الذين
يصرون دائماً على أنهم مسلمون ولا بد أن يعاملوا بوصفهم مسلمين. بهذا التعديل
الجديد أصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه أمامهم لأن يدخلوا في صفوف المسلمين
للتأثير على النتائج الانتخابية لصالح من يضمن لهم مصالحهم.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن زعيم القاديانية» ميرزا طاهر «المقيم في لندن
كان أبرز من رحب بتولي برويز مشرف مقاليد الحكم في باكستان، وأن هناك
إشاعات قوية حول عدد من كبار المسؤولين في حكومة برويز بأنهم ذوو أصول
قاديانية. ومن بين من يقال عنه بكل تأكيد وإصرار إنه ذو أصول قاديانية زوجة
الرئيس» صهبا برويز «.
كما تجدر الإشارة إلى أن زعيم القاديانية ومؤسسها» ميرزا غلام أحمد «
القادياني هو أهم من تبنى وروج نظرية» أن أيام الجهاد المسلح قد تولت، وأنه
وضع عن المسلمين فريضة الجهاد بالسيف؛ لأنه هو المسيح الذي من اختصاصاته
أنه يضع الجهاد عن المسلمين «، ولم يخف» ميرزا غلام «أنه يؤدي بذلك خدمة
للاستعمار الإنجليزي وفاءً له؛ لأنه أفضل من حكم البلاد ولا بد من رد الجميل.
أما الإعلان الأخير الذي توفر له الوسائل الإعلامية الحكومية كثيراً من أوقاتها
ومساحاتها فهو إعلان الجنرال بأنه سيستمر في رئاسة الدولة حتى بعد الانتخابات
المزمع إجراؤها في أكتوبر القادم. وأنه يعتبر وجوده في الحكم ضرورياً وحتمياً
للحفاظ على مصالح البلاد وتنميتها.
التعديلات الانتخابية الجديدة يحتاج تنفيذها إلى تعديلات في الدستور الأساسي
والتعديل في الدستور الأساسي يحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء البرلمان؛ ولا
يوجد في الدولة أي برلمان، ورغم ذلك فإن الجنرال مصرٌّ على أن التعديلات
الانتخابية سوف تنفذ ولا أحد يستطيع أن يحول دون ذلك. إن هذا يعني أن
الجنرال سوف يجري بنفسه تعديلات في الدستور وهو بذلك يؤدي دور البرلمان
أيضاً بعد أن تولى مهام الرئيس ورئيس الحكومة ورئيس الجيش ورئيس مجلس
الأمن الوطني.
أما الولايات المتحدة الأمريكية التي تتغنى دائماً بالديمقراطية وللديمقراطية
وبحقوق الشعب فتعتبر الجنرال برويز» أملها الأخير في باكستان «كما وصفه
أحد المسؤولين في إدارة بوش، ولا يجد الرئيس بوش في كلمته السنوية سوى
الجنرال برويز وحامد كرزاي ليشيد بهما، في حين كان يعتبر نصف العالم عدواً
له وراعياً للإرهاب. علماً بأن الجنرال برويز هو نفس الجنرال الذي رفض
الرئيس كلينتون أثناء زيارته» التاريخية «لباكستان والتي استغرقت» ست
ساعات كاملة «بعد زيارة للهند دامت عدة أيام، رفض أن يصور وهو يصافح
برويز مشرف؛ لأنه لا يمثل إرادة الشعب ولم يأت إلى الحكم عبر صناديق
الاقتراع.
فهل هذا يعني أن المنصب الجديد أي المنصب الجامع لكل المناصب
الدستورية والتنفيذية والعسكرية أصبح شفيعاً للجنرال لدى الأمريكان، رعاة
الديمقراطية والحقوق؟
لكن ماذا عن الأوساط الداخلية؟ اعتبر القاضي حسين أحمد أمير الجماعة
الإسلامية أنه لا توجد لدى الحكومة أية حجة قانونية لإلقاء القبض عليه، ولكن
الجنرال برويز لا يريد أن يعطي لمعارضيه حق التعبير عن الرأي، وهذا هو
السبب الوحيد الذي من أجله اعتقلته الحكومة مرة أخرى بعد أن أكد المدعي العام
أمام المحكمة العليا أن الحكومة تطلق سراحه. نعم أطلقت سراحه لكن دون أن
تسمح له بأن يبرح مكانه؛ وبعد بضع دقائق أعادت اعتقاله بحجة قضية سجلت
ضده قبل ثلاث سنوات عند زيارة رئيس الوزراء الهندي لباكستان واحتجاج
الجماعة على زيارته قبل إعطاء الشعب الكشميري حق تقرير المصير.
اعتبرت الجماعة الإسلامية وغيرها من الأحزاب الدينية والسياسية إعلان
الجنرال باستمرارية رئاسته حتى بعد الانتخابات أنه بداية التزوير الانتخابي. علماً
بأن رئيس الدولة لا ينتخب إلا عن طريق البرلمان؛ فكون برويز مشرف يعلن أنه
يستمر في رئاسة الدولة لمدة أقلها خمس سنوات فهذا يعني أنه يريد أن يضمن
البرلمان الذي ينتخبه رئيساً بلا منازع.
سياسة برويز مشرف في هذا الصدد هي سياسة تقسيم الأحزاب وسياسة
التلويح بالعصا تارة وبالجزرة تارة أخرى. بدأ الجنرال تقسيم حزب الرابطة
بزعامة نواز شريف، واستطاع أن يفصل عنه عدداً كبيراً من الإقطاعيين الذين
أصبحوا يشكلون حزب الرابطة (مجموعة قائد أعظم جناح) والآن يحاول تقسيم
حزب الشعب.
مقابل السياسة البرويزية هذه بدأت الأحزاب السياسية المختلفة تعيد ترتيب
صفوفها، فاجتمعت الأحزاب الدينية الرئيسية: الجماعة الإسلامية (قاضي حسين
أحمد) جمعية علماء باكستان (شاه أحمد نوراني) جمعية علماء الإسلام (مولانا
فضل الرحمن) جمعية أهل الحديث (بروفيسور ساجد مير) جمعية علماء الإسلام
(مولانا سميع الحق؛ لتشكل مجلس العمل الموحد، وتوفر نواة تجتمع حولها
أحزاب سياسية مختلفة، وتخوض الانتخابات مجتمعة لا متفرقة. والأحزاب
السياسية المرشحة لأن تنضم إلى هذه الكتلة هي حزب الرابطة (نواز شريف) ،
وحزب جمهوري (نواب زاده نصر الله خان) ، وحزب جمهوري وطن (سردار
أكبر بكتي) ؛ علاوة على عديد من الشخصيات العسكرية والسياسية البارزة.
ويتوقع أن تأخذ الانتخابات صورة تظهر أنها بين الكتلة المؤيدة للجنرال برويز
مشرف وبين الكتلة المعارضة له، وهناك فجوات سياسية محايدة تتم من خلالها
اتفاقات محلية بين الأحزاب المختلفة من الكتلتين.
مهما كانت النتائج، فإن الأمر الذي يُجمِع عليه المراقبون أن وضع برويز
مشرف السياسي يتوقف على النتائج الانتخابية، وبعد ذلك لا يمكن للجنرال أن
يستمر في سياساته كما يشاء؛ بل يكون البرلمان الذي لا بد أن يحاول إثبات وجوده
مهما تمكن الجنرال من تقليم أظافره أو تحديد ملامحه حسب هواه أثناء الانتخابات
وبعدها.
__________
(*) مدير قسم الشؤون الخارجية في الجماعة الإسلامية، الباكستان.(173/86)
المسلمون والعالم
الجنوب.. مدخل الصليبية إلى السودان
مصعب الطيب بابكر [*]
قد يبدو غريباً أن نعلم أن جنوب السودان الذي يمثل الآن قاعدة صليبية حيوية
لفرض النصرانية وصد انتشار الإسلام إلى أعماق إفريقيا هو نفسه جنوب السودان
الذي دخله الإسلام قبل النصرانية بعدة قرون [1] ؛ بل إن مملكة الفونج الإسلامية
«السلطة الزرقاء» (1500 1821م) كانت من أصول جنوبية [2] ، كما أن
قبائل الجنوب كانت أكثر تجاوباً مع حركة المهدي الإسلامية (1885 1898م) ؛
إذ أخذت بعض القبائل بتقليد لباسها وأعلامها وصيحاتها في الحرب بصورة
عفوية، وهاجرت إليه قبائل أخرى لمبايعته طوعاً [3] ؛ في حين أن تلك القبائل
قابلت الإرساليات التنصيرية الأولى بتوجس ونفور شديدين؛ إذ لم تفلح تلك
الإرساليات منذ مقدمها عام 1846م ولمدة خمسة عشر عاماً في تنصير فرد واحد مع
أنها فقدت في سبيل ذلك أكثر من أربعين مُنصِّراً، وقد كتب القس (رفيجو أنطوني
ماريا) عام 1901م قائلاً: «حينما بدأ مع الأب تابي العمل وسط الشلك لم يكونوا
يريدوننا وسطهم، كانوا يكرهوننا، وحاولوا مرتين أن يقتلونا» [4] .
غير أن هذه الغرابة ستتبدد تماماً حين ندرك مقدار المؤامرة والمكر الكبير
الذي أعاد تشكيل ذلك الإقليم، وأعده للعب دور فعال ومؤثر في صياغة هوية كل
السودان، وفي تكوين حائط ضد التوجهات العربية الإسلامية.
الجنوب: الجغرافيا والسكان:
تقدر مساحة المديريات الجنوبية بربع مساحة السودان تقريباً؛ كما يقدر
سكانها بربع مجموع السكان الكلي، ومجموع سكان السودان هو
(24. 99. 000 حسب تعداد 1993م) ، وتعيش في الجنوب أكثر من ستين
قبيلة لكل قبيلة لهجتها وتقاليدها الخاصة وعقيدتها التي تدين بها؛ إلا أن ثلثي
سكان الجنوب ينتمون إلى «القبائل النيلية» وهي (الدينكا، والنوير،
والشلك) ، بينما يتشكل الثلث الباقي من القبائل الأخرى ك (الأنواك، والأشولي،
والزاندي، واللاتوك) وغيرها. إن معظم أفراد تلك القبائل يدينون بما يعرف بـ
«المعتقدات الإفريقية» التي تتضمن الإيمان بالأرواح والسحر والشعوذة والحراب
المقدسة والأوثان. أما البقية الأخرى فلا تدين بأي عقيدة أو مبدأ سوى تلك
الحياة البدائية البسيطة.
البداية:
لم تحظ مجاهل السودان الجنوبية البعيدة باهتمام معتبر من قِبَل الممالك
النصرانية القديمة (كممالك النوبة ونبتة وكوش) ، ولا من الممالك الإسلامية
(كمملكة الفور والفونج) فيما قبل القرن التاسع عشر، كما انشغلت حركة المهدي
بالتوسع واستقرار الدولة في الشمال عن الزحف باتجاه الجنوب الذي كان يعيش في
حالة أقرب إلى الفوضى وانعدام السلطان، وباستنثاء التوافد التجاري لبعض
الأوروبيين فإن إرساليات التنصير لم تبدأ بصورة جدية إلا بعد إنشاء دائرة إفريقيا
الوسطى بأمر من البابا جريجوري السادس عشر عام 1846م، في محاولة لاستباق
البروتستانت والتجار المسلمين إلى المنطقة، ثم توالت بعد ذلك الإرساليات
الكاثوليكية والبروتستانتية والأنجليكانية والأمريكية وغيرها في سباق شره ومحموم
للاستحواذ على تلك الأقاليم [5] .
إن نشاط الهيئات التنصيرية في جنوب السودان طوال تاريخه وبمختلف
طوائفه وانتماءاته يهدف إلى عدة أمور يمكن من خلالها أن نفهم سر ذلك الحماس
المسعور الذي يقف خلف تلك الجهود، ومن أمثلة تلك الأهداف أو المسوغات:
1 - نظرة الحق الديني: تميزت مناطق الجنوب ببيئة جغرافية ومناخية
قاسية تسببت في هلاك عشرات القساوسة والمنصرين مما ألهب حمية الآخرين،
وأكسب القضية بعداً جديداً لتحفيز العمل الصليبي وليس تثبيطه. لقد أخذ المنصِّر
الإيطالي الشهير «دانيال كمبوني» العهد على نفسه وهو يشهد احتضار أحد
القساوسة بأن ينذر حياته لتنصير إفريقيا أو الموت على درب من سبقوه، وبدأ
القس «ليوللن قوبي» تأسيسه للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية بشعار (إعادة نصب
راية المسيح التي سقطت) ويقول: «إن على الكنيسة ألا تخلد إلى الراحة حتى
تستعيد ما كان لها مرة أخرى» [6] ، إن دوائر التنصير تتحدث عن إقليم الجنوب
السوداني كما لو أنه ملك لهم وحدهم لا يسع أحداً أن يزاحمهم فيه رغم أن تلك
الكنائس لم تقدم لأهل الجنوب طوال قرن ونصف ما يصلح أن تنبني عليه حضارة.
إن تلك المقاطعات الآن هي أكثر مناطق السودان جهلاً وتخلفاً وبدائية مع أن تلك
الكنائس كانت تستأثر بالسلطة والدعم الحكومي والإمداد الأجنبي لفترات طويلة
كانت كافية لإحداث تغيير كبير إن أريد له ذلك!
2 - محاربة الإسلام: إن الضغينة والحنق على الإسلام والرغبة العنيفة
لإقصائه هي أهم أهداف تلك الحملة الصليبية على المنطقة، إنها تدرك أنه لو نفذ
الإسلام إلى هناك فإن ذلك مدعاة لانتشاره في كامل القرن الإفريقي ومنابع النيل
ومنطقة البحيرات، وهي مناطق استراتيجية مهمة ومفصل حركة القارة، وهذه
ميادين لا مساومة فيها؛ ومن ثم سعت الكنيسة إلى نفي كل أثر يتعلق به من
الجنوب، لقد كتب اللورد كتشنر عام 1982م قائلاً: «ليس من شك في أن الدين
الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً من أهالي هذه البلاد فإذا لم تقبض القوى النصرانية
على ناصية الأمر في إفريقيا فأعتقد أن العرب سيخطون هذه الخطوة، وسيصبح
لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل،
وستقع البلاد في هذه العبودية» [7] . ويشرح القس «أرشيد كون شو» الأمر
فيقول عام 1909م: «إن لم يتم تغيير هذه القبائل السوداء في السنوات القليلة
القادمة فإنهم سيصيرون محمديين؛ إذْ هذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض
التبشير، إنها تمتد في منطقة شرق إفريقيا في منتصف الطريق بين القاهرة
والكاب» . ثم يقول: «إن كانت الكنيسة في حاجة إلى مكان لإيوائها فهو هنا لصد
انتشار الإسلام، والقضاء على تعاليم النبي الزائف» . ونحن نقول: وهو تماماً ما
تمت التوصية به في المؤتمر الإرسالي العالمي بأدنبرة عام 1910م: «إن أول ما
يتطلب العمل إذا كانت إفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح أن نقذف بقوة تنصيرية
قوية في قلب إفريقيا لمنع تقدّم الإسلام» [8] .
3 - فصل الجنوب: إن مجمل السياسات الجنوبية المصيرية في عهد الحكم
الثنائي (الإنجليزي المصري) كانت تصنع في الكنيسة؛ إذ إنها تملك الحضور
الفاعل في الميدان، وتملك المعلومات الاستخباراتية من شبكات كنائسها المنتشرة
في كل النواحي، وتملك أدوات التأثير والضغط على الإدارة الحكومية، وتملك
كذلك التمويل اللازم لتنفيذ سياساتها؛ ولذا كانت توجهات الإدارة الاستعمارية تسير
باتجاه فصل الجنوب [9] ؛ يتحدث عن ذلك السكرتير الإداري (ماكمايكل) فيقول:
«إنه من المعلوم أن تلجأ البعوث النصرانية خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد إلى
استخدام نفوذها في اتجاه فصل الجنوب» ، وعلى إثر ذلك أصدرت سياسة الجنوب
والمناطق المقفولة، كما كانت المؤسسات الإدارية الشمالية تقام بمعزل عن
رصيفاتها الجنوبية، وعملت الكنائس على إيجاد أبعاد أخرى لمسوغات الانفصال
بعد تحويل ديانة الجنوب إلى النصرانية كتعميق العنصرية، وإثارة الضغائن ضد
المسلمين من أهل الشمال، وتقوية اللهجات المحلية مع جعل الإنجليزية هي لغة
التواصل والثقافة. غير أن الإدارة الاستعمارية لأمر ما قد عدلت آخر أمرها عن
فصل الجنوب، فأصدر السكرتير الإداري (جيمس روبرتسون) في ديسمبر عام
1946م أمراً بإلغاء سياسة الجنوب، وأقام مؤتمر جوبا عام 1947م، ليرفع بعده
توصياته للحاكم العام بأن الجنوبيين يفضلون الوحدة مع الشمال، ولم تكن مطالب
الحركات الجنوبية أيام الاستقلال تتعدى الحكم الذاتي، وبعض المشاركة في
الحكومة المركزية.
ومهما يكن من أمر فإن قضية انفصال الجنوب قضية معقدة لا يخلو أي خيار
فيها من خسائر؛ لكن اليقين الوحيد هو أن القوى الصليبية لا تدعم وحدة راية
إسلامية ولا وحدة تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب. أما حين يكون الانفصال
فإن تلك القوى ستضغط باتجاه كسب حدود أوسع كثيراً بصورة تكفي لتحويل ميزان
الموارد الاستراتيجية ك «النفظ والثروة الحيوانية والمراعي» لصالح الجنوب، ثم
تقوم هي بباقي مهام بناء إمبراطورية صليبية هناك [10] .
4 - الدستور والشريعة: من خلال الأرضية المتينة التي توفرها الهيئات
الكنسية والصليبية للحركات الجنوبية تمكنت عبرها من عرقلة أي محاولة لإقامة
دستور إسلامي أو تطبيق الشريعة الإسلامية، ورغم أن كل الأحزاب السودانية
الكبيرة لا تستصحب أي نية جادة في تطبيق حقيقي للشريعة الإسلامية، كما أنها
تلتزم باستثناء المديريات الجنوبية منها. إلا أن مجرد إدراج عبارات فضفاضة
بإسلامية الدستور أو الشريعة يعد سبباً كافياً لإثارة حملة شعواء ضدها وضد كل من
يتبناها؛ فقد اعترضت المجموعات الجنوبية على النص بأن الإسلام دين الدولة
والعربية لغتها في محاولة عام 1957م لكتابة الدستور، وحينما تكونت اللجنة
القومية للدستور في إبريل عام 1967م كتبت الأحزاب الجنوبية مذكرة حذرت فيها
اللجنة من خطورة أي توجه نحو تضمين مواد إسلامية في الدستور، ومن داخل
الجمعية التأسيسية في يناير 1968م اعترض الجنوبيون على المواد المتعلقة
بالإسلام، وقال عنها العضو (وليم دينج) : «إنها الجزء المتعفن الذي يجب
إزالته حتى لا تتعفن به البقية» . لقد كانت حركة التمرد (الحركة الشعبية)
تتمسك بصلابة في كافة مفاوضاتها مع أحزاب الحكومات الانتقالية والمنتخبة بإلغاء
قوانين الشريعة التي أعلن عن تطبيقها العقيد جعفر محمد نميري في سبتمبر
1983 م. والعجيب أن حركات التمرد الجنوبية ومن ورائها المنظمات التنصيرية
تريد أن تفرض رؤيتها الدينية على الشمال والجنوب في الوقت الذي ترفض بشدة أن
يطبق الشمال رؤيته حتى في داخل حدوده الشمالية وحدها إن كان خياره
الإسلام! !
5 - تشكيل الهوية السودانية: لقد كانت الحركة التنصيرية تستهدف تنصير
كل السودان ابتداءً من الوثنيين والذين لا عقيدة لهم من أهل الجنوب والنوبة وحتى
تنصير المسلمين في شتى أنحاء السودان. جاء في خطط أعمال مؤتمر كولورادو
عام 1978م: «لقد أوقفنا انتشار الإسلام في جنوب ووسط إفريقيا، وما نحتاج
إليه هو العمل لإيجاد منافذ إلى داخل الإسلام» [11] ، لقد عملت الكنائس بجد على
إيجاد مراكز لها في الشمال رغم أن القوانين الحكومية كانت تمنع أي إرساليات
تنصيرية شمال خط عرض 10، وحتى الحكومة الإنجليزية نفسها لا تسمح لتلك
الإرساليات بالعمل في الشمال [12] إلا من خلال المدارس والمعاهد التعليمية؛ إلا أن
الكنيسة أفلحت في تكسير تلك الحواجز ومد سلطانها إلى أبعد ما تبلغه ركابها. إن
من المدهش أن نعلم أن نتاج هذا الجهد هو فقط 5% من مجموع ثلاثين مليون نسمة؛
بينما المسلمون 70%، وأصحاب المعتقدات المحلية 25% كما قدرته منشورة
(CIA The world Fact back) وسوى مثل هذه التخمينات؛ فليس ثمة أي
إحصائيات موثوقة لظروف الحرب والنزوح. أما الذي حققته الكنيسة في هذا
المضمار فهو إيجاد صفوة جنوبية ذات ثقافة غربية حانقة على الإسلام بدرجة أكبر
من حنق الكنيسة ذاتها. يقول الكاتب الإنجليزي (ساندرسون) : «تحاول الكنيسة
السودانية أن تستند إلى مقاومة الإسلام مقاومة إيجابية؛ أما المقاومة السلبية فهي
عند الصفوة الجنوبية من خريجي مدارس الإرساليات تمثل واجباً دينياً مسيحياً [13] .
هذه الصفوة هي التي يراد لها أن تقود جموع الجنوبيين وتسيِّر حركتهم
الاجتماعية والسياسية إلى حيث تريدهم القوى الصليبية؛ ففي بوادر حركة
الإرساليات النصرانية صرح القس» دانيال كمبوني «بهذه الاستراتيجية قائلاً:
» سيتم توفير التعليم العالي للعناصر الأكثر كفاءة، والمأمول أن يتسلموا مقاليد
القيادة في بلادهم « [14] ، وهذا عين ما يحدث الآن. لقد استطاعت الكنيسة أيضاً
أن تحدث شرخاً غائراً في وجدان الإنسان الجنوبي تجاه الإسلام والعروبة، وكل
من يتبناها بشكل يمكن استغلاله دائماً في إثارة القلاقل وصناعة حركات تمرد
جديدة. إن الكنيسة تعمل بجهد لكسب ولاء الجنوبيين لصالحها، وتنصِّب نفسها
حارساً لمصالحهم، ومدافعاً مخلصاً عن حقوقهم ضد ما تسميه باضطهاد الدولة
والهوس الإسلامي والاستعمار الشمالي.
إن المحصلة النهائية التي تسعى لها الصليبية في السودان هي طمس كل معالم
الإسلام والعربية على مستوى التشريع والدولة، ومستوى الهيئات والمؤسسات
الاجتماعية، ومستوى قطاعات الشعب والأفراد، إنها تطمح فعلاً (لسودان جديد) ،
جاء في ورقة عمل قدمها مجلس الكنائس السوداني ضمن اجتماع مجلس عموم
كنائس إفريقيا في لومي عام 1987م بعنوان (إنقاذ السودان) :» المناداة بضرورة
إيجاد السودان الجديد الخالي من السيطرة العربية «، ثم طالبت الورقة بدعم مجلس
الكنائس الإفريقي والعالمي لإيجاده. هذا السودان الجديد هو مطلب الحركة الشعبية
لتحرير السودان الذي تردده دائماً في بياناتها الرسمية، وهو أيضاً مطلب الحزب
الشيوعي الذي من أجل تكوينه تحالف مع حركة التمرد، ولو أصبح بأيديهم سلطة
فلن يتأخروا أبداً في فرضه وتحقيق أمل (جون قرنق) في طرد العرب المسلمين
من السودان كما طُردوا قديماً من الأندلس؛ إنه مصداق قوله تعالى: [كَيْفَ وَإِن
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً] (التوبة: 8) .
لقد سلكت المؤسسات الصليبية كل السبل التي تحقق أطماعها بلا حدود أو
حقوق أو تسامح، وتصرفت وكأنها تأخذ ثأراً قديماً لها مع الإسلام، وهذه الأساليب
نوجز منها ما يلي:
1 - سياسة الجنوب:
بدأ التنفيذ الصارم لما يعرف بسياسة الجنوب في يناير 1930م [15] ، إلا أن
البدايات العملية لها استؤنفت قبل ذلك التاريخ بكثير؛ ففي عام 1917م استُبدل كل
الجنود الشماليين بجنوبيين، وفي 1918م اعتُمدت الإنجليزية لغة رسمية وجعل
الأحد عطلة أسبوعية، وفي 1922م وما بعدها أصدر قانون المناطق المقفولة الذي
مُنِع بموجبه الشماليون المسلمون من دخول المناطق الجنوبية، وبموجب تلك
السياسة فإن الإدارة الاستعمارية عملت على:
1 - محاربة اللغة العربية والأسماء الإسلامية وقصر التعامل على الإنجليزية.
2 - محاربة الشعائر والعادات الإسلامية وكل ما يتعلق بها من زي أو هندام.
3 - طرد الشماليين تجاراً وإداريين.
4 - إعادة العمل بالأحكام القبلية وإحياء اللهجات المحلية.
لقد كانت الحكومة تعاقب بشدة كل من يضبط وهو ينطق العربية أو يؤدي
شعائر إسلامية؛ كما كانت تفضل أن يظل الجنوبيون عرايا على أن يلبسوا أزياءً
إسلامية أو شمالية، وكانت تستعمل أرقاماً معينة لمناداة كل من يرفض تغيير اسمه
إلى اسم غربي أو قبلي [16] ، لقد أخليت تلك المناطق تماماً إلا من النفوذ الكنسي
الذي أسندت إليه شؤون الإدارة والتشريع والتعليم والتوجيه، والانفراد الكامل لربع
قرن بتشكيل ثقافة ذلك المجتمع وتوجهاته.» إن الحكمة وراء سياسات المناطق
المقفولة تكمن في نشر الجهد التمديني التنصيري على كل ميادين جنوب السودان
الممتد «كما يقول» روبت هاو «حاكم السودان العام في تلك الفترة [17] . إذن فهو
غزو صليبي تقوده الحكومة الإنجليزية، وليست القضية تراتيب إدارية أو أطماعاً
اقتصادية أو أي شيء آخر، ولا يمكن لعاقل أن يدّعي بأن هذا الاضطهاد والتطهير
العرقي، هو نوع من الديمقراطية والتسامح الذي يجب على الإسلام وحده أن يتحلى
بهما.
2 - إثارة الحقد والبغضاء ضد الإسلام:
لقد دُجّن الطلاب الجنوبيون باعتبارهم مسيحيين في المدارس الإرسالية التي
كان وحدها في الساحة، وكانت المسيحية تُمَثَّل بأنها ديانة متفوقة، ولم يكن من
الصعب بناء أحقاد جنوبية ضد الشمال في مدارس الجنوب التي كانت يدرس في
تاريخها دوْر العرب في شراء وبيع الأفارقة كرقيق [18] ؛ وهذه شهادة الوزير
السابق وأحد قادة التمرد السياسيين (بونا ملوال) ، وهو نفس ما أكدته لجان
التحقيق في اضطرابات أغسطس 1955م [19] التي كانت بداية التمرد المسلح.
لقد عملت الكنيسة بخبث على ربط الإسلام بتجارة الرق؛ في حين أن التجار
الغربيين هم أصحاب هذه التجارة [20] ، وعملت على إذكاء نار التفريق العنصري
وإلصاقه بالإسلام؛ بينما لا تتحدث مطلقاً عما في كتابهم المحرف (الكتاب المقدس
الإصحاح التاسع) : عن حام جد الأفارقة:» فلما استيقظ نوح من خمرة علم به
ابنه الصغير فقال: عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك إله سام وليكن كنعان
عبداً لهم «. لقد صورت الكنيسة الدعوة إلى الإسلام على أنها حرب عنصرية ضد
الجنوبيين، وأنه لا مناص من الانضمام إلى صف الكنيسة من أجل بقائهم، وأن
كل جنوبي هو بالضرورة مضطهد من المستعمرين الشماليين الذين تعمل الكنيسة
على محاربتهم من أجله [21] . وهكذا استطاعت الكنيسة أن تضمن تشبث تلك
المجموعات بها بنفس القدر الذي تضمن به شحنها ضد أي نشاط دعوي يمكن أن
يبذله المسلمون.
3 - رسل الحرب والسلام:
تمارس الكنيسة والمنظمات التنصيرية لعبة الحرب والسلام، كلاعب محترف
لا يفرط أو يتهاون في مكاسبه أو مبادئه، ولكنه أيضاً لا يضيّع فرص تكريسها
وتأمينها؛ فمنذ عام 1910م، أسس الجنرال» ونجت «الحاكم العام» الفرقة
الاستوائية «على أساس ديني وعنصري [22] ؛ بحيث تكونت فقط من الجنوبيين
المتنصرين من أبناء الإرساليات لتكون أساساً لجيش يمكن استعماله ضد أي انبعاث
يحمل توجيهات الإسلام الجهادية في الشمال، كما يقول الكاتب الإنجليزي
» روبرت كولنس «، وهي نفس الفرقة التي تمردت في أغسطس 1955م بعد
أن اجتمع بهم القس» بلم تري «وبارك مساعيهم لذبح الشماليين [23] . ثم
استمرت الكنيسة من بعد في احتضان كل حركات التمرد الجنوبية من رابطة
السودان المسيحية (SCA) إلى الاتحاد الوطني للمناطق المقفولة بالسودان
الإفريقي (SACDNU) إلى الاتحاد الإفريقي» سانو « (SANU) ومنظمة
الأنانيا ثم أخيراً الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) والفصائل المنشقة
عنها. توفر الكنائس لهذه الحركات الدعم المباشر والدعم الحكومي عبر جماعات
الضغط التي تمثلها، كما توفر لها الخبراء العسكريين والتغطية الإعلامية،
وهناك أكثر من 160 منظمة وهيئة إغاثية تعمل بهذا الاتجاه الذي يشمل أيضاً
التسليح والإمداد التقني المساعد. نشرت مجلة (نيوزويك) في 10/4/2001م
تقريراً عن جنوب السودان بعنوان» جنود المسيح «قالت فيه: إن الحرب في
جنوب السودان أصبحت حرباً صليبية، وذكرت أن منظمة واحدة فقط هي
» الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية «:» قد وفرت بلا علم الحكومة السودانية
طبعاً مبلغ 17 مليون دولار للجهات التي تعمل في السودان، ثم ذكرت أن أكثر تلك
المنظمات حظوة هي «برنامج المساعد الشعبي النرويجي» الذي وصفه تقرير طلبته
الحكومة النرويجية بأنه «يتجاوز حدود ما يعتبر أعمالاً إنسانية» ! ! إذن ما تقوم
به هذه الإغاثات الموجهة ليس إلا خط إمداد حربي وإدارة تجسس استخباراتية
تلعب دورها في الحرب، كما تلعب دورها في السلام. أما السلام فلم يكن يعني
أكثر من محاولة الحصول على المزيد من الفرص لتمكين المشروع الصليبي في
السودان. إن المجالس الكنسية تكاد لا تغيب عن أي من المفاوضات مع حركات
التمرد كراعٍ لها أو مراقب فيها. وحينما أبرمت اتفاقية (أديس أبابا) في فبراير
1972م برعاية الإمبراطور النصراني هيلاسي لاسي كانت قد خرجت تلك
المجموعات التي مهدت لهذه الاتفاقية بضمانات كافية بعدم نشر الثقافة العربية
والإسلامية في الجنوب [24] ، وعلى إثر هذه الاتفاقية أقام السودان لأول مرة علاقات
دبلوماسية مع الفاتيكان في أغسطس عام 1972م، وقد بدا حينها أن الاتفاقية لا
تعدو أن تكون (صفقة) تتنازل الحكومة بموجبها عن الجنوب للكنائس؛ ومن
ثم تتم إعادة إنتاج نسخة أخرى من (سياسة الجنوب) التي نفذت إبان الحكم
الثنائي.
الحركة الشعبية المتمردة والأحزاب السودانية:
ظهرت «الحركة الشعبية لتحرير السودان» في يونيو 1983م بتمرد الكتيبة
«105» في بور والبيبور، وانضم إليها فيما بعد العقيد «جون قرنق» الذي
انفرد بزعاماتها، وقد هدفت الحركة من حين إنشائها إلى توحيد كل القطر تحت
كيان «السودان الجديد» ، وعرفت الحركة يومئذٍ بتوجههم الشيوعي [25] ؛ فقد
كانت تعتمد على دعم نظام «منجستو هايلا مريم» الماركسي، كما كانت تدرّب
مقاتليها في كوبا، وكان لها عدة مواقف عدائية ضد الإرساليات في تلك الفترة، إلا
أن الحركة أخذت في اتباع نهج نفعي «براجماتي» متلون بلون ظروف الخطاب
وميزان القوى؛ ومن هنا خرج التحالف المقدس «بينها وبين الكنائس والمنظمات
الصليبية العالمية والذي كان لا بد له أن يحدث حتى تحقق أطراف المؤامرة مراميها
وأهدافها التي تتوازى إن لم تتطابق باتجاه القضاء على الإسلام، وهو ما صرح به
العقيد المتمرد» جون قرنق «أكثر من مرة أحدها في مقابلة له في» نيويورك
تايمز «بتاريخ 3/3/1996م مجيباً عن سؤال مراسلها عن سبب طول أمد الحرب؟
قال:» إن الأجندة العربية والإسلامية تأتي في مقدمة الأسباب «. وعداء الحركة
الشديد لهذه الأجندة هو سمت أصيل في نهج الحركة لا يغيب أبداً عن خطاباتها
التعبوية لمقاتليها، ولا عن نمط الأدبيات التي تنشرها، ولا عن جولات التفاوض
التي تخوضها.
أما الأحزاب السودانية فلها شأن آخر تماماً، شأن يشبه التنافس والتفنن في
التملق للحركة ومن يقف وراءها؛ إذ إنها تبدي شجاعة نادرة في عقد الاتفاقيات
والمبادرات ومذكرات التفاهم مع حركة التمرد لمجرد كسب مناورة سياسية أو تكتيك
ظرفي أو مكايدة حزبية كأنما ليس لتلك الأحزاب أي مبادئ أو ثوابت يمكن أن
تخسرها؛ فهي على استعداد دائم للمساومة على أي شيء مهما بلغت درجته؛ فبعد
سقوط نظام (مايو) توصل (التجمع الوطني لإنقاذ الوطن) لاتفاق مع حركة
التمرد في مارس 1986م سمي بـ» إعلان كوكادام «نص على ضرورة إلغاء
قوانين الشريعة التي أعلن عنها النميري، وفي نوفمبر 1988م أبرم الحزب
الاتحادي الديمقراطي ما عرف بـ» مبادرة السلام السودانية «واتفق فيها على
تجميد العمل بأحكام الشريعة الإسلامية أيضاً، ومن المفارقات المدهشة أن الحزب
الاتحادي حينما كان يمجد (المبادرة) ويتغنى بمحاسنها كان طرفها الآخر يقيم ندوة
في» مركز بروكنز «بواشنطن بتاريخ 9/6/1989م تحت عنوان:» الحرب
الأهلية في السودان وآفاق الثورة «قال فيها العقيد المتمرد» قرنق «:» إن هدف
الحرب في الجنوب هو القضاء على الأقلية العربية المزيفة «، وقال عن اتفاقيتي
كوكادام والميرغني:» إنها تكتيكات مكملة للثورة «. وعندما سأله أحد الصحفيين:
لكن هذه الزعامات الشمالية وقعت معكم على اتفاق السلام؛ فلماذا الحرب إذن؟
أجاب قرنق:» لا خيار لهم سوى ذلك؛ هذه حركة التاريخ: إما أن يذعنوا لها،
أو سوف يسحقون! «.
أما حزب الأمة فقد وقع أيضاً مع الحركة» اتفاق شوكدوم «عام 1994م،
وكان فصل الدين عن الدولة أحد بنوده، ثم خرج بعد ذلك» إعلان أسمرا «في
يونيو 1995م بين فصائل» التجمع الوطني «والتمرد تضمن هو الآخر فصل
الدين عن الدولة ومنع قيام أي حزب على أساس ديني، وفي أكتوبر 1996م تولى
» قرنق «رئاسة قوات التجمع الوطني الديمقراطي، ولكن الأمر أخذ بعداً جديداً
بعد توقيع» مذكرة تفاهم «بين التمرد والمؤتمر الشعبي الذي يقوده الدكتور حسن
الترابي في 19/2/2001م، والذي صرح في مؤتمر صحفي عقب إعلانه لهذا
الاتفاق:» إن الخلاف بين المؤتمر والحركة الشعبية في قضية فصل الدين عن
الدولة ليس خلافاً استراتيجياً «، وقال:» إن جون قرنق ليس بذلك العلماني
المتطرف «، وهذا الموقف هو نتاج طبيعي لأزمة حادة في البناء الفكري والأداء
السياسي، وفي فقه الوسائل والغايات عند كثير من الحركات التي ترفع شعارات
إسلامية.» أزمة حقيقية «أن تعيش تلك الحركات للحظتها وظرفها فقط مبتورة
عن الماضي الذي تهتدي به والمستقبل الذي تبني له،» مصيبة «أن تحسم
القضايا الكبيرة بعقلية الثأر الشخصي والكيد للآخرين، وبغير علم ولا هدى ولا
كتاب منير.
وجملة القول أن الرابح الوحيد من هذه الاتفاقيات هو حركة التمرد بينما
تتسابق الأحزاب في تكميل برنامج الحركة الثوري، والإذعان التام لمطالبها،
وإصدار شهادات الإشادة لها حيناً بعد حين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الدور اليهودي:
من الناحية التاريخية كان السودان من بين الدول المرشحة لتوطين اليهود قبل
فلسطين؛ فقد كتب اليهودي» واربورت «الخبير بشؤون الفلاشا عام 1900م
اقتراحاً إلى اللورد» كرومر «في القاهرة بذلك، وقدّم يهودي آخر هو» أبراهام
جلانت «نفس الاقتراح عام 1907م إلى رئيس (المنظمة الإقليمية اليهودية J. T
. O) [26] . إذن فقد كان السودان محط اهتمام يهود منذ الشتات ولكن كان من
المؤكد أن الاهتمام اليهودي بالسودان سينهمر على الجنوب، على صنيعة القوى
الصليبية هناك؛ حيث ستجد الأرضية المهيأة لتحقيق أطماعها في السيطرة على
منابع النيل وإيفاء وعد إسرائيل الكبرى، وقد أدركت الحركة الشعبية لتحرير
السودان ذلك جيداً، فتفانت في نسج خيوط التقارب والتعاون معها، وبدأت زيارات
زعمائها تتكرر إلى إسرائيل، واستطاعت إسرائيل أن تدرب حوالي عشرين ألف
مقاتل متمرد على حدود أوغندا الشمالية، وأن تقيم جسراً جوياً إلى مناطق التمرد
في مارس 1994م، كما أنها توفد باستمرار خبراءها العسكريين لمساعدة المتمردين.
إن أواصر هذا التعاون تظهر بصورة أكبر حين نعلم أن من بين قادة التمرد
(ديفيد بسيوني) اليهودي الأصل [27] ، والذي كان مرشحاً لرئاسة حكومة
» الجنوب «التي أعلن عن تكوينها التمرد في أبريل من هذا العام 2001م، وفي
أواخر العام الماضي أعلن متحف محرقة ضحايا النازية» الهولوكوست «في
نيويورك تضامنه مع الجنوبيين المسيحيين وقال: إنهم يتعرضون للإبادة الجماعية
والتطهير العرقي. وكون لجنة تعرف بـ» لجنة الضمير «يرأسها اليهودي
» جيري فاولر «لهذا الغرض، وأقامت اللجنة معرضاً ملحقاً بالمتحف عن» مآسي
حرب الجنوب «كما يبذل اللوبي اليهودي مع اليمين الديني ضغطاً منظماً على
الإدارة الأمريكية ومجلس الشيوخ لتبني مشروع حركة التمرد.
بقي أن نشير هنا إلى طرفة سياسية إن صح التعبير تسوِّغ أو تدعم هذا
التحالف مع اليهود وهي عبارة عن دراسات ومقالات منها ما كتبه جنوبي اسمه
» بول فاك «بعنوان:» نظرة تاريخية لثقافات الدينكا وتراثهم «تتحدث عن
أن القبائل النيلية ترجع إلى أصل» جيل Jiel «الذي ربما ينحدر من نسل
يعقوب عليه السلام؛ ومن ثم فهي قبائل سامية ذات أصل إسرائيلي! ! [28] ؛
وبغضِّ النظر عن ثبوت هذه الدراسات فإن حركة التمرد تعمل بجد على الفوز بوضع
يماثل وضع إسرائيل على خريطة الدعم والمساندة الأمريكية وإن لم يتم قبلوهم
بوصفهم ضمن شعب الله المختار!
الدور الأمريكي المنتظر:
يبتدئ دور أمريكا البارز مع حركة التمرد عندما انهار الاتحاد السوفييتي
وسقط» نظام منجستو «وتخلت الحركة عن مشروعها الشيوعي عام 1991م [29] ،
وهو يتمثل على صعيدين:
أولاً: من خلال المؤسسات والمنظمات الطوعية وأيدي العمل الخفية، والدعم
السري للحركة، وهو عطاء سخي لم ينقطع، ويجري برضى الإدارة الأمريكية
وتحت بصرها.
ثانياً: عبر الدبلوماسية الرسمية والسياسات العلنية للحكومة؛ وهذه تقع تحت
تأثير اللوبي الصهيوني واليمين الديني المتشدد الذي يرعى سيادة الصليب على
العالم، ويحمي الحقوق النصرانية بآلة الدمار الأمريكية. لقد أعلن بوش الابن في
22 مارس من هذا العام قائلاً:» سنتصدى لحفظ كرامة الإنسان وضمان الحريات
الدينية في كل مكان في العالم من كوبا إلى الصين إلى جنوب السودان «. وقال
أيضاً في 3 /5/2001م:» إن الحريات الدينية هي أكثر ما يتعرض للانتهاك في
السودان «. ومن غير المعقول ولا المعهود أن يقصد بـ» الحريات الدينية «أي
دين آخر غير النصرانية، وهي لهجة صليبية متعصبة ربما لو صدرت عن أحد
الحكام أو القيادات المسلمة لأثارت زوبعة انتقادات عنيفة، وعدت خروجاً سافراً
عن مهام الدولة وأدب الدبلوماسية.
إن ما هو منتظر من أمريكا لن يخرج عن صميم دينها وثقافتها التي تحرص
بكامل عتادها على نشرها والتمكين له، وإن لبست مسوح الزهاد وتظاهرت بالحياد.
إنها لا تجرؤ على تخطي مؤسسات الضغط الصليبية والصهيونية والخط العريض
من النصارى الملتزمين، وهي لا تملك أن تتخلى عن المسؤولية التاريخية في
نصرة أتباع ملتها الذين يمثلون الامتداد الطبيعي لمصالحها ومشاريعها في أنحاء
الأرض، ولن تكون أمريكا أبداً أقل تعصباً لدينها أو حمية لنصرانيتها من مورثتها
بريطانيا التي عقدت مشكلة الجنوب وحرفتها إلى حرب صليبية ضد الإسلام يوم
كانت تملك كل أوراق الحل؛ فكيف بأمريكا اليوم وهي لا تملك إلا بعضها؟
ومما لا ريب فيه أن القوى الصليبية التي تبدو كأنها تدق أجراس حرب جديدة
لن تكتفي أبداً باستثناء أقاليم الجنوب من تطبيق الشريعة ولو كان تطبيقها أصلاً
على نحو متساهل، ولن تكتفي باستضافة زعماء الكنائس العالمية كما حدث للبابا
في 10/2/1993م الذي أقام في السودان لمدة تسع ساعات، واجتمع بالنصارى في
ساحة المناسبات الرسمية بوسط العاصمة، وأدوا طقوسهم بكامل الحرية، ولن
تكتفي تلك القوى بإلغاء قانون الهيئات التبشيرية في 4/ 10/1994م، وهو قانون
أصدره الرئيس السابق إبراهيم عبود للحد من النشاط الكنسي ونفوذ الإرساليات،
ولن ترضى أيضاً بإقامة مؤتمر حوار الأديان في 7/10/1994م وما تمخض عنه
من جمعيات ودراسات تدعو» للمذهب الإبراهيمي «، ولن يرضيها إدخال القسس
والنصارى في قيادة الحزب الحاكم والدولة. لن ترضى عن كل ذلك وأكثر من ذلك
لسبب بسيط هو أن ذلك سيغدو» خطوات استعراضية «ليس إلا، ووزير
الخارجية الأمريكية كولن باول» يريد خطوات عملية جادة وليست خطوات
استعراضية «كما صرح في أواخر أبريل من هذا العام الفائت، ولم يبق للوزير
الأمريكي إلا أن يقرأ علينا قوله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ، وحينها فقط يمكن أن نضع النقاط على
الحروف، ونبحث عن أطراف المؤامرة. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(*) الخرطوم - السودان.
