المسلمون والعالم
الموساد هل يزج بالولايات المتحدة في أتون حرب عالمية؟
د. سامي محمد صالح الدلال
كان من العجائب القدرية أن يتم تصوير الحدث المروع في نيويورك ويبث
تلفزيونياً على الهواء مباشرة وكأنه عرض لفيلم سينمائي؛ مما وسَّع وعمَّق دائرة
رد الفعل الشعبي الأمريكي الذي أصيب بالصدمة الصاعقة، فهاج وماج الناس
وعلاهم الخوف ودبَّ في نفوسهم القلق، مع ما صاحب ذلك من الحزن العميق على
الأرواح المزهوقة تحت الأنقاض.
وفيما كان ملايين الأمريكيين يتابعون الحدث الجلل كانوا يستذكرون ما تردده
وسائل الإعلام عادة من إلصاق مثل هذه الأعمال بالمسلمين والعرب، فاسترجعوا
ذلك كله دفعة واحدة، وقالوا: (لقد فعلوها) . هكذا بدون برهان ولا بينة؛ وفي
خضم هذه الأمواج المتدفقة والمتلاحقة تعالت الصيحات من كل مكان للانتقام والأخذ
بالثأر، ولكن من هم هؤلاء الذين يجب أن ينتقم منهم ويثأر من فعلهم؟ ! !
وبما أن الاتهام لأول وهلة توجه نحو المسلمين البالغ عددهم داخل الولايات
المتحدة سبعة ملايين؛ فقد سارعت المنظمات والمراكز الإسلامية إلى إعلان إدانتها
الشديدة للحدث الرهيب، وقد سارع إلى ذلك مجلس التنسيق السياسي الإسلامي
الأمريكيMPACC الذي يضم في عضويته المنظمات المسلمة الأمريكية الأربع،
وهي: مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (CAIR) ، والمجلس الإسلامي
الأمريكي (AMC) ، ومجلس الشؤون العامة الإسلامية (MPAC) ، والاتحاد
الإسلامي الأمريكي (AMA) ، وقد أصدر مجلس التنسيق بياناً، ومما جاء فيه:
«مسلمو أمريكا يدينون بشدة ما يبدو كأنه حادث إرهابي آثم وجبان ضد المواطنين
الأبرياء، نحن نتضامن مع كل الأمريكيين في المطالبة بالقبض السريع على الجناة،
ليس هناك هدف سياسي يسوِّغ هذا العمل الخبيث» .
غير أن ذلك لم يكن مقنعاً أو كافياً؛ إذ إن حدثاً بهذا الحجم لا يطفئ غيظ
المصابين به مجرد بيان يسطَّر على ورقة واحدة، فلا بد من الانتقام من جهة ما
يمكن أن يوقع فيها أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى، كتلك الأعداد التي نجمت عن
هذا الحدث الهائل.
أين الـ CIA (وكالة المخابرات الأمريكية) والـ FBI (مكتب التحقيقات
الفيدرالي) ؟ ! !
لقد شعر الأمريكيون بتغيظ شديد وحنق فظيع إزاء أداء الـ CIA و FBI،
لقد أخفقت هاتان المؤسستان الاستخباريتان، ليس في اكتشاف الحدث قبل وقوعه
فحسب، بل في توقع حصوله أصلاً، والواضح أن أبصارها وأسماعها قد صرفت
تماماً عما يدبر في داخل أمريكا، في حين انفتحت بكليتها على تتبع كل ما يحصل
في خارجها، وعجَّ الأمريكيون بالاحتجاجات على هاتين المؤسستين اللتين أشاعتا
أنه ما من مكالمة هاتفية تتم عبر الهواتف المعتادة أو النقالة، وما من رسالة ترسل
بالفاكس أو عبر الإنترنت، سواء في داخل الولايات المتحدة أو في أية بقعة في
العالم إلا وهي مرصودة عندهم، ومسجلة نصوصها في أجهزتهم؛ فكيف والحال
هذه تخفق هاتان المؤسستان الاستخباريتان الضخمتان في رصد هذا الحدث الذي لم
يقع في منتصف الليل البهيم بل وقع في إشراقة الضحى الجميل، وليس أي حدث،
بل حدث هائل لم يشهد العالم له مثيلاً على مر العصور، والذي لا يشك عاقل في
أن التخطيط له قد استغرق سنوات، وتراتيب تنفيذه قد مرت تداولاته آلاف المرات
عبر الهواتف والفاكسات؛ ففي أي فندق خمسة نجوم كانت ترقد الـ CIA
وFBI؟ !
فإذا كان الحال على هذا النحو فهل حقاً أن الـ CIA و FBI قد أخفقتا في
الحصول على المعلومات، أم أنهما مخترقتان؟ ! ! تحليلنا الآتي قد يوصل للإجابة.
مَنْ وراء الحدث؟ ! !
إن الفاحص المحايد للحدث المروع الذي وقع يجد أنه يتكون من العناصر
الآتية:
1 - تحديد الهدف الأولي بدقة بارعة، وهو ضرب برجي التجارة العالمي
ومبنى البنتاجون.
2 - دراسة متأنية للتفاعلات المحتملة بعد تحقيق الهدف وتوجيهها وتوظيفها
لصالح الهدف النهائي.
3 - وضع خطة تفصيلية محكمة لتنفيذ كلا الهدفين الأولي والنهائي تتضمن
جميع العوامل الاستخباراتية اللازمة.
4 - اختيار الجهاز التنفيذي القادر على تحقيق الهدف الأولي وتدريبه تدريباً
عالي الكفاءة؛ بحيث يضمن بالتأكيد تحقيق الهدف الأولي. إن الجهاز التنفيذي
المقصود يمثله الذين شاركوا في الأعمال التجهيزية والتدريبية ثم الذين شاركوا في
عمليات خطف الطائرات المدنية بما فيهم الطيارون الذين قد خضعوا لتدريبات
خاصة، كل بحسب نوع الطائرة التي سيقودها إلى هدفها بعد الخطف. أما الذين
سيكون لهم شأن في الأعمال التكميلية بعد ذلك، فهؤلاء لم نرهم على الساحة بعد،
ولا ندري ماهية أعمالهم التكميلية؟ إلا أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين أشارت
إلى تلك الأعمال، وقد تبين من الدقة التي تم بها تنفيذ الهدف الأولي أن الذين
خطفوا الطائرات قد تدربوا على أداء أدوارهم التفصيلية بشكل ممتاز، تماماً كما
يتدرب الممثل المسرحي على أداء دوره فوق خشبة المسرح أمام جمهور المتفرجين.
5 - إن الذين أوصلوا تنفيذ الخطة إلى مرحلتها النهائية في هدفها الأولي هم
أصحاب نفوذ ومراكز حساسة، وموزعون في مرافق كثيرة على مستويات عدة في
مختلف الإدارات الأمريكية؛ حيث استطاعوا، بعلمهم أو بدون علمهم، أن يوفروا
التسهيلات المطلوبة لمثل هذا العمل الضخم والكبير جداً.
6 - بما أن الخطة ذات طابع انتحاري فإن الذين وضعوها أخذوا ذلك بعين الاعتبار
فوظفوا لصالح تنفيذ خطتهم من هو مستعد للموت دون مبادئه وشعاراته.
والذي يدل على عدم ارتباط هذا التنظيم بتنظيم القاعدة أمران:
الأول: إخفاق الـ CIA والـ FBI في تقديم أي دليل مادي يربط المنفِّذين
بتنظيم القاعدة.
والثاني: أن أسامة بن لادن أصدر بيانات ينفي فيهما علاقته بما حدث،
وسنأتي لاحقاً على تفصيل الحديث عن ذلك.
يغلب على الظن أن الذين وراء هذه العمليات، هم منفذون من داخل الولايات
المتحدة، فإن الذين نفَّذوا العملية هم الجماعة الذين نسفوا المجمع التجاري في
أوكلاهما بتاريخ 19/4/ 1995م، عن طريق (تيموثي ماكفاي) ، وهذه الجماعة
هي واحدة من مئات الجماعات والميليشيات المنظمة في الولايات المتحدة، والذين
يقدر عددهم بما يزيد عن مائة ألف مواطن أمريكي، ويؤكد تقرير صدر
عام 1998 م عن مركز «ساوثرن بوفرتي لوسانتر» الأمريكي المستقل
والمتخصص في مراقبة التحركات المعادية للسلطة أن المجموعات التي تحرض
على الحقد (تحمل أسماء مثل: النازية الجديدة، فروة الرأس، المدافعون عن العرق
الأبيض، الهوية النصرانية) ارتفع ما بين عامي 1996، 1997م بنسة 20%
ليصل إلى 500 مجموعة تضاف إلى 850 مجموعة أخرى، منها 400 ميليشيا
مسلحة منتشرة في أرجاء البلاد، ويقول التقرير إن عدد التحقيقات التي أجراها
جهاز الاستخبارات الفيدرالي FBI خلال ثلاث سنوات من عمليات الإرهاب
الداخلي ارتفع من 100 إلى أكثر من 900 تحقيق، ويؤكد (مارك بوتوك)
مسؤول المركز المذكور أن معدل المؤامرات الإرهابية الجوية يبلغ واحدة كل شهر،
وتتعلق هذه المؤامرات بعمليات نسف جسور أو مبان، أو اغتيال شخصيات
رسمية، أو اقتحام قواعد عسكرية، أو سرقة مصارف. وفي 18/3/ 1998م ألقت
قوات الأمن القبض على ثلاثة أشخاص تابعين لميليشيا ميتشيجن أخطر الميليشيات
المسلحة وهم يخططون لتفجير مبان فيدرالية ومحطة تلفزيون وأحد الجسور الكبيرة،
وخلال الأسبوع نفسه أعلنت السلطات الفيدرالية عن سرقة طن كامل من
المتفجرات في مدينة سليجو شمال شرق بنسلفانيا، ويقول (ميتشيل هاميرز) أحد
خبراء الجامعة الأمريكية في واشنطن: إن الإرهاب الداخلي يشكل تهديداً متزايداً،
وهو أكثر تنظيماً في أوساط الميليشيات. إنهم لا يستعملون فقط قنابل بسيطة كتلك
التي استخدمت في أوكلاهوما سيتي، ولكن مخازنهم تتضمن أسلحة دمار أكثر
تطوراً من الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية [1] .
وقد أشار مفرح سعود النومس صاحب كتاب «التهديد النووي في الإرهاب
المستقبلي» في ص 183 إلى ما قاله (جون نوكلز) الرئيس السابق للمختبر
الوطني الأمريكي الشهير (لورنس ليفرمول) في حديث له أمام لجنة الدفاع في
الكونجرس الأمريكي، إنه باستطاعة الإرهابيين شراء رأس نووي من السوق
السوداء التي اتسعت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ووضعه في سيارة متوقفة قرب
مركز التجارة العالمي وولد ترايد سنتر في نيويورك مع جهاز توقيت لغرض
إرهاب نووي، وقد أيده في تلك الأفكار (روبرت كوبر) من المتخصصين في
السلاح النووي، والعامل في المختبر المنافس (لوس الالموس) ، وقد استوحى
المؤلف غلاف الكتاب من هذه المعلومة؛ حيث يمثل مشهداً من منهاتن يختفي فيه
برجا مركز التجارة العالمي بخلفية انفجارية [2] .
والسؤال الذي يجب أن تسأله الإدارة الأمريكية لنفسها هو: ألا يحتمل أن
تكون هذه الجماعات والميليشيات المدربة والمسلحة والمنظمة وراء الحدث
المريع؟ ! ! لماذا إذن لا تُوجه أصابع الاتهام لها؟ ! ألأنها جزء من الدولة بموجب
الدستور الأمريكي الذي ينص في تعديله الثاني على أن «وجود ميليشيا
منظمة أمر ضروري لتأمين حرية كل ولاية» ، والذي يعني أن الدستور
الأمريكي مظلة رسمية لإرهاب هذه الجماعات والميليشيات؛ ولذا يغض
الطرف عنها؟ !
7 - توفير التمويل اللازم لمثل هذا العمل الذي يبدو أن الإعداد له قد استغرق
مدة طويلة ربما تكون سنوات. وهذا يعني أن الرصيد المالي للجهة التي وقفت
وراء هذا العمل هو رصيد كبير جداً يوفر الاحتياجات المالية بدون حدود.
تلك هي العناصر السبعة الرئيسة الكامنة وراء تنفيذ ذلك الحادث الرهيب.
إن المتمعن في تلك العناصر يرى أنها لا يمكن أن توفرها في المنظور المعتاد
أية دولة أو أي تنظيم خارج الولايات المتحدة فتتوجه إليه وتقوم بضربه بآلتها
الحربية الجبارة.
إن هذه العناصر لا تتوفر غالباً إلا لجهة واحدة فقط، هي جهاز الموساد
الإسرائيلي، ذلك الجهاز الذي شعاره الغاية تسوِّغ الواسطة، فهو في سبيل الوصول
إلى هدفه النهائي لا يهمه كم من ألوف الأرواح أزهقت، أو في أي واد تلك الأجساد
هلكت أو أحرقت؟ ! وقد كان اليهود في البلدان العربية إبان حث اليهود على
الهجرة إلى فلسطين في الأربعينيات يضعون القنابل في المقاهي التي يرتادها اليهود
ثم يتهمون المسلمين بوضعها، وقصدهم من ذلك إخافة اليهود ودفعهم إلى الهجرة،
وقد أظهر هذا الحدث المروع أن تغلغل جهاز الموساد الإسرائيلي في داخل بنية الـ
CIA و FBI هو تغلغل محكم ومستشر ومنتشر كانتشار الشرايين والأوردة في
جسم الإنسان، بل هو متلبس به كتلبس الجني بجسد الإنسي؛ حيث ينطق الجني
مستخدماً لسان الإنسي، أي ينطق جهاز الموساد مستخدماً لسان الـ CIA و FBI
وما أريد أن أصل إليه أن ما سأذكره الآن ولاحقاً كله أو غالبه على لسان CIA
وFBI هو في حقيقته صادر من قِبَل الموساد، فماذا قالت الـ CIA، FBI بمجرد
وقوع الحدث؟ !
قالوا: إن مثل هذا الحدث لا يقوم به إلا العرب والمسلمون. ثم بعد أربع
ساعات ضيقوا المساحة وقالوا: إن هذا الحدث لا يمكن أن يقوم به إلا أسامة بن
لادن، لكن الذي يتحمل المسؤولية الحقيقية هو من يأويه على أرضه وهم طالبان
أفغانستان؛ إذن المسؤولية تقع عليهما معاً: أسامة والطالبان! !
هكذا قبل أي تحقيق أو الحصول على أية معلومات؛ فماذا يعني ذلك؟ إنه
يعني التمهيد المباشر وتوظيف الحدث فوراً لصالح توجيهه نحو الهدف النهائي، لقد
حددوا المتهم أولاً، ثم تسرعوا في جمع الأدلة التي جاءت فيما بعد تصب كلها في
إثبات التهمة الملفقة.
وحدث الكثير من التخبط والتسرع لأجل تمرير صحة نسبة هذا العمل لتنظيم
القاعدة؛ فهل من المعقول لدى ذوي الحجا أن ينفّذ طيارون عملية بهذه الدقة
والمهارة تلقوا علمهم في الطيران من كتيبات قرؤوها في مواقف المطارات، ثم
تركوها في أماكنها؛ لأنهم متعجلون ركوب الطائرة وقيادتها بعد خطفها؟
ولقد عجب كل العقلاء في العالم من هذا الاتهام؛ حيث إن هذا العمل المخطط
والمنظم والممول هو أكبر بكثير وكثير جداً من إمكانات ابن لادن المحاصر في
بعض فيافي أفغانستان أو كهوفها، والمجرد حتى من وسيلة الاتصال بالهاتف النقال،
والذي هو تحت الرصد المستمر والمتابعة الدائمة من قِبَل عملاء جميع أجهزة
المخابرات الدولية ووكلائهم، وأولها الـ CIA و FBI لتحديد مكانه بالضبط لتتم
تصفيته وقتله. وهكذا نجح الموساد عن طريق أجهزة الإعلام في شحن نفوس
الأمريكيين بشكل مريع للضغط على الحكومة الأمريكية وخاصة الرئيس بوش ليأخذ
بثأر قتلاهم وينتقم لهم من الطالبان ومن ابن لادن أشد الانتقام وأقساه وأبطشه، ولقد
بلع بوش وحكومته وأعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ، بلعوا جميعهم هذا الطعم
الموسادي وشرعوا في طريق المواجهة الكبرى، رغم أنه قد استفاضت الأخبار بأن
أعداداً كبيرة من اليهود العاملين في مركز التجارة العالمي لم يتوجهوا إلى أعمالهم
في ذلك اليوم؛ حيث قيل إن ذلك كان بناء على إيعازات جاءتهم؛ مما أثار شكوكاً
لدى مسؤولين حكوميين أمريكيين يريدون معرفة كيف علم هؤلاء بنبأ الهجمات قبل
وقوعها. ذكرت ذلك صحيفة البيان الإماراتية وقناة المنار الفضائية اللبنانية، وقد
أكد ذلك الأستاذ أحمد منصور في مقابلة أجراها في برنامجه «بلا حدود» مع أستاذ
في السوربون، بثتها محطة الجزيرة الفضائية بتاريخ 19/9/2001م، وأضاف أن
زيارة لأمريكا كانت مقررة لشارون قد تم تأجيلها في آخر لحظة قبل الحادث.
هذا، وقد تم القبض على مصورَيْن من اليهود كانا في مكان الحادث لحظة
وقوعه، وقد أفرج عنهما لاحقاً بعد التحقيق معهما، وذلك بكفالة من عمدة نيويورك.
أهداف الموساد إذا كانوا وراء الحدث؟
لا شك أن مصالح كبيرة وأهدافاً عظيمة يمكن أن يجنيها اليهود من وراء
العملية التفجيرية المدمرة، ومن أهمها مايلي:
1 - إيجاد ظروف دولية خطيرة تشغل الرأي العام الدولي عن المجازر
الهمجية التي تقوم بها حكومة الكيان اليهودي بزعامة السفاح شارون بغية وأد
الانتفاضة.
2 - إشغال الرأي العام العالمي بوقائع كبيرة، كحرب عالمية أو ما كان في
حكمها تصرفه عن الاهتمام بحدث مثل هدم المسجد الأقصى الذي تخطط إسرائيل
لهدمه خلال المرحلة القادمة وأثناء الحرب المتوقعة.
3 - إقامة الهيكل المزعوم على أنقاض الأقصى.
4 - إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام لتنفير العالم منه، وللحد من انتشاره.
5 - تدمير الطالبان وتقويض الدولة الإسلامية في أفغانستان.
6 - تهيئة ظروف في مرحلة ما من مراحل الحرب القادمة توجد فجوة أمنية
في باكستان تتمكن إسرائيل من خلالها من ضرب المفاعلات النووية الباكستانية.
7 - تقسيم العالم الإسلامي إلى كيانات متناحرة؛ وذلك بسبب اختلافها في
الموقف من الحرب القادمة المخطط لها.
8 - إيجاد ظروف مناسبة لشن عدوان واسع النطاق على سوريا ولبنان،
وتهجير سكان الضفة الغربية إلى ما وراء نهر الأردن، وأهداف أخرى كثيرة يمكن
أن نذكرها، ولكن نتجاوز عنها اختصاراً.
إشعال الحرب العالمية الثالثة هدف يهودي لتحقيق النبوءة:
يرتبط الفكر اليهودي في عودة المسيح بقيام الحرب العالمية الثالثة حيث يهدم
الأقصى ويقام الهيكل على أنقاضه، وذلك بعد انقضاء الألفية الثانية وعند ابتداء
الألفية الثالثة، وذلك حينما تبدأ الأيام الأخيرة، حيث تتمثل في إقامة قيامة صغيرة
تهيئ للقيامة الكبرى، وتأويل هذا يجيء بإشعال حرب مدمرة تهلك فيها غالبية
سكان الأرض.
تقول التوراة التي عندهم: «في الأيام الأخيرة، عندما تتجمع إسرائيل من
الأمم، سوف تتسبب في أمر ما سوف يحدث، إني سوف أضع صنارة في أفواه
القوى المؤتلفة» . وجاء في التلمود: «قبل أن يحكم اليهود نهائياً، لا بد من قيام
حرب بين الأمم، يهلك خلالها ثلثا العالم» [3] .
إن الجميع يعلم أن اليهود يخططون لهذه الحرب وفق هذه النبوءات ليخرجوها
إلى أرض الواقع، وها نحن قد رأينا كيف وظفوا هذا الحدث ليشعلوا الحرب
الضروس ليحققوا بها النبوءة.
رد الفعل الرسمي:
لا شك أن الإدارة الأمريكية قد أُخذت على حين غرة، وفوجئت بالحدث،
وحجمه، وطريقة تنفيذه، ونتائجه المذهلة.
وقد عكست تصريحات الرئيس الأمريكي بوش حجم تأثره الشديد بما حصل،
فقال: «إن الولايات المتحدة تتعرض لكارثة وطنية من خلال هجمات إرهابية
واضحة، هذه لحظة صعبة للشعب الأمريكي» ، وقال: «لقد أمرت بإتاحة كامل
مصادر الحكومة الفيدرالية لمساعدة الضحايا وعائلاتهم، وإجراء تحقيقات شاملة
لمطاردة والعثور على أولئك الذين ارتكبوا هذه الأعمال» ، وقال: «لن يستمر
الإرهاب ضد أمتنا» .
وفي اليوم الثاني، أي الأربعاء، تصاعدت حدة التصريحات الأمريكية
مضيقة المساحة في اتجاه تهيئة الرأي العالم الدولي لتسويق قبول الهدف النهائي مع
ملاحظة التمهيد لذلك عبر تصريحات نارية؛ إذ قال بوش بعد اجتماعه مع فريق
الأمن القومي في البيت الأبيض: «الهجمات المتعمدة والقاتلة التي نفذت ضد بلادنا
كانت أكثر من عمليات إرهاب، كانت عمليات حربية» .
وفي اليوم الثالث من وقوع التفجيرات أي يوم الخميس تم الإفصاح رسمياً عن
الهدف النهائي، حيث قال باول في مؤتمر صحفي: «إن أسامة بن لادن هو
المشتبه به الرئيسي في الاعتداءات» . لكن اللافت للنظر حقاً أن هذا التصريح قد
جاء مبكراً وقبل الانتهاء من التحقيقات.
إذن منذ البداية، ومنذ اللحظة الأولى التي كان لا يزال فيها بوش في طائرته
محلقاً في الجو، صدر الحكم الرئاسي قبل أي تحقيقات، ووجهت التهمة لابن لادن
باعتباره المشتبه الرئيس ثم إلى حكومة طالبان.
والحقيقة أن الولايات المتحدة كانت قد وضعت خططها للقضاء على الطالبان
مسبقاً، وليست قضية ابن لادن إلا مجرد ذريعة للبدء في تنفيذ ما كانت قد عزمت
عليه. وجاءت التفجيرات الأخيرة لتكون فتيلاً لإشعال الأزمة.
أمريكا خططت للقضاء على الطالبان منذ شهور:
ليس من المعتاد أن تزج الدول الكبرى نفسها في أتون حروب كبيرة على
مستوى «العالمية» ، دون أن تكون قد حددت مسبقاً أهدافها ووسائلها، وفي حالتنا
هذه فإن قرار القضاء على طالبان بواسطة حرب هائلة تبدأ في أواسط أكتوبر
2001م قد تم إبلاغه لجهات عدة، منها باكستان. حيث ذكرت الـ BBC بتاريخ
19/9/2001م أن وزير الخارجية الباكستاني السابق صرح لها أن الولايات المتحدة
كانت تخطط لعملية عسكرية ضد ابن لادن وطالبان قبل وقوع التفجيرات، وقال إن
مسؤولين كباراً في الحكومة الأمريكية أبلغوه في منتصف شهر يوليو بأن الولايات
المتحدة ستتخذ إجراءات عسكرية ضد أفغانستان بحلول منتصف شهر أكتوبر،
وأنهم أبلغوه بالخطة أثناء انعقاد مؤتمر دول مجموعة الاتصال الخاصة بأفغانستان
الذي عقد في برلين تحت راية الأمم المتحدة، وأشار المسؤول الباكستاني إلى أن
الهدف الأوسع من تلك العملية سيكون إسقاط طالبان وتنصيب حكومة انتقالية من
الأفغان المعتدلين، من الممكن أن يتزعمها ملك أفغانستان السابق ظاهر شاه، وقال
إن واشنطن ستشن عملياتها من قواعد في طاجيكستان حيث يقيم عدد من
المستشارين الأمريكيين، وأن أوزبكستان ستشارك في العمليات وروسيا أيضاً،
وذلك قبيل سقوط الثلج في أفغانستان [4] .
ما ذنب أفغانستان؟
حتى كتابة هذه السطور أخفقت جميع الجهود الأمريكية في إيجاد أي دليل
يدين أسامة بن لادن أو الطالبان في وقوع انفجارات أمريكا؛ إذن لماذا يجب ضرب
الطالبان، وما هو ذنبها من وجهة نظر الإدارة الأمريكية الخاضعة لضغوط اللوبي
الصهيوني؟ !
إن طالبان ليست مذنبة ذنباً واحداً فحسب، بل هي غارقة في ذنوب كثيرة
حسب زعمهم! وهذه أهمها:
1 - حرصها على بدء تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل شمولي.
2 - إعداد جيشها من منطلق منظور إسلامي سواء في تحديد الأهداف أو
استخدام الوسائل.
3 - تركيزها الشديد على إعادة إعمار أفغانستان وتشييد بنيتها التحتية.
4 - تمردها، وعدم خضوعها للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
5 - مناصرتها للفلسطينيين وعداؤها لدولة الكيان اليهودي التي ترى الطالبان
وجوب إزالتها بالكامل واسترجاع فلسطين كلها من النهر إلى البحر.
إن كل واحدة من هذه «الذنوب» تعدُّ لدى أمريكا والغرب واليهود «كبيرة
من الكبائر» ؛ فكيف لو اجتمعت؟ ! إنها طامة عظيمة من وجهة نظرهم.
ولقد كانت أمريكا تطمع في إسقاط حكم الطالبان عن طريق الحصار الذي
فرضته عليها تحت مظلة الأمم المتحدة؛ غير أن ذلك لم يحدث رغم الأعداد الكبيرة
التي قضت نحبها بسبب هذا الحصار الجائر الذي أدى إلى سقوط آلاف الضحايا من
الأطفال والنساء والشيوخ، وتشرد مئات الآلاف ولجوئهم إلى باكستان وإيران
باحثين عن الغذاء والكساء والمأوى؛ حيث إن هذا الحصار قد تسبب في عدم تمكن
الطالبان من المسارعة في إعادة بث الحركة في البنية التحتية، وأعاق خطط التنمية
واستئناف الإعمار. ولعل الغرب وخاصة أمريكا، يراهنون على أن يثور الشعب
الأفغاني على الطالبان بسبب ذلك؛ غير أن هذا لم يحصل بل حصل ضده تماماً،
فصبر الشعب الأفغاني.
قررت الإدارة الأمريكية إعلان الحرب مستغلة ضغط هول الحدث بحد ذاته،
ثم تحت ضغط الجماهير الأمريكية الغاضبة، ثم تحت ضغط مجلس الكونجرس
والشيوخ؛ وبناء عليه ترأس بوش في يوم السبت 15/9/2001م مجلساً حربياً في
مقره الريفي في كامب ديفيد من أجل النظر في التخطيط لهذه الحرب التي يندفع
إليها على عجل لافت للنظر، ثم صرح بعد الاجتماع بتصريحات جاء فيها:
«سنشن حملة صليبية طويلة الأمد لتخليص العالم من فاعلي الشر» ، (قيل
إنها ستشمل ستين دولة) .
«مما لا شك فيه أن أسامة بن لادن هو المشتبه به الرئيسي» .
«إننا نخطط لعملية مدروسة وواسعة النطاق» .
«لن أقرر القيام بعمل رمزي» .
«ردنا يجب أن يكون شاملاً ومتواصلاً وفعالاً، سيكون ضرورياً تنفيذ
سلسلة عمليات حاسمة للقضاء على الإرهاب لا عملية واحدة» .
«إننا نطلب صبركم لأن الصراع لن يكون قصير المدى» .
«نطلب منكم أن تكونوا عازمين؛ لأن الصراع لن يكون سهلاً» .
«يجب أن تكونوا أقوياء لأن الطريق نحو النصر قد يكون طويلاً» .
«إن الصراع المقبل سيكون مواجهة من نوع آخر مع عدو من نوع آخر» .
«سنعثر على مرتكبي هذا العمل، ونخرجهم من أوكارهم، ونجعلهم يمثلون
أمام القضاء» .
«إن أي دولة تؤوي إرهابيين سوف تواجه غضباً عارماً من القوة العسكرية
الأمريكية» .
«من يعلن الحرب على الولايات المتحدة فقد اختار دماره» .
«لقد حان الوقت الآن لكسب أول حرب في القرن الحادي والعشرين بطريقة
حاسمة» .
قال بوش هذا الكلام معلناً ملامح المرحلة القادمة، وهو محاط بأركان حكمه
من أمثال نائبه ديك تشيني، ووزير خارجيته كولن باول، ووزير العدل جون
اشكروفت، ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس. لكن هذه الحرب الضروس
من ستطال بحسب الإعداد الأمريكي؟ إنها ستطال طرفين كما قالوا:
الأول: الدول التي تتبنى الإرهاب أو تحتضنه أو تدعمه.
الثاني: المنظمات الإرهابية في جميع أنحاء العالم: (أفغانستان، مصر،
إيران، العراق، فلسطين، الأردن، لبنان، السودان، تركيا، الفلبين، فنزويلا،
سريلانكا، بيرو، كولومبيا، فرنسا، أسبانيا، اليونان، اليابان) [5] .
وهذا يقودنا إلى التساؤل عن مفهوم الإرهاب لدى الولايات المتحدة حيث يبدو
واضحاً أنه خلاف مفهومه المعروف لدى الأمم المتحدة والذي هو استعمال غير
مشروع للقوة. فإسرائيل تمارس الإرهاب ضمن هذا التعريف في كل لحظة ورغم
ذلك فالولايات المتحدة راعية لها ومدافعة عنها وممولة لها، وإذا قامت الولايات
المتحدة بضرب أفغانستان دون تقديم دليل معترف به فإنه بموجب تعريف الأمم
المتحدة للإرهاب سيكون هذا العمل إرهابياً لأنه استعمال غير مشروع للقوة،
وأيضاً نقول: هل ستقوم الولايات المتحدة بضرب دولة مثل بريطانيا لكونها تؤوي
إرهابيين من دول أخرى وتمنحهم حق اللجوء السياسي، أو تضرب سوريا لكونها
تؤوي منظمات فلسطينية مصنفة على أنها إرهابية لدى الإدارة الأمريكية؟ !
أهداف أمريكا من الحرب:
ما هي المكاسب التي ترمي إليها الولايات المتحدة من هذه الحرب، وما هي
أهدافها منها؟ إنها كما يلي:
1 - إثبات التفرد الأمريكي في قيادة العالم بدون منازع.
2 - الحد من النفوذ الإسلامي في أفغانستان أو القضاء عليه من خلال إلحاق
هزيمة مدمرة بالطالبان.
3 - إيجاد موطئ قدم مؤثر للنفوذ الأمريكي في منطقة شرق آسيا يكون له
أثر واضح في تغيير موازين القوى في تلك المنطقة؛ حيث إن الوجود العسكري
الأمريكي سيكون على حدود الصين وإيران وبعض الجمهوريات الإسلامية المستقلة
عن الاتحاد السوفييتي السابق.
4 - منع قيام أي حكم إسلامي مستقبلاً في أية دولة من دول منطقة شرق آسيا
أو الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي أو التي تفكر بالاستقلال
عن روسيا كالشيشان وداغستان وغيرها.
5 - وضع عبرة شاخصة أمام كل من يريد أن يلحق أي ضرر بالولايات
المتحدة أو بمصالحها الحيوية أو بمنشآتها الاستراتيجية.
إلا أن هذه الأهداف لو تحققت فإنها لن تمنع استمرار الإرهاب الذي تحشاه
أمريكا، بل ستولد إرهاباً جديداً على طريقة حرب تلد حرباً.
مسار الحرب ونتائجها المتوقعة
لا نستطيع أن نجزم بمسار الحرب ولا بنتائجها، لكننا نحاول استشراف ذلك
من خلال المعطيات القائمة؛ ولعلنا نسوق ذلك على منحى النقاط الآتية:
1 - ستشن الجهات المعتدية هجوماً رهيباً وعنيفاً جداً ضد القوات الإسلامية
الطالبانية؛ وذلك باستخدام الطائرات المقاتلة، والقاذفة، وصواريخ كروز على
مدار أسابيع عديدة بغية تقطيع أوصالها وقطع خطوط اتصالاتها، وتشتيت تجمعاتها.
2 - ثم تقوم القوات البرية بمحاولة شق طريقها لاحتلال المدن الرئيسة وأولها
العاصمة كابل، وسوف تتكبد خلال ذلك خسائر فادحة جداً، وأغلب الظن أنها
ستخفق في احتلال أي مدينة كبيرة، مع ملاحظة أن تأمين أرض لانطلاق القوات
البرية بحاجة إلى موافقة باكستانية أو طاجيكية وتأمين خطوط إمداد لوجستية؛ وهذا
صعب جداً.
3 - ثم تستدعي المعارضة الأفغانية بقيادة برهان الدين رباني أو ظاهر شاه،
وتسلمه السلطة ضمن شروط ومعاهدات وتعهدات.
4 - ستستمر حرب الاستنزاف والعصابات لفترة غير معلومة نرجو أن تنتهي
بهزيمة ساحقة للقوات المعتدية كما انهزمت من قبلها القوات البريطانية مرتين في
القرن قبل الماضي ثم القوات الروسية في أواخر القرن الماضي.
5 - خلال ذلك فإن مصالح الدول المعتدية ستكون عرضة للخطر في كل
أنحاء العالم وخاصة الإسلامي.
وقد يؤدي ذلك إلى تغيُّر في الخرائط السياسية الدولية، وتبدل حاد في
التحالفات، وسقوط أنظمة وقيام أخرى.
__________
(1) مجلة المجتمع، 27 جمادى الآخرة، 1422هـ، الموافق 15/9/2001م، عدد رقم 1468.
(2) مجلة القبس، 3 رجب 1422هـ، الموافق 20/9/2001م.
(3) حمَّى سنة 2000، لعبد العزيز كامل، ص 158، 159، إصدارات المنتدى الإسلامي، 1420هـ.
(4) الوطن، حامد العلي، 5 رجب 1422هـ، 22/9/2001م.
(5) القبس، 2 رجب 1422هـ، 19/9/2001م.(168/117)
المسلمون والعالم
بدأت الحرب ولكنها.. بدون عنوان! !
حسن قطامش
في ظلام دامس لا يتبين فيه فرق كبير بين البشر والحجر، انطلقت القاذفات
والطائرات الحربية وصواريخ كروز الأمريكية تدك الأراضي الأفغانية.
ورأى العالم «غضب أمريكا الشديد» الذي وعد به «ديك تشيني» نائب
الرئيس الأمريكي انتقاماً لجرح الكبرياء المسفوح على الأراضي الأمريكية.
رسم الأمريكان لهذه الحرب مدى أفقياً بعيداً في الزمان والمكان والأعداء، وأرادوا
تقسيم العالم إلى معسكرين! ! معسكر مع أمريكا، ومعسكر.. ليس مع أمريكا،
ومن ليس معها فهو مع «الإرهاب» .
تثير هذه الحرب عدداً من الأسئلة والاستفهامات لعلها تصل بنا إلى استنتاجات
نفهم منها ماهية هذه الحرب:
في بيان إعلان الحرب قال جورج بوش: «اليوم نركز أنظارنا على
أفغانستان، ولكن المعركة أوسع، هناك خيار أمام كل أمة، ليس هناك منطقة
محايدة في هذا النزاع» .
وتبعه وزير الدفاع رامسفيلد بقوله: «في حين أن غاراتنا تركز على
أفغانستان، فإن هدفنا أوسع بكثير، والعالم يقف متحداً في هذا المجهود. إن
شركاءنا في هذا المسعى يمثلون أمماً وشعوباً من كل الثقافات والأديان والأعراق ...
وهذه لن تكون حرباً نظيفة! ! وآسف بأن أقول ذلك، وستكون حرباً عسيرة
محفوفة بالمخاطر، وهناك ترجيح بأن عدداً أكبر من الناس سيفقدون» .
ومع تسارع الأحداث وشدتها تبدو لكثير من الناس هلامية وضبابية الأهداف
الأمريكية في تلك الحرب، إلا أن الولايات المتحدة عودتنا على استغلال الأحداث
لمصالحها الاستراتيجية بشكل جيد.
وهذه الحرب الكبيرة التي «تعهد أصدقاء عظام مثل بريطانيا وكندا
وأستراليا وألمانيا وفرنسا بمشاركة قواتها في هذه المعركة، إضافة إلى أربعين دولة
في الشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا وآسيا منحت أمريكا حرية استخدام مجالاتها
الجوية أو حقوق الهبوط لطائراتها، إضافة كذلك للعديد من الدول التي وفرت
لأمريكا معلومات استخباراتية» .. في هذه الحرب لم يكن هذا الإجماع العالمي
المتنوع الثقافات والأعراق والأديان والذي لم يجتمع في الأمم المتحدة ولا مجلس
الأمن! ! لم يكن ليجتمع بهذه السرعة التي فاقت تجميع التحالف الدولي في حرب
الخليج الثانية، ولم يكن الدافع لهذا التداعي الكثيف سيف أمريكا أو ذهبها فقط، بل
كانت الأمور أشد تعقيداً وأكثر تآمراً من ذلك.
فحين أعلنت الحرب، أعلنها الرئيس الأمريكي صليبية بحتة، ومهما قيل إن
الكلمة كانت زلة لسان، فلا يمكن للمرء أن يغسلها من أدرانها، أو أن يقطعها من
جذورها النصرانية الغربية، أو لا يستدعي لها أخواتها من الأقوال والأفعال التي
تنوء بها سجلات العداء النصراني لدين الإسلام.
وإذا تجاوزنا هذه النقطة، وكنا من أصحاب «النوايا المعولمة» الحسنة
الظن بأمريكا، ونتساءل: أفهكذا يساق العالم إلى حرب أمام هدف مجهول..
مجهول التعريف، مجهول المكان، مجهول الزمان، مجهول التبعات؟ !
قالت الولايات المتحدة إن حربها ستشمل ستين دولة، وقالت إن الدول
الإرهابية التي ضمتها قائمتها للدول الراعية للإرهاب لا يتجاوز عددها أصابع
اليدين! ! فأين بقية الستين دولة؟ ! !
هذا.. وقد شكرت الولايات المتحدة تعاون بعض دول هذه القائمة في هذه
الحرب كإيران والسودان! !
وقالت الولايات المتحدة إن المنظمات والأفراد الذين أدرجوا أخيراً ضمن قائمة
الإرهاب، سبع وثلاثون منظمة وفرداً..؛ فأين بقية الستين هنا أيضاً؟ !
وكانت الولايات المتحدة حين أعلنت حربها على العراق لم تقل إن حربها ستشمل
أكثر من هذه الدولة، وبرغم ذلك ما زالت الحرب معها قائمة لأكثر من عشر
سنوات؛ فكم من الزمن تستغرق حرب أمريكا للستين دولة؟ ! ومتى تضع هذه
الحرب أوزارها؟
ثم نتساءل عن هذا «المريب» الأمريكي الذي يكرر كل يوم أن هذه الحرب
ليست ضد الإسلام، ولا تستهدف دين الإسلام، وليست بداية لصراع حضارات أو
ثقافات بين الغرب والإسلام: لماذا كل هذا النفي اللافت والمريب؟ ! سؤال بريء
من أصحاب النوايا.. المستريبة.
وأخيراً.. عندما وقعت الانفجارات في واشنطن ونيويورك فزع الأمريكان
إلى «كنائسهم» بداية من رؤسائهم إلى عامتهم يقيمون «القداس» الجنائزي.
وعندما أرسل جورج الجنود الأمريكان لضرب أفغانستان قال: «إن القائد الأعلى
للقوات المسلحة لا يرسل أبناء وبنات أمريكا في أرض غريبة إلا بعد أعظم قدر من
الحرص ومن..» الصلاة «شكراً لكم، وليواصل الله مباركة أمريكا» ! !
فأول هذه الحرب كان قداساً في كنيسة، ثم ثانيها إعلانها حرباً صليبية،
وثالثها بدء حرب بدعاء وصلاة صليبية.. فماذا نسمي تلك الحرب؟ !
سؤال لأصحاب النوايا الحسنة.(168/127)
المسلمون والعالم
قراءة في الموقف الباكستاني ضد طالبان
السيد أبو داود [*]
أصيب الشارع العربي والإسلامي بالدهشة والغضب من موقف الرئيس
الباكستاني برويز مشرف بالتعاون الكامل مع الولايات المتحدة في حربها المتوقعة
ضد أفغانستان بعد التفجيرات المروعة التي وقعت في نيويورك وواشنطن في
11/ 9/2001م، ونحن في هذه السطور سنحاول تحليل الأرضية التي اتخذ
الرئيس مشرف على أساسها هذا القرار؛ حيث إن وراء الموقف الباكستاني بُعداً
شخصياً للرئيس مشرف، وكذلك علاقات داخلية ساعدت عليه، وهناك أيضاً أمور
خارجية ضغطت في اتجاهه.
فبالنسبة للعامل الشخصي، فالتكوين العسكري الذي يغلب على الرجل جعله
يسقط من أول مكالمة تليفونية من البيت الأبيض، وغابت عنه العقلية السياسية
والاستراتيجية التي تقلب الأمور وتنظر في الدقائق والتفاصيل، كما أن القرار
ترجمة طبيعية لحالة رجل قام بانقلاب وعطل مؤسسات الدولة، فكان القرار قراره
ولا معقب له ولا ناقد، ولو كان الرجل يحتكم إلى دستور وقانون لأرجأ اتخاذ أي
موقف إلى حين الرجوع إلى مؤسسات اتخاذ القرار والرأي العام بمختلف قنواته.
تعقيدات الوضع الداخلي في باكستان:
الوضع الداخلي في باكستان تحكمه محددات أساسية جعلته وضعاً صعباً معقداً
ربما ضغط على الرئيس مشرف لاتخاذ قراره.
المحدد الأول: هو الانقسامات القومية الشديدة، فهناك أربع قوميات أساسية
موزعة على الأقاليم الباكستانية الأربعة وهي: إقليم البنجاب أكبر الأقاليم
الباكستانية، وتسكنه أغلبية بنجابية، والشيء نفسه بالنسبة لإقليم السند،
وبلوشتسان، وشيستان.
وقد استمد كل إقليم سماته من القومية التي تعيش على أرضه، ورغم مضي
أكثر من نصف قرن على تأسيس باكستان فإن البلاد لم تعرف انصهاراً كبيراً بين
قومياتها في إطار الدولة الجديدة، بل إن زعماء القوميات ينفخون في هذه
الانتماءات القومية لتحقيق المكاسب الانتخابية.
المحدد الثاني: هو مشكلة المهاجرين المسلمين القادمين من الهند التي أضافت
تحدياً جديداً للدولة، وقد نتجت عن الموجات المتتالية من المسلمين المهاجرين الذين
قدموا من الهند على أثر الاضطهادات الواسعة التي تعرضوا لها على أيدي
المتطرفين الهندوس، وما نجم عن ذلك من قتل أكثر من مليون مسلم في ذلك الوقت.
وقد استوطن هؤلاء المهاجرون الذين بلغ عددهم عدة ملايين إقليم السند
المتاخم للهند، وتمركزوا في مدينة كراتشي، وعاشوا مع سكان الإقليم في انصهار
ووفاق، إلا أن الطابع الإثني والقومي الذي توظفه النخبة السياسية الباكستانية كرافد
أساسي في بناء قواعدها الجماهيرية أخذ يتشكل بسرعة في صياغة علاقة متوترة
بين القوميتين، راح على أثرها آلاف الضحايا وسط إخفاق حكومي في احتواء هذه
المشكلة الخطيرة.
المحدد الثالث: هو البيئة الأمية الفقيرة التي تعيش فيها غالبية السكان،
فطبيعة المجتمع الباكستاني طبيعة إقطاعية وطبقية متجذرة، تكشف عن نفسها في
صورة فقر يضرب أطنابه في رقعة واسعة، وثراء فاحش في قلة قليلة، إذ إن ما
يقارب الثلاثين أسرة فقط تسيطر على غالبية الأراضي الزراعية في طول البلاد
وعرضها، والشيء نفسه بالنسبة للجانب الصناعي والتجاري بصورة تنحسر معها
أو تكاد الطبقة المتوسطة، ثم إن هناك حالة أمية تقترب من نسبة 75% من السكان
بما يعنيه ذلك من دلالات سياسية واجتماعية خطيرة.
والمحدد الرابع: هو المشكلة الطائفية الناتجة عن هذا التباين العرقي يضاف
إليها رؤى دينية شديدة التباين، فربما كانت باكستان البلد الوحيد في العالم الإسلامي
الذي يموج بحشد كبير من القوى الدينية المتناحرة.
والمحدد الخامس: هو أن الذي يسيطر على هذه العملية جهاز أمن ليس على
درجة من القوة بل جهاز ضعيف غير قادر على التعامل مع التحديات الأمنية التي
تواجه هذا الواقع المعقد والمتداخل، فهو جهاز مسيّس بمعنى أن كل حكومة تضع
سياسات أمنية تتواءم مع مصالحها، ورجال الشرطة ينفذون ذلك سواء كانت هناك
مسوغات أمنية تقتضي ذلك أم لا، كما يفتقد هذا الجهاز التقنية الحديثة لملاحقة
المجرمين؛ ومن ثم يلجأ كثير من الهيئات والشركات المحلية والأجنبية إلى
الاستعانة بشركات الأمن الخاصة لتأمين مصالحها. وهناك تدفق كبير وتنقل
وامتلاك وتصنيع للأسلحة دون سيطرة تذكر من الدولة خاصة في المناطق الشمالية
الغربية المتاخمة لأفغانستان.
بيئة خارجية غير مناسبة:
إن الوضع الخارجي والإقليمي لباكستان لا يقل توتراً وتعقيداً عن الوضع
الداخلي حيث الأزمة الأفغانية والسباق النووي مع الهند ومشكلة كشمير، أما عن
الأزمة الأفغانية فقد استضافت باكستان أكثر من 3 ملايين مهاجر أفغاني كما كانت
الراعي والموجه للقادة الأفغان أو ما كان يعرف في حقبة الاحتلال السوفييتي
بزعماء المجاهدين، لكن خروج السوفييت وتغير معادلات القوى الداخلية الأفغانية
أملى على باكستان أن تقيم علاقات تحالف وتعاون غير معلن مع القوى التي يمثلها
البشتون الذين (تمثلهم طالبان ومن قبل حكمتيار) فهم أكبر القوميات، وتعيش
أغلبية منهم في المناطق الشمالية الغربية الباكستانية المتاخمة لأفغانستان، ونتج عن
ذلك أن فتحت القوى الأفغانية الأخرى وخاصة الطاجيك (الذين كان يتزعمهم أحمد
شاه مسعود) خطوط اتصال مع الهند؛ مما أسهم في إيجاد جبهة جديدة معادية
لباكستان أسعدت الهند، وخاصة أن الهند تتهم طالبان بدعم الثوار في كشمير؛
وعليه فيمكن أن يكون اللاجئون الأفغان قنبلة داخل باكستان تسبب الكثير من
المشكلات والمتاعب إن لم يتم التعامل معها بحكمة بالغة.
أما السباق النووي فعلى الرغم من أنه نقطة القوة الوحيدة فإن باكستان
تعرضت بسببه للعقوبات الأمريكية والأحقاد الغربية الإسرائيلية الهندية، وفتح ملفاً
جديداً من المشكلات الإقليمية والدولية لباكستان.
أما المشكلة الكشميرية فقد أخفقت باكستان في حلها عبر هذه العقود،
وأصبحت هي مصدر الأزمات الرئيسية، وقد خاضت باكستان بسببها ثلاث حروب
مع الهند، وفقدت في أعقاب إحداها بنجلاديش التي كانت جزءاً من الأراضي
الباكستانية، وتساهم هذه المشكلة في إضعاف الجبهة الداخلية، فقد نجحت الهند في
بناء علاقات مع عناصر من القومية البشتونية التي روج الكثير من زعمائها
للانفصال عن باكستان باعتبارهم جزءاً من أفغانستان، وتنفيذ العديد من العمليات
التخريبية في باكستان، كما استثمرت الهند الخلافات الإثنية بين كل من حركة
المهاجرين والقومية السندية بكراتشي في تجنيد وتمويل عناصر تخريبية في إقليمي
السند والبنجاب المتاخمين للحدود الهندية.
تغليب السلبيات:
إن الرئيس الباكستاني مشرف غلّب كل السلبيات السابقة فخاف وارتعدت
فرائصه حينما طلبت منه الإدارة الأمريكية أموراً ثلاثة هي:
- السماح للقوات الأمريكية باستخدام المجال الجوي الباكستاني للوصول
لأفغانستان.
- وتوفير معلومات مخابراتية دقيقة عن المعسكرات داخل الأراضي الأفغانية
التابعة لتنظيم القاعدة وتنظيمات أخرى.
- وتقديم مساعدات لوجستية لتسهيل حركة القوات الأمريكية.
وقالوا له: إما أن تفعل ذلك، وإما أن نستعين بالحلف الهندي الإسرائيلي
لضرب أفغانستان وابن لادن؛ ولن تكون منشآتك النووية بمنأى عن هجماتنا،
فأنت إما أن تكون معنا وتقدم لنا هذه التسهيلات، وإما أن تكون مع طالبان وابن
لادن، وأنت الجاني على نفسك.
نظر مشرف فقط إلى جوانب الضعف لديه، فهل كان معه جوانب للقوة؟
لقد كان مشرف يقف على أرضية الحق والعدل، فكان له أن يحتج بالهوية
المشتركة والمصالح والتشابك والتداخل بين الشعبين، ثم يستند إلى الشارع
الإسلامي الذي بدأ لأول مرة يأخذ موقفاً كاسحاً مؤيداً لطالبان وناقماً على مشرف.
فكل المؤسسات الإسلامية وعلى رأسها شيخ الأزهر، ومفتي مصر، ورابطة
علماء فلسطين، وجبهة العمل الإسلامي الأردنية، وكثير من علماء السنة بالإضافة
إلى غالبية الشارع الباكستاني، كل هؤلاء ضد الموقف الأمريكي ويطالبون بعدم
أخذ الأبرياء بذنب مرتكبي الحادث، وضد اتخاذ أية خطوة إلا بدليل دامغ، واتفقوا
على أن أية دولة مسلمة تتعرض لهجوم وجب على المسلمين جميعاً مناصرتها بكل
ما يملكون، وتحريم مساعدة عدوها وتقديم أية معونات له.
لو اختار الرئيس الباكستاني الموقف المغاير وقال لا. كان سيكسب كل
هؤلاء، بالإضافة إلى أن موقف الدول العربية وإن كان مغلفاً بالخوف من أمريكا فإنه
كاره لغطرستها إذ قررت الضرب بعد ساعة من الهجوم، وقبل أن تبدأ التحقيقات،
حتى في أوروبا هناك مواقف معارضة لأمريكا، وكذلك بدأت بوادر المعارضة ولو
من طرف خفي من بعض جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة رغم الضغوط
والتخويفات الأمريكية.
غليان الشارع الباكستاني:
أصعب موقف اتخذه الرئيس مشرف هو أنه وضع نفسه في مواجهة الشارع
الباكستاني، فكل الجماعات والفصائل الإسلامية الباكستانية على اختلاف مشاربها
وأفكارها اتخذت موقف الوقوف بشدة ضد من يستهدف أفغانستان التي يعتبرونها
جزءاً من الهوية والثقافة الدينية الإسلامية، ويقف معهم بعض الأحزاب والقوى
الوطنية الأخرى متوعدين مشرف بسلسلة من المظاهرات والاحتجاجات
والاضرابات في كل المدن والضواحي، مطالبينه بعدم خرق وانتهاك السيادة
الوطنية والدينية لباكستان، معتبرين أمريكا ستتفرغ بعد ذلك لضرب باكستان بعد
أن تقوض طالبان وتفرض حكومة أفغانية أخرى لن تربطها علاقة صداقة وود مع
باكستان لتتكفل بحفظ المصالح الأمريكية في المنطقة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأحزاب الدينية الباكستانية يساندها مئات الآلاف
من طلاب المدارس الدينية غير النظامية رفاق طالبان، وهؤلاء يمكن أن يقودوا
حالة من العصيان المدني أو الانفجار الشعبي قد تطيح بمشرف أو تضغط على
الجيش للتدخل والإطاحة بمشرف كما أطاح هو بنواز شريف.
العجيب أن الحكومة والجيش في باكستان يراقبون تحركات الأحزاب
والجماعات الدينية، ويقف معهم خمسمائة صحفي غربي جاؤوا لمراقبة الإسلاميين
ووحش الإرهاب الإسلامي، وضد الشارع الباكستاني تقف النخبة السياسية العلمانية
ومعها من تم صياغتهم على المفهوم الغربي، من هؤلاء وقف أحد المسؤولين
الحكوميين يقول: «لا مناص من خسائر لباكستان ولكن الخلاف ينصب على
حجمها؛ فالإصابة بجرح أفضل من القتل، والجرح نعرف حجمه ثم نتعافى منه،
وهو أفضل من عاهة مستديمة» .
وهذه هي البراجماتية النفعية التي دائماً يستخدمها العلمانيون، ودائماً تكون
ضد مصلحة الأمة، والحمد لله الذي جعل مصالح أمة محمد لا تتحقق إلا بالالتزام
بالشرع ولا يفيدها الانتهازية والنفعية، بل تفسد قضاياها على طول الخط.
إن الرئيس مشرف يقول: إن باكستان أولاً، وإنها فوق طالبان وابن لادن.
ونحن قد نوافقه في ذلك لو كان فيه خير لباكستان، ولكنه للأسف فيه السم الزعاف،
لقد تقدمت مجموعة من الزعامات والقوى الدينية والسياسية في باكستان باقتراح
يطالب أطراف النزاع بأن توافق على تسليم ابن لادن لجهات محايدة مثل مجلس
التعاون الأوروبي، أو مؤتمر العالم الإسلامي لمحاكمته أمام محكمة دولية محايدة،
وعلى رأس المجموعة الدكتور طاهر القاوري قائد الحركة الشعبية وإحدى أهم
الأحزاب الدينية الصوفية، وأجمل ختك قائد الحزب القومي الشعبي (اليساري) ،
وكبير علي واسطي من الزعامات السياسية، والجنرال حميد جول الرئيس الأسبق
للمخابرات الباكستانية، وهذا خيار لن يجدي أيضاً؛ لأن أمريكا لن تسمح به
ومشرف لن يملك الشجاعة لقبوله.
لعبة استراتيجية:
إن جانباً كبيراً من الحركة الإسلامية الباكستانية تدرك المعادلة الاستراتيجية
الصحيحة التي لم يدركها الرئيس مشرف؛ وهي أن أمريكا تريد التخلص من
طالبان وزرع حكومة عميلة برئاسة ظاهر شاه تكون عدواً جديداً لباكستان ليكمل
الخناق عليها مع الهند، ولتكون الحكومة الأفغانية الجديدة شرطياً أمريكياً يحافظ
على مصالح أمريكا والغرب، ووقتها سيدرك مشرف أنه أخطأ في رسم المستقبل
السياسي والديني لبلاده، ولكن ذلك سيحدث بعد فوات الأوان، كما أن أمريكا ما
تزال تضع باكستان في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب باعتبار مساعدتها السابقة
لطالبان والمجاهدين الأفغان من ناحية ثم دعمها لفصائل المجاهدين في كشمير،
ودعم باكستان للتحركات الأمريكية معناه خسارتها لحليفها الاستراتيجي ومساعدتها
في إيجاد عدو لنفسها.
إن كثيراً من الإسلاميين في باكستان يعتقدون أن باكستان يراد لها أن تقع في
حرب أهلية (مثل الوضع في لبنان والجزائر) حيث يشتعل فيها الصراع الطائفي
والعرقي بمساعدة جهات أجنبية، وأن ذلك سيكون بداية لتنفيذ مخطط إزالة باكستان
من خريطة المنطقة الجنوب آسيوية الذي يتوقع أن يتم في عام 2010م حسب
الدراسات التي أعدتها جهات غربية، مع تزايد المخاوف من أن باكستان ستسقط في
أيدي الإسلاميين خلال السنوات الخمس القادمة مع امتلاكها للقدرة النووية؛ مما
يجعل هذا السلاح أمراً خطيراً ومتاحاً للغول الإرهابي الإسلامي الذي سوف ينتشر
ساعتها في مختلف البلاد الإسلامية حيث سينتقل إليها الحكومة الباكستانية وقتها هذا
السلاح النووي، وفي ذلك خطورة كبيرة على إسرائيل والغرب نفسه.
إزاء ذلك كله يفكر الغرب في ضربة قاصمة لباكستان بطريقة أو بأخرى قد لا
تقل ضراوة عن ضربة أفغانستان المحتملة ولكن بعد اتخاذ باكستان معبراً ومعيناً في
القضاء على طالبان، كما أن الهند لن تقف مشاهدة وربما استغلت أجواء التوتر
التي تعيشها باكستان ووجهت لها ضربة قوية بمساعدة حليفتها إسرائيل، وبمعونة
أمريكية أوروبية.
بقي أن نشير إلى أن هناك نقطة على جانب كبير من الأهمية، وهي مناطق
القبائل المتاخمة للحدود الأفغانية في شمال غرب باكستان التي تعد شبه حرة وغير
منزوعة السلاح بل يتم فيها صناعة السلاح وتداوله على أوسع نطاق، ويبلغ عدد
سكانها حوالي 25 مليون نسمة، وتشترك مع القبائل البشتونية الأفغانية في اللغة
والدين والعادات والتقاليد والتاريخ، هذه القبائل منحازة كلية لأفغانستان وطالبان،
وتعيش حالة استعداد كامل للمواجهة الأمر الذي دعا الحكومة الباكستانية حشد قوتها
العسكرية في هذه المناطق.
وهو ما قد يفتح الباب على مصراعيه للعنف والتمرد، وهذه كلها أمور
باكستان في غنى عنها.
__________
(*) كاتب وصحفي من مصر.(168/129)
المسلمون والعالم
مخاطر التعاون العسكري
الهندوسي الصهيوني المتصاعد
محمود عبد الله البنغالي [*]
إن المتتبع لاتفاقات التعاون الهندي الإسرائيلي يلاحظ أن معظم العقود الموقعة
بين الكيانين الهندي اليهودي تنص على تبادل الخبرة والتقنية المتطورة لصناعة
الأسلحة الاستراتيجية والكيميائية الفتاكة.
إن قصة هذا التعاون بين الدولتين العنصريتين: الهند وإسرائيل، والتي
يتزايد الحديث عنها هذه الأيام بين وسائل الإعلام وما تتناقله مصادر الصحف
والأنباء العالمية عن صور وأشكال لهذا التعاون العسكري السري والعلني بين
الدولتين الإرهابيتين الهند وإسرائيل، والذي ظهر خبثه جلياً على الساحة الدولية
بعد أن انكشف ستره، وولى ليله، وطفح كيله، واتضح أمره، وأصبح كضوء
الشمس بالنهار بعد أن كان مختفياً عن الأعين والأنظار مدة طويلة.
إن القليلين ممن يعلمون تاريخ العلاقات الهندية الإسرائيلية وتفاصيل هذا
التعاون بين الجانبين يعلمون أنها ليست وليدة سنة أو سنتين، وإنما يعود تاريخها
لأكثر من نصف قرن من الزمان؛ عندما قامت الهند باعترافها بالكيان الصهيوني
على أرض فلسطين عام 1948م؛ لتكون الهند بذلك أول بلد تعترف بدولة إسرائيل؛
فبعد ثلاثة شهور فقط من إنشاء إسرائيل حظيت بالاعتراف الهندي غير المعلن
حينذاك حيث قال رئيس وزراء الهند آنذاك (جواهر لال نهرو) : «إن قيام دولة
إسرائيل أصبح أمراً واقعاً؛ فلذا من البديهي الاعتراف بها دولة مستقلة» . ولم
تكتف الهند باعترافها الضمني غير المعلن فقط بالكيان الصهيوني المغتصب
لفلسطين، بل عملت على تطوير العلاقات والتعاون مع هذا الكيان المحتل لفلسطين
في شتى المجالات والميادين العسكرية والصناعية والاستخباراتية والتجارية
والدبلوماسية والثقافية.
1 - أول اتفاق علني تم بينهما في مجال التسلح النووي في عام 1962م
قامت بموجبه إسرائيل بإنشاء مفاعل نووي بمنطقة وتارابور «كالباكام» الهندية
مقابل حصولها على المواد الخام لليورانيوم اللازمة لمفاعلاتها النووية.
2 - وعلى صعيد التعاون الاستخباراتي خلال حرب يونيو (حزيران) بين
العرب وإسرائيل عام 1967م، قامت المخابرات الهندية «الترو» بتزويد وإحاطة
إسرائيل بمعلومات سرية عن الجيش المصري وعن أماكن الطائرات المصرية
المقاتلة؛ لتقوم إسرائيل بقصفها في قواعدها قبل إقلاعها وهي جاثمة على الأرض،
وذلك عن طريق ضباط التدريب الهنود العاملين في سلاح الطيران المصري
حينذاك.
3 - وفي عام 1985م التقى رئيس الوزراء الهندي الراحل راجيف غاندي
نظيره الإسرائيلي، واجتمعا بالرئيس الأمريكي حينها «رونالد ريجان» وطالباه
بوقف تزويد باكستان بالطائرات «إف 16» .
4 - وفي عام 1991م تم الاتفاق بين الحكومتين على إرسال (300) من
رجال المخابرات الإسرائيلية (الموساد) للهند لتدريب الهنود على التحكم في
الموقفبكشمير المحتلة.
5 - وفي مايو عام 1993م قام نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون
بيريز بزيارة رسمية للهند وأجرى مباحثات رسمية للتعاون الصناعي في المجال
العسكري، ومجال الأسلحة الاستراتيجية الفتاكة والهجومية التكتيكية، ومجال
الاقتصاد، ومجال التجارة والثقافة وغيرها.
6 - وفي عام 1996م وقع البلدان اتفاقية الدولة الأكثر تفضيلاً لتقوية
العلاقات الخاصة بينهما.
7 - وفي عام 1997م زار عزرا وايزمان رئيس الكيان الصهيوني الهند
وأجرى مباحثات رسمية تم بموجبها إمداد إسرائيل للهند بالخبرة والتقنية المتطورة
لإقامة مصنع الطائرات الإسرائيلية المقاتلة في ولاية «اندربراديش» الهندية
(شرق هضبة الدكن) ، وأيضاً تقوم إسرائيل بتزويد الهند بطائرات «لاخشيا»
الإسرائيلية، وطائرات صغيرة استطلاعية تطير من غير طيار، وهي في نفس
الوقت مزودة بأجهزة متطورة ذات عدسات تعمل إلكترونياً وتستطيع تصوير المواقع
العسكرية؛ وذلك لتمشيط وكشف مواقع المجاهدين في كشمير المغتصبة.
8 - وفي إبريل عام 1997م أيضاً ضبطت قوات خفر السواحل السريلانكية
أربع حاويات قادمة من الهند في طريقها إلى إسرائيل تحمل ثمانية عشر طناً من
مادة «بنكولفان» الفسفوري، وهي مادة كيميائية شديدة المفعول تستخدم في
صناعة غاز مثير للأعصاب، وكانت هذه الحاويات قادمة من بومبي بالهند في
طريقها لحيفا بإسرائيل حسب أوراق الشحن المضبوطة من قبل السلطات
السريلانكية.
9 - وفي العام نفسه نشرت جريدة «هندوستان تايمس» الهندية تقريراً
يوضح أن إسرائيل عرضت على الهند زيادة التعاون العسكري بينهما في مجال
الصناعات العسكرية الاستراتيجية، والتقنية الحديثة وخاصة لأنظمة الإنذار المبكر
«الأواكس» لنظام طائرات الرصد المحلقة للمراقبة مقابل استخدامها لضرب
باكستان عند الضرورة.
10 - وفي عام 1998م قام رئيس أركان الجيش الهندي (ف. ب. ملليك)
بزيارة رسمية لإسرائيل لتفقد وتبادل التقنية والخبرة العسكرية وللتعاون في مجال
صناعات الأسلحة الاستراتيجية، ولتطوير الأسلحة الهجومية وتبادل الخبرة بين
بلديهما ضمن برامج التعاون العسكري؛ وذلك رداً لزيارة نظيره الإسرائيلي للهند
عام 1997م.
11 - وفي عام 1999م قامت صحيفة «هآرتس» الإسرائلية بدراسة
لإحصاء مجموع ما بلغ من الكسب الناشئ عن التعاون والتبادل التجاري بين الهند
وإسرائيل حيث بلغ مجموعه أكثر من (700) مليون دولار خلال العام نفسه.
12 - يوجد الآن في الهند أكثر من (150) شركة استثمارية إسرائيلية
كبيرة تعمل في مجال الاقتصاد والصناعة والاستثمار، ويتوقع أن يتضاعف عددها
في السنوات المقبلة.
إن أهم قواعد التعاون بين هذين النظامين العنصريين: الهندوسي والصهيوني
يقوم على الاغتصاب الغاشم والاحتلال الجائر لأراضي المسلمين وتدنيسهم
للمقدسات وهدمهم للمساجد، والتعدّي على الحرمات، كما يتفق الكيانان الإرهابيان
في قمع واضطهاد وقتل المسلمين العزل في كشمير وفلسطين المحتلتين، ويمارسان
أبشع أنواع البطش والقهر والتعذيب والتنكيل والحقد الدفين لقهر المسلمين وإلحاق
كل ألوان الأذى وأشكال العذاب، وأصناف الاضطهاد الوحشي والبربري بحق
إخواننا المسلمين في كشمير وفلسطين الأسيرتين؛ فهم لا يتورعون عن ارتكاب
الجرائم الوحشية والحيوانية القذرة والخبيثة، ونهب الممتلكات، واغتصاب الحرائر
والنساء الثكالى، وقتل الأحياء والأبرياء، وهي السياسة الدائمة والمتبعة اللاإنسانية
المستمرة للطرفين الهندوسي الصهيوني منذ ابتليت كشمير وفلسطين المغتصَبتان
بالخضوع لسيطرتهم الجائرة. ومنذ أكثر من خمسين سنة وإلى أيامنا هذه لا زال
الاحتلالان الهندوسي والصهيوني البغيضان يقومان بالاعتداء الوحشي المستمر على
شعبي كشمير وفلسطين، وما زالا جاثمين على أرض كشمير وفلسطين المحتلتين؛
فما الذي سيفعله العرب والمسلمون لمواجهة مخاطر هذا الحلف الهندي اليهودي الذي
يستهدفهم جميعاً؟
__________
(*) كاتب إسلامي من بنجلاديش.(168/133)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@yahoo.com
أمريكا بين الانفجار والحرب
من أشد منا قوة؟ !
س: هل تريدون خلاص العالم أم السيطرة العسكرية على العالم؟
ج: نحن لا نريد السيطرة العسكرية على العالم؛ فالسيطرة العسكرية على
العالم موجودة الآن، ونراها كلنا أمام أعيننا، انظر إلى أي محيط أو بحر أو خليج
ترى حاملات الطائرات الأمريكية، وانظر إلى أي سماء ترى المقاتلات الأمريكية،
نحن نعمل الآن على تأسيس قوة عسكرية فضائية تحيط بكل العالم.
س: هل هذه إمبريالية أمريكية من نوع جديد؟
ج: نعم هذه إمبريالية أمريكية، لكننا عندما نقول ذلك لا نقصد المعنى
التاريخي القديم لكلمة «إمبريالية» لكننا نقصد أننا، نعم، قوة عملاقة، ونحن لا
نريد من الشعوب الأخرى أن تشتمنا أو تعادينا وتصفنا بالإمبريالية؛ لكننا نريد منهم
أن يقتنعوا بالأمر الواقع، وأن يفهموا أننا قوة عملاقة، بل ونحن أكبر من أي
إمبريالية شهدها تاريخ العالم.
س: هل هذا تأكيد لفكرة أن أمريكا هي شرطي العالم؟
ج: لا، شرطي العالم وظيفة أقل من مؤهلاتنا، الشرطي ينظم ونحن نسيطر،
والشرطي ينفذ القانون ونحن نضع القانون، والشرطي هناك من هو أعلى وظيفة
منه ونحن الأعلى وظيفة! !
س: شهد التاريخ إمبراطوريات كثيرة سادت ثم بادت فهل ستسقط الإمبريالية
الأمريكية يوماً ما؟
ج: هذا هو التحدي الحقيقي ليس هناك جدل في أن حضارتنا أفضل من
الحضارة اليونانية والرومانية مثلاً، ولكن لا بد أن نستمر في تحسين وتطوير
حضارتنا، وما دمنا نحرص على ذلك، فسوف تقل احتمالات سقوطنا. وأي
ميزان وأي قوة وأي دول كبرى؟ نحن ننطلق من حقيقة أننا الأكبر والأقوى. ألا
تريد الملايين وسط كل شعب من شعوب العالم أن تأتي إلى بلادنا؟ ألا تعرف في
أعماقها أن بلادنا هي الأكثر حرية؟ أنت تعرف أننا إذا فتحنا حدودنا لجاء إلينا
ملايين الأجانب كالسيل، ولسبحوا عبر المحيط الهادي والمحيط الأطلسي ونهر
الغرائد.
[نائب مدير مركز معهد «القرن الأمريكي الجديد» توماس دونالي، قبل عشرة
أيام من الأحداث، مجلة المجلة، العدد: (1126) ]
إجماع على الكراهية والانتقام
كراهية أمريكا هي هواية عالمية منذ سنوات طويلة، إلا أنها ازدادت حدة منذ
أن تحولت أمريكا إلى الدولة الوحيدة الأعظم في الأرض، شدة هذه الكراهية تبعث
على الخوف، وثراؤها يثير الغيرة، وثقافتها تسيطر على كل العالم، الكراهية
والمقت لأمريكا أصبحت باستثناء إسرائيل وعدة دول شاذة عن القاعدة مثابة إجماع
عام من العالم الثالث الجائع حتى الصالونات المتخمة في أوروبا. الرأي العام
الأمريكي متعطش للانتقام وسيؤيد اليوم ما لم يكن يخطر بباله حتى فترة وجيزة بما
في ذلك خوض حرب شاملة ضد العرب والمسلمين كائناً من كانوا، ولكن بوش
أيضاً يعرف أنه إذا تشوشت الأمور ولم تنجح العملية فإن هذا الرأي نفسه الذي
شجعه وحفزه سيقدم له حسابه للسداد.
[جيمي شليف، صحيفة معاريف اليهودية، عن القدس العربي، العدد:
(3839) ]
والقوة في كل مكان
أفادت مصادر البنتاجون أن الولايات المتحدة تنشر أكثر من ربع مليون
عسكري في قواعد خارج أراضيها، ولا سيما في أوروبا والشرق الأوسط وشرق
آسيا، أو على سفن حربية. وفي أواخر آذار (مارس) كان عدد هذه القوات 265
ألفاً بينهم 55 ألفاً على سفن البحرية الأمريكية يتوزعون على الشكل الآتي:
104000 من القوات البرية و 71000 من قوات البحرية و 62500 من سلاح
الجو و 27500 من مشاه البحرية (المارينز) ، وبحسب ما أعلنه ناطق باسم
وزارة الدفاع فإن هذا العدد لم يتغير منذ ذلك التاريخ، حيث إنه «لم يتم إجراء أي
إعادة انتشار واسعة النطاق» . ويتمركز حوالي 120 ألف عسكري في أوروبا
بينهم 70959 في ألمانيا و 11293 في بريطانيا. وتوجد اثنتان من القواعد الجوية
الرئيسية للولايات المتحدة في إيطاليا: الأولى هي قاعدة افيانو في شمال البلاد التي
وضعت في حالة تأهب قصوى فور وقوع الاعتداءات، والتي كانت تنطلق منها
طائرات حلف الأطلسي أثناء عمليات القصف في يوغسلافيا في 1999م، وتوجد
الثانية، وهي من أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المتوسط في سيغونيلا
بجزيرة صقلية، وقد استخدمت كقاعدة دعم لوجستي في نزاعات الشرق الأوسط
والبوسنة، وكقاعدة دعم للبحرية الأمريكية أثناء حرب الخليج في 1991م. ويتمركز
حوالي 2000 جندي أمريكي في تركيا في قاعدة إنجرليك الجوية، وللولايات
المتحدة حوالي 30000 عنصر في منطقة الخليج، ينتشر معظمهم على السفن
الحربية (الأسطول الخامس) ، في حين يتمركز حوالي 5000 جندي في الكويت
(2000 جندي من سلاح الجو والعدد نفسه تقريباً من القوات البرية) . وتنشر
الولايات المتحدة قوات كبيرة أيضاً في آسيا حيث يتمركز في اليابان 40891 جندياً
نصفهم تقريباً (19705) على جزيرة أوكيناوا، وقد وضعت القوات الأمريكية في
أوكيناوا هي أيضاً في حالة التأهب القصوى على أثر الاعتداءات في الولايات
المتحدة. ويوجد أكثر من 36000 جندي أمريكي في كوريا الجنوبية معظمهم من
القوات البرية (27482 جندياً) . وأعلنت الفلبين عن استعدادها لإعادة فتح
القاعدتين الأمريكيتين السابقتين في البلاد: قاعدة كلارك الجوية، وسوبيك باي
البحرية شمال مانيلا أمام تحالف لمواجهة الإرهاب تقوده الولايات المتحدة، وكانت
هاتان القاعدتان اللتان شكلتا حصناً للقوات الأمريكية في المحيط الهادي أثناء الحرب
الباردة قد أغلقتا في مطلع التسعينيات.
[صحيفة القدس العربي، العدد: (3841) ]
إدانة مسيحية
أكدت شخصيتان من التيار المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة أن
الهجمات الإرهابية على التراب الأمريكي «مستحَقة» بسبب «تخلي الرب» عن
الأمريكيين، متهمين التيارات النسوية والشواذ جنسياً ومؤيدي الحق في الإجهاض
بأنهم مسؤلون عن هذه الهجمات، وأكد القس الإنجيلي جيري فالويل إلى شبكة
«برودكاستنغ نتوورك» المسيحية أن هذه الهجمات الدامية يمكن أن تكون مقدمة لأمر
أشد جللاً «إذا ما واصل الرب التخلي عنا والسماح لأعداء أمريكا بالتسبب لنا بما
نستحق على الأرجح» .
وقال بات روبرتسون مرشح جمهوري سابق لرئاسة الجمهورية: «أعتقد أننا
لا نزال في بداية الرعب» .
وأضاف: «إن هذا يحدث لأن الناس باعوا أنفسهم للشيطان» .
[صحيفة القدس العربي، العدد: (3839) ]
عداء مستمر
منذ عقدين تقريباً استعرت الحرب بين الإرهاب والولايات المتحدة، وطالت
مناطق مختلفة في العالم حتى المدن الأمريكية نفسها، المتهمون كثر، أجهزة
استخبارات معادية وأخرى من مخلفات الحرب الباردة، منظمات سياسية ودينية
متطرفة، حركات تحرر تأخذ على أمريكا وقوفها عثرة في طريق تحقيق أهدافها
الوطنية، وأمريكيون ناقمون على نظامهم أو مستاؤون من اتساع الهوة بين الأغنياء
والفقراء، وباختصار قد يكون لأمريكا أصدقاء كثر في العالم، لكن أعداء سياستها
أكثر وهنا الشريط:
- 18 نيسان (إبريل) 1982م سائق انتحاري يفجر السفارة الأمريكية في
بيروت فيقتل 17 أمريكياً.
- 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1982م، انتحاريان يفجران شاحنتين بمقر
مشاة البحرية الأمريكية، والمقر العسكري الفرنسي في بيروت فيقتل 241 جندياً
أمريكياً و56 جندياً فرنسياً.
- 12 كانون الأول (ديسمبر) 1983م، سيارتان ملغومتان أمام السفارتين
الأمريكية والفرنسية في الكويت تقتلان خمسة أشخاص.
- 20 أيلول (سبتمبر) 1984م سيارة ملغومة تنفجر أمام مبنى السفارة
الأمريكية في عوكر شرق بيروت فتقتل 16 شخصاً وتجرح السفير.
- 14 حزيران (يونيو) 1985م، اختطاف طائرة تابعة لشركة «تي دبليو
إي» الأمريكية إلى مطار بيروت وقتل أحد ركابها.
- 5 أيلول (سبتمبر) 1986م، اختطاف طائرة أمريكية (بانام) على متنها
358 راكباً في مطار كراتشي ومقتل 20 شخصاً على متنها بعد اقتحام قوات الأمن
الباكستانية لها.
- 21 كانون الأول (ديسمبر) 1988م، طائرة أمريكية تنفجر في الجو فوق
لوكربي، باسكتلندا أثناء رحلة بين لندن ونيويورك ويقتل 270 شخصاً.
- 26 شباط (فبراير) 1992م، قنبلة تنفجر في مرأب مركز التجارة
العالمي في نيويورك فتقتل ستة أشخاص وتجرح أكثر من ألف.
- 19 نيسان (أبريل) 1992م، قنبلة تدمر مبنى الحكومة الاتحادية في
أوكلاهوما سيتي فتقتل 168 شخصاً وتجرح أكثر من 500 آخرين، إدانة (تيموثي
ماكفاي) بتنفيذ الاعتداء وإعدامه في بداية العام الحالي.
- 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995م، سيارة ملغومة أمام مقر القيادة
العسكرية الأمريكية في الرياض تقتل خمسة أمريكيين.
- 25 حزيران (يونيو) 1996م، شاحنة ملغومة تنفجر في الخبر بالظهران
فتقتل 19 عسكرياً أمريكياً وتجرح المئات.
- 7 آب (أغسطس) 1998م، سيارتان ملغومتان تفجران السفارتين
الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام فتوقعان 224 قتيلاً وآلاف الجرحى، وتوجيه
التهمة إلى أسامة بن لادن.
- 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2000م، قارب ملغوم يصدم المدمرة
الأمريكية كول في ميناء عدن اليمني فيقتل 17 بحاراً، والولايات المتحدة تعتبر بن
لادن المتهم الأول.
[مجلة الوسط، العدد: (503) ]
وعقوق سياسي! !
من وراء عمليات الانفجارات الأخيرة التي هزت الولايات المتحدة؟ السؤال
ابن شرعي للمشهد غير الشرعي الذي شاهده العالم فوق الأرض الأمريكية، وربما
تتجه أصابع الاتهام إلى دول الشرق الأوسط والجماعات الأصولية التي تعمل فوق
أراضيها باعتبار أنها مصدرة للإرهاب؛ ولكن ما الذي يمنع أن تتجه أصابع الاتهام
إلى داخل الولايات المتحدة نفسها؟ ! فقبل خمس سنوات هز انفجار أوكلاهوما
سيتي الذي راح ضحيته 168 شخصاً، منهم 19 طفلاً، وأصيب 500 آخرون،
وكالعادة اتجهت أصابع الاتهام في البداية نحو دول الشرق الأوسط التي تحمي
الإرهاب، على حد قول الأمريكيين، ولكن كانت صدمة الشعب الأمريكي كبيرة
عندما تكشفت لديه أبعاد المأساة التي يعيش فيها ولم يدركها قبل يوم التاسع عشر من
إبريل 1996م، فالمتهم بارتكاب الحادث كان مواطناً أمريكياً هو «تيموثي
ماكفاي» ليس من أبناء الشرق الأوسط، كما أنه ليس شخصاً مختلاً عقلياً أو
مهزوزاً نفسياً بل هو إنسان في كامل قواه العقلية ويعرف تماماً ما يفعل ومؤمن
بأهدافه؛ إذ تلقى أعلى تدريب عسكري من خلال جماعات مدربة ومنظمة تمارس
أنشطتها داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، والأهم من هذا وذاك أنه يحمل
كراهية علنية مدمرة للحكومة الفيدرالية الأمريكية. فالمتهم ماكفاي أحد 5 ملايين
أمريكي ينتمون إلى جماعات متطرفة تحمل أسماء مثل: «الوطن الآري»
و «مالكو السلام في أمريكا» و «الجيش الشعبي» و «كوكلوس كلان»
و «الفهود السود» و «الوطنيون المسيحيون» وغيرها. والجدير بالذكر أن هذه
الجماعات المتطرفة قد عقدت اجتماعاً عام 1992م في ولاية كولورادو لوضع
استراتيجية تستهدف محاربة النظام العالمي الجديد وتكوين جمهورية مسيحية أصولية
بيضاء في الولايات المتحدة هذا ما كشفته نتائج التحقيقات الأمريكية في انفجار مبنى
أوكلاهوما سيتي ومن أجل بلوغ هذه الجماعات لأهدافها قررت تشكيل ميليشيات
وطنية، وبدأت تنمو ليصل عدد أعضائها إلى 12 ألفاً وانتشرت في جميع أنحاء
الولايات المتحدة، وترمز إلى نفسها باسم «الميليشيات الحرة» ، وأصدرت بياناً
في عام 1994م، باسم «المبادئ التي تبرر تسليح الميليشيا» تحدد فيها أسس
التنظيم الداخلي. وينص دستور الميليشيات الوطنية على عدم تجاوز الفرد
لدوره في الجماعة وعليه ألا يتعرف على القائد الأعلى، كما يدين الأعضاء
بالولاء الكامل للقيادات التي لا يقابلونها ولا يعلمون عنها شيئاً ولا طبيعة
مناصبهم، بحيث إذا وقع عنصر في قبضة السلطات الأمنية لا يؤدي إلى
سقوط العناصر الأخرى، كما يترك التدريب والعمليات العسكرية إلى عناصر
صغيرة يتم تقسيم كل العناصر داخل الميليشيا الحرة إلى خلايا يمكن تكاثرها إلى
خلايا أخرى منفصلة ولا يجوز معرفة أو نشر أسماء أعضاء كل خلية إلا
لأعضاء الخلية وزعيمها فقط.
[مجلة الأهرام العربي، العدد: (234) ]
الذراع.. «المقدسة»
نحن لدينا اقتصاد عالمي ومصالح سياسية وأمنية تتطلب منا اشتراكاً فاعلاً في
الخارج، لقد دفعت أجيال عديدة ثمناً غالياً دفاعاً عن حريتنا هو أعلى من أن
ننسحب من العالم أو نتراجع متخلين عن قيمنا، وينبغي بالمعنى الحقيقي أن تبادر
أمريكا نفسها لشن حربها المقدسة وهنا لا أعنى الحرب التي يؤججها طابع الكراهية
أو تغذيها قطرات الدماء؛ بل هي الحرب التي يشتعل فتيلها كجزء من التزامنا
بالحرية والتسامح وحكم القانون، والمدعومة برغبتنا باستخدام كل وسيلة ممكنة
ومتاحة للدفاع عن تلك القيم. ولا يجب أن يكل لنا ساعد حتى نبلغ هذه الغاية تماماً، كما لا ينبغي أن يتقاعس من يطاردون الإرهاب حتى يدركوا هدفهم؛ فليس هناك
من حد في مسعانا في اقتناص المسؤولين عن أعمال الإرهاب، وجاءت بالكثيرين
إلى ساحة العدالة، فالذاكرة الأمريكية طويلة وذراعها أطول من تلك.
[وليام كوهين، وزير الدفاع الأمريكي السابق، واشنطن بوست، عن البيان
الإماراتية، العدد: (7762) ]
كانت ثم بادت
مركز التجارة:
بلغ ارتفاع كل من البرجين التوأمين في مركز التجارة العالمي اللذين انهارا
بعدما اجتاحتهما طائرتان 140 متراً، وهما من بين أعلى الأبنية في العالم بعد
ناطحات السحاب في تورونتو (544 متراً) وموسكو (540 متراً) وشنغهاي
(468متراً) . وكان البرج رقم 1 تعرض في السادس عشر من شباط فبراير
1993م لاعتداء في الطوابق السفلية. وبني البرجان في 1972م بكلفة 37 مليون
دولار في أقصى شبه جزيرة مانهاتن في وسط حي الأعمال في نيويورك، ويتألف
كل من البرجين اللذين صممهما المهندس المعماري مينورو ياماساكي وأطلق عليهما
النيويوركيون تحبباً اسم: «التوأمان» من 110 طوابق تشغل مساحة إجمالية تبلغ
406 آلاف متر مربع. ويزن كل من البرجين اللذين بنيا بالحديد المثقل بالإسمنت
290 ألف طن من بينها 12100 طن من الإسمنت، ويبلغ عمق أساساتهما أكثر
من عشرين متراً في أرض ردمت في نهر هدسن، ويملك كل برج قواعد على
الأرض طولها 192 متراً بجدران مزدوجة تتراوح سماكتها بين عشرين وتسعين
سنتيمتراً. ولكل من البرجين 21800 نافذة ونظام للصعود إلى قمته فريد من نوعه
في العالم، يضم ثماني عربات تتسع كل منها لخمسة أشخاص، بينما يستخدم
حوالي 150000 يترددون على المبنى أو يعملون به حوالي 104 مصاعد. ويضم
البرجان أكثر من 500 شركة وهيئة حكومية فضلاً عن مكاتب هيئة الجمارك
لولايتي نيويورك ونيوجيرزي، ولأسباب أمنية فإن النوافذ غير قابلة للفتح،
ويمكن للبرجين أن يميلا 28 سنتيمتراً على قاعدتيهما. وتضم الطبقات الواقعة
تحت الأرض خصوصاً مركزاً تجارياً ومحطات للمترو ومحطة للقطارات وموقفاً
للسيارات.
موقع الشبكة الإسلامية
www.islamweb.net
مبنى البنتاجون
البنتاجون اسم يطلق على سكرتارية الدفاع وقيادة الأركان العامة للقوات
المسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك بسبب شكل البناء الذي تعمل فيه
هذه الأجهزة، وهو الشكل الهندسي الخماسي الأضلاع، والبنتاجون مقر وزارة
الدفاع الأمريكية، واحد من أكبر مباني المكاتب في العالم، ومبنى البنتاجون عبارة
عن مدينة قائمة بذاتها، إذ يعمل فيه 23 ألف شخص تقريباً من المدنيين
والعسكريين، يساهمون في وضع وتنفيذ خطط الدفاع عن الولايات المتحدة،
ويحيط بالمبنى أكثر من 200 فدان مخصصة لانتظار 8770 سيارة في 16 موقف
سيارات، ويوجد بالمبنى 131 سلماً و 19 مصعداً للوصول إلى المكاتب التي تصل
مساحتها إلى أكثر من 3. 7 ملايين قدم مربع، ويوجد بداخل المبنى 4200 ساعة
حائط و 691 نقطة لمياه الشرب و 284 دورة مياه، ويستهلك العاملون في المبنى
4500 قدح من القهوة، و 850 لتراً من الحليب 4500 قدح من القهوة،
و850 لتراً من الحليب المشروبات الخفيفة، ويعمل في المطعم 230 من الطهاة
ويجري العاملون في المبنى 200 ألف مكالمة هاتفية يومياً عن طريق شبكة
هواتف يصل طول توصيلاتها إلى 100 ألف ميل، ويتعامل مكتب البريد
في البنتاجون مع 1. 2 مليون رسالة بريدية شهرياً، المبنى غير عادي في
تصميمه، وقد تم تشييده خلال السنوات المبكرة من الحرب العالمية الثانية،
ويعتقد أنه واحد من أكثر المكاتب كفاءة في العالم؛ وعلى الرغم من أن الطول
الإجمالي للممرات داخل المبنى يصل إلى 17. 5 ميلاً؛ فإن الانتقال بين أي
نقطتين في المبنى لا يستغرق أكثر من سبع دقائق، وحل البنتاجون محل أكثر من
17 من المباني التي كانت تستخدمها وزارة الحرب آنذاك، وقد استعاد المبنى
تكلفته خلال 7 سنوات فقط بعد توفير نفقات الإيجار والانتقال بين المباني المختلفة.
[الملف السياسي، الإمارات، العدد: (539) ]
من الخسائر
1 - * 1. 1 بليون دولار تكلفة بناء مركز التجارة العالمي.
* 40 بليون دولار الميزانية التي اعتمدها الكونجرس في 14/9/2001م
لمحاربة الإرهاب.
* 30 ألفاً عدد الأكفان التي جلبت إلى نيويورك بعد الحادث.
[مجلة تايم الأمريكية، عن الشرق الأوسط، العدد: (8332) ]
2 - قالت وزارة الدفاع الأمريكية إن نفقات إصلاح الدمار الذي لحق بمقرها
«البنتاجون» ستصل إلى 520 مليون دولار.
[صحيفة الحياة، العدد: (14067) ]
3 - قدر حجم الخسائر التي تكبدتها بورصة نيويورك من جراء التوقف عن
العمل ووقف التداول 4 أيام بنحو 4 بلايين دولار، تحقق من حجم أعمال يصل إلى
نحو 100 بليون دولار يومياً.
[صحيفة الحياة، العدد: (14062) ]
4 - وافتتحت بورصة نيويورك جلسة التداول في جو حماسي، حشدت له لفيفاً
من الشخصيات الرسمية ذات الثقل مثل وزير الخزانة بول أونيل، وممثلين عن جهود
الإنقاذ المستمرة على مسافة قريبة من وول ستريت لحض الوسط الاستثماري على
تحدي الأحداث؛ لكن الجلسة انتهت بعدما سجل مؤشر «داوجونز الصناعي»
الذي يمثل عمالقة الصناعة الأمريكية أكبر انخفاض في تاريخه مساهماً بذلك في
رفع خسائر أسواق المال الأمريكية إلى زهاء 500 بليون دولار في يوم واحد.
[صحيفة الحياة، العدد: (14066) ]
5 - ازدادت الهوة التي تردت فيها صناعة الطيران الدولية عمقاً بعدما هوت
أسهم شركات الطيران الأمريكية الإثنين في أول أيام التداول منذ الهجمات المدمرة
على نيويورك وواشنطن. وبينما تتابعت بيانات الشركات عن الاستغناء عن آلاف
الموظفين والعمال في الولايات المتحدة وأوروبا، طلبت شركات الطيران الأمريكية
مساعدات حكومية قدرها 24 بليون دولار لتصحيح أوضاعها المالية في أعقاب
الهجمات التي تمت بطائرات ركاب مخطوفة. وذكرت رابطة النقل الجوي التي
تمثل شركات الطيران الرئيسية أن الطلب الذي قدمته الشركات يمثل ضمانات
قروض بقيمة 11. 2 بليون دولار، وإعفاءات ضريبية حجمها 7. 8 بليون
دولار، ومساعدات مباشرة بحجم خمسة بلايين دولار، وأشارت الرابطة أيضاً إلى
أن إجمالي عدد الموظفين الذين قد تستغني عنهم الشركات في الشهور القليلة المقبلة
قد يتجاوز 100 ألف شخص.
[صحيفة الحياة، العدد: (14066) ]
الرد الصليبي.. «المقدس» ! !
كشف الرئيس الأمريكي جورج بوش في تصريحات صريحة ومستهجنة،
نقلتها إذاعة الـ «بي بي سي» البريطانية على شبكة الإنترنت، وأكدها مراسل
لقناة الجزيرة الفضائية في الولايات المتحدة، كشف النقاب عن أن حرب الولايات
المتحدة الأمريكية القادمة ستكون «صليبية» .
وقال بوش في تصريحه حسب الـ «بي بي سي» : «تلك الحملة الصليبية،
تلك الحرب على الإرهاب سوف تكون طويلة الأمد» ، وتوعد بوش في خطاب
موجه للأمريكيين بشن ما أسماه: «حملة صليبية طويلة الأمد لتخليص العالم من
فاعلي الشر» ، وهي حملة يقول مسؤولون إنها قد تشمل ستين دولة.
[صحيفة السبيل، العدد: (402) ]
على أي شيء نعتذر؟ !
رغم أن جهود المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة نجحت بصورة نسبية
في دفع الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ موقف متوازن، والدعوة إلى منع المساس
بالمسلمين أو مساجدهم، فضلاً عن أن عمدة نيويورك وفر لهم حماية أمنهم، إلا أن
ذلك لم يكن كافياً في وقف العدوان على المسلمين الأمريكيين وعلى العرب بعامة.
المفارقة التي حدثت تتمثل في العرب والمسلمين، وهم يدينون ويستنكرون
تعميم الاتهام عليهم، فإنهم تصرفوا في الواقع كما لو كانوا جميعاً متهمين، ويتعين
عليهم أن يغسلوا أيديهم ويعلنوا براءتهم من التهمة، وهو ما تبدى في التسابق الذي
حدث على استنكار ما جرى من جانب كل ذي شأن، وفي الإلحاح عبر وسائل
الأعلام المختلفة على أن الإسلام دين السلام، وأنه يرفض العنف، وينهى حتى في
الحرب عن المساس بالمدنيين الأبرياء ... إلخ.
تنافس الجميع في الاعتذار عن شيء لم يفعلوه ولم يكونوا طرفاً فيه، بل لم
يثبت بشكل قاطع من الذي فعله، وحتى إذا ثبت مسؤولية بعض المسلمين عما
جرى، فليس مفهوماً لماذا لا يحاسب كل بجرمه، ولماذا تطالب كل فئة مسلمة
بإعلان البراءة والتنصل من الفعل؟ !
ليس ذلك فحسب وإنما تصرف بعضنا كما لو أنه تعين علينا أن نحبس أنفاسنا،
وننفض أيدينا من كل شيء انتظاراً لرد الفعل الأمريكي الذي لا نعرف مداه،
ولسنا متأكدين من كل أهدافهم.
والأمر كذلك؛ فهل لنا أن نقول إننا بصدد طور جديد في العلاقات الدولية
تفرض فيه الولايات المتحدة أجنحتها على الجميع بحيث لا ننشغل إلا بهمومها ولا
نفرح ولا نحزن إلا لأفراحها وأحزانها؟ !
[الكاتب: فهمي هويدي، صحيفة الأهرام، العدد: (41924) ]
الرئيس الفاشل
تلعثم الرئيس الأمريكي جورج بوش، وهو يلقي كلمة أمام جمع من الموظفين
في المقر الرئيسي لإدارة شؤون العمل بواشنطن، حين ذكر أن الولايات المتحدة
«ستفشل» بمهمتها في محاربة الإرهاب، مفاجئاً جميع من استمعوا إليه، قبل
أن يعود إلى تصحيح ما قال ويتابع كلمته. وكان بوش يتحدث عن الحرب ضد
من سمّاهم: «الإرهابيين ومن يؤونهم» حين قال: «لا شك عندي أبداً ولا
للحظة واحدة، بأننا سنفشل في مهمتنا» ثم صمت قليلاً وقال بعد أن اكتشف
الهفوة: «طبعاً الفشل.. الفشل كلمة لا توجد في قاموسنا» . ومن أشهر
تلعثمات الرئيس الأمريكي الجديد، ما حدث عندما كان لا يزال مرشحاً للانتخابات
الرئاسية، خلال مقابلة تلفزيونية أعدتها معه إحدى المحطات التلفزيونية في أكتوبر
العام الماضي، عندما سأله عن رأيه في «مجموعة طالبان» فتاهت المعلومات من
ذهن بوش تلك اللحظة، وصمت لثوان ثم قال: «الحقيقة أنني لم أسمع إلا القليل من
موسيقى هذه الفرقة قبل الآن، ولكني أعتقد بأنهم من بين أفضل الفرق في
الروك أند رول الشعبي، نظراً لشهرتهم الكبيرة» ، إلا أن معد اللقاء كرر
السؤال ثانية، مرفقاً ببعض المساعدة، فقال: «طالبان.. أقصد طالبان في أفغا..
إرها ... إرهاب» ، عندها استدرك بوش هفوته، وقال بعد أن استرجع الذاكرة:
«نعم. طبعاً، طبعاً، إنهم إرهابيون» .
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8348)) ]
التعاون على.. القتل والعدوان
بأمر مني، بدأت القوات العسكرية الأمريكية توجيه ضربات عسكرية ضد
معسكرات التدريب الإرهابية التابعة لمنظمة القاعدة والمنشآت العسكرية لنظام
طالبان في أفغانستان. إن هذه العمليات المهدَّفة بحذر وعناية مصممة لتعطيل
استخدام أفغانستان كقاعدة إرهابية للعمليات، ولمهاجمة القدرات العسكرية لنظام
طالبان. وتنضم إلينا في هذه العملية صديقتنا الراسخة بريطانيا العظمى. وقد تعهد
أصدقاء عظام آخرون لنا بما فيهم كندا وأستراليا وألمانيا وفرنسا، بمشاركة قواتها
في هذه المعركة فيما تسير هذه العملية قدماً. وكذلك، فإن أكثر من 40 دولة في
الشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا وآسيا منحت حرية استخدام مجالاتها الجوية أو
حقوق الهبوط لطائراتنا. كما أن العديد من الدول وفرت لنا معلومات استخباراتية،
وفضلاً عن ذلك، فإننا نحظى بتأييد الإرادة الجماعية للعالم. وفي الوقت ذاته فإن
المضطهدين من أبناء أفغانستان سيعرفون كرم أمريكا وكرم حلفائنا؛ ففيما نقوم
بتوجيه الضربات للأهداف العسكرية، سنقوم كذلك بإلقاء شحنات الغذاء والدواء
والإمدادات من الجو للجياع والذين يعانون من الرجال والنساء والأطفال في
أفغانستان.
الرئيس الأمريكي: جورج دبليو بوش، موقع وزارة الخارجية الأمريكية
http://usinfo.state.gov/arabic
الدولة الثانية من.. الستين! !
يتوقع بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي أن يكون ضرب العراق الهدف
الثاني للحرب الأمريكية المناهضة للإرهاب. وأوضح (ترنت لوت) زعيم الأقلية
الجمهورية في مجلس الشيوخ الأمريكي أنه يتوقع أن تبادر الولايات المتحدة إلى
شن هجوم على العراق في وقت لاحق. وأكد السيناتور لوت الذي يمثل ولاية
ميزوري دقة التصريحات الأخيرة التي أدلى بها (بول وولفويتر) مساعد وزير
الدفاع الأمريكي التي أعرب فيها عن اعتقاده بأن الولايات المتحدة ستلجأ إلى ضرب
العراق في وقت لاحق. وأعرب السيناتور لوت في حديث لشبكة التلفزيون
الأمريكية (فوكس نيوز) عن خيبة أمله لرفض بعض الدول دعم المساعي
الأمريكية المناهضة للإرهاب. وانتقد لوت فرنسا بشكل خاص لتراجعها عن دعم
بلاده قائلاً: لقد عملت الولايات المتحدة الكثير خلال القرن الماضي لمساعدة فرنسا،
وقد حان الوقت لكي ترد فرنسا هذا الجميل عن طريق دعم الحرب التي تشنها
واشنطن ضد عدو مشترك. ومن جهة أخرى أوضح السيناتور الديمقراطي
(جوزيف ليبرمان) ممثل ولاية كونكتيكيت والمرشح الديمقراطي السابق لمنصب
نائب رئيس الجمهورية أن الارتباطات والاتصالات التي قيل إنها حصلت بين
محتجزي الطائرات والمخابرات العراقية قد تسوِّغ استخدام القوة العسكرية ضد
العراق.
[جريدة الرياض، العدد: (12159) ]
بلا أخلاق
انتقد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب) العمليات الاستخباراتية
الحالية في بلاده معتبراً أن أجهزة الاستخبارات الرئيسية ركزت أكثر من اللازم
على التكنولوجيا المتقدمة في السنوات الأخيرة، وأقل من اللازم على تجنيد
المخبرين «المرفوضين أخلاقياً» داخل المنظمات الإرهابية الأجنبية، وأعطت
تصريحات جورج بوش (الأب) الذي كان نفسه رئيساً سابقاً لوكالة الاستخبارات
المركزية «سي. آي. إيه» دفعاً قوياً لموجة التساؤلات المتزايدة عن سبب إخفاق
أجهزة الاستخبارات التي يصل عددها إلى 13 جهازاً، وتحت تصرفها ميزانية
مكافحة الإرهاب تبلغ 10 مليارات دولار في اكتشاف المؤامرة المعقدة التي أدت إلى
الهجمات الانتحارية المنسقة في نيويورك وواشنطن. وركز بوش الذي كان يتحدث
في لقاء عام في بوسطن على قوانين ولوائح «سي. آي. إيه» التي تتطلب
حصول رجال المكتب الذين يعملون في الخارج على موافقة مقر الوكالة إذا
استخدموا مخبرين يشتبه في ارتكابهم انتهاكات لحقوق الإنسان، وقد تم إقرار هذه
الإجراءات عام 1995م وسط فضائح حول انتهاكات ارتكبها جواسيس تابعون
للوكالة في غواتيمالا، وأضاف بوش: «يجب أن نحرر شبكة الاستخبارات من
بعض قيودها، إن الاستخبارات البشرية هي نوع من العمل القذر، وعليك التعامل
مع العديد من الأشخاص المرفوضين أخلاقياً» .
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8327) ](168/135)
المنتدى الإسلامي
التقرير السنوي لعام 1422 هـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد،
ها نحن نجدد اللقاء معكم من خلال تقريرنا السنوي لعام 1422هـ لأنشطة
المنتدى الإسلامي الذي يمتد عمره بفضل الله تعالى إلى سبعة عشر عاماً، بادئاً من
عام 1406هـ حتى الآن. نسأل الله تعالى أن يستمر في عطائه.
أخي الحبيب: لقد خطا المنتدى في مسيرته السابقة خطوات واسعة وثابتة كمّاً
وكيفاً.
كمّاً: من حيث تعدد الأنشطة وتنوعها من مشروعات إنشائية، تعليمية،
دعوية، تربوية، إعلامية، وإغاثية، وكلها تصب في هدف واحد هو خدمة هذا
الدين وتبليغ دعوة الله عز وجل.
كيفاً: وذلك بتطور الأداء وتحسينه والتوجه نحو العمل المؤسسي القائم على
التخطيط المبرمج زمنياً حيث حاجة الواقع والإمكانات المتاحة.
تم ذلك بفضل الله تعالى ثم بجهود أهل العلم من العلماء والدعاة وطلبة العلم،
وبدعم أهل الخير الذين يبذلون من أموالهم ويقدمون من جهودهم وأوقاتهم في سبيل
الله تعالى. إن المنتدى الإسلامي إذ يضع بين يديك هذا التقرير ليحمد الله تعالى
على فضله ومنِّه، وندعوه سبحانه أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وأن يوفق
الجميع لما يحب ويرضى.
المنتدى الإسلامي
* المنتدى والعمل المؤسسي
بداية نود أن نضع بين أيديكم صورة واضحة للأسلوب الذي يتبعه المنتدى في
العمل:
أولاً: العمل المؤسسي:
حيث يقوم العمل في المنتدى على أساس من هيكل تنظيمي يقوم على فكرة
المجالس التي تشكل الأمانة العامة:
ويتكون كل مجلس من المجالس الخمسة من عدد من الأعضاء، يختارون من
بينهم أميناً للمجلس، معتمدين مبدأ الشورى، وقراراته ملزمة بالتصويت.
ثانياً: التخطيط:
وكل مجلس من هذه المجالس يعمل وفق خطة معدة بناءً على دراسة واقع
العمل واحتياجاته، ومراعاة الإمكانات والقدرات المتاحة لنا، ثم توزيع هذه الخطة
على جدول زمني لمدة خمس سنوات.
كذلك لكل مكتب من مكاتب المنتدى خطة سنوية يعمل على أساسها؛ حتى
يكون العمل منظماً مثمراً بعيداً عن الارتجال والفردية التي من أخطر سلبياتها توقف
العمل إذا تغيب القائم عليه.
* النشاط التعليمي
لحكمة عظيمة كان أول ما نزل من القرآن الكريم قول الله تعالى: (اقرأ)
وكان قسمه سبحانه بالقلم في قوله: [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ] (القلم: 1) .
ومن حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم الصحابة جعل فداء الأسير من
المشركين في بدر أن يعلِّم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة.
من هنا كان اهتمام المنتدى الإسلامي بالتعليم من حيث إنشاء المدارس
والمعاهد، وتشغيلها، وتوزيع المناهج الدراسية على الطلاب، وإعداد المعلمين
وغير ذلك.
وقد كان للمنتدى في ذلك أنشطة متعددة منها:
إنشاء المدارس:
وهي تنقسم إلى قسمين:
1 - المدارس الشرعية:
العلم الشرعي هو سبيل المسلم لعبادة ربه عبادة صحيحة، وهو حصن المسلم
وسلاحه في مواجهة الشيطان ووساوسه، من هنا كان اهتمام المنتدى الإسلامي
بإنشاء المدارس الشرعية والإشراف عليها لإعداد وتخريج مجموعات من الطلاب
لهم علم بأحكام الدين ليقوموا بدورهم بتعليم غيرهم، قال تعالى: [وَمَا كَانَ
المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة: 122) وقد أنشأ المنتدى حتى
الآن بحمد الله (4) مدارس شرعية في مراحل التعليم المختلفة، يدرس فيها
(592) طالباً، هي:
م ... اسم المدرسة ... ... موقعها ... ... مرحلتها ... عدد طلابها
1 ... ثانوية البيان ... ... نيجيريا ... ... ثانوي ... ... 104
2 ... متوسط البيان ... ... نيجيريا ... ... متوسط ... ... 35
3 ... دار الحديث ... ... مالي ... ... ... ابتدائي ... ... 400
4 ... الإمام مالك ... ... ... مالي ... ... ... ثانوي ... ... 53
2 - المدارس النظامية:
ويدرس فيها الطالب العلوم المقررة في بلده إضافة إلى العلوم الشرعية المعدة
من قِبَل المنتدى.
ويهدف المنتدى بهذا النوع من المدارس إلى تأهيل أبناء المسلمين بالعلوم
الشرعية والطبيعية ليتمكنوا من مواصلة الدراسة في الجامعات الحكومية في مختلف
التخصصات.
وقد بلغ عدد المدارس النظامية التابعة للمنتدى (26) مدرسة منها:
م ... اسم المدرسة ... ... الموقع ... ... ... المرحلة ... عدد الطلاب
1 ... مدرسة كينيا الابتدائية ... كينيا ... ... ... ابتدائي ... ... 1200
2 ... مجمع الصديق التعليمي ... غانا ... ... ... ابتدائي
... ... ... ... ... ... ... ... ... متوسط ... ... 750
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ثانوي
3 ... ابتدائية تنزانيا ... ... تنزانيا ... ... ... ابتدائي ... ... 200
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... متوسط
4 ... مدرسة عمر بن الخطاب ... مالي ... ... ابتدائي ... ... 150
5 ... مدرسة أبخ الإسلامية ... جيبوتي ... ... ... ابتدائي ... ...
6 ... مدرسة دار الحنان ... ... الصومال ... ... ابتدائي ... ... 232
7 ... مدرسة الطيبة ... ... ... بنجلاديش ... ... ابتدائي ... ... 150
المعاهد الشرعية:
وهي معاهد تهتم بتعليم العلم الشرعي القائم على الكتاب والسنة لتخريج دعاة
مؤهلين بالعلم النافع لهذه الأمة، وقد حرص المنتدى على تشغيل معهدين شرعيين
أنشأهما البنك الإسلامي للتنمية في الصومال وهما:
- معهد للمرحلتين المتوسطة والثانوية، يبلغ عدد طلابه (175) طالباً.
- معهد لإعداد المعلمين ويبلغ عدد طلابه (120) طالباً.
ولم يكن المنتدى بعيداً عن مستحدثات العصر وتقنياته، بل كان متفاعلاً معها
ومتواكباً مع كل جديد؛ ومن هنا كان التفكير في إنشاء كلية لندن المفتوحة سنة
1420هـ لتدريس العلوم الشرعية باستخدام وسائل الاتصال والتقنية الحديثة،
كالإنترنت والفاكس تيسيراً على الدارسين أينما كانوا. وتمنح الكلية درجتي الدبلوم
والبكالوريس باللغتين العربية والإنجليزية، وقد بلغ عدد الطلاب المسجلين فيها هذا
العام (133) طالباً من (26) دولة.
توزيع المناهج الدراسية:
تفتقر كثير من المدارس الإسلامية في كثير من الدول إلى المناهج الدراسية؛
مما قد يؤدي لضعف المستوى العلمي للطلاب؛ لذا سعى المنتدى إلى توفير الكتب
الدراسية وإرسالها إلى المدارس المحتاجة إليها.
وقد تم هذا العام بحمد الله توزيع (17748) كتابًا، في (7) دول يوضحها
الرسم البياني الآتي:
رفع كفاءة المعلمين:
ولأن المعلم هو الأساس في العملية التعليمية كان لا بد من الاهتمام به اهتماماً
خاصاً من حيث الاختيار أولاً ثم التدريب والتأهيل من خلال الدورات التربوية
والشرعية والإدارية لرفع كفاءتهم وتحسين أدائهم ليحققوا الأهداف المرجوة من
العمل، وقد تم هذا العام عقد (8) دورات في (4) دول استفاد منها أعداد كبيرة
من المعلمين.
* النشاط الدعوي
[وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
(فصلت: 33) .
يحرص المنتدى الإسلامي على تبليغ دعوة الله تعالى إلى القاصي والداني
بالوسائل المنوعة، ومهما تنوعت الوسائل إلا أنها لا تغني أبداً عن الدعاة المؤهلين.
من هنا حرص المنتدى على بث دعاته في كثير من دول العالم.
وبالتجربة كان الدعاة المحليون هم الأجدى والأكثر أثراً في دعوة بني جلدتهم؛
ولذلك يحرص المنتدى على حسن اختيار دعاته من المؤهلين علمياً، وإعدادهم
إعداداً جيداً من خلال دورات متخصصة وملتقيات شهرية وأبحاث شرعية متنوعة
خلال العام، ثم متابعتهم متابعة دقيقة بشكل دائم، ويقوم هؤلاء الدعاة بأعمال
وأنشطة دعوية متعددة، من أهمها: التدريس في المدارس الإسلامية، وإمامة
المصلين في المساجد، وإلقاء خطب الجمعة، وإلقاء الدروس العلمية والمحاضرات
العامة، ومن أنشطتهم البارزة أيضاً القوافل الدعوية التي أثمرت بفضل الله خلال
العام الماضي إسلام (892) شخصاً.
وتبين الأشكال البيانية المرفقة تطور أعداد الدعاة خلال الفترة من (1412 -
1422هـ) .
وكذلك تصنيف الدعاة من حيث مؤهلاتهم العلمية.
* الاهتمام بالقرآن
[الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ
العَزِيزِ الحَمِيدِ] (إبراهيم: 1) .
يهتم المنتدى الإسلامي بالقرآن الكريم اهتماماً خاصاً، ويسعى لتربية النشء
المسلم على آدابه وتوجيهاته؛ ليكونوا صالحين مصلحين بوسائل متعددة منها:
حلقات التحفيظ:
حيث يتبنى المنتدى (311) حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، موزعة في (9)
دول. ينتظم فيها (8916) طالباً وطالبة، وكان من بعض نتائج هذا العام:
إتمام (312) طالباً حفظ القرآن الكريم، نسأل الله تعالى أن يكونوا من العاملين به.
والرسم البياني المرفق يوضح عدد الحلقات خلال السنوات الماضية:
تأهيل معلمي الحلقات:
* ويقوم على حلقات التحفيظ هذه مجموعة من المحفظين المؤهلين حيث يتم
اختيارهم وتأهيلهم من خلال دورات علمية وتربوية، وقد أقام المنتدى (8)
دورات في عدة دول خلال العام الماضي. هذا فضلاً عن توزيع كتاب (نحو أداء
متميز لحلقات تحفيظ القرآن الكريم) .
* ولا يقتصر الاهتمام بالقرآن الكريم مع الصغار فقط بل يشمل جميع الفئات؛
حيث تقام المسابقات التي يشارك فيها جميع فئات المجتمع تشجيعاً للمسلمين على
حفظ القرآن الكريم.
* وكذلك من صور الاهتمام بالقرآن الكريم توزيع المصاحف، وقد تم بحمد
الله هذا العام توزيع (9459) مصحفاً في (10) دول منها (3500) نسخة من
العشر الأخير من رمضان.
* المشروعات الإنشائية
بناء المساجد:
للمسجد دوره المهم في المجتمع المسلم، ومن أجل تحقيق هذا الدور يحرص
المنتدى على بناء المساجد ورعايتها مع الحرص على حسن اختيار الموقع المناسب
له من حيث الكثافة السكانية ونسبة المسلمين، والبعد عن المشكلات الإدارية
والأهلية، ولا يكتفي المنتدى بمجرد إنشاء المسجد فقط؛ بل يحرص على الإشراف
عليه ومتابعة الأنشطة الدعوية التي تقام فيه؛ وذلك بتعيين إمام مؤهل والإشراف
عليه، والتواصل معه من خلال الدورات الشرعية والتربوية التي يعقدها المنتدى..
وقد أنشأ المنتدى بحمد الله هذا العام (24) مسجداً في (11) دولة ليصبح
عدد المساجد التي بناها المنتدى بشكل عام (441) مسجداً، ويبين الرسم البياني
الآتي تطور بناء المساجد خلال السنوات العشر السابقة:
* المراكز الإسلامية
كذلك يهدف المنتدى إلى إنشاء المراكز الإسلامية لما توفره من مرافق متعددة؛
حيث تشتمل على مسجد جامع، فصول دراسية، مكتبة عامة، قاعة محاضرات،
مكاتب إدارية، دار للضيافة وغيرها تسهيلاً في تنفيذ البرامج الدعوية والتعليمية.
وقد بلغ بحمد الله عدد المراكز التي بناها المنتدى حتى الآن (24) مركزاً.
* الأنشطة التربوية
حرصاً من المنتدى على توفير المناخ التربوي المناسب للشباب المسلم ليتحول
العلم إلى عمل وممارسة عملية يقوم المنتدى بعقد برامج تربوية مختلفة منها:
1 - المخيمات الطلابية:
وهي تهتم بشريحة الشباب والطلاب بهدف تربيتهم على مبادئ الإسلام وآدابه.
وقد تم بفضل الله في العام الماضي إقامة (13) مخيماً ومركزاً، استفاد منها
(1160) طالباً في (6) دول.
2 - المحاضن التربوية:
عبارة عن مجموعة طلاب يجمعهم سكن واحد، وتقام فيه برامج علمية
وتربوية ودعوية؛ وذلك لإعدادهم لتحمل مسؤولية العمل الدعوي بعد ذلك في
بلادهم وبين ذويهم.
3 - برامج الاعتكاف:
لما للعشر الأواخر من رمضان من ثواب وروحانية عالية تسمو بالنفوس إلى
الخير والصلاح. فإن المنتدى يقوم خلال شهر رمضان من كل عام بالإشراف على
برامج الاعتكاف في عدة تجمعات في دول مختلفة حرصاً منه على تحقيق المردود
النفسي والتربوي للاعتكاف.
* البرامج الإغاثية
لم يكن المنتدى غائباً عن مجريات الأحداث التي تمس المسلمين في أنحاء
العالم؛ بل كان مبادراً لمد يد العون والإغاثة لهم في كل مكان؛ ومن ذلك إقامة
(10) برامج إغاثية في كل من بنين وتشاد، استفاد منها ما يقارب (116000)
متضرر. قال صلى الله عليه وسلم: «من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا
فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم.
مخيمات مكافحة العمى:
نظراً لقلة ذات اليد يعجز كثير من المسلمين عن طلب العلاج لأمراضهم،
ومن الأمراض المنتشرة في العالم (أمراض العيون) التي يعاني من ابتُلى بها
معاناة كبيرة قد تؤدي به إلى الحرمان من نعمة البصر؛ ولذا يحرص المنتدى على
نفع المسلمين بإقامة مخيمات مكافحة العمى بالتعاون مع مؤسسة البصر الخيرية
العالمية، وقد أقيم بفضل الله هذا العام (5) مخيمات لمكافحة العمى في (4) دول
استفاد منها (24654) شخصاً ما بين كشف وجراحة وعلاج، نسأل الله أن يشفي
مرضى المسلمين.
إفطار الصائمين:
كذلك كان المنتدى قريباً من الفقراء والمحتاجين خاصة في مواسم الخير
والعطاء في شهر رمضان؛ حيث قدم المنتدى بحمد الله (1. 142. 850) وجبة
إفطار للصائمين المحتاجين في (56) دولة، وكان من أثرها على غير المسلمين
أن أسلم (340) شخصاً نتيجة ما رأوا من ترابط المسلمين وتعاطفهم.
توزيع الأضاحي:
كذلك قام المنتدى بتوزيع (3999) أضحية استفاد منها (42. 700) مسلم
في (17) دولة.
* المحطات والآبار
عيون الحياة:
يهدد الجفاف كثيراً من الدول الإسلامية وخاصة في إفريقيا، ولأن الماء هو
أصل الحياة لكل كائن حي؛ فإن المنتدى يحرص على المساهمة في تخفيف معاناة
المسلمين من خلال إنشاء محطات المياه وحفر الآبار:
محطات المياه:
وهي تتكون من بئر إرتوازية، ومضخة رفع المياه، ومولد كهرباء، غرفة
لحفظ المضخة والمولد، خزان كبير، تمديدات توصيل المياه إلى عدة نقاط في
القرى المستهدفة وقد تم إنشاء (6) محطات في شرق السودان.
مشروع سلسبيل:
وهو عبارة عن خزانات كبيرة تنشأ في الأحياء الفقيرة التي تعاني من قلة
الماء، ويتم تغذيتها يومياً بواسطة صهريج كبير، وقد أنشأ المنتدى (6) خزانات
في منطقة (كسلا) بالسودان.
حفر الآبار:
وقد تم حفر (95) بئراً إرتوازية في (8) دول خلال هذا العام بحمد الله
ليصبح مجموع الآبار التي تم حفرها (669) بئراً. والرسم البياني الآتي يوضح
تطور حفر الآبار في السنوات العشر الأخيرة.
* المنابر الإعلامية
مجلة البيان:
مجلة تصدر باللغة العربية تهتم بالدراسات والأبحاث الشرعية وهموم
المسلمين في العالم، وهي تخاطب شريحة الدعاة وطلبة العلم، وقد صدر العدد
الأول منها في ذي الحجة 1406هـ.
يوزع منها ما يزيد على أربعين ألف نسخة شهرياً منها (5000) نسخة
مجاناً للدعاة وطلبة العلم، والمراكز الإسلامية في عدة دول، وأخيراً صدرت
موسوعة البيان الإلكترونية على قرص كمبيوتر يحتوي على (150) عدداً من
مجلة البيان.
كتاب المنتدى:
وهي سلسلة كتب تعالج قضايا الأمة المسلمة على تنوعها: دينية واقتصادية
واجتماعية وسياسية من وجهة النظر الإسلامية.
وقد بلغ المطبوع منه حتى الآن (34) عنواناً طبع بعضها (عشر طبعات)
ويوزع كثير منها مجاناً في الدول الإسلامية، وفي هذا العام تم بحمد الله طباعة
ثمانية كتب جديدة يوضحها البيان الآتي:
مجلة الجمعة:
ناطقة باللغة الإنجليزية، وتوزع ما يقارب (15) ألف نسخة شهرياً، وتهتم
بقضايا المسلمين ومشاكلهم وتخاطب عامة المسلمين.
كتاب الجمعة:
لأن الإسلام دين عالمي وليس للعرب فقط كان لا بد من الاهتمام بغير العرب،
ومن ذلك إصدار سلسلة كتب مترجمة إلى لغات مختلفة منها: سلسلة كتاب الجمعة
وهي تصدر باللغة الإنجليزية.
وقد تم طباعة وتوزيع سبعة كتب، وتوجد مجموعة أخرى تحت الطبع،
ويبين الرسم الآتي كمية توزيع الكتب المترجمة.
المطويات:
وتصدر باللغات المحلية من مكاتب المنتدى في الدول المختلفة.
الطاولات الدعوية:
وتوضع هذه الطاولات في أماكن تجمع الناس أيام العطلات خاصة في مدينة
لندن، وقد آتت هذه الطاولات ثماراً جيدة في الأعوام السابقة.
الصحافة والإذاعة والتلفاز:
ويحرص دعاة المنتدى على الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة كلما أمكن
ذلك؛ لما لها من أثر كبير على قطاعات كبيرة ومتنوعة من المجتمع.(168/143)
الورقة الأخيرة
حول صراع الحضارات
أ. د. محمد يحيى [*]
منذ فترة قريبة خرج أحد أساتذة السياسة الأمريكيين بمقالة تحدَّث فيها عن
وقوع ما أسماه بـ (صراع الحضارات) كشكل حديث للصراع يحل محل الصراع
العسكري أو السياسي أو الدعائي الذي ساد حتى وقت قريب بين الكتلة الشرقية
السابقة والمعسكر الغربي، وتحدث هذا الباحث وهو «صمويل هنتنجتون» عن
صراع بين الغرب والحضارة الإسلامية الناهضة وبين الغرب وكتلة آسيوية كبرى
ناشئة. وعلى الرغم من أن هذه المقالة لم تكن ذات وزن كبير في موازين الفكر
والفلسفة إلا أنها استثارت ردود فعل عديدة وحادة في عالمنا العربي الإسلامي ربما
كانت أكبر من حجم الطرح الذي قدمه الأستاذ الأمريكي، والذي لم يكن سوى تحديد
متوقع لمسار السياسات الغربية في الآونة القادمة. وأكاد أقول إن ردود الفعل
الصادرة عندنا على هذه المقالة أو المقولة كانت أكثر أهمية من ناحية كشفها عن
مستويات وتوجهات معينة في التفكير. ومن هذه الردود مثلاً ما ذهب إليه نفر من
الرموز الدينية الرسمية حيث صرحوا بأن التعاون والتقارب بين الحضارات
والثقافات هو الذي يجب أن يسود وليس الصراع والتنافس، ثم زادوا بالقول إن
الإسلام ما جاء إلى الدنيا إلا ليؤسس هذا التعاون بين الحضارات والثقافات،
ويستبعد الصراع والتنافس.
وتكشف سطحية هذا الرد وتهافته عن نوعية من التفكير الضحل يراد لها أن
تسيطر على عقول المسلمين وتصوراتهم في هذه الفترة إزاء كل ما يصدر عن
الغرب، وأقصد بها عقلية الاستخدام والاستضعاف والخنوع؛ فأصحاب هذه العقلية
لا يتصورون أن يكون الإسلام منافساً لعقائد الباطل أو مصارعاً لثقافات التغريب
والعلمنة والإلحاد والانحلال. وهم يريدونه خانعاً ذليلاً منزوياً لا يحرك ساكناً، بل
إذا جاء كاتب من الغرب ليكشف عن أن سياسة قومه في المرحلة القادمة تجاه
الإسلام هي سياسة صراع وحرب ونزال جاء هؤلاء مرتعشين خائفين ليؤكدوا أن
الإسلام دين محبة وسلام تجاه دعاة الحرب والصراع.
والواضح من متابعة أجهزة الإعلام، ووضع السياسات، ومن السياسات
الفعلية المنفذة على الأرض أن مقولة: «صراع الحضارات والثقافات» هي فعل
مطبق وليس تصوراً مستقبلياً؛ فالكنائس وأصحابها من بابوات وأساقفة يجوبون
مناطق إسلامية يروجون لمذاهبهم حتى وهم يرفعون شعارات التقارب والحوار بين
الأديان، والمؤامرات تدور على قدم وساق وعلى نطاق استراتيجي واسع لضرب
الإسلام وتقزيمه بوصفه ديناً وعقيدة؛ ولعل أبرزها ما يدور في وسط إفريقيا
وشرقها حيث استنفرت وسلحت جماعات متفرقة من جنوب السودان إلى إريتريا من
ناحية وزائير من الناحية الأخرى؛ بهدف إنشاء دولة كبرى لقبائل التوتسي أو قبائل
غير مسلمة تحول دون انتشار الإسلام في تلك الأقاليم، بل تعمل بعد ذلك على رده
ودحره إلى الشمال، وتشارك في هذا المخطط بجانب القبائل والجماعات المحلية
دول إفريقية وبلدان غربية وكنائس عالمية، وتجري في إطاره أحداث جسيمة
تراوحت من مذابح بوروندي ورواندا إلى الحرب في زائير وفي جنوب السودان،
وإلى غزوات مسلحة هنا وهناك، وتشجيع للتمرد وتسليح لجماعات المعارضة إلى
آخره. يحدث كل هذا أمام أعين الجميع مصداقاً لمقولة: «صراع الحضارات» ،
ويحدث مثله في أمكنة أخرى كأندونيسيا، وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية،
وأخيراً الباكستان وأفغانستان؛ ومع ذلك يستميت بعضٌ عندنا وحتى من الرموز
الدينية في إنكار حدوث هذا الصراع، والدعوة إلى التقارب والتعاون مع الغير من
المهاجمين؛ فلماذا؟
إن الإنكار الملحَّ لوقوع صراع بين الثقافات والحضارات حتى مع وقوعه
الفعلي أمام أعين الجميع يعبر عن اتجاهات متعددة يراد لها أن تلوِّن فكر المسلمين
كما قلت.
أولها: أن الإسلام دين أشبه بما يدعى البوذية وبعض العقائد والمذاهب
الروحانية الخاملة التي لا تتخذ مواقف في الحياة، ولا تدافع عن أنفسها (رغم أن
البوذية ليست بذلك المذهب) ، وفي إطار هذا التصور يكون مقبولاً أن تكون
للنصرانية جيوش تحارب في الصرب أو أثيوبيا أو في روسيا، ويكون مقبولاً أن
تكون لليهودية قنابل ذرية، ولا يكون مقبولاً أن تكون للإسلام قوة تدافع عنه وإلا
اعتبر ذلك دعوة للصراع والحرب، وانتهاكاً لقيمة التعاون بين الحضارات التي
يجب أن تعلو على كل شيء آخر!
وثانيها: أن الإسلام يجب ألاَّ يدعي لنفسه هوية مميزة في العقيدة والشريعة
والتعاليم والأخلاق تفصله عن غيره بحكم أنها الحق الذي يعلو على باطل الآخرين
فهذا المذهب أيضاً هو خروج عن قيمة المحبة بين الحضارات، ودعوة إلى
الصراع والحرب الذي ما جاء الإسلام إلا ليستبعده. ويكون من المقبول هنا أن
يدافع الغربي عن حضارته وثقافته ويروِّج لها، بل ويفرضها بشتى وسائل الإعلام
والدعاية والقهر السياسي منه والثقافي، بل ويكون مقبولاً للهندوكي أن يفعل الشيء
نفسه، ولا يكون مقبولاً من المسلم أن يتمسك بثقافة متميزة (ولا أقول: بدين)
وإلا عُدَّ ذلك تحريضاً على صراع الحضارات والثقافات.
وثالثها: أن منكري صراع الثقافات الماثل أمام أعينهم هم من ذوي النزعة
العلمانية المادية (حتى إن كانوا من أرباب المناصب الرسمية الدينية) التي تقبل
بأن يكون هناك صراع بين الدول والشعوب على أسس من الاقتصاد والأطماع
المادية أو حتى على أسس معنوية كالقومية؛ لكنها لا تتصور أن يكون الدين على
قدر من الأهمية يسمح له بأن يكون محور بناء وهوية للدول فضلاً عن أن يكون
محور صراع. وقد يتحدثون في النصرانية واليهودية عن حروب (ومنها حرب
نهاية العالم المشهورة فيما يسمى الفكر الديني الأصولي في الغرب) وصراعات
تنشأ بسبب الدين والثقافة. أما عند أصحاب النزعة العلمانية فحرام أو غير متصور
أن تنشب صراعات حضارية أو ثقافية حتى وهي تدور أمامهم لكنهم لا يرونها، أو
لعلهم يرونها لكنهم يريدون للمسلمين أن يقفوا إزاءها صامتين حتى ينهزموا وهم
يسبحون بالتقارب مع ثقافات قاتليهم!
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(168/159)
رمضان - 1422هـ
ديسمبر - 2001م
(السنة: 16)(169/)
كلمة صغيرة
بل هذا هو الإرهاب..!
منذ أن بدأ القصف الأمريكي العشوائي الاستعراضي على أفغانستان سالت
دموع الإدارة الأمريكية حزناً (! !) على مئات الآلاف من المشردين والعجزة
والشيوخ والنساء، والأطفال الذين فروا من هول الحرب الحضارية الجديدة،
وفاضت أيديهم الإنسانية الرحيمة بلقيمات من المعونات الغذائية والطبية خوفاً على
المسلمين الأفغان من شبح المجاعة القادمة!
لقد سَخِرَت الولايات المتحدة الأمريكية من شعوب العالم وخاصة المسلمين
منهم وهي تمطر أرض الأفغان المسلمة بوابل من الأسلحة، ثم سَخِرَت منهم ثانية
وهي تتحدث عن المأساة الإنسانية، وهذه الصفة الغادرة صفة أصيلة قديمة في
الإدارة الأمريكية؛ ففي عام (1950م) أعرب وزير الخارجية الأمريكي ومعه
بعض النواب الأمريكيين عن هذا المبدأ، فقالوا: (إذا حلت المجاعة في القارة
الصينية؛ وجب على الولايات المتحدة تقديم القليل من المساعدة، لا لمقاومة
المجاعة نفسها، ولكن فقط بقدر ما تكون كافية لإحراز نقطة في الحرب
النفسية) [1] . وفي عام (1947م) رصدت إحدى الدراسات أنَّ المعونة الأمريكية
توجه فقط: (إلى البلدان ذات الأهمية الاستراتيجية الأساسية للولايات المتحدة، إلا
في حالات نادرة جداً؛ حيث تسنح الفرصة للولايات المتحدة عن طريق هذه المعونة
للحصول على الرضا العالمي نتيجة فعل إنساني استعراضي!) [2] .
إن ترويع شعب كامل من الآمنين، وسحقه بالقنابل والصواريخ، وتدمير
قرى بأكملها وأحياء مأهولة بالسكان، وتشريد مئات الآلاف من العجزة
والمستضعفين في أراض مقفرة ضربها الجفاف حتى أتى عليها من جذورها ... إن
ذلك كله هو الإرهاب عينه، ولكنه الإرهاب الحضاري الذي تباركه هيئة الأمم
المتحدة، وتطرب له الدول التقدمية، ويتواطأ المتحضرون للتستر عليه..!
إن منطق القوة الإرهابي يتباكى على ضحايا أمريكا الأبرياء (!) أما ضحايا
أفغانستان فلا بواكي لهم، ويستحقون ما أصابهم..! ! وصدق المولى جل وعلا:
[كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى
قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] (التوبة: 8) .
إننا نذكِّر أمريكا بأنَّ الشعوب المستضعفة لن تبقى كذلك، بل إنَّ التفنن في
إهانتها واستذلالها هو الذي سوف يحييها بإذن الله تعالى، وما أجمل قول الشاعر
العربي:
وإذا الذئاب استنعجت لك مرة ... فحذار منها أن تعود ذئابا!
__________
(1) أمريكا طليعة الانحطاط، ص 68- 69.
(2) أمريكا طليعة الانحطاط، ص 68 - 69.(169/1)
الافتتاحية
رسالة من القلب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
يقف الإخوة الأفغان في خنادقهم ثانية لمواجهة الحرب الشرسة التي شنتها
عليهم هذه المرة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها؛ ومن حكمة الله تعالى أن
جعل أرضهم موطئاً لملاحم كثيرة وطويلة جداً؛ فبعد هزيمة بريطانيا العظمى مرات
متتالية، ثم الاتحاد السوفييتي البائد، جاءت إليهم أمريكا بطغيانها وجبروتها،
والفرق في هذه الحرب عن الحروب الأولى أن العالم كله بشرقه وغربه اجتمع
عليهم هذه المرة، وراح الناس كل الناس يتحدثون عن سقوطهم وهزيمتهم، وشكل
الحكومة الأفغانية القادمة قبل أن تبدأ الحرب..! ! فكانت من البيان هذه الرسالة.
أيها الإخوة الأفغان:
إننا نعلم أنكم تعيشون أياماً قاسية عصيبة، وأنتم الآن في شغل وأي شغل!
وليس من الحكمة أن نلقي عليكم المواعظ، ونظهر أمامكم بمظهر المشيخة
والأستاذية، وأنتم تبيتون على أصوات الانفجارات والقنابل العنقودية والصواريخ
المدمرة، ثم تصبحون على حساب الخسائر وكفكفة الجراح..! ولكن عذرنا أن الله
تعالى أوجب علينا محبتكم فيه، وأن نتألم لألمكم ونحزن لحزنكم، ومن واجبنا أن
نخلص النصيحة لكم بمحبة وإشفاق، لعلَّ ذلك يكون زيادة في تثبيتكم والشدّ من
أزركم، وهذا خطاب لنا ولكم ولجميع قرائنا. نسأل الله تعالى أن يستعملنا جميعاً
في طاعته، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
أولاً: ففروا إلى الله:
قال الله تعالى: [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] (آل عمران:
126) . وقال تعالى: [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]
(الأنفال: 10) . وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) .
فعليكم بالعودة الصادقة إلى الله تعالى فما خاب من استعان به عز وجل،
[فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] (الذاريات: 50) ، والمنصور من نصره
الله تعالى. قال الله تعالى: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا
الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران: 160) ،
وفتشوا في قلوبكم، وأعلنوها توبة صريحة صادقة من كل اعتقاد أو عمل أو قول
لا يرضي الله تعالى، وليس موافقاً لشرعه، وأخلصوا له العمل وحده لا شريك له،
وأفردوا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالمتابعة؛ فإن ذلك من أعظم العدة،
وأقوى العتاد. قال تعالى: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ
يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] (الكهف: 110) .
وإنّ من أعظم ما ينبغي تجريد النية له الجهاد لإقامة الدين ورفع لواء التوحيد
. قال الله تعالى: [وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] (الأنفال:
39) ، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم،
والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ فقال: «من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [1] .
ثانياً: إياكم والقنوط:
حذار.. حذار من اليأس والقنوط، مهما طال الطريق أو تكالب الأعداء؛ فإن
ذلك بداية السقوط والهلاك أعاذكم الله من ذلك، وأهل الإيمان الراسخ يملكون يقيناً
عامراً لا تهده الفتن ولا تزلزله الأعاصير.
إنّ الهزيمة النفسية من أشد وأنكى أنواع الهزائم، فترى المرء يسقط قبل أن
يبدأ المعركة. كما أن الانتصار النفسي من أعظم أنواع النصر، ولهذا ترى العبد
المؤمن يُقبل على الله تعالى بنفس واثقة مطمئنة يرجو ما عند الله والدار الآخرة،
يحدوه قول الله تعالى: [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ
بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ]
(التوبة: 52) .
والثبات عند الفتن من أعظم الأدلة على صدق الإيمان، قال الله تعالى: [الم
* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] (العنكبوت: 1-3) . وقال تعالى:
[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 141 - 142) .
إنّ طريق الجهاد في سبيل الله طريق طويل لا يقوى على تحمل تبعاته إلا
الرجال الأشداء ذوو القلوب المؤمنة، والنفوس الكبيرة، والهمم الشماء. أما
النفوس الهزيلة، والقلوب الخاوية؛ فإنها تتراجع في بداية الطريق، [لَوْ كَانَ
عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ] (التوبة: 42) ..
نعم كثيرون أولئك الذين تدفعهم العاطفة لخدمة هذا الدين، لكن قلَّة قليلة منهم
تتماسك وتثبت عند المحن، وتتجرع الآلام والمصاعب دون خور أو ضعف أو
قنوط، وهنا يتجلى أثر الإيمان الحق في النفوس الأبيّة، والقلوب المخلصة. قال
الله تعالى: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 23) . وقال تعالى: [وَكَأَيِّن
مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ
الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (آل عمران: 146-148)
ونصر الله عز وجل لا يتنزل على أوليائه إلا بتحقيق أمرين عظيمين هما:
الصبر، والتقوى؛ فهما أعظم بواعث النصر والتمكين. قال الله تعالى: [بَلَى إِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ
اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] (آل عمران: 125-126) ، وقال تعالى: [لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل عمران: 186) .
والصبر ليس موعظة تتلى، أو خطبة تنتفخ لها الأوداج، بل هي عقيدة
راسخة ضاربة بأطنابها في أعماق القلب، وتثمر بإذن الله إقبالاً صادقاً على البذل
والعطاء، والجود بالنفس والنفيس ابتغاء وجه الله.
ثالثاً: فلا تخافوهم:
لا يهولنكم ذلك الجمع الدولي، ولا يهولنكم تواطؤ أمم الأرض عليكم، ولا
تهولنكم أمريكا بقواتها العسكرية وترسانتها الجوية؛ فإن قوَّتهم لا تساوي شيئاً أمام
قوة الله تعالى جبَّار السماوات والأرض، ولا يهولنكم ذلك الإرجاف الإعلامي الذي
طغى ضجيجه في كل مكان؛ فإنما ذلك من تخذيل الشيطان وأوليائه. قال الله تعالى:
[الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا
رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ
وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 173-175) . وقال تعالى: [وَإِذْ
زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا
تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ] (الأنفال: 48) .
وإنَّ لكم في هود عليه الصلاة والسلام قدوة حسنة؛ حيث قال الله تعالى على
لسانه: [قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي
جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (هود: 54-56) .
وإننا على يقين راسخ بأن النصر متحقق لهذه الأمة إن عاجلاً أو آجلاً. قال
الله تعالى: [سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] (القمر: 45) ، وقد يتأخر النصر
لحكمة يريدها الله تعالى؛ فقد قال عز وجل: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ]
(يوسف: 110) . وقال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) .
وكيف تنهزم أمة يؤمن رجالها بأن ريح الجنة يفوح عبيره بين الصفوف،
فيتتبعون الموت مظانه مقبلين غير مدبرين..؟ !
وكيف تنهزم أمة يؤمن رجالها بأن استشهادهم في سبيل الله تعالى هو طريق
الحياة والعزة والتمكين..؟ !
نعم ربما يحرز الكفر نصراً على المسلمين، ولكنه نصر بارد مؤقت، ومن
حكمة الله تعالى أنه قد يقدر على بعض المؤمنين انكساراً في وقت ما من الأوقات،
ليبلوهم بذلك، كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في غزوة أحد [2] ، ثم
يُعدِّهم لنصر قادم بقوته وتأييده، وفي قصة صاحب الأخدود مثل عظيم؛ إذ إن قتله
وتحريقه أدى إلى انتشار عقيدته.
إنَّ أول مراحل النصر: الانتصار على النفس، وطرد الخوف من القلب؛
فما دب الخوف في قلب إلا تصدع كيانه، وتزلزلت أركانه، وألبسه الله لباس الذل
والهوان. والخوف الحابس عن العمل آية من آيات النفاق؛ أعاذنا الله من ذلك.
قال الله تعالى: [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى
الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً]
(الأحزاب: 19) .
وكل كريهة ترفع، أو مكرمة تكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة. وبقوة القلب
يقتحم المرء الأمور الصعاب، وبقوة القلب يتحمل أثقال المكاره، وبقوة القلب تنفذ
كل عزيمة أوجبها الحزم والعدل [3] .
ولن يُستلَّ الخوف من القلب إلا بصدق اليقين والإيمان. قال تعالى: [وَأَنَّا
لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً] (الجن: 13) .
وأهل التوحيد الخالص هم أعظم الناس قوة وثباتاً، وكيف يخاف من أمَّنه الله
تعالى وهداه؟ ! قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: [وَكَيْفَ
أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ
الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ
لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] (الأنعام: 81-82) ؛ ولهذا ترى المؤمن يقبل على الله
تعالى بقلب ثابت ثبوت الجبال الرواسي لا يخاف إلا الله عز وجل، وإن الجبن آفة
سائدة تنخر القلوب المريضة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه في
دعائه قائلاً: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل
والجبن ... الحديث» [4] .
فما وجفت تلك القلوب ولم تكن ... كأخرى لها من هدة الرعب زلزال
رجال رسا الإيمان ملء نفوسهم ... فلا الجبن منجاة ولا البأس قتَّال
ولا الموت مكروه على العز ورده ... ولا العيش مورود إذا خيف إذلال
تداعوا فقالوا: حسبنا الله إنه ... لما شاء من نصر الهداة فعَّال
لقد خلع الخوف قلوب كثير من الناس في هذا الزمان، وارتعدت فرائصهم
جبناً وهلعاً، لِمَا رأوا من اجتماع الحشود الكافرة، وهم يبعدون عنهم مفاوز؛ فهل
يمكن أن تنتصر أمة شلّها الخوف والهلع بهذه الصورة المحبطة..؟ ! وصدق
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شرُّ ما في رجل: شح هالع، وجبن
خالع» [5] .
رابعاً: ادعوني أستجب لكم:
إن الدعاء من أعظم الأسلحة التي تظهر بركتها عند التحام الصفوف واحتدام
القتال؛ فهو استغاثة بمن لا يُردُّ قضاؤه، ولا يهزم جنده، وقد أمر الله عز وجل
باللجوء إليه في مثل هذه المواطن خاصة. قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الأنفال: 45) . وقال تعالى:
[أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] (النمل: 62) ، وقد كان من
هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يستغيث بالله تعالى، ويستجير به بإلحاح،
ويطلب منه المدد والعون، وخاصة عندما يحمى الوطيس؛ ففي غزوة بدر قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبَّة: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك،
اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم» . فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول الله!
ألححت على ربك.. الحديث « [6] ، وفي رواية مسلم: فاستقبل نبي الله صلى الله
عليه وسلم القبلة، ثم مدَّ يديه فجعل يهتف بربه:» اللهم أنجز لي ما وعدتني،
اللهم آت ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في
الأرض «فما زال يهتف بربه مادّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه من
منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال:
يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:
[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ]
(الأنفال: 9) ، فأمده الله بالملائكة [7] .
وإن من أعظم النصرة التي يحتاجها الإخوة الأفغان دعاء إخوانهم المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها، في خلواتهم وسجودهم، وفي آخر الليل، وعند الإفطار،
ونحوها من مواطن وأوقات الإجابة.
خامساً: لنستثمر الحدث:
على العلماء والدعاة والمصلحين في جميع أنحاء العالم أن يستثمروا هذه
النازلة في استنهاض الهمم والطاقات، وإحياء الغيرة في النفوس؛ فتتابع الفتن
وتكالب الأعداء يمكن أن يكون محبطاً مقعداً عن العمل، ويمكن أن يكون بإذن الله
من أعظم الأسباب المحركة للنفوس، المستحثة للعمل والمدافعة إذا أُحْسِنَ استثمارها
وتوظيفها لخدمة الأمة. ونعني بالاستثمار: تشجيع جميع المسلمين كبيرهم
وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم لبذل المعروف والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، حتى المقصرين بل والعصاة منهم، وها هو ذا أبو محجن
الثقفي يُسجَن ويقيد لشربه الخمر في معركة القادسية، ولكن الغيرة على الدين وأهله
تأججت في صدره فيبلي بلاءً حسناً في نصرة الدين وقتال الكافرين [8] .
ومن الاستثمار أيضاً: إحياء وعي الأمة بحقيقة المعركة التي توجه ضدها من
النصارى وأنصارهم، والملحدين وأشياعهم، وبيان سبيل النهوض والعزة، وأنه
بالعودة الصادقة إلى دين الله تعالى.
ومن الاستثمار أيضاً: تذكير الدعاة والصالحين بوجوب رصِّ الصفوف،
والتعاون على البر والتقوى، وعلاج الخلافات اليسيرة بعلم ومحبة بعيداً عن
التقاطع والتهارش الذي آذى الأمَّة أذى عريضاً.
سادساً: لا يضرهم من خذلهم:
أحزن الغيورين كثيراً إرجاف المخذلين، وربما كان أثرهم في النفوس أشد
إيلاماً من العدو الكافر نسأل الله السلامة كما قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على الحر من وقع الحسام المهنَّدِ
لكن المؤمن الحق لا يفتُّ ذلك في عضده؛ فهو واثق الخطى، خالص التوكل،
عظيم الثبات، يلهج لسانه بقوله الله تعالى: [فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ] (التوبة: 129) ، وقوله تعالى: [يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] (الأنفال: 64) .
إن الاستسلام لإرجاف الناس، وتخذيل المخذلين يجر الإنسان إلى حضيض
الانتكاس، ويسقطه في دركات الهزيمة، وقد حفظ الله تعالى أولياءه من ذلك؛ فقد
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:» لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك « [9] . والناظر في سير
الأنبياء عليهم أزكى الصلاة والسلام يجد أنهم ثبتوا على الحق، وعضوا عليه
بالنواجذ، على الرغم مما أصابهم؛ فها هو ذا أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه
الصلاة والسلام يصدع بالحق، ويعلن براءته من قومه ومن معبوداتهم. قال الله
تعالى: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ
مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ] (الممتحنة: 4) .
سابعاً: من القلب إلى المجاهدين القدامى في المعارضة الشمالية:
لقد وقف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها معكم عندما رفعتم راية
الجهاد في سبيل الله لمواجهة الشيوعيين، وكان الناس ينظرون إليكم بإكبار وإعزاز؛
فالتضحيات التي قدمتموها كانت تضحيات جليلة أحيت في الأمة علم الجهاد. ثم
لمَّا حصل ما حصل من التنابذ والصراع بين الفصائل الجهادية ضاقت صدور
المسلمين بذلك؛ فثمرة الجهاد كادت أن تصبح سراباً..! وازداد ضيقهم لمَّا كان
بعض المنتسبين إلى الجهاد يسقطون في لعبة التوازنات السياسية ويتحالفون مع
الشيوعيين تارة ومع الغرب تارة أخرى، وكان يصدر من بعضكم كلاماً شديداً في
حق هؤلاء [10] ، ثم دارت الأيام وحصل التنازع والتهارش، وتحزبت الجموع هنا
وهناك لأغراض لا تخفى عليكم.. ولكن ما كنا نظن أن الجسد الواحد سيصيبه هذا
الشرخ النازف؛ فها هم بعض المجاهدين القدامى (! !) يعودون لقتال إخوانهم،
لتحقيق مكاسب دنيوية حزبية وقبلية وشخصية رخيصة..!
على رِسْلكم أيها الناس! أليس من المخجل جداً أن يضع المسلم يده بيد
الأعداء لحرب إخوانه..؟ ! ألم تقاتلوا تلك السنين المتتابعة، وتضحوا تلك
التضحيات المشهودة من أجل إخراج الشيوعيين من دياركم؟ ! فما بالكم الآن
تقاتلون المسلمين؟ ! أتطيب نفوسكم وأنتم ترون تلك الحشود الزاحفة تجتمع لقصف
المسلمين بالقنابل الانشطارية والعنقودية، وتدمير ديارهم وأهليهم بالصواريخ
والطائرات المدمرة باسم الحرب على (الإرهاب الإسلامي) الذي كنتم تعتزون به
فيما مضى من سالف الأيام..؟ !
لقد عطرت دماؤكم ربى أفغانستان وجبالها لإخراج الشيوعيين.. ولكنكم ها
أنتم تنكصون على أعقابكم وتعودون ثانية لإدخالهم أرضكم وتسليمهم أمركم..! !
نعم.. اختلفتم مع إخوانكم وصارت بينكم محن ومنازلات لا ترضينا، وهَبُوا
أنهم أخطؤوا في حقكم أو ظلموكم، أيكون ذلك مسوغاً لظلمهم والجور عليهم؟ !
أيكون ذلك مسوغاً لمناصرة الكافرين عليهم؟ ! ألا تقرؤون قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم:» المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسْلِمُه « [11] ؟! إنهم إخوانكم
مهما اختلفتم معهم بنص القرآن الكريم؛ فالله تعالى وصف الطائفتين المتقاتلتين
بأنهم إخوة ما دام الإيمان يجمعهم [12] . أتضيع تلك الثوابت الشرعية المسلَّمة في
دين الله وتتحالفون مع العدو الكافر لتصفية إخوانكم وإبادتهم عن بكرة أبيهم؟ ! آلله
يرضى لكم ذلك..؟ ! أين المروءة ومكارم الأخلاق فضلاً عن العقيدة والدين..؟ !
يا سبحان الله! ألا تقرؤون القرآن..؟ ! إننا نناشدكم بالله العلي العظيم أن
تقرؤوا قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ
خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 118) ، وقوله تعالى: [لاَ تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ
أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ
حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] (المجادلة: 22) . وقوله تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (المائدة: 51) .
أتظنون أن الأمريكان والروس وأعداء الملَّة يقاتلون من أجلكم ولتحقيق
أهدافكم، أو أنهم راضون عنكم أو يحبون نصرتكم..؟ ! لا والله؛ فإنَّ صدورهم
تغلي بالحقد عليكم وعلى إخوانكم كغلي المرجل، ولكنها تستخدمكم لأهداف رخيصة
مؤقتة، حتى إذا تحققت مآربهم رموكم بأقدامهم الحاقدة كما رموا غيركم..! إننا
نربأ بكم أن تكونوا كما قال الشاعر:
قطيع يساق إلى حتفه ... ويمضي ويهتف للسائقين
إن معاشر المسلمين في أصقاع الأرض يناشدونكم من كل قلوبهم.. فاتقوا
الله.. ولا تنظروا إلى خلافات حزبية أو قبلية عارضة، ولا إلى مصالح دنيوية
زائلة.. ولكن انظروا إلى دينكم فاحفظوه، وانظروا في أيديكم أين تضعونها..!
إننا نعلم أن بعض ذوي النفوس المريضة والأهواء الوضيعة قد جرّوكم لمثل
هذه الكبوة وراحوا يتاجرون بشعاراتكم، وصدق الله تعالى: [فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ]
(المائدة: 52) ، فالله الله..
نرجو الله عز وجل أن تكونوا صادقين مع الله، وأن تؤوبوا إلى الحق؛
فالعودة إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ووالله الذي لا إله إلا هو الرحمن
الرحيم لن ينفعكم شيء من أعمالكم إذا كان الدافع لها مغنماً زائداً من مغانم الدنيا،
[مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا
مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم
مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً]
(الإسراء: 18-20) .
أيها المسلمون: اعقدوا قلوبكم وأيديكم بعضها ببعض؛ فهذا هو طريق النصر
بإذن الله [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال:
46) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، رقم (2810) ، ومسلم في كتاب الإمارة، رقم (1904) .
(2) انظر في هذه الحكمة: زاد المعاد (219 - 220) تحقيق شعيب الأرناؤوط.
(3) سراج الملوك، للطرطوشي، (2/ 668 - 670) بتصرف.
(4) أخرجه: البخاري في كتاب الدعوات، رقم (6363) ومسلم في كتاب الذكر، رقم.
(2706) .
(5) أخرجه: أحمد (13/385) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، رقم (2511) ، وإسناده صحيح.
(6) أخرجه: البخاري في كتاب التفسير، رقم (4875) .
(7) أخرجه: مسلم في الجهاد والسير، رقم (1763) .
(8) انظر قصته في: البداية والنهاية (9/632 -633) .
(9) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، رقم (1920) .
(10) انظر مثلاً: مجلة البنيان المرصوص، العدد (11) ، يناير 1987م.
(11) أخرجه: البخاري، في كتاب المظالم، رقم (2442) ، ومسلم في كتاب البر، رقم (2580) .
(12) قال الله تعالى: [وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (الحجرات: 9-10) .(169/4)
إشراقات قرآنية
فاعتبروا يا أولي الأبصار
ما أشبه الليلة بالبارحة
د. أحمد بن عبد الله الزهراني [*]
إن الله تعالى قد بيَّن لعباده أن سنته لا تتبدل ولا تتحول؛ كما أخبر سبحانه
أنه جعل الأيام دولاً. قال تعالى في شأن المنافقين: [لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً
* مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 60-62) .
فإن الله سبحانه ذكر ثلاثة أصناف من الخلق كلهم محل اتهام ومرض،
وصرح باسم المنافقين وهم الذين يبطنون السوء للإسلام والمسلمين، ويظهرون
خلافه ثم ذكر الذين في قلوبهم مرض أي مرض من حب المعاصي، أو الأمراض
القلبية المتنوعة من الغل والحقد والحسد والغيبة، وغير ذلك.
ثم ذكر الصنف الثالث وهم أهل الإرجاف الذين ينشرون الأقاويل الكاذبة
والتخريفات والتحذيرات للمؤمنين من الأعداء.
قال ابن كثير: «يعني الذين يقولون: جاء الأعداء، وجاءت الحروب. وهو
كذب وافتراء» [1] .
ولذا نهى الله سبحانه المؤمنين أن يتخذوا بطانة من هؤلاء المنافقين والمرضى
والمخذلين، فقال عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ
يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 118) ؛ لأن اتخاذ هؤلاء بطانة
فيه مضرة على الإسلام والمسلمين؛ حيث لا ينصحون في مشورتهم، ويأمرون
بالسوء، ويحضون عليه، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله من
نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه
عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم من عصمه الله تعالى» [2] .
ويقول سبحانه في شأن الكافرين: [وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ
نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً
فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ
الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر:
42- 43) .
لقد كذب أولئك الكافرون في أيْمانهم، وفَجَروا في خصومتهم، وتنكروا
للمصطفى صلى الله عليه وسلم لما جاءهم بذكر من عند ربهم وقالوا: [لَوْ أَنَّ
عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]
(الصافات: 168-170) . وصدوا وصدفوا عنه كما قال تعالى: [أَوْ تَقُولُوا لَوْ
أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ
العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ] (الأنعام: 157) .
ومع وجود أولئك المنافقين ومن سار في ركبهم من المرضى والمرجفين،
ووجود الكفار الأصليين، وما يخطط الجميع للصد عن سبيل الله، بشر الله تعالى
عباده المؤمنين أن الدولة لهم على أولئك، وأن تلك سنة الله التي لا تتبدل، ولا
تتغير.
قال تعالى: [وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً * وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا
الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: 20-23) .
إن أتباع الأنبياء مبتلون؛ وأعظم الابتلاء أن يدفع المسلم بنفسه في سبيل الله
مقبلاً غير مدبر ولا متردد في طريقه إلى الله. قال تعالى: [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]
(آل عمران: 138-139) .
لقد أمرنا الله سبحانه في محكم التنزيل أن نعتبر بما وقع للمؤمنين والكافرين،
فقال سبحانه في شأن فرعون: [فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى] (النازعات: 25-26) . ويقول سبحانه في شأن نبينا صلى
الله عليه وسلم مع أعدائه يوم بدر: [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ] (آل عمران: 13) . ويقول في شأنه يوم حاصر
يهود بني النضير: [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ
الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: «فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه
الأمة، وممن قبلها من الأمم، وذكر في غير موضع أن سنته في ذلك سنة مطردة،
وعادته مستمرة ... فينبغي للعقلاء أن يعتبروا لسنة الله وأيامه في عباده، ودأب
الأمم وعاداتهم» [3] .
ولقد تسلط العدو الكافر على أحوال المسلمين، فأفسد عليهم عقائدهم
وتصوراتهم، واقتصادهم وتعليمهم وإعلامهم، وصاروا له تبعاً في كل شيء،
وساعده على ذلك وجود العدو الداخلي من صفوف المسلمين من المنافقين
والمتصوفة والباطنية والرافضة والزنادقة من العلمانيين والملحدين الذين يتعاونون
معهم في تنفيذ المؤتمرات والمعاهدات والمخططات باسم المصالح المشتركة،
والتعايش السلمي للجميع، وتطبيع الثقافات وغير ذلك، ولقد أشبه حال العالم
الإسلامي اليوم بحال العالم الإسلامي عند دخول الحروب الصليبية سنة 490 هـ
عليه من عدة أمور:
1 - وجود الخلاف بين أمراء المدن العربية، حتى إن كل أمير لا يهمه إلا
الحفاظ على إمارته دون النظر إلى غيره. وقد سطر هذا الخلاف ابن الأثير رحمه
الله حيث قال في حوادث سنة 497 هـ: «لما استطال الفرنج خذلهم الله تعالى
بما ملكوه من بلاد الإسلام، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال
بعضهم بعضاً؛ فتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت
الأموال» [4] .
ومن الأمثلة على هذا ما وقع بين الأخوين دقاق والي مدينة دمشق،
وأخيه رضوان والي مدينة حلب؛ حيث تشيَّع هذا الأخير وهادن الإسماعيلية
والصليبيين [5] . يقول ابن الأثير: «وكانت أمور رضوان غير محمودة قتل أخويه
أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه» [6] .
2 - وليت الأمر وقف عند الحفاظ من كل أمير على إمارته، بل تطاول
بينهم الخلاف حتى نشبت بينهم الحروب، وأخذ بعضهم يسطو على بعض،
وساءت أحوال الناس، وعم الفساد جميع أنحاء البلاد حتى طمع فيهم العدو.
يقول ابن الأثير رحمه الله في قصة الصلح الذي تم بين السلطانين بركيارق
ومحمد بن ملكشاه قال: «في هذه السنة في ربيع الآخر وقع الصلح بين السلطانين
بركيارق ومحمد بن ملكشاه، وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما، وعم الفساد
فصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة،
والسلطنة مطموعاً فيها محكوماً عليها، وأصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا
قاهرين، وكان الأمراء الأكابر يؤثرون ذلك ويختارونه ليدوم تحكمهم وانبساطهم
وإدلالهم» [7] . بئس التحكم والانبساط والإدلال إذا كانت دماء المسلمين تسفك،
وأموالهم تنهب، وأركان عقيدتهم تهدم، وأطراف مملكتهم تسلب.
3 - لقد وصل الحال بأولئك السلاطين المغفلين إلى الارتماء في أحضان
العدو الصليبي، وتعاونوا معهم ضد إخوانهم المسلمين، وأُبرمت المعاهدات فيما
بينهم وبين عدوهم ضد بعضهم بعضاً.
يقول ابن الأثير رحمه الله في وصف الفرنج بعد أن احتلوا معرة النعمان:
«وساروا إلى عرقة فحاصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدة نقوب فلم
يقدروا عليها، وراسلهم منقذ صاحب شيزر فصالحهم عليها، وساروا إلى
حمص وحاصروها فصالحهم جناح الدولة» [8] .
وصاحب شيزر هذا هو الأمير عز الدين أبو العساكر سلطان بن منقذ قد عمل
اتصالات مع قائد الفرنج المدعو «ريموند» عندما كان في كفر طاب، ووعده
بعدم اعتراض الصليبيين عندما يمرون بسلطنته بل وعده أن يقدم لهم ما يكفيهم من
الأطعمة، وأن يرسل دليلاً لهم يرشدهم الطريق حتى يمروا من مملكته [9] ، وذكر
ابن الأثير أن صاحب دمشق المسمى «طغتكين» هادن الفرنج سراً خوفاً على
ذهاب مملكته عندما شعر من أقرانه بعدم النصح [10] . يقول ابن الأثير: «وكان
طغتكين أيضاً استوحش من السلطان؛ لأنه نسب إليه قتل مودود فاتفقا على الامتناع
والالتجاء إلى الفرنج والاحتماء بهم فراسلا صاحب أنطاكية وحالفاه» [11] .
ويقول عن الملك رضوان إنه: «كتب إلى طنكري صاحب أنطاكية يعرفه ما
هو جارٍ عليه من الغدر، والمكر، والخداع، ويحذره منه، ويعلمه أنه على قصد
حلب، وأنه إن ملكها لا يبقى للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة والاتفاق
على منعه فأجابه طنكري إلى منعه» [12] .
وعندما حاصر نور الدين زنكي مدينة دمشق وكان الوالي عليها يدعى «معين
الدين أنر» فقام هذا الأخير بملاحقة الصليبيين، وطلب منهم العون والنصرة،
ودفع نور الدين زنكي عن دمشق، وبذل لهم أموالاً على ذلك وأن يسلمهم مدينة
بانياس، وبالفعل تم لهم ما وعدهم به [13] .
«وقد فرح بنو منقذ أصحاب شيزر، وبنو عمار أصحاب طرابلس وهم من
البيوت العربية العريقة بهزيمة السلاجقة، وأقبلوا يمدون يد المعونة للغزاة من
الصليبيين» [14] .
ولقد صدق دكتور حسن حبشي عندما قال: «إن مصيبة العالم الإسلامي لم
تكن في ضعف قواته أو تخاذل أبنائه، ولكنها كانت في الأمراء الذين حكموا نواحيه
المختلفة وفي مطامعهم الخاصة، دون أن تظهر من بينهم تلك الشخصية القوية التي
تجمعهم، وتسير بهم نحو هدف مشترك» [15] .
4 - تمكين البطانة السيئة بل المنحرفة فكرياً وعقائدياً وسلوكياً عن منهج أهل
السنة والجماعة من إدارة أمور المسلمين واستشارتهم وتسليطهم على رقاب المسلمين
مما كان لهم الأثر السيئ في التعاون مع الأعداء ضد المسلمين، وإضعاف شوكة
المسلمين والتربص بهم والوقوف ضد الحق وأهله. فمن ذلك أن الملك الرحيم
«ضره فيروز» لما تولى الملك بعد أبيه «أبي كاليجار» أقطع الرافضي دبيس
بن مزيد الملقب «نور الدولة» حماية نهر الصلة، ونهر الفضل من أعمال
واسط. ورفض الواسطيون قبوله لما علموا به، وثاروا عليه؛ لكنه تحايل عليهم
حتى غدر بهم وقتل منهم عدداً كبيراً [16] ، ومع أن الملك الرحيم هو الذي أقطعه
نهر الصلة ونهر الفضل ومكنه؛ إلا أن نور الدولة الرافضي دبيس خذله مع
البساسيري يوم أراد المواجهة مع السلطان طغرل بك [17] ، ولما وقعت الفتنة بين
السنة والشيعة في إحراق المشاهد البدعية، عظم ذلك على نور الدين دبيس الرافضي
«وبلغ منه كل مبلغ؛ لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل وتلك الولاية كلهم
شيعة» [18] ، وهو الذي تعاون مع البساسيري ضد قرسيس بن بدران صاحب
الموصل، وكاتبوا الخليفة الفاطمي بمصر المستنصر بالله بالطاعة فأرسل
إليهم الخلع [19] .
والبساسيري كان «مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة،
تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور، واسمه أرسلان وكنيته أبو الحارث،
وهو منسوب إلى» بسا «مدينة بفارس، والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول:
» فسا «والنسبة إليها فساوي، ومنها أبو علي الفارسي النحوي، وكان سيد هذا
المملوك أولاً من» بسا «فقيل له: البساسيري لذلك، وجعل العرب الباء فاءً فقيل:
فساسيري» [20] .
5 - إن وجود هذه الفوضى بين الناس وتسلط الأعداء عليهم من داخلهم
وخارجهم كان يوجب على المرجعية العلمية أن تمسك بزمام الأمور وتقود الناس إلى
ساحات الجهاد، ليقفوا سداً منيعاً أمام جحافل الصليبيين الغادرين، وسيجدون من
الأمة من يسمع ويطيع لهم؛ لكن مع الأسف الشديد لم تسلم ساحتهم من الخلاف،
وبدلاً من أن يرصوا الصفوف للجهاد في سبيل الله اشتغلوا بالخلافات المذهبية
والانتصار لها. يقول ابن الأثير رحمه الله في حوادث سنة 447 هـ: «في هذه
السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، ومقدم الحنابلة أبو يعلى
ابن الفراء، وابن التميمي، وتبعهم من العامة الجم الغفير، وأنكروا الجهر بـ
(بسم الله الرحمن الرحيم) ، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر،
ووصلوا إلى ديوان الخليفة، ولم ينفصل حال، وأتى الحنابلة إلى مسجد باب
الشعير فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفاً وقال: أزيلوها من
المصحف حتى لا أتلوها» [21] .
ويقول ابن كثير رحمه الله في حوادث 447 هـ: «وفيها وقعت الفتنة بين
الأشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة؛ بحيث إنه كان ليس لأحدٍ
من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات» [22] .
إنها مأساة عظيمة أن يكون هذا الشقاق والخلاف والتناحر والتدابر في مسائل
يسع الخلاف فيها، وسواء فعلت أم لم تفعل فإن مباني الإسلام قائمة فيما بين
الطرفين، وأن تصل الحال بهم إلى ترك ما هو أعظم من تلك المسائل المثارة مثل
ترك الجمعة والجماعات؛ فإنه الفقه النظري وليس هو الفقه العملي؛ وإذا اجتمع
الفقه نظرياً وعملياً في شخص فذلك هو التوفيق والبصيرة في الدين. وفي سنة
488 هـ وقعت فتنة عظيمة بين طائفة الكرامية والشوافع والأحناف في خراسان
ذهب ضحيتها عدد من القتلى، وخربت مدارسهم [23] .
لقد خرجت دول الإفرنج على بلاد الإسلام سنة 478 هـ حيث ملكوا طليطلة
من بلاد الأندلس وغيرها.
وفي سنة 484 هـ قصدوا جزيرة صقلية واستولوا عليها.
وفي سنة 490 هـ قصدوا بلاد الشام، ودخلوها من طريق القسطنطينية [24] .
ومع الأسف أن تجد بعض العلماء الكبار كأبي حامد الغزالي يترك التدريس
في المدرسة النظامية وينيب عنه أخاه، ويذهب إلى زيارة بيت المقدس، ثم يتزهد
ويلبس الخشن والساحة تغلي من الشرق والغرب؛ وذلك في سنة 488 هـ[25] .
وإذا نظرت إلى بعض الشعراء رأيت همته وأعلى أمنيته أن يفوز بمنحة أو
عطية من وزير أو حاكم غير عابئ بما يقع حوله من الأحداث مع إسفاف في المدح
والثناء، وعثرة لسان فيما يقول من بعض الكلام. يقول الشاعر علقمة بن عبد
الرزاق العليمي: «قصدت بدراً الجمالي بمصر فرأيت أشراف الناس وكبراءهم
على بابه قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه. قال: فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد
الصيد، فخرج علقمة في أثره، وأقام إلى أن رجع من صيده، فلما قاربه وقف
على نشز من الأرض وأومأ برقعة في يده وأنشأ يقول:
نحن التجار وهذه أعلامنا ... در وجود يمينك المبتاع
قلِّب وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع
كسدت علينا بالشآم وكلما ... قلَّ النفاق تعطل الصناع
فأتاك يحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع
حتى أناخوها ببابك والرجا ... من دونك السمسار والبياع
فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرم ولا كعب ولا القعقاع
وسبقت هذا الناس في طلب العلى ... فالناس بعدك كلهم أتباع
يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى ... ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا» [26]
نعوذ بالله من الشرك وأهله؛ فمن اعتصم بمخلوق وكله الله إليه.
إن الاعتبار بحال من سبق وأخذ الدروس والعبر منه مطلوب شرعاً؛ لأن
سنة الله مطردة، وعادته مستمرة كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى، وإن واقع
العالم الإسلامي اليوم شبيه بواقع العالم الإسلامي قبل الحروب الصليبية وبعدها من
عدة وجوه:
1 - وجود الخلافات بين حكامه وأمرائه؛ فكل قطر منه يحكي انتفاخاً صولة
الأسد، له جامعة تخص العالم العربي وتسمى جامعة الدول العربية، فخرجت منها
بقية دول العالم الإسلامي التي ليست عربية وهي أكثر؛ لكنها دخلت تحت شعار
رابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكل قراراتها مجرد شجب
واستنكار وليس لها واقع عملي.
وإذا نظرت إلى أقطار العالم الإسلامي تجد التناحر والتنازع فيما بينهم على
أشده أحياناً، ويطفو أحياناً؛ بل بعض دوله تتربص ببعض، مثل غزو العراق
للكويت، وغزو مصر لليمن، وغزو سوريا للبنان، وغزو إيران لبعض دول
الخليج، وغير ذلك.
وإذا حصل لأي دولة أي اعتداء عقدت المؤتمرات الجوفاء، وأصدرت بيانًا
بعد التي واللتيا، يحمل في طياته الشجب والاستنكار فقط، وهذا كلٌّ يجيده ويقوم
به حتى القواعد في داخل بيوتهن يستطعن أن يقمن بهذا الدور، بل الصحيح والحق
أن هذا هو دور العجائز. [وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ] (الحج: 18) .
لقد وصل بهم الحال إلى أن طمع فيهم العدو الخارجي وسامهم سوء العذاب.
وزعماء هذا العالم منعمون تحت المكيفات ويستأثرون بكل ما لذ وطاب من العيش
وشعوبهم تحت وطأة القهر والخذلان.
إن دولة إسرائيل خُطط لها من قبل دول الكفر لتكون في الأرض المباركة،
وما ذلك التخطيط إلا امتداد للحروب الصليبية التي اجتاحت العالم الإسلامي في
القرن السادس الهجري، وهي دولة صغيرة في مواردها المالية والبشرية لا
تستغرق ساعة واحدة من ساعات النهار في حياة عماد الدين زنكي أو من قواده مثل
نور الدين محمود زنكي أو صلاح الدين رحمهم الله، لكنه الخذلان والبعد عن منهج
الله وحب الأنانية والتمتع بلذات الدنيا وتمكن الهوان في قلوبهم.
وليتهم وقفوا عند هذا الحد؛ لكنهم ارتموا في أحضان الأعداء، فعقدوا معهم
المعاهدات المتعددة والمتنوعة، وتبادلوا السفارات فيما بينهم؛ وركعوا وخضعوا
لطواغيت الكفر؛ وانطبق عليهم قول الله تعالى: [وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوَهُمْ رَهَقاً] (الجن: 6) .
إنهم لجؤوا إلى طواغيت الأرض شرقاً وغرباً، فمنوهم ووعدوهم [وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً] (الإسراء: 64) . لقد ارتمى الشريف حسين بن
علي والي مكة في أحضان الإنجليز، ومنته ووعدته بإعادة الخلافة وإرجاعها إلى
العرب في سبيل أن يتخلص من سيطرة الخلافة العثمانية عليه وعلى غيره من
العرب، وتمت المراسلات بين الشريف بواسطة أبنائه عبد الله وفيصل وبين
الإنجليز بواسطة السير مكماهون نائب ملك بريطانيا في مصر [27] ، وقد تنازل
الشريف عن أجزاء من العالم العربي الإسلامي في مقابل أن تفي له بريطانيا بما
منته من إعادة الخلافة للعرب. وهيهات؛ فقد خدعته وخدعت العرب عموماً؛ ولا
غرابة في ذلك؛ فالعدو هو العدو، والذئب هو الذئب ولو أنه في صورة قط أليف.
يقول الدكتور محمد فاروق الخالدي: «لقد خدعت بريطانيا العرب خدعة كبيرة
فأبرمت اتفاقات معاكسة لاتفاقاتها مع العرب مع حكومات تطمع بأراضي العرب…،
فلم يطمع الإنجليز والفرنسيون بجزء من الوطن العربي، بل طمعوا به كله،
ومن ثم تقاسموه كله، وقرروا أن يمارسوا درجات مختلفة من السلطة السياسية فوق
البلاد العربية الآسيوية كلها باستثناء الحجاز» [28] .
إن دولة الخلافة ضعفت أمام العدو الخارجي والداخلي، وقويت الصلة بين
العدوين في الإطاحة بمركز الخلافة والقضاء عليه، ودخلت حملات العدو الخارجي
إلى بعض أقطار العالم الإسلامي، بدأ بدخول الحملة الفرنسية إلى القطر المصري
ثم توالت بعد ذلك حملاته وتوزع العالم الإسلامي وسامه سوء العذاب وساسه
بقوانينه وتشريعاته الكافرة، وأرهقه بتقنياته ومعداته الحربية، واقتنص أبناءه
وأرسلهم إلى بلاده لكي يتلوثوا بمبادئه وأفكاره، وتم له كل ما خططه وتمناه،
واستخدم أبناء العالم الإسلامي في تحقيق مخططاته وأهدافه رويداً رويداً حتى تمت
له السيطرة الفكرية والعقدية السلوكية مع السيطرة الاقتصادية والسياسية والإعلامية
والتعليمية في جميع أقطار العالم الإسلامي [29] عبر سنين عديدة [30] ، وتولى
زعامة العالم الإسلامي تلامذته، فواصلوا السير في تنفيذ مخططاته وتحقيق أهدافه
بروح وثابة، ونفوس تواقة إلى موالاته واحترام قراراته، وصار الغرب والشرق
مرجعاً لهم في تشريعاتهم وحماية أوطانهم وحل مشاكلهم. وانحصرت المرجعية
العلمية في أقطار العالم الإسلامي في إقامة الزوايا الصوفية، والموالد البدعية،
والخلافات المذهبية حتى وصل الحال بهم في أرض الحرمين أن يكون لكل مذهب
من مذاهب أهل السنة محراب ومنبر مستقل عن الآخر يؤدي الصلاة فيه على
مذهبه؛ لأنه يرى بطلانه على المذهب الآخر.
يقول الأمير الصنعاني: «بل أضرب لك مثلاً آخر: هذا حرم الله الذي هو
أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق، وإجماع العلماء، أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة
الجهلة الضُّلاَّل هذه المقامات التي فرقت لعبادات العباد، واشتملت على ما لا
يحصيه إلا الله عز وجل من الفساد، وفرقت عبادات المسلمين، وصيرتهم كالملل
المختلفة في الدين؛ بدعة قرت بها عين إبليس اللعين؛ وصيرت المسلمين ضحكة
للشياطين، وقد سكت الناس عنها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها،
وشاهدها كل ذي عينين، وسمع بها كل ذي أذنين؛ فهذا السكوت دليل على جوازها.
هذا لا يقوله من له إلمام بشيء من المعارف. كذلك سكوتهم عن هذه الأشياء
الصادرة من القبوريين» [31] .
بل كان الناس يقعون في الشرك الأكبر من الاستغاثة والاستعانة بغير الله
تعالى، وبناء المساجد والقباب على الأضرحة ودعوتها من دون الله، والذبح والنذر
لغير الله، وغيرها من البدع والشركيات التي هيمنت على حياة الناس، ولا تجد
لمن عندهم علم دور فعال في إنكارها وبيان خطرها. يقول الدكتور علي بخيت
الزهراني بعد أن ذكر بعضاً منها: «والداهية أن تهيمن هذه البدع لا على حياة
العوام فحسب ولكن على حياة كثير من العلماء الذين شايعوها ونصروها، وهكذا
أصبحنا نرى البدع في كل مكان تكاد تحتل منزلة الصدارة من حياة الناس، يعمل
بها الجاهلون، ولا يستنكف عن تأييدها العالمون، حتى لقد انتهينا إلى اليوم الذي
ورد ذكره في حديث ابن مسعود إذ قال: يأتي على الناس زمان تكون السنة فيه
بدعة، والبدعة سنة. وقد كان الناس عند حلول الأزمات والشدائد يفرون إلى هذه
البدع كي تزول أزمتهم، وتنكشف شدتهم، ومن ذلك قراءة صحيح البخاري عند
وقوع الأحداث، وكذلك ما كان يقوم به أرباب الطرق والعوام من أذكار مبتدعة،
ومجالس مخترعة، وقد كان سلاطين المسلمين وملوكهم يرسلون إلى العلماء في
زمن الحروب ليقرؤوا لهم صحيح البخاري» [32] .
وذكر الجبرتي أن السلطان العثماني أرسل ألف قرش رومي «تفرق على
طلبة العلم بالأزهر، ويقرؤون له صحيح البخاري ويدعون له بالنصر» ، قال
الجبرتي: «وفي يوم الجمعة كتبوا قائمة أسماء المجاورين والطلبة وأخبروا الباشا
أن الألف قرش لا تكفي طائفة من المجاورين، فزادها ثلاثة آلاف قرش من عنده،
فوزعها بحسب الحال: أعلى، وأوسط، وأدنى، فخص الأعلى عشرون قرشاً،
والأوسط عشرة، والأدنى أربعة، وكذلك طوائف الأروقة بحسب الكثرة والقلة، ثم
أحضروا أجزاء البخاري وقرؤوا» [33] .
إنها مأساة! الفرنسيون يدخلون القاهرة من كل باب والمسلمون بزعامتهم
ومرجعياتهم الدينية يقرؤون صحيح البخاري تبركاً به من أجل أن يرد العدو! وأنى
له ذلك إذا لم يكن له رجال يحملونه هادياً لهم والسيف ناصراً له كما هو هدي
المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ !
يقول الدكتور علي بخيت الزهراني: «واحتل الفرنسيون القاهرة فلم يكن
لمثل هذه الجموع الفوضوية التي كانت في البدع والخرافات أن تقاوم الجيش
الفرنسي في قوته وتدريبه ونظامه، وكان الأوْلى بهؤلاء الطرقية وغيرهم أن يلقوا
بطبولهم وأشايرهم ومزاميرهم، ويحملوا السلاح ليقاتلوا به الفرنسيين بدلاً من
صخبهم وضجيجهم وصياحهم بأذكار المبتدعة، كما كان الأوْلى بعلماء الأزهر الذين
كانوا يعكفون على قراءة الصحيح لحصول النصر أن ينظروا ما بين دفتي صحيح
البخاري من أحاديث وسنن وسير ومغازٍ فيقتدوا بما فيها ويقوموا بواجبهم في نصح
الأمة وقيادتها وتوعيتها وحثها على الجهاد ولإعداد وبذل جميع الأسباب بدلاً من
تجزِّي صحيح البخاري وقراءته فيما بينهم. وقد ظل علماء الأزهر وشيوخه
يحافظون على هذه البدعة كلما ألمت بالبلاد مصيبة أو داهمتها كارثة؛ فبعد مرور
ما يقارب تسعين عاماً على مجيء الفرنسيين إلى مصر قام الأسطول الإنجليزي
بقصف مدينة الإسكندرية، وتمكن من احتلالها.
يقول القباني وهو من شيوخ الأزهر:» وعندما انتشبت الحرب بين الإنجليز
وأهل الوطن العزيز اجتهدوا غاية الاجتهاد في سبيل المدافعة والجهاد بأخذ الأهبة
والاستعداد، وكانت السادة العلماء الأعلام ولا سيما أستاذنا شيخ الإسلام يقرؤون
كتاب البخاري الشريف في الجامع الأزهر الأنور المنيف «؛ فهل كان يقف دور
علماء الأزهر عند هذا الحد مكتفين بقراءة البخاري معتقدين أن فعلهم ذلك من أعظم
أسباب النصر على الأعداء؟ !» [34] .
إن مواقف جماهير العلماء الذين هم المرجعية العلمية للأمة في الرخاء والشدة
كانت مؤلمة ووخيمة، ولو أردت الاستطراد في ذكر مواقفهم المخزية في جميع
أنحاء العالم الإسلامي لطال بي المقام، ولكن فيما ذكرنا إشارة تفيد ولا تغني، ومن
أراد التوسع والاطلاع فعليه بمراجعة كتاب (الانحرافات العقدية العلمية في القرنين
الثالث عشر والرابع عشر) ، الفصل التاسع: (مواقف العلماء) ، من صفحة
(593- 625) حيث أورد نماذج وشواهد متعددة ومتنوعة.
وبناءً على ضعف مواقف العلماء في مقارعة الباطل والإنكار عليه بل وقوعهم
في التلبس به ظهرت الفرق الضالة في الساحة وبثت سمومها وأفكارها، وكانوا
عوناً للمستعمر الخبيث كما كانوا عوناً للصليبيين في وقتهم، وحوادثهم الشنيعة
كثيرة ومواقفهم من أهل السنة خبيثة. لقد ظهرت الباطنية في اليمن فأثاروا القلاقل
والفتن تحت زعيمهم وداعيتهم (المكرمي) الذي استمرت ولايته قرابة ثلاثين عاماً.
وفي سوريا قام الإسماعيلية في سلمية يقاتلون بجانب الاستعمار الفرنسي، كما
قاموا في إيران تحت زعامة (حسن علي شاه) وذاع صيته واتصل به الإنجليز
ومنوه حكم فارس، كما تفاقم أمر النصيرية في بلاد الشام وغذّى الفرنسيون هذه
النحلة الضالة ورعوها حتى صار زمام الملك بيدها، ونبتت بجوارهم طائفة الدروز
الذين كانوا عوناً كبيراً لمحمد علي باشا عندما أرسل ابنه إبراهيم بجيش لاحتلال
دمشق من أيدي العثمانيين بعد أن نزع يد الطاعة منهم عام 1247 هـ، وكان
زعيم الدروز يدعى (بشير الشهابي ت 1266 هـ) ، وهم الذين مدوا يد التعاون
مع قائد الحملة الفرنسية إلى الأقطار العربية (نابليون) وصاروا عوناً له للدخول
إلى بعض مدن بلاد الشام.
وانتشرت الزيدية في بلاد المسلمين وصار بينها وبين أهل السنة مواقف
ومشادات حتى إن أهل السنة لما علموا وتحققوا من ذهاب العثمانيين عن بلادهم
خافوا على أنفسهم من الزيدية؛ لأن مقاليد الحكم كانت بأيديهم، واستغل الإنجليز
هذا الخلاف الذي نشب بين أهل السنة والزيدية في تهييج العداء وإشعال الحريق
بينهما حتى تضعف شوكة الطرفين وهم يقطفون ثمرة ذلك بالتمكين لأقدامهم في
المنطقة. وكانت فرقة اليزيدية المعروفون بعبدة الشياطين يقطنون العراق، وقد
قاموا بثورات على بعض ولاة الأتراك، وروعوا الآمنين ونهبوا وقطعوا الطريق.
كما نشأت فرق البهائية والقاديانية في العالم الإسلامي ورعتها بعض دول
الكفر، وتهاونت دولة الخلافة في القضاء على هذه النحل المنحرفة، ومن أمن
العقوبة أساء الأدب [35] .
أما دور الرافضة قديماً وحديثاً فغير خاف على من له شبه إلمامة بتاريخهم
المشين [36] .
إن هذه العوامل الداخلية والخارجية كان لها الأثر السلبي على حياة الناس؛
حيث ضعفت الأمة في أهم وأقوى ما تحمله وهي عقيدتها، فأصبحت تحمل
شعارات إسلامية دون المضامين لتلك الشعارات، ومن أبرز ذلك القضاء على
عقيدة الولاء والبراء.
وقضى العدو على طريق العزة والكرامة في نفوسهم ألا وهو الجهاد في سبيل
الله، كما تضامن العدو الداخلي والخارجي على إيجاد الفساد الخلقي في صفوف
الأمة الإسلامية وتقنينه ورعايته وحمايته، وسعى سعياً حثيثاً في إقصاء التحاكم إلى
الشريعة الإلهية واستبدالها بقوانين وضعية، فحققوا من خلال هذا هدفين عظيمين
الأول: تنحية الشريعة الإلهية من حياة الناس، والثاني: تحقيق أهدافهم من خلال
الأنظمة والقوانين التي اختاروها بديلاً للناس عن هذه الشريعة الغراء. وتسلط
العدو على الموارد المالية، فخطط للاستفادة منها، وجعل له حق الامتياز فيها،
واتبع مع أهلها الأصليين قول عبد الله بن أُبَيّ بن سلول: «سمِّنْ كلبك يأكلك،
وجوِّع كلبك يتبعك» .
وبث العدو سمومه الثقافية من خلال أجهزة الإعلام المتعددة والمتنوعة المرئية
والمقروءة، وما من بيت من بيوت المسلمين إلا وقد وصله الإعلام، ودخل عليه
بدون استئذان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(*) عميد كلية القرآن الكريم سابقاً، بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(1) تفسير ابن كثير، 6/471، طبعة الشعب.
(2) أخرجه البخاري، رقم 7198.
(3) كتاب الجهاد، 2/ 70، جمع الدكتور عبد الرحمن عميرة.
(4) الكامل، حوادث 497، طبعة الاستقامة.
(5) انظر: الكامل، حوادث، 488، 490 هـ.
(6) المرجع نفسه، حوادث، 507 هـ.
(7) المرجع نفسه، حوادث، 497 هـ.
(8) المرجع نفسه، حوادث 491 هـ.
(9) انظر: الجهاد والتجديد، ص 123.
(10) انظر: الكامل، حوادث، 505 هـ.
(11) الكامل، حوادث، 508 هـ.
(12) المرجع نفسه، حوادث، 502هـ.
(13) المرجع نفسه حوادث، 534هـ.
(14) الجهاد والتجديد، ص 123.
(15) نقلاً عن كتاب الجهاد والتجديد، ص 125.
(16) انظر قصته في الكامل، حوادث، 441 هـ.
(17) المصدر نفسه، حوادث، 443 هـ.
(18) الكامل، حوادث، 443 هـ.
(19) الكامل، حوادث، 448هـ.
(20) الكامل، لابن الأثير، 8/ 161.
(21) الكامل، 8/ 129، وانظر: المختصر في أخبار البشر، 2/ 174.
(22) البداية والنهاية، 12/66.
(23) الكامل، 8/ 395، 396.
(24) المرجع نفسه، 8/ 415، 416.
(25) انظر: الكامل، حوادث، 488 هـ، 8/ 396.
(26) المرجع نفسه، 8/ 382.
(27) انظر: كتاب المؤامرة على بلاد الشام، ص 183- 193، وانظر: نص الرسائل بين الإنجليز والشريف حسين في الملحق من الكتاب من ص 523- 546.
(28) المؤامرة على بلاد الشام، ص 192، 193.
(29) انظر: كتاب (الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط) ، للصلابي، ص 523 558.
(30) انظر: واقعنا المعاصر، ص 210.
(31) تطهير الاعتقاد، ص 510.
(32) الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ص 371، 372.
(33) عجائب الآثار، 2/53، وانظر: ص 158.
(34) المرجع نفسه، ص 373، 374.
(35) انظر: تفصيل القول حول هذه الفرق كتاب (الانحرافات العقدية والعلمية في القرن الثالث عشر والرابع عشر) ، الفصل السابع والثامن، من ص 427- 592.
(36) انظر تفصيل القول فيهم في كتاب (وجاء دور المجوس) .(169/10)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإصلاح التشريعي في مصر
نماذج من جهود العلماء والمفكرين في توظيف أدوات إصلاحية
عبد العزيز بن محمد القاسم [*]
azalgasem@hotmail.com
تقدم في الحلقة الماضية عرض بعض جهود العلماء في إصلاح التشريع،
ونستكمل في هذه الحلقة قراءة نماذج أخرى في هذه المسيرة الإصلاحية.
4 - تيسير مصادر الفقه للمتخصصين والقانونيين:
لم تكن صياغة المادة الفقهية وتدوينها في مصادر الفقه المختلفة أمراً توقيفياً
يجب احتذاؤه، بل لم يكن الفقه مدوناً إلا بعد انقراض جيل الصحابة تقريباً، وكان
هذا شأن السنَّة في الجملة؛ وما كان من الكتابة فهو استثناء، وكان العمل في تلك
الفترة على الرواية والمشافهة والنقل المباشر، ثم بدأ تدوين فقه الصحابة والتابعين
في المصنفات ونحوها ككتب أخبار القضاة. ثم بدأ التدوين مع تأسيس المذاهب،
وكان التوجه العام هو النهي عن تدوين الفقه كما هو معلوم، ولذلك لم يكن للإمام
أبي حنيفة في الفقه كتاب بقلمه، وكذا الإمام مالك لم يدون فقهه تدويناً فقهياً، ثم
جاءت الكتب المنسوبة للإمام الشافعي وهي إملاؤه على تلاميذه في الغالب،
فجمعوها؛ ولهذا تتكرر فيها عبارة: «قال الشافعي» ، وفي كثير من الفصول نجد
عبارة: «أخبرنا الربيع قال الشافعي» ، أما الإمام أحمد فكان ينهى عن كتابة رأيه
ويأمر بالأخذ من المصادر. ثم جاء عصر التدوين، والتهذيب، والجمع، والشرح،
والاستدلال، والجمع، والتفريق، وقدمت تلك المناهج المختلفة ثروة علمية
عظيمة، وقد غلبت عليها ظاهرة التدوين الفروعي إلى أن نشأ علم القواعد الفقهية
بمراحله المعروفة، ثم جاءت العناية بالكتابة في الكليات العامة للشريعة بناء على
تقسيمها المصلحي وإجمال الشريعة في رعاية الضروريات الخمس، وقسمت
المصالح إلى ضرورية وحاجية وتكميلية، وكان هذا هو بدء النظر الكلي في تنظيم
فقه الشريعة وتدوينه بما يجمع الفقه في نظام كلي مصلحي [1] .
وفي هذا المقام لا بد من الإشارة إلى اتجاه الفقه الإسلامي نحو التدوين
الفروعي واختلافه بهذا عن الدراسات القانونية اللاتينية لسبب جوهري هو أن الفقه
الإسلامي لم يكن يعاني من معضلة مشروعية المرجعية؛ إذ كانت مرجعية النص
الشرعي قاعدة قطعية مجمعاً على مصدريتها لهذا الفقه، بل ربما اعتبرنا الفقه
الإسلامي بمختلف مذاهبه تفسيراً لممكنات النص الشرعي وأحوال التعامل معه
حسبما وضحها العلماء في مناقشتهم لمسألة أسباب الاختلاف في الفقه بمعناه العام،
أما في الدراسات القانونية اللاتينية بشكل خاص فقد كانت تعاني من معضلة
المرجعية؛ فحاول تأسيس مرجعيته عبر الوضوح النظري، فأدى ذلك إلى التوسع
في التنظير وشد الفروع إلى أصول كلية تتفرع عنها تلك الكثرة من المسائل، وإن
كانت مصادر تلك النظريات قد جاءت من مصادر شتى ليس هذا موضع الحديث
عنها. وما يهمنا في هذا السياق هو علاقة مناهج التدوين بمشكلات التأسيس
للمشروعية؛ فحين كان التأليف الفقهي يخاطَب به مجتمع متفق على مرجعية النص
الشرعي وحجية المصادر الفقهية وفق قواعد الترجيح والاختيار المذهبي كان
التدوين الفقهي يعتمد على السرد الفروعي، وحين يتطرق الخلاف والجدل إلى
حجية المصدر كان العلماء يبادرون إلى التدوين وفق المنهجية التي تعالج الأسئلة
الجديدة، فحينما كانت منهجية تلقي الفقه متفقاً عليها في الجملة كان العلماء يتداولون
الفقه بوصفه مسائل متفرقة، وحين نشأ الخلاف في منهجية الاستدلال كتب الشافعي
في منهجية الاستدلال رسالته الشهيرة، وحين تعرض الاستدلال القياسي لمعضلات
مخالفة المقصود الشرعي للحكم تصدى الجويني لإعادة إعمال المقاصد، وتلقف
آراءه العلماء الكبار فحذوا حذوه في العناية بإعمال المقاصد كما فعل الغزالي وابن
عبد السلام والقرافي وابن تيمية وابن القيم وتوَّج ذلك الشاطبي.
وفي العصر الحديث حين تعرض الحقل الفقهي للمزاحمة العنيفة من قِبَل
القوانين الغربية ومدارسها، ونشأت عقول المتخصصين على التقسيمات الحديثة
للمادة الفقهية مما أدى إلى صعوبة اطلاع القانونيين على مصادر الفقه وكنوزه [2] ؛
عند ذلك اتجه العلماء لتقريب الفقه؛ وذلك عبر عدد من أدوات التقريب منها إصدار
الموسوعات الفقهية منذ سنة 1956م حين صدر أمر جمهوري سوري يكلف كلية
الشريعة في الجامعة السورية بإصدار موسوعة للفقه الإسلامي فصدرت بعض
الفهارس التمهيدية، ثم تبنت وزارة الأوقاف المصرية مشروع الموسوعة سنة
1960م [3] ، وصدر منها بضع وعشرون جزءاً، ثم تعثر المشروعان السوري
والمصري بعد إصدارات قليلة، فاحتضنت وزارة الأوقاف الكويتية المشروع
وأصدرت الموسوعة الفقهية المعروفة، ثم شارك مجمع الفقه الإسلامي التابع
لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جهود تقريب الفقه الإسلامي وتبنى مجموعة من
الإجراءات منها إعداد موسوعة للقواعد الفقهية، وإعداد موسوعة فقهية؛ لكن ذلك
لم يكتب له التنفيذ لضآلة موارد المجمع، ثم تحقق للمشروع قفزة كبيرة بتعاون
وزارة الأوقاف الكويتية، والبنك الإسلامي للتنمية المتفرع عن منظمة المؤتمر
الإسلامي وشركة صخر فصدر برنامج جامع الفقه الإسلامي وحقق بذلك تيسيراً
لمصادر الفقه الإسلامي؛ إذ تضمن فهرسة موضوعية لمصادر الفقه الإسلامي
الرئيسية قامت بإعداد خريطته العامة كلية الشريعة في الكويت، وقد تضمنت
الخريطة ما يصل إلى سبعة وعشرين ألف مدخل فقهي ضمن ترتيب فقهي حديث
يعتبر من أرقى ما قدم من تيسير للبحث في الفقه الإسلامي المعاصر، كما تضمن
البرنامج توظيفاً متقدماً لآليات التحليل الصرفي التي تمكن الباحث من الوصول إلى
المفردات الفقهية بنصها واشتقاقاتها ولواحقها، ولا زال البرنامج بحاجة إلى منهجية
استراتيجية يمكن أن تقدم أداة بحثية تحقق نقلة عملاقة في الدراسات الفقهية، نسأل
الله تعالى أن يأخذ بأيدي القائمين عليه لتحقيقها.
ومن جهود العلماء في تقريب الفقه الإسلامي للقائمين على التشريع والاجتهاد
تدوين الفقه وفق مناهج تدوين النظريات القانونية الحديثة باعتبارها أوعية تنظيمية
للمادة الفقهية تجمع متفرقها وتستكشف أصولها كتدوين الأحكام العامة للعقد في
نظرية للعقد، وأحكام الخيار في نظرية للخيار، وأحكام البطلان في نظرية عامة
للبطلان، وأحكام الضرر، والتعسف، وهكذا، وربما يعتبر بشكلٍ ما مؤسس هذا
التدوين الشيخ الأزهري أحمد إبراهيم بك ولد سنة 1291هـ في بدايات القرن
الميلادي الماضي بكتابه في الالتزامات وما يتعلق بها، ثم كتب الشيخ محمود
شلتوت ولد سنة 1310هـ بحثه المقدم إلى مؤتمر (لاهاي) بعنوان: (المسؤولية
المدنية والجنائية في الشريعة) ، وإن كانت مجلة الأحكام العدلية قد سبقت؛ لكنها
نموذج مختلف من حيث طابعها التشريعي، وتتميز منهجية أحمد إبراهيم ومن جاء
بعده بطابعها الفقهي، ثم انتشرت هذه المناهج فصارت منهجية شائعة في البحوث
الجامعية، وتبنته الكليات الشرعية في العالم الإسلامي [4] .
وقد أدى التحول لكتابة المادة الفقهية وفق المناهج الحديثة في بعض الأحيان
إلى مشكلات عميقة خاصة حين تصدت الدراسات الجامعية لمقارنة الفقه الإسلامي
بالقوانين والنظريات الغربية، فأوقع ذلك في مشكلة محاكاة النظريات الغربية
وتقليدها، إلا أن تلك العيوب لا تنفي الفائدة العظيمة؛ حيث حققت الكتابة بالمناهج
الحديثة وَصْلَ القانونيين بفقه الشريعة، وقد أدى تراكم الدراسات إلى منهجية نقدية
تمحص الإنتاج وتكشف الانحراف، ولا زال هذا الميدان بحاجة لمراجعات عميقة
تؤدي إلى سيطرة مقاصد الشريعة على اتجاهات التشريع؛ لاتقاء الإغراق في
المقارنات الجزئية التي تنقاد في كثير من الأحيان إلى اصطناع موافقة الفقه
الإسلامي للنظريات الغربية، وقد أبدى بعض المتخصصين في الدراسات القانونية
قلقه من هذا الاتجاه، فكان السنهوري على سبيل المثال يدعو إلى بناء المقارنة
الفقهية على أصالة الفقه الإسلامي وتميزه عن النظريات الغربية ويقول: «لن
يكون همنا في هذا البحث إخفاء ما بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي من فروق في
الصنعة والأسلوب والتصوير، بل على النقيض من ذلك سنُعنى بإبراز هذه الفروق
حتى يحتفظ الفقه الإسلامي بطابعه الخاص، ولن نحاول أن نصطنع التقريب ما
بين الفقه الإسلامي، والفقه الغربي على أسس موهومة أو خاطئة؛ فإن الفقه
الإسلامي نظام قانوني عظيم له صنعة يستقل بها، ويتميز عن سائر النظم القانونية
في صياغته، وتقتضي الدقة والأمانة العلمية علينا أن نحتفظ لهذا الفقه الجليل
بمقوماته وطابعه. ونحن في هذا أشد حرصاً من بعض الفقهاء المحدثين، فيما
يؤنس فيهم من ميل إلى تقريب الفقه الإسلامي من الفقه الغربي، ولا يعنينا أن
يكون الفقه الإسلامي قريباً من الفقه الغربي، فإن هذا لا يكسب الفقه الإسلامي قوة،
بل لعله يبتعد به عن جانب الجدة والابتداع، وهو جانب للفقه الإسلامي منه حظ
عظيم [5] .
وكان السنهوري نفسه قد نادى سنة 1937م أي بعد توقيع معاهدة 1936م
وهي معاهدة الاستقلال مع بريطانيا التي نادى بسببها طه حسين إلى احتذاء
التشريعات الغربية مستنداً إليها متبنياً وجوب الرجوع إلى الشريعة الإسلامية عند
مراجعة التشريع المصري، وأن العودة إلى الفقه الإسلامي تمليه متانته العلمية
والفنية والاعتبار الوطني والقومي، وقرر أنه يجب أن يكون القانون الإسلامي
المشتق من الفقه الإسلامي:» في منطقه وفي أسلوبه فقهاً إسلامياً خالصاً لا مجرد
محاكاة للقوانين الغربية، وليس يجوز الخروج عن أصول الشريعة بدعوى أن
التطور يقتضي هذا الخروج « [6] .
ونجد مثل هذا التحذير لدى الشيخ عبد القادر عودة، والمستشار طارق
البشري، وقد حرر الدكتور محمد النبهان مجموعة شروط لتوظيف مناهج التدوين
القانوني الحديثة في الفقه الإسلامي وهي:
1 - الاحتفاظ بالشخصية المتميزة للفقه الإسلامي من حيث طبيعة الأحكام،
والمنطلقات، والأهداف.
2 - الاقتصار في مجال الاستفادة على الجانب الشكلي المتعلق بالتبويب
والتقسيم والترقيم.
3- عدم استخدام المصطلحات القانونية بديلاً أصيلاً عن المصطلحات الفقهية،
وينحصر استعمالها في مجال التوضيح والتفسير للمصطلحات الفقهية الأصيلة
ذات الدلالة المحددة؛ نظراً لأهمية الاحتفاظ بالمصطلحات الشرعية، ولأن
الاستمرار في استعمال تلك المصطلحات يعمق معناها في نفوس المشتغلين
بالدراسات القانونية وييسر لهم الرجوع للمصادر الفقهية التي لا يمكن أن تفهم إلا
بعد معرفة دلالات المصطلحات التي استخدمها الفقهاء [7] .
وربما كان أهم جوانب توظيف المناهج الجديدة يكمن في استخلاص أسئلة
الواقع من خلال قلب أجوبة المناهج الحديثة إلى أسئلة يتضح بها مجال البحث
الفقهي الشرعي المطلوب ليقدمه إلى طلبة العلم مرشداً لحاجات الواقع وقضاياه.
وربما كانت مشكلة تأثير المقارنات الجزئية في شد الفقه الإسلامي نحو الفكر
القانوني الغربي من أسباب اتجاه الباحثين والعلماء نحو العناية بالكليات لما تتميز به
من وضوح منهجي يضيء مجال النظر ويشده نحو الكليات المحكمة التي تجمع
الفروع وتوجهها اتجاهاً مستقلاً عن الفكر الغربي، ولا تختص بهذه الظاهرة
الدراسات الفقهية، بل نجد مشكلة تأثير الفكر الحديث في المجالات الإنسانية
المختلفة، بل ربما تتجلى بوضوح باهر لدى الهاربين من هذا التأثر؛ إذ يتقمصون
مبادئ وأصولاً غربية للفرار من الحداثة الغربية فيقعون في شباكها بأدوات غربية
أخرى، ومن أعجب أمثلة هذا تأثير مفاهيم الفكر الشمولي في مجمل الخطاب
الإسلامي، وتقمص كثير من أدواته بما يخالف أصول الشريعة القطعية، وسيأتي
لهذا الموضوع بيان لجوانبه المتعلقة بالإصلاح التشريعي إن شاء الله.
جاء إحياء علم مقاصد الشريعة ليقود الفكر الإسلامي والبحث الفقهي من
الإغراق الجزئي إلى تحديد الاتجاهات الكلية لتكون الدراسات الفروعية خادمة لتميز
الشريعة، وأصالة مناهج فقهها بدلاً من اتجاهات المتابعة والمحاكاة، والمتتبع
للدراسات المقاصدية يلحظ اتجاهها نحو التميز باعتبار كليتها واتساع أصولها، وإن
كادت بعض توجهات أبحاث المقاصد قد وسعت بعض أصول المحاكاة والتقليد لكنه
اتجاه يضيق مع تراكم الدراسات المقاصدية وتعدد مناهج البحث فيها، والمأمول أن
تتحول الدراسات المقاصدية من التنظير والتأريخ المقاصدي إلى التطبيق المقاصدي
في مجالات الإصلاح، وبخاصة في مجالاته الحيوية وهو ما تظهر بوادره في
مواقع عديدة [8] .
5- بناء مؤسسات فقهية حديثة:
أظهرت تطورات الحياة الحديثة واكتشاف النظم الغربية الحاجة إلى تجديد
النظر الفقهي بحيث يقدم للواقع أجوبة شرعية تضيء الطريق وتقدم هداية الوحي
لتنتظم بها الحياة العامة، فأسست أقسام الدراسات الفقهية المقارنة لتكتشف مناهج
الاجتهاد الفقهي وتوازن بين الآراء، وتقدم للناس الاجتهاد الموائم لحاجتهم المتسق
مع دلالة النصوص وقواعد الترجيح، وقد أثمرت تلك الأقسام آلاف الدراسات
الفقهية التي تتناول موضوعات الفقه والموضوعات الفقهية التي يعيشها الناس في
واقعهم اليوم، وقد تفاوتت الجامعات في العناية بقضايا الفقه الحديثة؛ فبينما نجد في
بعضها عناية فائقة ودراسات متتابعة لمشكلات التطبيق اليومية، نفاجأ في بعضها
الآخر بصدود عجيب عن قضايا الواقع ومشكلاته حتى يتبين أن الجامع الأصلي
لموضوعات بعض الكليات الشرعية هو ابتعادها عما يمس الواقع ويناقش قضاياه،
فانكفأت على كتب التراث بحثاً وتحقيقاً ومقارنة، دون ترتيب للأولويات. وربما
كان من المفارقات الغريبة أن يكون خريجو الكليات الشرعية الذين يتصدون لقضايا
الواقع الحديث في القضاء والتقنين والاستشارات هم أبعد الناس عن الدراسات
الفقهية الحديثة بقضاياها ومناهجها المتعددة، وقد أدى هذا إلى ضعف تأثيرهم
وتراجع مواقعهم في قيادة تلك المؤسسات. ومن مؤسسات الفقه الحديثة المجامع
الفقهية، وقد أوجدت فرصة كبيرة للحوار الفقهي وتأسيس مرجعية معتبرة في
البلدان الإسلامية؛ إلا أن ضعف إمكاناتها المالية، وعدم تفرغ قادتها وأعضائها أدى
إلى ضحالة منجزات تلك المجامع وندرة القضايا التي عالجتها. ومن مؤسسات الفقه
الحديثة هيئات الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية كهيئات الرقابة
الشرعية في المصارف، ومؤسسات التأمين والتكافل والاستثمار.
ومن مؤسسات الفقه الحديثة المعنية بالإصلاح التشريعي المجلات الفقهية
المتخصصة؛ ويصعب حصر هذه المجلات؛ إذ تصدر من الكليات الشرعية
ومؤسسات الفتوى والمجامع، وربما كان من أكثرها تميزاً من حيث اتساع اهتمامها
بالقضايا الحديثة مجلة المسلم المعاصر، وغيرها. ومن المؤسسات الحديثة التي
يمكن استثمارها بشكل حيوي الجمعيات العلمية الجامعية، ويجري تأسيس جمعية
للعلوم الفقهية في كلية الشريعة بجامعة الإمام بالرياض ربما تؤدي في حالة
استثمارها إلى إحياء العناية بالمجال التشريعي لتسهم فيه ببحوثها وجهودها التوعوية
والإصلاحية.
6- توعية الجمهور للمطالبة بالعودة إلى تحكيم الشريعة:
لقد فُجع الجمهور المسلم بتنحية الشريعة وإحلال القوانين الوضعية لتكون لها
السيادة على رقاب المسلمين وحقوقهم، فكانت ردود فعل الجمهور كبيرة ومؤثرة،
وقد أسهم في إيقاظهم أعمال التوعية التي قام بها العلماء والمفكرون والكتاب
والخطباء، ويصعب تتبع هذا الجهد؛ لكنه أسهم بشكل ملحوظ في دعم جهود
التصحيح، وكانت لتلك الجهود آثارها في توجه الجمهور لدعم الدعوة لتحكيم
الشريعة، ولم يتخلف عن هذا الجهد أكثر العلماء والمفكرين عبر التأليف والبيانات
والمقالات الصحفية والبحوث الموثقة [9] .
7 - توظيف أدوات العمل السياسي الحديثة للعمل على تحقيق تطبيق
الشريعة:
لقد أدت ضخامة انحراف الحكام عن تطبيق الشريعة واتجاهها لتبني القوانين
الغربية وتغريب المجتمعات تبعاً لذلك إلى تغيرات كبيرة في المجتمعات، وكان من
آثارها تأسيس الجمعيات السياسية والاجتماعية التي تخصصت في معارضة هذه
الاتجاهات التغريبية، فشارك محمد رشيد رضا في عدد من هذه المؤسسات، وقام
الشيخ حسن البنا بتأسيس إحدى هذه المؤسسات وهي جماعة الإخوان المسلمين وقد
كُتِبَ لها بخلاف العديد من الجمعيات التي أسست فأخفقت نجاح هائل استطاع أن
يجمع جمهوراً عريضاً يقود الدعوة إلى تطبيق الشريعة والعودة إلى حكمها، كما
أسست جهات عديدة أشكالاً جماعية أخرى تقوم على التعاون بالمعروف لتحقيق
هيمنة الشريعة مثل جمعية السنة وجمعيات العلماء في عدد من البلاد الإسلامية،
وقد تحول بعضها إلى تنظيمات اجتماعية ضاربة أدت فيما بعد إلى ظاهرة الصحوة
الإسلامية لتوجد ضغطاً اجتماعياً يواجه انفراد الدول بالأمر والنهي، فأسفر ذلك عن
نفوذ اجتماعي استطاع أن يوجد آليات اجتماعية تقاوم كثيراً من آثار التغريب
التشريعي، وقد تطورت تلك الحركات على مدى عقود طويلة لتوجد لها منابر
مستقلة في كثير من المجتمعات، ولم تتطور بعد تلك التجمعات لتؤسس لنفسها
حضوراً اجتماعياً فاعلاً على مستوى النظم وأدوات التأثير العضوية في بنى الدولة
والمجتمع، وربما يستثنى من هذا حالات قليلة وبدرجات متفاوتة من التأثير ومن
ذلك التيارات الإسلامية في الكويت؛ حيث توصلت مع السلطة إلى تأسيس لجنة
تعمل على ضخ قيم الشريعة، وأحكامها في نظم المجتمع ومؤسساته، وتشريعاته
سميت:» اللجنة الاستشارية العليا لاستكمال تطبيق الشريعة «أنجزت مراجعة
القانون المدني، وأخذت التعديلات موضعها في التطبيق؛ كما أنجزت مشروعاً
تربوياً وطنياً يرعى قيم وآداب الشريعة في مؤسسات التربية المختلفة من
الأسرة إلى المدرسة إلى وسائل الإعلام، وأنجزت مجموعة من أدوات تمويل
العجز في الميزانية بأدوات إسلامية؛ وربما حققت التيارات الإسلامية في ماليزيا
نجاحاً مماثلاً وخاصة في المجال المالي. ولا يتسع المجال لتتبع هذه التطورات
الحديثة، وربما تتيسر دراسة نماذج من تطور الحركات والجمعيات الإسلامية
وتتبع جوانب من نجاحاتها وإخفاقاتها.
8 - استثمار الأدوات المعرفية الحديثة في دراسة الفقه الإسلامي
وأصوله:
إن استثمار الأدوات المعرفية الحديثة في دراسة الفقه الإسلامي وأصوله
تنظيراً وتطبيقاً يعتبر من أهم اتجاهات الإصلاح التشريعي من الناحية المعرفية
لكونها تستهدف منهجية التفكير والاجتهاد وآلياتها المعرفية، ومن ذلك على سبيل
المثال تتبع آليات توليد المعاني الشرعية ومقارنتها بالتحولات السياسية والاجتماعية
التي رافقت تطور تلك الآليات، وقد كتبت دراسات عديدة في هذا المجال كان
بعضها منحرفاً انحرافاً كبيراً لتجاهله لحقيقة الوحي ودوره في تكوين الأمة
الإسلامية وأدوات تفكيرها؛ ومن أبرز قادة هذا الاتجاه المفكر الجزائري محمد
أركون؛ لكنه انغمس في أدوات المستشرقين ومشروعاتهم النقدية، فقدم مشروعاً
نقدياً لم يكتب له النجاح لضخامة تحامله على فكر الأمة واستئثاره لأدواته النقدية
الغربية التي حجبته عن النقد المنصف، وقد تلقى نقداً عنيفاً من مختلف التيارات
الفكرية؛ غير أن أعماله هو ومفكرون آخرون لفتت الأنظار إلى أدوات الدراسة
والتحليل الحديثة.
ومن مشروعات النقد ما قدم تحليلاً عميقاً لتداخل الثقافات البشرية مع مدلولات
النصوص وكشف مسارب تلك التداخلات كما فعل الدكتور محمد عابد الجابري في
مشروعه الضخم: (نقد العقل العربي) في مجلداته الأربعة، ومع وقوعه في
أخطاء كبيرة لكن ما قام بكتابته يعتبر إنجازاً كبيراً يمكن مواصلة تصحيحه وتقويمه
وهو ما حدث فعلاً بأقلام عدد من المفكرين والنقاد، كما نجد لدى مفكر آخر
مشروعاً حاول تعويض انصراف المفكرين العرب عن أثر النصوص الشرعية في
تكوين الأمة الإسلامية وتحولاتها التاريخية، فقدم أبحاثاً عميقة تكشف علاقة
النصوص بتحولات الفكر في الأمة الإسلامية وهو المفكر اللبناني رضوان السيد،
كما قام المفكر المغربي طه عبد الرحمن بتقديم مراجعة كبيرة لأهم المشروعات
النقدية فقدم مشروعاً فكرياً كبيراً انتقد فيه انحرافات المشروعات السابقة، فأصدر
كتابه: (تقويم المنهج في نقد التراث) ، انتقد فيه المشروعات السابقة التي حاولت
تجزئة التراث ونقده من خلال آليات تتجاهل إلى حد ما طبيعة التراث نفسه،
وطبيعة أدوات إنتاج المعرفة فيه، وبرهن على وجود آليات تراثية لاستلهام المعرفة
الإنسانية، وتطويعها لحقائق الوحي وطبيعة اللغة العربية، وخاصية الأمة
الإسلامية التي تميزها وهي اقتران العلم بالعمل، وقدم مجموعة من وسائل النقد
التراثية، وهي أدوات تندرج ضمن آليات أسلمة المعرفة، ثم قدم مشروعاً نقدياً
تأسيسياً للفلسفة العربية انتقد فيه عقم المشروعات الفلسفية العربية، وأثبت علاقة
هذا العقم بانحراف هذه الفلسفة عن مكونات الأمة المعرفية والعقدية واللغوية،
وحاول تأسيس منهجية التفكير التي تحقق التلاؤم مع تلك الخصائص وذلك في كتابه:
(فقه الفلسفة) بجزئيه. وتبقى هذه المشروعات لَبِناتٍ أساسيةً لفهم الفكر
المعاصر، وطريقة فهمه للتراث، كما تعتبر المشروعات التصحيحية التي قام بها
نقاد تلك المشروعات خاصة طه عبد الرحمن ورضوان السيد أعمالاً مهمة لتكوين
ملكة نقدية حديثة، وهي أعمال بشرية يقارنها الخطأ والتقصير، لكن تلك العيوب
لا تعفي من دراستها تمهيداً للتصحيح والإضافة في مشروع الأمة الكبير لتطويع
المعارف الحديثة لحقائق الوحي أو ما يسمى حديثاً لدى علماء التخصصات الإنسانية
بأسلمة المعرفة، وإن لم يقم الإسلاميون بدورهم في قيادة تطوير تلك المشروعات
فسيكون حظهم منها ملاحقة انحرافاتها والبقاء على هوامشها.
وتعتبر هذه المشروعات النقدية والتأسيسية امتداداً من الناحية الوظيفية لما
نجده في مصادر التراث الفقهي والأصولي من أبحاث تتناول جوانب من المعاني
التي تدرسها المناهج الحديثة؛ غير أن تلك البحوث وما تبنته من آراء وإصلاحات
لم تكن بالطريقة الشمولية التي وفرتها المناهج الحديثة، كما لم يتحقق لها الانتشار
والشهرة ما عدا بعض المشروعات النقدية الكبيرة مثل نقد الجويني لجوانب من
التفكير الفقهي في كتابه: (الغياثي) ، ومشروعات ابن تيمية في نقد المنطق،
ونقد الفكر الفلسفي في كتابه: (درء تعارض العقل والنقل) ، وغيرها من
المشروعات النقدية التي كان لها أكبر الأثر في تصحيح عيوب المناهج التي نقدتها.
ولنضرب بعض الأمثلة للملاحظات النقدية لدى بعض الفقهاء السابقين في
منهجية التفكير الفقهي:
أ - نقد اتجاه الفقه نحو الاجتهاد الجزئي والتركيز على دراسة الفروع وما
يؤدي إليه ذلك من تفويت للكليات من جهة ومخالفة لمقاصد الشريعة من جهة أخرى،
وقد لاحظ ذلك العلماء بشكل يمكن الوصول إليه في فتاوى الفقهاء وتعقيباتهم بشكل
متناثر إلى أن جاء الجويني رحمه الله في كتابه: (الغياثي) فدرس آثار تفويت
الكليات ومقاصد الشريعة انشغالاً بفروعها ومصالحها الجزئية، فكان بذلك أول من
تحدث بشكل منهجي عن ضرورة العودة إلى فقه المقاصد والكليات، ثم جاء بعده
الشاطبي وقرر ذلك بشكل تأصيلي مفصل في كتابيه: (الموافقات) و (الاعتصام) .
وكان من أهم آثار التنبيه لذلك توجيه العناية بفقه المقاصد والكليات والعمل على
تحصيلها لما يترتب على ذلك من ضبط التوجهات الكلية حتى لا تتحول الفروع عن
المقاصد الكلية إلى الاسترسال تبعاً للأقيسة والتخاريج الجزئية وهو ما كان مسيطراً
على مصادر الفقه؛ ويكفي لمعرفة ذلك مراجعة مطولات المذاهب لنقف على تعدد
الأقوال في المسألة الواحدة بحيث يسمح ذلك بمشروعية خيارات متعددة متناقضة،
يظهر خطرها عند التعسف في تطويعها للأهواء والمصالح، وكان من نتائج تلك
المخاطر التشديد في معايير الاجتهاد وفرض التقليد وتوجيه الأقوال في المذاهب
لتعيين الراجح والإلزام به لتتحول بعد ذلك المذهبية بمفهومها الضيق إلى نوع من
التسلط العلمي الذي يمنع من الاجتهاد ورعاية المصالح وتفويت النصوص الشرعية
التي تقرر ذلك؛ وهو ما قاد إلى توسع السلاطين والولاة في العمل بالسياسة ذات
المصالح الضيقة المقابلة للنصوص ومصالحها المنضبطة، فيستحل القتل باسم:
» الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وهيبة وأبهة الملك « [10] .
وهو ما نجده عند الجويني قبل ابن تيمية؛ إذ يقول مبيناً عدم مشروعية
سياسات الولاة في سفك الدماء، وأنه من:» سنن الأكاسرة والملوك
المنقرضين « [11] .
وتقدم في الحلقة الأولى من هذه السلسلة كلام ابن تيمية في العلاقة بين
الضعف الفقهي ولجوء العباسيين للعمل بالسياسة يشير بذلك إلى التشريعات
الوضعية العباسية التي تخالف الشريعة، وتتبع كلام العلماء في هذا يطول.
ب - نقد تشديد الفقهاء في رعاية القيود المذهبية وطردها بما يشبه التعامل مع
النصوص الشرعية مما أدى إلى نوع من العزلة عن واقع الناس ومصالحهم
وتصرفاتهم اليومية، وقد أدت تلك الاتجاهات إلى إعراض العامة عن تلك القيود
المذهبية والمسائل التفصيلية، ورعاية مصالحهم عبر ألوان الحيل والمخارج الفقهية
حتى تحولت الحيل إلى علم يؤلف فيه، ثم تحول الوعي بخطورته إلى حقل علمي
يؤلف العلماء المصنفات المفصلة للتحذير منه، وهذا كله من مظاهر إشكالات الفقه
وهو جوهر الفكر التشريعي. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:» ولقد تأملت أغلب ما
أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين.. وإما مبالغة في التشديد لما اعتبروه من
تحريم الشارع فاضطرهم هذا إلى الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل؛ وهذا من خطأ
الاجتهاد « [12] .
كما أدى من جهة أخرى إلى ضعف تقلب المسلمين في وسائل تحصيل القوة؛
وهو ما دفع الجويني إلى التحذير من التشديد الذي قد يؤدي إلى:» الإفضاء إلى
ارتفاع الزرع والحراثة وطرائق الاكتساب وإصلاح المعايش التي بها قوام الخلق
قاطبة « [13] ، وهو ما يؤدي:» إلى بوار أهل الدنيا، ثم يتبعها اندراس
الدين « [14] .
ج - تحليل مكونات النصوص الشرعية من حيث الإلزام والإطلاق، وتمييز
ما له صفة الإلزام والإطلاق عما له طبيعة غير ملزمة، أو خاصة، وذلك كتفريق
الأصوليين بين ما له صفة تشريعية من تصرفاته صلى الله عليه وسلم، وما ليس له
تلك الصفة مثل التصرفات الجِبِلِّية، وتصرفه بالعادة كطبيعة اللباس، وتصرفه
بالتشريع كالتيامن مثلاً، ومن أبحاث علم الأصول التفريق بين تصرفات النبي عليه
الصلاة والسلام بالإمامة والقضاء والسياسة والتشريع لتنزيل كل قسم منها منزلته
التشريعية من حيث الإطلاق والإلزام، وقد صُنف في هذا مؤلفات عديدة ككتاب:
(الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام) للقرافي.
د - تحليل الجوانب الإنسانية والفروق الفردية وتأثيرها في التعامل مع الفكر
التشريعي والفقهي، وهو ما نلاحظه في كلمات العلماء وتحليلاتهم، ونجد آثار هذه
الفروق في فقه الصحابة، حتى عُرف لدى العلماء ابن عمر بنوع من الشدة في
الأخذ بالنصوص، وعُرف ابن عباس بالفقه والتيسير، وهكذا يمكن استقراء تأثير
الفروق الفردية في الفكر التشريعي بشكل عام. ثم تظهر الكتابة النقدية في هذا
المجال؛ فنجد لدى ابن الجوزي نقداً قوياً لبعض مظاهر العمل الديني ومنها العمل
الفقهي في كتابه: (تلبيس إبليس) ، ثم يأتي الذهبي في كتابه: (زغل العلم)
ليقوم بمراجعة عامة موجزة لكنها ثمينة، وكان من عناصر الكتاب النقدية تتبع
العوامل النفسية في نشاط الفقهاء وغيرهم.
وهكذا نتبين جوانب عديدة من الدراسات الفكرية المنهجية والتاريخية والنفسية
تتضافر لتقدم نماذج من الفكر النقدي في التراث للعلوم الفقهية والتشريعية، وكان
أكثر تحولاتها أهمية ما يظهر عند تدهور الأحوال، أو بتعبير الجويني: عند هجوم
المحن [15] .
وقد تطورت حديثاً أدوات الدراسات التاريخية، والاجتماعية والاقتصادية
والنفسية والمنهجية في الثقافة المعاصرة، فقدم ذلك للمسلمين وسائل هائلة للدراسات
النقدية والتحليلية يمكن استثمارها كمتممات لعلم أصول الفقه تعمق جوانبه المتعلقة
بهذه الجوانب للمضي بالدراسات الفقهية إلى أعلى مدى من تحقيق معاني النصوص
ومقاصد الشريعة وتخليص الفقه من آثار مراحل التقليد والجمود وتأثير الفلسفات
اليونانية والفارسية والصوفية، غير أن ممارسة هذا النوع من الدراسات النقدية
محفوف بمخاطر منهجية عويصة يصعب تجاوزها دفعة واحدة، كما يستحيل تجاهل
تلك المناهج لكونها وسيلة فعالة من وسائل تمكين الشريعة وتعميق معرفة نظمها
وكيفية استثمارها. وقد سبقت التيارات التحديثية إلى استثمار تلك الأدوات، منتجة
بذلك طيفاً عريضاً من النتائج تبدأ من تطويع الشريعة للفلسفات المعاصرة ماركسية
وليبرالية واشتراكية وباطنية إلى التيارات التي تسعى لتأكيد صحة الانحرافات
التراثية عبر الوسائل المعرفية الحديثة، وبين ذينك الطرفين اتجاهات متعددة تقذف
إلى المطابع سنوياً مئات الدراسات التي تشكل عقول المثقفين والإسلاميين بمختلف
اتجاهاتهم مهما بدت سلامتهم من التأثر بتلك الأفكار؛ إذ كثيراً ما تشيع الفكرة
الإنسانية الحديثة فيتبناها بعض الإسلاميين، ثم يسبغون عليها تأصيلاً يربطها
بالنصوص حتى رأينا قراءة حركية للسيرة واستقراءً فقهياً لثورية الإسلام، وتوظيفًا
لجوانب من مفاهيم الغربة الماركسية بنصوص نبوية. وهذه التداخلات سنة طبيعية
يتعذر الاحتياط لمنع وقوعها بالكلية؛ لكن ذلك لا يعفي من ضرورة إحياء النقد
والمبادرة إلى الدراسة العميقة للأفكار وتحولاتها وتسربها، وضبطها بما يمنع
مناقضتها للنصوص الشرعية ومقاصدها حتى لا تتحول الشريعة إلى مادة فكرية يتم
تشكيلها لتتواءم مع مختلف المذاهب والمرجعيات بحيث تفقد الشريعة وظيفتها في
قيادة الفكر الإنساني وهدايته، وسيكون لهذا الموضوع بحث مستقل بعون الله تعالى.
والله الموفق.
__________
(*) قاض سابق، ومستشار شرعي حالياً.
(1) يمكن مراجعة مراحل التدوين الفقهي في مصادر تاريخ الفقه والاجتهاد، وفي تاريخ العلاقة بين الكتابة الفقهية والحياة العامة في الدراسة المتميزة للدكتور عبد المجيد الصغير بعنوان: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، دار المنتخب، 1415، أما تاريخ علم المقاصد فيمكن مراجعة مجموعة دراسات ثرية في الموضوع يصعب تتبعها.
(2) انظر: نص تقرير لجنة المجلة، وكلام عبد القادر عودة، والزرقا.
(3) المدخل للفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، دار الكتاب الحديث، ص 26 27 وكان مؤلف الكتاب أميناً للجنة الموسوعة.
(4) انظر على سبيل المثال: دليل الرسائل الجامعية في المملكة العربية السعودية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2/426، 2/429 430.
(5) مصادر الحق في الفقه الإسلامي 1/ 6 7، والكتاب دراسة ألقاها المؤلف على طلبة قسم الدراسات القانونية سنة 1953 1954م.
(6) الأهرام 26/11/1937م.
(7) المدخل للتشريع الإسلامي، مرجع سابق 373 374.
(8) انظر على سبيل المثال: الفكر المقاصدي وتطبيقاته في السياسة الشرعية، عبد الرحمن العفراوي، جامعة محمد الخامس، و: الاجتهاد المقاصدي استنباطاً وتنزيلاً، بلالي طالب أحمد، المعهد الوطني العالي لأصول الفقه، الجزائر.
(9) انظر مثلاً: مقال: الشريعة والقوانين الوضعية، علي أبو الفتوح، صدر سنة 1905م، منشور ضمن كتاب خواطر في القضاء والاقتصاد والاجتماع، مطبعة المعارف سنة 1913م، وكتب الشيخ علي جاويش المتوفى سنة 1929م، يؤكد على استيعاب الشريعة للمصالح وأحكام التمدن والترقي وهو أول من أطلق كما يقول فهمي جدعان شعار:» الإسلام صالح لكل زمان ومكان «أسس التقدم 360، ويطول تتبع مقالات العلماء والقانونيين الداعين إلى الالتزام بالشريعة في صياغة القوانين، انظر مثلاً: عبد الرزاق السنهوري، جريدة الإخوان المسلمين العدد 41، فتحي عبد الصبور، جريدة الإخوان، العدد 51 والعدد 104، وعبد القادر عودة في جريدة الإخوان، العدد 60، ونشرة تعريف بجماعة أنصار السنة بعنوان: دعوتها وأهدافها، وفي مجلة الهدي النبوي عدد (4) كتب الشيخ أحمد شاكر في المعنى نفسه.
(10) الفتاوى الكبرى 6/44.
(11) الغياثي، الجويني، تحقيق عبد العظيم الديب، 325.
(12) الفتاوى الكبرى 4/ 30.
(13) الغياثي، فقرة 740.
(14) الغياثي، فقرة 741، انظر الفكر الأصولي، عبد المجيد الصغير، دار المنتخب، 1415، 416- 417.
(15) الفكر الأصولي، مرجع سابق، 414.(169/20)
دراسات في الشريعة والعقيدة
معالم غائبة في الولاء والبراء
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
ما كان لشعيرة الولاء والبراء أن تندرس وتضعف في واقع الكثير من
المسلمين إلا بسبب ضعف عبوديتهم ومحبتهم لله تعالى؛ فإن عبادة الله ومحبته هي
الأصل، ويتفرع عنها الحبّ والولاء في الله، والبغض والبراء في الله تعالى؛
فكلما كان الشخص أكمل عبودية ومحبة لله تعالى كان أكثر تحقيقاً للولاء والبراء.
ولما غلب على الكثير الولعُ بالشهوات من الأموال والنساء والمناصب وأُشربوا حبّ
الهوى صاروا يوالون ويوادون على حسب أهوائهم وعقولهم المعيشية؛ فضعفت
عبوديتهم لله تعالى بسبب الانهماك في تلك المحبوبات والشهوات، فزاحمت عبوديةَ
الله تعالى ومحبته، ومن ثم ضعف حبهم في الله تعالى، وبغضهم في الله؛ فالحب
في الله والبغض في الله ولوازمهما متفرع عن حب الله تعالى وعبادته. يقول
العلامة عبد الرحمن السعدي: «أصل التوحيد وروحه إخلاص المحبة لله وحده،
وهي أصل التأله والتعبد له؛ بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل
محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحابِّ وتغلبها، ويكون لها الحكم عليها
بحيث تكون سائر محاب العبد تبعاً لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه. ومن
تفريعها وتكميلها الحب في الله؛ فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص،
ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال، ويوالي أولياءه، أو يعادي أعداءه،
وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده» [1] .
ولما كان الخليلان (إبراهيم ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام) أكمل الناس
عبادة لله تعالى، حتى خُصّا بمرتبة الخلّة، وكانا أكمل وأعظم الناس تحقيقاً للولاء
والبراء. قال تعالى: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ]
(النحل: 120) [2] .
وقال عز وجل: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ] (الممتحنة: 4) .
وأما عن عبادة نبينا صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه فكان يقوم الليل حتى
تتورم قدماه، ويستغفر الله في اليوم مائة مرة، وقالت عائشة رضي الله عنها عن
عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق؟» [3] .
وقد حفلت سيرته الشريفة بأمثلة رائعة في تحقيق الولاء والبراء، وقد قال
تعالى: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]
(الفتح: 29) .، فكان نبي المرحمة، ونبي الملحمة، وهو الضحوك
القتّال.
فأما عن موالاته للمؤمنين فقال تعالى: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة: 128) .
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو
العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعّر (تغيّر)
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر
بلالاً فأذَّن وأقام فصلَّى، ثم خطب فقال: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن
نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] (النساء: 1) ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]
(الحشر: 18) ، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه،
من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة
كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من
طعام وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل (يستنير)
كأنه مُذْهَبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنة
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم
شيء» [4] .
قال النووي رحمه الله: «وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم ففرحاً
بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على
بعض، وتعاونهم على البر والتقوى. وينبغي للإنسان إذا رأى شيئاً من هذا القبيل
أن يفرح ويُظهر سروره ويكون فرحه لما ذكرناه» [5] .
وأما عن بغضه لأعداء الله تعالى، فقد قال تعالى في صفة النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه: [وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ] (الفتح: 29) .
وفي صلح الحديبية «نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة هديه
جملاً كان لأبي جهل ليغيظ به المشركين، وكان هذا الجمل قد غنمه صلى الله عليه
وسلم يوم بدر» [6] .
واستنبط ابن القيم من هذه القصة: استحباب مغايظة أعداء الله تعالى [7] .
ولما منّ صلى الله عليه وسلم على أبي عزة الجمحي وعاهده ألا يعين عليه
فغدر به، ثم قدر عليه بعد ذلك وطلب أن يمنّ عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:
«لا تمسح عارضيك وتقول: سخرت بمحمد مرتين» ، ثم قال صلى الله عليه
وسلم: «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين؛ اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت!
فضرب عنقه» [8] .
والمقصود أن ننظر في هديه صلى الله عليه وسلم بعلم وشمول؛ فلا يقتصر
على جانب كونه نبي الرحمة أو التسامح أو المحبة، كما لا يقتصر على الطرف
المقابل، بل إن المتعيّن أن نشتغل باتباع هديه وسيرته في الحب والبغض، والولاء
والبراء.
ولما كان الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان كما قال المصطفى
صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» [9] ،
ولما كان الإيمان له ظاهر وباطن؛ فكذا الحبّ والبغض والولاء والبراء؛ فالحبّ
والبغض هما الأصل وهما أمران قلبيان، والولاء والبراء أمران ظاهران؛ فلازم
الحبّ الولاء، ولازم البغض البراءة والعداء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل
المعاداة البغض؛ فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد
والاختلاف» [10] .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: «أصل الموالاة الحبّ،
وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في
حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك
من الأعمال» [11] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: «فالولاء والبراء تابع للحب والبغض،
والحبّ والبغض هو الأصل» [12] .
فالولاء والبراء لازم الحبّ والبغض، وإذا تخلّف اللازم تخلّف الملزوم؛
فالظاهر والباطن متلازمان، ولا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا
استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر [13] .
ومن لوازم الحب في الله: النصح للمسلمين والإشفاق عليهم، ونصرتهم،
والدعاء لهم، وتفقد أحوالهم.
ومن لوازم البغض في الله: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وعدم
التشبه بهم، وعدم مشاركتهم في أعيادهم.
ولما كان الإيمان شُعَباً متعددة، فيمكن زوال بعضها مع بقاء بعضها الآخر،
ويجتمع في الشخص الواحد بعض شُعَب الإيمان مع بعض شعب الكفر الذي لا
يخرج من الملة؛ فكذا الولاء والبراء وهو من الإيمان فيجتمع في الشخص الواحد
موجب الولاية من جهة، وموجب العداوة من جهة أخرى، كما هو حال الكثير منا
معشرَ المسلمين ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ فالواجب أن نحبهم ونواليهم
لما معهم من إيمان وصلاح، كما نبغضهم على قدر معاصيهم وتفريطهم.
يقول ابن تيمية: «أما أئمة السنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم،
فيكون مع الرجل بعض الإيمان، لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم
بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله بحسب
إيمان العبد وتقواه؛ فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان
والتقوى» [14] .
ويقول أيضاً: «والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان
هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال
تعالى: [وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 9-10) ،
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، ... وليعلم أن المؤمن
تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن
إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب
لأوليائه والبغض لأعدائه، ... وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور
وبر، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من
الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص
الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويُعطى من
بيت المال ما يكفيه لحاجته» [15] .
ومما يبيّن هذا الأمر ما جاء في هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد حقق
عليه الصلاة والسلام موجب العداوة والولاية في قصة ذاك الرجل الذي كان يشرب
الخمر، واسمه عبد الله، وكان كثيراً ما يُؤتى به فيجلد، فأتي به في إحدى المرات
فقال أحد الحاضرين: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال عليه الصلاة والسلام:
«لا تلعنوه! فوالله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله» [16] .
ومن المعالم المهمة أن نتجرد لله تعالى في حبّنا وبغضنا، وأن نُخلِّص الولاء
والبراء من حظوظ النفس وشهواتها؛ فلا بد من المجاهدة والمحاسبة حتى يكون
الولاء والبراء ابتغاء وجه الله.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الحبّ في الله، فقال: «ألاَّ تحبه
لطمع في دنياه» [17] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من أحب إنساناً لكونه يعطيه فما
أحب إلا العطاء، ومن قال إنه يحب من يعطيه لله فهذا كذب ومحال وزور من
القول، وكذلك من أحب إنساناً لكونه ينصره إنما أحبّ النصر لا الناصر، وهذا كله
من اتباع ما تهوى الأنفس؛ فإنه لم يحبّ في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب
منفعة أو دفع مضرة؛ فهو إنما أحبّ تلك المنفعة ودفع المضرة، وإنما أحبّ ذلك
لكونه وسيلة إلى محبوبه وليس هذا حباً لله ولا لذات المحبوب.
وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، وهذا لا يثابون عليه
في الآخرة ولا ينفعهم؛ بل ربما أدى ذلك إلى النفاق والمداهنة؛ فكانوا في الآخرة
من الأخلاَّء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
وإنما ينفعهم في الآخرة الحبّ في الله ولله وحده، وأما من يرجو النفع
والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه لله فهذا من دسائس النفوس» [18] .
ومما يجدر تقريره أن هذه الوشائج الإيمانية تبقى أو تدوم؛ لأن الولاء والبراء
يراد به وجه الله تعالى، والله تعالى هو الآخر ليس بعده شيء فلا يفنى ولا يبيد؛
بخلاف الصِّلات التي ليست لله تعالى؛ فسرعان ما تنقلب إلى عداوات في الدنيا
والآخرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من أحبّ في الله، وأبغض في الله،
ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم
الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة
الناس على أمر الدنيا؛ وذلك لا يجدي على أهله شيئاً» [19] .
وقال ابن تيمية: «والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم
بعضاً، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم، قال طاووس: ما اجتمع رجلان على غير
ذات الله إلا تفرقا عن تَقَالٍ (بغضاء) ، وقال الخليل عليه السلام: [إِنَّمَا اتَّخَذْتُم
مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ
وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ] (العنكبوت: 25) .
وهؤلاء لا يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً لمجرد كونه عصى الله، بل
لما حصل له بمشاركته ومعاونته من الضرر» [20] .
ومما قاله ابن القيم في هذا المقام: «كل من اتخذ من دون الله ورسوله وليجة
وأولياء، يوالي لهم ويعادي لهم، ويرضى لهم ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة
يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه؛ إذ لم يجرد
موالاته ومعاداته، ومحبته، وبغضه، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله؛ فأبطل الله
عز وجل ذلك العمل كله، وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة
ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى» [21] .
ونختم هذه المقالة بالجواب عما يظنه بعضهم أن تحقيق الولاء والبراء قد
يؤدي إلى نفور الكفار عن الإسلام؛ وليس الأمر كذلك؛ فإن الله تعالى هو أرحم
الراحمين، وهو سبحانه أحكم الحاكمين؛ حيث شرع بغض الكفار وعداوتهم [أَلاَ
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] (الملك: 14) ، فلا يتوهم أن تحقيق شعيرة
البراءة من الكافرين يؤول إلى مجانبة الإسلام، بل إن الالتزام بهذه الشعيرة وسائر
شرائع الإسلام سبب في ظهور الإسلام وقبوله، كما وقع في القرون المفضلة، ومن
ذلك أن اليهود خافت وذلت من يوم قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد محمد بن
مسلمة رضي الله عنه [22] .
ويقول ابن تيمية: «وكان عدد من المشركين يكفُّون عن أشياء مما يؤذي
المسلمين خشية هجاء حسان بن ثابت؛ حتى إن كعب بن الأشرف لما ذهب إلى
مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة، فيخرجونه من عندهم،
حتى لم يبق بمكة من يؤويه» [23] .
وجاء في سيرة ابن هشام: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» من
ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه « [24] ، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سُنَيْنَة
رجل من تجار اليهود يبايعهم فقتله، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يُسلم،
وكان أسنّ من محيصة، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله!
أقتلته؟ أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله، قال محيصة: والله! لقد أمرني
بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك، قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة،
قال: آلله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم! والله لو أمرني بضرب
عنقك لضربتها، قال: والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب. فأسلم حويصة» [25] .
وها هم الكثير من بني جلدتنا قد ارتموا في أحضان الكفار، وتنازلوا عن
دينهم مداهنة لأعداء الله تعالى؛ فما زاد الكفار إلا عتواً ونفوراً عن الإسلام،
واستخفافاً وامتهاناً للمنتسبين له.
ولما عمد علماء السوء إلى تحليل ما حرم الله تعالى بأدنى الحيل كان ذلك
سبباً في الصدّ عن دين الله تعالى، وامتناع الكثيرين من الدخول فيه، كما بينه ابن
القيم رحمه الله [26] .
بل إن المشركين، وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالإسلام عظموه
وأكرموه [27] .
يقول ابن تيمية: «مثل الآصار والأغلال التي على أهل الكتاب وإذلال
المسلمين لهم، وأخذ الجزية منهم، فهذا قد يكون داعياً له أن ينظر في اعتقاده:
هل هو حق أو باطل؟ حتى يتبين له الحق، وقد يكون مرغباً له في اعتقاد يخرج
به من هذا البلاء، وكذلك قهر المسلمين عدوهم بالأسر يدعوهم للنظر في محاسن
الإسلام» [28] .
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(1) القول السديد، ص 110، 111.
(2) قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن هذه الآية الكريمة: « [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً] (النحل: 120) لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين،ٍٍ [قَانِتاً لِّلَّهِ] (النحل: 120) لا للملوك ولا للتجار المترفين، [حَنِيفًا] (النحل: 120) لا يميل يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين، [وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ] (النحل: 120) خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين» ، مجموعة مؤلفات الشيخ ابن عبد الوهاب، 4/237.
(3) أخرجه البخاري، رقم 1987، ومسلم، رقم 741، 783.
(4) أخرجه مسلم، رقم 1017.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي، 7 / 103.
(6) انظر: زاد المعاد، 1/134، 2/ 299.
(7) انظر: زاد المعاد، 2/ 301.
(8) انظر: السيرة لابن هشام، 2/ 104، طبقات ابن سعد، 2/ 43، وتاريخ الطبري، 2/ 500.
(9) أخرجه أحمد، 4/ 286، والحاكم في المستدرك، 2/ 480، وحسّنه الألباني في الصحيحة، ح/ 1728.
(10) قاعدة في المحبة، ص 387، وانظر: الفتاوى، 14/280.
(11) الدرر السنية، 2/ 157.
(12) الفتاوى السعدية، 98.
(13) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 18/272.
(14) شرح الأصفهانية، ص 144.
(15) مجموع الفتاوى، 28/ 208، 209.
(16) أخرجه البخاري، ح/ 6780 والمعنى: أن الذي أعلمه أنه يحب الله ورسوله.
(17) طبقات الحنابلة، 1/ 57.
(18) مجموع الفتاوى، 10/ 609، 610.
(19) أخرجه ابن المبارك في الزهد، 353.
(20) مجموع الفتاوى، 15/ 128.
(21) الرسالة التبوكية، ص 66.
(22) انظر: الصارم المسلول، 2/ 152.
(23) انظر: الصارم المسلول، 2/ 39.
(24) أخرجه أبو داود، كتاب الإمارة.
(25) سيرة ابن هشام، 2/ 821.
(26) انظر: أعلام الموقعين، 3/ 41.
(27) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 18/293.
(28) جامع الرسائل، 3/ 238.(169/33)
دراسات في الشريعة والعقيدة
هكذا كان صلى الله عليه وسلم في رمضان
فيصل بن علي البعداني
albadani@hotmail.com
أمر الله تعالى عباده باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأوجب عليهم طاعته.
وسبيل العبد للوصول إلى تحقيق ذلك هو التعرف على هديه صلى الله عليه وسلم،
والحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في شأنه كافة. وليس بخاف على مسلم
أن الهدي النبوي هو أكمل ما عُرف من هدي وأعظمه، وأنه بمقدار قرب العبد منه
صلى الله عليه وسلم وعمله بمثل عمله صلى الله عليه وسلم يتدرج في سلم الوصول
إلى العلا، ويصعد في مراقي الكمال البشري.
ولما كان شهر رمضان من أعظم مواسم الإسلام وأجلها، ومن أكثر الفرص
السانحة أمام العبد لكي يتقرب من الله تعالى وينال رضاه، كانت هذه المحاولة
للتعرف على هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان، علّها تكون دليلاً للعاملين
ونبراساً للسائرين، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. وخشية من
طول الموضوع [*] ، ولأن المراد الإشارة مع نوع تركيز على الجوانب التي تهم
المسلم عملاً ودعوة فسأجعل الموضوع مقتصراً على محاور أربعة:
أولاً: حاله صلى الله عليه وسلم مع رمضان قبل قدومه:
كان صلى الله عليه وسلم شديد الزهد في الدنيا عظيم الرغبة فيما عند الله
تعالى والدار الآخرة، وخير دليل على ذلك: قيامه صلى الله عليه وسلم عملياً
بالاستعداد للأمر وتهيئته النفس لاستقبال رمضان مقبلة على الخير، نشيطة في
الطاعات؛ لتغتنم الفرصة كاملة، وتهتبل الموسم كله. هكذا كان هدي سيد الورى
صلى الله عليه وسلم مع رمضان؛ إذ قام صلى الله عليه وسلم بالعديد من الأمور
قبله، لعل من أبرزها:
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان [1] . قالت عائشة: «لم
أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان
يصوم شعبان إلا قليلاً» [2] .
* تبشيره صلى الله عليه وسلم أصحابه بقدومه وتهيئتهم للاجتهاد فيه بذكر
بعض خصائصه وتضاعف الأجور فيه؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
«إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت
أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي
منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! ولله عتقاء من النار، وذلك
كل ليلة» [3] .
* بيانه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعض الأحكام الشرعية المتعلقة
بالصيام: وفي هذه المقالة جملة من ذلك.
* عدم دخوله صلى الله عليه وسلم في صيام رمضان إلا برؤية شاهد أو إتمام
عدة شعبان ثلاثين، عن ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله
صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه، وأمر الناس بصيامه» [4] .
فأين أنت من التهيؤ لرمضان قبل نزوله، فهو ضيف غنيمة لهذه الأمة،
ينزل عليهم، فيذكر غافلهم، ويعين ذاكرهم، وينشِّط عالمهم، ويشحذ همهم
للطاعات، فتمتلئ مساجدهم، وتجود نفوسهم، وينتصر مجاهدهم.. فما أحقه بأن
تعدّ العدة لاستقباله!
ثانياً: أحواله صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان:
كان نبي الهدى عليه الصلاة والسلام أعرف الخلق بربه سبحانه، وأعظمهم
قياماً بحقه.. تدرج في سلم الكمال البشري فبلغ مبلغاً يعجز عن فهمه أكثر العالمين،
فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! ثم هو يقوم من الليل حتى تنتفخ
وتتفطر قدماه. كان له صلى الله عليه وسلم بكاء المذنبين وأنين العاصين ودعاء
المكروبين. وأحواله مع ربه في رمضان أنموذج حي يصوِّر عبادته صلى الله
عليه وسلم وأشكال خضوعه لبارئه فينطق محدِّداً جوانب عدة، أبرزها:
* صيامه صلى الله عليه وسلم لشهر رمضان: وهذا بيِّن، والمراد من إيراده
مع بداهته التذكير بشيء من صفة صيامه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
1 - سحوره صلى الله عليه وسلم، وتأخيره للسحور، حيث كان صلى الله
عليه وسلم يتناوله قبل أذان الفجر الثاني بقليل، وكذا إفطاره، وتعجيله للإفطار،
حيث كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب، وكان يفطر على
رطب أو تمر أو ماء. وأيضاً: تواضع إفطاره وسحوره صلى الله عليه وسلم.
ندرك هنا أن التكلف الذي نشهده اليوم في إفطار الناس وسحورهم هو أبعد شيء
عن هديه صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أنه يوسّع حظ النفس بما يلهي ويثقل عن
الطاعة. فحري بالكيس الحازم أن يضبط الأمر ويحدَّ منه، دون التذرع بالواهي
من الحجج، من تناول الطيب وإكرام الضيف.. بما يفوت خيراً كثيراً. وليتأس
بنبيه صلى الله عليه وسلم فيما عرف من أحواله.
2 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند الإفطار، بقوله: «ذهب الظمأ،
وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» [5] .
3 - سواكه صلى الله عليه وسلم في حال الصيام، لما رُوِيَ عن عامر بن
ربيعة قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو ... صائم» [6] .
4 - صبه صلى الله عليه وسلم الماء على رأسه وهو صائم، لحديث أبي بكر
ابن عبد الرحمن قال: «عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من
العطش أو من الحر» [7] .
5 - وصاله صلى الله عليه وسلم الصيام أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره
على العبادة [8] . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تواصلوا.
قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحد منكم، إني أُطعم وأُسقى أو إني أبيت أُطعم
وأُسقى» [9] .
6 - سفره صلى الله عليه وسلم في رمضان، وصومه صلى الله عليه وسلم
في حين وفطره في آخر. عن طاوس عن ابن عباس قال: «سافر رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء
فشرب نهاراً ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة، قال: وكان ابن عباس يقول: صام
رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء
أفطر [10] . قال ابن القيم:» ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة
التي يفطر فيها الصائم بحدِّ، ولا صح عنه في ذلك شيء ... وكان الصحابة
حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك
سنته وهديه صلى الله عليه وسلم ... قال محمد بن كعب: أتيت أنس بن مالك
في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رُحِّلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا
بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب « [11] . ومهما نقل عن أئمة
الفقه، وأهل العلم في الأفضل من الفطر، أو الصوم في السفر فيبقى أن الصوم
والفطر في السفر، كل ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ينبغي أن
يراعيه المتعجلون بالإنكار على المفطرين أو الصائمين في السفر.. فلكل مأخذه
وحجته.
7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من الصيام برؤية محققة أو بإتمام الشهر
ثلاثين، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:» صوموا لرؤيته، وأفطروا
لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا
وأفطروا « [12] .
هذه بعض الجوانب التي تجلي للمسلم شيئاً من صفة صومه صلى الله عليه
وسلم، والتي يظهر صلى الله عليه وسلم من خلالها حريصاً على الإتيان بمستحبات
الصوم وآدابه. وهذا ما يدفع المسلم إلى أن يتأمل في صيامه، ويعمل على تحسين
حاله، ليكون أشد تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر قرباً منه.
* قيامه صلى الله عليه وسلم الليل في رمضان. ولعل أبرز ما تميز به قيامه
صلى الله عليه وسلم ما يلي:
1 - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في قيامه على إحدى عشرة ركعة،
أو ثلاث عشرة ركعة، كما يدل لذلك حديث عائشة قالت:» ما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة « [13] ،
وحديثها الآخر قالت:» كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل
ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين « [14] .
2 - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقوم الليل كله، بل كان يخلطه بقراءة
قرآن وغيره، يدل لذلك حديث عائشة قالت:» ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه
وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير
رمضان « [15] ، وحديث ابن عباس، وفيه:» وكان جبريل يلقاه كل ليلة في
رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن « [16] .
3 - أن غالب قيامه صلى الله عليه وسلم كان منفرداً؛ خشية أن يُفرض القيام
على أمته. لقد كان شديد الخوف أن يفرض عليها القيام فيقصِّر فيه أناس فيأثموا..
هذا مع شدة حرص صحابته الكرام على أن يقوم بهم غالب الليل أو كله، لكنه
ينظر لمن بعدهم، وكأنه يرى ضعفنا وشدة عجزنا. وفي هذا درس بليغ للدعاة أن
يجمعوا مع الاجتهاد وبذل غاية الوسع في هداية الأمة ودعوتها.. خوفاً شديداً من
وقوعها في الإثم رحمة بها.
4 - إطالته صلى الله عليه وسلم لصلاة القيام؛ فقد سئلت عائشة: كيف كانت
صلاة رسول الله في رمضان؟ فقالت:» ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره
على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي
أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله، أتنام
قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة! إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي « [17] . وبذا يتجلى
لنا خطأ كثير من الحريصين على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، والذين
يحرصون على التأسي به في العدد دون الكيفية: من إطالة وخشوع وطمأنينة،
نسأل الله تعالى التوفيق للصواب.
* مدارسته صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام فعن ابن عباس:
» كان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه
صلى الله عليه وسلم القرآن « [18] . وفي رواية: (فيدارسه) [19] : وهذه صيغة
فاعلة تفيد وقوع الشيء من الجانبين [20] . فإذا كان هذا الحرص وتلك العناية
بمدارسة القرآن ممن جمع الله له القرآن في صدره، وتولى تفهيمه إياه، فما أحوجنا
إلى مثل هذه المدارسة لننعم بهداية القرآن الكريم؟
* تواضعه وزهده صلى الله عليه وسلم: وشواهده كثيرة، منها:
سيلان ماء المطر من سقف المسجد على مصلاه صلى الله عليه وسلم وسجوده في
ماء وطين [21] ، وصلاته صلى الله عليه وسلم قيام الليل على حصير [22] ،
واعتكافه صلى الله عليه وسلم في قبة تركية على سدتها حصير [23] ، واعتكافه
صلى الله عليه وسلم في بيت من سعف [24] ، وتواضع فطوره وسحوره صلى الله
عليه وسلم، كما تقدم، ومنها: قلة طعامه صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن
أنيس:» ... فأُتي [أي: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان] بعشائه فرآني
أكفُّ عنه من قلِّته ... « [25] .
ومن هذا يتبين أن الأقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم هو التواضع والزهد
(وهو: ترك ما لا ينفع في الآخرة) ، والتقلل من نعيم الدنيا، والحرص على
الاخشيشان والبذاذة والتبسط وترك التكلف الذي يكون دافعه تواضع القلب لله تعالى
وإخباته له، وإقباله عليه، وطمأنينته ورضاه به، وتعلقه بنعيم الآخرة الباقي،
وهذه حقيقة الزهد، لا أن نترك ذلك ظاهراً والقلوب شغوفة متطلعة إليه مشغولة
به، فتلك عبودية الدنيا كعبودية الدرهم والدينار.
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الإحسان والبر والصدقة. قال ابن عباس:
» كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في
رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه
القرآن، فلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح
المرسلة « [26] . وعلة زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان:» أن
مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود « [27] . إنه
أثر القرآن.. وثمرة الزهد، وكفى! !
* جهاده صلى الله عليه وسلم في رمضان، وجعله منه شهر بلاء وبذل
وفداء، ويتجلى ذلك بأمرين:
الأول: غزوُه صلى الله عليه وسلم للمشركين في رمضان، وكون أعظم
انتصاراته صلى الله عليه وسلم وأجلّها والمعارك الفاصلة التي تمت في حياته كانت
فيه. قال أبو سعيد الخدري:» كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
رمضان « [28] ، وقال عمر بن الخطاب قال:» غزونا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في رمضان غزوتين يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما « [29] .
الثاني: السرايا والبعوث العديدة التي كانت في رمضان، وهي كثيرة [30] .
وجهاده صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اجتهادهم في العبادات الأخرى دلالة على
أثر الصيام الإيجابي فيما يورثه لصاحبه من قوة في النفس تورث قوة في الجسد.
على أن ما يحتاجه الجسم من الغذاء أقل مما نتصوره اليوم، وإنما تخور قوى
الصائمين المترفين الذين ألفوا الملذات فجهدت نفوسهم بغياب ملذاتها وشهواتها
وتأخرها عنهم؛ إذ لنفوسهم على قلوبهم غلبة وسلطان، والله المستعان.
اعتكافه صلى الله عليه وسلم وخلوته بربه سبحانه: والمتأمل في حاله في
الاعتكاف يلحظ ما يلي:
1 - اعتكافه صلى الله عليه وسلم في المدينة في رمضان من كل سنة،
وتقلبه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في كل عشر من الشهر، ثم استقراره في
آخر الأمر على الاعتكاف في العشر الأواخر منه، لإدراك ليلة القدر.
2 - أمره صلى الله عليه وسلم بأن يُضرب له خباء في المسجد يلزمه يخلو
وحده فيه بربه» [31] . قال ابن القيم: «كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف
وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين،
وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون، والله
الموفق» [32] .
3 - دخوله صلى الله عليه وسلم معتكفه إذا صلى فجر اليوم الأول من العشر
التي يريد اعتكافها، يدل لذلك قول عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه» [33] .
4 - حرصه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف على حسن مظهره ونظافة
جسده، كما في ترجيل عائشة شعره.
5 - زيارة أزواجه صلى الله عليه وسلم في حال اعتكافه وحديثه معهن، يدل
لذلك حديث صفية قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته
أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت ... » [34] .
6 - عدم خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه إلا لحاجة، يدل لذلك
قول عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم «كان لا يدخل البيت إلا لحاجة، إذا كان
معتكفاً» [35] وربما أخرج بعض جسده من المعتكف لحاجة، كترجيل
رأسه [36] .
7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه مصبحاً لا ممسياً من الليلة التي
تلي اعتكافه، كما في حديث أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة
إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه» [37] .
وفي اعتكافه صلى الله عليه وسلم وانقطاعه من نفسه ليجتهد في ذكر ربه
وعبادة مولاه مع كونه المنتصب لدعوة الناس القائم بشؤون الأمة: دليل على
مسيس حاجة الدعاة إلى أوقات خلوة ومراجعة ومحاسبة، وإن التقصير في ذلك
يرسخ عيوب النفس ويزيد أمراضها، حتى تكون مزمنة، كما أن حرمان القلب من
زادِهِ مورث لقسوته وغفلته وقلة بصيرته وفُرقَانه، وأيضاً فإن ترك استمداد عون
المعين طريق الخذلان. ومن أفضل السبل لتدارك ذلك: الخلوة بالنفس لتجديدها،
ولا أفضل من الاعتكاف لتحقيق ذلك. وقد كثر في الناس ترك هذه السنة المباركة،
قال الإمام الزهري: «عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله
عليه وسلم، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل» [38] .
* حرصه صلى الله عليه وسلم على تحري ليلة القدر.
* اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر وتركه النوم في لياليها.
قالت عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل،
وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر» [39] .
* حرصه صلى الله عليه وسلم على مخالفة أهل الكتاب في أعمال رمضان،
وهذا بيِّن من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عَجَّلُوا الفطْر.
عَجِّلُوا الفطر فإن اليهود يؤخرون» [40] .
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من العمل في رمضان في آخر حياته. عن أبي
هريرة قال: «كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة،
فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشراً،
فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه» [41] .
تلك معالم بارزة وصور مضيئة في صون الحبيب صلى الله عليه وسلم
لأشرف علاقة في حياة الإنسان، وتحقيقه لغاية المحبة لمولاه عز وجل بقيامه بأمره
ورعايته لدينه وتكميله لطاعته. إنها النبراس لسالك الصراط المستقيم، من حاد
عنها اضطرب أمره وتفرق شأنه، ولم يزل في عوج ولُجَج حتى يبغي طريقاً إلى
سنته صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أحواله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في رمضان:
من تتبع حاله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في رمضان علم مدى التوازن
الضخم الذي كان محققاً له صلى الله عليه وسلم في حياته؛ إذ كان صلى الله عليه
وسلم كما وصف نفسه: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» [42] ، «خيركم خيركم
لأهله، وأنا خيركم لأهلي» [43] . وتبرز أحواله مع أهله مما يلي:
* تعليمهن: ومن ذلك: أن عائشة قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي
ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف
عني» [44] ، وحديثها «أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل،
فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، وكان بلال يؤذن حين يرى الفجر» [45] ، بل
إن إخبارهن بجانب من عشرتهن وما علمنه من حاله صلى الله عليه وسلم كان
طريق الأمة لمعرفة كثير من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان وذلك لا يخفى.
* حثه صلى الله عليه وسلم لهن على فعل الخير وإتيان العمل الصالح؛ حيث
أرسل إليهن للصلاة مع الناس خلفه [46] .
من هذه الآثار ندرك حكمة من حِكَم تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
وكثرتهن مع انشغاله بأمر الأمة؛ فقد كان ذلك جزءاً أساساً من عملية إرشاد الأمة
وتعليمها الإسلام كافة بكل جوانبه الشمولية، ولم يكن شيء من ذلك يتحقق لولا
عنايته عليه الصلاة والسلام بتعليمهن: إرشاداً وتوجيهاً وإجابة وبياناً وترغيباً
وترهيباً. وهذا فوق أنه منطلق دعوي مهم، فهو رعاية للمسؤولية الأولى، وحفظ
لكيان البيت والأسرة من الجهل والكسل.
فَحَيَّ على أسركم يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم و [قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] (التحريم: 6) .
* حسن عشرته صلى الله عليه وسلم لهن. ومن الأمور الدالة على ذلك:
1 - مواقعته صلى الله عليه وسلم لهن في غير العشر الأواخر، يشهد لذلك
حديث عائشة قالت: «كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا
ليله وأيقظ أهله» [47] ، قال ابن حجر: «قوله: شد مئزره: أي: اعتزل
النساء» [48] .
2 - تقبيله صلى الله عليه وسلم لزوجاته ومباشرته لهن وهو صائم، قالت
عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل في شهر الصوم» [49] ،
وسألها الأسود ومسروق: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟
قالت: «نعم، ولكنه كان أملككم لإربه» [50] .
3 - مراعاته صلى الله عليه وسلم لهن وحرصه على الاستقرار الأسري؛ إذ
ترك الاعتكاف في سنة كما تقدم، خشية على نسائه من أن يقع بينهن أو في
نفوسهن شيء [51] .
4 - زيارة نسائه صلى الله عليه وسلم له في معتكفه وتبادله الحديث معهن
ساعة، وخوفه صلى الله عليه وسلم عليهن وحمايته لهنَّ، قالت صفية: «كان
صلى الله عليه وسلم في المسجد وعنده أزواجه فَرُحْن، فقال لصفية بنت حيي: لا
تعجلي حتى أنصرف معك، وكان بيتها في دار أسامة، فخرج صلى الله عليه وسلم
معها» [52] .
5 - اعتناؤه صلى الله عليه وسلم بمظهره وتنظيفه لجسده.
فأين هذا ممن حظ أهله من أخلاقه أسوؤها، ومن أوقاته آخرها، ومن تفكيره
فضلته، ومن اهتمامه ثمالته.. حتى ما عادوا يطمعون في بره، ولا يأملون في
خيره؟ ! ثم هو يرجو منهم براً وإحساناً! إنك لا تجني من الشوك العنب! .
* خدمة نسائه صلى الله عليه وسلم له، ومن ذلك:
تغسيل زوجه صلى الله عليه وسلم رأسه وترجيلها لشعره وهو صلى الله عليه
وسلم معتكف كما عرف، وضرب زوجه الخباء له صلى الله عليه وسلم في المسجد
ليعتكف فيه [53] ، وضرب زوجه الحصير له صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه
وطيها له [54] ، ومنه: إيقاظ أهله صلى الله عليه وسلم له، كما في حديث أبي
هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُريت ليلة القدر، ثم أيقظني
بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر» [55] .
* إذنه صلى الله عليه وسلم لزوجاته بالاعتكاف معه.
* قيامهن ببعض العبادات معه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
1 - الاعتكاف؛ والظاهر أن غالب زوجاته لم يكن يعتكفن معه صلى الله
عليه وسلم في حياته، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فالظاهر اعتكافهن بعده،
يدل لذلك حديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر
الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» [56] .
2 - قيام الليل في بعض ليالي رمضان جماعة في المسجد، يدل لذلك حديث
أبي ذر، وفيه: «ثم لم يصلِّ بنا حتى بقي ثلاث من الشهر وصلى بنا في الثالثة،
ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، قلت له: وما الفلاح؟ قال:
السحور» [57] .
* زواجه صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه في رمضان. كزينب بنت خزيمة
أم المساكين [58] ، وحفصة، وزينب بنت جحش، [59] .
وبعد: فإن من أوكد الواجبات بداية الرجل عموماً والداعية خصوصاً بتعليم
أهله وقرابته، قال تعالى: [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] (الشعراء: 214) ،
وإذا كان إنفاق الرجل على أهله أفضل من الصدقة وأعظم منها أجراً [60] ، فإن
تعليمه وحسن معاملته لهم أفضل وأعظم أجراً من تقديم ذلك لغيرهم مع الأهمية في
كلٍ، فنحن بحاجة إلى إحياء شعار: «ابدأ بمن تعول» [61] ، مع بَعْثِ منهج
التوازن والوسطية النبوية التي لا تهمل جانباً على حساب آخر.
رابعاً: أحواله صلى الله عليه وسلم مع أمته في رمضان:
حاله صلى الله عليه وسلم مع أمته في رمضان هو جزء لا يخرج عن
الصورة العامة لهديه في سائر العام، مع مزيد توجيه وتعليم فيما يخص رمضان.
وقد تقلب صلى الله عليه وسلم مع صحابته في هذا الشهر بين أحوال عدة، جملتها
فيما يأتي:
* تعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه. ومن ذلك: حديث شداد بن أوس
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع، وهو يحتجم،
وهو آخذ بيدي، لثماني عشرة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم
والمحجوم» [62] .
والتعليم مهمة الأنبياء وأتباعهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم
يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً» [63] ، وقال الأسود بن يزيد:
«أتانا معاذ بن جبل اليمن معلماً وأميراً» [64] ، وهي مهمة شريفة عليَّة الرتبة،
بها يرتفع شأن صاحبها، ويعظم أجره، ويزيد برُّه، ويعم خيره، ويبقى ذكره ...
وللدعاة في رمضان فرصة دعوية سانحة حريّة بالاغتنام مع بذل غاية الجهد في
تعليم الناس وتفقيههم وتعريفهم حقيقة الإسلام والإيمان، واستغلال إقبالهم على
المساجد في استصلاح قلوبهم وأعمالهم.
* إرشاده صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتوجيهه ووعظه لهم. ومن ذلك:
حديث ابن عمر قال: «اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر
من رمضان، فاتُّخِذَ له فيه بيت من سعف، قال: فأخرج رأسه ذات يوم، فقال:
إن المصلي يناجي ربه عز وجل فلينظر أحدكم بما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم
على بعض بالقراءة» [65] .
* تحفيزه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على المبادرة في العمل الصالح وبيان
ثواب ذلك لهم. ومنه: حديث أبي هريرة في الحث على الصيام، وفيه: «والذي
نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه
وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر
أمثالها» [66] .
وتحفيزه صلى الله عليه وسلم: دليل على حرصه على نفع صحبه الكرام،
وعلى أن النفوس مهما بلغت من الكمال والمسابقة في الخيرات لا تستغني عن
النصح والتوجيه ترغيباً وترهيباً. وقد أفرط قوم في ذلك فصار حديثهم يكاد لا
يخرج عن ذلك في رمضان وغيره! حتى ألفته النفوس وملَّته، وفرّط آخرون
فصار حديثهم جافاً غليظاً لما أهملوا خطاب القلوب وتحريك العاطفة، في الوقت
الذي أهمل فيه الأولون خطاب العقل وتحريك الفكر. ومنهج القرآن بين هذين،
فليكن لأتباعه منهجاً.
* إفتاؤه صلى الله عليه وسلم لمن سأله من أصحابه، وعدم معاتبته لمن أذنب
وجاء تائبا مستفتياً. فعن عائشة قالت: «أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المسجد في رمضان، فقال: يا رسول الله! احترقت احترقت! فسأله
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه؟ فقال: أصبت أهلي، قال: تصدَّق،
فقال: والله يا نبي الله! ما لي شيء وما أقدر عليه، قال: اجلس فجلس، فبينا هو
على ذلك أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أين المحترق آنفاً؟ فقام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا،
فقال: يا رسول الله! أغيرنا؟ فوالله! إنا لجياع ما لنا شيء! قال: فكلوه» [67] ،
ومثله حديث سلمة بن صخر الأنصاري [68] .
وهذا الموقف وأشباهه في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم داع لحَمَلةِ
رسالته أن تمتلئ قلوبهم رحمة بالمدعوين تورث رقة في التعامل معهم، ورفقاً
بسائلهم، وشفقة على مذنبهم. تلك الميزة التي تضعف لدى بعض المنتسبين للعلم
والدعوة والإصلاح حيث يظنون أن المقصر لا يستحق إلا التوبيخ والتقريع والذم
والإسقاط جزاء تقصيره، ويغيب عن أذهانهم هديه صلى الله عليه وسلم وصنيعه
مع من واقع زوجته في رمضان، وغير ذلك كالذي بال في المسجد، والذي تكلم
في الصلاة؛ بل حتى مع من طلب الإذن له بالزنا! والدافع إلى ذلك كله الرغبة
في هداية الخلق ورحمتهم والعطف عليهم. ويتأكد الأمر في رمضان حين يقبل
عامة الناس على المساجد، وتكثر أسئلتهم عن أحكام الصيام، وعما اقترفوا من
الذنوب ... إن هؤلاء يفتقرون إلى قلوب حانية رقيقة تمسح موضع الداء بلطف،
وتعالجه برفق وتخفف المصاب حتى يظهر للمخطئ الصواب، فيعود إليه.
* إمامته صلى الله عليه وسلم بالناس. وقد أَمَّ أصحابه في قيام الليل في بعض
ليالي رمضان، وما منعه من الاستمرار إلا خشيته صلى الله عليه وسلم من أن
تفرض عليهم فيعجزوا عنها.
* خطبته صلى الله عليه وسلم فيهم وحديثه إليهم عقب بعض الصلوات [69] .
* جعله صلى الله عليه وسلم من نفسه قدوة لأصحابه، ومن الدلائل على ذلك:
1 - خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ليصلي فيه من الليل، كما في
حديث عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل
فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته ... » [70] .
2 - اعتكافه صلى الله عليه وسلم لتحري ليلة القدر، وحثه لأصحابه على
ذلك.
* إفطاره صلى الله عليه وسلم في السفر بعد العصر ليراه أصحابه، وذلك بعد
أن بلغ بهم الجهد مبلغه.
إن بإمكان الداعية أن يدبج خطباً رنانة ومواعظ بليغة لكنها لن تجد طريقها
إلى القلوب كما لو رأت العيون ذلك برؤيتها تطبيق ما سمعت الأذن.
* رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه. ومن الأمور الدالة على ذلك:
1 - أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالإفطار في السفر قبل ملاقاة العدو،
فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر، وقال: تقووا لعدوكم. وصام
رسول الله صلى الله عليه وسلم» [71] .
ومن رحمته: نهيه صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الوصال رحمة بهم،
وحثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعجيل الفطر وتناول السحور، وتركه
صلى الله عليه وسلم الصلاة بأصحابه جماعة في قيام الليل خشية من أن تفرض
عليهم، وتخفيفه صلى الله عليه وسلم الصلاة حين كان إماماً بهم.
* حثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على طهارة النفس وتوقي الذنوب. ولذا
قال: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه
السهر» [72] .
لقد توجهت عناية كثير إلى إصلاح الظاهر والشدة فيه وإنكار المعاصي
والذنوب الجليَّة، مع ضعفٍ في تناول ذنوب القلب وأمراضه التي تورث ذنوب
الجوارح، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» [73] ،
وهذا يعني أن من الصعب النجاح في إصلاح الظاهر ما لم يُعتن بالباطن العناية
التي يستحقها مع تجنب إهمال الظاهر، حتى يتهيأ لنظرة الرضى من الرب تعالى؛
كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن
ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [74] .
* مخالطته صلى الله عليه وسلم لأصحابه واستماعه إليهم وعدم ترفعه عنهم.
ومضى من هذا كثير.
ومخالطة الداعية للناس شرط لا يتحقق التأثير والإصلاح بدونه. والمخالطة
ليست مرادة لذاتها، وإنما لما تثمره من تعليم للخير، وتوجيه نحو الصواب
والأفضل، وتصحيح للمفاهيم، ووقوف على الخطأ، وتهذيب للسلوك، ومعاونة
على الخير وتقوية لأهله، فالمهم هو المخالطة الواعية الموظَّفة توظيفاً حسناً. كما
أن من المهم أن لا يستغرق الداعية في المخالطة حتى تذهب الهيبة، وتفقد المخالطة
روحها، وحتى ينسى نفسه وأهله، ولذا اعتنى الداعية الأول صلى الله عليه وسلم
بالاعتكاف؛ لما يحقق من عزلة وخلوة لا غنى للداعية الرصين عنها. فليتوازن
الداعية، والله المعين.
* تأديبه صلى الله عليه وسلم لمن خشي عليه التعمق، كما واصل بمن أبوا
إلا الوصال [75] . إن شريعة الإسلام شريعة اليسر والسهولة «ولن يشادّ الدين أحد
إلا غلبه» [76] ، ولطالما تواردت النصوص على هذا الأصل: أصل التيسير
ورفع الحرج.. وهذه خاصية الدين الواقعي الملائم للفطرة، والذي أراد الله له
البقاء حتى تقوم الساعة.
وتنكيله صلى الله عليه وسلم بمن أرادوا الوصال ينسجم مع ذلك الأصل؛ إذ
خشي صلى الله عليه وسلم عليهم العنت والمشقة، لكن لما كانت بعض النفوس لا
يكفيها الكلام احتاج صلى الله عليه وسلم إلى العقوبة، ولم تكن تلك العقوبة على أمر
محرم، فلو كان محرماً ما فعلوه، ولما أقرّهم عليه، بل إنه زادهم من جنس ما
رغبوا فيه، حتى يدركوا الفرق بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم.
* استقباله صلى الله عليه وسلم لمن وفد عليه. قال ابن إسحاق: «وقدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد
ثقيف» [77] .
إن مخالطته صلى الله عليه وسلم للناس في رمضان صفحة من جهده الدعوي
فيه، وهو ما يحتاجه الدعاة للتأسي به.
* أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بإخراج زكاة الفطر من رمضان.
* إيكاله صلى الله عليه وسلم بعض الأعمال إلى أصحابه، كما وكّل أبا
هريرة بحفظ زكاة رمضان [78] .
وفي هذا تخفيف من الجهد عليه؛ لأن الشخص بمفرده لا يطيق القيام بجميع
المهام، فلا مفرّ من توكيل الآخرين وتفويضهم في القيام بالأعمال وإنجاز المهام،
وهذا يعكس في الوقت نفسه ثقة الداعية في أصحابه، وهكذا كان صلى الله عليه
وسلم يعامل صحبه الكرام، حتى كانوا رجال أمة ودولة.
وأخيراً: فأحسب تلك الصفحات قد أطلعتنا على جزء يسير من سيرته العطرة
صلى الله عليه وسلم. فما أمسَّ حاجتنا إلى التنعم في ظل سيرته صلى الله عليه
وسلم والعيش مع أخباره، والتعرف على أحواله، وترسم هديه وطريقته ... كيف
لا؛ وذلك الطريق هو السبيل الأوحد لنيل محبة الخالق تعالى والقرب منه، كما قال
عز وجل: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران: 31) .
__________
(*) أصل هذا المقال دراسة مطولة أعدها الكاتب مؤخراً، والعدد ماثل للطباعة، فآثرنا لمناسبة الشهر الاكتفاء بما تسمح به المساحة المتاحة، متجاوزين كثيراً من التفاصيل، مكتفين بالإشارة عن العبارة.
(1) راجع في حكمة ذلك: الفتح، 4/ 253.
(2) مسلم (1156) .
(3) الترمذي (682) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (549) .
(4) أبو داود (2342) ، وقال محقق الزاد: 2/38 (وسنده قوي) .
(5) أبو داود (2375) ، وحسنه الألباني في صحيح السنن: (2066) .
(6) الترمذي (725) ، والحديث مختلف فيه والاختلاف في الحديث لا تعلق له بمشروعية السواك للصائم؛ لعموم الأمر انظر: صحيح ابن خزيمة، 3/ 247.
(7) أبو داود (2365) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (2072) .
(8) انظر: زاد المعاد، لابن القيم: 2/ 32.
(9) البخاري (1961) .
(10) البخاري (4279) .
(11) زاد المعاد 2/ 55 56، وأثر ابن كعب أخرجه الترمذي (799) ، وقال: (حديث حسن) ، وصححه الألباني في صحيح السنن 641.
(12) النسائي (2116) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (1997) .
(13) البخاري (1147) .
(14) البخاري (1164) ، والناظر في عصرنا يجد اختلافا شديدا حول عدد صلاة التراويح، وحين نتأمل في هديه صلى الله عليه وسلم نجد أنه لم يوقت لأمته في قيام رمضان حداً محدوداً وإنما حثهم على القيام فقط، فدل على التوسعة في هذا الأمر، وأن بإمكان المسلم أن يفعل ما يستطيع من ذلك بخشوع وخضوع وطمأنينة، وإن كان الأفضل هو التأسي بفعله صلى الله عليه وسلم من حيث الكم والكيف، والله أعلم، انظر: مع الرسول في رمضان لعطية محمد سالم.
(15) المسند لأحمد (24268) ، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الصحيحين.
(16) البخاري (1902) .
(17) البخاري (2013) .
(18) البخاري (1902) .
(19) البخاري (6) .
(20) انظر: فتح الباري لابن حجر: 8/ 659.
(21) البخاري (2018) .
(22) أبو داود (1374) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1226) : حسن صحيح.
(23) ابن ماجة (1775) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1437) .
(24) المسند لأحمد (5349) وقال محققوه: حديث صحيح.
(25) أبو داود (1379) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1230) : حسن صحيح.
(26) البخاري (3220) .
(27) فتح الباري: 1/41، وانظر 4/ 139.
(28) مسلم (1116) .
(29) الترمذي (714) ، قال الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (140) : حديث قوي.
(30) انظر مثلاً: المغازي للواقدي: 1/ 9، 174، 39، الطبقات لابن سعد: 2/ 6، 27، 91.
(31) ابن ماجة (1775) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1437) .
(32) زاد المعاد لابن القيم: 2/ 90.
(33) مسلم (1173) .
(34) البخاري (3039) .
(35) البخاري (2029) .
(36) البخاري (1890) .
(37) البخاري (2027) ، وانظر: صحيح ابن خزيمة: 3/ 352.
(38) فتح الباري 4/ 334.
(39) مسلم (1174) وقد ورد في المسند: 6/146 بسند ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر وشمر) .
(40) ابن ماجة (1697) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1378) : حسن صحيح.
(41) البخاري (4998) .
(42) البخاري (20) .
(43) الترمذي (3895) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (3056) .
(44) مسلم (1147) .
(45) ابن حبان (3473) ، وقال الأرنؤوط: وإسناده قوي، وانظر: 8 / 252 253.
(46) النسائي (1364) ، وصححه الألباني في صحيح السنن: (1292) .
(47) البخاري (2024) .
(48) فتح الباري لابن حجر: 4/ 316 سنن البيهقي: 4/314، قال محققو المسند 40/ 439: وإسناده حسن.
(49) مسلم (1106) .
(50) مسلم (1106) .
(51) انظر: فتح الباري لابن حجر: 4/324، المنتقى للباجي: 2/ 83.
(52) البخاري (2038) .
(53) انظر: البخاري (2033) .
(54) انظر: المسند لأحمد (26307) ، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره.
(55) مسلم (1166) .
(56) البخاري (2026) .
(57) الترمذي (806) ، وقال: (حسن صحيح) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (646) .
(58) تاريخ الطبري: 8/545.
(59) شذرات الذهب، لابن العماد: 1/ 119.
(60) البخاري (1466) .
(61) البخاري (1426) .
(62) أبو داود (2369) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (2076) .
(63) مسلم (1478) .
(64) البخاري (6734) .
(65) المسند لأحمد (5349) ، قال محققوه: حديث صحيح.
(66) البخاري (1894) .
(67) البخاري (1935) ، مسلم (1112) ، واللفظ له.
(68) الترمذي (3299) ، وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح السنن (2628) .
(69) البخاري (1129) ، مسلم (761) ، واللفظ له.
(70) البخاري (2012) .
(71) أبو داود (2365) ، وصححه الألباني (2072) .
(72) المسند لأحمد (8856) ، وقال محققوه: إسناده جيد.
(73) البخاري (52) .
(74) مسلم (2564) .
(75) مسلم (1104) .
(76) البخاري (39) .
(77) سيرة ابن هشام: 4/ 135.
(78) البخاري (5010) .(169/38)
دراسات في الشريعة والعقيدة
حتى لا تصبح صلاة التراويح عادة
سلمان بن عمر السنيدي
يقيم المسلمون شعيرة قيام الليل في ليالي رمضان، وقد كان السلف يطيلونها،
حتى إنهم يستريحون في أثنائها ليجددوا النشاط والعزم؛ فاصطُلح بعد ذلك على
تسميتها: (صلاة التراويح) ، والمسلم يقيمها ويحرص على حضورها كاملة مع
إمامه، لينال فضائل عديدة.
فضائل صلاة التراويح:
من أهم فضائل صلاة التراويح ما يلي:
فضيلة قيام رمضان: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول:
«من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» [1] ، وقوله:
«إيماناً» يعني: إيماناً بما وعد الله من الثواب للقائمين، وقوله: «احتساباً»
يعني: طلباً لثواب الله لا رياءً ولا سمعة ولا طلباً لجاه [2] ، ولحديث أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام مع إمامه حتى
ينصرف كتب له قيام ليلة» [3] .
فضيلة قيام الليل: لقوله تعالى: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (السجدة: 16-17) . ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة صلاة
الليل» [4] ، ولحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة
إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة» [5] .
فضيلة كثرة السجود: لقوله صلى الله عليه وسلم لثوبان رضي الله عنه:
«عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها
عنك خطيئة» [6] ، وعن ربيع بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل. فقلت:
مرافقتك في الجنة، قال: أَوَ غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك
بكثرة السجود « [7] .
فضيلة إكمال نقص الفرائض بالتطوع: لقوله صلى الله عليه وسلم:» إن
أول ما يحاسب العبد عنه يوم القيامة الصلاة؛ فإن كان أتمها كتبت له كاملة، وإن
لم يكن أتمها قال الله عز وجل: انظروا! هل لعبدي من تطوع فتكملون بها
فريضته « [8] .
وبرغم هذه المقاصد والفضائل فقد اعتاد بعض المصلين لصلاة التراويح على
أدائها بطريقة معتادة، مع غفلة عن الفضائل، أو ذهول عن المقاصد التي شرع من
أجلها قيام رمضان، أو ربما أدوها مع هجر لبعض السنن التي كان النبي صلى الله
عليه وسلم يواظب عليها أو يفعلها أحياناً، أو التزموا فيها سنناً لم يلتزمها صلى الله
عليه وسلم كالتزامهم للواجبات؛ فربما أصبحت حال بعضهم كما وصف الرسول
صلى الله عليه وسلم:» إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عُشرها،
تُسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها « [9] ، ولهذا
توجه التنبيه على ما يعين المصلين على حسن أدائهم لصلاتهم.
والأئمة على ثغر:
ولما كان لأئمة المساجد مكانة في تعليم الناس السنن؛ فهم محل الاقتداء،
وإليهم يَرِدُ العامة وعنهم يصدرون؛ وبصلاتهم يتعلم الصغير والكبير، وبانصرافهم
من صلاة التراويح يتم لمن خلفهم قيام ليلة؛ ولأثرهم البالغ ومكانتهم دعا النبي
صلى الله عليه وسلم لهم في قوله:» الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد
الأئمة، واغفر للمؤذنين! « [10] ، ومما يوقظ همة الإمام للعناية بصلاة الجماعة
وبصلاة التراويح خاصة أمور كثيرة لعل من أهمها:
1 - الإمام مع خاصة نفسه:
* الإخلاص مطلب: وكمال الإخلاص الحذر من غوائله والبعد عما يخل
به [11] ، كما حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته بقوله:
» ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول
الله! قال: الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر
رجل « [12] ، والتحذير لمن بعدهم آكد وأشد، والآيات والأحاديث وأقوال السلف
في هذا الباب أشهر من أن يذكر به الأئمة، ولكن لابن مفلح رحمه الله تذكير
وتساؤل يحسن إيراده؛ حيث قال:» تُرى بماذا تحدث عنك سواري المسجد في
الظُّلَم من خوف الوعيد والتذكر للآخرة؟ إذا تحدثت عن أقوام ختموا في بيوتهم في
الظُّلَم من خوف الوعيد والتذكر للآخرة؟ إذا تحدثت عن أقوام ختموا في بيوتهم
الختمات اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث انسل من فراش عائشة رضي الله
عنها إلى المسجد، لا شموع، ولا جموع، طوبى لمن سمع هذا الحديث، فانزوى
إلى زاوية بيته، وانتصب لقراءة جزء في ركعتين، بتدبر وتفكر؛ فيا لها من
لحظةٍ ما أصفاها من كدر المخالطات، وأقذار الرياء! « [13] .
* وللتميز سبيل: حيث قال الخطيب البغدادي رحمه الله:» ينبغي لطالب
الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار الرسول صلى
الله عليه وسلم ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه؛ فإن الله تعالى يقول: [لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] (الأحزاب: 21) « [14] .
* صلاة الإمام لوحده أطول: لقوله صلى الله عليه وسلم:» إذا صلى أحدكم
للناس فليخفف، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء « [15] ، وهو تصريح
بتخفيف صلاة الفريضة على الناس، وفيه إشارة إلى أن صلاة الإمام لنفسه ستكون
أطول من صلاته بالناس؛ حيث داعي الأجر موجود، والمانع من التطويل قد
زال، فإذا حدث العكس فإن ذلك خلاف للأصل، ولعله عارض لا يدوم.
* وله أوقات لجلاء قلبه: لأنه لا زاد له سواه [يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ *
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء: 88-89) ؛ ولذلك حين أوصى ابن دقيق
العيد رحمه الله أخاً له في الله أكد عليه برعاية أحوال قلبه ودله على ما يعينه، فقال:
» وهذه والله أحوال تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمي
عينيك الهجوع، ومما يعينك على هذا الأمر الذي قد دعوتك إليه، ويزودك في
سفرك للعرض عليه أن تجعل لك وقتاً تعمره بالتذكر والتفكر، وأياماً تجعلها معدة
لجلاء قلبك؛ فإنه متى استحكم صداه صعب تلافيه، وأعرض عنه من هو أعلم بما
فيه، فاجعل همتك الاستعداد للمعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد؛ فإنه يقول:
[فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الحجر: 92-93) ، ومهما
وجدت من نفسك قصوراً، واستشعرت من نفسك عما بدا لها نفوراً، فاجأر إليه،
وقف ببابه؛ فإنه لا يعرض عمن صدق، ولا يعزب عنه خفاء الضمائر [أَلاَ يَعْلَمُ
مَنْ خَلَقَ] (الملك: 14) « [16] .
2 - الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم:
لقوله صلى الله عليه وسلم:» صلوا كما رأيتموني أصلي « [17] ، وقوله
صلى الله عليه وسلم:» تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم « [18] ، وقيل في
معنى الحديث: تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم، وكذلك
أتباعهم إلى انقراض الدنيا [19] .
وفي الحرص على سنة المصطفى فضائل جمة وكثيرة يجملها ابن قدامة رحمه
الله بقوله:» وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضى الرب سبحانه وتعالى
ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودَعَة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط
المستقيم « [20] .
3 - أهمية العمل بالسنن:
للعمل بالسنن والمستحبات أجور وغنائم من علم بها شمَّر عن ساعد الجد،
وابتدر ميدان التنافس، وسابق إلى خيرات ربه، ومن أعظم ما يحفز المرء على
ذلك الحديث القدسي العظيم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:» إن الله
تعالى قال: من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء
أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،
وكنت رجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه « [21] .
4 - آثار هجر السنن:
لهجر السنن آثار متعددة؛ فمن ذلك أنه لما اعتاد كثير من الناس أداء صلاة
التراويح بطريقة ثابتة شب عليها الصغير، وهرم عليه الكبير، حسبوا أن السنة
المشروعة لصلاة الليل لا تكون إلا كذلك؛ وهذا فيه خلل كبير؛ ولهذا حذر الأئمة
من هذا المسلك؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» هجرُ ما وردت به السنة
وملازمة غيره قد يفضي إلى جعل السنة بدعة « [22] ،» ولهذا أكثرُ المداومين
على بعض الأنواع الجائزة، أو المستحبة، لو انتقل منه لنفر عنه قلبه وقلب غيره،
أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات؛ لأجل العادة التي جعلت الجائز
كالواجب « [23] ، حتى إنه قال رحمه الله:» ومن أصر على ترك السنن الرواتب
دل ذلك على قلة دينه، وردت شهادته في مذهب أحمد الشافعي وغيرهما « [24] .
وقال عبد الله بن منازل رحمه الله: لم يُبتلَ أحدٌ بتضييع السنن إلا يوشك أن
يبتلى بالبدع [25] .
بل عد ابن مسعود رضي الله عنه أن ملازمة نوع من السنة وهجر نوع آخر
من كيد الشيطان وتلاعبه على ابن آدم، فقال رحمه الله:» لا يجعل أحدكم نصيباً
للشيطان في صلاته أن لا ينصرف إلا عن يمينه، قد رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أكثر ما ينصرف عن شماله « [26] يعني بعد السلام، ولذلك قال ابن
الجوزي رحمه الله:» ولبَّس الشيطان على آخرين منهم؛ فهم يطيلون الصلاة،
ويكثرون القراءة، ويتركون المسنون في الصلاة، ويرتكبون المكروه فيها « [27] ؛
فما الشأن إذا كان» كثير من الناس اليوم يصلون التراويح بسرعة عظيمة، لا
يأتون فيها بواجب الهدوء والطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة، ولا تصح
الصلاة بدونها، فيخلون بهذا الركن، ويتعبون من خلفهم من الضعفاء، والمرضى،
وكبار السن؛ يجنون على أنفسهم، ويجنون على غيرهم. وقد ذكر العلماء
رحمهم الله أنه يكره للإمام أن يسرع سرعةً تمنع المأمومين فعل ما يسن؛ فكيف
بسرعة تمنعهم فعل ما يجب، نسأل الله السلامة « [28] . قال النووي رحمه الله في
صفة التراويح:» كصفة باقي الصلوات، ... كدعاء الافتتاح واستكمال الأذكار
الباقية، واستيفاء التشهد والدعاء بعده ... وإن كان هذا ظاهراً معروفاً فإنما نبهت
عليه لتساهل أكثر الناس فيه، وحذفهم أكثر الأذكار « [29] ، و» ما اعتاده أئمة
المصلين في التراويح من الإدراج في قراءتها والتخفيف في أركانها ... وسبب
جميع ذلك إهمال السنن، واندراسها لقلة الاستعمال، حتى صار المستعمل لها
مجهّلاً عند كثير من الناس لمخالفته ما عليه السواد الأعظم « [30] .
5 - من دعا إلى خير فله مثل أجره:
إن مما هيأ الله للأئمة من فضل في رمضان [31] ، وفي غيره: فرصة تعليم
الناس ودلالتهم على الخير؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول الصحابة
بالموعظة، ويستثمر اجتماع الناس للصلاة، فيحدثهم نساءً، ورجالاً، وكفى الإمام
حافزاً لذلك أن الملائكة تستغفر لمعلم الناس الخير، وأن من تعلم منه سنة بقوله أو
فعله فله أجر من عمل بها، لقوله صلى الله عليه وسلم:» من دعا إلى هدى كان
له من الأجر مثل من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً « [32] .
وغير خاف أن تذكير الناس بما هم يباشرونه من عبادة مقدم في التعليم؛
وذلك للحاجة إليه؛ وخاصة إذا كثرت المخالفات جهلاً أو إهمالاً، كأحكام الصلاة
والصيام، فريضة ونفلاً، وأن يخص هنا التنبيه إلى أهمية تعليم الناس هدي
المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل العمل به إذا كان سنة مهجورة، أو غير مألوفة
عند عامة المصلين؛ فإن ذلك أدعى لقبول الحق، وأحرى بحسن التسليم والانقياد.
حتى لا تنحسر روح العبادة في صلاة التراويح:
ومن أجل أن لا تصبح صلاة التراويح، وقيام الليل عادة، تنحسر فيها روح
العبادة، يتأكد التنبيه على الأمور الآتية [33] :
1 - الاستفتاح بصلاة خفيفة: لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:» إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين
خفيفتين « [34] ، وروت عائشة رضي الله عنها مواظبة رسول الله صلى الله عليه
وسلم على ذلك فقالت:» كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل
افتتح صلاته بركعتين خفيفتين « [35] .
2 - تنويع أدعية الاستفتاح: وإن طال السكوت بعد تكبيرة الإحرام وقبل
القراءة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
» بأبي وأمي يا رسول الله! أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال:
أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني
من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج
والبرد « [36] . وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح:
» سبحانك اللهم وبحمدك « [37] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل
افتتح صلاته:» اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض،
عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما
اختُلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي إلى صراط مستقيم « [38] .
وأحاديث الاستفتاح كثيرة [39] ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
» فالأفضل أن يستفتح بكل واحد؛ فلكل استفتاح حاجة ليست لغيره، فيأخذ المؤمن
بحظه من كل ذكر « [40] .
3 - قراءة الفاتحة آية آية: فعن قتادة رحمه الله أنه قال:» سألت أنس
رضي الله عنه عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يمد مداً. ثم قرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم: يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم « [41] .
وعن يعلى بن مَملكٍ أنه سأل أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وصلاته؟ قالت:» ما لكم وصلاته؟ ثم نعتت قراءته؛ فإذا هي
تنعت قراءةً مفسرةً حرفاً حرفاً « [42] . وذلك والله أعلم هو المقصود من قوله تعالى:
[وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] (الإسراء:
106) . وقال ابن الجوزي: [عَلَى مُكْثٍ] (الإسراء: 106) : على تؤدة
وترسُّل ليتدبروا معناه» [43] . وقوله: [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً]
(المزمل: 4) . قال البغوي رحمه الله: ترتيل القراءة: التأني والتمهل، وتبيين
الحروف والحركات، تشبيهاً بالثغر المرتل، وهو المشبه بنَوْر الأقحوان « [44] ،
وقال القرطبي:» أي لا تعجل بقراءة القرآن، بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر
المعاني « [45] .
4 - الوقوف عند الآيات: بالتسبيح والسؤال والتعوذ، كما روى حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال:
» صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم
افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها
تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول:
سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده
ربنا ولك الحمد. ثم قام طويلاً قريباً من ركوعه، ثم سجد فقال: سبحان ربي
الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه « [46] .
ونحو ذلك روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال:» قمت مع النبي صلى
الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر
بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه سبحان ذي
الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده
مثل ذلك، ثم قام فقرأ آل عمران، ثم قرأة سورة سورة « [47] .
وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:» كان صلى الله عليه وسلم
يقرأ بالسورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها « [48] .
5 - عدم قصر البكاء على أحوال مخصوصة: كمن يقصر تأثره على آيات
العذاب والترهيب، أو يقصر خشوعه عند تأثر لإمام وبكاء، أو يقصر خشوعه
وتأثره وتأمله لما يسمع في دعاء القنوت.
6 - تنويع العمل بكيفية قيام الليل: اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم ونشراً
لسنته، وإحياء لما اندرس منها أو هُجِرَ؛ ولقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
عدة كيفيات لصلاة الليل من فعله وقوله، ولما سألت عائشة رضي الله عنها:
» بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وبثلاث،
وست وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأقصر من سبع، ولا بأكثر من ثلاثة
عشر « [49] ، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:» الوتر حق؛ فمن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر
بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة « [50] .
ومن تلك الكيفيات الثابتة [51] ما يلي:
أولاً: يصلي ثلاث عشرة ركعة، يفتتحها بركعتين خفيفتين، يسلم من كل
ركعتين، ثم يوتر بواحدة.
ثانياً: يصلي ثلاث عشرة ركعة، منها ثمانٍ يسلم بين كل ركعتين، ثم يوتر
بخمس لا يجلس ولا يسلم إلا في الخامسة.
ثالثاً: يصلي إحدى عشرة ركعة، لما روته عائشة رضي الله عنها قالت:
» كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم
يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً « [52] .
رابعاً: يصلي إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً بتسليمة واحدة، ثم أربعاً
بتسليمة واحدة ثم ثلاثاً.
خامساً: يصلي إحدى عشرة ركعة، منها ثماني ركعات لا يقعد فيها إلا في
الثامنة، يتشهد ثم يقوم ولا يسلم، ثم يأتي بركعة ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين وهو
جالس.
سادساً: يصلي تسع ركعات، منها ست لا يقعد إلا في السادسة، ثم يتشهد
ولا يسلم، ثم يقوم ثم يأتي بثلاث ركعات.
قال الحافظ ابن نصر المروزي رحمه الله:» العمل عندنا بهذه الأخبار كلها
جائز، وإنما اختلفت لأن الصلاة بالليل تطوع، الوتر وغير الوتر، فكان النبي
صلى الله عليه وسلم تختلف صلاته بالليل ووتره على ما ذكرنا: يصلي أحياناً هكذا،
وأحياناً هكذا، فكل جائز حسن « [53] .
7 - العمل بأدعية السجود والركوع المأثورة: وهي كثيرة مشهورة، ومنها ما
يقال فيهما مثل: ما ورت عائشة رضي الله عنها قالت:» كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك،
اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن « [54] ، وتأمل أنه يكثر أن يقول هذا الذكر وأقل
الكثير ثلاثة، وأيضاً قوله:» سبوح قدوس رب الملائكة والروح « [55] ، ومما
ثبت قوله في الركوع:» اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك
سمعي وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي « [56] ، وتقدم في حديث حذيفة
طول ركوعه وسجوده أنه بمقدار قيامه. ومما يستوحش منه فعل بعض الأئمة حين
يطيل دعاء القنوت، حتى إذا سجد ظننته خاشعاً، فإذا به يعجل سجوده، ونسي
الأمر بإكثار الدعاء في السجود؛ حيث يكون العبد أقرب ما يكون إلى ربه؛ فربما
فوت على المصلين هذا الفضل.
8 - إطالة ما بين السجدتين والرفع من الركوع: وذلك عملاً بالسنة المروية
عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في حديث حذيفة رضي الله عنه قال:
» ثم قال: سمع الله لمن حمده. فقام قياماً نحواً من ركوعه «، وفي رواية:
» فقام قياماً طويلاً « [57] ، وإن لم يداوم الإمام على ذلك فليفعله أحياناً، تعليماً
للناس، وتذكيراً لهم، وإحياءً للسنة، ومما ثبت مما يقال بين السجدتين قوله:
» رب اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني، واجبرني، وارزقني « [58] ،
ومما ثبت مما يقال بعد الرفع من الركوع، قوله:» اللهم ربنا لك الحمد ملء
السماوات وملء الأرض، ملء ما شئت من شيء بعد « [59] ، ونحوه بزيادة:
» اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا
كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ « [60] .
ولذلك إنك لتعجب ممن أطال الصلاة ينقر هذا الموطن فيفوِّت عليه فضيلة
هذه الأدعية، ثم إذا قام للقنوت وعزم على إطالته لم يكن لهذه الأدعية نصيب ولا
وقت.
9 - ترك القنوت أحياناً: ومما يلفت النظر أنه لم يثبت حديث من فعله صلى
الله عليه وسلم أنه قنت بالصحابة في صلاة الليل في رمضان، فضلاً أن يثبت أنه
داوم عليه صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان على من أراد بيان السنة عملياً للمصلين
أن يترك القنوت أحياناً لبيان أنه غير واجب، وأن في الصلاة مواطن للدعاء تزيد
عليه في الفضيلة كالسجود ومواطن أخرى كالركوع وقبل السلام وغيرها، وكذلك
في تركه أحياناً تعليق أذهان المصلين بحسن التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛
حيث يلتزم ما ثبت أنه التزمه، وأن يفعل أحياناً ما كان يفعله أحياناً.
10- القنوت قبل الركوع أحياناً: وكذلك فعل القنوت قبل الركوع، فقد ثبت
فعله صلى الله عليه وسلم؛ ففعله في صلاة التراويح تعليم للناس، وترك للعادة،
واستحضار لروح العبادة» لأن كثيراً من الناس إذا أخذ بسنة واحدة صار يفعلها
على سبيل العادة، ولكن إذا كان يعوِّد نفسه أن يقول أو يعمل هذا مرة وهذا مرة،
صار منتبهاً للسنة « [61] .
11 - الدعاء في القنوت بالمأثور: والمأثور ولله الحمد مشهور معروف،
وكثير من الأدعية القرآنية تكاد تهجر، وقد حض الله على أدعية كثيرة، ورغب
فيها بأساليب مختلفة؛ فمن ذلك قوله تعالى: [وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الحِسَابِ] (البقرة: 201-202) ، وفي ذكر أدعية الأنبياء عليهم السلام
وأن الله أجاب دعوتهم أعظم ترغيب، وكذلك ذكر أدعية الصالحين دون ذكر
أعايانهم تهييج على اللهج بأدعيتهم كقوله عن دعاء الراسخين في العلم: [رَبَّنَا لاَ
تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ]
(آل عمران: 8) ، وكذلك ذكر دعاء الحواريين أتباع الأنبياء في سورة آل عمران،
قال تعالى: [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 147) ، وما يقال
في الأدعية القرآنية يقال في الأدعية النبوية؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يكثر
من أدعية ويرددها حتى لفت ذلك أنظار الصحابة رضي الله عنهم ونقلوا ذلك
عنه.
__________
(1) رواه مسلم، 147، وروى آخره البخاري، 4/ 217، 218، ومسلم 759.
(2) انظر: مجالس شهر رمضان، ص 20.
(3) رواه أبو داود، 1245، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، والإرواء، 447.
(4) رواه مسلم، ح/ 1163.
(5) رواه مسلم، ح/ 757.
(6) رواه مسلم، ح/ 488.
(7) رواه مسلم، ح/ 489.
(8) رواه أحمد، 4/ 103، والترمذي، 2/ 269، ح/ 413، وقال: حديث حسن غريب.
(9) رواه ابن المبارك في الزهد، 10/21، وأبو داود والنسائي قال الألباني: بسند جيد صفة الصلاة، 36.
(10) رواه أبو داود، 356، والترمذي، 402، وأحمد 284، والبيهقي، 430، وصححه أحمد شاكر في شرحه لعلل الترمذي، 1/ 405، انظر: أحكام الإمامة، للمنيف، 68.
(11) كالرياء والسمعة؛ حيث» الرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها، والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر «، فتح المجيد، 377.
(12) الحديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أحمد، 2642، وابن ماجة، 4204، قال البوصيري في الزوائد: وإسناده حسن وحسنه الأرناؤوط في تخريجه لكتاب فتح المجيد، 440، وكذلك المهدي، 378.
(13) باختصار يسير، من (الآداب الشرعية) ، 2/ 301 310.
(14) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 1/ 215.
(15) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وأحمد.
(16) مقدمة أحمد شاكر لكتاب (إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام) ، ص 38.
(17) رواه البخاري، 631، 7246، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، ورواه أحمد، 5/53، والدارمي، 1/ 286، والدارقطني، 1/ 272، والبيهقي، 2/ 17.
(18) رواه مسلم، 4/ 158.
(19) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 205.
(20) كتابه (ذم الموسوسين) ، ص 41.
(21) رواه البخاري، 6502، وأبو نعيم في الحلية، 1/4، والبيهقي في الزهد، 690، والسنن، 3/ 346، 10/ 219، والبغوي في شرح السنة 1248، انظر: تخريج الأرناؤوط لجامع العلوم، 2/ 330.
(22) الفتاوى، 22/ 66.
(23) الفتاوى، 24/ 248.
(24) الفتاوى، 23/ 88، 127.
(25) الاعتصام، 1/ 128.
(26) أخرجه البخاري، 852، ومسلم 707.
(27) تلبيس إبليس، ص 136.
(28) مجالس شهر رمضان، ص 21، وقد نبه إلى نحو هذا الألباني في كتابه صلاة التراويح، ص 99.
(29) من كتابه الأذكار، ص 156.
(30) كتاب العامري (بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص السير والمعجزات والشمائل) نقلاً من كتاب صلاة التراويح للألباني، ص 105.
(31) يرجع إلى سماع المحاضرة القيمة: (رمضان فرصة للتعليم والدعوة) ، لفضيلة الشيخ محمد المنجد.
(32) رواه مسلم، الصحيحة، 863.
(33) ومنها أمور عامة لا تختص بصلاة الليل.
(34) رواه مسلم، 768، وأبو داود، 1323، 1324.
(35) رواه مسلم، 767.
(36) رواه البخاري، 744، ومسلم، 598، وأحمد 6867، وأبو داود، وابن ماجة 797، والدارمي، 1216، والنسائي، 885.
(37) رواه مسلم، ك 4/52، وعند البيهقي: قال الراوي: يسمعنا ذلك ويعلمنا، وروي فعل ذلك عن عثمان رضي الله عنه، 1/31.
(38) رواه مسلم، 770، وأبو داود، 767.
(39) انظر: كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني رحمه الله، ص 91، وقد ذكر اثني عشر حديثاً في ذلك.
(40) الفتاوى، 22/ 342.
(41) أخرجه البخاري، 9/ 79، ونحوه عند أبي داود، 1456، والنسائي، 2/ 179.
(42) رواه النسائي، 2/ 181، وروى نحوه الترمذي 2924، وقال: حديث حسن صحيح وأبو داود 1466، وفي رواية: (يُقَطِّع قراءته آية آية) ، رواه أبو داود، 4001، وصححه ابن خزيمة، والدارقطني، 181، وأحمد 6/302، والحاكم وأقره الذهبي قال الجزري في (النشر) ، 1/ 226، وهو حديث حسن، وسنده صحيح انظر: جامع الأصو ل، 2/ 463، وضعفه الألباني في (ضعيف أبي داود) ، 260، وقال في صفة الصلاة: قراءة (مفسرة حرفاً حرفاً) رواه ابن المبارك في الزهد، 1/ 162، من الكواكب، 575، وأبو داود بسند صحيح، ص 124.
(43) زاد المسير، 5/ 70، وانظر: أخلاق حملة القرآن، ص 82.
(44) شرح السنة، 2/ 465.
(45) الجامع لأحكام القرآن، 19/37.
(46) رواه مسلم، 1764، والنسائي، 1633، وأبو داود، 871، والترمذي، 262، وابن ماجة، 897.
(47) رواه أبو داود، 873، وصححه النووي في المجموع، 4/ 67، والألباني في صحيح أبي داود، 817.
(48) رواه مسلم، 733، والترمذي، 373، والنسائي، 1658، والدارمي، 1350، ... ومالك، 285.
(49) رواه أبو داود، 1/214، وأحمد، 6/ 149، وصححه العراقي في تخريج الإحياء 573، والألباني، انظر: صلاة التراويح، ص 84.
(50) رواه البيهقي، 3/ 27، والدارقطني، 182، والحاكم، 1/ 301، وصححه ووافقه الذهبي، والنووي في المجموع، 4/ 17، 22، وصححه ابن حبان كما في الفتح، 2/ 386، وصححه الألباني، انظر: كتاب التراويح، ص 84.
(51) وما يلي ذلك مأخوذ من كتاب صلاة التراويح للألباني، ص 86، وقد اختصرها في كتاب قيام الليل، ص 28.
(52) رواه البخاري، 3/ 227، ومسلم، 738.
(53) قيام الليل، ص 119، نقلاً عن كتاب التراويح، للألباني، 95.
(54) أخرجه البخاري، 4968، ومسلم، ك 4، ح/ 217، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
(55) رواه مسلم 487، وأبو عوانة، 2/ 167.
(56) رواه مسلم، 771.
(57) رواه أبو داود، 874، وصححه الألباني في المشكاة، رقم 1200.
(58) رواه أبو داود، 850، والترمذي، 284، وابن ماجة، 898.
(59) رواه مسلم، 376.
(60) رواه مسلم، 476.
(61) الشرح الممتع، 3/ 37.(169/48)
دراسات تربوية
أطفالنا والفصحى [1]
المأساة والحل
د. معن عبد القادر [*]
الحمد لله القائل: [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ] (الرحمن: 3-4) .
وتعليم الإنسان البيان من آيات الله الباهرة. قال القرطبي: «البيان الكلام
والفهم، وهو ما فضل به الإنسان على سائر الحيوان» . وقال السدي: «علَّم كل
قوم لسانهم الذي يتكلمون به» ، «وقيل علَّمه اللغات كلها» .
وقال الشنقيطي: «التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير» .
ويقول سيد قطب: «إننا نرى الإنسان ينطق ويعبِّر ويبين، ويتجاوب مع
الآخرين، فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة، وضخامة هذه الخارقة، فيردنا
القرآن إليها ويوقظنا لتدبرها في مواضع شتى» .
كيف يكون البيان؟ وكيف يتعلم الطفل اللغة التي يعرب بها عما في ضميره؟
جهاز اكتشاف قواعد اللغة:
تشير الدراسات العلمية المبنية على الملاحظة والتحليل أن الله زود الطفل من
جملة ما زوده به بالقدرة على اكتشاف قواعد اللغة التي يتعرض لها باستمرار،
ويسمي العلماء جزء الدماغ المسؤول عن هذه العملية: جهاز اكتشاف اللغة
(LAD) Language Acquidition Device، فيقوم هذا الجهاز بهداية الله
له باكتشاف قواعد اللغة من جملة المفردات والتراكيب التي تعرض عليه، وقد
يخطئ القاعدة في البداية لقلة الأمثلة والعينات، ولكنه ما يلبث أن يراجع نفسه
ويعدل القاعدة حتى يتقن اللغة تماماً فيكاد ألاَّ يخطئ فيها؛ وهذا ملاحظ في الأطفال؛
فتجد الطفل مثلاً وقد طرق سمعه كلمات الجمع مثل: نائمين، قاعدين، فيقول:
رجّالين جمع رجّال (رجل بالعامية) وكَلْبين جمع كلب. وأمثلة هذا معلومة لدى
الأبوين، ويتخذون منها مادة للتفكه والتندر. ومع زيادة الأمثلة، وتكرار السماع،
يصحح الطفل هذه الأخطاء من تلقاء نفسه حتى يصل إلى رتبة الإتقان.
والطفل حين يتقن اللغة لا يدرك قواعدها؛ بل هذا الأمر صحيح في حق
الكبير أيضاً. ولنأخذ على ذلك مثالاً من العامية الشامية:
يقول أهل الشام: خزانِة، وبوابِة، ورمانِة. بكسر ما قبل التاء المربوطة؛
ولكنهم يقولون: تفاحَة ومطاطَة بالفتح. ولا يمكن أن يخلطوا بينهما فيقولون تفاحِة
مثلاً، بل إذا قال الرجل ذلك علم أنه يحاول تقليد اللهجة الشامية وينفضح أمره!
لا شك أن وراء هذه الطريقة في النطق قاعدة لغوية؛ فما هي؟ ربما لم
يخطر لكثير من الناس أن يبحثوا عن القاعدة، ولكنهم غير محتاجين لذلك؛ فإنهم
ينطقون بها صحيحة حسب لهجتهم بالسليقة كما يقول العامية أو لأن جهاز اكتشاف
اللغة (LAD) قد أراحهم من ذلك! كما يقول العلماء.
وكل موهبة ذهنية أو جسدية وهبها الله للإنسان جعل لها دورة حياة، تنشأ
وتقوى، ثم تبلغ ذروتها وأوجها، ثم تضمحل وتموت؛ فما هي دورة حياة جهاز
اكتشاف اللغة (LAD) ؟
يقول العلماء إنها تبدأ مع خلق الإنسان، وتبلغ ذروتها في سني حياته الأولى،
وتبدأ بالضمور والاضمحلال بعد سن السادسة، لتموت قريباً من سن البلوغ! وقد
أيدوا هذه النظرية بالدراسات العلمية، والكشوفات الطبية والاستقراء الدقيق. وهذا
يعني أن السن المثلى التي يكتشف فيها الإنسان قواعد اللغة التي يسمعها حوله عندما
يكون طفلاً دون السادسة، وأنه بعد ذلك إن لم يكن قد أتقن قواعد اللغة يحتاج إلى
من يلقنه ويعلمه إياها؛ إذ لا يكون قادراً على اكتشافها بنفسه، كما أنه في الغالب
لن يستطيع أن يصل إلى درجة الإتقان التي يبلغها من اكتشف قواعد اللغة في السن
التي يكون مهيأ لها (وهذا يدل على الموهبة الخارقة لجهاز اكتشاف قواعد اللغة
الرباني) .
والجدير بالذكر أن هذا الجهاز لا تنحصر قدرته على اكتشاف لغة واحدة، بل
يمكنه أن يكتشف قواعد عدة لغات، وبنفس الدرجة من الإتقان، إذا تيسر له القدر
الكافي من السماع والممارسة.
وقد لاحظنا هذا الأمر بجلاء في الطفل الذي ينشأ لأب عربي وأم إنجليزية
مثلاً، وقد التزم الأب الحديث باللغة العربية في بيته فينشأ الطفل متقناً للعربية/
العامية لغة أبيه، والإنجليزية لغة أمه، بطلاقة تامة.
المأساة:
وهنا تظهر مأساة الطفل العربي المعاصر، إنه في سني حياته الأولى يتعرض
للعامية، فيتعرف على مفرداتها، ويتقن تراكيبها وقواعدها، حتى إذا ذهب إلى
المدرسة وجد أن عليه أن يطلب المعرفة بغير اللغة التي يتقنها.
واللغات العامية والتي اصطلح على تسميتها لهجات مختلفة إلى حد كبير عن
اللغة الفصحى في المفردات والتراكيب والقواعد.
أما الاختلاف في الألفاظ والمفردات فأشهر من أن يمثل له، وأما الاختلاف في
القواعد والتراكيب فإن الفارق أكبر بكثير مما يظنه الإنسان للوهلة الأولى، وهذه
بعض الأمثلة:
في العامية يستخدم الطفل (اللي) كاسم موصول للمفرد والمثنى والجمع
مذكراً كان أو مؤنثاً، بينما تقابله في الفصحى ثمانية صيغ: الذي، التي، اللذان،
اللتان، اللذَين، اللتَين، الذين واللاتي أو اللواتي.
وقد تعلم أن يقول: (كتابَك، قلمَك، رأسَك) بفتح الحرف الأخير قبل
الضمير للدلالة على المذكر، وكسره (كتابِك، قلمِك، رأسِك) للدلالة على المؤنث،
ثم نعلمه في الفصحى أن ذلك الحرف لا دلالة له على التذكير والتأنيث؛ وإنما
يظهر ذلك في حركة الضمير المتصل.
فعندما يُطلب من طفل المرحلة الابتدائية أن يقرأ جملة بسيطة نحو: «جلست
الفتاة قرب النافذة» تجده يتهجؤها تهجئة؛ لأن المفردات ليست من مخزونه، وإنما
يألف الحروف فقط فيقرؤها حرفاً حرفاً؛ فإذا مللنا من بطئه في القراءة نهرناه وقلنا
له: «ما لك يا غبي، إنما نعني: قعدت البنت جنب الشباك» ، هكذا نترجمها له
إلى العامية!
والحقيقة أن الطفل مسكين، ومعرفته بالحروف الأبجدية ليست كافية
للانطلاق في القراءة. إن الكبير حين يقرأ لا يعتمد على تهجئة الكلمة، وإنما
يستعين بمخزونه من الكلمات والتراكيب، فيقرأ بسرعة. أعط رجلاً كبيراً نصاً
فارسياً أو باكستانياً مكتوباً بالحروف العربية، فماذا يصنع؟ إنه يهجئها حرفاً حرفاً
كالصغير تماماً.
ونتج عن هذه المأساة أمران:
1 - عزوف الطفل عن القراءة؛ فإنها تكلفه مجهوداً شاقاً، ولا يفهم كل ما
يقرأ، فلا يستمتع بها، والنتيجة ألا يُقبِل على القراءة إلا مضطراً كاستذكار
لامتحان أو نحوه، ويصبح هناك نوع من العداء بين الطفل ثم الشاب والكتاب.
2 - صعوبة التحصيل المعرفي والعلمي؛ لأن الطفل غير متمكن من أداته،
وهي اللغة الفصحى.
ولتعويض هذا النقص قام التربويون وواضعو المناهج في الدول العربية بحشد
عدد كبير من حصص قواعد اللغة العربية وما يتعلق بها في جميع المراحل
الدراسية، ولكن النتيجة أن هذه الحصص جميعاً لم تصل بخريج المدرسة الثانوية
إلى مرتبة الإتقان.
وقد عقد بعض المختصين مقارنة مفيدة بين عدد حصص اللغة العربية وما
يتعلق بها في بعض الدول العربية، من الصف الأول المتوسط وحتى الثالث
الثانوي، وبين عدد حصص اللغة الإنجليزية (ليس هناك فصيح وعامي في
الإنجليزية) في بريطانيا في الفترة ذاتها؛ فوجد أن عددها في الدول العربية
يتراوح بين 1050 و1250 حصة؛ بينما لا يزيد عددها عن 580 حصة في
بريطانيا؛ وبإجراء حسابات مباشرة يتبين أن الفارق يتمثل بما يعادل ثلاث ساعات
أسبوعياً، على مدى ست سنوات. هذه الساعات الثلاث يقضيها الطفل العربي في
تعلم قواعد لغته والتعرف على مبادئها؛ بينما تتاح للطفل الإنجليزي الفرصة
لاستثمارها في دراسة موضوعات أخرى.
وبالإضافة إلى الفارق البيِّن في عدد الحصص هناك فارق جوهري في طبيعة
المادة المعطاة؛ فبينما يقضي الطفل العربي معظم الحصص في تعلم القواعد والنحو
والإعراب فإن الطفل الإنجليزي يقضيها في تحليل النصوص، واستخلاص الأفكار
الأساسية وأساليب التعبير وغيرها.
فلا غرابة إذن أن تكون فرص الطفل الإنجليزي للإبداع أكبر من فرص قرينه
العربي، وأن نجد في العرب عموماً عزوفاً عن القراءة؛ بينما الأوروبيون
والأمريكان يقرؤون في كل مكان (الحافلة، القطار، الطائرة) ، وتجارة الروايات
لديهم مزدهرة.
الحل:
الحل يكمن في أن يتقن أطفالنا الفصحى قبل دخول المدرسة بالإضافة إلى
العامية؛ كيلا يكون موضع استغراب في المجتمع ولكن كيف يتم ذلك وقد تأصلت
العامية في المجتمعات العربية؟
الجواب أنه لا بد أن نعرِّض الطفل في سني عمره الأولى لساعات طويلة من
ممارسة الفصحى سماعاً وتحدثاً.
والوضع الأمثل في ذلك أن يلتزم أحد الأبوين ولعل الأب هو الأنسب الحديث
مع الطفل بالفصحى منذ ولادته، وستُدهش حين تسمع الطفل يحدث والده بالفصحى
منذ أن ينطق! وإذا بدئ مع الطفل في سن متأخرة نسبياً بعد الرابعة مثلاً فقد يجد
الطفل بعض الصعوبة في البداية، ولكن بالمواظبة والتوجيه والتصحيح من جانب
الوالد، سرعان ما يألف الطفل ذلك. فإذا قال الطفل: (يلاَّ نروح) قال له أبوه:
(هيَّا نذهب) وهكذا. وقد جربت هذه الطريقة حتى مع أطفال في سن الخامسة
فكانت النتيجة مدهشة.
ولكن في كثير من بيوت العرب اليوم لا يحسن أي من الأبوين الفصحى.
وهنا يأتي الحل البديل: روضات الفصحى، وذلك بأن ينشئ الفضلاء
الغيورون، والتربويون الصادقون، روضات تتلقف الطفل من سن الثالثة، ويكون
الحديث داخل أسوار الروضة بالفصحى تماماً، ويختار المدرسات المؤهلات لذلك،
ويتم تدريبهن تدريباً جيداً.
وهذا الحل مجرب أيضاً، وقد أثبت نجاحاً باهراً [2] .
بحث ذو مغزى:
مدرِّسة أمريكية تقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها.
وقد لاحظت أن الأطفال العرب بالذات يفرُّون من القراءة بشكل ملحوظ مقارنة
بأقرانهم من الأعراق الأخرى، وقد لمست نفس الملاحظة عند زملائها من
المدرسين الآخرين.
ولما أعياها البحث عن سبب ذلك توجهت بالسؤال الآتي من خلال شبكة
الإنترنت:
Please help me to answer this question: why arabs do
not like to read ?
وترجمته: لماذا لا يحب العرب القراءة؟
وقد قام أحد الفضلاء بإجابتها عن تساؤلها؛ حيث شرح لها الفصام الذي
يعيشه الطفل العربي بين العامية والفصحى، ثم أحالها على تجربة روضة الأزهار
العربية [3] .
وقد اهتمت بالموضوع أيما اهتمام، إلى الحد الذي عزمت فيه أن تعد رسالة
ماجستير بعنوان: «أثر تعليم الفصحى قبل السادسة عند العرب على التحصيل
الدراسي» .
وفعلاً قامت بزيارة الروضة في دمشق، ومكثت عدة أشهر، تقابل الأطفال،
وتدرس أوضاعهم، كما تتبعت جميع الأطفال الذين تخرجوا من الروضة والتحقوا
بالمدارس العامة، ودرست أداءهم وتحصيلهم، وعقدت مقابلات مع أساتذتهم
وأولياء أمورهم، ثم توصلت إلى أن معدل التحصيل الدراسي لهؤلاء الأطفال
أفضل بكثير من معدل التحصيل الدراسي لأقرانهم، وفي جميع المواد الدراسية.
وأخيراً: فهناك مكسب ثمين من وراء تعويد أطفالنا على الفصحى في سن مبكرة
يفوق كل ما سبق؛ وهو تقريبهم إلى تذوق كتاب الله، واستشعار حلاوته،
واستسهال حفظه ومراجعته.
__________
(*) أستاذ في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن الظهران.
(1) هذا المقال تلخيص لحديث الدكتور عبد الله الدنان في مجلس ضمني معه، مع بعض الترتيب والتصرف والتقديم الذي تقتضيه طبيعة المقال، والدكتور الدنان رائد فكرة تعليم الأطفال الفصحى قبل سن السادسة.
(2) أسس الدكتور عبد الله الدنان: (روضة الأزهار العربية) في دمشق؛ وهي تقوم على هذا المبدأ، وهذه الروضة محل اهتمام الكثيرين من داخل العالم العربي وخارجه.
(3) أسس الدكتور عبد الله الدنان: (روضة الأزهار العربية) في دمشق؛ وهي تقوم على هذا المبدأ، وهذه الروضة محل اهتمام الكثيرين من داخل العالم العربي وخارجه.(169/56)
آفاق
إدارة التناقض
د. عبد الكريم بكار [*]
وجود نوع من التناقض بين الأفراد داخل الأمة، وبين أمة وأمة، هو معقد
من معاقد الابتلاء في هذه الحياة، وهو أيضاً مدخل كبير للتطور والتقدم الحضاري؛
فالوعي يتقدم من خلال اختلاف المستويات أكثر بكثير مما لو ساد الحياة التشابه
والتماثل. والتناقض بعد هذا وذاك أداة كبرى للتميز؛ فمن غيره لا يشعر الأفراد،
كما لا تشعر الأمم بالخصائص والميزات الفارقة بينها.
أمة الإسلام هي آخر الأمم، ورسالتها هي خاتمة الرسالات؛ ولهذا فنحن
ورثة تراث الهداية في البشرية، وتاريخ البشرية هو تاريخ الرسل والرسالات
والنبوة والأنبياء؛ وهذا يلقي علينا مسؤولية خاصة نحو العالم؛ إنها مسؤولية
الدعوة والهداية والإصلاح والإنقاذ. وحتى نستطيع القيام بهذه المهمة على الوجه
الصحيح فإننا بحاجة إلى العديد من الأمور والتي من أهمها:
1 - السعي المتواصل للمحافظة على الهوية التي تعني دائماً وضوح الميزات
التي تميّز أمة الإسلام عن غيرها من الأمم على مستوى العقائد والأحكام والآداب،
وهذا سيكون قليل النفع إذا ظل وضوحه على مستوى الكلام، وإنما يجب أن يتجسد
في حياة أكبر شريحة ممكنة من المسلمين، وهذا ما يؤمِّنه الالتزام الدقيق.
2 - ينبغي أن يهيمن على علاقاتنا بغير المسلمين الإحساس بواجب التبليغ؛
فأمتنا صاحبة حاجة لدى الأمم الأخرى، وهذه الحاجة تتمثل في حرصها على أن
تصل دعوة الإسلام إذا أمكن إلى كل شخص في العالم؛ فأهل عصرنا يعيشون
أزمات صامتة خانقة، والإسلام هو المنقذ الوحيد لهم من تلك الأزمات.
3 - التناقض بين الأمم كثيراً ما يفرض أشكالاً من العداء والصراع، وهناك
شواهد كثيرة قديمة ومعاصرة على أن الصراع حين يقوم كثيراً ما يكون قيامه على
أسس من الخلاف العقدي أو العنصري أو التاريخي ... لكنه في الغالب يتحول بعد
مدة إلى صراع من أجل المصالح، ومن الضروري عند هذه النقطة أن يظل
الصراع مرتبطاً بالتناقض العقدي؛ لأن ذلك ينبه الخصم إلى أننا نصارع من أجل
القيام بواجب ديني دعوي، وليس من أجل تحقيق مصلحة مادية خاصة؛ وحين
يأخذ الصراع طابع تحقيق المصالح يفقد الكثير من مشروعيته، ويفقد المساندة التي
يحتاجها من عموم الأمة.
4 - في حالة التناقض تكون مقولات المتناقضين أقرب إلى الجلاء والوضوح،
وحين يبدأ الصراع كثيراً ما ينطمس التناقض المنهجي، وتسود روح الثأر
والانتقام؛ ولذا كان من أدبيات الصراع المسلح لدى المسلمين أن يبدؤوا بدعوة
الخصم إلى الإسلام أولاً إعلاناً منهم أنه قتال بسبب التناقض وما يستلزمه، وليس
من أجل مصلحة دنيوية، وحين أوصى أبو بكر رضي الله عنه جيشه وصيته
المشهورة بعدم قتل النساء والأطفال إلخ ... كان يهدف إلى ألاَّ تضيع ميزات جيش
المسلمين وأخلاقياته وأهدافه الأصلية من الجهاد في خضم الصراع ومحاولات الغلب
والظفر.
5 - الدعوة إلى الله تعالى هي الأساس وانتشارها هو الهدف. وحتى نتيح
للناس سماعها، فيجب أن نهيِّئ الأجواء الملائمة للتبليغ. وحين ينشب صراع
فيجب أن يستهدف على المدى البعيد تحقيق تلك الأجواء؛ ولذا فإن الصراع الشديد
والطويل كثيراً ما يطمس معالم التناقض، ويحرم الدعوة من الهدوء الذي تحتاجه،
وربما كان قبول النبي صلى الله عليه وسلم بشروط قريش المجحفة في صلح
الحديبية من أجل تأمين الجو الهادئ الذي يتيح لقريش التعرف على الإسلام.
6 - يأخذ الصراع شكل الطفرة وشكل الانقلاب، ويتسم القائمون عليه بالحدة
وقصر النفس، وتسيطر عليهم العاطفة، أما التميز المنهجي والحضاري فيأخذ شكل
العمل المتراكم، ويتحلى أصحابه بروح الثورة والاستمرارية والعطاء على المدى
البعيد؛ ومن المهم ألا نفقد هذه الروح في حمأة الغضب.
7 - نقطة التفوق الكبرى لدى أمة الإسلام اليوم تتمثل في المنهج الرباني
الذي تشرُف بحمله؛ على حين أنها في الميادين الاقتصادية والتقنية العسكرية
ضعيفة وعالة على الأمم الأخرى؛ ولذا فإن من المهم أن نكثّف المجابهة في الساحة
التي نملك عناصر القوة فيها، وأن نكون على حذر، من أن يجرنا الخصم إلى
ساحة تفوُّقه، فنفقد ميزاتنا، وتضطرب أمورنا.
والله ولي التوفيق.
__________
(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.(169/60)
قضايا دعوية
من التولي يوم الزحف
خالد أبو الفتوح
ماذا نقول عن جندي مقاتل يترك ساحة المعركة من غير ضرورات تكتيكية
عندما يحمى الوطيس وتشتد الملحمة؟ نقول عنه: إنه جبن وهرب وقت اللقاء،
وهو فعل مشين عند أصحاب النخوة والرجولة، وزيادة على ذلك فهو عند المسلمين
فعل متوعد عليه في الكتاب والسنة أكبر وعيد؛ حيث يقول جل وعلا: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
المَصِيرُ] (الأنفال: 15-16) ، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» ..
وذكر فيهن «التولي يوم الزحف» .
ولا يغني عن مقترف هذا الفعل أن يأتي (في غير يوم الزحف) ويستعرض
مهاراته القتالية ويطلب النزال مع أشجع الناس، أو أن يتحسر على ذهاب العدو
وعدم إعطائه فرصة أخرى لإظهار ثباته وإقدامه.
ومثل ذلك يقال عن الطبيب الذي يتخلى عن المرضى وقت الأوبئة والكوارث،
ثم (يتطوع) لمعالجتهم بعد ذلك، أو عن الموسر الذي يشح وقت المجاعات
وأزمنة العسرة، ثم ينفق بسخاء وقت الرخاء والسعة.
فهؤلاء جميعاً والأمثلة في غيرهم كثيرة لم يراعوا (واجب الوقت) ، وكما
يقول ابن القيم رحمه الله: «فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في
ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه» [1] ، وهو
ما يعبر عنه آخرون بأن الإسلام عمل اللحظة الراهنة. وبهذه المراعاة لواجب
الوقت وعدم التخلف عنه برز من برز من الصحابة الشوامخ رضي الله عنهم؛
فتصديق أبي بكر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم في وقت لم يصدقه
الناس لا يساويه تصديق آخر في وقت يدخل الناس فيه في دين الله أفواجاً، وصدع
عمر رضي الله عنه، وجهره بالحق في وقت تشتد فيه سطوة أهل الباطل
واستضعاف أهل الحق، لا يساويه إعلان الناس للحق في مجتمع يسوده ذلك
الحق، وكذا يقال في مساندة السيدة خديجة رضي الله عنها وإنفاق أغنياء السابقين
من الصحابة كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما وهكذا
يمكن النظر إلى كثير من مناقب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وقد قدر الله
عز وجل هذا السبق كما جاء في قوله تعالى: [لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ
الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ
الحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] (الحديد: 10) ، وقدره رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أكثر من حديث.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوجه عموم المسلمين إلى مثل
ذلك، فجعل صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر؛ حيث
حاجة الأمة وهذا السلطان في وقت الجور أشد منها وأوكد في غيره، إضافة إلى أن
جور هذا السلطان قد يمنع كثيرين من القيام بهذا الواجب في هذا الوقت بخلاف ما لو
كان عادلاً؛ حيث سيكثر الناصحون لأمنهم من جوره، ولعل ذلك ما جعل من يقوم
بهذه المهمة عند السلطان الجائر: أفضل الشهداء لو قتله هذا السلطان.
وهكذا أيضاً فهم عامة الصحابة (واجب الوقت) وقاموا به بحسب ما يقتضيه
هذا الوقت منهم، سواء كان هذا الوقت وقت معركة أو وقت معاهدة؛ ففي أعقاب
غزوة أحد اشرأبت أعناق المشركين وأرادوا أن يختموا تقدمهم العسكري بنصر
معنوي ونفسي، فقال أبو سفيان يُسمِع المسلمين: اعلُ هُبَل. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: أجيبوه! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلُّ. قال أبو
سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه! قالوا:
ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم [2] .
فما كان يغني عن المسلمين أن يصمتوا عن إجابة أبي سفيان حتى ولو بذريعة
الحكمة وعدم استفزاز العدو ثم يرجعوا إلى المدينة ويهتفوا في طرقاتها: «الله
أعلى وأجل» ، و «الله مولانا ولا مولى لكم» ؛ فواجب الرد كان وقت إعلان
المشركين بباطلهم بعد المعركة، وليس وسط مسلمين يؤمنون بذلك.
وأثناء المفاوضات بين المسلمين والمشركين التي تمخض عنها معاهدة صلح
الحديبية.. استعمل كل طرف ما يمكنه من أساليب الضغط على الطرف الآخر
للحصول على تنازلات، وكان من ذلك قول عروة بن مسعود الثقفي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: «فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس
[يقصد الصحابة] خليقاً أن يفروا ويدَعوك» ، وفوق رد أبي بكر الحاسم عليه فإن
الصحابة الكرام فهموا ما يمليه عليهم واجب الوقت وقاموا به خير قيام: «ثم إن
عروة جعل يرمق النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله
صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده،
وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا
خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون إليه النظر تعظيماً له» .. ولا شك أن
الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم في كل وقت
وكل حين، ولكن لم ينقل هذا التسابق الجماعي إلى مثل ما ذكر إلا في هذا الموطن
فيما أعلم؛ لأن ذلك كان واجب الوقت في تلك اللحظة لهدف محدد تحقق بالفعل
عندما «رجع [عروة] إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك
ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه
مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً» [3] .
وإذا أردت أن تتأكد أن هذه الصور من (إظهار) التعظيم كانت مقصودة
لتوصيل (هذه الرسالة) إلى قادة المشركين أثناء المفاوضات فراجع موقف هؤلاء
الصحابة أنفسهم بعد عقد معاهدة الصلح مباشرة؛ حيث اعترض كثير منهم على
بنودها التي أمضاها الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتنعوا في أول الأمر عن
الاستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحلل من الإحرام حزناً على عدم
اعتمارهم بالبيت الحرام وأملاً في تراجع الرسول صلى الله عليه وسلم عن العودة
إلى المدينة من غير اعتمار.. إلى أن أفاقوا من ذلك وندموا عليه.
والمقصد هنا أنه عندما تكون المواجهة مواجهة بين الخير والشر أو بين الحق
والباطل، أو تكون مواجهة (حضارية) كما يقولون، فإنها تكون مواجهة متعددة
الأبعاد ومتشعبة الاتجاهات، ويكون جنودها أيضاً متنوعين وأدواتها ومجالاتها
كثيرة، ومن هذه المجالات الكثيرة مجال الدعوة والتوجيه والإعلام خاصة أوقات
الفتن والمحن وانتشار الجهل والدعايات والدعوات المضادة، وجنود هذا المجال هم
العلماء والدعاة والمفكرون، وأدواتهم هي الكلمة والنصيحة المكتوبة والمسموعة.
وكما يقال فإن الفتنة إذا أقبلت لم يعرفها إلا العاقل (أو العالم) وإذا أدبرت
عرفها كل الناس، فإذا لم يقم هؤلاء بواجبهم من إرشاده الناس وقيادهم إلى الخير
في ذلك الوقت فمن يقوم به غيرهم؟ ! إنهم إذا نكصوا عن أدائهم لواجبهم في هذا
الوقت الذي ينتظر الناس فيه كلمة أو توجيهاً منهم؛ فإنهم بذلك يكونون كمن تولى
يوم الزحف؛ فهذا يوم زحفهم، وهذه ساحة معركتهم؛ فإذا فروا من أداء واجبهم
فيه فسوف يتقدم العدو ليحتل عقول ونفوس المسلمين الذين كشفت ظهورهم الفكرية
والمعنوية عندما فر الرماة بالحق؛ وعندما يفر هؤلاء فإنهم سوف يفقدون ثقة
المسلمين فيهم فيما بعد، وسوف يبرز المخلَّفون والقاعدون والمتهورون على أنهم
فرسان الساحة، وقد حذر الله عز وجل من انحراف من سبقونا من أهل الكتاب
عندما لم يقوموا ببيان دينه بوضوح وقوة، فقال: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ
مَا يَشْتَرُونَ] (آل عمران: 187) .