(1) مشروع تنصير السودان في الماضي والحاضر، د حسن مكي، إصدار المركز الإسلامي الإفريقي، عام 1411هـ 1991م، ص 44.
(2) التنوع العرقي والسياسة الخارجية، د محجوب الباشا، مركز الدراسات الاستراتيجية، 1418هـ، ص 86، والإسلام والعروبة، د عون الشريف قاسم، دار الجيل 1409هـ، ص 12.
(3) البعد الديني لقضية جنوب السودان، دكتور عبد اللطيف البوني، مركز الدراسات الاستراتيجية، 1996م، ص 11، وهو ما أخرجه السياسي الجنوبي فرانسيس دينق في كتابه:» صراع الرؤى: نزاع الهويات في السودان «، مركز الدراسات السودانية، 1999م، ص 52، 244.
(4) مشروع تنصير السودان، ص 21، ص 46.
(5) مشكلة جنوب السودان: خلفية النزاع، دار الجيل، 1983م، الدكتور محمد عمر بشير، ص 47.
(6) مشروع تنصير السودان، ص 35، 46.
(7) السودان في عهد الحكم الثنائي، لبيب رزق، ص 209، نقلاً عن» البعد الديني لقضية جنوب السودان «، ص 12.
(8) مشروع تنصير السودان، ص 54، 65.
(9) انظر فيما يتعلق بقضية فصل الجنوب وأطوارها وما يتعلق بها» مشكلة جنوب السودان طبيعتها وتطورها «الدكتور مدثر عبد الرحيم، الدار السودانية، 1970م، ص 40 66 69 71، ومشكلة جنوب السودان وخلفية النزاع، ص 139، والديمقراطية في الميزان، للوزير محمد أحمد المحجوب، جامعة الخرطوم، ص 211.
(10) عن هذا الفصل راجع: البعد الديني لقضية جنوب السودان، ص 25، 42 48، ومجلة دراسات استراتيجية، عدد (7) نوفمبر 1996م.
(11) مجلة دراسات إفريقية، يناير 1999م.
(12) يقول اللورد كرومر بعد نقله لضغط الكنائس عليه:» لا أمانع في السماح للمبشرين بمزاولة نشاطهم بين الوثنيين من سكان الأقاليم الاستوائية أما أن يطلق لهم العنان في الوقت الحاضر بين مسلمي الشمال المتمسكين بدينهم فتصرف أحمق يوشك أن يكون جنوناً «، مشكلة جنوب السودان، الدكتور مدثر عبد الرحيم، ص 36.
(13) مشروع تنصير السودان، ص 79.
(14) المرجع السابق، ص 23.
(15) دور الحرب والسلام في جنوب السودان، عبد الوهاب محمد بكري، نشر دار البلد، 1997م، ص 5، ومشكلة جنوب السودان: خلفية النزاع، ص 94 98، فيما يتعلق بسياسة الجنوب والمناطق المقفولة.
(16) انظر تفاصيل تلك السياسات في مشكلة جنوب السودان طبيعتها وتطورها، ص 49.
(17) مشروع تنصير السودان، ص 67.
(18) المرجع السابق، ص 72.
(19) مما جاء في التقرير خطاب أرسله أحد رجال الإرساليات الكاثوليكية لأحد الطلبة الجنوبيين:» إن قصة تجار الرقيق تؤكد المقت التام لتلك الديانة الشريرة التي ليس لها رادع خلقي والتي تشمل بين معتنقيها تجار الرقيق تقرير لجنة التحقيق الإداري في حوادث الجنوب، 1995م، إصدار مركز الدراسات السودانية، ص 10.
(20) انظر: مشكلة جنوب السودان خلفية النزاع، ص 42 45، وهو ما نقله فرانسيس دينق عن «مابريال واربرج» في كتابه (صراع الرؤى) ، ص 77، وقد نقل سير ونجت الحاكم عن غوردون إباحته للرق ورغبته في ضمهم لصفوفه في مذكراته عشر سنوات في معسكر المهدي، ص 31.
(21) من الشواهد على هذا المنهج ما كتبه «دينق» في صراع الرؤى نزاع الهويات في السودان، ص 194 198، ومواضع أخرى من الكتاب وفرانسيس دينق مثقف جنوبي يعمل باحثاً في معهد بروكنز الذي له علاقة وطيدة مع CIA، ويعمل مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهو من المتعاطفين جداً مع الحركة وأحد منظريها.
(22) مشكلة جنوب السودان، خلفية النزاع، ص 91.
(23) البعد الديني، ص 21.
(24) البعد الديني، ص 57.
(25) هذا التوجه هو الذي نص عليه «المنافستو» الذي أصدرته الحركة لخطة إنشائها، وما زالت الحركة الشعبية تحتفظ بتحالفها مع بقايا الشيوعيين حتى الآن.
(26) مجلة دراسات استراتيجية، العدد (6) يوليو، 1996م.
(27) ديفيد بسيوني هو أحد أبرز منسقي علاقات الحركة مع إسرائيل والبيت الأبيض، وهو ابن يهودي سوداني تزوج من إقليم أعالي النيل الجنوبي، وعمل وزيراً في حكومة الجنوب في عهد مايو، ثم هاجر إلى إسرائيل بعد إعلان تطبيق الشريعة.
(28) صحيفة «الرأي العام» ، 1 مايو 2001م.
(29) جنوب السودان، آفاق تحديات، جون قاي تون يوه، ص 183، ص 232.(173/90)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
بوش الراهب
منذ لقائنا في العام الماضي انصرف ملايين الأمريكيين إلى الصلوات فصلوا
طلباً للمواساة في أوقات الحزن، وللتفهم في أوقات الغضب، وللحماية في وقت
اتسم بعدم اليقين. وكثيرون، ومن بينهم أنا، سجدنا (للصلاة) . وصلوات هذه
الأمة هي جزء من الخير الذي يأتي من أعمال الشر التي ارتكبت في 11/9/2001
م، بل من خير أكثر مما كان يمكننا أن نتوقعه.
إن الإيمان يسلحنا بالتأكيد بأن لأرواحنا ولتاريخنا أهدافاً أخلاقية. وكأفراد
فإننا نعلم أن المعاناة مؤقتة ولكن الأمل أبدي. ونحن كأمة نعي بأن الذين يفتقرون
إلى الرحمة لن يرثوا الأرض.
والإيمان يعلمنا التواضع، ومعه التسامح، وحالما نشاهد صورة الله في أنفسنا
علينا أن نشاهده في كل إنسان. فالاحترام لكرامة الآخرين يمكن أن يتبين خارج
الدين تماماً كما يمكن للتعصب أن يوجد فيه. لكن بالنسبة لملايين الأمريكيين فإن
ممارسة التسامح هي إحدى وصايا الدين.
وفي الوقت ذاته، فإن الإيمان يعلمنا حقيقة الخير وحقيقة الشر. فلبعض
الأعمال والخيارات في هذا العالم تبعات أبدية. فمن الخطأ دائماً وفي كل مكان، أن
يستهدف المرء الأبرياء لقتلهم، ومن الخطأ دائماً وفي كل مكان، أن يبدي المرء
قساوة وحقداً، أو استعباد الناس وقمعهم. ومن الصائب دائماً وفي كل مكان أن
يكون المرء لطيفاً وعادلاً وأن يصون أرواح الآخرين وأن يضحي بحياته من أجل
صديق.
إن الإيمان يبين لنا طريق التضحية ومحبة جيراننا كما نرغب نحن أن يحبنا
الآخرون، وخدمة للآخرين أننا نلمس إنجازاً بشرياً عميقاً، ومع تكاثر أعمال
الخدمة تصبح أمتنا مكاناً أكثر ترحيباً بالضعفاء ومكاناً أفضل لأولئك الذين يقاسون
ويكمدون.
على مدى نصف قرن كانت صلاة مأدبة الفطور القومي رمزاً للموقع الحيوي
للإيمان في حياة أمتنا، وأنتم ذكرتم أجيالاً من القادة بغاية، وبقوة أعظم من قوتهم.
وفي فترات الهدوء وفي فترات الأزمات دعوتمونا للصلاة، وفي هذا الوقت من
الاختبار لأمتنا أمدتني أنا وعائلتي بالنعمة صلوات عدد لا يحصى من الأمريكيين.
فقد شعرنا بقوتهم الداعمة ونحن لهم شاكرون بصورة هائلة.
وتنتظر هذه الأمة تحديات هائلة وستمثل أمامنا مصاعب. والإيمان لن يجعل
مسارنا أقل وعورة بل سيمنحنا القوة لهذه المسيرة، إن وعد الإيمان لا يعني غياب
المعاناة بل إنه وجود البركة. وفي كل خطوة، فإننا متأكدون من أن المقاساة تولد
المثابرة، والمثابرة تولد الشخصية، والشخصية تولد الرجاء، والرجاء لا يخيب.
ليبارككم الله، وليستمر الله في مباركة أمريكا.
الرئيس الأمريكي جورج بوش، موقع وزارة الخارجية الأمريكية
http://usinfo.state.gov/arabic
قندهار الجديدة
في حجرة مظلمة خلف مقهى صغير وسط مدينة قندهار التي يلفها الغبار وقف
لطيف (23 عاماً) فاغراً فاه وقد أخذ يقهقه بعصبية وهو يحدق في فيلم إباحي.
إنها القنوات التلفزيونية الفضائية الإباحية وقد غزت هي الأخرى المعقل
السابق لحركة طالبان. بعد سقوط الحركة انتشرت على أسطح المنازل أطباق
التقاط الإرسال التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية، وفي المنازل والمطاعم ودور
الضيافة يقبل الأفغان بأعداد متزايدة على القنوات التي تبث مواد إباحية.
ويدير «عبد وصي» متجراً لبيع أطباق التقاط الإرسال التلفزيوني عبر
الأقمار الصناعية التي ظهرت في قندهار سريعاً منذ رحيل طالبان. يبيع أطباقاً
مستوردة من باكستان بأسعار تتراوح بين مئة و 250 دولاراً.
وقال في متجره الذي تحيط به عشرات الأطباق: «إنني في السوق منذ شهر
وقد بعت نحو 400 طبق تقريباً. متجري دائماً مزدحم. الجميع يريدون مشاهدة
القنوات الأجنبية» .
[جريدة الرياض، العدد (12289) ]
والله غالب
على أمره
يبدو الرئيس بوش واعياً بصورة «غريزية» بأن هذه الحرب ستكون بمثابة
الكارثة. ولا يهم كم نقتل وحجم الخسارة التي سنلحقها بالخصم، لكن لا يمكن أن
نقضي على الإسلام مثلما قضينا على النازية والفاشية والروح العسكرية اليابانية
والبلشفية السوفييتية. لقد استطاع الإسلام البقاء على مدى 1600 سنة تقريباً، كما
أنه العقيدة المهيمنة على 57 بلداً. إنه غير قابل للتحطيم.
وبينما كان المسيحيون غارقين في الأمية، انتشر الإسلام طيلة 700 عام إلى
أن هيمن على البلقان، وعلى سهول هنغاريا، وعلى جميع المناطق الأخرى
باستثناء أوروبا الغربية نفسها محطماً معقل المسيحية بفعل تفوقه المادي والعلمي.
لكن إذا كان صدام الحضارات قادماً، فكيف سيكون توازن القوى؟ من حيث
المادة، الغرب متفوق، مهما قلنا إن التفوق المادي لم يمنع انهيار الإمبراطوريات
الغربية، كما لم يمنع سقوط الإمبراطورية السوفييتية. وإذا كان عامل العقيدة
حاسماً، فإن الإسلام نضالي حركي بينما المسيحية جامدة، والإسلام ينمو والمسيحية
تذبل. المحاربون المسلمون مستعدون لمواجهة الهزيمة والموت، بينما يتحاشى
الغرب تكبد الخسائر. لا تستهينوا بالإسلام إنه الديانة الأسرع انتشاراً في أوروبا
وقد تجاوز المسيحية عبر العالم؛ بينما تقترب المسيحية من نهايتها في الغرب،
وحيث الكنائس فارغة تتوسع وتمتلئ المساجد. لكي تهزم عقيدة فإنك تحتاج إلى
عقيدة؛ ما هي عقيدتنا نحن؟ النزعة الفردية، الديمقراطية، التعددية، الحياة
الرغيدة؟ هل بإمكانهم التفوق على عقيدة لها 16 قرناً من الوجود وهي الآن تنهض
مرة أخرى؟
باتريك بوكانان، المرشح السابق للرئاسة الأمريكية، موقع مجلة العصر
www.alasr.ws
الخروج من التيه
إن الأمة اليوم أشبه بمن فروا مع نبي الله موسى من عذاب فرعون، فأنجاهم
الله إلى سيناء، ولكنهم عجزوا عن أن يتحولوا من جيل هزيمة إلى جيل نصر،
فرفضوا أن يدخلوا الأرض المقدسة بحجة أن فيها قوماً جبارين. لقد تغلب لديهم
وهم النجاة في الواقع على عزيمة تحقيق الممكن والمطلوب. وألف بنو إسرائيل
آنذاك أن يكونوا ضحية لكل فرعون، فحتى عندما أنجاهم الله لم يمتلكوا إرادة
الرغبة في النصر، وسيطرت عليهم الرغبة في النجاة.
واليوم يغلب على أبناء الأمة الرغبة في النجاة على السعي إلى النصر، أو
تحمل تبعاته. فنحن قد ننصر الدعوة بالكلام ولكن ليس بالفعل، وكأننا اليوم نقول:
[فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] (المائدة: 24) . ولذلك لا بد أن
يحكم على الأمة بالتيه في صحراء الحضارة الغربية المقفرة حتى يخرج جيل جديد
لا يعاني من عقدة الضحية، ويرى النصر ممكناً، وعندها فقد يمكن أن تتحرك
الأمة نحو فجر جديد من الحضارة الإسلامية التي يحتاج إليها العالم أجمع.
أما اليوم فسيشهد العالم الإسلامي مرحلة قاسية من التيه وفقدان الهوية
وتزعزع المسلَّمات، ولكن ستبقى دائماً طائفة من الأمة ظاهرة على الحق، ولن
يضرها من يخذلها وستبقى المواجهة سواء فكرياً أو حضارياً أو حتى عسكرياً هي
الخيار الوحيد المتاح للأجيال القادمة، ليس لأن هذه الأجيال ستختار بالضرورة هذا
الخيار، ولكن لأنها ستجبر على المضي قدماً فيه من قبل أمريكا التي اختارت
المواجهة، وسيفرز المستقبل جيلاً جديداً من الإسلاميين ممن يمكن أن نطلق عليهم
«إسلاميو ما بعد التيه» ؛ ممن سيحملون على أكتافهم هموم الأمة في مرحلة ما بعد
التيه، وستخرج إلى العالم حضارة إسلامية تجمع القوة في حمل الأمانة،
والمعاصرة في الآليات والوسائل، والأصالة في الغايات والمقاصد، وستشرق
شمس الإسلام من جديد على سماء العالم شرقه وغربه، وستتوقف مآذننا عن البكاء
على أمتنا، وستنطلق من مناراتها أشعة الحضارة لتنير للعالم الطريق نحو النجاح
في الدنيا والنجاة في الآخرة.
د. باسم خفاجي، موقع جريدة الشعب
http://alarabnews.com/alshaab
هناك من يتذمر! !
أوصى تقرير سياسي أعده خبراء ومسؤولون سابقون بالاتحاد الأوروبي قادة
أوروبا بالتزام التعقل السياسي وعدم المغامرة والانسياق وراء الولايات المتحدة
الأمريكية في توسيعها للحرب ضد الإرهاب.
وأكد التقرير الذي وضعته المفوضية الأوروبية أمام قادة الاتحاد الأوروبي أن
لدول أوروبا مصالح لا تتحقق إلا بالسلام، وحسن الجوار، وكذلك وجود علاقات
دبلوماسية جيدة ومقنعة، فأوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تسعى للحفاظ
على علاقات تحقق المصالح لكافة الأطراف في شعوب العالم، وأوروبا لا تريد بناء
عداء وكراهية مع شعوب العالم كله سواء المسلمون أو غيرهم لأن ذاكرة الشعوب لا
تنسى، قد نكون اليوم في موقف الأقوى والأكثر تقدماً، لكن لا يستطيع أحد التكهن
بما يخبئه التاريخ في المستقبل. ويتساءل التقرير: «هل من الصواب أن تدور
حروب جديدة ضد دول إسلامية أو غيرها بسبب أفراد لهم عقائد دينية مخالفة؟ أو
أيديولوجيات سياسية غير التي نتبعها في الغرب؟
ويختتم التقرير بأن الإدارة الأمريكية تهدف من حربها ضد الإرهاب في العالم
أخطر من مجرد الهدف المعلن وأكثر من حرب ضد الإسلام، بل تهدف إلى تثبيت
سياسة القطب الواحد، وإجبار شركائها الأوروبيين على البقاء في دور التابع، تلك
العمليات العسكرية الأمريكية التي تتحول تدريجياً من الحرب الجوية إلى
استراتيجية جديدة، تهدف لزرع قوات عسكرية وقواعد أمريكية في دول إسلامية
توجد بها مصالح أمريكية حالياً وعلى المدى البعيد، وكذلك تتحول العملية برمتها
من شرعية الانتقام للضربات الجوية على المباني الأمريكية في 11/9/2001م إلى
الانتقام من شرعية وحقوق السيادة في دول إسلامية متفرقة بجميع أنحاء العالم حيث
تأتي الفلبين، ومن غير المستبعد أن تتبعها أكبر الدول الإسلامية في العالم إندونيسيا،
ثم يأتي الدور على ماليزيا الدولة التي تتقدم علمياً في صناعة البرمجيات
وتكنولوجيا علوم الكمبيوتر.
[جريدة البيان، العدد (9705) ]
التوبة الليبية! !
قطع التطبيع الليبي الأمريكي خطوات حاسمة من خلال اتصالات بين
مسؤولين من الجانبين على خلفيتي التعاون الاستخباراتي في مكافحة التنظيمات
والعناصر التي تتهمها واشنطن بـ» الإرهاب «، وفيما يتكتم الليبيون على
مضمون الاتصالات اعتبر الأمريكيون أن رسالتهم كانت» صريحة وواضحة «
وهي تتعلق بدفع تعويضات تقدر قيمتها بستة بلايين دولار لضحايا تفجير الطائرة
الأمريكية فوق بلدة لوكربي الأسكتلندية عام 1988م، ووعد الأمريكيون بفتح الباب
أمام تفاعلات واتصالات دولية مختلفة مع ليبيا» إذا وفت بتعهداتها «.
وتوقعت مصادر ليبية أن يسير التطبيع قدماً مع واشنطن خلال المرحلة
المقبلة، خصوصاً في ظل الرؤية الأمريكية» الإيجابية «لحصاد اللقاءات الأخيرة
بين الجانبين، ففي أول تقويم على لسان مسؤول أمريكي للقاءات التي أجريت في
لندن بين مسؤولين ليبيين وممثلين عن الحكومتين الأمريكية والبريطانية، اعتبر
مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ويليام
بيرنز أن المحادثات» كانت بناءة ومركزة في شكل واضح جداً «، وأفاد في
محاضرة أمام» نادي هنيبعل «في واشنطن أن المحادثات كانت تهدف إلى
» إيضاح المطلوب من ليبيا القيام به للوفاء بالتزاماتها تجاه مجلس الأمن «،
ملمحاً للمرة الأولى إلى أن» رفع العقوبات الدولية عن ليبيا أمر ممكن «.
إلا أن الانعطاف الحقيقي أتى في أعقاب أحداث سبتمبر الماضي والتي شكلت
اختباراً لنيات الليبيين من المنظور الأمريكي بعدما أرسلوا إشارات إلى تخليهم عن
دعم المنظمات التي تصنف» إرهابية «. وفي معلومات مصادر مطلعة أن
الأمريكيين استحسنوا الإدانة الليبية الشديدة لتنظيم» القاعدة «وحركة» طالبان «،
واعتبار الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي أن الحملة الأمريكية في أفغانستان
بمثابة» دفاع شرعي عن النفس «؛ مما أدى إلى تسريع خطوات التقارب التي
شملت تسليم المعلومات التي تملكها ليبيا عن» القاعدة «، و» طالبان «،
و» حركة أبو سياف «في الفلبين إلى الأمريكيين، فيما وضعت واشنطن» المجموعة
الإسلامية المقاتلة «في ليبيا على لائحة الجماعات الإرهابية في العالم.
[جريدة الحياة، العدد (14203) ]
الهدف التالي
رجح رئيس وكالة المخابرات الأمريكية (سي. آي. إيه) أن تكون حركات
المقاومة الفلسطينية هي الهدف المقبل للحرب الأمريكية على ما يسمى
» الإرهاب «؛ وذلك في تقرير قدمه تينت إلى الكونجرس مؤخراً. وحدد تينت في
تقريره كلاً من حركات» حماس «و» الجهاد الإسلامي «و» الجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين «كأهداف محتملة للضربة الأمريكية القادمة ضد ما
يسمونه» الإرهاب «، إضافة إلى حركات ومنظمات أخرى خارج فلسطين والعالم
العربي، على الرغم من أن أياً من المنظمات التي ذكرها جورج تينت لم تقم
بتهديد أمن أو مصالح الولايات المتحدة. يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت
قد أدرجت على قوائم الإرهاب لديها كلاً من حماس والجهاد الإسلامي والجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين، استجابة لضغوط الكيان الصهيوني على واشنطن.
[جريدة السبيل، العدد (422) ]
ذيل أمريكا
أمريكا لن تبقى كما كانت أبداً. وقد أثبتت لنفسها وللآخرين أنها بحق القوة
العظمى الوحيدة، هذه القوة التي تتمتع بالفعل بمستوى من التفوق على خصومها
الفعليين أو المحتملين، وهو تفوق لا توازيها فيه أية أمة في العصور الحديثة.
وفي الوقت نفسه فإن العالم خارج أمريكا يجب أن لا يبقى على حاله أيضاً.
وبطبيعة الحال ستظهر تهديدات من اتجاهات مختلفة، لكن طالما عملت أمريكا على
المحافظة على تقدمها التقني، فلن يكون هناك سبب يدعو لنجاح أي تحد للهيمنة
الأمريكية، وهذا بالمقابل سيساعد على ضمان الاستقرار والأمن في العالم. بيد أن
جورج دبليو بوش أكد للأمريكيين أنه لا يوجد مجال للاسترخاء، فأمريكا وحلفاؤها،
وبالفعل العالم الغربي ومبادئه، ما يزالون يتعرضون لتهديد مميت. وهذا التهديد
يجب إزالته، وقد حان الوقت الآن للعمل بقوة.
من أوجه عديدة يعد تحدي الإرهاب الإسلامي فريداً، ولذا فإن الصعوبة التي
تواجهها استخبارات الغرب تتمثل في محاولة توقع أو منع الاعتداء على المجتمعات
الغربية، لقد توجب أن يتمثل الفصل الأول من هذه الاستراتيجية في حرب
أفغانستان، وأعتقد أنه بينما تستحق الحكومة المؤقتة هناك الدعم، فإن الولايات
المتحدة محقة في عدم السماح لنفسها بالتورط في طموحات بناء دولة في تلك
المنطقة المخادعة.
أما الفصل الثاني من الحرب ضد الإرهاب فيجب أن يتمثل في ضرب مراكز
الإرهاب الإسلامي الأخرى والتي استوطنت في إفريقيا وجنوب شرق آسيا وغيرها
من الأماكن، وهذا سيتطلب معلومات استخبارية من الدرجة الأولى، إضافة إلى
دبلوماسية فعالة والتزام عسكري شديد، فلقد توفرت لأعدائنا سنوات لكي يحصنوا
أنفسهم، ولن يخرجوا من مخابئهم بدون مقاومة شديدة ودموية. إن أحداث الحادي
عشر من سبتمبر تذكرنا بقوة أن الحرية تتطلب يقظة لا محدودة، بيد أننا منذ فترة
طويلة للغاية تخلينا عن يقظتنا ووفرنا ملاجئ لأولئك الذين يكرهوننا، وتسامحنا مع
أولئك الذين هددونا كما تغاضينا عن أولئك الذين أضعفونا.
[مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، جريدة الشرق الأوسط،
العدد (8479) ]
الشرف العسكري
كشفت صحيفة» واشنطن بوست «أن الولايات المتحدة قدمت لعشرات من
الزعماء الأفغان مساعدات مالية قيمة كل منها 200 ألف دولار، وهواتف تعمل
بالأقمار الصناعية لمساعدتهم في الحرب الدائرة في أفغانستان.
وقالت الصحيفة نقلاً عن مصرفيين ومكاتب صرافة وآخرين مقربين من
التحويلات النقدية أن أكثر من 35 قائداً أفغانياً قاموا نهاية العام الماضي بعمليات
تحويل نقدية لمبلغ 200 ألف دولار، وأن بعضها حدث بعد اجتماعهم بمسؤولين
أمريكيين. وجاء في التقرير أن إجمالي التحويلات زاد على سبعة ملايين دولار.
[جريدة البيان، العدد (7905) ]
كابول - تل أبيب
كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عن أن (إسرائيل) تجري منذ
فترة اتصالات سرية مع الحكومة الأفغانية الانتقالية الحالية، وأن الجانبين يدرسان
احتمال إقامة علاقات دبلوماسية بينهما. وقالت الصحيفة إن عدة لقاءات عقدت في
هذا الإطار بين دبلوماسيين إسرائيليين وأفغان بينها اجتماع سري عقد في طوكيو.
وأضافت: إن الاجتماع شارك فيه ممثلون عن الحكومة الإسرائيلية وعدد من
أعضاء الوفد الأفغاني الذي شارك في مؤتمر الدول المانحة لأفغانستان الذي
استضافته العاصمة اليابانية.
[جريدة السبيل، العدد (421) ](173/98)
في دائرة الضوء
واقع العالم الإسلامي
(1 - 2)
د. أحمد بن عبد الله الزهراني [*]
إن الله تعالى يقول: [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ]
(الأنعام: 115) . أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً فيما أمر ونهى. فالمراد بالكلمات
القرآن العظيم الذي تمت دلائله وحججه وأوامره ونواهيه وأحكامه وبشارته ونذارته
وأمثاله [1] .
إن العالم الإسلامي اليوم قد أخل بما اجتمعت عليه الشرائع السماوية من
الكليات الخمس التي هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض.
فإذا نظرت إلى واقع الدين في حياتهم رأيته مقصوراً على بعض الشعائر
التعبدية تؤدى في صورة وهيئة غير التي وردت إلينا شرعاً، مشوبة بالانحراف
والابتداع، وإذا نظرت إلى عقائده وجدتها عقائد باهتة ومحرّفة! وإذا نظرت إلى
محاكمه ونظمه التي يسير عليها، وجدتها محاكم غير شرعية بل قانونية، كما أن
نظمه التي يسير عليها ويتحاكم إليها نظم قانونية وضعية مستمدة من القوانين
البشرية الجاهلية إلا ما ندر؛ والنادر لا حكم له.
أمّا النفوس البشرية فجاءت الشرائع السماوية لتحريرها والحفاظ عليها. فإذا
نظرت إليها في العالم الإسلامي وجدتها مسترقة لغير الله، وعقدت عدة مؤتمرات
ومعاهدات للحفاظ عليها في الظاهر لكنهم كذبوا فيما زعموا؛ فقد قرروا في
مؤتمراتهم إباحة الزنا والإجهاض، بل قتل الأجنة في بطون الأمهات، كما كانت
الجاهلية الأولى تفعل في وأد البنات. وسلّطت عليها الإباحية المنظمة، من خلال
القنوات والأطباق الفضائية، حتى أصبح الأطفال يشبّون ويشيبون عليها. (لقد
ذكرت وزارة العدل الأمريكية في دراسة لها أن تجارة الدعارة والإباحية الخلقية
تجارة رابحة جداً يبلغ رأس مالها ثمانية مليارات دولار، ولها أواصر وثيقة تربطها
بالجريمة المنظمة. وإن تجارة الدعارة هذه تشمل وسائل عديدة كالكتب والمجلات
وأشرطة الفيديو والقنوات الفضائية الإباحية والإنترنت. وتفيد الإحصاءات
الاستخبارية الأمريكية (F. B. I) أن تجارة الدعارة هي ثالث أكبر مصدر دخل
للجريمة المنظمة بعد المخدرات والقمار حيث إن بأيديهم 85% من أرباح المجلات
والأفلام الإباحية) [2] .
وإذا نظرت إلى العقول فقد فسدت بسبب ما سلط عليها من اللوثات الفكرية
دون حماية لها، وأبيح لها تعاطي المسكرات بجميع أنواعها، ويعتبر هذا من
الحرية.
وإذا نظرت إلى المال فقد لعبت به الأيادي العابثة، واستولى عليه من لا
يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، وأنهكت الشعوب بالفقر؛ لأن القائمين عليها أنهكوا
بالديون من قبل الأعداء؛ مما زاد في الفقر والتردي وذهاب الخيرات من بلادهم
إلى بلاد الأعداء، فأصبحت الشعوب في بؤس وفقر شديد.
وإذا نظرت إلى العرض فقد عقدت المؤتمرات من أجل حرية المرأة
وإخراجها إلى النوادي العامة من غير حشمة ولا وقار باسم الحرية والدعوة إلى
مساواتها بالرجل في كل شيء، كما لها الحق في اتخاذ الصديق والخدين؛ مما نتج
عنه الوقوع في الزنا، وكثرة أولاد الزنا، وظهور الأمراض والأوبئة في المجتمع.
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط
حتى يعلنوا بها إلاّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم
الذين مضوا» [3] .
وإن أقل ما قلنا كلمة الحق في مواقف الرجال، وما أكثر ما قصرنا في ذلك،
إن لم يكن خوفاً فضعفاً، ونستغفر الله ونتوب إليه مما قصرنا فيه، وقد آن الأوان
لنقولها ما استطعنا، كفارة عما سلف من تقصير، وعما أسلفنا من الذنوب؛ فليس
لها إلاّ عفو الله ورحمته، والعمر يجري بنا سريعاً والحياة توشك أن تبلغ منتهاها.
نعم! لقد آن الأوان أن نقول كلمة في شؤون المسلمين كلها، وأن ننافح عن الإسلام
ما استطعنا بالقول الفصل والكلمة الصريحة والعمل الجاد، لا نخشى فيما نقول أحداً
إلاّ الله، وذلك كلّه في حدود ما أذن الله لنا به، بل ما أوجب علينا أن نقوله بهدي
كتاب ربنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
إن بلاد عالمنا الإسلامي تنحدر في مجرى السيل إلى هوّة لا قرار لها، هوّة
الإلحاد والإباحية والانحلال؛ فإن لم نقف منهم موقف النذير، وإن لم نأخذ بحجزهم
عن النار انحدرنا معهم وأصابنا من عقابيل ذلك ما يصيبهم، وكان علينا من الإثم
أضعاف ما حملوا.
لقد آن الأوان أن نحارب الوثنيّة الحديثة والشرك الحديث اللذين شاعا في
عالمنا الإسلامي، كما حارب سلفنا الصالح الوثنية القديمة والشرك القديم.
إننا نريد أن نثابر على ما دعونا وندعو إليه من العودة إلى كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم في قضائنا كلّه في كل بلاد الإسلام، وهدم الطاغوت
الإفرنجي الذي ضرب على المسلمين في عقر دارهم في صورة قوانين، والله تعالى
يقول: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن
يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ
المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً] (النساء: 60-61) .
ويقول أيضاً: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء: 65) .
إننا نريد أن نتحدث في السياسة، السياسة العليا للأمم الإسلامية التي تجعلهم
أمة واحدة كما وصفهم الله في كتابه، نسمو بها على بدعة القوميات، وعلى أهواء
الأحزاب، نريد أن نبصر المسلمين بموقعهم من هذه الدنيا بين الأمم، وتكالب الأمم
عليهم بغياً، وعدواناً، وعصبية، وكراهية الإسلام أولاً وقبل كل شيء، كما نريد
أن نعمل على تحرير عقول المسلمين وقلوبهم من روح التهتك والإباحيّة، ومن
روح التمرد والإلحاد، وأن نحارب النفاق والمجاملات الكاذبة التي اصطنعها كُتَّاب
هذا العصر أو أكثرهم فيما يكتبون وينصحون! يظنون أن هذا من حسن السياسة
ومن الدعوة إلى الحق (بالحكمة والموعظة الحسنة) اللتين أمر الله بهما! وما هذا
منهما قط، وإنما هو الضعف والاستخذاء والملق، والحرص على عرض الحياة
الدنيا.
إننا نريد أن نمهد للمسلمين سبيل العزة التي جعلها الله لهم وهي إحدى
الحسنيين كما قال تعالى: [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ
بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ]
(التوبة: 52) . وأن نوقظهم وندعوهم إلى دينهم بصوت العزة والكرامة صوت
(حم لا ينصرون) حتى يدوِّي هذا الصوت في أرجاء المعمورة فيملأ العالم
الإسلامي، ويبلغ أطراف الأرض بما اعتزمنا من نيّة صادقة نرجو أن تكون خالصة
لله وحده جهاداً في سبيل الله إن شاء الله، فإن عجزنا أو ذهبنا فلن يعدم الإسلام
رجلاً أو رجالاً خيراً منّا يرفعون هذا اللواء فلا يزال خفاقاً إلى السماء بإذن
الله [4] .
ومن سنن الله تعالى في خلقه أن جعل الصراع بين الحق والباطل مستمراً
حتى تقوم الساعة، وقد بدأ هذا الصراع ثنائياً بين آدم عليه السلام وإبليس اللعين،
من يوم خلق الله أبا البشرية آدم عليه السلام وأمر الملائكة أن تسجد له، فسجدوا إلا
إبليس أبى واستكبر، وأخذته العزة بالإثم عن تنفيذ وتطبيق ما أمر به حسداً وبغياً،
ودخل في نقاش وحوار مع ربه، كانت نتيجته وجوب اللعنة عليه إلى يوم الدين،
والطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى.
قال تعالى: [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ] (البقرة: 34) .
وقال تعالى: [وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ
خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا
فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
* قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً
مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ] (الأعراف: 11-18) .
وانتقل هذا الصراع من الثنائية إلى الجماعية، فصار في الأرض حزبان:
حزب الحق: يقود مسيرته رسل الله تعالى وأنبياؤه، ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين، كما قال تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحديد: 25) .
وحزب الباطل: يقوده إبليس الذميم، ومن تبعه من أهل الكفر والضلال إلى
يوم الدين، فصار التدافع بين الحزبين قائماً مستمراً بالليل والنهار، والحرب بينهما
سجال. قال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ
اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة: 251) .
وقال تعالى: [لَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ
اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
إنً الصراع بين الحق والباطل أبديٌّ حتى تقوم الساعة، كما أنَّ التدافع بين
الناس أبديٌّ حتى تقوم الساعة، وقد قاد الأنبياء ورسل الله الكرام عليهم السلام
مسيرة الحق، وأعلنوا الجهاد في سبيل الله نصرة للحق ودفعاً للباطل، ومن آخرهم
نبي الرحمة والملحمة الضحوك القتَّال صلى الله عليه وسلم القائل: «بعثت بالسيف
بين يدي الساعة حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي،
وجُعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم» [5] .
وهذا خبر منه صلى الله عليه وسلم بحمل السيف على من لم يوحِّد الله وحده،
من بداية بعثته، كما أخبر سبحانه أنه بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فجمع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من بداية
بعثته بين أمرين: الكتاب الهادي، والسيف الناصر له؛ ومصداق ذلك في قوله
تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ
بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحديد: 25) .
فهذه الآية خبر من الله تعالى مفاده أن الله سبحانه أرسل الدلائل القاطعة،
والبراهين الساطعة، مع رسله إلى خلقه، وأنزل عليهم كتاب هداية وصدق لا يأتيه
الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، ولا تشوبه أيَّة شائبة، كما أنزل عليهم
الميزان الذي هو الحق والعدل، من أجل أن يكون هو الحكم بين الناس في حياتهم،
وجعل لأمور الهداية المذكورة في سورة الجمعة وغيرها حامياً وناصراً، وهو
السيف الذي هو من الحديد الذي اجتمع فيه أمران: المنافع، والبأس الشديد، من
أجل نصرة الله تعالى؛ وذلك بتحقيق العبودية له وحده، وعدم صرف شيء منها
لغيره سبحانه، ومن أجل نصرة رسله عليهم السلام؛ وذلك باتباع ما أمروا،
واجتناب ما عنه نهوا، فإن امتثل الناس لهذا وإلا كانت النصرة والحماية لهذا
المنهج الرباني بحمل السيف في وجه كل من عاند وطغى وتجبر، ولم يذعن للحق
وينصاع له.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: « [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ]
(الحديد: 25) : أي بالمعجزات والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات،
[وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ] (الحديد: 25) وهو النقل الصدق، [وَالْمِيزَانَ]
(الحديد: 25) وهو العدل، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة
المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، [لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] (الحديد: 25)
أي بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به،
فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، [وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ
شَدِيدٌ] (الحديد: 25) أي وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده، بعد قيام
الحجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة
سنة توحى إليه السور المكيَّة وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح
للتوحيد، وبينات ودلالات؛ فلما قامت الحجة على من خالف، شرع الله
الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن
وكذَّب به وعاند، [فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ] (الحديد: 25) يعني السلاح والحراب والسنان
والنصال والدروع ونحوها، [وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] (الحديد: 25) أي في معايشهم
كالسكة والفأس والقدوم والمنشار، ... وما لا قوام للناس بدونه وغير ذلك،
[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ] (الحديد: 25) أي من نيته في حمل
السلاح نصرة الله ورسوله، [إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحديد: 25) أي هو قوي
عزيز، ينصر من نصره، من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد
ليبلو بعضكم ببعض» [6] .
ولقد جاء الخبر عن الجهاد في سبيل الله في العهد المكي في أوائل السور التي
أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في سورة المزمِّل في قوله تعالى:
[وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (المزمل: 20) ، إلاَّ أن القتال لم يشرع
بعد؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بايع أصحابه ليلة العقبة استأذنوه في الميل
على الأعداء، فقال لهم: لم أومر بعد، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وشعيرة الجهاد في سبيل الله تمتاز بالاستمراريَّة حتى قيام الساعة؛ لأن الجهاد
هو الحامي والناصر للكتاب الهادي؛ فالقرآن والسيف متلازمان لا ينفك أحدهما عن
الآخر.
يقول ابن القيّم رحمه الله: «فإن الله سبحانه أقام دين الإسلام بالحجة
والبرهان والسيف والعنان، فكلاهما في نصره أخوان شقيقان» [7] .
وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم على من وضع السلاح، واستبعد أن
يكون هناك جهاد بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
عن سلمة بن نفيل رضي الله عنه قال: «كنت جالساً عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله! أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح،
قالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها. فأقبل رسول الله صلى الله عليه
وسلم بوجهه وقال: كذبوا، الآن جاء القتال، ولا تزال من أمتي أمة يقاتلون حتى
تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم
القيامة، وهو يوحى إلي أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني، ألا فلا يضرب
بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام» [8] .
فأفاد هذا الحديث استمراريَّة القتال مع العدو حتى قيام الساعة، وفي الحديث
الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى
الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم
فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ: لا؛ إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ
اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّة» [9] .
ففعل (لا تزال) في الحديثين يفيد الاستمراريَّة، وفعل (يقاتلون) يفيد
التجديد، كما أفاد حديث عروة البارقي رضي الله عنه في البخاري قال: حَدَّثَنَا أَبُو
نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِر حَدَّثَنَا عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالْمَغْنَم» .
وهذا المعنى استنبط منه البخاري رحمه الله هذا فقال: باب الجهاد ماض مع
البر والفاجر [10] .
ولما شرح ابن حجر رحمه الله هذا الحديث قال: «وفيه أيضاً بشرى ببقاء
الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن مِنْ لازمِ بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم
المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر:» لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على
الحق «. الحديث [11] .
يقول السرخسي رحمه الله:» فاستقر الأمر على فرضيّّة الجهاد، وهو
فرض قائم إلى قيام الساعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجهاد ماض منذ
بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال» [12] .
ويقول ابن الهمام رحمه الله: «ولا شك أن إجماع الأمة أن الجهاد ماض إلى
يوم القيامة لم ينسخ، فلا يتصور نسخه بعد النبي صلى الله عليه وسلم» .
ويقول الخرقي رحمه الله: «والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط
عن الباقين» .
فيفهم من كلامه أنه إذا لم يقم به قوم فينتقل حكمه من الكفاية إلى العينيَّة، وقد
فسر ابن قدامة الكفاية فقال: «معنى فرض الكفاية الذي إن لم يقم به من يكفي أثم
الناس كلهم، وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس؛ فالخطاب في ابتدائه
يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل
بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره، والجهاد من
فروض الكفايات في قول عامة أهل العلم» ثم قال: «ومعنى الكفاية في الجهاد أن
ينهض قوم يكفون في قتالهم، إمّا أن يكونوا جنداً لهم دواوين من أجل ذلك، أو
يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعاً بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم،
ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها، ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على
العدو في بلادهم» [13] .
والله سبحانه فرض على عباده المؤمنين الجهاد في سبيله بنوعيه: جهاد
الكلمة، وجهاد السيف؛ من أجل نصرة الدين، وإعلاء كلمة الحق، والذب عن
ديار المسلمين، ودمغ الباطل وأهله، كما أمر عباده المؤمنين بالتعاون على البر
والتقوى، والاعتصام بحبل الله المتين، والاتباع لسنة سيد المرسلين صلى الله عليه
وسلم.
قال تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]
(المائدة: 2) .
قال الله تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ
مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]
(آل عمران: 103)
وهذا خطاب من الله تعالى لعباده المؤمنين ورد في صيغة الأمر، وهو يشتمل
على أمور مهمة جداً منها:
الأول: التعاون فيما بينهم على كل خير فيه فلاحهم ونجاحهم في الدنيا
والآخرة.
الثاني: النهي لهم عن التعاون في أي عمل يوقعهم في إثم أو عدوان.
الثالث: الاعتصام بحبل الله العظيم؛ لما في ذلك من النجاة.
الرابع: النهي عن التفرق والاختلاف؛ لما في ذلك من الهلكة والدمار.
الخامس: الأمر بالجماعة والإتلاف، وهو لازم الأمرين السابقين.
السادس: الاعتبار بما كانوا عليه قبل الإسلام من التفرق والتحزب والعداوة
والبغضاء والضلال المبين؛ لما في ذلك من التفكر والتدبر والاعتبار، وذلك يؤدي
إلى الهداية.
السابع: التذكير بنعمة الإخاء الإيماني؛ فلا بد من المحافظة عليه؛ لأنه
إحدى الركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم.
الثامن: الأخذ بالأسباب، وعدم الاستسلام للواقع المرير؛ حيث أمرهم
بالاعتصام بالدين، ونهاهم عن التفرق فيه، وهذا من الأخذ بالأسباب.