ثم لن ينفع أهل الحق والوسطية من هؤلاء العلماء والدعاة والمفكرين أن
يقوموا في غير هذا الوقت بتوجيه الناس وتعليمهم عقيدتهم ودينهم وردهم على
شبهات أعدائهم ونصحهم بسبل مواجهة الفتن؛ لأنه كما يقول علماؤنا: لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الحاجة، ووقت الحاجة لم يقم فيه أهل البيان بالصدع بالبيان
المطلوب.
إنهم إذا قاموا بهذا البيان والتعليم فيما بعد إنما يكونون كذلك الأعرابي الذي
سرق اللصوص إبله، فعاد إلى أهله قائلاً: سرقوا الإبل ولكني أوسعتهم سباً! ..
فعار أن يفوت وقت الواجب ولا يقوم أهل الحق بواجب وقتهم.. عار أن يولي
بعضهم يوم الزحف! ..
__________
(1) مدارج السالكين، 1/ 89.
(2) انظر القصة بتمامها في البخاري.
(3) انظر القصة بتمامها في صحيح البخاري ومسند أحمد.(169/62)
قضايا دعوية
من أمراضنا الاجتماعية:
كثرة النقد وقلة العمل
هشام بن عبد القادر آل عقدة
من أمراضنا الاجتماعية الذميمة: حب النقد مع ترك العمل، وقد فشت هذه
الظاهرة المَرَضية في مختلف طبقات المجتمع؛ فلا يختص بها المثقف دون الأمي،
ولا الأمي دون المثقف، ولا يختص بها الذين ينتسبون للدعوة دون من لا ينتسبون
إليها، بل هي سمة في مجتمعاتنا بمختلف فئاتها.
ويكاد الكثير في مجتمعاتنا ألاَّ يسمعوا بعالم من العلماء أو بداعية من الدعاة أو
بمجاهد من المجاهدين أو بخطيب من الخطباء أو برجل بذل ما بوسعه لنصرة
الإسلام أو اجتهد اجتهاداً معيناً لخدمة الدين، يكادون ألا يسمعوا بشيء من ذلك حتى
ينصِّب بعضهم من نفسه مفتياً وهو على أريكته أو في منتداه أو في مقهاه ليتناول
هؤلاء العاملين بالنقد والحديث مستعلياً ومتعالماً ومتفاصحاً ومتعاظماً ومستهزئاً،
ويملأ شدقيه بالكلام ويتفيهق ويتفلسف ويتشبع بما لم يُعط، ولكن هيهات أن يعمل
أو يتحرك!
أقلوا اللَّوم عليهم لا أبا لأبيكم ... أو سدُّوا من الخلل مثل الذي سدّوا
صابرون ومساكين هؤلاء الذين يعملون ويبذلون في مجتمعاتنا؛ أولئك الذين
ينقذون المواقف ويأخذون بزمام المبادرة حين يتخلف الكسالى سواء كانوا من
القادرين أو غير القادرين.
قد تجد قوماً لا يجدون لهم إماماً يصلي بهم، ويهرب الجميع من ذلك ضعفاً
وعجزاً لا ورعاً، فإذا ما اضطر أحدهم للتقدم إذ لا بد من هذا تحول الهاربون إلى
علماء نقَّاد، وذاق الإمام من ألسنتهم الأمرّين، أو لا يجدون لهم خطيباً فإذا اضطر
أحدهم إنقاذاً لعبادتهم من التعطيل فبادر لأداء الخطبة صار الباقون على الفور أهل
علم بالخطابة وكيف تكون وكيف تؤدى، وإذا نكص الناس عن الدعوة والتعليم
والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله فقام دعاة
يؤدون ما بوسعهم تناولتهم الألسن ولاكتهم مع قلة الناصر والمعين لهم من الخَلْق،
هكذا حالنا! لا نريد أن نكون في الميدان ولكن نحب أن ننظر من خلف الزجاج،
ثم نعلق وننقد ونحلل! يثقل علينا أن نكون في ساحة العمل والبذل والعطاء ولكن
نشتهي أن نشرف من وراء المكاتب! نريد أن ننقد ولا نريد أن نعمل!
فأين ذهب الذين يتكلمون بأفعالهم لا بألسنتهم وأقلامهم؟
نريد أولئك الذين تتكلم أعمالهم وبذلهم وعَرَقُهم ودماؤهم لا الثرثارين
المتشدقين المتفلسفين المتقمصين من الأدوار ما ليس لهم.
روى الترمذي بسند حسن عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «من تحلَّى بما لم يُعْطَ كان كلابس ثوبَيْ زور» [1] .
وروى الترمذي أيضاً بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة
أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون
والمتشدقون والمتفيهقون» . قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارين والمتشدقين
فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون» [2] .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيره المتفيهقين بالمتكبرين يعطينا
خلاصة حال هؤلاء والدافع إلى تفيهقهم وتشدقهم وتكلفهم ألا وهو ما في قلوبهم من
الكبر، وإلا فالمتفيهقون في اللغة هم الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواههم،
وهو مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء والاتساع؛ فالمتفيهق يملأ فمه بالكلام ويتوسع
فيه إظهاراً لفصاحته وفضله واستعلاء على غيره، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه
وسلم المتفيهق بالمتكبر، والمتفيهق بمعنى المتشدق؛ فالمتشدق هو المتكلم بملء
شدقيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، وقيل: المتشدقون هم المتوسعون في الكلام من
غير احتياط واحتراز، وقيل أراد بالمتشدق المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم
وعليهم، والشدق جانب الفم، وأما الثرثارون فهم الذين يكثرون الكلام تكلفاً
وخروجاً عن الحق [3] .
فإلى متى يظل همُّ أحدنا الكلام والتعالم والنقد والاستعلاء على الخلق
والاستهزاء بعمل العاملين؟
فهلاَّ خفضنا من تشدقنا وتعالمنا وتفاصحنا، واتجهنا شيئاً فشيئاً إلى العمل!
لا نقول إن المسلم يجب أن يترك النقد كله، لكن ليكن شعارنا: «قليل من النقد
وكثير من العمل» ؛ فإن الأمة تشتكي من قلة من يعيشون لها وكثرة من يعيشون
لأنفسهم، وقد وجدنا حال من يكثرون النقد وحال عموم المجتمع أنهم يعيشون
لأنفسهم فيؤمِّنون مصالحهم أولاً ويتعلقون بدنياهم ثم ينقدون الآخرين في وقت
التسلية والراحة.
إذا كنت أيها الإنسان لا تبذل شيئاً لدعوة الإسلام ولا تقدم شيئاً لنصرة الدين
فما لك وللآخرين الذين يقدِّمون ويبذلون ما في استطاعتهم! ما لك ولهم؛ فإن
الإسلام أباح التيمم عند فقد الماء، وأباح إمامة الأمي لمثله؛ وتلك الصحوة التي
تحمل عليها، وعمل أولئك الدعاة الذين تنال منهم بالنسبة إلى الصورة المثالية
كالتيمم عند فقد الماء.
أوْلى بك أيها المسلم أن تتحرك لدينك، تحرك إن كان في قلبك إيمان.. ماذا
تنتظر؟ أما أزعجك غياب شرع الله عن الهيمنة على حياتنا؟ أما أتاك نبأ
الشركيات والبدع في مجتمعاتنا؟ أما أزكمت أنفك رائحة المعاصي والمنكرات في
كل مكان؟ أما أعمتك المتبرجات في الطرقات؟
إلى متى تعيش لنفسك؟ إلى متى تعيش للأكل والشرب والنكاح والأولاد؟
[وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] (الأنفال: 28) .
أما بلغتك دعوته صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم
وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعْطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك
فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة
قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة،
إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع» ، والخميصة: ثياب خز أو صوف
معلَّمة، والساقة: الذين يحفظون الجيش من ورائه [4] .
أين دور كل واحد منا تجاه دعوة الله جل وعلا؟ أين الدافع الذاتي؟ إيمانك
الذي في قلبك، ألم يحركك؟ أليس كافياً لدفعك للدعوة إلى الله؟ أين غيرتك على
الدين؟ هل اكتفيت بأن اسمك معدود في المسلمين؟ ألم يأتك نبأ أبي بكر الصديق
رضي الله عنه؟ ! ما إن أسلم رضي الله عنه وعلم بما دخل فيه من دين الله تعالى
حتى أخذ يتصل بخيار رجالات قريش، لم يجلس في بيته، ولم ينتظر تكليفاً من
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينطلق للدعوة إلى الدين الذي اعتنقه، وإنما أتاه
التكليف من إيمانه وصدق إسلامه، فأخذ يتصل بخيار رجالات قريش في مكة
يعرض عليهم الإسلام سراً، فأجابه وأسلم على يديه صفوةٌ كان لها الأثر الكبير في
نشر الدعوة داخل مكة وخارجها، وأفراد هذه الصفوة كلهم من العشرة المبشرين
بالجنة [5] ؛ فمنهم عثمان بن عفان الخليفة الراشد الذي تزوج بنتي رسول الله صلى
الله عليه وسلم: رقية ثم أم كلثوم، والزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله
عليه وسلم وابن عمته صفية، وعبد الرحمن بن عوف الذي دعم الدعوة بماله
وجهاده، وسعد بن أبي وقاص الأمير المجاهد، وطلحة بن عبيد الله من خيرة
الصحابة أيضاً وأحد العشرة المبشرين بالجنة كأصحابه؛ أي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم دعا أولاً إلى الإسلام ثلاثة رجال هم: أبو بكر وعلي وزيد، فحمل
هؤلاء الدعوة من فورهم وبدافع من إيمانهم، فدعا أبو بكر خمسة رجال هم الذين
سبقت الإشارة إليهم، أي أنه أسلم على يديه خمسة في وقت كان جميع من سبق فيه
إلى الإسلام ثمانية رجال بالإضافة إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها. هكذا
يدفع الإيمان أهله لحمل الدعوة، وأنت أخا الإسلام كم من منحرف تعرفه ولا تفكر
في دعوته وإنقاذه، وكم من شاب في مقتبل العمر بحاجة إلى من يأخذ بيده قبل أن
تتقاذفه الأمواج فتتغافل عنه متشاغلاً بدنياك وخصوصياتك!
إن الأمة بحاجة لمن يعيش لها وينزل إليها، ويقترب من جمهورها، يسمع
إليهم، ويأخذ بيدهم للثبات أمام الفتن، ويسوقهم بعيداً عن المزالق والانحرافات،
ويجيبهم عن أسئلتهم، ويخرجهم من حيرتهم، ويريحهم ويمسح عنهم متاعبهم،
باذلاً في ذلك طاقته وجهده، وماله وراحته، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد
الذي كان صدراً حانياً لأصحابه، يجدون فيه طمأنينتهم وارتياحهم، والحل
لمشكلاتهم والإجابة عن تساؤلاتهم؛ فينصرف كل منهم سعيداً منشرحاً. أما هو
صلى الله عليه وسلم فكان كل ذلك يأخذ من صحته ومن قوته. نعم كان يعيش لهم
لا لنفسه، ويقتطع من صحته وقوته من أجلهم، ورضي الله عن زوجه أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها إذ تقول وذلك لما قيل لها: هل كان النبي صلى الله عليه
وسلم يصلي وهو قاعد؟ : نعم! بعدما حطمه الناس « [6] . الله أكبر.. بعدما
حطمه الناس أي كأنه بما حمله من أمورهم وأثقالهم والاعتناء بمصالحهم صيَّروه
شيخاً محطوماً [7] ، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة:
128) ..
وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
صلوات ربي وسلامه عليه.
إن الذي يعيش لنفسه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، والذي يعيش لأمته
يعيش عملاقاً ويموت عملاقاً.
لقد شاء الله جل وعلا أن يكرمنا ويتفضل علينا بأن نكون من أمة محمد صلى
الله عليه وسلم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يعيش أفرادها لأنفسهم، وإنما
هي أمة أخرجت للناس، ولها وظيفة عظيمة تؤديها للبشرية [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] (آل عمران: 110)
وذلك يقتضي أن يشمر أفراد هذه الأمة عن سواعدهم ليقوموا بهداية الخلق إلى الحق،
إنما حياة النفس لشهواتها ورغباتها ولهوها ولعبها فلا خير فيها، يقول صلوات
الله وسلامه عليه:» الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو
متعلماً « [8] .
فاحذروا من عاقبة التفريط في دوركم ورسالتكم، ولا تلهينكم شهوات نفوسكم،
أو أموالكم وأولادكم عن أسباب فلاحكم ونجاتكم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] (المنافقون:
9) آية عظيمة مخيفة تهز القلوب لو كان فيها حياة، لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم
عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون، إنها لآية شديدة ولكنها تصور
واقعنا فعلاً؛ فكم تلهينا دنيانا عن ذكر الله! وذكر الله أمر عظيم وباب واسع يدخل
فيه كما ذكر الحافظ ابن القيم رحمه الله الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وأشياء أخرى عظيمة كثيرة ذكرها مع الذكر باللسان.
فاحذروا إخوة الإسلام أن تعطوا الدنيا أكثر مما تستحق [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ] (الرحمن: 26-27) ، [يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ
الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا
بِغَيْرِ حِسَابٍ] (غافر: 39-40) .
ويا ليت كل من احتوته دنياه فأقعدته عن نصرة دينه ودعوته، يا ليته خفف
من طعنه في دعاة والعاملين في ظهرهم، يا ليت من فرَّط في حمل رسالته وفي
أداء دوره تجاه الأمة.. يا ليته عاش محافظاً على التزامه كما ينبغي ولم يفرِّط في
حق نفسه.
وفي ختام هذه المقالة أذكِّر نفسي وإخواني بأن العاقبة ستكون وخيمة إذا ما
تدرجنا في الانحدار شيئاً فشيئاً؛ فإن الأمر يبدأ بترك دورنا ورسالتنا التي شرفنا بها
وجعلنا الله من أجلها [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] (آل عمران: 110) ، ثم
ننحدر بعد هذا الكسل والتفريط فنطلق ألستنا متشدقين فلا ينجو منا العاملون والدعاة
الذين حملوا الرسالة بقدر استطاعتهم، ثم ننحدر أكثر فأكثر فنترك من التزامنا شيئاً
فشيئاً، أقول إن عاقبة ذلك لوخيمة. [فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] (غافر: 44) .
نعوذ بالله من الخذلان وسوء الخاتمة، ومن خزي الدنيا وخزي يوم القيامة،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) صحيح سنن الترمذي، 1656.
(2) صحيح سنن الترمذي، 1642.
(3) انظر تحفة الأحوذي، 6/161، ونقل فيه جملة كثيرة من النهاية.
(4) انظر: جامع الأصول، 9/495.
(5) انظر: صحيح الجامع الصغير، حديث 50.
(6) صحيح مسلم بشرح النووي، 6/12.
(7) المصدر السابق، 6/13.
(8) حسن، صحيح الجامع، 3414.(169/65)
نص شعري
مَنْ مِثلُ كابول؟
مروان كجك
أوَّاهُ أوَّاهُ يَا كَابُولُ فَانْتَظِمِ ... فِي سِلْكِ قَوْمٍ وُفَاةِ الْعَهْدِ وَالذِّمَمِ
فَقَدْ بَغَتْهَا جُيُوشُ الغَدْرِ قَاطِبَةً ... مَا بَيْنَ مُغْتَبِطٍ مِنْهُمْ وَمُنْتَقِمِ
فَثِبْ هَصُوراً وَلا تَحْفِلْ بِمَنْ جَفَلُوا ... عَنِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يُصْغُوا لِمُعْتَصِمِ
وَلا تَخَفْهُم؛ فَإنَّ اللَّهَ جَامِعُنَا ... يَوْمَ الْحِسَابِ غَداً فِي مَحْفِلٍ أَزِمِ
وَلا تَخَفْهُمْ فَإنَّ الْعُمْرَ مَرْجِعُهُ ... لِوَاهِبِ الْعُمْرِ لا لِلنَّبْلِ وَالْهَرَمِ
سَتُشْرِقُ الشَّمْسُ يَا كَابُولُ سَاطِعَةً، ... مَنْ مِثْلُ كَابُولَ مَهْدِ الْعِزِّ وَالشَّمَمِ؟
وَيُسْرِعُ النَّصْرُ خَلْفَ النَّصْرِ يَتْبَعُهُ ... وَيُدْحَرُ الْقَهْرُ مِنْ رَحْضٍ إلَى قِمَمِ
سَلُوا الكِرِمْلِنَ مَنْ أَطْفَا قَنَادِلَهُ ... فَصَارَ ذِكْرَى ذَمِيمَ الصِّيتِ وَالْقِيَمِ
أَلَيْسَ كَابُولُ قَدْ قَضَّتْ مَضَاجِعَهُ ... وَأَلْقَمَتْهُ زُؤَاماً رَاسِخَ الْقَدَمِ؟
وَأَرْسَفَتْهُ وَقَدْ كَانَتْ بَيَارِقُهُ ... خَفَّاقَةً فِي دِيَارِ الْعُرْبِ والْعَجَمِ
يَا بُؤسَ قَوْمٍ طَغَوْا فِي الأَرْضِ وَانْتَشَرُوا ... بِجَيْشِ حِقْدٍ وَجَمْعٍ غَيْرِ مُنسَجِمِ
يَبْغِي التَشَفِّي مِنَ الْحَقِّ الَّذِي غَلَبَت ... آيَاتُهُ الزُّهْرُ أَهْلَ الظُّلْمِ وَالظُّلَمِ
مِنْ كُلِّ صَوْبٍ أَطَلَّ الزَّيْفُ وَانْتَشَرَتْ ... فِي الأَرْضِ حُمَّى جُنُونِ الكُفْرِ وَالْبُهُمِ
هَا قَدْ تَدَاعَتْ جُمُوعُ الْغَدْرِ يَدْفَعُهَا ... حِقْدٌ دَفِينٌ وَغَيظٌ غَيْرُ مُنْفَطِمِ
لَوْ كَانَ يُحْفِظُهَا فَرْدٌ لَمَا حَشَدَتْ ... هَذِي الْحُشُودَ وَلَمْ تُهْرِقْ بِحَارَ دَمِ
لَكِنَّهُ صَلَفٌ فِي الْقَلْبِ مُنْجَدِلٌ ... حِقْدُ الصَّلِيبِ وَما يُزْجِيهِ مِنْ ضَرَمِ
اللَّهُ أَكْبَرُ مَا مِنْ غَالِبٍ أَبَداً ... إلاَّ المُعَلِّمُ بالْوَحْيَيْنِ وَالَقَلَمِ
وَالْمُؤْمِنُونَ به والسَّائِرُونَ عَلَى ... نَهْجِ السَّخِيِّينَ بِالأَمْوَالِ وَاللِّمَمِ
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ مَهْمَا طَارَ طَائِرُهُمْ ... وَحَوَّطُوهُ بِزَيْفِ الْقَوْلِ وَالْحِكَمِ
وَيُكْشَفُ الْكَذِبُ الْمَعْسُولُ أَجْمَعُهُ ... وَيُفْرَزُ السُّمُّ عَمَّا شِيبَ مِنْ دَسَمِ(169/69)
تأملات دعوية
الأحداث ومشكلة التفكير
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
الأحداث تثير النفوس وتكشف كوامن وخبايا فيها، وهي فرصة لاكتشاف
أمراض نعاني منها، أو تقرير معان تربوية غائبة؛ وعلى سبيل المثال كان لحادث
الإفك أثر في تقرير معان شرعية وبنائها في النفوس ما كانت لتتقرر بالقدر نفسه لو
جاء الحديث عنها ابتداءاً.
ولعل قراءة سريعة في الأحداث الأخيرة تكشف لنا عن بعض الثغرات في
طريقة تفكير بعضنا، ومنها:
* الإصرار على التعامل مع الموضوع جملة واحدة دون فصل عناصره،
وثمة فرق بين حادث الاعتداء، وبين الحرب والصراع، وبين التحالف ضد ما
يسمى بالإرهاب، والموقف منه وأسلوب التعامل معه.
* لا تزال العاطفة تؤثر كثيراً في أحكامنا ومواقفنا؛ فمع أهمية العواطف،
وعدم إهمالها، بل قسوة من يفتقدونها، وربما ضعف إيمانهم، مع ذلك كله ينبغي
أن تكون أحكامنا ومواقفنا تستند إلى النصوص الشرعية، والمعايير الموضوعية.
* النظرة القريبة والآنية للأحداث في التعامل معها، وفي قياس آثارها
وتقويمها، والذين يفقدون العمق في التعامل مع الأحداث سيفقدونه في نظرتهم
للمستقبل وتخطيطهم له، وحين نضيف ذلك إلى زيادة مساحة تأثير العاطفة لدينا
يتولد من هذا مواقف متعجلة ومتسرعة يدفعها ضغط الواقع والتبرم به إلى مواقف
وأعمال ضررها أكثر من نفعها.
* الغلو في الآراء والتطرف فيها؛ فكثير ممن يبدي رأيه في الموقف
والحادث يبالغ في الحماس له وفي تقريره، وعبارة: هذا الرأي أرجح في وجهة
نظري من غيره، أو هذا الرأي يمكن أن يقبل بنسبة معينة ... وغيرها، هذه
العبارات التي تدل على نسبية الرأي عبارات نادرة في حوارنا وحتى في كتاباتنا.
* لا نزال نعاني من عدم استيعاب الاجتهاد المخالف والرأي الآخر؛ فثمة
جوانب في الحدث يمكن بل لا بد من أن تختلف فيها الآراء؛ ومع ذلك فثمة من
يضيق عطنه بالرأي الذي يخالف ما يراه هو، بل يتجاوز الأمر في ذلك إلى تكوين
مواقف من الأشخاص نتيجة آرائهم. وإذا كان هذا المسلك في التعامل مع موقف
فكيف به في التعامل مع آراء واجتهادات أخرى؟ وهل نعتقد أننا سنصل إلى حال
نتفق فيها على جميع المسائل الاجتهادية والمسائل النسبية؟
* لا تزال نظرية المؤامرة تسهم إلى حد كبير في التأثير على تفكيرنا؛
فنفترض أن الحدث مؤامرة حيكت خيوطها بدقة بالغة، وأن التحركات التي أعقبت
الحدث هي الأخرى لها أهداف.. إلخ، إننا لا ننكر أن هناك مؤامرات تحاك في
الظلام، وكم كشف التاريخ عن تفسير لبعض الأحداث كان غائباً عن معاصريه،
لكن لا بد من الاعتدال والنظرة الموضوعية للأحداث مع اعتبار احتمال المؤامرة
في حدث من الأحداث فرضاً ضمن الفروض يجري اختباره وفحصه على ضوء
أدلة موضوعية.
* نعاني من فقد النقد والتمحيص الموضوعي للأخبار والروايات؛ فثمة أخبار
وروايات تلقى رواجاً ويعتمد عليها؛ مع أنها تبدو غير منطقية حين نُخضعها
للمحاكمة العقلية المنطقية.
* في تعاملنا مع الأخبار نميل إلى الحماس للأخبار التي تتفق مع إطارنا
المرجعي، ونحرص على أن تكون النتيجة كما نريد أكثر من حرصنا على
الوصول للحقيقة بغض النظر عن موقفنا منها.(169/70)
وقفات
هموم صغيرة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
alsowayan@albayan-magazine.com
التحديات الحضارية التي تواجه الأمة الإسلامية سياسياً واقتصادياً وفكرياً
واجتماعياً.. كثيرة وكثيرة جداً، ومن أبرز المشكلات التي نعاني منها غياب
الوعي في إدراك هذه التحديات الكبرى وأبعادها العميقة في واقع الأمة. ومظاهر
غياب الوعي عديدة، أذكر منها:
أولاً: اشتغال كثير من طلبة العلم والباحثين والمنتسبين إلى الدعوة بالأمور
المفضولة على حساب الأمور الفاضلة، فتهدر أوقات كثيرة، وتستهلك طاقات
عديدة في أمور غيرها أفضل منها، وتصبح القضايا الكلية الكبرى التي تحتاجها
الأمة من القضايا الغائبة التي لم يلتفت إليها أولئك المصلحون؛ لأنهم استُهلكوا في
مسائل أخرى مرجوحة. وكثيراً ما يغفل الصالحون عن هذه الآفة؛ لأنهم يرون
أنفسهم إنما يشتغلون في أعمال صالحة، ولكنهم لم يفقهوا أن ذلك حجبهم عن أعمال
أصلح وأكثر نفعاً للأمة. قال العز بن عبد السلام: «لا يقدم الصالح على الأصلح
إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من
التفاوت» [1] . وذكر ابن القيم أن هذه من أحابيل الشيطان التي يوقع فيها
الصالحين؛ فإن الشيطان أمر العبد بالأعمال المرجوحة المفضولة، «وحسنها في
عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها
وأعظم كسباً وربحاً؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره
كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن
الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له» [2] .
ولم يسلم من هذه المشكلة بعض المحافل العلمية المتخصصة التي ينتظر منها
توجيه الأمة وقيادتها، كالجامعات الإسلامية ومراكز البحث العلمي؛ حيث ما زال
بعضها يجتر بعض الموضوعات التقليدية، ويُشققها بتكلف ظاهر، بعيداً عن
التحديات الحقيقية التي تواجهها الأمة، وإلا فأين طلاب أصول الدين وأقسام العقيدة
والدعوة من التيارات الفكرية التي تجتاح الأمة وتصدع أركانها وتتخطف شبابها؟ !
وأين طلاب الشريعة وأقسام الفقه من النوازل الاقتصادية التي تعبث بها المؤسسات
البنكية ومنظمة التجارة العالمية ونحوها؟ ! وإن وُجِدَ شيء من ذلك فَلِمَ لا ينزل في
واقع الأمة، ويتحول من الأطر النظرية والجدلية إلى الممارسة العملية..؟ !
وما أشبه كثير من هؤلاء المشتغلين بالأعمال المفضولة بمن تحدث عنهم ابن
الجوزي بقوله: «من ذلك أنَّ قوماً استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث والرحلة
فيه وجمع الطرق الكثيرة وطلب الأسانيد العالية والمتون الغريبة، وهؤلاء على
قسمين: قسم قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، وهم
مشكورون على هذا القصد، إلا أن إبليس يُلبِّس عليهم بأن يشغلهم بهذا عمَّا
هو فرض عين من معرفة ما يجب عليهم، والاجتهاد في أداء اللازم والتفقه في
الحديث.. فترى المحدِّث يكتب ويسمع خمسين سنة، ويجمع الكتب ولا يدري ما
فيها، ولو وقعت له حادثة في صلاته لافتقر إلى بعض أحداث المتفقهة الذين
يترددون إليه لسماع الحديث منه! ..» [3] .
إنَّ تصدر الأكفاء من المتخصصين والمثقفين لمواجهة التحديات الفكرية ليس
ترفاً معرفياً؛ بل هو أمانة عظيمة يجب أن يتصدروا لها، وقديماً ودَّ بعض
المحدِّثين أن لو كان يعلم كيف يرد على بعض شبهات المتكلمين وأن ثلث مروياته
ساقطة عنه..! [4] .
ومن فقه الإمام ابن تيمية رحمه الله أن بعض أصحابه التمس منه تأليف نصٍّ
في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته، ليكون عمدة في الإفتاء، لكن الإمام رأى أن
الفروع أمرها قريب، وأن الأوْلى بالتقديم هو الرد على المبتدعة وأهل الأهواء،
وقال: «يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حجتهم
وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، وزيف دلائلهم، ذباً عن الملة الحنيفية،
والسنَّة الصحيحة الجلية» [5] .
ثانياً: السلبية المفرطة من بعض الأكفاء وأهل الاختصاص؛ فترى كثيراً
منهم ينزوي ويبتعد عن واجباته الشرعية في مدافعة المبطلين، ويتهرب من
المسؤولية، ولا يُرى له أثر. وربما تسمع أحياناً من بعض هؤلاء في مجالسه
الخاصة ودوائره الضيقة كلاماً عظيماً في الرد على بعض رموز التيارات الفكرية
المنحرفة، ويعجبك منطقه وقوة تأصيله، وإلمامه بالخلفيات الفكرية والجذور
التاريخية الفكرية للطروحات العلمانية، لكنه لا يكاد يُذكر في المحافل العامة التي
ينبغي فيها إظهار الحق ورفع راية الدين، ولا شك بأن هذا من أعظم الخذلان
والتقصير في نصرة الدين؛ فما فائدة هذا العلم إذا لم يُسخَّر لخدمة الأمة، والذبِّ
عن حياضها..؟ ! وما فائدة التشكي والتحزن على واقع الأمة وتغلُّب المفسدين إذا
كان القادرون على قمع الباطل ورد شبهاته رضوا بالقعود والتشاغل..؟ ! وهل
يمكن أن تواجه الأمة تلك التحديات الفكرية والحضارية بهذه النفوس الصغيرة
العاطلة..؟ !
لقد كان الإمام ابن القيم واضحاً صريحاً في وصف حال هؤلاء القوم، فقال:
«وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك،
وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب، ساكت اللسان،
شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ !» [6] .
ثالثاً: افتعال معارك صغيرة فكرية وحزبية وشخصية أطاحت بهمم كثير من
الدعاة، وأقعدتهم عن مواطن العطاء والإنجاز، وصرفتهم عن مواقع البلاء الحقيقية،
واستهلكت طاقاتهم في القيل والقال..!
وإذا أردت أن تقف على بعض أمثلة ذلك فانظر إلى بعض ما يطرح في
مواقع ساحات الحوار الإسلامية والعربية في الشبكة العالمية (الإنترنت) ؛ ففي
الوقت الذي تشتعل فيه الأرض المباركة في فلسطين بمكائد اليهود، وتتكالب القوى
الغربية على المسلمين في أفغانستان؛ ترى شباب الأمة وعقلها المبدع يلوك بعض
المسائل الجزئية الباردة التي لا تقدم ولا تؤخر، ويفتعل لها الخصومات، ويجمع
حولها الأنصار، ويصنف وراءها المخالفين، وكأنها من معاقد الولاء والبراء..!
وترى الحوار يتحول عند كثير من البطَّالين إلى ضرب من ضروب الهوى
والاعتداد بالنفس والتطاول على الآخرين. وأحسب أن كثيراً من الجدل الدائر لا
يبعد كثيراً عن قول الإمام ابن القيم: «ولا عبرة بجدل من قلَّ فهمه وفتح عليه باب
الشك والتشكيك؛ فهؤلاء هم آفة العلوم، وبلية الأذهان والفهوم!» [7] .
رابعاً: الانغلاق الحزبي الذي يري الإنسان الأمور بمنظار مختلف يجره إلى
مستويات هزيلة متدنية من الهموم؛ فالهم الأكبر الذي يتعب له العبد وينصب لا
يتجاوز حدود التوجهات الحزبية التي تنتقل في الدوائر التنظيمية الضيقة، أما
التحديات الكبرى للأمة، والقضايا المصيرية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية
فهي في حسه قضايا هامشية شكلية ليس هذا وقتها ... !
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/5) .
(2) مدارج السالكين (2 / 225) .
(3) تلبيس إبليس (ص 132 135) .
(4) انظر أصل القصة في: تبيين كذب المفتري، لابن عساكر (ص 352) ، وعنه نقلها ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (7/254 -256) .
(5) الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، للبزار، (ص 35 -36) .
(6) إعلام الموقعين (2/155) .
(7) التفسير القيم (ص 68) وقد قرّر الإمام الشاطبي وغيره من أهل العلم أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وقال الشاطبي: «عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج من الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب حتى تفرقوا شيعاً، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب؛ حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني، فذلك فتنة على المتعلم والعالم» الموافقات (1/ 51) .(169/72)
حوار
حوار مع السفير السابق لأفغانستان
في دولة الإمارات العربية المتحدة
البيان: نرحب بسعادة الأخ السفير مولوي عزيز الرحمن عبد الأحد، القائم
بأعمال سفارة أفغانستان الإسلامية بدولة الإمارات العربية المتحدة سابقاً، ونشكره
على تلبية دعوة مجلة البيان لإجراء هذا الحوار:
* بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: وأنا أرحب بمجلة البيان الإسلامية التي خدمت
الساحة بجهدها وبتأصيلها لكثير من القضايا الإسلامية من وقت نشأتها وإلى اليوم،
ولهذا نرى إقبال المسلمين على قراءتها والبحث عنها والاشتراك فيها من جميع
أنحاء العالم، حتى في أفغانستان نفسها.
وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أهمية مجلة البيان وإخلاص القائمين
والعاملين فيها؛ فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ونسأل الله أن يوفقنا وإياهم إلى
الاستمرار في هذا السبيل وخدمة الإسلام والمسلمين في أي مكان.
البيان: بعد أحداث نيويورك وواشنطن أصرت حكومة أفغانستان على نفي
أية صلة لها بتلك الأحداث، بل استبعدت أن يكون ضيوفها هم الفاعلين؛ ولذلك
فهل تعتبر طالبان نفسها ضحية ظلم وقع عليها بسبب تهمة غير صحيحة؟
* في الحقيقة لا شك في أن إمارة أفغانستان الإسلامية وزعامتها سواء قبل
أحداث أمريكا أو بعدها، ما كان لها أي تخطيط لأن تقوم بمثل هذه الأعمال،
وخاصة أنها منشغلة بنفسها وتعمل داخل بيتها، وهناك حرب مسلطة عليها من
داخل أفغانستان بإيعاز وبدعم من خارج أفغانستان، فلم يكن في نيتها إحداث مشاكل،
بل هي بنفسها قررت وأعلنت سابقاً ولاحقاً وإلى اليوم في جميع المناسبات أنهم
ليسوا بصدد مثل هذه الأمور، ولا يرون تقرير مثل هذه الأمور لأن تنطلق من
إمارتهم، وأيضاً استبعدت ونفت عمن يعيش في داخل الأرض الأفغانية ومن هم
ضيوف عليها فعل ذلك؛ لأنها تدرك أن أفغانستان بوضعها وظروفها وباتصالاتها
وإمكانياتها ليست مهيأة لأن تنطلق من أرضها مثل هذه الأمور، وأيضاً كان هناك
تطمين من ضيوف أفغانستان أنهم لن ينطلقوا من أرض أفغانستان، ولن يسببوا لها
مشاكل؛ فبعد هذه التأكيدات صرحت إمارة أفغانستان بذلك وأعلنت على الملأ أن
إمارة أفغانستان لن تكون مصدر إزعاج للدول جميعاً؛ ولهذا تعتبر حكومة أفغانستان
نفسها أنها وقعت ضحية هذا الظلم وهذه الغطرسة وهذه الكبرياء التي تدعيها أمريكا.
وأمريكا نفسها وجهت التهمة من أول يوم إلى ضيوف أفغانستان، ولا شك أن
هذا في أي ملة وفي أي قانون أرضي أو سماوي غير مقبول، هذا ما دامت التهمة
لم تثبت، حتى في قوانين أمريكا ومحاكمها وفي كل العالم أن المتهم لا يدان إلا بعد
أن تثبت التهمة عليه، أما أمريكا فبمجرد حدوث هذه الحوادث وقبل التثبت وقبل
حدوث شواهد أو دلائل أعلنت التهمة، وإلى اليوم مصرة عليها، وسيرت الجيوش
لذلك، وهذا دليل واضح على الغطرسة، وعلى الكبرياء وعلى الغرور، ودليل
واضح أيضاً على أنه كانت هناك نوايا مبيتة ومسبقة تجاه إمارة أفغانستان
الإسلامية، استغلت لها هذه الظروف إرضاء للشعب الأمريكي، ولتوسيع شحنة
الغضب، ولهذا ضحوا بالشعب الأفغاني وسيروا الجيوش تجاهه استجابة لنفسية
الغطرسة والغرور الذي دفع بأمريكا نفسها إلى مفارقة العقل السليم، وسيؤدي إلى
دمارها وهلاكها، وهذا بسبب الظلم الواقع الآن على أفراد الشعب الأفغاني الذي
كان بحاجة إلى المساعدة، ولكنهم اليوم يدمرون ويشردون الأفغان، ويدمرون
بيوتهم ويقتلون نساءهم ورجالهم وأطفالهم، وهناك الحصار الاقتصادي الذي كان
مفروضاً عليهم قبل الأحداث، وكل ذلك بسعي وبدعم من أمريكا؛ فبناء على ذلك
نحن نعتبر أنفسنا ضحية لهذا الغرور وهذه الغطرسة الأمريكية.
البيان: ما دمتم تنفون مسؤولية حكومة أفغانستان عن أحداث أمريكا؛ فما هي
خلفية علاقة حكومتكم بأسامة بن لادن؟
* ليست هناك أي خلفيات لتلك العلاقة، سواء كانت مالية أو مصلحية أو
تنظيمية أو غير ذلك، إلا أن الشعب الأفغاني فقط من طبيعتهم أنهم لا ينسون
المعروف لكل من فعل المعروف معهم، وهؤلاء الضيوف فعلوا معروفاً مع الشعب
الأفغاني وشاركوا في الجهاد معهم، وضحوا بأنفسهم وأموالهم وأوقاتهم، وكثير منهم
سالت دماؤه في الجهاد الأفغاني ضد الروس والشيوعية؛ فالعلاقة وخلفيات هذه
العلاقة هي فقط إسلامية وإسلامية بحتة، ومع ذلك فقد تكفلت حكومة أفغانستان بعد
الأحداث وحتى قبلها بأن أي مسؤولية أو التزام أو أي شواهد تثبت على أحد، فإن
إمارة أفغانستان مستعدة من خلال المحاكم الشرعية أن يحاكم من تثبت ضده
مسؤولية شرعية في ظل الحكم الإسلامي، ولكن إمارة أفغانستان تحس أن عدم
الإصغاء لطلبها بتقديم أدلة يدل على الرغبة في إذلال وإهانة ما قامت به إمارة
أفغانستان من إقامة لحكم الله على أرض أفغانستان؛ فهذا التطبيق للحكم الإسلامي
هو شوكة في حلوق أعداء الإسلام والمسلمين؛ ولذا يريدون إذلال هذه الإمارة
وإهانتها بأي طريقة وتحت أي ذريعة، وعرضت الإمارة أيضاً تسليم المتهمين
لطرف ثالث محايد في دولة إسلامية ليحاكموا محاكمة شرعية، وعرضت أيضاً
تسليمهم لمنظمة المؤتمر الإسلامي لتقوم بتشكيل محكمة من علماء وقضاة إسلاميين
يتولون المحاكمة، ولكن لم نجد آذاناً صاغية ولم يُستجب لنا، وكل هذا يدل على
استضعاف إمارة أفغانستان والاستهانة بها، وهي بالفعل ضعيفة بإمكانياتها
ومادياتها، ولكن في الحقيقة قوية بإيمانها وبموقفها الإسلامي وتمسكها بدينها؛ لأن
هذا أساس وجودها وجهادها وتضحياتها ولن تفرط فيها ولن تتنازل عنها.
البيان: بماذا تعللون إصرار الولايات المتحدة على رفض عروض حكومة
أفغانستان التفاوض بشأن تسليم الذين تتهمهم أمريكا إلى طرف محايد؟
* تعليلنا لإصرار الولايات المتحدة المتكرر على رفض عروض طالبان، هو
أنه إذا عُرضت هذه المواضيع أو فوضت إلى محكمة محايدة في دولة إسلامية أو
أي تجمع إسلامي؛ فإن أمريكا لن تستطيع أن تحقق أهدافها من خلالها؛ لأنه ليس
عندها أي شواهد أو إثباتات تقدمها لها، وهذه المحاكم بدورها لا بد أن تقول كلمتها
في ضوء عدم وجود أدلة؛ فتكون أمريكا بذلك هي الخاسرة؛ فلذا ترفض كل هذا،
ولو كانت أمريكا تملك أدلة وشواهد لرضيت بمحاكمة عادلة في أي مكان، وهذا
يدل على غرورها وغطرستها وعدم احترامها لأي شيء إسلامي؛ فكل دولة في
العالم من حقها أن تحاكم المتهمين من مواطنيها أو رعاياها على أرضها، فلماذا
تستثنى أفغانستان من ذلك؟
البيان: هنا سؤال آخر مرتبط بما سبق، وهو متعلق بموقف الأمم المتحدة
وإصرارها على أن لا تعطي لدولة أفغانستان مقعدها في المنظمة الدولية؛ فعلامَ يدل
هذا التمييز في المواقف؟ وما تعليقكم على هذا الأمر على رغم معرفتنا بأن
حكومتكم ليست متلهفة إلى عضوية تلك المنظمة؟
* هذا يرجع أيضاً إلى السؤال الأول؛ فكل هذه المواقف ترجع إلى أن
أصحابها لا يريدون النظام الذي تطبقه إمارة أفغانستان الإسلامية على أرضها،
ويريدون من ذلك محاصرة هذا النظام، وقيادة طالبان قد أعلنت منذ ظهورها على
الأمر في أفغانستان، أنها تتعامل مع المنظمات والأعراف والقوانين الدولية من
منظور إسلامي، ولا تقبل أن يُفرض عليها شيء مخالف للإسلام؛ ولذلك فإن طلبها
لهذا المقعد لم يكن إذعاناً لقوانينهم التي يشرعونها، ولكن هدفها الأساس من ذلك
كان لأمرين:
الأول: أن ذلك المقعد كان ولا يزال يستخدم لصالح المعارضة؛ حيث يبثون
منه النواقص والتهم ضد إمارة أفغانستان.
والأمر الثاني: أن إمارة أفغانستان كانت تستطيع من خلال مندوبيها أن تتكلم
بكل ما يكون من مواقفها، وتعبر عن آرائها من خلال هذا المقعد، وحتى نستطيع
أن نتعامل مع المجتمع الدولي من خلال قنواته.
ولكن الإصرار على عدم إعطاء الإمارة مقعد أفغانستان في الأمم المتحدة يمثل
نوعاً آخر من الحصار السياسي حتى لا تتعامل أية دولة مع دولتنا سياسياً أو
اقتصادياً أو ثقافياً، ومن التناقض أن المعارضة التي لا تسيطر إلا على شيء بسيط
من الأرض يتعاملون معها سياسياً واقتصادياً وثقافياً من خلال هذا المقعد؛ وهذا سر
بقائها إلى اليوم، وإلا فإنها على الأرض تعتبر ميتة.
البيان: هل نستطيع أن نقول إن هذه المعارضة لو كانت مسيطرة الآن على
كل أرض أفغانستان، ولكن بنهج إسلامي صحيح وواضح، هل كانت ستستهدف
بالعداء مثلما هو حاصل الآن مع حكومة أفغانستان الحالية؟
* لا شك في ذلك، ولكن المعارضة كان يتوقع منها أن تتنازل عن مبادئها
إرضاءً للغرب مثلما هو حاصل الآن، أما إمارة أفغانستان فليس همها إرضاء الناس
ولكن إرضاء رب الناس؛ فكما يقول الحديث: «من التمس رضا الله بسخط الناس
كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» [1]
ولهذا لما سعت حكومة طالبان إلى إرضاء رب الناس بتطبيق أحكامه فإننا نرى
أن كثيراً من الشعوب بدأت ترضى عن هذه الإمارة وتتفاعل معها وتحترمها رغم
قلة إمكاناتها وضعف إعلامها وعدم اتصال العالم بها، أما الذين خذلوهم من أجل
مصالحهم الشخصية فإن نظرة الناس إليهم يظهر فيها السخط الذي يزداد يوماً بعد
يوم.
البيان: هناك من يشكك حتى في أوساط الإسلاميين في التوجه المنهجي أو
الاعتقادي لرموز حركة طالبان أو من أصبحوا بعد ذلك يمثلون حكومة أفغانستان،
بل بعضهم يقول إنهم خرافيون أو مبتدعة، ومع أننا ننظر في بعض أسماء
المسؤولين في أفغانستان، فنرى أن منهم من درس في الجامعات الإسلامية التي
تنتهج منهاجاً عقدياً صحيحاً؛ فهل توضحون هذه النقطة لكي يزول هذا اللبس عن
كثير من الناس في تلك القضية؟
* جزاك الله خيراً؛ فلقد أشرت إلى نقطة مهمة جداً، وهي مما يشغل بال
كثير من إخواننا المسلمين الصالحين الصادقين، وفي الحقيقة كنت أتمنى أن تبلغ
كلمتنا إلى مثل هؤلاء من خلال منبر من المنابر، ولكن والحمد لله من خلال مجلتكم
الغراء لعله إن شاء الله يكون توضيحاً لهذا الموقف وإلقاء للضوء على هذه القضية
المهمة والمهمة جداً.
أولاً: الشعب الأفغاني المسلم المجاهد الصادق مثل كل الشعوب الإسلامية؛
فليسوا شعباً آخر؛ فقد أصابهم ما أصاب الشعوب الإسلامية بما لها وما عليها؛ ففي
أفغانستان مظاهر غير مُرضية وغير شرعية، وهذا شيء موجود في كل الشعوب
الإسلامية في أي مكان وفي أي بقعة، وهذا من بقايا الاستعمار الذي تسلط على بلاد
المسلمين لعقود من الزمن من خلال أنظمة عميلة؛ حيث فرقوا بين المسلمين بهذه
الأمور وهذه المظاهر.
ثانياً: أبشركم وأوضح لكم حقيقة غائبة ربما شُوِّهت عند كثير من إخواننا
المسلمين، وهي أن إمارة أفغانستان الإسلامية والمسؤولين فيها يسعون سعياً حثيثاً
لتغيير جذري في هذه الظواهر وهذه المخالفات والأمور التي لا ترضي ربنا ولا
توافق ديننا وقرآننا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأكبر دليل على هذا ما
سمعتم وما قرأتم وما رآه بعض من زار أفغانستان أن هناك تغييراً جذرياً؛ حيث
بدأنا أولاً باتجاه تغيير المظاهر الشركية مثل القبور والطواف عليها والاستغاثة
بأهلها وتقديم النذور إليهم وتقديم القرابين والاستعانة بهم ومثل هذه الأشياء الخارجة
عن دين الله، والتي تعد شركاً بالله ومن نواقض الإسلام؛ فالمظاهر الشركية في
أنحاء إمارة أفغانستان الإسلامية كلها قضي عليها من دون تردد، ودون أي توقف
أو حتى أي معارضة من أحد من مجلس الشورى لعلماء أفغانستان الإسلامية المعتمد
عليه في إصدار القرارات؛ فهذه المظاهر الشركية اتفق على أنها لا تحتمل أي
تأخير أو أي تردد.
ومن خلال ترددي ومن خلال زياراتي ووجودي هناك؛ فالمظاهر التي كنت
أراها سابقاً تغيرت الآن بالكامل، ومنعت منعاً باتاً بقرار من وزارة العدل، ووزارة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالموافقة من أمير أفغانستان بقرار معلن في
الإذاعة الأفغانية. إن كل من يزور أفغانستان سيرى هذه المظاهر أزيلت، وألغيت
الاحتفالات السنوية لهذه المزارات، وكذلك ألغيت إقامة حفلات الفيروز والتي كانت
من بقايا المجوس التي كان معمولاً بها قبل مجيء طالبان، وكذلك أبطلت الإمارة ما
كان يحدث في مدينة مزار الشريف بعد فتحها؛ حيث كانت تقام فيها احتفالات عند
ما يُتوهم أو يُدَّعى أنه قبر علي رضي الله عنه، فأُلغيت هذه المظاهر من أول يوم
بقرار من مجلس العلماء، ومنعت النساء كذلك من زيارة المقابر، وعلقت لوحات
على مداخل المقابر توضح آداب الزيارة الشرعية.
وزيادة على ذلك ما سمعتم وما قرأتم من تدمير أصنام بوذا التي قامت الدنيا
لأجلها ولم تقعد، والتي من أجلها توسطت الوفود وجرت مساومة الإمارة بالمال
والمبالغ الطائلة، حتى إن اليابان عرضت على إمارة أفغانستان أن يرسلوا وفداً فنياً
ليقطِّعوا هذه الأصنام تقطيعاً ويحملوا هذه القطع ليعيدوا تركيبها في اليابان التي تدين
بعبادة بوذا، مقابل مئتي مليون دولار أمريكي، ولو قبلت إمارة أفغانستان الإسلامية
المساومة وساومتهم لبلغ العرض مئات الملايين بل ربما إلى مليار دولار، ولكن
إمارة أفغانستان لصلابة مواقفها وسلامة مبادئها، والقيام بمعتقداتها والدفاع عن
توحيدها؛ فقد قالت الشيء الذي أفتى به علماء أفغانستان، وهو رفض هذه
العروض؛ لأنه لا يجوز بيع هذه الأصنام، وكذلك عُرض على الحكومة مقابل
الإبقاء على تلك الأصنام أن تقوم الدول الشرقية البوذية بالمشاركة في إعمار
أفغانستان؛ لكن ولاة الأمر في أفغانستان ومن خلال معتقداتهم ودينهم عارضوا ذلك
بقوة وقالوا: إن اعتمادنا ومصادر رزقنا على ربنا الذي خلقنا.
ثالثاً: نكرر أنه لا تزال هناك بعض المظاهر البدعية موجودة، ولكن العلماء
ينظرون في طرق معالجتها من حيث المصالح والمفاسد؛ لأن الناس هناك لا يزال
عندهم جهل كبير، وهذه الأمور هناك من بُلوا بها وعشعشت في أدمغتهم، وتخشى
طالبان أيضاً أن يقوم هؤلاء بثورات ضدها في الوقت الذي كانت لا تزال تواجه
حرباً من الشمال يريد أصحابها أن يستغلوا أي معارضين لطالبان؛ ليسلحوهم
ويوجهوهم لحرب طالبان؛ ولهذا توصل العلماء إلى أن بعض المظاهر البدعية غير
الشركية تحتاج إلى توعية وإلى وقت، ومع ذلك منع نشاط الطرق الصوفية
المنحرفة مثل القادرية وغيرها؛ فقد منعوا من الأنشطة الظاهرة المعلنة وتلك التي
تسمى حلقات الذكر وما هي بذكر، حتى إن بعض تلك الطرق لما لم يستطيعوا
التعايش مع طالبان خرجوا من أفغانستان إلى باكستان وأعلنوا الحرب ضد حكومة
أفغانستان.
رابعاً: أعلن مسؤولو طالبان موقفهم العقدي صراحة من خلال مجلة (الطالب)
سابقاً التي تصدر باللغة العربية وتكتب فيها حلقات في العقيدة، ومستمرة من ذلك
الوقت وإلى اليوم، وكان يكتبها سابقاً مولوي بير محمد الذي كان مسؤولاً في وزارة
الإعلام الأفغانية، وجان محمد مدني المسؤول في وزارة الخارجية، وهؤلاء كلهم
أعضاء في مجلس الشورى ومتخرجون من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ولهم
ثقلهم ولهم دورهم، ولكن هناك من لهم مصالح شخصية في التشويش على الأوضاع
الدينية في أفغانستان لتشويه سمعتهم أمام الصادقين من المسلمين.
وأحب أن أبلغ كل من ينخدع بدعاوى خصوم الإمارة الإسلامية أن يفهموا
الواقع من خلال معاينة أو معايشة، وأريد أن أقول لهم إن ما يعرف في المجتمعات
العربية بالدعوة السلفية في أفغانستان، هي جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة التي
أسسها وتولاها ورباها وطورها الشيخ جميل الرحمن رحمه الله ذلك المجاهد الذي
ضحى بحياته وجهد جهاده، والعالم الذي خدم العقيدة السلفية في أفغانستان، هذا
الشيخ: نائبه المعروف في هذه الجماعة غلام الله الذي يعرفه الكثير من العلماء
خارج أفغانستان، أما داخل أفغانستان فيعرفه الجميع، هذا الرجل الذي يمثل عملياً
مرجعية في جماعة الدعوة للقرآن والسنة انضم من أول يوم لبروز طالبان وإلى
اليوم بكل قوته وبكل جهده إلى حركة طالبان، بل كانت له مدرسة في بيشاور
بباكستان كان يدرس فيها قرابة ثلاثمائة طالب، فأغلقها وأمر طلابه بأن ينضموا
لحركة طالبان ويجاهدوا معهم ويدعموهم ويساعدوهم، وإلى اليوم وأنا قد رأيت هذا
الرجل قريباً ما زال بكل حماس يدافع عن مواقف طالبان، ويقف معهم، وهذا دليل
مقنع لصالح طالبان؛ أن يقف معهم مثل هؤلاء الناس الذين وقفوا حياتهم لخدمة
الدين والعقيدة، وأخيراً فإن خلاف ذلك من التصرفات والمواقف الفردية الخاطئة إذا
وجدت فإنها لا تحسب على طالبان، وهذا موجود في الأمة في كل مكان؛ فالنفاق
موجود، والفسق موجود، والتقصير موجود في كل مكان وزمان، لكن لا يوجد
شيء من ذلك يمثل مبدأً ولا ظاهرةً عندهم، وقد أطلت في هذه الإجابة لتطمين
الأمة الإسلامية وأصحاب الإخلاص والجهد والجهاد فيها، وأبشرهم بأنهم لن يروا
ولن يسمعوا عنا إلا ما يقر أعينهم ويثلج صدورهم وأفئدتهم بكل ما يخدم العقيدة
الصحيحة على مذهب السلف الصالح.
البيان: ذكرتم أن قوة طالبان تُستمد أولاً من قوة الله عز وجل ومن الاستمساك
بدينه، ولكن هذا الدين يأمر بالإعداد والاستعداد؛ فبعد أن بدأت الحرب ضدكم كيف
تقوِّمون إمكانات أفغانستان العسكرية، وما هي نقاط القوة ونقاط الضعف في هذا
الصراع غير المتكافئ؟
* لا شك أن إمارة أفغانستان الإسلامية ستقاوم بكل قوة وبكل ما تستطيع،
ولن يكون مصير الهجوم الأمريكي بإذن الله بأفضل من مصير الغزو البريطاني
والغزو السوفييتي، ومقومات النصر الحسية والمعنوية في يد الشعب الأفغاني أقوى
منها في يد أمريكا وحلفائها؛ فالمعنويات عالية، والحرب إيمانية من طرفنا ونعدها
جهاداً ضد قوى ظالمة لنا ومعتدية علينا، والسلاح أيضاً متوفر والظروف الطبيعية
لبلادنا مناسبة لجهادنا، إضافة إلى أن الرأي العام الإسلامي على مستوى الشعوب
يقف معنا؛ فلذا نرى إمكاناتنا أقوى وأفضل من أي وقت مضى؛ فكلمة غالبية
الشعب الأفغاني موحدة تحت رأي مجلس شورى علماء أفغانستان، وهم قرروا
مجتمعين أن أي هجوم غربي أمريكي صليبي على أفغانستان وأي اعتداء فهو
يوجب إعلان الجهاد من جانب أفغانستان، وبناء على ذلك أُعلن الجهاد، والشعب
الأفغاني المسلم المجاهد لبى هذا النداء بأغلبية ساحقة وحمل السلاح ونذر نفسه لدعم
هذا الجهاد، وهناك الملايين الآن يتمنون الشهادة لنصرة الإسلام، والسلاح متوفر
بجميع أنواعه من بقايا التركة الروسية الشيوعية في أفغانستان، والشعب متعود
على ذلك الجهاد، وزعامته زعامة مجاهدة، وقبل ذلك وبعده فنحن نعتمد على الله،
ونطلب النصر منه ونثق بوعده بالنصر في حربنا هذه التي هي معركة الإسلام
ومعركة القرآن.
ولكن هناك نقطة ضعف خطيرة تعاني منها حكومة أفغانستان وتشكو منها،
وهي خذلان الدول الإسلامية لهم وهم ما كانوا يتوقعون ذلك، بل كانوا ينتظرون
موقفاً أقوى من ذلك وأشرف، وبهذه المناسبة أريد أن أنصح الدول الإسلامية ألا
يتركوا أمريكا تضرب أفغانستان وشعبها المظلوم، وإلا فإنهم سوف يقولون في
القريب العاجل: (أُكلت يوم أكل الثور الأبيض) .
أما نقاط القوة الأمريكية فمعروفة، وهي مادية فقط وتقوم على الغطرسة،
ولكنهم مع ذلك يفتقدون إلى المعنويات وإلى الروح وإلى الهدف، يود أحدهم لو
يعمر ألف سنة؛ فالمهم عندهم هو الحياة، ومن يريد الحياة فلن يستطيع الإقدام على
الموت.
البيان: في ضوء ما يظهر من إصرار الأمريكيين على إطالة أمد الحرب،
كيف تتغلبون على صعوبة جلب السلاح وشرائه وصيانته لمواجهة هذا التحدي
المفتوح؟
* سبق أن أشرت إلى توفر جميع الأسلحة لدى حكومة أفغانستان من خفيفة
إلى ثقيلة ومن أرضية إلى جوية؛ فهي متوافرة في المخازن وتكفي لسنوات لا إلى
أشهر، وصيانتها لها ترتيبات داخلية، وأما توفيرها لو كانت هناك حاجة لذلك؛
فهناك أيضاً مصانع لتصنيع الذخائر في الداخل ورتب ذلك خلال السنوات الماضية،
وهناك قنوات أخرى متوفرة وموجودة، سواء من دول الجوار أو في داخل
أفغانستان؛ فكل ما ينفق على ما يسمى بمعارضة الشمال، كثيراً ما يؤول إلى إمارة
أفغانستان على شكل غنائم، بل كثيراً ما نشتري منهم الأسلحة، فهم يبيعونها لنا؛
فالمجاهدون عندنا يقاتلوهم بسلاحهم وبعتادهم الذي يزوِّدهم به أعداء أفغانستان
وأعداء الإسلام، ويتحقق بذلك قول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ] (الأنفال: 36)
ومن ضمن الحسرة أننا نحاربهم اليوم بسلاحهم ومعداتهم.
البيان: ذكرتم أن السلاح لديكم يكفي لسنوات لا لشهور، فكيف حصلت
حكومة طالبان على هذه الكميات الضخمة من الأسلحة؟
* كما تعرفون فإن إمارة أفغانستان الإسلامية سيطرت على أكثر من 90%
من أرض أفغانستان، وأفغانستان في وقت سقوط الحكومة الشيوعية كانت مخزناً
من مخازن السلاح؛ فالقوات الروسية عندما انسحبت تركت من ورائها دعماً
للحكومة الأفغانية الشيوعية في شكل مخازن ما كنا نتصورها، ومهما تخيلنا لا
نستطيع أن نتصور مثل هذه المخازن لدعم استمرار الحكومة الشيوعية للرئيس
السابق نجيب الله؛ لأنهم كانوا يعلمون أنهم عندما ينسحبون سيكون من الصعب
تقديم مثل هذا الدعم، ففتحوا مخازنهم لدعم ذلك النظام، حتى بعض مخازن تلك
الأسلحة اكتشفت بعد بروز حركة طالبان، أي أنها لم تكتشف حتى في زمن حكومة
رباني فاستمرت غير معروفة لمدة خمس سنوات بعد سقوط الحكومة الشيوعية،
وبعدما جاءت حكومة الطالبان عثرت على تلك المخازن، ودلهم كثير من الموظفين
السابقين عليها، وإلى اليوم يبدو أن هناك مخازن لم تكتشف، ومن جانب آخر،
فالمنظمات الجهادية السابقة كانت تُدعم من دول الجوار من الدول الإسلامية حتى
من أمريكا عندما كانت مصالحها مع مقاومة الغزو الروسي، فكانت كل منظمة
تخزن أسلحة فوق التصور، حتى إن مخزناً من مخازن إحدى المنظمات عندما
سقط في أيدي طالبان حملت عنها أكثر من سبعمائة لوري من الأسلحة ومن الذخيرة؛
فهذا مخزن واحد لمنظمة واحدة؛ فقس على ذلك.
البيان: كيف تقوِّمون موقف باكستان من الحرب ضدكم على المستوى
الرسمي وعلى المستوى الشعبي؟
* في الحقيقة إن تغيير باكستان موقفها في التعامل مع الجارة أفغانستان
مستغرب، وخاصة بعد دعمها وتعاونها مع أفغانستان في السابق منذ بداية الجهاد؛
حيث كانت منطلقاً للحركة الجهادية وكانت مأوى للمهاجرين، وقدمت الكثير للقضية
الأفغانية، وضحت معها، وقامت معها قومة مشكورة، لكن اليوم نحن في الحقيقة
لا ندرك ماذا أصابهم على المستوى الرسمي، وماذا يتوقعون عندما يقولون إن
مصالحنا العليا هي في الوقوف ضد دولة جارة مسلمة مشاركة معهم في أفراحهم
وأتراحهم؟ لا شك أنه سيكون لهذا الموقف سلبيات مستقبلية عظيمة وتأثير سلبي
على باكستان؛ فعند الحديث عن مصالح لباكستان في الحقيقة نجد أنه لا توجد أي
مصالح لباكستان من التحالف مع أمريكا، إلا أن تكون مصالح مادية عاجلة، ولكن
هذه أيضاً لا وزن لها قياساً بتأثيرها المستقبلي على علاقات الشعوب ومجريات
التاريخ.
ونقول أيضاً إنه حتى هذه المصالح المادية، لو دُعمت باكستان بها من الغرب؛
فالخسائر التي تتحملها من جراء تحالفها معهم حتى من الناحية المادية تزيد على
الدعم الغربي، وما أعلن للآن من خسائر باكستان يزيد على مليارين ونصف دولار،
وأنا أتوقع أن تتضاعف؛ ولهذا لا نتفهم هذا الموقف الرسمي الذي يجلب على
دولتهم خسائر أكبر من المكاسب، ولا نستطيع تفسير ذلك إلا أن يكون انهزامية
داخلية أو نفسية لمن قرروا هذا القرار.
أما الموقف الشعبي الباكستاني، فكما تسمعون وترون فهو يجسد تعاوناً ودعماً
كاملاً على المستوى السياسي والاقتصادي والدعوي؛ فعلماء باكستان أفتوا بالدعم
الكامل لأفغانستان وفرضية الجهاد إلى جانبها ضد الغزاة؛ ولهذا عمت المظاهرات
كافة المدن الباكستانية التي قد تهدد بعصيان مدني عام، وحتى الكثير من غير
الإسلاميين يتحول موقفهم إلى موقف التعاطف مع أفغانستان ويدافعون عن موقفها،
وحتى على مستوى الجنرالات الكبار؛ حيث وجهوا ولا زالوا يوجهون انتقادات
واسعة لقرار حكومتهم بالوقوف مع أمريكا ضد أفغانستان، وهذا الموقف الشعبي
عظيم ومشرف ونتمنى من الشعوب الإسلامية كلها أن يكون لها مثل هذا الموقف
المشرف المنطلق من معاينة حقيقة الأمر ومعرفته عن قرب.
البيان: نريد منكم أن توضحوا لنا في لمحات سريعة مواقف جمهوريات
الاتحاد السوفييتي السابق المحيطة بأفغانستان مما يدور الآن، وهل يوجد فيها
حركات إسلامية متعاطفة معكم؟
* تجاورنا من الشمال ثلاث جمهوريات: جمهورية أوزبكستان، وجمهورية
طاجيكستان، وجمهورية تركمانستان. تركمانستان كانت محايدة، ولا تزال للآن
محايدة، ولها تعامل تجاري واقتصادي مع حكومة الإمارة الإسلامية في أفغانستان،
وهي لم تدخل للآن ضمن التحالف الأمريكي، وهناك جهود تبذل لضمها إلى ذلك
التحالف ولكن لم ينضموا، وهذا موقف جيد ويتماشى مع مصلحتهم هم.
أما جمهورية أوزبكستان فهي من أول يوم أعلنت العداء لإمارة أفغانستان،
وبرغم أنها دولة مجاورة لكن ضررها كبير على دولة أفغانستان؛ فقد أغلقت الحدود
منذ وقت مبكر، وحاولت إمارة أفغانستان أن تقيم معها علاقة طبيعية تنطلق من
مصالح الجوار، ولكنهم أصروا على موقفهم العدائي، بل ذهبوا يدعمون المعارضة
ضد إمارة أفغانستان، وخاصة عبد الرشيد دوستم، وهم لا يزالون يلتزمون الوقوف
مع الشيوعية، والآن هم العنصر الفعال إلى جوار دول التحالف الأمريكي،
فأعطوهم الأراضي وأبرموا معهم الاتفاقيات وأعطوهم مطار ترمذ الواقع على
مقربة من الحدود الأفغانية، وقد نزلت فيه القوات البرية الأمريكية، فموقفهم مخزٍ
ومخجل، ونتوقع أن تكون سلبياته عليهم رغم ما يتوقعونه منهم. ولكن مع ذلك
نبشركم أن هناك جماعة إسلامية قوية من داخل أوزبكستان، وقد أعلنوا مقاومة
الموقف الحكومي المعادي للشعب الأفغاني المسلم، وأعلنوا أنهم سيوجهون جهادهم
ضد القوات الغربية المتمركزة في أوزبكستان، وسترون إن شاء الله كيف سيكون
تأثيرها لصالح المسلمين، وسيكون هذا من نتائج جني ثمار اتفاقيات أمريكا مع
حلفائها.
أما الجمهورية الثالثة فهي جمهورية طاجيكستان، وهي لا تقل في عدائها عن
جمهورية أوزبكستان، بل إنها تقوم بدور أخطر في دعم ما يسمى بالمعارضة
الشمالية؛ فهذه المعارضة تعمل من داخل طاجيكستان، ومنطلقهم منها، وهي
تزودهم بكل الدعم السياسي والعسكري، ومع الأسف فإن طاجيكستان التي أعلنت
دولة مستقلة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، هي ليست مستقلة إلا بالاسم؛ فنظامهم
لا يزال شيوعياً، وجيشهم وعملتهم لا تزال روسية، وهناك ما يقدر بنحو ثلاثين
إلى خمسين ألف جندي روسي مرابطين على الحدود الأفغانية الطاجيكية لحراسة
الحدود؛ فهي تعتبر حكومة روسية، والمخابرات الروسية لا تزال نشطة في تلك
الجمهورية، وقد أبدوا استعدادهم للتعاون الكامل مع التحالف الأمريكي، ولكن للآن
لم يتم هذا التعاون بسبب حساسيات روسية، ونعتقد أن أي موقف عدائي من
جمهورية طاجيكستان ضدنا سيضرُّ بهم؛ لأن هناك مجاهدين في داخل طاجيكستان
غير راضين عن الأوضاع، وهم مسلحون ومنتشرون في داخل طاجيكستان، وقد
ينحازون إلى الموقف الذي تتبناه إمارة أفغانستان؛ لأن الشعب الطاجيكي لا يستفيد
شيئاً لا من الروس ولا من الأمريكان.
البيان: على ذكر دعمهم للمعارضة الشمالية، هل يتمركز حزب رباني
عندهم؟
* نعم! فقد وقع اتفاقاً مشتركاً منذ وقت قريب للتعاون العسكري بين
المعارضة الشمالية وروسيا وطاجيكستان، وشوهد رباني في وسائل الإعلام وهو
يوقع هذا الاتفاق مع كل من الرئيس الروسي بوتين والطاجيكي علي رحمانوف،
وتقرر دعم المعارضة بالأسلحة الجديدة والثقيلة، وخصصوا لذلك ميزانية قدرت
بمليار دولار؛ وهذا أمر خطير أن يصدر ذلك من رباني الذي كان يتكلم في يوم من
الأيام باسم الجهاد والدفاع عن الإسلام ووحدة أفغانستان. . فأين الوحدة؟ وأين
الإسلام؟ وأين الجهاد؟ بوتين رئيس الاستخبارات الشيوعي السابق، وروسيا التي
هي دمرت أفغانستان والتي جلبت على أفغانستان كل هذه المهالك، وقتلت وشردت
وعذبت وهو يدرك ذلك ولكن اليوم ولأجل مصالح فردية يلعب بمصير الأمة كل
هذه الألاعيب، ويحسن الظن ببوتين! فهل يساعده بوتين لسواد عينه؟ أم لمصالح
تعود على الروس الذين تتطابق مصالحهم مع كل ما يضر بالإسلام والمسلمين؟ !
فماذا كان يضره لو أعلن كغيره من قادة الأحزاب وقوفه مع مصالح شعبه ضد
الغزو الجديد، وبخاصة أنه في هذه السن وهذه المرحلة المقبلة على الموت؟ لقد
وُجه له النداء وأُرسل له وفد لطي مرحلة الماضي وبدء مرحلة جديدة من التنسيق
لمواجهة الغزو الجديد، ولكنه رفض ذلك وحمله على محمل الضعف من إمارة
أفغانستان، وهذا غير صحيح لأن حكومة أفغانستان أرسلت له قبل هذه الظروف
الوفود للمصالحة، وكاد أن يوافق ولكنه بعد الأحداث عاد وقال إن كل شيء قد تغير،
ورجع ينادي الأمريكان ويطالبهم بالتنسيق في المواقف ضد إخوانه في الدين،
وهذا خزي يضر بالإسلام والمسلمين؛ فأنا في الحقيقة أنصحه بأن يعيد النظر في
موقفه ويتذكر ما وراءه من حساب الله في الآخرة.
البيان: إيران تقوم بدور مشبوه في الأزمة فهي تتظاهر بمعارضة أمريكا من
جهة، وفي الوقت نفسه لا تخفي شماتتها بحكومة أفغانستان؛ فماذا وراء ذلك
الموقف في رأيكم؟
* والله يا أخي نحن لا نفهم موقف إيران، يعني ماذا يريدون وماذا يفعلون؟
فهم يدّعون أن جزءاً من معتقدهم التقية، وما يزالون إلى اليوم ينطلقون من هذا
المنطلق؛ فظاهرهم أمر وباطنهم أمر، يظهرون شيئاً ويبطون شيئاً، ويفعلون شيئاً
في العلن ويفعلون في السر شيئاً آخر، وقد أظهروا إعلامياً أنهم ينتقدون الموقف
الأمريكي ويرفضون ضرب أفغانستان؛ لكنهم مع ذلك وإلى اليوم لهم اتصالات
لتقديم التسهيلات للقوات الأمريكية لضرب أفغانستان، وفي هذا تناقض شديد بين
ظاهرهم وباطنهم، ومما يدل على رضا أمريكا عنهم الآن على الأقل أنها قررت
رفع الحصار الاقتصادي عنهم في مقابل الانضمام إلى التحالف.
وهم يذرفون كما يقال دموع التماسيح على الشعب الأفغاني، ولكنهم بالنسبة
لحكومة أفغانستان الإسلامية، فموقفهم المعلن هو العداء؛ فأين دعاواهم الثورية
الإسلامية؟ وأين ادعاؤهم للوقوف مع المستضعفين ضد قوى الاستكبار العالمي؟
ولماذا يعادون دولة إسلامية مستضعفة لم تُلحق بهم أي أذى ولم تضر بمصالحهم؟
لكنهم مع حكومتنا بعكس ذلك، حتى إن وزير الدفاع الروسي عندما زارهم أعلنوا
تقديم الدعم المسلح للمعارضة الخارجة على حكومة أفغانستان، وهذا متناقض حتى
مع الأعراف الدولية التي لا تسمح لدولة بأن تقدم دعماً لمعارضين من دول أخرى؛
فماذا لو قدمت إمارة أفغانستان دعماً لمثل منظمة (مجاهدي خلق) ، أليس من حقنا
الآن أن ندعمهم ضد إيران، وهم حزب أقوى من أحزاب المعارضة الشمالية ضد
حكومة أفغانستان؟
ولعلِّي أذيع سراً لأول مرة وهو أن منظمة مجاهدي خلق اتصلوا أكثر من مرة
بحكومة إمارة أفغانستان لاستخدام أراضيها ضد إيران، ولكنهم رفضوا ذلك بشدة،
وكان ينبغي لإيران أن تقدر هذا الموقف، وتكف عن دعم المعارضين لإمارة
أفغانستان وبخاصة حزب إسماعيل خان الشيعي، إن منظمة مجاهدي خلق لو سمح
لها فقط أن تنطلق من أراضي أفغانستان من جهة الشرق، لفعلت بإيران الأفاعيل
ولأشغلتهم وحمَّلتهم الكثير من الخسائر، ولكن إمارة أفغانستان الإسلامية من خلال
منطلقها العقدي والديني لا تنظر لهذه المنظمة نظرة احترام؛ لأنها منظمة غير
إسلامية، فلم تلبِّ لها طلبها، ورغم علم إيران بهذا الموقف الكريم من أفغانستان
فإنها لا تزال تقول علناً إنها ستظل تؤوي المعارضة وتزودهم بالسلاح وتقف معهم
سياسياً، وهي لا تزال تعترف بحكومة رباني المخلوعة التي تعيش على غير
أرض أفغانستان أو في الهواء.
ونقول أيضاً: إن هذه المواقف ليست في صالح إيران مستقبلاً؛ ففي داخل
إيران مسلمون سُنة يمثلون 40% من السكان، وهؤلاء قد يمثلون آثاراً سلبية على
إيران من الداخل في وقت قريب.
البيان: نأتي للحديث عن روسيا؛ فروسيا من المعروف أنها لا يمكن أن
تسمح بوجود أمريكي قريب منها، ومع ذلك فهي تبالغ في إظهار التوحد في الموقف
مع أمريكا في الوقوف ضد الحكومة الأفغانية؛ فما هو برأيكم تفسير هذا الموقف
الروسي؟
* هذا أيضاً موقف غريب من روسيا؛ فكيف أصبحوا لا يفكرون حتى في
مصالحهم؟ وأنا في رأيي أن مواقف روسيا متناقضة، وأيضاً ستكون مضار هذه
المواقف عليها قبل غيرها؛ فأمريكا عندما تأتي بهدف القضاء على إمارة أفغانستان
الإسلامية فإن لها أهدافاً أعظم وأكبر من ذلك؛ فهي تريد إقامة حكومة عميلة
وموالية لها، بحيث تسمح لها أن تطوق إيران من الشرق، فتخسر بذلك إيران،
وتسمح لها أن تراقب البرنامج النووي الباكستاني من الشمال، وتسمح لها كذلك بأن
تقيم قواعد متقدمة أمام الصين وعلى حدودها، وأيضاً تريد أمريكا أن تقيم قواعد في
جنوب روسيا والجمهوريات الإسلامية لترتيب نقل الغاز، ولتؤمن نقل البترول من
منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى ذات المخزون الاستراتيجي العالمي الذي تخطط
أمريكا منذ زمن لأن تكون أفغانستان هي الممر الآمن لهذه التجارة الدولية، وهذا إذا
حصل فسوف يكون من الخسائر المباشرة على روسيا، وسيهدد الهيمنة الروسية
على تلك المنطقة، بل ستكون هي الخاسر الأول والأكبر إذا حققت أمريكا هذا
الهدف؛ فبعد أن كانت تمثل نداً لأمريكا أثناء الحرب الباردة، فإنها ستصبح ذَنَباً
تابعاً لأمريكا.
إن البعض عندما نظروا إلى غرابة الموقف الروسي اتهموا بوتين بأنه عميل
لأمريكا يريد إسقاط روسيا تحت أقدام أمريكا، وقد جربت روسيا نتائج الوقوف مع
أمريكا في حرب الخليج، وكيف أنها خرجت بخفي حنين.
البيان: أطراف التحالف الشمالي معروفون بشدة العدوان والتنافس فيما بينهم؛
فكيف ترون مستقبل هذا التحالف في ظل هذه العلاقات المعقدة؟
* سؤال جيد في الحقيقة: هذا التحالف الشمالي قد ضحى أصحابه بأنفسهم
وأضروا بها، وأضروا الأمة كلها بمواقفهم الأخيرة؛ فهم مختلفون فيما بينهم؛ فكل
منهم يسعى أن يسابق الآخر، وبينهم خلافات وعداوات وثارات قديماً وحديثاً؛
فعندما كان رباني في كابول أعلن الجهاد ضد عبد الرشيد دوستم، وهو الآن
متحالف معه، وكان قبل ذلك قد فضحه فضائح كثيرة ونشر الأفلام التي تكشف
فجوره وسكره وعربدته، ثم رضي عنه في فترة أخرى وعينه وزيراً للدفاع في
حكومته ثم نائباً له؛ فالكل مختلفون متعادون، ولا يتفقون إلا على نقطة واحدة،
وهي محاربة النظام الإسلامي في إمارة أفغانستان، واتفاقهم ضد طالبان ليس لهدف
سامٍ أو مبدأ، ولكن لأجل الانتقام والتشفي، وقد بدأ دوستم بعد عودته بالهجوم،
ولكن والحمد لله هُزم شر هزيمة، وجاء رباني يسعى بعده بالتنسيق مع الرئيس
الروسي والطاجيكي ومع إيران؛ وكل ذلك من أجل التسابق على الحصول على
نصيب أكبر في المستقبل، ولكن الله خذلهم جميعاً، وسوف يكتَشف أمرهم
وسيُفتضَحون وسيخسرون.
ولكن بالمقابل أقول لأمريكا، ولمن يتحالف معها، ومن ينتظر إسقاط حكومة
إمارة أفغانستان: إنهم لو تم لهم إسقاطها فسوف يرون أمراً أفظع وأعظم؛ فستكون
فوضى أكبر مما كان في السابق من جراء الاختلافات الداخلية بين المنظمات وبين
القيادات العسكرية وبين القبائل وبين القوميات وبين الأعراق، ولا يمكن أن
يسيطروا على الوضع، ولا يمكن أن يجدوا بديلاً آخر لطالبان يسيطر على الوضع؛
فعليهم أن يتعاملوا مع طالبان، وأن يعيدوا حساباتهم، وأن يفكروا بجدية في
طرح جاد؛ فلا يوجد في الحقيقة أي بديل؛ فظاهر شاه العميل الهالك الذي ينادي
الآن بالقوات المشتركة للسيطرة على كابل ليأتي هو تحت مظلة الأمم المتحدة التي
أجابتهم بأنها لا تستطيع أن ترسل قوات إلى أفغانستان.
ولا يجوز لأمريكا أن تتصور أن أفغانستان مثل البلقان أو البوسنة أو كوسوفا؛
بحيث تأتي قواتها لتعيش فيها وتأمر وتنهى وتفتش وتعمل ما تشاء، لا يمكن أن
تكون أفغانستان مثل ذلك؛ فكل من يأتي للشعب الأفغاني ويريد أن يفرض عليهم
شيئاً لا يريدونه، فإنهم يلقون به إلى الهلاك، ولا بد لمن يريد فعل ذلك الآن أن
يلقى مثل مصير السابقين.
البيان: نعود مرة أخرى لباكستان فيما يتعلق بعلمائها: هل هناك علاقة بينهم
وبين علماء أفغانستان؟ وهل موقف علماء باكستان موحد حيال ما يجري في
أفغانستان؟ وهل يمكن أن يمثل هذا الموقف ثقلاً عملياً يمكن أن يؤثر على توجيه
الأحداث والمواقف في باكستان؟
* باكستان أو ما يسمى القارة الهندية، كان للعلماء دورهم وجهادهم فيها ضد
الإنجليز، فهم أدوا دوراً مهماً في إخراجهم، ولا يزال لهم دورهم في هذه القارة،
ولهم استقلاليتهم، ولهم منظماتهم، ولهم مدارسهم الخاصة التي تدرس دون أي
وصاية حكومية؛ فهم أحرار وإلى اليوم، ويدافعون عن هويتهم في مدارسهم وفي
مناهجهم، وهم الذين هيؤوا المجموعات الجهادية الكشميرية، والجهاد السابق ضد
الشيوعية في أفغانستان هم الذين أفتوا بفرضيته ضد روسيا، واليوم بين إمارة
أفغانستان وبين علماء باكستان علاقات قوية ومتينة، وكثير من علماء باكستان هم
أساتذة لقيادات إمارة أفغانستان، وقد درسوا في مدارسهم؛ فالترابط بينهم ديني
وعقدي وليس ترابطاً مادياً، أو عرقياً أو قبلياً.
وبناء على ذلك فإن أول خطوة خطتها هي تشكيل مجلس شورى لعلماء
أفغانستان، ولأول مرة يعطى للعلماء في عصرنا مثل هذا الدور ومثل هذه الأهمية،
وأن يقرروا هم المصير السياسي لدولتهم في أدق الأمور، بعد أن صار إبعادهم عن
الأمور السياسية أمراً تقليدياً في العصور الأخيرة. وقرارات العلماء في ذلك ليست
استشارية بل إنها قرارات ملزمة، وهذا المجلس الذي شكل في أفغانستان للعلماء،
أنا أعتبره أقوى وأعظم من مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يُختار أعضاؤه في
انتخابات مزورة تعتمد على رؤوس الأموال والرشاوى في الحملات الانتخابية، أما
مجلس علماء أفغانستان فليس هناك أي تزوير أو أي رشوة أو محسوبية، بل
يُختارون من خلاصة العلماء البارزين والمعروفين من جميع العرقيات، ومن جميع
الولايات، وهذا جاء امتداداً للترابط مع علماء باكستان.
ولا ننسى لعلماء باكستان أنهم أصدروا قريباً فتوى بوجوب مناصرة الشعب
الباكستاني لإمارة أفغانستان، وأفتوا بوجوب انضمامهم إليهم في الجهاد، وأفتوا
بتحريم التعاون مع أمريكا في حربها ضد أفغانستان، ومعروف أن لعلماء باكستان
تأثيراً على رجل الشارع ولهم تأثيرهم على الدولة، وقد رأيتم تفاعل الشارع،
الباكستاني مع دعوات العلماء بوجوب النصرة لشعب أفغانستان، وظهر أثر ذلك في
حرص الحكومة الباكستانية على إخفاء تفاصيل تعاونها مع التحالف الأمريكي؛
فمواقف العلماء سواء في أفغانستان أو في باكستان هي ساعد قوي وكبير لنا سيكون
له تأثير كبير في مجريات الأحداث بإذن الله.
البيان: ما هي خياراتكم المستقبلية في ضوء إصرار أمريكا وتحالفها على
إسقاط حكومتكم؟
* بالنسبة للخيارات نحن نعتبر هذه المعركة معركة الإيمان، ونعتبرها جهاداً
في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله ماض سواء عاش الإنسان به أو ذهبت فيه
روحه وماله وجاهه وحتى حكومته، والجهاد لن يكون محدود الزمن؛ لأنه مبدأ من
المبادئ، والمبادئ الإيمانية لا مساومة عليها ولا تبديل ولا تغيير؛ فمن نظرتنا
المبدئية للجهاد ولقضيتنا فنحن مستمرون في الدفاع عن ديننا وعن أرضنا
وأعراضنا بكل ما نستطيع، والأمور ولله الحمد مهيأة لذلك، وحتى لو تطورت
الأمور بإصرارهم وضُربت المدن، واضطروا الحكومة للخروج منها، فالترتيبات
المستقبلية موجودة، والشعب كما ذكرت لكم كله مجاهد، وكله يحمل السلاح؛ فقد
وزعنا عليهم السلاح في بيوتهم وفي قراهم وفي مدنهم، وكل الشعب سيشارك في
حرب العصابات لو اضطررنا للخروج من المدن، وأنتم تعرفون آثار حرب
العصابات؛ فهي لا يمكن القضاء عليها، فستكون خسارة ودماراً لأمريكا وستلحق
بها وبسمعتها ومعنوياتها ومصالحها مشاكل أكثر وأكثر مما تتصور، وأيضاً سيلحق
بحلفائها إن لم يعيدوا حساباتهم؛ فالشعب الأفغاني ليس شعباً مترفاً، والقيادة التي
على رأس الحكم هي قيادة مجاهدة، وحياتها دائماً هي حياة الجبهة، ولو صعدوا في
الجبال وتخندقوا فيها فسيكونون مجاهدين، وهذا ليس جديداً عليهم، ومهما هددت
أمريكا وساومت فإمارة أفغانستان بقيادتها وشعبها ترى أنها بين خيارين اثنين فقط،
وليس خيارات عديدة كما ذكرتم وهما: إما النصر، وإما الشهادة. والشهادة هي
أكبر أمنية لنا، وإذا ذهب الإنسان إلى أمنيته يكون ذاهباً إليها بفرح وسرور وبلا
أي تردد، أما أعداؤنا فلن تفيدهم القوات الخاصة ولا قوات التحالف ولا ظاهر شاه
ولا غيره، وربما يقوم الشعب الأمريكي على حكومته ويسقطها عندما يظهر إخفاقها؛
فنحن متفائلون بالمستقبل، ولكن نطلب من المسلمين أن يؤدوا دورهم؛ فالقضية
قضيتنا جميعاً، وفي الحقيقة نحن ننظر لطائفتنا وفئتنا أنها جزء من الطائفة
المنصورة التي تقاتل على الحق حتى تقوم الساعة رضيت أمريكا وغيرها أم لم
يرضوا؛ وذلك حكم الله وقدره، وقوانين النصر توحي بهزيمة أمريكا بفئتها الباطلة
الكثيرة على يد فئتنا القليلة الصابرة على الحق، وإن شئتم فاقرؤوا قول الحق تبارك
وتعالى: [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة:
249) ، وقوله تعالى: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ] (القصص: 5-6) . فما علينا إلا الصبر
والمصابرة كما أمرنا الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 200) .
وأختم أخيراً بكلمة واحدة لعلكم تنقلونها عني وهي أن قيمة حكومة أفغانستان
الإسلامية اليوم ومهما حدث في أنها تدفع الثمن وتؤدي الضريبة لذنبها الوحيد الذي
أغضب أمريكا والغرب؛ وهو أنها البلد الوحيد الذي قال لا، في زمن الانبطاح.
البيان: نشكركم أخي على هذا الحوار المثمر، ونسأل الله أن يمدكم بعونه
وتأييده، وأن ينصر الشعب الأفغاني، ويعز الإسلام والمسلمين.
__________
(1) أخرجه الترمذي، رقم 2338.(169/75)
المسلمون والعالم
انتحار أمريكا
تأملات في (نهاية التاريخ) الأمريكي
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
سأستأذن القارئ الكريم للمرة الأولى وأرجو أن لا يتكرر ذلك في أن أعود إلى
مقالٍ سبق أن كتبته في مجلة البيان قبل أكثر من ثلاث سنوات، في العدد (130) ،
وكنت قد تحدثت فيه عن بعض توقعات المراحل المقبلة في ضوء أحداث تلك
الفترة، تحت عنوان: (حرب القرن القادم) وأنقل منه الآن هذه الفقرة لأستنتج
منها نتائج مهمة تفيد في موضوعنا هنا.
جاء في ذلك المقال بالحرف الواحد وذلك بعد الضربات الجوية السابقة ضد
أفغانستان والسودان عام 1419هـ/ 1998م:
(كم كانت عجيبة غريبة ومريبة تلك التصريحات التي أطلقها الرئيس
الأمريكي ووزيرة خارجيته بُعيد توجيه تلك الضربات. قال كلينتون: «لقد بدأنا
حربنا ضد الإرهاب.. وعلينا الاستعداد لحرب طويلة» ! في حين زادت في
الصراحة والوقاحة وزيرة خارجيته اليهودية (مادلين أولبرايت) فقالت: «على
الأمريكيين أن يعدوا أنفسهم للحرب ضد الإرهاب.. إنها حرب القرن القادم» !
بينما تحدث وزير الدفاع عن حرب تشبه الحرب العالمية الأولى والثانية.
والظاهر أن الصراع الذي بشر به (هنتنجتون) في كتابه (صراع
الحضارات) والسيناريو الذي وضع خطوطه (واينبرجر) في كتابه: (الحرب
القادمة) والظروف المواتية التي تحدث عنها نيكسون في كتابيه (عام 1999 نصر
بلا حرب) و (اغتنموا الفرصة) والنهاية المزعومة التي نظَّر لها (فوكوياما) في
كتابه: (نهاية التاريخ) يبدو أن تلك الاحتفالية الألفية قد قص شريط افتتاحها
الرئيس المراهق (كلينتون) ! فما هي ملامح تلك الحرب المرتقبة، أو التي أعلنت
بالفعل؟
يمكننا من خلال أولى جولاتها في السودان وأفغانستان أن نلمح أبرز معالم تلك
الحرب فيما يلي:
* أنها ستكون صليبية عالمية، بأسلحة غربية وتوجيهات يهودية.
* أن العدو الوحيد فيها هم: الإسلاميون باعتبارهم عدو الغرب الباقي الذي لم
يركع.
* أن تلك الحرب لن تقيم وزناً لما يسمى بـ (الشرعية الدولية) إلا إذا
خدمت أهداف تلك الحرب المعدة سلفاً.
* أنها ستكون حرباً ذرائعية، تتصيد الفرص وتصطنعها إن لم تجدها.
* أن تأييد العالم أو تنديده سيستويان، ولن يقيم الأمريكان وزناً لمعارض أياً
كان.
* أنها ستدوس على سيادة الدول وحريتها في أراضيها، إذا ما تعارضت مع
خطوات هذه الحرب.
* أنها ستعتمد أسلوب الغدر والمباغتة حتى لا تترك أحداً في مأمن..
أما عن هدف تلك الحرب والاستمرار فيها، فالواضح أنها ترمي إلى إبقاء
المسلمين في ذيل الأمم، ومؤخرة الركب، وتجريدهم من أي قدرة على المبادرة أو
المبادأة. سواء كانت على مستوى مجموع دولهم أو بعضها أو حتى على مستوى
التجمعات التي تتطلع إلى الخروج من الأزمة المصيرية التي تعيشها أمتنا
الإسلامية..
إن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين لا يخفون إصرارهم العنيد
على فرض الحصار الحضاري على أمة الإسلام بمنعها من كل أسباب التقدم،
وشغلها بمشكلاتها الداخلية والخارجية لتنعم دولة اليهود بعد ذلك بالاستقرار والقوة
والعلو.
نعم! يجب ألا نتجاهل الرمز الذي تشير إليه كلمات (مادلين) و (كوهين)
اليهوديين في الإلحاح على إعطاء الحرب بُعداً كونياً وزمنياً أبعد مما يتصور..
فنحن نعتقد جازمين أن وقود تلك الحرب المعلنة يُستمد من حقد اليهود.. وليست
أحقادهم القديمة وتصريحاتهم العدائية بأفصح ولا أصرح من تصريحاتهم التحريضية
الجديدة؛ ففي عام 1993م قال (حاييم هيرتزوج) الرئيس الإسرائيلي السابق أثناء
زيارة قام بها لبريطانيا: «إن الأصولية الإسلامية هي الخطر الأكبر على العالم
الحر» ، وأعاد التحريض بأسلوب آخر زعيم آخر هو الهالك (رابين) فقد قال في
مؤتمر لاتحاد المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة (إيباك) في إبريل/ نيسان
1993م: «إننا نريد التأكد من أن الرئيس كلينتون وفريقه يدركان تماماً خطر
(الأصولية الإسلامية) والدور الإسرائيلي الحاسم في محاربتها» ، واستطرد قائلاً:
«إن مقاومتنا ضد الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها أيضاً إيقاظ العالم الذي
يرقد في سبات عميق على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد السلام العالمي،
والآن نقف نحن الإسرائيليين في خط النار الأول ضد الإسلام الأصولي، ونحن
نطالب كل الدول وكل الشعوب أن يكرسوا انتباههم إلى الخطر الضخم الكامن في
الأصولية الإسلامية» . ولما جاءت الأغلبية اليهودية إلى الكونجرس الأمريكي
بدأت تترجم هذه الصيحات التحذيرية إلى سياسات عملية، حتى إن رئيس مجلس
النواب الأمريكي (جينجريتش) ترأس جلسة للمجلس عرض فيها برنامجاً شاملاً
للسياسة المقترحة لمواجهة الأصولية الإسلامية في العالم، وضمت الجلسة التي
عقدت في واشنطن ما يزيد على 400 من كبار الخبراء في الشؤون الأمنية
والعسكرية، وقدم خطة من أربعة بنود تهدف إلى كسر شوكة الإسلاميين في العالم،
وقال (جينجرتش) في هذا المؤتمر بالحرف الواحد: «الأصولية تعني إعلان
الحرب علينا وعلى الحضارة الغربية؛ فيجب التعامل معها من واقع الحرب المعلنة) .
انتهى النقل.
جديد وليس بجديد:
أما ما ينبني على ذلك النقل من الرصد القديم للحدث الجديد فهو على ما يلي:
1 - أن أمريكا أعلنت تلك الحرب بالفعل قبل أن تبدأ أحداث سبتمبر/ أيلول
الماضي في نيويورك وواشنطن، بل قبل أحداث كينيا وتنزانيا، وأنها اعتبرت
نفسها صراحة في حالة حرب مع الإسلاميين الذين أسمتهم إرهابيين.
2 - أن اليهود في أمريكا وغيرها قد احتلوا موقعهم في (خط النار الأول)
ضد المسلمين في تلك الحرب قبل أن تبدأ، وأنهم كانوا الأسبق إلى رسم معالمها
ووضع برامجها والتحريض عليها انتظاراً لوجود أو إيجاد الذريعة إلى إشعالها تحت
مواصفات دولية ودينية شاملة.
3 - أن وصف هذه الحرب بأنها (عالمية) وأنها (صليبية) وأنها (طويلة
الأمد) وأنها أشبه في شمولها بالحربين العالميتين الأولى والثانية؛ كل ذلك قد تم
التصميم عليه سلفاً قبل أن تحدث الأحداث التي من أجلها اعتبرت أمريكا أن من
حقها خوض تلك الحرب، وقبل أن تتوافر الدواعي لجعلها عالمية أو صليبية أو
طويلة الأمد.
4 - أن النية كانت فيما يبدو مبيتة لإشعال أوار تلك الحرب في مبتدأ القرن
الجديد استغلالاً للمشاعر الدينية الألفية لدى اليهود والنصارى؛ ولذلك أسمتها
أولبرايت: (حرب القرن القادم) ؛ وحتى يمكن بسببها إثارة شعوب الغرب ضد
العرب والمسلمين وإقناعهم بأن ما سيحدث في تلك الحرب إنما هو إرادة الإله الذي
قدر سلفاً أن يَهلك ثلثا العالم في حرب مدمرة بين (قوى الخير) و (قوى الشر) [1]
عند حلول الألف السعيد الأخير [2] !
لقد كنت مقتنعاً ولا أزال أن تفجيرات أمريكا الأخيرة، حتى وإن ثبت أن
لبعض العرب والمسلمين ضلعاً في تنفيذها، فإن هناك في داخل الولايات المتحدة
من رفعوا لها حواجز البوابات، ودلوا فيها على دقائق الأسرار والمعلومات،
وأعطوا لبدئها الضوء الأخضر بعد أن هيؤوا المسرح كاملاً، وجهزوا القفازات
والأقنعة جيداً، واختاروا الأهداف والأدوات والتوقيت؛ وإلا فمن للذين نفذوا هذا
العمل بتقديم الشفرات السرية والأسرار التفصيلية والمعلومات المتوافرة التي من
شأنها أن تخترق عشرات بل مئات الحواجز الأمنية سياسياً وعسكرياً واستخباراتياً؛
بحيث تتهيأ الفرصة لتنفيذ مثل ذلك العمل بصورة استعراضية يصعب تنفيذ مثلها
ولو في الأعمال السينمائية؟ !
لا أقصد بداهة المسؤولين الظاهرين في الإدارة الأمريكية، ولكن الأعداء
المستترين لها ولشعبها وللإنسانية بعامة، ولأهل الإسلام خاصة، وهؤلاء لن
يخرجوا عن جماعات التحالف الشيطاني المعاصر، والمكون من اليهود والمتهودين،
أعني الجماعات الصهيونية اليهودية والجماعات الصهيونية النصرانية
البروتستانتية الإنجيلية داخل أمريكا. ولعل المراحل المقبلة تثبت صحة هذه المقولة
فلا تزال الأحداث في بدايتها.
صحيح أن نوايا شن حرب من هذا النوع متوافرة مسبقاً على المستويات العليا،
ولكن ما حدث كان بمثابة شاحن تفجير لها أعطاها كل المسوغات لأن تأخذ هذا
الشكل الذي بدأت به والأهداف التي ستنتهي إليها بحسب ما يعلنون.
إنه لأمر لافت ومستغرب ألا يعلن الأمريكيون منذ بدأت الأحداث وإلى الآن
عن إيقاف أحد من مواطني أمريكا يهوداً أو نصارى حتى ولو بتهمة التسهيل،
أو التواطؤ أو حتى الإهمال فيما يتعلق بمسلسل التحرك لبدء عمليات نيويورك
وواشنطن منذ التخطيط المحكم فيها مروراً بالإعداد الطويل لها وانتهاء بالتنفيذ
الدقيق لمراحلها! ! ألم توجد خلال تلك المسيرة المعقدة ولو ثغرة واحدة مرت من
خلال أناس غير عرب ولا مسلمين ولو عن طريق الإهمال الجسيم؟ ! ذلك الإهمال
الذي كان يكفي لتقديم العشرات منهم إلى المحاكمة وعلى رأسهم (جورج تينت)
رئيس الاستخبارات العامة الذي بلغ الغرور به ومنه إلى حد إقحامه في حل أعقد
القضايا السياسية بطريقة أمنية فيما يسمى بـ (خطة تينت) لحل القضية
الفلسطينية! !
إنك تعجب أيضاً من أن السلطات الأمريكية رجحت حتى كتابة هذه السطور
أن الضربات (البرية) في العمق الأمريكي ببكتريا الجمرة الخبيثة والتي تزامنت
مع الضربات (الجوية) لأفغانستان هي من تدبير تلك الجماعات الدينية النصرانية
اليمينية؛ ومع ذلك لم توقف أحداً منهم علناً للتحقيق؛ مجرد التحقيق، مع أن تلك
الضربات لم تدع مؤسسة هامة من مؤسسات الدولة الأمريكية إلا ومارست معها تلك
الهواية الجديدة: (القتل بالمراسلة) !
أعود فأقول: إن هناك في داخل الولايات المتحدة كما يعلم كل مراقب كتلة
متحالفة متراصة من الجماعات والأحزاب والتنظيمات الدينية اليهودية والنصرانية،
وهي المنظمة دائماً والمسلحة أحياناً؛ تترقب منذ زمن اللحظة التي تحني فيها
أمريكا ظهرها كي يركبوها، وليسيروا بها وبالعالم من ورائها نحو هاوية الانتحار
تحقيقاً لأساطير حولوها إلى عقائد.
سيقولون: هذه (نظرية المؤامرة) ..! ! وليكن؛ فهل خلا تاريخ اليهود
والنصارى يوماً من التآمر؛ بل هل خلا أو سيخلو تاريخ الإنسان منذ أزمنة قابيل
وإبرهة وحتى زمان الدجال وذي السويقتين الحبشي من التآمر؟ !
إننا نتساءل: إلى متى سيظل سيف تلك النظرية الوهمية (نظرية
المؤامرة) [3] التي لا يعرف واضعها ولا يُعرف نصها ولا روحها، ولا يُعرف متى
ولا أين ولا كيف ولا لماذا وضعت؟ إلى متى سيظل هذا السيف المسلط حائلاً دون
مجرد الشعور بأن هناك من يتآمر علينا؟ إنهم يستكثرون على هذه الأمة مجرد
الشعور باحتمال وجود متآمرين عليها، فضلاً عن أن تواجه أو تجابه أو حتى تملك
إرادة التحدي أو تمسك بزمام إدارة الصراع مع المتآمرين!
نظرية المقامرة:
صحيح أن هناك من يبالغون في اعتبار أن وراء كل حدث مؤامرة، ولكن
ذلك لا يمنع من أن هناك من ينظِّرون ويخططون وينفذون المؤامرات تلو
المؤامرات، والذين يتجاهلون ذلك أو ينفونه أو يميِّعون من شأن التآمر يقامرون
بمستقبل الأمة، وهم أحق لذلك بأن يوصفوا بأنهم (أصحاب نظرية المقامرة) ! ؛
لأنهم يراهنون دائماً على صداقة الأعداء، وعلى وفاء الخونة وعلى شجاعة الجبناء
وإخلاص غير الأمناء، في زمن (يخوَّن فيه الأمين ويؤتمن فيه الخائن، ويتكلم
فيهم الرويبضة) [4] .
فماذا يطلب أصحاب التهويش والتلويح بـ (نظرية المؤامرة) ؟ ! من أمة
تحيط بها المؤامرات من فوقها ومن تحتها وعن أيمانها وعن شمائلها بشكل متواصل
منذ ما يزيد عن قرن؟ !
ماذا يريد أصحاب ذلك (التفسير التآمري للتآمر) أن يقولوا لهذه الأمة؟ !
أيريدون أن يثبتوا لها أنها أمة بلا أعداء؟ أو أنها تعيش في عالم من الأخلاَّء
والأصدقاء؟ إن التآمر عند هؤلاء وبخاصة بعض أصحاب الأعمدة البارزة في
الإعلام الملوث هو خرافة ... وتخيلات.... واختزال للحقائق، إلا إذا كان
(المتآمرون) إسلاميين! ! فعندها ينظِّرون ويفلسفون ويشرِّقون ويغرِّبون في إثبات
التآمر (الإسلامي) !
لا يمكن لعاقل أن يفصل بين ما يحدث الآن ضد الإسلاميين في العالم
الإسلامي، وما سبق فعله ضد هذا العالم منذ عقود، بل منذ قرون؛ فهذا العالم
الإسلامي الذي أشرفت على تمزيقه دول النصارى بزعامة إنجلترا، والذي أصر
الغرب على تقطيع أواصر الأخوة فيه بالاحتلال العسكري ثم بالغزو الثقافي، هذا
العالم الذي حسده النصارى على وحدته تحت منظومة عالمية واحدة ممثلة في دولة
الخلافة الإسلامية، هو نفس العالم الذي أصرت الدول النصرانية على فرض
التخلف عليه بتنصيب أنظمة عميلة بديلة لسلطة الإسلام لا تقيم لقيم شعوبها
وعقيدتها وشريعتها وزناً، حتى إذا ما أرادت شعوب ذلك العالم الإسلامي أن تستيقظ
وتعود إلى هويتها في صور صحوات إسلامية بدأت تنتعش بعد نصف قرن من
سقوط الخلافة، إذا بذلك الغرب، وعن طريق أذنابه يحاولون بكل ما استطاعوا من
قوة وبطش، الحيلولة دون تلك العودة.
ظهرت تلك الصحوات التي قادها إسلاميون فأطلق عليهم الغرب وصف
(الأصولية) وتبعه على ذلك أذنابه في بلاد المسلمين، ثم حوَّل الغرب وصف
(الأصوليين) إلى (إرهابيين) فتبعه على ذلك أذنابه في بلاد المسلمين، وأوحى
هذا الغرب إلى أذنابه ومواليه بأن يحاربوا تلك (الأصولية) تحت مسمى
(الإرهاب) فبدأت تلك الحرب أولاً من بلاد المسلمين! !
ويشهد الله، ثم يشهد التاريخ وتشهد الأجيال المعاصرة بأن الإرهاب في تلك
الحرب ما بدأت به إلا الأنظمة العميلة، فجاءت الردود (المحدودة) عليها ثأراً
يائساً تحوَّل في بعض صوره إلى غلو لم يولد إلا في غياهب السجون وأقبية
الزنازين، ومع ذلك بقيت الشريحة الكبرى من الإسلاميين على منهاج الاعتدال
والسلامة، مع احتفاظها بحق الرد جهاداً ضد من اعتدى على دينها وشرفها
وكرامتها عند الاستطاعة، وآثر الكثيرون العفو والصفح، واختيار طريق الحكمة
والدعوة السلمية، وبدت آثار ذلك في الجزائر ومصر واليمن وباكستان وإندونيسيا
وغيرها، وحتى في فلسطين؛ بدأت الحركات الإسلامية سلمية، ولكن ذلك أيضاً لم
يُقبل عند الأكثرين من الأذناب في أنحاء العالم الإسلامي، وبدأ الإسلاميون
يُستدرجون بانتظام إلى معارك مفتعلة في أكثر من مكان بتواطؤ مفضوح من دول
الغرب (المتحضر) ، وحتى بعض الدول التي حاولت الميل إلى النهج الإسلامي
في السنوات الأخيرة، رماها الأعداء عن قوس واحدة، مرة في السودان، ومرة
في الشيشان وفي أوزبكستان وأخيراً في أفغانستان، هذا بعد سلسلة أخرى متعددة
الحلقات من ضرب الحركات (السلمية) حتى في أوروبا، مثلما حدث في تركيا
وفي البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا وغيرها! !
ومع كل هذا الإصرار على الإضرار بمسيرة العمل الإسلامي، كان رد
الإسلاميين في أكثر بقاع العالم هو الأخذ بمذهب ابن آدم الأول [لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ
يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ] (المائدة: 28) ، ولكن ذلك أيضاً لم
ينفع، واستمرأ الجبارون صفع الخد الأيسر كلما أُدير لهم بعد الخد الأيمن، مع أن
هؤلاء الإسلاميين لم يكونوا مجبرين شرعاً على أن يسلكوا هذا المسلك الكريم مع
كل عدو لئيم، إلا أن لؤم الأعداء، وكرههم، وبغضهم لله ورسوله والمؤمنين
جعلهم يتمادون في الاستكبار، ويبالغون في الاحتقار لكل ما يمت إلى الإسلام
والإسلاميين بصلة؛ انظر حولك في أنحاء العالم الإسلامي لترى مظاهر هذا الكبر
والازدراء لرغبات شعوب العالم الإسلامي في إزالة آثار العدوان الغربي على
بلدانهم وأوطانهم وعقيدتهم وثقافتهم:
- فالحكم الشرعي الإسلامي معطل قسراً رغم أنف الشعوب في أكثر بلدان
العالم الإسلامي.
- والحكم الوضعي المبدل مفروض ومحمي بالسيف والسنان والجيش
والشرطة.
- ولا يسمح بحزب إسلامي في أكثر بلدان العالم الإسلامي بحكم الدستور مع
السماح لأحزاب يسارية وعلمانية وإلحادية! !
- لا تُحترم شعائر الإسلام الظاهرة في أكثر بلدان العالم الإسلامي، في الوقت
الذي يسمح فيه لشعائر الكفر والفجور بالاستعلاء والظهور استفزازاً للمشاعر وتعدياً
على الثوابت.
- لا مكان ولا أمل في وصول حاكم أو حزب يحمل برنامجاً إسلامياً بطريقة
سلمية أو كما يقولون ديمقراطية مع عدم ممانعة الدساتير في وصول حَمَلة البرامج
الشيوعية أو اليسارية أو العلمانية الشيطانية التي يحملها رجال أو أشباه رجال أو
نساء أو أشباه نساء.
- المشورة مقصورة على أصحاب البطانات والزعامات والامتيازات
والثقافات، باستثناء الإسلاميين، أما أن يكون هناك أهل حل وعقد مختارون على
أسس من الدين الذين تدين به الأمة، فذلك (تراث) مهجور، وابتداع مستبعد!
- أكثر شعوب وجماهير العالم الإسلامي لا رأي لها ولا وزن لقولها في أي
قضية من قضاياها المصيرية، فلا تستشار في حرب، ولا تُستفتى في سلام، ولا
تطلع على معاهدات، ولا يؤخذ رأيها في اتفاقات أو تعهدات.
- الأنشطة الشعبية الإسلامية المبالغة في السلمية، لم تأمن من المحاصرة
والمحاربة و (تجفيف المنابع) و (الإجهاض المبكر) و (المواجهة الشاملة) ؛
فهذا خطيب يُمنع، وذاك داعية يُعتقل، وهذه محجبة تُضايَق، وهذا ملتحٍ يغيَّب،
وهذه جمعيةُ تُحل، وتلك أنشطة تحظر بدعوى: عدم السماح (بتفريخ) الأصولية
والإرهاب!
ومع كل هذا: ظلوا يطلبون من الأمة أن تبقى بكماء خرساء عمياء، تتنكر
لدينها، وتأكل بعرضها، وتذل لأعدائها، وتخضع وتركع لكل طاغية جبار يريد
ذبحها والتضحية بها.
لقد ولَّدت كل تلك الضغوط حالة من الاحتقان والغليان، بدأت تنفِّس عن
نفسها بهبَّات هنا أو هناك كردات للفعل لا منشئات له، وكان كل رد تتلوه ردود
عنيفة عنيدة من الأنظمة، وقد رأينا ذلك في أنحاء كثيرة من العالم، حتى وجد
الإسلاميون أنفسهم في معارك مفروضة عليهم في أكثر بقاع الدنيا، فزاد الغليان
وتضاعف الاحتقان، وبخاصة عندما وجد الإسلاميون أنفسهم مغضوباً عليهم حتى
وهم يدفعون عن الأمة الكفار الصرحاء، والنابذين بالعداء؛ فالوصف الجاهز لهم:
(متطرفون وإرهابيون) حتى ولو كان دفاعاً مشروعاً في الدين والقانون كما في
الشيشان أو البلقان أو كشمير أو فلسطين! !
وجاء دور أمريكا:
جاءت أمريكا بعد أمها العجوز بريطانيا لترث العداء للمسلمين، ولتسكب
الزيت على النار ولتعلنها حرباً (عالمية) على الإسلاميين بعد أن استقر وصفهم
بـ (الإرهابيين) ، وجاءت لتعلن تلك الحرب باسم الصليبية بعد أن سبقتها حروب
عديدة باسم اليهودية، بدعم غربي أوروبي وأمريكي، وكأن أمريكا وحلفاءها لم
تكفهم تلك الحرب المستعرة على الإسلاميين في أكثر بلدانهم، حتى أعلنوها عليهم
في سائر بلدان العالم! ! وكانت أحداث (سبتمبر/ أيلول) إشارة البدء لتلك الحرب
المبيتة بليل.
إنها لا تستهدف كما يشاع حكومة أفغانستان أو تنظيم القاعدة فقط، وإنما
تستهدف كل حركة نشطة على وجه الأرض تسعى لاستعادة حق من حقوق المسلمين؛
ولهذا أعلنت أن حملتها قد تشمل ستين دولة، وقد تستغرق عشر سنوات، أو
ربما خمسين سنة، كما قال رئيس الأركان البريطاني.
لقد تعهدت أمريكا بمحاربة ما أسمته (الإرهاب) في العالم كله، ومهدت منذ
زمن لذلك بإدراج ست دول عربية وإسلامية ضمن ثماني دول صنفتها بأنها
(راعية للإرهاب) هذا على مستوى الدول، وأما على مستوى الجماعات والمنظمات
فقد تناوبت أمريكا مع بريطانيا في ذلك عندما أعدت قائمة تضم ستين منظمة
(إرهابية) في العالم يشتمل أكثرها على جماعات إسلامية. ثم أعلنت بريطانيا
مؤخراً قائمة أخرى أضافت فيها جماعات (حماس والجهاد) الفلسطينية و (حزب
الله) اللبناني؛ وهذا يتيح لـ (إسرائيل) مباشرة أن تحاربهم بالشراسة التي
تحارب بها أمريكا في أفغانستان دون نكير من المجتمع الدولي؛ لأنها تحارب
(الإرهاب) !
إذن فالحرب التي أعلنتها أمريكا وحلفاؤها على الإسلاميين لم تترك بقعة
ساخنة في العالم الإسلامي إلا وشملته؛ فهم يريدون أن يحاربوا أو بالأحرى أن
يقضوا على الإسلاميين الذين يتصدون لجهاد الأعداء في كل البلدان حتى تلك التي
تمارس جهاداً مشروعاً بمقتضى ما يسمى بـ (الشرعية الدولية) ؛ فهم يريدون أن
يقضوا عليها في فلسطين، وفي جنوب لبنان، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي
البلقان، والقوقاز، وبلدان آسيا الوسطى، ولكن البداية كانت من أفغانستان.
وكأن أمريكا تريد أن تخوض حروباً بالنيابة أو الاشتراك للدفاع عن اليهود
وعن الروس وعن الهندوس وعن سائر الكفار والمشركين، وهي إذ تعلن البدء
بالإسلاميين في تلك المناطق التي يمارس فيها الجهاد الإسلامي المشروع، لا تخفي
نيتها في التثنية بالجماعات الإسلامية التي لم تجاهد بعد في بقاع أخرى من العالم،
مدعية أن تلك (ملاذات للإرهاب) ! ! فهي تريد فعلاً أن تحارب كل الإسلاميين
في كل أنحاء العالم!
وهذا والله وتالله وبالله هو الانتحار عينه!
لماذا؟ !
لأن أمريكا بذلك قد فتحت على نفسها أبواب الجحيم، وستجعل نفسها محلاً
لجهاد كل الموحدين في كل أرض ستعتدي عليها، وهؤلاء الموحدون إن كانوا
يعدون اليوم بالآلاف، فإن إعلان أمريكا للحرب ضدهم سيحولهم إلى ملايين؛ فهل
لأمريكا قِبَلٌ بأن تواجه ملايين المجاهدين؟ !
إن الجهاد في الإسلام فريضة مكتوبة على كل مسلم إذا دهم الأعداء أرضاً من
أراضي المسلمين؛ فهل تفهم أمريكا ذلك؟ وهل تعي أنها ستفرض بنفسها على
المسلمين أن يوجهوا جهادهم ضدها كلما دهمت أراضيهم؟ !
الجهاد واجب إدا دُهمت أرض واحدة للمسلمين؛ فما الحال إذا دهمت أمريكا
بنفسها أو تحت إشرافها إلى جانب أفغانستان أرض كشمير، وأرض الشام، وأرض
اليمن، وأرض السودان، وأرض باكستان، وأرض الشيشان، وغيرها وغيرها
من بلدان المسلمين؟ ! إنه الجنون.. إنه الانتحار! ألا يوجد عقلاء يبلغونها هذه
الرسالة؟ إنه ومهما كان بحوزة أمريكا من السلاح والعتاد، ومهما توافر لديها من
الكبرياء والغطرسة والعناد، فإنها ليس لديها رجال، ليس لديها (مجاهدون) ! وإذا
كان لديها بعض رجال فهم لا يقدَّرون بالملايين، ولا ينتشرون في سائر أرض الله
كالمسلمين.
إن أمريكا تنتحر بإصرارها على المضي في هذا القرار الفائر الجائر بمحاربة
كل الإسلاميين المجاهدين الساعين إلى التحرر في العالم، وليس هذا القرار فقط هو
سبب قطعنا وتأكيدنا بأن أمريكا تنتحر، بل إن هناك أسباباً بعد أسباب تقف وراء
التأكيد بأن أمريكا تنتحر وقد رصدت أبرزها، وأترك للقارئ أن يتابع ما لم أذكره
وما سوف يتجدد منها:
خطوات نحو الانتحار:
* أمريكا تنتحر: عندما تُقدِم على أكبر وأخطر أسباب الهلاك وهي: إعلان
الحرب على الله ... ! فهل أعلنت أمريكا الحرب على الله؟ ! .. نعم أعلنت ذلك
بإعلانها العداء والحرب على أولياء الله، وقد حدَّث رسول الله الناس جميعاً عليه
الصلاة والسلام عن جبريل عليه السلام عن الرب تبارك وتعالى أنه قال:» من
عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة « [5] ، والمسلمون الصادقون العاملون كلهم
أولياء الله، وأمريكا لم توجه عداءها واعتداءها على ولي واحدٍ من أولياء الله، بل
أعلنت ذلك على الملايين من أولياء الله بعد أن أسمتهم إرهابيين؛ ولهذا نؤمن أن
الله تعالى قد آذنها أيضاً بالحرب، كما جاء في الرواية الأخرى الأشهر من الحديث:
» من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب « [6] ؛ فمن ينصر أمريكا من بأس الله إن
جاءها؟ !
* وأمريكا تنتحر: عندما تجعل نفسها عرضة لجريان سنن الله على الظالمين
الجبارين من أهل المكر والبغي، وفي الحديث:» أسرع الشر عقوبة: البغي
وقطيعة الرحم « [7] ، وفي الأثر: ثلاث من كن منه كن عليه: المكر والبغي
والنكث، قال تعالى: [وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ] (الأنعام: 123) ، وقال:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم] (يونس: 23) وقال: [فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا
يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ] (الفتح: 10) ، ونحن نعتقد أن خطة المكر الكبرى من أمريكا
وحلفائها ضد الإسلاميين في العالم سوف تقابل بتدبير أكبر وأعظم ممن له المكر
جميعاً سبحانه وتعالى: [وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ] (النمل: 50-51) .
* وأمريكا تنتحر: عندما تصر على كسب المزيد من عداء المخلوقين بعد
سخط الخالق جل وعلا؛ فبدلاً من أن ترجع عن أسباب كراهية الناس لها من
سياسات الحصار الظالم والعقوبات الجائرة، ونصرة الظالمين على المظلومين،
وفرض الهيمنة والإذلال على الدول والشعوب، إذا بها تضاعف من جرعات ذلك
الظلم، وهذا سيجعل ضحاياها يستعجلون بطش الله بها وانتقامه منها، ويعملون
ضد مصالحها سراً، لو عجزوا عنه علناً.
* وأمريكا تنتحر: عندما تتخبط داخلياً، فتخسر شعبها بعد خسارتها لشعوب
العالم، وقد بدأت بوادر ذلك بتذمر السود من سوء التعامل معهم بعد الضربات
الجرثومية التي يتركز خطرها عليهم؛ لأنهم أكثر موظفي البريد، ومع ذلك لا
يلقون من الاهتمام الحكومي بسلامتهم ما يماثل الاهتمام الذي يلقاه البيض، وقد
بدأت تتزايد الانتقادات العلنية لإدارة بوش السيئة في معالجة كل الأزمات الأخيرة
سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وثقافياً وعسكرياً وأمنياً.
* أمريكا تنتحر سياسياً: عندما تضرب بعرض الحائط القوانين والأعراف
وأسس التعامل السياسي بين الدول مصرة على فرض أطروحتها المثيرة للسخرية
والسخط: (من ليس معنا فهو ضدنا) ، وكذلك عندما ترسي مبادئ مناقضة
بصورة عملية لما درجت على التشدق به باسم (الشرعية الدولية) فأين الشرعية
الدولية في دك المدن على المدنيين؟ وأين هي في التدخل العسكري المباشر في
الشؤون الداخلية للدول؟ وأين الشرعية الدولية في الإجراءات المفروضة لتثبيت
الحكومات المرفوضة من شعوبها؟ وأين الشرعية الدولية في التنكيل بما يسمى بـ
(قيم الديمقراطية الغربية) خارج أمريكا، تلك التي تسحقها أمريكا الآن في
أفغانستان بتدبير أقذر انقلاب عسكري في التاريخ؟ ! تحت سمع وبصر منظمة
الفيتو الخماسي، الظالمة المتحدة علينا!
* وأمريكا تنتحر اقتصادياً: عندما تصر على المضي إلى النهاية في حرب
تبدو خاسرة، ستكلفها شهرياً 1. 2 مليار دولار، كما قال غوردون آدمز مدير قسم
السياسات الأمنية بجامعة جورج واشنطن، وهي الحرب التي رصد لها بوش مبدئياً
40 مليار دولار، وقد تتضاعف بتزايد مدة الحرب هذا بخلاف الخسائر الخيالية
لشركات التأمين والتكلفة الدبلوماسية والأمنية والصحية لمجابهة الآثار الداخلية لشن
الحرب، وكل هذا لا يساوي شيئاً إذا ما قورن بالآثار الحالية والمستقبلية لضربات
سبتمبر التي قال عنها بوش في (30/10/2001م) :» إنها ضربت أسس
الاقتصاد الأمريكي «! وقد أظهرت الدراسات أن الناتج الأمريكي انكمش بنسبة
4 % بعد الأسابيع الثلاثة الأولى من أحداث واشنطن ونيويورك، وينظر المحللون
إلى هذا الانخفاض على أنه مؤشر رسمي إلى أن أكبر اقتصاد في العالم في طريقه
إلى التراجع، وقد يحتاج كما قال بوش إلى 100 مليار دولار لمحاولة إدخاله إلى
غرفة الـ (إن عاش) ! والغريب أن أمريكا ماضية رغم ذلك في نفس الطريق
الذي أوصلها إلى منحدر 11 سبتمبر!
* وأمريكا تنتحر إعلامياً: بعدما بدأ دولابها الإعلامي الهائل يفقد المصداقية
والاحترام، فهو بدلاً من أن يقوم بتغطية الأحداث بتجرد كما يحب أن يشتهر إذا به
يغطي على حقائقها، ويعتم على مشاهد الخراب والقتل والدمار الذي يتعرض له
المدنيون في أفغانستان، وأصبحت محطات التلفزة الإعلامية العملاقة في أمريكا
ترى في الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي تطل منها أفغانستان على العالم وهي (قناة
الجزيرة) منافساً عنيداً لها؛ لأنها اكتسبت ثقة الحكومة الأفغانية فسمحت لها بتغطية
الأحداث، ولأول مرة يجد الإعلام الأمريكي نفسه في حرج بالغ وهو يضطر
لعرض مؤتمرات الكذب اليومية التي يظهر فيها وزير الدفاع الأمريكي (دونالد
رامسفيلد) وهو ينافس مسيلمة الكذاب في قلب الحقائق، كأي ضابط متخلف في
نظام دموي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري، وتزداد فضيحة الإعلام الأمريكي
وهو يتستر على أخبار النكسات العسكرية التي منيت بها أمريكا وحلفاؤها في
أسابيع الشهر الأول من الحرب؛ حتى بدا وكأنه يخضع لرقابة صارمة كتلك التي
طالما عيرت أمريكا بها دول العالم الثالث!
* وأمريكا تنتحر ثقافياً وحضارياً: عندما تجعل من ثقافتها الهليودية السينمائية
القائمة على عبادة القوة، وتأليه الآلة وتقديس الثروة مثالاً للتندر والتفكه، بعد أن
رأى العالم عجز تلك الثقافة عن إيجاد نموذج حضاري محترم؛ فها هي قيم أمريكا
(الحضارية) تتهاوى وتتساقط بعدد سقوط القنابل الانشطارية والعنقودية على
الأيتام والأرامل والمدنيين العزل في أفغانستان، وها هي تلك (القيم) تستخرج من
خزائن قارون العصر فتاتاً من الطحين والبسكوت موضوعة في مغلفات صفراء
تتطابق في شكلها ولونها مع القنابل الانشطارية، لتطعم أطفال أفغانستان وجبات
قاتلة مشفوعة برسائل (ثورية) تدعو الأفغان للتمرد واستعجال مجيء المستعمر
الجديد!
* وأمريكا تنتحر عسكرياً: عندما تعرِّض سمعتها العسكرية (المهيبة)
للتنكيل على جبال أفغانستان؛ فتداعيات الحرب تظهر أن الآلة الجهنمية الجبارة
بصواريخها الذكية والغبية تبدو عاجزة عن حسم المعركة، لا ضد معسكر شرقي،
أو تحالف غربي أو جبهة دولية أو قوة عظمى ولكن ضد (حركة) ! ! فطالبان
التي لا تريد أمريكا ولا العالم معها أن يعترفوا بها إلا كحركة ازدراء واحتقاراً يشاء
القهار الجبار أن يجعلها سبباً في تمريغ كرامة الجيش الأمريكي في التراب، بإسقاط
مروحياته وقتل جنوده وأسر عملائه، واضطراره لفترة أسابيع طويلة لأن يختبئ
بطائراته الجبانة فوق السحاب، ممطراً حمم الموت على رجال يخشى الأمريكيون
رؤيتهم إلا بالمناظير المكبرة من ارتفاع آلاف الأميال!
* وأمريكا تنتحر أمنياً ومخابراتياً: عندما يتتابع فشلها في اكتشاف أو مواجهة
الأخطار التي هددت ولا تزال تهدد الأمن القومي الأمريكي في الداخل والخارج؛
فبعد أن أُخذت على غرة في أحداث سبتمبر في وقت كانت تخمِّن فيه أن الضربات
ضد مصالحها ستكون في اليابان أو كوريا أو الشرق الأوسط إذا بها تتخبط في
الوصول إلى منفذي عمليات (الحُمام) الزاجل المرسل كالطير الأبابيل. ولا
يختلف الأمر كثيراً إذا كان ذلك الإخفاق حقيقياً في الوصول إلى الفاعلين أو مجرد
تستر على المنفذين إذا كانوا أمريكيين؛ بل إن ذلك سيكون إخفاقاً مزدوجاً؛ لأنه
تستر غير محكم، ولا بد أن ينكشف عن فضيحة مدوية لجهاز الـ (سي. آي.
إيه) ذلك الجهاز الرهيب الذي طلب لفرط فشله» مخبرين «من الشرق الأوسط
ليقدموا له مساعدتهم وخبرتهم في الكشف عن الأخطار التي تهدد الأمن القومي
الأمريكي!
* وأمريكا تنتحر: عندما تتجاهل بغباء أو بعناد خطر الإرهاب الصهيوني
الداخلي المزدوج، بشقيه النصراني واليهودي؛ فالجماعات والمنظمات الدينية:
اليهودية والإنجيلية، تتربص بوحدة أمريكا منذ فترة طويلة، وعندما تصر أمريكا
على التعامي عن هذا الخطر، فإن ذلك سيعجل بتحقيق هدف تلك الجماعات على
نحو قريب جداً مما فعله اليهود بتركيا، عندما نخروا فيها من الداخل لكي يسقطوها
ثم يعتلوها سهلة وطيئة، وذلولة للراكبين! !
* وأمريكا تنتحر: عندما تبالغ في جر حلفائها طوعاً أو كرهاً إلى ما تراه في
صالحها دون اعتبار لمصالحهم، فتخرج بذلك أضغان الشعوب عليها، حتى الغربية
منها، وما خروج مئة وخمسين ألف متظاهر في بريطانيا وآلاف أخرى في إيطاليا
وفرنسا وإسبانيا، وأضعاف ذلك في باكستان وإندونيسيا وماليزيا، إلا دليلاً
ساطعاً على عدم وجود فرص كبيرة للنجاح أمام (التخالف الدولي) الذي تريد
أمريكا أن تتكئ عليه في محاربة الإسلاميين في العالم؛ مما سيعني في المستقبل
القريب أن أمريكا قد تضطر إلى وضع بعض القوى المتحالفة معها في عداد القوى
المخالفة لها، فيزيد بذلك معسكر (الضد) على معسكر (الإمعة) .
* وأمريكا تنتحر: عندما تبالغ في إحراج (أصدقائها) بإخراجهم في صورة
الواقفين ضد أماني شعوبهم في الكرامة والاستقلال الحقيقي؛ وهي إذ تطلب
من أنظمة الدول العربية والإسلامية أن تعطي برهاناً عملياً علنياً على انحيازها
للأمريكان، تصنع بذلك وقيعة بينهم وبين شعوبهم بما يمكن أن يخلخل استقرارها
الذي يخدم مصالح أمريكا ويطيل عمرها، وأمريكا تفقد بذلك أكبر سند يمكن أن
يحول بينها وبين غضب الشعوب.
* وأمريكا تنتحر: عندما تعرِّض قاعدتها الأولى في الشرق الأوسط
(إسرائيل) لسيف الإسلام الضارب في بيت المقدس وما حوله؛ فهي بعد أن أطلقت
كلابها اليهودية ضد رموز الإسلام ومقدساته وحرماته في فلسطين، ستجد نفسها
آجلاً أو عاجلاً أمام حرب دينية صريحة بين الإسلام واليهودية في الأرض المقدسة،
وهذا من شأنه أن يخلط بل يحرق، كل أوراق (اللعبة) الأمريكية في المنطقة.
* وأمريكا تنتحر: عندما تفجر غضب الضعفاء والفقراء، وهم القطاع الأكبر
من سكان الأرض، وهي لا تضمن أن يتحول هذا الضعف إلى قوة خارقة حارقة
في أرجاء العالم، وبخاصة إذا تمادى بوش في بعث أوباشه في أنحاء متفرقة من
الأرض لفرض واقع الهيمنة الجديد بالنار والحديد على المسلمين بعامة والإسلاميين
منهم بخاصة، وقد أظهر بعض معالم تلك الهيمنة مهندس السياسة الأمريكية
الخارجية لفترة طويلة شارون أمريكا اليهودي المخضرم المجرم (هنري كيسنجر)
في مقالة بشر فيها صحيفة العرب الدولية عن مستقبل (الأصولية) بتاريخ (28/
10/2001م) حيث قال:» في طريقة المعالجة الجديدة سيجري النظر إلى
الإرهابيين بمنظور خاص ملائم، إنهم متوحشون، لكنهم ليسوا كثيرين، وهم لا
يسيطرون على أرض بشكل دائم، وإذا ما جرت محاصرة ومحاربة نشاطاتهم من
جانب قوات الأمن في جميع البلدان، في حال عدم وجود بلد يؤويهم، فإنهم
سيصبحون خارجين على القانون، وطريدي العدالة، ويرغمون على نحو متزايد
على تكريس جهودهم لمجرد البقاء على قيد الحياة، وإذا ما حاولوا اغتصاب جزء
في بلد ما، كما حدث إلى حد ما في أفغانستان، فيمكن ملاحقتهم واصطيادهم
بعمليات عسكرية. إن المسألة الرئيسية في استراتيجية مكافحة الإرهاب هي إزالة
الملاذات الآمنة «. ثم أردف قائلاً:» إن الحرب ضد الإرهاب لا تعني فقط تعقب
الإرهابيين واصطيادهم؛ إنها تعني قبل كل شيء اصطياد الفرصة الاستثنائية التي
تتوافر الآن لإعادة صياغة النظام الدولي «!
إنها.. أسرع وسيلة للانتحار الأمريكي على الطريقة اليهودية الشارونية.
* وأخيراً: فإن أمريكا ستنتحر، وتنحر كل من يحالفها بالتعرض لقذائف
الدعاء اليومي الذي يرمي الصالحون بسهامه في نحرها في جوف الليل وفي العشي
والإبكار، وتسارعها إلى الانتحار سيزداد باستخفافها بنداءات من ينصحونها بإيقاف
جرائمها في أفغانستان خلال شهر رمضان؛ لأنها ستستمطر بذلك دعوات مئات
الملايين من الصائمين والقائمين والعاكفين والركع السجود، والله تعالى يقول
لهؤلاء: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر: 60) فلندعُ ... ولنلحَّ في الدعاء
بأن يجيبنا الله ويحيينا حتى نسمع ونرى تفاصيل ذلك المشهد المثير لـ (انتحار
أمريكا) ... ! [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن
يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ]
(التوبة: 52) .
__________
(1) يلاحظ إلحاح القادة الأمريكيين على استخدام هذا التعبير بمناسبة وبغير مناسبة منذ اندلاع الأحداث الأخيرة، وهو تعبير توراتي متكرر في نصوصهم التي تتحدث عن حروب آخر الأيام.
(2) راجع في ذلك فصل (الألفية الثالثة وهواجس الحرب العالمية الثالثة) من كتاب حمى سنة 2000.
(3) ظهر وشاع الكلام عن (نظرية المؤامرة) أثناء وبعد حرب الخليج الثانية، رداً على بعض الآراء التي ذهبت إلى أن لأمريكا ضلع في تدبير مقدمات وملابسات تلك الحرب لاستغلالها لأغراض
مستقبلية! ! وكان العلمانيون حريصين على إشاعة هذا المصطلح لإثبات حسن نوايا أمريكا، ثم استقر (المصطلح) عندهم وتأثر به بعض الإسلاميين! .
(4) جزء من حديث أخرجه أحمد في مسنده، 3/ 291، وأخرجه ابن ماجة في الفتن، 24، وصححه الألباني في الصحيحة 1887.
(5) أخرجه أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد.
(6) أخرجه البخاري في الرقاق، ح/ 6502، فتح الباري، 11/348.
(7) أخرجه مسلم في الزهد، 23.(169/88)
المسلمون والعالم
الحرب البيولوجية (الجرثومية)
د. ضيف الله بن محمد الضعيان [*]
مقدمة:
مع حلول موسم الأنفلونزا باقتراب فصل الشتاء يزداد الهلع في الشارع
الأمريكي، وتكتظ عيادات الأطباء بالمراجعين ولا تتوقف هواتفهم عن الرد على
المستفسرين عما إذا كان ما يعانون من إنفلونزا وذبحة صدرية والتهاب حلقي يعني
أنهم بحاجة إلى أن يخضعوا للكشف عن جرثومة الجمرة الخبيثة (أنثراكس) التي
تأكد إصابة عدد من الأشخاص بها في بعض الولايات الأمريكية بعد أن شنت
الولايات المتحدة حرباً على أفغانستان على خلفية اتهام حكومتها بإيواء أفراد تنظيم
القاعدة الذين تتهمهم أمريكا بالوقوف خلف هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول
على كل من واشنطن ونيويورك.
ويخشى الأمريكيون أن حرباً جرثومية قد شنت عليهم انتقاماً من ممارسات
جيوشهم في أفغانستان، ومن وقوف حكومتهم ونواب كونجرسهم ومجلس شيوخهم
مع الدولة الصهيونية في حربها الدموية الشرسة على الشعب الفلسطيني الأعزل.
إلا أن المسؤولين في واشنطن يفضلون عدم الربط بين القضيتين ويستبعدون أن
تكون حالات الإصابة في الجمرة الخبيثة التي تم اكتشافها جاءت نتيجة ممارسات
إرهابية، في محاولة لتخفيف موجة الرعب والهلع التي تجتاح المدن الأمريكية.
لكن إخفاق السلطات الأمنية الأمريكية في تحديد مصدر هذه الجرثومة بعد أسابيع
من ظهورها يفتح الباب أمام كل التكهنات، ويزيد حالة القلق والترقب في الشارع
الأمريكي الذي لم يخرج بعد من هول الصدمة التي حلت به إثر هجمات الحادي
عشر من سبتمبر/ أيلول.
إن القلق الذي يجتاح الشارع الأمريكي له ما يسوِّغه في ظل التقارير التي ما
فتئت تصدرها وكالة المخابرات الأمريكية الـ CIA بين فترة وأخرى خلال
السنوات القليلة الماضية عن قدرة الجماعات التي تصفها بالإرهابية على امتلاك
أسلحة بيولوجية وكيميائية وحتى نووية؛ خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي
ودول المعسكر الشرقي؛ مما عزز الشكوك في أن جزءاً من ترسانة هذه الدول من
أسلحة الدمار الشامل ربما تسرب إلى أيدي الجماعات المناوئة للغرب ولواشنطن
على وجه الخصوص.
تعريف الحرب البيولوجية:
هي الاستخدام العسكري للكائنات الحية المجهرية (البكتيريا أو الفطريات أو
الفيروسات) بقصد إحداث الأمراض الوبائية أو الموت للإنسان أو الحيوان أو
المحاصيل. ويمكن استخدام العناصر البيولوجية أيضاً لإصابة جنود العدو بالمرض
لشل قدرتهم على القتال، أو إتلاف مخزون العدو من الأغذية. وتعتمد القدرة
التدميرية للميكروبات على قدرتها الهائلة على الانقسام؛ حيث تنقسم الجرثومة
الواحدة إلى ملايين من مثيلاتها في اليوم الواحد.
شروط السلاح البيولوجي الفعال:
1 - سهولة زراعة جراثيم المرض المراد نشره.
2 - قدرة هذه الجراثيم على البقاء بوجود الرطوبة والجفاف وعند درجات
حرارة متوسطة (يفضل القيام بالهجوم البيولوجي ليلاً خصوصاً في أشهر الصيف) .
3 - سرعة الانتشار والوصول إلى الأهداف المنشودة.
4 - فاعلية الجراثيم بحيث يسبب العدوى أقل عدد ممكن منها.
5 - أن تكون الأمراض الناتجة عنها ليس لها علاج أو أمصال أو لا يمتلكها
العدو.
6 - قدرتها على إحداث أكبر عدد من الإصابات والوفيات والإعاقات.
أنواع الأسلحة البيولوجية:
يوجد عدة أنواع من الجراثيم التي تصلح للاستخدام سلاحاً بيولوجياً، منها
الجراثيم المسببة لوباء الجدري، والطاعون، والكوليرا، وشلل الأطفال، والحمى
الصفراء، وداء الكلب وغيرها.
وتعتبر جرثومة (باسلس أنثراكس) المسببة لمرض الجمرة الخبيثة من أكثر
الأسلحة شيوعاً في الحروب الجرثومية، وهي تصيب الجلد، ويسهل معالجتها عن
طريق جرعات كبيرة من المضادات الحيوية. إلا أن استنشاق الهواء الملوث بها
يسبب إصابة الرئتين بالمرض، ويفضي إلى الموت في أغلب الحالات، وقد ينجو
المصاب من الموت لو تم علاجه بالسرعة الكافية. وفي حالة ابتلاع الجراثيم فإن
المعدة والأمعاء تصابان بالمرض ويؤدي ذلك إلى الموت في أكثر من نصف
الحالات.
وسائل إطلاق الأسلحة البيولوجية:
هناك تقنيات عدة يمكن استخدامها لنشر هذه الجراثيم في صفوف العدو، منها:
1 - نشرها في الهواء على شكل ضباب أو دخان عن طريق راجمات
الصواريخ أو طائرات الرش أو قذائف المدفعية.
2 - تلويث المياه أو الأغذية بالجراثيم.
3 - استخدام الحشرات والقوارض الحاملة للجرثومة.
4 - إسقاطها خلف صفوف العدو بين المدنيين على شكل لعب أطفال أو
أغذية أو عملات معدنية وغيرها.
تاريخ استخدامها:
* خلال القرن الرابع عشر الميلادي كانت بعض الجيوش التي تحاصر المدن
تقذف بالمنجنيق جثث المصابين بالطاعون أو الجدري، وكذا بعض النباتات الملوثة
من فوق سور المدينة بقصد نشر الوباء داخل صفوف العدو.
* نشر الأوروبيون وباء الجدري والحمى بقصد بين صفوف الهنود الحمر
(السكان الأصليين لأمريكا) خلال مبادلاتهم التجارية معهم في القرنين السابع عشر
والثامن عشر.
* في القرن العشرين استخدم السلاح البيولوجي في عدد من الحروب،
فاستخدمته ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ونشرت اليابان وباء الطاعون خلال
الحرب العالمية الثانية في عدد من المدن الصينية عن طريق إنزال كميات من
الجرذان المصابة بالوباء بواسطة المظلات؛ مما أدى إلى مقتل عدد كبير من الناس.
كما استخدمت اليابان سجناء الحرب الصينيين لتجريب بعض أنواع الأسلحة
البيولوجية.
* تشير بعض المصادر إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استخدمت
السلاح البيولوجي ضد كوريا الشمالية والصين خلال الحرب الكورية 1950 -
1953م، وفي فيتنام.
* يتهم الاتحاد السوفييتي بأنه استخدم الأسلحة البيولوجية ضد أفغانستان خلال
احتلاله لها في عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
* يُظن أن النظام العراقي قد استخدم السلاح البيولوجي إلى جانب السلاح
الكيميائي ضد الأكراد في حلبجة عام 1988، وقد تم تدمير خمسة مخازن
ومختبرات سرية لتصنيع الأسلحة الجرثومية منها الأنثراكس خلال عقد التسعينيات
بعد هزيمة العراق في حرب عاصفة الصحراء.
* فجرت بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية (عام 1943م) قنبلة محشوة
بجراثيم الجمرة الخبيثة في جزيرة جريونارد الأسكتلندية على سبيل أنه من تجاربها
على الأسلحة الجرثومية؛ مما أدى إلى مقتل كثير من الحيوانات والنباتات، وظلت
منذ ذلك الوقت منطقة محرمة حتى أعلن مؤخراً خلوها من الجرثومة القاتلة.
اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية:
في العاشر من أبريل/ نيسان عام 1972م تم التوقيع في جنيف على اتفاقية
دولية تحظر استخدام الأسلحة البيولوجية، وتمنع إنتاج أو امتلاك أو استخدام مثل
هذه الأسلحة، وكان قد سبقتها عدة اتفاقيات كانت أولاها اتفاقية جنيف عام 1925م
المحرمة للأسلحة الكيميائية والبيولوجية. وقد وقعت على اتفاقية عام 1972م 143
دولة بما فيها الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن الاتفاقية لم
تتضمن إمكانية التفتيش على الدول المصادقة عليها بسبب أجواء الحرب الباردة
التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
الأقطار التي تخرق الاتفاقية:
يعتقد بعض المحللين الغربيين أن عدداً من الدول الموقعة على اتفاقية حظر
الأسلحة البيولوجية تمتلك هذا السلاح تأتي في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية
التي تمتلك أكبر ترسانة من هذه الأسلحة؛ وإن كانت تزعم أنها مخصصة فقط
للأغراض البحثية والدفاع عن النفس، رغم أن الرئيس ريتشارد نيكسون قد تعهد
عام 1969م بأن لا تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأسلحة البيولوجية ضد أي
دولة حتى وإن استخدمت تلك الدولة مثل هذه الأسلحة ضد الولايات المتحدة. وأمر
نيكسون بتدمير المخزون الأمريكي من تلك الأسلحة.
ومن الدول الأخرى التي يعتقد امتلاكها لهذه الأسلحة: بريطانيا وفرنسا
والصين وروسيا وكوبا والعراق (سابقاً) وإيران وليبيا وإسرائيل، ودول
أخرى مشكوك في امتلاكها للسلاح البيولوجي منها كوريا الشمالية ومصر وسوريا
والهند وتايوان.
أمريكا ترفض التفتيش الدولي:
بعد سبع سنوات من المفاوضات في جنيف، وفيما اعتبر آخر جولة قبل
التوقيع على معاهدة جديدة تضيف بنداً تم إهماله في اتفاقية عام 1972م وهو
التفتيش الدولي على منشآت الدول التي تصادق على المعاهدة؛ فقد انتهت الجولة
الأخيرة من المفاوضات يوم 17 أغسطس/ آب من هذا العام (2001م) إلى
فوضى واضطراب وبلبلة داخل أروقة المؤتمر؛ إذ فوجئ مندوبو 55 دولة مشتركة
في المفاوضات بوقوف رئيس الوفد الأمريكي معلناً رفض إدارة الرئيس بوش
للمعاهدة وامتناعها عن التوقيع عليها، فيما اعتبر نكوصاً عن عهد نيكسون المشار
إليه آنفاً.
وتفادياً للانتقادات الدولية كتلك التي تعرضت لها الولايات المتحدة حين
رفضت التوقيع على معاهدة كيوتو في اليابان الخاصة بالحد من حرارة الأرض،
فقد أعلن البيت الأبيض أن وفده إلى مفاوضات جنيف سيبقى حتى تنتهي جولة
المفاوضات الأخيرة لمنع الدول الأخرى عن التوقيع على المعاهدة الجديدة. وكان
التفسير الذي قدمته حكومة بوش مخادعاً ويهدف إلى تضليل الرأي العام، وهو أن
المعاهدة ضعيفة رغم أن بنودها التي تتسم بالضعف كما يقول المراقبون جاءت
استجابة لإصرار الوفد الأمريكي خلال جولات المفاوضات السابقة. ويجادل
الأمريكيون بأن المعاهدة لا تملك الإجراءات الكافية لكشف الدول التي تخرقها رغم
أن رئيس الوفد الأمريكي لمفاوضات جنيف كان قد قال عكس ذلك أمام أعضاء
الكونجرس. وتزعم الإدارة الأمريكية أن المعاهدة تهدد سرية المعلومات الخاصة
بالأمن القومي، رغم أن المعاهدة تتضمن إجراءات مشددة فيما يخص أسرار الدول،
وأن جميع حلفاء أمريكا الأوروبيين وفي أمريكا اللاتينية واليابان وغيرهم قد
وافقوا عليها.
ويرى المعارضون لإدارة بوش من الأمريكيين أن امتناع إدارة بوش عن
التوقيع على المعاهدة وسعيها لإحباطها يضر حقيقة بالأمن القومي؛ إذ إن أمريكا
ستكون هدفاً رئيساً لأي هجوم استراتيجي أو إرهابي بالأسلحة الجرثومية، ويرون
أن تصنيع هذه الأسلحة وتوليد جرثوماتها وتخزينها قد يتسبب، نتيجة خطأ بشري
أو تقني أو بفعل متعمد، بكارثة وطنية تتمثل بانتشار عدد من الأوبئة التي لا يمكن
التحكم بها، ولن تفلح ترسانة أمريكا كلها من الأسلحة في وقفها.
وسائل الوقاية من الأسلحة الجرثومية:
1 - استخدام الأقنعة الواقية (الكمامات) فإن لم توجد فقطعة قماش مبللة
بالماء.
2 - البعد عن المياه والمأكولات الملوثة.
3 - الحذر من الحشرات المحتمل حملها للجرثومة.
4 - أخذ اللقاحات المناسبة ضد الجراثيم المتوقع استخدامها من قِبَل العدو.
5 - التأكد من توفر المضادات وعلاجات الأمراض المتوقعة.
6 - عزل المرضى والموبوئين عن الأصحاء.
7 - يستخدم محلول الـ (فورمالدهيد) لقتل جميع جراثيم الجمرة الخبيثة في
التربة، وهو مادة كيميائية عضوية متوفرة ورخيصة، وغير ضارة بالبيئة.
8 - يتم الكشف عن الأسلحة الجرثومية في الجو بواسطة جهاز ليزر تعمل
أشعته على تكسير هذه الجراثيم فتمر على مطياف الكتلة لمعرفة نوعها.
مخاطر الحرب الجرثومية:
إن مما يعزز المخاوف من خطر الحرب البيولوجية هو الدمار الشامل الذي
يمكن أن تحدثه لشعب بأكمله قبل أن يكون لديه الوقت الكافي للدفاع عن نفسه،
بخلاف الحرب التقليدية التي تستخدم فيها القنابل المتفجرة ويكون دمارها فقط على
الذين تقع فوق رؤوسهم، أو حتى الحرب الكيميائية التي تصيب منطقة معينة
وتتحكم عوامل الطبيعة في مدى اتساع المنطقة التي تجتاحها.
ومن أخطر ما تتميز به الأسلحة الجرثومية مقارنة بالأسلحة هو استيطان هذه
الجراثيم المنطقة الملوثة بها، ومكثها مدة طويلة تصل إلى عشرات السنين.
ورغم أن جرثومة الجمرة الخبيثة لا تنتقل من شخص لآخر إلا أن خطرها
يكمن في إمكانية انتشارها في منطقة واسعة، وسهولة نشرها في مساحة مكتظة
بالسكان أو في سوق تجاري أو ملعب رياضي بهدف إصابة عدد كبير من الناس
بجرثومتها القاتلة من خلال تنفس الهواء الملوث بها دون أن يشعر المصابون في
الأيام الأولى إلا بانفلونزا خفيفة تتحول بعد أيام إلى وحش قاتل.
وبالنسبة للأزمة الأمريكية فإن المواطن الأمريكي العادي يشعر الآن، وسيظل
يشعر على المدى القصير على الأقل أنه معرض لخطر الحرب الجرثومية؛ لأنه لم
يتم تطعيم أفراد الشعب بلقاح جرثومة الجمرة الخبيثة، وإنما اقتصر الأمر على
تطعيم أفراد الجيش فقط. ولا تملك الدولة إلا احتياطياً قليلاً من هذه الأمصال
تفضل إبقاءه لاستخدام أفراد القوات المسلحة. أما ما تحويه مخازن الدولة
البيولوجية من أمصال الجدري المجمدة (تتراوح بين 7 و15 مليون لقاح)
فمخصصة لأفراد الجيش ولحالات الطوارئ فقط، وهي لا تشكل إلا نسبة ضئيلة
من اللقاحات اللازمة فيما لو تعرضت البلاد لهجوم بيوإرهابي واسع.
وقد يكون ما اكتشف من حالات قليلة حتى الآن من إصابات بالجمرة الخبيثة
عملاً متعمداً وتحت سيطرة الأجهزة الأمنية؛ بقصد صرف أنظار الرأي العام
العالمي عما يحدث من مجازر للمدنيين في أفغانستان، ولأجل حشد تأييد الشارع
الأمريكي ضد من تسميهم واشنطن بالإرهابيين.
__________
(*) قسم الكيمياء، جامعة الملك سعود بالرياض.(169/100)
المسلمون والعالم
اقتلوهم.. إنهم مسلمون..! !
د. أحمد بن سالم الحميدان
بعد التفجير الأول في مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993م شنت
وسائل الإعلام الأمريكية حملة مركَّزة لتشويه الإسلام، وإبراز الصورة الدموية
الإرهابية التي ينظرون بها إلى العرب والمسلمين. وكان من أشهر البرامج التي
تؤكد هذا برنامج وثائقي أعده (ستيف إمرسون) العضو السابق في لجنة العلاقات
الخارجية المنبثقة من مجلس الشيوخ الأمريكي. عرض البرنامج باسم: (الجهاد
في أمريكا) ، وبثته شبكة (P. B. C) الأمريكية عام 1994م، حيث أُظهِر
فيه المسلم إرهابياً متعطشاً لسفك الدماء يغلي قلبه بالحقد على غير المسلمين، وأبرز
الفيلم الولايات المتحدة الأمريكية على أنها أرض يتدرب عليها الإرهابيون المسلمون
وأن شبكة من الأصوليين المتطرفين موجودة بقوة داخل أمريكا [1] . وفي العام
نفسه عرض الفيلم السينمائي: (أكاذيب حقيقية) ، وفيه يقف الممثل الأمريكي
الشهير (أرنولد شوارتز) وهو يقتل بالرصاص عشرات الإرهابيين من المسلمين
العرب الذين يخططون لتفجير قنبلة نووية على سواحل فلوريدا..!
وتوالت الأفلام والبرامج التي تسخر من العرب والمسلمين بصورة لافتة
للأنظار [2] ، وقد نشرت صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) في 28/7/1997م مقالاً
ذكرت فيه كاتبته الطرق التي تتبعها السينما الأمريكية في تشويه الإسلام وأهله؛
فقالت: (ينبغي تصويرهم على أنهم مجموعة من القرويين أصحاب اللحى، ولا بد
لهم جميعاً من ارتداء الكوفية بصرف النظر عن البلد التي أتوا منها، وقد يكتفى
بارتداء بعضهم للغترة والعقال، ولا بد لهم من التحدث بالإنجليزية الركيكة، وأن
تبدو الوقاحة واضحة في معاملاتهم ... ولن يحتاجوا إلا إلى مصاحف وأسلحة تبعاً
للموقف السينمائي، ويفضل أن يظهروا مدخنين لكي يطفئوا السجائر في أيدي
ضحاياهم، ومن الضروري أن يهددوا بتفجير شيء ما، ومن المهم إظهار ضحية
بريئة لهذا التفجير، وأن يبين بشكل واضح أن هذا هو الجهاد ... ومن المهم أن
تصرخ المجموعة في إحدى اللقطات: الموت للكفار، قبل نهاية الفيلم ... ! !) .
إنَّ هذه الحملة الإعلامية الشرسة نجحت في تشويه صورة الإسلام في أمريكا؛
فقد أظهرت دراسة علمية تبنتها جامعة نيويورك عام (1995م) : أنَّ الإسلام
يكثر الحديث عنه في الإعلام الأمريكي المكتوب، ولكن في معرض الحديث عن
العنف أو التطرف، أما الحديث عن الإسلام باعتباره ديناً وقيماً ثقافية وأخلاقية فإنه
قليل جداً [3] .
وتزداد حدة التهويل والترهيب من الإسلام في بعض المجلات والجرائد
التنصيرية، أو من بعض الكتاب اليمينيين؛ فقد كتب (كارل إليس) في عام
1996م مقالة قال فيها: (إذا أخفقنا في مواجهة التحدي الإسلامي بجدية فإننا قد
نجد أنفسنا يوماً ما وقد أصبحنا تحت النظام الذمِّي، وقد أحاط بنا أناس يركعون في
اتجاه مكة؛ فالكنيسة في أكثر المجتمعات التي أصبح الإسلام فيها الدين السائد
تعرضت للاضطهاد!) .
ومن فضول القول تأكيد أن تلك الحملة استغل اليهود استثمارها وتوجيهها
للتأثير على الرأي العام وصنَّاع القرار في الإدارة الأمريكية، وقد أدرك ذلك الكاتب
الشهير (آرثر لوري) في مقالة له في مجلة (Middle East policy)
الصادرة في سبتمبر 1995م، حيث قال: (طبيعة الحملة ضد الإسلام هذه تدل
على أن النظرة التي تتبناها إسرائيل أصبحت متبناة بشكل كبير في أمريكا من قِبَل
الموالين لها والداعمين لوجودها. وقد ظهر جلياً أن الحملة موجهة للرأي العام
ولصنَّاع القرارات على حد سواء!) .
وبلغت الحملة ضد ما سمي بـ (الإرهاب الإسلامي) مداها عندما وافق
الكونجرس الأمريكي في عهد الرئيس السابق (بيل كلينتون) على تخصيص
ميزانية قدرها مليارا دولار لتغطية تكاليف أعباء حملة مكافحة الإرهاب، ثم وافق
الكونجرس على قانون (الأدلة السرية!) الذي قدمه كلينتون، والذي وضع غطاء
لملاحقة العمل الإسلامي وكبته تماماً، كقانون الطوارئ الذي تمارسه بعض الدول
الديكتاتورية المتخلفة في عالمنا الثالث؛ ولهذا ليس غريباً أن يكون 95% من
المعتقلين تحت مظلة العمل بهذا القانون من المسلمين!
كل تلك الحملة كانت قبل 11/9/2001م، أما بعد هذا التاريخ فإن الموازين
اختلفت جذرياً، والحملة على الإسلام وأهله اشتد سعيرها، وتطاير شررها، وفقد
الجميع اتزانهم، حتى أصبح مصطلح (الإرهاب الإسلامي) من أكثر المصطلحات
الدارجة حالياً في اللغة السياسية والإعلامية والاجتماعية، بل أصبح الإرهاب قريناً
للإسلام والحركات الإسلامية دون استثناء أي توجه إسلامي في أي مكان كان..!
وأصبح الهجوم على الإسلام مادة رخيصة سافرة يتبارى فيها الإعلاميون بكل جرأة
وصفاقة.
ولم يقتصر الأمر على الصحافة الشعبية أو على بعض الكتاب المغمورين أو
طالبي الشهرة أو ممَّن لهم علاقات وثيقة باللوبي اليهودي، بل امتد هذا العداء
المتشنج ليخترق أعلى قمة في هرم الإدارة السياسية، ويتغلغل في مراكز البحث
والدراسات الاستراتيجية، وعند كثير من الكتاب المرموقين الذين كانوا يُظهرون
للناس حيادهم وموضوعيتهم..! ! وليس أدل على ذلك من التصريحات المتشنجة
التي خرجت عن نطاق اللياقة الدبلوماسية للرئيس الأمريكي (جورج بوش) ، ومن
بعده رئيس الوزراء الإيطالي (سيليفيو بير لوسكوني) ، ثم رئيسة وزراء بريطانيا
السابقة (مارجريت تاتشر) .
ثم انفرط عقد الكراهية وراح الساسة والإعلاميون بمختلف تخصصاتهم
يخرجون بعض كمائن نفوسهم؛ ففي جريدة (صنداي تيلجراف) الرصينة عادةً
يُنشر في 7/10/2001م مقال بعنوان: (هذه الحرب ليس موضوعها الإرهاب..
بل الإسلام!) كتبه (ديفيد سيلبورن) افتتحه بقوله: «حرب الساعة هذه هي ضد
الإرهاب العالمي كما تم إخبارنا، وكما أعلن الرئيس الأمريكي في حديثه إلى
الكونجرس في 20/9/2001م، وتوني بلير في خطابه لمؤتمر حزبه في الأسبوع
الأخير، إلا أنها ليست شيئاً من هذا القبيل؛ لقد كان الاتحاد السوفييتي ذات مرة
إمبراطورية الشر المتحدية للغرب، أما الآن فإن تمرد الإسلام أو ولادته الجديدة هي
التي تمد ظلالاً من الفزع على العالم غير الإسلامي، لقد ظل زخم الإحياء الإسلامي
يحشد خطوه منذ الخمسينيات على الأقل، مع أن تخوُّف الغرب المسوّغ من هذا
الانبعاث، ورغبته في تجنب إهانة الدين الإسلامي جعل قياداتنا تخطو على قشر
البيض خلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر..!» ، ثم يواصل تحذيره من
الإسلام قائلاً: «بدءاً من الخمسينيات، وخصوصاً عندما حرَّر سقوط الشيوعية
الدول المسلمة في الكتلة السوفييتية من قيودها، أخذ الإسلام الصدارة في النشاط
المعادي للغرب سياسياً ودينياً وعسكرياً، إنه يهدد بالبنادق في يد، والنصوص
المقدسة في يد أخرى، محيلاً أمريكا والصهيونية والمسيحية إلى شياطين» .
وامتد هذا التحريض إلى شتى الدول الغربية؛ ففي هولندا نشرت مجلة
(هاخسابوست) في منتصف أكتوبر 2001م، مقالة للبروفيسور (باول فيتروب)
دعا فيها إلى: (مراجعة جذرية للوجود الإسلامي في هولندا، وإلغاء مدارس
المسلمين) ، وقال فيتروب: (إن الوقت حان للتأكد من إمكان التعايش مع الدين
الإسلامي كدين يحترم القيم الديموقراطية للدولة الغربية والنظام الدستوري والقانون)
ثم قال: (إذا ثبت عكس ذلك فإن علينا أن نواجه استحقاقاتنا بتحريم الإسلام في
هولندا) .
أما في فرنسا فقد شنَّ الإعلام هجوماً شرساً على الإسلام وأهله، ففي صحيفة
(لونوفيل أو بسر فاتور) نشر ملف خاص بعنوان: (الإسلام زمن النقد الذاتي)
في 4/10/2001م كتبت فيه (جوزيت آليا) مقالاً دعت فيه إلى تحالف دولي يضم
المثقفين المسلمين المعتدلين ليقاتلوا القرآن كافة كما يقاتل العالم الأفغان كافة، ثم
قالت: «عليهم أن يُظهروا كيف يزكي القرآن العنف، عليهم أن يعتبروا أن النص
القرآني ما هو إلا إنتاج بشري يحتوي على أخطاء جسيمة في الأخلاق والتاريخ
والعلوم، إنه نص بني على مبادئ متجاوزة! !) .
أما صحيفة (لوموند) فقد خصصت ملفاً ضخماً عن الإسلام في 6/10/
2001م، ثم وسعت الملف في العدد الشهري الخاص المسمى (لوموند 2) وعنوان
العدد: (الأزمة، الفعل الثاني) ، وكذلك نشرت صحيفة (لوبوان) في 5/10/
2001م ملفاً بعنوان: (الحقيقة عن الإسلام في فرنسا) ، وحشيت هذه الملفات
بهجوم شرس على الإسلام والقرآن والثوابت الشرعية [4] .
إن هذا التحريض المتكرر في وسائل الإعلام الغربية [5] ظهرت ثمرته جلية
واضحة في التصرفات العنصرية المتشنجة التي لم تخل منها ولاية أمريكية أو دولة
أوروبية بعد حادثي نيويورك وواشنطن، وها هو ذا رجل أمريكي من عامة الناس
يعلق على سيارته في مدينة لوس أنجلوس عبارة كتب فيها: (اقتلوهم.. إنهم
مسلمون!) [6] .
ولم يقتصر هذا التأثير على أوساط العامة أو اليمينيين المتعصبين، بل ظهر
هذا التأثير في قلب الإدارة الأمريكية الحالية التي حوّلت قانون (الأدلة السرية)
المحلي إلى قانون دولي صارم تفرض سلطانه بالعصا الغليظة على كافة الشعوب
والحكومات، وتمارس به أقصى ألوان الديكتاتورية والتسلط وسحق كرامة الشعوب
وحقوقها، ومن لم يخضع ويستسلم للإرادة الأمريكية فإنه إرهابي يجب أن تجتمع
الدول المتحضرة لترويضه ومسخ هويته أو القضاء عليه! ولهذا أعلنها الرئيس
الأمريكي بكل صلف وعنجهية بأن من لم يكن معهم؛ فهو مع الإرهاب..! !
إننا معاشرَ المسلمين ندرك سبب ظهور كل هذا الحقد والتحريض على الإسلام
فنحن نقرأ قول الله تعالى: [إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] (الممتحنة: 2) ، وقوله تعالى: [وَدَّ كَثِيرٌ
مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم] (البقرة:
109) وقوله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
(البقرة: 120) ، وقوله تعالى: [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] (آل عمران: 118) ؛ ولهذا فإن الآلة الإعلامية الغربية تفيدنا
حينما تهاجم الإسلام وأهله بهذه الصفاقة المستفزة؛ لأنَّ ذلك سيكون بإذن الله تعالى
أحد الأسباب الرئيسة التي توقظ قلوبنا، وتبصرنا بحقيقة المعركة القادمة، وتحيي
الوعي في صفوفنا التي علاها الوهن وغشَّاها الخور بسبب الشعارات العلمانية التي
غيبت وعي الأمة، وسلكت بها سبيلاً منحرفاً أبعدها عن منابعها الكريمة وحياضها
الشريفة.
__________
(1) فاز هذا البرنامج بجائزة (جورج بولك) بوصفه أحسن برنامج وثائقي لعام 1994م وفي يناير من عام 1997م أجرت مجلة (Middle East Quarterly) حواراً مع ستيف إمرسون، قال فيه: (التهديد الآن أكبر بكثير مما كان عليه قبل تفجير مركز التجارة العالمي في 1993م، نتيجة ازدياد عدد هذه المجموعات، وازدياد عدد عناصرها باضطراد، وبإمكاني القول إن البنية التحتية لهذه المجموعات قادرة على تنفيذ عشرين تفجيراً شبيهاً بتفجير مركز التجارة العالمي في آن واحد والوضع قد ينذر بالسوء في حال حصول هؤلاء على أسلحة كيماوية أو بيولوجية أو ربما نووية!) .
(2) نشر (جاك شاهين) الأستاذ في جامعة (ساثرن إلينوي) كتاباً بعنوان: (عرب السينما الأشرار: كيف تذم هوليود شعباً؟) بحث في نحو (900) فيلم روائي من أيام السينما الصامتة وحتى اليوم عن شخصية العربي الذي يبرز غالباً بصورة المتخلف النفعي الدموي! .
(3) انظر: مجلة (الصراط المستقيم) الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية، العدد (54) ، ص 19 وأشارت المجلة إلى أن استطلاعاً للرأي أجري في شهر مايو عام 1995م قامت به سبع صحف يومية في الولايات المتحدة الأمريكية أظهر أن تغطية قضايا الإسلام تظهر بشكل سلبي غالباً! .
(4) انظر جريدة التجديد المغربية، العدد (216) ، 20/10/2001م 3/ 8/ 1422هـ.
(5) انظر: جريدة الحياة، العدد (14093) 16/10/2001م 29/7/1422هـ ويا ليت هذا التحريض وقف عند حدود الصحافة الغربية المعادية، بل رأينا بعض الكتاب العلمانيين وأضرابهم في صحافتنا العربية يصطاد في هذا الماء العكر ويُرجف في صفوف العامة، ويهاجم الحركات الإسلامية كلها دون أدنى تفصيل أو تحديد، ويتهمها بالتطرف والظلامية! ثم يُغرِّب بعيداً ويثني على الحضارة الغربية، ويصفها بأرقى أنواع الوصف والتمدّح؛ فالغربيون هم وحدهم بزعمه! من جعل لمواردنا الطبيعية قيمة، وهم وحدهم من سيسعد البشرية بمكتشفاتهم وعلومهم، وهم وحدهم من سيأخذ بيد البشرية إلى عالم أكثر رفاهية ورخاء وحرية! ! وانظر مثلاً إن شئت مقالة بعنوان: (واجب العالم مشاركة أمريكا في إماطة الأذى عن البشرية! !) نشرتها جريدة الشرق الأوسط في العدد (8362) ، 20/10/2001م 4/8/1422هـ وكاتب آخر يكتب مقالة بعنوان: (لاهوت الإرهاب الديني الذي يشوهون به الإسلام) يهاجم فيه الإسلاميين جملة، ثم يحرض على تغيير مناهج التعليم قائلاً: (فقه الموت الذي أنتج هذه الفتاوى الدموية هو الذي ما زال يدرسه أبناؤنا في مدارس العالم الإسلامي وجامعاته باستثناء تركيا وتونس، ومازال ينمي فيهم الميكروفاشية التي تقول سيكولوجيا الأعماق إنها لابدة في لا شعور كل واحد منا لتستيقظ من مرقدها في أول فرصة سانحة حتى البلدان المشتبكة مع الإرهاب مثل مصر والجزائر ما زالت مدارسها وجامعاتها تخرج الإرهابيين الذين شحذ فيهم لاهوت القرون الوسطى! غريزة الموت وحقر في شعورهم ولا شعورهم حياتهم وحياة الآخرين!) جريدة الحياة، العدد: (14091) 14 /10/2001م 27/7/1422هـ ويقول الكاتب نفسه في مقالة أخرى بعنوان: (كيف نجفف ينابيع الإرهاب؟) : (هذا التعليم الذي يعلم النشء التكفير بدل التفكير هو الذي يزرع في الصغار الرغبة في أن يكونوا قتلة وقتلى بتجفيف ضميرهم الأخلاقي، وغسل أدمغتهم، وتلقينهم أن الإنسان مجرد وسيلة لتحقيق غايات دينية ودنيوية تتجاوز فهمه لماذا لا تعقد الأمم المتحدة مؤتمراً لتوحيد برامج التعليم في العالم بتطهيرها من بقايا العصور الوسطى، وتطعيمها بقيم حقوق الإنسان وفي مقدمتها احترام الذات والآخر، وتقديس الحق في الحق، وتشرُّب ثقافة
الحوار! ؟) جريدة الحياة العدد (14070) 23/9/2001م 6/7/1422 هـ.
(6) نشر الكاتب الشهير (بول كيندي) في (الإنديبندنت) 26/9/2001م مقالة بعنوان: (العفريت خارج القمقم) ، قال فيها: (المتاجر والمنازل الخاصة علَّقت إعلانات تقول: السيد الرئيس: فلتقصفهم فوراً!) .(169/104)
المسلمون والعالم
آسيا الوسطى
وتلاقي المصالح على حرب الإسلام
حسن الرشيدي
في السابع من أكتوبر جيَّشت الولايات المتحدة جيوشها، وأقبلت بأساطيلها
وحاملات طائراتها، واستنهضت همم حلفائها أو أذيالها، وقامت بشن غارات
وحشية بالصواريخ والطائرات على بلاد الأفغان في حملة تسميها أمريكا: «حرب
الإرهاب» . وتحير كثير من المراقبين حول حقيقة الأهداف التي تنوي أمريكا
تحقيقها من هذه الحملة وخاصة أنها أي الولايات المتحدة حريصة على إحاطة
هجماتها تلك بالغموض والتعتيم الإعلامي من حيث نوايا هذه الحملة؛ فانهالت كثير
من التحليلات المتضاربة التي تضرب أخماساً بأسداس في حقيقة النوايا الأمريكية،
وهل هدفها فقط تحطيم الإرهاب وجذوره، أم أن الأمر أبعد من ذلك بكثير؟
وباستقراء الاستراتيجية الأمريكية في العالم وخاصة منذ نهاية الحرب الباردة
يمكن تلمس أهداف ما يعرف بقطب العالم الأول أو الأوحد في هذه الحرب الجارية
الآن؛ حيث يمكن تقسيمها لأهداف معلنة وأخرى خفية.
أما المعلنة فظاهرها القضاء على ما يسمى بخطر مجموعة القاعدة وعلى
رأسها أسامة بن لادن وخاصة عندما قال الرئيس بوش في تعبير غريب جداً على
رئيس دولة عظمى وحيدة في العالم: أريد رأس أسامة بن لادن حياً أو ميتاً.. وكأن
القضية تم تشخيصها وتجسيدها في شخص واحد هو ابن لادن إضافة إلى تنظيم
القاعدة.. وهذا هو الهدف الأمريكي قصير الأمد. ومنها أيضا إزاحة حركة طالبان
من السلطة في أفغانستان وتفكيك أوصالها.
أما الأجندة الخفية فعلى رأسها تمدد الهيمنة الأمريكية لتشمل آسيا الوسطى
باعتبار أن الهدف الاستراتيجي لأي حرب يكمن في إحداث تغيير في ميزان القوى
والوضع السياسي في إقليم بكامله، وبذلك أصبحت منطقة آسيا الوسطى التي كانت
من أكثر مناطق العالم انزواء وهدوءاً منذ أكثر من 100 سنة خلت أصبحت واحدة
من المناطق الحامية في عالم اليوم.. ولكن ما سر هذا الاهتمام بهذه المنطقة الذي
يبدو في نظرنا مفاجئاً، ولكنه في واقع الأمر غير ذلك؟
آسيا الوسطى:
يقسم الجغرافيون آسيا إلى ست مناطق جغرافية متباينة هي: جنوبي آسيا
(الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وبوتان، ونيبال، وسريلانكا، ومالديف) ،
وشمال شرقي آسيا (اليابان، والصين، والكوريتان، ومنغوليا) ، وجنوبي
شرقي آسيا (تايلاند، وكمبوديا، ولاوس، وفيتنام، وماليزيا، وسنغافورة،
وإندونيسيا، وبروناي، والفليبين) ، وجنوب غربي آسيا (أفغانستان، وإيران،
والعراق، وتركيا، وسوريا، ولبنان ودول شبه الجزيرة العربية) ، ووسط
آسيا والقوقاز (قازاخستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وقيرغيزيا،
وتركمانستان وأذربيجان، وجورجيا، وأرمينيا) وأخيراً آسيا الروسية بما في
ذلك سيبيريا.
فمع انهيار وزوال الاتحاد السوفييتي في أوائل عقد التسعينيات من القرن
الماضي، ظهرت إلى الوجود حقيقة جيوسياسية جديدة تمثلت في خمس دول أعيد
إدماجها في خريطة العالم المعاصر، وتقع في منطقة وسط آسيا، وكانت تسمى
بالجمهوريات السوفييتية الآسيوية وهي: كازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان،
وطاجيكستان، وقرغيزستان.
هذه الجمهوريات هي في الواقع مناطق تصنف تاريخياً في مربع الإسلام؛
فمن ذا الذي ينسى دور حواضر إسلامية مثل بخارى وسمرقند وغيرها الكثير التي
خرَّجت العلماء والدعاة، وسطرت صفحات مجيدة في الزود عن الإسلام وأهله.
ولكن مع قدوم الحقبة السوفيتية في أوائل القرن العشرين تغيرت كثيراً
ديموغرافية هذه البلدان وتركيبتها السكانية؛ ففي كازاخستان ذات السبعة عشر
مليوناً بلغت نسبة الروس فيها 38% ويشكل الكازاخستانيون40% معظمهم كانوا
بدواً استقروا في القرن العشرين؛ والنسبة الباقية يتوزعها الأوزبكيون والتركمان.
وتأتي أوزبكستان بالدرجة الأولى من ناحية السكان؛ إذ يبلغ تعداد نفوسها 22
مليون نسمة، منهم 71% أوزبكيون والنسبة الباقية تتوزع بين الروس وفئة قليلة
من التركمان. أما تركمانستان التي يبلغ تعدادها أكثر من أربعة ملايين نسمة،
فيحتل التركمان نسبة 72% منها، والروس10% والباقي أوزبكيون. ودولة
قيرغيزستان التي تضم اكثر من أربعة ملايين نسمة فتنقسم تركيبتها السكانية إلى
21% من الروس، 12% من الأوزبك، و 52% من القيرغيز، ولا يزال قرابة
مليون قيرغيزي عبر تخوم الصين. وفي طاجيكستان التي يقترب عدد سكانها من
ستة ملايين نسمة نجد أنهم يتوزعون بين 11% من الروس، 23% من الأوزبك،
85.8 % من الطاجيك، والباقي يتوزعون بين اليوغرور والقيرغيز وسكان
البامير من الشيعة، وللطاجيك في كسينج بانج الصينية أكثر من 300 ألف طاجيكي.
ويتوضح من ذلك أن الخليط السكاني في وسط آسيا تشكل نتيجة الضم القسري
الروسي لهذه الدول، وحرص الاتحاد السوفييتي السابق على خلخلة الهيمنة
الإسلامية على هذه الجمهوريات بتهجير الروس إليها، ومنحهم امتيازات كبرى في
الوظائف العامة وغيرها.
وبالرغم من ذلك توضح دراسة قامت بها جامعة هارفارد الأمريكية أن هذه
الجمهوريات تشترك في العقيدة الإسلامية السائدة وفي اللغة ذات الأصل التركي
(باستثناء طاجيكستان) .
وكان من الطبيعي أن يحدث اندماج بين هذه الجمهوريات الخمس ذات
الأصول الإسلامية؛ ولكن مع تولي النخب العلمانية وأغلبها شيوعية سابقة مقاليد
الحكم في هذه الجمهوريات تراجع الرابط العقيدي إلى أدنى مستوياته؛ وخاصة بين
النظم التي تسوس أمور هذه الدول.
هذه الدول الخمس الفقيرة سياسياً والغنية بثرواتها وموقعها الاستراتيجي؛
فضلاً عن الصحوة الإسلامية القائمة على أراضيها والتي انتعشت بوصول طالبان
لحكم أفغانستان؛ جعلها نهباً لنزاع يجري بين أحلاف توشك أن تقوم في آسيا وبين
أحلاف قائمة تريد أن تزداد قوة على قواعد آسيا. فبين أمريكا وهيمنتها العالمية،
والصين وطموحاتها الإقليمية، والروس وأحلامهم القومية، والإيرانيين وتطلعاتهم
الرافضية، والأتراك وروابطهم العرقية والثقافية بين ذلك كله تتمزق دول آسيا في
الداخل الصغير والخارج الكبير؛ مما أدى إلى انقسام هذه الجمهوريات إلى كتلتين:
الأولى: تحمل اسم: «رابطة (كومنولث) الدول المستقلة» ، وتضم
روسيا وبيلاروس (روسيا البيضاء) وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان
وطاجيكستان.
الكتلة الثانية: وتحمل اسماً غير مطروق إلى حد ما وهو (جووآم) وتضم
جورجيا، وأوكرانيا، وأوزبكستان، وأذربيجان، ومولدوفا.
وهكذا حدث تكريس لانقسام عميق وخطير في منطقة آسيا الإسلامية الوسطى
بعد أن أصبحت كل من كازاخستان وأوزبكستان وهما أكبر وأهم الكيانات السياسية
في المنطقة منضمة إلى كتلتين تقف كل منهما في مواجهة الأخرى.
ولفهم حقيقة الصراع على آسيا الوسطى لا بد لنا من شرح أسباب الصراع
ومكوناته، ثم استعراض الرؤى الاستراتيجية للقوى الطامعة في هذه المنطقة.
أسباب الصراع:
تنحصر أسباب الصراع (مكونات الصراع) في حقيقتين تتنازع عليهما
الأطراف المختلفة لتحقيق الهيمنة، وكما يقول تقرير ألماني: «إن الصمود القوي
للإسلام بعد زوال الاتحاد السوفييتي السابق والاكتشافات النفطية والغازية هما أبرز
عاملين زادا من تحفيز الدوائر الغربية واهتمامها بهذه المنطقة» .
أولاً: المد الإسلامي:
عندما سقط الاتحاد السوفييتي السابق وانهارت العقيدة الشيوعية وجدت شعوب
آسيا الوسطى نفسها في حالة فراغ روحي كبير؛ ذلك أنه على مدى سبعة عقود
متوالية لم تسمح سلطات الكرملين ببناء مسجد، أما المساجد التي كانت قائمة قبل
الثورة البلشفية فقد تحول معظمها إما إلى مخازن ومستودعات أو إلى مكاتب
ومحطات للنقل الداخلي أو حتى إلى مسارح محلية.
السكان الأصليون في هذه الدول يدينون بالإسلام؛ ولكن أكثريتهم لا تفقه منه
سوى بعض العادات والتقاليد؛ وبالرغم من ذلك فإن الأنظمة العلمانية التي استلمت
الحكم بعد الانهيار الشيوعي اتخذت طريق مجابهة الإسلام والجماعات التي تدعو
إليه وإلى تطبيقه في دنيا الواقع، وغرقت الحكومات العلمانية كغيرها في الشرق
الأوسط في مطاردة الحركات الإسلامية المحلية، ويكاد يسود اعتقاد بأن كل من
يتردد على المسجد يشكل قنبلة موقوتة؛ حتى إن لجنة الحريات الدينية في وزارة
الخارجية الأمريكية أخذت تبحث عن أكبر اضطهاد للمسلمين في العالم لكي تخرج
تقريراً متوازناً فلم تجد إلا دولة تركمانستان؛ حيث أدرجتها على لائحة الدول التي
تنتهك الحريات الدينية؛ ليس لأنها تمنع أو تعترض على عمل المبشرين الإنجيليين
القادمين من الولايات المتحدة وأوروبا؛ ولكن لأنها تسرف في اضطهاد المسلمين
من أهل البلاد حسب ما يقول التقرير.
وقد سجلت مؤسسة حقوق الإنسان الدولية ثمانمائة انتهاك للحريات الدينية في
أوزبكستان في عام 1999م وحده وكان معظم ضحاياها من المسلمين أيضاً، وينص
القانون هناك على فرض عقوبة السجن على كل من يصلي في غير المساجد التابعة
للدولة. وشهدت هذه الدولة ظهور الحركة الإسلامية فيها بقيادة جمعة نامنغاني،
بالإضافة إلى ظهور حزب التحرير. وقد دعت الحركتان إلى الإطاحة بالحكومة
العلمانية في أوزبكستان وإقامة جمهورية إسلامية تضم كافة الأراضي الواقعة ضمن
وادي فيرغانا.
ودخلت جمهورية طاجكستان في دوامة حرب أهلية بين الإسلاميين بزعامة
حزب النهضة، والحكومة التي ورثت الحكم في طاجكستان بعد زوال الاتحاد
السوفييتي، وبدا واضحاً أن حكومات هذه الدول تسير في اتجاهين لمحاربة المد
الإسلامي:
الأول: عن طريق المشاركة مع الدول الأخرى مثلما حدث في منتدى شنغهاي
التي تضم عضويته خمس دول هي: الصين وروسيا وطاجكستان وكازخستان
وقيرغستان، في عام 1996م، وقد تمثل الغرض الرسمي لتكوينه في حل
النزاعات الحدودية القائمة والمحتملة بين هذه الدول التي نشأت عقب استقلال
جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. لكن الحقيقة هي أن الهدف الأساس لتوحد
هذه الدول الآسيوية هو مواجهة الحركات الإسلامية في أراضيها؛ فالصين تعاني
مشاكل مع المسلمين في تركستان الشرقية، وروسيا مع الشيشان، ودول آسيا
الوسطى الثلاث تواجه مداً إسلامياً مسلحاً. كذلك حدث اتفاق بين دول (كومنولث
الدول المستقلة) بحضور رؤساء ست دول أعضاء في هذا التجمع هي روسيا
وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا البيضاء وطاجيكستان إلى جانب أرمينيا؛ وذلك
بالاتفاق على تشكيل قوة تدخل عاجلة مؤلفة من وحدات روسية وقرغيزية وكازاخية
وطاجيكية للوقوف بوجه ما وُصف بأنه «غارات المجموعات الإسلامية» .
وكانت الفكرة هي أن تعاون هذه الدول المتجاورة يمكن أن يكون كافياً لعزل
المجاهدين، ولقيت فكرة استخدام أمن الحدود والتعاون الإقليمي بوصفها «تكتيكاً»
وغطاء دبلوماسياً لما يجري من اضطهاد كثيف لسكان هذه الدول لقيت ترحيباً حاراً
من قِبَل الحكومات الشيوعية السابقة لدول آسيا الوسطى التي أقلقها انبعاث حركة
الإحياء الإسلامي من جديد إثر سقوط مبدأ الإلحاد الذي كانت تدعمه وتفرضه
الإدارة السوفييتية السابقة.
والثاني: يتمثل في تشجيع المنظمات التنصيرية البروتستانتية والكاثوليكية؛
حيث تحركت مجموعتان تنصيريتان: واحدة كاثوليكية انطلقت من الفاتيكان ومن
مجلس الأساقفة الكاثوليك في أوروبا. أما الثانية فإنجيلية انطلقت من الولايات
المتحدة وهولندا والدول الإسكندنافية؛ حتى إن تعاظم نشاط هاتين الكنيستين
أغضب الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، وأثار نشاط الحركتين قلق الكرملين الذي
أعطى الضوء الأخضر إلى مجلس النواب الروسي الدوما فأقر المجلس تشريعاً
يحظر التبشير الديني في الاتحاد الروسي. وحدد التشريع الأديان الرسمية للدولة
بثلاثة فقط هي: الأرثوذكسية، والإسلام، والبوذية. وبموجب هذا التشريع الذي
مر علي إقراره عدة سنوات فإن أي عمل تبشيري يقوم به غير أتباع هذه الأديان
الثلاثة يعتبر انتهاكاً للوحدة الوطنية للدولة.
من أجل ذلك نددت الولايات المتحدة بالتشريع الروسي واعتبرته انتهاكاً
لحرية الممارسة الدينية. ومن أجل ذلك أيضاً رفض البطريرك الأرثوذكسي ولا
يزال يرفض مجرد لقاء البابا يوحنا بولس الثاني؛ حتى إن زيارة البابا الأخيرة
إلى أوكرانيا اعتبرتها الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تحدياً لها واستفزازاً،
وتعرضت بسبب ذلك إلى الكثير من النقد الجارح.
هذه الكنائس تتسلح بعاملين أساسيين:
العامل الأول: هو القدرة المالية الإغرائية التي تتمتع بها وخاصة أن معظم
شعوب دول آسيا الوسطى وحتى روسيا نفسها تعاني من الفقر المدقع.
أما العامل الثاني: فهو تفاني الشباب المثقف من المنتمين إلى هذه الكنائس في
العمل التبشيري؛ حتى إن مدرسي اللغة الإنجليزية في العديد من مدارس
كازاخستان مثلاً هم من هؤلاء المبشرين الذين يعملون بتفان دون أن يتقاضوا أي
تعويض.
ثانياً: بحر قزوين:
في قزوين ثروة نفطية يتراوح احتياطيها بين 30 مليار برميل وفق التقديرت
الرسمية، و200 مليار برميل حسب تقديرات وزارة الخارجية الأمريكية في تقرير
قدمته للكونجرس عام 1997م.
وأصل المشكلة حوله تنبع من سببين:
- من يتحكم فيه من الدول المطلة عليه.
- والحاجة إلى مد خطوط أنابيب جديدة لنقله وتوزيعه بأقل تكلفة إنتاجية
ممكنة؛ أي مالك البترول وناقله.
فأما الدول المطلة عليه فهي إيران، أذربيجان، روسيا، كازاخستان،
وتركمانستان، وهي مختلفة فيما بينها: هل بحر قزوين بحيرة أم بحر؟ فاذا كان
قزوين بحيرة فإن الدول المطلة عليه تتمتع بحقوق متساوية في هذه الثروة أياً كان
موقعها من الآبار المكتشفة؛ أي أن الثروة النفطية تصبح ملكاً مشتركاً بين هذه
الدول، وهي إيران، أذربيجان، روسيا، كازاخستان، وتركمانستان.. أما إذا كان
قزوين بحراً، فعند ذلك ترسم الحدود البحرية للدول المشاطئة بموجب القانون
الدولي. وكل ثروة نفطية يعثر عليها في المياه الإقليمية التابعة لكل دولة تصبح
بكاملها حقاً وطنياً لها وحدها.
في نظر إيران وروسيا (وهما الدولتان الوحيدتان اللتان تملكان قوة بحرية في
قزوين) وتركمانستان، أن قزوين بحيرة؛ ولذلك تدعو هذه الدول الثلاث إلى
استثمار مشترك لثروته من النفط والغاز، أما أذربيجان وكازاخستان فتعتبران أنه
بحر، ولذلك اتفقتا على رسم حدودهما البحرية المتقابلة، وعقدت كل منهما اتفاقيات
مع شركات نفط دولية للتنقيب، والاستثمار داخل هذه الحدود. وبموجب هذا
التخطيط يقع حقل النفط الوف الغني جداً في القسم الجنوبي من المياه الإقليمية
لأذربيجان أي قريباً من مياه إيران الإقليمية، وتتولى شركة بريطانية استثماره
بموجب اتفاق عقدته مع حكومة باكو؛ وقد انتقلت المعارضة الإيرانية لهذا الاتفاق
من الاحتجاج الدبلوماسي (سحب السفير) إلى القيام بمظاهرة مسلحة في منطقة
عمل الشركة البريطانية مما حملها على التوقف.
أما مسألة نقله فهي العقبة الرئيسة في تطوير وتصدير بترول منطقة بحر
قزوين؛ فبحر قزوين محاط بالأراضي من كل جانب، وخط الأنابيب الموجود منذ
عهد الاتحاد السوفييتي السابق لا يمكنه نقل سوى حجم محدود من بترول المنطقة
عبر روسيا التي تعتبر في حد ذاتها مشكلة باعتبارها دولة عبور للخط؛ ولذلك فإن
تطوير طرق جديدة للتصدير احتل أسبقية أولى بالنسبة للشركات والدول التي
تستضيفها على حد سواء.
ويكمن في جذور المشكلة أن الخطوط العابرة للحدود تواجه مشاكل اقتصادية
وسياسية؛ فلكي ينجح خط أنابيب يتكلف الملايين يجب أن يحظى بدعم سياسي من
الدول المعنية التي سيمر بها الخط، ويجب أن يكون هذا الدعم قوياً بالقدر الذي
يمكنه أن يتغلب على أي معارضة سياسية من بعض الدول الخارجية، وفي الوقت
ذاته يجب أن يحظى الخط بدعم من الكيانات التجارية التي لها صلة بالمشروع،
وهذه الكيانات التجارية تتكون أساساً من الشركات التي ستقوم بإنتاج ونقل البترول؛
كما تشمل الهيئات التي تمد بالمال أو المستثمرة في المشروع؛ هذا بالإضافة إلى
دعم الدول الأجنبية ذات المصلحة في هذا البترول.
تتمحور مشاريع نقل البترول حول التمدد بثلاثة خطوط برية محمية ومأمونة:
المسار الأول: عبر إيران، ومنها إلى مضيق هرمز ثم المحيط الهندي.
المسار الثاني: عبر روسيا، ومنها إلى البحر الأسود، ثم مضيق الدردنيل
وإلى البحر المتوسط.
المسار الثالث: عبر أفغانستان ثم باكستان إلى الهند والصين وبقية دول
جنوب شرق آسيا وحتى اليابان.
أي أن هذه المسارات يقع أحدها في يد روسيا، والآخر مفتاحه إيران، أما
الثالث فيبدو أن الصين هي المتحكمة فيه.
استراتيجيات القوى المختلفة بالنسبة لآسيا الوسطى:
الولايات المتحدة:
بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الإمبراطورية السوفييتية كان أمام صُنَّاع
السياسة الأمريكية ثلاثة خيارات: إما العزلة والتقوقع داخل أمريكا؛ أو العودة إلى
تعدد القطبية وتوازن القوى، والخيار الثالث هو الزعامة العالمية أو الهيمنة الشاملة،
وهي تقتضي منع ظهور منافس عالمي آخر يكون معادياً لها وتحول في الوقت
نفسه دون العودة إلى تعدد القطبية، وأصبح هذا هو الاختيار الأول بالنسبة للساسة
في أمريكا خاصة منذ عهد ريجان في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
هذا الهدف الأسمى لدى الطبقة السياسية في أمريكا، وهو فرض الهيمنة
الأمريكية على العالم كان لا بد له من استراتيجية لتطبيقه، ويتضمن الشق السياسي
في هذه الاستراتيجية رسم إطار استراتيجي لهذه المناطق تراعى فيه المصالح
الحيوية لأمريكا، وتبقى هذه المناطق تدور دائما في الفلك الأمريكي. وهذا يتم عن
طريق الآلة العسكرية والعقوبات. أما الشق الاقتصادي من استراتيجية الهيمنة
فغرضه السيطرة على رأس المال وربط الاقتصاد العالمي بالاقتصاد الأمريكي عن
طريق آليات ومنظمات.
ومنذ استقلال جمهوريات آسيا الوسطى في بداية التسعينيات وخروجها من
الفلك السوفييتي نظرت الولايات المتحدة لهذه المنطقة بعدة اعتبارات:
1 - أنها منطقة خارج النفوذ الأمريكي ويجب إدخالها في نطاق الهيمنة.
2 - وجود النفط فيها باحتياطات كبيرة؛ وصناع السياسة الأمريكية
حريصون في مجال النفط على الآتي:
أولاً: تعدد مصادر النفط والطاقة عموماً، أي عدم الاعتماد بصفة أساسية
على بترول الخليج الذي يشكل حوالي ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، وهنا نجد
أن نفط بحر قزوين الذي يقدر مخزونه بحوالي 200 مليار برميل هو الداعم
الأساسي لأمن طاقتها.
ثانياً: تعدد طرق النقل وخطوط الإمداد؛ إذ لا يكفي تعدد المصادر بل يجب
تعدد المسارات لتقليل احتمال تعرضها للمخاطر، ومن هنا كان رفض واشنطن
القاطع لمرور خط بترول قزوين بإيران رغم قلة تكاليفه؛ لأنه في النهاية سيصب
في الخليج العربي ليمر بناقلاته مع بترول الخليج عبر مضيق هرمز فتزداد مخاطر
تأثير أي صراعات أو تغييرات في الخليج على إمدادات المصدرين معاً، وللسبب
ذاته رفضت واشنطن مروره بروسيا؛ فالبحر الأسود، فمضيق البوسفور.
ثالثاً: الحصول على النفط بأسعار مناسبة «رخيصة» وهو ما يوفره تعدد
المصادر وتعدد الطرق الآمنة، وقد كان لضخامة تقديرات بترول قزوين الأثر في
دفع الدول المنتجة إلى المسارعة بزيادة إنتاجها قبل دخول بحر قزوين حلبة الإنتاج
فتنخفض الأسعار.
رابعاً: حرمان أعداء واشنطن من تكنولوجيا النفط.
خامساً: استخدام النفط ورقة مساومة لفرض الهيمنة الأمريكية على بقية الدول
الكبرى كالصين واليابان وأوروبا.
ويزيد من الاهتمام الأمريكي وفق مصادر كثيرة أن حاجة الولايات المتحدة
والمجتمعات الغربية للنفط تزايدت؛ ففي عام 1998م بلغت حاجة الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي واليابان 37 مليون برميل من البترول يومياً، استوردت منه 25
مليون برميل، أي أن هذه الدول حصلت على 68% من احتياجاتها من النفط عن
طريق الاستيراد.
وتصدر دول الخليج 18 مليون برميل من إنتاجها النفطي الذي يبلغ 40
مليوناً في اليوم إلى هذه الدول، وحسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية فإن حصة
دول الخليج من تصدير النفط العالمي التي بلغت 45% عام 1998 سترتفع الى 65
% في عام 2020م؛ ومن هنا تأتي أهمية نفط بحر قزوين في العقدين المقبلين.
وتبقى المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة في مسارات نقل النفط؛ فالولايات
المتحدة لا تريد أن تكون مسارات النفط في يد روسيا أو إيران، أو أن يتجه النفط
والغاز إلى الصين وسط غابة من الدول ليس بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية
اتفاقات وتحالفات واضحة ومحددة. وأخيراً نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في
إقناع الشركات البترولية، وكذلك دول منطقة القوقاز، وبحر قزوين، بقبول
مشروعين لنقل النفط والغاز على النحو الآتي:
المشروع الأول: لنقل الغاز عبر خط أنابيب يبدأ من تركمانستان ثم أذربيجان،
وعبر جورجيا، وينتهي عند تركيا، وأطلق عليه اسم: خط أنابيب ترانزكاسبيان
لنقل الغاز.
المشروع الثاني: لنقل البترول الخام عبر خط أنابيب من كازاخستان
وأذربيجان وتركمانستان عبر جورجيا، وينتهي عند تركيا أيضاً، وأطلق عليه اسم
خط أنابيب قزوين لنقل النفط.
وكلا الخطين يمتدان لمسافة طويلة جداً، لا تقل عن 1700 كيلو متراً.
وقد تمت مراسم التوقيع على المشروعين بقصر شيجاران الفخم العثماني الطراز
بالعاصمة التركية أنقرة أواخر الخريف من السنة الفائتة وبحضور رؤساء
جمهوريات: تركيا، أذربيجان، كازاخستان، تركمانستان، جورجيا، والولايات
المتحدة الأمريكية ممثلة في الرئيس السابق بيل كلينتون الذي ذكر في كلمته بعد
انتهاء مراسم الاحتفال: هذان الخطان من الأنابيب يشكلان معاً بوليصة تأمين العالم
أجمع، ويتيح ذلك إمكانية تصدير النفط والغاز عبر بدائل عدة لا تمر بأي عوائق
أو مناطق اختناق.
وبطبيعة الحال فإن (بوليصة) التأمين هذه ستحتاج لحماية، سواء بوسائل
عسكرية لتلك الغابة من خطوط نقل الغاز، والنفط عبر ذلك العدد الهائل من
الكيلومترات، أو بتوافر نفوذ سياسي قوي لا تملكه سوى قوة كبرى تحمي مصالح
الشركات البترولية العاملة هناك وسط الخلافات السياسية والقانونية بين دول القوقاز
وبحر قزوين.
ولو أن الحملة العسكرية الحالية نجحت في تثبيت الوجود الأمريكي في آسيا
الوسطى، فمن شأنه هيمنة الولايات المتحدة على خروج النفط من هذه المنطقة إلى
العالم الخارجي، ثم إن الوجود الأمريكي سوف يهيمن على البديل الآسيوي لمسار
الغاز من القوقاز وبحر قزوين إلى الصين، ويقلب بذلك الحسابات الاقتصادية
الصينية بالنسبة لخطتها التنموية.
3 - احتواء الصين:
بدأ أكبر شرخ في العلاقة الصينية الأمريكية سنة 1996م بإلغاء اتفاق البلدين
على قيام الاتحاد السلمي بين الصين وتايوان وفق مبدأ بلد واحد في نظامين. ومع
تنامي معارضة تايوان للاتحاد أصبحت الصين أكثر ميلاً لاستخدام القوة العسكرية
خصوصاً بعد أن اعتمدت الولايات المتحدة برنامج مبيعات سلاح متطور تقنياً
لتايوان في الوقت الذي تعلن فيه أنها مع إعادة الوحدة سلمياً! مما أفسد المكاسب
التكتيكية الصينية في مضيق تايوان. ومن أحدث التطورات احتمال توسيع أمريكا
لبرنامج الدفاع الصاروخي ليشمل تايوان، وبدء الصين مقاومة التحالف العسكري
الجديد الذي يهدد مصالحها في شرق آسيا. وفي حين كانت الصين وأمريكا تحاولان
حل المشكلات النووية في كوريا الشمالية وجنوب آسيا كان نظام الدفاع الصاروخي
الأمريكي يركز على احتواء الصين بعد زوال الخطر التقليدي السوفييتي نهائياً،
ولم تعد هناك قوة عظمى تستطيع أن تحل محله سوى الصين.
أدرك الصينيون ذلك بوضوح أكبر من السابق، ودفعهم طموحهم أن تكون
دولتهم قوة إقليمية إلى مقاومة محاولة السيطرة الأمريكية التي تقضي على عزمهم
في بناء عالم متعدد الأقطاب. وقام القادة الصينيون منذ منتصف 1996م بالتأكيد
على أن الصناعات الدفاعية لديهم ضيقت الفجوة التكنولوجية مع الغرب، وجعلتها
في وضع مواز لأعلى المستويات في العالم.
وهذا ما دفع وزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون إلى إلغاء بيع التكنولوجيا
العالية إلى الصين. وكان الصينيون في الوقت نفسه مدركين أن الصناعات
العسكرية الأمريكية لا تستطيع الاعتماد على البنتاغون لشراء كل إنتاجها،
وصارت ذات مصلحة كبرى في سوق السلاح الصينية المتوسعة.
بدأ رد الفعل الصيني على الضغط الأمريكي بلعب ورقة السوق الصينية،
فتوجه الزعماء الصينيون إلى أوروبا وصناعاتها الدفاعية في الوقت الذي شجعوا
الصناعات الدفاعية الأمريكية للضغط لتغيير موقف واشنطن تجاه هذا الموضوع،
وإن كان احتمال النجاح في ذلك ضعيفاً. ثم لجأت الصين إلى إسرائيل، فعقدت
معها صفقة لتحديث صواريخ بتقنيات أمريكية متقدمة؛ مما أغضب واشنطن؛
فعنفت تل أبيب على تسريبها بعض أسرار سلاحها الذي قد يستخدم ضد حليفتها
تايوان، وهذا ما أثبتته الأحداث اليوم.
وجاءت حادثة طائرة التجسس الأمريكية لتشعل حرب المعلومات بين الصين
وأمريكا.
4 - وقف المد الإسلامي في وسط آسيا:
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أضحى الإسلام العدو الأول لأمريكا والغرب،
والمتتبع للدراسات المنشورة والمعبرة عن مفكري الغرب أمثال فوكوياما
وهنتنجتون يلحظ أن تلك المسألة باتت تسيطر على عقلية الغرب؛ وهذا الموضوع
ليس جديدًا ولكنه منذ قرون طويلة وهو يستعر في نفسية الغربي حتى إن مصطلح
الحروب الصليبية الذي أطلقه بوش مؤخراً واصفاً حملته على أفغانستان، وكذلك
تصريحات رئيس وزراء إيطاليا بريلسكوني تدخل في هذا السياق.
والتحذير من الإسلام السياسي في منطقة آسيا الوسطى جاء في الدراسة
المنشورة بقلم شيرين أكنر بمجلة هارفارد الأمريكية للشؤون الدولية في عدد ربيع
عام 2000م يصف الاتجاه إلى الإسلام في جمهوريات آسيا الوسطى: أنه يشمل
حركة مترامية وفضفاضة تضم عديداً من دعاة التجديد والإصلاح، ومنهم من تتمثل
مقولاته وطروحاته في العودة إلى الجذور النقية الأولى للعقيدة الإسلامية، وفي هذا
الإطار لا يتورع هؤلاء الدعاة عن توجيه النقد إلى الحكومات وسياساتها، بل عن
أن يرشقوا بألسنة حداد أحياناً بعض قادة المؤسسات الدينية؛ إذ يتهمونهم بالفراغ
الروحي وربما التواطؤ مع الساسة والنخب الحاكمة. وعندنا أن رصد ومتابعة هذه
الجماعات أمر مطلوب علمياً وأكاديمياً وسياسياً من أجل فهم دعواتهم واستباق ما قد
تسفر عنه هذه الدعوات، وبعضها مقبول ومفهوم، وبعضها الآخر متشدد إلى حد
منذر بأخطار التطرف والغلو في تشكيل مصائر الشعوب المسلمة في آسيا الوسطى؛
فمن هؤلاء من يبشرون بالإسلام النقي الخالص الذي يتخذ إطاره المرجعي في
حقبة الراشدين رضوان الله عليهم، ومنهم من يتبنى دعوة إحياء الخلافة بوصفها
مؤسسة سياسية، ومنهم من يرفض استخدام العنف سبيلاً لإقامة النظام الإسلامي
الذي ينشده.
ويلاحظ أن تواجد أمريكا في آسيا الوسطى من خلال القواعد التي وفرتها لها
حكومات هذه الدول أتاح لها احتواء المد الإسلامي ليس في هذه الجمهوريات فقط
ولكن في أفغانستان وباكستان كذلك.
ويجب علينا ملاحظة مدى خطورة هذه الدراسات وأثرها الكبير في صناعة
القرار السياسي الأمريكي.
هذه الأهداف الاستراتيجية الأربعة كانت أهم ملامح المصالح الأمريكية في
آسيا الوسطى، ولتحقيق تلك الاستراتيجية اعتمد الرئيس الأسبق بوش الأب على
التحالفات الثنائية التي كانت قائمة آنذاك.
واستندت هذه الرؤية وفق دراسات كثيرة ومتنوعة إلى فرضية مفادها أن
أفضل بنية أمنية للمنطقة تتألف من تكوين يشبه المروحة قاعدته في أمريكا الشمالية
وتمتد أذرعه غرباً عبر المحيط الهادي إلى شركاء الولايات المتحدة في منطقة آسيا -
المحيط الهادي.
وقد أكدت إدارة كلينتون حينها على التحالفات الأمنية القائمة رغم ذلك،
ودعت إلى إيجاد آلية جديدة ذات طبيعة متعددة الأطراف لدعم الترتيبات الأمريكية
الثنائية عند التعامل مع المشاكل الأمنية القائمة والمحتملة؛ حيث كان ذلك واضحاً
في سياسة كلينتون الذي قال: «إن التحدي الذي يواجه منطقة آسيا في هذا العقد
يتمثل في وضع ترتيبات جديدة متعددة الأطراف لمواجهة التهديدات المتعددة
والظروف المختلفة، وهذه الترتيبات تعمل كصفائح الدروع الواقية المتداخلة بعضها
بعض؛ إذ يوفر كل منها الحماية المنفردة لكل دولة على حدة، ثم تتكامل معاً لحماية
الجسد بكامله ضد التهديدات الأمنية المشتركة التي تواجهنا. يجب أن تتحول
التهديدات الأمنية التي تواجهنا إلى تهديدات تشاركنا بها آسيا. إن المصيرين ينبغي
أن يرتبطا معاً؛ هذه استراتيجيتنا» ، إلا أن وجود هذه المنظمات أو الترتيبات بدأ
يقلق الولايات المتحدة عندما أوشكت أن توجه طاقاتها للاستفادة من اقتصادها ودفع
القوات الأمريكية ومصالحها بعيداً عن المنطقة.
فما الذي أثار قلق واشنطن بعد أن كانت سياساتها الهادفة تدمجها تدريجياً في
التشكيلات الآسيوية؟
ظهور التحالفات والاتفاقيات الاقتصادية الجديدة كان له الأثر في التعجيل
بالوجود الأمريكي المكثف في المنطقة وتغيير منهجها في تنفيذ استراتيجيتها من
سياسة الخطوة خطوة إلى سياسة الاقتحام.
كان أولاً التحالف الاقتصادي التجاري الـ «آسيوي روسي إسلامي» على
طريق الحرير الجديد، وهو مشروع طموح لربط البنى التحتية للنقل والطاقة بين
دول القارتين: أوروبا وآسيا.
ثم وقعت روسيا والصين معاهدة الصداقة الاستراتيجية قبل أشهر معدودة؛
حيث هدفت إلى تقوية التعاون السياسي والاقتصادي بين الدولتين في مجالات النقل
والطاقة والتجارة والتبادل التكنولوجي والتسليحي خلال العشرين سنة المقبلة.
وكانت كل من الهند وروسيا قد أسستا في 15 مايو الماضي «اتحاد النقل
الأورو آسيوي» ، وهي اتفاقية ترانزيت تجارية لنقل البضائع، ويعني فتح ممر
تجاري بين آسيا وأوروبا يختصر مدة نقل البضائع بمقدار الثلث، وفي الوقت نفسه
تقوية التحالف الإيراني الدولي؛ يضاف إلى ذلك تأسيس منظمة شانغهاي للتعاون
في يونيو الماضي.
وعلاقات الدول حول بحر قزوين أو وسط آسيا بدول آسيا المحيطة متشابكة
ومعقدة لتعقد المصالح وتشابكها، وقد غيرت فترة ما بعد الحرب الباردة طبيعة هذه
العلاقات مثلما تغيرت التحالفات الاقليمية.
ولذلك رأت أمريكا ضرورة التدخل العسكري مباشرة في هذه المنطقة.
ويلاحظ أن قرار التدخل جاء منذ مدة طويلة ولكن كان في انتظار الظروف
المناسبة؛ حيث جاءت عمليات تفجيرات 11 سبتمبر مسوِّغاً للتدخل المنتظر.
روسيا:
لا تزال روسيا تميل إلى بسط هيمنتها على دول ما يعرف بالاتحاد السوفييتي
السابق وبالذات منطقة آسيا الوسطى؛ وذلك من خلال منظور استراتيجي قائم على
عدة ركائز أهمها:
* الأمن القومي الروسي؛ حيث يعد علماء الاستراتيجية منطقة آسيا الوسطى
بمثابة البطن لروسيا.
* تخشى روسيا من خطورة امتداد النزاعات داخل هذه الجمهوريات إليها.
* الدفاع عن مصالح الأقليات الروسية الكبيرة العدد داخل هذه الجمهوريات.
مارست روسيا شتى الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية لجعل هذه
الدول تدور في فلكها ولا تبتعد عن سياساتها؛ وفي هذا الصدد نشرت صحيفة
«إزفستيا» الروسية وثيقة صادرة عن هيئة الشؤون الدولية لمجلس السوفييت
الأعلى جاء فيها: «بصفته وصياً معترفاً به دولياًً على الاتحاد السوفييتي السابق،
ينبغي على الاتحاد الروسي أن يستند إلى مبدأ يقوم على أساس إعلان المجال
الجيوسياسي للاتحاد السوفييتي بأسره دائرة نفوذ حيوية، وينبغي على روسيا أن
تحصل من المجتمع الدولي على الاعتراف بدورها الضامن للاستقرار السياسي
والعسكري في أراضي الاتحاد السوفييتي السابق. ومن المناسب الحصول من
بلدان» مجموعة السبع «على المساعدة للقيام بهذه المهمة، وحتى لتمويل قوات
التدخل الروسية» .
لقد تعامل الروس مع هذه المنطقة في مرحلتين: الأولى كانت تقوم على
الاعتماد على روسيا وحدها في فرض الهيمنة والبروز بدور شرطي المنطقة التي
يضبط إيقاعها، وقد سلمت الولايات المتحدة لروسيا بهذا الدور وخاصة في عهد
بوش الأب وكلينتون؛ حيث أثبتت السياسات الروسية حينئذ نجاعتها؛ حيث تمكنت
من بسط هيمنتها على طاجيكستان وجورجيا وباتت روسيا البيضاء محمية طبيعية
للروس، ولكن مع بروز العامل الإسلامي بوضوح والتأثير الكبير لطالبان على
المنطقة، وعجز روسيا وحليفاتها من المعارضة الشمالية الأفغانية على بسط هيمنتها
على أفغانستان مفتاح استقرار المنطقة ومنذ عدة سنوات كشفت الصحيفة الروسية
«روسيا» عن وجود تقرير أعدته المخابرات الألمانية لا يستبعد أن يتورط الكرملين
في حرب قد تشتعل في جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية سابقاً بعد أن تقوم
جماعات مسلحة بغزو أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزيا. وتشير الجريدة إلى أن
خبراء جهاز المخابرات الألمانية يتكهنون بأن تغزو هذه الجماعات منطقة آسيا
الوسطى في الربيع المقبل ويقدرون عدد المهاجمين بـ 2 إلى 3 آلاف شخص.
والهدف من الغزو المرتقب وفقاً لتقرير المخابرات الألمانية والذي سوف تسانده
حركة طالبان الأفغانية هو إقامة الخلافة في المنطقة؛ ولهذا لن تجد روسيا مفراً من
الدخول في المعارك.
وتابعت الصحيفة الروسية قولها: إن وزير الخارجية الألماني (يوشكا فيشر)
أثناء زيارته الأخيرة لروسيا أبلغ القيادة الروسية بتقرير الاستخبارات الألمانية؛
وأعرب عن قلقه من الوضع في آسيا الوسطى. ويرى الخبراء الألمان أن القوات
الروسية الموجودة في آسيا الوسطى حالياً لا تستطيع صد غزو المجموعات المسلحة
ولا بد لها من جلب المزيد من قواتها. كما تشير الاستخبارات الألمانية إلى
صعوبة محاربة الغزاة في هذه المنطقة لكونها منطقة جبلية لا يمكن استخدام الأسلحة
الثقيلة فيها.
لقد ظهر جلياً للغرب العجز الروسي عن صد الأخطار المحدقة بآسيا الوسطى؛
وبذلك بدأت روسيا تدخل المرحلة الثانية وهي الدخول في المظلة الأمريكية على
وسط آسيا مع حفظ مصالحها في المنطقة، ويبدو أن هناك صفقة بين أمريكا
وروسيا تحصل روسيا بمقتضاها على منطقة القوقاز تاركة آسيا الوسطى للولايات
المتحدة بالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية الناشئة مع هذا التحالف، وتخفيف ديونها
المتراكمة، واحتمال انضمامها لحلف الناتو.
إيران:
نظرت إيران لمنطقة آسيا الوسطى من خلال منظورين:
منظور اقتصادي يرمي إلى استغلال ثروات المنطقة بشتى الوسائل؛ فقد
اقترحت إيران مد خطوط سكك حديدية وطرق مواصلات ووسائل اتصال بينها
وبين الجمهوريات الداخلية في آسيا الوسطى، وصولاً إلى ربطها بمياه الخليج،
ومن ثم المياه الدولية الحرة. وقد تجسد هذا العرض في اتفاقية وقعت في ديسمبر
1991 تلتها اتفاقية أخرى بين إيران وروسيا لإنهاء القيود الحدودية بين إيران وتلك
الجمهوريات. كذلك تحدث مسؤولون إيرانيون عن إنشاء سوق اقتصادية مشتركة
تتطور في مرحلة لاحقة إلى توحيد الأهداف السياسية فيما بين هذه الدول، وأشاروا
إلى التكامل فيما بين دول الإقليم دون الإيحاء بأن هذا يتضمن إنشاء سلطة إقليمية
فوق الدول. وقد دفعت إيران في هذا الاتجاه من خلال ضمن قنوات أخرى منظمة
التعاون الاقتصادي التي كانت إيران قد أسستها مع تركيا وباكستان من قبل؛ فعقب
انضمام أفغانستان لهذه المنظمة سرعان ما لحقت بها الجمهوريات المسلمة في آسيا
الوسطى وأذربيجان في نوفمبر 1992م، إلا أن إيران نسقت فيما بعد مع باكستان
سياسات البلدين تجاه جمهوريات آسيا الوسطى؛ وخاصة الأسواق والاستثمارات
هناك، في وجه المنافسة التركية. ورغم ظروفها الاقتصادية الصعبة وتعثر تنفيذ
مشروع مد خط الغاز الطبيعي التركماني ما زالت إيران تمتلك موارد كافية لتقديم
بعض أشكال الدعم لشركائها الجدد في منظمة التعاون الاقتصادي.
ولكن العقبة الكأداء بالنسبة لإيران هو نفط بحر قزوين؛ حيث تسعى إيران
إلى امتلاك الجزء الكبير منه أو على الأقل مروره عبر أراضيها.
أما المنظور الثاني فهو منظور مذهبي يرمي إلى نشر المذهب الرافضي في
هذه الجمهوريات، ولم تتردد إيران في المساعدة في بناء مساجد ومدارس دينية
شيعية في مختلف الجمهوريات المسلمة في الإقليم، وبدأت في توجيه إرسال إذاعي
موجه لهذه الجمهوريات.
وبحلول نهاية 1992م، نجحت إيران في إنشاء تجمع ثقافي للدول الناطقة
بالفارسية، (إيران، أفغانستان وطاجيكستان) . ونظمت إيران لاحقاً مؤتمراً حول
التقاليد اللغوية والأدبية الفارسية ودعت إليه الجمهوريات المسلمة المستقلة في آسيا
الوسطى وبحر قزوين.
ويجب أن نذكر هنا عقد الحكومة الإيرانية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة
للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) مؤتمراً حول التعاون الثقافي والتربوي والعلمي
مع جمهوريات آسيا الوسطى في نوفمبر 1992م، مع التركيز على اللغة الفارسية
والثقافة الإيرانية باعتبارها روابط إقليمية. وقد ركز المسؤولون الإيرانيون الذين
خاطبوا المؤتمر على مركزية دور الإسلام الرافضي في علاقة بلادهم مع دول
الإقليم؛ حيث إن العامل الديني يحمل في طياته عنصري التاريخ والثقافة. وقد دعا
أولئك المسؤولون بمن فيهم وزير الخارجية د. علي أكبر ولاياتي إلى إحياء الهوية
الأصيلة لشعوب الإقليم؛ وتعزيز التعاون الإقليمي والأمن الجماعي من خلال إقامة
إطار مؤسسي للتعاون الاقتصادي والسياسي والعلمي والثقافي الذى سيكون معادياً
للهيمنة ويجمع بين خصوصية احتياجات كل دولة والمصالح المشتركة فيما بين دول
الإقليم. وقد أشار الدكتور ولاياتي إلى الدوافع العرقية، والثقافية، التاريخية
والدينية للدور الإيراني في آسيا الوسطى وبحر قزوين مؤكداً على الانسجام الثقافي
في ضوء الإرث الرافضي والثقافة الإيرانية واللغة الفارسية بوصفها سبلاً لتحقيق
الاستقلال السياسي وتأكيده.
ولذلك تقوم استراتيجية إيران للحفاظ على هذه المصالح على التحالف مع
روسيا، وتشديد التعاون معها لتكون من خلالها جسراً إلى هذه الجمهوريات،
فشجبت أعمال المجاهدين في الشيشان وطاجيكستان وغيرهم من الجماعات الجهادية
داخل هذه الجمهوريات. يقول أحد زعماء حركة النهضة الإسلامية الطاجيكية:
«سمعت كثيراً عن تورط إيران في حركة الإسلام السياسي في آسيا الوسطى؛
ولكنني لم أعثر على أي علامة أو أثر مع الأسف؛ إن إيران ترفض عموماً التدخل
في شؤون آسيا الوسطى» .
وفي بداية الحرب الأمريكية على الشعب الأفغاني تخوفت إيران من مقدم
القوات الأمريكية وتأثيرها على مصالحها في المنطقة، ولكن يبدو أن الإدارة
الأمريكية قد طمأنت إيران لتشركها في اللعبة القادمة في آسيا الوسطى طرفاً معترفاً
به له دور إقليمي في الترتيبات التي ستتم في المنطقة على غرار الدور الروسي؛
وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة.(169/109)
المسلمون والعالم
القضية الكشميرية
رهينة نتائج العدوان الأمريكي على أفغانستان
كمال حبيب
ربما تكون القضية الكشميرية هي أكثر القضايا تأثراً بما يجري على الأرض
الأفغانية منذ العدوان الأمريكي عليها في 7/10/2001م، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن
قضية كشمير رهينة بالفعل بالنتائج التي تسفر عنها الحرب الدائرة على أرض
أفغانستان بين أمريكا القوة العظمى في العالم وبين حركة طالبان الإسلامية ... ذلك
أن الحرب الأمريكية على طالبان هي في الواقع حرب على العالم الإسلامي كله،
بل هي حرب على الإسلام ذاته.
وتبدو القضية الكشميرية أكثر القضايا شبهاً بالقضية الفلسطينية؛ فهناك قوة
احتلال ذات طابع استيطاني ترفض الاعتراف بحق أهل البلاد الأصليين في الحرية
والاستقلال، وهناك قوة تحرر وطني يقودها المجاهدون لانتزاع حقهم في تقرير
مصيرهم وإعادة بلدانهم المغتصبة، وهناك إعلان للجهاد من منطلق إسلامي
لاستعادة الحقوق المشروعة للشعبين من القوى الاستعمارية، وهناك ما يمكن أن
نطلق عليه: (انتظام صفوف قوى الاستكبار المجرمة في مواجهة جهاد المسلمين
لاستعادة أوطانهم المحتلة) ؛ فنجد تحالف الهند والكيان الصهيوني وروسيا في
مواجهة المجاهدين في كشمير؛ بينما في فلسطين نجد نفس القوى تتقدمهم جميعاً
أمريكا. بيد أن القضية الكشميرية تبدو في تقديرنا أكثر تأثراً بالحملة العسكرية
الأمريكية الظالمة على أفغانستان للأسباب الآتية:
أولاً: التجاور الجغرافي بين كشمير وأفغانستان وبينها وبين باكستان، ولا بد
أن يؤثر هذا التجاوز بقوة في الأعمال السياسية ونتائجها وخاصة أن مصير باكستان
الحليف الاستراتيجي للمجاهدين في كشمير بيد الأمريكان، وتعد أرض باكستان
نقطة انطلاق للهجمات العسكرية على طالبان، كما أن طالبان كانت تمثل سنداً
معنوياً واستراتيجياً هائلاً للقضية الكشميرية.
ثانياً: الارتباط السياسي والعسكري بين القضية الكشميرية والقضية الأفغانية
من ناحية، وبينهما وبين ما يجري على الساحة الباكستانية؛ وخاصة أن الأحزاب
الإسلامية في باكستان لها ما يمكن أن نطلق عليه «رءوس حراب جهادية» في
كشمير باعتبارها قضية إسلامية وقضية أمن قوي لباكستان لا يمكن التفريط بها أو
التغاضي عنها؛ ولذا فكل الحركات الجهادية في كشمير موجودة في باكستان،
وتتخذ من خطوط التماس المباشرة مع الهند ساحة للمواجهة والاستنزاف للقوة
الهندوسية العسكرية.
ثالثاً: دخول الهند وروسيا ودول آسيا الوسطى العلمانية في حسبة استراتيجية
مع التحالف الذي تقوده أمريكا ضد الإرادة الإسلامية في أفغانستان تحت دعوى
محاربة الإرهاب، ولكل منها وجهته وهدفه؛ فالهند دخلت وقدمت تسهيلات
لوجستية ومخابراتية بلا حدود من أجل مقايضة ما تقدمه بتنازلات أمريكية في
المسألة الكشميرية، كما أن روسيا تهدف إلى الضغط على المجاهدين في الشيشان.
أما دول آسيا الوسطى فهي تسعى بالإضافة للتقرب من أمريكا إلى القضاء
على الحركات الإسلامية في المنطقة والتي تمثل تهديداً حقيقياً للأنظمة العلمانية
الديكتاتورية في منطقة آسيا الوسطى؛ بيد أن الذي يجعل المسألة الكشميرية هنا
أكثر حساسية لما يجري في تقديرنا هو دخول باكستان الحليف الاستراتيجي للقضية
الكشميرية في الحلف الأمريكي ضد الإرهاب المزعوم؛ وهو ما يفرض مأزقاً على
النظام العسكري في باكستان بقيادة «برويز مشرف» ؛ إذ إنه سيجد نفسه بين
تيارين أحلاهما مرّ وهما: إما التفريط بالقضية الكشميرية وفق ما تمليه قواعد
اللعبة الاستراتيجية الجديدة للتحالف الذي تقوده أمريكا، وإما الحفاظ على مصالحه
الحيوية وأمنه القومي الذي يجعل من كشمير فناء متقدماً لباكستان لا يمكن التلاعب
به أو التفريط فيه. ويكفي أن نشير إلى أن مياه باكستان تأتي بالأساس من كشمير،
كما أن القضية الكشميرية في الوجدان الباكستاني هي قضية وطن لا يمكن لأي نظام
سياسي أن يساوم عليه.
مفهوم الإرهاب وتأثيره على القضية الكشميرية:
تشن أمريكا حملتها العسكرية تحت عنوان الحرب على الإرهاب، ومن
المؤكد أن أمريكا اندفعت في حملتها وأطلقت شعاراتها تحت ضغط ضربة يوم
الثلاثاء 11/9/2001م، القاتلة التي استهدفت العصب الاقتصادي والعسكري للقوة
الأمريكية، لكن أمريكا لم تحدد ما هو المقصود بالضبط بالإرهاب، وسرعان ما
ربطت بين الإرهاب والجمعيات الإسلامية الخيرية والجهادية، وأعلنت عن 27
جمعية إسلامية مسجلة قانونياً أنها مطلوبة لأمريكا باعتبار أن لها صلة بأسامة بن
لادن، ومن بين هذه الجمعيات «حركة المجاهدين الكشميرية» التي يتزعمها
الشيخ فضل الرحمن خليل باعتبار أن الشيخ كان قد وقَّع على البيان الذي أطلقه بن
لادن عام 1998م والذي أطلق عليه: «إعلان الجبهة العالمية لقتال اليهود
والصليبيين» ، وبعدها قامت السلطات الباكستانية بالقبض على الشيخ والإعداد
لمحاكمته باتهامات وصفت بأنها خيانة عظمى، وقرر البنك المركزي الباكستاني
تجميد حسابات حركة المجاهدين في إطار التعاون الباكستاني مع الحملة الأمريكية
على الإرهاب المزعوم، كما اعتبرت باكستان الحركة محظورة رغم أنها كانت
تعمل بشكل قانوني في باكستان.
وتسعى الهند إلى تبني المفهوم الأمريكي للإرهاب الذي يعتبر بعض حركات
التحرر الوطني إرهابية رغم أن المواثيق والأعراف الدولية تؤكد حق حركات
التحرر الوطني في مقاومة المحتل حتى الحصول على حق تقرير المصير؛ ومن
هنا فإن الهند تحاول أن تصم حركات المجاهدين في كشمير بأنها حركات إرهابية
بلا قضية، وحين زار «كولن باول» وزير الخارجية الأمريكي الهند مؤخراً قال:
«الولايات المتحدة تتعهد بمحاربة كل أنواع الإرهاب بما في ذلك الذي يستهدف
الهند» ، وأضاف باول في مؤتمر صحفي مشترك مع «جاسوانت سينغ» وزير
الخارجية الهندي «إننا نستنكر الإرهاب أينما وجد سواء الذي حدث في 11 سبتمبر
أو الأول من أكتوبر في» سرينجار «في إشارة إلى هجوم المجاهدين الذي
استهدف المجلس التشريعي في كشمير المحتلة، وأكد باول إن أمريكا والهند
متحدتان ضد الإرهاب بما في ذلك الإرهاب الموجه إلى الهند، مشيراً إلى أن
البلدين يقفان كتفاً إلى كتف في مواجهة الظاهرة، وفي هذا السياق قبل رئيس
وزراء الهند» أنال بيهاري فاجباي «الدعوة التي وجهها له» باول «لزيارة
أمريكا الشهر الحالي، كما وقعت الهند وأمريكا اتفاقية لمكافحة الإرهاب بهدف تبادل
المساعدة وتقوية التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا، وقال وزير الخارجية الهندي:
» إننا نعتبر زيارة باول جزءاً من الحملة على منفذي الهجمات على الديمقراطية
والحضارة، ونتفهم ذلك، ونؤكد أن موقفنا ثابت، ونقف جنباً إلى جنب معهم في
مواجهة التهديد العالمي. وقد شهدت الفترة الأخيرة تصعيداً في العمل الجهادي
الكشميري، كما شهدت توتراً في العلاقة بين الهند وباكستان واتهامات متبادلة
بإطلاق النار على طول خط الهدنة الذي يفصل بين البلدين، وأطلق بعض
المتعصبين من الهندوس في الحكومة الهندية مثل وزير الداخلية «لال كريشنا
أوفاني» [1] تصريحات لا بد من أخذها بعين الاعتبار مثل قوله: «إن الحرب
على الإرهاب سوف تستهدف المقاتلين في كشمير» ، وأكد أن بلاده تلقت تأكيدات
أمريكية بأنه سيتم توجيه ضربات لمعسكرات تدريب الكشميريين في باكستان،
وقال في تصريحات صحفية: «إن العملية الأمريكية ستشمل توجيه ضربات لوقف
ما وصفه بالإرهاب عبر الحدود في ولاية جامو وكشمير» [2] ، ونشطت الهند
للمطالبة بتشريع قوانين جديدة دولية تسهل تسليم المطلوبين في أعمال إرهابية
معتبرة أن الطريقة الوحيدة لذلك هي تفعيل دور الشرطة الدولية [3] .
وقال وزير الدفاع الهندي (جورج فرنانديز) : «إن مواقع المجاهدين سوف
تقصف بالطائرات» ، بينما قال رئيس وزراء القسم المحتل من كشمير فاروق عبد
الله [4] : «الهند ستهاجم المجاهدين داخل معسكراتهم في باكستان معتبراً أن عهد
التفاوض قد انتهى» .
ورغم أن تصريحات المسؤولين الهنود المتشددة ليست جديدة؛ لكن سياق
اللحظة الحاضرة يوحي بأن الهند تحاول الاستفادة من الحملة العالمية التي تقودها
الولايات المتحدة الأمريكية ضد طالبان وتوسيعها لتشمل كشمير؛ بحيث يوصَم
المجاهدون بالإرهاب. ويجري الضغط على باكستان لرفع يدها عن مساندة القبضة
الكشميرية، ويتأكد الأمر الواقع بما انتهت إليه الأوضاع هناك بحيث يبقى ثلثا
كشمير المحتلة تحت القضية الهندية، والثلث الآخر تحت القبضة الباكستانية
رغم أن الطرف الأصيل في الموضوع هو شعب كشمير نفسه الذي يسعى
للحصول على حريته وتكوين دولته المستقلة عن جارتيه الكبيرتين الهند وباكستان،
كما أن الأمم المتحدة أصدرت ما لا يقل عن اثني عشر قراراً رسخت بشكل كامل
ونهائي مبدأ حق تقرير المصير لمواطني كشمير عبر الاستفتاء، وتريد الهند أن لا
يكون للأمم المتحدة أو أي أطراف دولية أخرى صلة بالقضية الكشميرية؛ إذ
تعتبرها مسألة ثنائية بينها وبين الباكستان تحل عبر موازين القوى العسكرية
المدعومة بالتحالفات الدولية.
سيناريوهات القضية الكشميرية:
1 - تبدو مسألة استمرار المجاهدين الكشميريين في جهادهم لاستنزاف القوة
العسكرية للهند قضية مصيرية لأجل فرض وضع اقتصادي عليها لا يمكنها معه
الاستمرار في احتلال كشمير، أو بمعنى آخر: تعظيم الأحلاف العسكرية للوجود
العسكري الهندي في كشمير المحتلة؛ وخاصة أن أكثر من نصف الجيش الهندي
موجود بكشمير (حوالي 600 ألف جندي وهي أعلى نسبة عسكرية في العالم بل
وفي التاريخ) فلكل مدني واحد ستة جنود، وبقدر ما يمثل هذا عسكرة وعدواناً
هندياً غاشماً لكنه في الوقت نفسه يعني تكلفة اقتصادية؛ فالتقديرات تشير إلى أن
الجيش الهندي يكلف ميزانية الهند 250 مليون روبية يومياً مع أن المواطنين الهنود
الذين يعيشون تحت خط الفقر يبلغون حوالي 350 مليوناً، هذا بالإضافة إلى أن
استمرار الجهاد الكشميري في مواجهة الاحتلال العسكري الهندي يهدد شرعية
وجودها؛ بحيث تبدو الهند التي تقدم نفسها للعالم باعتبارها أكبر ديمقراطية
قوة احتلال غاشمة عنصرية تحاول فرض وجودها الهندوسي على أغلبية مسلمة
ترفضها، كما أن العنف والعدوان الهندي منذ تفجر ثورة المجاهدين عام 1989م
وضع الجنود الهنود في وضع نفسي سيئ جعلهم يفرون ويرفضون الخدمة في
كشمير، ولو حاولنا استقصاء التقارير المحايدة التي تتحدث عن الوحشية الهندية
لكتبنا مجلدات؛ لكن يكفي أن هذه التقارير تصف أعمال الاغتصاب والقتل بدون
محاكمة والتعذيب الوحشي والتطهير العرقي بأنه أسوأ من أعمال النازية، ونستشهد
هنا فقط بما كتبه صحفي أمريكي محايد هو «مارتن شوغرمان» حيث قال: «إن
ما يحدث في كشمير المحتلة ليس له مثيل في أي مكان آخر؛ فهو أسوأ مما يحدث
في البوسنة؛ ففي البوسنة يوجد على الأقل مناطق آمنة للمسلمين؛ غير أنه لا يوجد
للمسلمين ملاذ البتة في كشمير» .
فاستمرار الجهاد في كشمير سوف يفرض على أرض الواقع ما تريد الهند نفيه
وهو وجود تصفية لشعب كامل أعطته قرارات الأمم المتحدة الحق في تقرير مصيره،
وهذه القضية ليست مجرد مسألة ثنائية بين الهند وباكستان لكنها قضية دولية
عادلة يهدد استمرارها الأمن والاستقرار في آسيا والعالم.
2 - بالطبع تسعى الهند ومعها الحلف الروسي تتبعه دول آسيا الوسطى ثم
الكيان الصهيوني [5] إلى محاصرة المجاهدين والقضاء عليهم عبر التعاون العسكري
والمخابراتي؛ كي يسعى هذا الحلف نفسه لمحاصرة طالبان والقضاء على نظامها
الإسلامي.
فالعلاقة وثيقة جداً بين أفغانستان المجاهدة والإمارة الإسلامية الأفغانية وبين
الجهاد في كشمير، وتكفي الإشارة إلى أن تفجر المقاومة الكشميرية الجهادية جاء
أثراً من آثار الجهاد الأفغاني ضد الروس، ويطل هذا الحلف الإجرامي الذي تقوده
الهند برأسه اليوم ليلقي بثقله خلف الحملة العسكرية الأمريكية للقضاء على إمارة
أفغانستان الإسلامية واستبدالها بنظام سياسي آخر؛ وجزء من هذه المسألة في
الإدراك الهندي مرتبط بحرمان المجاهدين في كشمير من قاعدة إسلامية خلفية تمدهم
بالزاد المعنوي والعسكري معاً.
3 - الموقف في باكستان التي دخلت جزءاً من التحالف الدولي ضد حكومة
أفغانستان يبدو كأنه نوع من مقايضة هذا الموقف باستمرار الدعم الباكستاني لحركة
المقاومة في كشمير؛ ذلك لأن مسألة كشمير بالنسبة لباكستان هي قضية مصير
وحياة وأمن قومي حقيقي لا يمكن التفريط فيها أو المساومة. وفي الواقع فإن حركة
الجهاد الكشميرية هي حركة مستقلة بالأساس فجَّرها الكشميريون، ثم استغلتها
باكستان بوصفها جزءاً من حربها وصراعها مع الهند. وفي الواقع فإن الحركات
والجماعات الإسلامية في باكستان لها امتداداتها أو ما يقابلها في كشمير، كما أن
المواطن الباكستاني يشعر أن قضية كشمير هي مسألة حياة أو موت بالنسبة له، وقد
قال محمد علي جناح أول رئيس جمهورية لباكستان بعد الاستقلال عن كشمير:
«إنها شريان باكستان؛ فثلاثة أنهار تمدنا بالماء تنبع منها» . وهنا فإن باكستان لا
يمكنها المساومة على كشمير، بل ربما يكون موقفها كما نعتقد جزءاً من محاولة
الحفاظ على وضعها قوياً في كشمير.
وفي كل الأحوال فإن استمرار الجهاد الكشميري بلا هوادة هو ضمان بقاء
القضية الكشميرية حية لا تموت.
__________
(1) يطلق عليه المسلمون في كشمير المحتلة: «عدواني» ؛ لعداوته الشديدة للإسلام.
(2) لمجلة «ييرنس ستاندر» الهندية التي تصدر بالإنجليزية.
(3) وذلك في اجتماع الجمعية العامة للإنتربول بالعاصمة المجرية بودابست.
(4) رئيس وزراء عميل للهند في كشمير.
(5) تشير التقديرات إلى أن الوجود العسكري الصهيوني في كشمير يبلغ حوالي 1500 ضابط؛ بدؤوا بـ 300 ثم تضاعفوا خمس مرات.(169/121)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@yahoo.com
الجنون الأمريكي!
لست متأكداً بعد أن العالم قد استوعب بالفعل ما تعنيه أحداث 11/9/2001م،
بالنسبة للأمريكيين. نحن لا نقاتل الآن من أجل كوسوفا، أو البوسنة، أو
الصومال، أو الكويت، نحن نقاتل من أجل وطننا، والأمريكيون مستعدون للقتال
من أجل وطنهم والموت في سبيله، والقضية هي كيف نخوض هذه الحرب،
ونحقق للأمريكيين ما يريدون، وهو ليس الثأر بل العدالة والأمن، إن هذا يستدعي
أسلوباً جديداً للاستعداد للحرب وأسلوباً جديداً في خوضها. نحن نحتاج إلى مقدرة
عالية على التركيز، ودرجة قصوى من الجدية، وبعض الجنون، ومنذ هذه
اللحظة، سنفعل كل ما تقتضيه الضرورة للدفاع عن نهجنا في الحياة، وأن الرعب
يجب أن يكون منذ هذه اللحظة من نصيب الأشرار، وألا يفارقهم هذا الرعب في
كل لحظات صحوهم. في الواقع نحن سنطلب مساعدة عصابات المخدرات؛ فهي
تملك الخصائص الثلاث التي نحتاجها ونرغب فيها. أي إنها تعرف كيف تدبر
شبكة سرية وكيف تستأصل شبكة منافسة، وهي معروضة للبيع وتعرف كيف
تشتري الآخرين، وهي تعرف أننا عندما نقول إننا نريد شخصاً ما «حياً أو ميتاً»
فإننا نعني أننا نريده «ميتاً أو ميتاً» . إن الرئيس وأعوانه، وهم يخوضون هذه
الحرب، يفعلون خيراً كثيراً لأنفسهم وللآخرين، بالإقلال من الكلام، فهم بدؤوا
منذ الآن يناقضون أنفسهم ويقيدون أياديهم وأرجلهم، وأقول لهم: كونوا كالإرهابين،
ودعوا أفعالكم تتحدث عنكم؛ فهذا أفدح ثمناً وأبلغ إرهاقاً للعدو.
[توماس فريدمان، رئيس تحرير نيويورك تايمز، جريدة الشرق الأوسط، العدد
: (8344) ]
وقذف في قلوبهم الرعب
في جميع الأحوال، لا يمكننا أن نلوم هذا الشعب المنغلق إلى حد بعيد على
تخبطه لقد كانت المفاجأة أكبر من قدرته على الاستيعاب، كما أنها أدخلته في حالة
من الرعب والصدمة النفسية التي تجعله غير قادر تماماً على مواجهة الأمر عما
يعلنه السياسيون؛ فإن المواطن الأمريكي بالفعل يشعر بالهزيمة، ويواجه آلاماً
نفسية ليس مؤهلاً للتفاعل معها والمحصلة أن مراكز العلاج النفسي فتحت أبوابها
لاستقبال الآلاف ممن أصابتهم صدمات نفسية عميقة، سواء ممن شاهدوا الحادث،
أم ممن فقدوا أحد أقاربهم أو عزيزاً عليهم في مواقع التفجيرات وبعضاً من أفراد
قوات الإنقاذ أنفسهم لم يسلموا من الصدمات النفسية الحادة. عشرات المستشفيات
الأمريكية فتحت مراكز لعلاج طوارئ الحالات النفسية وسجلت أعلى معدلات
إصابة بما يسمى مرض (صدمة القذائف) ويذكر أنها لم تسجل مثل هذه الأعداد
من قبل حتى ولا بعد معركة بيرل هاربر التي قتل فيها الآلاف من الأمريكيين.
وفي تعريف جمعية الطب النفسي الأمريكية لما يسمى بصدمة القذائف أو الـ
ptsd، إنه اضطراب عصبي أو عقلي يتميز بفقدان الذاكرة أو الكلام أو البصر
ويصيب بعض الجنود وحديثي العهد بالمعارك ولم يكن غريباً أن تذكر بعض التقاير
الإخبارية، أن العديد من رجال الشرطة والإنقاذ والإطفاء رفضوا العودة إلى مكان
الحادث بالقرب من مبنى مركز التجارة العالمي، في محاولة لما أسماه علماء النفس
بحماية الذات من أي صدمة عاطفية ونفسية مشابهة لما حدثت لهم في أول تجربة
مع الحادث وهذه الحالة تمثل أحد أعراض «صدمة القذائف» .
[مجلة الأهرام العربي، العدد: (236) ]
بلا أخلاق وبلا فضيلة
قال ايجل بيرجر، وزير الخارجية السابق، في حديث تلفزيوني هنا في
أمريكا: «لا مفر من أن نقتل بعض الذين لم يعلنوا الحرب علينا، بالإضافة إلى
الذين أعلنوا الحرب علينا» وهناك جانب آخر خطير لهذا الغضب الأمريكي، وهو
الاعتقاد أن أمريكا دائماً على حق، وأن غيرها دائماً على خطأ، ذلك جزء من
التراث الديني والحضاري القائم على الاعتقاد بأن مجرد تأسيس أمريكا شيء عظيم،
وفي هذا قال الصحافي رتش لاوري: (يجب أن لا نعلم الحرب فقط، لكن يجب
أن نعلنها على أسس (أخلاقية) . نحن لا نحارب حباً في الحرب والقتل بل لنشر
الفضيلة في العالم، ونحن لا نغضب؛ لأن الأذى أصابنا بل لأنه أذى الجاهلين
والضالين) .
[مجلة المجلة، العدد: (1130) ]
الورطة الأفغانية
يجب على الجمهور الأمريكي ونحن جميعاً أيضاً، أن نكون مستعدين لإمكانية
أن تتدهور المرحلة البرية في «القصة الأفغانية» إلى ورطة مرهقة ومتواصلة
على النمط الفيتنامي، إن تشكيلة القوات واستعدادات القوات الأمريكية البرية تدل
على أن الجيش الأمريكي سيقلد أسلوب «فتش ودمر» الذي اتبع في فيتنام،
والأسلوب يستند على سلسلة طويلة ومتواصلة من الاجتياحات المنقولة جواً في
عمق أراضي العدو في محاولة لتمشيط مناطق وتشخيص قوات معادية في حالتنا
هذه رجال طالبان ورجال القاعدة ومفاجأتهم في المغارات وأماكن الاختباء أو خلال
تنقلهم، وإبادتهم، وذلك من منطلق الأمل بأن عدد الجثث وسط العدو سيؤدي في
نهاية الأمر إلى تآكل في قوته وإرادته القتالية وانحلاله. إن نجاح القوات البرية في
تنفيذ عمليات تمشيط وتدمير منوط بالمعلومات الأمنية والاستخبارات الدقيقة
والحديثة التي تتلقاها، وإذا لم يتم الحصول على هذه المعلومات فإن القوة ستقع في
الفخ، أو ستذهب مع الريح مثلما حصل في فيتنام، وسيكون الطقس عائقاً كبيراً
أمام العمليات البرية، ويحدو الأمريكيين الأمل بأن تنفذ المهمة الدنيا - إسقاط
حكومة طالبان - بالسرعة الممكنة، وإلا فإن الأمريكيين سيبقون لفترة طويلة هي
الأراضي الأفغانية.
[إليكس فيشمان، يديعون أخرونوت، عن القدس العربي، العدد: (3862) ]
مكافأة باكستان
قالت صحيفة (تايمز اوف انديا) في رسالة لـ (شيداناند راجغاتا) مراسلها
بواشنطن أن الخطة البعيدة المدى للولايات المتحدة بعد القضاء على أسامة بن لادن
ونظام طالبان هو احتواء القوة النووية الباكستانية أو القضاء عليها إن تطلب الأمر.
وقالت الصحيفة إن إدارة بوش تعمل حالياً خلف الكواليس لتأمين نوع من السيطرة
على القوة النووية الباكستانية، وقالت الصحيفة نقلاً عن مصادر أمريكية إن
باكستان قد رفضت بالفعل عرضاً أمريكياً بتوفير تدابير لأمن وحماية قوتها النووية
لاعتقاد إسلام أباد بأن هذا سيفتح الباب لتفتيش قوتها النووية بصورة دقيقة،
ولتهدئة مخاوف واشنطن أكدت لها باكستان بأنها قد أتقنت نظام التحكم والمراقبة
لتأمين أسلحتها النووية؛ ولذلك فلا ضرورة لأي قلق أمريكي، ولكن أمريكا لم
تقتنع بهذا الكلام حسب قول الصحيفة الهندية التي نقلت عن خبراء أمريكيين في
مجال انتشار الأسلحة النووية أن هناك خطراً حقيقياً لوقوع هذه الأسلحة في أيدي
«الجهاديين» الذين يمكن أن يطيحوا بحكومة الجنرال مشرف، ونقلت الصحيفة عن
بعض الخبراء الأمريكيين قولهم بأنه يجب على الولايات المتحدة تعبئة قواتها لنقل
الأسلحة النووية الباكستانية إلى مكان آمن لو نجح «الجهاديون» في الاستيلاء على
السلطة هناك، ونقلت الصحيفة عن جون وولفستال الخبير بمؤسسة كارنيغي قوله:
لو لم توافق باكستان على قبول المساعدة الدولية لتأمين برنامجها النووي فينبغي
على الولايات المتحدة أن تضع فوراً خططاً طارئة تشمل القدرة على تعبئة قوات
التدخل السريعة في باكستان للبحث عن أية مواد نووية مفقودة والاستيلاء عليها،
وعليها - كخيار نهائي - القيام بنقل هذه الأسحلة غلى مكان آمن خارج باكستان.
[جريدة الرياض، العدد: (12174) ]
البحث الحربي! !
تنفق الولايات المتحدة الأمريكية مليارات الدولارات من ميزانيتها للبحث
العلمي على أبحاث لتطوير أجهزة ليرز وأجهزة أخرى متقدمة بهدف كسب حروب
القرن الواحد والعشرين، وحسمها بسرعة أكثر من ذي قبل. وقال مسؤولون
في وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون إن البحث يشمل أسلحة لم يحددوها تستخدم
براً وبحراً وجواً وتحت الماء وفي الفضاء، وتهدف إلى التصدي لتهديدات نشأت
خلال العقد الماضي، ومن المتوقع أن تزيد ميزانية البحث العلمي لعام 2002م،
في إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش وفقاً لخطة مؤقتة بنسبة 58.1 % لتصل
إلى 48.6 مليار دولار. يعمل في البنتاجون 28500 عالم ومهندس موزعين
على 84 مختبرًا ومركزًا للأبحاث والتطوير، وهذا العدد شكل انخفاضا قدرة 42%
عن عدد الباحثين الذين كانوا يعملون في البنتاجون نهاية عام 1990م؛ حيث بلغ
عددهم 43800 شخص.
موقع قناة الجزيرة
www.aljazeera.nat
تكاليف الأمن
قدر خبراء اقتصاديون تكاليف فاتورة تعزيز الإجراءات الأمنية الأمريكية
والخسائر المتوقعة عن خفض الإنتاج الأمريكي بسبب رعب الجمرة الخبيثة بنحو
110 مليارات دولار. وازدادت الإجراءات حدة بسبب الخوف من الإرهاب
البيولوجي وعدوى الجمرة الخبيثة، وأقام عدد من الشركات نظاماً لمراقبة البريد
وهو الوسيلة الوحيدة للإرهابيين البيولوجيين لنشر العدوى حتى الآن، وبدأ إغلاق
عدد من مكاتب البريد والفرز يتسبب في عرقلة التوزيع مما أدى إلى تخوف من
تأخر في عمليات سداد الفواتير بالنسبة لشركات عديدة.
[جريدة البيان، العدد (7799) ]
الكراهية لماذا؟ !
إن وصف الإرهابيين بأنهم مجرد مجانين هو محاولة لخداع النفس، ابن لادن
وأتباعه المتشددون هم نتاج مجتمعات محبطة تولد غضبهم، إن أمريكا بحاجة إلى
خطة لا تؤدي فقط إلى هزيمة الإرهاب، بل وإلى إصلاح العالم العربي. لنتوجه
مباشرة إلى السؤال: لماذا يكرهنا الإرهابيون؟ بوسع الأمريكيين أن يردوا على
السؤال بسؤال آخر: ولماذا يهمنا ذلك؟ إن رد الفعل الفوري على قتل 5000 من
الأبرياء هو الغضب وليس التحليل، ولكن الغضب ليس كافياً لمساعدتنا على تجاوز
ما سيكون بالتأكيد صراعاً طويلاً، إننا بحاجة إلى أجوبة، والأجوبة التي سمعناها
حتى الآن مريحة لنا، ولكنها معهودة، إننا نمثل الحرية وهم يكرهونها، إننا أغنياء
وهم يحسدوننا، إننا أقوياء وهم يمقتون ذلك. كل هذا صحيح، ولكن هناك بلايين
الفقراء والضعفاء والمظلومين في أرجاء العالم المختلفة، ولكنهم لا يحولون
الطائرات إلى قنابل، إنهم لا يقتلون أنفسهم في عمليات تفجير انتحارية من أجل
قتل آلاف المدنيين.
أسامة بن لادن لديه الجواب: إنه الدين؛ فبالنسبة إليه وإلى أتباعه هذه حرب
مقدسة بين الإسلام والعالم الغربي، المشكلة ليست في أن أسامة بن لادن يعتقد أن
هذه حرب دينية ضد أمريكا، إنها تتمثل في أن ملايين المسلمين في العالم الإسلامي
يبدو أنهم يوافقونه على ذلك. حين تصل إلى الشرق الأوسط تتبدى لك بألوان
ناصعة كل صور الخلل التي تتجمع في ذهن الناس حين يفكرون في الإسلام اليوم؛
ففي إيران ومصر وسوريا والعراق والأردن والأراضي المحتلة والخليج، تجد
بعثاً قاسياً للأصولية الإسلامية، كما تجد مشاعر فجة من العداء لأمريكا في كل
مكان. هذه بلاد الانتحاريين مفجري القنابل وحارقي الأعلام الأمريكية، والخطب
الملتهبة. إن شيئا حدث في تلك الأرض، ومن أجل فهم جذور العداء لأمريكا في
الشرق الأوسط، فإن علينا أن نبحث لا في السنوات الـ 300 الماضية، بل في
السنوات 30 الأخيرة.
[فريد زكريا، رئيس تحرير مجلة نيوزويك، العدد (71) ]
هو تحالف الشمال
تشكلت الجبهة المتحدة الإسلامية القومية لتحرير أفغانستان أو ما يعرف
بالتحالف الشمالي عقب التقدم السريع والكاسح لحركة طالبان وسيطرتها على
العاصمة الأفغانية كابول عام 1996م؛ فبينما كانت الفصائل الأفغانية مختلفة فيما
بينها على الحكم في البلاد عقب انسحاب الاتحاد السوفييتي عام 1989م، وسقوط
آخر حكومة موالية لها والتي كان يترأسها نجيب الله عام 1992م، توحدت هذه
الفصائل على هدف مرحلي واحد هو انتزاع كابول من بين فكي طالبان، وتأجيل
الصراع البيني إلى إشعار آخر. وفيما يلي معلومات حول التحالف والفصائل
المشاركة فيه وأبرز قادتها ومناطق نفوذها وأخيراً قدراتها العسكرية.
- الجمعية الإسلامية الأفغانية: تأسست على يد غلام محمد نيازي، وخلفه
في قيادتها برهان الدين رباني منذ عام 1972م حتى الآن. وقد شهدت الجمعية
انقساماً عام 1975م، على خلفية التعامل مع نظام الرئيس الأفغاني آنذاك محمد
داود، وتشكل عن هذا الانقسام حزب جديد بقيادة قاضي محمد أمين أطلق عليه اسم
الحزب الإسلامي والذي اختير قلب الدين حكمتيار رئيساً له فيما بعد.
- الاتحاد الإسلامي لتحرير أفغانستان: وظهر هذا الحزب عام 1985م، بعد
أن تم حل الاتحاد الذي ضم عدداً من الأحزاب الإسلامية واختير في حينه لرئاسته
عبد رب الرسول سياف الذي كان رئيساً لوزراء أول حكومة منفى للمجاهدين بعد
انسحاب الجيش الأحمر من أفغانستان.
- الحركة الإسلامية الشيعية: وتأسست عام 1980م، حيث قام مؤسسها
آصف محسني بتوحيد عدد من الأحزاب الشيعية الصغيرة، إلا أنه لم تربطه بإيران
علاقة قوية إذ كان محسني على خلاف مع خامنئي، وتعد الحركة من أحد حلفاء
الجمعية الإسلامية التاريخيين.
- الحركة القومية: أسسها الجنرال عبد الرشيد دوستم عام 1992م، بعد
تمرده على آخر حكومة شيوعية في كابول برئاسة نجيب الله.
- حزب الوحدة الإسلامي: أسسه عبد العلي مزاري عام 1990م، ويتألف
من ثمانية فصائل شيعية، وقتل عبد العلي على يد طالبان عام 1995م، ويترأس
الحزب الآن عبد الكريم خليلي.
- مجلس شورى الشرق: وهو استمرار لمجلس شورى جلال أباد، ومن أهم
شخصياته حاجي عبد القدير الذي كان والياً على ننجهار، وعاصمتها مدينة جلال
أباد بعد سقوطها في أيدي المجاهدين.
أهم شخصيات التحالف:
1 - برهان الدين رباني: وهو ثاني رئيس لدولة المجاهدين في كابول بعد
سقوط الحكم الشيوعي فيها عام 1992م، وخرج من كابول عام 1996م، ثم ظل
متنقلاً في ولايات الشمال التابعة له، وينتمي إلى العرقية الطاجيكية السنية.
2 - عبد الرشيد دوستم: أقوى قائد عسكري في آخر حكومة شيوعية في
أفغانستان، وينتمي إلى العرقية الأوزبكية السنية.
3 - عبد الكريم خليلي: زعيم حزب الوحدة الشيعي وقاد معارك عديدة ضد
طالبان في ولاية باميان تراجع بعدها إلى المناطق الشمالية، ثم عاد إلى باميان من
جديد. وينتمي إلى الهزارة.
4 - عبد رب الرسول سياف: سجنته الحكومة الشيوعية في كابول في الفترة
من 1974-1980م، وبعد خروجه من السجن انضم إلى المجاهدين وأسس
حزبه الإسلامي، وبعد سيطرة طالبان على كابول انضم إلى الجبهة المتحدة، ويقيم
حالياً في قاعدته بمنطقة قلبهار شمالي كابول، وينتمي إلى العرقية البشتونية.
5 - يونس قانوني: من أهم رجال القائد الراحل أحمد شاه مسعود وكان له
دور رئيسي في الاتصالات بين الجمعية الإسلامية وجهاز المخابرات في كابول،
وتولى عدة مناصب منها رئيس اللجنة السياسية لمجلس القادة الميدانيين الذي شكله
مسعود في الثمانينيات، وكان وزيراً للداخلية، وينتمي إلى العرقية الطاجيكية
السنية.
6 - محمد فهيم: تولى منصب وزير الدفاع لحكومة الجبهة المتحدة خلفاً
للقائد أحمد شاه مسعود، كما تولى في السابق العديد من المناصب أهمها
مسؤول المخابرات ونائب أحمد شاه مسعود، وينتمي غلى العرقية الطاجيكية
السنية.
[جريدة السبيل، العدد (407) ]
الحلف والحلفاء.. والوفاء
1 - الفاتيكان: سوَّغ أمين سر الفاتيكان (وزير الخارجية) المونسنيور جان
لوي توران التدخل الأمريكي في أفغانستان معتبراً أن الحكومة الأمريكية «تمارس
حقها في الدفاع المشروع عن النفس» . وقال توران في حديث إلى صحيفة
«لاكروا» إن «من أسباب الأزمة الضباب الذي يلف مسيرة السلام في
الشرق الأوسط» داعياً إلى معاودة إطلاق ديناميكية السلام التي يفترض أن تقود إلى
إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة «. وأعرب عن اعتقاده بأن استعمال القوة في
أفغانستان» له أهداف محددة بوضوح «، وحض على» حماية أرواح
الأبرياء وعدم استهداف المدنيين مباشرة في الهجومات «، وإلى عدم اللجوء إلى
استعمال أسلحة الدمار الشامل. وقال:» إن الحكومة الأمريكية مثل بقية الحكومات
تمارس حقها في الدفاع المروع عن النفس؛ لأن من واجبها ضمان أمن
مواطنيها «.
[جريدة الحياة، العدد: 14090]
2 - بريطانيا: أعلنت بريطانيا أن أعداداً من قواتها العسكرية التي شاركت
مؤخراً في مناورات بسلطنة عمان سوف تبقى في المنطقة لفترة أطول، وسوَّغت
المملكة المتحدة هذا القرار بأنها تريد أن تشرك تلك القوات مع القوات الأمريكية
التي تهاجم أفغانستان، ولم يذكر المسؤول البريطاني عدد القوات التي قررت بلاده
إبقاءها في سلطنة عمان، ولا المواقع التي ستتواجد فيها بالضبط، واكتفى بالقول:
إن تلك القوات ستتعاون مع القوات الأمريكية في إطار التحالف الذي تم تشكيله
للقضاء على بن لادن.
وكان الوزير المسؤول عن القوات المسلحة البريطانية آدم إنجرام قد صرح
أن مائتين من القوات الملكية البريطانية الخاصة سترسل للمشاركة مع القوات البرية
الأمريكية في أفغانستان، وأن أربعمائة من تلك القوات الخاصة سيعودون إلى
بريطانيا من سلطنة عمان، وسيكونون على أهبة الاستعداد لهذه المشاركة في أي
لحظة.
موقع قناة الجزيرة
www.aljazeera.net
3 - فرنسا: أفادت مصادر فرنسية أن باريس أرسلت إلى منطقة بحر العرب
باخرة للقصف والالتقاط هي الباخرة» لوبوغنفيل «كما أنها أرسلت طائرة» سي
160 «غابريل للتنصت الإلكتروني، وبالإضافة إلى ذلك فإن طائرات تزويد
الوقود وأخرى للتجسس قامت بعدة مهمات فوق أفغانستان. وقال شيراك إن هذه
الوسائل الإضافية» تسمح لفرنسا بأن تساهم بشكل أفضل في العمليات الجارية في
أفغانستان للقضاء على الشبكات الإرهابية وعلى الدعم الذي تحظى به «.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8368) ]
4 - ألمانيا: أعلن المستشار الألماني جيرهارد شرويدر أن ألمانيا» ستقدم
قريباً مساعدة أكثر تكاملاً تشمل التصعيد العسكري «في المعركة ضد الإرهاب.
وقال شرويدر إن ألمانيا» ستقدم قريباً مساعدة أكثر تكاملاً من تلك التي طلبت
منا حتى الآن، تشمل الصعيد العسكري «. وتابع الزعيم الألماني متحدثاً عن
الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الإرهاب:» إننا ندافع عن أسلوبنا في
العيش وهذا حق لنا «.
[جريدة البيان، العدد: (7792) ]
4 - الاتحاد الأوروبي: أكد رئيس وزراء بلجيكا جي فيرهوفستاد أن الاتحاد
الأوروبي متمسك بمحاربة كافة أشكال الإرهاب في جميع أنحاء العالم وخاصة
أفغانستان من خلال القضاء على تنظيم القاعدة الذي رفض نظام طالبان الحاكم في
كابول تسليم قادته. وأضاف: إن تنظيم القاعدة هو المسؤول عن العمليات
الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية في 11 /9 /2001م.
موقع شبكة محيط
moheet.com
5 - أستراليا: أعلنت أستراليا أنها سترسل 1550 جندياً من القوات الخاصة
للانضمام للحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد أفغانستان. وقال
رئيس الوزراء الأسترالي جون هوارد في خطاب متلفز لشعبه إن حكومته سترسل
جنوداً للمشاركة في الحرب التي تخوضها أمريكا، وبريطانيا ضد الإرهاب.
ويشمل التعهد الذي قدمه رئيس الوزراء الأسترالي للرئيس الأمريكي جورج
دبليو بوش، إرسال أربع طائرات مقاتلة طراز إف. إيه 18 وطائرتي استطلاع
طراز (بي 3) بعيد المدى، وطائرتين للتزود بالوقود في الجو، وثلاث فرقاطات
مسلحة بصواريخ موجهة؛ إلى جانب سفينة قيادة.
وتضم الفرقة الأسترالية المزمع إرسالها 150 جندياً من قوات الصاعقة من
فوج الخدمات الجوية الخاصة (ساس) الذين من المحتمل أن يشاركوا في غارات
» اقتحام «شديدة الخطورة ضد ميليشيا طالبان الحاكمة ومقاتلي أسامة بن لادن في
أفغانستان. وقال هوارد» لا شيء يمكن أن يوصف بأنه رمزي في هذه المساهمة،
إنها مساهمة ذات مغزى ومهمة للغاية تقدمها أستراليا «محذراً من احتمال سقوط
قتلى من الجنود الأستراليين.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcarabic.com
6 - كندا: أفادت مصادر في هيئة قناة السويس أن الفرقاطة الكندية» إتش
إم سي اس هاليفاكس «عبرت القناة باتجاه منطقة الخليج للانضمام إلى التحالف
العسكري المضاد للإرهاب.
وكانت مصادر رسمية كندية أعلنت أن الفرقاطة كانت تشارك في مهمة لحلف
شمال الأطلسي في البحر الأبيض المتوسط لكنها تلقت أوامر بالتوجه إلى الخليج
وتعهدت كندا المساهمة في التحالف العسكري المضاد للإرهاب عبر ست سفن
حربية وست طائرات نقل أو مراقبة وألفي جندي حداً أقصى.
ويجري حالياً تمركز القوات الكندية المشاركة في التحالف، وأطلق عليها اسم
» أبولو «أ. ف. ب.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7798) ]
7 - روسيا: قالت كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن
القومي: إن روسيا كانت كريمة جداً، وأعربت عن استعدادها للتعاون في المجالات
المختلفة بما في ذلك تبادل المعلومات الأمنية وفتح المجال الجوي وإعلان الاستعداد
للمشاركة في عمليات البحث والإنقاذ، مضيفة أنها لا تستبعد ظهور أشكال أخرى
للتعاون بقدر توسع إطار عملية مكافحة الإرهاب.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8358) ]
8 - أوزبكستان: توصلت الولايات المتحدة لاتفاق مع حكومة أوزبكستان
يتبح للقوات الأمريكية شن هجمات على أفغانستان من الأراضي الأوزبكية.
أعلن الجانبان أن الاتفاق يهدف لمكافحة الإرهاب الدولي، ويعطي القوات الأمريكية
الحق في استخدام المجال الجوي الأوزبكي، وقاعدة جوية داخل أوزبكستان.
وتوفر أوزبكستان التي يبلغ عدد سكانها: سكان كاليفورنيا 25 مليون نسمة،
معبراً استراتيجياً إلى شمال أفغانستان بحدود مشتركة تصل إلى 85 ميلاً، ويظل
حجم الوجود العسكري الأمريكي الكلي هناك غير واضح، ولكن كل المؤشرات تفيد
بأنه في تزايد وسيظل في مكانه لأشهر وربما لسنوات.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcarabic.com
9 - جورجيا: أكدت مصادر مطلعة أن جورجيا ذهبت أبعد من دول آسيا
الوسطى بكثير من خلال تقديم تسهيلات غير مشروطة للقوات الأمريكية في
الأراضي والأجواء الجورجية، وقد تم التوصل إلى ذلك إبان لقاء الرئيس
الجورجي شيفاردنادزة الذي زار الولايات المتحدة الأمريكية بالرئيس الأمريكي
جورج بوش.
[جريدة الرياض، العدد: (12158) ]
10 - طاجيكستان: قررت طاجيكستان، الجمهورية السوفييتية السابقة، فتح
مجالها الجوي للطائرات الأمريكية، وعززت إجراءاتها الأمنية على الحدود مع
أفغانستان تخوفاً من عمليات تسلل وتدفق اللاجئين إثر الضربات الأمريكية
والبريطانية، وأشار بيان الحكومة الطاجيكية أن دوشانبيه قررت أيضاً فتح
مطاراتها للطائرات الأمريكية» وقت الضرورة «. ووصل خبراء أمريكيون إلى
طاجيكستان في وقت سابق لدراسة إمكان استخدام المطارات الطاجيكية، واعتبر
خبير عسكري غربي في دوشانبيه أن القواعد الجوية الطاجيكية قد تكون مفيدة جداً
للأمريكيين في حال أرادوا استخدام طائرات هجومية لقصف مواقع برية في
عملياتهم ضد أفغانستان.
[جريدة البيان، العدد: (7783) ]
11 - أذربيجان: اعترف نوروز ماميدوف مسؤول قسم العلاقات الخارجية
في إدارة الرئيس الأذربيجاني بأن بلاده تفتح مجالها الجوي للطائرات الأمريكية
المشاركة في عملية مكافحة الإرهاب في أفغانستان. وقال ماميدوف في تصريحات
لوكالة إيتار تاس:» لقد استخدمت الطائرات التي نقلت معونات إنسانية إلى
أفغانستان وكذلك معدات لدعم عملية مكافحة الإرهاب مجالنا الجوي وستواصل
ذلك «.
وكان الرئيس الأذري حيدر علييف أكد بأن أذربيجان تقف في صف واحد مع
الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب الدولي، وقال إن أذربيجان ستساهم بقسطها
في مكافحة الإرهاب.
[جريدة البيان، العدد: (7796) ]
12 - تركيا: ذكرت وسائل الإعلام التركية أن تركيا تستعد لإرسال وحدات
من القوات الخاصة إلى أفغانستان لتدريب قوات التحالف الشمالي التي تسعى
للإطاحة بنظام طالبان الحاكم. وقالت صحيفة» الجمهوريت «التركية إنه سيتم
إرسال 300 جندي كحد أقصى من الوحدات الخاصة لتدريب قوات التحالف
الشمالي على مكافحة الأعمال الإرهابية، وبرغم أن الحكومة التركية أعلنت بالفعل
عن استعدادها لتدريب قوات التحالف الشمالي غير أن مسؤولين أكدوا أن الولايات
المتحدة لم تتقدم بطلب في هذا الصدد.
[جريدة البيان، العدد: (7784) ]
13 - إيران:
أ - ذكرت صحيفة» فايننشل تايمز «البريطانية أن إيران مستعدة للتعاون
مع الولايات المتحدة في حملتها لمكافحة الإرهاب شرط أن تكون بقيادة الأمم المتحدة،
وصرح محسن رضائي، أمين عام مجلس تشخيص النظام في إيران للصحيفة
أن طهران قد تتقاسم مع واشنطن المعلومات التي تجمعها أجهزة الاستخبارات.
وقال رضائي:» إذا كان الأمريكيون يجدون أنفسهم متورطين في أفغانستان،
فهم حقاً بحاجة إلى إيران «، وهذه المرة الأولى التي يلمح فيها مسؤول إيراني
من مستوى رفيع إلى احتمال أن تعمل إيران والولايات المتحدة اللتان لا تقيمان
علاقات دبلوماسية منذ عام 1980م، حسب الصحيفة.
واعتبرت» فايننشل تايمز «أن كلام رضائي الذي قاد حراس الثورة
الإسلامية (باسدران) خلال 16 عاماً يحمل على الاعتقاد بأن إيران تريد اغتنام
الفرصة التي أوجدتها اعتداءات 11/ 9 /2001م لوضع حد لعشرين عاماً من
المواجهة بين البلدين.
[جريدة القدس العربي، العدد: (3865) ]
ب - أعلن كمال خرازي وزير الخارجية الإيراني إثر محادثات أجراها مع
الرئيس الطاجيكي علي رحمانوف أن مكافحة الإرهاب» ضرورية ومبررة «.
وشدد على أن طهران ترفض أن تضم الحكومة الأفغانية المقبلة ممثلين عن حركة
» طالبان «التي قال» إن لها ماضياً أسود «. من جهتها أكدت الولايات المتحدة أنها
ليست قلقة من انعقاد اجتماع لمندوبين عن الدول المجاورة لأفغانستان في طهران.
وصرح مساعد المتحدث باسم الخارجية فيليب ريكر» لا نرى أي تضارب «
مذكراً بأن الدول المجاورة لأفغانستان (باكستان، وإيران، وأوزبكستان،
وطاجيكستان، وتركمانستان، والصين) فضلاً عن روسيا والولايات المتحدة
تجري مشاورات فيما بينها منذ سنوات.
[جريدة الحياة، العدد: (14097) ]
14 - مجلس الأمن: أكد رئيس مجلس الأمن الدولي ريتشارد راين أن
أعضاء المجلس أعربوا بالإجماع عن تأييدهم للعمليات العسكرية التي تنفذها
الولايات المتحدة وبريطانيا في أفغانستان، وقال السفير الإيرلندي الذي يرأس
المجلس في أكتوبر، للصحافيين: إن الإجماع الذي ظهر بعد الاعتداءات على
واشنطن ونيويورك في 11/9/2001م بقي على حاله بخصوص الضربات
الأمريكية البريطانية ضد أفغانستان.
[جريدة البيان، العدد: (7783) ]
تباطؤ اقتصادي غير مسبوق
أظهرت تقارير رسمية في الولايات المتحدة أن الصناعة الأمريكية تمر بأطول
فترة انخفاض تعرفها منذ الحرب العالمية الثانية.
قالت الأرقام التي أصدرها مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) إن
ناتج المصانع والمنشآت والمناجم الأمريكية انخفض بنسبة 1%، إن الانخفاض
استمر بذلك لمدة اثني عشر شهراً على التوالي.
تشير الأرقام إلى أن هذا الفترة هي الأطول التي يتعرض فيها الإنتاج
الصناعي للانخفاض منذ سلسلة التراجع التي سجلها في الفترة من نوفمبر (تشرين
الثاني) عام 1944م وحتى أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1945م، قد اعتبر
الخبراء في وول ستريت هذه الأرقام أسوأ مما كانوا يتوقعون، وقال نائب رئيس
مجلس الاحتياطي الفيدرالي روجر فيرجسون في مؤتمر لرابطة تجار السندات إنه
إذا كان مدى الخسائر الذي خلفته الهجمات على الاقتصاد الأمريكي غير معروف،
فإن الفترة التي ستمضي قبل أن يعود الاقتصاد إلى انتعاشه ستظل أيضاً غير
معروفة.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
www.bbcarabic.com
كل هذه القوة؟ ! !
40 ألف بحار، مع وصول حاملة الطائرات الأمريكية (ثيودور روزفلت)
مع طاقمها الحربي يكون الوجود الأمريكي في بحر العرب قد بلغ 40 ألفاً من جنود
البحرية الأمريكية، موزعين على ما يقرب من 50 سفينة.
وقد قدمت مجموعة السفن الحربية الأخرى إلى المنطقة، وعلى رأسها حاملة
الطائرات» انتر برايز «التي جاءت من نورفولك بولاية فيرجينيا، وحاملة
» كارل فنسون «التي جاءت من بريميرتون في ولاية واشنطن، وحاملة» كيتي
هوك «التي وصلت من يوكوسوكا باليابان، وكل واحدة من هذه الحاملات تضم
طواقم بحرية، وكل مجموعة حربية في المنطقة تضم ما يقرب من عشرين سفينة.
وتوجد في المنطقة أيضاً السفينة العملاقة المقاتلة» بيليليو «وهي حاملة تضم
على متنها دبابات» أبرامس «والطائرات المقاتلة» كوبرا «ومقاتلات جوية من
نوع» هاريير «وغيرها من المقاتلات الأخرى، وعلى متن هذه السفينة العملاقة
يوجد كذلك 2200 من أفراد الوحدة الخاصة في البحرية الأمريكية، وهي فرقة
تستطيع القيام بمهام حربية خاصة.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8366) ](169/127)
في دائرة الضوء
ثقافة النخبة.. مساحات وفواصل
محمد أحمد منصور
جعلت الحداثة من الثقافة العربية جُزراً وسط محيط، كل جزيرة معزولة في
ذاتيتها بينما هي تحوي كيانات، وكل كيان يزعم أنه وحده الذي يملك المطلق
الثقافي! وفي كل كيان نماذج بشرية ما تختلف فيه أكثر مما تتلاقى عليه، وداخل
كل نموذج مساحات من التاريخ والفكر والتقليد، وهي على ما بينها من فواصل
تشكل كل منها ظاهرة جديرة بالتأمل والتنقيب عن القاسم المشترك بين هذه الظواهر
على علاتها واختلافها. وفي هذه الدراسة نحاول أن نكشف أهم ملامح الخريطة
بصورة كلية دون أن يمنعنا هذا من حرث بعض هذه المساحات.
فرنَسَةُ العمامة!
رفاعة الطهطاوي: خطوط كثيرة في واقعنا الثقافي يمكن القول عنها إنها
تمر عبر رفاعة بوصفه رمزاً وشخصيةً تكررت في العديد من البلدان التي استهلكت
التنوير، حين ذهب الشاب واعظاً للبعثة العلمية، كان الفرنسيون يدركون جيداً أن
حاجتهم إلى هذا الشاب أضعاف حاجتهم لسائر أفراد بعثته؛ لأن تطويعه يعني
الكثير والكثير مما ستكشفه الأيام.
ومن ثم فقد مورس عليه دور الأستاذية [1] بذكاء ودقة واقتدار؛ إذ وُكل الدور
لمجموعة متكاملة من الخبراء الفرنسيين ذوي الاطلاع والمعرفة بأحوال المسلمين
في الشمال الإفريقي المسلم كان من بينهم: (كوسيه دي برسفال، وسيلفستر دي
ساس، وفرانسوا جومار) وثلاثتهم كان له دور كبير في الحملات على مصر
وبلاد الشام والشمال الإفريقي.
لقد دارت سلسلة من النقاشات الطويلة التي تهدف إلى ترسيخ وبناء قناعات
جديدة: تخلف العقل العربي (ويُعنى به الإسلامي طبعاً) أن هذا التخلف له سبب
تاريخي هو الدين (الإسلامي) أن التقدم له طريق أدق، وهذا الطريق غير ممكن
إلا عن طريق فرنسا، وها هي الفرصة قد لاحت له، وهو الشغوف بها.
لقد بدأ رفاعة أول الأمر مستعصياً لكنه ما لبث أن لان؛ ومن هنا بدأت رحلة
الأَوْربة التي لم تفلح فيها مدافع نابليون، وإن عباراته في كتابه: «تخليص
الإبريز في تلخيص باريز» تكشف قدراً من الاهتمام الحافل به.
لكن الذي نريد أن نبينه هنا هو النقلة الكبيرة حين يقول: «فالفرنساويون
أقرب إلى العرب من الترك» ، ولا شك في أن الجملة تثير تساؤلات عديدة؛ لكن
مفرداتها تثير تساؤلات أكثر وأكبر (الفرنساويون العرب الترك) ! ولعله أيضاً من
المهم أن نشير إلى نص ليس وحيداً في كتابه؛ فقد كان يستخدم في مسوداته كلمة
«الكفرة» تعبيراً عن «النصارى» يقول مثلاً: «فبلاد أوروبا أغلبها نصارى أو
كفرة» .
ثم يتحدث عن القوانين الفرنسية فيقول: «لتعرف كيف حكمت عقول الكفرة
بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد» .
كان هذا النص في المسودات لكن على حد تعبير رفعت السعيد: لكن سلفستر
دي ساس [2] يعترض على وصف الكفرة ويتواصل النقاش ويوافق رفاعة ويشطب
كلمة «الكفرة» [3] .
تعميم الفرنسة:
كانت تلك السابقة الأولى لعمامة تغطي رأساً فرنسياً عاد لتوه ليقيم مدرسة
للألسن ينتقي فيها رفاعة 150 شاباً من مختلف قرى مصر ليكونوا نواة لمشروع
التطوير الذي تبناه محمد علي، وحين تخرج هؤلاء وجدوا أنفسهم من بين كبار
الدولة التي منحتهم النياشين، وأسبغت عليهم الهبات ليصبحوا من كبار الملاك أيضاً،
وقامت على أكتافهم عملية ترجمة واسعة للأدب، والتاريخ؛ وقليل من العلوم
الأوروبية كان لها أثرها خاصة في عهد إسماعيل الذي افتخر بأن بلاده قد صارت
قطعة من أوروبا. ويعلق الرافعي المؤرخ على ذلك: «ومن تهكم الأقدار أن
تصبح مصر على ما يقول إسماعيل قطعة من أوروبا في الوقت الذي فقدت فيه
استقلالها المالي، وضربت أوروبا وصايتها القهرية عليها، ولعمري ليس مما يفخر
به صاحب العرض أن يجعل بلاده جزءاً من أوروبا على الطريقة المعكوسة» !
كان بلا شك عصر إسماعيل هو الأكثر تأثيراً في عملية الاختراق الثقافي
الكامل لمصر، بل كان أكثر تأثيراً على الشخصية المصرية حتى الآن.
ولأول مرة يشهد المجتمع المصري ازدواجاً في ثقافته؛ فمنذ ذلك التاريخ
تحولت الثقافة من ثقافة المجتمع بكل فئاته إلى ثقافة الدولة، ومن ثقافة الجماهير
العريضة من أبناء الأمة إلى ثقافة النخبة التي مارست نوعاً من الوصاية باسم
التنوير.
ولقد ظلت هذه النخبة منعزلة عن ثقافة الجماهير في مصر منذ ذلك التاريخ
وحتى اليوم تقبع في المكاتب والجامعات ومراكز البحوث ودور النشر، وتعكف
على صياغة نظريات بعيدة عن عقيدة الجماهير منبتَّة الصلة بأحاسيسها واتجاهاتها.
إن طبيعة الدور الذي قاموا من أجله جعلهم آخر من يفكر فيما يحدث ويتشكل،
وأقل من ينتج في عالم الأفكار التي يتداولونها في خطاباتهم؛ إذ كانوا يفكرون من
الشمال إلى اليمين، ثم يصوغون ذلك بعربية لا تخلو من رطانة.
الأستاذية:
الانبهار الذي لف رفاعة بالشخصية الأوروبية الإنسان والمكان سرى ليشمل
كل ما هو أوروبي وجعل الأستاذية عنده شيئاً مقدساً يرقى في بعض نماذجه لأن
يتقمص دور النبي والتابع.
فحسن حنفي طالب السوربون كان يسمي أستاذه (جان جيتون) العلماني
المقدس بـ «المسيح» ، بينما يسميه أستاذه: «تلميذي الحبيب» كما سمى
المسيح عليه السلام يوحنا: «الحبيب» على نحو ما نقرأ في الجزء السادس
من كتاب الدين والثورة في مصر [4] ؛ فالاستعارة الإنجيلية قد غلفت هذا الانبهار
بنوع من القداسة ليس للشخص فقط وإنما للأفكار والنظريات، ومن هنا كان
الانبهار (أو الانسحاق) في مقابل الأستاذية هي الثنائية التي حكمت علاقة التلقي
عن الآخر كما يسميه حنفي والتي أوجدت الثنائيات الشقية أو وطنت لها: العقل
الوحي، الحداثة أو المعاصرة الأصالة، العلم الدين، التنوير التقليد والتخلف.
السلطة الجديدة:
إن الجيل الذي مورس عليه دور الأستاذية باقتدار قد عاد بعدها ليمارس نفس
الدور على بني جلدته ولعل نظرية عدوى السلوك تمدنا بتغير لبعض ما يحصل؛
فرطانة اللسان والنظريات المحفوظة والتفسيرات الجاهزة، كل ذلك أمر جديد على
مسامع الناس لم يألفوه إلى جانب المناصب الكبيرة في الدولة التي من خلالها يمكن
فرض ما يريد الأستاذ الجديد قوله ولو بالقوة! ومن هنا بدأ نوع جديد من فرض
الوصاية يقوم به التلميذ المفتون بأستاذه الغربي على مجتمعه لنشر ما ادعاه الأستاذ
الأول أنه رسالة الغرب في تنوير الشعوب، ومن هنا أيضاً استغل التلميذ علاقته
بالغرب وما تلقاه عنه في تكريس سلطته على الشعب في مواجهة المعترضين، ولا
بأس حينئذ من استخدام فعل الشرطي بدلاً من رأس المفكر كلما لزم الأمر.
كان ذلك نوعاً من التجهيل المركب الذي مورس باقتدار أيضاً على المجتمع
المسلم؛ حيث استفرغت قوى المجتمع بين المعارضة وبين تعلم نظريات لا يمكن
تطبيقها في الواقع الشرقي الإسلامي، ومن ثم لم تنجح خطط التنمية الحقيقية
والتنمية البديلة عندما وقع الصدام، وفرضت الوصاية على عقل المجتمع.
إننا لا نجد مثقفاً عربياً واحداً نجح في الكلام بصورة جديدة غنية أو فريدة عن
المقولات التي يتداولها المثقفون في خطاباتهم منذ عقود كالديمقراطية والحداثة
والعقلانية والعلمانية والتنوير والاشتراكية؛ هكذا جرت الأمور من الأفغاني حتى
حسن حنفي، ومن محمد عبده حتى محمد أركون، ومن شبلي شميل حتى محمود
أمين العالم؛ لقد تعامل أهل الفكر مع أنفسهم كدعاة ومبشرين أو كمناضلين وثوريين
يهمهم بالدرجة الأولى قلب الأوضاع وتغيير المجتمعات أو تحرير الشعوب
وفق تصورهم، ولعلنا نجد نموذجاً لذلك في كلام سلامة موسى شيخ المتغربيين؛ إذ
يرى أن الصراع الدائر بين النخبة وهم قلة معزولة وبين المجتمع يجري لهدف
ووفق تصور: «إن في العالم العربي صراعاً بين المبادئ التي ينصرها ويذود
عنها رجال الدين، والمبادئ التي تدين لها، وتعمل على نشرها» طبقة صغيرة «
عدداً، ولكنها كبيرة حرمة وجاهاً، باعتبار أن في يدها مقاليد الحكم؛ فهذه
الطبقة تستطيع أن تحضر العالم العربي بسن القوانين ثم يشرح كأن تعاقب المرأة
المحجبة، ولا قبل لنا بانتظار المنظور الاجتماعي؛ لأن العالم يثب إلى
الإمام» [5] .
فهكذا التنويري ليس عن طريق التفكير والإبداع وإنما عبر القهر والقسر!
ومن هنا نجد أن هذه الأدوار مورست على حساب النشاط المفهومي والإنتاج
المعرفي، بل مورست على حساب هذا النشاط والإنتاج، بل مورست ضد إرادة
المعرفة وعلى حساب الفهم؛ ولهذا فلا يحتاج المرء إلى بيانات لكي يقول بأن هذه
المهمة الطليعية قد ترجمت على الأرض فشلاً ذريعاً وإحباطاً مميتاً؛ فالمثقفون حيث
مضوا إلى تغيير الواقع، من خلال مقولاتهم، فوجئوا دوماً بما لا يتوقع؛ فحين
حاولوا تحرير المجتمع من التبعية والجهل لم يزد المجتمع العربي إلا تبعية وجهلاً،
وحين طالبوا بالوحدة، فإذا بالواقع ينتج مزيداً من الفرقة، وناضلوا من أجل
الحرية، فإذا الحريات تتراجع، وآمنوا بالعلمنة؛ فلم يزدادوا إلا بعداً من
مجتمعاتهم [6] .
الحرمان العلماني:
الحرمان الكنسي الذي مارسته الكنيسة خلال القرون الوسطى كان مثاراً
للسخرية وسبباً للخروج على الكنيسة؛ إذ من خلاله استطاعت الكنيسة أن تفرض
رؤيتها وحقها في تبديل نصوص الإنجيل وتفسيرها على سائر قوى المجتمع بأسره؛
فقد مورست باسمه أبشع المحاكمات وعمليات التصفية لكل من يخالف الكنيسة أو
تشك في أمره؛ هذا الوضع أفرز ظروفاً بالغة السوء من التسلط والتخلف والظلم
الاجتماعي والفساد السياسي والقانوني، وكان مما أفرز الثورة على الكنيسة نفسها
باسم العلم.
هذه الصورة التي ثار من أجلها علمانيو الغرب هي عين ما يحاول علمانيو
الشرق بسطه تحت مسمى التحرير أو التنوير، وليس باسم الدين طبعاً، وإنما باسم
العقل أو العلم وفي مواجهة الدين الإسلام بالطبع بتأليب ودعم من الغربيين. لقد
مورس الحرمان العلماني من خلال السلطة النخبوية كما تصور سلامة موسى من
خلال القانون والفكر، ومن خلال أساليب أخرى ضد جميع المناهضين للمشروع
التغريبي وعلى رأسهم دعاة الإسلام والمتمسكون به، وتعرضوا لكل صور الحرمان
التي مارستها الكنيسة في القرون الوسطى، والفارق الوحيد هو أن هذا باسم العلم
وذاك باسم الدين، وكلاهما يحمل نفس القدر من الخداع والتسويغ وأساليب القهر
وأدواته، والدوافع في كلتا الحالتين هو الحفاظ على أحدية المرجعية داخل المجتمع
مرة لحفنة من الباباوات، وأخرى للقلة التي أشار إليها سلامة موسى.
وإذا كانت الكنيسة قد أضفت القداسة على نصوص «الكتاب المقدس» فإن
للعلمانية من المقولات ما تدعي له القداسة.
ولهذا نجد أن ثورتهم على تقليد علماء الشريعة كرمز للإسلام بدعوى الإبداع
في الفكر والاستقلال في النظر إلى المعارف لا تعني إلا التمرد على سلطان
الشريعة بدعوى محاربة التقليد، ومن ثم فإن هذا المنهج يفترض أن يأتي بطرح
علمي جديد غير قائم على التقليد؛ إلا أن الحقيقة غير ذلك؛ حيث نجد المتمرد على
الأقربين قد انقلب مقلداً للأبعدين بصورة تستثير الضحك عند تجريده والتدقيق فيه.
فاصلة:
الثورة على الدين هي حقيقة جامعة ما بين النخبة الغربية والنخبة المتغربة؛
فالأخيرة ما هي إلا ترجمة ركيكة للأولى مع فارق أن هؤلاء هاجموا صورة مزيفة
من الدين لم يعرفوا غيرها، وعمموها جهلاً على الدين كله، بينما المتغربون
التنويريون يهاجمون الدين الحق فيقولون فيه ما قاله أولئك في بضاعتهم المزيفة،
فيرتكبون في الواقع حماقتين: التقليد بغير بصيرة، وحماقة وضع الكلام في غير
مواضعه التي يمكن أن يصح فيها، وما كان من كتاباتهم ضد الإسلام بالذات فهو
ترديد لما يقوله المستشرقون حرفاً حرفاً، وافتراء محضاً، فيرتكبون مرة أخرى
حماقتين «عقلانيتين» : حماقة التقليد بغير بصيرة، وحماقة أخذ الحكم على
الشيء من أعداء ذلك الشيء الذين هم بداهة حكام غير أمناء؛ لأنهم أعداء!
ظاهرة صوتية:
الثقافة في بلادنا ظاهرة صوتية؛ فإن ما لا يقل عن 95% ممن يسمون
أنفسهم بالمفكرين لا يستحقون هذا الاسم. إنك تقرأ للواحد منهم مقالة فلا تجد إلا
كلاماً مرصوصاً لا يؤدي إلى نتيجة، لم يجدوا من يكتب عنهم، فقرروا أن يكتبوا
عن أنفسهم، ولم يجدوا من يعرف أسماءهم ووجوههم، فقرروا أن يسلط بعضهم
الضوء على وجوه بعضهم، ويلمعوا أسماء رفاقهم، ولم يجدوا من يشتري
مجموعاتهم الشعرية، فقرروا أن يجروا عليها تخفيضات انتحارية تصل إلى 90%
أي بأقل من ثمن الورق الذي طبعت عليه، وأخيراً لم يجدوا من يحضر أمسياتهم،
فقرروا أن يستأجروا من يسمعهم.
ومن هنا فإن مشروع المثقف أعني المثقف ذاته بات أعجز من أن يقوم بتنوير
الناس؛ إذ هو أي المثقف يحتاج إلى التنوير بنقد دوره وتفكيك خطابه عن العقل
والاستنارة إن كان له خطاب وذلك بقدر ما تعامل مع فكرة التنوير بصورة غير
تنويرية وفق مقاييس التنوير التي يدَّعونها!
ومن هنا فإن مشكلة النخبة الثقافية هي في نخبويتها بالذات؛ ذلك أن النخبوية
قد آلت إلى العزلة والهامشية، وأنتجت التفاوت والاستبداد بقدر ما جسدت
الاصطفاء والنرجسية [7] لدى النخب الثقافية، ولهذا لم يعد بوسع المثقفين أن يؤدوا
الدور الطليعي بعد الإخفاق النضالي والعقم الفكري الذي يؤذن بنهاية المثقف [8] ؛
لأن معظمهم ما زالوا غارقين في سباتهم الأيديولوجي رغم انتهاء الأيديولوجيات
وسقوطها لا يحسنون سوى نقض الوقائع لكي تصح مقولاتهم أو نظرياتهم. إنهم
يرون الصلة في الواقع لا في الأفكار أو في أنماط الفهم أو طريقة التعامل مع
الحقائق، ومن هنا يأتي سعيهم الدائم لمطابقة الوقائع مع مقولاتهم المتحجرة، أو
قولبة المجتمع حسب أطرهم الضيقة وتصنيفاتهم الجاهزة؛ وبهذا المعنى مارس
المثقفون دكتاتوريتهم الفكرية أو عنفهم الرمزي باسم الحقيقة أو الحرية، أو تحت
شعار الديمقراطية هكذا؛ فهم بدلاً من أن يثقلوا على عقولهم لفهم ما يحدث أو
لاستباق ما قد يقع، كانوا فعلاً بمثابة «شرطة للأفكار» ، ولعل هذا يفسر لنا كيف
أن الحرية تتراجع مع كثرة المطالبة بها، وكيف أن النهوض يترجم تقهقراً، وكيف
أن المناداة بالتنوير العقلي تفضي إلى انتعاش اللامعقول، وكيف أن مقاومة الغزو
تؤول إلى زيادة التبعية للغرب [9] .
تنوي (ر أم م) !
نعود لنكرر أن مشروع رفاعة التنويري القائم على الترجمة هو عين ما نادى
به أحمد لطفي السيد وشركاؤه؛ إذ نادى بوجوب تأسيس النهضة العلمية على
الترجمة قبل التأليف؛ فقد صنفت علة مجتمعاتنا كما يدعي سلامة موسى أنها ما
زالت تعتقد أن هناك مدنية غير المدنية الأوروبية، ومن ثم تمت حركة الترجمة
الواسعة، ولاكتها الألسن مرة بعد مرة دون هضمها، وقد أثبتت النتيجة أن الاندماج
في ثقافة الآخر ليست صكاً للمعاصرة والتقدم؛ لأن أوروبا بتاريخها ومنهجها
الإمبريالي لا توزع التقدم على غير أبنائها الذين صنعت وتصنع لهم وبهم حضارة
التقدم؛ هذا فضلاً عن أن مريديها من أبناء العالم الثالث ومنهم مثقفونا لا يفعلون
أكثر من أنهم يستهلكون أوروبا في أوطانهم دون أن ينتجوا المعاصرة تماماً كما يفعل
اقتصادهم.
وقد أكدت التحولات العالمية والمحلية أن النخبة ليست على قدرة حقيقية على
إقامة مشروع نهضة قادرة على تنوير العقول تنويراً حقيقياً والتأثير في الرأي العام
بصورة بناءة؛ وذلك لأنه لم يكن يوماً صاحب عقيدة صلبة قادرة على قيادة الناس
لتطوير المجتمع وتغيير العالم.
شاكلة شايلوك:
الصراع داخل المجال الثقافي اليوم صراع على هامش الفكرة وليس صراعاً
معها أو حولها؛ بحيث أصبح مجال الثقافة مجالاً للتنافس والنزاعات بين علاقات
القوى والتجمعات ذات المصالح التي تدار في كثير من الأحيان بعقلية المافيا؛ حيث
يحتمي كل طرف فيها بقوة ويحاول توظيفها في صالحه، وفي هذا الخضم تنزلق
الخطابات الثقافية إلى مهوى استخدام كل ألوان التضليل والتمويه والانتهازية التي
تخرج التمايزات الثقافية من دائرة الاختلاف المعرفي الذي يثري الساحة ويقدم
نماذج وصور البناء إلى واقع الحرب التي تدور في كثير من الأحيان في ساحة
اللامعقول، وحول اللاشيء إلا إثبات الذات واحتكار المركزية وجعل الآخرين في
الأطراف. هذا بعض واقع النخب الثقافية في ندواتها ومجلاتها وصحفها ووسائلها
المختلفة تقرأ كل شيء فلا تخرج بشيء، وهكذا يترسخ الانفصام الذي يحياه
المثقف بين مثالياته التي ينظر لها في كتاباته، وبين نشاطه المجتمعي حين يلقي
عن وجهه مساحيق التجميل التي يظهر بها أمام جمهوره.
موت المثقف!
ومن هنا فإن فقدان المثقف لمصداقيته ليس لمجرد أن المجتمع متخلف أو يأبى
التطور، أو أنه حتى متمسك بدينه، وقد يكون هذا بعض الأسباب؛ ولكن السبب
الحقيقي هو موت أيديولوجيات المثقف حين استوردها ميتة لا روح فيها، وتوقف
نشاطه العقلي في إطارها بحيث تحولت أفكاره إلى أسماء على غير مسمياتها؛ فما
هي إلا مطلقات خاوية أشبه بالمثالب لا المثال.
إن الكتابات التي قالت بموت الأيديولوجيات الوضعية إنما تعني موت المثقف
الذي فقد آلته وتحول إلى طاقة عاطلة معطلة داخل المجتمع.
وإخفاق آخر يضاف إلى هذا الإخفاق هو أن المثقف حين تحول إلى شرطي
للأفكار، وحكم بالحديد والنار، وأدى دور الحرمان ضد الاتجاهات الإسلامية بحيث
جفف منابعها وصادر منابرها فإن ذلك لم يُخْلِ له الجو كما توقع؛ لأن بديله لم يكن
سوى إغراق في الشهوات وجذب الناس عبر فروجهم وبطونهم، وهو أمر لا يجدي
في مواجهة الحق.
وقد شهد عدد من الكتاب والمثقفين بأن المشروع التنويري أخفق فكرياً
واجتماعياً لصالح المشروع الإسلامي الذي هو آخذ في الصعود رغم ما يحيطه من
عقبات وتشويه وتعتيم، هذا إلى جانب الإخفاق بالقياس إلى الذات أو بالقياس إلى
الآخر.
استراحة الختام:
هذه قصة أطبع بها بسمةً على وجه القارئ أختم بها مقالي، وهي ذات دلالات
عميقة وخطيرة في ذاتها أولاً، ثم في تكرارها وذيوعها في الأوساط الثقافية،
يرويها أديب ومثقف له احترامه، هو د. محمد رجب البيومي. يقول: كنت في
أوائل الستينيات أقضي شهرَيِ الصيف بالإسكندرية، ولي بها صديقان أثيران، هما
الأستاذ صديق شيبوب والأستاذ نقولا يوسف وكلاهما من ذوي الكفاية المشهورة في
الأدب والنقد والتاريخ، وذات يوم زرت الأستاذ شيبوب في مكتبه بإدارة جريدة
البصير، فوجدت الأستاذ نقولا معه، وأمامهما كتابان يضمان مجموعة من القصص،
وقد أهدى المؤلف لهما هذين الكتابين، ولكن انقباضهما النفسي كان ملحوظاً لا
يخفى على مثلي، فتساءلت، فقال الأستاذ شيبوب: قد يكون السكوت أفضل،
ولكن نقولا قال: وماذا لو علم رجب بما نأسف له، ثم توجه بالحديث إليَّ قائلاً:
كنا منذ عامين ثلاثة من المحكَّمين في مسابقة قصصية أقامها نادي الثقافة
بالإسكندرية، أنا والأستاذ شيبوب وصاحب هذه المجموعة القصصية، وقد قرأنا
أكثر من ثلاثين قصة واخترنا ثلاثاً للجوائز المقررة، ووكلنا إلى الزميل تقديم
الأصول إلى النادي، لكنه لم يفعل، وقد تسلمت بالأمس مجموعته التي لم يخجل
من إهدائها إلينا معاً! فماذا رأينا؟ رأينا عشراً من القصص المرفوضة التي بدلت
عناوينها وبعض العبارات التي لا تقدم ولا تؤخر، ثم جمعت في هذا السِّفر البائس
وليس لصاحبها منها غير اسمه فقط! وهي كل ما في الكتاب!
قلت: ولماذا لا تواجهانه؟ فصاح نقولا: نحن لم نسلم من شره دون أن
نجاهره بسوء! فما ظنك لو جابهناه بما اقترف! إنه بطل الشكاوى الكيدية للمباحث
وصاحب الدعايات المسمومة، ولخطره البالغ تقبله المجتمع الأدبي بيننا بمرارة؛
إنه يعيش بين الناس كما يعيش الثعبان في برج الحمام، يعيش ليلدغ، قال عني:
إني بهائي، وأنا لا أعرف شيئاً عن البهائية، وقال عن صديق شيبوب إنه ينشر
الإعلانات للمرابين في البصير بأجر مضاعف يأخذ نصفه، وصديق له غير
الصفحة الأدبية التي تصدر يوم السبت؛ فما له وللإعلان أهو صاحب الجريدة؟
فتوجهت إلى صديق سائلاً: وهل توافق أنت على الصمت أيضاً؟ قال: أرجو أن
ينكشف الأمر على غير أيدينا [10] .
وما زالت القصة تتكرر بين سرقة وصمت.
ختامه:
أما آخر المقال فقد اكتشف أحد الباحثين أن وزارة الثقافة في بلاده تعيش أزمة؛
وليست الأزمة بالطبع أعشاب البحر، فإن الوزير سئل في إحدى لقاءاته عن
استراتيجية لمستقبل الثقافة فاكتشف الجميع أن الوزير لا يملك أي استراتيجية،
وعندما وجه السؤال ذاته إلى عدد كبير من المثقفين كان الجواب السكوت، وقد
علق أحد الظرفاء بأن الاستراتيجية موجودة ومحفوظة ودائمة، وقد صاغها شيخ
الماركسية محمود أمين العالم في أغنية الإنسان:
لا أدري عما أبحث ...
بل أتحدث، أتحدث ...
أتسول تأويلاً ...
أنسج بالشعر بديلاً ...
وإن كان لدينا على الأقل سؤال عن كل مقطع إلا أنَّا نكتفي بالسكوت أمام
حيرة المتحدث وتسوُّل البديل!
__________
(1) يأتي أداء هذا الدور بعد سلسلة أدوار من التجهيل قامت بها الحملة الفرنسية حين قتلت العلماء والفنيين الذين كانوا يشكلون نواة نهضة حديثة منبثقة من الأزهر هذا الدور يفتح ملف الاستشراق والدور الاستخباري الذي لعبه إلى جانب الرحالة منذ عودة لويس التاسع وحتى حملة نابليون الذي كان له دور كبير في إفلاح أساتذة رفاعة في أداء الدور المطلوب.
(2) لعب هذا المستشرق دوراً خطيراً في عملية الغزو الفرنسي للجزائر؛ إذ كلف بتحرير ثلاثة بيانات تبعت الإنزال العسكري وسربت عبر تونس، وقد كان لها الأثر البالغ في نسف الروح القتالية في العاصمة الجزائرية وعموماً هناك أسماء كثيرة تتكرر بين الجزائر وتونس والمغرب ومصر والشام من أمثال تشرشل، روث، دي ساس، دوماس، جومار.
(3) شهدت العديد من مقاهي باريس جلسات طويلة انتهت بقناعات جديدة لدى رفاعة أن تاريخ مصر لا يبدأ مع الإسلام، وأن تاريخ مصر القديمة ليس وثنياً، بل هو تاريخ حضارة ومدنية، تاريخ يتواصل مع تواريخ لاحقة يونانية وعربية وإسلامية، وأوروبية! وأن التاريخ الإسلامي لم يعد التاريخ العالمي! وهكذا حتى فكرة المقهى الثقافي مستوردة من فرنسا أم التنوير! .
(4) نقلاً عن ضد التعصب، د جابر عصفور، ص 297.
(5) لم يخجل سلامة موسى النصراني الحاقد من تحريف التنوير إلى الحد الذي تسن فيه القوانين لحرب الدين صراحة، كما لم يخجل أن يمارس دور الشرطي في فرض ما يريده وهو العقلاني! لا غرابة عندي في هذا؛ لكن الغرابة في أن عين ما نادى به تحقق على يد فئام من أبناء المسلمين! .
(6) أوهام النخبة أو نقد المثقف، علي حرب، ص 98، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت.
(7) هذه الملامح ظاهرة بادية في كلام سلامة موسى السابق، وكأنهم تربوا على ذلك ودربوا! .
(8) أوهام النخبة أو نقد المثقف، ص 10.
(9) انظر: أوهام النخبة، ص 42 -43.
(10) انظر مجلة الهلال، عدد أكتوبر 2000م، ص 51 -52.(169/135)
الورقة الأخيرة
الاعتكاف والنقلة الإيجابية
محمد بن يحيى مفرح
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم
يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين
يوماً» [1] .
لقد حرص رسول هذه الأمة على هذه العبادة تاركاً لمن ينتهجون نهجه درساً
عظيماً في أهمية الانقطاع إلى الله تعالى والتحرر من الشواغل والمسؤوليات كائناً
من كان صاحبها في الدعوة والعلم والتربية والجهاد فضلاً عن أمور الدنيا. قال
صاحب الظلال: «لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية
فتحولها وجهة أخرى، لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت» إلى أن
يقول: «فالاستغراق في واقع هذه الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له فلا تحاول
تغييره، أما الانخلاع منه فترة والانعزال عنه والحياة في طلاقة كاملة من أسر
الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو
أكبر منه، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس» [2] .
إننا يمكن أن ننظر إلى هذه العبادة لتحقيق أمور هامة لعل منها ما يلي:
1 - استدراك كل نقص، وتعويض كل تقصير يحصل للمرء في علاقته بالله
تعالى من جراء كثرة الانشغالات الدعوية والعلمية ونحوها، أو من باب أوْلى:
المشاغل الناتجة عن العلائق الدنيوية كالزوجة والأبناء والوظيفة.
2 - زيادة الصلة الإيمانية بالله، وفتح المزيد من الأبواب التعبدية التي تزكي
النفس وتؤهلها لمواجهة الفتن واستنقاذ الآخرين منها بإذن الله.
3 - الاعتكاف فرصة عظيمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بالتحصيل والتعليم
عن كثير من التطبيق والعمل، ولا سيما أن العقلاء يرفضون أن يعلِّم الناس امرؤ
ما فيه نجاتهم ثم ينصرف هو عن ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل
الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» [3] .
4 - الاعتكاف موسم عظيم للدعاة والمربين؛ أولاً: لسد النقص الذي
اعتراهم لانشغالهم بالخلق. وثانياً: لاستغلال الفرصة للرقي بالمستوى الإيماني
والتعبدي عند المدعوين والمتربين. إنه من الوضوح بمكان وجود حالة ضعف
عامة في همم الصالحين فيما يتعلق بالجوانب التعبدية والسلوكية مقارنة بما يراد
منها لإصلاح المجتمع والارتقاء به إلى مشابهة مجتمع السلف الصالح؛ ولذلك فإننا
بحاجة لانتهاز موسم رمضان عموماً وعبادة الاعتكاف خصوصاً لتحسين الصورة
العامة من خلال مخاطبة الأفراد.
5 - وهو فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله تعالى في كل الأعمال
والحركات والسكنات، وهذه النقطة أكبر من أن ينظر إليها من زاوية فردية؛
فالإخلاص هو مدار قبول جميع الأعمال الموافقة للشريعة ومنها كل ما يتعلق
بالدعوة والتربية والتعليم. وإنه لمن الخسران العظيم أن تنفق وتبذل الأموال وتبذل
الجهود ثم يكون المانع من تحقيق الأهداف المطلوبة شرعاً دخل في إخلاص
العاملين؛ والإخلاص على خطر عظيم في أوساط الجماعة الواحدة كما هو معلوم.
6 - الاعتكاف فرصة للخلوة الفكرية التي يستطيع بها الداعية أن يحكم على
مساره ويقيم إنجازاته: هل ما زال يسير وفق الخطوة المرسومة إلى الهدف المحدد،
أم مال عنه؟ وما نسبة الميل؟ وهل تراه يحتاج إلى تعديل المسار أم مراجعة
الهدف وإعادة صياغته؟ إن فترة الخلوة الروحية في الاعتكاف عظيمة لتحقيق
الخلوة الفكرية؛ إذ تكون النفس أقرب إلى التجرد من حظوظ النفس وأوْلى بمحاكاة
المثالية التي تلفظ العادة الدارجة، ولكونها محطة توقف عن العمل يسهل استئنافه
بعدها وفق الشكل الجديد الأسلم.
7 - وهو فرصة عظيمة لتجاوز إشكالية شديدة الحساسية وهي مشكلة قولبة
المتربي في حدود إطار المربي، وهذا أمر على عظيم مرارته حقيقة خطيرة
واضحة في كون بعض المحاضن التربوية تقوم بتخريج أفراد كأنهم نسخ طبق
الأصل من شخصيات القائمين على المحاضن، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما
كان يربي قادة لا عبيداً، ثم من تراه الذي يذكر أولئك المربين الذين خرَّجوا للأمة
أصحاب المذاهب وأصحاب التفسير وأئمة الحديث والتاريخ والجهاد وغيرهم. إن
الاعتكاف فرصة للبدء في توجيه المتربي لينطلق بلا قيد في أبواب العبادات وصقل
الشخصية وتوجيه الاهتمامات وجدية نمطية التفكير وشق طريق بناء الاستقلال
المنضبط، وحسبنا في هذه العجالة لفت النظر للمسألة.
ينبغي أن نشير إلى أن الاعتكاف المطلوب لتحقيق ما سبق وغيره ليس
الاعتكاف الذي يجعل المساجد مهاجع للنائمين، وعناوين للمتزاورين، وموائد
للآكلين، وحلقات للتعارف وفضول الكلام.
إن الاعتكاف المطلوب هو ذلك الذي ينقل المرء إلى مشابهة حياة السلف
الصالح في كل همسة ولفتة. نعم إنه الاعتكاف الذي تسيل فيه دموع الخاشعين
المتدبرين، وترفع فيه أكف الضارعين المتبتلين، ويسعى فيه صاحبه جاهداً لئلا
تضيع من ثواني هذه الأيام لحظة واحدة في غير طاعة؛ إنه الاعتكاف الذي يحقق
مفهوم التربية الذاتية لمشابهة المحسنين يستغله المرء ليصل إلى مرتبة عالية،
فيكون لسانه رطباً من ذكر الله تعالى، ويستعرض كتاب الله تلاوة وتأملاً وتفسيراً،
ويصل إلى المراتب العليا في المحافظة على الصلاة تبكيراً وخشوعاً، ويألف مكابدة
قيام الليل تلذذاً وخشية، إنه الاعتكاف الذي يحرر المرء من كثير من سوالب
السمت والحكمة من فضول كلام، وكثرة هزل، وزيادة خلطة من أعظم مفاسدها
أنها تقصر همة المرء عند همة أصحابه؛ إنه الاعتكاف الذي يربي النفس على
التقلل والتزهد في أصناف المطعومات والمشروبات؛ فيوجب رقة القلب، وانكسار
النفس، والتحرر من قيود الهوى والدعة والكسل.
قال ابن القيم رحمه الله: «إذا طلع نجم الهمة في ليل البطالة، وردفه قمر
العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها» [4] .
فلنجعل الاعتكاف فرصة للنقلة الإيجابية المطلوبة على أن نحذر طلب
الكمالات المحضة التي تسبب انتكاسة في الهمة وانصرافاً عن الخير كلية. نسأل
الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته، ويعيننا على أدائها بالشكل الأصوب، ويتقبلها منا
برحمته وفضله.
__________
(1) أخرجه البخاري، 2044.
(2) الظلال، 6/3741، دار الشروق.
(3) صحيح الجامع، رقم 5837.
(4) الفوائد، ص 79.(169/143)
شوال - 1422هـ
يناير - 2002م
(السنة: 16)(170/)
كلمة صغيرة
إنها حملة على الإسلام
وتستمر الحملة على ما أسمته الدول الغربية بـ (الإرهاب الأصولي)
لتتجاوز الحملة العسكرية على أفغانستان إلى حملة أكثر ضراوة وشراسة ظهرت
علاماتها الأولى بالحملة على المناهج الدينية والتاريخية، والمدارس الشرعية،
ومدارس تعليم القرآن الكريم.
ولئن كانت الحملة على المناهج الدينية قد بدأت فعلياً في كثير من الدول
العربية والإسلامية قبل أحداث (الحادي عشر من سبتمبر الماضي) بنَفَس طويل
صبور كتلك الضربات التي وُجِّهت إلى الأزهر وجامعة الزيتونة ونحوهما، فإن
الأحداث الأخيرة استنفدت أنفاسهم، وقطعت صبرهم، وراحوا بكل استبداد
يفرضون سياساتهم التغريبية على مناهج التعليم، ومن أبرز معالم ذلك:
1 - المبادرة للقضاء على المدارس الدينية، والمعاهد الشرعية، ومدارس
تعليم القرآن الكريم.
2 - تغيير مناهج التربية الدينية في مراحل التعليم العام، وحذف كل ما له
صلة بالموالاة والمعاداة، والتحذير من اليهود والنصارى، ونحو ذلك مما ينبغي أن
يتلاءم مع ثقافة (العالم المتحضر الجديد!) .
3 - تغيير مناهج التاريخ الإسلامي، وحذف تاريخ الصراع بين المسلمين
والصليبيين، وإبراز تاريخ الحضارات البائدة كالحضارة الفرعونية والبابلية
ونحوهما.
وإن كان لازماً أن يُدرس التاريخ الإسلامي فلا بأس أن يُدرس الإبداع الفني
المعماري في القصور والمساجد ونحو ذلك مما لا صلة له بروح الأمة وحياتها.
4 - إقصاء الخيّرين من أهل الاختصاص عن زمام العملية التعليمية
والتربوية، والمجيء بأناس من أهل الأهواء الذين لا يرقبون في الأمة إلاًّ ولا ذمَّة.
5 - تشجيع التعليم المختلط بين الجنسين، وتذليل كل العقبات التي قد
تعترض هذا المشروع.
والهدف من ذلك كله: صياغة التعليم في البلاد العربية والإسلامية صياغة
علمانية، وتجفيف منابع التدين التي يتربى في أحضانها (الإرهاب الأصولي) ! !
بل خطا بعض العلمانيين خطوات أبعد من ذلك حينما دعا إلى صياغة مناهج التعليم
في البلاد العربية والإسلامية في أحضان هيئة الأمم المتحدة؛ لكي يضمن الوصول
إلى مناهج تقدمية بعيدة عن مؤثرات القرون الوسطى الظلامية..! !
إن الحملة المحمومة على مناهج التعليم الديني تعني: بناء ثقافة أجيال الأمة
بناءً مادياً منقطع الصلة بعقيدة الأمة وجذورها التاريخية؛ فهل يدرك الغيورون
خطورة هذه الحملة وأبعادها الحضارية..؟ ! !(170/1)
الافتتاحية
ليست مأساة دولة بل مأساة أمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فإن تسارع الأحداث في أفغانستان بهذا الشكل السريع لأمر مؤسف؛ فبعد
صمود شهر كامل أمام القصف الأمريكي الهمجي الذي لم يتورع عن ضرب المدن
والمساجد والمستشفيات ومستودعات الإغاثة فضلاً عن ضرب القواعد العسكرية
والمطارات والخطوط الأمامية، مع القصف بالطائرات العسكرية وبالقنابل
الانشطارية وغيرها من الأسلحة المحرمة دولياً بالتعاون بين (المعارضة الشمالية)
ليدخلوا على جثث إخوانهم في الدين والعقيدة؛ أدى كل ذلك بحكومة طالبان
للانسحاب حتى لا تحصل مجازر لسكان المدن التي سيكون وقودها المدنيين
الأبرياء.
وهذه الكارثة المؤسفة تذكرنا بواقعة تاريخية مشابهة حينما ترك المسلمون في
الأندلس العصابات النصرانية في الشمال تهاوناً بشأنها بينما النصارى يمدونها بالعدد
والعتاد فكَرُّوا هاجمين على المسلمين حتى طردوهم من (الفردوس المفقود) ، وهذا
ما حصل بالفعل حينما تركت (طالبان) تلك العصابات الخارجة تنعم بدعم الروس
والدول الشيوعية المحاذية لها. والمسألة قد لا تكون بمثل هذا الوصف تماماً؛ لأن
تدهور الأوضاع في أفغانستان له أسباب جوهرية أخرى ساعدت على تداعي الأمور
بهذا الشكل السريع والمريع؛ فلقد قامت دولة طالبان على أنقاض دولة قادها زعماء
فصائل متنازعين بعد أن كانوا متوحدين وقت الانتصار على الاتحاد السوفييتي
البائد؛ فبينما كان الشعب الأفغاني يلملم جراحه ويمنِّي النفوس بقيام دولة إسلامية
فوجئ أنها ليست سوى (كانتونات حزبية) متناحرة، بل إن السلبيات العقدية
والاجتماعية ما زالت قائمة، فزادت معاناة الشعب الأفغاني، ثم قامت دولة طالبان
بشكل سريع أثار إعجاب الجميع، ورحب بها الأفغانيون حيث شاع الأمن وقضي
على (مافيا المخدرات) ، ولولا مشاغلات المعارضة الشمالية من ناحية ومقاطعة
العالم لها من ناحية أخرى لأمكن قيامها بشكل مستقر وقوي، وهذا ما سبق أن
تطرقنا إليه وبيناه في البيان في أكثر من مقالة [1] .
ومع أن قيام دولة طالبان يرمز للدولة الإسلامية التي لم تستكمل كل مقوماتها؛
إلا أن الغرب فوجئ بقيام هذه الظاهرة الجديدة؛ وهذا بالطبع لا يسره ولا سيما
بعد إخفاقه في محاولات استغلالها ومحاولات تدجينها ليمرر من خلالها مصالحه
القريبة والبعيدة؛ لكن (طالبان) وقفت بشموخ ضد القوم وعلى رأسهم (أمريكا)
التي بدأت بالعمل المتواصل لاحتوائها؛ فقد كانت تحاول الاعتراف بها وفتح سفارة
لها في (كابل) ، وهذا ما أشار إليه مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون آسيا
الجنوبية المدعو (رابين روفائيل) باعتبارها القوة المحلية القادرة على الاحتفاظ
بالسلطة؛ فما الذي أوقف هذا الاتجاه بالرغم من أنها سيطرت على أكثر من 95%
من أراضي أفغانستان؟ لا شك أن رفض طالبان الائتمار بأمرها والسير وفق
رغباتها جعلها تتنكر لها وتعمل على الإيقاع بها بعد رفضها أن تكون منفذاً سهلاً
لمصالحها الاقتصادية، ولفوات أهدافها في استغلال مناجم الذهب في وادي
الوحوش، وهي ثروات يسيل لها اللعاب الأمريكي فضلاً عن حرمانها لموطئ قدم
في منطقة استراتيجية بالقرب من (روسيا والصين) والهند وباكستان.
ولذا عملوا على منع جل دول العالم من الاعتراف بها، واستصدروا قراراً
من مجلس الأمن باعتبار الدولة السابقة هي المعترف بها وحدها، وحرضوا
أعداءهم ومناوئيهم في الشمال بالدعم والتشجيع المنقطع النظير.
ونعتقد أن تراجع طالبان كدولة بالأسباب آنفة الذكر تدعمه أسباب أخرى يمكن
أن نجملها فيما يلي:
* أن هذه الدولة بالرغم من إسلاميتها وتبنيها للجهاد منطلقاً للبناء فقد جابهت
تحدياً كبيراً بواقع الشعب الأفغاني بأعراقه وطوائفه وأحزابه المختلفة التي لم
تستطع أن تنسى خلافاتها أو تخفف منها.
* أن جل قواتها العسكرية والأمنية هم من (طلاب العلم) الذي شاركوا في
حرب التحرير، فما عندهم من الخبرة الحياتية والعلمية والعملية مع الضغوط
والمحاصرة الخارجية ربما لم يكن كافياً في مجالات التنمية والإعمار والتحديث.
* أن قطاعاً كبيراً من جيشها كان في الأصل من أتباع الأحزاب الجهادية
السابقة مثل (الحزب الإسلامي) التابع للشيخ يونس خالص، و (الانقلاب
الإسلامي) للشيخ محمد نبي محمدي، ولعل هذا كان سبباً في أن صفوف طالبان،
وتكوينها التفصيلي لم يشكل نسيجاً مؤتلفاً واحداً يمكنه أن يكون جميعاً على قلب
رجل واحد أمام واحدة من أشد التحديات التي تعجز عن مواجهتها التكتلات الدولية
فضلاً عن الدول الضعيفة.
* الإعلام الغربي والشرقي الذي كثيراً ما شوه وشنع على (طالبان)
ووصفهم بأقذع الأوصاف من دعوى العدوانية والتعصب، وإهانة المرأة، وإذلال
الأقليات، وراح الإعلام العربي العلماني يردد دعاوى أسياده بشكل أكثر حدة وحقداً
بلا خوف من الله ولا وازع من ضمير، وهذا بلا شك كان لا بد أن يؤثر على
معنويات القائمين على تلك الدولة، فهُم بشر يحزنون ويغضبون.
* حصار هذه الدولة ومنع استفادتها من مستحقاتها في البنوك الدولية فضلاً
عن عدم الاعتراف بها كل ذلك أعجز اقتصادها وقعد بطموحاتها عن أن تتمكن من
إعادة بناء ما تدمر من البنى التحتية وبناء مقوماتها الحياتية.
* كان لزعماء طالبان رؤيتهم الخاصة في الإعلام مما جعل حركتهم تقاطع
وسائل الإعلام طوال الفترة التي سبقت الأحداث الأخيرة، إلا أنها غيرت من ذلك
أخيراً حينما اتفقت مع محطتي (الجزيرة) والـ (سي إن إن) لنقل واقع الحياة
والأحداث بها ولا سيما بعد الحرب المجنونة ضدها، والتي كشفت البربرية الغربية
والعدوانية الصليبية حيالها؛ مما كان سبباً في ضرب (فرع محطة الجزيرة) بشكل
بشع أثار استياء كل المتابعين، وأظهر في الوقت نفسه أن الأعلام الدولي يريد
صورة واحدة أمام العالم هي الصورة التي يراها هو فقط.
والعجيب أن أحداث 11/9/2001م ألقيت مسؤوليتها على دولة طالبان
بدعوى إيوائها (للمشتبه فيهم) ، مع أن حكومة أفغانستان طالبت بكشف الأدلة
المقنعة وحينها ستسلم المتهمين ليتم محاكمتهم في دولة محايدة، لكن الأهداف
المرسومة سلفاً لتدمير هذه الدولة الإسلامية لم يعد معها أي مسوِّغ لإيقاف الحرب
لتحقيق أهداف عديدة، منها:
- خداع الشعب الأمريكي وإقناعه بأن إدارته الحاكمة ستنتقم لهم من المشتبه
فيهم! !
- استثمار الحدث لتأديب (طالبان) لخروجها عن سيطرتها وعدم قبول
أوامرها.
- ضرب المد الإسلامي في الغرب والعالم كافة بدءاً من طالبان؛ ولذا لم
تكتف بعدم تحديد وقت لإنهاء حربها المزعومة ضد الإرهاب؛ بل أدخلت كل
الجماعات الإسلامية بدعوى أنها حركات إرهابية؛ في الوقت الذي لم تحدد حقيقة
الإرهاب حتى لا تدان بمساعدة الإرهاب الصهيوني وتحاسَب من العالم على الكيل
بمكيالين، وهذا لم يعد مجهولاً لأحد.
إن انسحاب طالبان من المدن الرئيسية كما قال زعماؤها ليس إلا رحمة
بالمدنيين الأبرياء، وإن كان على حساب كيانها بوصفها دولة قائمة، وهذا في
نظرنا يُحسَب لها، وإن انكمشت في بقاع محدودة؛ فهي ما زالت وحتى كتابة هذه
الافتتاحية متمسكة بمعقلها في قندهار ولا ندري ماذا سيكون بعد ذلك؛ فالحرب قائمة؟
نسأل الله أن يُحدث بعد ذلك أمراً لجنده المؤمنين ضد الكافرين والمنافقين.
ومما يؤسف له أن (المعارضة الشمالية) التي من ضمن زعمائها بعض قادة
الجهاد القدامى دخلوا تحت حماية القصف الأمريكي يحتلون المدن ويسومون جيش
طالبان وأنصارهم سوء العذاب بصور يندى لها جبين كل مسلم؛ مما جعلهم
يعيشون في حالة لا يحسدون عليها حين أصبحوا بين مطرقة القصف الأمريكي
وسندان القوات الشمالية الحاقدة؛ مما لا يخالف ما يسمى بالقانون الدولي فحسب؛
بل يخالف تعاليم الإسلام في ضمان استسلام الأسرى وعدم قتلهم بل إعطائهم الأمان؛
ليتم ذلك بصورة كريمة كما توضحها أحكام وتشريعات الجهاد في الإسلام. ولكن
أين القوم من أخلاق الإسلام وقد وضعوا أيديهم بأيدي أعدائهم لقتال إخوانهم في
الدين والعقيدة؟ !
إن هذا الواقع المؤلم الذي آلت إليه الأوضاع في أفغانستان ليس مأساة لهذه
الدولة التي تسلَّط الأعداء عليها في الداخل والخارج فحسب؛ بل هي مأساة أمتنا
الإسلامية التي جعل الله رسالتها للناس كافة، وجعلها أمة واحدة من دون
الناس، وصدق الله العظيم: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ]
(الأنبياء: 92) .
- إن أمتنا مع الأسف ما زال يسودها في كثير من البلدان النزعات الجاهلية
التي تعمل على تفتيت لُحمتها، كالروابط القومية والطائفية المنحرفة.
بل إن الروابط المصلحية كالروابط الاقتصادية والتعاونية هي أضعف ما
تكون فيما بينها.
- تفتت الرابطة العقدية إلى حد أن بعض الدول الإسلامية تتحالف مع
الأعداء ضد المسلمين كما حصل من (التعاون التركي الصهيوني) و (العربي
الصهيوني) فإلى الله المشتكى.
- إن أمتنا ما زالت خانعة تحت هيمنة الدول الغربية تدين بما يُطلب منها
بألاَّ تتسلح بالأسلحة الخطرة كالسلاح النووي بدعوى الالتزام بما صدر من قرارات
أممية والقصد منها أن تبقى أمتنا دائماً ذليلة خائفة. لكن الخروج من هذا الحصار
كما حصل في باكستان بتملكها القوة النووية كان يعد بادرة طيبة ينبغي أن يتم السير
على منوالها ما دام أن الحصار مفروض على الدول الإسلامية في الدرجة الأولى
لصالح الأعداء.
- أن الشعوب المسلمة بتأثير الكثير من حكوماتها العلمانية سائرة وفق
مخططات مدروسة لتبقى تابعة ذليلة؛ مع العمل المتواصل لإفسادها وتغريبها عن
طريق الإعلام والتعليم، والقاعدة المعروفة تبيِّن أن المغلوب أبداً مولع باتباع الغالب.
- فلولا هوان أمتنا لما شُقت صفوفنا بجنودنا، وضُربت قوتنا بسلاحنا،
ودُمرت مقدراتنا بأموالنا.
- ولولا هوان أمتنا لما ضربت أمريكا القلعة التي فيها المئات من أسرى
طالبان لتقتلهم من الجو، لو كان هؤلاء الأسرى روساً أو صينيين لما تجرأت على
ضربهم بهذه الوحشية.
- ولولا هوان أمتنا لما كان حل مشكلاتها يتم في المنتديات الدولية التي
يسيطر عليها اليهود والنصارى، كما حدث في المؤتمرات التي عقدت في ألمانيا
لحل (المشكلة الأفغانية) ، وكأنه ليست هناك منظمة تسمى (منظمة المؤتمر
الإسلامي) ، تلك المنظمة التي لم يشأ القائمون عليها والمؤتمرون فيها أن يدينوا
مجرد إدانة بدء الضربات الأمريكية ضد أفغانستان أثناء عقد مؤتمرهم في الدوحة،
بل إنما طالبوا فقط ويا للخزي! بأن يقتصر الضرب على أفغانستان! !
- ولولا هوان أمتنا لما طالبت الجامعة العربية على لسان أمينها في أكثر من
مناسبة، ألا تشمل الحرب ضد (الإرهاب) دولاً عربية، وكأن تلك الجامعة ما
صنعت إلا لتكريس الانفصام بين كل ما هو عربي وإسلامي.
- ولولا هوان أمتنا لما تجاهلت أمريكا هذه المناشدات العربية وتوعدت علناً
بضرب العراق واليمن والسودان، إمعاناً في إذلال (الإرادة العربية) التي بدت
كأنها من مخلفات الماضي الثوري البائد.
- ولولا هوان أمتنا لما تجلى ذلك الواقع المؤلم على ساحات العمل الإسلامي
نفسه؛ حيث ظهر للجميع أن إعلان المواقف تجاه الأحداث المتتابعة لم ينبع من
الثوابت العقدية والأصول الإسلامية بقدر ما كان انعكاساً للانتماءات الحزبية أو
الحساسيات الحكومية أو القناعات الشخصية.
فإلى من نشكو ضعف قوتنا، وتفرق كلمتنا، وهواننا على الناس؟ ! إننا لن
نشكوه إلا إلى ربِّ الناس، عازمين بلا تردد ولا كلل ولا ملل على الدعوة إلى
تصحيح المسيرة ومن قبلها إلى تصحيح النية، وعندها نقول لمن نشكو إليه حالنا
سبحانه وتعالى: إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي.
__________
(1) انظر على سبيل المثال مقالة: (طالبان وقدر أفغانستان) في الأعداد 130، 131،132، ومقالة: (الطالبان هل تستنقذ ثمرة الجهاد؟) في العدد 159.(170/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
بلاغ الرسالة القرآنية
معالم في المنهج الدعوي
د. فريد بن الحسن الأنصاري [*]
[هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
(إبراهيم: 52) .
مقدمة:
عندما نهمل التدبر لبعض المنطلقات المنهجية للعمل الإسلامي بحجة أنها من
البَدَهِيّات الإسلامية، ومن المعلومات من الدين بالضرورة؛ فإننا كثيراً ما نقع في
الانحراف عنها تدريجياً، فلا نشعر بذلك إلا بعد فوات الأوان!
ذلك أن الانغماس في الشأن اليومي السياسي، والنقابي، والاجتماعي العام
للحركة الإسلامية؛ قد يصنع مناخاً سيئاً لتربية الخَلَف من النشء الإسلامي.
وكذلك الدوران الداخلي حول الذات الحركية عندما تثقل أعباء العمل الإدارية
والتنظيمية الداخلية؛ فكل ذلك قد ينسي الجيل الجديد أنه يشتغل ضمن حركة
إسلامية قامت أساساً على أصل تعبدي، وقد يعصف الصراع السياسي الدائر في
المجتمع بالبقية الباقية من الإحساس التعبدي في العمل لدى كثير من الشباب، فتبدأ
النتوءات المنحرفة في الفكر والممارسة تبدو من هنا وهناك، وهو ما لاحظناه فعلاً
في بعض القطاعات الطلابية والنقابية والسياسية التي أنشأها العمل الإسلامي أساساً
لإقامة الدين وعدم التفرق فيه؛ مما يفرض على ذوي الرأي والتوجيه في الحركة
الإسلامية ضرورة الحرص في العمل التربوي على تجديد الوعي بالمنطلقات
المنهجية، والثوابت الدينية في كل عمل يراد له أن يكون إسلامياً.
وأحسب أن أول ما ينبغي أن نأخذه من المفهومات بقوة، هو:مفهوم (القرآن) ؛
من حيث هو المتن الرئيس لرسالة الله إلى الناس، والمؤسِّس لمقاصد التعبد في كل
عمل.
هذا خطاب الشباب اليوم في المنتديات، والجامعات، وسائر أنواع التجمعات،
هو في أغلبه خطاب فكري متخشب، لا نداوة فيه ولا طراوة. فيه كل شيء من
النصوص والاستشهادات والمرجعيات إلا آيات القرآن العظيم ونصوص السنة
النبوية! تفرقت بهم الأهواء بين أقوال المفكرين والسياسيين من الزعماء والعلماء،
حتى أحلُّوها في أنفسهم في بعض الأحيان محل القرآن، تقديساً وتوقيراً، ولو
ذكرت له: (قال الله، قال رسوله) لوجدت منه استهجاناً على المستوى النفسي
والعياذ بالله قد لا يشعر به هو نفسه؛ لأنك إنما تحدثه بما هو (معروف) ،
وبما هو (متداول) لا بما هو (جديد) ، هكذا!
ولقد بلغ الزيغ والضلال ببعض النابتة ممن يُحسَبون على الحركة الإسلامية
أن صاروا إلى تمجيد كتابات بعض العلمانيين المتلبسين بالمسوح الإسلامية، من
أمثال الدكتور نصر حامد أبو زيد، والدكتور حسن حنفي! أما النهل من كتابات
الروافض خاصة في الظروف السياسية الراهنة المعروفة فحدث ولا حرج! فماذا
إذن تنتظر من حركة ينهل شبابها من كتابات أمثال هؤلاء؟ ! إن عدم توحيد
المرجعية، وعدم ضبط المنطلقات لن يضمن استمرار التوجه الإسلامي الصرف
لأي حركة قامت في الأصل على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
ثم غفلت عن (بدهياتها) .
إن القول بوجوب رجوعنا إلى القرآن الكريم ليس بمعنى تزيين الكلام بآية أو
أخرى هكذا اعتباطاً، ولكنه رجوع منهجي مبدئي يجب أن يتقرر في الأذهان،
ويستقر في الوجدان؛ ليكون فعلاً نوراً يمشي به المسلم في طريقه إلى الله، ويبقى
ذاكراً جيداً أنه بهذا العمل السياسي، أو النقابي، أو الاجتماعي، أو الإعلامي ...
إلخ، إنما يعبد الله. هذا هو الأصل العظيم الذي كثيراً ما يغيب، فيغيب معه كل
شيء؛ لأنه (الفصل الجوهري) على حد تعبير المناطقة الذي يَسِمُ العمل بوصف
(الإسلامية) .
الإسلام بلاغ:
من أخطر مزالق العمل الإسلامي أن يغيب عنه في خضم الصراع السياسي،
والتدافع الاجتماعي، أن طبيعة مشروعه قائمة أصلاً على أنه (رسالة ربانية)
بالقصد الأول، وجب على حملتها الانضباط إلى شروط الأمانة في تبليغها، كما
تقتضيه شروطها هي، لا كما تقتضيه أمزجتهم هم حسب أغراضهم وأهوائهم.
إن (البلاغ) بمفهومه القرآني هو أصل العمل الدعوي؛ ذلك أنه بصيغته هذه
مشترك الدلالة بين معنيين: لازم، ومتعد. فهو بلاغ في ذاته، أي أنه مضمون
رسالي جاء من رب العالمين يحمل عدداً من البلاغات الربانية إلى الناس أجمعين،
ثم هو مقصود بـ (البلاغ) تكليفاً، أي بالتبليغ؛ ذلك أن (البلاغ) يرد في
العربية بمعنى (التبليغ، والإبلاغ) أيضاً؛ فهو لفظ مزدوج الدلالة، وكذلك ورد
في القرآن كما سترى بحول الله. جاء في لسان العرب: (والبَلاغُ: الإبْلاغُ. وفي
التنزيل: [إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ] (الجن: 23) ، أي لا أَجِدُ مَنْجى إلا
أن أُبَلِّغَ عن اللهِ ما أُرْسِلْتُ به. والإبلاغُ: الإيصالُ، وكذلك التَبْلِيغُ، والاسم منه
البَلاغُ) [1] .
قلت: هذا أصل عظيم في الدين وجب الثبات على تذكره والتذكير به، بلا
ملل ولا خجل، والتأكد من سلامة استقراره في الوجدان الحركي للعمل الإسلامي؛
ذلك أن دوَّامة التدافع الدولي والاجتماعي المعاصر كفيلة بجرف الماء عن أبسط
منطلقاته، وأوضح مبادئه، في أي لحظة من لحظات انغماسه الإداري والتنظيمي
في وطيس الاستفزازات السياسية، والمنافسات التنظيمية، إلا أن يعتصم بالمناط
الرسالي لعمله، يدور معه حيث دار وجوداً وعدماً، في كل أمره، جليله وحقيره،
وبيان ذلك كما يلي:
سألني أحد المحبين يوماً في غمرة الحيرة التي انتابته؛ إذ لاحظ ما آل إليه
الوضع الإيماني من انحطاط، في بعض مظاهر العمل الإسلامي الراجعة إلى نوع
من الاستفزازات، وبعض ردود الأفعال، قال: كيف نجدد ديننا؟
قلت: هناك سؤالان كبيران يرتبطان بوجود الإنسان في الكون، ويحددان
مصيره فيه، وهما أول الخطو في طريق المعرفة الربانية التي هي مرجع كل عمل
إسلامي، وأساس كل تجديد ديني، لكن قلما نضعهما نحن المسلمين اليوم على
أنفسنا؛ لأننا نزعم أننا نعرف الجواب بداهة؛ فهل حصل لك أن جردت نفسك من
نفسك وسألتها يوماً كأنها شخص آخر:
السؤال الأول: هل تعرفين الله؟
السؤال الثاني: هل تعرفين القرآن؟
المشكلة هي أننا عندما نكتفي بـ (نعم) نكف بها عن البحث، وننقطع عن
السير في طريق المعرفة الربانية، واستكشاف هذا القرآن العظيم؛ ومن ثم نفقد
بوصلة الصراط المستقيم في عملنا الدعوي.
افترض إذن أنك مثلي لا تملك الحقيقة كاملة، ولنتابع البحث معاً:
ألسنا مسلمين؟ ألسنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ بلى طبعاً.
هذا شيء حسن؛ فدين الإسلام الذي هو باب النجاة يوم القيامة إنما ينبني بعد
الإيمان بالله على شهادة أن محمداً رسول الله. هذا بدهي، ومعلوم من الدين
بالضرورة، نعم، ولكن تأمل: عبارة (رسول الله) ، هذا الوصف للنبي محمد
صلى الله عليه وسلم هو مناط الدين الذي قال عنه الله عز وجل: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ
اللَّهِ الإِسْلامُ] (آل عمران: 19) ، [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85) . فكل الإسلام قائم على
شهادة أن محمداً رسول الله؛ فنتج عن هذا الوصف (رسول) أن الدين كل الدين
أعني الإسلام هو عبارة عن (رسالة) . وهذا شيء عظيم جداً، ندرك رسمه،
وقلما نتذوق حقيقته. وإليك البيان:
عندما نقول: (محمد رسول الله) فإن الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية
كلتيهما تقتضيان أن محمد بن عبد الله قد جاء برسالة معينة؛ أي أنيطت به مهمة
يقوم بتبليغها، فكان بذلك (رسولاً) ، ولولا ذلك لما كان له شأن في الكون ولا في
التاريخ.
نعم هذه بدهيات.. ولعل عدم تأملنا لهذا الذي نسميه (بدهيات) ، أو
معلومات من الدين بالضرورة، هو سبب شرودنا بعيداً عن حقائق الإسلام.
إن (الرسالة) أي رسالة، مهما كانت لها أربعة أركان هي:
الأول: المرسِل وهو من قام بإرسال الرسالة.
والثاني: المرسَل إليه، وهو الطرف المعني بها والمخاطب
بفحواها.
والثالث: الرسول، وهو حامل الرسالة المبلغ لها، بتكليف من المرسِل.
ثم الرابع: وهو الخطاب المرسَل وهو مضمونها، أي متن الرسالة،
ونصها اللغوي الحامل لمقاصد مرسلها.
وهذا كله لو تدبرت منطبق على الإسلام من حيث هو رسالة.
فالخلاصة إذن، هي أن الإسلام: رسالة مضمنة في متنها، أي في خطابها
الحامل لمضمونها الرسالي، وهو القرآن الكريم الذي هو متن الرسالة، ثم السنة
النبوية التي هي ملحقها الشارح، تلك هي أول مراتب [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ]
(الفاتحة: 6) ، لو تدبرت قليلاً.
إنك لو قرأت القرآن بهذا المنطق لوجدت عجباً!
إن تجديد الدين يقوم أساساً على تبين ما [الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] (الفاتحة:6)
ثم كيف الاستقامة عليه؟ وبغير ضبط (الحقيقة الرسالية) للقرآن يكون كل
فعل من محاولات التصحيح خارج {الصٌَرّاطّ الًمٍسًتّقٌيمّ} . وليس عبثاً أن يكون ذلك
هو دعاء المسلم في كل صلاة، سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على الأقل.
مهم جداً أن تستحضر في ذهنك ووجدانك أن القرآن يخبرنا عن نفسه، أنه
رسالة، جاءت تحمل (الهداية) للناس الحيارى وكل الناس لولا الدين حيارى
ويرسم لهم معالم الصراط المستقيم، فتدبر قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً
مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ
مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ] (الشورى: 52-53) .