إن هذه الأمور الشرعية تمثلت في الكيان المسلم في عصر النبوة وما بعد ذلك
حتى أخذت تضمحل رويداً رويداً في العصر الحاضر؛ حيث قضت عليها
الجاهلية المعاصرة، فتلاشى الاعتصام بحبل الله، وحل محلّه الاعتصام بقانون
البشر، وصار التفرق والاختلاف في صفوف المسلمين سمة بارزة يندى لها الجبين،
ويرجف منها الفؤاد، ولم يصبح للمسلمين عموماً جماعة ولا قيادة تحمي حماهم،
وتحفظ بيضتهم وترد عنهم كيد الأعداء، وانعدم الاعتبار بمن سبق بسبب قطع صلة
الحاضر بالماضي، وحلّ محل الإخاء الإيماني الإخاء العنصري، والقومي،
والعرقي، وقل الاعتبار والتذكر لنعم الله تعالى، وداهية الدواهي الوقوف في وجه
من يدعو إلى ما تضمنته هذه الآية من تلك الأمور الجليلة، ويوصم بالتطرف
والتزمت والإرهاب والتخلف والرجعية، وغير ذلك من الألقاب [كَبُرَتْ كَلِمَةً
تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً] (الكهف: 5) .
إن أعظم شيء وقع فيه عالمنا الإسلامي اليوم عدم تحقيق التوحيد الذي
افترضه الله على العباد، والذي هو أساس العبادة ورأسها، وهو الذي بعث الله به
الأولين والآخرين من الرسل عليهم السلام، وبتحقيقه تكون النجاة من النار ويحصل
الفلاح والفوز بالجنة، وهو الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، وشرع
الجهاد من أجله، فأريقت الدماء وسبيت الأعراض، واستُحلّت الأموال. وهذا
التوحيد أصبح غريباً في بلاده، حتى وصل الحال بالناس أنهم لا يعرفون ما يضاده
من الشرك الأكبر؛ فكيف بما هو دونه، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
يقول د. علي بخيت الزهراني: «إن الدارس لهذه الفترة التي نعنى بها
ليصاب بدهشة عظيمة فيما حل بالمسلمين من شرك تعددت مظاهره واختلفت أشكاله؛
حتى لكأنما عقيدة التوحيد قد قضي عليها تماماً، وأن الموحدين قد انعدموا من
الأرض؛ فلم يعد هناك إلا من أشرك بالأولياء في عبادة الله؛ فهو يدعوهم رغباً
ورهباً. إننا لا نغلو إذا قلنا إن الأمة في هذين القرنين كانت غارقة في كثير من
مظاهر الشرك والبدع والخرافات، وأنها انحرفت في توحيد الألوهية انحرافاً رهيباً
وغشيها موج من الظلام والجهل حجب عنها حقيقة الدين وطمس فيها نور التوحيد،
وعدل بها عن صراطه المستقيم، لقد ضرب الشرك الأكبر بأطنابه في ديار الإسلام،
وانتشر في غالب القرى والبلدان، فشيدت القباب على الأضرحة، وأنشئت
المساجد على القبور، وأقيمت مزارات ومشاهد، وزينت بالسرج والقناديل،
وزخرفت بأنواع الزخارف، وكسيت من غالي الديباج ونفيس الستارات، وحليت
أبوابها ونوافذها بسبائك الذهب والفضة وطلائها، وأهديت عقود من اليواقيت
واللآلئ والزبرجد وغيرها، فقصدها القاصي والداني، ولجأ إلى رحابها المسافر
والمقيم، وهرع نحوها العلماء قبل الجهال، والكبار قبل الصغار، والجميع يرتمون
بساحاتها، ويتمرغون في جنباتها، ويلثمون أعتابها، فتراهم من حولها يطوفون،
وبأصحابها يستغيثون ويستعينون، وفي عرصاتها يهرقون دماء نذورهم وقرابينهم،
وكل هذا من الشرك الأكبر، وصورة من صور الوثنية، وإن اختلفت الأسماء
وتبدلت الهيئات والأشكال» [14] .
ولقد تألم الإمام الشوكاني رحمه الله عندما تفكر في حال أهل اليمن وما حل
بهم من المحن والفتن من بُعدهم عن معرفة أحكام دينهم، بل بُعدهم عن أداء ما
افترضه الله عليهم، من مباني الإسلام الخمسة وغيرها، مع أن البلاد اليمنية كانت
متميزة بأهل العلم والفقه، وكان كثير ممن يطلبون العلم يذهبون إليها، لكن يبدو
والله أعلم أنهم أهل تقليد وطرق صوفية منحرفة، وأهل فرق منحرفة كالزيدية
والباطنية وغيرها، واسمع إليه رحمه الله تعالى وهو يصف حال أهل بلاده فيقول:
«فكرت في ليلة من الليالي في هذه الفتن التي قد نزلت بأطراف هذا القطر اليمني،
وتأججت نارها، وطار شررها حتى أصاب كل فرد من ساكنيه منها شواظ وأقل
ما قد نال من هو بعيد عنها ما صار مشاهداً معلوماً من ضيق المعاش، وتقطع كثير
من أسباب الرزق، وعقر المكاسب حتى ضعفت أموال الناس، وتجاراتهم،
ومكاسبهم، وأفضى إلى ذهاب كثير من الأملاك، وعدم نفاق نفائس الأموال،
وحبائس الذخائر، ومن شك في هذا فلينظر فيه بعين البصيرة حتى تدفع عنه ريب
الشك بطمأنينة اليقين، هذا حال من هو بعيد عنها لم تطحنها بكلكلها، ولا وطأت
بأخفافها.
وأما من قد وفدت عليه وقومت إليه، وخبطته بأشواظها، وطوته بأنيابها،
وأناخت وقرت بناحيته كالقطر اليماني وما جاوره؛ فيا لله! كم من بحار دمٍ أراقت،
ومن نفوس أزهقت، ومن محارم هتكت، ومن أموال أباحت، ومن قرى ومدائن
طاحت بها الطوائح، وصاحت عليها الصوائح، بعد أن تعطلت وناحت بعرصاتها
المقفرات النوائح، فلما تصورت هذه الفتنة أكمل تصور، وإن كانت متقررة عند
كل أحد أكمل تقرر، ضاق ذهني عن تصورهم، فانقلبت إلى النظر في الأسباب
الموجبة لنزول المحن وحلول النقم من ساكني هذا القطر اليماني على العموم، من
دون نظر إلى مكان خاص أو طائفة معينة؛ فوجدت أهلها ما بين صعدة وعدن
ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: رعايا يأتمرون بأمر الدولة وينتهون بنهيها، لا يقدرون على
الخروج عن كل ما يرد عليهم من أمر ونهي كائناً ما كان.
القسم الثاني: طوائف خارجون عن أوامر الدولة متغلبون في بلادهم.
القسم الثالث: أهل المدن كصنعاء وذمار. وهم داخلون تحت أوامر الدولة،
ومن جملة من يصدق على غالبهم اسم الرعية، ولكنهم يتميّزون عن سائر الرعايا
بما سيأتي ذكره:
فأما القسم الأول: وهم الرعايا فأكثرهم بل كلهم إلاّ النادر الشاذ لا يحسنون
الصلاة ولا يعرفون ما لا تصلح إلاّ به ولا تتم بدونه من أذكارها وأركانها وشرائطها
وفرائضها، بل لا يوجد منهم من يتلو سورة الفاتحة تلاوة مجزئة إلا في أندر
الأحوال؛ ومع هذا فالإخلال بها والتساهل فيها قد صار دأبهم ودينهم، فحصل من
هذا أن غالبهم لا يحسن الصلاة ولا يصلي.
وطائفة منهم لا تحسن الصلاة وإنما تصلي صلاة غير مجزئة فلا فرق بينه
وبين من تركها، وأما من يحسنها ويواظب عليها فهو أقل قليل، بل هو الغراب
الأبقع، والكبريت الأحمر، وقد صح عن معلم الشرائع أنه لم يكن بين العبد وبين
الكفر إلا ترك الصلاة؛ فالتارك للصلاة من الرعايا كافر، وفي حكمه من فعلها وهو
لا يحسن من أذكارها وأركانها ما لا تتم إلا به؛ لأنه أخل بفرض عليه من أهم
الفروض، وواجب من آكد الواجبات، وهو لا يعلم ما لا تصلح الصلاة إلا به مع
إمكانه ووجود من يعرفه بهذه الصلاة، وهي أهم أركان الإسلام الخمسة وآكدها،
وقد صار الأمر فيها عند الرعايا هكذا.
ثم يتلوها الصيام وغالب الرعايا لا يصومون، وإن صاموا ففي النادر من
الأوقات، وفي بعض الأحوال؛ فربما لا يكمل شهر رمضان صوماً إلا القليل، ولا
شك أن تارك الصيام على الوجه الذي يتركونه كافر. وكم يعد العاد من واجبات
يخلّون بها، وفرائض لا يقيمونها، ومنكرات لا يجتنبونها، وكثيراً ما يأتي هؤلاء
الرعايا بألفاظ كفرية: فيقول هو يهودي ليفعلن كذا وليفعل كذا. ومرتد تارة بالقول
وتارة بالفعل وهو لا يشعر. ويطلق امرأته حتى تبين منه بألفاظ يديم التكلم بها:
كقوله: امرأته طالق ما فعل كذا أو لقد فعل كذا. وكثير منهم يستغيث بغير الله
تعالى من نبي أو رجل من الأموات أو صحابي ونحو ذلك. ومع هذه البلايا التي
تصدر منهم والرزايا التي هم مصرون عليها لا يجدون من ينهاهم عن منكر ولا
يأمرهم بمعروف.
وإذا قد تقرر لك أحوال هذا القسم الأول من الثلاثة الأقسام التي قدمنا لك
ذكرها فلنبين لك حال القسم الثاني وهو حكم أهل البلاد الخارجية عن أوامر الدولة
ونواهيها كبلاد القبلة والمشرق ونحو ذلك: اعلم رحمك الله أن جميع ما ذكرنا لك
في القسم الأول وهم الرعايا من ترك الصلاة وسائر الفرائض الشرعية إلاّ الشاذ
النادر على تلك الصفة فهو أيضاً كائن في البلاد الخارجية عن أوامر الدولة ونواهيها،
بل الأمر فيهم أشد وأفظع فإنهم جميعاً لا يحسنون الصلاة ولا القراءة، ومن كان
يقرأ فيهم فقراءته غير صحيحة، ولسانه غير صالح. وبالجملة فالفرائض الشرعية
بأسرها من غير فرق بين أركان الإسلام الخمسة وغيرها مهجورة عندهم متروكة،
بل كلمة الشهادة التي هي مفتاح الإسلام لا ينطق بها الناطق منهم إلاّ على عوج؛
ومع هذه ففيهم من المصائب العظيمة والقبائح الوخيمة والبلايا الجسيمة أمور غير
موجودة في القسم الأول، منها:
أنهم يحكمون ويتحاكمون إلى من يعرف الأحكام الطاغوتية منهم، في جميع
الأمور التي تنوبهم وتعرض لهم من غير إنكار ولا حياء من الله ولا من عباده، ولا
يخافون من أحد بل قد يحكمون بذلك بين من يقدرون على الوصول إليهم من الرعايا
ومن كان قريباً منهم، وهذا الأمر معلوم لكل أحد من الناس لا يقدر أحد على إنكاره
ودفعه، وهو أشهر من نار على علم، ولا شك ولا ريب أن هذا كفر بالله سبحانه
وتعالى وبشريعته التي أمر بها على لسان رسوله، واختارها لعباده في كتابه وعلى
لسان رسوله، بل كفروا بجميع الشرائع من عند آدم عليه السلام إلى الآن، وهؤلاء
جهادهم واجب، وقتالهم متعين حتى يقبلوا أحكام الإسلام ويذعنوا لها، ويحكموا
بينهم بالشريعة المطهرة ويخرجوا من جميع ما هم فيه من الطواغيت الشيطانية،
ومع هذا فهم مصرون على أمور غير الحكم بالطاغوت والتحاكم إليه، وكل واحد
منها على انفراده يوجب كفر فاعله وخروجه من الإسلام، ومن ذلك إطباقهم على
قطع ميراث النساء، وإصرارهم عليه وتعاضدهم على فعله، وقد تقرر في القواعد
الإسلامية أن منكر القطعي وجاحده والعامل على خلافه تمرداً أو عناداً أو استحلالاً
أو استخفافاً كافر بالله وبالشريعة المطهرة التي اختارها الله تعالى لعباده، ومع هذا
فغالبهم يستحل دماء المسلمين وأموالهم ولا يحترمها ولا يتورع عن شيء منها،
وهذا مشاهد معلوم لكل أحد لا ينكره جاهل ولا عاقل ولا مقصر ولا كامل، ففيهم
من آثارالجاهلية الجهلاء أشياء كثيرة يعرفها من تتبعها. فمن ذلك:
إقسامهم بالأوثان كما يسمع كثير منهم يقول قائلهم: أي وثن إذا أراد أن يحلف
والمراد بهذا الوثن هو الوثن الذي كانت الجاهلية تعبده، وقد ثبت عن الشارع صلى
الله عليه وسلم أن من حلف بملة غير ملة الإسلام فهو كافر.
وبالجملة: فكم يعد العاد من فضائح هؤلاء الطاغوتية وبلاياهم، وفي هذا
المقدار كفاية، ولا شك ولا ريب أن ارتكاب هؤلاء لمثل هذه الأمور الكبيرة من
أعظم الأسباب الموجبة للكفر السالبة للإيمان التي يتعين على كل فرد من أفراد
المسلمين إنكارها، ويجب على كل قادر أن يقاتل أهلها حتى يعودوا إلى دين
الإسلام، ومعلوم من قواعد الشريعة المطهرة ونصوصها أن من جرد نفسه لقتال
هؤلاء واستعان بالله وأخلص له النية فهو منصور وله العاقبة؛ فقد وعد الله بهذا في
كتابه العزيز: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ] (الحج: 40) ، [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) . [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (القصص: 83) .
[فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ] (المائدة: 56) .
فإن ترك من هو قادر على جهادهم فهو متعرض لنزول العقوبة مستحق لما
أصابه، فقد سلط الله على أهل الإسلام، طوائف عقوبة لهم حيث لم ينتهوا عن
المنكرات، ولم يحرصوا على العمل بالشريعة المطهرة، كما وقع من تسليط
الخوارج في أول الإسلام، ثم تسليط القرامطة والباطنية بعدهم، ثم تسليط الترك
حتى كادوا يطمسون الإسلام، وكما يقع كثيراً من تسليط الفرنج ونحوهم؛ فاعتبروا
يا أولي الأبصار، إن في هذا لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أما القسم الثالث من الأقسام الثلاثة التي ذكرناها وهم الساكنون في المدن؛ فهم
وإن كانوا أبعد الناس من الشر وأقربهم إلى الخير لكن غالبهم وجمهورهم عامة جُهّل
يهملون كثيراً مما أوجبه الله عليهم من الفرائض جهلاً وتساهلاً. فمن ذلك:
أنهم يصلون غالب الصلوات في غير أوقاتها، فيأتون بصلاة الفجر حال
طلوع الشمس وبعدها، وبصلاة العصر قرب الغروب، وبصلاة العشائين إمّا
جمعاً في وقت الأولى، أو في وقت الأخرى، ومع هذا فهم لا يحسنون أركان
الصلاة ولا أذكارها إلاّ الشاذ النادر منهم، ويتعاملون في بيعهم وشرائهم معاملات
يخالفون فيها المسلك الشرعي، وكثيراً ما يقع منهم الربا، ويتكلمون بالألفاظ
الكفرية، وينهمك كثير منهم في معاصي صغيرة وكبيرة، وهم أقرب الناس إلى
الخير وأسرعهم قبولاً للتعليم إذا وجدوا من يعزم عليهم عزيمة مستمرة دائمة غير
منقوصة في أقرب وقت كما يقع ذلك كثيراً» [15] .
وننتقل إلى رأي الإمام الأمير الصنعاني رحمه الله وهو يصف حال البلاد
الإسلامية، وما جاورها فيقول: «وبعدُ: فهذا (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد)
وجب عليّ تأليفه، وتعيّن علي ترصيفه، لما رأيته وعلمته من اتخاذ العباد الأنداد،
في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ونجد وتهامة وجميع ديار
الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيّبات
والمكاشفات، وهو من أهل الفجور لا يحضر للمسلمين مسجداً، ولا يُرى لله راكعاً
ولا ساجداً، ولا يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب، فوجب
عليّ أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله
إظهاره» [16] .
ثم ذكر أصولاً خمسة وأعقبها بفصول شرح فيها التوحيد وما يضاده، وبيَّن
فيها مذهب أهل القبور الباطل، وأجاب على كثير من الاعتراضات ببيانٍ شافٍ
كاف. ثم قال في وصف حال أهل القبور: «فهؤلاء القبوريون والمعتقدون في
جهّال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة، فاعتقدوا فيهم ما
لا يجوز أن يعتقد إلاّ في الله، وجعلوا لهم جزءاً من المال، وقصدوا قبورهم من
ديارهم للزيارة، وطافوا حول قبورهم، وقاموا خاضعين عند قبورهم، وهتفوا بهم
عند الشدائد، ونحروا تقرباً إليهم. وهذه هي أنواع العبادات التي عرّفناك ولا أدري
هل فيهم من يسجد لهم؟ لا أستبعد أن فيهم من يفعل ذلك، بل أخبرني من أثق به
أنه رأى من يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي يقصده تعظيماً له وعبادة،
ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبل منه، فإذا
حلف باسم ولي من أوليائهم قبله وصدقوه» [17] .
وقال أيضاً: «وكل قومٍ لهم رجل ينادونه؛ فأهل العراق والهند يدعون عبد
القادر الجيلاني، وأهل التهائم لهم في كلٍ بلدٍ ميّت يهتفون باسمه يقولون: يا زيلعي،
يا ابن العجيل، وأهل مكة وأهل الطائف: يا ابن العباس، وأهل مصر: يا
رفاعي، يا بدوي، والسادة البكرية، وأهل الجبال يا أباطير، وأهل اليمن: يا ابن
علوان، وفي كل قريةٍ أموات يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير ودفع
الضر، وهو بعينه فعل المشركين في الأصنام، كما قلنا في الأبيات النجدية: ...
أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وودٍ ليس ذلك من ودي
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم نحروا في سوحها من بحيرة ... أهلت لغير الله جهلاً على عمد وكم طائف حول القبور مقبلاً ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي» [18]
لقد سادت الفوضى عالمنا الإسلامي، وصار الطوفان الجاهلي هو المسيطر
عليه في جميع أمور حياته، وأصبحت أمتنا المسلمة غثاء لا عبرة بها، ولا يأبه
لها، بل لا يقام لها قدر؛ فنهبت خيراتها، واستعمرت أوطانها، وتهدمت أركان
حضارتها، وغزيت في عقيدتها وثقافتها، وانطبق عليها خبر الصادق المصدق
صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها،
فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء
السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن،
فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» [19] .
واسمع إلى يراع الداعية المفكر الأستاذ محمد قطب فيما سطره عن حالة
الواقع المعاصر: «لا يحتاج الإنسان إلى كبير جهد ليدرك أن الواقع المعاصر
للمسلمين هو أسوأ ما مر بهم في تاريخهم كله، ولا يحتاج إلى كبير جهد كذلك
ليدرك أن أوضاع المسلمين من السوء بحيث تجعلهم أسوأ كثيراً حتى من الجاهلية
المحيطة بهم، بل تبدو الجاهلية المعاصرة قمة شامخة يعيش المسلمون إلى جوارها
في الحضيض؛ فإلى جانب التخلف المزري في كل جوانب الحياة السياسية
والحربية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والمادية والفكرية والخلقية، يوجد
الضعف المزري لا أمام القوى العالمية وحدها، بل أمام أصغر القوى وأضألها في
الدويلات الآسيوية والأفريقية المتخلفة في ذاتها، الضعيفة في كيانها، ولكنها
تستأسد على المسلمين، فتقيم لهم المذابح بين الحين والحين، وتجتاح أرضهم،
وتخرب ديارهم، وتنتهك أراضيهم، وكأنهم حمى مباح لكل معتد أثيم.
وإلى جانب هذا وذلك، الضياع الفكري والروحي الذي جعل الأمة الإسلامية
لأول مرة في تاريخها تنظر إلى الجاهلية على أنها أفضل منها، وتنظر إلى الإسلام
على أنه رجعية وتخلف ينبغي الانسلاخ منه واتباع الجاهلية!» .
ثم يقول: «وفي النهاية تحقق النذير، تداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة
إلى قصعتها، بينما هم كثير كثير.. ألف مليون من البشر.. أكبر عدد وصلوا إليه
في التاريخ.. وفي القرنين الأخيرين كانت الكارثة التي لا تزال تعيش الأمة
عقابيلها إلى هذه اللحظة ظلت الصليبية الصهيونية تتآمر على الدولة العثمانية حتى
قضت عليها في النهاية وأسقطتها. وفتتت العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة
هزيلة ضعيفة، تتصارع فيما بينها وتتشاحن بما يحقق مصالح الأعداء دائماً،
ويحقق لهم السيطرة على مقدرات المسلمين!
وانتزعت فلسطين، واستولى الأعداء على بيت المقدس التي ثارت من أجلها
الحروب الصليبية الأولى، وتحركت من أجلها الحروب الصليبية الثانية، ولكنها
أعطيت في هذه المرة للشعب الشيطان، واكتفت الصليبية بإرواء حقدها بنزعها من
يد المسلمين. ونحيت الشريعة الإسلامية عن الحكم في كل البلاد التي دنستها أقدام
الصليبيين تشفياً وحقداً من ناحية، وزعزعة للدين من أصوله من ناحية أخرى.
فهم يعرفون أنهم حين ينقضون عروة الحكم تنقض بعدها بقية العرى، كما أخبر
الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم:» لينقضن عرى الإسلام عروة عروة،
فكلما نقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن
الصلاة « [20] .
ولم يكتف الأعداء بتنحية الشريعة عن الحكم.. فقد كانوا أخبث من ذلك
وأنكى عداوة؛ فقد أقاموا المتاريس التي تمنع عودتها إلى الحكم مرة أخرى، من
الأجيال التي ربوها على الغزو الفكري عن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام،
أجيال لا تعرف الإسلام على حقيقته، بل هي نافرة منه منسلخة عنه، مسممة
الأفكار تجاهه، تدعو بدعوات الغرب، وتعتنق أفكاره، وترفض أن تُحكَم بشريعة
الله بعد أن قيل لها إنها رجعية وجمود وتأخر! وتقف للدعوة الإسلامية بالمرصاد
سواء منها الحكام، والمفكرون، والكتاب! والسينمائيون، والإذاعيون،
والتلفزيونيون، والقصاصون، والمسرحيون والفنانات، والفنانون.. والأولاد
والبنات التقدميون المنحلو الأخلاق، وكانت الطامة في الجولة الأخيرة في طائفة من
الحكام العسكريين، جيء بهم ليسحقوا الإسلام سحقاً، وأضيفت عليهم البطولات
الكاذبة، وهم يذبحون المسلمين وتقطر دماؤهم من أيديهم، ويُعبّدون شعوبهم
لمصالح الصليبية الصهيونية لقاء شهوة السلطة وشهوة الطغيان.. ويفقرون شعوبهم
ويستنزفون طاقاتها، فتركبها الديون وتهبط عملاتها، ويزيد تحكم الأعداء فيها،
وهم جالسون بغلظ أكبادهم يتسلون بمصائب شعوبهم! وفي كل حين تهجم الصليبية
هجمة أو تهجم الصهيونية هجمة، فيعيدون تفتيت الدويلات التي فتتوها من قبل،
ليحيلولها إلى تراب تسحقه أقدامهم! ويفتعلون الأزمات لتحقيق أهدافهم، والأبطال
جالسون على مقاعدهم، يكذبون على شعوبهم ويموّهون عليها، في ظل البطولات
المزعومة.. حتى تنفذ أغراض السادة فيركلوا الأبطال الزائفين بأقدامهم
ويستهلكوهم، ولا يعتبر منهم أحد بما فُعل بمن سبقه من الأبطال!» [21] .
لقد تبعت الشعوب الإسلامية سنن الغرب في أكثر أحواله وأعماله، وانطبق
عليهم معنى الحديث في العصر الحاضر: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شبراً شبراً
وذراعاً بذراع؛ حتى لو دخلوا جُحر ضَبٍّ تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهود
والنصارى؟ قال: فمن؟ !» [22] .
__________
(*) عميد كلية القرآن الكريم سابقاً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(1) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، ص 1.
(2) المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت وأثرها على الفرد والمجتمع، ص 4، إعداد: د مشعل بن عبد الله القدهي.
(3) أخرجه ابن ماجه، رقم 4019.
(4) كلمة الحق، للشيخ أحمد شاكر رحمه الله، ص 3 - 10، مع تصرف في بعض المواطن.
(5) رواه أحمد في المسند، 2/ 50 عن ابن عمرو، استشهد به البخاري في كتاب الجهاد.
(6) تفسير ابن كثير، 4/ 314، دار الفكر.
(7) كتاب الفروسيّة، ص 4.
(8) رواه أحمد في المسند، 4/214/215، ورواه النسائي في كتاب الخيل.
(9) انظر: كتاب الإمارة، باب 34 رقم 3547.
(10) انظر: كتاب الجهاد، باب الجهاد ماض مع البر والفاجر، 6/ 56، رقم 2852.
(11) فتح الباري، 6/56.
(12) المبسوط، 10/2/3.
(13) المغني، 13/ 6 8، الطبعة المحققة.
(14) المصدر نفسه، ص 269 270.
(15) الدواء العاجل في دفع العدو الصائل، للشوكاني، ص 3، 6، 11، 14، 18.
(16) تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، للصنعاني، ص 495، ضمن رسائل الجامع الفريد.
(17) المصدر السابق، ص 505.
(18) المصدر السابق.
(19) أخرجه أبو داود، رقم 4297.
(20) أخرجه أحمد، رقم (21656) .
(21) رؤية إسلامية لأحوال العالم الإسلامي، ص 178، 183، 184.
(22) أخرجه البخاري، رقم (7320) .(173/102)
الورقة الأخيرة
امرأة في اللحظات الأخيرة
عبد الرزاق المبارك [*]
Almubarak_a@yahoo.com
هذه قصة أشبه بالخيال منها بالحقيقة.. ولو حدثني بها أحد لأكثرت عليه
وأكثرت الاستيثاق منه.
فقد كنت أجلس في مكتبي بعد أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة في إحدى
الليالي الطويلة من شتاء (أوريجن) الطويل في شمال غربي القارة الأمريكية
بالولايات المتحدة في شهر شوال من عام 1419هـ.
وفي مدينة (يوجين) حيث كنت طالباً في جامعة (أوريجن) أمسيت
مستغرقاً للدرس، وبينا أنا كذلك والهدوء مخيم والصمت مطبق لا يقطعه إلا صوت
ابنتي الصغيرة وهي تلعب.. وإلا صوت زخات المطر المتقطع وإن كنت أستأنس
بذلك كله ويبعث فِيَّ روحاً من النشاط جديدة..
وبينما أنا كذلك إذا برنين الهاتف يتسلل بين تلك اللحظات الساكنة؛ وها هو
أخ لي في الله جزائري اسمه (شكيب) .
وبعد التحية والسلام.. أخبرني بحادثة جد غريبة.. وسعيدة في آن واحد! !
فقد كان لزوجته الأمريكية المسلمة (كريمة) خالة على ديانة الصليب والتثليث،
وقد أُخذت الخالة تلك إلى مستشفى سيكرت هارت الذي يبعد عن منزلي مسير ثلاث
دقائق وبعد تشخيص حالتها لم يستطع الأطباء إخفاء الحقيقة.. فالمرأة ميئوس من
حياتها.. وإنها مفارقة لا محالة.. والأمر ساعة أو ساعتان أو أكثر أو أقل والعلم
عند الله وحده.
ثم ذكر لي ما جرى له ولزوجته وأنا في ذهول تام أستمع إلى نبرات صوته
يتهدج وكأني أحس بنبضات قلبه وحشرجته تعتري صوته بين الحين والآخر، وقد
قال لي بالحرف الواحد:
تحدثت مع زوجتي في حال خالتها، وتشاورنا في إجراء محاولة أخيرة
ندعوها فيها إلى الإسلام ولو بقي في عمرها ساعة ما دامت لم تغرغر الروح. قال
صاحبي: فاستعنت بالله، وصليت ركعتين، ودعوت الله عز وجل لها بالهداية وأنا
في السجود، وأن يشرح صدرها لدين الهدى والحق.. وذلك لعلمي أن العبد أقرب
ما يكون إلى ربه وهو ساجد.
ثم اتجهت كريمة إليها في المستشفى وعرضت عليها الإسلام وأخبرتها أن
الإسلام يجبُّ ما قبله، وأن الله يغفر لها ما قد سلف من عمرها إن هي قالت:
(أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) خالصةً من قلبها. غير أن تلك
المرأة المريضة قد فقدت القدرة على الكلام، فطلبت زوجة صاحبي بفطانة وحسن
تصرف من خالتها المريضة أن تنطق بالشهادتين في نفسها إذ كانت عاجزة عن
النطق بلسانها، وأنها إن فعلت ترفع يدها إشارة لذلك.
وبعد أن أوضحت لها معناها بالإنجليزية قالت لها: قولي بقلبك: أشهد أن لا
إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم كانت لحظات حرجة على كريمة؛ فكم
تتمنى لخالتها النجاة من نار وقودها الناس والحجارة، ومع دقات قلب متسارعة
مرت ثوان بطيئة متثاقلة لا يشبه تثاقلها إلا حركة يد المرأة المريضة التي بدأت
ترفع يدها بعد أن سمعت تلقين الشهادة أكثر مما كانت تستطيع أن ترفعها من قبل،
وتبسمت معلنة رضاها واختيارها وقبولها دين الإسلام.
فما كان من (كريمة) وهي في قمة الفرحة والسرور إلا أن بدأت تبشرها
وتقرأ عليها سورة يس.. بينما ظلت ترتسم على محيا تلك المرأة ابتسامة سرور
بسماع القرآن إعلاناً منها برضاها التام بما تسمع من آيات الذكر الحكيم.
وإذا بالممرضة الأمريكية التي كانت تتابع ما يحدث دون أن يشعر بها أحد
تتقدم لتعرض تبرعها بأن تكون شاهداً رسمياً على إسلام خالة كريمة إن احتيج إلى
ذلك.. أنطقها الله الذي أنطق كل شيء.
لا إله إلا الله! ! وها هو صديقي شكيب يسألني عما يجب علينا تجاه هذه
المرأة التي ما زال لها عرق ينبض ونفس يجري.
أجبته: إنها أخت لنا في الإسلام لما ظهر لنا من شأنها، ونَكِلُ سريرتها إلى
الله عز وجل. قلت له ذلك وأنا في غاية الذهول، وقلبي يخفق فرحاً لإسلام هذه
المرأة وهي في مراحل متقدمة من المرض وقد أيس الأطباء من شفائهاً.
وذكَّرت أخي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي
رواه ابن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
الصادق المصدوق: «إن أحدكم يُجمَع خلقه في بطن أمه في أربعين يوماً، ثم
يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه
الروح ويؤمر بأربع: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد؛ فوالله الذي لا إله
غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق
عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة
فيدخلها» [1] .
ثم وضعت سماعة الهاتف.. أطرقت لحظة، وضعت كفي على خدي؛ فما
شعرت بنفسي إلا وأنا أجهش بالبكاء تأثراً واستبشاراً، وكذلك كان حال من حولي
عندما رويت لهم القصة تلك الليلة وكانت لحظات معطرات بالخشوع والدموع
حامدين فيها لله تعالى، مهللين له ومسبحين لما تفضل به على هذه المرأة من
الهداية.. أما صاحبي فقد أخبرني عندما التقيت به في المسجد فيما بعد أنه كلما
ارتسمت في خياله صورة هذا الموقف، غلب عليه شعور غريب من الدهشة
وأحس في جسده بقُشَعْرِيرة، ثم لا يجد في نفسه إلا مزيداً من الرغبة في
الصلاة وطول السجود والمكث في المسجد.
مهلاً؛ فالحكاية لم تنته بعد.. ففي الليلة نفسها التي أسلمت فيها هذه المرأة
وما مضت ساعات على محادثتي معه وعندما هاتفت صاحبي لأخبره بأن عليها أن
تصلي المغرب والعشاء على ما يتيسر لها ولو إيماءً؛ وإذا به يخبرني بأن الأجل
المحتوم قد سبق الجميع إليها، فأسلمت روحها لباريها مسلمة هكذا نحسبها والله
حسيبها راضية بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً؛ وما صلت لله
صلاة واحدة.
فاللهم بحق الإسلام وأُخُوَّته نسألك أن ترحمها وأن تتقبلها بأحسن القبول.
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة.. يا أرحم الراحمين.
__________
(*) مستشار بهيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
(1) أخرجه البخاري، رقم 3208، ومسلم، رقم 3332، وأبو داود، رقم 4708، والترمذي، رقم 2137، واللفظ له.(173/110)
صفر - 1423هـ
مايو - 2002م
(السنة: 17)(174/)
كلمة صغيرة
الزلزال القادم
شهد شمال أفغانستان (معقل التحالف العميل) عدة هزات أرضية متتابعة،
كان آخرها زلزال احتفالات (النيروز عاشوراء) الشهر الماضي الذي أسفر عن
عدة آلاف من القتلى، وأضعافهم من الجرحى والمشردين، إضافة إلى تدمير مدن
وقرى بأكملها.
هناك من يقول: إن سبب هذه الزلازل المتتابعة هو وجود قوات التحالف
الغربي الصليبي على أرض أفغانستان، ليس فقد بسبب (بركاتها) التي حلت على
الشعب الأفغاني المكلوم، ولكن أيضًا بسبب أطنان المتفجرات والقنابل والصواريخ
التي تلقيها من السماء هدية لأرض أفغانستان لأن قواتها تجبن عن المواجهة على
الأرض.
وقد لا يحتاج الأمر إلى كل هذه التفسيرات - رغم عدم استبعادنا لها - لأن
أفغانستان تقع في نطاق حزام شمال الصين الزلزالي النشط، ومن المعروف أن
الزلازل تقع غالبًا عند حواف الصفائح الأرضية التكتونية (plate tectonic)
نتيجة احتكام هذه الصفائح الذي يولد ضغوطًا شديدة وطاقة كبيرة، وحينها يزيد
الشحن أو الضغط على قدرة هذه الصخور على الاحتمال؛ فلا يكون بوسعها سوى
إطلاق هذه الطاقة فجأة في صورة موجات حركة قوية تنتشر في جميع الاتجاهات،
وتهدد بتدمير ما فوقها.
على سطح الأرض نشاهد احتكاكها أيضًا ولكن من نوع آخر، يمكن أن
نسميها احتكاكات صفائح حضارية، فمنذ أن بدأت أمريكا وحلفاؤها ما أسمته
بالحرب على الإرهاب أخذت على عاتقها إعلان الحرب على القلاع الحضارية
للعالم الإسلامي متمثلا في الهجوم على هوية هذا العالم وخصوصيته في مجالات
العقيدة، المرأة والأسرة والتعليم والأخلاق، ظهر ذلك جليًا في أفغانستان نفسها،
وفي أنحاء عديدة من العالم الإسلامي إضافة إلى سعي محموم في الفراغ من القضايا
المعلقة في هذه المجالات وغيرها، كقضية فلسطين مستخدمة ما استطاعته من
وسائل الضغط السياسي والاقتصادي والإعلامي، وربما العسكري.
وعلى سطح الأرض أيضًا نشاهد في المقابل طاقة كبيرة مكبوتة في صدور
أبناء هذا العالم، تظهر نذرها هنا وهناك في صورة حوادث يسيرة ولكنها ذات
دلالات عميقة على حجم الشحن والغيظ المكبوتين، وقد كان من آخر ذلك ما حدث
للاعب فريق كرة السلة الأمريكي الذي كان يلعب في كابل، ووقع بالخطأ بين أفراد
الجمهور الأفغاني (ليس من طالبان ولا القاعدة) ، فما كان من أحد المتفرجين إلا
أن قام بركل رأسه، ثم تجمع عليه حشود المتفرجين يوسعونه ضربًا إلى أن تدخلت
الشرطة وفرقتهم بإطلاق النار، وليس بعيدًا من ذلك تلك المظاهرات العارمة التي
اندلعت في أنحاء عديدة من العالم الإسلامي تزامنًا مع مؤتمر القمة العربية الأخيرة.
إن أمريكا وحلفاءها وعملاءها من العلمانيين المحليين لا يأبهون بهذه
التفاعلات وآثارها على المنطقة؛ لأنهم حين يحسون بالخطر سيحزمون حقائبهم
جميعًا، ويرحلون تاركين أهل البلاد يواجهون وحدهم تبعات الزلزال القادم.. هكذا
يتمنون!(174/3)
الافتتاحية
الخطاب الإسلامي والقضية الكبرى.. دعوة إلى الثقة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
ومن والاه، وبعد:
فإن الخطاب الإسلامي كثيراً ما يُتهم ظلماً بأنه «محدود» .. «سطحي» ..
«اختزالي» ... «عاطفي» ! وكثيراً ما تجنى عليه مناوِئوه بأنه لا يملك نظرة
معمقة للقضايا أو تفسيراً واقعياً للأحداث.
ولكن الأحداث تثبت يوماً بعد يوم أن هذا الاتهام فيه من الإجحاف بقدر ما فيه
من الإسفاف؛ لأن الإسلاميين لم يخصهم الله دون خلقه بالحرمان من رجاحة العقل
أو بُعد النظر كما يريد خصومهم أن يشيعوا، بل هم مثل بقية خلق الله في البناء
الإنساني، إلا أن الله اختص من يفهم دينه منهم بمخزون هائل من الحقائق المودعة
في مصادر هذا الدين، يستطيع بها وفي ضوئها كل إنسان أن يرى الصورة أوضح
والحقيقة أظهر. صحيح أن هناك مساحات للاجتهاد والرأي، تتفاوت فيها وجهات
النظر، إلا أن هذا التفاوت أو الاختلاف يبقى، أو ينبغي أن يبقى في إطار اختلاف
التنوع لا اختلاف التضاد.
إن المسلم الحق تحكمه في تصوراته وتصرفاته ثوابت من حقائق يقينية جاء
بها الوحي الخاتم، وقررها في صورة سنن كونية قدرية، وسنن شرعية دينية لا
يمكن للإنسان إذا جهلها أو تجاهلها أن يكون ذا بصيرة أبداً. تجيء الأحداث بعد
الأحداث لتثبت على ساحات الواقع ومآلات الأمور أن التصور الإسلامي للقضايا،
والطرح الإسلامي للمشكلات هو الأقرب للصواب، والأجدر بالتطبيق لو كان له
من يسمعه، وآخر الشواهد على ذلك ما وصلت إليه القضية الفلسطينية من انتكاسة
مخزية على الأصعدة الرسمية، عالمياً وإسلامياً وعربياً وإقليمياً ومحلياً.
نستطيع أن نقول: إن ذلك لم يكن ليكون كذلك لولا ما حدث وما يزال يحدث
من تجاهل للثوابت الإسلامية في التعامل مع تلك القضية المصيرية منذ أن كانت
قضية إسلامية عالمية، حتى حولوها إلى قضية عربية قومية، ثم قضية إقليمية
تخص دول (الطوق) المجاورة للأراضي الفلسطينية، ثم ما تلا ذلك من
اختصارها في قضية «سلطة فلسطينية» .
كان الإسلاميون بمختلف فصائلهم في العالم العربي والإسلامي يُلحون على
ضرورة أن تلتزم الأنظمة العربية بالمحكمات الإسلامية في إدارة ما كان يسمى بـ
(الصراع العربي الإسرائيلي) ، ثم عندما أصبح يُسمى بـ (النزاع الفلسطيني
الإسرائيلي) ؛ كان الإسلاميون داخل فلسطين يلحون أيضاً على السلطة الفلسطينية
ألا تفرط في تلك المحكمات والثوابت أثناء ممارستها للإدارة الرمزية لبعض
الأراضي المحتلة، ولكن العناد الموجه للطرح الإسلامي، كان هو الموقف التقليدي
لكل من تصدر لإدارة الصراع في مراحله المختلفة، وكأن هذا الصراع ليس
للإسلام فيه كلمة، أو ليست له بأرضه المقدسة صلة، وكأن أمة الإسلام ليس فيها
علماء يُرجع إليهم في قضايا الصراع المصيرية، وكأن الشعوب أيضاً ليس لها رأي
فيما ينبثق من عقول الزعامات الملهمة بين الحين والآخر في غرف المباحثات
السرية التي تنتقل بالقضية بين النقيض والنقيض. لقد تشبث المعاندون للخطاب
الإسلامي بالشعارات الحمراء أيام المد الثوري عازمين على (تحقيق النصر) ،
وتحرير آخر حبة رمل من فلسطين بفضل التضامن مع «الرفاق» في
موسكو وبكين ونيودلهي، ثم لما بدا لهم افتراق الرفاق عنهم إلى مصالحهم
الخاصة التي منها التقارب مع تل أبيب ومَنْ وراءها، انقلبوا إلى النقيض الآخر
وعقدوا الآمال على من صنعوا «إسرائيل» وزرعوها وعملوا على رعايتها
وحمايتها.
لقد تجاهل العرب هذه البدهية العقلية التي دلت عليها الثوابت الشرعية في
قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً
وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ] (آل عمران: 118) ؛ فولاية النصارى لليهود
حقيقة قرآنية لم تجد من الساسة مَنْ يستحضرها أو يصدق من ينبهون إليها، وقاد
هذا الخطأ إلى خطأ أفدح، وهو تصديق أن النصارى يمكن أن ينصفوا المسلمين
من اليهود، فأوكلوا إلى هؤلاء النصارى (رعاية) عملية السلام مع اليهود
متجاهلين أن السلام الدائم والشامل مع جميع النصارى أنفسهم وهم كبير؛ فما البال
باليهود!
ألم يقل الله تعالى عن هاتين الطائفتين: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ
عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) ألم يخبرنا الله عن نقمتهم علينا
ورغبتهم في زوال النعمة عنا [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ] (المائدة: 59) ، [مَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ]
(البقرة: 105) .
إن أكثر ساسة العرب والمسلمين ألقوا بهذه الحقائق عرض الحائط مطلقين
على كفار أهل الكتاب وصف «شركاء السلام» بل إن اليهود الذين قال الله تعالى
عنهم: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] (المائدة:
82) وجدوا من يقول عن زعمائهم القتلة والفجرة الكفرة: «صديقي بيجن»
«شريكي رابين» ، ووجدوا من يصف شعبهم المجرم المغتصب بأنهم
(أبناء العمومة) ، وأنهم جزء من (نسيج الشرق أوسطية) ، بل دعا بعضهم إلى
ضم إسرائيل إلى جامعة الدول العربية، لتصلح أن تسمى (عسرائيل) ، أو تدمج
مع الفلسطينيين في كيان واحد اسمه (إسراطين) ! !
أما القدس، فخدعوا الأمة بعودتها القريبة في عملية حلول واتحاد بقرية
(أبو ديس) التي كان سيطلق عليها سراً القدس عاصمة فلسطين! وأما المسجد
الأقصى فقد صدرت بشأنه مبادرة (جريئة) في القمة العربية قبل الأخيرة
على مسمع من الجميع في الجلسات الخاصة، قال المبادر بها: (مش عاوزين
المسجد.. المسجد في ستين داهية.. نقدر نصلي في أي أرض «! !
ولم تكن مثل تلك المواقف المناهضة لهدي الإسلام في التعامل مع الأعداء
مجرد مواقف شخصية نظرية، بل إن أصحابها حرصوا على أن يحولوها إلى
مواقف جماعية عملية، فبنيت على أكثرها السياسات، واتخذت من أجلها الخطوات،
ورسمت لأجل تحقيقها الاستراتيجيات، وأصبحنا نسمع ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً
طوال ما يزيد عن عشر سنين عما يسمى بـ (الخيار الاستراتيجي للسلام) ،
والذي اعتبر بعد ذلك (الخيار الوحيد) مع أن اليهود لم يقولوا - يوماً ونتحدى -:
إن السلام خيارهم الاستراتيجي أو الوحيد.
جاءت الأحداث الأخيرة في فلسطين لتثبت أن وهم السلام الشامل والعادل
الذي طالما بشرونا به في (كامب ديفيد) الأولى وحتى (كامب ديفيد) الثانية،
مروراً بمدريد وأوسلو ووادي عربة وواي ريفر وغيرها، ما هو إلا سراب
بقيعة، وما تصديق دعواه إلا كمثل صفوان عليه تراب تسفيه الريح ويذهب به
المطر، فماذا بقي اليوم من السلام الذي طُبِّعت لأجله العلاقات في بعض الدول
العربية وغيرت لأجله المناهج، وغُيب المعارضون في السجون أو أُخرجوا إلى
المنافي؟ !