هذه أول درجات الوعي التي يجب أن تحققها لذاتك وللآخرين: (الإسلام
رسالة) ، متنها القرآن. إن الشعور بالمعنى الرسالي للقرآن إنما يتحقق لك على
المستوى النفسي إذا تصورت طبيعة الوجود البشري؛ ذلك أن الإنسان وقد جاء من
عالم الغيب، قد أحاطت به حجب عالم الشهادة ففقد الاتصال بأصله الغيبي إلا ما
كان من نداء الفطرة الخفي في قلبه. إن ميلاد كل شخص من بطن أمه ونزوله إلى
الدنيا هو كنزول آدم عليه السلام من الجنة في عالم الغيب إلى الأرض؛ حيث تبدأ
حجب الحياة الدنيا تنسج عليه غلائل النسيان وتغرقه في جزئياتها اليومية،
فيضرب بعيداً عن استشراف السماء مرة أخرى؛ ومن هنا اقتضت رحمة الرب
العظيم وهو الرحمن الرحيم أن يرسل الرسل إلى الناس: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة: 21-22) ، جاءت الرسالة من عالم الغيب لتربط
الإنسان بأصله الحقيقي، ولتشعره بسعة الكون، وربوبية الخالق عز وجل المحيطة
بكل شيء ثم لتعلمه بقصته كاملة من النشأة حتى المصير، وما له في ذلك كله وما
عليه، فجاء القرآن لذلك في صورة (بلاغ) رباني. هذا مصطلح مهم جداً
للتعرف إلى طبيعة القرآن: إنه (بلاغ) فيه دلالة عميقة جداً على (قصد التبليغ)
لمضمون الرسالة؛ حتى يتم العلم بها على التمام عند من قُصدوا بالتبليغ والإعلام،
قال عز وجل: [هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (إبراهيم: 52) .
بلاغ قادم من عالم الغيب، من فوق سبع سماوات إلى عالم الشهادة، إلى
الإنسان المتحرك فوق هذه الأرض، وبين العالمَيْن مسافة رهيبة، لا تستطيع
النفس استيعابها مهما أوتيت من قدرة على الخيال، فجاء القرآن رسالة تعبر تلك
المسافات كلها لتلقي على الإنسان خطاباً ربانياً عظيماً يحمل قضايا محددة قصدَ
(إبلاغها) للإنسان، قضايا أو إن شئت فقل: (بلاغات) هي مناط مسؤوليته
ووظيفته في الأرض.
ولقد كان أول هذه البلاغات هو القرآن نفسه، أعني أن أول ما جاء القرآن
ليبلغه إلى الناس هو هذا المعنى الرسالي للقرآن، حتى لا يقرأه أحد أو يستمع إليه
بعيداً عن هذه الحقيقة الكونية الكبرى، فلا يستفيد من بلاغاته الربانية شيئاً.
إن أول ما يجب أن يعرفه الإنسان من القرآن هو طبيعة هذا القرآن، من
حيث هو رسالة رب الكون مرسلة إلى واحد من أهم سكان الكون: أنت، وأنا،
وكل إنسان.. فكان ذلك هو البلاغ الأول للقرآن.
ومن هنا فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله إلا بهذا القرآن
استجابة لقوله تعالى: [فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً] (الفرقان:
52) ، وكذلك كان صحابته الكرام على هديه؛ فما أسلم أغلب من أسلم من
الصحابة إلا بعد سماع القرآن، وهذا أمر متواتر في كتب السنن، وكتب السير
والمغازي لمن استقرأه وتتبعه، ومن أشهر الأمثلة على ذلك قصة مفاوضة قريش
للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ بعثت إليه ممثلها الوليد بن عتبة، فكلمه في أن يكف
عن تسفيه أحلامهم، حتى إذا فرغ من مقالته قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:
«أفرغتَ؟» قال: نعم! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حم *
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] (فصلت: 1-2) حتى بلغ: [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ] (فصلت: 13) [3] .
وكذلك كانت سفارة النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد؛ إذ يرسل صحابته
إلى الأقاليم والأمصار؛ فإنما كانوا يدعون الناس بالقرآن، كما هو الشأن في بعث
أصحابه إلى المدينة؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أول من قدم
علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم
فجعلا يقرئاننا القرآن» [4] .
في اكتشاف البلاغ القرآني تدبراً وتفكراً:
لا سبيل إلى معرفة الحقيقة إلا عبر هذا القرآن أولاً، ولا يكون ما دونه من
طرق المعرفة إلا توابع له وملاحق؛ فهو متن الرسالة التي أرسلها رب العالمين
إلى الخلق، وما سواه شروح وتفاسير، ويا لتعاسة من ضل عن هذا الأصل العلمي
العظيم! إذن يضرب في التيه على غير هدى.. قال عز وجل: [إِنَّ هَذَا القُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً *
وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً] (الإسراء: 9-10) . وقال
مستدركاً بقوة على الذين حرفوا وبدلوا وغيروا: [مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ
الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) . ذلك
سبيل الربانية الأوحد، لا سبيل سواه، فتدبر.
ومن هنا وجب أن تكون خطوتك الأولى في طريق المعرفة الربانية أن
تتعرف إلى القرآن، بل أن تكتشفه؛ ولذلك جاء الخطاب القرآني يحمل أمر القراءة
للقرآن تلاوة وترتيلاً، وأمر التعلم للقرآن مدارسةً وتدبراً.
والتدبر هو غاية كل ذلك ونتيجته؛ ولذلك قال عز وجل: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (ص: 29) . فجعل غاية
الإنزال للقرآن التدبر والتذكر، ولولا التدبر لما حصل التذكر الذي هو يقظة القلب،
وعمران الوجدان بالإيمان؛ فالتدبر هو المنهج القرآني المأمور به لقراءة القرآن
العظيم؛ ومن هنا زجره تعالى للناس الذين لا يتدبرونه. قال سبحانه: [أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24) ، [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] (النساء: 82)
فما التدبر إذن؟
تَدَبَّرَ الشيء في اللغة يَتَدبَّرُه: تتبع دبره، أي نظر إلى أواخره وعواقبه
ومآلاته، كيف هو إذا صار إليها؟ وكيف يكون؟ جاء في لسان العرب: (ودَبَّرَ
الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واسْتَدْبَرَه: رأى في عاقبته ما لم يرَ في صدره،
وعَرَفَ الأمْرَ تَدَبُّراً أي بأَخَرَةٍ. والتَّدْبِيرُ في الأمر: أن تنظر إلى ما تَؤُول إليه
عاقبته. والتَّدَبُّر: التفكر فيه) [4] .
فتدبر القرآن وآيات القرآن: هو النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي
المجتمع؛ وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله، فتنظر إن كانت متعلقة بالنفس إلى
موقعها من نفسك، وآثارها في قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها؟ وما موقعك
من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله في نفسك، وما تعانيه من قلق
واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها،
باعتبارها مقياساً لوزن نفسك وتقويمها، وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي
بوصفاتها.
وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع، فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف
تراها اليوم تقع؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها، عند
المخالفة وعند الموافقة؟ ثم تنظر ما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير؟ وهنا
تلج إلى باب آخر من أبواب القرآن رديف للتدبر، بل هو منه، ذلك هو: التفكر.
إن التفكر غالباً ما يرد مذكوراً في القرآن في سياق النظر في خلق الله، والتأمل في
بديع صنعه، كما في قوله تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا
سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ
إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ] (آل عمران: 190-194) ؛ فكل هذه الأدعية العابدة،
الحارة، الخاشعة، الباكية؛ إنما هي نابعة عن الإحساس الحاصل للعبد بُعَيد التفكر
في خلق الله، فاقرأ الآيات وتدبر تجد أن المؤمن لمَّا يسيح في جنبات الكون الفسيح
فإنه يشعر بعظمة الله الواحد القهار، وتأخذه الرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه،
فيسرع هارباً إلى مساكن رحمته، وجمال غفرانه.
وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له إلى امتدادات الكون، ويرجع به إلى
كشف كثير من أسرار الوجود، وغرائب الخلق؛ فإن (التدبر) الذي هو المنهج
الرباني لقراءة القرآن، يحيل الإنسان إلى (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة
الكون، فيكون كل متدبر للقرآن متفكراً في الكون، فيقرأ بقراءة القرآن كل آيات
الله المنظورة والمقروءة سواء.
هكذا وجب أن تقرأ القرآن آية آية، اقرأ وانظر.. عسى أن ترى ما لم تر،
وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل، فتكون له متدبراً.. فتدبر.
ولنسأل الآن: ما القرآن؟ ما هذا الكتاب الذي هزَّ العالم كله، بل الكون كله؟
أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه (كلام الله) ، واختلفوا بعد ذلك في
خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف
الصالح. وإنما المهم عندنا الآن ها هنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين:
(القرآن كلام الله) . هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلاً.
الله جل جلاله خالق الكون كله، هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا
الكون في الآفاق؟ طبعاً لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى؛
فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل
البشري المحدود.. هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك
النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع
وأطباقها، إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية.
أين أنت الآن؟ اسأل نفسك.. أنت هنا في ذرة صغيرة جداً تائهة في فضاء السماء
الدنيا: الأرض. وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء، هو محيط بكل شيء قدرة
وعلماً.. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان،
فكلمك بالقرآن.. كلام الله رب العالمين، أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب
الكون يكلمك [فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى] (طه: 13) ، أيُّ وجدان، وأيُّ قلب، يتدبر
هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجداً لله الواحد القهار رغباً ورهباً؟ اللهم إلا إذا كان
صخراً أو حجراً. كيف، وهذا الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ [لَوْ أَنزَلْنَا
هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الحشر: 21) ، وهي أمثال حقيقية لا مجاز، ألم تقرأ
قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: [إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ] (ص: 18-19) ، وقوله تعالى:
[فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ] (الأعراف: 143) .
كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عَلُ: أي من فوق؛
لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى فوق كل شيء، محيط بكل شيء علماً وقدرة. إنه
رب الكون.. فتدبر، [أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ]
(فصلت: 54) . ومن هنا جاء القرآن محيطاً بالكون كله، متحدثاً عن عجائبه.
قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: [فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ
لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ
المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ] (الواقعة: 75-82) . سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك
نكذب.
ذلك هو القرآن.. كلام من أحاط بمواقع النجوم؛ خلقاً، وأمراً، وعلماً،
وقدرة، وإبداعاً، فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم،
من بعدما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه وتعالى فقال له: [إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 5) . ومن هنا لما كذَّب الكفار بالقرآن نعى الله
عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم، عن أن يستوعبوا بُعده
الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: [وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ
كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً] (الفرقان: 5-6) ، وإنه لرد عميق جداً؛ ومن هنا جاء
متحدثاً عن كثير من السر في السماوات والأرض. قال عز وجل: [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا
فِي هَذَا القُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً] (الكهف:
54) . وقال: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ
لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُّحِيطٌ] (فصلت: 53-54) .
فليس عجباً أن يكون تالي القرآن متصلاً ببحر الغيب، ومأجوراً بميزان
الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا
معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى
الباطني المنحرف، ولكن الرباني المستقيم، أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به
الله؟ إذن! يكفيه ذلك دلالة وأي دلالة! ويكفيه ذلك عظمة وأي عظمة! فعن ابن
مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفاً
من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن
ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» [5] ، [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (الجمعة: 4) .
إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير،
له الأسماء الحسنى والصفات العلىا، نثبتها كما أثبتها السلف، بلا تأويل ولا
تعطيل ولا تشبيه. لقد تكلم عز وجل، وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه
الأمة المشرفة أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فكان صلة بين العباد وربهم، صلة
متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه
الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين.
قال عليه الصلاة والسلام في خصوص هذا المعنى، من حديث لطيف تشد
إليه الرحال: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» [6] ، وقال
في مثل ذلك أيضاً: «أبشروا.. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم،
فتمسكوا به؛ فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبدا» [7] . وروي بصيغة أخرى
صحيحة أيضاً فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا.. أبشروا..
أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قالوا: نعم! قال: «فإن هذا
القرآن سببٌ طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به؛ فإنكم لن تضلوا، ولن
تهلكوا بعده أبداً» [8] .
ذلك أن القرآن جاء وهو من رب العالمين بلاغاً إلى الناس أجمعين، يحمل
رسالة ذات مضامين من النبأ الرباني العظيم، نبأ الخلق، ونبأ الكون، ونبأ الغيب،
ونبأ الشهادة، ونبأ الحياة، ونبأ الموت، ونبأ البعث القريب، ونبأ الأمر الإلهي
الحكيم في ذلك كله، وكلف رسوله ببلاغه جميعاً إلى الناس، فقال له عز وجل:
[يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ] (المائدة: 67) ، وقال أيضاً:
[قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً] (الجن:
22-23) ، وقال سبحانه: [هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (إبراهيم: 52) ، وقال: [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ
وَعَلَيْنَا الحِسَابُ] (الرعد: 40) ، ومن أشد المعارض القرآنية لهذا المعنى وقعاً
على النفس، قوله تعالى للمؤمنين من هذه الأمة بعد آية تحريم الخمر مباشرة:
[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ
المُبِينُ] (المائدة: 92) ، ونحو ذلك كثير في القرآن الكريم مما ينطق عن
طبيعته (البلاغية) بالمعنى الرسالي للكلمة، وما ينتج عن ذلك كثير من إعذار
وإنذار، ومن ثقل الأمانة الملقاة على عاتق كل مسلم، بل كل إنسان (بلغته)
الرسالة.
ها هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان؛ فاحذر أن تظنك
غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايين البشر، لا يُدْرَى لك
موقع من بينهم؛ كلا، كلا، إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام
الرباني من كمال وجلال. أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد،
ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد، [قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ
تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
(آل عمران: 29) ؛ فهو سبحانه جل جلاله لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما
معنى الربوبية وكمالها؟ وكما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من
جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر، وتحت
طبقاته، وفي مدارات السماء ... إلخ، كل ذلك في وقت واحد وهو تعالى فوق
الزمان والمكان لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل
شيء قدير، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات،
وكأنه لا يخاطب أحداً سواك، فاحذر أن تخطئ هذا المعنى.. تذكر أنه كلام الله،
وتدبر.
قال جل جلاله: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]
(محمد: 24) ، [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً] (النساء: 82) .. فتدبر!
ذلك هو القرآن: الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر؛ فوراء كل كلمة منه
حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة
والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرهاً نحو نهايتها، فتدبر؛ فإن فيه كل
ما تريد. ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن، عليك بالقرآن، اجعله صاحبك
ورفيقك طول حياتك، تكن من (أهل الله) كما في التعبير النبوي الصحيح. قال
صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى أهلين من الناس: أهل القرآن هم أهل الله،
وخاصته» [9] .
هذا غاية ما عندي عن القرآن، فلا تغتر بما عندي، إنه لا يحدثك عن
القرآن إلا القرآن، فتدبر.. اقرأه آية فآية، وتدبر.
خاتمة:
القرآن إذن هو متن رسالة الله يمنحك أول مقاصده الإرسالية: معرفة الله،
مرسل الرسالة إلى الخلق، تلك حقيقته الأولى، وهي أول ما يرفع بصيرتك إليه،
عسى أن تبصر جمال الخالق جل جلاله، فتكون له من العابدين.
فاسأل نفسك: هذه هي الرسالة: القرآن، ولكن هذا المرسل.. من يكون؟
ومن هو؟
هذا أول المعرفة الربانية، وهو في مقاصد؛ الخطاب القرآني، البلاغ الأول
من بلاغات القرآن، ذلك من حيث الرتبة لمقاصد الإرسال، وهو ها هنا من حيث
ترتيب السير المنهجي في التعرف إلى معالم الطريق، ومنازل السير يحتل الرتبة
الثانية منهجياً لا مقاصدياً؛ إذ لا يعرف الله إلا بمعرفة القرآن، كما أنه لا يمكن أن
يعبد الله عملياً إلا باتباع رسوله، وإن شئت فقل: معرفة الله وتوحيده هو غاية
الغايات، ومنتهى الخطوات، ولكن أولاها قطعاً وإنجازاً هي معرفة القرآن، فإذا
أنت عرفت ما القرآن؟ وبدأت تغرف من مأدبة الله، وجدت الله جل وعلا أول
المقاصد التي يدعوك القرآن لتعرفها، ومن هنا لم تكن الأمة لتنبعث من جديد إلا
ببعث القرآن فيها من جديد؛ ذلك صمام الأمان لسلامة السير في كل عمل إسلامي،
والمقياس الفاصل بين الحق والباطل في كل استقامة أو انحراف عن الصراط
المستقيم من المنهج الدعوي العام، والله الموفق للحق والمعين عليه، فتدبر!
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس المغرب.
(1) لسان العرب: مادة (بلغ) ، طبعة دار صادر، بيروت.
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده، وابن هشام في السيرة، والبيهقي في الدلائل، وأبو نعيم في دلائل النبوة، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، والحاكم في المستدرك، ووافقه الذهبي، وحسنه الأستاذ إبراهيم العلي في صحيح السيرة النبوية، ص 64، دار النفائس، الأردن، الطبعة الثانية، 1416هـ 1996م.
(3) رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، صحيح السيرة النبوية، لإبراهيم العلي، ص 58.
(4) لسان العرب، مادة: (دبر) .
(5) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، انظر سنن الترمذي، (كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر؟) ، كما رواه الحاكم في المستدرك.
(6) رواه الطبري في تفسيره، (4/31) ، نشر دار الفكر، بيروت لبنان، 1405هـ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 4473، نشر المكتب الإسلامي بيروت، دمشق، الطبعة الثالثة، 1408هـ 1988م.
(7) رواه الطبري بإسناد صحيح (صحيح الجامع الصغير، ص 34) .
(8) رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعبه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني في الكبير، وعبد بن حميد في المنتخب من المسند، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ص 713، نشر مكتبة المعارف بالرياض، لصاحبها سعد عبد الرحمن الراشد، طبعة جديدة بتاريخ 1415هـ 1995م.
(9) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، ص 2165.(170/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
غربة تطبيق السنة
محمد بن عبد الله الهبدان
alhabdan@email.com
من ظواهر الغربة التي فشت وانتشرت في الأمة فقدان تطبيق سنن النبي
صلى الله عليه وسلم في الحياة اليومية ليس عند العامة، بل حتى عند بعض طلاب
العلم، «وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين أقوام
دون قوم» [1] ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن «من صفات هؤلاء
الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة إذا رغب عنها
الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر
ذلك أكثر الناس» [2] .
روى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن
ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين ليأزر
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون
ما أفسد الناس من بعدي من سنتي» [3] .
وروى ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن بكر بن عمرو المعافري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله
حين يترك، ويعلمون [4] بالسنة حين تطفأ» [5] ، وقال أبو بكر بن عياش:
«السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان» [6] ، ويقول يونس بن
عبيد رحمه الله تعالى: «ليس شيء أغرب من السنَّة، وأغرب منها من
يعرفها» [7] .
حال السلف في الشكوى من غربة تطبيق السنة:
لقد تكاثرت أقوال السلف في بيان هذه الغربة في أزمان تُعد من أفضل
الأزمان، وقرون هي من أفضل القرون بشهادة من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا
وحي يوحى، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: «لو خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم عليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة» .
وقال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟
وقال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما أعرف منكم ما كنت أعهده على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قولكم: لا إله إلا الله. قلنا: بلى يا أبا
حمزة! قال: قد صليتم حتى تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ !
وعن ميمون بن مهران قال: «لو أن رجلاً أُنْشِرَ فيكم من السلف ما عرف
غير هذه القبلة» ، وعن سهل بن مالك عن أبيه قال: «ما أعرف شيئاً مما أدركت
عليه الناس إلا النداء بالصلاة» [8] .
وهذه حقيقة واقعة في هذا الزمن، ليس بين عوام الأمة، بل حتى بين طلاب
العلم أحياناً، فإذا ما قام أحدهم بتطبيق سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم
إذا بنظرات الاستغراب تنهال من كل حدب وصوب، وكأنك فعلت أمراً منكراً، بل
أشد من ذلك أحياناً ولا وحول ولا قوة إلا بالله أن يكون المنكر أخف؟ ! ! فكم من
الناس من يرتكب المعاصي ومع ذلك لا تجد من ينكر عليهم، ويحتسب في
مناصحتهم، أما لو طبق سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم فهذا إن سلم
من العقوبة أحياناً فقد لا يسلم من السكوت عنه وأقل الأحوال أن توجه إليه الأنظار!
وهذه القضية ليست في عصرنا فحسب بل حتى في العصور الماضية، فعلى
سبيل المثال: يقول الشاطبي رحمه الله في الاعتصام: «فرأيت أن الهلاك
في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يُغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك
على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليّ الملامة،
وفوّق إليّ العتاب سهامه، ونُسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل
الغباوة والجهالة» [9] ، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما يأتي على
الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت
السنن» [10] .
وسأذكر لك أخي القارئ نماذج من هذه الغربة، فمن ذلك:
ما يفعله الإنسان عند الغضب: روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر قال:
كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات
من رأسه؟ فقال رجل: أنا، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه، وكان أبو ذر
قائماً فجلس، ثم اضطجع! ! فقيل له: يا أبا ذر! لِمَ جلستَ ثم اضطجعت؟ ! قال: فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «إذا غضب أحدكم وهو قائم
فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» [11] .
فهذه سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم يغلب على ظني أنها قد هجرت
من كثير من الناس حتى لو أردت أن تفعلها ذات يوم والغضب جِبِلَّة في الناس
لأصبحت محل استغراب الناس، وكأن حالهم يقول: يأتي إليه رجل فيغضبه
ويتكلم عليه أو يكسر له متاعاً، ثم يجلس أو يضطجع على جنبه؟ ! ثم تلحظ
حرص السلف رحمهم الله تعالى على التطبيق العملي للسنة؛ فأبو ذر قبل أن يعلِّم
الناس قام هو بفعل السنة ثم علَّمهم، وهذا يعطينا درساً في تعليم الناس ودعوتهم أن
نحرص على التطبيق العملي لأن تأثر الناس به أكثر.
السنة في المشي حافياً: روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن بريدة أن
رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر
فقدم عليه فقال: «أما إني لم آتك زائراً ولكني سمعت أنا وأنت حديثاً من رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم. قال: وما هو؟ قال كذا
وكذا، قال: فما لي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض؟ قال: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه. قال: فما لي لا أرى عليك حذاء؟
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحياناً» [12] .
وهذه سنة مهجورة، ولو فعلها الإنسان أحياناً لقيل: ما هذا التخلف والرجعية؟
فكيف لو فعلها مسؤول كبير أو أمير أو وزير كفضالة بن عبيد رضي الله عنه؟ !
إعفاء اللحية: من السنن الواجبة إعفاء اللحية لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«وفِّروا اللحى، وأحفوا الشوارب» [13] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
«أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى» [14] ، وغيرها من النصوص الشرعية الدالة
على تركها وإعفائها، ومع ذلك فبعض المجتمعات تكاد ألاَّ تجد فيها من يستطيع
إعفاءها بسبب ما يواجه من ضغط وإكراه، فنسأل الله تعالى أن ينصر دينه، وأن
يخذل أعداءه، وأن يعز أولياءه.
السنة في لباس الرجل: روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال:
«مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء فقال: يا عبد الله! ارفع إزارك. فرفعته، ثم قال: زد. فزدت؛ فما زلت أتحراها بعدُ. فقال
بعض القوم: إلى أين؟ فقال: أنصاف الساقين» [15] ، وروى ابن ماجه في سننه
عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قلت لأبي سعيد: هل سمعت من رسول
الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في الإزار؟ قال: نعم! سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: «إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه ما بينه وبين
الكعبين، وما أسفل من الكعبين في النار يقول ثلاثاً: لا ينظر الله إلى من جر
إزاره بطراً» [16] .
ولعلك أخي القارئ تلحظ عدم الاستنكار على من يسبل إزاره، أو على الأقل
تبلد الإحساس لدى الناس، ولكن من رفع إزاره كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛
فانظر ما تجد من ملاحقة الأنظار، ومن العتب والتوبيخ، والله المستعان.
البدء بركعتين في المسجد عند القدوم من السفر: روى البخاري ومسلم من
حديث كعب بن مالك، وفيه: «فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه
ركعتين، ثم جلس للناس» [17] .
إعادة السلام وتكراره إذا حال بينهما شيء ولو يسيراً: روى أبو داود في
سننه عن أبي هريرة قال: «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما
شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه أيضاً» [18] .
تعميم السلام: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام،
وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» [19] ، وهذا حاصل والله المستعان فلو
سلمت على أحد من الناس ورحبت به لقال بلسان الحال أو المقال: لعلك قد شبهت
عليّ! ! وقد جاء في المسند أن سلام الخاصة من علامات الساعة، فروى الأسود
بن يزيد قال: أقيمت الصلاة في المسجد فجئنا نمشي مع عبد الله بن مسعود، فلما
ركع الناس ركع عبد الله وركعنا معه ونحن نمشي، فمر رجل بين يديه فقال:
السلام عليك يا أبا عبد الرحمن! فقال عبد الله وهو راكع: صدق الله ورسوله.
فلما انصرف سأله بعض القوم: لِمَ قلت حين سلم عليك الرجل: صدق الله ورسوله؟
قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة
إذا كانت التحية على المعرفة» [20] .
لعق الأصابع والصحفة بعد الانتهاء من الطعام، ومسح اللقمة إذا وقعت على
الأرض ثم أكلها:
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: «إنكم لا تدرون في
أيه البركة» [21] ، وفي حديث جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها
للشيطان» [22] ، وبعض الناس لو رأى رجلاً يلعق أصابعه بعد الطعام أو يلعق
الصحفة لاستقذر ذلك منه وعدها عادة سيئة، وطريقة رجعية!
أسباب هذه الغربة:
أولاً: الجهل بالسنن: فكما قيل: الإنسان عدو ما يجهل، فينشأ المسلم على
أنها سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم فإذا جاء من يحيي السنة قابله
بالإنكار، ورماه بالجهل والبوار. قال الشاطبي رحمه الله: «سبب الخروج عن
السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على
صاحب السنة أنه غير صاحبها ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله» [23] .
ويقول ابن القيم رحمه الله: «قد غلب الشرك على أكثر النفوس لظهور
الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة،
والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام،
واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، ولكن مع هذا لا تزال
طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، لأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن
يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين» [24] .
وقال محمد بن الفضل البلخي: «ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما
يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من
التعلم» [25] .
ثانياً: التعصب المذهبي: قد يؤدي التعصب للمذهب إلى مخالفة سنة النبي
صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة كثيرة على ذلك [26]
وقد بلغ الأمر في ذلك إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً كبعض
الحنفية حينما أحرج في مسألة رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه،
وذكرت له الأحاديث الصحيحة التي قد تصل إلى درجة التواتر في هذا، وضع
على النبي صلى الله عليه وسلم في عدم رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه،
كل هذا لينتصر لمسألة فقهية، نعوذ بالله من الزلل [27] .
ثالثاً: الانبهار بحضارة الغرب الكافر: أدى هذا السبب إلى ترك بعض
السنن النبوية، وخاصة في هذا الزمن الذي غزا الإعلام الغربي ديار الإسلام
وهيمن عليها، فأصبح يصور للناس أن ما خالف حضارتهم يعد تخلفاً ورجعية،
وتقهقراً ووحشية، ورجوعاً إلى العصور الحجرية، فإذا بفئام من الناس تستحي أن
تطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يوصموا بهذه الصفات، ولذلك
تلحظ عندما يذهب بعض المسلمين إلى ديار الكفر أن بعضهم يتخلى عن بعض
معالم دينه، فإذا بالمرأة مثلاً تدع حجابها، وإذا بالرجل أحياناً يتخلف عن أداء
الصلوات، ويستحي من رفع الأذان في المطارات أو في أماكن عامة كالحدائق
والمنتزهات. والله المستعان.
رابعاً: عدم تعظيم السنة في القلوب: ولذلك يسأل كثير من الناس عن العمل
الذي توجهه إليه: هل هو سنة أم واجب؟ فإذا قلت: سنة. قال: الأمر يسير،
والدين يسر، والله تعالى غفور رحيم. وهكذا يتساهل بسنة النبي صلى الله عليه
وسلم حتى تنعدم بين الناس ويعد من يفعلها غريباً.
خامساً: خوف العجب والشهرة: فبعض الناس قد يترك السنة في زمن
الغربة خوفاً من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة المنهي عنها! فكأنه
يقول: أترك السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب [28] ! وهذا لا
شك خطأ فادح؛ فلو قلنا به لتُرِكَ كثير من الأحكام الشرعية بحجة خوف العجب
والشهرة؛ وكما قيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك.
سادساً: عدم وجود من يعمل بها: فيخشى من يطبقها الإنكار عليه، وقد
أشار إلى هذا المعنى الإمام الشاطبي حينما قال: «كان بعضهم تسرد عليه
الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام، فلا يجد له معتصماً إلا
أن يقول: هذا لم يقل به أحد من العلماء» [29] .
ثمرات التمسك بالسنة في زمن الغربة:
أولاً: دخول الجنة: فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي» قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال:
«من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» [30] .
ثانياً: مضاعفة الأجر والثواب: روى الترمذي وغيره عن أبي أمية الشعباني
قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟
قلت: قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كَنتُمْ تَعْمَلُونَ] (المائدة: 105) قال:
أما والله لقد سألتَ عنها خبيراً؛ سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً،
وهوى متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك،
ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل
فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم» . قال عبد الله بن المبارك:
وزادني غير عتبة: قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل
أجر خمسين منكم» [31] .
ثالثاً: أنه لا يُخاف عليه من سوء الخاتمة: من استقام على سنة النبي صلى
الله عليه وسلم فإنه لا يُخاف عليه من أن تختم له خاتمة سيئة. يقول عبد الحق
الإشبيلي رحمه الله: «إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه،
ما سُمِعَ بهذا قَطُّ، ولا عُلمَ به، والحمد لله، وإنما يكون لمن كان له فساد في
العقل، وإصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، أو لمن كان مستقيماً ثم يتغير
عن حاله، ويخرج عن سننه ويأخذ في غير طريقه، فيكون عمله ذلك سبباً لسوء
خاتمته، وشؤم عاقبته والعياذ بالله، قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) [32] .
رابعاً: ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه: روى مسلم في صحيحه عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» بدأ الإسلام غريباً
وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء « [33] .
وعن عبد الرحمن بن سَنَّة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:» بدأ
الإسلام غريباً ثم يعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله ومن
الغرباء؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» [34] . وفي حديث آخر بلفظ:
«قيل: ومَن الغرباء؟ قال: النُّزَّاع من القبائل» [35] .
خامساً: الهداية والتوفيق: قال تعالى: [وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا]
(النور: 54) ، وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال: «من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى
بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى،
ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم،
ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم» [36] . فتأمل كيف جعل ترك السنة ضلالة! فإذن
التمسك بها هداية وسعادة.
سادساً: قوة الفراسة، والنطق بالحكمة: قال أبو عثمان الحيري [37] : «من
أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على
نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالبدعة، قال الله تعالى: [وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا]
(النور: 54) » [38] ، وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران الجنيد: «من
ألزم نفسه آداب السنة، نورَّ الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة
الحبيب صلى الله عليه وسلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه» [39] ، وقال شاه
الكرماني: «من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات،
وعمَّر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة، وعوَّد نفسه أكل الحلال، لم
تخطئ له فراسة» [40] .
دورنا في إحياء السنن:
أخي القارئ: يبقى علينا تجاه سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: ماذا نفعل لها؟
وما دورنا؟
أولاً: أن نحيي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بنشر العلم بين الناس
وتطبيقها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة
فعُمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن
سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا
ينقص من أوزارهم شيء» [41] .
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: «قوله صلى الله عليه وسلم:
(من سن سنة حسنة) ، (ومن سن سنة سيئة) الحديث؛ وفي الحديث الآخر:
(من دعا إلى الهدى) ، (ومن دعا إلى الضلالة) . هذان الحديثان صريحان في
الحث على استحباب سن الأمور الحسنة، وتحريم سن الأمور السيئة، وأن من سن
سنة حسنة كان له مثل أجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان
عليه مثل وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له
مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى
والضلالة هو الذي ابتدأه، أم كان مسبوقاً إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم، أو
عبادة، أو أدباً، أو غير ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: (فعمل بها بعده) معناه:
إن سنها؛ سواء كان العمل في حياته أو بعد موته. والله أعلم» ، وقال عبد الله
ابن الحسن: قلت للوليد بن مسلم: ما إظهار العلم؟ قال: إظهار السنة، إظهار
السنة [42] .
ثانياً: ترهيب الناس من مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتذكيرهم
بذلك: روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن نفراً من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن
عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم.
وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه، فقال: «ما بال أقوام
قالوا كذا وكذا؟ ! لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن
رغب عن سنتي فليس مني» [43] .
ثالثاً: أن نبين للناس أن الأعمال لا تُقبل إلا إذا وافقت سنة النبي صلى الله
عليه وسلم: لِمَا جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو
رد» [44] ، وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ،
قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: «هذا الحديث قاعدة عظيمة من
قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل
البدع والمخترعات، وفي الرواية الثانية زيادة وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في
بدعة سبق إليها، فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئاً، فيحتج
عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو
سُبق بإحداثها، وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات،
وإشاعة الاستدلال به» .
رابعاً: أن يبين للناس أن المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم تقتضي متابعته:
قال تعالى: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران: 31) ، قال ابن كثير رحمه الله: «هذه الآية
الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه
كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في
جميع أقواله وأفعاله وأحواله» [45] .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) مدارج السالكين (3/196) .
(2) مدارج السالكين (3/ 197) .
(3) رواه الترمذي (2630) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) كذا في المطبوع، وكأنها: ويعملون بتقديم الميم على اللام.
(5) انظر: ص 65، والحديث مرسل لأن بكر بن عمرو المعافري لم يذكر من الصحابة، وقد مات سنة أربعين ومائة، انظر الميزان 1/347.
(6) اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/66) .
(7) كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة، لابن رجب، ص 28، 29.
(8) انظر: هذه الآثار وغيرها في كتاب الاعتصام (1/33 34) .
(9) الاعتصام (1/35) .
(10) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/319) .
(11) رواه أحمد، ورقمه (20386) .
(12) رواه أبو داود (3629) ، وصححه الألباني.
(13) رواه البخاري (5892) .
(14) رواه البخاري (5893) .
(15) ورقمه (2086) .
(16) ورقمه (3573) .
(17) رواه البخاري (4418) ، ومسلم (2769) .
(18) رواه أبو داود، ورقمه (4524) .
(19) رواه البخاري (12) ، ومسلم (39) .
(20) رواه أحمد (3482) .
(21) رواه مسلم (2033) .
(22) رواه مسلم، ورقمه (2033) .
(23) الاعتصام (1/23) .
(24) زاد المعاد (3/507) .
(25) سير أعلام النبلاء (14/525) .
(26) انظر هذه الأمثلة في كتاب إعلام الموقعين (2/216) وما بعده.
(27) انظر شرح نخبة الفكر، للشيخ سعد الحميد، ص 83.
(28) الاعتصام (2/259) .
(29) الاعتصام (2/275) .
(30) رواه البخاري ورقمه (7280) .
(31) رواه الترمذي (3058) ، والنسائي (4341) ، وأبو داود (3778) ، وابن ماجه (4014) ، وقال الترمذي: هَذَا حَديث حسن غريب.
(32) انظر: كتاب العاقبة، ص 180: 181 بتصرف.
(33) أخرجه مسلم، رقم 145.
(34) أخرجه أحمد في المسند، رقم 16249.
(35) أخرجه ابن ماجه، رقم 3988.
(36) رواه مسلم، ورقمه (654) .
(37) وهو سعيد بن إسماعيل بن سعيد الحيري، انظر: الحلية (10/244) .
(38) أخرجه أبو نعيم في الحلية (10/245) .
(39) ذكره القشيري في رسالته، ص 23 24.
(40) ذكره أبو نعيم في الحلية (10/237) .
(41) رواه مسلم (1017) .
(42) الاعتصام (1/120) .
(43) رواه مسلم، ورقمه (1401) .
(44) رواه البخاري (2697) ، ومسلم (1718) .
(45) تفسير ابن كثير، ص 237، طبعة دار السلام.(170/16)
تأملات دعوية
اعبدوا الله مالكم من إله غيره
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
كان الأنبياء أجمعون يدعون أقوامهم بدعوة واحدة هي دعوة التوحيد، وفي
القصص القرآنية التي ساقت أخبار دعوتهم كان كل نبي يقول لقومه: [يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] (الأعراف: 59) .
وأخبر تبارك وتعالى أنه بعث الأنبياء في أممهم لهذه الغاية: [َلَقَدْ بَعَثْنَا فِي
كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] (النحل: 36) [وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 25) .
ولا غنى للدعاة إلى الله تعالى أن يتأسوا بالأنبياء ويسيروا وفق منهجهم، وأن
يراجعوا مناهجهم وأساليبهم الدعوية بين آونة وأخرى ليدركوا مدى قربها أو بعدها
عن منهج الأنبياء.
ونحن في هذا النص لسنا أمام مسألة فرعية أو قضية جزئية، بل نحن أمام
قضية منهجية رئيسة، وثمة لوازم عدة لهذه القضية المنهجية منها:
* أن يكون أساس الدعوة ومنطلقها تعبيد الناس لله تبارك وتعالى، وتحقيق
التوحيد له عز وجل؛ ومن ثم فالدعوة للتوحيد سواء لتحقيق أصله أو لتصحيح واقع
المسلمين نحوه لا بد أن تكون هي الأساس والمنطلق، ومهما كانت الأمور الأخرى
من الأهمية بمكان فلا يسوغ أن تعلو منزلتها على منزلة التوحيد.
* كان الأنبياء مع دعوتهم للتوحيد يدعون قومهم لترك المنكرات التي كانت
لهم شعاراً، كالتطفيف، والبغي على الناس، وإتيان الفواحش، قال صلى الله عليه
وسلم عن بعثته: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوحَّد الله لا
يُشرك به شيء» [1] . وهكذا الدعاة إلى الله اليوم يجب أن يكون التوحيد أساس
دعوتهم ومنطلقها، ومع ذلك يعنون بعلاج المشكلات المتفشية في عصرهم.
* الإخلاص والصدق في الدعوة والبعد عن الأغراض الأخرى، فالداعية قد
تبدو أمامه أغراض اجتماعية أو سياسية أو مادية، فكلما ذكَّر نفسه بعنوان دعوته
عادت الأمور إلى نصابها.
* الوضوح والجلاء في الدعوة، فليس لدى الدعاة إلى الله ما يُخفونه عن
الناس، وليس لديهم ما يستحون من إعلانه وذكره.
* الحذر من الانجراف بالدعوة ذات اليمين وذات الشمال؛ فطائفة من الذين
ولجوا العمل السياسي للإصلاح نسوا أنفسهم، ونسوا غاية دعوتهم، وتحولوا إلى
حزب سياسي بحت يستخدم المنطق السياسي السائد، واللغة الشائعة دون تمحيص
أو مراجعة، حتى تكاد لا تفرق بينهم وبين أي حزب علماني آخر.
* الحذر من أن تطغى الحزبيات والولاءات، فيتحول الداعية إلى حامل
لفكرة حزب أو اتجاه، وإلى ساع لكسب الأتباع والأعوان ناسياً حقيقة دعوته
وغايتها.
* ربط الناس بالله تبارك وتعالى والبعد عن ربطهم بالأشخاص، والاعتناء
بتعليمهم فقه الكتاب والسنة أكثر من الاعتناء بتعليمهم آراء الرجال وأقوالهم، ومن
صور الغلو الممقوت في الأشخاص الغلو في السلاطين، حتى تتحول طاعتهم إلى
أصل بعد أن كانت تبعاً لطاعة الله عز وجل، وحتى تكون معصيتهم أشد من
معصية الله تعالى.
__________
(1) رواه مسلم، رقم (832) .(170/23)
ملفات
العولمة.. مقاومة وتفاعل
العولمة.. مقاومة وتفاعل
ما زال مصطلح (العولمة) من المصطلحات الغامضة التي لم تُحدَّد معالمها
بدقة؛ على الرغم من كثرة الكتب والدراسات التي كتبت فيه. لكن يبدو أن هناك
رأياً سائداً عند جمهرة من الساسة والمفكرين يشير إلى أن مصطلح (العولمة)
قرين لمصطلح (الأمركة) ، وهذا ما أشار إليه مؤلفا كتاب (فخ العولمة) عندما
قالا: (إن ثمة جهوداً خارقة تبذل لكي يتخذ العالم صورة واحدة؛ ولا ريب في أن
المحصلة النهائية لمثل هذا التطور ستكون في المجال الثقافي كما يتبناها ابن
نيويورك الفنان «كورت روي ستون» بسيادة الصراخ والزعيق الأمريكي بمفرده
في العالم أجمع) [1] .
لقد انهارت أوروبا أمام الغزو السينمائي والتلفزيوني الأمريكي كما ذكر ذلك
بعض المفكرين [2] ، ولم يحمها شعار الاستثناء الثقافي الذي رفعه وزير الثقافة
الفرنسي، وشعرت كثير من الدول بالقلق من هذه التحولات الثقافية والحضارية
التي يشهدها العالم؛ حتى قال وزير الخارجية الكندي: (لئن كان الاحتكار أمراً
سيئاً في صناعة استهلاكية؛ فإنه أسوأ إلى أقصى درجة في صناعة الثقافة؛ حيث
لا يقتصر الأمر على تثبيت الأسعار، وإنما تثبيت الأفكار!) .
فإذا كان هذا الانهيار والقلق قد حصل في الدول الكبرى التي تدرك خطورة
العولمة؛ فما بالك في الدول المهزومة التي ترى أن نهضتها إنما تكون بالانسلاخ
من هويتها، والوقوع في شرك التبعية، خاصة بعد إرهاب الأمركة الذي امتد
هديره بعد أحداث نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر ليجرف بطوفانه
ما بقي من كرامة الشعوب..؟ !
إن سراب العولمة وأكاذيبها المتتالية خاصة في المجال الاقتصادي بدأت
تتضح وتنكشف سوءاتها؛ ولهذا فإن مستقبل العولمة (الأمركة) أصبح مهدداً
بالسقوط التدريجي، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي زلزلت الكيان
الأمريكي وأسقطت هيبته.
لقد أشرنا في العدد (167) إلى المؤتمر [3] الذي عقده المنتدى الإسلامي في
لندن بعنوان: (العولمة.. مقاومة وتفاعل) ، ونشرنا مقالة تمهيدية للدكتور
إبراهيم بن ناصر الناصر بعنوان: (العولمة.. استثمار ومقاومة) ، ووعدنا بنشر
بقية الأوراق التي قدمت في المؤتمر، وها نحن بحمد الله نفي بالوعد وننشر الملف
بعد انعقاد مؤتمر الدوحة لـ (منظمة التجارة الدولية) التي تعد إحدى الأذرع
الرئيسة للعولمة.
__________
(1) فخ العولمة، ص 49.
(2) منهم: روجيه جارودي في كتابه: (أمريكا طليعة الانحطاط) ، ص 114.
(3) من الأوراق التي قدمت في المؤتمر: ورقة بعنوان: (عولمة أم استعمار؟) قدمها الأستاذ الدكتور محمد آمحزون، وورقة أخرى بعنوان: (العولمة الإعلامية) قدمها الدكتور مالك الأحمد، ولكن لم ننشرهما في هذا الملف لأنه سبق نشرهما في مجلة البيان في العددين (145، 148) مع العلم أنهما أضافا مادة علمية كثيرة، لكننا آثرنا عدم التكرار.(170/25)
ملفات
العولمة.. مقاومة وتفاعل
العولمة وصراع الحضارات
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40)
فالصراع سنة ماضية، والصراع بين الحضارات إنما هو في جوهره صراع
بين معتقدات لا بين طبقات ولا عرقيات. فأصحاب الطبقة الواحدة، والمنتمون إلى
قومية واحدة بل قبيلة واحدة قد يقتل بعضهم بعضاً إذا اختلفت معتقداتهم. على هذا
تدل الآية الكريمة التي تشير إلى اعتداء أناس من قبيلة هي أشرف قبائل العرب
على أناس آخرين من هذه القبيلة نفسها؛ لأنهم خالفوهم في معتقدهم. وهذا هو
الذي توصل إليه دارسو الحضارات من الغربيين؛ فإنهم يكادون أن يكونوا مجمعين
على أن الحضارة وإن تكونت من عناصر كثيرة إلا أن أهم عنصر فيها هو العنصر
الثقافي، وأن أهم عنصر في الثقافة هو الدين. ويلاحظون أن كبرى الحضارات
كانت إلى حد كبير مرتكزة على أديان. فما الحضارة؟ وما الثقافة؟ وما العولمة؟
وما علاقة الصراع بين الحضارات بها؟
الحضارة والثقافة والعولمة:
كلمات الحضارة والمدنية والثقافة والعولمة وإن كانت عربية إلا أنها جعلت
في استعمالنا الحديث رموزاً تدل على المعاني والمفهومات نفسها التي تدل عليها
الكلمات الغربية التي جعلناها ترجمة لها. فلننظر في تلك المعاني والمفهومات كما
هي عند أهلها. وأنسب ما نبدأ به هو الأمريكي هنتنجتون أول من أشاع تعبير
صراع الحضارات في مقال مشهور نشر في صيف عام 1993م في مجلة
Foreign Affairs بهذا العنوان، ثم نشر موسعاً في كتاب بالعنوان نفسه. ينقل
هنتنجتون عن عدد كبير من العلماء الغربيين تعريفهم لما أطلقنا عليه كلمة المدنية
أو الحضارةcivilization، والفرق بينها وبين ما نسميه ثقافة culture؛ فما
الحضارة أو المدنية وما الثقافة؟ يمكن أن نلخص مجمل أقوال من نقل عنهم
هنتنجتون في مفهوم الحضارة والثقافة فيما يلي:
يضع المفكرون الألمان حداً فاصلاً بين الحضارة والثقافة، فالحضارة عندهم
تشمل التقنية وسائر العوامل المادية، أما الثقافة فتشمل قيم المجتمع ومثله العليا
وخاصياته الفكرية والفنية والخلقية الكبرى. لكن سائر المفكرين الغربيين خالفوا
الألمان في هذا؛ فهم يرون أن الحضارة والثقافة كليهما تشيران إلى منهاج حياة أمة
من الناس، وأن الحضارة إنما هي الثقافة مكبرة، وأن كليهما يشمل القيم والمعايير
والمؤسسات وطرائق التفكير السائدة في أمة من الناس، وأن الدين هو أهم العناصر
المكونة للحضارة، وأن الحضارة ليست متطابقة مع العرق؛ فأصحاب العرق
الواحد قد ينتمون إلى حضارات مختلفة، كما أن الحضارة الواحدة كالحضارة
الإسلامية قد تضم مجتمعات مختلفة الأعراق والألوان والأشكال. والحضارة هي
أوسع وحدة ثقافية؛ فأهل قرية إيطالية مثلاً قد يتميزون ثقافياً عن قرية إيطالية
أخرى لكنهم يشتركون في ثقافة إيطالية تميزهم عن أهل القرى الألمانية. والألمان
والإيطاليون ينتمون إلى ثقافة أوروبية تميزهم عن الجماعات الصينية والهندية.
هذا الذي يجمع الأوروبيين هو حضارتهم التي تميزهم عن الحضارات الصينية
والهندية. فالحضارة هي أعلى تجمُّع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهوية الثقافية
لهم. وليس فوق الانتماء الحضاري للناس إلا انتماؤهم إلى الجنس البشري [1] .
أما العولمة فيمكن أن نقول: إنها في أساسها تصيير المحلي عالمياً؛ فهي
وصف لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalization لكنها في الوقت نفسه وصف
لبعض نتائج هذا التعولم. النتيجة النهائية المثالية للتعولم أن تكون للعالم كله لغة أو
لغات مشتركة، وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن
يسود فيه نظام اقتصادي واحد، ونظام سياسي واحد، وأن تسود فيه عقيدة واحدة،
وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين،
وأن يكون هنالك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعاً لذلك نظام
تعليمي واحد، وهكذا. وأن تكون كل هذه الأمور التي تعولمت مناسبة للناس من
حيث كونهم بشراً، ومساعدة لهم على تحقيق طموحاتهم المادية والروحية، أي
تكون للعالم حضارة عالمية واحدة. هذا هو الهدف النهائي المثالي، لكن العولمة قد
تكون ناقصة، وقد تكون تامة من غير أن تكون مناسبة للبشر بل مفروضة عليهم
لظروف طارئة.
المهتمون بقضية العولمة متفقون تقريباً على أنه وإن كانت الكلمة جديدة إلا
أن ما تصفه ليس بجديد، بل يرى بعضهم أن السير نحو هذه العالمية بدأ منذ مئات
السنين.
فإذا كانت هذه هي العولمة فما وسائلها التي تجعلها ممكنة وتحركها؟ يذكر
بعض المؤرخين أنه كان للعولمة في الماضي سببان رئيسان هما الهجرة والغزو.
ولكن لنا أن نسأل: لماذا يهاجر الناس، ولماذا تغزو بعض البلاد بعضاً؟
إنهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يرونه بحسب قيمهم في مصلحتهم المادية أو الروحية. هذا
إذن هو الدافع الأول المحرك للهجرة أو الغزو أو أي نوع آخر من أنواع الاتصال
بين أمة وأمة. لكن الناس إنما يقررون الهجرة إلى مكان معين أو غزو أمة معينة
بحسب ما يصلهم من معلومات عنها، وبحسب إمكانية الوصول إليها. هذان إذن
عاملان آخران هما المعلومات ووسائل الانتقال؛ وهذان يعتمدان كثيراً على مستوى
التقنية الذي تصل إليه الأمة المهاجرة أو الغازية أو الساعية لأي نوع آخر من أنواع
العلاقات أو التأثير.
دوافع أمة لغزو أمة أخرى أو هجرة بعضهم إليها هي في غالبها دوافع
اقتصادية، لكن بعضها قد يكون ثقافياً. والأمران متشابكان؛ فحتى الغازي لأسباب
اقتصادية ينقل معه ثقافته وقد يفرضها على المهزومين إذا كان غازياً ذا إمكانات
كبيرة، وقد يتأثر بثقافة من غزاهم، بل وقد يتبناها ويترك ثقافته، وقد يكون التأثر
والتأثير متبادلاً. والمهاجر أو الغازي لأسباب ثقافية قد يستفيد فوائد اقتصادية، وقد
يحدث لثقافته التي هاجر من أجلها ما يحدث للمهاجر.
كان غزو المسلمين للعالم مثالاً للغزو بدافع حضاري؛ فقد كانوا يعدون
أنفسهم أصحاب رسالة موجهة للعالم كله كلفوا هم بتبليغها إليه بالوسائل السلمية ما
أمكن، وإلا باللجوء إلى الحرب. لكن حتى المسلمين الذين كانوا يهاجرون طلباً
للرزق كانت مهمتهم الرسالية ماثلة أمامهم، فأثروا في البلاد التي هاجروا إليها
تأثيراً كبيراً، فنقلوا إليها كما نقل الغزاة قبلهم دينهم ولغتهم ولم يتأثروا بهم إلا في
أمور لا تتعارض مع دينهم، بل قد يكون بعضها من مقتضيات الدعوة إليه، كتعلم
لغتهم.
أما المسلمون الذين يهاجرون إلى البلاد الغربية في أيامنا هذه فإنهم يفعلون
ذلك لأسباب في غالبيتها العظمى اقتصادية، وتجربتهم تدل على أن الغالبية العظمى
منهم تفقد هويتها الثقافية لغة ومظهراً وديناً وتذوب في المجتمعات الغربية. لكن
أكثر ما يحتفظون به ويؤثرون به في تلك المجتمعات هو طعامهم. غير أن قلة من
هؤلاء الذين هاجروا لأسباب اقتصادية كانت مع القلة التي تسافر لأسباب دعوية أو
دراسية سبباً في قبول بعض الغربيين للإسلام، وفي انتشار بعض المظاهر
الإسلامية كالمساجد والمدارس والمكتبات والحجاب.
أما الغربيون الذين ذهبوا إلى العالم الإسلامي غزاة أو لأسباب اقتصادية فإن
قلة قليلة منهم هي التي تأثرت بالثقافة الإسلامية أو اعتنقت الإسلام. ولذلك كان
دخول بضعة آلاف من الجنود الأمريكان في الإسلام في المدة القصيرة التي قضوها
في السعودية إبان حرب الخليج أمراً ملفتاً للنظر شاذاً عن القاعدة. لكن دخول غير
الغربيين المهاجرين إلى العالم الإسلامي كان ولا يزال أمراً معتاداً.
أما غزو الغرب للعالم فقد كان في أساسه لأسباب اقتصادية، لكن الدافع
الرسالي كان أيضاً حاضراً فيه حضوراً بيناً. فالغربيون كانوا يرون أن لهم رسالة
هي أن يحضِّروا العالم ويجعلوه نصرانياً. وهم يرون أن حضارتهم تفوق
الحضارات الأخرى لما تمتاز به من عقلانية لا توجد في غيرها، وأن هذه الميزة
هي التي تؤهلها لأن تكون الحضارة العالمية. يرى أحد الأساتذة الأرجنتينيين أن
أحسن من يعبر عن هذا الاعتقاد هو هيجل وينقل عنه قوله: «إن الروح الألمانية
هي روح العالم الجديد» . ويقول: إن هيجل يرى أن الروح الأوروبية التي هي
روح ألمانيا هي الحقيقة المطلقة التي تحقق نفسها بنفسها من غير أن تكون مدينة
لأحد سواها. ويقول أعني الكاتب: إن هذه القضية يعني قضية هيجل لم تفرض
نفسها على أوروبا والولايات المتحدة فحسب؛ بل على كل المجال الفكري لأطراف
العالم [2] . ويقول أستاذ بجامعة ديوك الأمريكية: «إنه لأمر عجيب وإنها لحركة
في غاية التعصب العنصري أن تعتقد أوروبا أن عليها منذ عام 1500م أن تحضِّر
عالماً ظلت فيه منذ قرون حضارات (مثل الحضارة الصينية والهندية
والإسلامية ... ) قبل أن تجعل من نفسها مركزاً جديداً للعالم باسم النصرانية وأوروبا
زمرة من الجماعات الهمجية الصاعدة» [3] ، وأحسن من عبر عن الجمع بين
الدافعين الاقتصادي والحضاري هو المؤرخ الأسباني الذي سوغ ذهابه وزملاءه لغزو
الجزر الهندية بقوله: «خدمة لله ولصاحب الجلالة، ولنقل النور إلى أولئك
الجالسين في الظلام، ولنصير أغنياء كما أن كل إنسان يريد أن يصير» [4] .
استطاعت أوروبا أن تفرض نفسها وكثيراً من جوانب حضارتها على
تلك الحضارات بالغزو والاحتلال والاستعمار، ثم بوسائل الإعلام والضغوط
الاقتصادية، والتهديدات العسكرية. يقول مؤرخهم المعاصر بشيء من الزهو:
«إن التغيير الذي حدث في تاريخ العالم بعد عام 1500م لم يكن له سابقة.
لم يحدث من قبل ذلك أبداً أن انتشرت حضارة واحدة في أرجاء الأرض كلها؛ فمنذ
أقدم مسارح ما قبل التاريخ المشاهدة كان الميل دائماً نحو التنوع. أما الآن فإن
التيار الثقافي بدأ يتحول. إن جوهر ما كان يحدث كان بادياً حتى منذ أواخر القرن
الثامن عشر. فالأمم الأوروبية بما فيها روسيا كانت في ذلك الوقت قد ادعت لنفسها
أكثر من نصف سطح الأرض، وكانت بدرجات متفاوتة قد سيطرت بالفعل على ما
يقرب من ثلثه. ففي غرب الكرة الأرضية كانوا قد ازدرعوا جماعات مستوطنة
تكفي بأعدادها الكبيرة لإنشاء مراكز حضارية جديدة؛ فقد خرجت أمة جديدة من
المقاطعات البريطانية السابقة في أمريكا الشمالية، وفي الجنوب استطاع الأسبان أن
يحطموا حضارتين ناضجتين ليغرسوا حضارتهم» [5] .
ثم يذكر أنه كان هنالك في ذلك التاريخ ما يقرب من عشرين ألف هولندي
في جنوب أفريقيا، وأن أستراليا كانت قد بدأت تستقبل مستوطنيها الجدد. وأن
الزائر الأوروبي لشرق أفريقيا وإيران والهند وأندونيسيا كان سيجد فيها
أوروبيين جاءوا ليتاجروا ثم ليرجعوا إلى بلادهم في المدى القريب أو البعيد
ليستمتعوا بالأرباح التي حققوها.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الاستعمار الغربي قد شمل
أفريقيا كلها، وأحكم سيطرته على شبه القارة الهندية وبقية آسيا. وفي أوائل القرن
العشرين أخضع الشرق الأوسط كله عدا تركيا لسيطرته المباشرة، ومع نهاية عام
1920م كانت الإمبراطورية العثمانية قد قسمت بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
في غضون هذا التوسع قضى الغرب قضاءً كاملاً على حضارتي (Meso
american) و (Andean) ، وأخضعت الحضارات الهندية والإسلامية
وأخضعت أفريقيا. وتوغل في الصين وجعلت تابعة للنفوذ الغربي لمدة أربعمئة عام
تمثلت العلاقة بين الحضارات في خضوع المجتمعات غير الغربية للحضارة
الغربية [6] .
ذلك ما كان حتى عام 1920م؛ فماذا حدث بعده؟ استمر الغرب في تفوقه
التقني واستمر في تأثيره الكبير على كل مجتمعات العالم لا سيما بعد الطفرة التي
حدثت في تقنية الاتصالات والانتقال والتي زادت في إمكانية العولمة.
تتمثل هذه الهيمنة الغربية الآن كما لخصها كاتب أمريكي في أن الأمم الغربية:
- تملك وتدير النظام المصرفي العالمي.
- وتسيطر على كل أنواع العملة الصعبة.
- وأنها هي الزبون العالمي الأول.
- وأنها هي التي توفر للعالم معظم بضائعه الجاهزة.
- وأنها تسيطر على أسواق الرأسمال العالمية.
- وأنها تمارس قدراً كبيراً من القيادة الأدبية في كثير من المجتمعات.
- وأن لها قدرة على التدخل العسكري العظيم.
- وأنها تسيطر على المضايق البحرية.
- وأنها تقوم بمعظم البحوث والتطوير للتقنية المتقدمة.
- وأنها المتحكمة في التعليم التقني الفائق.
- والمهيمنة على المدخل إلى الفضاء.
- وعلى صناعة الطيران.
- وعلى وسائل الاتصال العالمية.
- وعلى التقنية العالية لصناعة الأسلحة [7] .
العولمة لم تكن كما كان يرجى لها إذن أن تسود في العالم ثقافة إنسانية
تناسب كل الناس وتساعد على تعاونهم وتطورهم والاستفادة من خيرات بعضهم
بعضاً. بل كادت العولمة وكاد التحديث أن يكون تغريباً بسبب هذا التفوق الغربي
وعدم تسامح حضارته مع الحضارات الأخرى.
إلى متى سيستمر هذا التفوق وهذه الهيمنة الغربية؟
يرى كثير من المفكرين الغربيين أنها لن تستمر طويلاً على الأقل بهذا القدر
الكبير. لماذا؟ هذا موضوع كبير لا يسعنا هنا إلا أن نشير إليه مجرد إشارات،
فنقول:
1 - لأن سبب تلك القوة لم يكن لمجرد أسباب داخلية في الحضارة الغربية،
وإنما كان أيضاً لظروف خارجية مواتية. أما الآن فإن ظروفاً خارجية أخرى لا
قِبَلَ للغرب بتغييرها جعلته يضعف ضعفاً نسبياً للازدياد النسبي في القوة الاقتصادية
والتقنية لبلاد غير غربية.
2 - يزداد تقديرنا لأهمية هذا الضعف النسبي للقوة المادية للدول الغربية إذا
ما تذكرنا ما يقوله كثير من مفكريها بأن السبب الأساس لسيطرتها لم يكن قيماً ولا
فكراً ولا ديناً وإنما كان هذه القوة. يقرر هنتنجتون هذه الحقيقة في صراحة عجيبة
إذ يقول: لم يغلب الغرب العالم بتفوق في أفكاره أو قيمه أو دينه (الذي لم تعتنقه
إلا قلة من أبناء الحضارات الأخرى) وإنما غلب بتفوقه في العنف المنظم. إن
الغربيين كثيراً ما ينسون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبداً [8] .
بيد أننا يمكن أن نستدرك على هنتنجتون ومن يرى رأيه بأن الغرب وإن لم
يكن في نفس الأمر متفوقاً في تلك المجالات إلا أن أهله كانوا يعتقدون فيه هذا
التفوق، وأن هذا الاعتقاد الباطل كان دافعهم، مع الدوافع الاقتصادية للخروج لغزو
العالم كما ذكرنا سابقاً.
3 - أما الآن فإن هذا الضعف النسبي في القوة المادية للغرب يصحبه وربما
سبقه فتور في الدافع الرسالي؛ فحماس الغربيين لدينهم المسيحي في بداية قرنهم
الواحد والعشرين لم يعد كما كان في القرن الثامن عشر، ولم يطرأ هذا الفتور في
الحماس الديني بسبب التأثر بالحضارات الأخرى في المكان الأول، وإنما كان في
أساسه:
- بسبب دراساتهم العلمية لأصول دينهم التاريخية، تلك الدراسات التي
شككت في الثبوت التاريخي لكثير من نصوصه، والتي أثبتت أن في هذه
النصوص تناقضاً ومخالفة لبعض الحقائق العلمية نشأ عنه انقسامهم إلى أصوليين
أكثرهم من العوام يؤمنون بحرفية ما في كتابهم المقدس، وليبراليين يعتقدون أنه ما
كل ما فيه من عند الله، وأنه تأثر بالظروف الثقافية للزمن الذي كتب فيه.
- ثم كان التطور في مجال العلوم الطبيعية سبباً آخر؛ لأن منهج هذه العلوم
يقوم على عقلانية لا وجود لها في دينهم.
- ثم زاد من ضعف الإقبال على الدين أو الاهتمام به النظام السياسي العلماني
الذي يفصله عن الدولة، بل وعن الحياة العامة كلها.
4 - كان كثير من المفكرين الغربيين يأملون في أن يحل العلم الطبيعي محل
الدين، وينجح في حل مشاكل البشرية التي عجز الدين عن حلها. لكن تجربة
الحربين العالميتين العظميين، واعتمادهما على التقنية الحربية التي وفرها العلم
الطبيعي أضعفت من هذا الأمل. ثم كانت كارثة هيروشيما فاقتنع كثير من
المفكرين والعوام الغربيين بأن العلم الطبيعي إنما هو سلاح يعتمد حسن استعماله أو
سوؤه على قيم لا تؤخذ منه هو، فلا بد أن يكون لها مصدر آخر.
5 - والشيوعية التي هي نتاج غربي والتي تعلق بأوهامها الآلاف المؤلفة من
الناس في الشرق والغرب، باءت هي الأخرى بإخفاق ذريع.
6 - لم يبق للغرب الآن مبدأ يتعلق به ويدافع عنه ويعتز به إلا الديمقراطية
الليبرالية وما يصاحبها من نظام رأسمالي. لكن حتى هذين يجدان كثيراً من النقد
والمراجعة لعدم وفائهما ببعض القيم الإنسانية، ولا سيما إنصاف الفقراء، ولما نتج
عنهما من تعميق للروح الفردية وما يصحبها من مشكلات اجتماعية.
7 - الروح السائدة في الغرب الآن ليست روحاً متفائلة، بل إن التشاؤم قد
يصل بهم إلى الحد الذي عبر عنه كاتب فرنسي أزعج ذلك الشعب وأثار تشاؤمه
حين كتب يقول كما نقل عنه مؤلف إنجليزي: «إن أوروبا بدأت تدخل في عصر
ظلام جديد يتميز بالأوبئة والمتسولين وانهيار المدن، وبعث الخرافة، وعودة
التهديد القادم من الشرق من آسيا ومن الإسلام» [9] .
ولعلنا نستطيع أن نقول: إنه حتى لو لم يطرأ هذا الفتور في حماس الغربيين
لدينهم ولرسالتهم، فإنه ما كان لحضارتهم أن تصير حضارة عالمية إذا ما فقدت
القوة المادية؛ لأنها لا تملك في نفسها مقومات العالمية. لكن هذا موضوع آخر لا
يسعنا الدخول في تفاصيله الآن، غير أن كثيراً من هذا القصور سيتضح إذا ما
أظهرنا بعض مقومات عالمية الإسلام؛ إذ بضدها تتميز الأشياء. إلى هذا نتجه
الآن وبه نختم مقالنا هذا.
ما الذي يؤهل الحضارة الإسلامية لأن تكون حضارة عالمية؟
أرى أننا ينبغي أن نميز أولاً بين الإسلام والحضارة الإسلامية؛ لأنه إذا كانت
الحضارة هي في جوهرها المعتقدات والقيم والتصورات المتمثلة فعلاً أو قل إلى حد
كبير في واقع أمة من الأمم، فما كل ما جاء به الدين المنزل من عند الله متمثلاً في
الأمة التي تعلن إيمانها به. فالدين دينان: دين منزل من عند الله لا يتغير ولا
يتبدل [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ين متمثل في واقع
الناس يقترب من الدين المنزل أو يبتعد عنه، ولا يطابقه إلا في الرسول الذي جاء
به، والذي صدق عليه قول زوجه أم المؤمنين: «كان خلقه القرآن» [10] ، أما
غيره فمنهم من يقرب منه قرباً شديداً، ومنهم من يبتعد عنه بعداً كبيراً وإن كان
منتسباً إليه. فالحضارة الإسلامية المتمثلة في واقع المسلمين تتأهل للعالمية بقدر
قربها من الدين المنزل الذي تنتسب به. فما مقومات العالمية في هذا الدين؟ إنها
مقومات كثيرة وعظيمة، لكننا نكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى بعضها:
1 - أنه بينما كان الرسل من أمثال موسى وعيسى عليهم صلوات الله
وسلامه يرسلون إلى أقوامهم خاصة فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أرسل إلى
الناس كافة، أرسل رحمة للعالمين، وجعله الله خاتماً للنبيين. فحتى لو كان اليهود
والنصارى المنتسبون إلى هذين الرسولين مستمسكين بدينهم الحق، لما جاز لهم أن
يجعلوا منهما دينين عالميين بعد نزول الدين الخاتم؛ لأن الله تعالى إنما أرسل هذين
الرسولين إلى قومهما خاصة وإلى فترة محدودة. فالمسلم المستمسك بدينه العارف
بهذه الحقيقة يستبشر بالتطور الذي حدث في وسائل الاتصال والانتقال الذي جعل
من العالم قرية واحدة كما يقولون. يستبشر به؛ لأنه يرى فيه تصديقاً لنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم؛ فلا أحد غير الله سبحانه وتعالى كان يمكن أن يعلم أن العالم
سيتقارب هذا التقارب فلا يحتاج إلا إلى رسول واحد.
2 - أن إمكانية تقريب المسافات أمر حاضر في حس المؤمن الذي يقرأ قوله
تعالى: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (الإسراء: 1) ،
وحين يذكر كيف أن المكذبين به صلى الله عليه وسلم ضاقت أعطانهم عن أن يروا
إمكان ذلك، وحسبوا أن الممكن محصور في المألوف. ويقرأ المؤمن في كتاب ربه
أن رجلاً عنده علم من الكتاب استطاع أن ينقل عرشاً بأكمله في أقل من طرفة عين
من اليمن إلى الشام، ثم يقرأ في كتاب ربه ما هو أعجب من ذلك أن الرسول صلى
الله عليه وسلم عُرج به إلى السماء السابعة ورجع في ليلة واحدة؛ وهي مسافة لو
قطعها مخلوق بسرعة الضوء لاستغرقت منه البلايين من السنين الضوئية.
ويصدق المسلم قول رسوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض
فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» [11] .
3 - أن هذا الدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فهو يخاطبهم
بوصفهم بشراً وضع الله في قلوبهم أساسه؛ فهو ليس بالأمر الغريب عليهم. وما
أكثر الذين شعروا بهذا حين أسلموا وفاضت أعينهم مما عرفوا من الحق.
4 - ومما يزيد المسلم اقتناعاً بعالمية دينه أنه أثبت في الواقع أنه ليس بالدين
الذي تحده ظروف جغرافية أو مناخية، أو زمانية أو ثقافية؛ فقد اعتنق هذا الدين
أناس بينهم كل أنواع تلك الاختلافات، فلم يجدوا في شيء منها ما يحول بينهم
وبين الإيمان به أو وجدانهم شيئاً غريباً عليهم. فالمسلمون في كل بقاع الأرض
الآن أقرب إلى دينهم من النصارى أو اليهود لدينهم. فما زال المسلمون رغم كل
تلك الظروف المختلفة يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان،
ويحجون إلى بيت الله الحرام، ويقرؤون الكتاب المنزل على رسولهم من غير
تحريف ولا تبديل.
5 - وإذا كان تطور العلوم الطبيعية يقف الآن حجر عثرة في طريق بعض
الأديان الباطلة، فإنه يقف شاهداً على صدق هذا الدين؛ لأنه لا يجد فيه ما يخالف
شيئاً من حقائقه، بل يجد فيه تقريراً لبعض تلك الحقائق قبل أن يتمكن الإنسان من
اكتشافها بوسائله البشرية. ولا يجد فيه مخالفة لمنهجه العقلاني التجريبي؛ إذ يجده
ديناً لا يأتي بمحالات العقول، ولا ينكر ما يشهد به الحس. فإذا ما شعر الناس
بأهمية الدين كما يشعر بذلك كثير منهم الآن وإذا ما صدهم عما عرفوه من أديان
تناقضها المنطقي، أو مخالفتها للواقع المحسوس فسيجد ديناً فيه كل ما يريد من
هدى واستقامة وراحة نفسية، وهو خال من تلك النقائص. فسيكون العلم الطبيعي
بإذن الله تعالى سبباً من أسباب دخول الناس في هذا الدين على المستوى العالمي.
6 - والغرب وإن كان في مجموعه مهيمناً تلك الهيمنة التي ذكرناها سابقاً إلا
أنه ليس شيئاً واحداً منسجماً متعاوناً، وإنما هو شعوب ودول وجماعات تختلف
مصالحها ويثور التنافس والتحاسد بينها، ويرتاب بعضها من قوة بعضها ويخشى
من سيطرتها.
إذا كانت تلك هي بعض المقومات التي تؤهل الإسلام ليكون دين القرية
العالمية، ومركز حضارتها، فإن في واقع الأمة المنتمية إليه الآن ما يعرقل سيرها
بدينها نحو تلك العالمية:
1 - أول تلك العوائق هو كون الحضارة الغربية قد نجحت في جعل بعض
المنتسبين إليه عملاء لها في داخل الأوطان الإسلامية، ومكنت لهم فيها؛ فهم الذين
قسموا الأمة وجعلوها متنازعة، وشغلوها بصراعات داخلية سياسية واجتماعية،
فحالوا بذلك بينها وبين أن تسعى متكاتفة إلى الأخذ بأسباب التقدم المادي من علم
طبيعي وتقنية وإنتاج؛ لأن وحدة الأمة وإن كانت كافرة شرط في هذا كما تشهد
بذلك تجارب اليابان والأمم الغربية.
2 - وثانيها أن هذا النزاع كان وما يزال السبب في فقدان القدر اللازم من
الحرية التي هي أيضاً شرط لذلك التقدم. لكن الغربيين الذين كانوا سبباً في فقدانها
يعزون هذا الفقدان الآن إلى طبيعة العرب أو طبيعة الإسلام! وقديماً قال العربي:
«رمتني بدائها وانسلَّت» .
3 - وثالثها أن كثرة كاثرة من المنتمين إلى الإسلام قد حادوا عن جوهره
التوحيدي، ففقدوا بذلك الشرط الذي علق الله تعالى نصره لهم عليه في مثل قوله
تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
(النور: 55) .
4 - ورابعها أن الغرب يبالغ في خوفه من الإسلام، ويزيد في هذا التخويف
أناس يبالغون في خطر البعث الإسلامي الجديد متخذين من هذا التخويف وسيلة
لتحقيق مآرب لهم لا تمت إلى مصلحة الغرب في شيء؛ وأكثر من يعينهم على هذا
ويعطيهم أدلة يفرحون بها أناس لا عقل لهم ينتمون إلى حركة البعث هذه يكثرون
من التهديد والوعيد للغرب من غير أن تكون لهم مقدرة على تحقيق أدنى شيء منه
. وبسبب هذا الخوف المَرَضي من الإسلام ييالغ الغرب في ضغطه على الدول
الإسلامية والتدخل في شؤونها ليقضي على كل بادرة نهضة إسلامية تطل برأسها
فيها، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
5 - مع كل هذا الخطر الغربي فإن بعض الدعاة عندنا يتصرفون وكأنه لا
وجود للغرب نفسه؛ فلا يتتبعون أخباره ولا يهتمون بمعرفة سياساته ومخططاته،
ولا يفكرون في الرد على أفكاره، وكأنهم لم يسمعوا بمثل ما قال عالم الجزيرة
الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «إن معرفة أحوال الكفار من أعظم أبواب
الجهاد» . وصار هؤلاء الدعاة بسبب هذه الغفلة مشغولين بمحاربة أناس هم
معهم في صف البعث الإسلامي. إن نقد الخطأ ولا سيما ما كان في مسائل العقيدة
أمر واجب وعمل عظيم؛ لكن نقد أخطاء المسلمين شيء، وجعلها الشغل الشاغل
عن الخطر الداهم شيء آخر.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) Samuel P Hintington, The Clash of Civilizations, Simon & Schuster, 1997, pp 41- 43.
(2) Enrique Dussel زBeyond Eurocentrism: The World-System and the Limits of Modernityس in Fredrick Jameson and Masao Miyoshi, Editors, The Culture of Globalization, Duke University Press, London and Durham, 1998, pp 3-4.
(3) Op cit pp 32-33, Walter D Mingnola, Globalization, Civilization Processes and the Relocation of Languages Culturesس.
(4) J M Roberts, The Penguin History of the World, Penguin Books, 1995, p 608.
(5)) Ibid p 605 (.
(6) Huntington, op cit p 51.
(7) Jeffery R Barnet, Exclusion as National Security Policy, Parameters, 24 (Spring1994) , 54, as quoted by Huntington, op cit 81-.
(8) Ibid p 51.
(9) Ruling Brittania, pp 316 -7.
(10) أخرجه مسلم، رقم 746، وأحمد في المسند، رقم 23460، واللفظ له.
(11) أخرجه مسلم، رقم، 2889.(170/26)
ملفات
العولمة.. مقاومة وتفاعل
العولمة الاجتماعية للمرأة والأسرة
فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم [*]
أصبحت «المرأة» و «الأسرة» محورين أساسيين من محاور عمل
التجمعات والفعاليات الاجتماعية في العالم، ولدى كثير من المنظمات والجمعيات
(الحكومية وغير الحكومية) التي ترفع لواء ورداء الحرية والمساواة وحقوق
الإنسان.
كما أصبح الشغل الشاغل لتلك التجمعات والمنظمات: السعي لعولمة
الحضارة الغربية ممثلة في الحياة الاجتماعية لتلك الدول؛ وذلك من خلال تقنين
الإباحية والرذيلة، ومن خلال محاولة تعميم الشذوذ باسم حقوق الإنسان والحرية
الشخصية، وتقويض بناء الأسرة؛ لأنها في زعمهم أكبر عائق من عوائق التقدم
والرفاهية؛ فهي أقدم مؤسسة اجتماعية يدَّعون أن الرجل يتسلط من خلالها على
المرأة، ويمارس عليها أشكال القهر، ومن أجل التحرير المزعوم للمرأة فإنهم
يرون ضرورة التخلص من شيء اسمه «الأسرة» ، ولو أدى ذلك إلى التمرد على
كل التعاليم الدينية، والمبادئ الفطرية، التي أرست دعائم الشعوب والأمم على مر
التاريخ البشري.
تلك هي رؤيتهم التي دأبوا على بثها بكل وسيلة ممكنة، وذلك هو برنامجهم
الذي لم يسأموا من السعي لتحقيقه في الواقع، وفرضه بالقوة [1] مستعينين بأمور
منها:
أولاً: وسائل الإعلام بمختلف أشكالها وأنواعها (المقروءة والمسموعة
والمرئية) ، وهذا الأمر معلوم للجميع ومشاهد على أرض الواقع.
ثانياً: الاستعانة بمؤسسات الهيمنة الدولية، وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة،
وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وهذا ما سيدور حوله الكلام إن شاء الله؛
حيث إنه يقع في دائرة الاهتمام والمتابعة الشخصية.
ففي السنوات الأخيرة وخاصة في التسعينيات الميلادية، كما سيتبين ذلك بعد
قليل كثفت الحركات النسوية جهودها، وكذلك نشطاء حقوق الإنسان من أجل نقل
تصوراتها وأفكارها من حيز الكلام التنظيري إلى حيز التنفيذ العملي، ومن الأطر
الثقافية، والأخلاقية، والاجتماعية الخاصة ببعض الشعوب والحضارات الغربية
إلى النطاق العالمي العام مستغلين طغيان موجة العولمة؛ وذلك بإقامة مؤتمرات من
خلال هيئة الأمم المتحدة بعضها خاص بالمرأة، وبعضها الآخر تصبح المرأة فيه
جزءاً مهماً من قضاياها.
أولاً: أجهزة الأمم المتحدة المعنية بالمرأة:
هناك أجهزة وهيئات تابعة للأمم المتحدة معنية بالمرأة تشارك في الإعداد
والتجهيز لهذه المؤتمرات، منها:
أ - لجنة مركز المرأة التابعة للأمم المتحدة.
ب - صندوق الأمم المتحدة للسكان [2] .
ج - صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة.
د - برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
هـ - المعهد الدولي للبحث والتدريب من أجل النهوض بالمرأة.
و جامعة الأمم المتحدة.
ز - معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية.
ح - اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة.
ط - منظمة الأمم المتحدة للطفولة.
ي - مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) .
ك - مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ل - منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.
وهذه المنظمة الأخيرة التي تعرف باسم: «منظمة اليونسكو» ، لها دور
فاعل ومميز في هذه المؤتمرات من حيث الإعداد والمشاركة فيها؛ فقد قرر المدير
العام لهذه المنظمة إنشاء لجنة استشارية معنية بالمرأة، وعهد إلى هذه اللجنة بإعداد
ما يمكن لهذه المنظمة الإسهام به في مؤتمر المرأة الرابع في بكين 1995م،
وتهدف هذه المساهمة إلى ما يلي:
- تعزيز نشاط اليونسكو وتفكيرها بشأن موضوعات المؤتمر الثلاثة:
المساواة، والتنمية، والسلام، وإبرازها بصورة أوضح.
- تعزيز أهمية نوعية التعليم المقدم إلى البنات والنساء على جميع
المستويات، وفي جميع المجالات.
- إشاعة صور إيجابية عن المرأة تبرز مواهبها، وخبراتها، وقدراتها،
وإسهامها الفعلي بصفتها عاملاً من عوامل التغيير الاجتماعي.
- تعزيز إمكانيات المرأة في اتخاذ القرار في جميع مجالات اختصاص
اليونسكو كالتربية، والاتصال، والعلوم، والثقافة، ومكافحة جميع أشكال التمييز
والعنف تجاه المرأة.
- الإسهام في القضاء على القوالب الجامدة التي لا تزال تحدد أدوار وسلوك
الرجال والنساء، وتبقي من ثم على أشكال التفاوت والتمييز التي تستند إلى
الجنس [3] .
ثانياً: تاريخ موجز لهذه المؤتمرات:
بدأ اهتمام هيئة الأمم المتحدة بالمرأة منذ عام 1946م، حين أُنشئت لجنة
مركز المرأة (وهي هيئة رسمية دولية تتألف من خمس وأربعين من الدول
الأعضاء تجتمع سنوياً بهدف عمل مسودات وتوصيات وتقارير خاصة بمكانة المرأة
وتقويم تلك الأعمال) .
وقد أكد دستور هيئة الأمم المتحدة وميثاقها [4] الذي أبرم بتاريخ 26/6/
1945م مبدأ عدم التفرقة بين الناس بسبب الجنس، فجعل للرجال والنساء حقوقاً
متساوية، كما ورد في نصوص موادها: الأولى والثامنة.
ونشير هنا إلى تركيز الأمم المتحدة في اتفاقياتها ومؤتمراتها على قضية
المساواة بين المرأة والرجل بالمفهوم الغربي [5] بوصفها قيمة عليا من القيم التي
قامت عليها الحضارة الغربية، والتي أصبحت من القضايا المسلَّمة التي لا تقبل
النقاش حولها، واستخدمت قضية المساواة هذه في تمرير كثير من القضايا التي
تنادي بها الأمم المتحدة لعولمة النموذج الغربي للمرأة في جميع مجالات الحياة
السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والإعلامية.. إلخ.
وقد أكدت المادة الثامنة هذا المفهوم؛ حيث جاء فيها: (لا تفرض الأمم
المتحدة قيوداً تحد بها جواز اختيار الرجال والنساء للاشتراك بأي صفة وعلى وجه
المساواة في فروعها الرئيسية والثانوية) [6] .
وفي عام 1948م صدر (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) شاملاً كافة
حقوق الإنسان المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية التي
يجب أن يتمتع بها كل فرد رجلاً كان أو امرأة.
ففي المادة الثانية مثلاً من هذا الإعلان: (لكل إنسان حق التمتع بجميع
الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما
التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي
سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد،
أو أي وضع آخر) [7] .
كما أكدت الأمم المتحدة [8] ضمن بنود دستورها (ل) و (م) ، على حقوق
المرأة السياسية والاجتماعية، وحقها في الزواج والاتفاق على الرضا بالزواج
والتوصية بذلك، بالإضافة إلى حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ
والمنازعات المسلحة.
وفي عام 1951م اعتمد المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية: (اتفاقية
المساواة في الأجور بين العمال والعاملات) [9] .
وفي عام 1952م أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة (الاتفاقية الخاصة
بالحقوق السياسية للمرأة) ، وذلك بناء على توصية اللجنة الخاصة بمركز المرأة.
وبالنظر إلى (العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية) المتفق عليه، والذي أصدرته الأمم المتحدة في عام (1966م) ، نجد
أن المادة الثالثة من هذا العهد [10] تنص على ما يلي: (تتعهد الدول الأطراف في
هذا العهد بضمان مساواة الذكور والإناث في حق التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها في هذا العهد) [11] .
وكذلك صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (العهد الدولي الخاص بالحقوق
المدنية والسياسية) في عام 1966م، ونص في مادته الثالثة على ما يلي: (تتعهد
الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة تساوي الرجال والنساء في حق التمتع بجميع
الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في هذا العهد) [12] .
وفي عام 1967م صدر (الإعلان الخاص بالقضاء على التمييز ضد المرأة) ،
وقد أقرته هيئة الأمم المتحدة مع توصية ببذل أقصى الجهد لتنفيذ المبادئ الواردة
فيه للحكومات والمنظمات غير الحكومية والأفراد، والذي ينص على حق المرأة
الدستوري في التصويت، والمساواة مع الرجل أمام القانون، وعلى حقوقها في
الزواج والتعليم وميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية مع الرجل سواء
بسواء) [13] .
وفي عام 1968م عقد في طهران مؤتمر دولي لحقوق الإنسان تحت إشراف
الأمم المتحدة، وسمي: (إعلان طهران 1968م) ، ونص في بنده الخامس عشر
على أنه: (يتحتم القضاء على التمييز الذي لا تزال المرأة ضحية له في عديد من
أنحاء العالم؛ إذ إن إبقاء المرأة في وضع دون وضع الرجل يناقض ميثاق الأمم
المتحدة، كما يناقض أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتنفيذ الكامل
لإعلان القضاء على التمييز ضد المرأة ضروري لتقدم الإنسانية) . أما البند
السادس عشر من هذا الإعلان فكان من ضمنه (أن حماية الأسرة والطفل تظل
شاغلاً للمجتمع الدولي) [14] .
ثم بعد ذلك بدأت الأمم المتحدة في عقد مؤتمراتها الخاصة بالمرأة:
- فعقدت أول مؤتمر عالمي خاص بالمرأة وهو: (مؤتمر مكسيكو لعقد
الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم) ، وذلك في عام 1975م في
المكسيك؛ حيث حضرته 133 دولة، واعتمد فيه أول خطة عالمية متعلقة بوضع
المرأة على المستوى الحكومي وغير الحكومي في المجالات السياسية والاجتماعية
والتدريب والعمل على حماية الأسرة.
كما اعتمدت خطة العمل العالمية لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية
والسلم، للأعوام (1976 - 1985م) .
- وفي عام 1979م عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمراً تحت شعار:
(القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) ، وخرج المؤتمرون باتفاقية للقضاء
على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
وجاءت هذه الاتفاقية لأول مرة بصيغة ملزمة قانونياً للدول التي توافق عليها،
إما بتصديقها أو بالانضمام إليها. وقد بلغ عدد الدول التي انضمت إلى هذه
الاتفاقية مائة وثلاثاً وثلاثين دولة، إلى ما قبل مؤتمر بكين عام 1995م. وكان من
أبرز مواد هذه الاتفاقية:
- الاعتراف بتساوي الرجل والمرأة في الميادين السياسية، والاقتصادية،
والاجتماعية، أو في أي ميدان آخر، بغض النظر عن حالتها الزوجية.
- اتخاذ جميع التدابير المناسبة - بما في ذلك التشريعي منها - لتغيير أو
إبطال القائم من القوانين، والأنظمة، والأعراف، والممارسات التي تشكل تمييزاً
ضد المرأة.
- تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية للقضاء على العادات القائمة على فكرة
تفوق أحد الجنسين، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة.
- القضاء على أي مفهوم نمطي عن دور الرجل والمرأة على جميع
مستويات التعليم، وفي جميع أشكاله، عن طريق تشجيع التعليم المختلط وغيره من
أنواع التعليم.
- تمنح الدول الأطراف المرأة في الشؤون المدنية أهلية قانونية مماثلة لأهلية
الرجل، ونفس فرص ممارسة تلك الأهلية.
- أن يكون للمرأة نفس الحقوق في أن تقرر بحرية وبشعور من المسؤولية
عدد أطفالها، والفترة بين إنجاب طفل وآخر.
- نفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية، والقوامة، والوصاية على
الأطفال وتبنيهم [15] .
- وفي عام 1980م عقدت الأمم المتحدة (المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة
للمرأة: المساواة والتنمية والسلم) في (كوبنهاجن) بالدانمارك وهو المؤتمر الثاني
الخاص بالمرأة؛ وذلك لاستعراض وتقويم التقدم المحرز في تنفيذ توصيات المؤتمر
العالمي الأول للسنة الدولية للمرأة الذي عقد عام 1975م في المكسيك، ولتعديل
البرامج المتعلقة بالنصف الثاني من العقد الأممي للمرأة.
- وفي عام 1985م عقد (المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد
الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم) في (نيروبي) المؤتمر الثالث
الخاص بالمرأة والذي عرف باسم: (استراتيجيات نيروبي المرتقبة للنهوض
بالمرأة) وذلك من عام 1986م حتى عام 2000م. وقد شارك فيه سبع وخمسون
ومائة دولة. وقد بين المؤتمر أهداف وغايات العقد الأممي، وشدد على صحتها
بالنسبة إلى المستقبل، وبين الحاجة إلى اتخاذ تدابير ملموسة للتغلب على العقبات
التي تعترض سبيل إنجازها أثناء الفترة 1986-2000م.
- وفي عام 1995م عقدت الأمم المتحدة (المؤتمر العالمي الرابع المعني
بالمرأة) في (بكين) . وقد دعت فيه إلى مضاعفة الجهود والإجراءات الرامية إلى
تحقيق أهداف استراتيجيات نيروبي التطلعية للنهوض بالمرأة بنهاية القرن الحالي.
ويعتبر هذا المؤتمر متميزاً عن المؤتمرات الأخرى التي تبنتها الأمم المتحدة؛
حيث دعت فيه بصراحة وبوضوح إلى العديد من الأمور التي فيها مخالفة للشريعة
الإسلامية، بل فيها مخالفة للفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها. مثل:
الدعوة إلى الحرية والمساواة - بمفهومهما المخالف للإسلام والقضاء التام على أي
فوارق بين الرجل والمرأة، دون النظر فيما قررته الشرائع السماوية، واقتضته
الفطرة، وحتمته طبيعة المرأة وتكوينها.
وكذلك الدعوة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرمة شرعاً؛ ومن ذلك:
السماح بحرية الجنس، والتنفير من الزواج المبكر، والعمل على نشر وسائل منع
الحمل، والحد من خصوبة الرجال، وتحديد النسل، والسماح بالإجهاض المأمون،
والتركيز على التعليم المختلط بين الجنسين وتطويره، وكذلك التركيز على تقديم
الثقافة الجنسية للجنسين بسن مبكرة، وتسخير الإعلام لتحقيق هذه الأهداف.
كما أن في هذا المؤتمر إعلاناً للإباحية، وسلباً لقوامة الإسلام على العباد،
وسلباً لولاية الآباء على الأبناء، وقوامة الرجال على النساء.
بالإضافة إلى هذه المؤتمرات الخاصة بالمرأة فهناك مؤتمرات أقامتها الأمم
المتحدة خاصة بالسكان، إلا أنها ناقشت في وثائقها قضايا متعلقة بالمرأة وبالعقد
الأممي الخاص بالمرأة، وهي:
- المؤتمر العالمي الأول للسكان في (رومانيا) عام 1974م. وقد اعتمدت
في هذا المؤتمر خطة عمل عالمية، جاء فيها:
* الدعوة إلى تحسين دور المرأة ودمجها الكامل في المجتمع.
* الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل.
* الدعوة إلى تحديد النسل، وتخفيض المرأة لمستوى خصوبتها.
- (المؤتمر الدولي المعني بالسكان) في (المكسيك) عام 1984م. وقد
جاء في هذا المؤتمر:
* الدعوة إلى إعطاء المرأة حقوقها المساوية لحقوق الرجل في جميع مجالات
الحياة.
* الدعوة إلى رفع سن الزواج، وتشجيع التأخر في الإنجاب.
* إشراك الأب في الأعباء المنزلية، وإشراك المرأة في المسؤولية على
الأسرة.
* الإقرار بالأشكال المختلفة والمتعددة للأسرة.
* الدعوة إلى التثقيف الجنسي للمراهقين والمراهقات.
* الإقرار بالعلاقات الجنسية خارج نطاق الأسرة.
* تقديم الدعم للزناة والزانيات، بتقديم الدعم المالي، وتوفير السكن المناسب
لهم.
* وفي عام 1994م أقيم (المؤتمر الدولي للسكان والتنمية) في (القاهرة) .
وقد نوقشت في هذا المؤتمر قضايا شبيهة تماماً بالقضايا التي سبق ذكرها في
المؤتمر الرابع للمرأة ببكين؛ فقد أكد قضية المساواة بين الجنسين وأفرد لها فصلاً
مستقلاً [16] . وأما التنمية فإن عنوان المؤتمر أشار إلى ذلك، فضلاً عن قضايا
تنمية المرأة التي نوقشت في ثنايا المؤتمر.
ومؤتمر السكان والتنمية هذا يعد من المؤتمرات التي أثارت وثيقته ضجة
واسعة في العالم الإسلامي وغير الإسلامي؛ بسبب مخالفتها للشرائع السماوية
وللفطرة السليمة.
كما أقيمت مؤتمرات أخرى للأمم المتحدة نوقشت فيها بعض قضايا المرأة؛
فمن هذه المؤتمرات:
- (المؤتمر العالمي لتوفير التعليم للجميع) المنعقد في (جومتيان - تايلاند)
عام 1990م الذي تم فيه الإعلان العالمي لتوفير التعليم للجميع.
- (مؤتمر القمة العالمي من أجل الطفل) المنعقد في (نيويورك) عام
1990م الذي أكد فيه ما ورد في اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدتها الجمعية العامة
للأمم المتحدة عام 1989م. ومن ذلك: حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين،
والدعوة إلى سلب ولاية الآباء على الأبناء؛ وذلك من خلال الدعوة إلى تمكين
الطفل من الحصول على المعلومات والمواد من شتى المصادر الوطنية والدولية.
- (المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية) المنعقد في (ريودي جانيرو البرازيل)
عام 1992م الذي أشير فيه إلى حقوق النساء في التحكم في قدرتهن على الإنجاب،
والدعوة إلى إنشاء مرافق صحية وقائية وعلاجية للرعاية الصحية التناسلية تكون
مأمونة وفعالة، وكذلك الدعوة إلى تحديد النسل.
وكذلك المطالبة بتحسين مركزهن الاجتماعي والاقتصادي، ومن ذلك وضع
استراتيجيات للقضاء على العقبات الدستورية، والقانونية، والإدارية، والثقافية،
والسلوكية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تحول دون مساواة المرأة بالرجل.
- (المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان) في (النمسا) ، عام 1993م. وقد
حث هذا المؤتمر على تمتع المرأة تمتعاً كاملاً وعلى قدم المساواة بجميع حقوق
الإنسان السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها من الحقوق بالمفهوم
الغربي لهذه الحقوق، وأن يكون هذا الأمر أولوية من أولويات الحكومات.
وكذلك أكد على قضايا تخص المرأة مثل قضية المساواة التامة مع الرجل،
وأهمية إدماج المرأة في عملية التنمية بوصفها فاعلة ومستفيدة من هذه العملية.
وكذلك حث هذا المؤتمر على استئصال جميع أشكال التمييز ضد المرأة الخفية منها
والعلنية على السواء وطالب هذا المؤتمر بالتصديق العالمي من قبل جميع الدول
على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بحلول عام 2000م.
- (إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد النساء) ،
وذلك في عام 1993م.
- (مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية) الذي أقيم في (كوبنهاجن) عام
1995م الذي تم فيه الإقرار بأشكال الأسرة المختلفة، والدعوة إلى المساواة بين
المرأة والرجل، ومن ذلك إسقاط قوامة الرجل على المرأة داخل الأسرة، ودعوة
الرجل لتحمل الأعباء المنزلية، ودعوة المرأة للخروج للمساهمة في سوق العمل.
وكذلك إزالة القيود المفروضة على المرأة في وراثة الممتلكات.
- (مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية) (الموئل الثاني) الذي انعقد
في (تركيا) عام 1996م ودعا إلى كفالة مشاركة النساء مشاركة تامة وعلى قدم
المساواة مع الرجال في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. وكذلك الالتزام
بهدف المساواة بين الجنسين في تنمية المستوطنات البشرية، وكذلك الالتزام
بإدماج الاعتبارات المتعلقة بنوع الجنس (جندر) في التشريعات، والبرامج
والمشاريع المتصلة بالمستوطنات البشرية، عن طريق التحليل الذي يراعي نوع
الجنس.
كما تم الاعتراف بالأشكال المختلفة للأسرة. وأيضاً دعا هذا المؤتمر إلى
إجراء إصلاحات تشريعية وإدارية؛ من أجل الحصول الكامل وعلى قدم المساواة -
على الموارد الاقتصادية، بما في ذلك الميراث، والائتمان.
- (مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة عام 2000م المساواة والتنمية والسلام في
القرن الحادي والعشرين) الذي انعقد في (نيويورك) .
وقد تضمنت وثيقة هذا المؤتمر التحضيرية ما يلي:
* الدعوة إلى الحرية الجنسية والإباحية للمراهقين والمراهقات والتبكير بها
مع تأخير سن الزواج. وأوجدوا مسمًى جديداً للداعرات وهو: (عاملات الجنس) ،
وتشجيع جميع أنواع العلاقات الجنسية خارج إطار الأسرة الشرعية (رجلاً
وامرأة) ، وتهميش دور الزواج في بناء الأسرة.
* إباحة الإجهاض.
* تكريس المفهوم الغربي للأسرة، وأنها تتكون من شخصين يمكن أن يكونا
من نوع واحد (رجل + رجل، أو امرأة + امرأة) .
* تشجيع المرأة على رفض الأعمال المنزلية، بحجة أنها أعمال ليست ذات
أجر.
* المطالبة بإنشاء محاكم أسرية من أجل محاكمة الزوج بتهمة اغتصاب
زوجته.
* إباحة الشذوذ الجنسي (اللواط والسحاق) ، بل الدعوة إلى مراجعة ونقض
القوانين التي تعتبر الشذوذ الجنسي جريمة.
* فرض مفهوم المساواة الشكلي المطلق، والتماثل التام بين الرجل والمرأة
في كل شيء بما في ذلك الواجبات: كالعمل، وحضانة الأطفال، والأعمال
المنزلية، وفي الحقوق: كالميراث.
* المطالبة بإلغاء التحفظات التي أبدتها بعض الدول الإسلامية على وثيقة
مؤتمر بكين 1995م.
ويعتبر أهم هدف في هذا المؤتمر هو: الوصول إلى صيغة نهائية ملزمة
للدول بخصوص القضايا المطروحة على أجندة هذا المؤتمر، والتي صدرت بحقها
توصيات ومقررات في المؤتمرات الدولية السابقة، تحت إشراف الأمم المتحدة.
ولأهمية هذا المؤتمر وتعويل التيار النسوي العالمي عليه؛ فقد أقيمت عدة مؤتمرات
إقليمية لمتابعة توصيات مؤتمر بكين، والتمهيد لهذا المؤتمر المسمى: «المؤتمر
التنسيقي الدولي للنظر في نتائج وتطبيق قرارات المؤتمرات الأممية للمرأة» .
ومن هذه المؤتمرات الإقليمية:
- اجتماع في نيويورك في عام 2000م، تحت شعار (بكين +5) إشارة
إلى السنوات الخمس التي مضت على مؤتمر بكين وقد جرى في هذا الاجتماع
محاولة لإدخال تعديلات على وثيقة مؤتمر بكين.
- (مؤتمر المرأة الخليجية) في البحرين، في شهر مارس تحت شعار
(الفرص، والمعوقات، والأدوار المطلوبة) الذي نظمته جمعية فتاة البحرين،
وشارك فيه عدد من الشخصيات النسائية والرجالية من كل دول الخليج.
- (مؤتمر تونس) في 1999م لدول المغرب العربي.
- (المؤتمر النسائي الأفريقي السادس) في 1999م في أديس أبابا، نظمه
المركز الأفريقي التابع للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية.
- مؤتمر - شبيه لما سبق - في عمان بالأردن، وفي بيروت، وذلك في
أواخر عام 1999م، نظمته اللجنة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا.
ثالثاً: أهم السلبيات التي دعت إليها هذه المؤتمرات وهي كما يلي:
1 - ما يتعلق بالجانب الأخلاقي والاجتماعي، ومن ذلك [17] :
أ - الدعوة إلى حرية العلاقة الجنسية المحرمة، واعتبار ذلك من حقوق
المرأة الأساسية.
ب - توفير خدمات الصحة الجنسية والإنجابية للمرأة.
ج - نشر وسائل منع الحمل ذات النوعية الجيدة، ومنع حالات الحمل غير
المرغوب فيه، والدعوة إلى منع حالات الحمل المبكر.
د - الدعوة إلى تحديد النسل.
هـ - الاعتراف بحقوق الزناة والزانيات.
و الاعتراف بالشذوذ الجنسي.
ز - السماح بأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج.
ح - التنفير من الزواج المبكر، وسن قوانين تمنع حدوث ذلك.
ط - إنهاء تبعية المرأة والبنت من الناحية الاجتماعية.
ي - سلب قوامة الرجال على النساء.
ك - سلب ولاية الآباء على الأبناء.
2 - ما يتعلق بالجانب التعليمي [18] :
أ - تشجيع التعليم المختلط.
ب - الدعوة إلى المساواة في مناهج التعليم.
ج - الدعوة إلى التثقيف والتربية الجنسية.
3 - ما يتعلق بالجانب الصحي [19] ، وأهم السلبيات في هذا الجانب:
أ - الأمراض الجنسية، ومن ذلك:
- الدعوة إلى أن يكون السلوك الجنسي المأمون، والوقاية من الأمراض
المنقولة بالاتصال الجنسي جزءاً لا يتجزأ من خدمات الصحة الجنسية والإنجابية،
مع ضمان السرية والخصوصية للمراهقين والمراهقات فيما يتعلق بهذا الجانب.
- تيسير انتشار وتوزيع الواقيات الذكرية (الرفالات) بين الذكور على
نطاق واسع وبأسعار زهيدة.
- القضاء على التمييز ضد الأشخاص المصابين بالإيدز.
- ضمان عدم تعرض المصابات بالإيدز للنبذ والتمييز بما في ذلك أثناء السفر.
- تقديم ما يلزم من الرعاية والتعاطف للرجال والنساء المصابين بالإيدز.
- الاعتراف بهذه العلاقات الجنسية المحرمة، والتي تسبب هذه الأمراض
الجنسية.
ب - الإجهاض، ومن ذلك:
- الدعوة إلى أن يكون الإجهاض غير مخالف للقانون، وأن يكون مأموناً
طبياً.
- الدعوة إلى إلغاء القوانين التي تنص على اتخاذ إجراءات عقابية ضد المرأة
التي تجري إجهاضاً غير قانوني.
- الدعوة إلى أن يكون الإجهاض حقاً من حقوق المرأة، وتيسير حصولها
على هذا الحق، عندما تريد إنهاء حملها.
- الدعوة إلى إنشاء مستشفيات خاصة للإجهاض.
- الدعوة إلى قتل الأجنة داخل الأرحام، بحجة أنه غير مرغوب فيه.
ج - ختان المرأة، ومن ذلك:
- حث الحكومات على حظر بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث.
- أن يكون التنفير الفعال من الممارسات الضارة - مثل بتر أجزاء من
الأعضاء التناسلية للأنثى جزءاً لا يتجزأ من برامج الرعاية الصحية الأولية.
- أن إزالة أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث يشكل انتهاكاً للحقوق
الأساسية للمرأة، ويعتبر من العنف والتمييز الواقع عليها.
- تضخيم الآثار السلبية الطبية، من جراء عملية ختان المرأة.
- سن وإنفاذ قوانين لمواجهة مرتكبي ممارسات العنف ضد المرأة - ومنها
ختان الإناث.
4 - ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، ومن ذلك [20] :
أ - التقليل من عمل المرأة داخل المنزل، واعتبار ذلك عملاً ليس له مقابل،
ومن ثم فهو من أسباب فقر المرأة.
ب - الدعوة إلى خروج المرأة للعمل المختلط.
ج - الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل فيما يتعلق بالعمل (نوعية العمل
ووقته) .
د - دعوة الحكومات للقيام بإصلاحات تشريعية وإدارية لتمكين المرأة من
الحصول الكامل على الموارد الاقتصادية، كحقها في الميراث بالتساوي مع الرجل.
هـ - تيسير حصول المرأة على الائتمانات (القروض الربوية) .
5 - ما يتعلق بالجانب السياسي، ومن ذلك [21] :
أ - دعوة الحكومات والمنظمات لاتخاذ إجراءات من أجل مشاركة المرأة في
الأنشطة السياسية.
ب - ضمان حق التصويت للمرأة، وحقها في الانتخاب.
ج - تشجيع الأحزاب السياسية على تعيين مرشحات من النساء من أجل
انتخابهن على قدم المساواة مع الرجل.
د - الدعوة لإصدار تعليمات حكومية خاصة لتحقيق تمثيل منصف للمرأة في
مختلف فروع الحكومة.
هـ - الدعوة لتمثيل المرأة تمثيلاً منصفاً على جميع المستويات العليا في
الوفود، كوفود الهيئات والمؤتمرات واللجان الدولية التي تعالج المسائل السياسية
والقانونية ونزع السلاح، وغيرها من المسائل المماثلة.
و حق المرأة في أن تكون رئيسة دولة، أو رئيسة وزراء، أو وزيرة.
رابعاً: أهم جوانب الخطورة في هذه المؤتمرات، وهي:
أ - أن القاسم المشترك بينها هو المرأة، ومساواتها التامة بالرجل في كافة
مجالات الحياة المختلفة، وكذلك الجنس، والحرية المطلقة.
ب - أنها تستظل بمظلة الأمم المتحدة، وتستثمر شعارات العولمة وأدبياتها.
ج - أنها توظف سلطان الدول الكبرى سياسياً واقتصادياً وحضارياً لفرض
تنفيذ توصياتها.
د - أن الهدف النهائي لها هو: عولمة الحياة الاجتماعية بالمفهوم الغربي
الإباحي.
خامساً: بعض إيجابيات هذه المؤتمرات:
الأمور السابقة هي أبرز سلبيات مؤتمرات الأمم المتحدة - في نظري - حول
المرأة. إلا أنه إحقاقاً للحق وحكماً بالعدل، وامتثالاً لقول الله تعالى: [َلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) فإن هذه
المؤتمرات قد دعت إلى أمور تخص المرأة، وتعتبر أموراً إيجابية،
ومن ذلك:
أ - الدعوة إلى تعليم المرأة، وإزالة الأمية عنها.
ب - الدعوة إلى مكافحة الأمراض السارية عند النساء، خاصة في البيئات
الفقيرة.
ج - الدعوة إلى الرضاعة الطبيعية، بالنسبة للأم.
د - محاربة الاتجار بالمرأة والطفل، واستغلالهما جنسياً، من خلال شبكات
وعصابات دولية متخصصة في هذا المجال، واعتبار ذلك جريمة دولية محرمة.
هـ - تشجيع وسائط الإعلام على الامتناع عن تصوير المرأة على أنها
مخلوقة أدنى منزلة من الرجل، وكذلك عدم استغلالها مادة وسلعة في سوق الجنس.
و الدعوة إلى المساواة في الأجور بين الجنسين لنفس العمل، وبنفس
الجودة.
ز - الدعوة إلى إعطاء إجازة أمومة للمرأة العاملة.
ح - مكافحة التحرش الجنسي ضد المرأة من قِبَل الرجل في مواقع العمل
وغيرها.
ط - مسؤولية الوالدين عن تربية الطفل وتنشئته تنشئة سوية.
ي - منع استغلال المرأة جنسياً من خلال النزاع المسلح، أو من خلال
استغلال ظروف اللاجئات وفقرهن.
ك - التحذير من وأد البنات، والانتقاء الجنسي قبل الولادة.
سادساً: المواقف والظواهر السلبية والإيجابية حول هذه المؤتمرات في
العالم العربي والإسلامي:
1 - الظواهر والمواقف السلبية، ومنها:
أ - مشاركة بعض الجمعيات النسائية العربية والإسلامية في الإعداد لهذه
المؤتمرات والمشاركة في اللجان التحضيرية، بل إن بعض الجلسات التحضيرية
لمؤتمر بكين - مثلاً - عقدت في الأردن، وبمشاركة بعض الجمعيات النسائية فيها.
ب - تزايد نشاط التيار النسوي الوافد بما يحمله من فكر تغريبي، ومثاله:
الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية بالمغرب، وما قامت به الهيئات المساندة
لمشروع الخطة من تنظيم مسيرات تأييد من 8 مارس/ آذار 17 أكتوبر/ تشرين
الأول 2000م.
ج - تزايد التمويل الأجنبي المشبوه لمنظمات نسوية، أو معنية بشؤون المرأة
والأسرة في العالم العربي.
د - بداية الاتجاه لإعادة النظر في قوانين الأسرة - أو ما يسمى بالأحوال
الشخصية - في العالم الإسلامي، كما حصل في مصر.
هـ - طرح مناقشات وبرامج تجاه المرأة في المجتمعات المحافظة، كما هو
الأمر في بعض دول الخليج.
2 - بعض المواقف والظواهر الإيجابية، ومنها:
أ - قيام عدد من الهيئات الإسلامية باستنكار بعض ما ورد من وثائق لهذه
المؤتمرات وخاصة الأخيرة منها، ومنها: موقف هيئة كبار العلماء في السعودية،
وموقف الأزهر في مصر حول وثيقتي مؤتمري السكان في القاهرة، والمرأة في
بكين.
ب - ازدياد ظاهرة الوعي الإسلامي بهذه المؤتمرات المشبوهة، ورصد
المؤامرة وكشفها.
ج - وجود بعض الفعاليات الإسلامية ضد التيار التغريبي، مثل:
د - مؤتمر الاتحاد النسائي العالمي من 25 27 فبراير 2000م، وهذا
الاتحاد هو مؤسسة دولية غير حكومية، ذات صبغة استشارية لدى المؤتمر
الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة، تأسس عام 1996م للدفاع عن الممارسات
الظالمة ضد المرأة، والتي تخالف الدين وكرامة الإنسان، ومقره الخرطوم، وهذا
الاتحاد ونشاطاته عليه بعض الملاحظات، إلا أننا نقدر الهدف الذي من أجله نشأ
وأقام مؤتمره.
هـ - اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل (ممثلة رابطة العالم الإسلامي) ،
والتقرير الذي أعدته، والمعنون بـ (التقرير البديل) ، والمقدم إلى لجنة
مركز المرأة بالأمم المتحدة بوصفها اللجنة التحضيرية للدورة الاستثنائية للجمعية
العامة للأمم المتحدة، والتي عنوانها: «المرأة عام 2000م» تحت شعار:
(مساواة النوع الاجتماعي والتنمية والسلام في القرن الحادي والعشرين) .
و ما قامت به الندوة العالمية للشباب الإسلامي من خلال المؤتمر الصحفي
الذي عقده أمينها العام د. مانع الجهني في 20 صفر 1421هـ، لكشف أبعاد ما
في وثيقة (مؤتمر بكين + 5) من مخططات إفسادية.
وغيرها من الظواهر والمواقف الإيجابية.
سابعاً: كيفية مواجهة هذه المؤتمرات المعولمة للحياة الاجتماعية (أو
الموقف من هذه المؤتمرات) :
إن الوعي بأهداف هذه المؤتمرات، وما تدعو إليه، ومن يقف وراءها يجعلنا
نتمكن من اختيار الطريقة المناسبة لكيفية مواجهتها، واتخاذ الموقف المناسب
تجاهها. وهذه الطريقة ذات اتجاهين: موقف نظري معرفي، وموقف عملي.
فالموقف النظري المعرفي يقوم على ما يلي:
1 - كشف سوءاتها وعوارها للجمهور الإسلامي، وبيان مراميها، ومخالفتها
لمقاصد الشريعة، وأنها أحد أذرعة العولمة المعاصرة؛ وذلك من خلال وسائل
الإعلام المختلفة (المقروءة، والمسموعة، والمرئية) ، والندوات، والمحاضرات؛
وذلك من قبل العلماء، والدعاة، وطلاب العلم، والمثقفين الإسلاميين،
والإعلاميين، والقيادات النسائية، وتحميلهم المسؤولية في بث الوعي العام؛
للوصول إلى تحصين داخلي قوي.
2 - أن تقوم الوزارات والهيئات والمؤسسات الإسلامية (الرسمية وغير
الرسمية) ، كوزارات الخارجية، والشؤون الإسلامية، والشؤون الاجتماعية،
ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهيئة كبار العلماء، وعلماء
الأزهر، ودور الإفتاء، وكل من يقوم على أمور المسلمين بأداء دورهم اللازم،
وتكوين حضور قوي في الداخل والخارج، ومن ذلك إصدار بيانات تستنكر هذه
المؤتمرات وأهدافها الخبيثة، ونشر هذه البيانات وتغطيتها تغطية إعلامية حتى
يتبين الأمر للجمهور الإسلامي.
3 - كشف زيغ التيار النسوي التغريبي في العالم الإسلامي والعربي، وأنه
جزء من تيار الزندقة المعاصر، والمدعوم من هيئات مشبوهة خارجية.
4 - قيام الجهات الخيرية الإسلامية والأقسام النسائية فيها على وجه
الخصوص، والجمعيات الخيرية النسائية، بتحمل مسؤولياتها، والتنسيق فيما بينها،
وإصدار وثيقة للأسرة المسلمة تؤصَّل فيها الرؤية الشرعية حول المرأة وحقوقها
الأساسية في الإسلام، وكذلك الأسرة ومفهومها الشرعي.
وكذلك القيام بالمناشط الدعوية التثقيفية لمختلف شرائح المجتمع.
5 - عمل رصد إعلامي جاد لكل فعاليات المؤتمرات الدولية والإقليمية،
ومتابعة الخطوات الفعلية لتنفيذ توصيات المؤتمرات السابقة التي ناقشت قضايا
المرأة، وإصدار ملاحق صحفية؛ لبيان الموقف الشرعي من هذه المؤتمرات
وتوصياتها.
6 - إقامة أسابيع ثقافية في المدارس والجامعات؛ لبيان مخالفة مثل هذه
المؤتمرات لمقاصد الشريعة الإسلامية.
7 - ممارسة ضغوط شعبية قوية على وسائل الإعلام المختلفة التي تقوم
بالترويج والتغطية السيئة لهذه المؤتمرات لتكف عن ذلك.
8 - اعتماد إدخال الأسرة في مناهج التعليم في المرحلة المتوسطة والثانوية
للبنين والبنات، ويشتمل هذا المنهج بوصفه صيغة مقترحة على: قيمة الأسرة،
ومكانة المرأة في الإسلام، والمفهوم الشرعي للعلاقة بين الرجل والمرأة، والحقوق
الزوجية، والوسائل الفعالة في تربية الأولاد، وبيان الأفكار المتصادمة مع الفطرة،
ويشتمل هذا المنهج أيضاً على عرض تاريخي للجهود الدولية في إفساد الأسرة
والمرأة المسلمة، وعولمة الحياة الاجتماعية عموماً عن طريق هذه المؤتمرات
العالمية، وبيان أهدافها الخبيثة الحالية والمستقبلية.
9 - تكوين هيئات عليا للنظر في كل ما يتعلق بالأسرة من النواحي النفسية،
والثقافية، والصحية، وتفعيل دور وزارات الشؤون الاجتماعية للقيام بدور فاعل
للاستجابة لمتطلبات الأسرة المسلمة.
10 - تفعيل دور الأئمة والخطباء، وإعطاؤهم دورات تثقيفية حول هذه
المؤتمرات، والإيعاز إليهم بتكثيف التوعية بخطورة مثل هذه المؤتمرات
وتوصياتها على الأجيال القادمة مع تجنب العنف والإثارة.
أما الموقف العملي فيقوم على ما يلي:
1 - المشاركة الفعالة في هذه المؤتمرات، وطرح البديل الإسلامي في
المسألة الاجتماعية، وكشف عوار الحياة الغربية الاجتماعية - كلما أمكن -.
وحجة القول بهذا الرأي: أن الضعيف إذا قاطع مثل هذه المؤتمرات لا تؤثر
مقاطعته، وبذلك تسود وجهة نظر القوي. بينما إذا قاطع القوي فإن مقاطعته ستؤثر.
وكنموذج لهذا الكلام فإن مقاطعة الولايات المتحدة الأمريكية لمنظمة اليونسكو قد
أضعفتها كثيراً.
والمسلمون اليوم ضعفاء أمام أصحاب وجهات النظر الأخرى؛ فمقاطعتهم لا
تؤثر، بخلاف لو حضروا وطرحوا ما عندهم بقوة، وأبدوا ما لديهم من تحفظات؛
فإن هذا يقطع الطريق على تفرد وجهة النظر الغربية في هذه المؤتمرات؛ حيث
يعلم البشر أنه يوجد وجهة نظر أخرى في المسألة الاجتماعية؛ خاصة إذا علمنا أن
قرارات هذه المؤتمرات ملزمة إلى حد كبير.
ومما يؤكد هذا الاتجاه - أي المشاركة - ما حصل في مؤتمر السكان والتنمية
بالقاهرة/1994م ومؤتمر المرأة الرابع في بكين /1995م؛ حيث كان لمشاركة
الوفود والهيئات الإسلامية دور واضح في رفض وتعديل بعض توصيات هذين
المؤتمرين.
2 - تأسيس مراكز متخصصة لمتابعة النشاط النسوي التغريبي العالمي
والإقليمي، ومعرفة ما يتعلق به من مؤتمرات، من حيث: مواعيد إقامتها،
وأوراق العمل التي ستقدم فيها، والاجتماعات التحضيرية لها، وغير ذلك؛ حتى
يتمكن المهتمون بهذا الجانب من مقاومة أفكار هذه المؤتمرات بكل جدية وسرعة،
وتقديم الأبحاث، والرؤية، والرأي لأصحاب الشأن العلمي، والاجتماعي،
والشرعي لإعانتهم على تشكيل الموقف الصحيح عند الحاجة، وكذلك كشف الوجه
الآخر البشع للحياة الاجتماعية الغربية، وتقديم الإحصاءات، ورصد الظواهر في
تلك المجتمعات؛ حتى يتبين لهم أنه الحق.
3 - الاستفادة من بعض الجمعيات النسائية الغربية - المناهضة والمعارضة
لبعض أفكار هذه المؤتمرات - وذلك من خلال الاستفادة من نفوذها في بلدانها،
وكذلك ما يتوفر لديها من معلومات وحقائق عن مجتمعاتها وعن بعض الاجتماعات
السرية التي تدور من خلف الكواليس؛ وخاصة أن كثيراً من هذه الجمعيات لها
مواقع على شبكة المعلومات العنكبوتية؛ فيمكن من خلال «الإنترنت» التواصل
معهم، والحصول على المعلومات منهم.
__________
(*) باحث يحضر شهادة الدكتوراة في موضوع بعنوان: (قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية،
دراسة نقدية في ضوء الإسلام) ، كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(1) انظر: مجلة المجتمع، العدد 1402، بتاريخ 26/2/1421هـ.
(2) بدأ هذا الصندوق عملياته في عام 1966م؛ وذلك للأغراض الآتية كما ورد هذا في موقع الصندوق على الشبكة العنكبوتية: أ - المساعدة على إيجاد برامج الصحة الإنجابية، بما في ذلك تنظيم الأسرة، والصحة الجنسية أي الدعوة إلى الحرية الجنسية المأمونة طبياً! ! ب - حل المشاكل المقترنة بسرعة النمو السكاني ج - مساعدة البلدان النامية بناء على طلبها! ! في حل مشاكلها السكانية د - العمل على تحسين الصحة الإنجابية هـ - المناداة بالمساواة بين الجنسين، وبتمكين المرأة، والسعي إلى تثبيت تعداد سكان العالم انظر: http://www.unfpa.org، ويشرف هذا الصندوق على الإعداد للمؤتمرات العالمية السكانية.
(3) المصدر: مطبوعة للأمم المتحدة بعنوان: «القرارات والتدابير التي اتخذتها منظمات الأمم المتحدة، والتي تهم اليونسكو في دورة المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، في دورته الرابعة والأربعين بعد المائة» ، ص 32، 33.
(4) انظر: هذا الدستور في موقع الأمم المتحدة، وعنوانه.
http://www.un.org.arabic/aboutun.charter.charter.
(5) القائم على مفهوم التماثلية التامة (لا التكاملية) بين المرأة والرجل، دون اعتبار لأي فروق بينهما، سواء كانت فروقاً جسدية، أو نفسية، أو عقلية، (وهي ما تسمى علمياً بالفروقات البيولوجية، والفسيولوجية، والسيكولوجية) ، هذه الفروق التي اعترف بها علماء الغرب أنفسهم من خلال دراساتهم وأبحاثهم، فضلاً عن المفهوم الإسلامي للمساواة بين المرأة والرجل القائم على مفهوم التكامل بينهما، واختصاص كل منهما بخصائص تختلف عن الآخر؛ بحيث يكمل كل منهما الآخر، ويقوم بما أوجبه الله عليه في عمارة هذا الكون، دون أي تمييز بينهما، وليس هذا مجال التفصيل في هذه القضية.
(6) مجموعة الصكوك الدولية للأمم المتحدة نيويورك 1983م، نقلاً عن كتاب المرأة في الإسلام سامية منيسي، ص 165.
(7) اعتمد هذا الإعلان ونشر بقرار الجمعية العام 217 (أ) (د 3) المؤرخ في 10 كانون الأول ديسمبر 1948م، انظر: حقوق الإنسان في الإسلام، محمد الزحيلي، ص 393، وحقوق الإنسان، محمود بسيوني، ص 17.
(8) المرأة في الإسلام، سامية منيسي، ص 165.
(9) انظر: حقوق الإنسان، محمود بسيوني وآخرون، ج 1، ص 90.
(10) اعتمد هذا العهد الدولي وعرض للتوقيع والتصديق بقرار الجمعية العامة 2200 (أ) (د 21) المؤرخ في 16 كانون الأول / ديسمبر 1966م، وتاريخ بدء النفاذ: 3 كانون الثاني/ يناير 1976م، طبقاً للمادة 27.
(11) حقوق الإنسان، محمود بسيوني، ج 1، ص 23.
(12) حقوق الإنسان، محمود بسيوني، ج 1، ص 32.
(13) حقوق الإنسان، محمود بسيوني، ج 1، ص 93.
(14) المرجع السابق، ج 1، ص 49.
(15) حقوق الإنسان، محمود بسيوني، ج 1، ص 97 107.
(16) هو الفصل الرابع، وعنوانه: (المساواة بين الجنسين والإنصاف وتمكين المرأة) .
(17) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي كوبنهاجن، 1980م، الصفحات: 6، 26، 28، 35، 39، 44، 51 ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة نيروبي، 1985م، الصفحات: 28، 31، 46، 55، 57، 58، 61، 79، 80، 106، ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة بكين، 1995م، الصفحات: 6، 11، 18، 41، 46، 47، 48، 51، 55، 56، 57، 58، 61، 63، 101، 103، 105، 106، 142، 144، 148، ووثيقة المؤتمر الدولي المعني بالسكان مكسيكو، 1984م، الصفحات: 3، 4، 12، 13، 21، 23، 27، 29، 30، 31، 32، 42، ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية القاهرة، 1994 م، الصفحات: 11، 14، 21، 24، 25، 27، 29، 30، 31، 32، 33، 36، 37، 41، 43، 44، 45، 47، 49، 50، 52، 53، 55، 56، 65، 66، 67، 87، 88، 92، 93، 95، 102، 104، 110، 108، 112، 115، ووثيقة المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية ريودي جانيرو، 1992م، الفصل (24) ص 400، 401.
(18) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة كوبنهاجن، 1980م، الصفحات: 28، 39 ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة نيروبي، 1985م، الصفحات: 35، 57، 61، 248 ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة بكين، 1995م، الصفحات: 35، 41، 46، 55، 56، 142، 147، 148، ووثيقة المؤتمر الدولي المعني بالسكان مكسيكو، 1984م، ص 31، ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية القاهرة، 1994م، الصفحات: 30، 37، 44، 45، 52، 53، 54، 55، 56، 84، 85، 89.
(19) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة كوبنهاجن، 1980م، ص 37، ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة بكين، 1995م، الصفحات: 21، 46، 48، 52، 55، 56، 58، 59، 60، 61، 62، 64، 68، 125، 141، 142، 146، 150، ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية القاهرة، 1994م، الصفحات: 29، 32، 44، 45، 49، 50، 52، 53، 54، 55، 59، 66، 67، 93.
(20) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة كوبنهاجن، 1980م، الصفحات: 22، 30، 31، 33، 46، 51، ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة نيروبي، 1985م، الصفحات: 26، 27، 31، 32، 45، 50، 51، 52، 53، 65، 75، 106، 143، 146، 167، ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة بكين، 1995م، الصفحات: 7، 8، 16، 18، 22، 25، 26، 31، 32، 33، 34، 87، 88، 90، 91، 95، 96، 98، 99، 100، 102، 113، 144، 196، 204، 207 ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية القاهرة، 1994م، الصفحات: 26، 28، 31 ووثيقة المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية ريودي جانيرو، 1992م، الفصل (24) الصفحات: 400، 401، 403 ووثيقة مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية كوبنهاجن، 1995م، الصفحات: 21، 52، 57، 73، 76، 78.
(21) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة كوبنهاجن، 1980م، الصفحات: 23، 148، ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة نيروبي، 1985م، الصفحات: 19، 25، 26، 34، 36، 37، 85، 94، 115، 124، 127، ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة بكين، 1995م، الصفحات: 6، 14، 15، 18، 23، 102، 103، 104، 105، 106، 107، 108، 125، 195 / ووثيقة المؤتمر الدولي المعني بالسكان مكسيكو، 1984م، ص 20، ووثيقة المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية ريودي جانيرو، 1992م، ص 403، ووثيقة مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية كوبنهاجن، 1995م، الصفحات: 20، 37، 87.(170/34)
ملفات
العولمة.. مقاومة وتفاعل
منظمة التجارة العالمية والعولمة الاقتصادية
د. محمد بن سعود العصيمي [*]
M_alosaimi@alrajhibank.com.sa
تمثل التجارة الدولية العصب المركزي لاقتصاديات دول العالم. ومع هذه
الأهمية، فقد مرت النظرية الاقتصادية التي تعنى بدراسة التجارة الدولية بمراحل
تطورت من خلالها، بدءاً بالنظريات التي كانت ترى الاكتفاء الذاتي لكل بلد أمراً
ممكناً. بل مرغوباً فيه من الناحية الاقتصادية؛ وعليه فلا داعي للتجارة الدولية؛
وهو ما يستدعي فرض قيود عليها. ووصولاً إلى النظريات الحديثة التي ترى
التوسع في التجارة البينية بين دول العالم، وأنها تزيد من رفاه العالم والدول
المشاركة فيها على حد سواء؛ فلا بد من تحريرها من القيود.
وتاريخياً، وبناءً على الواقع السياسي والحربي لدول العالم، كانت التجارة
الدولية تمر بموجات من المد والجزر في مجال الحمائية (ويقصد بها وضع موانع
غالباً ما تكون مصطنعة أمام انسياب السلع من خارج البلد مثل الجمارك والقيود
الكمية والنوعية على الواردات) . فقد كانت الحروب، ولا تزال، تشكل العائق
الأول أمام انسيابية التجارة الدولية بسبب فقدان الثقة بين البلدان المتحاربة. وكان
يصاحب قيام الحروب وقف تصدير واستيراد الذهب والفضة على وجه الخصوص
بسبب كونهما نقوداً مقبولة في أنحاء كثيرة من العالم لقرون طويلة (أو غطاء
إلزامياً للنقود الورقية إلى عهد قريب) . هذا هو السبب الأول الذي جعل أصحاب
النظرية التجارية ينادون بالاكتفاء الذاتي وعدم القيام بعمليات تجارة عالمية؛ حيث
إن فقدان المعدنين الثمينين في أوقات السلم يجعل البلد عرضة للضعف الشديد حال
الحرب. ولذلك تزيد الموجات الحمائية (بفرض القيود المالية والكمية والنوعية)
على التجارة بين البلدان أثناء وبعد الحروب. ولما تغير الوضع في النقود
وأصبحت لا تصرف بالمعدن الثمين، خفَّت تلك الآثار من جهة، وزادت من جهة
أخرى؛ فأصبحت الدول المتحاربة تتعامل بعملات قوية مصدرة في بلد غير
مشمول بالحرب، لكن النقد الخاص بالدول المتحاربة قد يتلاشى للصفر. وآثار
الحروب لا تتوقف على النقود، بل كثير من الأدوات الاقتصادية التي تعتمد على
الثقة تتأثر تأثراً كبيراً بالحرب [1] .
ولذلك كانت الحربان العالميتان ذواتي أثر كبير على التجارة العالمية بناءً على
ما سبق. وقد استدعى ذلك من قادة العالم (القادر على ذلك) المبادرة لتصحيح مثل
تلك الاختلالات في سوق التجارة العالمية حتى لا تتضرر البلدان وخاصة المتقدمة
بعد الحروب. وقد قامت جهود كثيرة من دول العالم المتقدم لتصحيح الخلل الناشئ
من الحروب على التجارة الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنها لم تلق الدعم
الكافي من بقية دول العالم، وفتَّ في عضدها الكساد العظيم الذي ضرب أطنابه
على الولايات المتحدة وأوروبا من عام 1929م حتى 1933م، وقيام الحرب
العالمية الثانية فيما بعد. وكانت الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مناسبة
للولايات المتحدة الأمريكية (البلد المنتصر في الحرب) لفرض سياستها على العالم،
وتشكيل ما تريد تشكيله من المؤسسات والمنظمات العالمية التي تحل بها كثيراً من
المشكلات التي نشأت من الحروب؛ بحيث تستفيد الاستفادة القصوى من تلك
المنظمات. ومن هنا قامت منظمات دولية من أهمها: (منظمة الأمم المتحدة)
والهيئات والوكالات التابعة لها، و (صندوق النقد الدولي) ، و (البنك الدولي
للإنشاء والتعمير) . وكان الغرض منها ترتيب الشأن السياسي والاقتصادي
والتمويلي في العالم. وفي تلك الحقبة نفسها، تم اقتراح إنشاء منظمة تعنى بالتجارة
الدولية تسمى: (منظمة التجارة العالمية) . وبالفعل تم ذلك، وبدأت اللجان
المشكلة العمل بها منطلقة مما عرف فيما بعد بـ (ميثاق هافانا) الذي كان يراد منه
تنشيط العلاقات التجارية العالمية. ولكن هذه المنظمة لم تقم على سوقها،
لاعتراض الكونجرس الأمريكي عليها نظراً لسحبها كثيراً من صلاحياته [2] .
غير أن حاجة الدول لمنتدى دولي للتداول حول الشؤون التجارية المختلفة كان
ملحاً على الرغم من رغبة الولايات المتحدة الأمريكية، فكان أن قامت جهود منفردة
بين مسؤولي القطاعات التجارية والاقتصادية التي لها علاقة بانسيابية حركة التجارة
الخاصة بها، ثم تبلورت تلك اللقاءات والاجتماعات عن أطر تلقى قبولاً عاماً بين
الدول، مستمدة من (ميثاق هافانا) ، شكلت فيما بعد الإطار النظري الذي بنيت
عليه اتفاقية سميت: (الاتفاقية العامة للرسوم الجمركية والتجارة) ، واختصاراً من
الحروف الإنجليزية الأولى لاسمها، تدعى (جات) [GATT] . وكان الهاجس
الأول فيها تحرير التجارة العالمية من القيود التي وضعت بعد الحرب؛ وذلك
بخفض الجمارك، والحد من القيود الكمية والنوعية المفروضة على السلع من قبل
الدول الأطراف في الاتفاقيات. وتولد عن تلك الاجتماعات اتفاقات بين دولتين أو
أكثر، وتغطي في الغالب سلعاً صناعية من المهم لأطراف الاتفاقية وضع ضوابط
للتجارة فيها. ولحاجة كثير من دول العالم لمثل هذا النوع من الترتيبات التجارية،
زادت تلك الاتفاقات وتعددت أطرافها، وتوسعت بعض الاتفاقيات في أعضائها
والسلع الصناعية التي تشملها، وأصبحت تلك الاتفاقيات مجالاً لإنضاج كثير من
الأفكار الاقتصادية في مجال التجارة العالمية. ومع كل ذلك، لم تكن (الجات)
منظمة بالمعنى الفني الدقيق، وإن كان لها أعضاء مشاركون مشاركة فاعلة في كثير
من مجريات اتفاقياتها، ولكنها قدمت للعالم وللفكر الاقتصادي كثيراً من الأفكار
الناضجة في مجالها؛ ومن ثم اكتسب كثير من ممارساتها عرفاً دولياً مهماً، وإن
كان غير ملزم للأطراف فيها؛ وتبلورت تلك في خفض كثير من الرسوم الجمركية
على جملة السلع محل المفاوضات [3] . وكانت بعض الدول التي لا ترغب
في الانضمام لهذا الملتقى الاقتصادي غير الرسمي تدخل طرفاً أو «عضواً»
مراقباً فيه. وقد تبلور العمل التجاري العالمي المدار عن طريق اتفاقية (الجات)
عن مبادئ مهمة ألخصها فيما يأتي [4] :
1- مبدأ عدم التمييز (أو: قاعدة المعاملة الوطنية) : والمقصود أن تتم
معاملة كل دولة لسلع الدول الأخرى معاملة السلع الوطنية سواء فيما يتعلق
بالضرائب المحلية أو الأنظمة المعمول بها. وفي هذا الإطار تعطى الدولة المشاركة
في الاتفاقية وضع «الدولة الأَوْلى بالرعاية» ؛ ويقصد به: حصول الدولة على
كل المزايا الممنوحة من بلد آخر للبلدان الأخرى تلقائياً حتى لو لم يكن البلد طرفاً
في اتفاقية محددة، ويستثنى من ذلك البلدان الداخلة في ترتيبات تجارية إقليمية.
2- مبدأ حظر القيود الكمية: والمقصود أن يتم امتناع كل الدول المشاركة في
اتفاقية الجات عن استخدام القيد الكمي (أي: تحديد الواردات بكمية معينة) في
أساليب التعامل التجاري مع البلدان العالمية. ومعنى ذلك أن الدول ليس لها إلا
استخدام الرسوم الجمركية كآلية وحيدة لحماية الصناعة المحلية.
3- مبدأ تخفيض الرسوم الجمركية: والمقصود أن تتعاون الدول الأعضاء
في الاتفاقية بخفض رسومها الجمركية أمام الواردات الأجنبية تحفيزاً للتجارة
العالمية، وتقليصاً للعوائق السعرية عليها، أو على الأقل ربط تلك الرسوم بحيث
لا تزيد.
4- التعهد بتجنب سياسة الإغراق: والمقصود أن تحاول الدول الأعضاء عدم
دعم السلع الموجهة للتصدير دعماً مالياً مباشراً؛ بحيث إن الاتفاقية تريد ترسيخ قيم
التنافس الحر بين الشركات والمنشآت التجارية بدون التدخل الحكومي.
ومن أهم أسباب التطورات التي حدثت في مسيرة (الجات) تلك الجولات
من المفاوضات بين الدول الأعضاء التي كانت تعقد كل عشر سنين تقريباً، وتسمى
في البلد الذي تعقد فيه غالباً. وكانت هذه الجولات مجالاً لإنضاج التجارب في
الاتفاقيات المختلفة، ولسماع الأطراف المختلفين ما عند الآخرين حول الاتفاقيات،
وللنظر في إدخال سلع أخرى لتشمل في الاتفاقيات القائمة. وقد تم عقد ثماني
جولات، كانت الأولى في جنيف عام 1948م. ولكن أهم تلك الجولات هي
الجولات الثلاثة الأخيرة: جولة كندي (1964 - 1967م) ، وجولة طوكيو
(1973 - 1979م) ، وجولة أوروجواي (1986 1993م) [5] ، وكانت جولة
أوروجواي أهم تلك الجولات على الإطلاق.
إرهاصات قيام منظمة التجارة العالمية [6] :
لقد تغير موقف الولايات المتحدة المعارض لإنشاء منظمة تعنى بالتجارة
العالمية على نحو غير معهود. ولا شك أن لذلك أسباباً تشترك فيها مصالح
الولايات المتحدة مع أوروبا، وبقية البلدان الصناعية.
وأهم تلك المتغيرات في نظري:
- استعار المنافسة بين الولايات ودول أوروبا على المصالح، خاصة بعدما
تبين لدول أوروبا أن الولايات المتحدة قد شكلت في السنوات الخمسين الماضية
أكبر تحد لدول أوروبا في جميع المجالات، خاصة التجارية والثقافية. ومن هنا
ندرك أن تشكيل (الاتحاد الأوروبي) بين دول كانت متناحرة إلى عهد قريب لها
لغات متعددة وثقافات متغايرة ومصالح متعارضة لم يأت اعتباطاً ولا ترفاً اقتصادياً
أو سياسياً؛ بل هو حل غالي الثمن لمعضلات باهظة التكاليف [7] . ومن المهم في
هذا السياق ربط الاندماجات الكبيرة التي حصلت بين الشركات العالمية، والغربية
على وجه الخصوص، في كثير من المجالات، مثل الصيرفة، والخدمات المالية،
والاتصالات، والتأمين، والصناعات الأساسية وغيرها. ومن المهم الإشارة إلى
أن مثل تلك الممارسات كانت إلى عهد قريب تعد مخالفة للقوانين الخاصة بمكافحة
الاحتكار في بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الصورة القانونية تغيرت
مع تغير ساحة الصراع الاقتصادي.
- كثرة الدول التي كانت مستعمرات لدول أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة
الأمريكية؛ مما يجعل تقديم الدول الأوروبية لمزايا تجارية لهذه المستعمرات غير
مخالف للنمط التجاري المعروف والمألوف عالمياً. ولما كانت تلك المستعمرات
السابقة قد أصبحت بعد التحرير (!) مجالاً خصباً لنشاط الشركات متعددة
الجنسيات، فقد كانت الشركات حاملة الجنسية الأوروبية فيها مقدمة على غيرها من
الجنسيات، خاصة الأمريكية في المزايا التجارية. وهذا يعني خسارة كبيرة لأسواق
كبيرة بإمكان الولايات المتحدة دخولها. والعكس صحيح، فهناك دول ترغب
أوروبا أن تمارس فيها دوراً أكبر، وهي تاريخياً مجال لصولات وجولات الشركات
الأمريكية. ومشكلة الموز التي ثارت بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
أوضح مثال على كسب الولايات المتحدة السجال في المستعمرات [8] ، ومشكلة
تسليح بعض دول الخليج مثال آخر على كسب أوروبا الجولة في بعض الأسواق
التقليدية للولايات المتحدة الأمريكية.
- عيوب اتفاقية (الجات) السابقة في النطاق وآليات الإلزام والتنفيذ. فمثلاً،
توجد ثغرات قانونية في اتفاقية (الجات) في مجالي الزراعة والمنسوجات،
جعلت تلك الثغرات الباب مشرعاً أمام الدول للتنصل من التزاماتها القانونية، مؤدية
لعرقلة انسيابية التجارة. وكمثال على هذا، لم تستطع الولايات المتحدة إقناع
اليابان ولا الصين في ظل اتفاقية الجات بفتح أسواقهما كاملة أمام السلع الأمريكية.
ويضاف لذلك عدم شمول اتفاقية (الجات) تجارة الخدمات التي أثبتت أهمية
قصوى في التجارة العالمية [9] ، وقد اشتكت كثير من المنظمات الصناعية
والتجارية من اختلاف المعايير الوطنية لحماية حقوق الملكية الفكرية. كذلك فإن
كثرة النزاعات التجارية بين الدول في المجالات التجارية، وعدم وجود الآلية
الكافية والقوية والمتفق عليها حسب نظم القانون الدولي كانت تعوق حل تلك
المشكلات. ثم إن كثيراً من الممارسين للتجارة الدولية قد تبين لهم بوضوح أثر
التغييرات والتعديلات التي تجريها دول العالم المختلفة على التنظيمات الخاصة بها
والتي لها صلة بالتجارة على انسيابيتها عالمياً. يضاف إلى ذلك ازدياد أهمية
الشفافية في التجارة الدولية وخاصة مع المعطيات الجديدة في النقود والأدوات المالية
الائتمانية، وزيادة أهمية القدرة على التنبؤ في كل تلك المتغيرات الاقتصادية.
- خروج رؤوس أموال الشركات الكبرى من الدول الصناعية واستيطانها في
دول نامية؛ مما شكل عبئاً كبيراً على إيرادات تلك الدول من الضرائب المفروضة
على تلك الشركات. أضف إلى ذلك أن الدول المتقدمة أصبحت تنوء بأعباء ثقيلة
من جراء حماية أسواقها المحلية، وخصوصاً دعم المنتجات الزراعية ومشكلات
التنافس بينها حول تصريف فوائض الحاصلات الزراعية [10] ، وقد واكب ذلك
شكاوى من بعض تلك الشركات بخصوص بعض الأوضاع غير المواتية من
التصرفات والممارسات التجارية للدول النامية وغيرها؛ مما يضيع مزيداً من
الفرص لتلك الشركات. وبطبيعة وضع البلدان الغربية وتركيبتها؛ من حيث
الانتخاب السياسي والعلاقة بين الساسة ورجال المال وحاجة كل منهما للآخر، كان
لا بد من تدخل الحكومات الغربية لتعديل الأوضاع الدولية لصالح شركاتها.
- التخوف من نجاحات ظهرت بوادرها في الأفق من دول نامية، وآخذة في
النمو، مثل تجربة (النمور السبعة) وغيرها. يضاف إلى ذلك انهيار المعسكر
الاشتراكي الذي لم تكن بلدانه من أنصار تحرير التجارة. وكان انتهاء الحرب
الباردة وإدخال إصلاحات اقتصادية مبنية على قوى السوق (الأقرب للاقتصاد
الرأسمالي) فرصة مواتية لطبع تلك الاقتصادات الجديدة بالطابع الرأسمالي. ثم
الاستفادة من تلك الفرص التجارية الضخمة في تلك البلدان، يضاف إلى ذلك تغير
السياسات التجارية في البلدان النامية وذلك بترك سياسة الاستعاضة عن الواردات
واتباع سياسة تشجيع النمو الموجه نحو التصدير، وما صاحب ذلك من تخصيص
كثير من نشاطات القطاع العام في تلك الدول.
- ثبوت نجاح المؤسسات والهيئات الدولية للدول الغربية لكونها أداة رخيصة
الثمن مقابل المصالح التي تجنى منها؛ لذلك ربطت منظمة التجارة العالمية بالبنك
الدولي، وصندوق النقد الدولي ربطاً إدارياً عضوياً. فالمنظمات الدولية أثبتت أنها
أداة قوية جداً لتثبيت أوضاع مناسبة للدول الصناعية، ولتمرير حلول ومقترحات
تصبُّ في مصلحة الدول الغربية، ولحل كثير من المشكلات الاقتصادية التي تمهد
لتوسع كبير في مبيعات الدول الصناعية. وكل تلك المزايا بكلفة قليلة (مثل
المساهمة النقدية من الدول الصناعية في رؤوس أموال تلك المؤسسات) ، مع مزية
قبول الدول الأخرى للقرارات بسبب كونها من منظمات دولية. ومما يدل على
استفادة الدول الكبرى الصراع الذي يدور بينها على تنصيب مسؤولي تلك المنظمات.
ما سبق وغيره من الأسباب جعل من قيام منظمة تعنى بالتجارة العالمية أمراً
ملحّاً جداً. وقد أدى ذلك إلى تغير قناعات دول كانت ترفض الفكرة من أساسها،
مثل الولايات المتحدة الأمريكية [11] .
منظمة التجارة العالمية [12] :
التعريف: هي: «عبارة عن إطار قانوني ومؤسسي لنظام التجارة متعدد
الأطراف. ويؤمن ذلك الإطار الإلزامات التعاقدية الأساسية التي تحدد للحكومات
كيف يمكن صياغة وتنفيذ الأنظمة والضوابط التجارية المحلية. كما أن المنظمة
منتدى يسعى إلى تنمية العلاقات التجارية بين الدول من خلال المناقشات
والمفاوضات الجماعية والأحكام القضائية للمنازعات التجارية» [13] .
تاريخ التأسيس: بعد ختام جولة أوروجواي في 15 ديسمبر 1993م، والتي
وقع بيانها الختامي في اجتماع مراكش أبريل 1994م، تأسست منظمة التجارة
العالمية رسمياً في أول يناير 1995م.
المحاور: ستكون منظمة التجارة العالمية مكاناً عالمياً لتحديد القواعد
والأعراف العالمية للسلوك التجاري العالمي، ولتكون منتدى عالمياً لإجراء
المفاوضات التجارية العالمية، ولتقوم بمهام محكمة دولية للمنازعات ذات الصبغة
التجارية.
الأهداف: تهدف المنظمة إلى:
1- إيجاد بيئة آمنة وأجواء مستقرة للتجارة الدولية.
2 - استمرار تحرير التجارة من القيود (والمقصود: النفاذ إلى الأسواق) .
وفي سبيل ذلك تسلك سياستين مهمتين: الأولى الحد من سياسات الدعم للمنتجات
المحلية، والثانية الحد من سياسات الدعم الموجهة للصادرات (وتسمى الإغراق) .
ومن الواضح أن هدف المنظمة من ذلك تكافؤ الفرص بين المصدِّرين في كل
الدول الأعضاء، وأن لا تكون المنافسة بين الحكومات بل بين المنشآت الخاصة
والشركات لما سبق بيانه من الأسباب. ويستحق البلد العضو وضع «الدولة الأَوْلى
بالرعاية» حين ينضم للمنظمة. والمقصود حصول الدولة العضو على المزايا
الخاصة بالتجارة المتاحة من عضو من المنظمة لأحد الأعضاء الآخرين دون قيد أو
شرط وتلقائياً. ويستثنى من هذا تجمعات التكامل الاقتصادي التي تتم بين دول بينها
تجمع جمركي خاص، ويستثنى كذلك بعض الترتيبات التفضيلية التي تقام بين
الدول النامية تشجيعاً لها على الانضمام [14] ، ثم يحصل العضو كذلك على أحقية
معاملة سلعه المصدرة معاملة السلع الوطنية في البلد الأجنبي. ولا شك بأهمية
هاتين المزيتين للعمل التجاري عموماً، مع أنهما في نفس الوقت التزام من كل
عضو لكل الأعضاء بنفس ما حصل عليه من مزية.
الصكوك القانونية: هناك صكوك واتفاقات قانونية ملزمة للدول الأعضاء في
منظمة التجارة العالمية، وهي:
1 - الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة (جات) [GATT] [15] ،
والاتفاقات المرتبطة به (وهي تزيد عن 12 اتفاقية، و 4 مذكرات) ، وتطبق هذه
الاتفاقات على السلع.
2 - الاتفاق العام للتجارة في الخدمات (الجاتس) [GATS] الذي يطبق
على تجارة الخدمات.
3 - اتفاق الجوانب المتصلة بالتجارة في حقوق الملكية الفكرية (تريبس)
[TRIPS] . أما الاتفاقات الملزمة للأعضاء الموقعين عليها فقط فهي: الاتفاق
الخاص بالتجارة في الطائرات المدنية، والاتفاق الخاص بشأن المشتريات الحكومية،
والاتفاق الخاص بشأن منتجات الألبان، والاتفاق الخاص بشأن لحوم البقر [16] .
النطاق: لا شك أن من أهم عيوب اتفاقية (الجات) عدم شمولها قطاعات
تجارية واقتصادية مهمة، ولا شك أن التوسع في التجارة العالمية حتَّم دخول كثير
من المجالات لمنظمة التجارة العالمية. ومن هنا شمل نطاق منظمة التجارة العالمية
التجارة في السلع الصناعية ومشتقاتها، والتجارة في السلع الزراعية، وتجارة
الملابس والمنسوجات، والتجارة في الخدمات. ولإكمال الإطار القانوني للتجارة
السلعية، فقد أدرجت الموضوعات التالية إما كمواد أو كاتفاقيات مستقلة، وهي:
الوقاية من الإغراق، القيود على الدعم والإجراءات التعويضية، الحماية الطارئة
من الواردات على الصناعة المحلية، الضوابط الفنية والمواصفات، تراخيص
الاستيراد، وقواعد تسعير السلع على الحدود، وقواعد الفحص قبل الشحن،
وإجراءات شهادات المنشأ [17] .
وقد نص الاتفاق العام بشأن تجارة الخدمات (جات) على مجالات كثيرة مثل
التعليم، والأعمال المصرفية، والتأمين، والمعلومات، والاتصالات السلكية
واللاسلكية، ووسائل الترفيه. وحددت منظمة التجارة العالمية ما يزيد على 150
قطاعاً فرعياً للخدمات [18] ، وقد نص على قاعدة «التغطية الشاملة» بخصوص
الخدمات، والمقصود شمول جميع الخدمات المتاجر بها دولياً في الاتفاق، بغضِّ
النظر عن طريقة توصيل الخدمة. وقد عرفت الاتفاقية أربع طرق للتوصيل:
1 - الخدمات المعروضة من دولة عضو إلى أخرى (مثل مكالمات الهاتف
الدولية) .
2 - الخدمات المعروضة من أراضي عضو للمستهلكين (مثل السياحة) .
3 - الخدمات المقدمة عبر وحدة تجارية (مثل البنوك) .
4 - الخدمات المقدمة من أشخاص (مثل الاستشارات) [19] .
والوسيلة الرئيسة المتبعة لحماية المنتجات المحلية هي الأنظمة الوطنية،
حيث لا يمكن وضع الرسوم الجمركية على الخدمات؛ ولذلك تتبين أهمية الإفصاح
والشفافية للمنظمة وللمجتمع الدولي؛ وعليه، فتحرير التجارة في الخدمات يتم عبر
تقديم الدول تعهدات من خلال المفاوضات لتعديل أنظمتها المحلية تدريجياً وحيثما
أمكن نهائياً؛ لتكون متوافقة مع مبادئ منظمة التجارة العالمية. وليست معاملة
الخدمات المقدمة من الأجانب معاملة مماثلة للخدمات المقدمة من المواطنين
ملزمة في الخدمات مثلها في السلع، بل يكتفى بتقديم تعهدات لتعديل الأنظمة
المحلية [20] .
كذلك تشمل المنظمة التجارة في الحقوق الفكرية والأدبية: فقد نص اتفاق
الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية (تريبس) التي تنصب على
إبداع العقل البشري، على أن يشمل الاتفاق حفظ:
1 -حقوق التأليف (الكتب والأعمال الفنية الأخرى) .
2 -حقوق براءات الاختراع (حقوق المخترعين) .
3 - حقوق النماذج الصناعية (أشكال الرسوم الزخرفية) . ويعتبر هذا
الاتفاق مكملاً للاتفاقات التي وضعتها المنظمة العالمية للملكية الفكرية (وايبو)
[WIPO] [21] ، ويحدد الاتفاق الحد الأدنى لمعايير الحماية ومددها التي يتعين
توفيرها لحقوق الملكية الفكرية على اختلاف أنواعها. وتطالب الاتفاقية بمعاملة
المنتج الأجنبي معاملة مماثلة للمنتج الوطني، ومراقبة تطبيق التشريعات على
المستوى الوطني [22] . وتتعهد الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية بتنفيذ
إجراءات حماية الملكية الفكرية من خلال تشريعاتها المحلية، وتطبيق الإجراءات
الرادعة لانتهاك هذه الحقوق، بما في ذلك الإجراءات المدنية والإجراءات الجنائية،
وطبقاً للاتفاق، فإن الحد الأدنى لمدة حقوق الملكية الفكرية هو 50 سنة في حالة
حقوق الطبع، و 20 سنة في حالة براءات الاختراع، و 7 سنوات في حالة
العلامات التجارية [23] ، «وإثر إبرام اتفاق تعاون مع منظمة التجارة العالمية سنة
1996م، بسطت (الويبو) الدور المنوط بها، وأثبتت مدى أهمية حقوق الملكية
الفكرية في إدارة التجارة في عهد العولمة» [24] .
كذلك تطرقت المنظمة لترتيب إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة حيث إن
كثيراً من ممارسات الدول بخصوصها مشابه للدعم الذي تقدمه الدول لصادراتها؛
ومن ثم فإنه يجب إلغاء معظم هذه الإجراءات حيث إنها تؤدي إلى تغيير مسار
التجارة الدولية وتشجيع الإنتاج غير الكفء، وتصبح بهذا إجراءات مخالفة لقواعد
المنظمة؛ لذلك سعت المنظمة لتخفيف القيود المفروضة على الاستثمارات الأجنبية.
ويحدد الاتفاق إجراءات الاستثمار ذات الأثر في التجارة (ترمز) [TRIMS]
ومعنى هذه الإجراءات بأنها الشروط التي تضعها السلطات المحلية على
الاستثمارات الأجنبية التي ترغب في العمل في نطاق إقليمها، والتي تنطوي على
تقييد وتشويه للتجارة الدولية. وبمقتضى الاتفاق (المادة 15) يتعين على كل دولة
عضو في منظمة التجارة العالمية إلغاء الإجراءات المحظورة خلال سنتين من قيام
المنظمة إذا كانت من الدول المتقدمة. أما إذا كانت من الدول النامية فثمة معاملة
تفضيلية تتمثل في إطالة الفترة المذكورة إلى 5 سنوات للدول النامية، و 7 سنوات
للدول الأقل نمواً. ويتم إلغاء مثل هذه القيود بعد ذلك عن المشروعات الجديدة
والمشروعات القائمة في الوقت نفسه. والشروط المحظور فرضها هي:
1 - شرط المكون المحلي أو شرط استخدام المستثمر الأجنبي لنسبة محددة
من المكون المحلي في المنتج النهائي.
2 - شرط إحداث توازن بين صادرات المستثمر الأجنبي ووارداته.
3 - شرط بيع نسبة معينة من الإنتاج في السوق المحلية.
4 - شرط الربط بين النقد الأجنبي الذي يتاح للاستيراد والنقد الأجنبي العائد
من التصدير [25] .
هذه المجالات هي المجالات الموجودة الآن، ولا بد من تقرير أن نظام
المنظمة يتيح لها إدخال كثير من المجالات التجارية الأخرى التي لم تكن مجالاً لمثل
تلك الترتيبات العالمية من قبل.
قواعد الجات 1993م التي تطبق عند الحدود:
1 - تحديد القيم الخاضعة للرسوم الجمركية (تحدد الرسوم حسب سعر البيع،
وللسلطات الجمركية إن شكت أن ترفض القيمة المعلنة، وتعطي الفرصة للتسويغ.
فإن لم تسوغ، فللسلطات الجمركية التقدير حسب المعايير القانونية الخمسة
المقررة) .
2 - تطبيق المعايير الإلزامية (وهي معايير الصحة والسلامة للمواطنين،
ولا يجوز وضعها بطريقة تسبب وضع حواجز أمام التجارة؛ ولذلك يدعى لتطبيق
المعايير الدولية، فإن لم توجد فتوضع على أساس المعلومات العلمية) .
3 - تطبيق أنظمة الصحة، والصحة النباتية (كسابقتها) .
4 -إجراءات الترخيص بالاستيراد (وهي تعنى بإرشادات إصدار
التراخيص) [26] .
قواعد دعم المنتجات الوطنية:
الدعم الحكومي للمنتجات الوطنية على نوعين:
أولاً: دعم محظور، وهو نوعان:
أ - دعم التصدير، ويسمى: (الإغراق) [27] .
ب - الدعم الذي يستهدف تشجيع استعمال السلع المحلية بدلاً من المستوردة.
ثانياً: الدعم المسموح، وهو على نوعين أيضاً:
أ - دعم يسوِّغ التقاضي.
ب - ودعم لا يسوِّغ التقاضي: فيجوز في حال وجود دعم يسوِّغ التقاضي
لجوء البلدان المستوردة المضرورة إلى تدابير تصحيحية مثل الرسوم التعويضية إذا
ألحقت المستوردات المدعومة ضرراً بالصناعة المحلية. ولا يجوز ذلك في الذي لا
يسوِّغ التقاضي [28] .
التدابير التي يمكن للدول المستوردة أن تتخذها بناء على طلب الصناعة
المحلية:
1 - الإجراءات الوقائية: وذلك بزيادة التعرفة أو فرض قيد كمي لمدة لا
تزيد عن 8 سنوات بشرط أن الزيادة المفاجئة في الواردات قد تم التحقق من أنها
تضر ضرراً جسيماً بأكثر من شركتين محليتين تنتجان الجزء الأكبر من الإنتاج
المحلي لمنتوج شبيه.
2 - يحق فرض رسم تعويضي على المنتوجات المستوردة حين يمارس
المورِّدون ممارسات تجارية غير مشروعة، وهي:
أ - الإغراق؛ وذلك حين يكون سعر التصدير أقل من سعر البيع في السوق
المحلية للمصدر.
ب - بيع الشركات منتوجاتها بأقل بسبب تلقي دعم حكومي، بشرط ثبوت
ضرر كبير لمنتجين محليين ينتجون 25% من إجمالي الناتج المحلي [29] .
الهيكل الإداري للمنظمة [30] :
يتكون الهيكل الإداري للمنظمة من المجلس الوزاري الذي يمثل فيه كل الدول
الأعضاء، سواء كان العضو دولة منفردة أم اتحاداً جمركياً. ويلتقي المجلس
الوزاري كل سنتين على الأقل، وتتخذ فيه القرارات الكبرى الخاصة بالمنظمة،
من مثل الموافقة على دخول عضو جديد [31] . وتكون القرارات بالإجماع أو
التصويت بالأغلبية حسب نوع القرار. ويتفرع من المجلس الوزاري مجلس
عمومي، وهو للعمل اليومي للمنظمة. وهو مثل سابقه ممثل فيه كل الأعضاء،
ويرفع قراراته وما يتم النظر فيه للمجلس الوزاري. ويقوم المجلس العمومي
بعملين مهمين: متابعة حسم النزاعات التجارية، ومراجعة السياسات التجارية
للدول الأعضاء. ويفوض في ذلك ثلاثة مجالس: مجلس التجارة في السلع،
ومجلس التجارة في الخدمات، والمجلس الخاص بحقوق الملكية الفكرية المرتبطة
بالتجارة. وهناك لجنتان مشكَّلتان من المجلس الوزاري: الأولى: «لجنة التجارة
والتنمية» وتعنى بحل مشكلات الدول النامية، والثانية: «لجنة ميزان المدفوعات»
وهي للتشاور في شأن الدول التي تضع إجراءات تقييدية على وارداتها لمواجهة
صعوبة ميزان المدفوعات، وترفع هاتان اللجنتان توصياتهما للمجلس العمومي.
أهم الفروق بين اتفاقية الجات ومنظمة التجارة العالمية [32] :
مع أن الفروق الآن قد باتت واضحة بين اتفاقية الجات ومنظمة التجارة
العالمية، إلا أن بيان أهم الفروق قد يفيد في هذه العجالة. ف (جات 1947م)
ليست منظمة بالمعنى الكامل للمنظمات الدولية؛ ومن ثم فليس لها سكرتارية دائمة،
ولا مبنى مستقل. وأما منظمة التجارة العالمية فهي منظمة عالمية بالمعني القانوني
الشامل لها، مقرها جنيف، ويعمل فيها ما يزيد على 450 موظفاً، بميزانية تقارب
مائة مليون دولار. ومع كل ما سبق، ترتبط المنظمة ارتباطاً وثيقاً جداً وعضوياً
مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ثم إن التزامات الدول في اتفاقية الجات
مشروطة ومرتبطة بالاتفاقيات الثنائية الموقعة وذات أجل قصير، وأما التزامات
منظمة التجارة العالمية فدائمة ونهائية وملزمة للأعضاء [33] ، وكانت اتفاقية الجات
تغطي بعض السلع الصناعية وشيئاً من السلع الزراعية فقط، وأما منظمة التجارة
العالمية فتغطي كل التزامات الجات السابقة وما تمت الإشارة إليه في النطاق أعلاه.
ثم إن اتفاقية الجات تخلو من نظام متكامل وفعال لفض المنازعات، بعكس منظمة
التجارة العالمية التي كان من أساس بنائها الإداري وجود مثل ذلك النظام، بل
اعتني به ليكون فعالاً وسريعاً يتواكب مع إيقاع التجارة العالمية في العصر الراهن.
ثم إن اتفاقية الجات ليست لها علاقة بالمنشآت الفردية ولا الأفراد من باب أوْلى.
أما منظمة التجارة العالمية فيمكن للأفراد والمنشآت الفردية والشركات فضلاً عن
الحكومات الاستفادة منها ومن أجهزتها المختلفة، وخاصة حين حدوث ممارسات
تخالف منطلقات المنظمة، وفي حال النزاع القانوني حولها.
كيف تنضم الدول الجديدة للمنظمة:
من المهم التذكير أن معظم أعضاء المنظمة الحاليين هم الدول الأعضاء في
اتفاقية الجات الموقعين على جولة أوروجواي، كما نصت على ذلك المادة الحادية
عشرة/أمن نظام المنظمة [34] ، أما الدول الأخرى فلا بد أن تتقدم للمنظمة
للحصول على العضوية. ولأي دولة أو إقليم جمركي حق العضوية، حسب
المفاوضات التي يتفق عليها مع المنظمة. وفي حال رغبة دولة جديدة الدخول
«تقدم الدولة الراغبة في العضوية مذكرة تغطي جميع السياسات التجارية والاقتصادية
التي لها صلة بمنظمة التجارة العالمية. وتصبح المذكرة الأساس للفحص الشامل من
قبل فريق العمل. ويعرض موضوع انضمام العضو الجديد على أعضاء المنظمة؛
بحيث يطلب من الأعضاء الذين لهم مصلحة في انضمام العضو الدخول في
مفاوضات الانضمام. وعليه، تدخل حكومة البلد الجديد في مفاوضات ثنائية مع
حكومات الدول الأعضاء الذين لهم مصلحة لتأسيس الالتزامات والتنازلات الخاصة
بالسلع والخاصة بالخدمات. وهذه العملية الثنائية تحدد، من بين أشياء أخرى،
المنافع التي سيحصل عليها أعضاء منظمة التجارة العالمية من السماح للدولة
الراغبة في الانضمام من الدخول في منظمة التجارة الدولية. وبعد اكتمال فحص
النظام التجاري ومفاوضات الوصول إلى الأسواق، يحدد فريق العمل الشروط
الأساسية للانضمام. ترفع مداولات فريق العمل المضمنة في تقرير، ومسودة
بروتوكول الانضمام، مع الجدول المتفق عليها من المفاوضات الثنائية إلى المجلس
العمومي أو المؤتمر الوزاري لتبنيها» [35] ، ولا بد أن يوافق ثلثا الأعضاء على
الأقل على قبول انضمام الدولة الجديدة.
دور منظمة التجارة العالمية في صنع السياسة الاقتصادية العالمية:
نصت المادة الثالثة / فقرة 5 على ما يأتي: «بغية تحقيق قدر أكبر من
التناسق في وضع السياسة الاقتصادية العالمية؛ تتعاون المنظمة على النحو
المناسب مع صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، والوكالات
التابعة له» [36] . ويشكل هذا القرار أساساً مهماً للوصول إلى «انسجام أكبر في
صنع السياسة الاقتصادية العالمية» ... «كما أدرك القرار مساهمة تحرير التجارة
في نمو وتنمية الاقتصادات الوطنية. فمن الملاحظ أن ذلك التحرير يمثل أهمية
خاصة لنجاح برامج التكيف الاقتصادي التي ينفذها عدد من أعضاء منظمة التجارة
العالمية، وإن كانت تنطوي عادة على تكلفة تحول اجتماعي باهظة» [37] ومن
المهم ربط ذلك بما ترسله الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي
من معلومات مهمة ودورية عن جميع بيانات وإحصاءات الشؤون الاقتصادية.
مراقبة السياسات التجارية الوطنية:
«يحتل نشاط متابعة السياسات التجارية الوطنية أهمية أساسية في عمل
منظمة التجارة العالمية. ويرتكز هذا العمل على آلية مراجعة السياسة التجارية» .
و «تتمثل أهداف آلية مراقبة السياسة التجارية من خلال المتابعة العادية بزيادة
وضوح (شفافية) وتفهُّم السياسات والممارسات التجارية، وتحسين نوعية
المناقشات بين الأجهزة الحكومية والعامة على المشاكل، وإيجاد التقييم المتعدد
الأطراف لآثار السياسات على النظام التجاري العالمي. وتتم المراجعة على أساس
معتاد ودوري. ويجري فحص أكبر أربع دول تجارية في العالم الاتحاد الأوروبي
والولايات المتحدة واليابان وكندا مرة كل سنتين تقريباً. أما الدول الست عشرة
التالية على أساس حصتها في التجارة العالمية، فيتم فحصها كل أربع سنوات،
وبقية الدول كل ست سنوات مع إمكانية تمديد الفترة التحضيرية للدول الأقل نمواً.
ويتولى المراجعة جهاز مراجعة السياسة التجارية المؤسس على مستوى مماثل
لمستوى المجلس العمومي على أساس وثيقتين: وثيقة السياسة المقدمة من الحكومة
محل المراجعة، ووثيقة مفصلة معدة بشكل مستقل من سكرتارية منظمة التجارة
الدولية» . «وإلى جانب جهاز مراجعة السياسة التجارية، تحتوي معظم اتفاقات
منظمة التجارة العالمية على إلزام للحكومات الأعضاء بإبلاغ سكرتارية منظمة
التجارة العالمية بالإجراءات الجديدة أو المعدلة. على سبيل المثال: يجب إبلاغ
الجهاز المختص في منظمة التجارة العالمية عن تفاصيل أي تشريع جديد لمكافحة
الإغراق والتعويض، والمواصفات الجديدة التي تؤثر على التجارة، وتعديلات
التشريع الذي يؤثر على تجارة الخدمات، والقوانين والتشريعات الخاصة باتفاقية
مظاهر التجارة ذات العلاقة بحقوق الملكية الفكرية. كما يتم تأسيس مجموعات
خاصة لفحص الترتيبات الجديدة لمناطق التجارة الحرة والسياسات التجارية للدول
المنضمة» [38] .
فض المنازعات التجارية والاستئناف والتنفيذ:
ينص التفاهم على القواعد والإجراءات التي تحكم فض المنازعات التجارية
على أن «نظام فض المنازعات التجارية لمنظمة التجارة العالمية يشكل عنصراً
أساسياً لتأمين الثقة والقابلية للتنبؤ للنظام التجاري متعدد الأطراف. ويلتزم أعضاء
منظمة التجارة العالمية بعدم اتخاذ أي إجراء من طرف واحد ضد التصور بالإخلال
في قواعد التجارة، بل اللجوء إلى نظام فض المنازعات متعدد الأطراف وبقبول
قواعده ونتائجه. ويجتمع المجلس العمومي للمنظمة بصفته جهاز فض المنازعات
للبت في الخلافات التي تنشأ من أي اتفاقية في الوثيقة الختامية لجولة أوروجواي..