لقد أثبت اليهود أنهم لا يريدون كما قال مناحيم بيجن إلا سلام القبور؛ ولذا
راحوا يتحققون من ركون العرب إلى الدنيا وإيثارهم للسلامة، ويشجعونهم على
ذلك مدركين أن الأمن بل التأمين سيأتيهم من العرب مصوناً مضموناً، عندما
يصلون إلى مرحلة» حب الدنيا وكراهية الموت «، فعندها سيحولهم الوهن إلى
موتى في صورة الأحياء، فيكون سلام القبور معهم أمراً واقعياً؛ لأنهم لا يتحركون
ولا يريدون لأحد أن يتحرك دونهم.
إن العرب والمسلمين، وبعد ربع قرن من كامب ديفيد الأولى، ونحو عقد من
مدريد، وسبع عجاف من أوسلو، يواجَهون بحقيقة السلام اليهودي الأمريكي؛ لا
في فلسطين وحدها، بل في الأردن التي طالما ردد شارون أنها (الوطن البديل)
للفلسطينيين، وفي سوريا ولبنان اللتين هُددتا أكثر من مرة على لسان شارون
بضربة تأديبية، وفي مصر التي هدد أحد وزراء شارون بإغراقها في مياه النيل
بضرب السد العالي ... وأخيراً وليس آخراً نسمع أصواتاً من بعيد، من» إسرائيل
الغربية «المسماة أمريكا تنادي بضرب مكة حماها الله ورعاها بقنبلة نووية! !
فهل هذا هو الجواب الصهيوني والغربي على الإلحاح العربي بسلام
(الشجعان) ؟ ! يبدو أن جوابهم قد بدأ بالفعل من فلسطين، في وقت عجز فيه
العرب حتى عن تدبير مسرحية هزلية لتسويغ الرد الإسرائيلي الصريح جداً على
دعوة مؤتمر القمة العربي للسلام.
الأحداث تجري الآن على أراضي العرب بغير ما يشتهون، ونتائج السياسات
(الحكيمة) تظهر عاقبة ما كان الإسلاميون منه يحذرون.
- فهل كان الإسلاميون مخطئين عندما كانوا يحذرون من أوهام السلام مع
اليهود؟ !
- هل كانوا» عاطفيين حماسيين «وهم يدعون الأمة للإعداد للجهاد
والاستشهاد لمواجهة عدو لا يريد إلا قتلهم وإذلالهم؟ !
- هل كانوا» غير واقعيين «وهم يقولون إن الغرب بعامة وأمريكا بخاصة
لن ينصفونا من أعدائنا لأنهم بعض أعدائنا؟
- هل كانوا» سطحيين «وهم يقولون: إن» المعادلة الدولية «تستثني
العرب والمسلمين من أن يكونوا قوة عالمية أو إقليمية على أي مستوى سياسي أو
عسكري أو اقتصادي حاضراً أو مستقبلاً؟
- وهل كان الخطاب الإسلامي اختزالياً أو اعتزالياً وهو يدعو الحكومات
والأنظمة إلى جمع الكلمة على الإسلام، وإعداد الأمة به لمواجهة طويلة وصعبة مع
عدو لم يؤت به من أصقاع الأرض إلا لتصفية حسابات تاريخية ودينية؟
- وهل كان الخطاب الإسلامي (غير عقلاني) وهو يقول: إن معركة اليهود
معنا دينية وينبغي أن تدار من طرفنا دينياً أيضاً؟
- وهل كان الخطاب الإسلامي» خطاباً تسطيحياً «وهو يقول: إن
الاعتراف بـ (إسرائيل) كدولة، هو اعتراف بحق اليهود في أرض الإسراء للأبد،
واعتراف بأن الشطر الغربي للقدس هو ملك شرعي لهم سيتبعه لا محالة اعتراف
عالمي بالضم الرسمي للشطر الشرقي منها؟ بما يستتبع ذلك من خطر ماحق على
المسجد الأقصى وما حوله؟
على كل حال، لسنا بصدد البكاء على الأطلال، أو الندب على اللبن
المسكوب، ولسنا أيضاً بسبيل الشماتة أو الشكاية، ممن عرضوا أنفسهم وأمتهم
للخطر بحسن الظن في عهود الأعداء مع سوء الظن في موعود الله، لسنا بصدد
ذلك؛ لأن الشماتة ليست من خُلق عباد الله، والشكاية إنما تُشكى إلى الله. ولكننا
ندعو إلى رقع ما انخرق، ورتق ما انفتق من أحوال الأمة باستدراك ما فَرَط من
شؤونها وقضاياها مجددين الدعوة إلى الثوابت التي نعلمها من ديننا، والتي تشكل
ركيزة الإدارة الصحيحة للمعركة الطويلة مع اليهود، لا على أرض فلسطين وحدها،
وإنما على كل أرض إسلامية يضعها اليهود في برامجهم المستقبلية من فرات
العراق إلى نيل مصر، ومن جنوب تركيا إلى شمال الجزيرة.
إن الدائرة قد عادت إلى نقطة الصفر في مسيرة إدارة المعركة تحت الرايات
العلمانية، وآن للراية الإسلامية بثوابتها الاعتقادية وصبغتها الإيمانية أن تجابه
الخطة اليهودية بثوابتها الاعتقادية وطريقتها الدينية، آن لها ألا تمكن العلمانيين مرة
أخرى بالانفراد بقضايا الأمة أو تخديرها أو شل قواها في مواجهة أعدائها، ولن
يكون ذلك إلا من خلال الإصرار على إعادة قضية فلسطين إلى وجهها الإسلامي،
والإلحاح على ترسيخ ذلك فهماً وعملاً بما ينبني على الحقائق الآتية:
* عداء اليهود للمسلمين في كل زمان ومكان عداءٌ أبدي دائم ومنطلق في
الأساس من خلفيات دينية اعتقادية منحرفة.
* مؤازرة النصارى لهم منبعث كذلك من قناعات دينية وقواسم مشتركة يؤمن
بها أهل الكتاب فيما يتعلق بالزمان والمكان الذي نعيشه.
* أرض فلسطين مقدسة بنصوص محكمة من الكتاب والسنة؛ وهي أرض
وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر منها.
* حرمة دماء المسلمين المراقة في فلسطين أعظم عند الله من حرمة الأرض
المقدسة، وحرمة المسجد الأقصى، بل ومن حرمة الكعبة كما قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وهو يسكب العبرات في الملتزم مخاطباً الكعبة:» ما أطيبك وما
أطيب ريحك! وما أعظمك وأعظم حرمتك! ولكن حرمة المسلم أعظم عند الله من
حرمتك « [1] .
* حكم الجهاد في سبيل الله والمستضعفين من النساء والولدان هو الوجوب
على التعيين ما دُهمت أرض من أراضي المسلمين؛ فكيف إذا كانت من أقدس
أراضيهم؟ !
* التنازل عن هذه الأراضي المقدسة لأنجس المخلوقات البشرية بعد
اغتصابهم لها بحيث تكون ملكاً دائماً لهم، هو خيانة لله ورسوله والمؤمنين بحكم
فتاوى العدول من علماء المسلمين.
* اعتماد النهج العلماني اللاديني في مواجهة النهج الصهيوني الديني، هو
تزييف لإرادة الأمة، فوق أن تلك العلمانية بمناهجها وزعاماتها ورموزها لم تفَّوض
تفويضاً شرعياً صحيحاً، ولا حتى قانونياً سليماً بأن تنفرد بتصميم وتنفيذ خطط
التعامل مع عدو الأمة الأول سلماً أو حرباً.
* انصراف الإسلاميين أو صرفهم خلال عقود الصراع، عن المشاركة
الجدية في مواجهة اليهود، كان أكثره بسبب إصرار الأنظمة العلمانية على الإبقاء
على إبعاد الدين عن المواجهة، وكان أيضاً بسبب إنشغال الإسلاميين أو إشغالهم
بمعارك جانبية شغلتهم عن التعامل بجدية مع القضية المصيرية التي قُدر للجيل
المعاصر أن يشهدها، وأن يتحمل أمام الله مسؤوليتها.
إننا ندعو في ظل الأحداث الجسيمة الأليمة في الأرض المقدسة، والتي نعدها
بداية مرحلة جديدة من الصراع إلى ما يلي:
1 - العمل على إيجاد آلية مناسبة لعقد (مؤتمر قمة) لعلماء المسلمين،
لتقرير الأصول الشرعية الصحيحة التي ينبغي أن يسير وفقها المسلمون لأداء
واجبات المرحلة في تلك المواجهة المرشحة للاستمرار.
2 - تفعيل دور الدعم المباشر للجهاد الفلسطيني الذي آن له أن يتحول من
مسمى (الانتفاضة) إلى مسمى الجهاد.
3 - إضافة بند خاص إلى برامج ومناهج الجماعات والجمعيات والهيئات
والفصائل الإسلامية العاملة في العالم، يكون خالصاً لأداء المستطاع من الواجب
العيني لإنقاذ فلسطين وشعبها وقدسها وأقصاها من الضياع.
4 - وأخيراً ... دعوة كل مسلم على المستوى الشخصي بأن يعد القضية
قضيته، ويبرئ ذمته إن لم يكن برأها بعد بأداء واجبه نحو إخوانه المستضعفين
المستنصرين.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) الترمذي: 24/ البر والصلة، حديث 1955، بنحوه.(174/4)
دراسات في الشريعة
المسائل المحكمات و «الآخر»
دراسة تطبيقية في السيرة النبوية
أ. د. عابد السفياني [*]
قال الله تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ
الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (الجاثية: 18) .
[وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ
وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] (المائدة: 49) .
[وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم
بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ] (المؤمنون: 71) .
المُحكمات هي البيناتُ الواضحاتُ والأسس التي جاءت بها الشريعة الإسلامية
وهي أصل يُردُّ إليه ويُبنى عليه، ومنها ما أجمعت عليه الشرائع الإسلامية من
وجوب عبادة الله وحده وتحريم الكفر والشرك والنفاق، والظلم، والربا، والفواحش،
وإبطال أحكام الجاهلية ووجوب الحكم بالشريعة الإسلامية، واعتبارها المصدر
الوحيد للتشريع في جميع القوانين الأصلية منها والفرعية.
وقد دلت على ذلك الآيات السابقة كما دلت السنةُ المُطهَّرةُ، وعلى ذلك إجماع
الأمة المسلمة في جميع العصور من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا،
ومن ذلك الإجماع على إبطال أهواء الكفار والمشركين والمنافقين والمبتدعة،
وتحريم اتباع أحكامهم وقوانينهم وشرائعهم وهديهم.
وقصدت الشريعة الإسلامية من وراء ذلك إلى تحقيق مقاصد عملية في الدنيا
والآخرة نذكر منها مقصدين عظيمين:
المقصد الأول: المحافظة على الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم
الآخر والقدر خيره وشره، والنجاة من النار ودخول الجنة.
المقصد الثاني: المحافظة على الأنفس والدماء والعقول والأعراض والأموال
وإبعاد الناس مسلمهم وكافرهم عن جميع أسباب الظلم والبغي، والإباحية والفساد.
والمقصد الأول لا يحصله إلا من أسْلَمَ وكان من عداد المسلمين. والمقصد
الثاني يشمل المسلمين، والكفار الخاضعين لسلطان الشريعة الإسلامية.
وعلى هذا تدور مقاصد الدعوة، والجهاد في الإسلام، وهو يشمل ثلاث
خصال:
الخصلة الأولى: الدعوة إلى الإسلام؛ فمن أسلم تحقق له المقصدان السابقان.
والثانية: إخضاع الكفار لسلطان الإسلام، فإذا رغب أهل الذمة الخضوع
لسلطان الإسلام حُرم قتالهم وإكراههم على تغيير معتقدهم، ويتحقق لهم المقصد
الثاني.
والثالثة: إذا رفضوا الدخول تحت سلطان الإسلام وبقي الكفارُ متسلطين
يفسدون في الأرض بالظلم والبغي والإباحية والفساد، فلا بد من العمل بالوسائل
الشرعية لكف شرهم وفتنتهم.
وبهذا المنهج المتميز في العقيدة والشريعة حقق المسلمون على طول التاريخ
الإسلامي مقاصد الإسلام في الأرض.
وقد يقول قائل: إذا كانت الشريعة الإسلامية تُقر أهلَ الذمة على كفرهم ولا
تكرههم على تغيير معتقدهم، [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: 256) ؛ فأوْلى أن
تقرهم على إباحيتهم، وظلمهم، وتتركهم ينشرون الشرك والخرافة والربا
والرأسمالية؛ لأن هذه آراؤهم وحقوقهم، والعالم المعاصر الكافر أقر «حقوق
الآخر» وأتاح له عن طريق الحريات أن يُعبّر عن رأيه.
فالجواب: أن الشريعة الإسلامية أقرت «الذميّ» على كفره؛ لأنه مُعتقَدٌ
خاص به، وأوجبت كَفَّه عن الإباحية كالزنا واللواط ووسائلهما، وعن الرأسمالية
الاقتصادية كالربا وعن الظلم والبغي، وجعلته والمسلمين سواءً في هذه الأحكام،
وهذه مُحكمات يجب المحافظة عليها أمام الرأي المخالف لها سواء كانت المخالفة من
الكفار أم من المسلمين، وهذه المُحكمات كما نرى تتصف بأنها بيّنة واضحة، وهي
أساس تُبنى عليه فروع كثيرة، وعليها دين الرسل عليهم السلام، وهي عاصم
للمجتمع والعامة من الانحراف والفساد والاختلاف والفرقة بسبب الآراء المنحرفة
عند «الآخر» ، كما أن هذه المحكمات تتصف بأنها حجة على الخصوم [1] .
فإذن إقرار أهل الذمة على كفرهم لا مانع منه بشرطه، والسماح «للآخر»
بنشر الكفر والزندقة، والإباحية، والانحراف والفساد ومخالفة الشريعة الإسلامية
ممنوع منه أشد المنع، وتبقى حرية «الآخر» فيما سوى ذلك.
وهذه «المحكمات» هي أصول العلم: وهي من أولويات وقواعد الدعوة
الإسلامية، وهي حجةٌ على الخصوم من «العلمانيين» والمنافقين والمشركين،
ولا يجوز التنازل عنها من أجل «الآخر» ؛ لأن ذلك مودٍ إلى إفساد الدين والدنيا،
ولا يجوز للعلماء والدعاة التنازل عنها، أو تأخير منزلتها في البيان والدعوة، وكل
دعوة إسلامية تضعف أمام «الآخر» وتعطلُ شيئاً من هذه المحكمات، أو تؤُخرها
في البيان هي دعوة مخالفة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في السيرة
النبوية أن هذه الدعوة لم تتمكن إلا بسبب المحافظة على تلك المُحكمات، سواء أمام
الكفار أم بين المسلمين، وسواء في حالة الضعف أم في حالة التمكن، وسواء في
حالة الحرب أم في حالة السلم.
وإليك الأدلة والأمثلة التطبيقية على موقف المسلمين من «الآخر» .
المثال الأول: موقف كفار قريش من الدعوة الإسلامية؛ حيث قالوا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: تعبدُ معبودنا سنة ونعبد معبودك سنة.
المثال الثاني: موقف الفرق الضالة من الإسلام؛ حيث أرادت أن تغيِّر بعض
معتقداته وشرائعه.
المثال الثالث: موقف التتار من الشريعة الإسلامية؛ حيث غيروا مفهوم
تحكيم الشريعة الإسلامية وخلطوها بغيرها من الشرائع البشرية.
وقد نشأت الفرق الضالة كالمعتزلة والخوارج. . على حين تَفَرُّقِ جماعةِ
المسلمين مع قتالٍ فيما بينهم أضعفَ شوكتهم، وكذلك التتار قاموا على حين ضعف
من المسلمين؛ فجميع هذه الشواهد تدل على أن المسلمين لم يتنازلوا من أجل
«الآخر» عن محكمات دينهم وشريعتهم، بل قاوم الرسولُ صلى الله عليه
وسلم الكفار، وقاوم أهل السنة الفِرَق الضالة، وقاوم المسلمون التتار، كل حسب
قدرته، وحافظوا في جميع الأحوال على المحكمات وحققوا البراءة من العمل الذي
يعمله «الآخر» سواء من المشركين أو أهل الأهواء، أو المرتدين من
التتار.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الكافرون وهي مكية وآياتها ست:
(بسم الله الرحمن الرحيم [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ] (الكافرون: 1-6) .
هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة
بالإخلاص في قوله تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]
(الكافرون: 1-2) يعني من الأصنام والأنداد، [وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]
(الكافرون: 3) وهو الله وحده لا شريك له؛ ف «ما» ها هنا بمعنى «من» ، ثم
قال: [وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] (الكافرون: 4-5) ؛ أي
ولا أعبد عبادتكم؛ أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي
يحبه ويرضاه؛ ولهذا قال: [وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] (الكافرون: 5) أي لا
تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم كما
قال: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى]
(النجم: 23) ، فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه؛ فإن العابد لا بد له من معبود يعبده
وعبادة يسلكها إليه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه؛
ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ أي لا معبود إلا الله ولا
طريق إليه إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والمشركون يعبدون غير
الله عبادة لم يأذن بها الله؛ ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: [لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ] (الكافرون: 6) .
كما قال تعالى: [وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا
أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ] (يونس:41) ، وقال: [وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]
(البقرة: 139) .
ومن جنس ذلك ما صنعته الجهمية وغلاة المبتدعة لما غيروا العقيدة الإسلامية،
وقالوا لعلماء السنة نحن وأنتم سواء في محاربة «الزندقة» ، فأنكر عليهم أهل
السنة ما غيروه من صفات الله سبحانه، كما أنكروا ما غيرته المعتزلة والخوارج
والشيعة وعباد القبور والزنادقة من عقائد المسلمين وشرائعهم، ولم يستطع هذا
«الآخر» المنحرف أن ينشر أفكاره المنحرفة ويحقق لها شرعية بين المسلمين،
ولما حاول «المأمون العباسي» وسعى إلى «تطبيع» آراء «الآخر»
العقدية، قاومه أهل السنة، وصبروا حتى ردوا الناس إلى السنة، وأسقطوا بدع
«الآخر» وانحرافاته.
وكذلك التتار لما دخلوا في الإسلام كما صنع ملكهم «جينكيز خان» ،
وحاول تغيير مفهوم تحكيم الشريعة؛ حيث أراد هذا «الآخر» أن يخلط بالشريعة
الإسلامية غيرها من القوانين الوضعية كما يصنع العلمانيون اليوم وقف علماء السنة
ليبيّنوا للناس أن الحكم بالشريعة واجب، ولا يجوز أن يشاركها منهج آخر مهما
أصر ذلك «الآخر» ، وأن إفرادها بالحكم والتحاكم والشرعية هو دين الإسلام،
وأن ضد ذلك هو الكفر والفساد في الأرض.
وهكذا أعلن الصادقون من أهل الإسلام في هذه المراحل على طول التاريخ
الإسلامي، أنه لا مجال ولا مساومة على محكمات هذا الدين، وأنّ «الآخر»
الذي يريد الخروج عليها لا مجال لقبول شركه وكفره وبدعه وقوانينه، ولم يَفُتّ في
عضد هؤلاء الدعاة الصادقين ضعفُ الأمة ولا تكالب الأعداء عليها، وقد اخترت
هذه الشواهد التطبيقية حتى لا يعتذر بعض الدعاة بحال الضعف والهوان الذي تمر
به الأمة؛ فإنه لا طريق لتثبيت العامة من المسلمين وجمعهم على الشريعة إلا إذا
ثبت الدعاة والعلماء من المسلمين وجمعهم على الشريعة إلا إذا ثبت الدعاة والعلماء
على الحق، وبيّنوا المحكمات للناس، كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المثال الأول، وكما صنع أهل السنة في المثال الثاني، وكما صنع العلماء
الربانيون في المثال الثالث، [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153) . إنّ الدعوة اليوم على مفترق طرق، فإما
أن يثبت الدعاة على المحكمات ليكونوا دعاة مخلصين لله الدين، وإما أن يشتروا
بها ثمناً قليلاً، أو يهنوا ويضعفوا أمام «الآخر» ولن يُغني عنهم شيئاً كما قال
تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
* إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
المُتَّقِينَ] (الجاثية: 18-19) .
وهذا توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حالة الضعف وهم في
مكة لا يملكون من أمرهم شيئاً، وقد ثبتوا ونصروا هذا الدين فنصرهم الله وأغناهم
عن «الآخر» ، وإذا لم يثبت الدعاةُ اليوم كما ثبت من سبقهم، فإنهم سينحسرون،
ونسأل الله العافية من الفضيحة في الدنيا والإخفاق والبوار في الآخرة [وَإِن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
ومما يجب التنبيه عليه أن الصراع مع «الآخر» والاختلاف معه ليس
خاصاً بالدعوة الإسلامية المعاصرة، بل تعرض له الدعاة والمسلمون عامة من عهد
النبوة إلى يومنا هذا، ومرت بالمسلمين أحوال من القوة والضعف، وحاول الأعداء
فيها أن يُدخلوا على المسلمين فكرة «الآخر» حتى يتمكنوا من نشر أفكار هذا
«الآخر» الكفرية والشركية والبدعية، ولكن المسلمين تنبهوا لهذا «الغزو الفكري»
وهذا التخطيط الخبيث وردوا العقائد والأفكار والقوانين التي يمثلها فكر «الآخر»
ما دامت مخالفة للشريعة الإسلامية، وأسقطوا الشرعية عن تلك الأفكار، ولو
لم يثبت أهل السنة في هذا الصراع العقدي والتشريعي لأدى ذلك إلى اكتساب
تلك العقائد البدعية والخرافية، والقوانين الوضعية التترية، صفة الشرعية.
ومن المعلوم أن التعددية في «التشريع» و «العقائد» نشأت عند الأمم
الكافرة بسبب عدم وجود أصل صحيح تَرْجِعُ إليه، فأصبح «التشريع» ديدناً
للجميع: الكنيسةُ تشرعُ وتحللُ وتحرمُ بغير إذن من الله، وتفتري الكذب عليه،
والمعارضون من الملاحدة الذين سمو أنفسهم بـ «الآخر» يشرعون ويُحرمون
ويُبيحون حسب ما يريدون. وإذا كان الجميع يشرعون من دون الله، فليس أحد
منهم يتقدم على «الآخر» ، فنشأت فكرة الآخر في الغرب على نمط التفكير
الجاهلي قديماً؛ فجاهلية العرب قبل الإسلام وُجدَ فيها من يعبد الأوثان، ووُجِدَ في
ديانات الجزيرة من يعبد الملائكة، ومن يعبد الأنبياء، وسواء لهم كتاب أم لا،
وتفرق الناس في جزيرة العرب، واختلفوا في العبادات، والتشريع والأحكام،
واشتركوا جميعاً في «حقوق» مشتركة بينهم وهي حل الربا، والزنا عند كثيرين
والخمر، و «الخرافة» ، وتغيير ملة إبراهيم عليه السلام، وعلى هذا تدور فكرة
«العولمة» و «العلمانية» في هذا العصر.
وكل منهم يمثل عند نفسه الحق، وغيره هو «الآخر» وكانوا جميعاً في
جاهلية مثل جاهلية أوروبا مع الاعتراف فيما بينهم بحقوق الآخر التي قاعدتها
الخرافة في العقيدة والرأسمالية والربا في الاقتصاد والخمر في المشروبات المحرمة
وأكل الميتة في الأطعمة والإباحية والسفاح لمن أراد العلاقات الجنسية وهذا قاسم
مشترك بين الجاهليات على اختلاف أسمائها.
ولقد أراد المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتسبوا
الشرعية لحقوق الآخر، كما يصنع المشركون والكفار في أوروبا، وكما يريد
العلمانيون في العالم الإسلامي.
والسؤال هو: كيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في حالة القوة
وهل اختلف منهجه عن المرحلة المكية حينما رد على المشركين طلبهم في
«وحدة الأديان» ؟
والجواب: أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الضعف وحال القوة
واحد لم يتغير، وهو رد «انحرافات الآخر» عليه، وبيان بطلانها، وإقامة الحق
والهدى في الأرض وإليك الأدلة على ذلك.
نماذج تطبيقية: وفد ثقيف:
جاء وفد من الطائف بعد سنة تسع إلى الدولة الإسلامية في المدينة يطالب
بحقوق «الآخر» ويريد أن يُسْلِمْ وتكون له حرية في «الربا» و «الخمر»
و «الزنا» و «الخرافة» ، ونلاحظ هنا أن هذه تمثل قاعدة «حقوق الإنسان»
في الغرب، وتمثل مطالب العلمانيين باسم «الآخر» في العالم الإسلامي.
وإليك نص الحوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم و «الآخر» قال ابن
القيم: «قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف. . . فقال كنانة بن عبد ياليل
لرسول الله صلى الله عليه وسلم:. . . أفرأيت الزنى، فإنا قوم نغتربُ، ولا بد
لنا منه؟ قال: هو عليكم حرام فإن الله عز وجل يقول: [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] (الإسراء: 32) . قالوا: أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها؟
قال: لكم رؤوس أموالكم إن الله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (البقرة: 278) . قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه
عصير أرضنا لا بد لنا منها؟ قال: إن الله قد حرمها. وقرأ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ] (المائدة: 90) . فارتفع القوم، فخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويحكم إنا
نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة انطلقوا نكاتبه على ما سألناه، فأتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالوا: نعم لك ما سألت، أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنعُ فيها؟ قال:
اهدموها. قالوا: هيهات لو تعلم الرَّبَّةُ أنك تريد هدمها، لقتلت أهلها. فقال عمر
بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل! ما أجهلك، إنما الرَّبَّة حجر. فقالوا: إنا لم
نأتك يا ابن الخطاب. وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تولَّ أنت هدمها،
فأما نحن فإنا لا نهدمها أبداً. قال: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها، فكاتبوه» [2] .
وفد الصليب:
وفي سنة تسع جاء وفد نصارى نجران إلى الدولة الإسلامية وفيهم العاقب
والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يفاوضاه في
شأن عيسى عليه السلام.
وقد روى القصة الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي،
ورواها البيهقي مطولة في دلائل النبوة، وابن إسحاق في السيرة، وموضع الشاهد
فيها: أن وفد نجران، وعددهم ستون راكباً فيهم أربعة عشر من أشرافهم، قدموا
إلى المدينة، يقولون إنهم على الحق في اعتقادهم في عيسى عليه السلام، ونزل
القرآن يُبين لهم في سورة آل عمران: [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ] (آل عمران: 59) . فلما كلم الحَبْرانِ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لهما: «أَسْلِمَا» . قالا: قد أسلمنا قال: «إنكما لم تُسلِمَا
فَأسْلِمَا» . قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما؛ يمنعكما من الإسلام
ادعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير» [3] .
وفيهم قوله تعالى: [فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ] (آل عمران: 63) ،
فانتهى هذا الحوار مُحكماً من المحكمات بصورة واضحة تبين فيها المفسد من
المصلح، ورجع الوفد الصليبي خائباً يجر أذيال الخيبة، وقد علمهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم كيف يتحقق الإسلام والإيمان.
ويمكن أن نذكر بعض الفوائد المستنبطة من التطبيقات في السيرة النبوية ومنها:
1 - أن المحكمات هي أساس الدعوة الإسلامية، وهي قوة معنوية للعمل
الإسلامي، يجب الاجتماع عليها والقيام بها.
2 - لا يجوز التنازل عنها لا في حالة القوة والجهاد، ولا في حالة الضعف.
و «السلم» في الشريعة الإسلامية إنما هو وضع للحرب بين المسلمين والكفار،
وليس تنازلاً عن المحكمات وتطبيعاً للعلاقات مع المجرمين.
3 - أن التنازل عن شيء من المحكمات من أجل «الآخر» فتنة للبشرية؛
لأن فيها إفساداً للمسلمين، وتلبيساً على الكافرين.
وهكذا أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم «حقوق الآخر» التي هي في
حقيقتها فساد وخرافة وشر، وإن حاول هذا «الآخر» أن يُغلِّفَها بـ
«المصلحة» و «الضرورة» و «الحاجة» و «الخصوصية» .
وهذا المنهج النبوي الدعوي يمثل الإسلام عقيدةً وشريعةً ويدافعُ عن
«المحكمات» ، ويكشف بالحوار أن ما يدعيه «الآخر» من حقوق إنما هو
فتنة وفساد وظلم وبغي.
ونستطيع أن نقرر هنا أن سبب ضعف المسلمين في العالم، وذهاب مقدساتهم،
واختلاف كلمتهم، إنما هو بسبب مخالفتهم لهذا المنهج النبوي، وكذلك بالنسبة
لكثير من «الدعاة» إنما أصبحوا فريسة «للآخر» لما وهنوا وضعفوا وانهزموا
أمام أفكاره ووسائله، وأصبحوا يستحيون من الصدع بالمنهج النبوي أمام
الانحرافات التي صنعها «الآخر» ، وزينها بوسائله وكيده ومكره،
و «الديمقراطية» التي صنعها لنفسه.
ولهذا السبب طمع الكفار فينا وفي مقدساتنا، وتدخل الكونجرس بعد أن قرر
تعطيل الشريعة الإسلامية لتحل محلها شرائع «الآخر» العلمانية، وهكذا يُدعمُ
«الآخر» تشريعياً، كما دُعِمَ فكرياً بنشر «حقوق الإنسان» ، ولا يزال
يُدعمُ عسكرياً أكثر من خمسين سنة باسم «حقوق إسرائيل» و «حقوق الآخر»
في الأرض والسلام والأمن العالمي، و «الآخر» المسلمُ يُسحق ويُقتل على
الطريقة الأمريكية لكن مع مزيد من ضبط النفس! ! وتحت إشراف القانون الدولي
أو إن شئت فقل «القانون الأمريكي» ، وكل ذلك لمصلحة «الآخر» الذي تارة
يكون «صليبياً» ، وتارة «يهودياً» ، وتارة «علمانياً» ، وعلى الآخر
«المسلم» أن يتنازل تارة عن «شريعته» ؛ لأنها إسلامية، وتارة عن مقدساته،
وتارة عن تحريم الربا، والزنا، والخمر، وكذلك يجب على المرأة أن تتنازل عن
حجابها، بل قد يُضيّق على المسلم في صلاته، كل ذلك من أجل الاعتراف بـ
«الآخر» .
وفي هذه الأيام يُفيق بعض العلمانيين من سكرتهم ويقولون: لماذا تُهدر أمريكا
«حقوق الآخر» أين الحريات؟ ! وتجيب أمريكا نيابة عن العلمانية في العالم
وتقول: كفرنا بالحريات إذا لم تكن مصنوعة من أجلنا، كل شيء ينبغي أن يكون
من أجلنا ومن أجل «حروبنا الذكية» .
أما «الآخر» فكلما أراد أن يكون مسلماً متحاكماً إلى شريعته ودينه، متميزاً
في هذا العالم داعياً إلى الفضيلة والأخلاق مدافعاً عن مقدساته، فلا بد أن يُسحقَ،
ويُهاجمَ، ويُخرجَ من «القرية العالمية» «القرية الظالمة» ، ويوصف بالتطرف
والفساد والإفساد، وتقول الجاهلية العلمانية كما قالت الجاهلية من قبل: [أَخْرِجُوهُم
مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] (الأعراف: 82) ، [وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ]
(القمر: 9) ، [بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ] (القمر: 25) ، [إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ
أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] (غافر: 26) .
وبعد: فهل تجتمع كلمة العلماء والدعاة والعامة والخاصة على نصر
المحكمات والعمل بها والدعوة إليها، وهل نكون على بصيرة من الأمر ونقف موقفاً
شرعياً من «الآخر» الذي يخالف المحكمات، ويرفع راية «الحريات» أو
«التنوير» أو «السلام» أو «حقوق الإنسان» ، وهو يطعن المسلمين من
الخلف في دينهم وشريعتهم ومقدساتهم، بل أصبح اليوم يطعن من جميع الجهات، وما
زال كثير منا يتوسل إليه ليكون مقبولاً عنده وليحظى برضاه، [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ] (العنكبوت: 41) .
__________
(*) عميد كلية الشريعة في جامعة أم القرى سابقا، وأستاذ العقيدة في الكلية نفسها حالياً.
(1) انظر: خصائص المُحكمات في كتاب «المحكمات» .
(2) زاد المعاد، ابن القيم، 3/595.
(3) تفسير ابن كثير، 1/368، 369.(174/6)
دراسات في الشريعة
هل الأجر على قدر المشقة أم على قدر المنفعة؟
فايز سعيد الزهراني
الشق والمشقة هي الجهد والعناء، ومنه قوله تعالى: [إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ]
(النحل: 7) ، ومنه الشقة وهي السفر البعيد، والشقة: بعد مسير إلى الأرض
البعيدة والسفر الطويل [1] .
والنفع ضد الضر [2] وهو ما يستعان به على الوصول إلى الخير، ولعله
يتبادر إلى الذهن أن المنفعة هي ما كانت متعدية فقط وليس كذلك؛ بل تشمل إضافة
إلى كونها متعدية: ما يعود على العامل من تأس بالنبي صلى الله عليه وسلم،
وصلاح للقلب وغير ذلك من الأمور التي تتشوف إليها الشريعة.
والسؤال هنا: هل مقدار الأجر يكون على المشقة والجهد المبذول في العمل
أم هو على ما ينتج عن العمل من منفعة وخير وصلاح؟
وإن كانت المسألة في كتب القواعد الفقهية ونحوها إلا أن لها علاقة كبيرة
بالدعوة إلى الله والعمل لهذا الدين، وهذه هي ثمرة الفقه: إعماله فيما نسعى إليه
من عبادات ودعوة إلى الله وعمل لهذا الدين. كما أن هذا من البصيرة التي أمر الله
نبيه صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه أن يدعو إلى الله عليها، قال سبحانه: [قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ] (يوسف: 108) ، وبإعمال القواعد
الفقهية وغيرها.
وتكمن أهمية هذه المسألة في جوانب، من أهمها: خطورة العمل الارتجالي
سواء كان فردياً أو جماعياً على العامل وعلى الدعوة؛ حيث تبذل جهود كبيرة في
الدعوة وتنفق أموال طائلة كذلك، ولكن مع انعدام فقه هذه المسألة. ويرى هذا
العامل أو المنفق أنه كلما ازداد عملاً ومشقة ازداد أجراً دون أن ينظر إلى ما يمكن
أن ينتجه العمل من ثمار ودون أن يقيّمه، فيقل الأجر أو قد يفسد من حيث يريد
الإصلاح.
والحاصل أن هناك لبساً في المسألة أدى إلى مفاسد كإهدار الجهود،
والفوضوية، وفقد التوازن وغيرها ... وللتفصيل فيها نبيّن أقوال أهل العلم فيها.
القول الأول: إن الأجر على قدر المشقة، وهو منسوب إلى القرافي [3]
والسيوطي رحمهما الله تعالى، قال القرافي: «والأصل أن قاعدة كثرة الثواب كثرة
الفعل، وقاعدة قلة الثواب قلة الفعل؛ فإن كثرة الأفعال في القربات تستلزم كثرة
المصالح غالباً» [4] . وقال السيوطي في القاعدة التاسعة عشرة: «ما كان أكثر
فعلاً كان أكثر فضلاً» [5] ؛ ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من الوصل لزيادة النية
والتكبير والسلام، وصلاة النفل قاعداً على النصف من صلاة القائم، ومضطجعاً
على النصف من القاعد، وإفراد النسك أفضل من القِران.
وأشار السعدي [6] إليها وذكر أدلة القائلين بذلك:
أولاً: قول الله تعالى: [مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن
يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ
نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ
نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً
صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ] (التوبة: 120-121) .
ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «أجرك على قدر
نصبك» [7] .
ثالثاً: قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أي الأعمال أفضل؟ قال:
«أحمزها» [8] ، وأحمزها: أقواها وأشدّها.
رابعاً: عن جابر رضي الله عنه قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا
أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
«إن لكم بكل خطوة درجة» [9] .
خامساً: عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد
من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت
حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء. قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب
المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى
أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جمع الله لك ذلك كله» وفي
رواية: «إن لك ما احتسبت» [10] .
القول الثاني: إن الأجر على قدر المنفعة. وبه قال العز بن عبد السلام وابن
تيمية والمقري والشاطبي وابن حجر رحمهم الله تعالى.
قال العز بن عبد السلام: «قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب
الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة، بل الأمر
بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب المريض باستعمال الدواء المرّ البشع، فإنه
ليس غرضه إلا الشفاء» [11] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس
رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما
كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في
كل شيء؛ لا ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى
قدر طاعته أمر الله ورسوله؛ فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان
أفضل؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب
حال العمل» [12] . وقال: «ولكن خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه
أنفع» [13] ، قال المقري: «الأجر على قدر تفاوت جلب المصالح ودرء المفاسد؛
لأن الله عز وجل لم يطلب من العباد مشقتهم، ولكن الجلب والدفع» [14] .
وقال الشاطبي: «ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظراً إلى عظم
أجرها؛ فإن المقاصد معتبرة في التصرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق الشارع.
فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا
يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى
المشقة باطل، فهو إذن من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه
الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في
المشقة: قصد مناقض» [15] .
وقال ابن حجر معقباً على النووي في قوله: (ظاهر الحديث «أجرك على
قدر نصبك» أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة) : «وهو
كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر
فضلاً وثواباً بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليالٍ من رمضان
غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعتين
في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة المالية والبدنية كصلاة الفريضة إلى أكثر من
عدد ركعاتها أو أطول من قراءتها ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة
بالنسبة إلى أكثر من التطوع» [16] .
ما استدل به أهل هذا القول:
أولاً: الاستقراء؛ حيث استقرأ العلماء مصادر الشريعة ومواردها فوجدوا
أنها لا تقصد الأمر بالشاق، ولا ترتب عليه كثرة الأجر بالدرجة الأولى [17] .
والاستقراء قطعي ضروري لا يُناهض بأقل منه.
ثانياً: الأحاديث، ومنها:
1 - عن عقبة بن عامر أنه قال: نَذَرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية،
فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لغني عن نذرها، مُرها فلتركب» [18] .
2 - حديث جويرية رضي الله عنها في تسبيحها بالحصى أو النوى وقد دخل
صلى الله عليه وسلم عليها ضحى، ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحال،
فقال لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم
لرجحت» [19] .
3 - قوله: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا
وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد
تبلغوا» [20] .
4 - أن النبي رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: «ما هذا؟» قالوا:
هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم.
فقال: «مروه فليجلس وليتكلم وليتم صومه» [21] .
وناقش الفريق الثاني أدلة القائلين بأن الأجر على قدر المشقة، وكانت
ردودهم كما يلي:
1 - وجَّه المقري الحديثين «أجرك على قدر نصبك» و «أفضل العبادات
أحمزها» بأن ما كثرت مشقته قلَّ حظ النفس منه، فكثر الإخلاص فيه، وبالعكس
فالثواب في الحقيقة مرتب على الإخلاص لا المشقة « [22] .
2 - رد الشاطبي وغيره على من استدل على أن الشريعة تقصد إلى التكليف
بالشاق [23] بأمور:
أولاً: أن الأخبار الواردة في ذلك أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها
استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات.
ثانياً: هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد المشقة؛ فحديث جابر جاء بما
يفسره عند البخاري في زيادة مفادها» أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم،
فينزلوا قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فكره رسول الله صلى الله
عليه وسلم، أن يعروا المدينة، فقال: «ألا تحتسبون آثاركم؟ !» [24] ، قال ابن
حجر: «نبه بهذه الكراهة على السبب من منعهم من القرب من المسجد، لتبقى
جهات المدينة عامرة بساكنها» [25] .
ثالثاً: إن ما أوردوه معارض بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين
أرادوا التشديد بالتبتل حين قال أحدهم: «أما أنا فأصوم ولا أفطر» ، وقال
الآخر: «أما أنا فأقوم ولا أنام» ، وقال الثالث: «أما أنا فلا آتي النساء» ؛
فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله، وقال: «من رغب عن
سنتي فليس مني» [26] .
وفي الحديث: «رد التبتل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا»
[27] [28] .
3 - أمر آخر يضيفه الشاطبي وهو التدليل على أن الشرع لم يقصد من
التكليف بالمشاق الإعنات فيه بما يلي:
أولاً: النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78) .
ثانياً: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص، كالقصر والفطر ونحوهما.
ثالثاً: الإجماع على عدم وقوعه وجوداً في التكليف، وهو يدل على عدم
قصد الشارع إليه، ولو كان واقعاً لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف [29] .
4 - تطبيق قاعدة «الأجر على قدر المنفعة لا المشقة» على الفروع الفقهية
المقررة عند الفريقين، ومنها:
أ - حديث «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» [30]
ب - قوله تعالى: {لّيًلّةٍ پًقّدًرٌ خّيًرِ [لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ] (القدر: 3)
.. إلخ الفروع.
الترجيح:
مما سبق عرضه من الأدلة والأقوال والاعتراضات الواردة عليها يتبين أن
الراجح هو القول الثاني، للأمور الآتية:
الأدلة العامة القوية التي أفرزت استقراءً قطعياً عند أهل العلم، بأن الشريعة
تهدف إلى جلب المصالح ودرء المفاسد بوسائل ليس فيها تعنت وتشديد على العباد،
منها قوله تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] (البقرة: 185) .
سلامة أدلة القائلين بهذا القول من الاعتراضات؛ حيث لم يعترض القائلون
بأن الأجر على قدر المشقة على أدلتهم.
أن القائلين بأن الأجر على قدر المشقة، يتضح من استقراء كلامهم وفحصه
عدم التفضيل مقارنة بالمنفعة، وإنما بيان أن المشقة في طريق العبادة تكون في
ميزان حسنات العامل وأنها لا تضيع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«أجرك على قدر نصبك» ، فكلامهم ابتدائي وليس مقارناً، وتفصيل ذلك: أن
القرافي في بداية الفرق الذي ذكر فيه قاعدة الثواب على كثرة العمل، قال: «اعلم
أن الأصل في كثرة الثواب وقلّته، وكثرة العقاب وقلّته أن يتبعا كثرة المصلحة في
الفعل وقلّتها» [31] . وفي كلامه الذي ذكرناه أولاً. كما أن كلام السيوطي ونص
قاعدته: «ما كان أكثر فعلاً كان أكثر فضلاً» [32] ليس فيه مقارنة بالأنفع؛
ولذلك أخرج من هذه القاعدة اثنتي عشرة صورة فقهية تتفرع عنها غيرها [33] .
والسعدي مثلهما، ودليل ذلك أنه لما ذكر القاعدة عقب عليها بقوله: «ويبين
مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من مننه وإحسانه، وأنها لا تنقص الأجر
شيئاً» [34] ، ثم إنه في شرحه لهذه القاعدة بيَّن أن ما تفضي إليه هذه المشقات هو
خير ومصلحة أعظم من المشقة في العمل.
ويفهم من خلال ذلك أن ما أوردوه لا يدخل أصلاً في محل النزاع، ففي
المسألة أمور تجدر الإشارة إليها:
أولاً: إذا كان في العمل مشقة فالثواب على تحمل المشقة لا على عين المشاق؛
إذ لا يصح التقرب بالمشاق؛ لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى،
وليس عين المشاق تعظيماً ولا توقيراً، نص على ذلك العز بن عبد السلام رحمه
الله [35] .
ثانياً: أن الأعمال الصالحة قد لا تحصل إلا بمشقة: كالجهاد والحج والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما
يعقبه من المنفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لما
اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع: «أجرك على قدر نصبك» ؛ نص على
ذلك ابن تيمية رحمه الله [36] ؛ فالمراد الأول حصول العمرة، فتعبها في سبيل
الحصول على العمرة هو الذي أجرت عليه.
ثالثاً: يتفرع من القاعدة أن المشقة لا تكون سبباً لفضل العمل ورجحانه [37]
ولذلك قال ابن تيمية: «إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقة، فهذا فساد والله
لا يحب الفساد، ومثال ذلك ما في الدنيا؛ فإن من تحمل مشقة لربح كثير أو دفع
عدو عظيم، كان هذا محموداً، وأما من تحمل كلفاً عظيمة ومشاقاً شديدة لتحصيل
يسير من المال أو دفع يسير من الضر، كان بمنزلة من أعطى ألف درهم ليعتاض
بمائة درهم، أو مشى مسيرة يوم ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيراً منها في
بلده» [38] .
ومثال ذلك: من حج ماشياً ورفض وسائل الترفيه في الحج من مركب
وتكييف ونحوهما؛ فإن ذلك فيه جهد ومشقة تستلزم منه مفاسد كالحاجة إلى الراحة
من شدة التعب، وفقدان الخشوع لضيق النفس، بينما لو ركب واستعمل هذه
الوسائل لأغنته عن الحاجة إلى الراحة الكثيرة، ولوجد الطمأنينة وانشراح الصدر
لذكر الله والدعاء ونحوهما من مقاصد الحج.
رابعاً: يستثنى من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام: «إذا اتحد الفعلان في
الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقاً فقد استويا في أجرهما
لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله سبحانه
وتعالى، فأثيب عليها [39] ، كالاغتسال في الصيف والربيع بالنسبة إلى الاغتسال
في شدة برد الشتاء فإن أجرهما سواء، ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء لأجل تحمل
مشقة البرد؛ فليس التفاوت في نفس الغسلين وإنما التفاوت فيما لزم عنهما [40] .
بينما لو قدر على استعمال الماء الدافئ فهو أفضل له من تركه إياه واستعمال الماء
البارد؛ لأن البارد قد يفوت عليه بعض المصالح كاستشعار عظمة العبادة وإسباغ
الوضوء، وقد يؤدي إلى ضرر؛ ولذلك لما كره فقهاء الحنابلة التطهر بالماء الذي
اشتد حره أو برده؛ عللوا ذلك بأنه يؤذي ويمنع كمال الطهارة» [41] .
خامساً: وهي مهمة جداً بل تمثل أصلاً يبنى عليه البحث: أنه لا ينبغي
تسمية الأعمال الصالحة تكليفاً؛ لأن النصوص لم تورد هذا اللفظ إلا في موضع
النفي قال تعالى: [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا] (البقرة: 286) ولما يشعر
هذا اللفظ بقصد المشقة في الشريعة، بل إن أوامرها هي قرة العيون وقوام الحياة
وصلاحها [42] .
وأخيراً:
فما أجدر الدعاة إلى تفهم هذه القاعدة، وتلقينها لكل من سلك طريق الدعوة؛
حيث يطغى الحماس أحياناً خدمة لدين الله سبحانه ونشراً لدعوة الله، فيرى السالك
أنه كلما بذل جهداً ازداد أجراً دون النظر إلى العائد الذي يعود به على الدعوة، فيقع
في الخبط والفوضى، وأحياناً يفسد أكثر مما يصلح.
فكانت هذه القاعدة لتبين لهذا الصنف أنه ليس المقصود أن يتعب نفسه بل
المقصود نشر الدين، وإن أدى ذلك إلى جهد ومشقة فلن يحرم أجرها، [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ
وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ
* وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ
أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (التوبة: 120-121) .
كما أن هذه القاعدة تحتاج إلى اجتهاد في تحقيق المناط والموازنة بين المشقة
المصاحبة للعمل والمنفعة العائدة من العمل، فإنه كثيراً ما تبذل جهود عظيمة لخدمة
دين الله ونشر الدعوة، وبمقارنة مع المنفعة تكون إهداراً للطاقات والجهود في غير
المكان المناسب، وهذا لا ينبغي في دين الله.
لذا وجب الرجوع إلى العلماء العاملين الربانيين أهل الفقه في دين الله،
والبصيرة بالدعوة إلى الله، والخبرة في ميدان العمل، فهم أهل الاجتهاد في هذا
الباب، ويجب الرجوع إليهم والانتظام معهم؛ لتتوجه الطاقات والجهود المهدرة إلى
المكان المناسب، في الظرف المناسب، للمرحلة المناسبة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه،
ومن تبعهم إلى يوم الدين.
__________
(1) لسان العرب (10/183 184) .
(2) لسان العرب (8/358) .
(3) نسبه المقري في القواعد (2/411) ، وتابعه صاحب رسالة القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية (234) .
(4) الفروق (2/235) .
(5) الأشباه والنظائر (268) .
(6) انظر: القواعد الحسان (132) .
(7) البخاري (1/541) رقم 1787، ومسلم (2/877) رقم 1211.
(8) قال ملاّ علي القاري في الأسرار المرفوعة: (قال الزركشي: لا يعرف وسكت عليه السيوطي وقال ابن القيم في شرح المنازل: لا أصل له قلت: ومعناه صحيح لما في الصحيحين عن عائشة وهو في النهاية لابن الأثير منسوب لابن عباس) اهـ، ص 100 وانظر: النهاية (1/441) وقال العجلوني في كشف الخفاء: (قال في الدرر تبعاً للزركشي: لا يعرف وقال ابن القيم في شرح المنازل: لا أصل له وقال المزي: هو من غرائب الحديث ولم يرو في شيء من الكتب الستة) اهـ، ص (175) وانظر: مدارج السالكين (1/106) .
(9) مسلم (1/461) كتاب المساجد، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، رقم 664.
(10) مسلم (1/460) كتاب المساجد، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، رقم 663.
(11) قواعد الأحكام (1/31) .
(12) مجموع الفتاوى (25/281) .
(13) مجموع الفتاوى (22/313) .
(14) القواعد (2/411) .
(15) انظر: الموافقات (2/222) .
(16) فتح الباري (3/611) حديث رقم 1787.
(17) انظر: قواعد الأحكام (1/31) .
(18) مسلم (3/1264) رقم 1644، وأبو داود (3/234) رقم 3295 إلى 3304.
(19) مسلم (4/2090) رقم 2726.
(20) البخاري (1/ 29) رقم 39.
(21) البخاري (4/ 229) رقم 6704.
(22) القواعد للمقري (2/ 411) .
(23) لأنه يلزم من قولنا: الأجر على قدر المشقة: التكليف بالشاق، أي أن الشريعة تأمر العباد بما يشق عليهم.
(24) البخاري (1/ 218) رقم 656.
(25) فتح الباري (2/140) .
(26) البخاري (3/ 354) رقم 5063.
(27) البخاري (3/ 356) رقم 5073.
(28) انظر: ردود الشاطبي في الموافقات (2/ 225 -229) .
(29) انظر: الموافقات (2/210) .
(30) مسلم (1/ 501) رقم 725.
(31) الفروق (2/233) .
(32) الفروق (2/235) .
(33) انظر: الأشباه والنظائر (268) .
(34) انظر: القواعد الحسان (132 -133) .
(35) قواعد الأحكام (1/30) .
(36) مجموع الفتاوى (25/282) .
(37) مجموع الفتاوى (25/282) .
(38) مجموع الفتاوى (10/262) .
(39) قواعد الأحكام (1/30) .
(40) قواعد الأحكام (1/30) .
(41) انظر: الإنصاف (1/25) ، ومنار السبيل (1/9) .
(42) مجموع الفتاوى (1/25 -26) .(174/10)
دراسات في الشريعة
مقدمة في قواعد التفسير
محمد بن عبد العزيز الخضيري
التعريف:
القاعدة لغةً: الأصل الذي يبنى عليه غيره.
اصطلاحاً: حكمٌ كلي يتعرف به على أحكام جزئياته.
التفسير لغة: الكشف والبيان.
واصطلاحاً: بيان معاني كلام الله تعالى.
وقواعد التفسير: هي الأحكام الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط معاني
القرآن الكريم، ومعرفة الراجح مما فيه خلاف.
أهمية معرفة القواعد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُرَدُّ
إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؛ وإلا فيبقى في
كذب وجهل في الجزئيات، وظلم وجهل في الكليات، فيتولد فساد عظيم» [1] .
وقال الزركشي: «أما بعد: فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين
المتحدة. هو أوعى لحفظها، وأدعى لضبطها، وهي إحدى حكم العدد التي وضع
لأجلها، والحكيم إذا أراد التعليم لا بد أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوَّف إليه
النفس، وتفصيلي تسكن إليه» [2] .
والحاصل أن من عرف قواعد التفسير انفتح له من المعاني القرآنية ما يجل
عن الوصف، وصار بيده آلة يتمكن بها من الاستنباط والفهم مع ملكة ظاهرة
تصيره ذا ذوق واختيار في الأقوال المختلفة في التفسير [3] .
ميزة القواعد:
تتميز القواعد بالإيجاز في الصياغة مع عموم المعنى وسعة استيعابه
للجزئيات وسهولة الحفظ والإشارة إلى المناط والعلة.
المؤلفات في قواعد التفسير:
غالب ما ألف في قواعد التفسير إنما هو في علوم القرآن الكريم ككتاب
(التيسير في قواعد علم التفسير) لمحمد بن سليمان الكافيجي (ت 879) ،
و (أصول التفسير وقواعده) لخالد بن عبد الرحمن العك.
أما التأليف في القواعد ذاتها جمعاً ودراسة ففيه رسالتان فريدتان:
1 - قواعد التفسير جمعاً ودراسة، لخالد بن عثمان السبت في مجلدين،
وهي رسالة دكتوراه مقدمة في الجامعة الإسلامية.
2 - قواعد الترجيح عند المفسرين، لحسين بن علي الحربي في مجلدين،
وهي رسالة ماجستير مقدمة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وموضوع
الثانية أخص من الأولى؛ إذ هي في القواعد الترجيحية.
وقد ضمَّن الكاتبون في علوم القرآن وفي أصول التفسير كتبهم فصولاً في
قواعد التفسير ككتاب البرهان لبدر الدين الزركشي (794هـ) والإتقان لجلال
الدين السيوطي (911هـ) .
إضافة إلى ما زخرت به مقدمات المفسرين في تفاسيرهم ك مقدمة (النكت
والعيون) للماوردي، ومقدمة (التسهيل) لابن جزي الكلبي، ومقدمة (التحرير
والتنوير) للطاهر بن عاشور. ومقدمة ابن كثير في تفسيره والتي استفادها من
كتابة شيخ الإسلام في أصول التفسير.
أما المصدر التطبيقي الثّر فهي كتب المفسرين المؤصلة كتفسير الطبري،
والمحرر الوجيز لابن عطية، وأضواء البيان للشنقيطي.
أنواع القواعد:
للقواعد تقسيمات باعتبارات مختلفة، ومن ذلك تقسيمها باعتبار الغاية منها،
وهي على نوعين:
الأول: قواعد عامة يستفاد منها في فهم القرآن؛ كقاعدة: «المفرد المضاف
يفيد العموم» .
كقوله تعالى: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] (الضحى: 11) . وقوله:
[وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم: 34) المقصود: نعم الله.
الثاني: قواعد ترجيحية يستفاد منها في الموازنة بين الأقوال، ومعرفة
الراجح منها والمرجوح؛ كقاعدة: «القول الذي تؤيده قرائن السياق مرجح على ما
خالفه» ، كقوله تعالى: [مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ] (المجادلة:
7) أي بعلمه، قالوا: لأن الله افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم [4] ، وقوله تعالى:
[كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا] (الأنبياء: 30) قال ابن جرير: «وأوْلى الأقوال في
ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: [أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا] (الأنبياء: 30) من المطر والنبات. ففتقنا السماء
بالغيث والأرض بالنبات، وإنما قلنا: ذلك أوْلى بالصواب؛ لدلالة قوله تعالى:
[وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ] (الأنبياء: 30) على ذلك» .
وليعلم أن الأقوال إذا كانت محتملة في الآية وبنفس القوة فإنه لا ترجيح بينها،
كقوله: [اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى] (الرعد: 8) «الله يعلم ما تحمل كل
أنثى» فما يحتمل أن تكون (موصولة) والمعنى: يعلم الذي تحمله كل أنثى من
ولد على أي حال كقوله: [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ] (لقمان: 34) . ويحتمل أن
تكون (مصدرية) والمعنى: يعلم حمل كل أنثى كقوله: [وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ
تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ] (فاطر: 11) .
ويكون الترجيح بين الأقوال إذا تعارضت، أو عارض بعضها نصاً أو إجماعاً،
أو لم يكن بينها تعارض ولا مع غيرها؛ لكن كان بعضها أوْلى من بعض.
مثال الأول: خلافهم في تفسير (القُرْء) .
ومثال الثاني: من ادعى جواز الجمع بين تسع حرائر مستدلاً بقوله:
[مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ] (النساء: 3) فهو خلاف إجماع الأمة وما روي عن
سعيد بن المسيب: «ما سكر آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن سقته حواء من
الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل» فهذا معارض لقوله تعالى: [لاَ فِيهَا غَوْلٌ
وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ] (الصافات: 47) [5] .
ومثال الثالث: قوله تعالى: [ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ] (عبس: 20) قيل:
طريق خروجه من بطن أمه لدلالة السياق، وقيل: طريق الخير والشر. لقوله:
[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً] (الإِنسان: 3) .
تنازع القواعد:
إذا تنازعت القواعد المثالَ الواحدَ؛ بحيث صار لكل قول قاعدة ترجحه فإن
المعتبر به غلبة ظن المجتهد كما قال الزركشي: «واعلم أن التراجيح كثيرة،
ومناطها: ما كان إفادته للظن أكثر فهو الأرجح، وقد تتعارض هذه المرجحات كما
في كثرة الرواة وقوة العدالة وغيره، فيعتمد المجتهد ما غلب على ظنه» [6] .
وقال الشنقيطي: «والمرجحات يرجع بعضها على بعض؛ وضابط ذلك عند
الأصوليين هو قوة الظن» [7] .
مثال ذلك: قوله تعالى: [وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ] (النساء:
22) ففيها قولان:
الأول: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء؛ فمنكوحة الأب حرام على ابنه
و (ما) في الآية موصولة، ويدل عليه سبب نزول الآية؛ حيث إن قيس بن
صيفي بن الأسلت خطب امرأة أبيه فأنزل الله الآية.
الثاني: ولا تنكحوا نكاح آبائكم الفاسد الذي يتعاطونه في الجاهلية، و (ما)
مصدرية؛ قالوا: لأن (ما) لا تكون إلا لغير العاقل غالباً، والقاعدة: وجوب
حمل كلام الله على المعروف المشهور من كلام العرب.
ولا شك أن القول الأول هو الصواب لاعتماده على سبب النزول، هذا فضلاً
عن كون (ما) وردت للعاقل في غير ما آية من غير نكارة ولا شذوذ كقوله:
[وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ] (النحل: 62) وقوله: [إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي] (آل عمران: 35) .
نماذج من قواعد التفسير:
القاعدة الأولى: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أي: إذا وردت الآية على سبب خاص فإنها لا تُقصَر عليه، بل يُنظر إلى
عموم لفظها؛ ومثالها: قوله تعالى: [إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] (الكوثر: 3) قيل:
نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط، وقيل:
نزلت في جماعة من قريش. قال ابن جرير: «وأوْلى الأقوال في ذلك عندي
بالصواب أن يقال إن الله تعالى ذِكْرُه أخبر أن مبغض رسول الله صلى الله عليه
وسلم هو الأقل الأذل المنقطع عقبه؛ فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن
كانت الآية نزلت في شخص بعينه» .
القاعدة الثانية: الخبر على عمومه حتى يأتي ما يخصصه.
مثالها: قوله تعالى: [وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ] (البلد: 3) . قيل: آدم وولده،
وقيل: إبراهيم وولده. وقيل: بل هي عامة في كل والد وولده. وهو الصحيح،
قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: أقسم الله بكل والد
وولده؛ لأن الله عمَّ كل والد وما ولد. وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب
التسليم لها من خبر أو عقل، ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له
بخصوص؛ فهو على عمومه كما عمه «.
القاعدة الثالثة: إذا اختلف المعنى الشرعي والمعنى اللغوي فالمقدم الشرعي إلا
بدليل؛ لأن القرآن نزل لبيان الشرع لا لبيان اللغة.
مثالها: قوله تعالى: [وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً] (التوبة: 84)
فالصلاة في اللغة: الدعاء.
وفي الشرع: صلاة الجنازة والمقدم المعنى الشرعي.
فإن دل الدليل على اعتبار اللغوي دون الشرعي وجب الأخذ به كما في قوله
تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ
لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (التوبة: 103) أي: ادع لهم؛ ودليله حديث عبد الله ابن
أبي أوفى؛ حيث قال:» كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم
قال: اللهم صلِّ على آل فلان! فأتاه أبي بصدقته: فقال: اللهم صلِّ على آل أبي
أوفى! « [8] .
القاعدة الرابعة: تحكيم السياق عند الاختلاف.
مثالها: قوله تعالى: [عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] (البقرة: 187) قيل: هو الولد،
وقيل: ليلة القدر، وقيل: ما أحله لكم ورخص لكم، والأول أرجح لمناسبته السياق؛
حيث جاء عقيب قوله: [فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ] (البقرة: 187) .
القاعدة الخامسة: تحكيم الرسم عند الاختلاف.
مثالها: قوله تعالى: [سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى] (الأعلى: 6) قيل: (لا)
نافية، وقيل: ناهية. والصواب الأول؛ لأنها لو كانت ناهية لجزم الفعل بحذف
حرف العلة.
وكذلك قوله تعالى: [وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ] (المطففين: 3)
ففي الضمير (هم) في الفعلين قولان:
1 - أنه يعود على الناس؛ ويكون الضمير في موضع نصب.
2 - أنه يعود على واو الجماعة في (كالوا ووزنوا) ويكون في موضع رفع
مؤكداً لواو الجماعة.
والراجح الأول؛ لأنه لو كانت كلمة (كالو) مستقلة و (هم) مؤكدة لأتبعت
(كالو) في الرسم بألف الفرق [*] لكتبت (كالوا هم) وليس الأمر كذلك.
القاعدة السادسة: يجب تفسير المعنى على الأغلب من استعمال العرب. أي
دون الشاذ والقليل والمنكر.
مثالها: قوله تعالى: [لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً] (النبأ: 24) قيل
في البرد قولان:
الأول: برد الهواء الذي يبرد جسم الإنسان.
والثاني: النوم.
قال ابن جرير:» والنوم وإن كان يبرد غليل العطش، فقيل له من أجل ذلك:
البرد؛ فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف
كلام العرب دون غيره «، وبمثله قال النحاس [9] .
القاعدة السابعة: وجوب مراعاة معهود القرآن وطريقته في البيان.
والمراد: أن اختيار التأويل الموافق لطريقة القرآن ومعهوده الكلي أو الأغلبي
هو المتعين:
مثالها: قوله تعالى: [إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ] (الطارق: 8) في مرجع
الضمير في (رجعه) قولان:
1 - أنه يعود إلى الإنسان والمعنى: أن الله قادر على رده للحياة بعد موته.
2 - أنه يعود إلى الماء، والمعنى: أن الله قادر على رد الماء إلى الصلب أو
الإحليل؛ والصواب الأول؛ لأن المعهود في القرآن الاستدلال بالمبدأ على المعاد.
وأما القول الثاني» فلم يأت لهذا المعنى نظير في موضع من القرآن « [10] .
وأيضاً قوله تعالى: [فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ] (الواقعة: 75) قيل:
آيات القرآن، ومواقعها نزولها شيئاً بعد شيء، وقيل: هي النجوم المعروفة في
السماء. وهو الراجح؛ لأن النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد بها الكواكب؛
كما قال ابن القيم [11] .
__________
(1) الفتاوى 19/203.
(2) المنثور في القواعد 1/65.
(3) قواعد التفسير 1/38.
(4) قواعد الترجيح، 1/301.
(5) البحر المحيط 1/261.
(6) البحر المحيط، للزركشي 6/159.
(7) أضواء البيان 5/371.
(8) أخرجه البخاري، رقم 1497، ومسلم، رقم 1077.
(*) وتسمى أيضاً ألف التفريق أو ألف الجماعة.
(9) إعراب القرآن 5/132.
(10) البيان، ص 66.
(11) التبيان، 136.(174/14)
دراسات تربوية
التعليم الأجنبي.. مخاطر لا تنتهي!
(1 - 2)
مهيمن عبد الجبار
إن الحديث عن المدارس الأجنبية حديث يتلاقى ويتماس مع كثير من نقاط
واقعنا المعقد؛ فهو يتناول التربية العقدية بمفهومنا ولفظنا، كما يتناول التنشئة
السياسية من جهة أخرى، ويتناول قضية الهوية بجوانبها وتشعباتها، وهي سر من
أسرار تخلف التنمية، ولها ظلالها الإعلامية والتعليمية، والثقافية والاقتصادية
والاجتماعية، ويمس عصب الأمن القومي.
ولكي نتصور القضية تصوراً صحيحاً لا بد أن نضع في اعتبارنا عدة أمور:
أولها: أن التعليم الأجنبي يأتي ضمن منظومة واسعة لتغريب الأجيال
وإبعادهم عن دينهم تتضمن التعليم، والإعلام والثقافة، ويتستر خلفها التبشير
والاستشراق والاستعمار، وتساندها بقية الأدوات.
وثانيها: أن الكلام حول التعليم الأجنبي يتناول المدارس الأجنبية ومدارس
الإرساليات التبشيرية ومدارس الجاليات بالأصالة، كما يشير إلى مدارس اللغات
والمدارس التجريبية التي تقفو أثر المدارس الأجنبية وإن تسمَّت بأسماء عربية
بالتبعية، كما يتطرق الحديث إلى الابتعاث إلى الدول الغربية.
وثالثها: أن حديثنا عن دور ومخاطر هذا النوع من التعليم يزيد من شأنه ولا
يهون ما يتم للتعليم الوطني اليوم في كثير من بلادنا الإسلامية تحت مسميات
التطوير والتحديث، ضمن ما يعرف بالعولمة التعليمية التي ترعاها المؤسسات
الدولية وتدفع إليها الدول الغربية.
ورابعها: أن التعليم في الإسلام يعني عملية إفراز وتنمية للولاء العقدي الذي
هو أعلى وأوثق أنواع الولاء، كما يرتبط بقيمة وجودية للأمة الإسلامية هي الهداية
كما قال تعالى: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ
تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) .
كما يرتبط بقيمة أخرى في الآخرة هي الوقاية من عذاب الله تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] (التحريم:6) ،
وهذا كما قال المفسرون يتم بالتعليم والتأديب، وفيه ملمح مهم وهو ارتباط
التعليم بالإصلاح، على عكس ما يحدث اليوم في التعليم الأجنبي.
وخامسها: أن دخول أطراف خارجية في العملية التعليمية يعني تعريض أمن
الأمة للخطر؛ وذلك حين يتعرض دين الأجيال للتحريف وعقولهم لألوان الغزو
الفكري، وهي مسألة لا تقل خطورة عن السماح للأجانب بالالتحاق بالجيش أو
أجهزة الأمن التي تسهر على حماية البلاد، بل تزيد؛ لأنها تؤدي مستقبلاً إلى
وجود مثل هذه الفئات داخل هذه المؤسسات دون أن ندرك حقيقة الدور الذي
تقوم به.
إننا كثيراً ما نلمس آثار هذه المدارس على المتخرجين فيها، لكن ما يغيب
عنا أكثر، دون أن يكون لنا أفراداً أو مجتمعات دور يتفاعل مع قضية بهذه
الخطورة.
سادساً: إن الحديث عن التعليم الأجنبي اليوم لا يمكن التطرق إليه بمنأى عن
الخريطة التعليمية القُطرية والعولمية؛ فلم تعد المدارس الأجنبية هي الخطر الوحيد
في المجال التعليمي؛ بل ينبغي تصور خريطة المخاطر المحتفة بالتعليم اليوم؛
فهناك مدارس الإرساليات (علمانية، ودينية) ، وهناك المدارس الدينية التي
تخص الطوائف النصرانية التي تعيش في بلداننا الإسلامية، والمدارس الخاصة
التي تقتفي أثر هذه المدارس، إلى جانب التعليم العام المنجذب مغناطيسياً نحو
مجال هذه المدارس كنموذج.
إن نظرة الأمم إلى مسألة التعليم تنطلق من نظرتها لذاتها ودورها وهدفها
الأبعد على هذه الأرض وما بعد الأرض؛ ومن ثم فإن الخريطة التعليمية لأي دولة
يمكن أن تنبئنا بتطلعات هذه الدولة إلى المستقبل، ويمكن إيضاح ذلك من خلال
عدد من التجارب والمواقف:
* كان للتعليم الشرعي دوره الذي بهر العالم كله في نموذج طالبان وسيطرتها
على الأوضاع داخل أفغانستان بسهولة، والبدء في خطط تنموية حقيقية رغم
الحصار الشديد وضعف الإمكانيات؛ مما جعل التقارير العالمية توصي باتخاذ
إجراءات سريعة وحاسمة بصدد هذا النوع من التعليم في الدول الإسلامية الأخرى،
ومن ثم قامت النخب العلمانية بتصفية هذا النوع من التعليم بعدة طرق في تركيا
ومصر واليمن وباكستان وغيرها، وما يحدث الآن في أفغانستان يعيد للأذهان
حملة نابليون للقضاء على بواكير النهضة العلمية والحضارية التي كادت تزهر في
أحضان الأزهر، وزرع التعليم البديل [1] .
* كان للمدارس الدينية دورها في إنجاح الثورة الإيرانية في أواخر
السبعينيات، كما كان للتعليم الغربي دوره اليوم أيضاً في الانقلاب السلمي على
الثورة هناك.
* النهضة الاقتصادية الماليزية بدأت أيضاً بالتعليم؛ ففي سنة 1985م أقيمت
مؤتمرات وطنية لقضية التعليم، وقررت أن تكون ماليزيا دولة صناعية؛ ولذا
تغيرت مناهج التربية والتعليم على هذا الأساس، كما تغيرت نظم البعثات الدراسية،
والهجرة والاستثمار في غضون 10 سنوات، وكانت النتيجة أن ماليزيا أصبحت
عاشر دولة صناعية في العالم سنة 1995م.
* نموذج الصين واليابان والهند وألمانيا وهي تجارب دول عانت من
مشاكل أكثر عدداً وأضخم من المشكلات التي يعلق عليها العرب خيبتهم التعليمية
والتنموية؛ ومع هذا استطاعت هذه الدول حين ملكت الإرادة أن تقفز من خلال
تعليم هادف قفزات سريعة في فترة محدودة.
* وفي كشمير المحتلة عملت الهند على محاربة التعليم الإسلامي ونشر التعليم
العلماني، وتشجيع الحركات العلمانية على حساب الحركات الإسلامية؛ وخاصة
بعد ظهور الحركات الجهادية لطمس هوية كشمير وإذابتها داخل المستنقع الهندي.
* كان للمدارس الدينية دورها في إيجاد تيار واسع له أثره البالغ في توجه
الدولة اللقيطة وتعاملها مع العرب [2] .
* وأخيراً كان للتعليم الأجنبي أثره البالغ على أمن المنطقة العربية واستقلالها
من خلال تربية أجيال لا تؤمن إلا بالفكر الغربي، ولا تعرف غير الحضارة
الأوروبية، وتتنكر لدينها وحضارتها وقيمها الأصيلة، وكان لهذه الأجيال العير
والنفير في مختلف المجالات.
إطلالة على الوجود التعليمي الغربي:
في عام 1863م اقترح المنصِّر هاملين على صديقه روتشيلد اليهودي إنشاء
مدرسة ثانوية بجوار «قلعة الروملي» قائلاً: «لقد أنشأ الأتراك حصناً لفتح
إسطنبول، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم» . هذه العبارة على وجازتها تلخص لنا
الدور الخطير الذي لعبته المدرسة الأجنبية في تفكيك العالم الإسلامي وتفتيت ريحه؛
لقد مكر أهل الكتاب مكر الليل والنهار لرد المسلمين عن دينهم تارة بحروب
صليبية وتارة بتدبير المكائد الداخلية، وفي كل مرة كان العالم الإسلامي يهب هبته
ينفض عنه مسة أهل الكتاب، وفي كل مرة كان الغرب يبحث عن لبنة سنمَّار حتى
ظفر بها أخيراً؛ إنه حبل التلقي الموصول بالله عبر المسجد والمدرسة والأم..
فلتكن المعركة في هذه الساحة لا بهدمها كما صنع بونابرت وإنما بتفريغها من
محتواها أولاً وتبديله بمحتوى مخالف أياً كان هذا المحتوى ليفعل فعل السرطان في
الجسد عندما تتغير كيميائية خلية واحدة.
يقول جب في كتابه: (وجهة الإسلام) : «إن إدخال طرائق جديدة في
البلاد الإسلامية كان يتطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس
الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وإن إصلاح التعليم [يسميه
إصلاحاً!] على هذا النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية
الإسلامية، ولكن الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع
عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولا سيما في تركيا
وسوريا ومصر؛ وذلك يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مختلفة، وقد كان
أكثرها عدداً المدارس الفرنسية، وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية
العثمانية أقل مما في الهند، وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزر الهند
الشرقية» .
وقد ارتبط التعليم الأجنبي منذ وفوده على البلاد الإسلامية كما ذكر جب
بالإرساليات التبشيرية، وتنسب بداية المحاولة إلى الإسباني (ريمون لول) ، ثم
أخذت الجمعيات التبشيرية في الانتشار في أواخر القرن 18 وأوائل الـ 19 التي
كان أحد أهم مناشطها التعليم، خاصة مع تحول الكنائس الكبرى في أوروبا من
الإطار الكهنوتي البحت إلى الإطار التعليمي بإنشاء المدارس والمعاهد التابعة لها،
وقد بدأت الإرساليات تمارس نفس الدور في العالم الإسلامي خاصة حين أخفقت
الأساليب المباشرة للتبشير شرعت في أداء الدور التعليمي، وخاصة بعد أن رأى
المبشرون من خلال مؤتمراتهم وخبراتهم المتبادلة أن العمل في جانب الصغار أجدى
بكثير من الكبار وفي جانب الفتيات أخطر منه في البنين.
وقد كان الغرض الملحُّ على العقل الأوروبي من بناء المدارس كما قلنا هو حل
المسألة الشرقية من الداخل بعد أن استغلق حلها من الخارج.. والناظر في تاريخ
سقوط الخلافة يعلم بحق أثر هذه المدارس في الكيد لأهل الإسلام؛ فقد لعبت دوراً
أعظم مما أداه جميع سفراء الدول ومعتمديهم السياسيين باعتراف الغرب نفسه.
كانت الشرارة الأولى قدحت في بيروت بإنشاء مدرسة للبنات في الإمبراطورية
العثمانية سنة 1830م؛ لأن البنات سيكُنَّ أمهات؛ فإذا تربَّيْن في هذه المدارس
النصرانية أثرن على أولادهن! ! وكانت تعنى ببنات الأسر والبيوت الكبيرة اللاتي
سيكون لهن السيطرة على الجيل المقبل؛ ولهذا قال بعض دعاتهم: «إن مدرسة
البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني» ! !
وقد تركزت في لبنان جهود الأمريكيين، والفرنسيين، وقد كان للجامعة
اليسوعية (الأمريكية فيما بعد) وجامعة القديس يوسف دور خطير في لبنان
بالتقاط النابهين من نصارى الشام وبنائهم نماذج متغربة تعمل لحساب المشروع
الغربي؛ حيث ارتبط كثير منهم بالمخطط الماسوني الهادف لإسقاط الدولة العثمانية
وتفتيت العالم الإسلامي وغرس الدولة اليهودية في المنطقة.
وفي مصر عام 1840م من خلال البعثات التنصيرية قام الآباء بتأسيس الكلية
الفرنسية بالإسكندرية والجمعية الإنجيلية البروتستانتية، وجمعية راهبات القلب
المقدس عام 1845م، ثم تلتها الإخوة المسيحيون والفرير عام 1847م ثم الآباء
اليسوعيون والجزويت ثم الفرنسيسكان 1859م والمير دي ديو (وتعني أم الله!
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) 1877م. ثم تبعتها مدارس الآباء اليسوعيين عام
1880م كمقدمة لاحتلال مصر في عام 1882م، وقد بلغ عدد مجموع الطلاب من
المسلمين 7117 طالباً مسلماً حتى عام 1891م، وهو رقم مذهل بمقاييس تلك الأيام
وظروفها.
كان انتشار المدارس الأجنبية في مصر مكثفاً ومقصوداً حتى إنها الآن تبلغ
عشرات الآلاف من المدارس، وتبلغ نسبة الدارسين فيها من المسلمين 52% من
الطلاب بمصر، ويشير مؤرخو المدارس الأجنبية أن الجالية اليونانية كانوا كلما
حلوا في بلد أنشؤوا فيه كنيسة ومدرسة كما فعلوا في الإسكندرية عام 1843م ثم في
المنصورة، وطنطا، وبور سعيد، والسويس، والقاهرة وغيرها، وهكذا
الجالية الإيطالية منذ عام 1862م، والجالية الألمانية عام 1866م، واليهود منذ عام
1872م، والمارونيون السوريون، وكانت أولى الجاليات الجالية الأرمنية عام
1828م في بولاق.
أما عن تعليم البنات فقد كان هناك مدرستان في أواخر العقد السادس من القرن
الماضي للتعليم العام بحي الأزبكية: واحدة تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، والأخرى
تابعة لكنيسة الأقباط الإنجيليين. وفي عام 1904م أنشأت الكنيسة القبطية أول
مدرسة صناعية ببولاق.
وقد عملت كثير من هذه المدارس بمبدأ المواءمة واستغلال الفرص المتاحة؛
بحيث تظهر ما جاءت من أجله كلما سنحت الفرصة، وتتستر حين تضيق عليها
الأمور.
كما شهدت سوريا بالتزامن مع حالة لبنان ومصر جهوداً موسعة لفتح المدارس
الإرسالية حتى كان نصيب سوريا وحدها من المدارس الأمريكية عام 1909م:
(174) مدرسة في المدن والقرى.
وفي السودان من أنواع المدارس والبعثات التنصيرية الشيء الكثير، بل إن
عدد الكنائس في الخرطوم يفوق عدد المساجد! !
وأما في جبال النوبة فقد استولت الإرساليات البريطانية على التعليم فيها منذ
عام 1919م وحاصرت توسع الإسلام واللغة العربية، وأقفلت ما يفتح من المدارس
الإسلامية عام 1931م.
وفي العراق: في أوائل القرن العشرين الميلادي كانت أول مدرسة تبشيرية
في البصرة مدرسة للبنات، ثم انتشرت مدارسهم في أنحاء العراق.
وهذا ما جرى عليه الحال في سائر بلاد الإسلام خاصة البلاد التي دخلها
الاستعمار.
وقد كان جل اهتمام التنصير منصبّاً على مصر وباكستان تحديداً؛ ولذا نالا
قسطاً أكبر من الغزو عموماً ومن خلال التعليم على وجه الخصوص. يقول (ستيف
نيل) مؤرخ الكنيسة: «في العالم الإسلامي دولتان تمثلان أكبر أهمية بالنسبة
للتنصير، هما باكستان ومصر، وسقوط إحداهما في قبضتنا يعني إزالة أكبر
عقبتين من طريق الكنيسة» .
تتوافر عن باكستان أمامنا بعض الإحصائيات حول نشاط عدد من أشهر
المدارس هناك يمكن أن تعطينا صورة عن حجم النشاط وما يصبو إليه وما يمكن أن
يحققه:
نجد في مدرسة القديس باتريك في كراتشي (2100) طالب مسلم
و (400) نصراني!
وفي مدرسة القديس يوسف (2100) مسلم، (100) نصراني!
ومدرسة القديس لورانس (1050) مسلماً، (150) نصرانياً!
ومدرسة القديس جوز (100) مسلم، وليس فيها نصراني واحد.
ومدرسة المسيح الملك (700) مسلم، (300) نصراني.
ومدرسة القديس جون (700) مسلم، (200) نصراني.
ومدرسة القديس بونا بونتشر في حيدر آباد (1560) مسلماً، و (40)
نصرانياً.
ومدرسة القديسة ماري في حيدر آباد (1558) مسلماً، (139) نصرانياً.
بالنظر في ما تقدم يتضح أن وجود النصارى عبارة عن ذر للرماد في العيون [3] .
على أن الأمر لا يتوقف عند حدود مصر أو باكستان أو بلاد الشام، وإنما
زحف نحو جميع البلاد في غفلة من المسلمين. وتشير الأرقام إلى وجود 264
مدرسة تنصيرية في ماليزيا، وفي قطر هناك أكثر من 30 مدرسة، وفي مدينة
مقديشو وحدها أكثر من ثلاثين مدرسة صليبية!
وطبقاً لإحصائيات عام 1991م توجد 16500 مدرسة نصرانية في أفريقيا
وحدها.
أما التعليم الجامعي فلدينا ثلاث مؤسسات كان لها أبلغ الأثر في تحول كثير
من أبناء الأمة عن دينهم وهي:
جامعة القديس يوسف في لبنان، وهي جامعة بابوية كاثوليكية (تعرف الآن
بالجامعة اليسوعية) .
والجامعة الأمريكية التي كانت من قبل تسمى (الكلية السورية الإنجيلية) ،
ثم كلية بيروت، وقد أنشئت في عام 1865م، وهي جامعة بروتستانتية.
والكلية الفرنسية في لاهور، وأسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد
يكون البلد الفريد في تكوينه في شبه القارة الهندية.
إلى جانب (كلية روبرت) في إستانبول، والكلية الأمريكية (الجامعة
الأمريكية فيما بعد في القاهرة) .
وكلية جوردن (البريطانية) في الخرطوم، وأخيراً الجامعة الأمريكية الجديدة
في الشارقة، وفي قطر!
وهناك الجامعة الألمانية والفرنسية في المستقبل القريب في مصر اللتان شرع
في تأسيسهما مؤخراً.
ومن خلال هذا الجهد المكثف نجح التعليم الأجنبي بمدارسه وجامعاته في
تخريج أجيال عملت على خدمة المصالح الغربية على تفاوت فيما بينها؛ فقد تخرج
فيها كثير من القيادات القومية الفكرية والسياسية من بين المسلمين والنصارى دون
فرق إلى حد بعيد في كل من مصر ولبنان وفلسطين والأردن وسوريا والعراق
والسودان، ومن أبرزهم: ميشيل عفلق، وجورج حبش، وقسطنطين زريق،
وأنطون سعادة، ولويس عوض وغيرهم، وكان من عملاء هؤلاء المنصرين في
تركيا الجنرال: أحمد وفيق باشا الذي أمَّن أرضاً للمدرسة؛ ولذا لما سئل السلطان
عبد الحميد الثاني عن المكان الذي سيدفن فيه الجنرال، قال: «في قلعة الروملي؛
ليستمع الرجل الذي باع للبروتستانت أرضاً ليؤسسوا عليها أجراسهم، أصوات هذه
الأجراس إلى يوم القيامة» .
وقد أولت الدول المستعمرة خلال فترة ما بين الحربين اهتماماً شديداً بتثقيف
أبناء الأمراء والعظماء وكبار رجال السياسة، ونقلهم إلى التعليم في المعاهد
الأجنبية؛ وذلك لإعداد هذه الطبقة، وقد كان إغراؤهم عجيباً لكثير من أصحاب
المراكز العلمية حتى بعض كبار المسؤولين في مجال الإسلام على تعليم أبنائهم
وبناتهم، وقد أشارت تقاريرهم إلى ذلك بما أسمته: «نزوع الطبقة الراقية إلى
المدارس الأجنبية» .
تعليم المخاطر!
نجح الغرب من خلال التعليم في أن يبث سمومه في مختلف مناشط الحياة،
وحشد ضمن كل منشط منها مجموعة من المخاطر، ثم راح يؤلف بينها؛ ولهذا
نرى المخاطر اليوم تتداعى وتجتمع وتتضافر، ويكمل بعضها بعضاً.
إن أثر النشاط التعليمي الغربي في بلادنا لم يعد يمس زاوية دون أخرى أو
يكتفي بجانب دون سواه.. بل أصبح يمثل شبكة من المخاطر كل خطر يوطئ لما
بعده ويخدم جوانب أخرى غيره؛ ولهذا فإن تفنيد بعض المخاطر لا يقلل من شأن
سواها، وذكر كل منها منفردة لا يعني أنها منبتَّة عما سواها في الواقع؛ فالتعليم
بذاته شبكة ضمن شبكة أوسع من المخاطر والمهددات التي تتنامى مع الوقت.
ومن هنا يأتي التعليم الأجنبي على رأس قائمة المخاطر وأدقها وأعمقها أثراً،
ويكفي أنه لم يقع أن اتبعت الأمة بمجموعها سنن أهل الكتاب إلا بعد أن أصبحت
مدارسهم تنافس مساجدنا، وقد رأينا من آثاره كيف تساق الأمة سوقاً وتقهر قهراً
على اتباع سنن أهل الكتاب حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما جاءت
النصوص، وأن هذا ما كان ليتحقق لولا فتح باب التلقي عنهم والانغماس في
سوادهم.. وتحسين مسلكهم.. والانبهار بكل ما يأتي عنهم دون تبصر أو تفكر،
ووقوع الفتنة بتوليهم ومحبتهم في مقابل خلع ولاية الإيمان.
ونحن بصدد دراسة أهم المخاطر الناجمة عن الوجود التعليمي الغربي في
بلادنا للدلالة على ما سواها لا بد أن ندرس أثرها على التيار العام للأمة، وألا نغفل
دراسة النماذج الفردية المجلية لأثر التعليم الغربي وإن لم يتح لنا هذا بصورة قوية
هنا، لكن تكفي بعض الإشارات الضمنية:
الخطر العقدي:
ويبدأ هذا الخطر حين تقوم هذه المدارس بترويض فكر الطالب شيئاً فشيئاً
ليتشرب العقيدة النصرانية، وتنزع عنه حساسية الفطرة والإيمان، من خلال
المناهج، والممارسة التربوية، والنموذج التربوي الذي تقدمه هذه المدارس (المثل
الأعلى) ، وشكل البناء؛ فالمدرسة تبنى بجوار الكنيسة أو داخل فنائها، وأسلوب
الإدارة، وتعويد الطفل على رؤية الكهنة والراهبات في منزلة التوقير بما يجعل لهم
نفسياً سلطة لا شعورية تبدأ بالاحترام وتنتهي بقبول أفكارهم ومعتقداتهم؛ فلا يجد
هذا الطفل حرجاً حين يتخرج أن يرتدي لباس الكهان، بل يظل يحلم بهذه اللحظة،
وكأن المدرسة تقول له: قد هيأناك لتكون هكذا! ولا حرج أن يدخل كنيسة المدرسة
ظهر كل أحد مع زملائه ليستمع إلى درس الأحد، ولا بأس بعدها أن يدخل أي
كنيسة ضيفاً أو زائراً أو مهنئاً أو معزياً..!
وهو في البداية كما قال هوارد ويلس رئيس الجامعة الأمريكية الأسبق في
بيروت: «التعليم في مدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم وانتزاعه
من قبضة الإسلام» .
وهو في النهاية كما يقول بنروز رئيس الجامعة الأمريكية أيضاً: «أثمن
الوسائل هي التي استطاع المبشرون أن يلجؤوا إليها في سعيهم لتنصير سوريا
ولبنان» .
ومن يقرأ تاريخ الأحزاب والحركات الهدامة في العالم الإسلامي في عصرنا
الحاضر يلمس دوراً خطيراً للتعليم الأجنبي في تشكيل هذه الحركات وتوجيهها.
والمدرسة تبدأ بالطفل خاصة حين يغفل الأبوان عن دورهم في المتابعة، ثم
تجعل منها قنطرة إلى أسرته، وهؤلاء تعد لهم المدرسة قائمة طويلة من المناسبات
والحجج التي تبدو طبيعية لتوثيق العلاقات، كمجلس الآباء والحفلات الدورية
وغيرها من المناسبات، ومن ثم يفتح الباب أمام الكنيسة لتمارس دورها في ربط
هؤلاء بحياة الكنيسة، فتشملهم بمجموعة جديدة من الخدمات التعليمية غير النظامية،
مثل مدارس القرى، وبرامج التربية الشعبية ومحو الأمية، وبرامج التدريب
المهني والحرفي، وتعليم اللغات، والتدريب على الحاسب الآلي، ومجالات
السياحة وأعمال مكاتب الطيران، ومراكز تنمية المجتمع، ومراكز رعاية الطفولة
و ... وتحاول هذه المدارس مع من يلتحق بها أن تعزله عن التأثر بعقيدته الإسلامية
ومحيطه الكبير، تارة بإثارة الشكوك. وأخرى بأساليب السخرية المقنعة والظاهرة..