وتهدف آلية فض المنازعات لـ» التحقق من الحل الإيجابي للخلاف «. وأنه
حل مُرْضٍ منسجم مع شروط منظمة التجارة العالمية، من خلال المشاورات بين
البلدين المتنازعين. وفي حال إخفاق المشاورات، ترفع للأمين العام لبذل المساعي
الحميدة للتوفيق بين وجهات النظر. وإذا لم تنجح المشاورات في الوصول إلى حل
بعد 60 يوماً، يستطيع المدعي أن يطلب من جهاز فض المنازعات تأسيس هيئة
لفحص الحالة، وتحديد اختصاصها وأعضائها، على أن تعطي الهيئة تقريرها
النهائي بعد 6 أشهر، يمكن تخفيضها إلى 3 أشهر [39] ، ويمكن الاستئناف ضد
حكم صادر، ولكنه مقيد بالقضايا المتعلقة بالقانون المستخدم في تقرير هيئة الفحص
والتفسيرات القانونية المقدمة منها. وجهاز الاستئناف معد من قبل جهاز فض
المنازعات، من سبعة أشخاص، يخدمون 4 سنوات، لهم سمعة مميزة في القانون
والتجارة الدولية وغير مرتبطين بأية حكومة. ويتبنى جهاز حسم المنازعات تقرير
جهاز الاستئناف بعد ثلاثين يوماً من إصداره، ويقبل من أطراف النزاع بدون شرط،
إلا مع الإجماع ضده. ويجب على الطرف المعني إظهار عزمه على تنفيذ
التوصيات المتوصل إليها من جهاز فض المنازعات، ويمكن إعطاؤه فترة معقولة
من الزمن تحدد من جهاز فض المنازعات للقيام بذلك. وفي حال إخفاق العضو في
تنفيذ ما تقرر، يتفاوض على حل تعويضي للمدعي، كتخفيضات جمركية في
بعض الجوانب المهمة للمدعي. وفي حال الإخفاق، يطلب المدعي من جهاز فض
المنازعات سحب الامتيازات والالتزامات من الطرف الآخر، في نفس القطاع الذي
تخوصم فيه، إلا إن كان غير عملي أو غير فعال، فيمكن سحب الامتيازات من
قطاعات أخرى. وعلى أية حال، فإن جهاز فض المنازعات سيتابع تنفيذ
التوصيات والقرارات المتبناة، وستبقى أية حالة معلقة على جدول أعماله حتى تحل
المشكلة [40] . ولا شك أن آليات فض المنازعات قد تم التوسع فيه مقارنة بالآليات
الخاصة بـ (جات 1947م) [41] .
ملحوظات:
1 - هناك نظر في المنطلقات التي قامت عليها المنظمة. فمثلاً تدعي
المنظمة أنها تقوم على تحرير التجارة، ولكن ليس من المتوقع تحرير تجارات
الدول الغربية ولا فتح أسواقها كما تطلب من الدول الأخرى، ولا تمكين العمال من
كل دول العالم لدخولها [42] . ثم يقال إنها منظمة ترغب في منافسة عادلة بين
المنتجين وليس بين الحكومات. وليس من العدالة ترك قوى السوق (والآليات
الرأسمالية) تصطرع بين خصمين: قوي جداً وضعيف جداً [43] . ثم يقال إنها
تريد ترسيخ مبادئ قانونية وأعراف دولية في المجالات التجارية. ولكن السؤال:
مَنْ وضع تلك القوانين، ومَنْ أقر تلك الأعراف؟ إنها الدول الكبرى، ولا يراد
للدول النامية إلا الإذعان لها وفتح أسواقها للمنتجات الغربية. ثم يقال إنها منتدى
للحوار بين الدول. وكيف تتحاور دول ضعيفة مع أخرى متمكنة وقوية؟ بل كيف
السبيل إلى ذلك بين الشركات، فضلاً عن الحكومات؟ فميزانية بعض الشركات
الكبرى الأمريكية مثلاً تفوق ميزانية دول نامية مجتمعة! ومن الأمثلة الواضحة عدم
جدية الدول الصناعية في الوصول لعقد اتفاقيات تكامل لأسواق العمل [44] . ثم من
يضمن حياد المنظمة في التحكيم بين الدول المتنازعة، وفي مجال فهم وتفسير
الاتفاقات الموقعة، وفي مجال الرقابة الدورية على التجارة المحلية وقوانينها
المستجدة، ومن يضمن حياد الخبراء الذين يقومون بتلك الأعمال، وجلهم بل كلهم
من الغربيين! [45] وهذا لا يعني عدم حيادية الأسس التي قامت عليها المنظمة،
ولكن القوي سيستفيد من حيادية الأسس أكثر من الضعيف.
2 - الأهمية القصوى لمنظمة التجارة العالمية في صياغة منظومة التجارة
العالمية، وخاصة مع التنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي المقابل،
نجد اهتماماً بارداً من الدول الإسلامية، سواء المنضمة لها أو التي على وشك
الانضمام. ولذلك، تستفرد المنظمة والدول الفاعلة فيها بحياكة مصالحها داخل
المنظمة، ومع الدول الراغبة في العضوية بشكل قوي بل ومقزز أحياناً.
والموضوع له أبعاد كثيرة، فهو ليس موضوعاً اقتصادياً بحتاً، بل فيه الجانب
العقدي والاجتماعي والاستراتيجي والسياسي والفكري والأمني والحضاري.
والخلاصة هو أمر أمة لا بد من القيام نحوه بما يستحقه. ويستوي في الأهمية
النظر للدول الإسلامية والعربية الأعضاء أو المتوقع دخولهم، وإن كان للأخيرين
أهم قليلاً في المدى القصير نظراً لظروف المفاوضات المسبقة للانضمام. وقد مر
قيام منظمات دولية كثيرة في غيبة من ذوي الرأي والحجا والدين، بل كانت فيه
الدول العربية والإسلامية مستعمرات في الغالب، ولكن ذلك الوضع قد تغير كثيراً
الآن. فلا بد من التنسيق على أعلى المستويات بين الدول الإسلامية والنامية حيال
الموضوع وعلى جميع الأصعدة، سواء داخل المنظمة أم خارجها. ولا بد من
سياسات إعلامية مناسبة، تصب في خانة توضيح عمل المنظمة لكل الأطراف
المتأثرين بها، وهم كل ساكني الدول، وعلى وجه الخصوص مسؤولي المجالات
التجارية والاقتصادية في الدول، وقطاع رجال الأعمال. ولا بد كذلك من رصِّ
الصف تجاه المنظمة والشركات التي توجهها، وتجميع أوراق الضغط على الدول
القوية كاملة، سواء في المجال التجاري أم غير التجاري. ولا بد من أن تنسق
الدول النامية والإسلامية منها على وجه الخصوص كثيراً من خططها ورؤاها
المستقبلية عبر منظمة التجارة العالمية، وأن تجعل منها إطاراً للفوز بمكاسب في
التجارة العالمية، ومن أهم تلك المكاسب المتوقعة إدخال السلع والمواد الأولية التي
لم تكن مجالاً لعمل المنظمة التي انطلقت من مصالح الغرب الصناعي. ولعل في
هذه النقطة مجالاً للتعاون بين الدول الإسلامية لم يكن أصلاً موجوداً في الأجندة
السياسية، خاصة مع كون منظمة التجارة العالمية قابلة للتوسع في المجالات التي
تشملها.
3 - من أهم مساوئ قيام المنظمة بكامل عملها المنصوص عليه أن يتم الدمج
الكامل للاقتصاد الإسرائيلي في اقتصاديات باقي الدول العربية والإسلامية. ولا شك
أن بعض الدول العربية لم تكن عضواً كاملاً في الجات بسبب المقاطعة العربية
الإسرائيلية. ومع سير تلك المقاطعة نحو التلاشي، والتقارب العربي الإسرائيلي،
لم يبق إلا وضع النقاط على حروف العلاقات التجارية. ولا شك أن الدول العربية
مجتمعة، والدول الإسلامية، قد تعاني من تفوق الإسرائيليين في بعض الجوانب
التجارية. ولكن العبرة ليست في الجانب التجاري، ولكنه في الجانب الاستراتيجي
العقدي والفكري في صراع المسلمين مع يهود.
4 - تثور بعض الأسئلة التي تتفاوت درجة إلحاح الجواب عليها من بلد إلى
آخر: فإلى أي مدى تتحمل الدول النامية التغيرات الكبيرة التي ستنقص كثيراً من
الصلاحيات (السياسية والتنظيمية والمالية والتجارية) غير المحدودة التي تتمتع
بها؟ وهل في مقدور تلك الدول تحمل النفقات الناتجة عن تخفيف الجمارك التي
تشكل مصدراً لدخل كثير منها [46] ؟ وهل بديل الرسوم الجمركية وهي الضرائب
(أو زيادتها) بديل عملي وبدون تكلفة اجتماعية [ومن ثم سياسية] عالية؟ وهل تمت
دراسة أثر العوامل السلبية الناتجة من تفعيل منظمة التجارة العالمية لكل أدواتها
واتفاقياتها على اللحمة السياسية والاجتماعية والمالية والاقتصادية للدول النامية؟
خاصة أن الاتفاقية نصت على سموها على النظم المحلية [47] . وهل تحررت فائدة
الانضمام بالنسبة للدول التي يغلب على اقتصادياتها الجانب الاستهلاكي؟ وما
موقف الدول المنضمة لمنظمات تعنى بمنتوجاتها، مثل أوبك، أو غيرها من
المنظمات التي قد ينظر لها على أنها تكتلات تجارية (كارتل) تمنع انسيابية
التجارة العالمية؟
5 - حرص الدول الغربية على مصالحها التجارية. وحتى مع النزاعات
الكبيرة التي بينها، يجد المراقب بعداً استراتيجياً في التعاون بينها لمصالحها،
والتنسيق في المواقف بينها. ولولا النزاعات التي تند عن التنسيق لم يعرف المتابع
كثيراً من خفايا دهاليز السياسات التنسيقية! وقد انعكس ذلك جلياً في الضغوط
الموجهة للدول التي تريد الانضمام، كالصين وتايوان والسعودية وماليزيا
وغيرها. وقد كان لكثير من الضغوط بعد غير تجاري، كما صرح بذلك بعض
مسؤولي تلك الدول، كالبعد الثقافي والديني والسيادي لتلك الدول. وقد تبين من
لقاء المنظمة السابق في سياتل (واللقاءات الدولية الأخرى للمنظمات العالمية)
وجود الخلافات العميقة بين الدول الغربية، ومقدار التعامل الحضاري بينها في
تفويت المفاسد الكبرى للحصول على المصالح المرجوة، ومقدار المرونة مع
الشارع السياسي لصالح الشارع التجاري (ولو كان تمثيلاً) . والدول الإسلامية
والنامية أولى بذلك بدون شك. وقد تبين كذلك بوضوح مقدار ما تكنه تلك الدول
الغربية للدول النامية من احتقار وتسفيه حيث لم تأبه لها ولم تترك مجالاً لمندوبيها
للكلام، بل إن بعضهم لا يدعى لحضور بعض الجلسات كما صرح بعضهم بذلك
لوسائل الإعلام. وقد تبين من حجم المعارضة الشعبية الغربية للمنظمة مدى نضج
الفرد الغربي مقارناً ببقية العالم، فحيث مست بعض مصالحه مسا يسيراً فقد قام
وسعى ضد من مسها، ولم نر المثل لا من حكومات الدول النامية والإسلامية ولا
من شعوبها. بل قد شملت المعارضة المنظمات التي لها سنوات طويلة من العمل
العالمي، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وأرى أنه لا بد
من استغلال تلك التجمعات الشعبية المعارضة لصالح العمل العربي والإسلامي في
فضح الممارسات الشائنة للمنظمات العالمية.
6 - لا ينكر أن للمنظمة والانضمام إليها فوائد. ومما ذكر منها على سبيل
الإجمال: خفض تكاليف المعيشة بسبب خفض الضرائب الجمركية، وزيادة نفاذ
صادرات الدول النامية إلى الأسواق المتقدمة، والتعامل الحاسم والبناء مع الخلافات
التجارية العالمية، مع إمكانية ذلك لكل من الأفراد والمؤسسات التجارية فضلاً عن
الحكومات، وتقليل الأعباء المالية على التجار بسبب توحيد الإجراءات التجارية،
وحيادية آليات المنظمة يجعلها صالحة لجميع الدول بدون استثناء، والاعتماد على
قوى السوق وترك السياسات التعويضية المكلفة لكل من الدول والأفراد، وتقليص
المفاجآت في النظم التجارية في دول العالم حيث لا بد من إخبار المنظمة عن ذلك
مسبقاً، ثم إن أحكام بعض الاتفاقات خاضعة للمراجعة والتعديل بعد التفاوض عليها،
ثم إنه قد ثبت أن جعل بعض الصلاحيات في يد منظمات عالمية يقلل الفساد
الإداري في الدول التي يوجد فيها التسلط الفردي والمحسوبية. وفي المقابل،
ذكرت بعض السلبيات في عمل المنظمة، منها: ارتفاع الأسعار بعد تطبيق نظم
حقوق الملكية الفكرية التي تزيد من الاحتكار وتحميه، وخفض الموارد المالية
للدول التي تعتمد على الرسوم الجمركية، والحد من نقل التقنية للدول النامية،
وتوقع إفلاس عدد كبير من الأعمال في الدول النامية بعد دخول الشركات الكبرى
ومنافسة الصناعات المحلية وما يترتب على ذلك من البطالة، ومن ثم التغييرات
السياسية والاجتماعية، خاصة أن آليات المنظمة هي آليات السوق وهي لا ترحم
الضعفاء ولا عديمي الخبرة. أضف إلى ذلك قضية التحاكم إلى محكمة دولية لا
تحكم بشرع الله سبحانه وتعالى.
7 - قرر أحد الكتاب القانونيين المختصين بالمنظمات العالمية أن أهم جانب
يمكن للدول النامية الإفادة منه تأخر تطبيق كثير من مبادئ وآليات التنظيمات
الدولية. فليس من المستغرب أن يعرف أن بعضاً من استثناءات صندوق النقد
الدولي سارية المفعول بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن على إقرارها [48] .
يضاف إلى ذلك فضفاضية بعض المصطلحات والحقوق المنصوص عليها في
الاتفاقيات. مثال ذلك: التفريق في الدعم المسموح بين نوعين: الأول يسوغ
التقاضي، وهو ما أحدث آثاراً سلبية على الصناعة المحلية للدولة المستوردة. ولا
شك أن مثل تلك الآثار مما يطول النقاش حوله. وخاصة أن المنظمة مع ما يقال
عن قوتها وتسلطها قد عانت من إخفاق ذريع في دورة سياتل. وقد يكون لحوادث
التفجيرات في الولايات المتحدة الأمريكية أثر كبير في إعاقة سير عولمة المنظمة.
والغاية هي الإفادة من تلك الثغرات والفرص في إعادة ترتيب الصف العربي
والإسلامي نحو المنظمة.
8 - ختاماً: هل ما سبق يعني عدم الانضمام للمنظمة؟ لا، بل أرى أن
الانضمام بأقل التكاليف وبأسرع وقت، وبأكثر قدر من الضغط المعاكس على الدول
المفاوضة حين الانضمام، وبأكبر قدر من التنسيق بين الدول الأعضاء الحاليين
الذين لهم مصلحة في دخول الدولة الجديدة، وبلعب كافة الأوراق الأخرى التي قد
لا يكون لها دخل كبير بالعمليات التجارية أو بمتطلبات الانضمام، كل ذلك أوْلى
من الانتظار. والذي يظهر والله أعلم أن الانضمام للمنظمات الدولية من المصالح
المرسلة، التي يجب الموازنة فيها بين المصالح والمفاسد إجمالاً، ثم لكل دولة على
حدة. لكن ما سبق تقريره هو الرأي الذي أراه، بالشروط المذكورة (خاصة ما
ذكرت في رقم 2 أعلاه) . ولا شك أن بعض المفاسد التي ذكرت في الانضمام
كبيرة جداً، ولكن النظر إلى واقع المسلمين وما هم عليه من فرقة يكرس القول إن
الانضمام والاتحاد بين الدول العربية والإسلامية من الداخل سيكون فرصة لتوحيد
الكلمة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(*) أستاذ الاقتصاد الإسلامي المشارك، كلية الشريعة الرياض، مدير إدارة الرقابة الشرعية شركة الراجحي المصرفية للاستثمار.
(1) منظمة التجارة العالمية واقتصاديات الدول النامية، عبد الناصر نزال العبادي، 1999م، الطبعة الأولى، دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، ص 15، [وسيشار له لاحقاً بـ: منظمة التجارة العالمية] ، ومنظمة التجارة العالمية، التجارة في المستقبل، ترجمة د، سليمان التركي، نشر مجلس الأعمال الأمريكي السعودي، بدون تاريخ، 9 [وسيشار له لاحقاً بـ: التجارة في المستقبل] .
(2) منظمة التجارة العالمية، ص 89 93.
(3) فبعد أن كانت هذه الرسوم الجمركية تعادل في المتوسط 47% في الدول الأعضاء في اتفاقية الجات عام 1947م، انخفضت إلى ما بين 6% و 8% في بداية السبعينيات، أما بعد جولة طوكيو فقد أصبحت هذه التعريفة تعادل 6% في المجموعة الأوروبية، و 4، 5% في اليابان، و 9,4% في الولايات المتحدة الأمريكية، منظمة التجارة العالمية، ص 49 50.
(4) منظمة التجارة العالمية، ص 30: 38، التجارة في المستقبل، ص 6 7.
(5) انظر الكلام حول الجولات الثلاث الأخيرة مفصلاً في منظمة التجارة العالمية، ص 38 89.
(6) منظمة التجارة العالمية، ص 55 - 60، مركز التجارة الدولية الأونكتاد/ منظمة التجارة العالمية والأمانة العامة للكومنولث، دليل الأعمال إلى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، ترجمة مكتب طلال أبو غزالة الدولية، جنيف، 1995م، ص 2 -3 (وسيشار له لاحقاً بـ: دليل الأعمال) .
(7) هناك اتحادات تجارية دولية كثيرة الآن، ومن أهمها الاتحاد الأوروبي (15 عضواً) ، آسيان (6 أعضاء) ، السوق المشتركة لشرق إفريقيا وجنوبها (23 عضواً) ، حلف دول الإنديان (5 أعضاء) ، النافتا (3 أعضاء) ، دليل الأعمال، ص 79.
(8) تتلخص مشكلة الموز بأن الاتحاد الأوروبي يضمن لبعض الدول اللاتينية استيراد جزء من إنتاجها من الموز وبيعه فيها؛ مما يعني منافسة غير عادلة اقتصادياً مع الموز القادم من بقية الدول والشركات التي قد تواجه بالحجز الجمركي، وخاصة التي لها صلة بالشركات الأمريكية، ولما اشتكت الشركات الأمريكية التي تصدر للاتحاد الأوروبي من هذا التصرف حيث يعطي امتيازاً لمنافسيهم ليس بمقدورهم دفعه، قامت الولايات المتحدة برفع شكوى على المنظمة من أن هذا التصرف يعارض الأسس الجديدة المتفق عليها في المنظمة، فرفض الاتحاد الأوروبي الانصياع، فردت الولايات المتحدة بزيادة الجمارك على الواردات من الاتحاد الأوروبي، ثم حسم الجدل قانونياً لصالح الولايات المتحدة في المنظمة انظر قائمة بإحدى وعشرين قضية مرفوعة لمنظمة التجارة العالمية، في: منظمة التجارة العالمية، ص 98 101.
(9) بلغت تجارة الخدمات عام 1993م قريباً من ألف مليار دولار للصادرات ومثلها تقريباً للواردات لنفس السنة، دليل الأعمال، ص 289 290، وهي بهذا تصل إلى 20% من إجمالي التجارة العالمية، منظمة التجارة العالمية، ص 75.
(10) منظمة التجارة العالمية، ص 117.
(11) من الجدير بالذكر أن دخول الولايات المتحدة الأمريكية الجدي في موضوع المباحثات الخاصة بالتجارة العالمية بدأ في عام 1975 بعد إقرار الكونجرس الأمريكي إعطاء صلاحيات واسعة للرئيس الأمريكي، منظمة التجارة العالمية، ص 44 - 45.
(12) ركز الباحث في المعلومات المباشرة عن منظمة التجارة العالمية على الكتاب الصادر منها بعنوان: التجارة في المستقبل، ما عدا ما عزي إلى غيره من المراجع.
(13) التجارة في المستقبل، ص 1.
(14) تتيح منظمة التجارة العالمية ترتيبات إقليمية بين الدول لزيادة تحرير التجارة، استثناء من مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، بشرط عدم زيادة الحواجز على التجارة مع بقية العالم، ويمكن أن تكون هذه التجارة الإقليمية بصفة اتحاد جمركي، أو منطقة التجارة الحرة حيث يحتفظ العضو بسياسته التجارية الخارجية مع تجارة الدول غير الأعضاء في التجمع، وفي كلتا الحالتين يجب إزالة جزء كبير من الرسوم والعوائق الجمركية بين الدول الداخلة في التجمع، التجارة في المستقبل، ص 21.
(15) سميت الاتفاقات السابقة المشمولة باتفاقية الجات القديمة: (جات 1947م) ، وأما الجديدة فهي: (جات 1993م) ، وتشمل الثانية الأولى حين الإطلاق الآن، ويشتهر اسم (منظمة التجارة العالمية) أكثر من اشتهار (الجات) الآن.
(16) دليل الأعمال، ص 4 - 5، التجارة في المستقبل، ص 54 - 56.
(17) التجارة في المستقبل، 45 - 52.
(18) ولذلك قامت كثير من دول العالم بتحرير سوق الاتصالات استعداداً للمنافسة القادمة التي تحتمها الحقائق التقنية الحديثة، ومتطلبات المنافسة العالمية حسب قواعد منظمة التجارة العالمية.
(19) التجارة في المستقبل، ص 34.
(20) دليل الأعمال، ص 13.
(21) على الرغم من تأسيس منظمة عالمية للملكية الفكرية (WIPO) منذ أكثر من ربع قرن (1967م) أصبحت تضم في عضويتها 132 دولة، إلا أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قد أصرت على إدراج هذا الموضوع في مفاوضات جولة أوروجواي، وعلى الوصول إلى اتفاق بشأنها في إطار منظمة التجارة العالمية، منظمة التجارة العالمية، ص 80.
(22) دليل الأعمال، ص 14 15، والجدير بالذكر أن اتفاقية الخدمات تتيح للدول الأعضاء استثناءات عامة من تطبيق قواعده لحماية الأخلاق العامة أو النظام العام وحماية الأمن القومي، على ألا تنطوي الإجراءات المتخذة على التمييز بين الدول أو حماية مقنعة، منظمة التجارة العالمية، ص 74.
(23) منظمة التجارة العالمية، ص 80.
(24) منظمة الملكية الفكرية، من موقع (الويبو) على شبكة الإنترنت.
(25) منظمة التجارة العالمية، ص 78 -79، باختصار.
(26) دليل الأعمال، ص 8.
(27) ويجوز هذا للدول النامية التي يقل دخل الفرد فيها عن 1000 دولار سنوياً، وكذلك أقل البلدان نمواً (!) ، دليل الأعمال، ص 9 (ولا أدري كيف تدعم مثل تلك الدول صادراتها؟ !) .
(28) دليل الأعمال، ص 9.
(29) دليل الأعمال، ص10 - 11.
(30) التجارة في المستقبل، 16 - 17، دليل الأعمال، وانظره موسعاً جداً في (قواعد الجات: الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارية) ، مصطفى سلامة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1998، ص 47- 67، (وسيشار له لاحقاً بـ: قواعد الجات) .
(31) وقد كان اللقاء الأخير في قطر، حيث تم قبول الصين وتايوان عضوين جديدين.
(32) التجارة في المستقبل، ص 14 - 15، قواعد الجات، ص 8 -9.
(33) شرط الانضمام للاتفاقات المرتبطة بمنظمة التجارة العالمية شرط جديد،» وكان في السابق اختيارياً، وكانت النتيجة أن انضمت قلة قليلة جداً من البلدان النامية إلى الاتفاقات المرتبطة بالجات مثل اتفاق التقييم الجمركي، وترخيص الاستيراد، والحواجز الفنية أمام التجارة، وأما قاعدة الالتزام المتكامل فقد جعلت جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية، بما في ذلك البلدان النامية وبلدان مرحلة التحول، أطرافاً في الاتفاقات المرتبطة باتفاق جات وفي غيره من الاتفاقات المتعددة الأطراف «، ولأجل الصعوبات العملية، تتيح معاملة خاصة وتفاضلية وفترات انتقالية للبلدان النامية، وأقل البلدان نمواً، وبلدان مرحلة التحول، مع توفير المساعدة الفنية، دليل الأعمال، ص 15.
(34) قواعد الجات، ص 160، والجدير بالذكر أن الدول العربية الذين منحوا عضوية تلقائية هم: مصر، وتونس، والمغرب، والكويت، وقطر، والبحرين، والإمارات، وقد قبلت المنظمة عمان، والأردن بعد مفاوضات، ولا تزال السعودية والجزائر في طور المفاوضات، أما باقي الدول العربية فلم تتقدم للحصول على عضوية المنظمة.
(35) التجارة في المستقبل، ص 19 - 20، بتصرف يسير.
(36) قواعد الجات، ص 152.
(37) التجارة في المستقبل، ص 22.
(38) التجارة في المستقبل، ص 22 - 23.
(39) التجارة في المستقبل، ص 23 - 24، بتصرف، وللنظر في الإجراءات المفصلة لعمل الهيئة، انظر الكتاب نفسه، ص 25 - 26.
(40) التجارة في المستقبل، ص 26 - 27، بتصرف، وباختصار.
(41) قواعد الجات، ص 44.
(42) فقد تبين مثلاً من ضغط الدول أوبك على الدول الصناعية أن المشكلة ليست في سعر النفط المحدد في السوق والمتأثر بجهود منظمة أوبك، ولا في الجمارك المفروضة على النفظ من قبل الدول الصناعية، بل المشكلة في ضريبة القيمة المضافة التي تفرضها الدول الغربية على مبيعات النفط داخلياً، ولا شك في عدم قدرة الدول الصناعية على إلغائها بسبب ضخامتها وأهميتها للموارد المالية لتلك الدول، وأما الجهود التي تبذل من الدول الصناعية لإغلاق أسواقها أمام العمال الأجانب فهي لا تحتاج إلى تعليق.
(43) يرى مصطفى سلامة أن أهم أثر للمنظمة هو عولمة الاقتصاد الرأسمالي وآلياته، قواعد الجات، ص 80.
(44) منظمة التجارة العالمية، 77، وكذلك 187.
(45) انظر ما كتبه مصطفى (أستاذ القانون الدولي) عن الدور المؤثر للدول الفاعلة الأعضاء، وإقحام الاعتبارات السياسية من أجل التحايل على التزاماتها التجارية قواعد الجات، ص 78، وقد صرح بحيف المنظمة في ترتيباتها التجارية، ص 22- 23، وقال إن التنظيم التجاري الدولي الجديد نتاج لتوافق بين الدول المتقدمة، ص 83.
(46) ذكر بعض الباحثين أن نسبة الجمارك في إيرادات غالبية الدول الإسلامية تصل 15%، بينما لا تشكل إلا 1% للدول الصناعية فقط! .
(47) قواعد الجات، ص 37.
(48) قواعد الجات، ص 84 ويقول أيضاً:» فلقد أسفرت وأثبتت ممارسات المنظمات الدولية الاقتصادية المختلفة أن الإعفاءات أو الاستثناءات قابلة للاستمرار والامتداد مراعاة ونزولاً على واقع الدول المختلفة؛ بحيث أصبح هناك ما يسمى بالتحلل المشروع من الالتزامات الدولية، إن هناك خطورة تتمثل في إمكانية أن يصبح تنفيذ الالتزامات المتولدة عن اتفاقات 1994م اختيارياً «، قواعد الجات، ص 75 - 77.(170/46)
ملفات
العولمة.. مقاومة وتفاعل
العولمة اللغوية
هيثم بن جواد الحداد [*]
Haithaml123@hotmail.com
لا أظن أن القارئ لهذا العنوان سيجد جاذبية تشده إلى قراءة موضوع عن
العولمة اللغوية، في الوقت الذي تقع عيناه على موضوعات متعلقة بالعولمة تبدو
لأول وهلة أنها هي أهم مجالاتها، وأشدها خطورة؛ فموضوع مثل العولمة
السياسية، أو العولمة الاقتصادية يستحوذ على اهتمام القارئ الذي يرى ويسمع
صباح مساء كيف تصوغ السياسة مستقبل الشعوب، وكيف تتحكم السياسة في
الاستقرار الدولي الذي يتأثر به الفرد قبل المجتمع؟
وهذا أمر طبيعي في ظل الظروف الراهنة، ولا سيما في ظل السُّعار
السياسي الذي أنشب أنيابه في أكثر طبقات المجتمع نتيجة لسرعة المتغيرات الدولية،
ولضخامة نتائجها وتأثيراتها، كل ذلك في مقابل التجهيل سواء كان مقصوداً أو
غير مقصود الذي يمارس ضد المجتمعات والأفراد فيما يتعلق بالجذور الحقيقية
لكثير من أسباب الصراعات الحضارية، أو الإقليمية بين الأمم.
لقد غفل الكثير أو تغافل، أن العقائد بمدلولها الواسع هي الرحى الذي تدور
حوله تحركات الأفراد والمجتمعات، وهذه العقائد تتأثر وتؤثر في نفس الوقت بعدة
عوامل مرتبطة بالطبيعة البشرية مثل اللغة.
فاللغة باختصار: وسيلة اتصال البشر بعضهم ببعض [1] وهي ذات علاقة
ثنائية الاتجاه بما يعتقده الإنسان؛ ولهذا فلا يسع أي دارس لظاهرة عالمية بصرف
النظر عن منحاها أن يهمل دراسة تأثير اللغة في هذه الظاهرة؛ فما بالك إذا كانت
هذه الظاهرة متعددة الجوانب، مترامية التأثير والتأثر كظاهرة العولمة؟ !
لقد كتب الكثير عن العولمة، وكأي موضوع يستجد في ساحة الفكر العالمي تبدأ
الدراسات المتعلقة به، صغيرة بصغره، لكنها تنمو وتتسع دائرتها، حتى تنتقل
إلى مرحلة تفتيت الموضوع قيد البحث، إلى موضوعات فرعية أكثر دقة؛
فالعولمة كانت محوراً واحداً تتناوله الدراسات المختلفة، ثم مع تطور تلك الدراسات،
وازدياد خبرة الفكر اتسعت دائرة مجالاتها التي وضعت قيد البحث، فظهرت
دراسات عن العولمة الاقتصادية، ثم عن العولمة السياسية، وكذلك العولمة الثقافية،
وكذلك تناولت بعض الدراسات أنماطاً أخرى من العولمة مثل العولمة الإعلامية،
والعولمة الاجتماعية، إلا أنني لم أقف على دراسة سواء كانت مستقلة أو غير
مستقلة تتناول عولمة اللغة [2] ، على الرغم مما سبق ذكره عنها.
مدخل في أهمية اللغة:
أهمية اللغة موضوع طويل بحاجة إلى دراسات مستقلة، والأبحاث فيه ليست
بالقليلة؛ ولهذا سأقتصر في هذا المدخل على جوانب أهمية اللغة التي لها اتصال
مباشر بالعولمة اللغوية باختصار شديد.
اللغة وعاء الثقافة:
اللغة وعاء الثقافة، والثقافة أساس الحضارة، والحضارة ترجمة للهوية؛
ومن هنا كانت اللغة من أهم الأركان التي تعتمد عليها الحضارات، ومن أهم
العوامل التي تساهم في تشكيل هوية الأمة، وكلما كانت اللغة أكثر اتصالاً بثقافة
الشعوب كانت أقدر على تشكيل هوية الأمة وحملها.
وبهذا ندرك السر في نهي الشريعة الإسلامية عن استعمال لغة الغير
(الرطانة) دونما حاجة [3] ، في الوقت نفسه الذي نجد فيه بعض الفقهاء أوجب تعلم
اللغة العربية [4] .
والشعور بهذا الخطر الذي تمثله اللغة الوافدة لم يكن وليد ظروف معينة حملت
الفقهاء على هذا الرأي، لكنه حقيقة مرتبطة بطبيعة النفس البشرية التي تميل إلى
المشابه والمماثل، والتي تقترب من الكائن الآخر إذا أمكن التواصل معه، وتبادل
مكنونات النفس معه.
ولهذا فلا نعجب مثلاً حينما نرى أن بعض المفكرين اللغويين في بعض البلاد
التي تعتبر نفسها أمة عريقة، يرون أن الغزو اللغوي الإنجليزي لا يقل خطورة عن
الغزو العسكري.
إن الاعتزاز باللغة ليس وليداً لاعتزاز بذات اللغة بقدر ما هو اعتزاز بالثقافة
التي تمثلها هذه اللغة، ونحن نقرأ في العصر الحديث مثلاً أن من أكبر العوائق التي
وقفت في وجه اتفاقات السلام في مقدونيا الاعتراف باللغة الألبانية لغة ثانية في
البلاد؛ فلماذا كل هذا الاختلاف والصراع حول مجرد لغة؟
ثم ما صراع الأمازيغ في المغرب العربي، وخصوصاً في الجزائر، الذي
يسقط فيه الضحايا، إلا من أنواع الصراع من أجل إثبات الهوية، لا مجرد اللغة؛
فاللغة الأمازيغية لغة محدودة الانتشار، ضحلة الأدب والفنون، قليلة الفائدة، ولو
أن أهلها نظروا بعين إنصاف لكانت لغة القرآن، ولغة قومهم المسلمين، ولغة
دولهم، خيراً لهم من هذه اللغة التي تحاصرهم في أضيق الخنادق الحضارية.
اللغة من مقومات الوحدة:
بها تنهض الأمم، ويعلو شأنها، وتتحقق وحدتها، وفي غيابها تتفكك الشعوب
وتضمحل الروابط وتتداعي، وينحسر الانتماء.
إن الدول التي يتحدث أهلها بلغة واحدة تكون أكثر تماسكاً وانسجاماً من الدول
التي تتحدث بعدة لغات، بل إن وحدة اللغة من أهم عوامل الاستقرار السياسي
والاقتصادي، وهذا واضح في الدول الأفريقية إذا ما قورنت بدول أوروبا وأمريكا.
لقد اعتبر جمال الدين الأفغاني إخفاق الدولة العثمانية في عدم استخدام اللغة
العربية لغة رسمية لجميع البلاد الإسلامية الواقعة تحت حكمها من أهم العوامل التي
ساعدت على قيام النعرات القومية بين العرب والترك، والتي كان لها أكبر الأثر
في سقوط الدولة العثمانية على المدى الطويل [5] .
ومن أجل هذا فليس من المستغرب أن يؤكد بعض الباحثين أن البلاد المجزأة
لغوياً بشكل كبير بلاد فقيرة دائماً [6] .
ويذهب بعض الباحثين إلى «أن التعدد اللغوي بين دول المجموعة الأوروبية
يعد عقبة أساسية تحول دون انصهارها في كيان موحد» [7] .
وتأسيساً على ما سبق ندرك خطورة دخول لغة أجنبية على قوم ما، هذه
الخطورة متمثلة بمجرد مزاحمتها للغة القوم، بصرف النظر عن كونها أقوى أو
أضعف؛ فما بالك إذا كانت اللغة الوافدة تملك من المقومات ولو خارجية أكثر مما
تملك اللغة المحلية! كأن تكون اللغة الوافدة لغة الغالب، أو اللغة التي تمنح متحدثها
ميزات اجتماعية، أو مالية، أو نحو ذلك.
وبكل حال؛ فإن ذلك يقود في الغالب إلى احتواء الثقافة المحلية بصورة
تدريجية مما يجنبها مواجهة أي مقاومة، ومن ثم ستكون لها آثار مدمرة على المدى
البعيد.
إذا علم هذا أدرك الإنسان تلك الحكمة الإلهية المتناهية حينما جعل كتاب هذه
الأمة المقدس الذي يمثل دستور حياتها، كتاباً محفوظ الألفاظ والحروف، وأن
تطالب الأمة بتعلمه وتلاوته كما هو بلسانه الذي أنزله الله به، وما أعظمه من حكيم
الذي لم يقصر ارتباط هذه الأمة بهذا الكتاب على التشريع، بل شرع معه التعبد
بتلاوة نفس اللفظ بحروفه، وزاد على ذلك بأن جعل هذا الكتاب كلامه، صدر منه
جل وعلا بصوت وحرف، مما يشعر المسلم معه بارتباط عاطفي روحي بمجرد
لفظ هذا الكتاب، زيادة على ارتباطه التشريعي به.
وبهذه المناسبة، وإن كنا نستبق بعض فقرات هذا البحث؛ فإننا نقول: إن
الأمة المسلمة تملك من مقومات الوحدة اللغوية، ومن ثَمَّ الوحدة الحضارية ما لا
تملكه أمة من الأمم؛ فوحدتها اللغوية ليست نابعة من مصلحة أرضية مؤقتة، لكنها
تنبع من عقيدة سماوية طاهرة.
ما هو المقصود بالعولمة اللغوية؟
ماذا نقصد بالعولمة اللغوية، أو هل هناك عولمة لغوية؟ إذا نظرنا إلى
مدلول العولمة الذي يعني جعل ما هو محلي عالمياً، أو الانتقال من المحلية
الإقليمية إلى العالمية؛ فهل هناك لغة انتقلت من المحلية إلى العالمية، فتجاوزت
نطاقاً جغرافياً محصورة ببلد أو بلدان، لتصبح لغة عالمية يتحدث بها العالم كله
على اختلاف لغاته الأصلية؟ لا شك أن الجواب الواضح هو الإيجاب، ولا شك
كذلك أن تلك اللغة الوحيدة التي يصدق عليها ذلك الوصف هي اللغة الإنجليزية.
وفي العقد الأخير يمكن القول إن سيطرة اللغة الإنجليزية وانتشارها العالمي الذي
تضاعف مع الهيمنة الاقتصادية والإعلامية الأمريكية، ثم بسبب تزايد استخدام
شبكة الإنترنت أدى إلى اتساع نطاق استخدام كلمات وعبارات إنجليزية تعبر عن
الثقافة الأميركية والقيم الاستهلاكية التي قد لا تتناسب مع قيم بعض الأمم التي تعتبر
نفسها عريقة، مثل الألمان، والصينيين، والفرنسيين، دون العرب وللأسف.
مظاهر عولمة اللغة الإنجليزية:
أول مظاهر عولمة ظاهرة من الظواهر أن تنتقل هذه الظاهرة من المحلية إلى
العالمية، وهذا تماماً ما يحدث للغة الإنجليزية، أو لنقل ما يقوم به البشر نحو اللغة
الإنجليزية.
لا أخفي على القارئ الكريم أني وقفت حائراً أثناء كتابة هذه المبحث؛ فقد
وقفت على بعض الإحصائيات التي تفيد اتساع نطاق استخدام اللغة الإنجليزية،
سواء كانت لغة أولى، أو لغة ثانية، ثم إذا بي أجد إحصاءات أخرى تدل في أقل
الأحوال على انحسار ضئيل في اتساع هذه اللغة، ويبدو أن من أهم أسباب هذا
التناقض باختصار شديد أن كثيراً من الدول النامية لا تملك إحصاءات دقيقة عن
انتشار هذه اللغة أو لغات أخرى في بلادهم، بالإضافة إلى تباين المعايير في الحد
الذي يعتبر الشخص به متحدثاً بلغة ما؛ فما هو حجم المفردات التي يتوجب على
الإنسان حفظها؟ وما هي كمية التراكيب التي عليه أن يتقنها حتى يقال إنه يتحدث
أو يتقن لغة أجنبية؟ وكيف ينظر إلى من يحسن القراءة دون الكتابة، أو العكس؟
ومن الغريب أن أحد أسباب تناقص نسبة المتحدثين باللغة الإنجليزية في العالم هو
التناقص الحاد في أعداد المواليد الذي تشهده البلاد المتحدثة بالإنجليزية، وهو ما
يؤدي إلى نقص عدد سكانها، في مقابل ازدياد عدد سكان البلاد الأخرى، ولا سيما
دول العالم الثالث [8] .
بالإضافة إلى ما ذكر فإن عدد المتحدثين بلغة ما لا يمثل حقيقة انتشار هذه
اللغة أو عولمتها؛ فإن أكثر الإحصائيات، إن لم يكن كلها، تشير إلا أن أكثر لغة
في العالم تحدثاً هي اللغة الصينية، والكل يعلم أن سبب ذلك ليس انتشار أو عولمة
اللغة الصينية بقدر ما يعود لعدد سكان الصين الهائل، وهذا مما يزهد الباحث نوعاً
ما في هذه الإحصاءات، إذا ما زاحمها في إثبات ذلك الافتراض شواهد وحقائق
أخرى أقوى في الدلالة.
وبكل حال يكاد يجمع من كتب في حاضر اللغات أن اللغة الإنجليزية هي
اللغة العالمية بصرف النظر عن عدد المتحدثين بها وتوزيعهم الجغرافي؛ حتى إن
كثيراً من الكتابات نظرت إلى اللغة الإنجليزية باعتبارها اللغة المعيارية
العالمية [9] .
وهنا نكتفي ببعض هذه الشواهد والظواهر التي تدلنا على مدى امتداد هذه
الظاهرة الأفقي:
1 - شعور كثير من الأمم بهذا الخطر الداهم الذي يمثله هذا التغلغل
والانتشار للغة الإنجليزية، لا سيما تلك الدول التي تعتز بحضارتها، وتنظر بريبة
لانتشار الثقافة الأمريكية، ولم تستسلم بسهولة للهيمنة الأمريكية على معظم جوانب
الحياة، في معظم البلدان، فهذه فرنسا مثلاً وهي صديق لدود لأمريكا، يدعو
رئيسها جاك شيراك إلى إقامة «تحالف» بين الدول التي تعتمد لغات من أصل
لاتيني للتصدي بشكل أفضل لهيمنة اللغة الإنجليزية، وذلك لدى افتتاحه منتدى
حول موضوع «تحديات العولمة» .
وقال الرئيس الفرنسي لدى افتتاحه منتدى في جامعة السوربون جمع بين
الناطقين بالفرنسية والإسبانية والبرتغالية إنه «في مواجهة قوة نظام مهيمن يحق
للآخرين حشد القوى لإرساء المساواة في الفرص وسماع أصواتهم» .
ودعا شيراك الناطقين بالإيطالية من الاتحاد اللاتيني إلى الانضمام إلى منظمة
الفرنكفونية ومجموعة الدول الناطقة بالبرتغالية والمنظمتين الناطقتين بالإسبانية
للدول الأمريكية الأيبيرية والقمة الأيبيرية الأمريكية.
وأضاف أنه «من خلال منظماتنا الخمس تصبح هناك 79 دولة وحكومة من
كل القارات تمثل 2. 1 مليار رجل وامرأة يريدون الإبقاء على لغاتهم» .
ودعا شيراك إلى القيام بتحرك في الأمم المتحدة بالاتفاق بين المنظمات الخمس
لإقامة «مشاريع مشتركة» .
ودافع شيراك عن مبدأ «تعددية اللغات في المجتمع الدولي» ودعا شركاءه
إلى «الاستثمار بقوة في شبكات المعلوماتية» مقترحاً إنشاء موقع للثقافات اللاتينية
على الإنترنت.
وأعرب أخيراً عن أمله في أن تعترف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم
والثقافة (يونسكو) رسمياً بـ «حق التعددية الثقافية» من خلال إصدار «إعلان
عالمي يكون بمثابة ميثاق تأسيسي» [10] .
وهكذا نجد أمة أخرى مثل الصين ينتابها القلق من هذا الانتشار الواسع أو
العولمة للغة الإنجليزية في بلادهم من خلال الأفلام الأمريكية التي يحرص الشباب
على متابعتها ثم التأثر بها، مما دفع الحكومة الصينية إلى إصدار أول قانون للغة
من أجل الوقوف أمام الخطر الذي يتهدد اللغة الصينية، ويلزم القانون الذي بدأ
العمل به اعتباراً من مطلع شهر يناير 2001م وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة
بضرورة الالتزام بالأسس المتعارف عليها في اللغة الصينية المعتمدة على الكتابة
المبسطة في الصين الأم بعيداً عن الكتابة المعقدة المتبعة في المستعمرة البريطانية
السابقة هونغ كونغ [11] .
أما الألمان وهم من أكثر الناس اعتزازاً بلغتهم، فقد كان لهم نصيب من هذا
القلق المتزايد؛ حيث اتسع في ألمانيا نطاق المناداة بسن قوانين لحماية اللغة
الألمانية من تأثير اللغات الأخرى وعلى رأسها اللغة الإنجليزية التي يعتقد اللغويون
الألمان أن مصطلحاتها بدأت تشكل خطورة على سلامة لغتهم. ويرغبون أن تحذو
ألمانيا حذو فرنسا في هذا المجال.
فالألمان الذين هدموا قبل عقد مضى جدار برلين الشهير، في ثورة سلمية
أعادت الوحدة إلى شطري بلدهم يحاولون الآن بناء جدار حديدي من نوع آخر
للحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية من طغيان الغزو الثقافي واللغوي القادم من
الولايات المتحدة وبريطانيا متخفياً برداء اللغة الإنجليزية، والمصطلحات التي
تقض مضجع اللغويين الألمان.
ويطالب هؤلاء بأن تحذو بلادهم حذو فرنسا بسن تشريعات تمنع استخدام
المصطلحات الأجنبية في الإعلانات والرسائل الإعلامية.
ويعترف وزير الثقافة الألماني بوجود المشكلة لكنه يرفض فكرة سن قوانين قد
تؤدي إلى استحداث شرطة للغة؛ لأن هذا سيكون فيه نوع من القسوة غير المسوغة.
ويتفق مع رأي الوزير عدد من اللغويين الألمان غير أنهم يؤكدون ضرورة
اتخاذ إجراء ما لحماية اللغة التي يعتبرونها أغلى ما تملكه أي أمة للحفاظ على
وجودها [12] .
2 - ومن مظاهر وربما أسباب عولمة اللغة الإنجليزية، أنها أصبحت لغة
الإنترنت بلا منازع؛ فقد أظهرت دراسة أجرتها إحدى المؤسسات الألمانية أن 77
% من صفحات الإنترنت باللغة الإنجليزية بينما لا تتمتع باقي لغات العالم مجتمعة
إلا بـ 23% من صفحات الإنترنت، وقد جاءت هذه الدراسة بعد فحص أكثر من
مليار صفحة إلكترونية على الشبكة.
وجاءت اللغة اليابانية في المركز الثاني، تليها اللغه الألمانية.
الجدير بالذكر أن نسبة الأمريكيين المستخدمين للشبكة تتضاءل باستمرار، إلا
أنهم يمثلون حالياً قرابة نصف مرتادي الإنترنت حول العالم بعد أن كان نصيبهم
ثلاثة أرباع مستخدميه قبل خمسة أعوام، [13] والظاهر أن ذلك يعود لازدياد عدد
مستخدمي الإنترنت في العالم أكثر من كون السبب تناقص العدد الفعلي لمستخدمي
الإنترنت في أمريكا.
3 - من مظاهر العولمة اللغوية الإنجليزية أن اللغة الإنجليزية أصبحت اللغة
الثانية في أغلب بلاد العالم لا سيما العربية بدرجة أولى، ثم البلاد الإسلامية بدرجة
ثانية، يتلوها بذلك اللغة الفرنسية [14] ، وبعيداً كذلك عن الإحصاءات الدقيقة التي
تقف خلف هذه الحقيقة؛ فإن نظرة سريعة لمناهج التعليم في العالم العربي ثم
الإسلامي تجد مصداق ذلك؛ حيث ينقسم العالم الإسلامي إلى معسكرين: أحدهما
وهو الأغلب يدرس الإنجليزية لغة ثانية لأبنائه، كما هو الحال في دول الخليج
ومصر، والسودان، والباكستان، وبعض دول جنوب شرق آسيا، وأما الثاني
فيدرس اللغة الفرنسية كدول المغرب العربي، وبلاد الشام.
ويميل المرء نوعاً ما إلى صدق جانب من الإحصاء الوارد في كتاب مستقبل
اللغة الإنجليزية الذي قام به المجلس البريطاني عام 1995م والذي يقول إن خمس
سكان العالم يتكلمون الإنجليزية بدرجة ما، وأن الحاجة من الباقين لتعلمها في
ازدياد مستمر، وبحلول عام 2000م سيكون هناك بليون شخص يتعلمون
الإنجليزية، وستصبح اللغة الإنجليزية هي اللغة الرئيسة لكثير من القطاعات التقنية
وغيرها [15] .
4 - ومن مظاهر العولمة اللغوية عموماً بصرف النظر عن عولمة اللغة
الإنجليزية انحسار نطاق بعض اللغات، أو حتى اندراسها بالكلية؛ فقد أفادت
دراسة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أن نصف اللغات المحلية في العالم في طريقها
إلى الزوال مما يهدد الثقافات والبيئة في آن واحد.
واعتبرت الدراسة التي أعدها فريق من خبراء برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن
«أسرار الطبيعة التي تتضمنها الأغاني والقصص والفن والصناعات الحرفية لدى
الشعوب الأصلية قد تختفي إلى الأبد بسبب ظاهرة العولمة المتصاعدة في جميع
المجالات» .
وقال الخبراء إن 234 لغة أصلية معاصرة اختفت كلياً، محذرين من أن
90 % من اللغات المحلية في العالم سوف تختفي في القرن الحادي والعشرين.
وحذر المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة كلاوس تويبفر من أن
تحرير الأسواق في العالم الذي هو مفتاح التنمية الاقتصادية في الدول الغنية
والفقيرة قد يتم على حساب آلاف الثقافات والتقاليد المحلية.
وأشار برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن حوالي 32% من اللغات المحلية في
العالم توجد في آسيا و30% في أفريقيا، و 19% في منطقة المحيط الهادي،
و15 % في القارة الأميركية، و3% في أوروبا.
وتأتي غينيا الجديدة على رأس الدول التي تنتشر فيها اللغات المحلية؛ إذ
توجد فيها (847) لغة، وتليها إندونيسيا بنحو (655) لغة، ثم نيجيريا
(376) ، والهند (309) ، وأستراليا (261) ، ثم المكسيك (230) ،
والكاميرون (201) ، والبرازيل (185) ، والكونغو الديمقراطية (158)
والفلبين (153) [16] .
وقد نشرت هذه الدراسة في مؤتمر عقده برنامج حول البيئة في نيروبي في
الخامس من فبراير/ شباط 2001م، وأعلنت الأمم المتحدة أن حوالي سبعين وزيراً
للبيئة من القارات الخمس شاركوا في هذا المؤتمر الذي تبنى في يوم انعقاده الرابع
خطة للدفاع عن الثقافات واللغات المحلية التي تمثل إحدى الأولويات لحماية البيئة.
4 - ويحلو لي أن أذكر ملاحظة غريبة طريفة تدل على قوة هذا النوع من
العولمة ونفوذه، وسريانه حتى إنه فرض نفسه دون أن يشعر به المتظاهرون
أنفسهم ضد العولمة في دافوس، ونيس، وساو بالو، فضلاً عن عموم الناس،
ألا وهي التي ذكرها (أليكسي باير) في مقال له في صحيفة «The
Globalist» حيث قال: «إن اللغة الإنجليزية كانت لغة اللوحات التي استخدمها
المتظاهرون المعارضون للعولمة في التعبير عن معارضتهم للعولمة، وما ذلك إلا
دليل على عولمة هذه اللغة دون أن يشعر بذلك أحد» [17] .
كيف نقاوم هذه العولمة اللغوية؟
قبل البدء في طرح بعض الحلول العملية لمقاومة هذا الاجتياح العولمي
اللغوي الإنجليزي ولا سيما لبلادنا الإسلامية، أود أن أثير نخوة الحمية فيه لا
لقومية مذمومة، ولكن للغة القرآن الكريم، ووعاء الإسلام، حينما أقول له: ألا
تعجب أخي القارئ حينما تعلم أن العرب خصوصاً والمسلمين عموماً هم أوهى من
يتمسك بلغته؟ ! ولا يتوقف العجب عند ذلك، إذا ما علم وهو معلوم ولا شك أن
أقواماً من أهل العربية الذين يدينون بهذا الدين يزوِّقون كل يوم مسوغات جديدة
لنشر اللغة الإنجليزية في بلادهم العربية والإسلامية.
وإن العجب لا ينقضي حينما نرى الغربيين على وجه الخصوص الذين كانوا
وما زالوا يطالبوننا بفتح الأبواب للغاتهم سواء إنجليزية أو فرنسية، والتخلي عن
لغتنا هم أشد الناس تمسكاً بلغاتهم.
لعلك أخي القارئ سافرت أو قابلت من سافر إلى بعض بلاد الغرب، مثل
فرنسا أو ألمانيا؛ فهل تجد للغة الإنجليزية ذلك الحضور الذي تجده لها في بلادنا
العربية والإسلامية؟ هل تجد أسماء المحلات كتبت بالإنجليزية؟ هل تجد لوحات
الإرشادات أو التوجيهات الصوتية في المطارات أو في غيرها بخلاف الأوراق
الرسمية للاتحاد الأوروبي كتبت بالإنجليزية؟
ثم ألم تسمع أن الألمان يشعرون بالانزعاج المقرف لمن يحدثهم بغير لغتهم،
وأنهم يرفضون الإجابة عنه حتى وإن كانوا يحسنون الحديث بها، وأن الفرنسيين
يشمئزون ممن يتحدث بالإنجليزية مع أن أم الإنجليزية لا تبعد عنهم سوى رمية
حجر؟ !
ألا تصيبك أخي القارئ الدهشة حينما ترى الفرنسيين وهم أقرب الدول إلى
الإنجليز وقد حافظوا على لغتهم، بل وساهموا في نشرها وامتدادها خارج حدودهم
الجغرافية؟ !
لو كانت فرنسا دولة عربية أو إسلامية فهل تظن أن الحال سيكون كذلك؟ !
إذن لماذا العربية هي المستباحة الحمى؟ أم كما قال العقاد عنها: «لقد تعرضت
وحدها من بين لغات العالم لكل ما ينصبُّ عليها من معاول الهدم ويحيط بها من
دسائس الراصدين لها؛ لأنها قوام فكرة وثقافة وعلاقة تاريخية» .
إن هذه المقدمة، هي مقدمة الجيش الذي سنخوض به هذه المعركة الشرسة التي
تواجهها لغتنا العربية في ظل هذه العولمة الشرسة البشعة.
إن اعتزاز الإنسان بقيمه ومبادئه هو أول الطريق إلى انتصاره ولو طال الأمد،
فلا يمكن لنا مقاومة هذا الزحف اللغوي العولمي بجيوشه الجرارة بجنود ملأ
نفوسها الخور، وهد قواها نظرية «إعجاب المغلوب بالغالب» .
وعليه فلا بد من حملة ضارية يحملها العلماء وقادة الفكر أولاً لإعادة ثقة هذه
الأمة بلغتها، واستنهاض هممهم للذود عنها من خلال الخطوات الآتية، وهي:
1 - نشر اللغة العربية في أكبر رقعة جغرافية ممكنة، وهذا الأمر تؤيده
وتسهل القيام به مسوغات شرعية، ومسوغات واقعية، ولا شك أن نتائجه ملموسة
وسريعة.
وللقيام بهذه المهمة لا بد من سلوك قنوات عدة أذكر منها على سبيل المثال ما
يلي:
أ- نشر اللغة بين الأقليات غير العربية التي تعيش في بلاد عربية، مثل بلاد
المغرب العربي، ولو يدرك المسؤولون في تلك البلاد فوائد هذا الأمر حتى من
ناحية سياسية لاستقرار البلاد لسارعوا إليه.
ب - نشر اللغة العربية في البلاد الإسلامية الناطقة بغير العربية، وهي
كثيرة وتمثل ثقلاً سكانياً مثل إندونيسيا، والباكستان، وبنغلاديش، وقد بدأت بذكر
هذه البلاد؛ لأن مسلمي تلك البلاد لهم عاطفة جياشة تجاه الإسلام، وتجاه تعلم اللغة
العربية، ولا تهمل هذه الخطوة أيضاً مع البلاد التي تبدي تعاطفاً أقل مثل تركياً.
ج- ويتلو هذه البلاد في الأولوية البلاد الغربية، سواء قلنا نشر اللغة العربية
بين الجاليات المسلمة التي تعيش فيها، أو حتى بين الغربيين أنفسهم، ويوجد في
بلاد الغرب متحمسون كثيرون للتعرف على الثقافة العربية، والدين الإسلامي،
وهذا قد يكون مفتاحاً لتفهم مزايا هذه اللغة، أو مفتاحاً لتعلم الإسلام.
2 - نشر اللغة العربية الفصيحة بين المتحدثين بالعامية في جميع الأقطار
العربية؛ وتخيل يا أخي القارئ لو أن العالم العربي كله من الخليج إلى المحيط،
يتحدثون العربية الفصحى أو ما يقاربها، ألا ترى أن ذلك يكون أقوى على إزالة
الحواجز القبلية والعرقية واللغوية بين المسلمين في العالم الإسلامي، ومن ثم يمهد
الأرض للعمل من أجل الوحدة الإسلامية؟
وحتى يكون هذا الهدف واقعياً، فلنقل: لنقتربْ من الفصحى بقدر الإمكان،
ويمكن تحقيق نتائج إيجابية بنسبة مقبولة وبسرعة إذا تمت معالجة بعض الظواهر
المرضية التي تشكل مناخاً ملائماً لفُشُوِّ العامية في البلاد العربية، مثل:
أ- استخدام العامية لغة للإعلام المرئي والمقروء؛ وللأسف أن بعض الدول
العربية لم تمانع في أقل الأحوال من استخدام العامية في بعض الصحف والمجلات
المحلية، ناهيك عن استخدام العامية في بعض خطابات مسؤوليها.
ب- انتشار ما أسميه بالفكر الفلكلوري أو التراثي؛ حيث تعمد بعض الجهات
بحسن نية أو بسوئها إلى تبني العامية وجعلها مظهراً من مظاهر الاعتزاز بالتاريخ،
وتعبيراً عن الانتماء الإقليمي أو الوطني، حيث تعمد إلى النبش عن تاريخ
العامية، وأهميتها، وأثرها في تنمية الوعي الوطني، ودورها في المحافظة على
قيم وثقافة ذلك البلد، بالإضافة إلى نشر الكتابات العامية، وتبني الشعر العامي، أو
النبطي كما يسمى في بلاد الجزيرة العربية، وعليه؛ فحتى يمكن نشر العربية
الفصيحة فإنه يتوجب علينا أن نبين للناس مدى خطورة هذا الفكر، ومحاولة
محاصرته في دوائر ضيقة.
ويحسن بي هنا أن أذكر بعض ما يمكن اتخاذه من أجل محاصرة العامية،
وتجاوز ما تقوم به ضد انتشار العربية الفصحى:
أ- بيان خطر العامية على وحدة العالم العربي، ويمكن أن يدلل على ذلك بأن
العامية أصبحت في بعض البلاد، إذا ما قورنت بعامية أخرى، كلغة غير عربية؛
فلو أنك جمعت رجلاً من أقحاح قلب الجزيرة العربية، كالقصيم، ورجلاً من أقحاح
بلاد الشام، كلبنان، وثالثاً من الجزائر لاحتاجوا إلى مترجم يساعدهم في التخاطب
فيما بينهم. ويمكن للقارئ أن يقوم بتجربة يسيرة تبين له صدق هذا الافتراض؛
فلو أخذ بعض العبارات المتداولة في بلاد الجزائر ودفعها لشخص من لبنان، أو
إلى آخر من السعودية، لما استطاعا فهم أكثرها، وهكذا العكس.
جاء في كلمة رئيس مجمع اللغة العربية الدكتور شوقي ضيف في افتتاح
مؤتمر دورة المجمع السابعة والستين بالقاهرة: «لو تمادت الإذاعات العربية في
البث بالعاميات لانفكت الصلات التي تربط بين شعوب الأمة، وانعزل كل شعب
عربي وعاش وحده، بينما شعوب الغرب في أوروبا المتعددة اللغات تجمع شملها
في تكتلات اقتصادية وسياسية واحدة كالاتحاد الأوروبي» [18] .
ب - بيان خطر العامية على التمسك بالإسلام وفهمه؛ فالذي يستخدم العامية
بدل العربية الفصيحة يكون أبعد من الألفاظ والتراكيب اللغوية الفصيحة، ومن ثَمَّ
يكون أبعد عن فهم القرآن الكريم والسنة النبوية، وشيئاً فشيئاً تبنى الحواجز بين
كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم اللذين هما مصدر هذا الدين، وبين أهل
الإسلام.
3 - الحد من توسع اللغة الإنجليزية ولا سيما في المجالات التي يمكن
الاستغناء عنها ولو بشيء من المشقة. والذي يؤسف له أن بعض البلاد العربية
نشرت التعليم الأجنبي في مراحل التعليم المختلفة بدءاً من التعليم الابتدائي، وهذا
والله لو أدركوا خطره لما فعلوه، بل لحاربوه بكل الوسائل.
يا قومنا! هذه دول العالم التي تحترم نفسها، وتعتز بهويتها لا تدرس هذه
اللغة إلا في أقسام اللغات في المراحل الدراسية العليا الجامعية، وما فرنسا،
وألمانيا، واليابان، وروسيا، والصين منا ببعيد؛ فهل نحن أحرص على التقدم
الحضاري أو العلمي أو التقني منهم؟ وهل أدى نهجهم هذا الذي نهجوه في الحد من
استعمال اللغة الإنجليزية إلى التخلف الذي يتذرع به من يدعون الثقافة ويمسكون
زمام الأمور في بلادنا العربية والإسلامية؟
وبكل حال، لِمَ لا نجعل تعليم اللغة الإنجليزية مرهوناً بالحاجة لاستعمالها؟
فما الفائدة بالله عليكم حينما يتعلم الطالب منذ نعومة أظفاره لغة أخرى لتزاحم لغته
الأم، مع العلم أن حاجته لها في حياته العملية قد تكون محدودة جداً، أو معدومة؟
وليعلم أن كثيراً من الذين تعلموا اللغة الإنجليزية على سبيل المثال كانوا أحرص
على السفر للبلاد الغربية بحجة وبدون حجة؛ وما ذلك إلا لأن معرفتهم بهذه اللغة
شيدت جسوراً من التواصل المعنوي العاطفي معها.
ولا يزعمن زاعم أنه لا يمكن الاستغناء عن اللغة الإنجليزية لعموم الناس؛
فالرد على هذا الزعم يكون أولاً بالنظر إلى أحوال الدول التي ذكرناها، ثم ليعلم أن
الحاجة إلى اللغة الأجنبية تزداد إذا أراد الناس ذلك، وتقل إذا أراد الناس ذلك،
ولعل هذا يذكرني بما قاله بعض فقهائنا من أن الناس يجدُّ لهم من القضايا بقدر ما
أحدثوا من الفجور، ولنضرب لذلك مثالاً استخدام جهاز الحاسب الآلي؛ حيث
أصبح من الحاجيات الأساسية لدى بعض الناس ولا سيما مع شبكة الإنترنت؛ لكن
مطالبة الناس للبرامج العربية شجع منتجي البرامج على تكثيف إنتاج البرامج
العربية، وبذلك قلَّت حاجة عموم الناس لتعلم مصطلحات إنجليزية أكثر، وهكذا في
دائرة تتسارع؛ حتى إن بعض الناس يحسنون استخدام تطبيقات الحاسب الآلي دون
إلمام باللغة الإنجليزية.
وملاحظة أخرى يحسن التنبيه لها وهو التفريق بين تعليم اللغة الانجليزية لمن
يخشى عليه من الذوبان الثقافي العقدي إما لصغر سن، أو ضعف دين، ومن لا
يخشى عليه ذلك، وبنظرة لواقع النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته حينما حث
بعض أصحابه وليس (عموم المسلمين) على تعلم لغة يهود.
4 - مقاومة الاعتقاد السائد لدى قطاعات كثيرة من عامة الناس أن تعلم اللغة
الإنجليزية مفتاح للمستقبل المشرق والوظيفة المرموقة.
5 - تكثيف الترجمة العلمية الصحيحة والراقية، وقد أثبتت التجارب العملية
سواء التي قامت بها دولة مثل سوريا، أو بعض الجامعات العربية أن الترجمة إلى
العربية لها آثار إيجابية واسعة النطاق؛ حيث يزداد التحصيل العلمي لمن يتعلم
بلغته الأم، ناهيك عما تؤدي إليه هذه الترجمة من تحفيز الجهود لأعمال عربية
مماثلة لتلك التي تترجم، بالإضافة إلى أن الترجمة إذا تمت من قبل أناس يجمعون
بين إتقان الترجمة، وإتقان العلم الذي تتناوله المادة المترجمة؛ فإن ذلك سيحملهم
على نقد المادة المترجمة، أو الاستدراك عليها، أو التعليق عليها، وهذا يؤكد
مقدرتهم على «هضم» ما قيل، بل على الزيادة عليه.
6 - على أهل التعليم، لا سيما مدرسي المراحل الابتدائية والمتوسطة،
ومديري الجامعات، والمشايخ في حِلَق المساجد، والموجهين في القنوات الإعلامية،
إتقان اللغة العربية، وجعل هذا الإتقان عدوى إن صح التعبير تنتقل للأجيال التي
تقع بين أيديهم، فيساهمون في إحداث ثورة لغوية تصحيحية.
7 - تكثيف الأنشطة والمسابقات اللغوية؛ ففي القديم كانت مدارسنا تقيم
مسابقات للخطابة والإلقاء، وكذا مطارحات شعرية، ومسابقات للقصة القصيرة،
وغيرها من صنوف الأدب واللغة، ولكنها اضمحلت في السنوات الأخيرة، وليس
هذا والله بفأل حسن.
وختاماً نقول: إن اللغة العربية تملك من المؤهلات ما يحميها ليس من
الاضمحلال فقط، بل ما يجعلها منافسة للغة الإنجليزية، إذا ما وجدت ألسناً تفخر
بالتحدث بها، والدفاع عنها، ونشرها، وتحويل العولمة الإنجليزية إلى عوربة
للعالم الإسلامي في أقل الأحوال؛ فمن يستجيب؟
__________
(*) المشرف الثقافي في المركز الرئيس للمنتدى الإسلامي بلندن.
(1) كما يقال فإن تعريف المعروف من أصعب المهام؛ ولذلك فلا نريد أن ندخل في تعريف اللغة، ولا سيما مع انتشار أنماط جديدة من وسائل الاتصال، حيث ولَّدت بعداً جديداً لمدلول اللغة، كما في لغات الكمبيوتر مثلاً.
(2) في أثناء إعداد هذا المقال وقعت على كتاب للدكتور أحمد بن محمد الضبيب، بعنوان: (اللغة العربية في عصر العولمة) ، نشر مكتبة العبيكان، حيث ناقش تأثير العولمة على اللغة العربية، وكيفية مقاومة ذلك، فجزاه الله خيراً على هذا الجهد، وقد أفدت منه.
(3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 1/203 208.
(4) الرسالة، للشافعي، ص 49، وإن كان شيخ الإسلام يتحفظ على هذا الرأي.
(5) انظر: الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، دراسة وتحقيق، د محمد عمارة، ص219- 242، طبعة القاهرة، سنة 1968م.
(6) اللغة والاقتصاد، ترجمة الدكتور أحمد عوض، الكويت، عالم المعرفة، شعبان 1421هـ، ص 48، نقلاً عن اللغة العربية في عصر العولمة، الدكتور أحمد بن محمد الضبيب.
(7) العرب وعصر المعلومات، نبيل علي، الكويت شوال 1414هـ، نقلاً عن اللغة العربية في عصر العولمة، الدكتور أحمد بن محمد الضبيب.
(8) انظر: بحثاً جيداً أعدته (باربار والراف) في مجلة The Atlantic في عدد نوفمبر 2000 م بعنوان: What Global language ? ما هي لغة العالم؟ وانظر: Cambridge Encyclopedia of the English language (1995م) على شبكة الإنترنت، وانظر: بعض الإحصاءات في موقع. http://www.krysstal.com.english.html
(9) انظر: 1996م December 21، The Economist، ص 39 نقلاً عن كتاب مستقبل اللغة الإنجليزية.
(10) أخبار قناة الجزيرة على الشبكة يوم الثلاثاء، 25/12/1421هـ الموافق 20/3/2001م، وجاء في الخبر: أن الاحتفال بيوم الفرنكفونية الدولي في القارات الخمس (55 دولة) بدأ اليوم الثلاثاء، وهو نفس يوم انطلاق حركة الفرنكوفونية العالمية قبل 31 عاماً، وجاءت الدعوة تلبية لنداء المنظمة الدولية للفرنكوفونية التي يترأسها الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي، وتضم 55 دولة من الناطقة كلياً أو جزئياً بالفرنسية وتمثل نحو 500 مليون نسمة عبر العالم، وتم إنشاء الوكالة الحكومية للفرنكوفونية في 20/3/1970م في نيامي عاصمة النيجر، بمبادرة من ثلاثة رؤساء دول أفارقة هم الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سينغور، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ورئيس النيجر ديوري، وكانت هذه الوكالة تدعى لدى انطلاقها:
(وكالة التعاون الثقافي والتقني) وضمت 21 دولة عملت على إرساء قواعد لمجموعة فرنكوفونية «قادرة على إسماع صوتها في إطار الحوار العالمي» ، وتعتبر الوكالة الفرنكوفونية المحرك الأساسي للمنظمة الدولية للفرنكوفونية، وهي تعد برامج مساعدة وتدريب في القطاعات اللغوية والثقافية والقضائية وفي مجال الإنترنت.
(11) الأربعاء 22/10/1421هـ الموافق 17/1/2001م.
(12) وكالة رويتر للأنباء نقلاً عن قناة الجزيرة، الإثنين 10/12/1421هـ الموافق 5/3/200م.
(13) الأهرام المصرية، حيث نقلت هذه الدراسة عن مؤسسة جوجل في ألمانيا، من موقعها على شبكة الإنترنت بتاريخ 9 ربيع الثاني 1422هـ الموافق 30 يونيو 2001م.
(14) انظر: مثلاً الإحصاء الوارد في موقع. http://www.krysstal.om.english.html
(15) The Future of English ? إصدار المعهد البريطاني، نشرThe english Company.
(16) قناة الجزيرة، السبت 17/11/1421هـ، الموافق، 10/2/2001م نقلاً عن أي إف بي.
(17) المقال مؤرخ بتاريخ 5/2/2001م.
(18) نقلاً عن قناة الجزيرة، الإثنين، 24/12/1421هـ الموافق 19/3/2001م.(170/59)
ملفات
العولمة.. مقاومة وتفاعل
الإعلام الإسلامي وتحديات العولمة
جمال سلطان [*]
(1)
قَدَرُ الفكر الإسلامي، بل الفكر الإنساني عامة أن يواجه في العقدين الأخيرين
سلسلة متلاحقة من المصطلحات الجديدة في السياسة والاقتصاد والفكر والدين وغير
ذلك؛ بصورة ترهق العقل الإنساني إذا حاول التأمل والتفكيك لهذه المصطلحات
وتدوير النظر فيها وتعميقه. وكان مصطلح العولمة واحداً من أحدث هذه
المصطلحات التي ابتلينا بها، والتي نحاول منذ سنوات التأمل فيه وتفكيكه والبحث
في مراميه وخلفياته، ونحاول فهمه في ضوء ما ابتلينا به سابقاً من مصطلحات أو
ظواهر إنسانية مختلفة، ورغم محاولاتنا ومحاولات غيرنا فإن مصطلح العولمة ما
زال يحمل قدراً كبيراً من المراوغة وعدم الوضوح، ويتجلى ذلك في العديد من
التأويلات والتفسيرات التي طرحت له من قِبَل مفكرين عرب ومسلمين وغربيين،
وبصورة تجعل محاولة الانشغال بضبط المصطلح علمياً أمراً غير ذي جدوى،
وحسبنا الإطار العام الذي تدور فيه دلالات المصطلح، ألا وهو النزوع نحو الهيمنة
الاقتصادية والثقافية والإعلامية والقيمية للقوى القادرة والمستكبرة في عالم اليوم
على غيرها من الأمم والشعوب، وبصورة تؤدي إلى «تنميط» الحالة الإنسانية
وهندسة البناء الاجتماعي وفق معادلات تم وضعها سلفاً وبصورة حاسمة ومدمرة
للشخصية الإنسانية.
ولعل الوجه الأبرز والأكثر حضوراً للعولمة هذه الأيام هو الوجه الاقتصادي،
ومعظم المؤتمرات أو المؤامرات التي تعقد في الشرق أو الغرب تحت مظلة أو
لافتة «العولمة» هي ذات وجه اقتصادي واضح وصريح، كما حدث في سياتل
الأمريكية، وأخيراً في «جنوا» الإيطالية التي شهدت أول قتيل «أوروبي» في
انتفاضة الضمير الإنساني ضد مخاطر العولمة.
وبروز هذا الوجه الاقتصادي للعولمة على غيره إنما يعبر في الحقيقة عن
الوجهة العامة للمؤسسات الدولية المتحكمة في مسار التاريخ الإنساني الآن؛ إذ إن
«القيم المادية» هي الهدف وهي البوصلة وهي الطريق الوحيد أو الأبرز
والأساس الذي تتجه إليه هذه المؤسسات، ويأتي الشأن الثقافي والفكري والإعلامي
وحتى السياسي فيما بعد نوعاً من الدعم أو «الخدمة» لهذه الوجهة؛ ومن ثم فلنا
أن نتصور الحديث عن العولمة بوصفها وجهاً للهيمنة الاقتصادية لرأس المال
المحتكر للطاقة البشرية، وبحثه عن «تطويع» العقل والوجدان الإنساني بحيث
يتعايش مع هذه الهيمنة ولا يتنافر معها، وفي سبيله إلى هذا «التطويع» لن يعدم
استغلال إمكانياته الهائلة في «إغواء» أو حتى «إذلال» المؤسسات الإعلامية أو
الثقافية أو «الدينية» مع الأسف الشديد لكي تدعم توجهاته وأهدافه، وهي
الأهداف التي تتلخص في صناعة شخصية إنسانية شهوانية، فاقدة لأية قيم إنسانية
راسخة، دينية أو أخلاقية، ذات هوس استهلاكي وفراغ عقلي ووجداني، وفاقدة
لأية مناعة نفسية أو وجدانية أو عقلية ضد عمليات «التنميط» للشخصية الإنسانية؛
بحيث يمكن إعادة هيكلة اتجاهاتها وعواطفها كل حين كما لو كانت زياً في
الملابس «موضة» وقصة الشعر.
(2)
والحقيقة أن محاولات الدخول إلى العقل الإسلامي بقيم العولمة من بوابة
الثقافة والفكر، والتي لم تعد تحتاج جهوداً أجنبية؛ حيث هناك من بني جلدتنا
ولساننا من يتولون الدعوة الصريحة والفجة لها، أقول: هذا المدخل يعود أساساً
إلى غياب الوعي والإدراك الكامل لمفهوم التبعية في العالم الثالث؛ حيث روجت
القوى الثورية واليسارية والقومية التي قادت حركة الفكر في نصف القرن الأخير
في العالم العربي والإسلامي، روجت للمفهوم السياسي والاقتصادي للاستقلال؛
بينما تجاهلت أو جهلت الأخطر والأفدح، وهو الاستقلال الفكري والثقافي؛ فكنت
تجد بعض المدافعين عن الاستقلال الوطني مثلاً يمثلون هم أنفسهم بوابات التغريب
والتبعية الثقافية في العالم العربي والإٍسلامي، بل من مفارقات الأمور التاريخية
المذهلة ما سجله التاريخ المصري الحديث عن «صفية زغلول» المسماة بأم
المصريين، زوجة الزعيم المشهور سعد زغلول، حيث قادت مظاهرة نسائية كبيرة
في عشرينيات القرن الماضي ضد الاحتلال البريطاني وداعية إلى الاستقلال، وفي
التظاهرة أعلنت هي ورفيقاتها خلع الحجاب وكأن ذلك جزء من النضال التحرري؛
رغم أنها في الحقيقة بهذا العمل الرمزي إنما تعلن التبعية الثقافية والقيمية للمستعمر
الذي تطالب بالتحرر السياسي منه.
إن من المفارقات الغريبة لدى بعض الكتاب والباحثين المشتغلين بالشؤون العامة -
الفكرية والسياسية والحضارية - أنك تجدهم يتكلمون بانفعال وصرامة في أمر
«التبعية» السياسية والاقتصادية للغرب أو الشرق، وينعون على مجتمعاتهم
أو بعض القوى فيها عدم اكتراثها بالوقوف في وجه «التبعية» وفضح
آثارها ومخاطرها، ومسها بمصالح المجتمع وكرامته ومستقبله كله، ثم إذا أنت
تكلمت مع هؤلاء عن «التبعية الفكرية» ومخاطرها وآثارها بعيدة المدى في
مصالح الأمة وشخصية إنسانها وجدتهم يتعجبون من كلامك ويستنكرون عليك
منطقك ويتهمونك بالغلو والتطرف، وساموك أبشع ألوان الاستهزاء والسخرية،
ثم أرهقوا أذنيك وأعصابك بالحديث عن العالم الذي أصبح قرية واحدة، والتلاقح
الفكري، والانفتاح الثقافي ... إلى آخره.
ولا شك أن هذه المفارقات تكشف عن غياب الوعي الراشد بجوهر مفهوم
«التبعية» وأبعاده المختلفة، واستحالة الانتقاء في الموقف تجاهه، بحيث
تقبل التبعية في جانب وترفضها في آخر. إن التبعية رذيلة إنسانية وحضارية
بكل أبعادها، وهي مؤشر للانهيار الحضاري، وعقم المجتمع، وانعدام
الإحساس بالتميز والكرامة معاً، وتلاشي قوى الأمة وقدراتها الإبداعية، ثم إن
المنطق اليسير يؤكد أن «التبعية» - في المجال الفكري والثقافي أخطر بكثير
من التبعية في السياسة أو الاقتصاد؛ إذ إن العلاقات السياسية أو الاقتصادية
هي مما يتميز باللحظية والتحول، وكثيراً ما تتصل بمصالح مشتركة؛ مما يجعل
لها وجه اشتباه لدى العامة في الإحساس بخطر «التبعية» فيها، وبما يؤمل
معه القدرة على رفض هذه التبعية أو التخلي عنها في لحظة أخرى. أما في مجال
الثقافة والفكر، فالأمر لا يتعلق بلحظة وإنما يتعلق بصياغة الشخصية الإنسانية ذاتها،
ومعتقداتها، وقيمها، ومفهوماتها، ونظرتها إلى مختلف شؤون الحياة؛ فإذا حدث
اختراق لهذا الكيان فهو تأسيس لشخصية جديدة بمواصفات جديدة يستحيل تغييرها
بين لحظة وأخرى، وتكون معالجة الشرخ الاجتماعي - الذي تحدثه - شديدة
الصعوبة، كما أن «التبعية الفكرية» هي في الحقيقة التي تمهد الواقع الاجتماعي
للتبعية السياسية والاقتصادية، بل إنها هي التي تفقد الإنسان الإحساس بوجود تبعية
من أساسها؛ إذ إن الإحساس بوجود التبعية يعود إلى تصور مسبق بأنك كيان متميز
غير متمازج أو متماهٍ مع كيان آخر، وأن من حقك على هذا «الآخر» أن يحترم
استقلال رأيك وقرارك ومصالحك الاقتصادية وغيرها.
(3)
في العالم العربي الآن على سبيل المثال توجهات جديدة مثيرة في النشاط
الإعلامي، في مرحلة ما بعد المحلية، أعني في مرحلة البث الفضائي، وهو جزء
شئنا أم أبينا من آليات العولمة الجديدة، في المجال التقني على الأقل. هناك الآن
في العالم العربي ظاهرة وجود نشاط ملحوظ لعدد جديد من البرامج الإعلامية التي
ترسخ قيماً جديدة وخطيرة للغاية في البناء النفسي والعقلي للإنسان المسلم، ولعل
الجدل الديني والصحفي الذي احتدم مؤخراً عن برامج «المسابقات» في قنوات
تلفزيونية عديدة، يشير إلى أي مدى تجري المحاولات لاختراق المجتمع حتى
المؤسسات الدينية لكي توظف في النهاية من أجل دعم توجهات «العولمة» على
الصعيد المحلي؛ فهناك الآن برامج تلعب على «دغدغة» مشاعر الناس،
والبسطاء بوجه خاص، وترسخ في روح المجتمع فكرة البحث عن «الثراء»
السريع والخاطف هدفاً وطموحاً نهائياً، بدون بذل جهد حقيقي، وهي نوع من
اللعب بالأوراق أو الأرقام، وبعض هذه البرامج يكون فيها «المقامرة» واضحة،
سواء من خلال المقامرة بما يكتسبه المتسابق في مراحل سابقة من البرنامج
المعروض، أو فيما يدفعه المتسابقون من أموال للاتصالات بأسعار خاصة، كأن
يكون سعر الدقيقة المعتادة جنيهاً فيدفع في دقيقة الاتصال بالبرنامج خمسة جنيهات؛
فالأربعة الأخرى إسهام في مقامرة حقيقية، وعقب ما أصدره بعض العلماء من
فتاوى صريحة بأن هذا قمار محرم شرعاً، فوجئنا بمؤسسات «دينية» رسمية
تجتمع على عجل وبشكل استثنائي لكي تخرج على الناس، وعلى معالي الوزير،
بفتوى تقول إن برامج المسابقات التي يبثها التلفزيون الرسمي حلال ولا شيء فيها.
توظيف المؤسسة الدينية في خدمة توجهات السلطة السياسية هو أمر شائع إلى
حد ما في العالم الثالث، وخاصة في النظم القمعية والاستبدادية، ولكن المثير
للدهشة الآن أن توظيف المؤسسات الدينية لم يعد يتعلق بالسلطة السياسية ومصالحها
مباشرة، بل هو توظيف لخدمة توجهات عالمية تصب في النهاية في خدمة
احتكارات دولية كما تصب في خدمة قيم مدمِّرة ومخرِّبة للبناء النفسي والعقلي
والاجتماعي في المجتمع؛ لأنها ترسخ معنى أن الحياة «مقامرة» وضربة حظ،
وأن العمل الجاد والصبور والبناء ليس هو سبيل الثراء، وحينما تترسخ هذه
المعاني في مجتمع يعاني ضعف الفعالية الإنتاجية أصلاً، ويعاني اختلالات هيكلية
في اقتصادياته، فإن الأمر يكون أكثر تدميراً. والمثير للدهشة أن يتم هذا التدمير
بمباركة مؤسسات دينية، وبصمت مذهل من نخب ثقافية تزعم الاستنارة والتحرر
ومقاومة التبعية.
الحادثة السابقة هي بلا شك وجه من وجوه العولمة في بُعدها الإعلامي، وإن
كانت تكشف عن «توظيف» كل شيء لخدمة مخططات العولمة، بما في ذلك
المؤسسات الدينية.
(4)
والعولمة على الصعيد الثقافي والقيمي تستغل بعض المؤسسات الاجتماعية
النسائية أيضاً لتمرير مشروعاتها ونسقها القيمي؛ بحيث تجري عملية تضليل
للأولويات الاجتماعية؛ فتجد بعض الجمعيات النسائية في العالم العربي تخدم
مخططات تخريبية في أوطانها لحساب قوى أخرى أجنبية دون أن تدري؛ بسبب
الغفلة والبحث عن «الأصداء الإعلامية» العالمية لنشاطاتها المتحررة في بلاد
العالم الثالث. وعلى سبيل المثال توقفت أمام خبر «معتاد» في صحيفة خليجية،
والخبر يتعلق بنشاط بعض المنظمات النسائية في بلد عربي خليجي، وكان عنوانه
يتحدث عن جهود لوضع صيغة قانونية صارمة من أجل تأخير سن الزواج للفتاة
المسلمة في هذه الدولة؛ بحيث لا تقل عن ثمانية عشر عاماً، وكذلك تأخير سن
الزواج للشباب. والذي يقتلك غيظاً وكمداً أن هذه الدولة تعرف حسب الإحصائيات
واحدة من أعلى نسب العنوسة بين الفتيات! ! ومع ذلك تأتي منظمة نسائية لكي
تتجاهل هذه الحقيقة المرة والمخيفة والمتعلقة بصميم بنية المجتمع وسلامته النفسية
والأخلاقية والدينية لكي تحارب من أجل إصدار قانون لا يمثل أية أولوية اجتماعية
أو نفسية في هذا البلد على الإطلاق؛ وإنما هو تقليد أعمى لتصورات وأولويات
بلاد أخرى وشعوب أخرى لها نسيج اجتماعي مغاير تماماً لطبيعة مجتمعاتنا، ولها
منظومة قانونية وأخلاقية مختلفة عن منظومتنا التشريعية والأخلاقية، ولو كان
هناك إخلاص وعقل وتجرد للمصالح الحقيقية لأوطاننا وشعوبنا، لكان عكس
الدعوة السابقة هو المطلب الملحّ مع وضع البرامج التربوية والنفسية المعينة عليه
والموجهة له؛ أي أننا في حاجة إلى تبسيط الزواج وسبله بالنسبة للفتيات والشباب
على السواء، وإلى خفض سن الزواج بالنسبة للاثنين بحيث تجد الفتاة والشاب فور
بلوغهما ما يروي فطرتهما التي يشعل شياطين الإنس من حولهما جذوة نيرانها في
كل موطئ قدم يطؤونه أو مكان يتلفتون إليه، في الشارع والمذياع والتلفاز والسينما
والمسرح والإعلان والموسيقى والأغنيات التي تتبارى الآن في مستوى الخلاعة
والتماجن، والبرامج الإباحية المتسترة في ثوب التثقيف الجنسي والاجتماعي،
والروايات والقصص التي ينشرها مرضى وشواذ ومهووسون جنسياً. سيل عجيب
ومتوالٍ يحاصر الفضيلة والعفة، ويعكر صفو الخاطر ويلوث الفطرة، ويدمر قيمة
الحياء وبهاءها، بل وجدنا من يكتب أو ينشر أو يذيع برامج لمعالجة ظاهرة الحياء
عند الفتاة أو الشاب، معتبراً ذلك مرضاً نفسياً لا بد من مقاومته، وإنما الصحة
والعافية في التبجح والصفاقة وقلة الحياء. في مثل هذه الدوامات تكون الدعوة إلى
حرمان الفتاة من حقها الفطري والإنساني في الحياة الزوجية الهانئة جريمة في حقها
واعتداءً على حقها الإنساني، ولكن الذي لا يُذكر في الخبر وفي الواقعة أن معظم
هذه «التوابل» السابقة التي أشرنا إليها أصبحت «صناعة» ولا بد لها من سوق،
وحينما تتشكل مؤسسة الزواج بشكل فطري وطبيعي؛ فأين تكون أسواق بضاعة
الجنس بمختلف صورها وأشكالها في الموسيقى والأفلام والبرامج والمجلات
والقصص والأغاني والإعلانات وغيرها؟ ! فضلاً عن الأهداف غير المباشرة
والمتمثلة في تدمير إمكانات المقاومة في نسيج المجتمع لأية قيم وافدة، وتحويل
«الشهوة» والإشباع المادي إلى أن يكون هو الهدف وهو الغاية وهو الحياة؛ ومن
ثم: توسعة سوق التجارة العالمية الجديد.
(5)
من المهم في هذا السياق أن نوضح بعض المداخل المهمة التي يتخذها مروجو
«العولمة» سبيلاً إلى «تهيئة» العقل والوجدان الإنساني لقبولها، ولعل من أبرز
هذه المداخل مقولة: «العالم أصبح قرية واحدة» ، وهي أصبحت محور الرسالة
الإعلامية الجديدة التي تقابل الإنسان العربي والمسلم الآن في الصحيفة والبرنامج
الإذاعي والتلفزيوني وغير ذلك، وأصبحت هذه العبارة اللطيفة الظريفة إحدى
بوابات التخريب القيمي في مجتمعات المسلمين، والعالم الثالث بوجه عام، بل هي
في تقديري أحدث أنواع المخدرات الثقافية التي تستخدم لشل طاقات النقد
والتمحيص تجاه الوافدات الفكرية والقيمية التي تتسلل إلى ديار المسلمين عبر أكثر
من منفذ ووسيلة، فإذا أراد بعض «المستوردين» أو الوكلاء المحليين للتيارات
القيمية والأدبية الأجنبية أن يسوِّقوا بضاعتهم المستوردة في مجتمعاتنا، على ما فيها
من إباحية أو شذوذ فكري أو فساد عقَدي فتجدهم لا يكلفون أنفسهم عناء بذل الجهد
الفكري والمعرفي المخلص لنقد هذا الجديد، وطرح المسوِّغ الموضوعي لتمريره
بين الناس، على ما فيه من خطر بالغ، وإنما يكفيهم أن يصكوا وجهك بالعبارة
السحرية: «يا أخي! إن العالم أصبح قرية واحدة» ! بمعنى: إنك لا تستطيع أن
تعزل نفسك عن مجريات العالم وتياراته، وعلى الرغم من معقولية منطلق هذه
العبارة، فإن ترجمة الموقف المترتب عليها هو الذي يحمل الخبث والتضليل؛
فالعالم تتقاطع المؤثرات العالمية فيه، وتمرر الكثير من هذه التيارات عبر أجهزة
الاتصال الحديثة التي تطوي المسافات بل وتلغيها، إلا أن هذا الاختراق التقني لا
يمكن بحال أن ينفي خصوصيات الشعوب، ولا أن يدمر بنيان القيم، ولا أن
يزلزل ثبات المعتقد والدين، ولا أن يبدل المقومات الأساسية للمجتمع، أي مجتمع؛
ولذلك تجد أن الدول الأوروبية ذاتها التي سوَّقت لنا هذه العبارة الرشيقة تتخذ
أحياناً من القوانين والإجراءات ما يقطع بفساد قصة: «العالم الذي أصبح قرية
واحدة» ، كرفض السلطات الفرنسية السماح للعرب المهاجرين باستخدام أجهزة
البث الفضائي «الدش» في بعض المناطق، ومصادرة السلطات السويسرية
لبعض كتب روجيه جارودي، ومصادرة السلطات البريطانية لكتاب عن
«مارجريت تاتشر» أو فيلم عن المسيح رأت أنه مغرض ومسيء، ومصادرة
السلطات الفرنسية لكتب سيد قطب وأحمد ديدات، ثم تراجعها عن بعض ذلك،
وموقفها من الحجاب، ومن استعمال كلمات غير فرنسية لمحلات ونحوها، كما أن
التجوال في العالم المعاصر يؤكد لنا بالبرهان الحي أنه على الرغم من الجبروت
الإعلامي عابر القارات، فإن طبائع الشعوب وخصوصياتها، الثقافية والدينية
والخلقية تبقى متمايزة، بمعنى أن الصمود ممكن، والحفاظ على الهوية يرتبط
بإرادة الشعب الذي يرفض الذوبان فيما يصنعه الآخرون، وأن العالم يبقى على
الرغم من كل شيء ثقافات وهويات، وليس هوية واحدة، وليس قرية واحدة،
ولكن الإلحاح ما زال مستمراً على تمرير هذه المقولة في أوساط النخب الثقافية
والإعلامية في بلادنا، بل تسللت إلى أحاديث رجل الشارع.
(6)
كيف يمكن أن نتفاعل مع «العولمة» في المجال الإعلامي؟
من دون مبالغة يمكننا القول أن أهم المكتسبات التي حققتها العولمة لشعوب
العالم وأعظمها هي تلك التي تكونت على الصعيد الإعلامي؛ حيث إن ظهور شبكة
الإنترنت الرهيبة مثَّل انقلاباً كبيراً في معنى التواصل الإنساني، ومعنى الحوار،
ومعنى الرسالة الإعلامية العالمية، كما أن ظهور البث الفضائي الإذاعي
والتلفزيوني أتاح فرصاً مدهشة للتواصل الإعلامي الفعال مع كل إنسان في العالم،
وبشكل لم يتصوره الناس من قبل. وكذلك تخفيف حساسيات الدولة القومية من
وجود النشاطات الإعلامية والإنسانية الأجنبية على أراضيها جعل هناك مساحة
واسعة من الحركة والتفاعل الإنساني بين الصوت الإسلامي والإنسان المعاصر في
غير ما مكان من عالم اليوم. والذي لا شك فيه أن هذه الآليات هي نتاج تغوُّل فكرة
العولمة، والبحث عن وسائل لاختراق الحدود أو تجاوزها وبسرعة توصيل الرسالة
الفكرية والإعلامية المراد توصيلها إلى كل إنسان على وجه الأرض وبسرعة فائقة.
وقد نجحت بلا شك المؤسسات الإعلامية الدولية في الاستفادة من هذه الآليات بما
يخدم مصالحها، وقد وصل جزء كبير من الفساد عن هذا الطريق إلى الإنسان
المعاصر في العالم الإسلامي والعربي بشكل خاص، ولكن بالمقابل فإن هذه الآليات
قد أتاحت قدراً مدهشاً للحركة أمام النشاط الإسلامي الإعلامي والثقافي، ويكفي أن
نشير إلى أن غالبية المواقع العربية على شبكة الإنترنت هي لمؤسسات إسلامية
صغيرة أو كبيرة أو حتى شخصية، واستخدامات البريد الإلكتروني وساحات
الحوار ونحو ذلك خير شاهد على هذه الحقيقة.
هناك أيضا المئات بل الآلاف من الإصدارات والمجلات والصحف الإسلامية
التي تبث الآن عبر الإنترنت وتصل إلى أنحاء العالم كافة مخترقة حواجز رهيبة
كان من العسير عليها في السابق اختراقها مهما أوتيت من قوة وقدرة مالية أو غيرها؛
بل إن شبكة الإنترنت أعطت الجهاد الشيشاني على سبيل المثال إمكانية الصمود
أمام آلة الإعلام الروسي الجبارة، وأصبح موقع المجاهدين على الشبكة أحد أهم
مصادر وكالات الأنباء الدولية عن الأوضاع في الشيشان، وكذلك مصدراً مهماً
للصحف والمجلات، ولو كان هذا الأمر قبل عشرين أو ثلاثين عاماً لما شعر أحد
بالمعاناة الشيشانية ولتم دفنها كما دفن الجهاد الكشميري زمناً طويلاً قبل أن يبدأ في
التواصل مع العالم الخارجي.
إن شبكة الإنترنت ساعدت على إحياء معاني كبيرة وجليلة في الحالة
الإسلامية، وفي مقدمتها معنى «الجسد الواحد» للأمة إذا اشتكى منه جزء تداعى
له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، ورغم كل المكتسبات التي حققتها الصحوة
الإسلامية من خلال الاستفادة من شبكة الإنترنت، فإن هناك مجالات رحبة وواسعة
يمكنها استغلالها بشكل أفضل؛ ومن ذلك إنشاء صحف يومية مختلفة وقنوات
إذاعية وتلفزيونية عبر الشبكة. ومما يبشر بالخير أن نجد الكثير من الشباب
الإسلامي متميزاً للغاية في خبرة التعامل مع التطور التقني والمعلوماتي الجديد
بصورة تبهج النفس، ويبقى حضور الأفق الجيد الذي يرسم خريطة الحالة
الإسلامية؛ ومن ثم يرصد احتياجاتها، ثم يحدد الطرق والوسائل التي يسد بها هذه
الاحتياجات من خلال هذا المنفذ الجديد والمثير.
أيضاً على صعيد البث الفضائي، أعتقد أن هذه نافذة مهمة للغاية، وما زال
الإسلاميون عاجزين عن الاستفادة منها. صحيح أن هذه الخدمات تحتاج إلى
إمكانيات مادية أعلى بكثير من تلك التي يحتاجها العمل من خلال الإنترنت، إلا أن
الإسلاميين لا يهتمون بتدريب الكفاءات الفنية التي يمكن لها تحريك عمل مثل هذا
مستقبلاً، كما لا يوجد في حدود علمي جهود حقيقية لدراسة الإمكانيات الفعلية
لتحقيق هذا الطموح، وفي تقديري أنه إذا نجحت الدعوة الإسلامية في اختراق هذه
الآلية الجديدة للتواصل مع القواعد العريضة من الناس فإنها ستربح كثيراً من الوقت
والجهد وتقفز بالدعوة قفزات كبيرة. وقد لمست ذلك بنفسي من خلال تجربة
محدودة في العمل من خلال إحدى القنوات الفضائية الإسلامية، ولمست كيف
يمكنك أن تصل إلى الملايين من أقصر طريق وبأفضل تأثير، وأذكر أن أستاذًا
جامعياً إسلامياً في مصر، ظل على مدى أربعين عاماً يكتب في الشأن الإسلامي
وفي الدعوة والتنمية وغيرها، فلم يعرفه ويعرف دعوته إلا نفر قليل، ثم ظهر في
برنامج تلفزيوني لعدة حلقات وكان موفقاً فيه فأصبح يتابعه الملايين وتحول إلى نجم
جديد وكبير، وأفردت له صحيفة الأهرام المصرية أكبر صحيفة مصرية وربما
عربية صفحة كاملة كل أسبوع يكتب فيها ما يشاء. وكذلك فإن الحضور المتتالي
لبعض الرموز الدعوية ممن أثاروا جدلاً واضطراباً بفتاواهم، يعود بشكل مباشر
إلى نجاحهم في استثمار البث الفضائي والحضور الجيد من خلاله، في حين لم
ينجح وربما لم يتحمس آخرون فخسروا الكثير من تأثيرهم الدعوي، كما خسر
جمهور الناس إمكانية الاستماع والتواصل مع الرأي الفقهي الآخر.
(7)
الذي لا شك فيه أن «العولمة» هي نوع جديد من أنواع الاستعمار فيه كل
ما في الاستعمار القديم من صفات، وله ما لسَلفه من الأهداف والغايات، غير أنه
طور نفسه مستغلاً آليات حديثة مدهشة، واستفاد من دروس الماضي حين أخفى
مخالب الاستعمار القاسية تحت ألفاظ ناعمة: كالتعاون، والشراكة، والتعاون
المتبادل، وحشد إلى جوار القوة العسكرية هيمنة المال والاقتصاد والتقنية الحديثة
ووسائل الثقافة والإعلام، وأسباب التسلية والترفيه. وهذه الهجمة الكاسحة على
مناطق الضعف والفراغ سوف تُحدث أثرها دون شك، لكن ذلك سوف يكون لمدى
محدود، يطول أو يقصر وفقاً للظروف، وبالأساس وفقاً لقدرات الشعوب على
المقاومة والمحافظة على استقلاليتها، وقدرتها على حفظ هويتها وصلابتها في
الصمود أمام تيارات الإغراق الإعلامي والثقافي والاستهلاكي التي تهجم عليها من
كل جانب. ونحن على يقين من أن العولمة بقدر ما يظهر عليها من علامات القوة
والسطوة فإنها تحمل معها بذور ضعفها وانهيارها، ومن شأن هذه البذور أن تزداد
نمواً كلما اتسعت الدائرة وتعددت مناطقها ومساربها؛ وأهم نقاط الضعف أنها نظام
مادي صِرف يقوم على الجشع والسيطرة والاستغلال، وشهوة الكسب، ويثير أكثر
الميول وضاعةً في النفس الإنسانية: ميول التقليد الأعمى، وتخدير العقل حقيقة أو
مجازاً، وعشق المظاهر، والتبذير، واعتماد الانتهازية في السلوك والكسب،
والعمل وفق منطق «الحظ والمصادفة» ، والاستسلام للشهوات، وبتعبير آخر:
إطلاق الوحش البدائي الذي يسكن أعماق الإنسان، وتحطيم تلك الكوابح الأخلاقية
التي جاء بها الأنبياء، أو حتى تلك البقايا الأخلاقية التي تحدث بها فلاسفة وحكماء،
ومن شأن هذه الميول أن تزداد ضراوة كلما اشتدت التناقضات التي تفد مع المادية
كالطبقية والظلم الاجتماعي، وتفاوُت الدخول، وغَلَبَة الاستهلاك على الإنتاج،
وفي غيبة التدين وانحسار القيم والأخلاق تصل هذه التناقضات ذروتها في موجات
العنف، والإرهاب، والتصدعات الاجتماعية العنيفة، والحروب الأهلية، وتقع
الصورة التي حذر منها القرآن الكريم أمثال هذه المجتمعات: [قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ
حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ] (النحل: 26) ، ويبقى أن يبذل المخلصون من أبناء هذه
الأمة جهدهم الدؤوب والصبور من أجل التبصير بالمخاطر، وحماية الناشئة،
والتميز والإبداع في بث القيم الراشدة وبالأسلوب المناسب عبر الآليات الجديدة؛
فكل هذه الجهود من شأنها أن تثمر بإذن الله في جعل أمتنا عصية على «التنميط»
والتبعية؛ ومن ثم بعيدة عن دوامات العولمة، على الأقل في جانبها العقدي والقيمي.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة: (المنار الجديد) .(170/69)
ملفات
العولمة.. مقاومة وتفاعل
العولمة الفكرية الإسلامية
أ. د. عابد السفياني [*]
إن «الإسلام» هو الرسالة الخاتمة التي أُرسل بها رسولنا محمد عليه وعلى
إخوانه المرسلين أفضل الصلاة والسلام، وهي رسالة عالمية لها مبادئها الشاملة
لجميع أحوال البشرية العقدية والتشريعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة
والعامة، ويدخل في ذلك من آمن بها من أهل الإسلام ومن دخل تحت أحكامها
ونظامها التشريعي من غير المسلمين.
ومن المناسب أن نقول إن انحسار العولمة الإسلامية هو سبب لفتح الطريق
للعولمة الكفرية. والعولمة الفكرية الغربية هي اتخاذ الأمم الكافرة الوسائل لنشر
مبادئها ونظمها وأفكارها عالمياً، وهو ما يُسمى الآن بـ «العولمة الفكرية»
بالنسبة للغرب التي تتمثل في نشر أفكاره ونظامه.
ونذكر مثالاً يوضح الفرق بين العولمة التشريعية في الإسلام، وبين العولمة
التشريعية بالنسبة للكفار.
حرّم الإسلام نكاحَ المحارم، وحرّمَ السفاح والزنى واللواط على المسلمين
وعلى غير المسلمين من الكفار اليهود والنصارى، والمجوس وغيرهم، وقام
المسلمون بدعوة الناس جميعاً لاجتناب الرذائل، وألزموا مَنْ دخل في الإسلام
بتركها، ومَنْ بقي على كفره وكان مع المسلمين في بلادهم أيضاً؛ لأنها محرمة
على الجميع، ونُشِرَ هذا التشريع عالمياً واستفاد المسلمون والكفار من الآثار
الإيجابية المترتبة عليه، فانحسرت الرذائل وآثارها السلبية [1] ، وهذه عولمة
تشريعية إسلامية.
أمّا الكفار فيحاولون أن يعولموا الإباحية ويُصدروا التشريعات التي تبيح
الفواحش والشذوذ وينشروها من خلال الأنظمة الوضعية والمؤتمرات الخاصة
بالمرأة والسكان، وإطلاق الحريات.
ولهذا فإنني أرى أن توصف جهود المسلمين في نشر الإسلام عالمياً بقولنا:
«العولمة الفكرية الإسلامية» ويشمل ذلك التعريف بالإسلام، ومن ثمرته دخول
الناس أفواجاً في الدين، وهؤلاء بمقتضى الإسلام يكون معهم العلم به والعمل،
ويُطلب منهم أن يشاركوا في نشره وهذا يوسع دائرته العالمية.
وأمّا الكفار الذين يدخلون تحت حكم الإسلام ونظامه فهؤلاء يدخلون تحت
«العولمة الفكرية والتشريعية» إن صح التعبير، وإن لم يدخلوا تحت اسم الإسلام.
فالعولمة التشريعية أو الفكرية الإسلامية تعني نشر الإسلام عقيدةً، كما تعني نشر
النظام الإسلامي، ويشمل ذلك مصطلح الدعوة الإسلامية.
وأمّا جهود الأمم الكافرة في نشر أنظمتها وأفكارها وتشريعاتها الرأسمالية أو
الإباحية فيجب أن يُسمى ذلك بـ «العولمة الكفرية» ، ويشمله قولنا: الدعوة
الكفرية، أو الدعوة إلى الكفر، أو الدعوة لنشر أنظمة الكفار ومناهجهم ومذاهبهم.
ذكر الأدلة النقلية والعقلية على وجوب إخضاع البشرية لعالمية الإسلام:
1 - قال الله تعالى: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ]
(البقرة: 213) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون
كلهم على شريعة من الحق» ، قال ابن كثير رحمه الله: «وهذا القول صحيح عن
ابن عباس سنداً ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام» [2] .
ففي هذه الفترة كان العالم يعيش تحت شريعة واحدة وهذا هو الأصل في
البشرية، وهذه الشريعة الإسلامية هي الحق والهدى والخير والعفاف، ويقوم على
ذلك حفظ الدين والأنفس، والعقول، والأعراض، والأموال.
2 - أن الشرائع الإسلامية في جميع العصور جاءت بالنظام الذي يحفظ تلك
الضروريات التي يسميها العلماء الضروريات الخمس التي سبق ذكرها آنفاً، والتي
تكوّن الأمة الواحدة ذات المبادئ الواحدة والنظام العالمي الواحد، وقد طرأ
الاختلاف في البشرية بعد أن لم يكن، فلما وقع الاختلاف، وطرأ الشرك،
وظهرت الخرافة والظلم والبغي، وخالف بعض الناس الشرائع الإسلامية أرسل الله
نوحاً عليه السلام ليرد الناس إلى ما كانوا عليه.
يؤكد ذلك أنه مَا مِنْ نبي ورسول إلا ويأتي بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن
الشرك، والأمر بإقامة أركان الإسلام والإيمان وتطبيق الشرائع الحافظة للأنفس
والأعراض والعقول والأموال.
قال الله تعالى: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً]
(الإسراء: 23) ، وقوله سبحانه: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا
الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ] (يس: 60- 61) .
وقوله سبحانه: [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ]
(البقرة: 83) .
وجاء الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم يجدد هذه الدعوة
لتكون للعالمين نذيراً، ولتكون للعالمين ذكراً: [إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ]
(التكوير: 27) .
[وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ]
(الأنبياء: 25) .
ويؤكد القرآن مفهوم الأمة الواحدة العالمية: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 92) .
ومن أكبر مقاصد هذه الوحدة العالمية ما يلي:
أ - تذكير البشرية بنشأتها الأولى.
ب - تأكيد وحدة الفطرة الإنسانية.
ج - تأكيد حاجة البشرية للعبادة المبنية على التوحيد الخالص.
د - تقديم الحلول العملية التطبيقية للمحافظة على مصالح البشرية الدنيوية
والأخروية؛ ففي الدنيا المحافظة على تلك الضروريات، وفي الآخرة النجاة من
النار ودخول الجنة، والفوز برضوان الله.
3 - عناية الإسلام العظيمة بتأكيد حفظ ضرورات البشرية، واستمرار نشأتها
الخيّرة الأولى. وإن من المقاصد العظيمة للإسلام كف البشرية عن الشرور التي
ترتبت على الاختلاف الذي وقع بسبب الشرك والظلم والبغي والفواحش؛ ولهذا قال
الله سبحانه: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ
مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ
بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (البقرة: 213) .
فأما الفريق من الناس الذين ظلموا وبغوا وتركوا مقتضى العلم الصحيح
والعمل بالهدى والحق، فهؤلاء خلافهم وشرورهم طارئة على البشرية، وترتب
على هذا الخلاف نشوء جميع الضلالات والانحرافات العقدية والعملية الموجودة في
هذا العالم؛ فكانت رسالات الأنبياء عليهم السلام تُعنى بمحاربة تلك الشرور التي
ترتبت على تلك المخالفات مع عنايتها بتجديد التوحيد والأمر بإقامة أركان الإسلام.
ولهذا ذكر العلماء رحمهم الله أن كل مقصد من مقاصد الإسلام بُني من جهتين: من
جهة إيجاده والقيام به، ومن جهة حمايته، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك، أمر بالصدق ونهى عن الكذب، أمر بالزواج
ونهى عن الزنا، أمر بالصدق والعفاف ونهى عن قطع الأرحام والفواحش، أمر
بالعدل في المعاملات ونهى عن الجور والربا والعقود الفاسدة، أمر بالوفاء ونهى
عن الغدر والخيانة، وغير ذلك من المبادئ العالمية؛ أي التي هي ذكر للعالمين
ويحتاجها جميع الناس، ولا تصلح الأرض إلا بإقامة التشريع الإسلامي، ثم
المحافظة عليه. وواضح من هذه الأمثلة: أن الطارئ على البشر هو الفساد
والشرك والفواحش والربا والغدر والخيانة والطغيان السياسي والاقتصادي والإباحي،
وهذا كله طارئ على نشأة البشرية، ومخالف لفطرتها؛ ولهذا شدد الإسلام على
أتباعه، وأمرهم بمحاربة هذا الفساد، وأن يشهدوا عن طريق نشر العلم والدعوة،
وعن طريق العمل والواقع بتجريم هذه الانحرافات، ورد البشرية عنها.
ولما ضعُف جهد المسلمين العلمي والعملي والدعوي وانحسرت قوتهم ازداد
الكفار في غيهم ومخالفاتهم وانحرافاتهم، وعظُم الطغيان الرأسمالي، والربا، ونشر
الفساد والإباحية والانحرافات الأخلاقية، وما زالوا يحاولون عولمتها. وهذا كله من
مسائل الجاهلية التي جاء الإسلام لمحاربتها. والواجب على المسلمين في مشارق
الأرض ومغاربها نشر العلم والاعتقاد والعمل الذي يقف في وجه هذه الانحرافات
والشرور والفساد، ورفض هذه العولمة المنحرفة سواء من الناحية الفكرية أو
التشريعية، وتقديم البديل الذي هو: العولمة الإسلامية العقدية لمن يقبل الإسلام ديناً،
والفكرية والتشريعية لمن يخضع له نظاماً، أو يستفيد من مبادئه وتشريعاته.
ونختم هذا المقال بصورتين لهما أكبر الدلالة فيما نحن فيه:
الصورة الأولى: صورة للعولمة الفكرية أو التشريعية أو العقدية الكفرية قبل
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت في الحديث الصحيح: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا
بقايا من أهل الكتاب» [3] . أي قليل من أهل الكتاب على دين صحيح لم يُبدل.
وهذه هي الصورة لحياة الجاهلية قبل بعثته عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا نقول:
إن العولمة الكفرية التي يقوم بها الغرب اليوم هي عولمة مقيتة ممقوتة؛ لأنها
مبنية على مسائل الجاهلية: من رأسمالية، وربا، وإباحية، وطغيان سياسي. أما
الرأسمالية فإنها تضطهد الفقراء شعوباً ودولاً وأفراداً، وأما الربا فهو السبب الكبير
في المشاكل الاقتصادية التي أرهقت الشعوب، وأما الإباحية فقد حوّلت المرأة إلى
سلعة تُستعمل في الجنس والدعاية والفن الرخيص.
ولا يزال الغرب يبذل ما يستطيع لعولمة هذه الانحرافات، ويحارب الشريعة
الإسلامية؛ لأنها تجرّم الطغيان الرأسمالي والإباحية وتنهى عن الظلم والفحشاء.
وأما الطغيان السياسي فقد نشر الظلم، وأهدر الحقوق وأصبح القوي هو الذي
يتحكّم كما يشاء.
ولهذا فإن مَنْ أسمى نفسه: «النظام العالمي الجديد» يعتبر العالم قريةً واحدة
يريد أن يعولم فيها أفكاره وتشريعاته الرأسمالية والإباحية والسياسية، وكل ذلك
على حساب كرامة الإنسان ومقدرات الشعوب.
الصورة الثانية: المبادئ الإسلامية العالمية ويتحدث عنها رجلان، أحدهما
زعيم من زعماء الجاهلية الأولى، والثاني رجل من صحابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
أما الأول: فهو أبو سفيان بن حرب القرشي قبل أن يُسلم؛ وذلك حين سأله
زعيم من زعماء الروم عن الإسلام ومبادئه العالمية؛ فقد جاء في الحديث الطويل
الذي رواه عبد الله بن عباس في قصة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
قيصر: قال قيصر لأبي سفيان: «فماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده
لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف،
والوفاء بالعهد وأداء الأمانة» [4] .
ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام هو أول مراحل نشر العالمية
الإسلامية.
وأما الثاني: فهو الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي
تحدث عن الإسلام في بلاد الغربة عند الملك النجاشي، وقبل أن نذكر قيام جعفر
رضي الله عنه وأصحابه بإعلان المبادئ العالمية للإسلام عند النجاشي نحب أن
نشير إلى أن أبا سفيان بن حرب في كفره لو استطاع هو وقيصر أن يعولموا
مبادئهم الضالة لفعلوا، وقد حاولت قريش أن تعمم انحرافاتها وموقفها من الدعوة
الإسلامية، وأن تطارد المسلمين في خارج أراضيها وحدودها، وحاولت أن تقنع
النجاشي بأن ما هي عليه من الشرك والفساد في الأعراف السياسية، والاقتصادية
والظلم الاجتماعي إنما هو العدل، وهو الذي يجب البقاء عليه وهو الصالح للحياة
البشرية، وأنّ تعاونهم على إبقائه والدفاع عنه هو السبيل لمقاومة مبادئ الإسلام،
وهنا يظهر الصراع بين الكثرة التي تريد أن تنشر المبادئ الكفرية وتُعوْلمها، وبين
القلة التي ترفض عولمة الكفر والتشريعات المنحرفة، وترفض الظلم في جميع
مجالاته سواء الظلم في الاعتقاد، أو الظلم السياسي، أو الاقتصادي، أو
الاجتماعي، أو الأخلاقي، وهي مع رفضها لهذه الشرور والانحرافات تقاوم الغربة
والاضطهاد، وتعلن عولمة المبادئ الإسلامية ولو كره المشركون.
وإليك صورةً من المواقف العملية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهم يقفون مُتجردين من كل قوة إلا قوة الإيمان؛ لتكون نبراساً وقدوة لنا على
الطريق ونحن نواجه عولمة الانحراف في شتى مجالاته في هذا العصر، ونترك
القارئ في ختام هذا الحديث يتملى هذه الصورة النيرة للمواقف المشرفة كما ذكرها
ابن إسحاق في السيرة النبوية. قالت أم سلمة بنت أبي أمية: «لما نزلنا أرض
الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشي، أَمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى
ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي
فينا رجلَيْن منهم جَلْدَيْن، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة،
وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدَم [5] ، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من
بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو
بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن
تُكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن
يُكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير
جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يُكلما النجاشي، وقالا
لكل بطريق منهم: إنه قد ضَوَى [6] إلى بَلَد الملك منا غِلْمانٌ سُفهاء فارقوا دين
قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مُبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد
بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا
عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً [7] ، وأعلم بما عابوا
عليهم؛ فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم
كلماه فقالا له: أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك منّا غلمان سُفهاء، فارقوا دين
قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد
بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم
أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض
إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت:
فقالت بطارقته حوله: صَدَقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عَيْناً، وأعلم بما عابوا
عليهم، فأسْلمْهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم
قال: لا ها الله! إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قومٌ جاوروني، ونزلوا بلادي،
واختاروني على مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن
كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك
مَنعتُهم منهما، وأحسنتُ جِوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما
جاءهم رسولُه اجتمعوا، ثم قال بعضُهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟
قالوا: نقول: والله ما عَلِمْنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك
ما هو كائن. فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته [8] ، فنشروا مَصاحفَهم حولَه
سألهم فقال لهم: ما هذا الدينُ الذي قد فارقتم فيه قومَكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا
في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلّمه جعفرُ بن أبي طالب، فقال له:
أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش،
ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منّا الضعيفَ؛ فكنّا على ذلك؛
حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصِدْقه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى
الله لنوحده ونعبدَه، ونخلَع ما كنا نعبدُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان،
وأمَرَنا بصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرحم، وحُسْن الجِوار، والكَفِّ عن
المحارم والدِّماء، ونهانا عن الفَواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقَذْف
المُحْصنات؛ وأمَرَنا أن نعبد الله وحده لا نُشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة
والصيام قالت: فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به
من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما
أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأوثان
من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنّا نستحلُّ من الخبائث، فلما قَهرونا وظلمونا
وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَنْ
سواك؛ ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له
النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم!
فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ! قالت: فقرأ عليه صدراً من: [كهيعص]
(مريم: 1) . قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت [9] لحيته، وبكت أساقفته
حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم؛ ثم قال [لهم] النجاشي: إن هذا
والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة [10] واحدة. انطلقا، فلا والله! لا أسلمهم
إليكما ولا يُكادون» [11] .
وهكذا يجب أن يبيّن المسلمون للعالم عالمية الإسلام، ويدعوا إلى مبادئه؛
كما أظهر جعفر رضي الله عنه مبادئ الإسلام وعدَّد منها التوحيد، وإنكار الشريك
والخرافة والتقليد، كما عدَّد منها الصدق، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن
الجوار، والكف عن المحارم والدماء والفواحش وقول الزور، واستنكر رضي الله
عنه أمر الجاهلية، وقد فهم النجاشي ملك الحبشة أن هذه المبادئ، وهذا الحق هو
الذي جاء به عيسى عليه السلام وأنه يخرج من مشكاة واحدة، ورد زعماء الجاهلية
الذين خرجوا من مكة يطاردون الدعوة الإسلامية.
ومثلهم أولئك الذين يطاردون الفضيلة ومبادئ الدعوة الإسلامية اليوم،
ويخططون لعولمة الرأسمالية والإباحية ويتعجبون من المبادئ الإسلامية والفضيلة،
ويكرهون أن ينتشر الحق في البشرية.
إن خطط الجاهلية الأولى قد أخفقت في محاربة الحق والفضيلة والعفاف
والخير، وكذلك خطط العولمة الكفرية المعاصرة؛ والإسلام اليوم قد خطا خطوات
واسعة نحو العالمية من حيث العلم والفكر، وكما انحسرت الجاهلية الأولى أمام
مبادئ الإسلام يوم قام أمثال جعفر رضي الله عنه باستنكار أمر الجاهلية وإعلان
مبادئ الإسلام فكذلك اليوم ستنحسر العولمة بإذن الله إذا قام المسلمون بمثل ما قام به
دعاة الإسلام في جيل القدوة، وسيتقدم الإسلام نحو العالمية لا من الناحية الفكرية
فقط، بل من الناحية العملية العقدية والتشريعية، وسيدخل الناس تحت سلطانه إمّا
بمقتضى عقد الإسلام، وإما بالخضوع لنظامه، والله سبحانه ناصر دينه، وهو نعم
المولى ونعم النصير.
__________
(*) عميد كلية الشريعة في جامعة أم القرى سابقاً، وأستاذ العقيدة في الكلية نفسها حالياً.
(1) حرمت الشرائع الإسلامية لدى الأنبياء عليهم السلام الفواحش والربا، انظر كتاب: حكم الزنا في القانون وعلاقته بمبادئ حقوق الإنسان في الغرب، دراسة في ضوء الشريعة الإسلامية، للكاتب.
(2) تفسير ابن كثير، 1/ 251.
(3) أخرجه مسلم، رقم 2865.
(4) رواه البخاري، باب دعاء النبي إلى الإسلام، 4/56.
(5) الأدم: الجلود، وهو اسم جمع.
(6) ضوى: لجأ ولصق.
(7) أعلى بهم عيناً: أبصر بهم.
(8) الأساقفة: علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم، واحدهم: أسقف، وقد يقال بتشديد الفاء.
(9) كذا في أكثر الأصول، واخضلت لحيته: ابتلت وفي نسخة: «حتى أخضل لحيته» أي بلَّها.
(10) المشكاة: قال في لسان العرب: «وفي حديث النجاشي: إنما يخرج من مشكاة واحدة، المشكاة: الكوة غير النافذة؛ وقيل هي الحديدة التي يعلق عليها القنديل» ، أراد أن القرآن والإنجيل كلام الله تعالى، وأنهما من شيء واحد.
(11) المغازي، لابن إسحاق، ص 358.(170/76)
وقفات
فقه التوبيخ
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
alsowayan@albayan-magazine.com
في بداية كل مأساة إسلامية يثير بعض الناس قضية متكررة، وهي (حكم
مناصرة المسلم المبتدع أو العاصي) ؛ فلما بدأ الجهاد الأفغاني الأول ضد الاتحاد
السوفييتي البائد تحدث بعضهم عن حكم مناصرة المبتدعة والجهاد في صفوفهم، ثم
أثيرت هذه المسألة ثانية في إغاثة الصومال والبوسنة والهرسك وكوسوفا ...
وأخيراً في أفغانستان، وأحسب أن هذه الإثارة المتكررة تمثل خللاً ظاهراً في
المنهج، واضطراباً بيّناً في التفكير، والناس إزاء ذلك طرفان ووسط:
فالطرف الأول: الذي يهوِّن من شأن البدع مهما كان انتشارها ورسوخها،
ويغض الطرف عنها تماماً بحجج متعددة، أشهرها: (وجوب وحدة الصف) ،
وأن الوقت ليس وقت جدل كلامي؛ فالصفوف إما أنها تُقصف بنيران الأعداء، أو
أنها تتلوى جوعاً ومسكنة..!
والطرف الثاني: الذي يُعظِّم من شأن البدع تعظيماً شديداً يتجاوز الحد
الشرعي، فيأمر بهجر أصحابها مطلقاً، وخاصة في ظل المأساة، ويمنع مساعدتهم
ومناصرتهم، وربما استدل بعضهم بما رواه ابن أبي عاصم عن علي بن بكار قال:
«كان ابن عون يبعث إليَّ بالمال فأفرقه في سبيل الله، فيقول: لا تعطِ قدرياً منه
شيئاً. وأحسبه قال فيه: ولا يغزون معكم؛ فإنهم لا يُنصرون» [1] .
والحق والعلم عند الله وسط بين طرفين، وهو الجمع بين المناصرة والتعليم
وتصحيح العقائد والعبادات والأخلاق.. ونحوها من شرائع الإسلام، وليس من
الشرع أن يُسْلَم المسلمون للعدو الكافر، أو يتركوا للمجاعة بحجة وقوعهم في بعض
البدع والمعاصي؛ فكيف إذا كان الأمر قائماً على الجهل؟ ! وقد صح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلِمه» [2] ، وهل
هناك خذلان للمسلم أشد من تركه لقمة سائغة بيد عدوه الكافر، أو تركه يتقلب تحت
رحى المجاعة حتى تفتك به وبصبيانه الصغار..؟ !
وأرى من المفيد تأكيد الأمور الآتية:
1 - أنَّ البدعة شأنها عظيم، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: «.. فإنه من يعش منكم فسيرى بعدي اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن
كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة» [3] ، ولا يجوز بحالٍ الرضى بالبدعة أو
التهوين من شأنها بل يجب أن تأتلف الجهود لتنقية الدين من شوائب الضلالة،
ويتأكد ذلك في حال الجهاد؛ فصفاء الصف الجهادي ونقاؤه منهجياً وعقدياً وتربوياً
من أعظم أسباب النصر والتمكين بإذن الله. والجهاد إنما أُمِرَ أن يرفع لواؤه لإقامة
الدين الصحيح، وإعلاء سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والمجاهد الذي
بذل نفسه لإعلاء الدين يجب عليه أن يحرص على لقاء الله تعالى طاهراً من كلِّ
سوء.
2 - أن الأمة الإسلامية مرَّت بقرون متتابعة من التخلّف وهجر السنة
واندراس العلم، وأصبح الجهل منتشراً بين عامة المسلمين؛ فالشعب الأفغاني مثلاً
لا يتجاوز عدد المتعلمين فيه نسبة 5% تقريباً، ونسبة من هؤلاء المتعلمين تعلمهم
للشرع ليس بذاك المتين، ومن المتوقع أن تنتشر عندهم البدع والخرافات المتوارثة،
والحل ليس بهجرهم والإعراض عنهم، ولكن بتأليف قلوبهم، والإقبال على
تعليمهم والصبر على نشر الدعوة بينهم، وبعض القائمين على الجمعيات الإسلامية
هناك تلمس منهم الصدق والجدية في التصحيح التدريجي ونشر العلم الشرعي في
أوساط العامة، والترحيب بالناصح المشفق، ومثل هؤلاء لم يُبقوا لنا حجة في
تركهم؛ فكيف يجوز الإعراض عنهم..؟ !
3 - أن التناصح بين المسلمين سنَّة قائمة يجب إحياؤها والحرص على
ترسيخها وإشاعتها، ولكن النصيحة لن تؤتي ثمارها إلا إذا حُفظت بسياج من
الحكمة وحسن الخلق، قال الله تعالى: [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ
قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] (طه: 43-44) ، وقال تعالى: [فَبِمَا رَحْمَةٍ
مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] (آل عمران:
159) . وأذكر أنني زرت بعض اللاجئين الصوماليين في كينيا قبل عدة سنوات،
فرأينا طفلاً في مركز من مراكز التغذية الإغاثية قد علَّق تميمة، فقطعها أحد الدعاة
بغضب شديد وعاتب المشرف على المركز لرضاه بدخول هذا المبتدع..! ! فقلت
له: أتظن أنَّ هذا الطفل سيعيد التميمة إذا عاد إلى بيته؟ ! فقال: بالتأكيد. فقلت:
إذن لم يتحقق المطلوب، فالأَوْلى أن تزيلها من عقله وتُعلِّمه هدي النبي صلى الله
عليه وسلم برفق، وتحرِّض الدعاة على متابعته والأخذ بيده إلى السنة الصحيحة،
وستجده بإذن الله يبادر إلى قطعها بقناعة راسخة منه.
4 - هجر المبتدعة والعصاة يجب أن يحقق مقاصده الشرعية، من زجر
المبتدع والعاصي وردهما عن ذلك، فإذا لم يتحقق هذا المقصود الشرعي، أو
ترتب عليه مفسدة أعظم؛ فلا ينبغي هجرهم، قال ابن تيمية: «وهذا الهجر
يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلَّتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به
زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك
راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا
المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف؛ بحيث يكون
مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس
أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ... وجواب الأئمة كأحمد
وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل؛ ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي
كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة
وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود
الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه» [4] .
وأحسب أن هجرنا لمن داهمهم العدو الكافر، أو لمن ضربتهم المجاعة، باب
عريض من أبواب الفتنة لهم، ربما يؤدي إلى مفاسد أعظم، وها هم النصارى مثلاً
يستغلون (الفقر والجهل والمرض) في كثير من ديار الإسلام، ويرسلون
الإرساليات الكنسية، والمنظمات التنصيرية لتخرجهم من الإسلام، وتقدم لهم
الإنجيل في آنية ما يسمونه بالمساعدات الإنسانية! !
5 - المسلم العاصي أو المبتدع له من حق الولاء والمحبة والنصرة ما يوازي
صلاحه والتزامه بالدين، قال ابن تيمية: «إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر،
وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما
فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في
الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير
تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، وهذا هو الأصل الذي
اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم
عليه» [5] .
6 - من الفقه في الدين: أن نعرف خير الخيرين لنقدِّم أعلاهما عند تعذر
الجمع بينهما، وأن نعرف شرَّ الشرين لندرأ أعظمهما عند تعذر ردهما جميعاً؛ فإذا
استباح العدو الكافر بيضة الأمة، وانتهك حرماتها، وعطل شعائرها، وجب على
المسلمين أن ينصر بعضهم بعضاً؛ فالمسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من
خالفهم، وإن كان بعضهم لا يخلو من بعض البدع غير المكفرة؛ فالمسلم المبتدع
خير من الكافر، قال ابن تيمية: «فإذا تعذَّر إقامة الواجبات من العلم والجهاد
وغير ذلك، إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك الواجب، كان تحصيل
مصلحة واجبة مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس» [6] .
وقال في موضع آخر: «وأما المرجئة فلا يختلف قوله يعني: الإمام أحمد
في عدم تكفيرهم؛ مع أنَّ أحمد لم يُكفِّر أعيان الجهمية، ولا كل من قال إنه جهمي
كفَّره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين
دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم
يكفِّرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم، ويرى الائتمام
بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم، ما يراه
لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم
يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان، فيجمع بين
طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين
رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالاً مبتدعين، وظلمة
فاسقين» [7] .
وقال أيضاً: «وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية
وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين
مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً
يظلم فيه المسلمين والكفار، ويكون آثماً بذلك؛ ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير
كانوا كفاراً فصاروا مسلمين؛ وذلك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما
بالنسبة إلى الكفار فهو خير» ، ثم ذكر ابن تيمية قاعدة عامة قال فيها: «والله
تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، والنبي
صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان، ونقل كل شخص إلى خير مما كان
عليه بحسب الإمكان..» [8] .
ومن التطبيقات العملية: قتال أئمة الإسلام كالإمام محمد بن أحمد بن قدامة
المقدسي وأخوه الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي صاحب كتاب المغني ضد
الصليبييين مع السلطان صلاح الدين الأيوبي، وهو على فضله وجلالة قدره كان
أشعرياً [9] .
7 - من تمام عدل المسلمين مع غيرهم أنه يجب الدفاع عن أهل الذمَّة في
أرض المسلمين كالدفاع عن المسلمين أنفسهم فكيف بغيرهم من أهل القبلة؟ ! قال
الإمام الشافعي: «ينبغي للإمام أن يُظهر لهم يعني: أهل الذمة أنهم إن كانوا في
بلاد الإسلام منفردين أو مجتمعين، فعليه أن يمنعهم أن يسبيهم العدو أو يقتلهم،
منعَهُ ذلك من المسلمين» [10] .
ولهذا لما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى غازان ملك التتار يطالبه بفك
الأسارى فك المسلمين منهم فقط، فقال له ابن تيمية: «بل جميع من معك من
اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فإنَّا نفتكُّهم، ولا ندع أسيراً؛ لا من أهل
الملة ولا من أهل الذمة» [11] .
8 - ينبغي التأكيد هنا على ضرورة النظرة الكلية الشمولية العادلة في تقويم
الآخرين، ومدى قربهم أو بعدهم عن المنهج الصحيح، مع إعطاء مخالفاتهم
وبدعهم وزنها الحقيقي دون تهوين أو تهويل، ودون مزايدة ولا نسيان للجوانب
العملية المشرقة من زاوية أخرى [12] .
9 - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإغاثة الملهوف وإعانة المنكوب في
أحاديث كثيرة متواترة؛ فهل يصح شرعاً أو عقلاً أن يُسْلَم المسلم العاصي أو
المبتدع للموت جوعاً أو مرضاً بحجة عصيانه أو ابتداعه؟ ! ألا نرى أن الله تعالى
أمر بإعطاء (المؤلفة قلوبهم) من الزكاة وهم كفار، أفلا يكون إعطاء المسلم
المبتدع أو العاصي من الزكاة من أعظم التأليف لقلبه، وأحسن طريق لدعوته
وتصحيح عقيدته وخُلُقه؟ !
ألم يثبت في الحديث الصحيح: «أن رجلاً يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل
بئراً فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد
بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر
الله له فغفر له» ، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: «في
كل كبد رطبة أجر» [13] ، و «أن امرأة أخرى دخلت النار في هرة ربطتها
فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» [14] ؟ ! أليس في هذا أعظم
دليل وبيان على أن في كبد المسلم المبتدع أو العاصي أجراً عظيماً..؟ !
إنَّ ضيق الأفق يجعل المرء ينظر بعين واحدة فقط، ويفكر بطريقة جزئية
مبتورة، وإلا فأي قلب يقوى على الإعراض عن المرأة المسكينة التي هدّها الجوع
وضربتها الفاقة بحجة أنها قد وقعت في بعض المعاصي؟ ! وأي قلب يقوى على
الإعراض عن الشيخ والمريض والطفل الذين جرفتهم المحنة وراحوا يتقلبون في
لظى محرق من الألم والحزن بحجة أنهم مبتدعة؟ ! أي فقه.. بل أي دين يجيز
للإنسان أن يُدبر ويتناسى مآسي إخوانه، ويعتذر لنفسه بمعاذير واهية يعلم هو أنها
أوهى من بيت العنكبوت..؟ !
أحسب أن وقوع كثير من هؤلاء الناس في مثل هذه البدع والأخطاء هو
بسبب تقصيرنا نحن أهل السنة؛ فلماذا نجيد النقد والتوبيخ، ولا نجيد التعليم
والدعوة؟ ! [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: 143) .
__________
(1) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/88) ، رقم (200) ، وقال الألباني: «إسناده ضعيف» .
(2) أخرجه: البخاري في كتاب المظالم، رقم (2442) ، ومسلم في كتاب البر، رقم (2580) .
(3) أخرجه: أحمد (28/373) ، رقم (17144) ، وأبو داود في كتاب السنة، رقم.
(4607) ، والترمذي في كتاب العلم، رقم (2676) ، وإسناده صحيح.
(4) مجموع الفتاوى: (20/ 32 36) .
(5) المرجع السابق: (28/ 209) .
(6) المرجع السابق: (28/ 212) وانظر: هجر المبتدع، للدكتور بكر أبو زيد، ص (46) .
(7) المرجع السابق: (7/ 507 508) .
(8) الفرقان بين الحق والباطل، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، (ص 63 - 64) .
(9) انظر: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، (2/56) .
(10) الأم: (5/ 207) .
(11) الرسالة القبرصية، انظر: مجموع الفتاوى: (28/617) .
(12) انظر تفصيل ذلك في كتابي: (منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم) .
(13) أخرجه: البخاري في كتاب المساقاة، رقم (2363) ، ومسلم في كتاب السلام، رقم (2244) .
(14) أخرجه: البخاري في كتاب بدء الخلق، رقم (3318) ، ومسلم في كتاب السلام، رقم (2242) .(170/82)
وقفات
شهادة على تجربة طالبان
في حوار مع فضيلة الشيخ غلام الله رحمتي
(نائب الشيخ جميل الرحمن رحمه الله)
نرحب بشيخنا الكريم، ونسأل الله تعالى أن يبارك في عمره وعمله، وأن
ينفع بعلمه الإسلام والمسلمين.
نرجو أولاً أن تعرفوا فضيلة الشيخ بشخصكم الكريم لقارئ البيان:
الشيخ غلام الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام
على عباده الذين اصطفى وبعد: إخوتي الأحباء: اسمي: غلام الله رحمتي، من
أفغانستان من مديرية قندز، وأنا كنت خريج مدارس الديوبندية، وبفضل الله
ورحمته طالعت كتب التوحيد وكتب أهل السنة مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية
والشيخ ابن القيم وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، وسرت بمذهب أهل
السنة والجماعة، وتعرفت على التوحيد بأقسامه وعلى ما يضاد التوحيد من الشرك
وأنواعه، وبعد وصولي إلى العقيدة الحقة وفقني الله لبيانها في أفغانستان في منطقة
قندز، وحُبست بسبب ذلك في عهد ظاهر شاه عشر سنوات متواليات باتهامي بأنني
رجل وهابي ومنكر للطرق الصوفية وغير مقلد، وكان لي هناك مدرسة، وكنت
ألقي فيها الدروس.
وبعد أن أطلقت من المحبس هاجرت إلى باكستان، وأتيت إلى مدينة (كويتا) ،
وكان هناك أحد الإخوة اسمه (شمس الدين) وكان سلفياً، كان قد أسس مدرسة
باسم (الجامعة الأثرية) ، وكان درس عندي في أفغانستان، فلما علم بقدومي إلى
باكستان أرسل إلي ودعاني للتدريس في جامعته، فجئت إلى بيشاور ودرست في
الجامعة الأثرية لعدة سنوات، وأسست هناك جريدة باسم (المسلمون في أفغانستان)
كنا ننشر فيها المسائل الدينية العقدية والعملية والأخلاقية، إلى أن تأسست جماعة
الدعوة إلى القرآن والسنة، وبعد التأسيس أصبحت عضواً في جماعة الدعوة وكنت
نائباً للشيخ جميل الرحمن رحمه الله في حياته وحتى مقتله، نسأل الله أن يجعله في
الشهداء.
وبعد قتل الشيخ صار الأمير لجماعة الدعوة شيخنا الشيخ سميع الله نجيبي
حفظه الله، فكنت معه إلى انسحاب الروس، وبعد انسحاب الروس وقعت بعض
الأشياء المقتضية لأن أترك جماعة الدعوة، من حيث السياسة لا من حيث
الانتساب، ومنذ ذلك الحين أسست مدرسة في بيشاور اسمها دار القرآن والحديث
السلفية، وهي ومنذ ذلك الحين والحمد الله قائمة، ولا زلت ألقي الدروس فيها من
كتب الحديث والعقيدة والآداب وغيرها.
البيان: ذكرتم أنكم كنتم على صلة وثيقة بالشيخ جميل الرحمن رحمه الله فما
هي خلفيات تلك العلاقة؟
الشيخ غلام الله: كنا في ذلك الحين الذي كنت فيه محبوساً في ولاية قندز
وغيرها بتهمة تخريب العقيدة والإخلال بالأمن، كنت أنتقل من سجون مديرية إلى
مديرية لاعتقادهم بأنني أخرب عقائد المسجونين أيضاً، وفي آخر عهد داود سمعت
في السجون من بعض الإخوة أن هنالك رجلاً له تركيز على توحيد الألوهية، ويرد
على القبوريين ويسكن في مدينة كونار، فسمعت به ولم أره، وبعدها هاجرت إلى
باكستان سألت عنه، فقيل لي إنه قائد في الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار. وعند
ذلك جرى الاتصال بينه وبيني وعرفت أنه الرجل الذي سمعت عنه، وعرفت أن
الشيخ كان تلميذاً لأحد المشايخ الباكستانيين واسمه (مولانا محمد ظاهر) وكان
حنفياً وماتوريدياً ونقشبندياً، وسمى نفسه بالديوبندي؛ ومع ذلك كان له اهتمام
بتوحيد الألوهية فتأثر به الشيخ جميل الرحمن، ولكنه كان ذكياً ذكاءً فائقاً، فاستقل
بنفسه وطالع كتب شيخَيِ الإسلام وكتب أهل السنة فوقع فيه التغيير حتى صار
سلفياً.
ولما اجتمعنا في بيشاور، قلت له: إنك لا تستطيع أن تبقى مع هذه
المنظمات إلى النهاية، فلا بد أن نؤسس منظمة خاصة بالسلفيين، فأولاً ما كان
موافقاً، ثم وافق لما عُزل عن إمارة كونار من جانب الحزب الإسلامي لحكمتيار،
فاغتنمت الفرصة وقلت له: لا بد أن نؤسس جماعتنا، واتفقنا هناك وأسسنا جماعة
الدعوة.
البيان: ذكرتم أنكم هاجرتم إلى باكستان، ولم تكن لكم مشاركة في نشاط
الأحزاب الإسلامية؛ فكيف تقوِّمون أداء تلك الأحزاب في الفترة التي أعقبت
انسحاب الروس بدءاً من أيام صبغة الله مجددي القصيرة؟
الشيخ غلام الله: كان بعد مقتل الشيخ جميل الرحمن رحمه الله أن اتفق أركان
الشورى في جماعة الدعوة على أن يجعلوا الشيخ سميع الله خلفاً للشيخ جميل
الرحمن، وفي ذلك الحين في وقت إمارة الشيخ سميع الله، انسحب الروس من
أفغانستان، واجتمعت المنظمات الجهادية في إسلام أباد بباكستان واتفقوا على أنه لا
بد أن يكون هناك حكومة بديلة لحكومة الشيوعيين في أفغانستان، واتفقوا على أن
يكون الشيخ صبغة الله مجددي رئيساً لمدة شهرين، وبعدها يكون على رأس هذه
الحكومة المؤقتة الشيخ رباني، وعلى هذا الأساس شغل صبغة الله مجددي كرسي
الرئاسة وأصبح رئيس الجمهورية، ولكنه عجز لأنه ليست له قدرة، وكانت
منظمته أصغر المنظمات كلها، وكان تنفيذ الأوامر في عهده لمسعود ودوستم،
ويدل على ضعفه أنه عندما تولى الرئاسة ذهب بنفسه إلى دوستم بدلاً من أن يأتي
إليه دوستم، وأعلن عنده في مزار الشريف أنه خالد بن الوليد في هذا العصر.
وفي هذه المدة اتفق أعضاء شورى جماعة الدعوة على الانضمام إلى هذه
الحكومة حتى لا تبقى الجماعة منزوية في باكستان ولا يكون لنا دور في الحكومة
المستقبلة في أفغانستان. ولكني خالفت هذا الرأي؛ فصبغة الله كان رجلاً صوفياً
خرافياً، يصنف في الشرك الصراح البواح، منه أنه صنف كتيباً باسم: (متن
بيانية صبغة الله مجددي) وقد كان كتب فيه أن هذا العالم له أربع زوايا وفي كل
زاوية منها ولي من أولياء الله يُسمى القطب أو البدل، وهؤلاء الأقطاب الأربعة
يتصرفون في الأكوان. وكنت قد اتصلت بصبغة الله المجددي في حياة الشيخ جميل
الرحمن، وقلت لصبغة الله في الاتصال التليفوني إنني أُخبرت بأنك ألفت كتاباً
اسمه كذا، فهل هذا صحيح؟ قال نعم، تريده؟ قلت: لا أريده فقد وصل إليَّ،
ولكن أريد أن أناقشك في هذا الكتاب فإن لي عليه ملاحظات، فسألني عن اسمي،
فقلت له أنا غلام الله من قندز، وكان يعرفني بالاسم، فضحك وقال: آه، عرفتك
أنت الوهابي الكبير الذي خرب عقائد المسلمين في أفغانستان، والآن تريد أن
تخرب عقائد المهاجرين في مخيمات باكستان، وأغلق السماعة ولم يجب بلا أو
بنعم.
البيان: وما هو رأيكم في فترة رئاسة رباني؟
الشيخ غلام الله: جاء رباني بعد مضي عهد ضبعة الله مجددي وشغل كرسي
رئاسة الجمهورية لمدة ستة أشهر، ولكنه لم تكن له سلطة حتى في كابول، وما
كان يستطيع أن يخرج من كابول إلى مدينة أخرى بسبب التقاتل بين الأحزاب،
وكانت كابول نفسها موزعة على عدة منظمات من الشيوعيين والشيعة، وكان
الحساب الكبير لهم في كابول، وكانت هناك منطقة أخرى تحت سيطرة حكمتيار،
ولهذا لم يكن رباني يستطيع أن ينتقل من منطقة إلى منطقة في كابول، ولكن كان
بالاسم رئيس جمهورية، وما وقع في زمنه شيء يسمى حتى يقال إنه فعل هذا، إلا
أنه وقع تقاتل بينه وبين حزب حكمتيار، قُتل بسببه أزيد من خمسين ألف مسلم،
ووقع تقاتل آخر بين حزب عبد رب الرسول سياف والشيعة، وقتل منهم كثيرون،
وكذلك وقع تقاتل بين حزب رباني وحزب دوستم، ثم وقعت تغيرات في العلاقة
بين دوستم وبين رباني، حتى إن رباني أعلن دوستم نائباً له وقت سفره إلى مصر،
وكان في ذلك الوقت نفسه يستقبله استقبالاً لا يوجد مثله في التبجيل والتعظيم،
وكان يعلن أنه القائد الكبير والفاتح الكبير لأنه فتح كابول، وبعد ذلك وقع خلاف
بين الحزب وبين دوستم، فأعلن رباني أن دوستم كافر شيوعي دهري يجب قتاله
وقتله! فهذا ما وقع في فترة رئاسة رباني ما وقع شيء آخر.
البيان: هذا الذي ذكرتموه يدخل في الأمور السياسية وخلافاتها المعقدة، ولكن
ماذا عن واقع المجتمع الأفغاني نفسه، هل طرأ تغير عليه في ظل حكومة رباني
سواء في مدة الرئاسة المؤقتة لمدة ستة أشهر، أو في فترة التمديد التي استمرت
لأربع سنوات؟
الشيخ غلام الله: في زمن رباني وصلت الأمور من الفحشاء والفجور والظلم
والقتل والتعدي إلى أوجها؛ بحيث كان لا يمكن أن تزيد على ذلك، فوقع في عهده
أمور ينبغي أن يُبكى عليها، ولكن رباني ما كان يملك سلطة لأن يمنع هذا، يعني
كان كل قائد يتعامل معه كأنه غير مسؤول، بينما كل قائد كأنه لا يسأل عما يفعل،
فما كان هناك أمن، وما كان رجل عادي يستطيع أن يذهب من قرية إلى قرية
أخرى إلا وكان يخاف من القتل ومن الإغارة على أمواله وعرضه.
وكان الشيخ سميع الله في ذلك الحين قد ذهب إلى رباني وتكلم معه فوعده
رباني بأن يعطيه وزارة، ثم أعطاه بالفعل وزارة الشهداء والمعوقين، فقال لي
الشيخ سميع الله: لا بد أن نذهب إلى كابول لنشغل الوزارة. فقلت له: لو كان
الشيخ مخلصاً لك وللسلفية لكان أعطاك وزارة التعليم والتربية، فماذا نفعل بوزارة
الشهداء والمعوقين؟ يبدو أنه أحس أنك لك ارتباطات بالمحسنين في الخارج فلعلك
بها تستطيع أن تجمع التبرعات، أما أنا فلا أريد الاشتراك في هذه الوزارة. ولم
تكن في عهد رباني إدارة أو لجنة أو هيئة أو وزارة للأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، لنعمل بها.
البيان: لو تجاوزنا ما وقع بالفعل، وتحدثنا عن النية المعلنة في الإصلاح،
هل كانت هناك مشاريع لخطوات إصلاحية على طريق تطبيق الشريعة؟
الشيخ غلام الله: لا، لا، ما كان هناك قدرة حتى على ذلك؛ لأن رباني كان
لا يستطيع في بعض الأحيان أن يخرج من مسكنه؛ فما كان يستطيع أن يحمي
نفسه فضلاً عن أن يطبق الشريعة، كانت المزارات والأضرحة مثلاً تزار وتعبد
بجميع أنواع العبادات وما فعل في هذا شيئاً، وكان التبرج أشد من تبرج الجاهلية
الأولى وما فعل في ذلك شيئاً، وكان الظلم وصل إلى حد نهائي، فما كانت
الرءوس في أمن ولا الأموال في أمن، ولا الأعراض في أمن، ولا أي شيء كان
في أمن، ما جاء بشيء، حتى لو أراد ذلك فما كان يستطيع، كان قطاع الطرق
كثيرين، وما كان هناك مرجع للدولة وما طبق من الشرع شيئاً، بل في حين صار
حكمتيار رئيساً للوزراء، أنا بنفسي سمعت من المذياع أن حكمتيار أعلن أنه لا بد
أن تغلق دور السينما ويمنع الفساد وفرح ناس كثيرون بأن حكمتيار سيأتي بشيء
نافع، وأمر بمنع التبرج للنساء أيضاً، ولكن في الغد أعلن مسعود نفسه الذي كان
حاكماً بالحقيقة، أن الذي أعلنه حكمتيار بالأمس من المذياع كان يمثل رأيه
الشخصي وليس رأي الدولة. فهذا ما كان عند رباني، ما فعل شيئاً حتى أذكره،
وإن شاء الله لست ممن كانت بينه وبين رباني عداوة، بل بالعكس كان رباني
أقرب إلى أهل السنة من بقية قواد المنظمات؛ لأنه كان أعلن سابقاً أنه يريد تطبيق
الكتاب والسنة من غير تقيد بمذهب معين، ولكن بعد أن صار حاكماً ما فعل شيئاً،
بل كان من كان موالياً له ولياً من الأولياء، وكل من خالفه كان واجب القتل مباح
الدم.
البيان: هناك من يقول: إن ولاية رباني كانت ولاية شرعية وأنه ما كان
يجوز الخروج عليه؟
الشيخ غلام الله: لا يستطيع أحد عنده أدنى علم أن يقول إن هذه الحكومة
حكومة شرعية، كيف تكون حكومة شرعية؟ ومدتها ستة أشهر أو شهرين فهذا
أول شيء خلاف الشرع.
البيان: لكن الستة أشهر كانت مؤقتة فقط حتى تُجرى انتخابات.
الشيخ غلام الله: نعم! ولكنه مددها بنفسه وقبضها بالقهر بعد ذلك، وقد وقع
القتال لهذا الأمر، أنه ما ترك الحكومة بعد ستة أشهر، وقال: أنا حاكم شرعي لا
أترك الحكومة. فلهذا هو ليست له صفة شرعية، ولأن الحكومة لا بد أن تكون لها
السلطة، وهو ما كانت له سلطة، والحكومة هي التي تقيم الأحكام والحدود، وهو
ما كان يستطيع ذلك بل كل من كانوا في نظام نجيب ظلوا في عهده يعملون في
الدوائر الحكومية، فقد كانت حكومته بالاسم فقط.
البيان: هل نستطيع أن نقول إن هذه الأحوال المتردية التي كانت سائدة في
عهد رباني كانت سبباً مباشراً في نشوء حركة طالبان؟
الشيخ غلام الله: نعم! هذا أقوله، وأستطيع أن أقول أيضاً: إن حركة
الطالبان تولدت عن حكومة رباني؛ لأن حكومة رباني جرَّت إلى أن توجد حركة
لمواجهة حالة الفحشاء والفجور، لمنع أوجه هذه المفاسد، وقد قلت لك قبل ذلك ما
هي الحالة التي وصلت إليها البلاد في عهد رباني، وكانت الفوضى والفساد هي
السائدة في كل شيء، وسأذكر لك أحد الأسباب في نشوء حركة طالبان، كان محمد
عمر طالباً؛ لكن ليس له كثير علم، وكان من قبل يجاهد في أحد المنظمات
الجهادية، وبعد خروج الروس ترك كل شيء بظن أن هناك حكومة مجاهدين وأن
الأمر انتهى بذلك بعد الجهاد مع الروس فعاد إلى طلب العلم في باكستان، وفي يوم
جاءه أحد أقربائه من الأفغان في مسجده وهو يبكي، فسأله محمد عمر: لماذا تبكي
هل مات لك أحد؟ قال: لا، الموت أهون ولو متنا جميعاً؛ فالأمر الذي أبكي منه
أشد. وكان الرجل من روزجان وهي ولاية من الولايات المركزية في أفغانستان في
الوسط، وبدأ يحكي قصته لمحمد عمر، فقد مرضت زوجته وأراد أن يذهب بها
إلى باكستان للعلاج فأخذها في السيارة، وفي الطريق كان كل قائد له منطقة معينة
هو حاكم فيها، تفرض الجبايات والإتاوات على الناس وعلى المارين بمنطقته،
فجعل هذا الرجل كلما مر على نقطة يوقف للتفتيش، وتؤخذ منه الجباية والنقود،
فمر على العديد من نقاط التفتيش حتى جاء إلى منطقة تفتيش أخيرة، فأوقفه أحد
القواد وطلب منه النقود، فقال ليس معي شيء وما بقي معي شيء فكل النقود
أُخذت في نقاط التفتيش السابقة، وزوجتي مريضة وأريد أن أذهب لعلاجها في
باكستان. فقال: إذن اتركها عندي وأنا أعالجها، فقال: هل عندكم مستوصف؟
قال: لا، تتركها عندي ثلاث ليال ثم ترجع فتجدها صحيحة. فعلم أنه يريد الشر،
فوقع عراك بينهما، فجاء رجاله وضربوا الرجل ضرب قتل، وظنوا أنه قتل
فألقوه في غرفة وأخذوا المرأة، ولكن الرجل أفاق في ظلمة الليل وتسلل وهرب
حتى وصل إلى الملا عمر: وحكى له القصة، فقال له الملا عمر: لا بأس امكث
هنا، وأنا بعد ستة أيام سأرجع إلى أفغانستان في قندهار، وسأشاور بعض الإخوان
ثم أرجع إليك، إن ما تحكي عنه هو انقلاب على الإسلام.
وذهب الملا عمر وجمع زملاءه من زمن الجهاد ضد الروس، وكانوا يبلغون
نحو سبعة عشر رجلاً وهم الذين ظلوا معه بعد ذلك، وكانوا وزراء في حكومته،
جمعهم وقص لهم ما حكاه الرجل وقال: لقد جاهدنا لسنوات عديدة، أفتكون ثمرة
جهادنا هذا أن نسمع عن الظلم والفجور، أرى أننا الآن مطالبون أن نعمل بما علمنا،
ليس الآن وقت زيادة العلم، بل وقت العمل بما علمنا. فاتفقوا كلهم على ضرورة
العودة للجهاد، فقاموا وأخذوا أسلحتهم وهجموا على النقطة التي أخذ قائدها المرأة،
فقتلوا بعضهم وأسروا بعضهم وفر بعضهم، وقتل قائدهم الذي فعل تلك الفعلة
الشنيعة، فلما قُتل، كان معه خمسمائة مقاتل، فانضموا جميعاً للطلبة، وقالوا إن
قائدهم هذا كان فاسقاً فاجراً ولم يكونوا يستطيعون مخالفته؛ لأنه كان يقتل كل من
يخالفه، أما أنتم فقد أحسنتم ونحن معكم.
وقرر الطلبة بعد ذلك الذهاب إلى أحد القادة الذين عرفوا بالفساد، ولكنه سمع
بالخبر وفر، وانضم الكثير من جنوده إلى طالبان، ولما عادوا إلى قندهار صارت
تحت قيادتهم بغير قتال، ثم سيطروا على ولاية هلمند، وفي ذلك الوقت كان
الوضع السياسي بين أفغانستان وباكستان غير جيد، لأن مسعود كان توجهه مخالفاً
للحكومة الباكستانية أشد الخلاف، وكانت وجهته إلى الروس أكثر من توجهه إلى
البلدان الإسلامية، وكان له وجاهة عند الفرنسيين، وكان هناك رجال فرنسيون
مستشارون يتعاونون معه، وكانت الحكومة الباكستانية تخاف أن تدوم حكومة رباني
وتظل متوجهة إلى الروس، والروس تتعاون مع الهند والهند عدوة لباكستان،
وهذا يضرها كثيراً، فلما سمعت الحكومة الباكستانية بحركة الملا عمر اتصلت به،
وعرضت مساعدته.
واستمر الملا عمر في السيطرة على كثير من الولايات فلما وصلوا إلى ولاية
حكمتيار وكان في ذلك الوقت على أشد القتال مع رباني، اغتنم رباني الفرصة
واتصل بالملا عمر هو ومسعود وسياف، واجتمعوا مع قيادات طالبان ورحبوا بهم
وقالوا لهم: أنتم خليقون وحقيقون بأن تكونوا أمراء في أفغانستان لأنكم فعلتم أشياء
كثيرة.
وقد لاحظنا أن طالبان كانت كلما سيطرت على منطقة شكلوا لجنة للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يقيمون الحدود، فاستتب الأمن بسرعة،
وأستطيع أن أقول: إن الأمن الذي أقاموه إذا لم يكن أزيد من الأمن الذي تقيمه
الدول فهو لا يقل عن ذلك، ولهذا كان الجميع فرحين لهذا الأمر بعد معاناة الفوضى
والتقاتل، فجاء رباني حسب ما سمعت، وأبرم معهم اتفاقاً أنهم إن قضوا على
أصحاب الشر والفساد ووصلوا إلى كابول فسوف يتنازل رباني لهم، وبدأ مسعود
وسياف يساعدون طالبان بالسلاح والمال، ولكن كان المقصود القضاء على
حكمتيار، فلما تسلط الطالبان على منطقة حكمتيار بعد قتال قليل، فر حكمتيار إلى
(لغمان) وأمر بانسحاب قواته معه، ولكن الكثير من جنوده انضموا إلى طالبان،
ثم تقدم الجميع نحو كابول، وطلبوا من رباني قبل أن يدخلوها أن يعمل بما قال،
فقال لهم: أنتم مجانين؟ أنتم طلبة المدارس الدينية تريدون أن تأخذوا الحكومة؟ أنا
حاكم شرعي لدى القادة والرؤساء في الداخل والخارج، الآن يجب عليكم أن تذهبوا
إلى مدارسكم وتتركوا الأمر لنا. فلما سمعوا هذا الرد، وقع القتال بينهم وبين
رباني، وفي تلك الفترة قتلوا قائد قوات حزب الشيعة علي مزاري، وكان صاحب
أكبر قوة بعد قوة حكمتيار. ففي كابول وقع قتال بين طالبان وبين الشيعة، وبين
طالبان وسياف، وبين طالبان ومسعود ورباني، دون أن يصل إلى نهاية، ولجأ
رباني إلى حكمتيار مرة ثانية، وأرسل وفداً إليه وقال: كلانا إخوان، وطالبان عدو
مشترك لنا جميعاً. ودعاه إلى كابول وعينه رئيساً للوزراء، ثم وقع الخلاف بينهما؛
لأن حكمتيار أعلن ضرورة محاربة الفساد والفجور وتقليل النساء في الدوائر
الحكومية وخطَّأه في ذلك مسعود، فوقع القتال مرة أخرى مع طالبان وسيطرت
طالبان على كابول، وأخرجت رباني وحكمتيار إلى الشمال، وخرج الشيخ سميع
الله إلى بيشاور.
البيان: هل راقبتم سلوك طالبان في الأيام الأولى لدخول كابول؟
الشيخ غلام الله: بعد عدة أشهر من سيطرة طالبان، أعلنوا القضاء على
المزارات، وقالوا هذه أشياء لا تجوز، وكان منها ما تسمعون عنه في مزار شريف،
فهناك مشهد أو ضريح منصوب على قبر يقال إنه قبر علي رضي الله عنه،
ويسمى هذا القبر في أفغانستان (السخي) وهو وصف يعنون به من يعطي كل ما
سُئل لكل من سأل، وكان هذا القبر يأتيه الرجال والنساء والمعوقون والعميان كلهم
يطمع أن هذا السخي يقضي حاجتهم، وكانت هناك عادة في أفغانستان موجودة حتى
قبل ولادتي وهي أن كل ملك في أفغانستان إذا جاء، فلا بد في أول يوم من برج
الحمل وهو أول أيام النيروز لا بد أن يرفعوا في عهده راية باسم راية مزار السخي،
وكانت الحكمة عندهم من هذا الرفع أن هذه الراية إذا رفعت وقامت ولم تسقط
فهي أمارة عدم سقوط الدولة، وإذا سقطت فهذه علامة سقوط الدولة، وكانت العطلة
تعلن لمدة ثلاثة أيام بمناسبة رفع الراية في كل عام، وكان الناس يأتون فيها إلى
ذلك المزار في زحمة شديدة لا يُرى مثلها إلا في مكة أيام الحج، فلما وصلت
طالبان وقرب عيد رفع الراية، أعلنوا أن هذا العمل غير مشروع وغير جائز،
وهذا عمل ضد الإسلام ولن يُفعل هذا بعد اليوم، ولن يستطيع أحد أن يأتي إلى
المزار خلال تلك الأيام الثلاثة، ولن توجد فيها عطلة، وكل من سيتغيب عن عمله
في هذه الأيام الثلاثة سوف يفصل من وظيفته؛ فمنعوا هذا الشرك. وهكذا فعلوا
في داخل كابول وفي جميع أفغانستان؛ فقد كانت هناك قبور تزار وتعبد، فقط
استثنوا يوم الخميس بين الظهر والعصر لزيارة المقابر الزيارة الشرعية فحسب.
وأعلنوا أن كل من زار هذه المزارات للاستعانة بها والاستمداد منها أو الاستشفاع
بها أو توسل بها فهذا غير جائز، وفاعله يمكن أن يحبس أو يضرب أو يقتل إذا لم
يرجع، هذا حدث بعد مجيئهم بعد حكومة رباني.
البيان: هل كانت لكم تجربة شخصية في معاينة هذه الأحوال، أم أنكم سمعتم
بها فقط؟
الشيخ غلام الله: نعم كانت لي تجربة، فهناك في كابول كان هناك مزار
اسمه (شاهد شامشيراه) ومعناه: مشهد الملك ذي السيفين، وكان مشهداً معروفاً
مشهوراً، وهذا الملك يقولون إنه كان يقاتل ضد الأعداء بسيفين، فلما انقطع
السيفان قتل واستشهد ودفن هناك، وكان هذا المشهد يُعبد بجميع أنواع العبادات،
وأنا كنت قد دخلت بنفسي داخله، فكان مكتوباً على أحجاره وعلى جدره الأقوال
الشركية والأشعار الكفرية، وكان مكتوباً بالبشتونية عند الضريح: (ليس لنا معاذ
ولا ملاذ ولا ملجأ إلا إياك) ، هكذا، وفي ذلك الحين جئت إلى كابل وتكلمت مع
الشيخ رباني وأيضاً كان الشيخ سميع الله موجوداً، فقلت: أنتم أعلنتم الحكومة
الإسلامية، وقلتم إنها جمهورية إسلامية، فلماذا لم تقضوا على هذه المراكز
الشركية؟ فضحك رباني وقال: يا شيخ! أنت تريد حكومة إسلامية أوتوماتيك
عليكم بالصبر، قلت: لا بد أن تكون على الأقل لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر؛ لأن هؤلاء يموتون على الشرك ولا بد من وجود من يمنعهم عن هذه
الشركيات. فضحك وقال: لا تكون الحكومة الإسلامية بشكل أتوماتيكي.
ولكني رأيت أنه لما جاء الطالبان قضوا على كل شيء، وأخرجوا كل شيء
من هذه الأضرحة، وأغلقوا أبوابها ومنعوا زيارة القبور إلا الزيارات الشرعية،
ومنعوا زيارة النساء مطلقاً للمقابر. وقد جئت في زمن الطالبان بعد أن أشيع في
بيشاور أنهم عملاء أمريكا وأنا أيضاً كنت قبل أن أجيء أفغانستان كنت أقول من
هم هؤلاء الطالبان؟ كنت أيضاً أظن إنهم عملاء أمريكا، وعملاء باكستان، وقد
كان يقال عنهم أيضاً: إنهم قبوريون مشركون وفئة خرافية أشعرية ماتوريدية، كل
هذا قبل أن آتي إلى أفغانستان، ولما أتيت إليها جئت متخفياً لأني كنت أيضاً أخاف
أن يقتلني هؤلاء القبوريون! ، فدخلت متخفياً، ولكن اتُّفق أنني عندما جئت كان
معي في هذه السيارة رجل معه طفل وطفلة وامرأة، ومعه كيس مملوء يشبه المتكأ
أو الوسادة، فلما وصلنا إلى كابول وضع هذا الرجل الكيس أمام واجهة مطعم ثم
أنزل ابنه وبنته وامرأته، ونزلت أنا أيضاً وسكنت في الفندق، وبِت هناك، وفي
الغد مررت على ذلك المكان الذي فيه المطعم، فلاحظت أن ذلك الكيس الذي
وضعه الرجل لا يزال في مكانه فقلت في نفسي: أليس هذا الكيس الذي تركه
الرجل بالأمس؟ ولم أهتم كثيراً وقلت لعله غيره، ثم بعد يومين مررت فكان
موضوعاً هناك، وبعد ثلاثة أيام وجدته موجوداً هناك أيضاً، وكنت قد نويت أن
أمر على مزار (شاهد شامشيراه) وأنا أعتقد أن طالبان قبوريون، فقلت: سأرى
ماذا زادوا في هذا المزار من الشركيات، فلما وصلت وجدت الباب مغلقاً وكان
معي أربعة زملاء كلهم ملتحون من طلبة العلم، فطرقت الباب، فجاء رجل ذو
شيبة وفتح، لكنه كان يُرى حزيناً أسيفاً.
البيان: عفواً ... ما أكملت فضيلة الشيخ ماذا حدث للكيس؟
الشيخ غلام الله: أنا آتيك بالحديث، لم أنسه، فالحديث مربوط ببعضه.. لما
دخلت إلى الضريح، دخلت منتعلاً، وكان هذا أمر ممنوع، ولكننا دخلنا بالنعال
غير مبالين، فظن الشيبة أننا من الطالبان فسكت، ودخلت إلى المزار فلم أرَ
لوحات شركية ولا أي أشياء شركية لم أرَ إلا لوحة واحدة مكتوب فيها حديث:
(كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكِّر الآخرة) ، مع لوحة أخرى
مكتوب عليها: (من جاء إلى هذا القبر متوسلاً به أو مستشفعاً به أو مستمداً به
فجزاؤه القتل) ، ففرحت فرحاً شديداً، وقلت: هذا والله الأمر الذي كنا نطلبه من
قبل، فخرجت أخاطب الشيخ الحارس، وقلت له: أين الزوار واللوحات وصناديق
النذور، أين هي؟ فظن الرجل أنني قبوري حزنت على ما جرى للقبر، فقال:
اسكت، هؤلاء طالبان لو سمعوا بك فإنهم يقتلونك، هؤلاء كفرة وهابية منعوا كل
هذه الأشياء. ففرحت فرحاً شديداً، ثم نصحته بعد ذلك، فلما فهم أن رأيي من رأي
طالبان حزن، وقال: نعم! هم يقولون مثل ما تقول. ثم ذهبت تاركاً المزار
وذهبت إلى السوق فلم أرَ امرأة واحدة متبرجة، وقبل ذلك كانت كابول التي أعرفها،
كان التبرج منتشراً فلما جاءت الطالبان منعوا كل هذا، ومنعوا النساء من العمل
في الدوائر الحكومية كلها، في الأول أعلنوا أن كل أمرأة تعمل وتحصل على راتب
ستعطى راتبها على أن تجلس في بيتها إذا كانت تربي أيتاماً. ورأيت أنهم منعوا
الأغاني والفجور.
أمضيت في كابول أسبوعاً وبعده أردت أن أرجع من كابول، فجئت إلى
الموقف الذي كان فيه الكيس عند المطعم فلم أجده، وأثناء انتظار السيارة، سألت
صاحب المطعم: كان هناك من عدة أيام كيس هنا أين ذهب؟ قال لي: يا شيخ!
لهذا الكيس قصة عجيبة. قلت وما هي؟ فقال: هذا الكيس لواحد من الرجال جاء
من بيشاور بباكستان، وكان بيته في هيرات فلما نزل في كابل نسي الكيس وذهب،
والبارحة جاء وأخذ الكيس، وكان الكيس موكأً ومربوطاً بخيط، فلما فتحه ظهر
أنه كان مملوءاً بالفلوس، فمازحته وقلت: وأين كنت أنت طيلة هذه المدة، كنت
ميتاً أو نائماً؟ فقال: يا شيخ! طالبان يمسكونني ما أحد يجرؤ على ذلك؛ لأن
طالبان يختبئون هناك وينظرون من يمد يده بالسرقة فيقطعونها. هذا الأمر أيضاً
رأيته.
فلما رجعت إلى بيشاور، ألقيت خطبة الجمعة، وقلت فيها: إن طالبان
أحسن بكثير ممن كانوا قبلهم. فأُخبر بذلك بعض زملائي وقالوا: يا شيخ! كيف
ألقيت الخطبة؟ فقلت لهم: على السُّنة وما فيها من الواجبات والسنن، قالوا: لا
نريد هذا، لكن ماذا قلت عن طالبان؟ فقلت: الذي رأيتم، فقالوا: كيف تقول هذا
وهم مشركون؟ قلت: والله شيء عجيب! كيف هم مشركون وقد رأيتهم منعوا
المراكز الشركية، هم قضوا على الشركيات، هذا رباني نفسه رفع الراية لمزار
شريف في عيد النيروز في عهد حكومته.