والتهوين من شأن الإسلام..! وإذا لم يخضع التلميذ وأبدى بعض التمسك كان
في انتظاره حزمة من عمليات الحرب النفسية الكفيلة بأحد أمرين: ترك المدرسة،
أو عقدة الانطواء؛ ومن ثم تنجح المدرسة في تصوير المتمسك بإسلامه لباقي
زملائه على أنه أحد اثنين: إما غير ناجح، وإما معقّد.
ثم تكتمل الحلقة حين يلتحق الطالب بإحدى جامعات الغرب أو فروعها في
بلادنا؛ فيجد عشرات من الكتب والرسائل التي تطعن في الإسلام طعناً صريحاً،
وتخلط بين الإسلام وما سواه باسم الثقافة، ويجد الزوجة التي تكمل معه المشوار،
والأستاذ الذي يأخذ بيده إلى آفاق أخرى، ولهذا لا يعجب المرء بعدها حين يسمع
عن تنصر بعض هؤلاء سراً أو علناً.
وكما تعمل المدارس التبشيرية على ترسيخ قيم الكنيسة التي تنتمي إليها،
تعمل المدارس العلمانية على ترسيخ القيم المادية من خلال منظومتها التعليمية؛
حيث تطبق المعايير الرأسمالية البحتة على كل شيء بدءاً من عمل المدرسين
وأدائهم، وانتهاء بتقييم الطلاب وتحديد أولويات حياتهم.
ومن هنا يزول عجب المرء حين يجد هذا الهجوم الواسع على الإسلام من
طوائف واسعة من بني جلدتنا ممن يتحدثون بألسنتنا، وحين يجد الدأب في العمل
لخدمة المصالح الغربية على حساب الأمة، حين يعلم المرء أن هذا النتاج هو
حصيلة قرن ونصف من العمل الدؤوب في مجال التنشئة.
ومعلوم أن الإنسان يحن إلى طفولته وصباه، ومكوناتهما هي أوتار الحس في
بقية مراحل العمر.. وتعلق قلب المتعلم في هذه المدارس يعد مقدمة لما بعده.
فلا عجب أن يُضمَّن الشعر والنثر عقائد أهل الكتاب، ولا غرابة أن تستورد
قوانينهم وأفكارهم حتى بعد إحالتها للتقاعد في بلادها، أو أن يصبح إعلامنا بوقاً
لترديد ما يشتهون، ومن لم يدركه أثر التعليم مباشرة أدركته توابعه!
وبهذا نجد أن أثر التعليم الأجنبي لا يقف عند حد فرد أو مجموعة وإنما تسري
سمومه في جسد الأمة وهي تظن أنها تتداوى. والمتأمل في تاريخ بعض
الشخصيات التي تربت في هذه المحاضن يجد أن شؤم التحاق فرد ربما عاد على
الأمة كلها بالضرر الكبير، ولدينا أمثلة من حاضرنا تتمثل في أتاتورك رغم أصوله
المتصلة باليهود؛ لكن طبيعة نشأته وتكوينه هو ومجموعة الاتحاد والترقي هي التي
حركته في الاتجاه الذي سار فيه، و «سنجور» حاكم السنغال السابق الذي
نصَّرته مدرسته بينما لا يزال أهله مسلمين وتولت إعداده ليتولى حكم دولة مسلمة
بنسبة 99% ويحارب فيها الإسلام، وبعد أن افتضح أمره تفرغ للتنصير، وأقيمت
جامعة تحمل اسمه لإعداد المنصِّرين في بلاد المسلمين.
وقل ما هو أعظم من ذلك عن إسماعيل باشا خديوي مصر الذي عاد مع أول
بعثة من فرنسا وهو يحلم بتحويل مصر إلى قطعة من فرنسا، ودوره الخطير في
تمكين أعضاء المحفل الماسوني من حكم مصر، والسيطرة على قطاع واسع من
المنطقة العربية، والذي أغدق الهبات على بعثات التنصير الفرنسية المتعاونة مع
الاستعمار من الصين إلى أعماق أفريقيا، وقد ورد في رسالة مسيو «بوجاد»
قنصل فرنسا في مصر في 2/5/1869م: «أن إسماعيل منح رئيس أساقفة اللاتين
بمصر قطعة أرض مساحتها: 3500 ذراع في موضع حسن جداً (150 ألف
فرنك ذهب) ، ومنح الراهبات إعانة سنوية (6 آلاف فرنك ذهب) وهبة (200
ألف فرنك) ، ومنح أساقفة اللاتين منحة أخرى هي أرض مساحتها 6 آلاف
ذراع» [4] . وكانت منذ عام 1867م قد بدأت مدارس الاستعمار الفرنسي والبريطاني
في العمل في مصر، وجميع عملاء الغرب من رجال الخديوي إسماعيل إنما
صنعتهم هذه المدارس.
لقد كان شؤم هؤلاء الثلاثة على عقيدة الأمة وعلى عافيتها أمراً لا يمكن
الإحاطة بمداه؛ لأن تبعاته ما زالت تتوالى علينا، وقد كان جهدهم ناتجاً عن عقيدة
نجح التعليم في تشكيلهم عليها.
ومن العجيب أن نصارى البلاد العربية أبوا أن يلحقوا أولادهم بالمدارس
النصرانية الوافدة وهم أهل دين واحد غيرة على مذاهبهم وحرصاً على أبنائهم،
فأقاموا مدارس خاصة بهم. أما المسلمون فلم تأنف منهم طائفة أن يسلِّموا أولادهم
إلى هؤلاء وهؤلاء! يقول المبشر «تكلى» : «يجب أن نشجع إنشاء المدارس،
وأن نشجع على الأخص التعليم الغربي. إن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم
حينما تعلموا اللغة الإنجليزية. إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب
شرقي أمراً صعباً جداً» .
لقد حفلت مناهج التعليم الغربي بجهود المستشرقين في الطعن في الإسلام،
وتزيين ما عليه عقيدتهم من باطل، وتحسين مناهجهم وسيرتهم، والفتنة بتاريخهم
والتأسي بعظمائهم، والفخر بما حققته مدنيتهم من تقدم مادي، والتنكر لكل ما هو
إسلامي وعربي.. كل ذلك ما كان ليبلغ مداه لولا التأسيس لها عقيدياً؛ ولهذا نجد
أن كثيراً من أفكارهم الشاذة قد انتقلت من كتبهم إلى بطون الدساتير والقوانين
واللوائح العربية، وعبرت عن أفكارهم مئات الصحف والإذاعات، وترجمت إلى
آلاف الكتب والرسائل، وأقيم من أجلها ما لا يحصى من المؤتمرات والندوات
والجمعيات والهيئات، كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا الغزو العقدي الذي مني به طائفة
من المسلمين خلال تربيتهم في هذه المدارس، ويسهرون على نشره ونصره بين
مجتمعاتهم اليوم.
الخطر التعليمي والتربوي:
إن ما قام به التعليم الأجنبي ابتداء أشبه بإنشاء جدول صغير خاص به،
وتحكم فيما يدخل إلى هذا الجدول كما تحكم في مصبه؛ يسقي منه من شاء، ثم أخذ
بتوسيع ذلك الجدول شيئاً فشيئاً، ثم عمد مع الوقت إلى تحويل مجرى الماء
الأساسي إلى جدوله لينبع منه ويصب في مصبه هو.
إن من أخطر ما قامت به المدارس الأجنبية أنها استطاعت أن تضع المعايير
التي تقاس بها جودة التعليم وفقاً لمآربها هي، مع أن معايير القياس في تجردها فيها
جزء مطلق وجزء آخر تحكمه عقيدة المجتمع، لكن الذي حدث أن المدارس
فرضت ذلك من خلال طبع صورة الانبهار بها لدى العقل العربي ابتداء، ثم بتمكين
خريجيها من توجيه المجتمعات لاحقاً؛ مما أدى إلى فرض صيغة مأزومة للمعايير
التي تحكم سير العملية التعليمية الوطنية بعد أن أحاطتها بسياج من الجمود والتخلف
والتبعية.
ولو تفحصنا نظرة التربويين إلى عملية التربية لوجدنا أن الأمم الغربية كان
لديها حساسية من استعارة معايير خارجة عن المجتمع وظروفه وأهدافه العليا حتى
وإن اتفق الطرفان في جزء كبير من العقيدة واللغة والتاريخ. يقول كونانت أستاذ
التربية الأمريكي الشهير في كتابه: (التربية والحرية) : «إن عملية التربية
ليست عملية تعاط وبيع وشراء، وليست بضاعة تصدر إلى الخارج أو تستورد إلى
الداخل، إننا في فترات من التاريخ خسرنا أكثر مما ربحنا باستيراد نظرية التعليم
الإنكليزية والأوروبية إلى بلادنا الأمريكية» [5] .
إن استيراد نظريات التربية الغربية ومعاييرها لا يناسب حال الإنسان المسلم
ولا تطلعاته خاصة مع وضوح المفاصلة التي جاء بها القرآن وامتلاء التاريخ
بصفحات الكيد والمكر؛ فإذا كانت التربية تعني سعي الأمة للاحتفاظ بنظرية سبق
أن آمنت بها، وأقامت عليها حياتها، وجاهدت في سبيل تخليدها.. بنقلها إلى
الأجيال القادمة.
ومن ثم فهي الجهد الذي يقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة
على أساس نظرية الحياة التي يؤمنون بها. ووظيفة المدرسة أن تمنح القوى
الروحية التي تتصل بنظرية الحياة، وتربي التلميذ تربية تمكنه من الاحتفاظ بحياة
الشعب وتمديدها إلى الأمام « [6] .
ومن خلال هذه الرؤية التي تزداد خصوصية ووضوحاً إذا ما تعلق الأمر
بخير أمة أخرجت للناس نرى أن خطر التعليم الأجنبي لم يقتصر في مزاحمته
تعليمنا الداخلي الذي أريد له التخلف والقصور، وإنما في كونه أصبح هو الذي
يمسك له البوصلة التي تحدد له اتجاهاته ومساراته، وقيمه ومعاييره، وأهدافه
ووسائله، وهنا مكمن الداء في أن الاختراق نجح بإشعاعاته أن يقلب كيميائية التعليم
في عدد من بلادنا إلى خلايا سرطانية تتغذى بغذاء الجسد وتعمل في ذات اللحظة
على هدمه.
__________
(1) تتسابق الآن كل من فرنسا والولايات المتحدة في بناء أكبر عدد ممكن من المدارس في أفغانستان ضمن سياسة الفرصة السانحة.
(2) ارتفع التعليم الديني في إسرائيل في السنين العشر الماضية من 48 ألف إلى 111 ألف بنسبة 130%.
(3) أغلب الإحصاءات مستفادة من كتاب المدارس الأجنبية، للدكتور بكر أبو زيد.
(4) نقلاً عن حلقة من برنامج الشريعة والحياة، والضيف هو الشيخ أحمد القطعاني من النشطين في محاربة التبشير، وقد تم اللقاء معه على حلقتين حول التبشير في أفريقيا، وفي آسيا، ومادة اللقاءين منشورة على موقع (الجزيرة نت) .
(5) انظر: معالم التاريخ الإسلامي المعاصر أنور الجندي، ص: 56 عن الغزو الفكري، ص: 107.
(6) انظر: غزو في الصميم، ص: 18، فماذا نقول نحن في بلادنا الإسلامية حين رسم لنا التعليم الأجنبي الطريق، وأراد لنا أن نسير فيه خلفه؟ .
(7) انظر: غزو في الصميم، ص: (18-19) .(174/18)
قضايا دعوية
قواعد في منهج الدعوة إلى الخير
د. فريد الأنصاري [*]
مقدمة:
العمل الإسلامي أو الإصلاحي، أو الدعوي، في كل زمان وفي كل مكان،
يقوم على أصل كلي في الإسلام، وكليته استقرائية ترجع إلى عدد كثير من
النصوص القرآنية والسنية. ومن هنا قلَّما تجد حركة إسلامية، سواء في التاريخ
القديم أو المعاصر، إلا وهي ترجع إليه، وتؤصل لوجودها به، وذلك هو «أصل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ، إلا أن النظر في تحقيق مناط هذا الأصل،
في ظروف الزمان والمكان، يجعلنا ملزمين بضبط توقيعه بقواعد منهجية،
مشهورة عند العلماء، إن لم يحترمها الداعية صار إلى عكس المآل الذي وُضِع
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجله. وهي:
القاعدة الأولى: في أن (الدعوية) صفة لازمة عن الإسلامية:
وهي قاعدة مبدئية؛ ولذلك فإننا ننطلق ابتداء من المقولة التالية: «أنت
مسلم إذن أنت داعية» .
وبيان ذلك كما يلي:
ألست مسلماً؟ إن كنت كذلك حقاً؛ فقد تعلقت بك أهم صفات ما انتسبت إليه
من الإسلام: الرسالية. قال صلى الله عليه وسلم في أمر مطلق لكل الأمة:
«بلِّغوا عني ولو آية» [1] . ومن هنا كان المجتمع الإسلامي حركة دعوية بطبيعته،
وجماعة إصلاحية بفطرته. إنه منذ أعلن أن محمدًا رسول الله؛ تقلد بمقتضى عقيدة
الاتباع مهمة الدعوة إلى الله، فليس عبثاً أن يحض النبي صلى الله عليه وسلم بكل
وسائل التحريض والتشجيع على الدعوة إلى الخير والهدى، كما في قوله: «فوالله
لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» [2] .
ومن هنا شهادة الله بالخيرية لهذه الأمة، في قوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران:
110) إنها صفة عامة في كل من أسلم لله الواحد القهار. ومن هنا كان حديث
تغيير المنكر دالاً على العموم، وليس له ما يقيده في المأمورين به إلا شرط
الاستطاعة ورتبتها؛ وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً
فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان» [3] . وقد بينا في كتيب (الفجور السياسي) مراتب التغيير، وطبيعة كل
رتبة منها بما يغني عن تفصيله هنا، فكان أن بينا إلزامية ذلك على كل مسلم على
قدر مرتبته من الاستطاعة [4] . بل قد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
عزمة شديدة على المسلم؛ هي أن يتجرد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما
حضره. قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى ليسأل العبد يوم القيامة؛ حتى
يسأله: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال: يا رب!
رجوتك وفرقت من الناس» [5] .
فالمسلم المستقيم لا يمكن إلا أن يكون داعية إلى الخير. تلك صفته فرداً،
وجماعة؛ إذ الرابط الاجتماعي القائم على الشهادتين في الإسلام يقتضي ذلك بداهة.
قال عز وجل: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (التوبة: 71) ، فجاءت صفة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في المؤمنين، مقرونة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله
ورسوله، وكل ذلك جاء نتيجة الموالاة في الله.
تلك صفتهم قبل التمكين في الأرض، وتلك صفتهم بعد التمكين؛ إذ الدعوة
إلى الخير هي غاية ووسيلة في الوقت نفسه، تماماً كما تحدثنا عن الصلاة،
فالمجتمع المسلم لا يقوم إلا بالدعوة إلى الله، قال عز وجل: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن
سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] (النحل: 125) . وإذا قام كان من أهم خصائصه
الدعوة إلى الله، إلى جانب الصلاة والزكاة على سبيل التلازم، فتدبر قوله تعالى:
[الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: 41) ، ومن هنا رسم الله سبيل الرسول
صلى الله عليه وسلم صراطاً مستقيماً، يتبعه عليه كل المسلمين، قوامه الدعوة إلى
الله على بصيرة؛ وهي سبيل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، مستقرة كذلك أبداً، قال
تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ
وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .
فقوله تعالى: [هَذِهِ سَبِيلِي] (يوسف: 108) جملة اسمية دالة كما هو
معروف عند النحاة على الثبات، وثباتها هو على ما جاء بعد لتفسير السياق:
[أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] (يوسف: 108) الآية. وجاء
تفسيرها جملة فعلية للدلالة على الحركة، وفي ذلك إشارة إلى ما ذكرناه من
خصيصة الدعوة اللازمة للجماعة الإسلامية، قبل التمكين وبعده، وأنها صفة تابعة
لإسلام المسلم متى تفاعل مع إسلامه واستقام عليه.
ومن هنا جاء أمر الدعوة والإصلاح مقروناً بالأمر بالصلاة، في غير ما آية
من القرآن الكريم؛ وذلك على نحو ما في وصية لقمان الحكيم لابنه، في حكاية الله
عنه من قوله تعالى: [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (لقمان: 17) ، وقال جل جلاله في
وصف جميل لمؤمني أهل الكتاب، تناسق فيه جمال تلاوة القرآن قياماً بالليل، مع
جمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات: [لَيْسُوا
سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ
وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] (آل
عمران: 113-115) .
وجعل من سننه تعالى في الخلق أن كان أمنهم الوجودي والنفسي والاجتماعي
مرتبطاً باستقامة أحوالهم، وذلك الثبات على الصلاة، والصبر عليها، وحفظ البيئة
الدينية الموفرة لظروفها؛ بالإصلاح والنهي عن الفساد. فإذا اختلت تلك الشروط
اختل الأمن الوجودي للأمة، قال تعالى يعرض صورة شاملة لإحسان التدين:
[وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن
قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ] (هود: 114-117) .
القاعدة الثانية: في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة إلى
الخير أولاً:
والخير كل الخير هو معرفة الله، فكل معروف إنما كان كذلك من حيث هو
يؤدي إلى معرفة الله أو هو عين معرفة الله، وكل منكر إنما كان كذلك من حيث هو
جهل بالله. فإذا اتفق أن كان أمر بمعروف ما ينتج عنه منكر أكبر منه؛ توجه
حينئذ وجوب ترك الأمر بذلك المعروف. وكذلك إذا كان نهي عن منكر ما يؤدي
إلى ما هو أفظع منه؛ توجه وجوب ترك ذلك النهي إلى حين، كما قرره الإمام ابن
تيمية رحمه الله في قوله: «وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا
تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب
ترجيح الراجح منها. . . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة
ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل
من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من
مصلحته» [6] . وربما كانت الوسائل المستعملة في ذلك سيئة، أو اختيار العبارات
غير موفق، أو نحو ذلك من وسائل تحقيق المناط الفاشلة ابتداء؛ مما لم يراع فيه
الزمان وأهله، فيؤدي إلى عكس النتائج المرجوة.
ومن هنا كانت الآية المشهورة على ألسنة الدعاة: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل
عمران: 104) من ألطف الإشارات إلى هذا المعنى العجيب الذي يجعل المرء
يضع نصب عينيه تحقيق مفهوم (الخير) أولاً. فلا عبرة بالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر إن تحقق الداعي من أنه يخطئ به الوصول إلى الخير. وإنما الخير كما
قلنا هو التعريف بالله. هذا معنى عظيم من أسرار كتاب الله.
ولذلك فقد جاءت الآية في سياق امتنان الله على المؤمنين بنعمة الإسلام،
والتأليف بين قلوبهم، وإنقاذهم من النار، وإرجاع الفضل في كل ذلك إلى الله.
فاقرأ السياق كله وتدبر، ثم أنصت إلى قلبك: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى
شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ
* وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ] (آل عمران: 102-105) .
إنها آيات تُشَدُّ إليها رحال المصلحين الربانيين. . فتدبر! ألا ما أبعد واقعنا
المنحط عن سمائها العالي الرفيع! فالدعوة إن لم تراع أصل الاعتصام بحبل الله،
وعدم التفرق عنه، ولم تنضبط بقصد النجاة من النار، للداعي والمدعو سواء؛
كانت منحرفة عن (الخير) ، وإن كانت في ظاهرها أمراً بمعروف ونهياً عن
منكر، فلا قيمة لهذا إلا إذا صار إلى خير. فتدبر!
القاعدة الثالثة: في أن اتباع السنة تزكية وتعلماً وتحلماً هو مفتاح
دعوة الخير:
لا سبيل إلى كل ما ذكر من بلاغات قرآنية إلا عن طريق اتباع المبلغ: محمد
بن عبد الله، رسول الله إلى العالمين. هذه عقيدة، بل أصل من أصولها الكبرى،
وكلي من كلياتها العظمى، لا استقامة لشيء من ذلك كله إلا به. وإن شئت فقل:
هذا هو البلاغ القرآني الجامع، والضابط الكلي المانع. قال الله عز وجل: [مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (الحشر: 7) ، وقال سبحانه: [قُلْ
إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 31-
32) . والنصوص القطعية في هذا المعنى كثيرة، فهو أمر لا يماري فيه إلا جاهل
بحقيقة الإسلام، أو من لا إيمان له به أصلاً.
فإذن؛ كل حديثنا مما كان قبلُ لا يمكن تحقيق مناطه، وتصور تطبيقه إلا من
خلال السنة النبوية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح وضوح
الآيات: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [7] . لا نقاش في هذا، وما
هو بحاجة منا إلى تقرير أو تحرير، وإنما الحاجة في بيان طبيعة الاتباع للرسول
صلى الله عليه وسلم: كيف؟ هذا الذي تخبط فيه كثير من الناس.
وهذا هو مربط الفرس، وبيت القصيد: كيف نتبع السنة؟ وكيف نتأسى
بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ ذلك أن كثيراً من المتدينين اليوم يسيء للسنة من
حيث هو يزعم أنه متبع للسنة، ويحارب السنة من حيث هو يظن أنه ينافح عن
السنة. وتلك أم المصائب؛ إذ يصنع الإنسان عكس ما يعتقد أنه يصنعه. لقد
اقتصر كثير منهم في السنّة على منهج التعلم دون التزكية، والتحلم. فضلوا
وأضلوا. . تدبر قول الله عز وجل: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل عمران: 164) ، وقوله سبحانه وتعالى: [هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن
كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (الجمعة: 2) . فهو صلى الله عليه وسلم بتلاوته
القرآن على المؤمنين، ومدارسته معهم؛ يقوم بعمليتين اثنتين لا واحدة: التزكية
والتعليم، فاقرأ الآيتين وتدبر. . فعجباً، كيف فهم بعضهم من اتباع السنة والتأسي
بها مجرد استظهار بعض الأحاديث دون الرحيل إلى أخلاقها، والتزكي بمقاصدها،
والانتقال إلى منازلها؟ !
أما التعليم: فهو للحلال والحرام وسائر أحكام القرآن وفقه السنة. وأما تعلم
ما تحصل به الكفاية من ذلك لعبادة الله والالتزام بحدوده؛ فهو فرض عين على كل
مسلم ومسلمة، في كل ما يهمه من شؤون العبادات والمعاملات.
وأما التزكية: فهي التطهير للنفس والتربية لها، [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ
خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: 9-10) ، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان
حريصاً على تطهير صحابته من الأهواء، والارتقاء بهم عبر مدارج الإيمان إلى ما
هو (أحسن عملاً) ، من مثل قوله لعبد الله بن عمر: «نِعْم الرجل عبد الله لو كان
يصلي من الليل» [8] .
وانظر رحمك الله كيف ذكر (التزكية) قبل (التعليم) في الآيتين، مع أنه لا
تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم
من صحيحه قال: «باب العلم قبل القول والعمل» . وقد تقدم ذكر التعليم على
التزكية بناء على الأصل في قوله تعالى من سورة البقرة: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ] (البقرة: 129) .
صحيح أن العطف بالواو في الآيات كما هو في العربية لا يفيد الترتيب، لكن
التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهمية؛ ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين
الأوليين مقدمة على التعليم؛ من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ لشرف الغاية
وعلوها، وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغاية؛ فيضل عنها، ويكون من
الخاسرين.
تقول لي: وما بال التحلم؟ أقول: ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما عَلَّم ولا
زَكَّى إلا بحِلْم؛ فهو الخاصية العظمى لمنهج التعليم والتزكية لديه صلى الله عليه
وسلم، كما سترى بحول الله.
والحِلْمُ: الرزانة، والكياسة، والرحمة، والأناة. وهو ضد الجهالة والسفه.
والتَّحَلُّمُ: تخلق الحلم وتكلفه حتى يصير لك خلقاً، ومعنى (اتباع السنة تحلماً) :
التخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم في ذلك. أي في حلمه، وصبره على جهالة
الناس، وسفههم. قال صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم
بالتحلم. ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه» [9] .
إن الاتباع العام للرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، إنما مفتاحه في
التحلم بحلمه. وهذا من حيث المعنى في كتاب الله، ألم تقل عائشة رضي الله عنها:
«كان خلقه القرآن» [10] ، فالعود إذن للقرآن نبحث فيه عن معنى الاتباع
ومفهوم التأسي. الآية واضحة ظاهرة لكل ذي قلب شهيد، قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً]
(الأحزاب: 21) ، وإنها لآية عظيمة، وحكمة بالغة، وصراط مستقيم؛ تدبر هذه
العبارة الربانية: [أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] (الأحزاب: 21) ؛ فأما الأسوة: فهي التَّخَلُّقُ.
فالتأسي: اتباع السيرة والتخلق بما كان عليه المتأسَّى به من خلق عام. والخلق هنا
هو كل الأوصاف التي كان يوصف بها في سلوكه وعمله، عدا الأوصاف الجبلِّية
التي لا يمكن اكتسابها بالتأسي ولا بغيره. ووصف الأسوة بـ (الحسنة) دليل على
علو شأن الخلق النبوي، وكمال سيرته وسلوكه العام والخاص، فهو لذلك كان أرقى
نموذج بشري للتأسي والتخلق. أليس هو (رسول الله) المصنوع على عين الله،
والمتأدب بأدب الله؟ بلى والله! فإذن من ها هنا يبدأ التأسي والاتباع، ومن أخطأ
هذا المدخل للسنة النبوية فقد أخطأها كلها؛ إذ أتى البيوت من غير أبوابها.
وتلك شهادة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم:
4) ، تلك هي الأسوة الحسنة؛ ولذلك قال بعد ذلك: [لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21) ؛ إذ الخلق الحسن هو باب العمل
الصالح، وسبب قبوله؛ فليس عبثاً أن يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله
العجيب: «ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن» [11] ، وقوله في نحو
هذا أيضاً: «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة
الصوم والصلاة» [12] ؛ ولذلك فإنه: «لا يكون المؤمن لعاناً» كما صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم [13] ، وقال لعائشة أم المؤمنين إذ استغربَتْ منه أنه دارى أحد
الناس ممن يكره: «يا عائشة! متى عهدتني فحاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة
يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» [14] . والقصة كما في صحيح البخاري أنه
«استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائذنوا له، بئس
أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله، قلت
الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟» فقال لها صلى الله عليه وسلم ما قال.
قلت: هذا حديث تشد إليه رحال القلوب، [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ
قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) ، وإنه والله سر حُسْنِ الأسوة، وجمالها
في رسول الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت
رحمة» [15] ؛ ذلك خلق رسول الله، ذلك خلق القرآن، وهو قول الله تعالى:
[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُتَوَكِّلِينَ] (آل عمران: 159) ، وقوله تعالى: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة: 128) . ألا
ما أحوج الناس اليوم عامة، والدعاة منهم خاصة إلى استيعاب هذا البلاغ القرآني
العظيم. فتعلم من السنة أخي الداعية أخلاق النبوة تكن من الراشدين.
ذلك خلقه الجامع المانع؛ ومن هنا جعلنا عنوان هذا البلاغ الضابط لكل ما
قبله: «اتباع السنة تزكية وتعلماً وتحلماً هو مفتاح دعوة الخير» ؛ إذ النبي صلى
الله عليه وسلم إنما بعث معلماً ومزكياً، وكان كل ذلك منه على منهج الحلم والرأفة
والرحمة والأناة. فما أعظمه صلى الله عليه وسلم من نبي حليم، ورسول كريم!
القاعدة الرابعة في أن الصلوات وحفظ الأوقات عمود الدعوة إلى الخير:
لو أدرك المسلمون اليوم ما معنى (الصلاة) ؟ ما تركها واحد منهم إلا من
أصر على ضلاله وعماه، أو كزّ على كفره وزندقته!
أما أنت أيها الداعية إلى الله؛ فاعلم أن السير الدعوي من غير مسلك الصلاة
ضرب في التيه!
كل أعمالك في الجهاد، والدعوة إلى الله، وما تستكثره من حركات وسياسات
راجع إلى مدى سلامة هذا الأصل عندك؛ قصداً، ووقتاً، وأداء. وإلا فعلى دينك
السلام! [كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ
عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ] (النور: 39) .
إنك يا صاح! لن تذوق ما الإيمان وما الإسلام؛ حتى ترحل إلى الصلاة
تكتشف أسرارها الممتدة إلى بحر الغيب المطلق؛ فترى عجباً. . فهي نتيجة فعلية
لكل من تلا القرآن حق تلاوته، إنها أول ما يبادر إليه المحب أول ما يتذوق معنى
المحبة؛ إذ يتعرف على جمال الله من خلال القرآن الكريم؛ ومن هنا أمره عز
وجل بالصلاة؛ مباشرة بعد أمره تعالى بالتلاوة، على سبيل العطف المباشر المشعر
بالتساوي بين الفعلين؛ مما يوحي بانعدام الفرق بينهما لما بين الاستجابتين من
ارتباط وثيق. إن من تعرف على القرآن الكريم حقاً لا يملك إلا أن يصلي. قال
تعالى: [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ
وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] (العنكبوت: 45) .
اعلم أن العلماء يجمعون على أن الوظيفة الوحيدة للإنسان في الكون هي عبادة
الله. فكل حظوظه الدنيوية إنما هي منجرة بالتبع مع أصل العبادة، وإنما أتيح له
أن ينال من حظه ما يعينه على وظيفته الأساس؛ وأصل ذلك ومستنده قوله تعالى:
[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) .
إن خلاصة دين الإسلام عقيدةً وشريعةً: هي إخلاص العبادة لله الواحد القهار،
والصلاة منه هي مفتاح كل شعيرة من شعائره، وروحها، وغايتها؛ زكاةً،
وصياماً، وحجاً، وجهاداً. . . إلى آخر ما تفرع عن هذه وتلك من سائر أعمال
البر. ولذلك كانت الصلوات الخمس بعد الشهادتين هي العنوان الجامع المانع لكل
أعمال الإسلام؛ إذ كل ما سواها داخل في معناها، وليس عبثاً أن يعدَّها الرسول
صلى الله عليه وسلم خير أعمال المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «سددوا
وقاربوا وفي رواية:» استقيموا ولن تحصوا «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة.
ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» [16] .
ولقد فصلنا هذا في غير هذا المكان من كتبنا [17] ، لكنا نقتصر ها هنا على
ما يفيد السياق.
لقد جعل الله الصلاة هي آية المسلم، والعلامة الجميلة التي تميزه في مسيرة
التاريخ النبوي، قبل القرآن وبعده، فهي الفصل الذي لا يعرف إلا به، والنور
الذي لا يمشي إلا به، قال عز وجل: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي
وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] (الفتح: 29) ، وإنما
اكتسبوا صفتيهم الأوليين: الجهادية [أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ] (الفتح: 29) ، والخُلُقية:
[رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (الفتح: 29) من كونهم رهباناً بالليل؛ أي قوله: [تَرَاهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً] (الفتح: 29) الآية؛ لأن ذلك هو المعين الصافي الذي يتزود منه المسلم
الصادق المجاهد الداعية إلى الله؛ بصدق التوجه والسير؛ من حيث إن قوله تعالى:
[تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً] (الفتح: 29) فيه إشارة إلى أن ذلك هو دأبهم وحالهم
المستمر في حركتهم التعبدية؛ إذ التعبير باسم الفاعل [رُكَّعاً سُجَّداً] (الفتح: 29)
يوحي بصورة حية لقافلة المؤمنين وهم منخرطون في حركة الصلاة المتواترة، من
غير فتور أو انقطاع، سيراً مستمراً حتى كان ذلك صفة ثابتة لهم، حيثما تراهم
[تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً] (الفتح: 29) .
ولذلك كان تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ في حياة المسلم التعبدية
بالنهر الجاري، قال: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس
مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء. قال: فذلك
مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» [18] .
إن الإسلام في نهاية المطاف هو الصلاة بالمعنى الذي سبق بيانه؛ وعلى هذا
الوزن تُقَوّم أعماله كلها يوم القيامة، وعلى ذلك يتحدد مصيره الأخير. .! قال
صلى الله عليه وسلم في الحديث الحاكم الحاسم: «إن أول ما يحاسب به العبد
يوم القيامة من عمله الصلاة؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب
وخسر! وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل
بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك» [19] .
وأوضح من هذا دلالة على ما نحن فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما
يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت
فسد سائر عمله» [20] ، فليس عبثاً إذن أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة
في مراتب أعمال ابن آدم على سبيل ترتيب الأولويات: «أحب الأعمال إلى الله
الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله» [21] . إن الأمر يا
صاح جدّ!
وما بقي لمسلم تَرَك الصلاةَ من إيمانه إلا ما لا يخلده في النار، لا ما ينقذه
منها بإطلاق. قال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك
الصلاة» [22] ، وقال أيضاً: «بين الكفر والإيمان ترك الصلاة» [23] ، ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد
أشرك» [24] . وهذه الأحاديث وما في معناها تقتضي أن المسلم التارك
لصلاته قد شابه الكفار في صفاتهم، فكفر عملاً وإن أسلم عقيدة؛ لأن المسلم
إنما يتميز بصفة الصلاة التي هي عنوان إسلامه كما بيناه قبل فمن فقد عنوانه فَقَدَ
هويته.
ولنعد إلى جمال القرآن الكريم؛ ذلك أن الله تعالى إذ يصف جمال المؤمنين
يذكر الصلاة باعتبارها أول وسام نوري بعد الإيمان يشع من قلوبهم، وهو أمر يكاد
يكون مطرداً في كل آي القرآن العظيم، يقول المولى الكريم في أول سورة البقرة:
[الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] (البقرة: 1-3) ومن أجمل ما ورد في ذلك فاتحة
سورة (المؤمنون) ؛ إذ جعل الله أول صفاتهم الخشوع في الصلاة وآخرها
المحافظة على الصلاة. وكل أعمال الصلاة من فعل الخيرات وترك المنكرات
جعلها فيما بينهما؛ فاقرأ وتدبر. . واحفظها واحدة واحدة: [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ
فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ *
الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (المؤمنون: 1-11) .
فالخير كله فاتحته الصلاة، والخير كله خاتمته الصلاة. والخير كله غايته
الصلاة، والخير كله وسيلته الصلاة.
ومن أعجب العجب أن ألزم الله جل جلاله المسلمين بالصلاة إلزاماً؛ حتى في
أحرج الظروف وأخطرها: الحرب. . قال جل جلاله: [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] (البقرة: 238-239) .
فقوله سبحانه: [فَإِنْ خِفْتُمْ] (البقرة: 239) يعني في حال الحرب وانعدام
السلم والأمن، سواء لحظة الاشتباك أو لحظة الترقب. وقوله: [فَرِجَالاً أَوْ
رُكْبَاناً] (البقرة: 239) أي فصلوا (صلاة الخوف) باصطلاح الفقهاء. وهي
عندهم: الصلوات الخمس إذ تؤدى في ظروف الحرب. فتؤدى [فَرِجَالاً]
(البقرة: 239) ، أي: على أرجلكم، أو [رُكْبَانا] (البقرة: 239) ، أي:
راكبين خيولكم أو دباباتكم. وقد فصَّل الفقهاء، والمفسرون، وشراح الحديث صور
صلاة الخوف وأشكالها؛ بناء على قوله تعالى: [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ
فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ
طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ
أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ
لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ
فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً] (النساء:
102- 103) .
ولصلاة الخوف صور كثيرة معروفة في كتب السنن وكتب الفقه. وإنما الغاية
عندنا ها هنا العبرة من الأحكام لا نفس الأحكام؛ وذلك أن الله عز وجل طلب من
المسلم الصلاة على كل حال ما دام عقله سليماً، لا ينقصه جنون أو إغماء أو ما في
معناهما.
وأحب ها هنا وأرجو أن تصبر علي قليلاً لتعرف حجم هذه الفريضة التي
ضيعها كثير من الناس اليوم، ولتعرف حجم الخسارة الواقعة بما ضيعوا؛ أن
أعرض لبعض الفقه في صلاة الخوف، ليس لذات الفقه، ولكن لبيان خطورة هذه
العبادة في الدين، ومقامها عند رب العالمين. جاء في حاشية السندي على النسائي:
«قال النووي: روى أبو داود وغيره وجوهاً في صلاة الخوف يبلغ مجموعها
ستة عشر وجهاً. وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع، صلاها رسول الله صلى
الله عليه وسلم في أيام مختلفة، وأشكال متباينة، يتحرى في كلها ما هو أحوط
للصلاة، وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. قال
الإمام أحمد: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون كلها في مرات
مختلفة، على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا حرج عليه» [25] .
ومن أحرج الوجوه في صلاة الخوف ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ،
فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا،
فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو،، وركع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل،
فجاؤوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم،
فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين» [26] . ومن ذلك ما رواه
البخاري أيضاً؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قام النبي صلى الله عليه
وسلم وقام الناس معه فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا
معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى
فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، لكن يحرس بعضهم بعضاً» [27] .
ولعل أحرج صورها على الإطلاق أن يصليها كل واحد لنفسه ركعة واحدة
بالإيماء؛ وذلك أنه إذا اشتد الخوف، كما هو الحال عند المسايفة، ونحوها من
الاشتباك في القتال، يصلي كل واحد لنفسه ركعة واحدة، راكباً أو راجلاً، مقبلاً
ومدبراً. قال القرطبي في تفسيره: «واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام
الحرب، وشدة القتال، وخيف خروج الوقت، فقال مالك والثوري والأوزاعي
والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن؛ لقول ابن عمر:» فإن كان خوف أكثر
من ذلك فيصلي راكباً أو قائماً يومئ إيماء «. قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير
مستقبلها» [28] ، وهذه من عجيب صورها. فانظر رحمك الله هل يبلغ شيء من
أعذار الناس اليوم ما ذكره العلماء من الشدة والحرج في القتال، ولم يروا مع ذلك
رخصة في تركها، أو تأخيرها عن وقتها؟
فعجيب أمر هذه العبادة العظمى. . لا تبرأ ذمة المسلم منها حتى يؤديها. وقد
جاء تأكيد ربطها بالوقت في ظروف الحرب كما قرأت؛ حتى لا يؤخرها مسلم عن
وقتها الذي فرضها الله فيه. فالحرب، بل الاشتباك في المعركة؛ أي ما يسمى
عندهم بـ (المسايفة) ، ليس عذراً لتأخير الصلاة عن وقتها، بله أن يكون عذراً
لتركها. وإنما هو يؤثر فقط في شكل أدائها لا في إسقاطها، أو إخراجها عن وقتها.
صلّ على أي حال كنت، وخذ حذرك؛ [إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً
مَّوْقُوتاً] (النساء: 103) ، في السلم وفي الحرب سواء.
فإلى الذين يرابطون في أسواق التجارات، أو يرابطون في أسواق السياسات
والنقابات، ويفرطون أو يتكاسلون في أداء الصلوات، وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعاً؛ إليكم المفهوم النبوي للرباط! . . قال صلى الله عليه وسلم في سياق التنبيه
والترشيد: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ ! إسباغ
الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. .
فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» [29] . إنه تفسير نبوي لقول الله
تعالى في محكم البلاغ القرآني: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ
مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] (النور: 36-
38) .
يا حسرة على العباد! . . لو يدركون ما هذه الصلوات؟ . . ويا حسرة ثم يا
حسرة! على نابتة من أبناء الحركات الإسلامية، تعددت بهم السبل من هنا
وهناك، وتفرقت بهم الأهواء، وانغمسوا في التيه من كل صوب، وأضاعوا هذه
الصلوات، خشوعها ومواقيتها وجمالها؛ فصدق عليهم قوله تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ] (مريم: 59) .
وإن للسياسة والرياسة لشهوة لو كنتم تعقلون، وإن لأشعة الإعلام وزينة الكاميرات
لشهوة لو كنتم تتفكرون، تلك آية فاصلة بين نوعين من الأجيال، بينهما ما بين
النور والنار من دلالة، فللآية رهبة عظيمة لو تدبرتها، اقرأها! ها هي ذي
كاملة، فتدبر: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ
الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياًّ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ
وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً] (مريم: 58-60) .
فتدبر. . ثم تدبر عسى أن تدرك بذوقك ما هذه الصلوات في الإسلام،
وتركب أوقاتها؛ لتدور بفلك العابدين سيراً إلى الله العلي الكبير. فالصلاة هي
العبادة التي تدخل من خلالها إلى نسق الكون، في صحبة الكائنات السائرات من
النباتات إلى المجرات، لا فوضى ولا عصيان ولا تمرد، [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا
أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] (يس: 40) . . فأين
أنت من المدار؟
ذلك نص البلاغ النبوي المستمد من وحي الله رب العالمين. . فاختر لنفسك
ما ينجيها إن كنت من العاقلين!
القاعدة الخامسة: في اعتماد مجالس القرآن:
نسمي «مجالس القرآن» مساهمة في تصحيح ما انحرفت إليه بعض
الحركات الإسلامية؛ حيث تحولت مجالسهم التربوية إلى اعتماد كتاب فلان أو
علان من التآليف الفكرية البشرية منهاجاً للدين والتدين. وهذا خطر كبير قد بيناه
من قبل [30] ؛ إذ بسببه يصيب الدعوات ما يصيبها من أنانية، وذاتية، وشركية
نفسية في كثير من الأحيان، إن التربية الدعوية لا يمكن أن تستقيم على التوحيد
الاعتقادي والعملي والوجداني إلا بالتعلق المصدري بكتاب الله وسنة رسول الله في
المجال التربوي، بالنسبة للمربي والمتربي سواء.
وقد تبين مما سبق أن عملنا يقوم على منهج واضح وبسيط: الاعتصام
بالقرآن آية آية؛ مصدراً أول للتدين، والدعوة إليه، وبالشمائل المحمدية نموذجاً
أعلى للتطبيق. فهو قسمان. وبيان ذلك كما يلي:
القسم الأول: اُسْلُكْ نفسَكَ وصاحبك في مجلس من (مجالس القرآن) ، وسرْ
من خلالها إلى الله. لا تهتم كثيراً في هذا الشأن خاصة بالتنظيمات والجماعات،
فما نحن فيه أعم من وجه بكثير مما هي فيه. وهما أمران لا يتعارضان. لك أن
تنتظم فيما شئت منها، ما دام فضلها يغلب على نقصها. ولكن لا تنس (مجالس
القرآن) فذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين صحابته صفات الصلاح،
ومقومات الإصلاح. تعلم من القرآن مباشرة دعوة الخير: (يدعون إلى الخير) .
تتبع منهج القرآن كما عرضه القرآن: التلاوة، والتعلم والتعليم، والدراسة
والتدارس، ثم التدبر. فاجعل مجلسك القرآني على هذه الفقرات الأربع. وبيانها
كما يلي:
1 - فأما التلاوة: فبركة وزكاة في نفسها، فقد ثبت الأجر كما بيناه قبل على
كل حرف تتلوه من القرآن؛ فلا تنس هذا. والله عز وجل أمر بالتلاوة للقرآن في
غير ما آية، قال عز وجل: [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ
وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً] (الكهف: 27) ، وقال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ
كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن
تَبُورَ] (فاطر: 29) .
وقال: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ] (آل عمران: 113) ، وقال تعالى: [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ
تَرْتِيلاً] (المزمل: 4) ، ثم قال: [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ] (المزمل: 20) .
وفي الحديث الصحيح: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه
ويتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران» [31] . فاقرأ كما استطعت؛ وتعلم كي
تتزكى. فقد رأيت أن التلاوة بدء فعله صلى الله عليه وسلم من التزكية والتعليم،
كما مر في قوله تعالى: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] (آل
عمران: 164) .
2 - وأما التعلم والتعليم: فهو لأحكامه كما ذكرنا. وهو يكون بتحصيل العلم
للنفس وتلقينه للغير؛ وذلك لقول الله تعالى: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ
تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) . فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُون)
و (تُعَلِّمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها أوْلى: التعلم والتعليم. وأقل
ذلك يا صاح! أن تكون أحَدَهما: معلماً أو متعلماً. وقد قال صلى الله عليه وسلم:
«إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً» [32] ،
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً؛ ولكن بعثني معلماً
ميسرا» [33] .
3 - وأما الدراسة والتدارس: فهو تتبع وجوه المعاني والدلالات للمقاصد
والغايات، من كل آية وسورة. ويجمع الثانية والثالثة مما ذكرنا من قوله تعالى:
[وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران:
79) ، ويجمع المراحل الثلاث كلها ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
«جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا
القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء، فيهم خالي
حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون» . . . الحديث [34] .
فالتدارس هو أساس التعلم كما في هذا الحديث؛ إذ لا علم إلا به، فأنت تبحث
عن وجوه المعاني وتتدارسها؛ لتتعلم أحكامها ومقاصدها. وذكر التدارس أيضاً في
الحديث المشهور من قوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً
سهل الله له طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب
الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم
الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» [35] .
4 - وأما التدبر: فهو كما سبق بيانه أنك إذ تقرأ الآيات، وتدرس، وتتعلم
تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتكتسب بذلك من الصفات
الإيمانية ما يعمر قلبك، ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية، ونحو ذلك من
المعاني؛ مما فصلناه قبل في محله، فلا حاجة لتكراره.
ذلك كله هو أساس التزكية، ومقياس التصفية، ومنهاج التربية، وسلم
العروج إلى رضى الرحمن، فاقرأ القرآن، وتدارس، وتعلم، وتدبر. . . حتى
يأتيك اليقين.
فاصبر على هذا المنهج؛ فإن كل آية تسلمك إلى الأخرى، وتفتح لك باب
أسرارها وأنوارها. فتتبع مسالك النور حتى تصل إن شاء الله.
ذلك هو الاعتصام بكتاب الله، وأما الاعتصام بالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى
للتطبيق؛ فهو:
القسم الثاني: وهو أن تتبع معالم سَيْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل
ذلك، وهي مبثوثة في كل كتب السنة وعلومها؛ إلا أن أجمع علوم السنة
الموضوعة لبيان هذا المنهج؛ هو (علم الشمائل المحمدية) : وهو علم يبحث في
صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخِلْقية والخُلُقِية، وكيفية سيرته مع ربه،
وسيرته في نفسه، وفي أهله، وفي أصحابه والناس أجمعين. وإن ذلك لهو القرآن
كله مطبقاً، والإسلام كله حيا متحركاً، فادرس من الكتب في ذلك ما شئت ولا
حرج، أو اجمع نصوصه من حيثما شئت ولا حرج، وإنما الشرط أن تتحرى
الصحة في الخبر. ويكمل بذلك ما أردناه من معنى: (مجالس القرآن) التي كانت
هي مجالس الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
خاتمة:
ذلك هو المنهج التطبيقي البسيط والفعال للوصول إلى مقاصد البلاغ الرباني،
وإيصالها إلى كل إنسان؛ معرفة وذوقاً. فاهتم بالقرآن والسنة، اهتم بترتيل
أحكامهم على نفسك وعلى أهلك، ثم على من حواليك من الناس، واسع من أقصى
المدينة إلى أقصاها؛ لتذكير المسلمين وغيرهم ببلاغات القرآن. . أعني الأصول
الكبرى للدين، اعتقاداً وعملاً، كما بينا وشرحنا، اُطْرُقْ أبواب القلوب، وخاطب
فطرتها؛ تجد الأسماع مصغية، والأفئدة واعية؛ عسى أن يجعل الله لك القبول في
الأرض والقبول في السماء؛ فتكون إن شاء الله من الصالحين.
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس المغرب، ومراسل مجلة
البيان في المغرب.
(1) رواه البخاري.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم.
(4) الفجور السياسي: انظر: ذلك مفصلاً في المقدمة الرابعة من الكتاب: 27 إلى 36، منشورات الفرقان، الدار البيضاء.
(5) رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم 1818.
(6) كتاب الاستقامة، 2/ 218، ومجموع الفتاوى، 28/129.
(7) رواه مسلم.
(8) متفق عليه.
(9) رواه الدارقطني في الأفراد عن أبي هريرة، ورواه الخطيب البغدادي عنه، وعن أبي الدرداء، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2328.
(10) رواه مسلم.
(11) رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 5390، 5721.
(12) رواه البزار بسند صحيح، صحيح الجامع الصغير، 1578.
(13) رواه الترمذي، وصححه صاحب صحيح الجامع الصغير، 7774.
(14) متفق عليه.
(15) رواه مسلم.
(16) رواه أحمد وابن ماجه، وابن حبان والحاكم، والدارمي والبزار، والبيهقي والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم 952.
(17) انظر: كتابنا: قناديل الصلاة منشورات التجديد، الدار البيضاء.
(18) متفق عليه.
(19) رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2020.
(20) رواه الطبراني في الأوسط، والضياء عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2573.
(21) متفق عليه.
(22) رواه مسلم.
(23) رواه الترمذي بسند صحيح، انظر: صحيح الجامع الصغير، 2849.
(24) رواه ابن ماجه بسند صحيح، انظر: صحيح الجامع الصغير، 5388.
(25) حاشية السندي على النسائي، 3/168.
(26) رواه البخاري.
(27) رواه البخاري.
(28) تفسير القرطبي، 5/369.
(29) رواه مسلم.
(30) انظر: التوحيد والوساطة في التربية الدعوية للكاتب، الجزء الأول، نشر وزارة الأوقاف القطرية ضمن سلسلة كتاب الأمة.
(31) متفق عليه.
(32) رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن، كما في صحيح الجامع الصغير، 1609.
(33) رواه مسلم.
(34) رواه مسلم.
(35) رواه مسلم.(174/26)
تأملات دعوية
تعميم النموذج الشاذ
محمد بن عبد الله الدويش
النموذج الشاذ يستهوي الأذهان ويأخذ بألباب النفوس؛ ومن ثم فهو مادة سهلة
لكثير من المتحدثين إلى الناس وعَّاظاً وخطباء وكتَّاباً؛ فالصور السوية المتسقة مع
القاعدة لا تستهوي النفوس ولا تستثير الانتباه، إنما يستثيرها ما يخرج عن القاعدة
ويشذ عن الإطار.
إنك حين تسير في الطريق تقابلك آلاف المركبات، فلا يلفت نظرك إلا التي
لها ما يميزها، أو أصابها عطل أو حادث.
وحين تجالس الناس فإن من يفقد حاسة من الحواس يلفت نظرك غير الذي
يتمتع بسائر حواسه.
وحين يتحدث خطيب أو محاضر لساعات عدة، فتبدو منه كلمة لا تليق فإنها
تلفت أنظار الناس أكثر من سائر الكلام الذي قاله.
لذا تتوافر الهمم على تناقل النماذج الشاذة والصور الغريبة والحديث عنها،
سواء تلك التي في واقع الناس القريب، أو ما في المصنفات والكتب.
ومطالبة الناس بالتخلي عن التعامل مع النماذج الشاذة أو دعوتهم إلى عدم
الاحتفاء بها، كل ذلك مناقض لطبيعة الإنسان وجِبِلَّته.
إلا أنه مما لا ينبغي أن يُقبل أن تؤثر هذه الطبيعة والسمة على مواقف من
يفترض فيهم النضج والموضوعية.
وثمة صور خاطئة في التعامل مع النماذج الشاذة، ومنها:
الصورة الأولى:
تعميم النموذج الشاذ وتحويله إلى قاعدة، ومن ذلك الحكم على المجتمعات من
خلال صور ومواقف محدودة، ولسان حال هؤلاء كمن يقول: إن الزنا والسرقة
والقتل كانت شائعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث أقيم الحد على
طائفة من هؤلاء، أو ما يعمد إليه سفهاء العصر فيختارون نماذج مما صح أو لم
يصح من أخبار المجون واللهو المحرم فيصبغون به صبغة مجتمع الصدر الأول.
ومن تعميم النموذج الشاذ الحكم على الأشخاص من خلال تصرفات محدودة لها
ظروف وملابسات معينة، أو الحكم على الجماعات من خلال تتبع سقطات بعض
أفرادها، والتعامل بانتقائية في ذلك.
الصورة الثانية:
محاكمة النفس أو المستمعين والقراء إلى النموذج الشاذ، وذلك بأن يورد
المتحدث خبراً أو خبرين لا ثالث لهما ويعقب على ذلك بقوله: «أين نحن من
فلان؟» .
إن إبراز مواقف القدوة والتأسي بها أمر مطلوب وله أثره التربوي الذي لا
يخفى، وتطلُّع النفس إلى المثل العليا والنماذج المتميزة يعلي همتها، لكن إبراز
النموذج على أنه مثل يحتذى ويقترب منه يختلف عن جعله محكاً يحاكم الإنسان
نفسه على ضوئه، أو يحاكم الناس إليه.
ومن النتائج السلبية للإيغال في ذلك أن يصاب الشخص بالإحباط؛ نظراً لأنه
إنما يقارن نفسه بهذه النماذج، وهذا أكثر ما يحصل لدى الشباب، وهم أحوج
الناس إلى بعث الأمل في النفوس، وإلى غرس الثقة والشعور بالقدرة على الإنجاز
والنجاح.
الصورة الثالثة:
وهي أكثر ما تحصل في الميادين العملية، فقد نطالب العاملين بمستوى من
الأداء محتجين بأننا قد وصلنا إليه، أو أن فلاناً وفلاناً وصلا إلى هذا المستوى.
إن غاية ما يمكن أن نستنتجه من هذه المواقف أن الناس يستطيعون أن يصلوا إلى
هذا القدر، لكن هذا لا يعني أن كل الناس قادرون على ذلك.
إن الناس مواهب وطاقات، وقدرات وإمكانات، وتفاوتهم في ذلك لا يحصيه
إلا خالقهم، والتفاوت يشمل الإيمان والتقوى ويشمل القدرة البدنية والقدرة النفسية،
والقدرة العقلية ... إلخ.
وهذا يعني أن ما يطيقه فلان قد لا يطيقه غيره، وما ينجح فيه قد لا ينجح فيه
سواه.(174/36)
حوار
حوار مع الداعية المغربي فضيلة الشيخ محمد زحل
الحركة الإسلامية بالمغرب والعمل الدعوي العام
حاوره / الخلافة عبدلاوي [*]
تقديم:
الشيخ محمد زحل حفظه الله هو واحد من ربابنة العمل الإسلامي بالمغرب؛
بل هو من نوادر قياداته التاريخية؛ إذ يحمل في ذاكرته الحية قدراً مهماً جداً من
تاريخ التجربة الدعوية بالمغرب؛ فبالإضافة إلى كونه واحداً من الرواد المؤسسين؛
فإنه ممن أسهموا في تجنيب سفينة العمل الإسلامي الغرق، بعد فتنة الشبيبة
الإسلامية في المغرب، وما تبعها من أحداث.
إنه من القيادات الدعوية النادرة التي نحسبها جمعت بين العلم والعمل، يتميز
بصفاء العقيدة، والحرص على العمل بالسنة، مع فقه واع لقضايا العصر، يتقد
حماساً وغيرة على العمل والصحوة الإسلاميين. تنبعث من حديثه ثقة كبيرة بدينه،
وعزة إيمانية عالية. يحرص كثيراً على الحديث بلغة عربية فصيحة، جريء في
الحق، غير متردد في إبداء أفكاره، سواء منها ما يتعلق بواقع الحركة الإسلامية
بالمغرب وتاريخها الشائك، أو ما يتعلق بالصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي
بشكل عام. التقته مجلة البيان في مدينة الدار البيضاء المغربية، فكان معه هذا
الحوار:
ورقة تعريفية:
الشيخ الأستاذ محمد زحل من مواليد 1363 هـ الموافق 1943م، من أسرة
كل أفرادها قراء وطلبة علم من قبيلة «مكنافة» إحدى قبائل «حاحا» المعروفة
بإقليم الصويرة بالمغرب.
- حفظ القرآن على يد والده وعمره 11 سنة.
- تلقى تعليمه الأول بالمدرسة «الجازولية» نسبة إلى محمد بن سليمان
الجازولي، ثم بالمدرسة «الهاشمية» تحت إشراف الشيخ البشير بن عبد الرحمن
توفيق والد الدكتور محمد عز الدين توفيق، ثم بمعهد تارودانت، ثم بمراكش في
التعليم النظامي.
- عمل لمدة عشرين سنة بالتعليم منذ سنة 1965م.
- اشتغل بالخطابة في عدة مساجد، إلى أن تم توقيفه سنة 1984م.
- يشرف على عدة دور قرآنية.
- أصدر إلى جانب الدكتور سعد الدين العثماني وجماعة من الشباب المسلم
مجلة «الفرقان» المغربية.
- له عدة أشرطة من دروس ومحاضرات.
- اشتغل بتأليف الرجال بدل تأليف الكتب.
البيان: مرحباً بالأستاذ الشيخ محمد زحل ضيفاً على مجلة «البيان» ،
وحبذا لو قدم فضيلتكم لقراء البيان نبذة عن بداية نشاطكم الدعوي، وخاصة دوركم
في تنظيم الشبيبة الإسلامية [1] والتطورات التي لحقت بها؟
* بالنسبة للجواب عن هذا السؤال، فلقد تطرقت لبعض من جوانبه في حلقات
ضمن جريدة «التجديد» المغربية، رغم أني لم أوفِ بعض الجهات والأشخاص
حقهم، فعلاً لما دخلت إلى الدار البيضاء سنة 1963م؛ زاوجت بين التعليم والقيام
بالدعوة بشقيها: العام في المساجد، ثم جانبها التربوي في البيوت والمقرات
والأندية، فتم الاتصال بعبد الكريم مطيع فتم التعاون معه، وأسسنا حركة الشبيبة
الإسلامية.
البيان: ولكن هل نستطيع القول إنه حدث تطور أو تغير في نظرتكم أو
مفاهيمكم الدعوية؛ بحيث نستطيع القول: إنه لو استقبلتم من أمركم ما استدبرتم
لبدأتم بداية أخرى؟
* لا؛ فإن بدايتنا كانت جيدة ولله الحمد، فقد كان هناك اعتناء جيد بالتربية،
وتكوين مستمر للرجال، لقد كانت المساجد في ذلك الحين ملأى بالشباب، وكذلك
كانت الدعوة، أما الآن فلا يشتغل في الدعوة إلا الكهول والشيوخ، وضعف جانب
الشباب. لقد كانت الشبيبة الإسلامية آنئذ تتبنى منهج التربية اعتماداً على نظام
الأسر والخلايا، أما الآن فقد خَفَتَ هذا. نعم! إن البداية كانت جيدة، وإنما أفسدها
التوجه السياسي للقائد «عبد الكريم مطيع» الذي لم يتخلص من النزعة السياسية
منذ كان عضواً في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
البيان: ولكن يلاحظ أن مجموعة من رجال تلك الحركة اختفوا عن العمل
التنظيمي؛ فما سبب ذلك؟
* في الفترة الأولى كان جل رموز الحركة من رجال التعليم الذين شاركوا في
الدعوة وتأسيس الحركة، وعندما وقعت الفتنة، وخرج عبد الكريم مطيع من
المغرب وقع خلط كبير في الحركة، وآثر بعض عقلاء الحركة التوقف إلى حين،
ولكن ما أسميته اختفاء ليس كذلك؛ فقد كانت هناك مدارسة للعمل الإسلامي وإيجاد
البديل لـ «الشبيبة» بمعية الأستاذ عبد الإله بن كيران والأستاذ محمد يتيم،
وكانت أول محاولة لإيجاد كيان بديل، فتم اختيار العمل الدعوي العام؛ حيث
اخترنا العمل بحرية؛ لأن الداعية على وجه الخصوص، إذا «تحزب تعصب» ،
ففضلت أن أكون للمسلمين جميعاً ولا أُحسَب على تنظيم معين، وكل الإخوة
يرجعون إليّ في بعض المشورات، ولي علاقات طيبة مع الجميع.
البيان: تواري رموز «الشبيبة» سابقاً؛ هل هو راجع إلى رؤيتها للتغيير
أم إلى ضعف التكوين التربوي لديها؟
* الشبيبة وقعت في أخطاء؛ فعند غياب القيادة أسندت الأمور إلى شباب
صغار أغرار، وكانوا يعبثون بالأمور ويتصرفون في الأمور بالأوامر، فحصلت
تناقضات، فيأتي الأمر وعكسه، وأنشئت عدة خطوط؛ فلا تعرف ما المعتمد من
القرارات، فآثرنا، ليس الاختفاء والتواري كما ذكرت، ولكن أن نراقب الأمر عن
كثب، فتم إنقاذ الأمر بفضل الله، وكان (عبد ربه) من المساهمين في ذلك.
البيان: فيما يخص نشأة العمل الدعوي بالمغرب بين الخصوصية المحلية
والتبعية المشرقية: أستاذَنا الكريم! هل العمل الدعوي نتاج واستنبات محلي، أم
هو تابع للتجربة المشرقية؟
* ليست هناك تبعية؛ فالحركة الإسلامية في المغرب لم تبايع الحركة العالمية،
والصحوة الإسلامية ظهرت في وقت واحد ومتزامن، وإن سبقتها شقيقتها في
المشرق ممثلة في حركة «الإخوان المسلمين» بمصر، وجماعة «أبي الأعلى
المودودي» بباكستان.
وجاءت هزيمة العرب سنة 1967م، وانهزمت القومية العربية بزعامة عبد
الناصر، فصحح الناس المسار، وهو الوقت الذي شرعنا فيه في تأسيس الحركة
الإسلامية بالمغرب، كان الإخوة في الجزائر يباشرون الأمر نفسه، وكذلك الشأن
في تونس وغيرها.
البيان: إذن، فهي نبتة طبيعية؟
* نعم! ولكننا نعترف بأن الحركة الإسلامية كان لها نوع اعتماد على أدبيات
حركة «الإخوان المسلمين» بمصر، مع نوع من التميز عن التجربة المشرقية أو
الإخوانية؛ في بعض الجوانب السلوكية المتعلقة بالهدي الظاهر، بالنسبة لنا
بالمغرب حسمنا هذه الأمور من بدء انضمام أي شخص للحركة، فيضع فاصلاً بينه
وبين سابق أمره وعهد الإسلام، فيتخلى عن كل آفاته السابقة، ولشد ما كان عجبنا
كبيراً، عندما يزورنا أخ من المشرق، ويحدثنا عن سبقه في الدعوة، وعلى أنه
قضى بالسجن كذا وكذا من السنين؛ فكأن هذا هو المقياس لديهم، فتجده حليقاً، أو
مدخناً، أو منتمياً لطريقة صوفية؛ فمنذ البدء حرصنا أن تكون النبتة طيبة ومتميزة
في سلوكها ومعتقدها، حتى إن التقيد بالمذهب أو التقليد لا نعيره أي اهتمام في
مناهجنا ودروسنا التربوية؛ إذ نأخذ النص من الكتاب والسنة، ولا نأبه بأقوال
الأئمة إذا تعارضت مع هذه الأدلة. كما أن البناء العقدي الذي اعتمدناه في الجماعة
كان يمتاح من كتب العقيدة الصحيحة ومنها: كتاب «التوحيد» للشيخ الإمام
محمد بن عبد الوهاب، و «العقيدة الطحاوية» ، ورسائل شيخ الإسلام
ابن تيمية، كـ «الواسطية» ، وأذكر لك أني التقيت مرة الدكتور الشيخ تقي الدين
الهلالي أثناء زيارتي له بمكناس، و «الشبيبة» بارزة آنذاك، فسألني عن
عقيدتنا فأخبرته بمصادرنا ومعتمدنا في العقيدة، فقال لي: جزاكم الله خيراً.
فسُرَّ لذلك، فكان رحمة الله عليه يسلم أنها كتب مفيدة في هذا المجال
بالأساس.
البيان: ولكن يشاع عن فضيلة الشيخ تقي الدين الهلالي القول ببدعية
العمل التنظيمي؛ فهل هذا صحيح؟
* أبداً؛ ليس هذا صحيحاً؛ فقد عايشته إلى حد المخالطة، وكان يتفقدني،
كان رأي الدكتور في الحركة سديداً سليماً، وكان جل شبابها يزورونه، بعدما علم
أن منطلقها العقدي سليم، فلم تكن له أبداً نظرة سيئة للعمل التنظيمي.
البيان: جدلية الدعوة والسياسة: أيهما المدخل الأصوب في منهج العمل
الإسلامي؟ بصيغة أخرى: ما الأوْلى: مدخل التربية والتعليم، أم العمل الحزبي
السياسي؟
* نشأت الحركة الإسلامية في كل مكان، والمغرب ليس بدعاً في هذا،
نشأت للتغيير نحو الأفضل بعدما وجدنا اليسار استفحل أمره، والشيوعية خيبت
الآمال، والعلمانية بعد الاستقلال، في مرحلة سابقة كان القادة يقولون: سنعتمد
الإسلام وحكم القرآن في التسيير، لكن بعد الاستقلال تبخرت تلك الوعود، وخيبت
الآمال؛ فأيما بلد قامت فيه الحركة الإسلامية، فإنها قامت للتصحيح، ولما أنشأنا
الحركة، كان هناك مجموعة من الجمعيات، كجمعية «أنصار الإسلام» في
الستينيات، وسرعان ما خَبَتْ، ثم «جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»
بالمغرب الشرقي، وكان لهذه الأخيرة أسلوب يستفز بعض المسؤولين، وسرعان ما
توقفت، وظهرت جماعة «التبليغ» سنة 1963م بأصولها الستة المعتمدة،
وأصحابها يقومون بنوع من التربية فيه قصور، فإن كان المتعاطف أمياً وعامياً
ساير تلك الأصول الستة، وإن كان مثقفاً احتاج إلى المزيد، وهؤلاء ضيقوا ذلك
في أصول ستة. والحركة الإسلامية بالمغرب نشأت لتقوم بدعوة شاملة للإسلام
بجميع جوانبها التربوية والاجتماعية، والاهتمام بشؤون الدين والدولة، أو شؤون
الدين والسياسة ... وأخذ الإنسان بالتزام الإسلام في جميع شؤونه؛ فهي لا تقول:
ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؛ فقيصر في تصورها هو نفسه لله.
البيان: بعض المراقبين يقولون إن الحركة الإسلامية ذات صبغة سياسية
وليست حركة دعوة إشعاعية؛ فكيف تفسرون هذا الرأي؟
* الإسلام كما سبق أن ذكرنا لا يعرف هذا الفرق وهذا الفصل، لا يعرف ما
لله لله وما لقيصر لقيصر، بل الكل لله، وهؤلاء يريدون أن يحتكروا السياسة
وحدهم.
البيان: كيف تنظرون إلى معادلة الفقيه والسياسي، من الأول: هل
السياسي قائد والفقيه ناصح ومستشار، أم الفقيه والعالم هو القائد والسياسي منفذ؟
* السياسي والعالم أو الفقيه هو واحد وكل؛ فيجب ألاَّ نفرق بينهما بمقتضى
المنهج العلماني؛ بل الواجب أخذ الأمر في شموليته؛ فلا نمنح مقاليد أمور الدين
والدنيا لسياسي جاهل بالدين وبالإسلام، والمطلوب من السياسي أن يسير على
شرع الله في سياسة الرعية.
البيان: وماذا عن العمل السياسي؟ هل يصح القول: إنه الوصفة أو المفتاح
للإصلاح والتغيير؟
* قلت لك في السابق: نحن دعاة قبل أن نكون طلاب حكم. نحن هدفنا أن
يكون المسلم العامل يعمل لتأسيس القاعدة التي تطالب بحكم إسلامي ثم لا يهمنا أن
نحكم نحن أو غيرنا؛ فغايتنا أن نعبِّد الناس لله، وأن نربطهم بالإسلام. من جهة
أخرى ما نستطيع الوصول إليه بالتنفيذ لا نصله بالوعظ؛ فمرسوم ملكي بتحريم
الخمر أكبر من مئات الخطب؛ فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما اشتهر
عن عثمان رضي الله عنه، ولا يهمنا الحكم، ويجب ألا يأخذ وقتاً كبيراً من عملنا
وتفكيرنا.
البيان: هذا يعني أن المدخل التربوي التعليمي هو الأول؟
* ليس كذلك؛ كل من الأمرين وارد؛ فقد كان هناك برنامج مرحلي، كل
مرحلة تسلم لأخرى في تكامل منسق.
البيان: ما الذي تعنونه ببرنامج مرحلي؟ هل يعني ذلك أن للتربية مرحلة،
وللعمل السياسي مرحلة أخرى منفصلة؟
* لا.. بالنسبة للعمل في عمومه، تتم مراحله بشكل متناسق ومتكامل؛
بحيث تنجز جميعها جنباً إلى جنب، وذلك يحتاج إلى مهارة في التوجيه؛ بحيث لا
تطغى واحدة منها على الأخرى؛ إذ كل غلو في الجانب السياسي مثلاً تظهر آثاره
جلية في الجماعة، بصورة شاذة. ولذلك فإني أرى أن لا يوجه للعمل السياسي إلا
النخبة الصالحة التي تلقت تربية وتكويناً عاليين؛ بحيث يستطيع هؤلاء المحافظة
على ذلك التوازن المنشود بين المراحل جميعاً.
البيان: كثرة المعاهد والدور القرآنية والدينية، كيف تقوِّمون انتشارها؟
وهل ترون أن المناهج المتبعة فيها تحقق الأهداف التي أنشئت لأجلها؟
* بالعكس؛ أنا أرى ضحالة وقلة في إنشاء المعاهد الشرعية ودور القرآن،
إلا أن تكون تشير إلى الجانب المراكشي في القضية؛ فهذا شيء آخر؛ فقد أتى
عليّ حين من الدهر وأنا أصيح حتى بحت حنجرتي بأن الدار البيضاء مثلاً تعرف
مؤسسات تبشيرية، ولكل دولة من يمثلها في هذه المؤسسات من حيث الأفكار
والمعتقدات، غير القرآن وللأسف فلم نعد نرى تلك «الكتاتيب» الخاصة بتحفيظ
القرآن كما كانت في الستينيات؛ وذلك راجع إلى ميل الناس إلى التعليم العصري
وإلى «التوظيف» . وما تسميه زخماً وكثرة، أسميه ضحالة، نعم! بفضل الله
عز وجل ثم بجهود المخلصين بدأت تظهر بعض المراكز، وهي بالدار البيضاء لا
تتجاوز العشرين، أشرف شخصياً على ثمانية منها، لكنها مستقلة تعتمد على
إمكاناتها الذاتية لا إلى منح خارجية، وهذا خلاف الخط المشهور بمراكش الذي هو
عالة على دول أخرى، واهتمامنا أن ننشئ معهداً قرآنياً، ونحن حريصون على
استدراك القصور الذي يعتري مناهجنا؛ فإذا كانت بعض الدول الإسلامية تمثل فيها
المواد الإسلامية 80%، فإن برامجنا الدراسية بالمغرب لا تصل هذه المواد فيها
إلى 2%؛ مما يفرض على الحركة الإسلامية تدارك هذا القصور بتشجيع إنشاء
مدارس قرآنية إلى جانب تلك المدارس العصرية أو «الحرة» كما تسمى، فإذا لم
يتحقق ما يسد النقص فإن الحركة تكون آثمة؛ لأن الدولة والدعوة تتعطل بانعدام
مناهج وبرامج شرعية.
البيان: إذن فأنتم مطمئنون لهذه المعاهد وهذه الدور؟
* نحن نتبنى منهج تحفيظ القرآن الكريم، وإنشاء المعاهد الشرعية، وهذا
المنهج هو الكفيل بدحر الفكر اليساري، ومقارعة الفكر العلماني الذي نعاني من
حربه وتهميشه للشعوب الإسلامية، والمؤهلون لهذه المواجهة هم المتخرجون في
هذه المعاهد والمؤسسات القرآنية.
البيان: ارتباطاً بالعلمانية نرى أنها ساهمت في انحدار الأخلاق وترديها؛
فما هي الوصفة العلاجية التي تقدمونها للخروج من هذه الوهدة؟
* طبعاً؛ العلمانيون واليساريون والشيوعيون، هؤلاء مناهضون للدين لا
ننتظر منهم أن يكونوا دعاة فضيلة وأخلاق؛ فركوب موجة الفساد هو سبيل
وجودهم؛ فهم يركبون على نوازع الناس وشهواتهم ليستميلوهم؛ فهم يمارسون
وظيفتهم، ولهم علاقات مع دول أجنبية، وتأتيهم تعاليمهم من الدول الكافرة اليهودية
والنصرانية لتمييع المجتمع وتدمير الأخلاق، والقضاء على العقيدة؛ فالواجب أن
نلوم أنفسنا؛ إذ لم نوجد وسائل للوقوف أمامهم، والتربية الدينية في الأسرة
والمدارس الشرعية وسائل لمواجهة هذا الانحلال وهذه العلمنة؛ فتكثيف التربية
على الأصعدة كافة بالدرس والمحاضرة والدعوة؛ كلها وسائل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه
مما يعبث به المارقون والملاحدة والعلمانيون.
البيان: بالنسبة لمدى تأثير الدعوة في البادية والمدينة بالمغرب، ألا ترون
أن البادية أكثر قابلية للتدين خلاف المدينة التي طغت عليها أنماط الحياة العصرية؟
* بل العكس هو الممكن؛ إذ في المدن يتنفس الناس نسمات طيبة بوجود
مساجد كبيرة، ودعاة وحركة؛ بينما البوادي والأرياف - كما يسميها إخواننا
المشرقيون هي مهمشة ومحاصرة ولا يستطيع أحد التحدث في المساجد؛ فهي تشكو
فقراً دعوياً، والناس يعيشون جهلاً في كل الأمور في شعائرهم؛ فلا يعرفون لماذا
خلقوا، ولا نبرأ من المسؤولية نحن معاشر الدعاة كما لا نبرئ الدولة؛ لأن من
أولى أولويات الحاكم المسلم أن يهتم بدين الأمة ودنياها، فيجب ألاَّ نحصر اهتمامنا
بالأرياف والبوادي في مساعدتهم على العيش ولا شيء غير ذلك، بل تعريفهم
بربهم وتقوية صلتهم به، وانتشالهم من أمراض الفقر والجهل وغيرهما.
البيان: عُرِفَت الدار البيضاء بقيادتها للعمل الدعوي في فترة السبعينيات
والثمانينيات عبر الشريط، ولكن هذه الريادة انحسرت؛ فإلامَ ترجعون ذلك: هل
لأسباب ذاتية؟ أم سياسية؟ أم لأشياء غير هذه وتلك؟
* نحن المسلمين نفتقد النظام؛ تجد العالم أكاديمياً، ولا تجد له أي مؤلف
بدعوى الاحتساب. فرطنا في الاحتفاظ ومن ثم الاستفادة من كثير من الدروس،
وأوكلنا للعوام التكفل بجمعها، والعامي لا يعير ذلك اهتماماً؛ فهو يسجل اليوم ما
يشاء ويمحوه غداً.
ومن نتائج ذلك أن الدعوة أصابها فتور، ودخلتها فتن بسبب ما يسمى
«بالخط السلفي الجديد» ، فصار الاهتمام الدعوي قاصراً على جوانب معينة،
وضعف الاهتمام بدور الشريط السمعي. وأقول لك وخذها مني: إن رواج الشريط،
ورواج الكتاب الإسلامي رهيان بحركية الدعوة ونشاطها، ورهيان بوجود دعاة
على المستوى المطلوب؛ فنشاط الدعوة العامة يجعل الناس شغوفين بالكتاب
والشريط الإسلاميين، والعكس، فوجود اهتمامات تافهة يؤثر على الدعوة، ويساعد
في انكماشها وانحسارها.
البيان: عرف العمل الإسلامي نخبة من العلماء الأجلاء كانت تمثل الجدار
الضابط الواقي للصحوة الإسلامية، لكن الموت أخذ يتخطفهم تباعاً، ألا تخافون
على مستقبل العمل الإسلامي؛ ارتباطاًً بوجود خلف مترهل علمياً ومعرفياً؟
* لست متشائماً. حقيقة إن العلماء الكبار الذين فقدناهم كان لهم دور كبير في
ترشيد الصحوة الإسلامية وتوجيهها، كالشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمة
الله عليه، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، والشيخ محمد بن
صالح العثيمين رحمة الله عليه، وغيرهم كثير، ومع ذلك نقول: «إن للبيت رباً
يحميه» ، فأعمالهم ومؤلفاتهم لم تمت ولم تعدم، وتلامذتهم موجودون، وسلامة
الدين لا تناط بشخص أو عدة أشخاص، فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة؛ فالله
سبحانه قضى للشباب وغيرهم أن يحترموا علماءهم ويقدروهم، والأمة لا تُترك
هملاً.
البيان: إلامَ تُرجِعون ضحالة التكوين لدى الخلف خلافاً لأولئك العلماء؟
* هذا له أسباب كثيرة؛ فنحن في عصر السرعة، وتكوين أولئك السابقين
كان متيناً؛ لأنه ارتبط بنظرتهم وحبهم للعلم الذي ملك عليهم حواسَّهم وذواتهم،
وكانوا يحتسبون طلبه لله، ففرق بين من درس العلم للعلم ولله عز وجل، ومن
درسه ليقضي به وطره، ليصبح قاضياً، أو مأذوناً أو أستاذاً.. ولهذا يكون تكوينهم
سريعاً، كالدجاج المدجن العصري، ويكون هشاً. وحينما تكون عندنا حركة علمية،
ويكون التنافس في طلب العلم فسيعود الأمر إلى نصابه، ويكون لنا مثل أولئك
العباقرة، وما دمنا نحصر اهتمامنا في حفظ متون نقضي بها وطر الامتحان ثم
ننساها؛ فإننا ننتج أمثال هذا الخلف المترهل علمياً ومعرفياً.
البيان: وكيف السبيل لتلافي هذا الأمر؟
* أنت لفت نظرك في السابق كثرة المدارس القرآنية، وأنا أزعجني قلتها؛
فالقرآن وقع له إهمال بسبب توجيه العائلات المسلمة أبناءهم للتعليم العصري
ودراسة العلوم المادية؛ فتم الإقبال على المدارس العصرية من أجل الدنيا
و «الوظيفة» ، وقضى الله أن أفلس هذا التعليم سواء من حيث مردوده العلمي أو
نتائجه من جحافل المعطلين المجازين، فحدث من بعض هؤلاء رجوع وصحوة
لحفظ كتاب الله، مدركين أن ما معهم من العلم لا يساوي الجهد المبذول فيه، فترى
من يحمل شهادات عليا يبحث عمن يأخذ عنه العلم، وهذه ظاهرة صحية تستحق
التثمين، وظهرت مدارس قرآنية بالدار البيضاء والشمال، وعاد الناس إلى التعليم
العتيق، وفتح «الكتاتيب القرآنية» ، وهذا يصحح المسار.
البيان: ولكن، ماذا حول تشرذم الحركة الإسلامية؟
* التعدد التنظيمي قد يكون ظاهرة صحية إذا كان وجوده يثري الإسلام، وكل
شُعبة تقوم بجهد: فواحدة للفقه الإسلامي، وثانية لتصحيح العقيدة، وثالثة للعمل
الاجتماعي. فهذا إثراء خاصة إذا كان هناك تنسيق أو على الأقل سكوت بعضنا
عن بعض، أما إذا كان الفرقاء الكلُّ يسفه الآخر، والكل يقول أنا أو الدمار، فهذا
خطر على الدعوة وعلى الصحوة.
البيان: يشاع حالياً مصطلح «التجديد» ؛ فما هو القول الأصح: تجديد
الدين، أم تجديد التدين؟
* في الحقيقة الدين لا يجدَّد؛ فنصوصه قطعية وثوابته قارَّة، والتجديد
المقصود لدى مفكري الصحوة الإسلامية هو تجديد صلة الناس بالدين. عندما
يصاب التزام الناس بفتور وتقليد، فيأتي المصلحون يرجعون الناس ويرشدونهم إلى
المناهل والمنابع الصافية للكتاب والسنة، حتى لا يكون الدين ثقافة أو متاعاً عقلياً،
بل ممارسة حياتية. هذا هو المقصود بالتجديد؛ فالدين لا يجدَّد؛ فالرسول صلى
الله عليه وسلم لم يمت حتى أنزل الله سبحانه عليه: [أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة: 3) فما لم يكن ديناً في ذلك
الوقت كما قال الإمام مالك رحمه الله فلن يكون اليوم ديناً، والذي يجدَّد هو صلة
الناس بالدين وأثره في سلوكهم وتوجيه حياتهم.
البيان: فما هي إذن القضايا الكبرى التي ترون أن لها الأولوية في هذا
التجديد؟
هناك أولويات في هذا التجديد ولا شك. بداية علينا التركيز في هذه المرحلة
على ما يمتِّن صحة المعتقد؛ لأن البناء الذي يراد له الاستمرار يجب أن يبنى على
أسس متينة، والبناء المؤسس على جرف هار فمآله إلى زوال وانهيار، وهذا مبدأ
أول لكل جماعة أو حركة؛ فالقرآن الكريم ركز عليه في الفترة المكية التي امتدت
ثلاث عشرة سنة، وليس من العبث أن يتم هذا التركيز في ساحة كان للنِّحَل والملل
فيها نفوذ؛ فكان من المفروض تمحيص العقيدة لتتجلى.
ثانياً: ضرورة ربط الناس بالدين حتى يمارسوه عملياً.
ثالثاً: السعي لتقليل الآفات الاجتماعية والانحرافات التي تقضي على فضيلة،
ثم بعد ذلك يتم ولوج آفاق أخرى.
البيان: كيف تقوِّمون مسيرة العمل الإسلامي من النشأة إلى اليوم؟
* رة الحماس التي عرفها العمل الإسلامي في السبعينيات إلى الثمانينيات
هدأت؛ وللحقيقة نعترف بأن الذين يملؤون المساجد في تلك الفترة هم أنفسهم لم
يزيدوا إلا ما شاء الله، وهذا يجعلنا ننظر إلى الدعاة بنوع من الريبة. إذا
استحضرنا حوار هرقل مع أبي سفيان عندما سأله عن أتباع الرسول صلى الله عليه
وسلم فقال لأبي سفيان: «هل يزيدون أو ينقصون؟ قال: بل يزيدون. قال: هل
يرتد أحدهم سخطاً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أجاب أبو سفيان: لا» . ولكننا عندما
نلتفت في خطب الجمعة، وفي المساجد، ولا نجد إلا تلاميذنا، وجلهم صاروا
كهولاً وشيوخاً، ثم لا نجد العدد الهائل من الشباب والمراهقين؛ فهذا يوضح لنا
حقيقة أننا أمام آفة خطيرة يجب أن تعالج؛ لأنها تنعكس على قصور الدعاة
والحركة الإسلامية، ويؤكد أنها لم تعد تهتم بالتنظيم وضم أفراد جدد، ولكنها تهتم
بأمور أخرى كالبرلمان والانتخابات ... وهذا شيء لا يريحني شخصياً.
البيان: في المغرب هناك ثنائية الأصالة والمعاصرة، وبعض الآراء تُرجِع
عدم نجاح التنمية، أو الحداثة بالمغرب إلى الإسلام والمسلمين؛ فكيف تنظرون إلى
هذه القضية؟
* هذا رأي خاطئ ما في ذلك شك؛ فليس كل شيء يقبل الحداثة والعصرنة؛
فالحداثة والعصرنة من شأن حضارة الأشياء، وليست من شأن حضارة القيم. فالقيم
فيها الثابت وبعضها ذات لبوس اجتماعي استحدثها الناس نسبة للعرف، وهذه يمكن
تجديدها، لكن العقائد هي أصول ثابتة؛ فإذا أراد هؤلاء بالحداثة تحضير الأشياء
وتجهيز البيت بالتلفاز أو الكمبيوتر، وكل بيت فيه هاته الأشياء نقول إنه متحضر
ولو كان أهله منحرفين. فإذا أرادوا منا تطوير الأشياء والإبداع المادي فنحن معهم،
أما إذا أرادوا منا أن ننشغل بالحداثة وتحضير الأشياء، ونقضي مع ذلك على
القيم؛ فنحن ضد هذا الرأي.
البيان: هل تقصد ضد التنمية؟
* ليس هذا؛ بل ضد الرأي السابق، أما التنمية فهي مطلب إسلامي؛ فالله
خلق الإنسان لعمارة الأرض وتنميتها [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا]
(هود: 61) ، وعمارتها تتم بحركة الإنتاج، وأناط بالإنسان ذلك التكليف، وهيأ له
ما يمكنه من تطوير عيشه وحياته.
البيان: يؤخذ على بعض الإسلاميين في نظرتهم لهذه الثنائية النزوع إلى
نوع من التوفيق يسميه بعض المراقبين والمفكرين بالتلفيق؟
* ينبغي لنا في دعوتنا وعملنا الإسلامي ألا يستفزنا الآخر. نحن لسنا في
الساحة لنرضي زيداً أو عمراً، أن نرضي فرنسا أو أمريكا أو الغرب وحداثته، أو
بني جلدتنا من المنافقين والعلمانيين، إذا فعلنا هذا، فلسنا أهلاً لنحيا ونعيش. يجب
أن تكون لنا مبادئنا وقيمنا ونتحرك وفق ضوابط وقواعد شرعية، ونعي جيداً
العلاقة بين وجودنا وما يراد منا؛ فالله سبحانه خلقنا لنعبده، فعلينا أن نربط الناس
بربهم ونجدد صلتهم بالله ليسيروا على هدي عقيدتهم، أما إذا أردنا أن نرضي كل
ناعق، كلما انتقدنا إنسان نقول له: نحن لسنا كذلك؛ وأنا شخصياً ضد جلوس
مسلم مع شيوعي بدعوى السياسة؛ فالدين دين، والإسلام إسلام، أما أن ألفِّق
وأرقِّع فهذا ما لا أحبه.
البيان: هل من اقتراحات لترشيد الحركة الإسلامية؟
* أن تبتعد عن النخبوية أكثر، وتتجه نحو التغلغل في جميع القطاعات
الشعبية سواء الفلاحية، أو الصناعية، أو التجارية، مع عدم إهمال الجانب
التنظيمي؛ فقطع الروافد يعني الزوال.
البيان: كلمة أخيرة:
* أشكر مجلة البيان ودورها في إثراء الثقافة والفكر الإسلاميين، ومساهمتها
في تقويم الصياغة والبيان العربيين.
__________
(*) كاتب صحفي بالدار البيضاء المغرب.
(1) كانت (جمعية الشبيبة الإسلامية) من أوائل ما أسس في تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب في صورتها الحديثة، وذلك سنة 1971م، وكانت ذات تركيب سري غامض، ساعد في غموضه طبيعة شخصية قائدها المؤسس الأستاذ «عبد الكريم مطيع» الذي كان مفتشاً في وزارة التربية والتعليم والذي كان قبل ذلك عضواً في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ذي الميول اليسارية، فجاء القائد من هناك يحمل كثيراً من خصائص العمل الحزبي، وكثيراً من خصائص العمل اليساري؛ ولذلك لم يكن يُدرَى وإلى حد الساعة مقدار توجهه الإسلامي وحقيقته؛ بسبب غرابة منهجه في تسيير الجماعة، وأسلوبه المناور في التعامل مع كل من يخالفه الرأي من الدعاة، وسهولة رميه إياه بالعمالة للنظام والجاسوسية للمخابرات! لقد كانت فترة عصيبة في تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب، طحنت كثيراً من الأبرياء، وسربت كثيراً من العملاء، وأتت على الأخضر واليابس! لكنها مع ذلك أنبتت (من بين فرث ودم) عدداً من المخلصين، خرج من تلك المحنة، أو الفتنة، وهو يحاول تلمس معالم المنهج الإسلامي السليم وقد كان حدث اغتيال عمر بن جلون سنة 1975م هو بداية ما سمي بـ (فتنة الشبيبة الإسلامية) ، وعمر بن جلون هذا، كان هو رئيس تحرير جريدة (المحرر) اليسارية الناطقة باسم «حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» الذي كان أكبر قوة شعبية آنئذ على مستوى الأحزاب السياسية؛ ذلك أنه بعد القبض على الشباب الذين نفذوا عملية الاغتيال؛ تم اتهام الأستاذ «عبد الكريم مطيع» رئيس جمعية الشبيبة الإسلامية بأنه هو الذي أصدر الأمر بالاغتيال، حسب صك الاتهام (؟ ؟ ؟) ، لكن مطيعاً تبرأ من أولئك الشباب؛ فكان أن فر هارباً خارج المغرب، ليعيش في المنفى منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، وليشرف على تسيير جماعته بضع سنين أخرى من الخارج فدبت الفوضى في صفوف التنظيم، وتم تبادل الاتهامات بين قيادات الداخل والخارج وقيادات الخارج وشاع منطق الاتهام والشتم للنظام الحاكم؛ مما كان يؤدي إلى توسيع دائرة الاعتقالات، وإغراق السجون بالمعتقلين، من المتورطين وغير المتورطين على السواء! فكان أن بدأ الجسم الحركي في التململ والاضطراب، ثم الانفجار الذي أدى إلى تولد عدة شظايا تنظيمية، كان أبرزها وأكبرها ما سمي آنئذ بجمعية (الجماعة الإسلامية) بقيادة الأستاذ محمد يتيم، وهي الجمعية التي تطورت فيما بعد إلى ما عرف بـ «حركة الإصلاح والتجديد» ، ثم «حركة التوحيد والإصلاح» بعد توحدها مع رابطة المستقبل الإسلامي وإلى الآن ما يزال ملف «الشبيبة الإسلامية» من أغمض الملفات في تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب وأعقدها! وخاصة أن بعض رموز تلك المرحلة ممن كان واسطة بين مطيع وبين الشباب قد فُقِد تماماً؛ فلا يُدرَى أهو من الأحياء أم من الأموات! وكذلك وجود زعيمها الأول الأستاذ عبد الكريم مطيع خارج الوطن، ذلك الرجل الذي لا شك في أنه يحمل في جعبته الكثير من الأسرار!(174/38)
آفاق
لمن هذه الخيمة؟
د. عبد الكريم بكار [*]
في عقول كثير من الناس أفكار لأعمال خيرية وإصلاحية كثيرة، لكن الذي
يرى النور منها قليل جداً، والأقل من القليل هو ذاك الذي يحقق نجاحاً ملحوظاً.