فقلت له: إذن هم فعلوا هذه الأشياء من منع المراكز الشركية، وأنتم ما فعلتم
وقلتم إن الحكومة الإسلامية لا تأتي بطرق أوتوماتيكية، ولكنهم لما وصلوا فعلوا
هذا الشيء؛ فكيف هم مشركون؟ ! ثم قلت: والله إن الإنسان في هذه الدنيا يحتاج
إلى شيئين: إلى الأمن للتعايش في الدنيا، والإيمان للتعايش في الآخرة، وهؤلاء
الطالبان وإن يقال عنهم في إيمانهم شيء، لكن والله جاءوا بالأمن ونطمع ونتوقع
أن يجيئوا بالإيمان أيضاً، أما أنتم فلم تجيئوا بالأمن ولا بالإيمان، هكذا قلت،
فانتشر هذا الكلام بين المهاجرين والمجاهدين.
البيان: هل التقيت أعضاء من حركة طالبان وسمعت منهم؟
الشيخ غلام الله: نعم! أنا ذهبت إلى أفغانستان مرة أخرى، والتقيت ببعض
الإخوة هناك فرأيتهم صالحين عقيدة وعملاً، فهذا محمد رباني الذي كان رئيساً
للوزراء ومات رحمه الله التقيت به، وسمعت منه والله كلاماً عجيباً غريباً، فقد
كان يريد أن يأتي بالحكومة الإسلامية في أفغانستان مئة بالمئة، ولأجل ذلك قضوا
على مظاهر الفجور والفحشاء، وأيضاً على كل مظاهر الشرك، وقد بدءوا بذلك
في قندهار نفسها، فقد كانت هناك خرقة منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، كان قد جاء بها أحد الملوك اسمه أحمد شاه أبدالي، جاء بها من بخارى
ووضعها هناك، كانت هذه الخرقة تُعبد بجميع أنواع العبادات، قولية عملية بدنية
فعلية ومالية، كانت هذه الخرقة موضوعة على مشجب محفوظ وتحتها مكان مفرغ،
كان الناس ينزلون تحتها ويطوفون حولها ويتمسحون بها ويتبركون، فلما سيطر
الطالبان على قندهار، أخرجوا هذه الخرقة، وقالوا للناس: هذه الخرقة لا يوجد
دليل على أنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لما كان هناك احتمال فنحن
نحفظها، ولكن لا يجوز لكم أن تطوفوا بها وتتمسحوا بها وتصلوا إليها. فمنعوا
ذلك وحفظوها في مكان آمن.
الشاهد أني ألتقيتهم فوجدتهم أخي الكريم بحسب ما أرى صالحين، والله أنا ما
بايعت طالبان، ولا عملت معهم ولا جاءني إلى هناك أحد منهم، ولكني أقول الحق؛
لأن المسلم لا بد أن يتكلم بالحق ولا يُفرِّط ولا يُفرِط؛ فالناس في مواقفهم من
الطالبان بين الإفراط والتفريط، بعضهم قالوا إنهم كلهم سلفيون سلفية محضة،
وهذا خطأ، وبعضهم قالوا كلهم مشركون. وهذا والله كذب، فحسب ما رأيت
الطالبان والتقيت بهم رأيتهم فيهم ثلاثة أصناف:
الطبقة الأولى: والأكثرية حنفيون تعلموا في المدارس الديوبندية، ولهم
تركيز على التوحيد في الألوهية والربوبية، وأما في الأسماء والصفات فهم أشعرية
ولكنهم غير متعصبين، وقد ناقشت بعضهم في بعض مسائل التوحيد في الأسماء
والصفات، وقلت: كيف تركتم مذهب أهل السنة والجماعة وتركتم مذهب أبي
حنيفة في العقائد وأنتم تقولون إنكم حنفية في الفروع، هل أساء أبو حنيفة في
الأصول فتركتم عقيدته؟ فكانوا يضحكون ويقولون: هكذا علمنا أساتذتنا، وقال
بعضهم: هذا الإمام ابن حجر العسقلاني أليس أشعرياً؟ ! قلت: نعم. قال: هل
تكفرونه؟ قلت: لا، قال: هذا أيضاً الإمام النووي كان أشعرياً، هل تكفرونه؟
قلت: لا، فالذي فهمته أنهم كانوا غير متعصبين وغير داعين إليها، وكانوا يحبون
السلفية.
والطبقة الثانية: والله هم سلفيون، وأعرف منهم عبد الوكيل متوكل وزير
خارجية طالبان، وهذا ابن الشيخ عبد الغفار وهذا الشيخ قتل بتهمة الوهابية، قتلته
الحكومة الأفغانية الشيوعية في المطار لما رجع من الحج، قتلوه وقالوا: إن لك
علاقة مع الوهابية، وأسرة عبد الوكيل أسرة سلفية وأنا أعرفهم منذ أربعين سنة،
وهكذا يوجد آخرون أيضاً، منهم واحد اسمه عبد الرقيب وهو خريج الجامعة
الإسلامية بالمدينة المنورة، هذا عقيدته سلفية، وكان وزير المهاجرين وأيضاً أحمد
جان، وهو أيضاً سلفي وأنا أعرفه وكان وزيراً للمعادن والصنايع وكثير منهم هكذا.
والطبقة الثالثة: يوجد فيهم من هو صوفي، ولا أريد أن أسمي أحداً منهم
حتى لا أسبب خلافاً، ولكن هؤلاء قِلة، هذا حسب ما أرى وأعلم من الطالبان،
وهذا الذي أدين الله به.
البيان: مصطلح الديوبندية، هل تلقون ضوءاً حوله؟
الشيخ غلام الله: في الهند منطقة اسمها (ديوبند) كان بها مدرسة كبيرة
أسسها بعض العلماء واشتهرت بـ (المدرسة الديوبندية) ، فكل من يتخرج من
هذه المدرسة يسمى ديوبندياً، وهم أحناف ولكن فرق بينهم وبين عامة الأحناف،
يعني عامة الأحناف فيهم بيرلورية أيضاً، وهؤلاء الديوبنديون مخالفون أشد
الخلاف للبيرلوريين إلى حد التكفير، وهم لهم تركيز على توحيد الألوهية
ويعارضون القبورية وأكثر الديوبندية ماتريدية، فهذه هي الديوبندية ومن تلاميذ
مدرسة الديوبندية كان هناك واحد من المشايخ اسمه عبد الحق، ديوبندي وهو في
بيشاور وله مدرسة هناك باسم المدرسة الحقانية على اسمه، وكان عالماً كبيراً
تدرس عليه كتب الحديث كلها، وهؤلاء الطالبان أكثرهم تخرجوا من هذه المدارس
وأما الملا عمر، فهو ليس ديوبندياً ولا حنفياً؛ لأنه يعتقد الإجمال بجميع ما جاء به
نبي الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى، هكذا يؤمن ويعتقد، وأما
إذا استفصلت منه، فربما لا يعرف الماتوريدية ولا الأشعرية، وهو كان يعلن في
كلامه ويقول: أنا أريد إقامة الحكومة التي أقامها محمد رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مدينة طيبة، وهي حكومة الكتاب والسنة. هكذا يقول. وهو ليس عالماً
ولكن يعمل بما يفتي به العلماء، ويقول: العلماء يفتون وأنا أعمل وأطبق ما يفتون
به. فهو ليس صوفياً ولا ديوبندياً ولكنه يحب السلفية وإن كان غير عالم بتفاصيلها.
البيان: ولكن هل تشعر بأنه صادق في كلامه ومواقفه؟
الشيخ غلام الله: والله يا أخي هو صادق عابد زاهد، والله إنه ليس من
أقاربي ولا من أنسابي ولا درس عندي ولا درست عنده، وليس من قريتي ولا من
بلدتي فهو من روزجان وأنا من قندز، والله حينما رأيته ظننت أن هذا الرجل مسلم
بالإسلام، وزاهد بالزهد، إذا توزع زهده وتقواه على كثير من أمثالي لوسعهم،
هذا ما رأيته عليه، فهو زاهد عابد، إذا تكلمت معه فقط يذكر الله ويدعو الله:
ياالله.. يا الله.. اللهم انصرنا.. وما النصر إلا من عند الله.. ويردد مثل هذه
الآيات.. إذا وقعت له مشكلة يكثر من الصلاة.
البيان: حدثتنا عن العلامات والدلالات الإيجابية عن تجربة طالبان، فكيف
ترون الأمور السلبية في مقابل الإيجابية؟
الشيخ غلام الله: أنتم تعرفون أنه ليس هناك في هذا العصر من ليست له
سلبيات قط، حتى في عهد صدر الإسلام كان في المجتمع سلبيات؛ وأما ما أتى به
طالبان فمصالحهم وإيجابياتهم أكثر وأكبر من سلبياتهم؛ لأني والله ما سمعت أن
ملكاً من الملوك أتى في أفغانستان بتطبيق الشريعة كما طبقها هؤلاء الطالبان؛ فهذا
القضاء على التبرج مثلاً كان من غير الممكن في الأفغانيين، خصوصاً في كابل،
وكان متعذراً عند الناس، ولكن أتى به الطالبان والحمد لله، وهذه القبور ... ما
حدث والله انقلاب كبير؛ لأن الأفغان أكثرهم جهال، ليس لهم علم، فإن كانوا
يُعذرون بالجهل فهذا أمر، وإلا فأكثرهم لا يعرفون شيئاً، ما من قرية في أفغانستان
إلا فيها قبور تعبد من دون الله، ولكن الحمد لله هم استطاعوا أن يحاربوا ذلك وقت
حكمهم، ولعلكم سمعتم عندما استولى تحالف الشمال على مزار الشريف، واحد من
الصحفيين سأل واحداً من هؤلاء أصحاب المزار وقالوا: كيف الحالة في المزار
الآن، هل الحال الآن أفضل أم الحال في عهد طالبان؟ فقال: ما تقول: أيها الأخ؟
أتدري ما حدث؟ اليوم يوم العيد لنا. قال: كيف ذلك؟ قال: لأسباب عديدة،
منها أنك ترانا ندخل المزار، وهؤلاء الكفرة منعونا خمس سنوات من الدخول إلى
هذا المشهد، والآن والحمد لله، ترانا الآن رجالاً ونساءً ندخل إلى المزار مختلطين،
والسبب الآخر لفرحنا أنك الآن لا ترى من يمنعنا من حلق اللحى، بل الناس
يقفون أفواجاً لحلق لحاهم، وسبب آخر: هذه النساء المظلومات كُنَّ مسجونات منذ
خمس سنوات.
ومع هذا نقول: لعل فيهم أخطاء، أخطاء سياسية، أخطاء دينية، ليسوا
معصومين ولا نقول إنهم سلفيون مئة بالمئة، فحتى السلفيون الذين يعدُّون أنفسهم
سلفيين ويشيرون إلى أنفسهم أنهم سلفيون، لهم سلبيات، نحن أسسنا هناك في
كونار جماعة سلفية، كان فيها خير كثير ولكن كان فيها سلبيات، كان عندنا قبور
فما استطعنا القضاء على بعضها، وكان عندنا تجارة مخدرات وما استطعنا القضاء
عليها، كان هناك من علمائنا من يشربون الدخان، فلا نستطيع أن نقول إن هناك
حكومة إسلامية تقضي على كل شيء سلبي، فالكمال لم يحدث حتى في عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكيف تفعله طالبان بعد انتهاء القرن العشرين؟
البيان: أشيع في الإعلام الدولي أن الشعب الأفغاني كان مكرهاً أو كارهاً
لحكم طالبان، ووصف بعض القادة الكبار في تحالف الشمال حكم طالبان بأنه كان
بمثابة (كابوس) على الشعب الأفغاني؛ فما تعليقكم؟
الشيخ غلام الله: هذا الكلام من وجه صحيح، ومن وجه آخر غير صحيح؛
فمثلاً الذين اضطروا لإبقاء لحاهم خوفاً كانوا غير فرحين لطالبان، والنساء
المتبرجات كن غير فرحات بطالبان، والذين كانوا معتادين على شرب الخمر أو
كانوا شيوعيين فكانوا أيضاً غير مؤيدين. أما عامة الشعب فكانوا يحبون طالبان،
فأكثر الناس على هذا كانوا راضين عن طالبان.
وأذكر لكم أن الملا عمر جمع الناس بعد القصف بثلاثة أيام وقال لهم: يا أيها
الناس! إن كنتم مللتم من هذا القصف فإنه سوف يشتد أضعاف أضعاف ما رأيتم،
فإن كنتم مللتم من هذا، سأسلم نفسي لهذا الكافر الغاشم بوش حتى أرفع عنكم هذا
البلاء والقصف، فكل الناس أجابوه بصوت واحد: لا. وقالوا: والله لو بقي منا
رجل واحد لما تركنا مقاومة الأمريكان، فهذا شعور عامة الناس، ولا عبرة بالفساق
وأصحاب الفجور والقبور.
البيان: مما يأخذه بعضهم على طالبان، أنها لم تشرك في حكومتها عناصر
من القوميات أو العرقيات الأخرى غير البشتون؛ فما رأيكم في هذه المسألة؟
الشيخ غلام الله: هذا الزعم، هو إما أن يكون ممن يجهل أحوال أفغانستان
وأحوال طالبان، وإما أن يكون ممن يريد العناد والتشويه لسمعة طالبان؛ فطالبان
من جميع المسلمين في أفغانستان من جميع القوميات والجنسيات، نعم أكثرهم
البشتون؛ لأن سكان أفغانستان 65% من البشتون، فطبعاً يكون البشتون أكثر،
فإن يريدوا أن يقولوا إن البشتون أكثر فهذا صحيح، وأما إذا قالوا إنه لا يوجد في
صفوف قادة طالبان إلا البشتون؛ فهذا كذب محض.
البيان: انزعج الناس من الانسحابات المتتالية لطالبان بدءاً من مدينة مزار
الشريف ثم كابول ثم هرات وقندز وغيرها، فقد أشاع الإعلام أن هذا ضعف
واستسلام وهزيمة؛ فهل هناك تفسير آخر غير هذا التفسير الشائع؟
الشيخ غلام الله: ليس هناك ضعف؛ لأن كل هذه الانسحابات لم يقع قتال
بينهم وبين قوات الشمال حتى يقال إنهم أخرجوهم، هم خرجوا بأنفسهم، ولهذا فقد
أصبحوا هم وأمريكا محتارين، ويتساءلون: أين هم طالبان.. أين اختبؤوا؟
صحيح أنه وقع هناك قتلى ومصابون، منهم ومن أعدائهم، ولكن طالبان ليس
عندهم الآن إعلام حتى يعلنوا الحقيقة؛ فالإعلام الذي ينشر الآن كله من أعداء
طالبان وأعداء المسلمين، وعندما تسمع من نفس الطالبان أنفسهم فهناك أمر واضح
يعرفه الأعداء والأصدقاء أن الطالبان لا يكذبون، أما هؤلاء الأعداء فإنهم يكذبون.
البيان: نشكر فضيلة الشيخ غلام الله على تلبيته دعوة (البيان) لهذا
الحوار، ونسأل الله أن يتقبل منا ومنه خالص الأعمال وصادق الأقوال وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(170/86)
آفاق
أفق
د. عبد الكريم بكار [*]
إن كلمة (اقرأ) أول كلمة نزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن
نفقه الدلالة العميقة لذلك في صورة اكتشاف لأهمية العلم والمعرفة في وجودنا
المعنوي والمادي، فنحن بحاجة إلى العلم ليس من أجل الانتفاع بما سُخِّر لنا أو
الحصول على فرصة عمل فحسب؛ وإنما نحتاجه قبل ذلك في فهم أنفسنا، وفهم
طبيعة علاقتنا بخالقنا جل وعلا، إلى جانب فهم العصر الذي نعيش فيه والتحديات
التي تواجهنا.
إن أذهاننا لا تدرك الأشياء على نحو مباشر، وإنما عبر وسيط معرفي مكوَّن
من مبادئ عقلية وعملية ومعارف وخبرات حياتية. وعلى مقدار ما نقرأ ونتعلم
ونجرّب، يتحسن مستوى ذلك الوسيط، وبتحسنه يتحسن فهمنا للوجود، ومعه
تتحسَّن نوعية الحياة. ومع أن العلم ظل يتمتع بنظرة الاحترام والتقدير على مدار
التاريخ، ولدى كل الأمم المتمدنة، إلا أنه يكتسب الآن مكانة استثنائية على
المستوى العالمي؛ حيث إن الأمم كانت تنظر إليه على أنه شيء مواز للعقل
والحكمة والذكاء الفطري، وبعض الناس كان يفضّل الذكاء على العلم، وبعضهم
يرجح العلم على الذكاء. وقد كان ذلك في الماضي مقبولاً نظراً لضآلة ما كان
متوفراً من المعارف والعلوم، أما اليوم فإن هذا الكم الهائل من المعارف المتكاثرة قد
جعل الموازنة غير واردة؛ حيث إن كل التراكمات والتنظيمات والترتيبات
الحضارية الموجودة الآن مدينة على نحو أساسي للعلم والخبرة والتجربة، كما أن
التعامل مع المعطيات الحضارية والاستفادة منها ومواجهة مخاطرها لن تستقيم من
غير المعرفة المعاصرة، ودور الذكاء الفطري في ذلك هامشي جداً.
إن النظرة الحديثة للعلم لا تجعله في موازاة العقل، بل تجعله المصدر الأعظم
لتكوين العقل بما هو مبادئ ومفهومات؛ ولهذا فإن تحسين مستوى المعرفة
والاطلاع والتثقف لدى الشباب المسلم يجب أن يستحوذ على الكثير من اهتمامنا
وجهودنا، وعلينا هنا أن نعترف أن مؤسساتنا التعليمية قد أخفقت إخفاقاً ذريعاً في
إرساء تقاليد ثقافية تمجِّد الكتاب والقراءة، وترعى حب الاستطلاع لدى الأطفال
وتحميه؛ حيث إن هناك الكثير الكثير من البيوت التي ليس فيها مكتبات خاصة،
كما أن هناك مكتبات كثيرة ليس فيها أي شيء يناسب الأطفال، ولا يخفى إلى
جانب ذلك أن هناك كثيراً من المكتبات التي لا يطالع أصحابُها كتبَها، فهي في
نظرهم جزء من أثاث البيت، وجانب من تكميله الشكلي؛ ولذا فإن الوقت الذي
يقضيه الإنسان العربي في القراءة هو تقريباً عُشْر الوقت الذي يقضيه فيها الإنسان
في الدول الصناعية. يقول أحد الباحثين: إن تعليم القراءة للأطفال يبدأ منذ سن
ستة أشهر. وإذا أردت أن تربي قارئاً جيداً فإن عليك أولاً أن تتعرف على مهارات
السرد القصصي؛ أي أن نتعلم كيف نقدم المعرفة للصغار كما يقدم القاصّ الماهر
حكاياته المشوقة والممتعة لمن يقصّ عليهم. والقراءة للأطفال ومع الأطفال ذات
أثر بالغ الفعالية في نموِّهم الذهني والوجداني. والمهم ليست الكمية التي نقرؤها لهم
ولكن المهم تشجيع الطفل على المشاركة أثناء القراءة وإلا فإن استفادته من القراءة
ستكون شبه معدومة.
فهل آن لأمة (اقرأ) أن تجدد علاقتها الفاترة بالكتاب وبالمعرفة، وأن تتعلم
كيف تقرأ؟ !
__________
(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.(170/96)
المسلمون والعالم
التحالف غير المقدس
بين أصحاب الشَّمال وأصحاب الشِّمال
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
يبدو أن المثل الشهير: (قتلت يوم قُتل الثور الأبيض) أصبح سيد الموقف
على الساحة الإسلامية والعربية بعد تتابع الأحداث على الساحة الأفغانية؛ حيث لم
يعد الحديث عن (ما بعد طالبان؟) مجرد حديث عن ترتيب إعادة الأوضاع داخل
أفغانستان سياسياً وعسكرياً، بل أصبح حديثاً عن (ما هو الهدف التالي) بعد
أفغانستان؟
بات معلوماً أن سقوط أفغانستان تحت أيدي أعدائها من جيوش الحلفاء
الغربيين لم يكن صناعة أمريكية وغربية بقدر ما كان جريمة داخلية أفغانية شمالية؛
فالحملات الجوية الأمريكية على فظاعتها وضخامتها لم تكن لتصل إلى تحقيق
أهدافها لولا تلك النصرة المطلقة والولاء المفتوح من (حزب المنافقين) داخل
أفغانستان وخارجها! فكيف كان يمكن لحكومة طالبان أن تصمد تحت آلاف الأطنان
من القنابل العملاقة من عنقودية وانشطارية وذكية وغبية لم يسبق استعمالها كماً
وكيفاً في أي حرب سابقة، بينما هي أي طالبان تتلقى الخناجر المسمومة في
ظهرها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ممن يفترض أنهم إخوة الدين والعقيدة في الداخل
والخارج؟ !
كيف كان لها أن تصمد وهي أضعف وأفقر دولة في مواجهة أقوى وأطغى
دولة، مدعومة لا أقول بدعم الغرب كله فقط بل بدعم الغرب والشرق والشمال
والجنوب من العالم!
كيف كان لها في ظل هذه الظروف المظلمة أن تجمع بين أمرين يستحيل
الجمع بينهما وهما: إدارة حرب مع ذلك الحلف العالمي الأممي القوي المتحد، مع
إدارة السلطة في ذلك المجتمع القبلي الضعيف غير المتحد.
كان لا بد لحكومة طالبان أن تنسحب من معركة الإدارة إلى إدارة المعركة،
بمعنى أن تتفرغ لمعركة المستقبل مع الغزو الصليبي الجديد الذي جاء على ظهور
أفغان قاموا بنفس الدور الذي قام به (بابراك) و (حفيظ الله) و (نجيب الله) مع
الشيوعيين. كان عليها أن تترك إدارة أمور السلطة إلى من لا همَّ لهم ولا هدف إلا
العودة للسلطة.
هل تنجح طالبان في إعادة رص صفوف المجاهدين في أفغانستان لمواجهة
الحملة الثالثة الأمريكية لدحرها على أرض الأفغان بعدما دُحرت الحملة الأولى
للبريطانيين والثانية للروس الشيوعيين؟ ! هذا ما ستجيب عنه الفصول المقبلة من
الرواية الأفغانية المعاصرة. ولكن قبل أن تتضح معالم الفصول الآتية من تلك
الرواية، لا بد من إعادة التذكر والتذكير بحقائق عاشها الجيل الحالي لا تقبل أن
يغالط فيها أحد؛ لأنها لم تُنسَ أو تنسخ بعد من الذاكرة الجمعية القريبة. إن
استحضار ذلك التاريخ الماضي القريب، سيعين كثيراً على استشراف التاريخ
المستقبل غير البعيد.
سيذكر التاريخ الذي لم يكتب بعد حقائق قريبة عايشها جيلنا منذ سنوات قليلة
وسيدوِّن بمداد الدم والندم كيف أن (قصة طالبان) اختصرت واقعاً مأزوماً لأمة
تتخبط في إدارة صراعاتها غير مدركة لطبيعة الفرق بين عدوها ووليها، وما
يصلحها وما يفسدها، متجاهلة في ذلك سنن الله الشرعية والكونية ومكانها في إدارة
دورات التاريخ، وهي إذ تفعل ذلك تصادم هذه السنن بظنها أن قدر الله سبحانه
يجري حسب ما تريد لا حسب ما يريد.
إن تاريخ طالبان القصير كحركة ثم دولة، ثم تاريخ التعامل معها بعد ذلك،
يفصح عن مواطن خلل خطير تعيشه أمة الإسلام في واقعها الحاضر، وقد لا
تتضح معالم هذا الخلل كاملة إلا بعد فترة إضافية من الأحداث الحالية، حيث
ستظهر آثار الخذلان الجماعي الذي قوبل به مشروع الدولة الإسلامية في أفغانستان،
فماذا يمكن أن يقوله التاريخ عن تلك الحقبة القصيرة من عمر طالبان في عمر
الأمة الإسلامية الطويل؟
شهادة التاريخ بين المواقف والمواقع:
- سيذكر التاريخ أن مجيء طالبان سُبق بوقوع ملحمة عظيمة على أرض
أفغانستان، بين جيش من أقوى وأكبر جيوش العالم وهو الجيش السوفييتي وبين
رجال تنادوا لجهاد العدو الملحد تحت رايات متعددة لم تجمعها إلا روح الفداء للدين
ولحرمات المسلمين.
- سيذكر التاريخ أن هؤلاء الرجال استمدوا قوتهم وقتذاك من مواقفهم، وكان
على رأس هذه المواقف الاعتصام بحبل الله أمام أعداء الله، وأنهم من أجل الثبات
على تلك المواقف أفقدوا السوفييت كل مواقعهم في داخل أفغانستان وأخرجوهم منها،
ثم أخرجوهم من التاريخ كله فصار الناس يقولون: (الاتحاد السوفييتي السابق) .
- سيذكر التاريخ أن نفس هؤلاء المجاهدين، أو قادتهم بمعنى أدق، فقدوا
(المواقف) بعد أن استعادوا (المواقع) ، وشرعوا في الاقتتال فيما بينهم لفترة
امتدت سنوات بعد فتح كابل، قتل خلالها نحو خمسين ألفاً من الأفغان، في عملية
إفساد كبرى لطخت وجه الجهاد، لا في أفغانستان فقط بل في العالم كله، وصار
الإسلاميون في العالم أجمع يستحيون ويخجلون مما يحدث في أفغانستان على أيدي
(المجاهدين السابقين) ؛ حيث رأينا ولم ننس أن الدين الذي قاموا من أجله لم يُر
أثره على الأرض المستعادة، فلم يستتب الأمن، ولم تطبق الشريعة، ولم يقض
على آثار الدمار السياسي والثقافي والاجتماعي الناتج عن الغزو الشيوعي، بل
أضيف إليه دمار عسكري جديد اشتركت في إيجاده كل الفصائل المتناحرة التي لم
تقبل بنصح ولم تقدم على صلح [1] .
- سيذكر التاريخ أن جيلاً تالياً من طلاب الشريعة الأفغان الذين شاركوا في
الجهاد السابق ضاقوا ذرعاً بتضحية القادة بالمواقف والمبادئ، فشرعوا يسعون إلى
استعادتها وهم لا يملكون غيرها، فاجتمعت عليهم القلوب في قندهار وما حولها، ثم
تتابعت المدن والقبائل في طلب النزول على حكمهم، وطفقت المناطق تتساقط بين
أيديهم دون إراقة دماء في الغالب حتى دخلوا العاصمة نفسها بعد فرار الفرقاء
المتشاكسين منها.
- سيذكر التاريخ أن هؤلاء القادمين الجدد، شرعوا بعد استعادة (المواقع)
في تثبيت (المواقف) التي جاءوا من أجلها، وأنهم تدرجوا في ذلك بنجاح مشهود،
فأعادوا الأمن ووحدوا الأقاليم وجمعوا القبائل المتناحرة تحت قيادات موحدة،
ونزعوا السلاح منهم حتى لا يتقاتلوا فيما بينهم، وبدؤوا في إعمار البلاد وترميم ما
تهدم من مرافقها وسط ظروف حرجة من فقر قاتل، وحصار قائم، وجوار متربص،
ومجتمع داخلي مهلهل، وخارجي متنكر.
- سيذكر التاريخ أنهم حققوا بعد إنجاز تلك الأهداف العظام، أهدافاً أخرى لا
تقل عظمة.. أقاموا الحدود الشرعية، وأبطلوا الطقوس البدعية، وقضوا على
مظاهر الفسوق والفجور وأغلقوا ما كان لها من دُور، مع إنشاء وزارة خاصة باسم
(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وأنهم بعد أن أقاموا الشعائر الظاهرة
للإسلام، قضوا على مظاهر الكفر والوثنية بتحطيم الأصنام وكسر الأوثان،
وأجهزوا على زراعة وتجارة الأفيون التي استوطنت أفغانستان في كل العهود التي
سبقتهم بما فيها عهد رباني الذي أبقى حتى على الرئيس الشيوعي السابق (نجيب
الله) ولم يقدمه ولو للمحاكمة!
- سيذكر التاريخ أن تلك الحكومة الناشئة، وبالرغم من كل ما أنجزته من
إصلاحات في زمن قياسي قصير، نالت الحظ الأوفر من عداء ما يسمى بـ
(المجتمع الدولي) ؛ حيث لم يعترف لها بفضيلة واحدة من تلك الفضائل، ولم ير
فيها إلا أنها (حكومة متزمتة) ؛ لأنها قدمت توظيف الرجال على النساء في مجتمع
معدم، وأرجأت تعليم البنات في بلد خرج المستعمرون الشيوعيون منه بعساكرهم
ولكنهم بقوا بمناهجهم. فقرر هذا (المجتمع الدولي) فرض حصار ضار ظالم على
ذلك البلد المكلوم المظلوم براً وجواً ليزيد في إفقاره وإضعافه.
- سيذكر التاريخ أن أوْلى من كان ينتظر منهم الاهتمام والإنصاف وهم
الإسلاميون في العالم بالغوا في تجاهل الواقع الجديد في أفغانستان، حيث قضوا
سنوات يتساءلون: من هم طالبان؟ ! وبعد أن عرفوا؛ قضوا سنوات أخرى
يتساءلون: من وراء طالبان؟ ! وبعد أن عرفوا بعد عاصفة الأوثان أن لا أحد
وراء سياسات ومواقف طالبان، بدؤوا يتساءلون: ما حكم ما يجري من طالبان؟ !
دون أن تمتد يد للمعونة، أو يقدم رأي للمشورة، أو يجري تفاعل وحوار ولو من
باب النصيحة إلا ما قل وندر، مع أن أكثر جماعات هؤلاء الإسلاميين في العالم
إنما كانوا ولا يزالون يعملون من أجل هدف رئيس معلن وهو إقامة دولة الشريعة
الكاملة، فلما قامت لهذه الشريعة دولة ناشئة تطلب النصرة والتأييد، قُوبلت
بالتجاهل والإهمال من المسلمين، وبالجحود والكنود والنكران من الكافرين.
- سيذكر التاريخ أن ذلك الجحود والكنود على المستويات الدولية والعربية
والإسلامية بدأت بوادره قبل أن تُرمى طالبان بتهمة الإرهاب، وقبل أن يعود إليها
الأفغان العرب أو يلوذ بها أسامة بن لادن أو ينشأ فيها تنظيم القاعدة، أو تدمر على
أرضها أصنام بوذا، بل إن تلك المواقف العدائية من الحكومة الأفغانية الناشئة إنما
كانت انعكاساً في الغالب لآراء الدوائر المتربصة بالإسلام في كل من واشنطن
وموسكو ولندن وتل أبيب، تلك الدوائر التي كانت قد حسمت الخيار في أفغانستان
لصالح مستقبل علماني صرف يعود بها إلى عهد المَلَكية الليبرالية الفاسدة أو عهد
الجمهورية الشمولية البائدة تحت مظلة الظلم العالمي ممثلة في منظمة الأمم المتحدة.
- سيذكر التاريخ أن الحصار السياسي والاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة
على أفغانستان لسنوات عديدة قبل أحداث سبتمبر 2001م قد أسهم بدور كبير في
عزل حكومتها عن (الانفتاح) على العالم كما يطلب هذا العالم، وأن إصرار تلك
المنظمة الدولية على عدم إعطاء إمارة أفغانستان مقعدها بين الأمم رغم سيطرتها
لخمس سنوات على معظم أراضي أفغانستان، قد أسهم في تأسيس العداء وتكريس
الكراهية بينها وبين المزيد من دول العالم، حيث جوبهت بقطع أو تجميد العلاقات
وغلق وإلغاء السفارات، فانقطعت بذلك فرص الحوار والتفاهم، وعطلت منابر
الخطاب تأثراً وتأثيراً حتى وقعت أحداث نيويورك وواشنطن.
- سيذكر التاريخ أن تلك الأحداث الكبرى التي نفت طالبان بشدة ضلوعها
فيها، قد سارعت أمريكا من اليوم الأول في توجيه أصابع الاتهام فيها إلى ضيوف
أفغانستان، ثم بدأت من قبل أن تقدم أدلة ثبوتية في المطالبة بتسليم من
اتهمتهم [2] مهددة حكومة طالبان بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم تسلِّمهم من
دون قيد أو شرط، فخالفت بذلك أحكام الشرائع والقوانين والأعراف في العالم كله
بما فيه أمريكا، ورفضت في الوقت ذاته كل عروض الحكومة الأفغانية بتقديم من
اتهمتهم أمريكا للمحاكمة في أفغانستان أو في بلد ثالث أو تسليمهم إلى منظمة
المؤتمر الإسلامي.
- سيذكر التاريخ أن حكومة أفغانستان استعملت حقها في رفض هذا الإملاء
المستكبر، وأبى علماؤها أن يفتوا بجواز ما لا يجوز في دين الإسلام، مفتين في
الوقت نفسه بالاشتراك مع علماء باكستان بوجوب جهاد من يتعدى على أرض
أفغانستان من الأعداء الخارجيين بذريعة القبض على المتهمين بلا بينة، وأفتوا
كذلك بردة من يتحالف مع النصارى في حربهم ضد بلد إسلامي يعلن أن الشريعة
هي منهاجه وسبيله.
- سيذكر التاريخ أن أمريكا نفذت تهديدها، وصبت جام غضبها وحقدها
بالطائرات من فوق السحاب دون أن تجرؤ على الاقتراب من الأرض، وأنها دكت
المدن والمواقع على مدى ما يزيد على شهر في تركيز منعدم النظير من القصف
ليلاً ونهاراً، دون أن يكون للأفغان من المقاومة الأرضية ما يستطيعون أن يطاولوا
به تلك الهجمة الجوية التي كان يكفي مثلها في ظروف مشابهة أن تُسقط مدناً مثل
موسكو وباريس ولندن، لا كابل أو مزار شريف أو قنذر فقط! !
- سيذكر التاريخ أنه مع كل هذا الإرهاب الشيطاني الصليبي المحمول جواً
والمحمي أرضاً، فإن الأمريكان ما كان لهم أن يستطيعوا إكمال المهمة التي جاؤوا
من أجلها إلا بحسم بري يقوم به جند الصليب من واشنطن ولندن وباريس وموسكو
وأستراليا وكندا وغيرها، وهو ما كان سيعني حشد المسلمين في العالم كله ضد
هذه الحرب وهؤلاء الأعداء ... ولكن ... سيذكر التاريخ ...
- سيذكر التاريخ أن هناك من (تبرع) بالقيام بهذا الدور الخطير نيابة عن
بروتستانت أمريكا وكندا وأستراليا، وأرثوذكس روسيا وألمانيا، وكاثوليك فرنسا
وإيطاليا، وشيوعي طاجيكستان وأوزبكستان، ووثنيي الهند والصين واليابان،
حيث عرض مغاوير (المجاهدين) سابقاً، خدماتهم على أمريكا وحلفائها لقاء ثمن
بخس كراسي معدودة، هم أول من يعلم أن الأعداء لن يكافئوهم بها، مهما والوا
وتقربوا وتزلفوا على حساب عقيدة أمتهم وكرامتها وحرماتها.
- سيذكر التاريخ أن قوى التحالف الشمالي أو ما يسمى بأحزاب الجهاد
(سابقاً) قاموا بالمهمة شر قيام، وأقروا أعين أعداء الإسلام بما لم يكونوا يحلمون
به، فقد رآهم العالم ولسوء حظ الأمة وهو يقدمون للدنيا صورة الإسلام الذي
يحملونه ويفهمونه، رأى الناس في العالم جثثاً تُركل وتُضرب بأعقاب البنادق،
ورأوا شعائر تهان ولحى تنزع وأسرى يُعذبون ويقتلون بالمئات في المعتقلات مع
إسناد جوي أمريكي يلاحق المجاهدين حتى في الأسر، ورأى العالم ويا لعار ما
رأى رأى جنوداً من مغاوير الشمال يجردون رجالاً من سراويلهم؛ ليبالغوا في
ضربات الطعن الفاجر بحِراب البنادق قبل الإجهاز بالطلقات والرشاشات!
- سيذكر التاريخ أن هؤلاء المنافقين ظلوا مع كل ذلك يدَّعون أنهم مجاهدون،
مع أن نكايتهم في الإسلام والمسلمين كانت أعظم من كل ما فعله النصارى على
مدى شهر من بدء الحرب، فالجميع شهدوا أن قلوب الأمة ما أصابها الحزن
والوهن والانكسار والإحباط من الضربات الجوية الأمريكية على فظاعتها وجسامتها
بقدر ما أصيبوا بذلك من جراء الهجمات البرية (الجهادية) التي جاءت بـ (الفتح
المبين) هدية للصليبيين، على ظهور دبابات الروس وتحت قصف طائرات
الأمريكان والبريطان.
- سيذكر التاريخ أن جنود طالبان لم يشاؤوا أن تتلوث أيديهم بدماء إخوانهم
الخونة، مع أنهم كانوا يستطيعون ذلك بما كان معهم من سلاح؛ آثروا الانسحاب
به لكي تدخر الأرواح والذخائر والأسلحة لمعركة (ما بعد التحالف الشمالي) ،
حيث ظهر للجميع أن أفغانستان وقعت أو هي على وشك الوقوع صريعة غزو
صليبي جديد [3] ، ضم آلافاً من المقاتلين النصارى المحتلين الذين بدءوا بالفعل
بالنزول على أرض أفغانستان وانتشروا في مرافقها العسكرية والاستراتيجية بدعوى
تأمين الأعمال الإغاثية! واستئصال الجيوب الجهادية.
- سيذكر التاريخ أن عملية التضحية الكبرى بـ (الثور الأبيض) شارك
فيها علمانيو باكستان، وروافض طهران، وأزلام كثير من البلدان التي رأت في
(تشدد) طالبان سبباً كافياً في ارتكاب أصرح أعمال الكفر وأصرخ أنواع العدوان
المشترك مع حَمَلة الصلبان، وسيذكر التاريخ أنهم مع ذلك ظلوا يتلمظون بالدماء
التي ولغوا فيها، ويتشفون في الحرمات التي انتهكوها عن طريق إعلام رخيص
مأجور حرص طوال الحرب على مراعاة كل المشاعر إلا مشاعر الأمة الإسلامية
المصدومة مما يحدث.
وقفة لا بد منها:
قلبت جرائم تحالف الشمال في أفغانستان الأوراق كلها لغير صالح الإسلام في
المرحلة الحالية، وحولتها من (ملاحم) منتظرة ضد الصليبيين، إلى «فتن»
سوداء بين المسلمين، واستطاع حزب المنافقين وحده كما سبق القول أن يقوم بما
عجز عنه الأمريكان والبريطان والروس والهندوس، لا مستقلاً عنهم ولكن خادماً
لهم، وحق في هولاء المنقلبين على أعقابهم قول الله تعالى عن المنافقين في كل
زمان ومكان: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) نعم،
فالغرب الصليبي عدو، والشرق الملحد عدو ولكن طابور المنافقين في أنحاء
العالم (هم العدو) ، هكذا كان الشأن وقت الحملات الصليبية والتتارية فيما مضى،
وكذلك كان الشأن في الحملات الصليبية الاستعمارية المعاصرة، فلم يحدث أن جاء
المستعمر الأجنبي إلى بلدان المسلمين إلا راكباً ظهور أقوام من بني جلدتنا المتكلمين
بألسنتنا.
إننا برغم كل ما يحدث، لا بد أن نتجاوز مرارة الألم، أو نخففها على الأقل
بشيء من حلاوة الأمل في الله صاحب الجلال والعظمة، والرحمة والحكمة الذي
قال وقوله الحق: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن
يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الكَافِرِينَ] (آل عمران: 139-141) . إنها آية المرحلة وعنوان الحدث الذي
تعايشه الأمة في هذه الآونة.
إنه يعز علينا أن نصف أناساً كانوا بالأمس القريب مجاهدين، بأنهم أصبحوا
اليوم بالنفاق متهمين أو متلبسين؛ فنحن بين خيارين: إما أن نكذب حقائق ديننا،
ونسفه عقولنا فنصف هؤلاء بـ (المجاهدين) كما يشتهون، أو نتجاوز المجاملة
الضارة والانخداع الظاهر، فنتخذ من هؤلاء الموقف الذي يستحقون من خلال
الأحكام الشرعية الثابتة من النفاق وأهله. نحن لا نتحدث هنا عن أشخاص وأعيان
بالضرورة، ولكن نتحدث عن راية، راية جاءت بالفساد والإفساد تحت مسمى
الجهاد، فماذا تسمى هذه الراية، وبماذا يوصف هذا الموقف الذي نعده متجاوزاً في
السوء شؤم الموقف الباكستاني ولؤم الموقف الإيراني، وأنانية ودونية المواقف
الأخرى العتيدة العنيدة في كرهها للدين وأهل الدين. إن الله تعالى الذي أمر
الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه بجهاد الكفار والمشركين، أمره أيضاً بجهاد
المنافقين، فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]
(التوبة: 73) ؛ وإذا كان جهاد الكفار والمنافقين طريقه السيف والسنان، فجهاد
المنافقين إنما يكون بالحجة واللسان، وجهادهم باللسان ليس جهاد مماراة ومداراة أو
مماحلة ومجادلة، بل هو جهاد الإغلاظ عليهم والإعلام بفضائحهم. قال القرطبي
في تفسير تلك الآية: (الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيه أمته من
بعده، قال ابن عباس: «جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم
تستطع فاكفهر في وجوههم» ) [4] .
قد يستكثر بعضنا وصف (المجاهدين القدامى) بالنفاق، ولكن دعونا بالله
نسمي الأمور بأسمائها، فبماذا يمكن أن يوصف التولي الظاهر للكفار والمشركين؟
وبماذا يسمى القتال تحت إمرتهم وبأسلحتهم لتنفيذ خططهم وتحقيق بغيتهم؟ وبماذا
يوصف من وصفوا رفاق الجهاد السابق من العرب والمسلمين بـ (الإرهابيين) [5]
واستحلوا بذلك دماءهم، واستهانوا بحرماتهم، وتعاهدوا على خذلانهم وإسلامهم؟
بماذا يوصف من وصفوا إقامة الحدود الشرعية، ومنع المزارات الشركية،
ومحاربة مظاهر الخرافة والانحراف بـ (الكابوس) ؟ وبماذا يوصف من ابتهجوا
مع الرعاع بمظاهر حلق اللحى، ونزع الحجاب، وإعادة مظاهر الفسوق والمروق،
وبادروا برفع الحظر السريع عنها حتى قبل أن تنتهي المآتم وتجف الدماء وتبرد
المصائب؟
مخاوف ومحاذير:
هناك عدد من المحاذير لا بد من التحسب لها ونحن نراقب ما يحدث في
أفغانستان بعد سقوط معظمها بأيدي تحالف النفاق تمهيداً لإسقاطها تحت أيدي تحالف
الكفر الظاهر الذي لن يرضى دون تحويلها إلى دولة علمانية صريحة، ومن هذه
المحاذير:
أولاً: محاولة حزب المنافقين تسويغ وتسويق ما فعلوا أو ما سيفعلون على
أنه استكمال لـ (مسيرة الجهاد الأفغاني) ، بادعاء أنهم جاؤوا لإقامة دولة الإسلام
الحقيقية في أفغانستان؛ فقد كفونا مؤونة الانتظار لمعرفة ملامح تلك الدولة التي لن
تدوم بل قد لا تقوم؛ لأن الكفار لن يرضوا عنهم كما لا بد أن يفهموا حتى يتبعوا
ملتهم اتباعاً كاملاً.
ثانياًً: انقسام الإسلاميين بشأن ما يدور في أفغانستان، وتعميق الشروخ بينهم
بسبب اختلافات المواقف بحسب المعايير الحزبية والقناعات الفكرية الشخصية
والجماعية، ولا علاج لهذا المحظور إلا بتحرير الولاء وتجريد البراء بحسب
المعتقد الصحيح والمسلك القويم، وإطلاق شرعة الحب والبغض في الله من أسر
الهوى وميل العاطفة وتحكمات الانتماءات والتحالفات، فحبنا وبغضنا لا ينبغي أن
يخضع لقوالب ثابتة لا تتغير بتغير أحوال البشر، بل ينبغي أن يكون بحسب
استقامتهم على ثوابت الدين أو انحرافهم عنها.
ثالثاً: إمعان الإعلام الانتهازي في الضرب على وتر التنفير من النهج
الإسلامي في الحياة والحكم، استغلالاً لمحنة الطالبان الذين صُورت تجربتهم على
أنها (فهم متزمت للدين) وأدينت لأجل ذلك، ومن ضمن ذلك أحكام ثابتة في
الإسلام ومعلومة منه بالضرورة، لم تكن من اختراع طالبان، ولا من بنات أفكار
زعمائهم، مثل حظر السفور والفجور، وإقامة الحدود الشرعية، وفرض القيود
على الممارسات البدعية والشركية وغير ذلك؛ فالخوف هنا أن تُعد محاربة تلك
الأحكام من ضمن (محاربة الإرهاب) في كل أنحاء العالم.
رابعاً: قد تكون تجربة (حزب المنافقين) في أفغانستان، مغرية لأحزاب
أخرى من المنافقين في أنحاء العالم الإسلامي، يريدون ركوب موجة العداء العالمي
للإسلام لتحقيق أهداف طالما عجزوا عن تحقيقها أو حتى البوح بها، وهذا
يستوجب أعلى درجات الوعي والحذر؛ فقد تتكرر تجارب استدعاء الكفار بأشكال
أخرى وتحت ذرائع ومسميات مختلفة، قد لا تكون بالضرورة طمعاً في السلطة كما
هو الشأن في أفغانستان وقد لا تكون باسم (محاربة الإرهاب) بل قد تكون باسم
محاربة (التزمت) !
خامساً: أن تظل الأمة بعلمائها وأمرائها على نفس الحال من تجاهل الخطر
الحقيقي البعيد انشغالاً بالخطر الوهمي القريب؛ فالدور قادم على (الثيران السود)
بعد أن شاركوا بالصمت على الأقل في جريمة افتراس الثور الأبيض، وهنا نقول:
إن كل ما تم به تسويغ الحرب في أفغانستان، سيتم به تسويغ الحروب في غيرها
من البلدان، والذين شاركوا في تسويغ تلك الحرب الأولى، سيعجزون عن
التصدي لتسويغها في الحروب التالية وبخاصة إذا نشبت في العراق أو باكستان أو
إيران أو سورية أو لبنان أو غيرها.
وأخيراً: من أكبر المحاذير أن تطول بالإسلاميين حالة الإحباط واليأس التي
دبت بينهم بعد الدخول السريع لميليشيات النفاق لأرجاء أفغانستان تحت وقع الهجوم
الجوي الضاري بسلاح الطيران الأمريكي الذي أرغم طالبان على إخلاء مواقعها في
المدن تجنباً للمزيد من تدميرها، وهنا نقول: صحيح أن من واجب المسلمين أن
يتداعوا لإخوانهم بالأسى والألم وبالحمى والسهر كالجسد الواحد إذا اشتكى منه
عضو، لكن من واجبهم أيضاً ألا يقعد بهم هذا الألم عن استشراف بارقات الأمل
التي كانت ملء جوانحهم حتى وقت قريب، حيث أراهم الله تعالى أنه إذا أخذ
القرى وهي ظالمة، فإن أخذه أليم شديد، وأنه إذا أراد شيئاً يسر له الأقدار،
وأعمى عنه الأبصار، وهيأ لأجله جنده وأنفذ وعده، فلا ينبغي لهم أن يهنوا أو
يحزنوا بوهن أو حزن مفقد للأمل أو مقعد عن العمل؛ لأن الله تعالى نهاهم
عن ذلك وقال: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]
(آل عمران: 139) .
تجديد اليقين:
ينبغي تجديد اليقين بأن لله تعالى حكماً قدرياً قال بشأنه: [وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] (النساء: 141) ، والمعنى كما قال ابن كثير:
(أنهم لن يُسلطوا عليهم استيلاء استئصال وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان
على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، فتكون الآية رداً على
المنافقين فيما أمَّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من
مصانعة الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم) .
- ومما ينبغي تجديد اليقين به: أن الله تعالى لن يخلف وعده بنصر أهل
الإيمان في النهاية، كما قال سبحانه: [فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ
اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (الروم: 4-6) ، ووعد
الله تعالى بالنصر تكرر في القرآن كثيراً في آيات عديدة، ولكنه رُبط بشروطه،
وربط بمشيئة الله ووفق حكمته، إلا أنه لن يتخلف أبداً عن قوم ينصرون الله حتى
لو تأخر بعض الوقت، فقد تأخر النصر حتى على بعض الرسل السابقين، كما قال
سبحانه: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن
نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) ، بل لقد تأخر النصر
في بعض الأحيان عن خير الرسل صلى الله عليه وسلم ومعه خير القرون، وكان
لهذا التأخير حِكَم عظيمة، كما قال سبحانه: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم
مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) ،
ولهذا لما استعجل النبيَّ عليه الصلاة والسلام بعضُ أصحابه قائلين: ألا تستنصر
لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض،
فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن
دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك
عند دينه» ثم قال: «والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلي
حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [6] ، نعم:
ولكننا نستعجل!
- ومما ينبغي تجديد اليقين به أن الأيام دول؛ فقد تكون الغلبة لغير المؤمنين
إلى حين، ولكن ذلك لا يدوم ولن يطول، وبخاصة مع تقارب الزمان الذي يُختصر
فيه التاريخ، وتتسارع فيه الأحداث، بل إن هناك دورات تاريخية سريعة الوقع
متتابعة التطور، قد تقوم فيها دول عظمى وتسقط أخرى في حياة الجيل الواحد،
بل الشخص الواحد، ومثال ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم بسنده عن الزبير الكلابي
قال: «رأيت غلبة فارس الروم ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة
المسلمين فارس والروم، كل ذلك في خمس عشرة سنة» . أما في عصرنا فقد
رأى جيلنا صعود دول ومعسكرات وأحلاف، ثم عاين سقوطها أو هبوطها أو
العكس مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق وألمانيا واليابان وفرنسا وغيرها،
ونحن على يقين أن الإسلام سيرث كل هؤلاء؛ لأنه سيرث الأرض كلها بقدر الله
كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في قوله عليه الصلاة والسلام: «ليبلغن هذا
الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين
بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يُعز اللهُ به الإسلام وذلاً يُذل اللهُ به الكفر» [7] ،
وليس بعزيز على الله تعالى أن يكون جيلنا الذي شهد انحسار المد الشيوعي بسقوط
دولة الإلحاد السوفييتي، هو نفسه الذي سيشهد انكسار المد الأمريكي في العالم،
وما سيتبعه من اندحار الطغيان اليهودي؛ فقوة الله فوق الجميع وهو القائل سبحانه:
[تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] (آل عمران: 140) وليست أمريكا ولا
غيرها استثناء من ذلك.
- ومما ينبغي تجديد اليقين به أن تداول الأيام بين الناس يكون بين نصر
وهزيمة، أما بين المسلمين الصادقين، فهو من بين نصر وشهادة؛ لأن العزة
مكتوبة لهم في كل حال، كما قال سبحانه: { [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]
(المنافقون: 8) ، ولهذا فإن المؤمن لا يذل أبداً، ولو كان يرسف في الأغلال أو
يسكن في الأطلال، والأمر بالنسبة له لا يخرج عن إحدى الحسنيين: النصر أو
الشهادة، وإذا كان النصر هو فوز الدنيا، فإن الشهادة هي فوز الآخرة، وكلاهما
نصر، ولكن نصر الآخرة أعظم كما قال سبحانه: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) : «أي يوم القيامة، حيث
تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل» [8] ، ولا ينبغي أن نشك في أن الشهادة مرادة
لله، ومحبوبة لديه، ولهذا يقدر لأجلها أقداراً، وأقدار الشهادة تجيء لكي تحشد من
كل جيلٍ قوافل مختارة من أسياد أهل الجنة الذين يعمرون غرفها العالية في
الفردوس البهيج مع مرافقيهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين [وَحَسُنَ
أُوْلَئِكَ رَفِيقاً] (النساء: 69) .
- ومما ينبغي تجديد اليقين به: أننا نؤمن بالقدر خيره وشره مدركين بأن
أقدار الشر التي تقع على المؤمنين تكون عاقبتها إلى خير مهما بدا للناس غير ذلك؛
وذلك على مستوى الفرد والمجموع؛ فبذلك تمحص القلوب وتميز الصفوف،
ويكشف عن المعادن، وتظهر حقائق الأمور المغيبة كما قال سبحانه: { [مَا كَانَ
اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ] (آل عمران: 179) قال ابن كثير: «أي لا بد أن يعقد
شيئاً من المحن، يظهر فيه وليه، ويفضح به عدوه، يعرف به المؤمن الصابر،
والمنافق الفاجر» [9] ، وذلك مثلما حدث في يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين
فظهر إيمانهم وصبرهم وجَلَدهم وثباتهم وطاعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم،
وهتك بهذا اليوم ستار المنافقين الذين لم يكن بوسع المؤمنين أن يطلعوا على
خباياهم؛ لأنهم يعاملونهم على ظاهرهم، ولهذا قال سبحانه: [َومَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ] (آل عمران: 179) أي: «أنتم لا تعلمون غيب الله في
خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده الله من الأسباب الكاشفة عن
ذلك» [10] .
- ومما ينبغي تجديد اليقين به: أن الله سبحانه لن يحابي أهل الكفر على أهل
الإيمان، ولن يجعل عاقبة الكفار خيراً لهم، بل إن تلك العاقبة هي نفسها طريق
البلاء المضاعف لهم، فمهما بذل أهل الإيمان من جهد وجهاد لإلحاق النكاية بعدو
الله وعدوهم فإن ذلك لا يساوي لحظة من لحظات عذابهم في سعير النار؛ ولهذا قال
سبحانه: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن
يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] (النساء: 84) ، ولهذا قد
يكف الله عن أعدائه بعض بأس أوليائه ليدخر لهؤلاء الأعداء أوفر الحظ والنصيب
من هذا العقاب الأخروي. قال سبحانه: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ
خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ] (آل عمران: 178) .
- ومما ينبغي تجديد اليقين به: أن نتذكر أن تربية الأمة كما تكون بالآيات
الشرعية الدينية، فإنها تكون بالآيات الكونية القدرية، وعندما يخف تأثير الآيات
الشرعية الدينية بفعل الإلف والعادة، أو الانشغال والغفلة، فإن الآيات القدرية تأتي
لتذكر بها أو حتى تعرِّف بها؛ حيث تعاد صياغة الحقائق بشكل شاخص مشاهد،
تتلقى الأمة منه الدروس العملية إذا لم تستوعب الدروس النظرية، كما قال سبحانه:
[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ]
(آل عمران: 186) فلا بد أن تتلقى الأمة بين آن وآخر دروساً عملية في تجريد
التوحيد لله، محبة وخوفاً ورجاءً، ودروساً عملية في موجبات الولاء والبراء،
ودروساً عملية في الصبر على البلاء ومعايشة مواقف الأعداء، ودروساً عملية في
معرفة خطر النفاق وأخرى في تبعة ترك الجهاد وهجر الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وتتلقى كذلك دروساً عملية في معرفة آثار التفرق والتنازع ونتائج
الاجتماع على وشائج غير الإيمان من الحزبية والعنصرية والانتماءات الفكرية
والمنهجية غير السوية.
ومن الواضح أن الأمة تتلقى الآن دروساً عملية مكثفة في كل ذلك؛ فالحمد لله
على قضائه وقدره؛ حيث قال: [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]
(الأنبياء: 35) .
- ومما ينبغي تجديد اليقين به أخيراً تذكر أن ديننا منصور، وأن لهذه
النصرة أهلاً، وأن الله تعالى قد دعانا لأن نكون من أنصار دينه كما قال سبحانه:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ
أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ] (الصف: 14) ، وبقدر
الاستجابة لهذه الدعوة للنصرة تكون السرعة في مجيء النصر وإلا ... فإن قدر
الاستبدال بالمرصاد لمن تولى عنها: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ
يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) ، فرجاؤنا في الله أن يجعلنا من معاشر الأنصار
لدين الرسول صلى الله عليه وسلم، في زمن الغربة، الزمن الذي يتضاعف فيه
أجر الثبات على الدين؛ فالأنصار الأوائل لهم قدرهم وفضلهم، ولكن الأنصار
الأواخر أيضاً لهم أجرهم ونورهم، وصلى الله على من قال: «فطوبى للغرباء،
قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يُصلحون إذا فسد الناس» [11] .
فهؤلاء الغرباء هم القابضون على الجمر الذين قال الرسول صلى الله عليه
وسلم عنهم: «للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم» ، وفي
رواية «قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال:» بل أجر خمسين
منكم « [12] .
__________
(1) ما زلنا نذكر أدوار الوفود الإسلامية التي ذهبت إلى أفغانستان للصلح بين فرقاء الأمس، المتحالفين اليوم، ولم ننس ما ذُكر عن أن الأستاذ محمد قطب الذي كان ضمن الوفد (بكى) عندما صدم بإصرار هؤلاء على الاقتتال فيما بينهم من أجل السلطة.
(2) حتى اليوم لم يوجه الاتهام بشكل رسمي وقانوني إلى أحد في أحداث سبتمبر، وإنما يُقال (من يُشتبه) في أنهم قاموا بالعمل! .
(3) حتى كتابة هذه السطور، فالأخبار تشير إلى نية بريطانيا بالمشاركة في الحرب بإرسال ستة آلاف جندي، وفرنسا بخمسة آلاف، وألمانيا بثلاثة، وأستراليا بألفين، وحتى اليابان التي لم يخرج منها جندي واحد خارج الحدود منذ الحرب العالمية الثانية قررت المشاركة بإرسال جنود، كل هذا إضافة إلى من سيرسلون من جنود أمريكا الذين لم يُعلن عن عددهم بعد! .
(4) تفسير القرطبي (8/204) .
(5) سبق لبرهان الدين رباني أن صرح علناً في أول زيارة له لمصر عام 1993م وهو لا يزال في السلطة بأن حكومته ستسلم (الإرهابيين) المطلوبين، وذلك قبل أن يُعلن عن المحاكمات العسكرية لمن وصفوا بـ (العائدين من أفغانستان) ! .
(6) أخرجه البخاري، رقم (3612) .
(7) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (16509) .
(8) انظر تفسير ابن كثير، للآية 51 من سورة غافر.
(9) انظر تفسير ابن كثير، للآية 179 من سورة آل عمران.
(10) المصدر السابق.
(11) أخرجه أحمد في المسند، رقم (16249) .
(12) أخرجه الترمذي، رقم (3058) ، وأبو داود، (3778) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.(170/98)
المسلمون والعالم
أمريكا رجل مخمور في يديه حفنة دولارات وبندقية
أحمد فهمي
في إحدى خطبه الكثيرة التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول مباشرة، قال
الرئيس الأمريكي جورج بوش: «قد تكون مبانينا اهتزت بفعل الإرهابيين، ولكن
المجتمع الأمريكي أبداً لن يهتز» .
وتلك بالطبع كذبة كبيرة؛ فالمجتمع الأمريكي لم يتوقف اهتزازه منذ ذلك
التاريخ، بل قد يظن من لا يعلم أن المباني قد انهارت من قوة الزلزلة التي انتابت
«الشعوب الأمريكية» وليس العكس.
والباحث في ما وراء الحدث يرى بوضوح أن أزمة الأمريكيين تكمن في كون
هذا الهجوم نجح في تخطي الأهداف التقليدية المتمثلة في مظاهر القوة العسكرية
والاقتصادية؛ ليضرب في عمق لم يتوصل إليه أحد قبل، ولم يتوقع الأمريكيون
أنفسهم أن يُضربوا فيه بهذه القوة.
ولا نقصد بالعمق تدمير البرجين والبنتاجون، إنما مقصدنا ذلك العمق الذي
انهار في الداخل الأمريكي بفعل توابع الزلزال.
لقد اكتشف الأمريكيون، واكتشف العالم معهم أن المارد الذي يحمل بين يديه
وسائل الرغبة والرهبة يكاد ألاَّ يقوى على حملها، وأن توجيه الضربة إلى الساعد
الذي يحمل البندقية أسهل ألف مرة من مقارعة النار بالسيف. لقد بان للعالم بأسره
أو لذوي العقول فيهم أن الولايات المرتعبة الأمريكية حفرت من حولها بحاراً من
الوهم كانت هي أول من غرق فيها، وأن الجسد الذي يحمل العصا والجزرة قد
نخره المرض وبات مفككاً.
ومشكلة منفذي العمليات الانتحارية الأخيرة أنهم كشفوا العورة الأمريكية؛
لينظر الأمريكيون إلى أنفسهم وقد فقدوا رجولتهم، فانطلقوا في هيستيريا جماعية
يعبِّرون عن رغبة عارمة في الانتقام للشرف المستباح. وما بين الرغبة في الانتقام
وممارسة الخوف يقضي جل الأمريكيين أوقاتهم في حقبة ألفية جديدة كانت أحلامهم
فيها تتجاوز قمة مركز التجارة العالمي الذي انهار مع الحلم الأمريكي.
وكان خبراء البيت الأبيض الذين أوكل إليهم كتابة خطاب بوش الابن في
الكونجرس الأمريكي على حق حينما عبَّروا عن الأزمة بقولهم: «إن الحرية
أصبحت في حالة حرب مع الخوف» . ثم عُدِّلت إلى: «لقد اندلعت الحرب بين
الحرية والخوف» ؛ فما يعانيه الشعب الأمريكي اليوم أحد أسبابه الرئيسة أنهم لم
يعتادوا أن يفكروا بوصفهم أمة من قبل؛ فهم مجتمع لا مركزي تسوده النزعة
الفردية، يعتقد الناس فيه أن بإمكانهم الاهتمام بأنفسهم بعيداً عن الآخرين، وبعيداً
عن تدخل الدولة، وفي المقابل تمارس الإدارة الأمريكية سياساتها الخارجية بمعزل
عن الشعب الذي لا يأبه إلا بشؤونه الداخلية. وقد كان بوش الابن قبل توليه معبِّراً
عن هذا التوجه الأمريكي الذي يجهل الكثير عن العالم الخارجي؛ فحينما سئل في
حملاته الانتخابية الرئاسية عن حاكم باكستان العسكري ورئيس وزراء الهند، لم
يعرف الثاني، وقال إن الأول اسمه: «جنرال» !
والحرية في مفهومها أو تطبيقاتها الأمريكية أخذت أبعاداً شتى جعلت
مصطلح الحرية نفسه قاصراً عن التعبير عنها. نعم كانت الحرية حجر البداية،
ولكن الحجر الأخير الذي سقط على رءوس الأمريكيين لم يكن مكتوباً عليه قطُّ
الحرية، بل وفق مفهومنا نحن المسلمين، نقرأ بلغتنا على ذاك الحجر أحرف:
«العبودية» .
أوصلت الحرية العالم الأمريكي إلى أن أصبح كيانات مستقلة تعيش داخل
دولة واحدة: قوى اقتصادية وسياسية واجتماعية متصارعة، تحدوها مصالحها
الخاصة، وداخل كل كيان يتحرك المنتمون إليه وفق مصالحهم الشخصية، فلا
توجد ثقافة متوارثة أو مختلقة لدى الأمريكيين تجعلهم يعيشون كتلة واحدة منصهرة،
وقد اعتادوا على ذلك وألفوه وأحبوه، حتى إذا وقعت الحادثة كان على لسان كل
أمريكي عبارة: (يا إلهي! ينبغي أن نفكر ونعيش كأمة واحدة) ، فماذا صنعوا؟
كعادتهم المثلى في التعبير بالشراء. انطلقوا إلى المحلات التجارية لشراء الملايين
من الأعلام الصغيرة، يعلقونها على بيوتهم وسياراتهم ويلوحون بها في بلاهة:
(نحن أمة واحدة) .
وإجمالاً نستطيع القول إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر كشفت مظاهر
مَرَضية كثيرة في جسد الدولة الأمريكية نستطيع توزيعها بسخاء على مجالات
عديدة: القوة العسكرية الأمن القوة الاقتصادية المجتمع النظام السياسي، ولكننا
نجتزئ منها ثلاثة فقط تحتاج معها إلى وقفات وتأمل.
أولاً: القوة العسكرية (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) .
قد يعجب بعض الناس من إدراج القوة العسكرية الأمريكية ضمن مجالات
كشفت الهجمات الأخيرة عن مظاهر ضعفها، ومرد هذا العجب محدودية النظرة
للجانب العسكري في معلومات مباشرة من قبيل حجم القوات، وكفاءة التصنيع
العسكري، ومستوى التدريب، وتنوع الأسلحة وتطورها، وضخامة كمّها.... إلخ؛
في حين تخفى بنود أخرى كثيرة رغم أهميتها في رسم معالم السياسة الأمريكية،
ومن هذه البنود:
- مصالح شركات صناعة السلاح، ومعظمها شركات غير حكومية هدفها
الأول تحقيق الأرباح عن طريق زيادة المبيعات، وهذه الشركات تجمعها هيئة
مشتركة تعبر عن مصالحها، ولها نفوذ ضخم في الأوساط السياسية ولدى متخذي
القرار، وقد عبَّر الرئيس الأسبق أيزنهاور عن مدى تغلغلها في المؤسسة السياسية
الأمريكية بقوله: «إن التأثير الكامل للنفوذ السياسي للبنية الصناعية العسكرية
واضح في كل مكتب وكل مدينة، وهي تعد خطراً كبيراً؛ لأن قوتها الهائلة تعمل
على انهيار التوازن السياسي» .
ومعروف للمراقبين الصلات القوية التي تربط عائلة بوش بشركة (بوينج)
التي تنتج العديد من الطائرات العسكرية مثل إف 16 وغيرها، وهذه الشركات
تتعرض لخسارة بالغة لو توقفت الإدارة الأمريكية عن التعاقد معها بصورة دائمة
على صفقات ضخمة، كما تتأثر أيضاً بالمناخ العالمي، وكلما زاد حجم التوتر
والاضطراب الدولي فذلك يعني زيادة في طلبات الشراء والأرباح وفرص العمل،
وكثير من الخبراء والمحللين يعتقدون أن مقتل جون كنيدي الرئيس الأسبق كان
وراءه مافيا السلاح؛ لأنه قرر الانسحاب من فيتنام التي كانت تضخ عشرات
المليارات إلى خزائن تلك الشركات، ويكفي أن نعلم أن الحرب أهلكت خمسة آلاف
طائرة هليوكوبتر، وألقي على الفيتناميين 5,6 مليون طن من القنابل.
وخلال حملته الانتخابية دعا بوش إلى «العبور فوق جبل كامل من الأسلحة
لمواجهة أنواع جديدة من التهديدات» ، لكنه بذلك وجه تهديداً لمتعهدي وزارة الدفاع
وخدمات التسلح، وهذا ما دفع بعض المحللين للظن في دور محتمل للأيدي الخفية
داخل الإدارة الأمريكية في هجمات سبتمبر.
- بند آخر يتمثل في حجم ميزانية وزارة الدفاع، ويسعى صقور البنتاجون
دوماً إلى زيادة ميزانيتهم، ويضغطون على الكونجرس والبيت الأبيض بشتى
الوسائل لتحقيق هذا الغرض. وهنا تبدو شبكة من العلاقات الخفية بين البنتاجون
وشركات السلاح وعناصر أخرى من النظام السياسي الأمريكي تتوافق على هدف
واحد وهو بذل كل وسيلة ممكنة للحفاظ على حجم الميزانية وزيادتها، وبعد انهيار
الاتحاد السوفييتي تعرض اللوبي العسكري إلى ضربة قاصمة بزوال الخطر الأعظم
والمسوّغ الأكبر لميزانية عسكرية ضخمة، وبالفعل تم تخفيضها. وبرزت الحاجة
لصنع عدو جديد، أو بمعنى أدق البحث عن عدو قائم وتنصيبه عدواً أكبر للولايات
المتحدة، وهنا يصبح تضخيم العدو المحتمل أمراً حيوياً لكَمٍّ هائل من المؤسسات
الأمريكية حكومية وغير حكومية، ويمكن بسهولة ملاحظة المبالغة الهائلة في
التعامل العسكري مع هؤلاء الأعداء، كما حدث في العراق ويحدث في أفغانستان.
وحينما وقعت هجمات سبتمبر وجدت المؤسسة العسكرية نفسها في موقف لا
تحسد عليه؛ فالعدو الذي تحول إلى أسطورة ضرب بقنابل بشرية ذابت في الهواء،
وتحول الحديث عن جيش أمريكا الذي لا يبارَى إلى نوع من الهراء؛ فأكبر
خسارة منذ ستين عاماً، لم يكن للجيش أن يواجهها، وحتى بفرض معرفته المسبقة
كانت طائرتان فقط من بين مئات الأسراب تكفيان لحسم المشكلة، وهو ما جعل
كثيرين داخل أمريكا وخارجها يتساءلون عن جدوى نفقات التسليح الباهظة في
مواجهة عدو يستعمل أسلحة بشرية مزودة بالسكاكين. ومن يتابع الأحداث بعد
فسيلاحظ التكلف الشديد في إظهار أهمية الحشود العسكرية المبالغ فيها، والتنوع
الهائل في الأسلحة والقذائف.
- بند ثالث: وهو تحول الجيش الأمريكي إلى ما يمكن أن نطلق عليه
تجارياً: «البضاعة للعرض فقط» ، وبالمفهوم العسكري: «للترهيب فقط» ،
ومن يراقب الأداء العسكري للقادة والوحدات والجنود يتيقن من أن ذلك كله للعرض،
وليس هناك استعداد لتشويه رونق البضاعة بتراب الحروب هنا أو هناك، ولم
يدرك أطفال الأفغان تلك الحقيقة وهم ينطلقون في الشوارع لدى بدء الحرب
يتساءلون: أين الأمريكيون لنضربهم؟ وكما يكرر رامسفيلد دائماً: «نحن
موجودون على الأرض لتقديم المشورة والنصح فقط» . وهذا المفهوم قد يشمل
أحياناً أنواعاً من الأسلحة يفضل بعض القادة الأمريكيين عدم المجازفة بها في حرب
كهذه، كما حدث بالنسبة لاستخدام رادارات جي ستارز المحمولة جواً لكونها معدات
ثمينة.
- ومن البنود المهمة أيضاً: الحديث عن مَعْلَمٍ بارز بات يحكم الصناعة
الأمريكية في معظم المجالات ومنها العسكري، وهو ما يمكن أن نسميه: «هوس
التطوير» ، ونعني به التطوير الدائم لكل شيء حتى لو لم يكن له فائدة؛ فلا يمكن
في أمريكا أن تظل السلعة أو المنتج على نفس الصورة أكثر من شهور معدودة دون
تغيير أو تطوير، وهناك قانون صدر يمنع الشركات من مضاعفة إمكانات أي منتج
صناعي في أقل من سنتين.
وهذه الظاهرة تنطبق على صناعة السلاح، وهو ما ينتج عنه إرهاق شديد
للميزانية العامة ودافعي الضرائب، وسرعة تقادم وتراكم الأسلحة في الجيش
الأمريكي الذي تواجهه مشكلة تصريف القديم منها، ولا شك أن مثل هذه الحروب
السهلة تعد وسيلة نموذجية لتصريف كمٍّ هائل من الذخائر وتجربة كمٍّ آخر منها ومن
الأسلحة الجديدة، والمتابع لتصريحات بوش الابن ورامسفيلد الوزير عن معركتهم
الحاسمة ضد الإرهاب يدرك مستوى الخداع الذي تمارسه الإدارة الأمريكية على كل
الأطراف بمن فيهم الشعب الأمريكي نفسه، وسعيها لصناعة نصر حاسم على
طريقة هوليود: قضينا على الدفاعات الجوية (غير الموجودة!) دمرنا كل
المطارات (المهجورة!) السماء الأفغانية أصبحت مفتوحة (لم تقفل يوماً!) قرب
الانتقال إلى المرحلة الثانية من الهجوم (لن يعدوَ أحد وراءكم!) .. إلخ، ويتحول
الإدراك إلى سخرية حقيقية حينما يتبين أن خبراء الاستخبارات والبنتاجون يعقدون
جلسات استماع مع كبار المخرجين وكتبة السيناريو في هوليود للاستنارة برؤيتهم
الخيالية في استقراء التطورات المستقبلية.
نقول إنه حينما تنجح كيانات خاصة داخل الدولة في جعل أهدافها محوراً
استراتيجياً للعمل السياسي داخلياً وخارجياً، فذلك يعني أن مرضاً عضالاً تعاني منه
الدولة، حوَّلها إلى الشركات المتحدة الأمريكية.
ثانياً: المجتمع (يحسبون كل صيحة عليهم) .
لن نفهم ما حدث في أمريكا حقيقة إلا بعد النظر في الأمر بموضوعية بعيداً
عن العاطفة الجارفة للفكر، وأولى درجات الموضوعية أن نقر بأن أمريكا خاصة
بعد إقرار قانون الحقوق المدنية تعد من أكثر النظم الكافرة على مدار التاريخ تحقيقاً
للعدل مع شعوبها، والقاعدة التي بين أيدينا تقول: (إن الله يقيم الدولة العادلة ولو
كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة) ، والعدل الأمريكي عدل
نسبي، ولكن مقارنة بالأحوال العالمية المتردية نجده متفرداً بعض الشيء، ولأن
العدل الأمريكي عدل بشري لا يقبس من نور الوحي، فدعائمه ذات سَمْتٍ خاص،
وحينما عبَّر المفكر الأمريكي فوكوياما عن افتتانه بذلك النموذج واعتبره نهاية
التاريخ لم يكن مبالغاً؛ إذ ربما يكون حقيقة باعتبار النتاج البشري، ولكن ما غفل
عنه فوكوياما أن الدعائم التي تحفظ لذلك النظام توازنه دعائم مؤقتة سرعان ما
تذوب، ولكن وفق أعمار الدول والحضارات. وحينما أطلقت الإدارة الأمريكية
على حربها الأخيرة اسم: «العدالة الدائمة» توافق ذلك مع كون الحدث الدامي
مؤشراً لاقتراب العدالة الأمريكية برمتها من خط النهاية؛ لتكون العدالة الإلهية هي
الأحق بالدوام من عدالة البشر.
نقول إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر خلخلت دعائم الحضارة الأمريكية
وأفقدتها توازنها الذي ربما كان سيستمر فترة أطول لولا ما حدث في واشنطن
ونيويورك، ولو رجعنا إلى عبارة بوش في خطاب الأزمة: «لقد اندلعت الحرب
بين الحرية والخوف» لتؤكد لنا أن الدعامة الأساسية التي قامت عليها العدالة
الأمريكية هي الحرية المطلقة، ولو رجعنا إلى الوراء أكثر للرئيس الأسبق
روزفلت، فسنجد من أقواله المأثورة: «إن الذي يريد أن يجمع بين الأمن
والحرية لا يستحق أياً منهما» ، فالحرية هي عنصر التوحد والتماسك في
«المجتمعات» الأمريكية، والأمريكيون يدينون بالفضل في تماسكهم النسبي سنوات
طويلة لحريتهم المقدسة؛ فما الذي حدث بعد 11 سبتمبر؟ لقد تحقق الشق الأول
من قولة روزفلت، وعزمت إدارة بوش على الجمع بين النقيضين في الشريعة
الأمريكية: الحرية والأمن، وما نراه حالياً، وما يتوقع لاحقاً إن شاء الله سيكون
تطبيقاً للشق الثاني من قولة روزفلت: «لا يستحق أياً منهما» حيث يكتشف
الأمريكيون بعد عناء المواجهة أنهم فقدوا الحرية والأمن معاً؛ ومن ثم يفقد مجتمعهم
و (حضارتهم) الدعامة الأساسية «البشرية» ، ويقترب من الانهيار.
ولا يعني ذلك قطعاً أن الشعب لو تمسك بحريته نجت حضارته، بل على
العكس من ذلك فإن تمسك الأمريكيين بحريتهم هو سبب آخر من أسباب السقوط،
وهذه حكمة إلهية؛ فالمنهج الرباني المتمثل في الإسلام هو وحده الذي يرتقي دوماً
من يتمسك به، أما غيره من نتاج البشر فما يُظن أنه سبب للرقي تكمن في طياته
حيثيات السقوط؛ فحريتهم المقدسة إن تمسكوا بها تلفوا، وإن نبذوها هلكوا.
1 - لماذا يخاف الأمريكيون؟
بالطبع هناك الأسباب المباشرة مثل: فجأة الحدث، وفداحة الخطب، وجهالة
العدوّ، وترقب العَوْد.
ولكن عادة تكون هناك أسباب كامنة لها دور كبير في حجم الخوف ومظاهره،
ولن يفسر ردة الفعل الهائلة لدى الأمريكيين مجرد استعراض الأسباب المباشرة.
والتأمل في الحالة الأمريكية يبرز لنا ثلاثة عوامل تجعل الهلع الأمريكي
مقبولاً إلى حد كبير:
الأول: جعلت الأحداث الأخيرة من الشعب الأمريكي ما يمكن أن نسميه:
«الشعب المبستر» ، فقد نقلته من حالة الأمن التام، إلى وضعية الرعب في
لحظات قصيرة جداً؛ حيث تعرض الأمريكيون لما يشبه البسترة التي تمثلت
أعراضها في توتر وفزع زائدين عن الحد؛ فما كانوا ليفكروا قطُّ في تهديد
يعقرهم في عقر دارهم بلا مقدمات ولا إنذارات، وقد مرت عليهم عشرات السنين
لم يسمعوا فيها صَفَّارة إنذار، ولم تُقصف بيوتهم بالقنابل، بل ولا الحجارة، وفَقْدُ
الأمن أشد على النفس من افتقاده، لا شك في ذلك.
الثاني: الشعب الأمريكي يعيش حياته في العراء، بمعنى الكلمة، ولا نعني
البعد الأخلاقي لها، بل ما نقصده أن الحياة الأمريكية مفتوحة ومكشوفة؛ فهم
«كانوا» يعيشون حياة من لا يخشى الخوف، فأخرج ما لديه للعيان، ولكن ما أن
جاء نذير سبتمبر حتى وقعوا في أزمة كبيرة، فهم أشبه بتاجر فاق حجم بضاعته
مساحة محله، ولا يرى بأساً في ذلك، حتى إذا أدركه أعداؤه استعصى عليه
إرجاعها إلى مكانها الطبيعي بعد أن فاقته حجماً.
وهذا ما حدث لهم، وشل الحياة العامة في بلادهم لفترة غير قصيرة؛ حيث
تحولت معظم مظاهر تلك الحياة إما إلى ثغرات وإما إلى أهداف محتملة
«للإرهابيين» ، وهو ما أنتج منظومة متكاملة من مشاعر الرهبة والفزع والقلق
الدائمة، وهو ما دفع الخائف الأعظم ديك تشيني إلى التصريح في إحدى مرات
ظهوره: «إن الحياة في أمريكا قد تغيرت إلى الأبد ولن تعود إلى ما كانت عليه» .
الثالث: أن الأمريكيين لا يؤمنون بالقَدَر ولا يُسلِّمون به، ومن ثم استسلموا
إلى متاهة «ماذا لو؟» الشيطانية، ولهذه المتاهة قدرة على تحويل التقدم التقني
والإمكانات الهائلة إلى وبال على صاحبها؛ إذ كلما عنّ له فكر حوَّله إلى فعل. ولا
شك في أن متابعة يوميات المجتمع الأمريكي في الأسابيع الأخيرة تعطي شواهد لا
حصر لها على هذه الظاهرة، مثل الإقبال الشديد على اقتناء الهواتف الخلوية،
وحمل الأطعمة بدون داعٍ تحسباً لأي إقامة مفاجئة تحت الأنقاض، والهوس بشراء
أقنعة الغاز التي نفدت من الأسواق، والفزع من طائرات رش المحاصيل.. إلخ.
ولأنه لا توجد طريقة واحدة تصل الأمريكيين بربهم في إطار عقيدتهم، لم
يجدوا إلا أن يعلقوا لافتات على المنازل والمكاتب تناجي الرب أن ينقذ أمريكا. أما
جورج بوش، فلم يجد شيئاً يطمئنهم به إلا أن يقول: «اذهبوا إلى ديزني لاند،
وانسوا ما حدث» ! .
2 - صراع الحضارات يبدأ في أمريكا:
أمريكا دولة متعددة الجنسيات، متعددة الأعراق، متعددة الثقافات، لم تستطع
أن تصهر كل ذلك في بوتقة واحدة، فارتضت أن تسود «الحرية» عالمها، ولكل
أن يفعل ما يشاء، وقد زاد ذلك من التميز العرقي في أمريكا لدرجة هائلة، وما
يسمى بالذوبان في المجتمع الأمريكي كلام زائف؛ إذ لا يتعدى قشوراً ثقافية
خارجية، بينما الانتماء الأساسي يبقى كما هو، والغريب أن الشعب نفسه عند
الأزمات يتعامل وفق هذه القاعدة، فأثناء الحرب العالمية الثانية تعرض اليابانيون
الأمريكيون إلى اضطهاد شديد، وجُمعوا في معسكرات اعتقال جماعية، وتعرضوا
للقتل، وخلال الحرب الفيتنامية، تعرض الأمريكيون من أصول آسيوية للاضطهاد
كذلك لعدم القدرة على التمييز بين الفيتنامي والصيني والكمبودي، ومنذ سنوات
قريبة حدثت أزمة في صناعة السيارات الأمريكية بسبب الإغراق الياباني،
فتعرض الصينيون في ديترويت عاصمة صناعة السيارات للاعتداء إلى حد القتل
لتشابه ملامحهم مع اليابانيين، وأخيراً بعد هجمات سبتمبر تكرر الأمر مع المسلمين
مع اكتسابه بعداً دينياً واضحاً، وتعرض بعضهم للقتل الخطأ أيضاً حيث قُتل قبطي
مصري ظناً أنه مسلم، أضف إلى ذلك كله تنامي العنصرية البيضاء تجاه سائر
الأعراق والألوان.
ويرى بعضهم أن الهجمات الأخيرة عملت على توحد الشعب الأمريكي
بمختلف فصائله، لكن يردُّ على ذلك خبراء من أمريكا نفسها يرون أن هناك فرقاً
كبيراً بين الانكماش نتيجة الخوف والاندماج إثر التوحد، ويقول الدكتور (كلارك
ماكولي) أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة بنسلفانيا: «إن ابن لادن الشخصية
الأحدث على ملصقاتنا، ولكن ماذا لو فقدناه؟ ما الذي سيحدث لو أُسر أو قُتل؟
سيقول كثيرون: لقد نجحنا، دعونا نتوقف عن العبث ونذهب لبيوتنا، ولكن
المشكلة أكبر من أن تكون مشكلة شخص واحد، وسوف نكون في مشكلة كبيرة» .
وإذا كان صمويل هنتنجتون يبشر بصدام الحضارات، فنحن نبشره أن ذاك
الصدام سيصيب أمريكا نفسها؛ فهي بحق نموذج مصغر للعالم، تعبِّر عن أخطائه
وأمراضه، وكما تجذب العقول الفذة من سائر الأنحاء، تجلب معها عيوب الدنيا
بأسرها، وما رآه الأمريكيون يوماً مفخرة لكونهم أذابوا العالم كله في بوتقتهم،
سيصبح عن قريب محزنة حينما يتحول إلى مصفاة تتسرب من ثقوبها حضارتهم.
ثالثاً: الأمن (كأنهم خُشُب مسنَّدة) .
حكمت حركة طالبان أفغانستان ما يقرب من خمس سنوات حتى الآن، وكان
أعظم إنجاز لها اعترف به العدو قبل الصديق أنها نجحت في تحقيق الأمن في بلاد
لم تنعم به طيلة عشرين عاماً كاملة، وبإمكانات شهد الصديق قبل العدو أنها تسمى
إمكانات مجازاً، وفي أمريكا يحكم نظامها السياسي البلاد منذ القرن التاسع عشر،
ومقارنة بما تملك من إمكانات، فإن مستوى ذلك النظام يكاد لا يقرب منزلة طالبان
في هذا المضمار.
وقبل أحداث سبتمبر مباشرة كانت قناة CBS التلفزيونية المعروفة تعرض
مسلسلاً يحمل اسم وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) ، تدور قصته حول
مجموعة إرهابية إسلامية تخطط للقيام بعمل إرهابي ضخم، وطبعاً يتمكن رجال
الوكالة من إحباط هذه العمليات ببطولتهم المعهودة، وبينما لم تنته حلقات المسلسل
بعد حتى فوجئ الناس بما يمكن وصفه أنه أعظم إخفاق في تاريخ أجهزة المخابرات
الأمريكية، وأيضاً من مجموعة يدعون أنها إسلامية «إرهابية» . إن ما حدث
يمثل بالضبط الفرق بين الوهم والحقيقة في المقدرة الأمنية الأمريكية، ويثبت للعالم
أجمع وفي مقدمتهم المسلمون، أن أمريكا تستمد قوتها من هوليود أولاً قبل نيويورك
وواشنطن، ولقد كشفت تفجيرات سبتمبر وما تلاها عورات أمريكا الأمنية بصورة
فجة، سنلقي الضوء على بعضها ليقر في الأذهان أن أمريكا أسطورة بالفعل،
والأساطير لا تعيش طويلاً على أرض الواقع:
1 - التضخم سمة أساسية لكل شيء في أمريكا: لا نعلم السبب في ذلك،
لكنها حقيقة، هم يحبون الضخامة في كل شيء، وفرق كبير بين ما يصنعونه وما
يطلبونه، وبين ما يطلبونه وما يحتاجونه، وبين ما يحتاجونه وما يكتفون به.
حياتهم مضت على هذا الأساس وتوازنت عليه، ولو توقف الأمريكان مثلاً عن
شراء البيتزا لاهتز الاقتصاد الأمريكي بأسره، وعلى المستوى الأمني توجد أكثر
من أربعين وكالة رسمية كبيرة تعنى بالشؤون الأمنية للبلاد، تتجاوز ميزانيتها
خمسين مليار دولار سنوياً، وتمتلك كمّاً هائلاً من الإمكانات التكنولوجية، ويعمل
فيها عشرات الآلاف من الأمريكيين، وتجمع الملايين من المعلومات سنوياً، وتقدم
خدماتها إلى عشرات الإدارات الحكومية المختلفة، وتعجز عن كشف عملية كبيرة
يعد لها داخل أمريكا لمدة لا تقل عن سنتين، وتُخفق في معرفة مرسل الجمرة
الخبيثة بعد أكثر من شهر على بدء إرسالها، وإذا تثاءبت وحذرت الناس كان
الخطر وهمياً. هذه حقيقة الأجهزة الأمنية الأمريكية: ضجيج ولا طحن، أعجزها
تضخمها الهائل عن الاستفادة بما لديها.
وبعد كل ما حدث لم يستطيعوا التخلص من دائهم، بل مضوا يستزيدون منه
فيعلن الرئيس الأمريكي عن إنشاء المزيد من الأجهزة الأمنية، وتعيين خبراء في
مناصب جديدة، وزيادة ميزانية الـ (سي آي إيه) ، والانطلاق نحو جمع المزيد
من المعلومات، وإطلاق المزيد من الأقمار.. إلخ.
2 - العدو غير معروف والهدف مجهول: الوسائل والغايات في أمريكا لها
فلسفة مستقلة خاصة بها، ولأن التغير المستمر سمة لاصقة وسائدة في المجتمع
الأمريكي، بحيث تداخلت الوسائل والغايات إلى حد كبير، فما يعتبر غاية اليوم
كان وسيلة بالأمس، ووسيلة اليوم غاية الغد، وحينما أنشئت وكالة المخابرات
المركزية بعد الحرب العالمية الثانية، كانت غايتها رعاية الأمن الأمريكي، ولكن
اليوم أصبحت الـ (سي آي إيه) بحد ذاتها غاية بغضِّ النظر عن الدور الذي تقوم
به، وفارق كبير بين أن تتحرك الوكالة انطلاقاً من كونها وسيلة لحفظ الأمن،
وبين تحركها بغرض حفظ ميزانيتها أو كوادرها، أو مصالحها الخاصة التي
صيغت عبر عشرات السنين.
هذا التداخل في الدور المنوط بالوكالة ومعها باقي الأجهزة الأمنية، أعاقها
عن تطوير نفسها بما يتناسب مع التغيرات العالمية الحادثة. يقول جيمس بامفورد
المتخصص في شؤون المخابرات: «لقد ركزت المخابرات لمدة نصف قرن من
الزمن على روسيا، وبعد انتهاء الحرب الباردة منذ عشر سنوات ركزت على
الطرق التقنية والثقافية لكنها لم تستفد بها في الوقت المناسب، كما أنها لا تمتلك
عدداً كافياً من المحللين العارفين بالأصولية؛ ولذلك أخفقت في معرفة الإشارات
والتوجهات قبل وقوع الحدث» .
ومما كشف العوار أكثر أن تلك الأجهزة استعاضت عن الفطنة بالشك،
فمضت تقلب في الركام الهائل من المعلومات المتجددة دائماً تبحث عن رائحة أي
مؤامرة محتملة، ثم تسارع للناس تنذرهم: احذروا طائرات الرش، ابتعدوا عن
الجسور والكباري، تنبهوا لعملية إرهابية كبيرة قبل رمضان. وسئل مسؤول أمني
كبير: ما الذي جعلكم تطلقون تحذيرات لم تتأكدوا من جديتها؟ فقال: «كان بين
أيدينا خيارات: إما أن نحذر الناس ويصدق التحذير فنصبح أبطالاً، أو نحذرهم
ولا يقع شيء فنُلام، أو لا نحذرهم ويقع المحظور فتطير رؤوسنا» هكذا.
3 - الأمن فاقد التركيز، والمجتمع فاقد التمييز: يقول المعلق الأمريكي
الشهير (جورج ويل) معبراً عن توجه أمني: لا شيء يمكن استبعاد التفكير فيه،
وإن كان هذا النهج معتمداً أمنياً في أمريكا، فإن كثيراً من الخبراء يقولون: إنه
يؤدي في النهاية إلى تشتيت الفكر والجهد، وهذا بالضبط ما تعاني منه الأجهزة
الأمنية الأمريكية.
فهي أولاً: ترزح تحت كمٍّ هائل من المهام غير الواضحة، والمتضاربة
أحياناً، فجهاز (إف بي آي) مثلاً، حينما قدم ميزانيته السنوية الأخيرة حدد مهمته
بأنها العمل على كشف المخططات التي تهدد أمن البلاد وإجهاضها، ولكن لما تبين
إخفاقه بعد هجمات سبتمبر، تركزت مهمته في كشف أبعاد ما حدث، وبينما هو
غارق لأذنيه في محاولة الفهم، صدرت له الأوامر بتركيز الجهود على كشف خبايا
مؤامرة الجمرة الخبيثة، وكانت النتيجة المبهرة التي توصل إليها لاحقاً أنه دعا
الشعب الأمريكي إلى مساعدته في حل اللغز، وأعلن عن جائزة مليونية إضافية،
ثم صدرت أوامر أخرى بتخصيصه لمعالجة القضايا الإرهابية دون غيرها؛ وربما
للنجاح الذي حققه.
أما ثانياً: فالاستراتيجية الأمنية الأمريكية من إحدى مسلَّماتها اتخاذ إجراءات
تأمين مبالَغ فيها إلى حد كبير، تضفي مزيداً من العبء بلا داعٍ على الأجهزة
المثقلة بالمهام؛ فعلى سبيل المثال: صدرت الأوامر بالتحقق من جميع العاملين في
صناعة الطيران، وفحص ملفاتهم وأحوالهم، وهذا يعني تناول أكثر من 800 ألف
عامل بالفحص والتدقيق، وإنفاق أكثر من مليار دولار لتحقيق ذلك.
وثالثاً: تعاني الوكالات الأمنية الأمريكية من التنافس الشديد فيما بينها، ومن
كمٍّ هائل من البيروقراطية يعوق تحقيق التعاون فيما بينها. يقول السيناتور تورشلي
أحد المطالبين بمحاسبة الوكالات الأمنية: «إن أجراس إنذار قرعت، تحذر من
وقوع أعمال إرهابية، لكن أحداً لم يجمع تلك الإنذارات والإشارات بعضها مع
بعض قبل سبتمبر. إن هذه الأجهزة تشعر بالغيرة فيما بينها، ولا تتواصل بالشكل
الملائم» . وحلاً لهذه المشكلة المعقدة اتخذ بوش قراراً جريئاً بإنشاء وزارة أمنية
جديدة تتولى الإشراف والتنسيق بين مختلف الوكالات الأمنية، وكما يقول
المختصون إنه بذلك أضاف بعداً رأسياً للأزمة البيروقراطية أفقية.
وتواجه الأجهزة الأمنية بعد ذلك كله شعباً يتراوح بين العبث والهلع في
التعامل مع الأزمات؛ ففي أزمة الجمرة الخبيثة، انهالت عشرات الآلاف من
البلاغات التي تتحدث عن اشتباه في جمرة بعضها كان بسبب الخوف الشديد من أي
مسحوق أبيض دون بينة، وبعضها الآخر كان على سبيل المزاح أو الانتقام أو غير
ذلك، حتى إن تلميذاً في مدرسة أراد إلغاء الامتحانات، فوضع على طاولة في
المدرسة مسحوقاً أبيض فأُغلقت المدرسة بكاملها، ويقول أحد مسؤولي (إف بي
آي) : «كيف نؤدي عملنا ونحن مطالبون بالتحري عن آلاف البلاغات
اليومية بخصوص الجمرة الخبيثة.. لقد أصبنا بالشلل» .
ثم ماذا بعد؟
تلك هي الحضارة الأمريكية في صورتها المثالية: دولارات، وجيوش،
ولكنها تفتقر إلى مجتمع يحرسها، ولأن الهجمات الأخيرة لم توجه إلى المال أو
السلاح، وإنما وجهت إلى اليد التي تحملهما، بان العيب، وزال الريب؛
فالأمريكيون وإن كانوا يقشعرُّون من تسعة عشر انتحارياً دمروا عدداً من المباني،
لا يدركون أنهم بمثابة أكثر من مائتين وخمسين مليون انتحاري يسعون لتدمير دولة
بأسرها، تحدوهم في ذلك حضارتهم الفائقة التي ترتقي بهم إلى الطابق الأخير
لتقذفهم من عَلُ، فماذا يحدث للإنسان حينما يبتغي حكم نفسه المتغيرة بعقله القاصر
وفق علمه الناقص؟
والجواب ما تراه دون ما تقرؤه؛ فهذه الحضارة الأوروبية كفرت بمناهج الله
كلها حتى المحرف منها، ومضت تشق لنفسها طريقاً علَّه يوصلها إلى ... ؟ لا
ندري، لسبب بسيط أن الغرب نفسه لا يدري إلى أي وجهة يسير، أو بمعنى آخر
لقد شق الغرب لنفسه طريقاً للوراء كي يسير عليه للأمام.
وبمعنى ثالث: المنهج الغربي ليس منهجاً للسير في أي اتجاه بقدر ما هو
منهج للمراوحة في المكان؛ فهو منهج ينطلق من نفس الإنسان وينتهي داخلها،
ونتيجة لذلك فالثقافة الغربية الآن بمعناها الواسع تحدوها الرغبة في التحرر التام من
القيود بكل أشكالها، وسوف تتساقط القيود، أو ما بقي منها واحداً في إثر الآخر
والله أعلم حتى يجد الرجل الأوروبي نفسه يوماً ما طليقاً بلا قيد، حراً من غير
شرط، حينها فقط ستدرك الحضارة الغربية أنها سكرت حتى الثمالة.
إن أصدق وصف للحضارة الغربية أنها حضارة تبغي الانتحار، حضارة
ترتقي إلى الطابق الأخير؛ كي تلقي بنفسها من عَلُ!(170/108)
المسلمون والعالم
(ندوة) لمحاولة فهم أمريكا
(1 - 2)
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
لا شك أنه عنوان فضفاض، فأمريكا دولة مترامية الأطراف، ليس جغرافياً
فقط، ولكن أيضاً عرقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، صحيح أن
(العمق) التاريخي لهذا الترامي محدود قياساً إلى الأمم الأخرى، ولكن تعقيد الحالة
الأمريكية وتشابك الخطوط داخلها يجعل من غير الممكن الزعم أنه من السهل (فهم
أمريكا) جيداً من خلال ندوة أو مقال أو حتى كتاب واحد، إذن: فهي محاولة لفهم
بعض جوانب أو دوافع أمريكا التي قد تهمنا أو تمسنا بشكل أو بآخر، إنها محاولة
لإلقاء (نظرة) على ذلك الترامي.
كما أن (الفهم) ليس بمستوى واحد، ولكننا هنا نحاول قدر الطاقة اكتشاف
(بعض مفاتيح) حل شيفرة هذه الحالة المزمنة.
ليس ما سبق وحده وجه الغرابة في العنوان! فقد اعتاد القارئ ومعه الحق أن
تكون الندوة محاورات ومداخلات بين أكثر من شخص من ذوي التخصص في
موضوع الندوة بإدارة مضيف الندوة لتسليط الضوء على أكثر من جانب وبأكثر من
وجهة نظر حول الموضوع. ندوتنا هذه ليست كذلك، صحيح أن المضيف الذي
يديرها واحد، ولكن ليس هناك أشخاص، بل كتب، يحاول المضيف أن يستنطقها،
يستخرج منها، يحاورها، يسكتها، يتفهمها، يضغط عليها.. تماماً مثلما يُفعل
مع الأشخاص، للحصول على أكبر قدر ممكن من الإيضاح لجوانب الموضوع
الذي يدور حوله النقاش، خدمة للقارئ.
ولكن القارئ ليس طرفاً سلبياً يقتصر دوره على التلقي هكذا يتخيل المضيف!
بل إنه يشاركنا أيضاً هذه الندوة التي سيكون الذهن الناشط مكان عقدها، يمكن
لهذا القارئ أن يعترض، وأن يضيف، وأن يتساءل، ثم يجيب، يمكن له أن
يقيس، وأن يكمل ... ستبقى في دائرة هذه الندوة أقواس ناقصة، على القارئ أن
يكملها.. لن يصل إلى ذلك إلا عندما تكون له نظرة كلية فوقية.
نرحب بضيوفنا جميعاً! ، الذين سنعرِّف بهم واحداً واحداً عند بداية كلام كل
واحد منهم، كما نود أن نلفت نظر قارئينا الكرام إلى أن كلام ضيوفنا سيكون
محصوراً بين علامتي تنصيص، ومذيلاً بمكان صدوره.
من أين نبدأ الحوار؟ ! من الماضي أم من الحاضر؟ من العسكرة الطاغية
التي تظهر لكل ذي عينين، أم من الاقتصاد المتذبذب، أم من الانحلال والجريمة؟
من البعد الديني أم من النظام العالمي الجديد؟
طليعة [1] : دعني أوفر عليك الحيرة وأشرح لك جذور ما تراه غامضاً أو
غير مترابط: من المعروف أن كل سكان أمريكا مهاجرون «جاء سكان أمريكا
(أي المستوطنون الأوروپيون) بحثاً عن العمل وكسب المال أساساً. ومع اختلاف
ثقافاتهم ودياناتهم، بين أيرلنديين وإيطاليين وغير ذلك من أجناس وجنسيات مختلفة،
كانت الرابطة الوحيدة التي ربطتهم جميعاً هي ذلك الخيط الرفيع المشابه لما يربط
العاملين في المؤسسة أو الشركة التجارية، وأصبحت الولايات المتحدة هي منظومة
الإنتاج التي يقودها المنطق التكنولوجي والتجاري، والتي يشارك فيها كل فرد
منتجاً أو مستهلكاً، في غاية وحيدة هي تنمية مستوى المعيشة كمياً.
وهكذا كانت كل هوية، ثقافية أو روحية أو دينية، تعتبر مسألة شخصية،
فردية تماماً، لا تتداخل مع مسيرة النظام، ومن مثل هذه الهياكل الاجتماعية أصبح
الإيمان عديم الأهمية، وعند الأغلبية العظمى لهذا الشعب، فقد مات الإله، لأن
الإنسان انقطع عن كل ما هو مقدس، وبخاصة هذا الدأب في البحث عن معنى
الحياة الذي يقود بالتبعية إلى الإيمان بالله.
واتسع المجال بذلك أمام تفشي الخرافات وانتشار الطوائف والهروب إلى
المخدرات أو الشاشة الصغيرة، بينما غطى كل ذلك صبغة تدعي الدينية وهي
» الپيوريتانية «الرسمية أو التطهرية الرسمية، التي تتعايش مع كل أنواع
انعدام المساواة، وكل المذابح والجرائم، بل وتمدها بالتبرير والغطاء الديني!»
(ص 47، 48) .
المضيف: لقد ازددت حيرة! ، ولكن أين ذهب السكان الأصليون؟
طليعة: سؤالك يضع أيدينا على كيفية تشكل علاقة أمريكا بالآخر «كانت
العلاقة مع الآخرين أيضاً ذات طبيعة خاصة، بدأت أولاً بطرد الهنود للاستيلاء
على أراضيهم ووضعهم بين خيارين: إما الإبادة وإما النفي والانسحاب إلى المعازل.
وبعد ذلك كانت العلاقة بين البيض أنفسهم، خاضعة لأحكام قانون الغاب، لنهب
الثروات المسروقة من الهنود، أرضاً كانت أم ذهباً.
وهكذا أصبح العنف الأكثر دموية، والتحريض عليه بنفاق المتدينين، ملمحاً
دائماً في تاريخ الولايات المتحدة منذ نشأتها، فلقد قدم المتطهرون [الپيوريتانيون]
من الإنجليز الأوائل إلى الولايات المتحدة، حاملين معهم العقيدة الأكثر دموية في
تاريخ البشرية، ومسلحين بفكرة:» الشعب المختار «، مقننين فكرة الإبادة،
وكأنها حسب روايتهم أوامر إلهية، كانوا يسرقون أراضي الأهالي الأصليين طبقاً
لتعاليم يهوا» إله الحرب «في» العهد القديم «، هذا الإله الذي أمر» شعبه
المختار «بإبادة وذبح السكان القدامى في أرض كنعان واغتصاب أرضهم»
(ص 49) .
سقوط [2] : اسمحوا لي أن أضيف بعداً آخر في الموضوع، بعداً فلسفياً
اجتماعياً، فبحسب نظرية ساركار [3] ودورته في التغيير الاجتماعي القائمة على
تصنيف أنماط الإنسان العقلية وطباعهم (الفردية والجماعية) إلى أربعة أصناف:
الشغيلة (الجاموس) ، والمقاتلين (النمور) ، والمثقفين (الثعالب) ، والجمّاعين
(الفئران) .
طبقاً لهذه النظرية فإن «تاريخ الولايات المتحدة يمثل تعقيدات قليلة، إذ من
السهل ملاحظة أنه منذ تدفق المهاجرين الأوروپيين على القارة الشمالية الأمريكية،
دخلت الولايات المتحدة عصر الجماعين. هذا لا يعني بالطبع أن الرأسمالية كانت
دائماً متغلبة في المجتمع الأمريكي، ولكن ببساطة يعني أنه منذ نشأة الولايات
المتحدة كانت قوة النقود سائدة. قبل حرب الانفصال عام 1861 - 1863م أكبر
أغنياء أمريكا (ملاك الأراضي) كانوا على رأس المجتمع والحكومة، ولكن منذ
تلك الحقبة صار الوضع الاجتماعي الأعلى يخص ملاك الرأسمال المالي والمشاريع
الصناعية. هكذا هيمن الأثرياء تحت شكل أو آخر على المجتمع الأمريكي منذ
ولادته. وهذا يشهد على طول واستمرارية عصر الجمّاعين» (ص 279) .
المضيف: ولكن ما علاقة هذا الكلام بموضوعنا؟
سقوط: كما قلت فإن أمريكا تعيش عصر جماعين (متمثل في الرأسمالية)
طويل، ولكي نفهم أمريكا المعاصرة جيداً لا بد لنا من التعرف على صفات
الرأسمالية التي تأسست عليها أمريكا، ولا بد من التعرف أيضاً على سمات عصر
الجماعين.
فالحجة التي كان يتخفى وراءها كبار الرأسماليين ومنظروها في القرن الثامن
عشر للوصول إلى أقصى حرية في البحث عن الربح.. هذه الحجة «مفادها أن
الكائن الإنساني مدفوع قبل كل شيء بدوافع فردية وأنانية، كل أفعال الإنسان
تصدر عن حب البقاء أو حفظ الذات، أي: عن الفردية والأنانية. الفردية والبخل
ليسا إذن شراً وإنما فضيلة؛ إذ يساعدان على العمل الجاد وعلى الازدهار. هذا
يعني أن على الدولة تخفيف تدخلها في النشاطات الإنسانية إلى الحد الأدنى حتى
تبلغ الرفاهية الفردية والاجتماعية حدها الأعلى» (ص 295) .
و «ليس فقط الممارسة الحرة لقوى العرض والطلب للسلع تقود إلى فعالية
اقتصادية قصوى، ولكن أيضاً حسب [الاقتصادي الشهير] سميث إنها تكفل معدلات
عالية من النمو الاقتصادي، وبهذا يكون ارتفاع مستوى الحياة. لكن النمو يتوقف
على تراكم رأس المال، والذي يتوقف بدوره على الربح الكافي. ها هو خط دفاع
آخر للسلوك الاستحواذي والغرضي، حيث يعدونه ضمانة استمرارية التقدم
الاقتصادي للمجتمع» (ص 296) .
وهذه النظرة ترسم لنا خارطة القوى واتجاهات الحركة ودوافعها في أمريكا:
فـ «الرأسمالية تعرَّف على أنها نظام اجتماعي اقتصادي سياسي، والذي تكون فيه
وسائل الإنتاج (الصناعة، المصارف، الموارد الطبيعية) ملكية خاصة لأصحاب
المشروعات والخواص، وحيث يلعب النظام السياسي لصالح هؤلاء الملاك،
وحيث يحدد هؤلاء كيفية توزيع الدخل الوطني. ويمكن تعريفه أيضاً على أنه نظام
يكون فيه الرأسماليون ملاك وسائل الإنتاج أحراراً في سعيهم لتحقيق أعلى حد من
الأرباح. هذه الحرية في العمل لزيادة الأرباح هي أساس الرأسمالية»
(ص 293) .
وعلى ذلك، فرغم المظهر التعددي في التجربة السياسية الأمريكية إلا أن
الحقيقة أنه «ليس هناك إلا حزب سياسي واحد، إنه حزب الفيدراليين، والذي
تسيطر عليه المصالح العقارية، وبدون معارضة حقيقية من تيارات أخرى. ولادة
النظام الحديث (المتمثل في حزبين، لكل منهما برنامجه، أسلوبه، وسياسته
الخاصة) هو مظهر متأخر، والذي وصل ذروته عام 1854م، عند الحزب
الديمقراطي الذي تكون منذ عام 1825م، مواجهاً معارضة من الحزب الجمهوري.
مع هذا، إذا كان هذان الحزبان السياسيان مختلفين جداً في بعض النواحي، إلا
أنهما وقعا شيئاً فشيئاً في يد كبار الرأسماليين الماليين والتجار. وهذه هي المجموعة
من الجمَّاعين التي تستخدم الدستور لصالحها الخاص والتي استمرت في ذلك حتى
اليوم» (ص 287) .
ولأن أشد ما يكرهه رجال الأعمال هو التنافس بينهم؛ لأن التنافس يزيد من
عدم الثقة ويحد من الربح، فقد فطنوا «إلى تدخلات وتنظيمات السلطة العمومية
خوفاً من أن يؤثر هذا سلباً على مصالحهم. التنظيم بالطبع مرحب به من قبلهم إذا
وضع حداً للتنافس وكفل لهم عائداً منتظماً وعالياً» (ص 288 - 289) .
وهكذا حدد الرأسماليون لأمريكا دور الدولة وأهدافها حسب مصالحهم التي
عبروا عنها بالمبدأ الشهير (دعه يعمل دعه يمر) ، استطاعوا الوصول إلى تطبيق
ذلك المبدأ داخل أمريكا والدول الرأسمالية عامة، ويريدون تعميمه على العالم أجمع،
فـ «نظرية دعه يعمل اليوم تعتبر نظرية كلاسيكية في علم الاقتصاد، هذه
الأيديولوجيا الاقتصادية ليبرالية تواكبت مع عقيدة سياسية تختزل الدولة أو الحكومة
إلى مجرد شر ضروري. شر بسبب تدخلها في الحريات الفردية ولكن ضروري
لتفادي الغوغائية، يحدد سميث للحكومة ثلاث وظائف أساسية: العدالة، الدفاع
الوطني، تقديم بعض الخدمات العمومية قليلة العائد بشكل لا يمكن للمشروعات
الخاصة أن تقدمها» (ص 297) .
طليعة: أضيف هنا ما ذكره الرئيس الأمريكي ودور ويلسون في نص خاص
ضمن مذكرات سرية توضح المعنى الحقيقة لمُثُل ويلسون العليا التي يثرثر بها
كثيراً مثقفو الغرب! ، يقول ويلسون: «بما أن التجارة لا تعرف حدوداً قومية،
وبما أن المنتج يحتاج إلى العالم ليصبح بأجمعه سوقه التجاري، فلا بد إذن من أن
يسبقه عَلَم بلاده، حتى يوفر له فرصة اختراق كل الأبواب المغلقة، ولا بد أن
يحمي رجال الدولة الامتيازات التي يحصل عليها رجال المال، حتى ولو أدى ذلك
إلى تدمير سيادة الأمم التي تحاول التصدي لذلك. يجب إقامة المستعمرات أو ضمها
حتى لا نترك أي ركن في العالم» (ص 53) ، هذا هو دور الدولة الرأسمالية
خارج حدودها، هذا هو دور أمريكا في النظام العالمي الجديد (القديم) ! .
سقوط: أعود إلى إكمال حديثي، فأذكر لكم سمات عصر الجمَّاعين، فهو
عصر يتصف بـ ...
المضيف: عفواً د. (سقوط) ، إن الأفكار كثرت وتتداخل مع بعضها،
وأخشى أن تتوه بعضها وسط هذا الزحام الفكري، أحب أن ألخص وأركز ما سبق
ذكره، ما فهمته مما سبق هو الآتي:
1 - أمريكا قامت على الاعتداء على الآخرين (الهنود الحمر) وإبادتهم أو
نفيهم في المعازل ومصادرة أملاكهم بذرائع دينية نفاقية ورغبة توسعية استعمارية.
2 - الرابطة التي تجمع شتات الأمريكيين المتنوعين عرقياً وثقافياً ودينياً هي
المصلحة المادية والمنفعة الاقتصادية.
3 - تقوم الرأسمالية الشائعة في أمريكا على الفردية والأنانية التي تدفع إلى
الرغبة في تراكم رأس المال وانتهاج السلوك الاستحواذي والغرضي.
4 - يتحكم الرأسماليون في أجهزة الدولة الأمريكية ويوجهونها لمصلحتهم،
مما رسم دور الدولة في الداخل بعدم التدخل في الحريات الفردية، وحصر دورها
في وظائف محدودة تاركة للشركات والمنظمات والجهات النافذة فرصة التفاعل فيما
بينها، أما في الخارج فدور الدولة ينصب على حماية مصالح أمريكا الرأسمالية،
حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير سيادة الأمم.
هناك نقاط مما سبق تستحق المناقشة التفصيلية، ولكن قبل أن ننتقل إلى
طرح نقطة أخرى للمناقشة، ألا ترون أن الكلام عن سلوك أمريكا الطامح في
السيطرة والهيمنة على الآخرين لاستغلال ثرواتهم ونهبها.. يعارضه سلوك آخر
خيِّر يتمثل في المعونة الأمريكية التي تمد أمريكا بها دولاً أخرى محتاجة؟ أليس
هذا السلوك يستحق التوقف عنده والإشادة به وتقديره حتى نكون منصفين؟
طليعة: للأسف، الأمر ليس كما تظن، يؤخذ عليكم أيها العرب أنكم
تنخدعون بسهولة بمظهر حسن قد يكون مزيفاً أو لفتة إنسانية قد تكون غير مخلصة
أو شعار براق قد يكون خادعاً، وما نحن بصدد الحديث عنه مثال على ذلك،
المعونة الأمريكية لا تخرج إلا لتحقيق المصلحة الأمريكية، ومما يثبت ذلك: ما
رصدته دراسة مؤرخة في إبريل عام 1947م وسجلت فيه أن ظاهرة «المعونة
الأمريكية يجب أن توجه فقط» إلى البلدان ذات الأهمية الاستراتيجية الأساسية
للولايات المتحدة، إلا في حالات نادرة جداً، حيث تسنح الفرصة للولايات المتحدة
عن طريق هذه المعونة للحصول على الرضا العالمي نتيجة فعل إنساني
استعراضي «.
(Joint Chiefs of Staff. (1769/1)) .
[وقد] أعرب وزير الخارجية دين أتشيشون وبعض النواب الأمريكيين عن
الموافقة، في عام 1950م، على هذا المبدأ:» إذا حلت المجاعة بالقارة الصينية،
وجب على الولايات المتحدة تقديم القليل من المساعدة، لا لمقاومة المجاعة نفسها،
وتعنى فقط بقدر ما تكون كافية لإحراز نقطة في الحرب النفسية « (ستيفان شالوم،
أكتوبر، 1990م، Stephen Shalom: Z Magazine) » (ص 69) ،
إنها المصلحة يا عزيزي، إنها أمريكا، بلد مصالح لا غير! ، إنني أرى أن
النفاق السياسي الأمريكي يستحق أن يفرد له محور خاص في هذه الندوة.
المضيف: لا شك أن ذلك وارد، ولكن مما أثار انتباهي في النقاط السالفة
الذكر: دور الدين في المجتمع الأمريكي وفي السياسة الأمريكية، هل للدين دور
عندهم؟
سقوط: سأجيب على سؤالك من خلال النظرية الفلسفية الاجتماعية نفسها
التي أتبناها.. إننا «إذا تفحصنا أعماق السلوك الاستحواذي لقادة العالم فإننا نعثر
على سبب كل المشاكل الدولية، ذلك لأن الوعي الإنساني ليس له أبعاد إلا في
الناس، فإن الظمأ إلى السعادة غير متناهٍ وغير محدود، وكوني. بسبب هذا الظمأ
إلى غير المتناهي فإن الروح الإنسانية تمل ما عندها وتجري وراء ما ليس عندها،
أي الحصول على أشياء مادية بكمية أكبر دائماً، لكن مع ذلك ليس هذا علاج الظمأ،
لأن الأشياء المادية هي نفسها متناهية، وكل شيء متناهٍ لا يمكن أن يكون مصدر
سعادة غير متناهية. وعي الذات باعتبارها كياناً واعياً غير محدود يمكن وحده أن
يكون مصدر سعادة، هذه النقطة الأساسية صحيحة منذ أقدم العصور وستبقى كذلك
إلى الأبد» (ص 321) .
«ذلك لأن الروح، بعد أن تكون لهثت في العالم المادي المتناهي أي طلبت
كل التلهيات بدون جدوى، توجب عليها إغراق حاجتها الفطرية إلى غير المتناهي،
في النبيذ والوسكي والمخدرات، ومع ذلك لا يقود هذا الطريق إلا إلى كارثة
شخصية واجتماعية، والتي في نهايتها تبذر بذور نهضة روحية» (ص 322)
وهذا ما حدث ويحدث في أمريكا.
طليعة: إنني أرى شخصياً أن الدين في أمريكا على الأقل على مستوى
سياستها الرسمية لا يخرج عن الإطار العام لسياستها العامة: المصلحة، المنفعة،
الهيمنة.. أضرب لكم مثالاً يوضح ما أقوله، ثم أعقبه بإيضاحات أخرى: «لقد
أعلن رونالد ريجان أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها» أمة مباركة
من الله «. لكن أحد رجال الدين الإسبان جرؤ على استهجان ما قاله ريجان واصفاً
إياه بأنه» تجديف وهرطقة «، لأن ثروة وقوة الولايات المتحدة لا تأتي من مباركة
الله، ولكنها ترجع إلى استغلال العالم وبخاصة العالم الثالث عبر التبادلات غير
المتوازنة وغير المتعادلة، وفرض استيراد المنتجات الأمريكية بالقوة، وغزو
رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض فيها المرتبات، وعبر الفوائد
الاستغلالية» للقروض «.
هذا هو تقييم خمسة قرون من الاستعمار وخمسين عاماً من تطبيق نظام
» بريتون وودز «والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ثم منظمة التجارة العالمية.
ولم يتوقف منذ ذلك الحين دق علامة الصليب على أسنة السيوف، كصنم يمثل
الذهب والموت. ها هي ذي القصة كلها، فهي لا تخرج أبداً عن هذا الإطار،
وهذا هو لُبّ القضية» (ص 109) .
مرة أخرى يا عزيزي.. إنها المصلحة، إنها هنا ترفع راية الصليب، لو
كانت مصلحة الأمريكي في التودد إلى الإسلام فستجده أول من أمسك بالمسبحة،
ولو كانت في المسيحية ستجده أول من يتمسح بالصليب.. قد يتقلبون في أديان
شتى وقد يناصرون أو يعادون أكثر من دين، ولكنهم لا يتخلون أبداً عن ديانة
محددة لا يجرؤون على التصريح بأن اسمها (وحدانية السوق) ، «لا يتحول
السوق إلى ديانة إلا عندما يصبح [هو] المحرك الوحيد في العلاقات الاجتماعية،
الشخصية أو القومية، والمصدر الوحيد للسلطة والتسلسل الاجتماعي. ولسنا الآن
بصدد أن نكتب تاريخ هذا التحول الكبير الذي أصبحت فيه كل القيم الإنسانية قيماً
تجارية بما فيها قيم الفكر والفن، بل وقيم الضمير» (ص 40) ، وعلى أساس
هذا الدين تكون الصدامات أو التحالفات «وذلك يعني أن ما أوضحته في كتابي
» نحو حرب دينية «كان يعني الصدام الحضاري، لأن» وحدانية السوق «
ستعمل على تهشيم مقاومة كل هؤلاء الذين حافظوا على نظام آخر للقيم يختلف عن
القيم التجارية، والذين بدفاعهم عن هويتهم يدافعون عن معنى الحياة»
(ص 26، 27) ، ولا مانع من أجل فرض هذه الديانة أن يتحالف رجال السياسة
مع (رجال الدين) وأن يمهد كل منهما للآخر في المواقع المستهدفة، بل لا مانع أن
يلبس كل منهما رداء الآخر، إنني أرى أن «النموذج الأمثل للأصولية هو
الاستعمار الذي كانت حجتاه الأيديولوجيتان نشر وإرساء» الإنجيلية «ليفرض على
العالم مفهومه الخاص عن الدين، وليقوم العسكريون والتجار بالباقي، أي بالمجازر
والاستغلال.
وعندما يتراجع الدين، يتقدم نفس المنفذين ليفرضوا على العالم» حداثتهم «
(ص 149) .
إن استخدام الدين والتاريخ لأهداف سياسية يتضخم في الفترة المعاصرة على يد
أمريكا والغرب عامة،» ويكفي مثال واحد: لتسويغ سباق التسلح أو السيطرة
الاقتصادية، يُصطنع تاريخ الخصم على أنه شيطان، فقد كان الاتحاد السوفييتي
هو «إمبراطورية الشر» ، وبعد انهياره وجد جورج بوش [الأب] في الإسلام بديلاً
ليسوغ السياسة نفسها. وعلى النقيض من ذلك، ظهر «تاريخ مقدس» ، كان في
البداية تاريخ العبرانيين، ثم استولى عليه المسيحيون الذين ادعوا وراثتهم ليسوغوا
حملاتهم الصليبية، ثم استعمارهم « (ص 181) .
وهذا ما يؤكده يوهان جالتونج في كتابه (لاهوت الهيمنة الأمريكية) ، حيث
يقول:» هكذا اتفقا [الآباء المؤسسون لأمريكا مع الپيوريتانيين (المتطهرون) ]
على تكوين جبهة ضد الإسلام. إن الاقتناع بكونهم الشعب المختار، قد سبقه
الاقتناع بأن الولايات المتحدة هي الأمة الأقرب إلى الله من أي أمة أخرى، وذلك
موضح على شعارهم المدون على كل دولار: «In God We Trust» (إننا
نثق بالله) .
من ثم، فإن الدولة الأقرب إلى الله هي أيضاً ممثلة الله على الأرض طبقاً
لثلاث خصائص رئيسية، من صفات الله: امتلاك كل العلوم، والقوة الشاملة،
والإحسان.
ويعني هذا رقابة إليكترونية على العالم وعلى الذين يُشك في كونهم ممثلي
الشر وحَمَلَته.
وتستأثر الولايات المتحدة لنفسها بمعرفة من يدخلون تحت هذا التصنيف، فلا
توجد محاكمة لهم؛ بما أن الولايات المتحدة تحتكر مسألتي الثواب والعقاب،
بالإضافة لحق الادعاء، هكذا تمارس هيمنة ثقافية وتمتلك قوة اقتصادية وعسكرية
تحت إدارة البنتاجون وجهاز الاستخبارات (CIA) لتنفيذ أحكامها.
تستحق «إمبراطورية الشر» أن تُسحَق حتى تعود إلى العصر الحجري،
إنه لواجب « (ص 242 243) ... هل رأيتم دجلاً أكبر من ذلك؟ !
المضيف: في الحقيقة: إن كلامكما يثير نقطتين في غاية الأهمية من وجهة
نظري، الأولى: حول الأمراض الاجتماعية في المجتمع الأمريكي، والثانية:
حول اتخاذ الإسلام والعالم الإسلامي هدفاً للعداء في الحرب (الحضارية) الجديدة
التي تشنها أمريكا نيابة عن الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
ولكن قبل الخوض في هاتين النقطتين، أذكر الدكتور (سقوط) بأنني كنت
قطعت حديثه سابقاً عندما أراد أن يذكر لنا سمات عصر الجمَّاعين، فليتفضل ليكمل
حديثه.
سقوط: أفضل أن أستأنف الحديث عن هذا الموضوع مع أو بعد الحديث
عن النقطة الأولى التي ذكرتها الآن: الأمراض الاجتماعية في المجتمع الأمريكي.
المضيف: إذن فلنكمل الحديث عن استهداف الإسلام والعالم الإسلامي
بالعداوة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
طليعة: لا شك أن» انتهاء الحرب في عام 1945م، ثم انهيار الاتحاد
السوفييتي في عام 1989م، وضعا الولايات المتحدة أمام المشكلة الصعبة، وهي
تسويغ استمرار سياسة التسليح أمام شعبها، إذ إن تلك السياسة هي أحد العناصر
الأساسية وغير المستغنى عنها لعمل الاقتصاد الأمريكي ...
كان يجب إذن البحث عن بدائل لـ «إمبراطورية الشر» . ولذلك برز كل
من «الحق في التدخل الإنساني» أو «حماية الحقوق» أو «حرب المخدرات»
(ص 70) .
«وإذا صدقنا ما تحدث عنه هنتنجتون وأسماه» صدام الحضارات «،
فسنجد أنه لو اندلعت حرب ثالثة فستصبح حرباً من نوع جديد، هكذا قال
هنتنجتون، فلن يكون سببها نزاعاً» أوروپياً أوروپياً «، ولكنها ستكون مواجهة
بين الحضارات ... بين» المركز « (وهو الغرب) وبين الأطراف (أو
المستعمرات القديمة) . بل إن هنتنجتون يعطي أيضاً كلاً من المجموعتين صبغة
دينية: إذ سيكون الصدام بين حضارة» يهودية مسيحية «وأخرى» إسلامية
كونفوشيوسية «.
إن طريقة طرح المشكلة عنده خاطئة، ولكن المشكلة حقيقية، فالولايات
المتحدة في خطتها للسيطرة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عينت العدو
البديل أو» الشيطان «الذي يجب القضاء عليه وهو» الإسلام «وحلفاؤه
المحتملون فيما يسمى بالعالم الثالث» (ص 26) .
وفوق أن الإسلام هو الأيديولوجية الوحيدة الباقية التي يمكن أن تنافس
أيديولوجية الغرب ولا ترضخ للديانة الجديدة (وحدانية السوق) ... هناك سبب
آخر جوهري لاستهداف العالم الإسلامي، هذا السبب نابع من الجغرافيا والتاريخ..
فلا يخفى على أحد «أن النقطة الحساسة لحدود الإمبراطورية الأمريكية هي الخليج
الفارسي/ العربي الذي تحيط به أغنى منابع البترول والذي سيظل عصب التنمية
الغربية لعدة قرون قادمة، وعلى هذا الخط الساخن، حققت» وحدانية السوق «
آخر انتصاراتها بتحطيم العراق، وفي هذا الموقع» الحساس «لحدود
الإمبراطورية الجديدة، لا تتوقف دولة إسرائيل عن لعب الدور الذي حدده لها
مؤسسها الروحي تيودور هرتزل، ألا وهو أن تكون» حصناً متقدماً للحضارة
الغربية في مواجهة بربرية الشرق «» (ص 27) .
الفرصة [4] : صحيح «إن أكثر ما يهمنا في الشرق الأوسط هو البترول
وإسرائيل، ولو أنهما لا يسيران دائماً في اتجاه واحد، فالتزاماتنا نحو إسرائيل
تجعلنا نتحمل مصاريف باهظة في بترول الخليج» (ص 152) .
«إن التزاماتنا نحو إسرائيل عميقة جداً، فنحن لسنا مجرد حلفاء، ولكننا
مرتبطون ببعضنا بأكثر مما يعنيه الورق، نحن مرتبطون معهم ارتباطاً أخلاقياً»
(ص 152) .
«إن مصالحنا تحتاج إلى حسابات معقدة، فعلينا المحافظة على بقاء
إسرائيل، وفي نفس الوقت التعامل مع الدول العربية المعتدلة لضمان أمان الخليج»
(ص 152) .
ومع ذلك فإننا لسنا منغلقين تجاه جميع الأطراف في العالم الإسلامي، بل
«يجب علينا أن نعاون التقدميين في العالم العربي، ففي ذلك مصلحتهم ومصلحتنا،
فهم محتاجون لأن يعطوا أنصارهم بديلاً لأيديولوجية الأصوليين المتطرفين،
وانغلاق الرجعيين» (ص 141) .
لقد كنت أرى دائماً «أن مفتاح السياسة الأمريكية يكمن في التهاون
الاستراتيجي مع المسلمين التقدميين فقط، ويُقْصَر التعاون مع الأصوليين
المتطرفين والرجعيين على الناحية التكنيكية فقط. ولما كنا نشارك التقدميين في
أهدافنا فيجب أن يغطي تعاوننا جميع المجالات الاقتصادية والأمنية، ونظراً لأننا
نختلف مع الأصوليين والرجعيين في قيمهم فيجب ألا تتعدى روابطنا معهم
الاحتياجات العاجلة الوقتية، علينا أن نعمل معهم ما داموا في السلطة، ولكن لا
ندخل معهم في مشاركة واسعة المجال، لا ضرورة لأن نفرض عليهم الأصوليين
والرجعيين حظراً شاملاً للتجارة، أو غير ذلك من الإجراءات الحادة، ولكن علينا
أن نبتعد عن التسويغات» المائعة «لتصرفاتهم، أو عدم التدخل في صراعاتهم مع
جيرانهم، يجب ألا نسقطهم من حساباتنا، ولكن بالقطع لا يجب علينا ألا نساهم في
تقدمهم، وعلينا أن نلتزم بسياسة العين بالعين والسن بالسن في كل حالة معهم»
(ص 142) .
الإعداد [5] : مع عدم إغفال أهمية هذا الكلام، إلا أنني أرى أن كلام
(طليعة) أقرب إلى الواقع الآن، وذلك لأن القوة العسكرية الأمريكية وإن كانت
«تزيد من أهمية الولايات المتحدة على الساحة الدولية، فإن ذلك لا يعود بالضرورة
بمكاسب على الشعب الأمريكي، والواقع أن التكاليف الدفاعية قد تسببت بأضرار
اقتصادية، فيما لا يبدو أن الولايات المتحدة قد تحصنت جيداً ضد الأخطار غير
العسكرية، لقد أمنت الحرب الباردة» الأسمنت «السياسي الذي وحَّد بين أكثرية
الأمريكيين من جمهوريين وديمقراطيين، وجعلهم يتقبلون ميزانيات عسكرية هائلة
وتحالفات مقيّدة. ولكن، بعد أن أزيل الاتحاد السوفييتي، فإن هذا الإجماع بات
عرضة للانهيار، وذلك أقله، لما قد يجد بعض الأمريكيين من صعوبة لتسويغ
التواجد العسكري على نطاق عالمي، وفيما يتساءل بعض الاستراتيجيين إذا كان
من الأفضل سحب القوات من أوروبا وإعادة موضعتها لمواجهة الأخطار الخارجية
في العالم النامي، يشكك البعض الآخر بالفائدة من القوة العسكرية أصلاً، وذلك أن
الولايات المتحدة لا تواجه خطر الأسلحة النووية، بل أساساً أخطار
البيئة والمخدرات وفقدان القدرة التنافسية على الصعيد الاقتصادي»
(ص 180 - 181) .
المضيف: وكأنك تريد الانتقال الآن إلى الحديث على النقطة الثانية التي
تدور حول أمراض المجتمع الأمريكي، ولكن قبل الانتقال إلى هذه النقطة عفواً د.
سقوط نود الانتهاء من الحديث عن نقطة أثيرت من قبل ولم تذكر مرة أخرى،
وهي مناسبة للحديث في هذا السياق، وأعني بها: الحديث عن النفاق السياسي
الأمريكي.
الفرصة: أعترض على عبارة (النفاق السياسي الأمريكي) .. كثير من
غير محترفي السياسة لا يقدرون الظروف التي قد تضطر السياسيين إلى (المناورة)
لتحقيق المصالح وإصابة الأهداف.. لذلك فقد «يغضب الأمريكيون عندما
تضطر إحدى الدول الصديقة، نتيجة لضغوط داخلية، أن تعارض سياستنا، فعلى
سبيل المثال عندما تصوت المكسيك ضدنا في الأمم المتحدة يصرخ الأمريكيون
قائلين إن هذا نكران للجميل، وعدم تقدير للمسؤولية، ولكن بالرغم من معارضة
المكسيك لنا التي لا بد تمليها الضغوط الداخلية فإن المكسيكيين يمثلون شريكاً مهماً
ذا قيمة للولايات المتحدة. ويمكن أن نضرب مثلاً آخر بالفلبين، فقد عبرت
لمضيفي الفلبيني أثناء زيارتي للفلبين عام 1953م، عن قلقي من خطبة ألقاها أحد
أعضاء مجلس الشيوخ الفلبيني، هاجم فيها سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وقد
أكد لي مضيفي أن هذا العضو مشايع جداً لأمريكا، وعندما قلت له إن هذه طريقة
غريبة لإظهار تأييده لأمريكا، أجاب قائلاً:» إنك لا تفهم السياسة الفلبينية، إن
(روشتة) النجاح في الفلبين هي أن تَلْعَن الأمريكيين، وتدعو الله أن لا يذهبوا
بعيداً «. وبصرف النظر عما يجري في الفلبين من مشاكل داخلية فقد كانت
الفلبين من أصدق أصدقاء الولايات المتحدة منذ استقلالها عام 1946م»
(ص 145) .
لذلك فقد أوصيت قادة أمريكا بأن يراعوا في سياستنا تجاه العالم الإسلامي
«أن لا نبالغ في علاقاتنا مع الدول التقدمية، حتى لا تكون هذه العلاقة هدفاً
للناقدين. ولما كانت ذكريات الاستعمار لا تزال ماثلة في أذهان العالم الإسلامي،
فيجب ألا تصل العلاقة بين أمريكا والدول الشريكة إلى حد الوصاية، ويجب ألا
نتعامل مع الزعماء في الدول التقدمية كأنهم مراسلون بيننا وبين شعوبهم، بل علينا
أن نعاملهم كشركاء متساوين، لأن أسرع طريقة ندفنهم بها هي معاملتهم كأنهم
أبواق للدعاية للغرب» (ص 145) .
كما أن «علينا أن نتقبل في بعض الأحيان رفض أصدقائنا في العالم
الإسلامي لبعض تصرفاتنا، التي تسبب لهم حرجاً سياسياً في بلادهم ... فيجب ألا
يزعجنا أن تضطر الظروف أصدقاءنا أن يتفوهوا ببعض السباب ضدنا إرضاء
لأعدائنا» (ص 146) .
هل هذا نفاق؟ ! إنه سياسة تقتضيها الحكمة والظروف.
طليعة: أيًّا كانت التسمية.. الحقيقة التي يشهد لها التاريخ أن السياسة
الأمريكية لا تعترف بمبدأ كما تدعي وتروج، ليس ثمة مبدأ إلا مصلحة أمريكا،
بل مصلحة أصحاب الأموال فيها، لا ديمقراطية ولا عدالة ولا حقوق إنسان ولا
مبادئ دولية.. إنها مجرد واجهات تحتكرها الآلة السياسية الأمريكية للتمكين للديانة
الجديدة (وحدانية السوق) .. وإليكم الأمثلة:
- فـ «في الصباح التالي لنهاية الحرب العالمية الثانية، ... لم يتردد القادة
الأمريكيون في استخدام جنرالات من النازيين الجدد في شتى أنحاء العالم!
سياسة التعاون مع النازي، بعد الحرب العالمية الثانية، في كل أمريكا اللاتينية،
كانت لها سابقة بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن مع الفاشية!
منذ عام 1922م امتدح السفير الأمريكي في إيطاليا» التقدم نحو روما «
لموسوليني الذي قضى على أي ديمقراطية في إيطاليا، بوصفها» الثورة الجميلة
والشابة «. وشرح لماذا قد يكون الفاشيون العامل الأقوى في الضغط على البلاشفة
ومواجهتهم، ومن ثم: تمتعت إيطاليا الفاشية بوضع خاص من جانب الإدارة
الأمريكية، وكانت إحدى الدول الأولى بالرعاية فيما يخص تسوية ديون الحرب
والاستثمارات الأمريكية المتدفقة، في عام 1933م، تحدث تيودور روزفلت عن
موسوليني بوصفه» هذا الجنتلمان الإيطالي المهذب واللطيف «.
في عام 1937م، أكدت إدارة الدولة الأمريكية بأن» الفاشية أصبحت روح
إيطاليا «،» لقد وضعت حداً للنظام الفوضوي وفرضت نظاماً خاصاً إيطالياً «
(ص 58 - 59) .
- وبعد أن أمم مصدق البترول في إيران عام 1951م، خططت وكالة
الاستخبارات الأمريكية انقلاباً عليه وقلبت بالفعل نظامه البرلماني وأعادت الشاه،
ثم أخذت الشركات الأمريكية 40% من الحصة البترولية المخصصة لبريطانيا
» لقد علقت النيويورك تايمز حينئذ على ما حدث في افتتاحيتها موضحة الأمر
على كونه «امتيازاً جديداً» وفتحاً عظيماً، وأوضحت أن هناك الكثير مما يمكن
أن نتعلمه من هذه التجربة، وأول هذه الدروس وأهمها كما أوردت «النيويورك
تايمز» : «على البلدان النامية الساعية للتطور، والتي تملك موارد طبيعية لا
بأس بها، أن تتعظ من هذا المثال الذي تم ضربه، فإذا اتبعت من يهذي بقومية
مجنونة، فإن هذا سيكلفها دون شك الكثير. إن التجربة الإيرانية تبدو مقنعة لأي
مصدق آخر، وتظهر له أن عليه أن يخلع نفسه من السلطة. كما أن التجربة
ذاتها تحدد وتوضح لباقي القادة وتضيء لهم التصور المحدد لأولوياتنا»
(افتتاحية «النيويورك تايمز» 6/8/1954م) « (ص 79) .
- سياسة الانقلابات على الديمقراطيات سياسة مقننة في أمريكا إذا كان في
ذلك مصلحتها، هذا ما يؤكده تقرير لمكتب الاستخبارات الأمريكية، الذي يقول:
» كما رأت الولايات المتحدة أنه في الدول التي يصعب فيها التحكم في الشرطة
والعسكريين بطريقة مباشرة، يجب قلب نظام الحكم، وأن يصل إلى الحكم فيها
نظام أكثر تودداً للولايات المتحدة، وأن يوضع على رأس القمة والحكم «جيش
دائم التواجد في السلطة» على طريقة «الحرس الوطني» أعوان سوموزا الذي
ظل طوال سنوات حكمه من المقربين للولايات المتحدة « (مكتب الاستخبارات
الأمريكية للمعلومات المتداولة، 13 مايو، مجلة OCI العدد 1803: 65) »
(ص 80) .
ومن أجل نجاح هذه الأنظمة القمعية المنقلبة على شعوبها «خصصت
المدرسة العسكرية للأمريكيين، لتدريب ضباط الجيش والشرطة في بلاد أمريكا
اللاتينية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكان مقرها في فورت بيننج
(ولاية جورجيا) ، وتتطلب مراناً قاسياً. واعترفت وزارة الدفاع الأمريكية بأن
الكتب التعليمية المستخدمة في المدرسة كانت تحبذ ما بين عامي 1982م و 1991م
ممارسة التعذيب والتصفية الجسدية والابتزاز، وكل أنواع العنف لاستخلاص
المعلومات من المعارضين، والمناضلين السياسيين أو guérilleros.
وعلى الضابط ألا يغفل عن تقديم الهدايا مقابل أي معلومات تؤدي إلى اعتقال
أو أسر أو قتل رجل العصابات الذي تعتبره الحكومة الشرعية مجرماً» (مقال في
جريدة «لوموند» 2/9/1996م: بعنوان: دروس في التعذيب والابتزاز في
مدرسة الأمريكيين) « (ص 288 289) .
-» في الجزائر، تباين رد الفعل الأمريكي مع مبادئ دستورها المؤسس.
وذلك عندما التقى الرفض الشعبي لسياسات صندوق النقد الدولي والذي ظهر
بوضوح في تظاهرات الجزائر عام 1988م، مع حركة إسلامية ترفض بوضوح
مبدأ وحدانية السوق. بذلك عرضت جبهة الإنقاذ الإسلامي FIS موقفاً مهماً رغم
افتقادها لمشروع حقيقي، فإن رفضها لوحدانية السوق وتلك الليبرالية التي تؤدي
إلى الانعزال والتهميش لأربعة أخماس العالم لحساب خمسه، مع ذلك فإنها وضعت
الغرب الديمقراطي في موقف حرج، فقد جعلها رفضها لمبادئ هذا النظام المشرِّع
للهيمنة على العالم، قرينة للشر.
لم يكن دعم العسكريين لأسباب اقتصادية فقط (فالجزائر مدينة بما يقدر
بـ 21 مليار دولار، وتدفع كل عام 5. 5 مليار دولار فوائد) ، ولكن بسبب
سياسي أكثر أهمية، وربما دينياً، مما يطرح سؤالاً حول ماهية وأهداف المجتمع
المبني على أساس اقتصاد السوق.
لقد أعلن مدمرو الكوكب من أتباع الدين السري الجديد «وحدانية السوق»
حرباً حقيقية للدين، مع تحويل كل ما يخالف ديانتهم إلى شيطان.
بغض النظر عن المميزات والحسنات أو الجرائم والأخطاء، فإن كل من خالف
معبودهم وهيمنتهم أصبح هتلر جديداً سواء كان أصولياً أو عراقياً أو حتى معارضاً
من بيرو « (ص 123) .
لقد انكشف» النفاق المروع في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في
الجزائر: إذ انكشف التناقض حين اضطر النظام «الليبرالي الديمقراطي» إلى
اتخاذ موقف يتناقض مع مبادئه وهو يقاوم جبهة الإنقاذ الإسلامي (FIS) ، وذلك
بموافقته على وقف مسيرة الانتخابات الحرة ومساندته انقلاباً عسكرياً ضدها.
وهنا في الجزائر، كما في فلسطين، تُدفع المشكلة الدينية إلى الواجهة: فلا بد من
مكافحة الحرب الكونية التي تُشتهر باسم دين لا يجرؤون على إعلان اسمه، وهو
«وحدانية السوق» (ص 32) .
- بماذا نسمي تلك المواقف غير (النفاق السياسي) ؟ وهل عرفنا لماذا
يستهدف الإسلام من قِبَل كهنة ديانة (وحدانية السوق) ؟ ، لأنه الصخرة التي تأبى
على التفتت أمام مطارق هؤلاء الكهنة، وهل ما زال هناك أمل لحل مشكلة فلسطين
على أيدي هؤلاء الكهنة؟ انظروا كيف حسموا مشكلة الكويت في أشهر معدودة
وكيف يماطلون في فلسطين منذ عشرات السنين: «بعد إمطار العراق وقت
الحرب بما يوازي حجم المتفجرات التي ألقيت على هيروشيما ثماني مرات، قاتلة
حسب أدنى تقدير للصليب الأحمر الدولي مائتين وعشرة آلاف من الأفراد، تلك
هي خلاصة الحماية للقانون الدولي، الذي يسير دون أدنى شك في اتجاه واحد:
يستخدمونه لمواجهة ضم الكويت ويتناسونه عند تقييم قضية القدس، في الحقيقة،
القدس مدينة مقدسة، لكن مدينة الكويت هي أكثر تقديساً بآلاف المرات طالما هي
محاطة بآبار البترول» (ص 125 -126) .
- للأسف لقد أصبح «الدفاع عن القانون الدولي وعن الديمقراطية مجرد
مسميات تستخدم لستر وإخفاء معالم التدخل وحماية هذا الاستعمار الجديد»
(ص 125) .
ففي الصومال «استغل ما يجعل الإنسان يحلم أحلاماً وردية:» حق التدخل
الإنساني لحماية الإنسان «، وهو حق استثنائي للغربيين، فلا يمكننا أن نتصور
شعباً إفريقياً يستخدم هذا الحق في محاربة التمييز العنصري ضد السود أو الهنود
داخل الولايات المتحدة، حتى بعد انفجار التظاهرات في لوس أنجلوس! وهو حق
يمكن تطبيقه قياساً على ما حدث في الصومال على نصف البلدان الإفريقية.
لكن التدخل يكون انتقائياً.
ولقد أفصح الرئيس بوش [الأب] بوضوح عن هذه النقطة في خطابه الأخير
في الأكاديمية العسكرية وست بوينت:» لا يجب أن نتدخل في حالات العنف
الإجرامي ... إن أيديولوجيات الأمة لا يجب أن تتعارض مع مصالحها «
(ص 124) .
-» ومن اليسير تعداد الأمثلة لاستخدام تلك الذرائع والافتراءات، مثل
«مكافحة الإرهاب» ، أو «التدخل الإنساني» ، أو «حماية حقوق الإنسان»
لتسويغ العدوان المباشر على الدول، أو فرض القيود على الاتفاقيات الاقتصادية
معها « (ص 29) .
والحقيقة التي تتكشف أبعادها كل يوم أن» النظام العالمي الجديد «، كما
يحلم به القادة الأمريكيون، هو تسمية بديلة للهيمنة الشاملة على العالم.
» حق التدخل «هو المصطلح البديل للاستعمار.
فبعد التخلص من الند العنيد الاتحاد السوفييتي (الذي ضحى به قادة روسيا
ودعاة التفتت القومي) أصبحت الأمم المتحدة مؤسسة لتسجيل الرغبات الأمريكية
وتنفيذها، وليتحول دورها إلى ساتر ومسوِّغ قانوني للمخططات الأمريكية، وأداة
التنصل من الجرائم وإثبات البراءة للإدارة الأمريكية. في الوقت ذاته، أديرت
الآلات العسكرية الهائلة إرث مواجهة الغرب والشرق والمتوافرة في يد الإدارة لكي
تلعب أدواراً ومهام أخرى» (ص 112 - 113) .
- وكلمة أخيرة أختم بها هذا الحديث عن التباين بين ما هو معلن وما هو منفذ
أو ما أسميه بـ (النفاق السياسي) ، وهي توضح نفاق الشعارات والمبادئ نفسها
وليس فقط المواقف.
«فالقيام بحملة انتخابية للفوز بمقعد عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي أو
نائب في الكونجرس، يحتاج إلى ملايين الدولارات، وتسمح الثروة في كل الدول
بشراء الأدوات اللازمة للسلطة: ومنها الإعلام للتلاعب بالرأي العام، وكذلك
صناعات السلاح لإقناعهم في نهاية المطاف إذا أخفق الإعلام.
وهذا» الإعلان «» عالمي «!
وكل العالم يمكنه المطالبة بحقوق الإنسان وبمساواة كاملة أمام القانون.
للعاطل والميلياردير معاً الحق المتساوي في إصدار صحيفة أو إقامة محطة
تليفزيونية، ولكن ماذا عن القدرة على ذلك؟ كذلك تمنع تلك المساواة أمام القانون
الميلياردير أو العاطل من سرقة الخبز، لأنهما قد يواجهان عقوبة واحدة، ولكن
ماذا عن حاجة كل منهما لذلك؟» (ص 148) .
إنه عالم أصحاب الأموال!
__________
(1) كتاب: أمريكا طليعة الانحطاط، تأليف: روجيه جارودي، ترجمة: عمرو زهيري، طبعة دار الشروق، القاهرة، 1420هـ 1999م.
(2) كتاب: بعد الشيوعية سقوط الرأسمالية، تأليف الكاتب الأمريكي: د / رافي بترا، ترجمة وتقديم: د / رجب بودبوسي، طبعة الدار الجماهيرية، مصراته، سنة 1997م، والكتاب الأصلي ظهر عام 1978م، قبل سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية الشيوعية، وقد تصرفت تصرفاً يسيراً في الأسلوب بما يتوافق مع روح اللغة العربية وقواعدها ويبتعد عن أسلوب الترجمة الحرفية (اللفظية) السائدة في النص المترجم.
(3) ب / ر / ساركار، أحد كبار الفلاسفة الهنود، صدرت له منذ عام 1955م عدة مؤلفات ومقالات باللغة البنغالية.
(4) كتاب (الفرصة السانحة) ، تأليف: الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، ترجمة: أحمد صدقي مراد، طبعة دار الهلال، القاهرة، 1992م.
(5) كتاب (الإعداد للقرن الواحد والعشرين) ، تأليف السناتور الأمريكي پول كينيدي، ترجمة: د / نظير جاهل، طبعة الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، 1995م، الجزء الثاني.(170/116)
المسلمون والعالم
مستقبل القنبلة النووية الباكستانية
حسن الرشيدي
«هذه هي الأمور بلا لف ولا دوران: سنقيم تحالفاً (هندياً إسرائيلياً)
بقيادتنا وسندمر ترسانتكم النووية» .
هذا جزء من حديث السفيرة الأمريكية لبرويز مشرف الحاكم العسكري
لباكستان بعد تفجيرات نيويورك بأيام قليلة، وتوارد الأنباء عن ضلوع القاعدة في
هذه التفجيرات، وبدء الولايات المتحدة في تشكيل تحالف دولي لضرب حركة
طالبان. وكانت أولى الدول المرشحة لهذا التحالف هي باكستان باعتبارها الحليف
الأقوى إن لم يكن الوحيد لطالبان، ويُذكر أن مشرف في البداية قد تمنع عن تأييد
الولايات المتحدة، واجتمعت السفيرة الأمريكية مع مشرف، وفي أثناء ذلك اللقاء
قالت بعض الأنباء إن طائرات أمريكية وإسرائيلية حلقت في سماء باكستان
وعجزت الدفاعات الباكستانية عن رصدها، وفي ظل هذه الأجواء ألقت السفيرة
بكلامها هذا، وأضافت: «الديون ستبقى، وسنسرع في طلب استيفائها، قضية
كشمير ستخسرونها، هذا إذا امتنعتم عن التعاون معنا ورفضتم فتح سمائكم وأرضكم
وملفاتكم التي تحتفظون بها عن الطالبان وابن لادن أمام هجومنا الذي نزمع شنه
على أفغانستان.
بخلافه، إليكم المكاسب التي ستحصلون عليها: الديون أولاً وهي بين
ثلاثين إلى أربعين مليار دولار ستلغى، وستحصلون على مساعدات من البنك
الدولي، ستظل ترسانتكم النووية بحوزتكم وسنحميها، سيكون لنا موقف يرضيكم
من قضية كشمير» .
هذه جزء من الضغوط التي مارستها أمريكا على باكستان لكي تذعن لمطالبها
بشأن حرب أفغانستان، ولمحت فيها إلى ورقة الأسلحة النووية الباكستانية ليس
بالأقوال فحسب ولكن أيضاً بالأفعال، ولكن كيف ظهرت القنبلة النووية الباكستانية؟
وما هي الظروف التي أحاطت بذلك الظهور؟ وما مستقبل هذه القوة على ضوء
التحديات التي تواجهها؟
تاريخ ظهور القوة النووية الباكستانية:
مع بدايات السبعينيات كانت باكستان تلعق جراحها بعد أن خرجت مهزومة
من حربها مع الهند التي أدت إلى فصل باكستان الشرقية وتكوُّن دولة بنجلاديش،
ومما زاد من مرارة الهزيمة التجربة النووية الهندية في عام 1974م.
هذه الهزيمة حفزت عزيمة باكستان لتصعيد جهودها لامتلاك القدرات النووية
العسكرية، وكان ذو الفقار علي بوتو رئيس الوزراء حينئذ هو الذي بدأ هذه الجهود
في يناير 1972م، وأدارها رئيس مفوضية الطاقة النووية منير أحمد خان،
المهندس النووي الباكستاني الذي تلقى تعليمه في أمريكا، واكتسب خبرة واسعة من
خلال عمله في فيينا في الوكالة الدولية للطاقة النووية. وقد سعى هذا العالم
الباكستاني إلى تنفيذ برنامج نووي كبير وشامل؛ ليوفر لباكستان ما تحتاجه بشدة
من الكهرباء والمنافع الطبية والزراعية، وفي الوقت نفسه يوفر التدريب والتقنية
والتغطية السياسية التي تسمح بإنتاج الأسلحة النووية، وسعت باكستان إلى
الحصول على مساعدة فرنسا لتحقيق هذه الغاية.
وبنهاية عام 1975م ازداد القلق من المطامح النووية الباكستانية، وذلك في
دول الغرب على الأقل. وقامت واشنطن بالضغط على فرنسا لوقف إمداداتها
للبرنامج النووي الباكتساني، وفي شهر ديسمبر من ذلك العام حدث تطور بالغ
الأهمية؛ فقد كان العالم الدكتور عبد القادر خان الخبير في علم المعادن يقوم بزيارة
لوطنه باكستان في عطلة من عمله في شركة هولندية كبيرة، هي شركة (إف.
دي. أو) ، وكانت هذه الشركة المقاول الرئيس من الباطن للشركة الأوروبية
لإخصاب اليورانيوم في مشروع بناء مصنع متقدم فائق السرعة لإخصاب
اليورانيوم بالطرد المركزي؛ لتوفير خدمات الإخصاب للبرامج الأوروبية للطاقة
النووية. وكان عبد القادر خان قد بعث في وقت سابق من عام 1974م رسالة إلى
رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو يعرض عليه خدماته من أجل البرنامج النووي
الباكستاني وبشكل خاص في حقل إخصاب اليورانيوم، ورد عليه بوتو طالباً منه
أن يتصل به في زيارته التالية لباكستان. ولما عاد هذا العالم إلى وطنه
ضغط عليه بوتو بشدة للبقاء، فوافق على عدم العودة إلى هولندا، وعلى أن يتولى
الإشراف على جهود إخصاب اليورانيوم، ثم توجه رئيس الوزراء الباكستاني بعد
ذلك إلى الصين سعياً إلى مساعدتها لتقديم المواد النووية اللازمة. لقد كان يلزم
لصنع هذه القنبلة ثلاثة شروط أساسية: المواد الأولية القابلة للانشطار من يورانيوم
أو بولتونيوم، والقاعدة العلمية من علماء وفنيين، ثم الإرادة السياسية. ويقول عبد
القادر خان: «كان أمامنا هدف أنه لا بد من النجاح بسرعة ودقة؛ ذلك أن أمامنا
عدواً يتربص بنا ويهدد بلادنا كل يوم ... لقد كانت المعركة قاسية للغاية وليست
سهلة» .
وبرغم أن الفترة الزمنية التي حُددت للمشروع كانت خمس سنوات فإنه نظراً
لتسرب أنباء المفاعل النووي بدأت الدول تأخذ حذرها من باكستان في تصدير
المواد اللازمة للمشروع؛ مما أدى إلى الانتهاء منه بعد عشر سنوات في عام
1984م.
وظل الوضع هادئاً حتى عام 1998م؛ ففي 17 مايو من ذلك العام في مدينة
نيودلهي عقد علماء الذرة الهنود مؤتمراً صحفياً أعلنوا فيه قيام الهند بإجراء خمسة
اختبارات نووية. وقبل ذلك كان قد ذكر أن التفجيرات الأخرى التي وقعت يوم
11 مايو تضمنت متفجرة انشطارية تبلغ 12 كيلو طناً، وهي أخف وأكثر إحكاماً
من متفجرة عام 1974م، ومتفجرة تبلغ 00. 2 كيلو طناً، ولم يشر إلى
مكوناتها، أما التفجيران الآخران اللذان وقعا في 13 مايو فقد كان أحدهما 0. 2
كيلو طناً، والآخر 0. 6 كيلو طناً. ولم يذكر العلماء شيئاً عن المواد الانشطارية
المستخدمة في التفجيرات أو عن العمق الذي دفنت فيه قبل إطلاقها. وقد شكك كثير
من علماء الغرب في قوة التفجيرات الهندية، ورجحوا ضعف المستوى النووي
الهندي.
وفي يوم 28 مايو فعلت باكستان ما كان متوقعاً، فقد قامت بإجراء خمسة
تفجيرات نووية في وقت واحد في نفق تحت سلسلة جبال راس كوه بالقرب من
شاجاي في بوشستان، وتحول لون الجبل إلى اللون الأبيض. وعلى الفور تساءل
المحللون في الولايات المتحدة عن عدد القنابل التي جربت وقوتها. وكان الدكتور
عبد القادر خان قد أعلن أن أكبر هذه التفجيرات بلغ ما يتراوح بين 30 إلى 35
كيلو طناً، وذكر الدكتور سمر مباركماند، الفيزيائي الباكستاني الذي تدرب في
أكسفورد، والذي تولى رئاسة برنامج المفوضية الباكستانية للطاقة النووية أن
مجموع اختبارات ذلك اليوم بلغ من 40 إلى 45 كيلو طناً، غير أن المحللين
الأمريكيين شكوا في هذه التقديرات، ورجحوا أنها أقل من ذلك؛ ولذلك قامت
باكستان في يوم 30 مايو بتفجير قنبلة نووية أخرى بعد يومين فقط من التجارب
الأولى، وبذلك أصبحت التجارب النووية الباكستانية ست تجارب في مقابل خمس
أجرتها الهند.
وبعد أحد عشر شهراً من التجارب النووية الهندية في الحادي عشر من مايو
من عام 1999م، والتي أتبعتها باكستان بست تجارب مماثلة قامت الهند بإطلاق
صاروخ بالستي متوسط المدى (اجني 2) ، هذا الصاروخ جاء ليحفز سباقاً نووياً
من نوع آخر وهو القدرة على إيصال القوة النووية إلى مدى أبعد بواسطة
الصواريخ البالستية، وحرمان الطرف الآخر من قدرات الضربة الثانية. ومن هنا
كانت تجارب إطلاق صاروخي (غوري 2) و (شاهين 1) الباكستانيين نتيجة
طبيعية ومنطقية؛ وبذلك أضحت القدرات النووية لا تقاس بعدد التفجيرات أو قوتها
ولكن تقاس بحجم الصواريخ، والطائرات، ومداها لإيصال الشحنة النووية.
ولقياس القدرات الباكستانية في هذا المجال نقارنها بنظيراتها الهندية
والإسرائيلية في الجدول الآتي:
الدولة:
1 - باكستان:
أولا الصواريخ:
1- هاتف الأول: (وهاتف تعني: (المميت) بالباكستانية) ، تنتجه
باكستان، ويصل مداه إلى 100 كيلومترا، وهو معد للاستخدام في الوقت الحالي
وتزن الشحنة المتفجرة القادر على حملها نحو 500 كيلوجرام.
2- هاتف الثاني: تنتجه باكستان، ويصل مداه إلى 300 كيلومترا،
وهو معد للاستخدام حاليًا، وقادر على حمل 500 كيلو جراما من المواد المتفجرة.
3- هاتف الثالث: تنتجه باكستان ويصل مداه إلى 600 كيلو مترا، وهو
معد للاستخدام، ويحمل موادًا متفجرة تزن 800 كيلو جراما.
4- إم - 11: تنتجه الصين واستطاعت باكستان الحصول عليه، ويصل
مداه 300 كيلو متراً، وهو معد للاستخدام، ويحمل مواداً متفجرة تزن 800 كيلو
جراماً.
5- هاتف الخامس (غوري) :
(نسبة إلى السلطان محمد شهاب الدين غوري حاكم مسلم استطاع هزيمة
الحاكم الهندي (بريزوي راج) أواخر القرن الثاني عشر) ، تنتجه باكستان ويصل
مداه إلى 1100 كيلومترا، ومعد للاستخدام في الوقت الحالي،
ويحمل 700كيلو جراما من المواد المتفجرة.
6- هاتف السادس (غوري الثاني) : تنتجه باكستان ويصل مداه إلى 1500
كيلو مترا، ولا يزال في مرحلة الاختبار، ويحمل موادًا متفجرة تزن 2000 كيلو
جراما.
7- هاتف السابع (عبد الي) اسم أحد الحكام المسلمين: يتم إطلاقه عن
طريق الغواصات، وهو محلي الصنع، ويصل مداه إلى 2500 كيلو مترا، وهو
معد للاستخدام.
8- هاتف الثامن (شاهين - 1) : تنتجه باكستان ويصل مداه إلى 700 كيلو
مترا، وهو معد للاستخدام، ويتميز بقدرته على حمل القنابل الهيدروجينية.
9- هاتف التاسع (شاهين - 2) : تنتجه باكستان، ويصل مداه إلى 2000
كيلو مترا، ويتم تطويره حاليًا، ويتميز أيضًا بالقدرة على حمل القنابل
الهيدروجينية.
ثانيًا: الطائرات:
توجد لدى باكستان طائرا إف 16، وهي قادرة على حمل شحنات نووية
ولكن لا يعرف طاقتها بالتحديد.
2 - الهند
أولاَ: الصورايخ:
1- بريزوي: أنتجته القوات المسلحة والقوات الجوية الهندية عام 1995م،
ويتراوح مداه ما بين 150- 250 كليومترا، وتزن رأس الصاروخ (الجزء
الحامل للمواد المتفجرة) نحو 500- 1000 كيلوجرام، ويمكن تجهيزه بالرؤوس
النووية.
2- آغني: (وهي كلمة تعني: (النار) في اللغة الهندية) ، ولا يزال
يخضع للاختبار، ويصل مداه إلى 2500 كيلو مترا، ويزن رأس الصاروخ
الواحد نحو 1000 كيلو جراما ويمكنه حمل رؤوس نووية.
ثانيا الطائرات:
1-جاجوار: طائرة مخصصة لحمل القنابل النووية , وتستطيع إطلاق القنبلة
لمسافة 850 كيلو مترا وتستطيع حمل مواد متفجرة وزنها 4750 كيلو جراما.
2- ميج -27 فلوجر: تم إنتاجها خصيصا لإطلاق الأسلحة النووية، وقد تم
إنتاجها عام 1986م، وتستطيع إطلاق القنبلة النووية أو الصاروخ لمسافة
390 كيلو مترًا، وتستطيع حمل مواد متفجرة وزنها 4000 كيلو جراما.
3 - إسرائيل
أولاً: الصورايخ:
1- جيريشيو-1: تم إنتاجه عام 1973م بمساعدة فرنسا، يصل مداه إلى
500 كيلو مترا، يستطيع حمل مواد متفجرة وزنها 500 كيلو جرام.
2- جيريشيو-2: تم إنتاجه عام 1990م، يصل مداه إلى 1500 كيلو متر
ويستطيع حمل مواد متفجرة وزنها 1000 كيلو جرامًا.
ثانيًا الطائرات:
1- ف - 4 إي - 2000 فانتوم: وتعرف أيضًا باسم (فانتوم الثانية) :
ظهرت لأول مرة خلال الخمسينيات، وتستطيع إطلاق الأسلحة النووية.
2- أف - 16 فالكون: تم إنتاجها عام 1980م، يصل مداها إلى 630 كيلو
مترًا، وتستطيع حمل مواد متفجرة وزنها 5400 كيلو جراما.
التحدي الهندي:
ترسم الهند أدواراً لنفسها ليس على الصعيد الإقليمي فحسب ولكن أيضاً على
الساحة العالمية، ومن وجهة نظر الهند؛ فإن قيام باكستان أثَّر في مستقبلها
الاستراتيجي من نواح متعددة. وبداية أخل بالوحدة الجغرافية الطبيعية لشبه القارة
بخلق تهديد عسكري جديد نابع الآن من داخلها، إضافة إلى الأخطار التي تعدُّ
تقليدياً نابعة من الخارج. كذلك عقَّد من جهود الهند لتوحيد الجماعات الفرعية
المتفاوتة إقليمياً، ولغوياً، وثقافياً، من خلال تحول باكستان إلى مصدر لكل من
المعونة المادية والإلهام العقائدي لمختلف المطالبات الانفصالية. وأخيراً فإن قيام
باكستان قد أجبر الهند على توظيف الموارد الاقتصادية والعسكرية في صراع على
الهيمنة السياسية داخل منطقة جنوب آسيا، في الوقت الذي كان من الممكن جداً أن
تخصص فيه هذه الموارد لتأدية دور أكبر خارج المنطقة، وربما على المستوى
العالمي.
ولهذه الأسباب، تمثل باكستان العائق الرئيس أمام الهدف الاستراتيجي
الأساسي الكبير للهند، وهو التحول إلى قوة عظمى مزدهرة مع التمتع بكل الأمن
المتأتي من تبوؤ هذه المنزلة.
إن الهند تملك عدداً هائلاً من السكان، ومساحة جغرافية واسعة مديدة،
وإمكانيات اقتصادية وتقنية وعسكرية ضخمة. انتهجت الهند استراتيجية متعددة
المحاور للحفاظ على موقع قوتها النسبية:
أولاً: باشرت بتنفيذ استراتيجية اقتصادية للاكتفاء الذاتي، تهدف إلى
اكتساب الإمكانيات الصناعية والتقنية اللازمة لمساندة الأهداف الدفاعية والتنموية،
مع الحد الأدنى من المعونة الخارجية؛ إذ تم توجيه اهتمام خاص بقطاعات التقنية
المتطورة، والطاقة الذرية، والفضاء التي أعطيت مكانة بارزة خدمة لسياسة القوة.
ثانياً: استخدمت الهند قاعدة مواردها الكبيرة لنشر قوات مسلحة ضخمة قادرة
على الدفاع عن المطالب الإقليمية المتنازع عليها، فضلاً عن إنزال شيء من
العقاب بالدول المجاورة التي قد تسعى إلى تغيير الأمر الواقع بالقوة، واستلزم هذا
الأمر التركيز أساساً على الجيش، حيث تم تشكيل جيش كبير استغل الميزة النسبية
التي تتمتع بها الهند في القوى البشرية، فضلاً عن فائدته في مهام الأمن الداخلي
و «بناء الدولة» .
ثالثاً: انتهجت الهند استراتيجية عدم الانحياز سياسياً، وكانت تهدف من ذلك
إلى احتفاظها بحرية التصرف فيما يتعلق بالدولة الكبرى. لكن بما أن التركيبة
العالمية كانت مزدوجة القطبية خلال الحرب الباردة، فقد أقامت الهند في النهاية
علاقة مصلحية وثيقة مع الاتحاد السوفييتي السابق، لمواجهة التحالف الباكستاني
العرضي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعلاقة باكستان الوثيقة والمتنامية مع
الصين. ومكن ذلك الهند من الحصول على كميات ضخمة من المعدات العسكرية
المتطورة نسبياً بشروط مواتية، وفي الوقت ذاته وفر لها غطاءً دبلوماسياً وسياسياً
ضد الضغوط الأمريكية والصينية. كما ساعد على إحباط أي تقارب سوفييتي مع
باكستان.
ومع انتهاء الحرب الباردة التقت المصالح الهندية الأمريكية في جنوب آسيا،
وباتت أمريكا تعترف بالهند قوة إقليمية كبرى في هذه المنطقة لمجابهة المد
الإسلامي، والتنين الصيني، والقدرات النووية الإسلامية في باكستان. واستغلت
الهند فرصة انحياز أمريكا لها للعمل على تقليص الدور الباكستاني في المنطقة.
رابعاً: تفادت الهند إقامة أي تجمع أمني إقليمي تستطيع من خلاله الدول
الأصغر منها حجماً تشكيل تجمع مناوئ لها، حتى حينما سعت لثني الدول
الخارجية عن التدخل في التنافس الأمني داخل شبه القارة. وكان الهدف عزل شبه
القارة سياسياً عندئذ تستطيع الهند بتفوقها النسبي في القوة إذا ظلت على حالها أن
تؤثر في مجريات الأحداث داخل المنطقة (كلما دعت الضرورة) ، وخارجها إذا
أمكن.
خامساً: التعاون مع إسرائيل عسكرياً واقتصادياً ونووياً لمحاولة تحطيم
القدرة النووية الباكستانية المنافسة لها بأي صورة أو على الأقل تقليصها وجعل
باكستان لا تستطيع الاستفادة منها بأي صورة.
سادساً: استمرارية استغلال المناوشات الحدودية المرتبطة بمشكلة كشمير
وجعلها وسيلة للضغط على الجانب الباكستاني في المراحل والمواقف التي ترى أنها
تتطلب ذلك.. وقد تمارس دوراً غير مباشر في إثارة بعض المشاكل داخل
أفغانستان؛ مما يشكل نوعاً من القلق والتوتر لباكستان العدو التقليدي.