كلما نشبت أزمة اكتشف كثير من المفكرين والدعاة أن لدى الأمة قصوراً أو انحباساً
أو مشكلة في جانب من جوانب حياتها، ويبدأ كل واحد منهم بالتعامل مع ذلك على
طريقته الخاصة: واحد يلقي محاضرة وثان يصدر فتوى، وثالث يؤلف كتاباً،
ورابع يشكل لجنة وهكذا ... أصحاب الفتاوى والكتب والخطب يشعرون أن مهمتهم
انتهت، وفعلوا ما عليهم أن يفعلوه.
ويبقى أولئك الذين يشكلون اللجان، والمجموعات للبحث والتنظير ورسم
الخطط.. إنهم كثيراً ما يشعرون أن مهمتهم كبيرة، وأن الرد على تلك الأزمة أو
معالجة ذلك القصور قد يتطلب ما هو أكثر من فتوى أو خطبة، ويمضي القوم في
اجتماعاتهم الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية، ويستفرغون جهدهم وطاقتهم في
إجراء الدراسات المطلوبة، وكلما فرغوا من دراسة جزئية، نسل البحث جزئية
أخرى، وفي كثير من الأحيان يُنسى الهدف الأساس الذي اجتمعوا من أجله، وتجدّ
لديهم أهداف صغيرة يبحثون عن وسائل وأطر لبلوغها وهكذا.. ومع مرور الأيام
تأتي الصوارف والشواغل، وتفتر العزائم، ويسود نوع من الشعور بانسداد الآفات
وبعدم وجود الأهلية لمعالجة ما تصدوا لمعالجته. وربما جاءت أزمة جديدة، أنستهم
القديمة، ودفعتهم للانشغال بها!
كثير من أولئك المجتمعين يبحثون في مسائل خارج اختصاصهم؛ ولذلك فإنهم
يبذلون جهداً هائلاً ووقتاً طويلاً حتى يسبروا أغوار الأزمة أو القضية التي تصدوا
لها، وحتى يوجدوا قاعدة للفهم المشترك بينهم، وكثيرون منهم يشعرون بأنهم
يحملون الكثير من الأعباء، وأنه ليس لديهم أي طاقة لتحمل أعباء جديدة؛ ولذا
فإنهم يفيضون ويطوّلون في المناقشات النظرية، وفي نفس كل واحد منهم توجّس
خفي من أن ينتهي البحث إلى تكليفه بشيء عملي؛ ولذا فإن تلك المناقشات تندفع
بالغريزة بعيداً عن ميادين العمل، وإذا أفْضَت إلى شيء عملي؛ فينبغي أن يقوم به
أشخاص من غير المجتمعين، فالمجتمعون خُلقوا للتنظير، وعلى أشخاص أقل
سوية أن يتولوا التنفيذ! ثم لا يجدون أولئك المنفذين، وتنتهي العاصفة بمجموعة
من الأمنيات والمقترحات التي ما تفتأ أن تسقط بالتقادم.
قد يكون من المفيد أن نوضح أن أهم ما يُطلب في هذه المبادرات الخيّرة،
هو أن يعتقد في كل مجموعة أو لجنة شخص واحد على الأقل أن الوصول إلى
شيء عملي يُعد أولوية مطلقة بالنسبة إليه، وكأنه يقول: أنا صاحب هذه
الخيمة والمسؤول عنها وحاميها، ومن أراد التعاون معي فأنا موجود، وإن لم أجد
فسأتابع العمل وحدي. إنه بذلك يجعل من نفسه محوراً يجذب إليه كل أولئك
الذين يشاركونه هموم ما تصدى إليه. أولوية واحدة تُخدم بشكل جيد خير من
أولويات كثيرة لا يجد صاحبها أي طاقة كافية لخدمة أي منها على الوجه
الصحيح.
والله الموفق.
__________
(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.(174/44)
المسلمون والعالم
شارون ومغامرات الحل النهائي
عبد العزيز كامل
كان مقرراً أن يكون عام 2000م عام الحسم للقضايا الأكبر والأخطر في
القضية الفلسطينية من خلال ما كان يسمى بـ «مفاوضات الحل النهائي» . وقد
حبس الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون فريق التفاوض الإسرائيلي برئاسة
باراك، مع فريق التفاوض الفلسطيني برئاسة عرفات لمدة أسبوعين في منتجع
خيمة داود أو (كامب ديفيد) للوصول إلى حل نهائي. وحبس العالم أنفاسه معهم
ليرى ما المصير الذي ستؤول إليه قضايا السيادة على القدس، وملكية أرض
المسجد الأقصى، ومستقبل أربعة ملايين لاجئ فلسطيني، وما ستنتهي إليه حدود
الدولة الفلسطينية، ومشكلة توزيع المياه بين اليهود والعرب في فلسطين.
وكادت الأمور أن تُحل بشهادة كلينتون حيث قال: إن أكثر من 90% من
القضايا المطروحة تم التوصل إلى صيغة حل فيها. لكن نسبة الـ 10% الباقية
كانت كفيلة بأن تفجر المحاولة المؤجلة منذ مدريد للوصول إلى حل نهائي. وكانت
قضية القدس والأقصى كما هو معلوم هي الصخرة التي سقطت على مائدة التفاوض
فقصمتها ملقية بيهوذا وآتية بشارون!
فجاء ذئب إبليس المسمى (إرئيل) [1] ليتولى بطريقته الخاصة الوصول إلى
حل نهائي بأسلوب يليق بتاريخه الدموي الإجرامي، وقد دشن عهده الأسود
بزيارة الاقتحام الشهير للمسجد الأقصى التي كانت سبباً مباشراً في تفجير
الانتفاضة الأخيرة، ومن يومها وشارون يلعب على سياسة الفعل ورد الفعل
ليوصل الأمور إلى ما وصلت إليه الآن؛ فماذا يريد شارون؟ وما الذي يستطيع أن
ينجزه؟ وما الذي يمكن أن يعجزه في تلك المغامرات البديلة للمفاوضات؟
أريد أولاً أن أؤكد من وجهة نظري على أن ما دفع شارون لتصعيد الأمور
مؤخراً في مناطق السلطة الفلسطينية، ليس هو مجرد جلب الأمن لـ (إسرائيل)
كما تلح وسائل الإعلام، ولا القضاء على السلطة لمجرد أنها سلطة، ولا عزل
عرفات لـ «خطورة» عرفات؛ فالأمن الإسرائيلي قبل كامب ديفيد كان يعيش
أزهى عصوره في ظل سلطة عرفات؛ فقد كان الإسرائيليون قادرين على توفير
الأمن لو كان مطلبهم الوحيد بإعطاء الفلسطينيين مطالبهم المتواضعة.
وأما عرفات فلم يكن ليهدد إسرائيل يوماً منذ جاء من تونس، وإلا لما جاءوا
به من هناك أصلاً ليضعوه على رأس شرطة مسلحة لها حرية التحرك في الأراضي
المحتلة، ولم تكن مطالبه لتهدد أمن (إسرائيل) ؛ حيث اعترف بها دولة مستقلة
ذات سيادة، لها كامل الحق في أن تعيش في حدود آمنة ومعترف بها، وذلك في
معاهدات رسمية دولية ملزمة. وحتى القدس التي كان ينادي بها عاصمة للدولة
الفلسطينية؛ تنازل عنها عملياً من باب خلفي بقبول قرية «أبو ديس» بديلاً عنها
عاصمة؛ بعد إطلاق اسم القدس عليها كما دلت على ذلك وثيقة (بيلين -
أبو مازن) .
أما الانتفاضة نفسها، فقد كان بوسع شارون لا عرفات أن يوقفها في أسرع
وقت إذا ما أوقف إراقة دماء الفسلطينيين؛ فعندها كان العمال سينصرفون إلى
أعمالهم، والطلاب إلى مدارسهم، والفلاحون إلى حقولهم؛ فمن ذا الذي يريد
العيش في ظل الخوف والجوع والحرمان وهو قادر على العيش في أمان؟ !
ولكن شارون استمر في استدراج الفلسطينيين إلى دائرة رد الفعل الثأري على
الفعل الاستفزازي بالقتل والهدم والتجريف والقصف براً وبحراً وجواً؛ لكي يظفر
بردود فعل عنيفة يستطيع أن يوظفها لما هو مقبل عليه من إجرام أعنف، وهذا ما
حصل.
والآن وقد أشعل شارون فتيل الحرب كما كان متوقعاً بدءاً من فلسطين؛ فماذا
يريد من الفلسطينيين؟ وما الذي يمكن توقعه من سلوكه الهمجي في ظل الظروف
الصعبة التي يعيشها العرب؟
لا شك أننا سنشهد عالماً عربياً متغيراً في المستقبل القريب إذا ظلت الظروف
مهيأة لشارون كي يكمل مخططاته ومؤامراته؛ ففي ظل الذل العربي العجيب،
والسكوت الدولي المريب ستكون لشارون اليد الطولى في المنطقة إذا لم تجد من
يقطعها.. ومَنْ يقطعها إلا المجاهدون الصابرون؟ ! لقد أبطل الجهاد الفلسطيني كما
نتصور جزءاً كبيراً من برنامج شارون المتسارع في المنطقة، أو أجّله على الأقل،
تماماً كما أبطل الجهاد في أفغانستان جزءاً كبيراً من برنامج بوش العالمي أو أجّله،
فالرد الجهادي الفلسطيني كان أعنف مما تصور شارون، وأوسع مما توقع، وقد
أربك هذا حساباته الموزونة بين الفعل ورد الفعل، فراح يتخبط تكتيكياً وإن كان
مستمراً في خطه استراتيجياً بخطى أقل ثقة وأدنى ثباتاً، ولكن ذلك لا يمنع من أن
الأمر جد خطير في العالم؛ لأن حرب مجنون (إسرائيل) قد صادفت في توقيتها
وتسميتها وطبيعتها حرب مَوْتور أمريكا؛ حيث شاء الاثنان أن يطلقا على الحرب
الأولى في الألفية الثالثة «الحرب على الإرهاب» ؛ بمعنى الحرب على روح
المقاومة الإسلامية للهيمنة الصهيونية اليهودية النصرانية على العالم.
وبجانب التشابه والتزامن في الحرب اليهودية والحرب الصليبية، هناك
أسباب أخرى تؤكد خطورة المرحلة التي يمر بها العالم بعامة والشرق الأوسط
بخاصة، منها: سيطرة اليمين الديني الأصولي على دفة الحكم في كل من أمريكا
وإسرائيل؛ فالذي يحكم أمريكا اليوم ليس هو بوش فقط بل الذين جاؤوا به وهم
أصحاب التيار الإنجيلي الأصولي المؤمن بمركزية إسرائيل في التاريخ المستقبل.
والذي يحكم إسرائيل اليوم، ليس هو شارون فقط، بل الذين جاءوا به، وهم
أصحاب التكتل اليميني الديني المتطرف الهادف إلى (إعادة مجد إسرائيل) بكل ما
يعنيه ذلك من مخططات توراتية، ومؤامرات تلمودية، ليس آخرها ما سمح به
شارون رسمياً منذ عدة أشهر لإحدى جماعاتهم بوضع حجر الأساس للهيكل الثالث
في ساحة المسجد الأقصى.
ومن أسباب تزايد الخطورة أن الزمن الحالي زمن استثنائي عند النصارى،
فلا تزال الألفية الثالثة في بداياتها، ولا تزال المشاعر تؤجج تبشيراً بنبوءاتها،
واليهود حريصون كل الحرص على استثمار ذلك السعار فيما يعود على خزائنهم
بالدعم، وعلى مشاريعهم بالدفع. ومن الأسباب أيضاً: وصول النظام العربي في
فلسطين وما حولها إلى الباب الأخير المسدود؛ حيث نفدت الحيل، وبطل السحر،
وانكشف الخداع، ولم يعد مجدياً التظاهر بالحكمة والصمود، وفي هذا ما فيه من
مزيد إغراء لغطرسة النصارى وطغيان اليهود.
يريد بوش تغيير خريطة العالم لصالح استكمال نظام عالمي أمريكي جديد،
كان أبوه قد أعلن عنه قبل عشر سنين، ولكن عدم التمديد الرئاسي لم يمهله لإكماله،
وشارون يريد تغيير خريطة المنطقة لصالح استكمال نظام شرق أوسطي جديد،
كان سلفه سابقاً وشريكه لاحقاً: (شمعون بيريز) قد بشر به اقتصادياً ولم يكمله
سياسياً، فأراد شارون أن يجرب حظه في نظام أمني وعسكري شرق أوسطي يؤمِّن
لدولة اليهود فترة من (الهدوء التام) في المنطقة؛ ريثما يستطيع هو أو من يأتي
بعده أن يقفز خطوات واسعة نحو المشاريع المستقبلية لدولة اليهود في المنطقة؛
فالشرق أوسطية العسكرية الأمنية هي أوضح ملامح المشروع الشاروني، ودون
هذا المشروع عقبات، ووراءه تطلعات، وشارون يسعى منذ مدة فيما يبدو لإزالة
تلك العقبات أولاً؛ ليتمهد الطريق بعد ذلك له أو لمن يأتي بعده إلى تحقيق التطلعات،
ويمكن رصد الأغراض التي يمهد لها شارون في المرحلة المقبلة فيما يلي:
1 - إبطال مفعول ما يسميه اليهود بـ (القنبلة الديمغرافية) ؛ أي الخطر
المتزايد على دولتهم من الزيادة السكانية الفلسطينية التي لا يستطيع معدل النمو
السكاني الإسرائيلي أن يلاحقها، عن طريق تهجير جديد للفلسطينيين.
2 - تهيئة الأجواء وتوفير الإمكانيات لاستيعاب أفواج ضخمة من المهاجرين
اليهود الجدد الذين أعلن شارون أنه بصدد استقدام مليون مهاجر منهم في الفترة
المقبلة [2] .
3 - تثبيت سياسة توسيع المستعمرات اليهودية في الأراضي الفلسطينية
المحتلة لإيجاد واقع جديد لا يسمح للفلسطينيين بالعيش في أراضٍ خالصة لهم لا
يشاركهم فيها يهود. وقد دعا شارون في شهر مايو 2001م إلى تخصيص 1.2
مليار شيكل (300 مليون دولار) للمستوطنات كمساعدات حكومية.
4 - تحقيق مسألة اعتراف العالم بالقدس بشطريها «عاصمة أبدية موحدة»
للدولة الإسرائيلية، وهو ما لم يحدث إلى الآن لسبب واحد؛ وهو التأجيل الأمريكي
المتكرر لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في عَهدَيِ الإدارة الديمقراطية برئاسة بيل
كلينتون [3] .
5 - اتخاذ خطوة كبيرة على طريق إعادة بناء الهيكل اليهودي الثالث مكان
المسجد الأقصى، أو تقسيم ساحته ليبنى فيها كنيس مجاور للأقصى يكون مرحلة
ممهدة للتوسع في البناء فيما بعد.
6 - ضمان الأمن الإسرائيلي الداخلي والخارجي لتأمين الوصول إلى كل ما
سبق، عن طريق القضاء على المقاومة في الداخل، والتوصل إلى اتفاقيات لـ
(إنهاء الصراع) مع الدول المحيطة بالخارج. وهناك مسائل أخرى تدخل ضمن تلك
الأهداف كانت مجال حرب تفاوضية في كامب ديفيد 2000م، مثل المسائل المتعلقة
بالمياه والحدود واللاجئين ونحو ذلك.
ولعلي أحاول تغطية ما يتعلق بالمرحلة الراهنة من تلك الأهداف المعلنة.
(الترانسفير) ... ومؤامرة التهجير:
«الترانسفير» مصطلح سياسي يعني في الفكر الصهيوني: طرد عناصر
سكانية وتوطين أخرى، والعناصر المطرودة هنا ليست إلا العرب المسلمين،
والمستوطنون مكانهم هم اليهود، وفكرة الترانسفير بالرغم من أنها في الأصل
يهودية؛ فإن النصارى البروتستانت هم أول من أحيوها وطبقوها في العصور
الحديثة في القارة الأمريكية والقارة الأسترالية؛ حيث أبيد أقوام وأحل مكانهم
آخرون لتتأسس على ذلك الهيمنة الغربية الإنجليزية ثم الأمريكية المعاصرة التي
سيطر على أصحابها الشعور بالتميز على بقية البشر لانتمائهم إلى العنصر الأبيض
الإنجلوساكسوني.
أما العنصر اليهودي المعاصر؛ فالبرغم من عدم مصداقية دعواه في النقاء أو
الانتماء العرقي لبني إسرائيل الأوائل؛ فإنهم يتعاملون مع العرب والمسلمين على
أساس دعوى التميز؛ ولهذا فإن منطق التدمير والتهجير هو الأصل في تعامل
اليهود مع العرب منذ وطئت أقدامهم أرض فلسطين.
واليهود الذين بنوا فلسفتهم الاستعمارية على نظرية: (أرض بلا شعب
لشعب بلا أرض) وجدوا أن هذه الأرض التي ادعوا أنها بلا صاحب هي أرض
عامرة بأهلها، بل إن أهلها من أخصب الشعوب نسلاً وأسرعهم تكاثراً، فمثَّل هذا
عندهم فيما بعد مشكلة مزمنة أطلقوا عليها: (القنبلة الديمغرافية) ؛ يقصدون بذلك
التهديد السكاني الفلسطيني الكافي مع الزمن لإغراق اليهود في بحر الكثافة السكانية
العربية؛ فماذا يفعلون؟ !
إنهم لم يجدوا حيلة في منافسة العرب الفلسطينيين بالكثرة العددية؛ فالله تعالى
شاء وهو العليم الخبير أن يقلل من نسل اليهود في أصل الخلقة؛ فهم من أقل الخلق
خِلْفةً، وأندرهم نسلاً، فالمرأة اليهودية لا تزيد ولادتها في الغالب عن مولود أو
اثنين!! ! فسبحان من قطع دابر الإفساد فيهم على مر العصور، وإلا..... فكيف
كان الأمر لو كان عدد اليهود في العالم كعدد الهنود أو كان الصهيونيون بعدد
الصينيين؟ ! ! إن تعدادهم في العالم لا يزيد عن اثني عشر مليوناً، ولكنهم مع
ذلك متغلبون بالقهر على حقوق اثني عشر مئة ألفِ ألفٍ من المسلمين!
وإن تعدادهم في وسط العرب لا يزيد عن خمسة ملايين؛ ومع ذلك فهم
مُخْضِعُون لأكثر من مئتي مليون! ومع خبث اليهود وشدة مكرهم وقدرتهم على
استغلال غيرهم؛ فإن نقطة الضعف الكبرى فيهم هي العنصر البشري، وهذا ما
يفسر شدة الجزع والخوف والهلع كلما أزهقت منهم روح خبيثة أو أريقت منهم دماء
نجسة.
وقد استشعر اليهود هذا الخطر الماحق واستحضروه منذ بدايات التفكير في
وضع بذرة الشؤم لدولتهم (إسرائيل) ، وبدءوا يعملون على محورين متوازيين
للتغلب على الضعف العددي وهما: التهجير والهجرة: تهجير العرب، وهجرة
اليهود.
قال زعيم الصهيونية الحديثة تيودور هرتزل في مذكراته التي كتبها عام
1895م أي قبل قيام الدولة بنحو نصف قرن: «سنسعى لنقل السكان الفلسطينيين
خلف الحدود دون ضجيج، بواسطة منحهم عملاً في البلدان التي سينتقلون إليها؛
إن نقل الأراضي إلى سيطرتنا وإخراج العرب من دولتنا يجب أن يتم بتدرج
وحذر» !
ولما اقترب أوان قيام تلك الدولة، قال زعيمها الأول (داود بن جوريون)
الذي صار أول رئيس لوزراء (إسرائيل) في رسالة وجهها بتاريخ 5/10/1937م:
«لا مهرب أمامنا إلا أن نحتل الأرض بقوة السلاح؛ لأننا لا يمكن أن نتحمل
بقاء مساحات شاسعة من أرضنا خالية من اليهود في حين أننا نستطيع استيعاب
عشرات الألوف منهم» . وقال في مناسبة أخرى عند انعقاد المؤتمر اليهودي
العالمي العشرين: «لو استطعنا تنفيذ النقل القسري للفلسطينيين لكان هذا إنجازاً
كبيراً؛ فذلك هو السبيل للاستيطان في مناطق شاسعة» . وقال: «إن العراق
وسوريا لن تعانيا مشكلة في استيعاب سكان إضافيين من عرب إسرائيل يعني
الفلسطينيين حتى لو نقلناهم كلهم إليهما» !
وقد عقد (وايزمان) أول رئيس للدولة اليهودية [4] نسبة عددية لما يمكن أن
يظهر من نتائج على الأرض لسياسة الهجرة والتهجير فقال: «كلما استطعنا نقل
نصف مليون عربي سيكون في مقدورنا توطين مليون يهودي مكانهم»
وقد سار الخبثاء على هذا الصراط الشيطاني الأعوج، فكانت نتائجه مذهلة؛
فيكفي أن نعلم أن عدد اليهود في فلسطين عند صدور وعد بلفور عام 1917م كان
ستين ألف يهودي فقط، ثم صار اليوم قريباً من خمسة ملايين.
ومن الملاحظ أن سياسة (الترانسفير) أمر مجمع عليه بين مختلف الكتل
والأحزاب في دولة اليهود، فاليمينيون واليساريون، والعلمانيون والمتدينون كلهم
متفقون على أن مكان الفلسطينيين هو في الدول المحيطة بفلسطين طال الأمر أم
قصر، ولم تقتصر هذه القناعة على الآباء المؤسسين لدولة اليهود، بل لا يزال هذا
هاجس قادتهم وزعمائهم الحاليين.
ففي كتابه (مكان تحت الشمس) يصرح نتنياهو الزعيم السابق لباراك
واللاحق لشارون (على الأرجح) بأن الفلسطينيين يجب أن يهجَّروا إلى الأردن،
مع أن الأردن كما قال: هي أرض إسرائيلية محتلة! ! وقال عن العرب الذين
هاجروا من فلسطين عام 1948م: «إن الإسرائيليين لم يطردوهم، وإنما هم الذين
هربوا من الحرب، ثم طرد العرب اليهود من بلادهم فجاءوا بدلاً من العرب الذين
هربوا» [5] وكان باراك يردد كثيراً أن الأردن هي (الوطن البديل) للفلسطينيين.
وأما شارون فهو المصدر الأصلي لمقولة (الأردن الوطن البديل) لا كشعار
فقط، بل كمشروع، ويقوم مشروعه في الوطن البديل على إشعال الأرض من
تحت أرجل الفلسطينيين ومن فوقهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم حتى يقولوا: النجاة
النجاة.. الخروج الخروج؛ فيندفعوا طوعاً وكرهاً إلى هجرة جديدة! وهو يستعد
كما شاع في الأنباء مؤخراً لاستقدام نحو مليون مهاجر يهودي، وهؤلاء إذا قدموا
إلى فلسطين، سيرسلون إلى المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة،
فهو بحسبة آلون السابقة محتاج لتهجير ما لا يقل عن نصف مليون فلسطيني!
يحاول اليهود منذ مدة تحقيق هدف جديد في الهجرة والتهجير بالسلم أو بالحرب،
فقبل سنوات تسربت أنباء عن مخطط لتهجير مليون فلسطيني إلى العراق مقابل
إشراك العراق في (عملية السلام) ؛ ومن ثم رفع الحصار عنه.
ولبنان أيضاً، يبدو أنه كانت هناك مساع من خارجه لتوطين اللاجئين فيه
من الفلسطينيين ومنحهم الجنسية اللبنانية، ولكن تفاعلات البيان الختامي للقمة
العربية الأخيرة، أظهرت أن نصارى لبنان، وعلى رأسهم رئيسهم رافضون لهذا
الطلب [6] : ظاهراً لأنه يتعارض مع (الدستور) ، وباطناً؛ لأنه يخل بالتوازن
الطائفي المحسوم فرنسياً في لبنان لتظل دولة (مسيحية) في وسط الطوفان العربي
المسلم؛ ليقترن وجودها بوجود الدولة اليهودية وسط هذا الطوفان.
إن الأنباء تتسرب بين الحين والآخر بمعلومات عن مخططات تبحث في
دوائر رسمية غربية؛ لإيجاد مخرج يخلص اليهود من خطر (القنبلة الديمغرافية) .
وهذه المساعي ذات جذور قديمة قدم الاحتلال الإنجليزي لفلسطين الذي سبق
الاحتلال الصهيوني، فتاريخ بريطانيا في طبخ مؤامرات الهجرة والتهجير معروف
وموثق. أما بعد أن أطفأ الله نجمها ونكس رايتها من أطراف الدنيا، فقد تولت
أمريكا بعدها هذه المهمة، ومساعي الأمريكيين وراء تدبير مؤامرات الهجرة أو
التهجير تكاد لا تخطئها العين سواء في هجرة اليهود الروس أو يهود أوروبا الشرقية،
أو يهود الفلاشا الإثيوبيين، وقد استقبلت دولة اليهود نحو مليون مهاجر يهودي
على مدى السنوات العشر الماضية، جاء معظهم من الجمهوريات السوفييتية
السابقة، وشارون نفسه هو ابن لمهاجريْن روسيين.
ويشرف على تهجير اليهود إلى فلسطين عتاة اليهود الأمريكيين، من أمثال
هنري كيسنجر الذي أدلى بتصريح في مارس عام 1973م قال فيه معلقاً على
المشكلة السكانية الفلسطينية: «الحل هو أن يصبح الفلسطينيون في لبنان،
والمسيحيون في كندا أو أوروبا» . فهو يأمل في أن تفرغ الشام من النصارى
الكاثوليك، وهذا يعبر عن سياسة حكومته البروتستانتية التي لا تطيق أن ترى لبابا
الفاتيكان رعايا قريبين من الأرض المقدسة.
ويظل الأردن (دون استبعاد لبنان أو سوريا أو مصر) في مقدمة البلدان
المرشحة عند اليهود لاستقبال موجة جديدة من الهجرة الفلسطينية.
وقد أظهر تتابع الأحداث أن هناك ثلاثة تصورات أو صيغ لتحقيق الحل الإسرائيلي
بالترانسفير:
أولاً: الترانسفير الاقتصادي: وهو تصور باراك، وكان يقترح فيه أن تقوم
(إسرائيل) بفصل إجباري بين الفلسطينيين واليهود؛ بحيث يمنع الفلسطينيون من
العمل في أماكن سيطرة الإسرائيليين فتضيق بهم الأحوال الاقتصادية، فيضطرون
طوعاً للهجرة للخارج، والخارج عنها لن يبعد عن الأردن كثيراً لاعتبارات كثيرة
تجعل من ذلك البلد بلداً ثانياً للفلسطينيين.
الثاني: الترانسفير الأمني: ويقوم على تكثيف الإزعاج الأمني للفلسطينيين؛
حتى يفقدوا الراحة في البيوت أو الشوارع أو أماكن العمل بسبب كثرة الملاحقة
والمراقبة والاعتقالات والاغتيالات. وهذه الصيغة هي التي حاول شارون تجريبها
منذ ما يقرب من ثمانية عشر شهراً عندما تسبب في بدء الانتفاضة الحالية التي وإن
أفقدت الفلسطينيين أمنهم إلا أنها لم تفقدهم إيمانهم بواجب الصبر والمصابرة ضد
إجرام اليهود المغتصبين لأرضهم.
الثالث: الترانسفير العسكري: وهو الخيار الأصعب والأسهل في آن؛ فهو
أصعب لأنه يحتاج إلى حرب ولو محدودة يمكن أن تخسر فيها (إسرائيل) أرواحاً
كثيرة، وهو أسهل لأنه يضمن وسيلة فعالة ومجربة لدفع أكبر عدد ممكن من
الفلسطينيين لمغادرة أراضيهم.
الأردن ... وحرب شارون:
تحمل الأردن أكبر نصيب من مشكلة لجوء الفلسطينيين إليه، وذلك في
موجات ثلاث صاحبت كلاً منها نكبة أو نكسة أو كارثة عربية؛ فالمرة الأولى كانت
بعد حرب النكبة 1948م، والثانية كانت بعد حرب النكسة عام 1967م، والثالثة
كانت بعد كارثة غزو الكويت واندلاع حرب الخليج عام 1991م؛ حيث انتقل
الآلاف من الفلسطينيين الموجودين في الكويت إلى الأردن.
والظاهر أن شارون يعد للموجة الرابعة من خلال الحرب التي أشعلها هذه
الأيام، والتي يسعى بالاشتراك مع شريكه في محور الشر جورج بوش إلى توسيعها
وتكثير أطرافها.
لو طالت تلك الحرب أو توسعت، فسوف يكون الهدف القريب لها تنفيذ
الموجة الرابعة من هجرة الفلسطينيين، وستكون تلك الحرب خادمة بشكل أو بآخر
لبقية الأهداف الستة السابق ذكرها.
أما إذا انتهت بسرعة وأطفأ الله نارها؛ فإنها ستصنع من حديث النفس
بالهجرة عند كثير من الفلسطينيين همّاً ثم عزماً ثم فعلاً؛ فالإنسان مهما كان فإنه
خلق ضعيفاً، والسواد الأعظم من الناس يقدم الرُّخَص على العزائم، هذا إذا وجدوا
على العزيمة معيناً، فكيف إذا لم يجدوا إلا الخذلان، والنسيان والنكران؟ !
شارون الذي أقنعه العرب إقناعاً بوجوب استغلال فرصة ضعفهم، لن يضيع
الفرصة، وطريقه لاستغلالها أن يكمل السير في خطته على ثلاثة محاور طالما لمح
وصرح بها خلال الأشهر الفائتة:
أولها: إنهاء مهمة الشرطة الفلسطينية، بكسر أذرعتها ونزع أسلحتها؛ ليجد
الفلسطينيون أنفسهم في العراء بلا حماية دولية أو عربية أو فلسطينية.
ثانيها: تغييب أو تغيير القيادة الفلسطينية رغم هوانها حتى لا يجد
الفلسطينيون من يأمر أو ينهى أو يوجه حتى إشعار آخر إلا إدارة الاحتلال.
ثالثها: تدمير البنية الاقتصادية في الحياة الفلسطينية؛ حتى يجد الفلسطينيون
أنفسهم في حياة أشبه بحياة إخوانهم في المخيمات؛ فيتمنوا أن يتركوا الخوف
والجوع في فلسطين إلى الجوع فقط خارج فلسطين.
ماذا بعد..؟
إن ما يجري هو جريمة كاملة، ومرحلة جديدة من مراحل إذلال أمة الإسلام
يشهدها جيلنا، وهذا يحتم علينا نحن المسلمين عامة والإسلاميين خاصة أن نقف مع
أنفسنا ومع أمتنا الوقفات الآتية:
أولاً: التفاعل مع قضايا الأمة لا يزال دون المستوى، ولا تزال مواقفنا
محكومة بردود الأفعال لا الأفعال، نسخن بسخونتها ونبرد ببرودها، ولا تزال أكثر
الأمة قابعة في غُرف الانتظار، بانتظار ما لا يأتي، وكأن كلاً منا على موعد مع
(صلاح الدين) ! يرجئ كل شيء حتى لا يضيع الموعد معه! ! يا أخي: كن أنت
صلاح الدين، أعدَّ أنت صلاح الدين، تعاون أنت مع صلحاء الدين، وهم في
الأمة اليوم أكثر منهم في عهد نور الدين.
ثانياً: من الواجبات ما لا يقبل التأجيل؛ فإن لله تعالى عملاً بالليل لا يقبله
بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وأهلنا اليوم في فلسطين في رباط وعلى
ثغر، يخافون العدو ويخيفونه، وإذا تصورنا أن رباطهم واجب عليهم فقط في هذه
الظروف، فنحن لم نفقه ديننا، ولم نؤد ما علينا، ومن لم يقف اليوم مع إخوانه في
محنتهم وشدتهم، فلن يجد غداً من يقف معه في محنته وشدته في الدنيا أو في
الآخرة.
ثالثاً: نتعذر بالمسموح وغير المسموح، والمستطاع وغير المستطاع، وقد
علم الله أن المسموح أضعاف أضعاف غير المسموح، والمستطاع أضعاف أضعاف
غير المستطاع، وحتى غير المسموح وغير المستطاع نستطيع لو أردنا أن نجعله
مسموحاً مستطاعاً، لو جعلناه هماً شخصياً لنا؛ فكم في حياتنا الشخصية مما لم يكن
مستطاعاً فشققنا طريق الاستطاعة إليه، وكم مما لم يكن مسموحاً انتزعنا السماحة
به، ومع ذلك سيظل هناك ممنوع أو غير مستطاع من واجبات الدين، فلنحوله إلى
نية صالحة بانتظار التيسير، فنية المرء إذا صدقت خير من عمله.
رابعاًَ: لا حدود للخير في هذه الأمة، على الرغم مما يفتح عليها من أبواب
الفتن وما يلاحقها من المحن، وقد رأينا ذلك في بطولات الرجال والنساء والأطفال
في فلسطين والشيشان وأفغانستان، حيث ذكَّرنا هؤلاء بطولات لم نكن نراها إلا
في كتب السير والتراجم، ما كنا نتصور أن تنبعث في عصرنا خنساء تقدم على
تشييع ولدها وفلذة كبدها وهو ذاهب للشهادة مفتخرة به وداعية النساءَ كي يقتدين بها،
وما كنا نتخيل أن تخرج من أرحام الوهن في عصرنا فتيات.. نعم فتيات..
يعلمن الرجال أن لهذا الدين نساء بعشرات الرجال، صدقن ما عاهدن الله عليه
فمنهن من قضت نحبها، ومنهن من تنتظر، ما كنا نتصور أن يخرج (ملايين)
من الشباب بالرغم من كل ما يراد بالشباب ليطالبوا في مظاهرات صاخبة في بلدان
عربية وإسلامية بفتح باب الجهاد إلى فلسطين.
خامساً: يحز في النفس أن هذا الخير في الأمة لا يجد من يوظفه ولا من
يوجهه، ولكنه يجد من يُلقي عليه القنابل المسيلة للدموع ويطارده بالهراوات
والمصفحات، وكأن (العساكر) في بلاد المسلمين لم تعد لهم وظائف إلا إحدى
وظيفتين: قتال الإخوان في الدين، أو الدفاع عن أعداء الدين. إن هذا يضاعف
المسؤولية على رجال الدعوة في هذه الأمة لاستنفار كل الجهود لرعاية هذا الخير
الموجود في الأمة وحمايته من (حَمَلَة الهراوات) .
سادساً: ويحز في النفس أيضاً، أن عاطفة المسلمين وحماستهم لا يزال
يداخلها دَخَنُ العهود الثورية؛ فالذين خرجوا بالآلاف وهم يحملون صور (عرفات)
على كل ما عُرف عنه وظهر منه، ذكَّرونا بمن خرجوا بالملايين يحملون صور
عبد الناصر ويهتفون بحياته بعد هزيمته بأيام، وهذه الظواهر تجعلنا نتريث في
تقويم حال الأمة ولا نعمم بالنماذج الجزئية ولا ننخدع بكل المظاهر؛ فليست كل
بيضاء شحمة، ولا كل سوداء فحمة.
سابعاً: العاطفية المدفوعة بآثار اللحظة ليست مقصورة فيما يبدو على العامة
والبسطاء؛ فقد رأينا إسلاميين في فلسطين وخارجها يريدون أن يجعلوا من عرفات
بطلاً، ونحن لا نصادر حق أحد في البطولة أو الترشيح لمسابقات البطولات،
ولكنا أبداً لا ينبغي أن نساهم في خداع الأمة بإعادة تصنيع المزيد من الزعامات
المزيفة، كفانا الزعيم أتاتورك وعبد الناصر وصدام، و.... عادل إمام!
ثامناً: من حقنا على رموز الباطل أن نسألهم: لماذا تسطون في كل مرة على
ما ينجزه رجال الحق فتركبون موجته وتقطفون ثمرته؟ ! إننا نعجب من قدرة
المبطلين على الخداع والتمويه والكذب! هل لاحظتم معي هذه المهارة الفائقة في
(تجيير) عرفات ثمرات الانتفاضة لصالحه ولصالح رجاله؟ ! هل لاحظتم أنه يكرر
اليوم ما سبق أن فعله في الانتفاضة الأولى التي ركبها وهو في تونس ثم دفنها وهو
في غزة؟ ! إن عرفات الذي قتل واعتقل خلال سبع سنين مضت العشرات بل
المئات من إخواننا المجاهدين في فلسطين لصالح (الأمن الوقائي) لليهود؛ لا
يجوز لنا ولا يليق بنا أن ننساق وراء مسعاه في مواصلة مسخ القضية الكبرى بمزيد
من الصيغ العلمانية وصبغها الملوث.
وأخيراً:
ليست الصورة محصورة في المصير الذي ينتظر عرفات وسلطته [7] ؛
ففلسطين موجودة قبل عرفات وبعده، ورجالها موجودون قبل السلطة وبعدها.
ونحن على يقين بأن أيام الصبر التي يعيشها أهل فلسطين ستلد أيام الفرج لهم
وللأمة جمعاء بإذن الله؛ فرغم قتامة وعتامة المشهد الذي نعيشه فإن هناك زخات
من تباشير الأمل:
- نراها في تنامي الوعي الإسلامي داخل فلسطين، بحسب ما يحكيه القادمون
من أرض الرباط.
- ونراها بأعيننا فيما تنقل بعضه وسائل الإعلام من بطولات شعب جدير بأن
يُحترم، وجدير بأن يُعان ويُكرم، وجدير بأن ينتظر منه الخير ويثمر فيه المعروف.
- ونراها في بدايات تحول (الانتفاضة) الشعبية إلى سلوك الجندية المتطورة
بإذن الله إلى جهاد شرعي حقيقي موعود بنصر الله، [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
- ونراها في تحقق أمل طالما طالب به المطالبون وتظاهر لأجله المتظاهرون
وهو: فتح الحدود للمجاهدين ... فبشرانا اليوم أن فتح الله للمجاهدين حدود
فلسطين من الداخل، فقد كنا نتمنى إمدادهم بالمجاهدين من الخارج؛ فإذا بهم
يتحولون أسوداً في الداخل، فجهادهم اليوم قائم وعددهم في تزايد، وسلاحهم في
تطور، وبذلهم وتضحياتهم في انتظار من يريد أن يشاركهم أجر الجهاد والرباط.
- ونرى تباشير الأمل في إثخان المجاهدين في أعداء الله على مسمع ومرأى
من العالم، حتى ساؤوا وجوههم وأشاهوا سحنهم على وجه لم يسبق في تاريخ
الحروب العربية الإسرائيلية، التي كان اليهود فيها يقاتلون وهم يرقصون
ويضحكون، وهم يدمرون الطائرات في المطارات قبل أن تطير، ويقتلون
المقاتلين في التحصينات قبل أن يخرجوا.
- ونرى هذه التباشير في أول حالة رعب عام تدب في صفوف الشعب
المحتار بين طوارئ أمريكا وعمليات (إسرائيل) ، فيذهب نحو 800.000 ألف
يهودي منهم بتقديم طلبات هجرة إلى أمريكا فترفض طلباتهم! !
- ونراها: في إفلاس كل الطروحات غير الإسلامية في معالجة القضية، بما
يفسح المجال لمستقبل قوي للعمل الإسلامي في الأرض المقدسة وغيرها، لا
يستطيع المزايدون أن يزايدوا عليه بالشعارات الكاذبة والوعود الزائفة.
- ونراها في تزايد معرفة الناس بعامة، والملتزمين منهم بخاصة بجوانب
كثيرة كانت مجهولة إلى وقت قريب مما يتعلق بالقضية المركزية الأولى، وهذا
يرشح إلى مزيد من التفاعل، ومزيد من التخصص في جوانب من أداء الواجبات
المتعلقة بها.
- بل إني أرى من وراء شرور شارون خيراً مقبلاً، يتمثل في بواكير
تأسيس (الجبهة الشرقية) التي أخبر عنها نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم
عندما قال: «تقاتلون اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربيه» ؛ فَدَفْعُ الإسرائيليين
للفلسطينيين المستمر منذ حرب النكبة ثم حرب النكسة من الضفة الغربية إلى الضفة
الشرقية، قد أنشأ أجيالاً وسينشئ أخرى تعيش على أمل الدخول المظفر باتجاه
الغرب، بعد أن يلحق بهم في المستقبل القريب بإذن الله أبدال الشام، وعصائب
العراق، ونجباء اليمن، وأبطال الجزيرة ومصر وإفريقيا وآسيا.
هل نحن نحلم؟ ! لا والله! فقد وُعدنا بالغلبة على اليهود وأعوان اليهود،
ولكنا كُلِّفنا قبل الوعد بموجبات الوعد: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: 55) .
وليكونن من ذلك ما شاء الله أن يكون، ولتعلمن نبأه بعد حين.
__________
(1) إرئيل في العبرية معناها: أسد الله فقاتل الله أسد الشيطان شارون، وسلط عليه أسداً من أسود فلسطين!
(2) صرح بذلك في مقابلة مع صحيفة (ذي غارديان) البريطانية.
(3) تعهد جورج بوش في برنامجه الانتخابي بإنجاز هذه الخطوة المؤجلة، وكان الكونجرس الأمريكي قد سن قانوناً في عام 1995م يقضي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، لكن كلينتون أرجأها مرتين، ثم حل الموعد الجديد في شهر ديسمبر 2001م، فأرجأها بوش مرة أخرى لكنه قال في مذكرة الإرجاء إنه ما زال ملتزماً بتنفيذ هذه الخطوة.
(4) منصب رئيس الدولة في (إسرائيل) منصب شرفي، أما المنصب الفعلي العملي فهو منصب رئيس الوزراء، مثلما هو الحال في بريطانيا، مع فارق أن النظام في بريطانيا ملكي.
(5) انظر: (مكان تحت الشمس) لبنيامين نتن ياهو، ص 281.
(6) الدولة اللبنانية دولة طاردة لا جالبة للسكان، فتعداد اللبنانيين في الداخل أربعة ملايين، وتعدادهم في الخارج 12 مليوناً، ويخاف النصارى هناك أن يحل المهاجرون الفلسطينيون للداخل محل المهاجرين اللبنانين للخارج.
(7) حتى كتابة هذه السطور في 20/1/1423هـ، لا يزال عرفات محصوراً في غرفته، مع أنباء عن احتمال نفيه للخارج، ولكن الذي نعتقده؛ أن شارون لن يسمح له بأن يكون بطلاً في كل الأحوال.(174/46)