وحينما قامت الهند بتفجيراتها في مايو 1998م رأت القيادة الهندية أنها
حققت ثلاث ضربات قوية في آن واحد:
الأولى: داخلية تتعلق برغبة قيادة حزب (بهارتيا جاناتا) في توسيع قاعدة
التأييد السياسي للحزب في الداخل؛ لإدراكها ما لهذا الموضوع من تأثير إيجابي
على الشارع الهندي، وبما يمكن الحزب من زيادة نفوذه السياسي والحصول على
قدر أكبر من مقاعد البرلمان في أية انتخابات مقبلة، وتنفيذ برنامجه السياسي؛ ذلك
أن هذا الحزب اليميني المتشدد وصل إلى الحكم في فبراير 1998م في إطار
ائتلاف مع عدد من الأحزاب الأخرى، واضطرته ظروف هذا الائتلاف إلى
التنازل عن قدر من مطالبه وأفكاره. وبالفعل، فإن الإعلان عن التفجيرات النووية
أثار موجة عارمة من الشعور بالفخار القوي لدى الرأي العام الهندي، وفي
استطلاع للرأي تم إجراؤه بلغت نسبة التأييد لهذا القرار 91%.
والضربة الثانية: إقليمية تتصل بالتوازن الاستراتيجي بين الهند من ناحية
وكل من الصين وباكستان من ناحية أخرى؛ فالصين التي دخلت الهند في حرب
معها بشأن الحدود، عضو دائم بمجلس الأمن، وهي قوة نووية، ويتصاعد وزنها
الاقتصادي مع نجاحها في تحقيق معدل نمو سنوي بلغ متوسطه 10% سنويا في
السنوات العشر الأخيرة، هذا فضلاً عن تدفق الاستثمارات الأجنبية، إلى الحد
الذي جعل الصين أكبر متلق لهذه الاستثمارات، وخاصة بعد عودة هونج كونج إلى
الوطن الصيني.
أما بالنسبة لباكستان التي استمر خلافها المزمن مع الهند حول قضية كشمير
لنصف قرن، فقد أرادت الهند أن تحسم تفوقها العسكري عليها بشكل نهائي. فإذا
أخذنا في الحسبان أن الهند أكثر عدداً، وأكبر اقتصاداً، وأكثر تقدماً من الناحية
التكنولوجية، فإن تفجيرها النووي يكون بمثابة (المرجح) الأخير في حسم هذا
التوازن لصالحها.
أما الضربة الثالثة: فهي دولية وتتصل برغبة الهند في الاعتراف بها قوة
كبرى؛ وذلك بالنظر إلى العوامل السابقة التي أشرنا لها في السابق مثل عدد سكانها،
وقدرتها العسكرية، وتقدمها في عدد من المجالات التكنولوجية الحديثة كصناعة
البرمجيات، وبحوث الفضاء، والإلكترونيات، والتكنولوجيا الحيوية. كما أرادت
الهند أن تسجل أحقيتها في مقعد دائم بمجلس الأمن، ممثلة لدول العالم الثالث، إذا
ما تم الاتفاق على توسيع عضوية المجلس.
وحينما غزت أمريكا أفغانستان كانت الهند أول الدول المحرضة على
باكستان، وأصبحت تلح على الولايات المتحدة بضرورة ضرب باكستان بحجة
إيواء الإرهابيين في كشمير، وتحرشت بالقوات الباكستانية على الحدود بغرض
جر باكستان لحرب في ظروف غير مواتية وخاصة بعد فقد باكستان لعمقها
الاستراتيجي في أفغانستان.
الهيمنة الأمريكية:
لكي نقرأ الموقف الأمريكي جيداً من القنبلة النووية الباكستانية يجب النظر في
أمرين:
الاستراتيجية الأمريكية في جنوب آسيا، والسياسة الأمريكية تجاه الانتشار
النووي.
بالنسبة للأمر الأول: فإن الولايات المتحدة في سعيها لتأكيد انفرادها بالهيمنة
العالمية؛ فإنها تنظر لجنوب آسيا بصفتها تشكل تهديداً لأمنها؛ ومن ثم عائقاً لبسط
نفوذها من عدة جوانب:
1 - الصحوة الإسلامية المتنامية في هذه المنطقة من العالم ولا سيما باكستان
وأفغانستان، وخاصة أنها رأت النموذج الطالباني في حكم أفغانستان وما حققه من
استتباب الأمن، ونجاحه في تحقيق الوحدة الأفغانية؛ مما جعله نموذجاً قوياً يمكن
أن تحتذيه دول كثيرة داخل المنطقة وخارجها.
2 - صعود القوة الصينية على عدة أصعدة: اقتصادية وسياسية وعسكرية
وتقنية. والولايات المتحدة حريصة على محاصرة الزحف الصيني نحو الهيمنة
سواء بالتواجد في آسيا الوسطى أو في جنوب آسيا.
وبالنسبة للأمر الثاني: فإن سياسة أمريكا تجاه أسلحة الدمار الشامل تقوم
على القدرة على الردع والتصدي للحيلولة دون استخدام أسلحة الدمار الشامل
والصواريخ في النزاعات الإقليمية؛ حيث تفترض أن تقدم القوات المعادية لها على
استخدام أسلحة الدمار الشامل والصواريخ في هذه النزاعات المستقبلية؛ ومن ثم
تحتاج القوات المسلحة الأمريكية لاكتساب قدرة متزايدة على الردع والمنع،
والتصدي لاستخدام الأسلحة الجرثومية والكيماوية والنووية في النزاعات الكبرى
بالمناطق الحيوية. مع ملاحظة أن ما تسميه أمريكا مستلزمات الردع الإقليمي
سوف تختلف كثيراً عما كان متبعاً إزاء الاتحاد السوفييتي السابق خلال الحرب
الباردة، بسبب اختلاف طبيعة القوى الإقليمية ودوافعها.
جدير بالذكر أن قدرة الولايات المتحدة حالياً على منع استخدام أسلحة الدمار
الشامل، أو التصدي لها، ما زالت محدودة؛ مما قد يضطرها إلى التلويح بالرد
النووي، لردع استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدها وضد حلفائها، وازداد القلق
الأمريكي بعد تفجيرات نيويورك الأخيرة، ويقول جون بولتون مساعد وزارة
الخارجية الأميركية: «إن مخاطر أن يستخدم متطرفون أسلحة الدمار الشامل،
ومنها الأسلحة النووية في مهاجمة الولايات المتحدة، ازدادت بعد اعتداءات 11
أيلول (سبتمبر) الماضي» .
وتوقع بولتون في لقاء مع كتاب عسكريين أنه إذا حصل متطرفون على
أسلحة للدمار الشامل، وهو تعبير يشمل الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية،
فإنهم سيستخدمونها. وقال: «إنني قلق من أسلحة الدمار الشامل في كل مكان،
وقلقي ازداد منذ بدأت الحرب (التي تقودها الولايات المتحدة) على الإرهاب» ،
وأضاف: «إن المستعد لقيادة طائرة ليصدم بها مركز التجارة لن يردعه شيء ...
لو كان لدى هؤلاء الناس تكنولوجيا الصواريخ الذاتية الدفع لاستخدموها، لا
يساورني شك في ذلك» . وتابع: «ولو استطاعوا أن يضيفوا إليه سلاحاً نووياً
للدمار الشامل أو غير ذلك وأسقطوه على جنوب مانهاتن ليحدث تدميراً مأساوياً
مثلما حدث لمركز التجارة العالمي لكانت خسارة جنوب مانهاتن أو أي مكان مماثل
أسوأ كثيراً» .
وبناءً على ما سبق انتهجت أمريكا عدة أمور لمراعاة مصالحها في جنوب
آسيا، وفي الوقت نفسه تقليص الانتشار النووي وهي:
1 - الاعتماد على الحليف الهندي من خلال السعي لجعل الهند تحتل موقع
الطرف العازل ضد الأصولية الإسلامية الناهضة، ولتكون كابحاً للتطلعات الصينية
إلى الهيمنة، ومصدر دعم لحلفاء أمريكا في جنوب شرق آسيا الذين يحتمل أن
تهددهم الصين، وقوة «أمر واقع» مكتفية تسعى لنزع فتيل المشكلات العالمية
الخاصة بالإدمان، والانتشار النووي، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب
بالمفهوم الأمريكي.
2 - سياسة مزدوجة تجاه باكستان بتهديدها في حالة استمرارها في الاحتفاظ
بسلاحها النووي، وفي الوقت نفسه الإبقاء على خط ساخن معها لضمان بقاء
الوضع مستقراً في المنطقة.
3 - التدخل العسكري في المنطقة، وهذا ما حدث في غزوها لأفغانستان
لمكافحة التهديد الإسلامي المتمثل في ابن لادن والقاعدة وغيرها من الحركات
الإسلامية في وسط آسيا والشيشان وكشمير، وفي الوقت نفسه لضمان عدم وصول
الأسلحة النووية الباكستانية لهذه الحركات، وربما تدميرها في مرحلة لاحقة.
المأزق الباكستاني:
تركز الهدف الاستراتيجي لباكستان منذ نشأتها على الحفاظ على كيانها
واستقلاليتها في المنطقة، وخاصة من الرغبة الهندية في الهيمنة؛ فالهند لم تتقبل
يوماً قط انفصال باكستان عنها.
وتعددت المحاور التي تقوم عليها هذه الاستراتيجية:
أولاً: شكلت باكستان جيشاً مقتدراً لديه وحدات مشاة ودروع قوية منتشرة
على أقرب المواقع الحدودية مع الهند، كما شكلت سلاحاً جوياً صغيراً لكنه عالي
التدريب والمعنويات، مزوداً بأفضل الطائرات المتوافرة لباكستان؛ لأداء مهام
الدفاع الجوي والهجوم الأرضي على حد سواء.
وقد اقتضت الاستراتيجية العسكرية التقليدية لباكستان استخدام جيشها وقواتها
الجوية بشكل هجومي في الظروف التي تنذر بخطر استراتيجي. فإذا بدا النزاع
وشيكاً، فقد توجه باكستان ضربة وقائية لاحتلال أجزاء صغيرة من الأراضي
الهندية؛ ومن ثم تستخدم هذه المكاسب، إما لتحويل ثقل ردة فعل الهند نحو
استرداد الأراضي التي خسرتها، أو لاستغلال تلك الأراضي كورقة للمساومة بهدف
ضمان نتيجة مواتية في المفاوضات التي تجري في المرحلة اللاحقة للنزاع.
وظهرت هذه الاستراتيجية جيداً في حوادث 1999م في كارجيل حينما توغلت
مجموعات كشميرية داخل أراضي كشمير واستولت على مجموعة جبال بمساندة من
الجيش الباكستاني لفترة من الوقت حتى تمكنت الهند في النهاية من طردهم، ولكن
عجز القيادة السياسية حينئذ ممثلة في نواز شريف هو الذي منع باكستان من قطف
ثمار ما حدث؛ مما أدى إلى نشوب خلاف بين نواز وقادة الجيش الذين جاؤوا
ببرويز مشرف إلى سدة الحكم.
ثانياً: سعت باكستان على الصعيد السياسي، وعلى خلاف الهند تماماً، إلى
كسب حلفاء من خارج المنطقة لضمان إمدادات الأسلحة، والمواد الحربية، والدعم
الدبلوماسي، وتطلعت إلى هؤلاء الحلفاء كضامنين سياسيين يمكنهم التدخل نيابة
عنها في حالات الضرورة القصوى. وقد وفرت الحرب الباردة بيئة مواتية لمثل
هذه الاستراتيجية؛ فقد تحالفت باكستان في البداية مع الولايات المتحدة الأمريكية
من خلال منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا، ومنظمة المعاهدة المركزية؛ لكن
تخلف الولايات المتحدة في مساندة باكستان في الحرب (الهندية - الباكستانية) عام
1963م أظهر محدودية هذه الاستراتيجية.
وكانت الولايات المتحدة مهتمة بباكستان، كدولة تابعة بالقدر الذي تعزز فيه
الهدف الأكبر المتمثل باحتواء الاتحاد السوفييتي، بينما سعت باكستان أساساً وراء
المعونة الأمريكية لمساندتها في مشكلاتها الأمنية مع الهند؛ ومن ثم، فإن الصين
نتيجة لتنافسها الأمني مع الهند؛ ودول جنوب غرب آسيا أصبحت أحدث حلفاء
باكستان.
وقدم الغزو السوفييتي لأفغانستان فرصة أخرى لتجديد العلاقة (الأمريكية
الباكستانية) ، إلا أنها تعثرت بعد اكتشاف أدلة على البرنامج النووي الباكستاني في
أعقاب الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، ولكن مع ظهور طالبان وتنظيم القاعدة
وتفجيرات 11 سبتمبر برزت أهمية باكستان بالنسبة للقطب الأمريكي، ومرة
أخرى برزت أهمية هذا العامل بالنسبة لباكستان؛ أي البحث عن حليف قوي
ترتمي في أحضانه في محاولة لوقف الهيمنة الهندية، وتجلى ذلك حينما اختار
الرئيس الباكستاني برويز مشرف الانحياز إلى الولايات المتحدة ضد حليفته السابقة
حركة طالبان الحاكمة في أفغانستان؛ في محاولة للحفاظ على القنبلة الباكستانية
والتوازن مع العدو التقليدي الهند، والرهان على ما بعد رفع العقوبات الاقتصادية
لتحسين الوضع الاقتصادي المتردي، وتعزيز سلطته بعد تعليقه للدستور والبرلمان
وتنصيب نفسه رئيساً.
العربدة الإسرائيلية:
شكَّل السلاح النووي الباكستاني قلقاً عميقاً لدى الدولة اليهودية؛ فباكستان
دولة إسلامية تمارس فيها العقيدة دوراً أساسياً في حياة أهلها؛ ولذلك باتت تخشى
وقوع هذه الأسلحة في أيد متوضئة تريد لهذا السلاح أن يكون له دوره في ميزان
القوة الإسلامية في صراعها العقدي والرئيس مع اليهود؛ ولذلك هددت إسرائيل
بضرب المنشآت النووية الباكستانية معلنة بكل وقاحة أنها لن تسمح لأي دولة
عربية أو إسلامية بامتلاك السلاح النووي؛ لأنه يمثل كما تقول تهديداً لوجودها،
وهو الأمر الذي أعاد للأذهان ذكرى ضرب المنشآت النووية العراقية.
ففي بداية هذا العام أفادت تقارير صحفية أن الاستخبارات الباكستانية نجحت
في إحباط خطة إسرائيلية كان يجرى التحضير لها، وتقضي بقصف المنشآت
النووية فى باكستان بواسطة طائرات وقاذفات إسرائيلية كانت قد وصلت بالفعل إلى
إحدى القواعد العسكرية الهندية، وجرى طلاؤها بألوان سلاح الجو الهندى للتمويه.
وأضافت المصادر أن الرئيس الباكستانى استدعى سفيري الولايات المتحدة
الأمريكية والهند المعتمدين في باكستان، وجرى خلال الاجتماع عرض لتفاصيل
الخطة الإسرائيلية حيث أبدى الرئيس مشرف استياءً شديداً من هذا الموضوع،
وطلب من السفير الهندي نقل رسالة تحذير وإنذار لحكومته مفادها أن الحكومة
الباكستانية لن تقف مكتوفة الأيدي حيال ما يدبر ضدها من قبل إسرائيل والهند،
وأنها ستلجأ إلى الهجوم فوراً في حال تنفيذ هذا المخطط ضدها.
وطلب الرئيس الباكستاني سحب الطائرات الإسرائيلية فوراً وإلا فعليَّ وعلى
أعدائي. وقد تم إلغاء العملية بعد الإنذار الباكستاني وعادت الطائرات الإسرائيلية
إلى قواعدها في فلسطين المحتلة.
ونتيجة لخنوع القيادة الباكستانية وحرصها الشديد على هذا السلاح ولو أدى
إلى التفريط في المصالح الباكستانية الأساسية؛ فقد سعت إلى إجراء اتصالات مع
إسرائيل؛ فقد تواردت الأنباء عن رسالة سلمها المندوب الإسرائيلي في الأمم
المتحدة إلى نظيره الباكستاني تتضمن تعهداً إسرائيلياً بعدم مهاجمة المنشآت النووية
الباكستانية، وقد نفى وزير كبير في حكومة باكستان نبأ هذه الرسالة، وقال: لا
علم لي بذلك. ولكن رئيس تحرير صحيفة (أوصاف) الباكستانية المستقلة أكد فيما
بعد صحة النبأ، وأضاف أن الاتصالات السرية بين إسرائيل وباكستان تحدث
أحياناً على مستوى أكبر من ذلك؛ إذ سبق أن اجتمع وزير خارجية باكستاني سراً
بشيمون بيريز حينما كان وزيراً لخارجية إسرائيل، وسمعنا في المناسبة عن وجود
مجموعة من المثقفين والسياسيين الباكستانيين الذين تعلموا في الولايات المتحدة
يدافعون عن ضرورة الاتصال بإسرائيل حتى لا تنفرد بها الهند وتحصل بذلك على
ميزات استراتيجية إضافية على حساب باكستان.
ولكن هذه التطمينات تبدو كأنها تنويم للجانب الباكستاني؛ فقد رفضت وزارة
الخارجية الأمريكية التعقيب على تقرير صحفي عن تأهب وحدة من القوات الخاصة
الأمريكية لشن عملية للاستيلاء على ترسانة باكستان النووية بالتعاون مع إسرائيل.
ورفض ريتشارد باوتشر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نفي أو تأكيد هذه
الأنباء، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تحتفظ بعلاقات تعاون وثيقة مع الجنرال
برويز مشرف رئيس باكستان، وتثق في قدرة حكومته على تأمين المنشآت النووية
الباكستانية.
وأضاف أن واشنطن تجري اتصالات مستمرة مع إسلام آباد ونيودلهي حول
برامج تأمين المنشآت النووية بالدولتين لتحاشي أي مخاطر قد تتعرض لها.
وكانت مجلة نيويورك الأمريكية قد ذكرت أن وحدة من قوات الكوماندوز
الأمريكية تجري تدريبات مع وحدات مناظرة في إسرائيل مختصة بمكافحة
الإرهاب؛ لتنفيذ عملية عسكرية في باكستان يتم خلالها الاستيلاء على سلاح نووي.
وأشار التقرير إلى أن الوحدة الإسرائيلية يطلق عليها اسم (262) ، وأن العملية
أعدت للتنفيذ في حالة الإطاحة بالجنرال مشرَّف من السلطة.
في ضوء هذه التحديات السابقة يتأرجح السلاح النووي الباكستاني بين
إضافة لرصيد القوة الإسلامية وسلاح يدافع عنا وبين كونه وسيلة جديدة لإضعاف
المسلمين وأداة لابتزازهم، وبات المسلمون مطالبون بالتنازلات تلو التنازلات في
سبيل الدفاع عن هذا السلاح وبقائه بعيداً عن الأعداء! !(170/127)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
Qatamish100@yahoo.com
هكذا يكسبون الحروب
بات من المتعارف عليه، أن هزيمة حركة طالبان سيكون أسهل إذا ما
استعملت الرشاوي بدلاً من الرصاص، ويقول أدموند ماك وليامز، وهو دبلوماسي
أمريكي متقاعد وخبير في الشؤون الأفغانية: «يستجيب القادة الأفغان بشكل إيجابي
حين يعرض عليهم المال لأنهم يمكن شراؤهم. هكذا تجري الأمور في أفغانستان» ،
ربما صح ذلك، لكن الجنرال حميد غول وهو القائد السابق لأجهزة الاستخبارات
الباكستانية يعرض قاعدة عامة تتسم ببعض الفوارق؛ إذ يقول: «يقال إنه بإمكانك
دائماً استئجار أفغاني لكن لا يمكن أن تتأكد أبداً من أنك تملكه» . وخلال الكفاح
الطويل ضد السوفييت وأثناء الحروب الأهلية التي تلت انسحاب هؤلاء تمكن بعض
أسياد الحرب من البقاء على قيد الحياة عبر تغيير ولائهم لمصلحة الجهة التي كانت
تفوز في تلك الفترة؛ فقد بدل أحد القادة ولاءه أكثر من ست مرات، ويقال إن آخر
كان يمارس نوعاً من الولاء الموسمي، ففي أيام الصيف القاسية هرب من قندهار
في الجنوب، وعاد فهرب من كابول في الشمال في أيام الشتاء القاسية.
ويستلزم شراء سيد حرب أفغاني عملية تودد معقدة، فعرضُ كيس ممتلئ
بالمال يعتبر مهيناً؛ إذ ينبغي البدء أولاً بالتحدث واحتساء الكثير من فناجين الشاي
وتقديم الوعود بالأعمال الطيبة، والأهم عرض عمل مضمون كمنصب حاكم إحدى
المقاطعات.
[مجلة نيوزويك، العدد: (74) ]
انحدار
تجهم، تجهم، تجهم؛ فقد أكدت أرقام الأسبوع الماضي أن البلاد ما زالت
تسير في انحدار، وهو ما قوض الآمال بأن الاقتصاد الأمريكي قد بلغ مستقره الآن،
وأنه سيعاود الصعود. قيل يوم الأربعاء: إن الاقتصاد الأمريكي قد تقلص في
الربع الثالث بنسبة 4,0%، وهو أول نمو سلبي موسمي له منذ ثماني سنوات،
ثم ساءت الأمور أكثر من ذلك، فجاءت أرقام البطالة الأمريكية التي أعلنت الجمعة
كالآتي: لقد تم إلغاء 000,415 وظيفة في أكتوبر بحيث قفز معدل البطالة إلى
4,5% ارتفاعاً من9,4% في سبتمبر، وهي أكبر قفزة في شهر واحد منذ مايو
1980م، ويعتبر المعدل الحالي أعلى معدل بطالة تشهده الولايات المتحدة منذ
ديسمبر 1996م، لكن المحللين لم يعيروا اهتماماً كبيراً لتقرير البطالة؛ لأنهم
يعتقدون أن الاقتصاد سيعاود الصعود بحلول عام 2002م، ولكن هذا لم يمثل أي
عزاء للأمريكيين العاديين. واعترف الرئيس جورج دبليو بوش بأن الأخبار كانت
«غير سارة لأمريكا» . ولم يكن كذلك أحدث مقياس لثقة المستهلك، فقد انخفض
الإنفاق بنسبة 8,1% في سبتمبر بعد انخفاض بلغ 0. 3% فقط في أغسطس
الذي اعتبر سابقاً شهراً سيئاً لثقة المستهلك. ومن غير المرجح أن يعود الأمريكيون
إلى معاودة الإنفاق من جديد عندما يضعون في الاعتبار أن مداخيلهم الشخصية التي
تتضمن مرتباتهم ومعدلات الفائدة التي يحصلون عليها ومنافعهم الحكومية انخفضت
في سبتمبر، وهي المرة الأولى منذ يناير 1994م. هل ستؤدي خطة بوش لتحفيز
الاقتصاد إلى إنقاذ الأوضاع؟ النسخة التي تتضمن ضخ 100 بليون دولار في
الاقتصاد والتي وافق عليها مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون يبدو أنها
تعود بالنفع على القطط السمينة.
[مجلة نيوزويك، العدد: (75) ]
هكذا كان الافتتاح! !
قال متحدث باسم الجنرال الأفغاني عبد الرشيد دوستم: إن القائد الشمالي أعاد
فتح المزار الذي سميت باسمه مدينة مزار الشريف وأقام الصلاة فيه لأول مرة منذ
أن أغلقته حركة طالبان بعد استيلائها على المدينة عام 1998م.
وقال المتحدث صبغة الله زكي: «إن دوستم بعد يومين من استعادة قواته
مزار الشريف التي كانت معقله في أغلب سنوات التسعينيات فتح بوابة قبر علي» ،
وأضاف: «دوستم توجه إلى المزار وأقام الصلاة» ، وتابع: «إن ألوفاً من
سكان البلدة ومنهم نساء باكيات تبعن دوستم إلى المزار الذي كانوا يزورونه منذ
قرون» .
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8386) ]
القتال الإعلامي
1- بدأت إدارة بوش بالاستنجاد بكبار شخصيات هوليود، فاستخدمت
شارلوت بيرز الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة «أوجيلفي آند ماثر» كنائبة وزير
الدبلوماسية العامة، وتقضي مهمتها بتسويق «ماركة» أمريكا.
ويتمثل دور باتيز بجعل هذه الصورة تلقى أصداء جيدة لدى الجمهور الواسع؛
لذا يريد البدء ببث إذاعي على مدار 24 ساعة يصل إلى الجمهور الواسع في
العالم العربي، ويقدم الترفيه والموسيقى والأخبار فضلاً عن عرض افتتاحيات عن
أمريكا ومن أمريكا، ويقدر باتيز أن التجهيزات القديمة وساعات البث القصيرة
بمعدل 3 إلى 7 ساعات يومياً تعني أن برامج مثل «صوت أمريكا» تصل
فقط إلى نحو 2% من المستمعين في معظم الدول الإسلامية.
لتحويل هذا البرنامج إلى مادة يودون فعلاً سماعها ستكون المهمة طويلة،
ويشير ناثن ريتشاردسون، رئيس مجلس الحكام للبث إلى أن الأبحاث أظهرت أن
معظم العالم العربي لا سيما الشباب دون الـ 25 «يبدون الكثير من الارتياب إزاء
الولايات المتحدة» . وقد تم البدء بحشد الدعم لهذه المسألة في صفوف السياسيين
في واشنطن على غرار النائب جو كرولي وهو ديمقراطي من نيويورك، وكرولي
هو نفسه عضو في لجنة العلاقات الدولية يؤيد إيلاء الأمر لهوليود أو على الأقل
الرد على قرع طبول الكراهية إزاء الولايات المتحدة، وقد قال كرولي: «لقد
رأينا تأثير الأفلام، فبغية إيصال الرسالة الداعمة للولايات المتحدة إلى العالم العربي،
لا بد من استخدام أشخاص يتمتعون بالموهبة» .
[مجلة نيوزويك، العدد: (76) ]
2 - وافق مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون لإقامة «إذاعة
أفغانستان الحرة» لتتمكن الولايات المتحدة عبرها من إيصال وجهة نظرها
وسياستها إلى الشعب الأفغاني بمختلف فئاته وقبائله.
وقال النائب إد رويس الذي يتزعم الجهود لإقرار المشروع منذ سنوات:
«إن إقامة هذه الإذاعة أمر حيوي لكسب الحرب الإعلامية ضد طالبان،
فحركة طالبان والإرهابيون الذين تؤويهم، يستخدمون الحرب الدعائية لكسب
الحرب، ولذلك يجب مواجهتهم لإيصال الصوت الحر إليهم» . وبموجب
المشروع الذي سيقدم لمجلس الشيوخ للموافقة عليه، ومن ثم إلى الرئيس جورج
بوش ليوقعه، حتى يصبح قانوناً، يتم تخصيص 19. 5 مليون دولار تكاليف السنة
الأولى من عمل الإذاعة، وأنها ستركز على أخبار أفغانستان، وإيصال الأخبار
والمعلومات التي لا يتمكن الشعب الأفغاني من الحصول عليها أو الوصول إليها
عبر إذاعة طالبان، وستبث الإذاعة أخبارها وبرامجها بعدد من اللغات التي تتحدث
بها فئات الشعب الأفغاني.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8382) ]
هذه أفغانستان
يدفع الشعب الأفغاني وحده ضريبة كل حرب أو نزاع تتعرض بلاده لها دون
أن تمنحه فرصة ليستعيد عافيته أو حتى ليقطف ثمار زرعه ليستطيع على الأقل
مواصلة نزاعاته لتستمر فصول المعاناة الإنسانية في أفغانستان دون توقف، وباتت
المسألة الإنسانية الأفغانية تشكل معضلة لدى المجتمع الدولي، وذلك من قبل ظهور
الأزمة الأمريكية الأفغانية الأخيرة.
وسنتناول في التقرير التالي أوجه المعاناة الأفغانية قبل الهجوم الأمريكي على
أفغانستان، كما سنعرِّج على بعض الآثار التي يخلفها هذا الهجوم على المجتمع
الأفغاني حتى الآن.
الجفاف يفتك بأفغانستان:
تعرضت أفغانستان لموجة من الجفاف كانت الأقسى منذ عام 1970م، وعلى
الرغم من تأثر باكستان وإيران والهند بهذه الموجة أيضاً فإن الحروب الطاحنة
التي عصفت بأفغانستان ضاعفت من حجم المعاناة وخاصة الإنسانية، وقضت بذلك
عوامل الموت المتاحة: الحرب والجفاف على معظم مقومات الحياة فيها إلا أنها لم
تحرمها الهواء بعد.
وقد تفاوت مدى تأثر المناطق الأفغانية بهذه الموجة التي مضى من عمرها
حتى الآن ثلاث سنوات تقريباً، فكانت مدن (قندهار) و (ميلماند) و (نمروز)
من أكثرها تأثراً، وانخفض محصول البلاد عامة بنسبة 30% مقارنة بعام
1998م، كما تلاشى المحصول الزراعي في بعض مقاطعات الشمال بنسبة 70%
بسبب ندرة سقوط الأمطار علاوة على ارتفاع نسبة نفوق الماشية وفنائها إلى 6%
وهو ما ضاعف من كارثة قلة الطعام.
وقد أجبرت ثلاث سنوات من الجفاف عشرات آلاف من الأفغان على هجر
مساكنهم والنزوح إلى مناطق أخرى داخل وخارج أفغانستان، وتسببت أيضاً في
موت الكثيرين، وبالإضافة إلى الجفاف تأثرت الأراضي الأفغانية بهجوم موجات
من الجراد هددت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وخاصة في المناطق
الشمالية من البلاد.
الأمراض المنتشرة.. والأوضاع الصحية:
تستشري الكثير من الأمراض المعدية داخل المجتمع الأفغاني حيث يبلغ معدل
الإصابة بمرض السل 14. 4 لكل 100 ألف شخص، ويضاف إليهم ما يقارب 4
ملايين شخص يصابون سنوياً بمرض الملاريا. أما مرض الكوليرا الذي يعتبر
مرضاً مستوطناً في أفغانستان فينتشر بشدة بين المواطنين؛ ففي عام 1999م وحده
وصل عدد الحالات التي سجلتها منظمة الصحة العالمية إلى 24639 حالة كوليرا،
ويعود سبب انتشار هذا المرض إلى عدم توفر مياه نظيفة وصالحة للاستخدام
البشري؛ مما يساعد هذا المرض على الانتشار.
أما عن واقع الخدمات الصحية الأساسية التي تقدم للشعب الأفغاني فهي تكاد
تكون معدومة، وتشمل فقط 53% من الشعب حيث يتلقى أقل من 45% من
الأطفال ما يلزمهم من تطعيمات أساسية، كما أن الدعاية الطبية لا تتوافر إلا
لـ 12% فقط من النساء الحوامل. أما معدل وفيات الأطفال الرضع فيصل إلى
152 حالة وفاة لكل 1000 ولادة حية. أما معدل وفيات الأمهات فيصل إلى 820
وفاة لكل 100 ألف ولادة حية، كما تحدث أيضاً أكثر من 85 ألف حالة وفاة
بين الأطفال بسبب نزلات الإسهال، وقدرت الشركة العالمية لمكافحة السل التي
أسستها عدة هيئات عام 1998م الحاجة إلى 9. 3 مليارات دولار للقضاء على هذه
الآفة في خمسة أعوام.
[صحيفة السبيل، العدد: (409) ]
المتسابقون في الدعم
1 - أوروبا الوسطى.. والشرقية
أتوجه بالشكر إلى جميع بلدان أوروبا الوسطى والشرقية المشتركة في هذا
المؤتمر، إنكم شركاؤنا في الكفاح ضد الإرهاب، ونحن نشارك في لحظة تاريخية
مهمة. على مدى أكثر من 50 عاماً رزحت شعوب منطقتكم تحت أيديولوجيات
قمعية حاولت سحق كرامة الإنسان، واليوم تتعرض حريتنا مرة أخرى للتهديد،
فعلى شاكلة الفاشيين والشموليين الذين سبقوهم، يحاول هؤلاء الإرهابيون، أي
القاعدة ونظام طالبان الذي يدعمها وغيرهما من الجماعات الإرهابية في شتى أرجاء
العالم، فرض آرائهم المتطرفة من خلال التهديد والعنف. إننا نشهد موقف الرفض
ذاته من المعارضة والرأي المخالف، والمطامع العالمية المجنونة ذاتها، والتصميم
الوحشي ذاته على السيطرة على كل حياة وعلى الحياة كلها. أشكر أمم أوروبا
الكثيرة، بما فيها حلفاؤنا في حلف شمال الأطلسي التي عرضت مساعدتنا عسكرياً.
وأشكر كذلك الدول التي تتقاسم معنا المعلومات الاستخباراتية وتعمل على قطع
سبل تمويل الإرهاب. وأشكركم جميعاً على العمل المهم والعملي الذي تؤدونه في
هذا المؤتمر، لا يمكن الفوز في الحرب على الإرهاب إلا حينما نضم وسائل القوة
لدينا. لدينا ائتلاف شاسع يعمل على توحيد العالم وعلى عزل الإرهابيين تدريجياً،
ائتلاف يضم كثيراً من الدول العربية والإسلامية، وما يقوله زعماء تلك الدول
يشجعني. أمين عام الجامعة العربية التي تتكون من 22 بلداً رفض مزاعم الزعيم
الإرهابي أسامة بن لادن وقال عنه إنه «لا يتكلم باسم العرب والمسلمين» ، ومن
الواضح بصورة متزايدة أن هذه ليست قضية بين الولايات المتحدة والشبكة
الإرهابية فقط، فكما قال وزير الخارجية المصري: «هناك حرب بين ابن لادن
والعالم بأسره» .
من خطاب جورج بوش إلى مؤتمر وارسو لمكافحة الإرهاب
موقع وزارة الخارجية الأمريكية
http://usinfo.state.gov/arabic
2- حتى الصومال!
قال حسين محمد فارح عيديد، عضو مجلس المصالحة الوطنية الصومالية
الذي يضم أكثر من 26 فصيلاً، لـ «الحياة» في أديس أبابا: إن بلاده مستهدفة
من أمريكا ولكن «علينا أن نؤيد السياسة التي تتبعها في حربها ضد الإرهاب، أو
أن نكون ضدها، ليس لدينا خيار آخر، وأبدينا استعدادنا التام للتعاون في كل ما
يطلب منا للتخلص من المجموعة الإرهابية (الاتحاد الإسلامي) الموجودة في
الصومال» ، ورأى أن دخول أسامة بن لادن الصومال سهل بسبب وجود 27 مرفأ
غير شرعي.
واتهم عيديد حكومة عبد القاسم صلاد الانتقالية بالتورط مع «الاتحاد
الإسلامي» بهدف «زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة» ، علماً أن عشرين
من أعضاء البرلمان الصومالي ينتمون إلى الاتحاد.
وأوضح عيديد الذي يزور أديس أبابا أنه سيناقش مع القادة الإثيوبيين الذين
«يعانون مشكلة الإرهاب، تنسيق العمل سوياً لمحاربة هذا الشبح المخيف» ، وذكر
أن أربعة أو خمسة من الجنود الإثيوبيين المرابطين في منطقة «غودي» على
الحدود الإثيوبية الصومالية «يموتون كل يوم بسبب الهجمات التي تشنها مجموعة
الاتحاد الإسلامي» .
ورأى أن بإمكان زعماء مجلس المصالحة الصومالية «التخلص من
المجموعات الإرهابية بالتعاون مع الدول المتضررة ومع أمريكا التي تعتبر محاربة
هذه المجموعة من أولوياتها» .
[جريدة الحياة، العدد: (14120) ]
3- قرن الدول الأمريكية
قد تلقينا عروضاً بالمساعدة في الكفاح ضد الإرهاب الدولي من كندا في
الشمال وحتى الأرجنتين في الجنوب، وقد وسَّعت كل دولة في المنطقة الجهود
لتقصي الصلات بين أفراد ومنظمات محلية ومجموعات إرهابية دولية عن طريق
تعاون لم يسبق له مثيل في مجالي تطبيق القانون والاستخبارات، فقد قامت جزر
الباهاما بالتدقيق بنشاط في الحسابات المالية المريبة، وتعتزم أنتيغوا وباربودا
تغيير قوانينهما المصرفية. أما كندا والمكسيك فقد ضاعفتا تعاونهما مع الوكالات
الأمريكية المسؤولة عن تطبيق القوانين والهجرة لتعزيز التدابير الأمنية على طول
الحدود المشتركة (بين كل منهما والولايات المتحدة) . وفي ليما (في البيرو)
صادق وزراء خارجية شركائنا في عضوية منظمة الدول الأمريكية بالإجماع على
قرار يدعو الدول الأعضاء إلى اتخاذ إجراءات ضد الإرهاب. وأعلنت الدول
الأعضاء في معاهدة المساعدة المتبادلة بين الدول الأمريكية، المعروفة بمعاهدة ريو،
بناء على مبادرة برازيلية، أن أي اعتداء على إحدى الدول الأعضاء يشكل
اعتداء عليها جميعاً، ووافقت تلك الدول على توفير عون متبادل بينها ضد
الإرهاب الدولي.
ويسهم التعاون الذي لم يسبق له مثيل بين دول نصف الكرة الغربي الذي
انبثق منذ 11/9/2001م في إيجاد إحساس حقيقي بالانتساب إلى «مجموعة الدول
الأمريكية بين حكومات وشعوب منطقتنا، ونحن مدركون جداً للتحديات التي
تواجهنا، وهي تحديات خطيرة، في مستهل» قرن الدول الأمريكية «، ولكننا
مدركون أيضاً للفرصة المتاحة أمامنا.
مارك غوسمان، وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية
موقع وزارة الخارجية الأمريكية
http://usinfo.state.gov/arabic
4 - وبنو هيروشيما وناكازاكي:
للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية أبحرت ثلاث مدمرات يابانية إلى
المحيط الهندي للمشاركة في الحملة العسكرية الجارية ضد الإرهاب في أفغانستان.
وستكون القطع البحرية أساساً قوة تمهيدية لقوات مهام خاصة رئيسة من قوات
الدفاع الذاتي من المتوقع أن يتم نشرها فيما بعد في المنطقة، وتتمثل المهمة
الرئيسة للقطع البحرية اليابانية في جمع معلومات تستخدمها الحكومة لوضع خطة
رئيسة لقوة المهام الخاصة التابعة لقوات الدفاع الذاتي، ويبلغ عدد أفراد طواقم
السفن الثلاث 700 فرد.
وبعد إتمام مهمة تقصي الحقائق، من المتوقع أن تبقى السفن الثلاث في
المنطقة والانضمام إلى قوة المهام الخاصة الرئيسة في تقديم الدعم للقوات الأمريكية.
وهذه هي المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي يسمح فيها للقوات
اليابانية بالانتشار خارج أراض يابانية، وكانت الحكومة اليابانية قد سنَّت قانوناً
يخولها نشر أفراد الجيش اليابانيين خارج مناطق الصراع، ولكن يسمح لهم فقط
بتقديم المساعدات الطبية للولايات المتحدة، وقوات التحالف، ونقل الأسلحة
والذخائر ومعدات أخرى، والمشاركة في عمليات البحث والإنقاذ، ويسمح القانون
الجديد أيضاً للجنود اليابانيين بمساعدة وحماية اللاجئين، كما يسمح باستخدام
الأسلحة لحماية اللاجئين وأفراد عسكريين مصابين.
[جريدة الرياض، العدد: (12192) ]
5- والهند
بوش: إن من دواعي شرفي أن أستقبل رئيس الوزراء الهندي في البيت
الأبيض لإجراء سلسلة مباحثات، إن حكومتي ملتزمة بتطوير علاقة مختلفة أساسياً
مع الهند تقوم على الثقة وعلى القيم المشتركة، فالواقع هو أن رئيس الوزراء يقود
أمة هي أكبر أمة ديمقراطية في العالم، إننا سنحارب الإرهاب سوية، ولقد
تمحورت مباحثاتنا التمهيدية على المعركة ضد الإرهاب، ورئيس الوزراء يفهم أن
لا بديل لنا سوى النصر، وهو يعي كذلك أن ثمة التزاماً بل يتعين أن يكون هناك
التزام من قبلنا جميعاً بعمل أكثر من مجرد الكلام؛ لتحقيق أهداف معينة، وقطع
دابر التمويل، وممارسة ضغط دبلوماسي على الإرهابيين، وفي بعض الحالات
المساعدة عسكرياً، على أن نظل على أية حال صامدين في وجه الإرهاب.
موقع وزارة الخارجية الأمريكية
http://usinfo.state.gov/arabic
6 - إيران.. المختفية! !
أكد وزير خارجية تحالف المعارضة الأفغانية عبد الله عبد الله الدعم العسكري
الإيراني لهذا التحالف، وقال: إن الحرب ضد طالبان ستنظم بشكل أفضل فيما لو
توصلت طهران وواشنطن للاتفاق وطي صفحة العداوة.
وقال: عبد الله في مقابلة مع فرانس برس: إن التعاون بين الولايات المتحدة
وإيران يشكل قضية صعبة نظراً لبعض المعطيات الدبلوماسية.
وأضاف:» بطبيعة الحال سيكون الوضع أحسن بكثير لو كانت العلاقات
عادية بين الولايات المتحدة وإيران «؛ لأن إيران، البلد الشيعي، تؤدي دوراً هاماً
منذ فترة طويلة في الحرب الأهلية الدائرة في أفغانستان، وهي حالياً من أقوى
دعائم التحالف الشمالي السني الذي يقاوم طالبان.
وبالرغم من ذلك تواجدت الولايات المتحدة وإيران جنباً لجنب في مواجهة
عدو مشترك وهو نظام طالبان الذي يتعرض إلى غارات جوية؛ لأنه يأوي أسامة
ابن لادن الذي يشتبه في أنه مدبر اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة اقتربت من التحالف الشمالي فإن الدعم
الأساسي لهذا التحالف يأتي من روسيا وإيران وأوزبكستان وطاجيكستان.
وذكر عبد الله أن إيران لم تكتف بالوسائل الدبلوماسية لدعم التحالف مؤكدا
أنها تقف إلى جانبنا وتدعمنا في العديد من المجالات بما فيها الصعيد العسكري.
وأشار خبراء إلى أن طهران قامت بدور مهم - وإن بعيدا عن الأضواء- في
الأزمة الحالية ولا سيما بدعمها إسماعيل خان القائد العسكري الطاجيكي الذي يقاوم
طالبان في قطاع هراة المدينة الواقعة شمال غرب أفغانستان بالقرب من الحدود مع
إيران.
وكانت إيران قدمت في السابق أيضا دعما عسكريا أساسيا لفصيلي الهزارة
والمسلمين الشيعة المنتمين إلى حزب الوحدة الذي يؤكد أنه يمثل 15 % من الأفغان
والذي يقاتل من أجل استعادة السيطرة على جبال وسط وشمال البلاد.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7804) ](170/137)
الورقة الأخيرة
تكريس الفجور في صحافة الإنترنت
د. محمد البشر
ليس من شأننا أن نتتبع مؤشرات الفجور الصحفي في الإنترنت؛ فقد كبرت
فقاعاته وتلونت، ولوثت رموزه قيم العمل الإعلامي وأخلاقياته.
وتخصيص الحديث عن ظاهرة (العهر الصحفي العام) في الإنترنت فيه
إجحاف وظلم للصحافة الصفراء المطبوعة؛ لأنها تحتاج إلى (بحث) مستقل،
ولأن هناك من القنوات الإعلامية الأخرى من تبوأ مكانة في الأسفلين، وهي قنوات
أمدت عقول الجماهير بجرعات مكثفة من الفجور صوتاً وصورة! !
أما أن تمتد حرية الفجور لتطال تاريخ الأمة وتنال من فكرها وثقافتها؛ فذلك
أمر يدق أجراس الخطر، وينذر بكارثة أخلاقية تستدعي اجتثاث جذورها،
وملاحقة أبالستها، وتضييق الخناق عليهم، وكتم أنفاسهم، ومحاربتهم في كل زمان
ومكان، وإنزال أشد العقوبات على أقطابها.
بين يدي مقالة نُشرت في صحيفة إلكترونية؛ يتتبع كاتبها ظاهرة انتشار
الخمر في أحد مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة، بل المتدينة، ويدعي زوراً وبهتاناً
أن كثيراً من أفراد ذلك المجتمع (خمريون) حتى النخاع، وأن سوق الخمر فيه
مزدهرة، وموائده باتت من لوازم الضيافة بين فئام معينة فيه.
ويتتبع الكاتب (تاريخ) انتشار نوع معين من الخمر، ويقول إنه من
(الثقافة الشفهية) التي لم يكتب عنها أو (يؤصل! !) لها، وزعم (مؤرخ الفجور)
أن أول كتابة تناولت ظاهرة انتشار الخمر في المجتمع وردت في روايات
(العدامة) و (الشميسي) التي تحدث فيها كاتبها عن وجود هذه الظاهرة في عقد
الستينيات الميلادية؟ ! !
ويستدل كاتب المقالة على انتشار هذه الظاهرة في المجتمع بحقيقتين (! !)
هامتين هما:
1 - كثرة الكؤوس التي تباع في متاجر الأواني المنزلية!
2 - كثرة من يشتري (الثلج) في عطلة نهاية الأسبوع!
هذه المقالة تنشر في الإنترنت، وقراؤها أكثر من قراء أية صحيفة عربية
مطبوعة، ومضمونها فجور يشوِّه ثقافة المجتمع ويقذف أفراده بمثل هذه الصفات
وغيرها.
لا نشك في أن (مقص) الرقيب يعجز عن منع نشر افتراءات فسقة الأمة
ودعاة الضلالة إذا كانت الإنترنت هي وسيلة النشر، ولكن الرقابة ليست فقط على
المضمون، بل على الأشخاص أيضاً.
لو أن هؤلاء كتبوا في السياسة، أو عن تجاوزات القيادات العلمانية؛ فما
عسى أن يكون مصيرهم؟ !
سيؤخذون بالنواصي والأقدام، وسيسامون سوء العذاب، وتُضيَّق الأرض
عليهم بما رحبت جزاءً وفاقاً.
أوَ ليس دين الأمة أحرى بأن يصان من دنس أهل الأهواء؟ !
أوَليست ثقافة الأمة جديرة بأن تصان من اللوث والتدليس والتشويه المتعمد؟!
ألا يستحق تاريخ الأمة أن يصان من سموم الأقلام؟ !
معاقبة هذه الزمرة المتمردة على دين الأمة وتراثها ضرورة، ومطاردتها لازم
من لوازم الأمن، لا فرق في ذلك بين الإرهاب الذي يتخذ من أوكار الثقافة المزيفة
كهوفاً وحفراً ينطلق منها، و (إرهاب) مغارات الجبال وخنادق الأودية! !
أليس كذلك؟ !(170/143)
ذو القعدة - 1422هـ
فبراير - 2002م
(السنة: 16)(171/)
كلمة صغيرة
كرامات (السيدة) ميجاواتي! !
شهدت إندونيسيا في نهاية حكم سوهارتو فترة اضطرابات عصيبة، وكان
الرجل قد استنفد على مدار 33 عاماً من الحكم كل الطرق والوسائل في خدمة
الأهداف الغربية، وقد ساعدوه في الوصول إلى سدة الحكم لتحقيقها، فكان حقاً
مخلصاً واستحق لقب: «صاحب القلب الطيب» ، برغم ذبحه لما يقارب مليون
إندونيسي من أتباع أحمد سوكارنو «المعادي للغرب» .
أريد لإندونيسيا أن تدخل مرحلة جديدة، أرادوا انتزاع بعض من أرضها
وبعض من ناسها، فاستقلت الأرض، وضم بعض الناس الثرى المتشبع بدم
المذابح. استمرت الاضطرابات من نهاية حكم سوهارتو إلى نهاية حكم «واحد» ،
كما استمر السلب والنهب والمظاهرات، واستقر في خلد كثير من الناس أن
إندونيسيا ذاهبة إلى مصير مجهول، ذاهبة إلى تفكك كبير، إلى هاوية سحيقة
لتنسينا أكبر بلد إسلامي.
وفجأة جاءت المعجزة «الغربية» بإقالة «واحد» من قِبَل البرلمان،
وتعيين السيدة: ميجاواتي أحمد سوكارنو رئيسة لتلك الدولة الكبيرة، وبنفس
المفاجأة التي مُهد لها بتعيينها نائبة الرئيس، توقفت كل أشكال العنف «المعلن»
في إندونيسيا، فلم تعد هناك مظاهرات تخرج لتندد، ولا حرائق تضرم هنا وهناك،
ولا بشر يقطَّعون إرباً، ولا الإعلام ينقل من ذلك شيء ألبتة، بل نسي الإعلام
إندونيسيا بعد أن وُضِعت في يد «أمينة» .. عفواً.. ميجاواتي..
لم نعد نرى من إندونيسيا إلا صور تلك السيدة في المسجد! ! رافعة أكف
الضراعة في المناسبات الدينية! !
التصعيد المفاجئ لأحداث إندونيسيا ثم التوقف المفاجئ للأحداث ذاتها ينبئنا أن
ميجاواتي يراد لها أن تثبت أقدامها في إندونيسيا التي قال عنها نائب الرئيسة إنها
لن تتحول إلى دولة إسلامية! !
وقد حافظ الأمريكان على مشاعر ميجاواتي، فمنعوا كتاباً أمريكياً يوضح دور
المخابرات الأمريكية في المذبحة التي نفذها سوهارتو بحق أتباع والدها؛ حيث لا
داعيَ لنكء الجرح القديم! !(171/1)
الافتتاحية
يا أمة طمعت لنومها الأمم!
ما أن انتهى شهر رمضان المبارك حتى خرج ساسة أمريكان ليعلنوا بكل
غبطة في لهجة تحريضية غير خافية: ها هي القوات الأمريكية ضربت بلداً
إسلامياً (أفغانستان) طوال شهر رمضان، ولم تقم مظاهرات شعبية في البلدان
الإسلامية الأخرى تحتج على هذه الضربات، ولم تتعرض المصالح الأمريكية في
أي بلد عربي أو إسلامي لأي خطر كما قيل قبل دخول شهر رمضان، وعليه
بحسب هؤلاء الساسة يمكن مواصلة هذه الحرب باطمئنان في بلدان عربية وإسلامية
أخرى.
وإذا كانت مثل هذه التصريحات تدل على مدى حالة الرصد والترقب التي
يوليها أعداء الأمة للرأي العام فيها وتحولاته وتحركاته، فإنها تدل أيضاً على مدى
أهمية تحريك هذا الرأي العام وحشده وتفعيله لمصلحة قضايا الأمة الحيوية، وتدل
أيضاً على مدى ما وصل إليه هذا الرأي العام أو قل الأمة من حالة السبات العميقة
التي يظنها أعداؤها حالة موت تغري أولئك الأعداء بالتقدم إلى الأمام لنهش جسدها
وانتهاز الفرصة التاريخية للقضاء عليها (وعلى دينها) وتصفية الحسابات العالقة
باسم محاربة الإرهاب.
كل ذلك يتم بحرب معلنة وصريحة لا يتوانى أكابر مجرميها بإعلانها حرباً
قذرة في أكثر من مناسبة، ولا يتردد (الطابور الخامس) داخل أمتنا بتسديد
الطعنات إلى ظهر الأمة المكشوف كلما سنحت الفرصة، ولنا أن نستعرض نزراً
يسيراً من الأحداث والمظاهر خلال (شهر الترقب) لنتبين أين ذهبت (البراءة)
المفترى عليها وسط (قذارة) الحرب السائدة، وكيف يتسابق أعداء الأمة لانتهاز
الفرصة للإجهاز عليها وسط صمت أبنائها المطبق، إن لم يكن وسط صيحات
التشجيع في الملاعب وآهات التلهي في المسارح ودور اللهو؟ !
ففي واحدة من جرائم الحرب (التاريخية) نفذت القوات الأمريكية
والبريطانية مدعومة بقوات تحالف الشمال في أفغانستان واحدة من أبشع المجازر
وحشية؛ حيث دكت (قلعة جانجي) التي كانت معتقلاً لأكثر من 600 (أسير
حرب) بقذائف الدبابات والمدفعية، وصواريخ الأرض/ جو، والقنابل التي ألقتها
عليهم الطائرات الأمريكية عبر عشرات الغارات الجوية التي رمتهم بأطنان من
المواد المتفجرة.. إلى أن تحول الأسرى إلى أشلاء بشرية أو احترقت جثثهم أو
قتلوا وهم موثوقو الأيدي من الخلف.
وبغضِّ النظر عن (السيناريوهات) المحكية عن بداية الأحداث إلا أنه ترد
هنا نصيحة وزير الدفاع الأمريكي (رونالد رامسفيلد)
بـ (التخلص) من الأسرى وعدم الاحتفاظ بهم، بما يعني إعطاء (ضوء أخضر)
لقتل الأسرى والقضاء عليهم، كما ترد أيضاً الطريقة الوحشية التي تم بها القضاء
عليهم، بما يظهر الرغبة المحمومة في الانتقام وسفك الدماء (على الطريقة
الأمريكية القذرة) ، وقد كانت هناك بدلاً من ذلك طرق أخرى مع افتراض حدوث
تمرد من الأسرى للقضاء على هذا التمرد والسيطرة عليهم لو توفرت رغبة
(بريئة) في عدم قتل أسرى أعلنوا استسلامهم ويعد القانون الدولي قتلهم جريمة
حرب.. مثل إلقاء قنابل غازات أعصاب أو مسيلة للدموع أو حتى التعامل المناسب
مع بعض أشخاص يحملون أسلحة شخصية خفيفة (بحسب الرواية الأمريكية) بدلاً
من هذا الأسلوب الوحشي الذي لم ينف حدوثه أحد.
وفي الشهر ذاته تناقلت الأخبار قيام بعض قوات التحالف بذبح 37 عربياً
اعتقلوا ثم ذبحوا ذبحاً أمام زوجاتهم وأولادهم.
وترددت الأخبار عن عشرات الأسرى من المعتقلين المناصرين لطالبان
الذين قضوا حتفهم (خنقاً) أثناء نقلهم في شاحنات محكمة الإغلاق من جميع
الجهات ولا منفذ فيها، مع تكرار ذلك أكثر من مرة.
ناهيك عن أخبار الاغتصاب وهتك الأعراض لنساء الأسرى والمعتقلين في
قصص يندى لها جبين أصحاب المروءة فضلاً عن أصحاب الإسلام.
* لم يكن كل ما سبق غريباً على أعدائنا، ونحن لا نستجدي الرحمة من
هؤلاء الأعداء ولا نتوقعها منهم؛ فهم [لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً] (التوبة
: 10) ، ولكن الغريب بالفعل أن كل هذه الأحداث رغم كثرتها وبشاعتها لم تقابَل
من معظم الأمة إلا بمشاعر باردة وأحاسيس متبلدة إلا من رحم ربي، ولم نسمع
صوتاً من أصحاب (إسلام التسامح والعفو والبراءة) ودعاة حوار الحضارات
يستنكر ما حدث، بل صمتت كل الأصوات التي تنتظر كل مناسبة يقتل فيها
يهودي أو نصراني لتعلن شجبها واستنكارها لمقتل (الأبرياء) ، وكأن البراءة هذه
حكر على الكفار ولا ينعم بها مسلم.
وفي فلسطين في شهر رمضان راح خمسة أطفال ضحية انفجار فخ متفجر
نصبه الجيش الإسرائيلي في طريق ذهابهم إلى مدرسة تابعة للأمم المتحدة في مخيم
«خان يونس» للاجئين بغزة مما حول أجسادهم إلى أشلاء.
وفي الشهر ذاته كان الفلسطينيون يفطرون ويتسحرون على دوي صواريخ
طائرات الأباتشي الأمريكية، وقذائف الدبابات التي ترمي بها الأحياء السكنية.
وفيه أيضاً لم يتوقف مسلسل الاغتيالات المعلنة (قتل بلا تحقيق ولا محاكمة)
لقيادات الانتفاضة، بل تعالت صيحات القادة الصهاينة بضرورة قيام سلطة ياسر
عرفات باعتقال من وردت أسماؤهم في لائحة المطلوبين المقدمة إليهم من قبل
الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ليسهل ضربهم والقضاء عليهم
(كما حدث في قلعة جانجي) .
* إلى هنا وسكون القبور يخيم على الحضور، فلما انتقم لـ (أبريائنا)
بعض الفلسطينيين من شباب حماس والجهاد الإسلامي بقتل بعض (أبريائهم) ..
ارتفعت الاحتجاجات وتعالت الأصوات مستنكرة قتل الأبرياء من جميع الأطراف (
يا له من عدل وإنصاف!) ومحرضة المسلمين على مراعاة العهد والذمة التي بين
المسلمين وأهل الكتاب.
إن الحالة التي بدت عليها الأمة أثناء تعاملها مع الأحداث الأخيرة أغرت
أعداءها كلاً في موقعه بانتهاز الفرصة والإجهاز على ما تبقى من رمق الحياة فيها
بعد تصفية (القضايا المعلقة) .
ففي فلسطين المحتلة يسعى اليهود ومن ورائهم أمريكا والغرب بثقل واضح
لاستغلال الفرصة التاريخية وفرض (الحل النهائي) الذي يرضي نهمهم التوسعي
المحموم، ثم دفن القضية تحت ثرى التاريخ إلى الأبد هكذا يتمنون ويسعون.
وفي الفلبين نكثت الحكومة عهودها، وانقلبت على
(عرفاتها) لمحاولة استئصال (مشكلة المسلمين) في الجنوب بمساعدة أمريكية.
وفي الهند أخرجت مسرحية (هوليودية) على ساحة البرلمان الهندي،
ليخرج بعد ذلك زعماؤها معلنين أنهم ضحية الإرهاب الذي يستهدف قيم
الديمقراطية والحرية (مثلما قيل بعد تفجيرات سبتمبر) ، وأنها ستستأصل جذور
الإرهاب من كشمير ومن يدعمونه في باكستان، ثم بدأت بحشد قواتها على الحدود
مع باكستان، وكثفت الحملات على منظمات الجهاد الكشميري.
وحتى الصين استدعت خبراء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي
ليساعدوها في تعقب نشاطات مسلمي تركستان الشرقية.
وفي أوروبا الغربية بدأت دول (العدالة والحرية والديمقراطية) تقلب ظهر
المِجَنّ للاجئين السياسيين المسلمين وأصحاب الانتماء الإسلامي، فسارعت إلى
اعتقال بعضهم وتسليم آخرين إلى دولهم والتضييق على الجاليات الإسلامية
وأنشطتها فيها.
والآن يحد أعداؤنا سكاكينهم ويشحذون أسنانهم لالتهام الوجبة التالية على
وَهْم انتهائهم من الوجبة الأولى وتظهر حيرتهم في الاختيار من كثرة المغريات
الشهية: أهي الصومال أم السودان؟ اليمن أم العراق؟ أم لبنان أم الفلبين؟
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزت الحرب (القذرة) المعلنة أن
تكون حرباً على منظمات وجماعات إسلامية، أو مؤسسات دعوية أو إغاثية أو
خيرية لتصل الحرب إلى الخط الأخير.. إلى الإسلام ذاته؛ فقد تعالت الأصوات
التي تغذيها حملات صهيونية وأصولية نصرانية، بأن (المشكلة) ليست في بعض
المسلمين، بل في الإسلام ذاته، وفي مصادره الأساسية: القرآن والسنة؛ ولذا
طالبوا بتعديل (أو قل: تحريف) الإسلام ذاته ليواكب التطور الحضاري كما
عدلت النصرانية ذاتها لتواكب التطور.
وهذا المنحى الخطير وإن لم يصرح به جميع ساستهم إلا أن الخطوات العملية
لتنفيذه بدأت في الظهور، مستغلين اللحظة التاريخية البادية لهم بعمق سبات الأمة،
فأخذوا خطوات جدية في الضغط على أكثر من دولة للتأثير على مناهج التعليم
الديني فيها ومحاصرة مدارسها ومعاهدها وجامعاتها، وشرعوا في خطوات عملية
أيضاً لإحداث تحولات اجتماعية غير مسبوقة.
إننا بعد كل ذلك نكرر ما سبق أن ذكرناه من أننا لا نستجدي الرحمة من
أعدائنا؛ ولا ننتظر منهم ولا نتوقع غير ذلك، ولكن ينبغي أن نفتش في أنفسنا
نحن، وأن نقاوم بكل ما تبقى في أيدينا، وفي ذلك نرصد ظاهرة تستحق النظر
والتأمل والدراسة.
لقد عمت العالم الإسلامي بعد أحداث سبتمبر وأثناء تجهيز أمريكا للحرب
عاصفة من التعاطف مع أفغانستان والاحتجاج على ضربها أجبرت بعض
(النفعيين) على عدم مصادمة هذه العاصفة، وعدم إعلان تعاطفهم مع أمريكا. ثم
ما لبثت (كالعادة) أن هدأت هذه العاصفة لتخمد رويداً رويداً مع تصاعد وتيرة
الحرب!
ومع اعتبارنا لوجود عوامل عديدة وظروف كثيرة ساعدت في الوصول إلى
هذه الحالة، إلا أن هناك تساؤلات لا ينبغي أن تمر مرور الكرام ومنها:
هل هذه العاطفة عاطفة كاذبة؛ أو خاوية نُخدع بها كل مرة؟
هل تفتقر الأمة إلى الوعي اللازم الذي يؤهلها لمعرفة متى تظهر تعاطفها،
وكيف تظهره؟
هل هو قصر النفس وعدم المثابرة؟ ما أسباب ذلك؟
هل أعداؤنا درسونا إلى درجة أنهم يعرفوننا أكثر من أنفسنا، ويعرفون كيف
يؤثرون علينا ويحولون اتجاهاتنا؟
هل هناك (توجه إعلامي وسياسي) منا يجعلنا نفقد في كل مرة الثمرات
التي بأيدينا؟
وأسئلة كثيرة غيرها.. ولكن أياً كانت الإجابة عليها فالذي نستطيع قوله أنه
في ضوء الأسباب المنظورة لم يبق في أيدينا للدفاع عن الخط الأخير من دفاعاتنا
عن ديننا وأمتنا سوى ضرورة المراجعة الصادقة للاتجاهات الانهزامية أمام أعدائنا
والتي لم تزدنا إلا وهناً وسقوطاً؛ لأن أعداءنا لن يوقفهم سوى رجوعنا إلى الله حقاً
وصدقاً، كما أن لاحترام الأمة وتفعيل دورها ليشكل سلاح (الرأي العام)
وضغوطه، دوره الكبير كما هو معمول به لدى أعدائنا وترتعد فرائصهم من نتيجة
هذا السلاح؛ فإذا لم نحسن استخدامه وإيقاظ الأمة من سباتها فنسأل الله تعالى ألا
نكون ممن تجري عليهم سنة الاستبدال.(171/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
جهاد المنافقين
عبد العزيز كامل
تثبت الوقائع يوماً بعد يوم أن نكبة الأمة بالمنافقين تسبق كل النكبات، وأن
نكايتهم فيها وجنايتهم عليها تزيد على كل النكايات والجنايات؛ فالكفر الظاهر على
خطره وضرره يعجز في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام أن ينفرد بإحراز انتصار
شامل عليها، ما لم يكن مسنوداً بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين ويتسمى
بأسماء المسلمين، يمد الأعداء بالعون، ويخلص لهم في النصيحة، ويزيل من
أمامهم العقبات، ويفتح البوابات.
رأينا ذلك في عصرنا وسمعنا عنه قبل عصرنا؛ فمنذ أن افتتح (ابن سلول)
طريق النفاق، سارت فيه من بعده أفواج المنافقين عبر التاريخ، وفي عصرنا
الراهن لا تخطئ العين ملامح النفاق الظاهر المتظاهر مع الكافرين في القضايا
الكبرى من قضايا المسلمين. رأينا ذلك في تركيا قبل سقوطها وبعد سقوطها خلال
أكثر من ثمانين عاماً، ورأيناه في فلسطين بعد احتلالها منذ ما يزيد على خمسين
عاماً، كما لا نزال نرى صوراً من ذلك في أكثر بلدان المسلمين التي سلخها
المنافقون لصالح الكافرين عن هويتها الإسلامية وبنيتها الاعتقادية.
وها نحن اليوم نفجع مرات أخر بما يحدث في أفغانستان وفلسطين وباكستان
والصومال وغيرها من البلدان التي يتهيأ المنافقون فيها لجولة جديدة من قهر الأمة
وإذلالها أمام أعدائها بتعلاّت ومسوّغات متعددة، لا يقف خلفها شيء من المبادئ
والثوابت إلا الثبات أو الوصول إلى مقاعد السيادة وكراسي القيادة، التي يهون
عندهم في سبيلها كل شيء، ويحل لأجل الوصول إليها كل شيء، ويحرم دون
المساس بها أي
شيء! ! ... إنه الكرسي الذي يكاد يُعبد، ويُركع له ويُسجد. راقب معي دور
النفاق السياسي عبر التاريخ؛ فستجد ذلك الصنم من ذوات الأربع قابعاً خلف كل
حركة نفاق خائنة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وفي عصرنا، وفي ظل غياب الشريعة عن الحكم في الغالب الأعم من
أوطان الإسلام، وفي ظل ضياع الضوابط التي يُختبر بها من يصلح ومن لا يصلح
لقيادة المسلمين؛ خلا الجو لكل طاغية أفَّاك، من أهل النفاق لأن يركب شعباً من
الشعوب بعد الوثوب إلى سدَّة الحكم، عبر طرق ومسالك وعرة، يعرف المنافقون
وحدهم كيف يذللونها ويسبرون غورها ويعبرون من فوقها إلى القمة التي لا يسقطهم
من فوقها إلا هازم اللذات.
يقوم المنافقون في كل مرة ينجحون فيها في ركوب شعب من الشعوب بدور
عدائي مزدوج يستهدف أمرين لا ثالث لهما: استمداد أسباب البقاء على القمة من
ظهير خارجي مقابل إمداد ذلك الظهير بأسباب استبقاء المصالح في الداخل الوطني،
وما عدا ذلك تفاصيل؛ فكيفية الحكم.. ودستور الحكم ... تمثيل الفئات.. النيابة
عن الشعب.. المعارضة باسم الشعب ... الخطط الخمسية.. المشاريع التنموية..
الصراعات الحزبية ... المعارك الجانبية.. خارجية أو داخلية، قصة واحدة
والمحصلة في النهاية واحدة وهي دعواهم العريضة: [إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ
إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] (البقرة: 11-12) . لا فارق كبيراً بين
نفاق الأمس ونفاق اليوم من حيث الجوهر، أما الظروف فقد اختلفت؛ فالنفاق
بالأمس البعيد أيام تمكين الدين كان ذُلاً يستخفي، وضعفاً يتوارى، وخضوعاً
مقموعاً يمثله عمالقة أقزام ورؤوس أزلام، حيات وعقارب موطوءة تكاد ألاَّ تنفث
السم إلا وهي تلفظ الحياة. كان تمكين الدين وقتها يمكِّن المؤمنين من جهاد أولئك
الأسافل باليد واللسان والقلب وبإقامة الحدود، فلا يُرى أحدهم إلا وهو محاصر
مكدود، أو محدود مجلود. أما اليوم؛ فالنفاق صرح ممرد، وقواعد تتحرك،
وقلاع تشيد، إنه اليوم دولة بل دول ذات هيئات وأركان، إنه أحلاف وتكتلات
وكيانات، بل معسكرات ذات قوة وسلطان ... سلطان سياسي واقتصادي وإعلامي
وثقافي، يمارس الضرار في كل مضمار.
نخطئ كثيراً عندما نظن أن النفاق الذي أفاض القرآن في الحديث عنه،
وأسهب في التحذير منه، كان يمثل مرحلة تاريخية انقضت بدخول الناس في دين
الله أفواجاً؛ فالعصر الذهبي للبشرية الذي شهدته الأرض أيام الرسالة الخاتمة لم
يخل من ظلم النفاق وظلماته؛ فهل تُعصم من ذلك العصور التالية؟ ! قد يُقال إن
النفاق وقتها كان مقموعاً ممنوعاً فلهذا كان يستتر من الدين بالدين، وهو اليوم ليس
في حاجة إلى ذلك؛ فاليوم مؤمن وكافر، أو مسلم ومرتد ...
أقول: إن القرآن الذي أمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأتباعَه بجهاد المنافقين
والكافرين سيظل يُتلى إلى يوم الدين. بقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (التوبة: 73) والآية تدل على أن النفاق سيظل موجوداً وسيظل محسوساً ملموساً من أشخاص تُرى فيهم
آيات النفاق. والنفاق المقصود في الآية ليس قاصراً على النفاق ذي المرامي
السياسية والأهداف التسلطية، بل هو النفاق بكافة أشكاله وصوره عندما يكون
موجهاً إلى ضرر الدين وأصحاب الدين، سواء كان صادراً من أهل السياسة أو
من أهل الثقافة أو أهل الفن والقلم أو حتى بعض المنسوبين للعلم والفتوى
في بعض البلدان.
نحن هنا لا نجادل في أن النفاق درجات أو دركات، وأن خطره يتفاوت
بتفاوت كبره أو صغره؛ إذ من النفاق ما هو أكبر مخرج عن الملة: ومنه ما هو
أصغر لا يخرج عن الملة، وفي كلا الحالين فنحن مأمورون بمجاهدة النفاق ولو
كان ساكناً بين أضلعنا أو مختبئاً بين جوانحنا، ومن ذا الذي يأمن النفاق على نفسه
وقد خافه على نفسه الفاروق عمر رضي الله عنه؟ ! ومن ذا الذي يضمن السلامة
منه وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه التعوذ منه؟ !
غير أني لا أقصد هنا إلى التأصيل والتفصيل في مسائل الإيمان المتعلقة بما
يخرج أو لا يخرج منه من أعمال الكفر والنفاق، ولا إلى بسط الكلام في أحوال
الأعيان من حيث ثبوت أو عدم ثبوت ما يتعلق بهم في ذلك من الأحكام؛ فالأمر
الأول يقصر عنه علمي، والآخر يثنيني عنه تقصيري وظلمي، وأسأل الله العفو
والعافية لي وللمسلمين، ولكن المقصود التماس نوع من القربى في جهاد صنف من
أعداء الدين، طالما غفل أو تغافل عن جهادهم الكثيرون من أصحاب الدين، إما
لذهن شارد أو ورع بارد، وهذا وذاك لا يعفيان من مسؤولية الذود عن الدين ضد
شؤم النفاق ولؤم المنافقين. فتقصيرنا في جهادهم لا ينفي حقيقة أن جهادهم من
فرائض الدين، بل من أجلّ فرائض الدين التي لا تقل شأناً عن فريضة الجهاد ضد
الكافرين.
بين فريضتين:
وصف الإمام الفقيه المفسر (أبو بكر ابن العربي) واجب الجهاد باللسان ضد
المنافقين بأنه فريضة دائمة [1] ، وقد تأملت في هذا الوصف، فألفيته وصفاً دقيقاً
يحكي فروقاً كثيرةً بين فريضتي جهاد الكفار وجهاد المنافقين من أوجه متعددة:
منها أن جهاد الكفار يجيء ويذهب باختلاف الأزمنة والأمكنة، وبحسب
وجود دواعيه ومسبباته من مداهمة الكفار لبلدان المسلمين، أو فتح المسلمين لمعاقل
الكفار الصادين عن سبيل الله، أما المنافقون فجهادهم قائم ودائم في السلم والحرب؛
لأن أذاهم للدين موصول في السلم والحرب.
ومنها أن عداء المنافقين في الغالب مستتر خفي، وعداء الكفار معلن جليّ،
ولا شك أن المستعلن بالعداء يعطي من يعاديهم فرصة للتحفز والاستعداد وأخذ
الحذر، بخلاف من يتآمر في الخفاء، ويموه العداء.
ومنها أن خطر المنافقين ينطلق من الداخل بين صفوف المسلمين، بينما
يجيء خطر الكفار الظاهرين في أكثر الأحيان من الخارج، وخطر الخارج لا
يستفحل دائماً إلا بمساندة من الداخل.
ومنها أن عداوة المنافقين شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تبدأ
من الكلمة همزاً ولمزاً وسخرية وغمزاً وتنتهي إلى الخيانة العظمى بالقتال في صف
الكفار وتحت راياتهم والتآمر معهم على المسلمين وكشف أسرارهم.
ومنها أن جهاد الكفار قد يكون عينياً أو يكون كفائياً، وقد يسقط بالأعذار أو
الإعذار، أما جهاد المنافقين فهو غير قابل للسقوط إذا وجدت مسوغاته، فهو واجب
على كل مكلف بحسبه، ففي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من
أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسننه ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم
خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن،
ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك
من الإيمان حبة خردل» [2] .
لهذا فإن جهاد المنافقين المأمور به في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ
الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (التوبة: 73) ،
يبدأ بالقلب حتى ينتهي إلى السيف.
هم العدو:
المتأمل في قوله تعالى عن المنافقين: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) يرجع بمعنىً مهم، وهو أنه إذا كان المشرك الوثني
عدواً، والكافر الكتابي عدواً، والمرتد المنقلب على عقبيه عدواً؛ فإن المنافق
المتزندق هو العدو، وحزبه الممالئين له في النفاق الأكبر (هم العدو) قال المفسر
ابن عاشور رحمه الله في تفسير تلك الآية: «والتعريف في (العدو) تعريف
الجنس الدال على معين، لكمال حقيقة العدو فيهم، لأن أعدى الأعادي: العدو
المتظاهر بالموالاة وهو مدَّاح، وتحت ضلوعه الداء الدوي، وعلى هذا المعنى
رُتب عليه الأمر بالحذر منهم [3] ، ولم يجاف ابن عاشور الحقيقة عندما أرجع
وصف القرآن للمنافقين بـ (العدو) إلى» كمال حقيقة العدو فيهم «، وكيف
لا تكمل حقيقة العداء في هؤلاء، وهم كما قال ابن الجوزي رحمه الله:» عيون
الأعداء على المسلمين « [4] ، لا بل إن هؤلاء ليسوا فقط عيون الأعداء بل قلوبهم
وألسنتهم، كما ذكر الإمام الطبري في تفسير (هم العدو) حيث قال:» هم
العدو يا محمد فاحذرهم؛ فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم وقلوبهم عليكم مع أعدائكم،
فهم أعين لأعدائكم عليكم « [5] .
لقد أفاضت نصوص الوحي كتاباً وسنة في تحذير المؤمنين من النفاق وأهله،
بعد إسهاب طويل في كشف خباياهم وفضح نواياهم وهتك أسرارهم وطواياهم،
حتى إن آيات الكتاب قد صرحت بذكر النفاق والمنافقين في نحو سبع وثلاثين آية،
وفصَّلت وفرَّعت في الكلام عنهم في أضعاف ذلك من الآيات موزعة على إحدى
عشرة سورة، هذا في الحديث عن المنافقين باسمهم ووصفهم الصريح (النفاق) .
يضاف إلى هذا حديث آخر مطول عمن وُصفوا في القرآن بـ[الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ] (المائدة: 52) وهم الرديف والمدد، والمخزون الطويل الأمد
لمعلومي المنافقين؛ فقد ذكر القرآن مرضى القلوب في اثنتي عشرة آية ضمن اثنتي
عشرة سورة، وكل آية ذكر فيها ذلك تتعلق بها آيات أخر. والمتأمل في حديث
القرآن عن مرضى القلوب يمكنه أن يستنتج أن هؤلاء لديهم الاستعداد لأن يكونوا
منافقين معلومي النفاق بما لديهم من أمراض الشهوة أو الشبهة؛ فهم قوم ضعاف
الإيمان إلى أدنى حد، حتى إن أحوالهم تكاد تتقلب أو تنقلب إلى معسكر النفاق
الصريح، لفرط قنوطهم وقلة يقينهم، ولشدة تعلقهم بالدنيا وحرصهم على الجاه، أو
لمزيد شحّهم الخالع وجبنهم الهالع الذي يجعلهم كلما خُيِّروا بين الانتصار للدين
والقيم أو الانتصار للناس أو النفس ما ترددوا في الانحياز إلى ما يخدم مصالحهم
العجلى فقط؛ ولذلك قرن الله مرض القلوب بالمنافقين في أكثر مواضع القرآن.
إن مرضى القلوب يمارسون لوناً صارخاً من التطرف ذي الاتجاهين؛ فهم
يتطرفون في بُغض أهل الدين وإساءة الظن بهم، ويبالغون إلى حد التطرف أيضاً
في الدفاع عن الكفار وحسن الظن بهم، وهذا هو جوهر مرض القلوب: التطرف
وعدم الاعتدال، يقول الراغب الأصفهاني عن ذلك الداء:» هو الخروج عن
الاعتدال الخاص بالإنسان « [6] وقال بعد أن قسم المرض إلى قسمين: أحدهما
مرض الجسم، والثاني مرض القلب:» والثاني عبارة عن الرذائل كالجهل والجُبن
والبخل والنفاق وغيرها من الرذائل الخُلقية «. وإذا أُطلق مرض القلب في
نصوص الوحي فهو يعني في الغالب النفاق الأكبر عياذاً بالله وذلك حينما يستحكم
ويستعصي علاجه، وهي حالة الكفر نفسها التي تموت فيها القلوب إلا أن يحييها
الله تعالى بهداية من عنده. قال الأصفهاني:» ويشبه النفاق والكفر ونحوهما من
الرذائل بالمرض لكونها مانعة عن إدراك الفضائل، كالمرض المانع للبدن من
التصرف الكامل، وإما لكونها مانعة عن تحصيل الحياة الأخروية، وإما الميل
النفسي بها إلى الاعتقادات الرديئة « [7] .
إن المنافقين ومرضى النفوس لا يتيسر علاج أدوائهم من داخل أنفسهم في
غالب الأحيان لفقدان الوازع وغياب الضمير، ولكن لما كانت عللهم متعدية في
الضرر إلى غيرهم، لزم توجيه علاجهم من خارج ذواتهم لا طلباً لبرئهم هم بقدر
ما هو لأجل حفظ الناس من شرور أمراضهم، وهذا والله أعلم السر في إيجاب
مجاهدتهم والإغلاظ عليهم في قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: [يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ]
(التوبة: 73) . فكما أن الغلظة على الكافرين مطلوبة، فكذلك الغلظة على
المنافقين، ولهذا قال القاسمي: [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] (التوبة: 73) :» أي على كلا
الفريقين بالقول والفعل « [8] ، وهذا لا يمنع من مواجهة شُبه المنافقين وطعونهم
بالدلائل والبراهين و» بإلزامهم الحجج وإزالة الشبه «، وكذلك» بإقامة الحدود
عليهم إذا صدر منهم موجبها « [9] ؛ فهم أكثر الناس وقوعاً فيما يوجب الحد لعدم
ورعهم وقلة ارتداعهم.
ولهذا قال الحسن في تفسير الآية:» جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم «،
وقال قتادة بقوله، ووجَّها قولهما بأن المنافقين أكثر من يصيب الحدود [10] . ولكن
ابن العربي في تفسيره لم يرتض هذا القول ولا توجيهه، ووصف ذلك القول بأنه
» دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه
من النفاق كامناً، لا بما تلتبس به الجوارح ظاهراً، وأخبار المحدودين يشهد سياقها
أنهم لم يكونوا منافقين « [11] لكني أرى أن اعتراض ابن العربي لا يسلم له؛ لأن
القائلين بأن المنافقين يجاهَدون بإقامة الحدود لم يقصدوا أن كل من تقام عليهم
الحدود هم من المنافقين، ولكنهم قصدوا أن المنافقين هم أكثر الناس إصابة للذنوب
التي تستوجب إقامة الحدود، وهذا صحيح؛ لأن هؤلاء لا يمنعهم من اقتراف
الذنوب وإظهارها في دار الإسلام إلا عز الإسلام وإقامة الحدود، ولهذا فإن
المنافقين يكونون في صراع مع أنفسهم لكيلا يقعوا في موجبات إقامة الحدود عليهم.
فجهاد المنافقين بإقامة الحدود هو نوع من جهادهم باليد؛ لأن جهادهم يشمل الجهاد
بالقلب واللسان واليد كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير [جَاهِدِ الكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ] (التوبة: 73) :» بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع
فبقلبه؛ فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه « [12] . ولكن المشكلة هنا أن المنافقين
اليوم هم أول من ضيَّع إقامة الحدود وعطل الحكم بها والتحاكم إليها.
وقد حكى الطبري أقوالاً أخرى في معنى الآية تدور حول الاقتصار في جهاد
المنافقين على اللسان، ثم اتجه كعادته إلى الترجيح بين الأقوال واختيار ما يراه
أولى بالصواب فقال:» وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن
مسعود من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين بنحو الذي أمره
من جهاد المشركين، فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين
أظهر أصحابه مع علمه بهم؟ قيل: إن الله تعالى ذِكره إنما أمر بقتال من أظهر
منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك، وأما من إذا اطُّلع عليه
منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخذ بها أنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم؛ فإن حكم
الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أنه يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقداً
غير ذلك « [13] .
فجهاد المنافقين إذن إذا أظهروا الكفر الجلي بقول أو فعل أن يجاهدوا مثل
جهاد الكفار. قال ابن كثير رحمه الله: (روي عن علي رضي الله عنه أنه قال:
» بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: [فَإِذَا
انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ] (التوبة: 5) ، وسيف لكفار أهل الكتاب:
[قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ] (التوبة: 29) ،
وسيف للمنافقين: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]
(التوبة: 73) ، وسيف للبغاة [َقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ]
(الحجرات: 9) «، ثم قال ابن كثير: (وهذا يقتضي أن يجاهدوا بالسيوف
إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير) [14] .
وهنا نقول: إذا كان واقع المسلمين اليوم في أكثر الأحوال لا يسمح بجهاد
المنافقين بإقامة الحدود أو الإغلاظ عليهم لكف شرهم فلا أقل من تعويض ذلك
بجهادهم باللسان وما يقوم مقامه من كل وسيلة ترد ما يستطاع من كيدهم للدين وإلا
فإن ذلك النفاق سيظل يتوحش ويطغى حتى يهدد بهدم معالم الإيمان والدين في كل
بلاد المسلمين، والجهاد المطلوب يشترط فيه أن يكون وفق الضوابط الشرعية
والموازنة بين المصالح والمفاسد، المهم ألا ينسحب الترك العام لجهاد الكفار إلى
ترك عام لجهاد المنافقين.
إن فقهاء الإسلام وعلماءه، عندما تحدثوا عن أحكام جهاد المنافقين، لم
يفترضوا واقعاً خيالياً، بل تحدثوا عن واقع عاشته الأمة الإسلامية معهم منذ أن
وُضعت لبنات مجتمعها الأول في المدينة المنورة، وصفحات السيرة والتاريخ تقطر
بمواقف مخزية لحزب المنافقين الذي ظهر أول ما ظهر في مجتمع الطهارة والنقاء
الأول في عهد الرسالة، ولم يستح ذلك الصنف من الناس أن يكون له حزبه وجنده
في أطهر مكان وأفضل زمان في تاريخ الإنسان؛ ففي حياة الرسول صلى الله عليه
وسلم أطلت ظاهرة النفاق برأسها لتعلن أن خطرها لن يستثني زماناً دون زمان ولا
مكاناً دون مكان بل ولا إنساناً دون إنسان، ولو كان هذا الإنسان هو خير البشر
وسيد الرسل صلى الله عليه وسلم؛ ففي أخطر لحظات الدعوة الإسلامية وأدق
المراحل التي واجهت فيها أعداءها الخارجيين؛ كان حزب النفاق بالمرصاد لهذه
الدعوة في صف أعدائها، وقد أفاض القرآن في عرض مواقف المنافقين في تلك
المراحل، ونحن بحاجة إلى جمع أبرزها في موضع واحد، ليتجسد معنا معنى قول
الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) ولنعلم أنه إذا كان هذا هو خطر النفاق في
مجتمع النبوة، فكيف يكون شأنه في غيره؟
المنافقون وخذلان المسلمين:
بعد أن عزمت قريش على الثأر لهزيمتها في بدر الكبرى، علم الرسول صلى
الله عليه وسلم بنواياهم وتحركاتهم، واستقر الأمر بعد المشورة ألا يمكث المسلمون
في المدينة للدفاع عنها بل يخرجوا للقاء قريش قبل أن تهجم على المدينة، وهذا ما
لم يكن زعيم المنافقين آنذاك (عبد الله بن أُبي بن سلول) موافقاً عليه، وجاءت
قريش بجمع حاشد من ثلاثة آلاف مقاتل بكامل الإعداد والعتاد، وكان جيش
المسلمين لا يزيد على ألف مقاتل في موقف دفاع، وبينما كان الفريقان يستعدان
للنِّزال في معركة فاصلة، إذا بزعيم النفاق ينخذل عن جيش المسلمين بثلاثمائة من
قومه، ليعود للقعود في المدينة، معللاً خذلانه للمسلمين بقوله عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم:» أطاعهم وعصاني «فلحق بهم الصحابي الجليل عبد الله بن
عمرو بن حرام يناديهم:» يا قوم! أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما
حضر عدوكم «. ولكن هيهات أن يستجيب قوم ينتظرون ظرف الانتقام من
الدعوة وأهلها لدعوات الرجولة والمروءة. ولهذا قال لهم ذلك الصحابي عندما
علم خستهم وانتهازيتهم:» أبعدكم الله أعداء الله « [15] إن مصالحهم الأنانية
الآنية ونجاتهم الشخصية وسوء ظنهم بالله تعالى جعلهم يخذلون المسلمين في هذا
الظرف الدقيق متعللين بأن رأيهم لم يُحترم وكلامهم لم يؤخذ به؛ ولهذا فإن
مشاركتهم لن تتم، وكأن المشورة يُشترط فيها ترجيح قولهم على قول غيرهم..!
يصور القرآن هذا المشهد ويحكي هذا التصرف في معرض حديثه عن غزوة
أحد: [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل
لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا] (آل عمران: 154) .
وقد عد القرآن هذه المواقف الانتهازية من المنافقين أكبر من مجرد جبن من
جبناء، أو عدم مسؤولية في نفوس رعناء، إنه أخطر من ذلك، إنها خيانة لأهل
الإسلام بإسلامهم إلى الأعداء، وتعريض الدين إلى خطر الضياع أو الضعف؛
وتعريض حَمَلته للاستئصال؛ ومن أجل هذا عُدَّت إعانة الكفار على المسلمين أو
تمكينهم منهم مسارعة إلى الكفر ونصرة له، ولهذا قال الله تعالى لنبيه بعد أن سجَّل
على المنافقين جرمهم: [وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ
شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظاًّ فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (آل عمران: 176-177) .
ويشاء الله تعالى أن تجري المقادير في غزوة أحد على نحو لم يفرح به
المؤمنون، ولكن كان وراء ذلك حكمة بالغة سيقت في معرض الخطاب القرآني عن
مصيبة أحد: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ] (آل عمران: 179) فهل كان بوسع المؤمنين أن يستظهروا ما
خفي من بواطن المنافقين لولا تلك الشدائد؟
المنافقون ومناصرة اليهود:
كان النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة واتخذها عاصمة لدار
الإسلام، قد أرسى دعائم الاستقرار والاستمرار لمجتمع تسوده علاقات طيبة مع
الطوائف المجاورة أو الساكنة مع المسلمين في أرض الإسلام، وكان من هؤلاء
قبائل من اليهود، قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وهم فيها، فأراد أن يقي
المسلمين شرهم، فعقد معهم عهداً يؤمنهم على أرواحهم وأموالهم في مقابل ألا
ينقلبوا على المسلمين بغدر أو خيانة أو مظاهرة للأعداء من خارج المدينة، ولكن
طبع اليهود غلب محاولات تطبيعهم أو تطويعهم لقيم الأمانة والوفاء، فغدرت منهم
قبيلة بني قينقاع وخانت العهد، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن
استعد لحربهم وإخراجهم من المدينة، وبدأ في حصارهم مستمراً في ذلك نحو خمس
عشرة ليلة حتى ألقى الله الرعب في قلوبهم، فطلبوا الاستسلام، وارتضوا المصير
الذي يحكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم جزاء نقض العهد. ولكن اليهود
وجدوا من يتصدر لهم، ويتوسط لإطلاقهم؛ إذ طلب زعيم المنافقين إطلاقهم
بدعوى أنهم كانوا حلفاءه في الجاهلية، ووضع يده في جيب درع النبي صلى الله
عليه وسلم حتى اشتد غضبه عليه الصلاة والسلام، وقال له:» ويحك أرسلني «
قال:» لا والله، لا أرسلك حتى تحسن في موالىَّ.. قد منعوني من الأحمر
والأسود وتريد أن تحصدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر «
فأنزل الله تعالى قوله: [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ] (المائدة: 52) [16] ،
لقد اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلممنهم بالجلاء عن المدينة وألا يساكنوه
فيها، فهل قرَّ قرار النفاق بذلك، وهل ارتدع بقية اليهود بذلك؟
لقد حدث أن أحد المسلمين قتل رجلين من المشركين ثأراً لمقتل نحو سبعين
من الصحابة قتلوا ظلماً على يد قبائل مشركة، دون أن يعلم الرجل المسلم الذي قتل
الرجلين أن الرسول صلى الله عليه وسلمعلى عهد مع هؤلاء، فقرر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يدفع دية القتيلين، ويطلب من قبيلة بني النضير اليهودية
المعاهِدة أن تفي بأحد بنود العهد معها بأن تشارك في دفع دية القتيلين، وذهب
بنفسه عليه الصلاة والسلام لطلب مشاركتهم، فتظاهروا بالقبول، ولكن سنحت لهم
سانحة للغدر فلم يُفوِّتوها، فتآمروا لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما
أغراهم جلوسه أسفل أحد بيوتهم بأن يقتلوه بإلقاء حجر كبير عليه من أعلى البيت،
ولكن الله تعالى أطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتآمرهم، فانسحب بسرعة
راجعاً إلى المدينة، وعازماً على حرب بني النضير. وبالفعل؛ سار بالمسلمين
نحوهم في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، فتحصنوا وراء الجدر
والحصون فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم الحصار، وبينما هو
مضروب حولهم بسبب جرمهم ونقضهم للعهد، إذا بالنفاق يطل برأسه من جديد
ممالأة لقتلة الأنبياء، ويذهب وفد من المنافقين إلى معقل اليهود، ليهدئ من روعهم،
ويكفكف لوعتهم ويعدهم بالوقوف والمساندة وبذل المستطاع في التحالف معهم،
ولو اقتضى الدفاع عنهم أن يقاتلوا في صفهم ضد المسلمين! !
ممن يحدث هذا؟ ! من أناس يعيشون بين المسلمين، وينتسبون إليهم ويصلون
معهم! لقد كان أمراً خارجاً عن الحد الأدنى من طبائع الأمناء الشرفاء، حتى جعل
القرآن يتنزل بحكاية خبر القوم: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن
قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] (الحشر: 11)
لقد انتهى الأمر بإجلاء بني النضير إلحاقاً بإخوانهم في البُهت والسُّحت من
بني قينقاع، وحالت عزة الإسلام أن يسل المنافقون سيوفهم ضد المسلمين معهم،
وإلا فإنهم فلو تمكنوا لما تأخروا، ولكنها الرهبة من الإسلام، عظمت حتى ملأت
قلوب الكافرين والمنافقين جميعاً [لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] (الحشر: 13) [17] . إن من يريد أن يقتفي أثر إفساد المنافقين
خلال عهد الرسالة، عليه أن يبحث عن ذلك في مظان الحديث عن اليهود، فأينما
وُجد اليهود، وُجد المنافقون.
المنافقون والتحالف مع الأحزاب:
لما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع ثم بني النضير جزاء
خيانتهم ونقضهم للعهود، اجتمع بقايا من اليهود الساكنين في خيبر شمال المدينة
المنورة، وتآمروا مع يهود بني قريظة لتهييج المشركين من العرب في أنحاء
الجزيرة على أهل الإيمان، ليكون الجميع يهوداً وعرباً ضد المسلمين، وقد أسفرت
جهود التآمر تلك عن تكوين تحالف من عدة أحزاب للهجوم على المدينة من الخارج،
فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر، واستقر الرأي على ما أشار به
سلمان الفارسي رضي الله عنه بأن يظل المسلمون في المدينة متحصنين بها بعد أن
يحفروا خندقاً حولها من الجهة المكشوفة التي يمكن للأعداء أن يداهموا المسلمين
منها. وبدأ الحفر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يبث الأمل
ويشارك في العمل، وبدأ بعض المنافقين يتسللون بالرجوع بعد إظهار التثاقل
والسآمة، وشكك بعضهم في فكرة الخندق نفسها، وأطلق آخرون عبارات التثبيط
وإشارات الوهن لترويج الشائعات وبث الفرقة، وتجاسر أحدهم فقال والناس
يسمعون بعد أن بدأت طلائع الأحزاب في القدوم حول المدينة:» كان محمد يعدنا
أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يقدر أن يذهب إلى الغائط «! وجاء
آخرون ليقولوا لأهل المدينة الصابرين الصامدين تحت الحصار: [يَا أَهْلَ يَثْرِبَ
لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا] (الأحزاب: 13) ويتبجح آخرون بضرورة الرجوع حمية
للحرمات [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن
يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً] (الأحزاب: 13) . أما أشدهم خسة وأبلغهم وضاعة،
فأقوام لم يكتفوا بجبنهم وتشكيكهم في شجاعة الشرفاء، بل ندبوا أنفسهم إلى جر
من يستطيعون إلى صفوف القاعدين وهؤلاء من [الْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ
يَأْتُونَ البَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً] (الأحزاب: 18) كل هذا قبل أن يأتي الخوف الحقيقي،
فلما جاء [رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ]
(الأحزاب: 19) .
لقد بدأت تظهر أبعاد المؤامرة، وتبين أن قوى التحالف المعادي للإسلام قد
قذفت إلى حدود المدينة بنحو أربعة آلاف من أشداء قريش ومن عاونها من قبائل
العرب، ونحو ستة آلاف من قبائل غطفان، إضافة إلى جموع من اليهود الذي
حزبوا تلك الأحزاب ودبروا الغارة وأوقدوا الفتنة، لقد استغل الجميع الفرصة
وأحاطوا المدينة من جوانبها، وحاصروا المسلمين وراء الخندق الذي لم يقدروا
على اختراقه، وطال الحصار قريباً من الشهر، حتى نزل بالمسلمين الخوف
والجوع، والبرد والبلاء، وصوَّر القرآن هذه المشاهد في تلك اللحظات الرهيبة
الرعيبة.. [إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ
القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً
شَدِيداً] (الأحزاب: 10-11) . كان المتصور من جميع الرعاديد الساكنين
مع المسلمين أن يتماسكوا أو يتظاهروا بالتماسك في تلك اللحظات المصيرية،
ولكنهم مضوا يخذلون ويحذرون ويشككون في كل شيء، حتى في الوعد
الصادق من الله ورسوله [وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً] (الأحزاب:12) آيات وعظات في السورة التي تحكي
واقعة الأحزاب، لم تكن ليتنزل بشأنها وحي ويُتلى في أمرها قرآن؛ لولا أنها
تحكي أحوال نفسيات وشخصيات قبل أن تقص أحداث لحظات وساعات، إنها
شخصية ونفسية المنافقين في كل زمان ومكان [18] ! خيانة وتآمر، ووضاعة وتخاذل
وشك فيما وعد الله به، ونقض لما عاهدوا الله عليه [وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن
قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً] (الأحزاب: 15) ولكن هذا الجبن
المستحكم سرعان ما يتحول إلى شجاعة مصطنعة وجسارة جبارة تقذف بالسموم من
كل نوع على الصادقين العاملين الذين لا يرجون إلا رضا الله، ولا يكون ذلك
الهجوم من المنافقين إلا بعد أن يولي الخطر وينقشع الغبار [فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ
سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] (الأحزاب: 19) .
المنافقون ومصانعة النصارى:
في ظرف من أدق وأشق الظروف التي مرت على الدعوة الإسلامية في عهد
الرسالة نما إلى مسامع المسلمين في المدينة في أواخر عمر الرسول صلى الله عليه
وسلم أن أكبر قوة في الأرض آنذاك تعد لسحق المسلمين في دارهم وطي صفحة
الإسلام من التاريخ بتخريب مدنه واجتياح أرضه وتقتيل أهله وتشريدهم، لقد
تواردت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نصارى الروم على وشك
القدوم؛ فقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يباغت القوم بالحرب قبل أن يكملوا
الاستعداد، وفي وقت نضج فيه الثمر وطاب فيه المقام، مع شدة حر نافست شدة
الخوف من الحرب، ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس للنفير دفاعاً عن
الإسلام المستهدف من أعتى عدو في العالم آنذاك، فاستجاب الصادقون خفافاً وثقالاً
رغم المكاره، وأطاعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديرٍ شجاع لخطورة
الموقف، وتحملٍ نادر لجسامة المسئولية؛ فمن المسلمين من سارع فجهَّز نفسه
وغيره، ومنهم من لم يجد إلا تجهيز نفسه فقط، ومنهم من لم يجد ما يجهز به نفسه
ولا ما يجهزه به غيره؛ فما كان منهم إلا أن [تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ] (التوبة: 92) غير أن هناك من وجد النفقة وتكاليف
الجهاز للحرب، إلا أنه لم يجد الرغبة في الالتحاق بالجيش المحارب، انسياقاً مع
أماني النفس في الأمان والراحة، والسلامة والدعة. وهم مع ذلك لم يكونوا من
الخائنين ولا الكاذبين رغم قعودهم، في حين أن غيرهم خرجوا كاذبين خائنين،
التمسوا في الخروج مع الجيش ساعة تربص بالمسلمين، أو توهين لعزائمهم وحط
من علو نفوسهم [19] .
كان النفاق يتوق إلى يوم تتهاوى فيه قلعة الإسلام وتسقط راياته، ودلت
أحداث الغزوة أن ذلك الأمل اليائس لم يفارق دخيلة القوم، القاعدين منهم
والخارجين، حيث لم يقلَّ شر الخارجين عن شر القاعدين، فأما القاعدون وعلى
رأسهم رأس النفاق ابن سلول، فبدلاً من أن يشدوا أزر المجاهدين المستجيبين لله
وللرسول صلى الله عليه وسلم أو يسكتوا على الأقل، إذا بهم يُدخلون عليهم الغموم
والهموم بمواقف التحزين وكلمات التخذيل وسوء الظنون.
وهذه ومضات مظلمة من بعض مواقف المنافقين في ذلك الظرف القاهر
الحرج:
* تحادث قوم من القاعدين بغير عذر في المدينة متهكمين على المسلمين،
فقال أحدهم:» يغزو محمد بني الأصفر (أي الروم) والله! لكأني أنظر إلى
أصحابه مقرنين في الحبال « [20] .
* لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه في المدينة ليخلفه
في أهله قال المنافقون:» ما خلَّفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه «. ليشيعوا الفرقة
والفتنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة أصحابه وأهل بيته، وقد أحزن ذلك
علياً وأدخل الغم على نفسه لما بلغه ذلك [21] .
* ضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق أثناء السير إلى تبوك،
فأرسل بعض أصحابه في طلبها، فقال أحد المنافقين:
» هذا محمد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري
أين ناقته «! [22] .
* أشار جمع من المنافقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق
إلى تبوك فقال بعضهم ساخراً:» أتحسبون جِلادَ بني الأصفر كقتال العرب بعضهم
بعضاً؟ والله لكأنكم تأتون غداً مقرَّنين « [23] . ولما بلغت مقولتهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم قالوا: [إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ] (التوبة: 65) فأنزل الله تعالى
خبيئتهم وأظهر فضيحتهم فقال: [قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ
تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] (التوبة: 65-66) .
* بينما كان حذيفة رضي الله عنه آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعمار بن ياسر يسوقها، إذا باثني عشر رجلاً يعترضون الناقة برواحلهم،
مزاحمين الرسول صلى الله عليه وسلم رغبة في إسقاطه عن راحلته ليتخلصوا منه،
فصاح فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانبهتوا وتفرقوا، فقال عليه الصلاة
والسلام لأصحابه:» أتدرون من هؤلاء؟ فقالوا: لا، يارسول الله، قد كانوا
ملثمين «فقال:» هؤلاء المنافقون يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟ «قالوا:
» لا «فقال:» أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه فيها «فقال الصحابة
للرسول صلى الله عليه وسلم:» أو لا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم
برأس صاحبهم؟ «قال:» لا، أكره أن يتحدث العرب أن محمداً قاتل بقومه،
حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم «، وهم الذين أنزل الله تعالى فيهم:
[وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ]
(التوبة: 74) [24] .
* وتجيء قصة مسجد الضرار [25] لتبين أن النفاق لابد أن يتخذ له أوكاراً
تضمن له أن يرصد منها ويدبر فيها كل ما تحتاجه حملات وجولات العداوة للدين
وأهله [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ
حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ] (التوبة: 107)
لقد حفلت سورة التوبة التي تسمى أيضاً بـ (الفاضحة، والبحوث،
والمبعثرة) [26] ، بأخبار النفاق وسلوك المنافقين، لترسخ في أفهام المسلمين أهمية
أن يتفقدوا صفوفهم، ويختبروا بطانتهم حاملين قبس القرآن ليكشف لهم بإيضاح
وجلاء ماهية ونوعية وسجية المنافقين والكافرين حتى يكونوا منهم على حذر،
ويكونوا لجهادهم والتصدي لهم على أهبة واستعداد. فلا جهاد للمنافقين والكافرين
أجدى ولا أكبر من جهادهم بالقرآن وفي ضوء القرآن [فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم
بِهِ جِهَاداً كَبِيراً] (الفرقان: 52) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي (2/966) بتحقيق محمد على البجاوي.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب 20 ح (80) (1/69) .
(3) تفسير التحرير والتنوير (13/241) .
(4) تفسير زاد المسير لابن الجوزي (8/286) .
(5) تفسير جامع البيان للطبري (30/70) .
(6) مفردات القرآن، للراغب الأصفهاني، كتاب الميم ص 466.
(7) المصدر السابق.
(8) تفسير محاسن التأويل، للقاسمي (8/203) .
(9) المصدر السابق.
(10) تفسير القرطبي (8/205) .
(11) تفسير أحكام القرآن، (2/966) .
(12) تفسير الطبري (30/71) .
(13) المصدر السابق.
(14) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/408) ، طبعة الندوة العالمية.
(15) انظر: البداية والنهاية (م 2، ج 3، ص 14، 15، وانظر: سيرة ابن هشام (3/27) .
(16) انظر البداية والنهاية (م 2، ج 3، ص 5) ، وسيرة ابن هشام (3/10) ، وتاريخ الطبري (2/480) .
(17) ذهب ابن عاشور إلى أن الضمير في كلمة (صدورهم) يعود على المنافقين وأهل الكتاب معاً وقال:» ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما، ولأن المقصودين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر، وأما المنافقون فكانوا أعواناً لهم « (التحرير والتنوير، (13/102) .
(18) انظر تفاصيل غزوة الأحزاب في البداية والنهاية (م 4، ج 3، ص 100 106) .
(19) انظر تفاصيل ذلك في قصة غزوة تبوك في سيرة ابن هشام (4/157) .
(20) انظر: البداية والنهاية (م 3، ج 5، ص 8) .
(21) انظر: البداية والنهاية (م 3، ج 5، ص 7، وسيرة ابن هشام (4/ 159) .
(22) انظر: البداية والنهاية (م 3، ج 5، ص 9) ، وسيرة ابن هشام (2/168) .
(23) انظر: البداية والنهاية، (م 3، ج 5، ص 18، 19) .
(24) انظر تفسير ابن كثير (2/409) .
(25) انظر تفاصيل قصة مسجد الضرار في تاريخ الطبري، (3/110) ، وسيرة ابن هشام (4/ 171) .
(26) سُميت بسورة (البحوث) لأنها تبحث عن أسرار المنافقين و (المبعثرة) أو (البعثرة) للمعنى ذاته انظر القرطبي (8/61) .(171/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
التيسير في الفتوى ضوابط وصور عمليّة
هاني بن عبد الله بن محمد بن جبير [*]
الإفتاء منصب كبير، وعمل خطير، يتولى صاحبه تعليم الناس أحكام دينهم،
وتوضيح طريق الشرع لهم، وبيان الحلال والحرام، والجائز والممنوع، ويقوم
مقام النبي صلى الله عليه وسلم في وراثته لعلم الشريعة، وتبليغها للناس.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن
وَرّثوا العلم» [1] .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «بلِّغوا عَنّي ولو آية» [2] .
ويعمل عمل الرسل: فإن الأنبياء نُذُر: [إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ] (هود: 12)
والفقهاء كذلك: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة: 122) .
فلا يقوم به إلا العلماء الصادقون؛ إذ (التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما
يبلّغ، والصّدق فيه؛ فلذا لا يصلح إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ ويكون مع ذلك
حسن الطريقة مرضيّ السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في
مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكر
فضله ولا يُجْهل قدره، وهو من أعلى المراتب السّنيّات فكيف بمنصب التوقيع عن
رب الأرض والسماوات؛ فحقيقٌ بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عدته، وأن
يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من
قول الحقّ والصّدع به، فإنَّ الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه
بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ]
(النساء: 127) وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالاً. وليعلم المفتي عمّن
ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً، وموقوف بين يدي الله) [3] .
ولذا تورّع كثير من السَّلَف عن الإفتاء، وتدافعوا الفتوى بينهم، كلٌ يودّ أن
يكفيه أخوه مؤنتها ويقوم بواجبها.
وفي كتب السِّيَر والتراجم وأدب الفتوى من ذلك شيء كثير.
قال ابن أبي ليلى: «لقد أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما أحدٌ منهم يُحَدِّث إلا وَدّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا يُسأل عن فتوى
إلا وَدّ أن أخاه كفاه فتياه» [4] .
وقال الأعمش: «ما سمعت إبراهيم النخعيّ قَطّ يقول حلال ولا حرام، إنما
كان يقول: كانوا يتكرّهون، وكانوا يستحبون» [5] .
ومن هنا وضع العلماء للمفتي شروطاً عدّة لا يتقلّد الإفتاء إلا بتحققها فيه
كالعلم والعدالة والورع والتثبّت وغيرها، ومتى انتفى منها شرط، لم يكن من أهل
الفتوى.
وهذا المؤهل للإفتاء عند إقدامه على تبيين الحكم الشرعي والإخبار به قد
تحمله ظروف أو ضغوط على البحث عن التيسير حتى يصل به ذلك إلى تحليل ما
حرّم الله، أو يغلب عليه التشديد فيضيّق على النّاس الواسع.
والحق أنّ تناول الظروف أو الضغوط أو الأعذار الداخلية والخارجية للمفتي
التي تحمله على تبنّي هذا المنهج أو ذاك، ومدى عذره أمام الله بما يقدم عليه مما
يستحق الدراسة، إلا أننا في هذه الأكتوبة سنكتفي بتناول مسألة التيسير والتشديد
بمواضعه وضوابطه التي ينبغي أن يلتزم بها المفتي والله الموفق.
أولاً: مقدمات:
مقدمات هذا البحث أربعٌ تأتيك تباعاً:
1 - الدين يُسْرٌ:
من مزايا الشريعة الإسلامية: التيسير، والإسلام يُسْرٌ كله، ولذا أوصى
الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ ابن جبل وأبا موسى الأشعري حين بعثهما إلى
اليمن فقال: «يَسّرا ولا تُعَسّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفّرا» [6] .
وقد أخبر الله تعالى أنه: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ]
(البقرة: 185) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن دين
الله يسر، ولن يُشَادّ الدين أحدٌ إلا غلبه» [7] .
وأفراد التوجيهات النبوّية في وقائع الأعيان تبيّن ذلك وتقوده.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون» [8] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة» [9] .
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم في حاجة فأجنبْت فلم أجد ماءً، فمرغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة، ثم
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «إنما كان يكفيك أن تقول بيديك
هكذا» ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر
كفيه ووجهه [10] .
وقد أراد عثمان بن مظعون رضي الله عنه ترك النكاح والامتناع عنه، وعَزَم
على التّبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك [11] .
في أمثلة كثيرة تقرر أن التيسير ورفع الحرج من قواعد الدين ومقررات
الشرع، فاتباع الشرع والالتزام به سلوك لسبيل التيسير، ولهذا مزيد بسط.
ومن هنا تميّزت سيرة سلف الأمّة بهذا المنهج النبوي. قال عمر بن إسحاق:
«لما أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم؛
فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقلّ تشديداً منهم» [12] .
2 - المجتهد مصيب ومخطئ:
الاختلاف بين أهل العلم في المسائل العمليّة واقع معروف من لدن الصحابة
إلى يومنا هذا، وكتب الفقه والاختلاف مليئة بعرض ذلك؛ فهي سُنَّة كونية لا تُنْكر،
ومن رحمة الله تعالى أن رفع الإثم عن المجتهد المخطئ في المسائل التي يجوز
فيها الاجتهاد؛ إذ الحق في نفس الأمر واحد لا يتعدّد، وكلُّ مسألة لم يوجد فيها
نص قاطع ولا إجماع معتبر ونزلت بالمسلمين فإن حكمها عند الله عز وجل واحد،
يوفق الله من شاء من عباده له، وإذا وقع فيها خلاف فأحدهما على الحق والآخر
ليس كذلك وإن ارتفع الإثم عنه.
ويدل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم
فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» [13] .
فأنت ترى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَسَّم المجتهدين إلى مصيب ومخطئ،
فَعُلِم أن الحق عند الله واحد غير متعدد.
كما أن الفقهاء لم يزل بعضهم يردُّ على بعض، ويُخَطِّئُ بعضهم بعضاً.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «والصواب مما اختلف فيه وتدافع: وجهٌ واحد،
ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خَطّأ السلف بعضهم بعضاً في اجتهادهم
وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء ضده صواباً كله» [14] .
3 - حكم تتبع الرُّخص:
أمر الله تعالى باتباع الحق والتزام طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ونهى عن الهوى، قال تعالى: [فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ] (ص: 26) ، وقال: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (الجاثية: 18)
والواجب على المفتي في مسائل الخلاف أن ينظر بعين الباحث المنصف
والمستدل المجتهد، لا أن يتخيّر من غير نظر في الدليل والترجيح.
قال ابن القيم رحمه الله: «لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء من الأقوال
والوجوه من غير نظر في الترجيح، بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولاً قاله
إمام أو وجهاً ذهب إليه جماعة فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال؛ حيث رأى
القول وفق إرادته وغرضه عمل به؛ فإرادته وغرضه هو المعيار وبه الترجيح،
وهذا حرام باتفاق الأمّة» [15] .
وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على المنع من تتبع الرخص [16] ، وعدَّه جمع
من الفقهاء مما يفسق به فاعله [17] .
قال الذهبي رحمه الله: «من يتبع رخص المذاهب، وزلاّت المجتهدين فقد
رَقَّ دينه» [18] .
4 - كل ما عارض النص فهو غير معتبر:
لا ريب أن الله تعالى أمر بتقديم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على
ما عداهما، فقد قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ] (الحجرات: 1)
وأمر بالرد إليهما عند النزاع: [فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] (النساء: 59)
والكتاب والسنة هما المصدر الأساس لهذا الدين، وبقية الأدلة والأصول
الشرعية تبع لهما؛ فمتى حصل تعارض بينها فإنّه ينبغي المصير إلى الأخذ بالنّص
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: «كيف تقضي
إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنَّة
رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرْضي
رسول الله» [19] .
وقد قرر أهل العلم قواعد فقهيّة مستلهمة من هذا الأصل كقولهم: لا اجتهاد
مع النص [20] ، والاجتهاد لا يُنقض بمثله ويُنقض بالنَّص [21] ، ولا مساغ للاجتهاد
في مورد النص [22] ، إلى غير ذلك من القواعد.
فالاجتهاد في المسائل الوارد فيها نص من الكتاب أو السنة أو هي من موارد
الإجماع حرام؛ إذ الاجتهاد لا يكون إلا مع عدم وجود النص، أما عند وجوده فلا
اجتهاد إلا في فهمه ودلالته، وكذلك فقد قرر علماء الأصول أن من قوادح القياس ما
أسموه بـ (فساد الاعتبار) وهو أن يخالف القياس النَّصَّ أو الاجماع [23] .
وأيضاً فرعاية المصلحة لا تُقدَّم على النص، وقد سمى أهل العلم المصالح
التي تعارض النص بـ (المصالح الملغاة) واعتبروها مصالح لا قيمة لها [24] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض رده على من أجاز نكاح
التحليل بحجّة أن رجوع الزوجين لبعضهما عمل صالح يُثاب عليه المحلل: «
وقولهم إن قصد تراجعهما قصد صالح لما فيه من المنفعة، قلنا هذه مناسبة شهد
الشارع لها بالإلغاء والإهدار، ومثل هذا القياس والتعليل هو الذي يحلل الحرام
ويحرم الحلال، والمصالح والمناسبات التي جاءت الشريعة بما يخالفها إذا اعتبرت
فهي مراغمة بَيّنة للشرع مصدرها عدم ملاحظة حكمة التحريم، وموردها عدم
مقابلته بالرضا والتسليم، وهي في الحقيقة لا تكون مصالح وإن ظنّها الناس مصالح،
ولا تكون مناسبة للحكم وإن اعتقدها معتقد مناسبة، بل قد علم الله ورسوله ومن
شاء من خلقه خلاف ما رآه هذا القاصد في نظره؛ ولهذا كان الواجب على كل
مؤمن طاعة الله ورسوله فيما ظهر له حسنه وما لم يظهر، وتحكيم علم الله وحكمه
على علمه وحكمه؛ فإن خير الدنيا والآخرة وصلاح المعاش والمعاد في طاعة الله
ورسوله» [25] .
ثانياً: ضوابط وصور عملية للتيسير:
إذا تقرر ما مضى من بناء الشريعة على التيسير، وأن رفع الحرج من
مقررات الشرع وقواعده؛ فإن لهذا التيسير ضوابط حاولت استقراءها من
النصوص الشرعية وكلام أهل العلم المحققين وجمعتها في النقاط الآتية:
1 - لا بد من الالتزام بالنص:
فكلما زاد تمسك المفتي بالنص الشرعي والتزام الحكم المستفاد منه، كان ما
يفيده من تيسير ورفع للحرج أبلغ.
والله تعالى لما أمر عباده بالجهاد فيه حق الجهاد قال: [هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78)
فما كلفنا به كله يُسْر، ونبينا عليه الصلاة والسلام وهو يتمثل اليسر منهجاً
ويربي أصحابه عليه تشهد سيرته بمواقف شدد فيها على الاتباع وحذر من الانفلات
رغم ما قد يشوبها من كلفة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي
برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم
بالنار» [26] .
عن الفريعة بنت مالك رضي الله عنها قالت: «خرج زوجي في طلب
أعلاج له فقتلوه، فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى
الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني وأنا في دار شاسعة من
دور أهلي، ولم يدع نفقة ولا مالاً، وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي
وإخواني لكان أرفق لي في بعض شأني. فقال: نعم. فلما كنت في الحجرة ناداني
فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» [27] .
قال الشاطبي رحمه الله: «فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا
بإطلاق مضاداً للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً،
وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطاً، وهذا غلط،
والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام
عرف ذلك» [28] .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في معرض رده على من أجاز رمي
الجمار قبل الزوال، وكان من حججه وجود الزحام والصعوبة: «وبتقدير حصول
الحُجَّاج إلى كثرة تبلغ ما تصوره هذا الرجل؛ فإن الله تعالى يُحدث من أنواع
التيسير والتسهيل كوناً وقدراً على يد من يشاء من عباده ما يقابل تلك الكثرة بحيث
لا توجد الصعوبة التي أشار إليها، كما أن ربنا سبحانه وتعالى قد شرع وَيَسّر
مخرجاً من تلك الصعوبة سهلاً مناسباً [29] ، جارياً على أصول ما بعث به تعالى
خير بريّته محمداً صلى الله عليه وسلم من هذا الدين السهل السمح الذي هو أبعد
شيء عن الصعوبة والأغلال» [30] .
2 - الاحتياط والخروج من الخلاف: ليس هو الأصل:
من مسلك جملة من الفقهاء الحكم بكراهة عمل معين يرجحون إباحته احتياطاً
أو طلباً للخروج من خلاف من حَرَّمه، وقد يعبّر بعضهم عن ذلك بقاعدة يطردها
في جميع المسائل وهي: الخروج من الخلاف مستحب، فيُغلِّبون جانب المنع دائماً.
وهذا المسلك وإن كان لا غبار عليه إذا التزمه شخصٌ طلباً للتورّع، وابتغاءً
للزهد، فإنه لا يسوغ لمن عرف الترجيح واستبان له وجه الصواب أن يغير الحكم
الشرعي ويفتي به الناس استناداً لقاعدة الخروج من الخلاف، وإنما يعمل المفتي
بهذه القاعدة مضطراً إذا تعذّر عليه الترجيح العلمي.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
«التعليل بالخلاف لا يصح؛ لأننا لو قلنا به لكرهنا مسائل كثيرة في أبواب العلم،
لكثرة الخلاف في المسائل العلمية، وهذا لا يستقيم؛ فالتعليل بالخلاف ليس علة
شرعية، ولا يقبل التعليل بقولك: خروجاً من الخلاف؛ لأن التعليل بالخروج من
الخلاف هو التعليل بالخلاف، والأحكام لا تثبت إلا بدليل، ومراعاة الخلاف ليست
دليلاً شرعياً تثبت به الأحكام» [31] . إلى أن قال: «الكراهة حكمٌ شرعي يفتقر
إلى دليل، وكيف نقول لعباد الله إنه يكره لكم، وليس عندنا دليل من الشرع،
ولذلك يجب أن نعرف أن منع العباد مما لم يدل الشرع على منعه كالترخيص لهم
فيما دل الشرع على منعه؛ لأن الله جعلهما سواء فقال: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ] (النحل: 116) ، بل قد يقول قائل إن
تحريم الحلال أشد من تحليل الحرام،؛ لأن الأصل الحل، والله عز وجل يحب
التيسير على عباده» [32] .
وفي هذا الضابط الذي قدمنا باب من التوسعة على المسلمين.
3 - الأصل الإباحة:
من القواعد المقررة عند أهل العلم، والمستفادة من النصوص الشرعية: أن
الأصل في الأشياء والأعيان والعادات الإباحة، ما لم يرد نص يرفع هذا الأصل،
وهذا من رحمة الله بعباده ولطفه بهم.
وهذا الأصل من فروع استصحاب البراءة الأصلية الذي اعتبره بعضهم من
الأدلة المتفق عليها [33] .
وقد دل على ذلك قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً]
(البقرة: 29) . وهذه الآية واردة في معرض الامتنان على العباد، ولا يمتن الله
على عباده بما حرّم عليهم، كما أنّه أضاف ما في الأرض للعباد وهذا يدل على
إباحته لهم.
وقد نُقل الاتفاق على هذا الأصل [34] .
وهذا الأصل يتخرج عليه حل كثير من الأطعمة والأشربة من النباتات
والفواكه والحبوب التي ترد إلينا من بلاد بعيدة ولم يثبت ضررها.
كما يتخرج عليه أنواع العقود المستحدثة والمعاملات المستجدة إذا ثبت خلوها
مما يحرّمها كالربا والجهالة والضرر [35] .
ولكن لا بد عند النظر في هذا الأصل من ملاحظة أمور:
أ - أن هذا الأصل هو آخر مدار الفتوى، فلا يلجأ إليه إلا عند انتفاء جميع
الأدلة التي يصح الاستدلال بها [36] .
ولذا قال شيح الإسلام ابن تيمية: «الاستصحاب في كثير من المواضع من
أضعف الأدلة» [37] .
ب - أن لهذا الأصل مستثنيات منها: أن الأصل في العبادة الحظر والمنع؛
فلا يشرع منها إلا ما ورد به الشرع. ومنها: أن الأصل في الأبضاع التحريم.
ج - إن العادات والمعاملات متى وجد فيها أو في شيء منها شائبة التعبد
خرجت عن هذا الأصل في هذا الوجه، ولزم فيها التوقف والجري على وفق النص.
ومثال هذا ما قيدت به العادات والمعاملات كطلب الصداق في النكاح، والذبح
في المكان المخصوص في الحيوان المأكول [38] .
د - لا بد من مراعاة مآلات الأفعال وما تُفْضي إليه:
قال ابن القيّم رحمه الله: (إذا حَرَّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تُفْضي إليه؛
فإنه يحرّمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً من أن يقرب حماه)
ا. هـ[39] .
ولهذا الضابط مزيد إيضاح في الضابط الأخير.
4 - مراعاة حال المستفتي:
والمراعاة هذه تنتظم جانبين متقابلين يمكن إفراد كل واحد منهما كضابط
مستقل للفتوى، ولا يحسن تناول أحدهما دون الآخر، الجانب الأول: الرفق بمن
يحتاجه، والثاني: التغليظ على من يحتاجه؛ وذلك أن المفتي مرب مصلح بل هو
طبيب معالج يصف الدواء ويحاول العلاج، ويستعمل كل دواء في موضعه، وإليك
التفصيل.
الجانب الأول: الرفق بمن يحتاجه.
لا شك أن حسن الخلق واللطف في المعاملة مطلب شرعي دعت إليه
النصوص وبيّنت فضله، وقد أمر الله تعالى عباده بقول التي هي أحسن فقال
سبحانه: [وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ] (الإسراء: 53)
وفي السنة حشد من النصوص المرغبة في الرفق، فعن عائشة رضي الله
عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء
إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» [40] . وعنها أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» [41] .
إلا أن من المستفتين صنفٌ يحتاج إلى الرفق والتسهيل والمراعاة في الأسلوب
والعرض والترغيب أكثر من سواه بسبب وضعه؛ فالتيسير عليه في الخطاب
وإبراز بعض جوانب مشكلته وحلولها مع إجمال البيان في جوانب أخرى ضروري
له؛ وذلك كمن وقع في معصية وندم وخشي اليأس فإنَّ التيسير عليه مطلوب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله
عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! هلكت وفي رواية احترقت، وفي
رواية وهو ينتف شعره، ويحثي على رأسه التراب فقال: ما لك؟ قال: وقعت
على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة
تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال
: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث، فبينما نحن على ذلك أتي
النبي بعَرَق فيه تمر فقال: أين السائل؟ قال أنا. قال: خذ هذا فتصدّق به. فقال
الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ ! فوالله ما بين لابتَيْها أهل بيت أفقر من
أهل بيتي. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال:
أطعمه أهلك» [42] .
قال ابن حجر في الفوائد المستخرجة من الحديث: «وفيه الرفق بالمتعلم،
والتلطف في التعليم، والتألف على الدين» [43] .
وكذلك الموسوس في طهارته وصلاته قد يحتاج إلى تيسير شأنها ورفع الحرج
فيها، وهكذا.
ولا أعني بما سبق تغيير الحكم بالنسبة لهم، لا! وإنما عنيت التيسير عليهم
في الخطاب، وإبراز بعض الجوانب كعظيم العفو، وسعة الرحمة، وما عندهم من
نقاط إيجابية، وأن المعصية لا يسلم منها أحد، وتهوين بعض الأمور عليهم،
ونحو هذا الكلام الذي يحقق الغرض ويفي بالمقصود.
الجانب الثاني: التغليظ على من يحتاجه:
وذلك من خلال تخويفه والتغليظ عليه إذا رأى أنه من أصحاب التساهل
والترخص، كأن يخوّفه بعاقبة قد لا يعتقدها المفتي ولا يرجحها زجراً له عن
الوقوع فيها، كما لو أخبره بأن من أهل العلم من يكفّر من يفعل كذا، مع كونه لا
يعتقده من الأعمال المكفرة مثلاً.
أو يذكر له مساوئ أمر وينهاه عن فعله دون أن يفتيه بتحريمه.
وقد سمعت مفتياً حكيماً يُسْأل عن الزواج بالكتابيّة فلم يخبر المستفتي بحلِّه،
وإنما حدّثه عن نشأة الأولاد وتربيتهم، ومن يتزوج المسلمات ونحو ذلك. ولمثل
هذا دليل من السنة وشاهد من فعل الصحابة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن
رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر
فنهاه؛ فإذا الذي نهاه شابٌّ والذي رخص له شيخ، وقال:» إنَّ الشيخ يملك
نفسه « [44] .
وروي عن ابن عباس أنه سأله رجل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له.
وسأله آخر فقال: له توبة. فلما سئل قال: أما الأول فرأيت في عينيه إرادة القتل
فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكيناً فلم أقنطه من رحمة الله [45] .
ويمكن أن يُجْعل من هذا القبيل تأخير إخبار المستفتي بالحكم، فلو سئل مفت
عن طلاق الثلاث بلفظ واحد وكان يرى أنه يقع طلقة واحدة، فأخر إخباره وكرر
عليه تحذيره من الاستعجال والتسرع ونحو ذلك؛ لكان تصرفه مؤدباً للمستفتي،
ومحذراً له من الوقوع فيما وقع فيه مرة أخرى.
ونحتاج هنا إلى التنبيه إلى أن تغيير الحكم الشرعي لمصلحة التغليظ محرم،
وقد انتقد العلماء وغلَّطوا من فعل ذلك في قصة مشهورة:
فإن أحد الملوك جَمَع الفقهاء فاستفتاهم في أنه جامع في نهار رمضان؟ فتكلم
كبير الفقهاء وأفتى بأن عليه صيام شهرين متتابعين مع أن الواجب عليه أولاً عتق
رقبة، فلما خرج الفقهاء سُئل كبير الفقهاء عن فتواه فقال: إن الاعتاق سهل عليه
فيوشك أن يعود لفعله فلا يتحقق به الزجر [46] .
5 - مراعاة الضرورات الحقيقية:
لا ريب أن من مقررات الشريعة، وشواهد رفع الحرج فيها أنها جعلت
الضرورة مبيحة للمحظور ورافعة للتحريم.
قال تعالى: [فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ] (المائدة: 3) ، وقال: [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ] (الأنعام: 119)
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن أهل بيت كانوا بالحرّة محتاجين، قال:
فماتت عندهم ناقة لهم، فرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في أكلها، قال:
فعصمتهم بقية شتائهم [47] .
واستنبط أهل العلم من نصوص متوافرة قاعدة الاضطرار هذه فقالوا: لا
محرم مع اضطرار، والضرورات تبيح المحظورات [48] .
ومفهومها أن حالات الاضطرار تجيز ارتكاب المحظور أي المنهي عنه شرعاً؛
فكل ممنوع في الإسلام يستباح فعله عند الضرورة إليه.
فينبغي للمفتي أن يتنبه لذلك فلا يحرم فعلاً قد أباحته الضرورة. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» ومن الأصول الكلية: أن المعجوز عنه في الشرع
ساقط الوجوب، وأن المضطر إليه بلا معصية غير محظور؛ فلم يوجب الله ما
يعجز عنه العبد، ولم يحرم ما يضطر إليه العبد « [49] .
والضرورة تطلق عند الفقهاء على خوف التلف، وبلوغ الإنسان حَدّاً إن لم
يتناول الممنوع هلك أو قارب [50] ، أو خوف الموت [51] .
فهي أمرٌ زائد على المشقة؛ فالمشقة: تعبٌ وإعياء، لكنه لا يؤدي لتلف
البدن أو بعضه أو إلحاق الضرر بالعقل أو العرض.
أما الضرورة فقد عرِّفت بأنها: الحالة التي تطرأ على الإنسان؛ بحيث لو لم
تُرَاعَ لجزم أو خيف أن تضيع مصالحه الضرورية [52] .
والمصالح الضرورية هي: حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض.
وهذا موطن توسع فيه بعض المعاصرين، فأدخلوا في الضرورة ما ليس
منها.
قال الشاطبي:» وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يَدَّعي فيها الضرورة
وإلجاء الحاجة بناءً على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما
يتفق مع الغرض، ويوافق الهوى الحاضر، ومحالّ الضرورات معلوم من
الشريعة « [53] .
ولهذا مزيد تفصيل في الضابط القادم.
6 - تقدر الضرورات بقدرها وتعرف ضوابطها:
» كثر في عصرنا الحاضر استعمال الضرورة على غير وجهها الشرعي،
فجعلت ذريعة لفعل كثير من المحظورات وترك الواجبات تحت ستار مبدأ التخفيف
والتيسير على الناس دون التقيد بضوابط الضرورة، أو الجهل بأحكامها وبالحالات
التي يصح التقيد بها عند وجود مقتضياتها، فنرى كثيراً من الناس مثلاً يحاولون
التخلص من أداء الفرائض الدينية في أوقاتها بسبب وجودهم في حفل عام أو
اجتماع خاص «.
» وقد يبادر التاجر أو المزارع أو الصانع أو الموظف إلى الاقتراض بفائدة
من المصارف العقارية أو التجارية أو الصناعية، وكل هؤلاء وأضرابهم يتمسكون
بمبدأ الضرورة في الإسلام، ويفتون لأنفسهم ولغيرهم بكل جرأة بإباحة ما حرم الله
تعالى « [54] .
لذا لا بد عند العمل بقاعدة إباحة المحظور لوجود الضرورة من تحقق ضوابط
من أبرزها ما يأتي [55] :
أ - أن تكون الضرورة قائمة بالفعل، لا متوهمة ولا متوقعة.
أي أن يحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال، وذلك
بغلبة الظن بحسب التجارب أو بتحقق المرء من وجود خطر حقيقي.
ب - أن لا يكون لدفع الضرورة وسيلة أخرى إلا مخالفة الأوامر والنواهي
الشرعية.
ج - أن يكون الضرر في المحظور الذي سيقدم عليه أنقص من ضرر حالة
الضرورة؛ ولذا متى كان الضرر الذي سيقدم عليه أعظم من ضرر حالة الضرورة،
لم يُستبح بالضرورة المحظور، ومثال ذلك لو أكره على القتل فإن إزهاق النفس
المعصومة أعظم مفسدة من حفظ مهجة المُكرَه.
د - أن يكون مقدار ما يباح من المحظور بمقدار ما يدفع الضرورة:
وعلى ذلك تفرعت القاعدة:» ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها « [56] .
وبنى الفقهاء على ذلك أحكاماً منها: أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما
يسد الرمق، إلا إن كان في مسغبة عامة وظن استمرار الضرورة مثلاً.
وكذا فإنه ليس للطبيب أن ينظر من العورة إلا بقدر الحاجة أو ما تندفع به
الضرورة، فإذا انتهى زمن العذر زالت الإباحة؛ ولذا قالوا:» ما جاز لعذر بطل
بزواله «، و» إذا زال المانع عاد الممنوع «.
7 - مراعاة متعلق العرف:
من مجالات التيسير في الشريعة الإسلامية أنها راعت العرف واعتبرته في
تنزيل جملة من الأحكام المتعلقة به والمتغيرة بتغيره، ومراعاة المفتي لذلك جانب
من التيسير مشهود [57] .
والعرف يؤخذ به في أمرين [58] :
الأول: إذا جاء حكم من الشرع أو اسم عُلّق به حكم شرعي، ولم يحدَّ لا في
الشرع ولا في اللغة؛ فإنه يرجع في تحديده إلى العرف.
ومثاله: مقدار الكفاية في النفقات؛ فإنه لم يرد حد لذلك في الشرع ولا في
اللغة، وتختلف أعراف الناس فيرجع فيه إلى عرف كل ذي بلد كلٌّ بحسبه.
وكذلك الإسراف فإنه لم يُحَدّ فيرجع في تحديده إلى العرف.
الثاني: أن العرف قيد لما يقع بين الناس من معاملات؛ فدلالة الألفاظ
والمراد منها كنوع العملة إذا لم تذكر في العقد ووقت التسليم ونحو ذلك؛ فإن
المعروف عند الناس كالمشروط بينهم لفظاً. كل ذلك بشرط عدم مخالفة العرف
للدليل الشرعي.
وبما سبق يتضح المراد بقولهم: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان؛ فهي
خاصة بتغير الأعراف.
» أما الأحكام ذات النص فلا ينسحب عليها هذا التأصيل، والعصرانيون
دخلوا من هذا التقعيد الصوري إلى أوسع الأبواب، فأخضعوا النصوص ذات
الدلالة القطعية كآيات الحدود في السرقة والزنا ونحوهما بإيقاف إقامة الحدود لتغير
الزمان، وهكذا مما نهايته انسلاخ من الشرع تحت سُرَادِق موهوم « [59] .
8 - تنبيه المستفتي على المخارج الشرعية والحلول المباحة:
فإن مما يسلكه المفتي في التيسير على المستفتي أن يرشده إلى المخارج
الشرعية لمشكلته بما لا يتجاوز حدود الشرع، فلا يُوهِمُهُ بحرمة فعله ثم يتركه
حائراً لا يعرف ما يصنع.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله
عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:» من أين هذا؟ قال
بلال: كان عندي تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه
وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوّه عين الربا، لا تفعل، ولكن
إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيعٍ آخر ثم اشتر به « [60] .
فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالحل الشرعي الميسر له.
فإذا دل المفتي المستفتي على شيء من ذلك دون إعلان بعد أن عرف منه
الصدق والإخلاص وقدرته على تمييز المفاسد والموازنة بينها فقد يكون له وجه
مندرج تحت قاعدة احتمال أدنى المفسدتين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما
هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا
بها ... وذلك ثابت في العقل كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما
العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين ... وهذا باب التعارض، باب واسع
جداً، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن
هذه المسائل تكثر فيها « [61] ، ثم ضرب لذلك أمثلة كثيرة، وعلى كل فمثل هذا
يحتاج مزيد بيان وتأمل، والله أعلم.
9 - تسهيل عرض المعلومات:
فإن مما يعين على قبول الأحكام الشرعيّة، وفهمها وتقبلها: حُسْن عرضها،
وبساطة طرحها، وبيان دليلها، وتوضيح بعض الحكم الملتمسة فيها.
وذلك أن الناس تتباين ثقافاتهم، وتختلف طرق تلقيهم للمعلومات فمتى حاول
الباحثون وأهل الفتوى والفقه تدوين الأحكام الشرعية بعدة طرق وأساليب تناسب
جميع الفئات كان ذلك من التيسير بلا شك.
وقد حصل شيء من هذا فقد دونت الأحكام الشرعية على شكل مواد منظمة
ومرتبة في نظريات كنظرية الملكية والعقد والالتزام، وكتب لعامة الناس كتابة
ميسرة، ويبقى الباب مفتوحاً والطريق سالكة لمبدع في طريقته أو مجدد في أسلوب
عرضه.
10 - ملاحظة ما يترتب على الفتوى:
فإن المفتي مطلوب منه أن يلاحظ ما يترتب على فتواه، ولا يسوغ له أبداً أن
يفتي بما يكون سبباً لنشر فتنة أو وقوع ضرر عام، ولو كان رأيه رأياً شرعياً؛ بل
يجب عليه أن يسكت حتى يحين الوقت الذي يناسب بيان رأيه كما سيأتي إيضاحه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» على المفتي أن يمتنع عن الفتوى فيما يضر
بالمسلمين ويثير الفتن بينهم، وله أن يمتنع عن الفتوى إن كان قصد المستفتي كائناً
من كان نصرة هواه بالفتوى وليس قصده معرفة الحق واتباعه « [62] .
ومن شواهد هذا ما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:» لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لهدمت الكعبة
وبنيتها على قواعد إبراهيم « [63] . فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن تغيير
الكعبة مطلب شرعي، وقد ترك فعله لما يترتب عليه من مفاسد.
وهذا الضابط مهم في التيسير؛ فإن المفتي متى امتنع عن فتوى تسبب ضرراً
فقد سلك سبيل التيسير على الناس.
ويقابل هذا أن المفتي قد لا يسوغ له أبداً إلا أن يأخذ بالعزيمة ويبين الحكم
الشرعي، وإن تضرر هو ليدفع الفتنة والضرر العام عن المسلمين، كما وقع لإمام
أهل السنة أحمد بن حنبل إذ ترك الإجابة لما طلب منه من القول بخلق القرآن مع
كونه مكرهاً معذوراً، وأصرّ على بيان الحق والإفتاء به؛ وذلك أن في عدم ثباته
على ذلك فتنة عامة.
روي أن المروذي جاءه وقال: هؤلاء قدَّموك للضرب والله يقول: [وَلاَ
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ] (النساء: 29) . فقال: يا مروذي! اخرج وانظر. قال:
فخرجت ونظرت في رحبة دار الخليفة فرأيت خلقاً كثيراً والصحف والأقلام في
أيديهم، فقلت: أي شيء تفعلون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، فرجع إلى
أحمد وأخبره، فقال: يا مروذي! أضل هؤلاء؟ كلا! بل أموت ولا أضلهم [64] .
وهناك مسألة ثالثة وهي: هل يسوغ للمفتي أن يفتي بغير ما يراه راجحاً دفعاً
للضرر العام أم لا؟
ومثال هذا ما حصل لملك التتار (خدابنده) الذي خلف أخاه قازان، وكانا
يُظْهران الإسلام والسُّنّة، فقد قيل إنه غضب يوماً من زوجته فطلقها ثلاثاً ثم أراد
أن يردها إلى عصمته، فقال له فقهاء أهل السنة إنه لا سبيل إلى ذلك حتى تنكح
زوجاً غيره، وصعب عليه ذلك فأشار عليه رجال حاشيته من الرافضة بأن يدعو
ابن المطهر الحِلّي الرافضي، فلما حضر أفتاه ابن المطهر بأن الطلاق لم يقع وأن
له أن يعاشر زوجته، فَسُرَّ خدابنده وانتقل لمذهب الرفض، وكتب إلى عماله في
الأمصار بذلك [65] .
فهل كان يسوغ للمفتي أن يفتيه بعدم وقوع الطلاق الثلاث مع أنّه لا يرجّحه
منعاً للضرر العام؟
والجواب يمكن أن تتضح معالمه من خلال تأمل النقاط الآتية:
أ - الضرر المراد هنا الضرر العام لا الضرر الخاص بفرد أو أفراد
محصورين.
ب - لا يمكن ضبط هذا بقاعدة عامة، بل كل واقعة تحتاج تأملاً واجتهاداً.
ج - المسائل المدلول عليها بنص لا مجال فيها لتغيير الفتوى.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله في جوابه عمّن سأله: هل
يجوز للإنسان في مسائل الخلاف أن يفتي لشخص بأحد القولين ولشخص آخر
بالقول الثاني؟
قال:» إن كان في المسألة نص كان الناس فيه سواء، ولا يفرق بين
شخص وآخر، وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنية على الاجتهاد، وإن كان
الاجتهاد فيها في الحكم فكذلك في محله، فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه
تقتضي أن يُعَامل معاملة خاصة، عمل بمقتضاها ما لم يخالف النص، وهذا الذي
ذكرناه لا يكون مطرداً في كل صورة « [66] .
11 - مراعاة التدرج:
من صور التيسير العملية عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يرى
جواز التدرج في الأخذ بالأحكام لمن دخل في الإسلام حديثاً والتائب من المعاصي.
قال رحمه الله:» العالم قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن،
كما أخر الله سبحانه إنزال وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم من بيانها، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما
كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً،
ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأتِ الشريعة جملة،
كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع «.
فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما
أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها.
وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر
بجميع الدين ويذكر له جميع العلم؛ فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يُطقه لم يكن واجباً
عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه
ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما
عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات
وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد
فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع» [67] .
12 - سَدُّ الذّرائع:
من الأدلة المستعملة عند طائفة من الفقهاء: سَدُّ الذرائع [68] .
ويريدون بها: منع الجائز لئلا يتوصَّل به إلى الممنوع [69] .
ونتيجة إعمال القاعدة: تحريم أمر مباح لما يُفْضي إليه من مَفْسَدَةٍ.
وهذه القاعدة نحتاج لوقفات معها:
أولاً: أن سد الذرائع ليس من الأدّلة المتفق عليها، بل خالف فيها الشافعيّة
والحنفيّة والظاهرّية [70] .
ثانياً: أنها إنما تُعْمَل فيما لا نَصّ فيه؛ فالخلوة بالمرأة الأجنبيّة محرم بالنص
لا بسد ذريعة الإفضاء إلى الزّنا [71] .
ثالثاً: أنَّ كل ما أفضى إلى المفسدة قطعاً، وكانت مفسدته غالبة فهو محرم
اتفاقاً؛ سواء سُمّي سَدَّ ذريعةٍ أو لا [72] .
رابعاً: (ما أفضى إلى مفسدة وكانت المصلحة فيه أرجح؛ فلا يُمنع منه.
بل قد يكون مباحاً، أو مستحباً، أو واجباً، بحسب درجاته في المصلحة؛ ومثاله:
النظر إلى المخطوبة والمشهود عليها، وكلمة الحقّ عند السُّلْطان الجائر) [73] .
خامساً: أن سد الذرائع راجع لاعتبار المصالح والمفاسد وتقديرها [74] .
وبعد هذه الوقفات نقول: إن من ضوابط التيسير أن يراعي من أراد إعمال
هذا الدليل المصالح والمفاسد الحقيقيّة المترتبة، والترجيح بينها، حتى لا يضيّق
الحلال ويورد المشقّة على المكلفين.
هذه جملة من أبرز الضوابط والصور العملية للتيسير في الفتوى [75] ،
اجتهدت في جمعها وترتيبها، والمجال يتسع لبسط القول أكثر، ولعل فيما تقدم
كفاية.
والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.
__________
(*) قاضٍ شرعي في محكمة محايل عسير.
(1) سنن أبي داود (3641) ، سنن الترمذي (3682) ، سنن ابن ماجه (223) ، مسند الإمام أحمد (5/ 196) وقواه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/ 159) .
(2) صحيح البخاري (3461) .
(3) تضمين من إعلام الموقعين، لابن القيم (1/ 10، 11) .
(4) سنن الدارمي (1/52) ، وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين منسوباً لأحمد وابن المبارك بإسنادهما (1/34) .
(5) سنن الدارمي، (1/64) .
(6) صحيح البخاري (3038) ، صحيح مسلم (1733) .
(7) صحيح البخاري (39) ، صحيح مسلم (2816) .
(8) صحيح البخاري (20) .
(9) صحيح البخاري (887) ، صحيح مسلم (252) .
(10) صحيح البخاري (347) ، صحيح مسلم (368) .
(11) صحيح البخاري (5073) ، صحيح مسلم (1402) .
(12) سنن الدارمي (1/51) .
(12) صحيح البخاري (7352) ، صحيح مسلم (1716) .
(14) جامع بيان العلم وفضله (2/88) .
(15) إعلام الموقعين (4/211) .
(16) جامع بيان العلم وفضله (2/92) .
(17) الفواكه العديدة من المسائل المفيدة (2/130) ، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (4/ 473) .
(18) سير أعلام النبلاء (8/81) .
(19) سنن أبي داود (3592) ، سنن الترمذي (1327) ، صححه الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه (1/189) ، وقد ضعّفه بعض المحدثين سنداً مع القول بصحة معناه، أما الألباني فيراه ضعيفاً في سنده ومتنه لمخالفته لأصل مهم وهو عدم جواز التفريق في التشريع بين الكتاب والسنة، ووجوب الأخذ بهما معاً سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 88.
(20) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه، ص 33.
(21) المرجع السابق، ص 384، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، ص 156.
(22) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه، ص 33، شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص 147.
(23) مختصر التحرير، لابن النجار، ص 213، آداب البحث والمناظرة، ص 129.
(24) المستصفى، للغزالي (1/285) ، الاعتصام، للشاطبي (2/ 98) .
(25) بيان الدليل على تحريم التحليل، ص 250.
(26) صحيح البخاري (657) ، صحيح مسلم (651) واللفظ له.
(27) سنن أبي داود (2300) ، سنن النسائي (3528) ، سنن الترمذي (1204) ، سنن ابن ماجه (2031) ، قال الحافظ ابن حجر: «صححه الترمذي والذُّهلي وابن حبان والحاكم وغيرهم» ، بلوغ المرام، ص 286.
(28) الموافقات (4/259) .
(29) كتوكيل من يرمي عنه مثلاً.
(30) فتاوى ورسائل سماحته (6/77) .
(31) الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/25) .
(32) المرجع السابق (1/29) .
(33) روضة الناظر (1/ 176) ، قواعد الأصول، ص 75.
(34) مجموعة الفوائد البهية، ص 69، ونسبه لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(35) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه، ص 114.
(36) معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، ص 218.
(37) مجموع الفتاوى (13/112) .
(38) الاعتصام، للشاطبي، (2/79، 80) .
(39) إعلام الموقعين (3/135) .
(40) صحيح مسلم (2594) .
(41) صحيح البخاري (6927) ، صحيح مسلم (2165) .
(42) صحيح البخاري (1936) ، صحيح مسلم (1111) .
(43) فتح الباري (4/204) .
(44) سنن أبي داود (2/780) ، قال ابن حجر: فيه حديثان مرفوعان فيهما ضعف، وروي عن ابن عباس موقوفاً، الموطأ (1/293) ، فتح الباري (4/150) .
(45) وقفت عليه في مواضع كثيرة معلقاً بدون إسناد، وانظر: تفسير ابن كثير (1/537) .
(46) الاعتصام، للشاطبي، (2/98) ، نزهة الخاطر العاطر (1/412) .
(47) أحمد في مسنده (17/12 الفتح الرباني) .
(48) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، ص 234، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، ص 18.
(49) مجموع الفتاوى (20/560) .
(50) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 94.
(51) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، ص 438.
(52) رفع الحرج، ص 438.
(53) الموافقات، (4/145) .
(54) تضمين من كتاب القواعد الفقهية الكبرى، الدكتور صالح السدلان، ص 248، 249.
(55) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 93، نظرية الضرورة الشرعية، ص 67، رفع الحرج، ص 440، القواعد الفقهية الكبرى، ص 250.
(56) شرح القواعد الفقهية، للزرقا، ص 187.
(57) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (1/51) ، والمفتي في الشريعة، الدكتور الربيعة، ص 37.
(58) مجموعة الفوائد البهية، ص 93.
(59) تضمين من كتاب (التعالم) للعلامة بكر أبو زيد، ص 55، ومسألة تغير الفتوى واختلافها موضوع واسع ومهم يحسن عرضه وتناوله بمفهومه وأسبابه وبيان ما يتغير من الأحكام وما لا يتغير، وتجد جملة من مباحثه عند ابن القيم في إعلام الموقعين، (3/2) ، والقرافي في الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 131، وفي الفروق، (1/177) ، والشاطبي في الموافقات، (2 /225 285) ، وعلي حسب الله في (أصول التشريع الإسلامي) ، ص 106، وكثير من كتب القواعد الفقهية، وأصول الفقه عند تناولها مسألة العرف والعادة وحجيتهما.
(60) صحيح البخاري (2312) ، صحيح مسلم (1594) .
(61) مجموع الفتاوى (20/53، 54، 57) .
(62) مجموع الفتاوى (28/198) .
(63) صحيح البخاري (1584) ، صحيح مسلم (1333) .
(64) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (3/22) .
(65) المنتقى من منهاج الاعتدال، للذهبي، هامش لمحب الدين الخطيب، ص 20، وقال أيضاً: «هي الخطوة الأولى في التشيع الرسمي للدولة في خراسان وإيران» اهـ.
(66) كتاب العلم، ص 226، فما بعدها، وانظر في هذه المسألة: مقدمة المجموع، للنووي، (1/88) ، أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (1/46، 47) .
(67) مجموع الفتاوى (20/59، 60) .
(68) انظر لسان العرب (8/96) وفيه: الذرائع: الوسائل المفضية إلى الشيء.
(69) الموافقات، للشاطبيّ (3/257) .
(70) إحكام الفصول، للباجي ص 690؛ شرح الكوكب المنير، للفتوحي (4/434) ؛ الإحكام لابن حزم (6/2) .
(71) تيسير علم أصول الفقه ص 204.
(72) الموافقات مع تعليقات دراز (4/200، 201) .
(73) تضمين من إعلام الموقّعين (3/136) بتصرّف.
(74) مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلّة الشرعيّة، لليوبي ص 579.
(75) ثمة ضوابط أخرى كنت أحببت تناولها لكني رأيت أنها يمكن أن تندرج في ضابط أو أكثر مما سبق فاكتفيت بما دونت.(171/21)
قضايا دعوية
الكلمة المؤثرة
عادل بن عبد الله الدوسري
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [1] .
قال النووي: «وهذا صريح أنه ينبغي ألاَّ يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً،
وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة لا يتكلم» [2] .
ومن هذا المنطلق فإن على المربين وغيرهم أن يتنبهوا إلى تلك الكلمات التي
يطلقونها على أصحابهم وعلى تلاميذهم؛ فكم من كلمة عملت عملها في نفس متلقيها
فتُغير حاله وتبدله نحو الأفضل، ولقد سطر التاريخ لنا أمثلة من علماء وزهاد
وغيرهم. ومن ذلك ما أخرجه البخاري من طريق سالم عن ابن عمر قال: كان
الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله
عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم وكنت
غلاماً شاباً عزباً، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
فرأيت في المنام: كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار؛ فإذا هي مطوية كطي
البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر وإذا فيها ناس قد عرفتهم؛ فجعلت أقول: أعوذ
بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر، فقال: لن تراع. فقصصتها
على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نِعْم
الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل» . قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل
إلا قليلاً [3] .
وفي رواية: «إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل» .
قال الزهري: وكان عبد الله بعد ذلك يكثر الصلاة من الليل [4] .
كلمات يسيرة من النبي صلى الله عليه وسلم أثرت في نفس عبد الله حتى
جعلته يزيد في الخير والطاعة والاستزادة من ثواب الله عز وجل، حتى قيل إنه لا
ينام من الليل إلا قليلاً.
وربما سمع الشخص آية فأثرت فيه أشد التأثير وتقلبت حياته من شر إلى
خير وفضل حتى راجع نفسه فتاب إلى الله عز وجل. ذكر الفضل بن موسى قال:
كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب
توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو: [ألَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ]
(الحديد: 16) ، فلما سمعها. قال: بلى يا رب! قد آن، فرجع، فآواه الليل
إلى خربة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح
فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في
المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا
لأرتدع؛ اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام [5] . فتغيرت
حال الفضيل حتى أصبح كما يقول شريك: حجةً لأهل زمانه، وكان كما يقول ابن
المبارك: من أورع الناس.
«ولهذا لو تتبعنا سِيَر العلماء والمصلحين والمجاهدين، ثم بحثنا عن سر
نبوغهم وألمعيتهم لوجدنا أن كثيراً منهم قد نال ما نال بسبب كلمة سمعها فغيرت
مسار حياته، أو كانت سبباً في ثباته، وصبره واستشعاره للمسؤولية أو
نحو ذلك» [6] .
فمن أولئك الذين تغيرت حالهم وتركوا ملذات الدنيا، وحلقوا في طلب العلم
وثوابه بسبب كلمات قليلة الإمام أبو حنيفة، روى أبو محمد الحارثي بسنده إلى
الإمام أبي حنيفة، قال: مررت يوماً على الشعبي وهو جالس فدعاني وقال: إلامَ
تختلف؟ فقلت: أختلف إلى فلان. قال: لم أعنِ إلى السوق، عنيت الاختلاف
إلى العلماء. فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم. فقال: لا تفعل، وعليك بالنظر
في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة. قال: فوقع في قلبي من
قوله فتركت الاختلاف أي إلى السوق وأخذت في العلم، فنفعني الله تعالى بقوله.
وكان أول ما اتجه إليه من العلوم علم أصول الدين ومناقشة أهل الإلحاد
والضلال، ولقد دخل البصرة أكثر من سبع وعشرين مرة يناقش ثلة ويجادل ويرد
الشبهات [7] .
وربما ينتقل الرجل من علم إلى علم آخر يكون هو الأوْلى والأفضل كما حدث
لأبي حنيفة حين شغل بعلم الكلام عن الفقه في بداية طلبه. روى زُفَر عنه رحمهما
الله تعالى قال: سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغاً
يشار إليَّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد ابن أبي سليمان،
فجاءتني امرأة يوماً، فقالت: رجل له امرأة أراد أن يطلقها للسنة كم يطلقها؟
فأمرتها أن تسأل حماداً ثم ترجع فتخبرني، فسألت حماداً، فقال: يطلقها وهي
طاهرة من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين بعد الحيضة
الأولى فهي ثلاث حِيَض فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج. فرجعت فأخبرتني،
فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد أسمع مسائله فأحفظ
قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظ ويخطئ أصحابه. فقال: لا يجلس في صدر الحلقة
بحذائي غير أبي حنيفة [8] .
ومن أولئك الذين انبروا للسنة والحديث ورفعوا رايتها بسبب كلماتٍ الإمامُ
البخاري رحمه الله حيث أورد سبب جمعه للصحيح فقال: «كنا عند إسحاق بن
راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح» [9] .
ومن أولئك أيضاً محمد بن إدريس الشافعي الذي استفاد من رجل من الحجبة،
يحدث عن نفسه فيقول: «كنت امرأ أكتب الشعر وآتي البوادي فأسمع منهم،
وقدمت مكة، وخرجت وأنا أتمثل بشعر للبيد، وأضرب وحشي قدمي بالسوط،
فضربني رجل من ورائي من الحجبة، فقال: رجل من قريش ثم ابن المطلب
رضي من دينه ودنياه أن يكون معلماً. ما الشعر؟ الشعر إذا استحكمت فيه قعدت
معلماً، تفقه يعلك الله. قال: فنفعني الله بكلام ذلك الحجبي ورجعت إلى مكة،
وكتبت عن ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب، ثم جالست مسلم بن خالد، ثم قدمت
على مالك فكتبت موطأه» [10] .
إن التشجيع والتلطف بالعبارات الجميلة من أجمل ما يفعله المربي، فإذا وجد
خصلة جيدة في أحدهم فليثنِ عليه بها لعله أن ينتفع بهذه الكلمات فيحصل له الخير
الكثير.
ولقد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم شيء كثير من ذلك؛ فعن ابن
مسعود قال: «كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأبو بكر فقال: يا غلام! هل من لبن؟ قلت: نعم ولكني مؤتمن، قال:
فهل من شاة لم يَنْزُ عليها الفحل؟ ! فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في
إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلص. فقلص، ثم أتيته بعد هذا.
فقلت: يا رسول الله! علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: يرحمك الله؛
فإنك غليِّم معلم» . وفي رواية «قلت: علمني من هذا القرآن، قال: إنك غلام
معلم، فأخذت من فيه سبعين سورة» [11] .
وكما قال أبو بكر الصديق: يا زيد بن ثابت! إنك غلام شاب عاقل [12] .
إن هذه الأمثلة السابقة وغيرها مما لم نذكر لتجعل المربي يعتني بكلماته عناية
فائقة، على أن يتنبه إلى نفسيات طلابه بأن لا يقطع عنق أحدهم بالمدح أو يسيء
لأحد فيحطمه؛ وإنما كل بحسبه، والله نسأل أن يخرج أناساً يقومون بدين الله عز
وجل، وأن يكتب النصر على أيديهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري، رقم 6019، ومسلم في كتاب اللقطة، رقم 14.
(2) كتاب رياض الصالحين، ص 147.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 7، ص 113، رقم (3738) .
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 12، ص 437، رقم (7030) .
(5) نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء، ج 2، ص (772) .
(6) من كلام الشيخ محمد الحمد في كتابه الهمة العالية، ص 144.
(7) أبو حنيفة النعمان، لوهبي سليمان غاوجي، ص 48.
(8) أبو حنيفة النعمان، لوهبي غاوجي، ص 53.
(9) مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ص 9.
(10) صفة الصفوة، ج 2، ص 148.
(11) أخرجه أحمد في المسند، ورقمه (3417) .
(12) أخرجه البخاري في تفسير القرآن، ورقمه (4311) .(171/34)
قضايا دعوية
الداعية الميداني
رضا بن أحمد الصمدي
إنه الداعية المتحرك في كل صوب، المتقن لدعوته في كل ثوب، إن كان
في بيته فنعم العائل والمربي، وإن نزل إلى الشارع وخالط الناس وَسِعَهُم بدعوته،
فإن ركب وسيلة مواصلات تناثرت بركات دعوته على من حوله من الركب، وإذا
دخل مصلحة لم يخرج منها إلا بغنيمة دعوية: نصيحة يسارُّ بها موظفاً، أو
موعظة يُسمعها لسافرة، أو كلمة معروف يذكِّر بها من يقف معه في قطار [1] ، إنه
المبارك في حله وترحاله، كالغيث أينما وَقَعَ نَفَعَ:
فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... ولا أرضٌ أَبْقَلَت إبْقَالَها
قلبٌ عامرٌ وعقلٌ يثابرُ، وعزمٌ مغامر وإيمان يجاهر، تقي حفي، نقي أبيّ،
جبهته شمَّاء، كبرياءُ دينه بلغ عنان السماء، ونفعه متعد، وخيره عام، يتجذر
هداه في كل أرض أقام فيها، ويينع غرسه حتى في الأرض القاحلة، تنداح جحافل
وعظه كالسيل العرم تذهب بكل سد منيع جاثم على قلوب الغافلين، إذا قال أسمع،
وإذا وعظ أخضع، دؤوب الخطو بدهي التصرف، إذا اعترضته العوائق نظر إليها
شَزْراً وقال: أقبلي يا صعاب أو لا تكوني، محمديُّ الخُلُق، صدِّيقيُّ الإيمان،
عُمَريُّ الشكيمة، عثمانيُّ الحياء، علويُّ الصلابة، فُضَيْليُّ العَبْرة، حنبليُّ الإمامة،
تَيْمَوِيُّ الثبات.
إنه الداعية الذي لا تعوقه عوائق الكون عن القيام بواجب الدعوة أينما كان،
إذا حيل بينه وبين الدعوة فكأنما أخرجت سمكاً من ماء، أو أسكنت بشراً في
الصحراء، حركي كالنمل والنحل لا يعرف القرار.
إنه الداعية الفصيح، جنانه حاضر، وبديهته كالبرق الخاطف، ولسانه لا
يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وما عدا ذلك
فذاكر شاكر، أو صامت صابر.
إن مظهره متناسق مع وظيفته السرمدية، هندام نظيف ومتواضع، وهيئة
تقية، وإخبات غير متكلف، إذا رآه الخلق ذكروا الله تعالى.
وهو داعية متعالٍ على السفاسف، لا يستنكف عن فعل الخير وإن استهجنه
الناس، إنه لا يأنف من إماطة الأذى عن الطريق، يسلّم على من عرف ومن لم
يعرف، يبتسم في وجوه الناس أجمعين، ويحفظ حشمته من نزق الطائشين وسمود
العابثين.
مستعد للدعوة في كل ميدان، إذا فتشت حقيبته وجدتها مليئة بالحلوى
والكتيبات والهدايا الصغيرة غير المكلفة. يصطحب معه في سيره أشرطة القرآن
الكريم وأشرطة الدعاة والخطباء والوعاظ وغير ذلك مما يناسب أسلحة الداعية
الميداني.
يستخدم الهدايا في التعارف، والكتيبات في التأليف والوعظ والإرشاد مع
دعوة لحضور محاضرة أو خطبة.
إذا ما ألقى السلام فكأنك تسمع ترنيمة كونية تطرب لها أذناك، ذاك صوت
الداعية الشجي، فإذا ما رأيته أقبل بوجهه الضحوك وسلامه المرونق ذكَّرتك اللهَ
رؤيته.
لقد وقع القلب في شَرَك هذا الداعية، واشتبكت القلوب المؤمنة وائتلفت،
والتقت العيون والمقل، فإذا أدْمُعُ الخوف من الله تتعرف على نفسها، حتى إذا ما
سكب ذلك الداعية الميداني كلمات الود والمحبة في الله، والتقت إرادة الله بالهداية
أبصرت الهوى صريعاً في ساحته، والقلب تتهاوى شهواته وغرائزه أمام هذا السيل
الدافق من فيض الإيمان والتقى، وكأنك بالشيطان رابض ينادي بالويل والثبور:
وَيْلي وَيْلي قد اختطفه فلان الصالح مني!
ولنحاول صياغة بعض وظائف هذا الداعية الميداني واستعداداته وصفاته في
نقاط مركزة فيما يلي:
1 - داعية مخلص يمحص النية قبل العمل، ولا يعتذر عن أي جهد يستطيع
القيام به بزعم العجز أو خوف الرياء، بل يتعلم ويعالج الهوى ويخوض غمار
التكليف مملوء الثقة بمعونة الله وكلاءته.
2 - لا يبخل على الدعوة بأي مجهود أو طاقة؛ فأينما دعاه داعي البذل شمر،
لا يدخر وقتاً خاصاً للدعوة، بل أصل عمره موقوف للدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
3 - يهتم بالمظهر الذي له دور في التأثير على الناس، هندامه محترم،
منظم الخطوات، رشيق العبارة (ينتقي الألفاظ ولا يلقيها خبط عشواء) ، يخلب
اللب إذا تحدث أو وعظ أو حاضر أو نصح، طيب الرائحة، حلو المعشر، طلق
الوجه متبسمه.
4 - مستعد لكل موقف؛ فلديه الأساليب الجاهزة لغزو القلوب، والطرق
المنمقة لاستمالتها، والأسلحة الفتاكة في محاربة هوى النفوس، والمغريات
الشرعية في جذب الشاردين.
5 - يتفانى في تقديم كل معونة للرقي بحال المدعوين إلى أي مستوى ينقذهم
من نفوسهم الأمارة بالسوء وشياطينهم الغوية أو أعداء ملَّتهم المتربصين بهم.
6 - يترقب الفرص ويسعى إليها ولا ينتظر مجيئها إليه، يباغت المواقف
ولا يكون هو رد فعل لها، لا يترك فرصة لما يسميه الناس المصادفة أو الفجأة،
بل تراه بدهياً مستعداً لكل موقف بما يناسبه.
7 - يتجاوب مع المشكلات التي تهدد المجتمع المسلم، ولا يشغل نفسه بتوافه
الأمور وسفسافها، يقيم لأولويات الدين قسطاساً مستقيماً يضبط اهتماماته، ويوجه
تحركاته، يتعامى عن أذية المغرضين وسفه المستهزئين، يمضي إلى هدفه غير
ملتفت، قد أرَّقه حال الإسلام والمسلمين، وأفزعه طرق العدو لأبواب الحصون؛
فكأنه في رباط ينافح عن ثغر مثلوم يرد العدو من قِبَله.
8 - يستعين بكل الإمكانات المتاحة، ويستغل الظروف لصالحه، لا يلعن
الظلام ولكنه يشارك في إيقاد شمعة، إذا قصَّرَتْ به وسيلة نزل إلى التي دونها،
حتى لو لم يجد إلا لسانه أو الإشارة باليدين لاستعملهما متوكلاً على الله الهادي إلى
صراط مستقيم.
9 - من أكثر سمات الداعية الميداني جدية أنه يعمل في صمت، ويُؤْثِر
العمل الدؤوب على الثرثرة والتفيهق، ليس بالمنان ولا بالعجب.
وبهذه الصفة الأخيرة نختم ناقلين قول بعض السلف: «ما ادَّعى أحد قط إلا
لخُلُوِّهِ عن الحقائق، ولو تحقق في شيء لنطقت عنه الحقيقة وأغنته الدعوى» .
__________
(1) القطار: هو في اللهجات العامية: (الطابور) .(171/37)
دراسات تربوية
اللغو ومظاهره في حياة الناس
د. محمد خليل جيجك [*]
إن الإسلام أتى للإنسانية في باب تربية الأفراد وتنقيح أفعالهم وتهذيب أخلاقهم
بما لا مثيل له، ففتح على المسلم عالماً خصباً ممتد الأرجاء مكتمل الجوانب في
التكميل النفسي والتطهير الروحي والتزكية الخلقية والتربية البدنية؛ فهو يأتي في
جميع هذه الممارسات بأسمى القيم وأفضل المبادئ وأنفع القواعد التي من إحدى
خصائصها سهولة تكيّف النفس بها ويسر تطبيقاتها الواقعية؛ بحيث سلك القرآن في
ذلك سبيلاً فذاً ليس في مستطاع البشر الوصول إليه.
وطريقة أخرى يسلكها القرآن عبر مناهجه التربوية أنه حينما يعالج العناصر
والمبادئ الأخلاقية لا يعالجها من بعض الزوايا أو بعض العناصر فحسب، وكذلك
لا يقتصر على طرف أو نوع واحد منها مهما كان له من الأهمية، بل يعالج الكيان
الأخلاقي معالجة لها من الشمول والاتساع والتنوع أكثر ما يكون، فيوجه القرآنُ
الإنسانَ المؤمن به أو بكلمة أعم كل من يصغي لقوله ويستمع لدرسه إلى كل نافع
سديد، ويصوبه إلى كل صالح رشيد، ويبعده عن كل ما يضره وأسرته وشعبه
وأمته، ويأتي بمراقبة أخلاقية مستمرة مع العبد أينما توجه لا تتركه أبداً في ليله
ونهاره، وفي خلواته وجلواته، وفي سره وعلانيته. وهذه المراقبة الأخلاقية
المستمدة من العقيدة الحقة ووازع الخشية من الله التي اهتم بها الإسلام إلى أقصى
الحدود مستمرة عبر جميع العلاقات والممارسات والنشاطات والفعاليات والملابسات
سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة والدولة. علماً منا أن الأوامر
الأخلاقية الرشيدة في الفرقان الحكيم متوجهة إلى جميع هذه المستويات الثلاثة بسعة
وكثرة؛ مما يغني من ورد على منهله العذب الفياض عن الورود على مستنقعات
الآخرين.
ومما يلفت نظرنا في باب تربية القرآن الأخلاقية للناس اهتمامه الأقصى
بتجنيبهم الممارسات غير الأخلاقية والعادات السيئة التي لا تأتي للفرد والأمة بخير
وصلاح، وتضرهما ضرراً بالغاً، وهي جمة ليس بالهين اليسير التدخل في
تفاصيلها عبر مقال قصير؛ إنما نشير إلى واحد منها يؤدي إلى كثير من الضياع
والخسران لا في الحاضر الملموس والشاهد المحسوس فقط، بل إنه يؤثر في
العوائد المستقبلية أكثر فأكثر، فيضيع على العبد الكثير من الوقت والعمر والمال،
وعلى الأمة الشيء الكثير من الطاقات المتنوعة الفكرية والعملية والبدنية وغيرها؛
ألا وهو اللغو.
وقبل عرض المنهج القرآني لها لتستيقن الأنفس شمولية اللغو لجل حياة الناس
اليوم فلنلق نظرة على ما قاله العلماء في تفسير اللغو. قالا بن منظور
(ت 711 هـ) : «اللغو السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره ولا يحصل منه
على فائدة ولا نفع» [1] . وقال الشوكاني (ت 1250 هـ) : «قال الزجاج: هو
كل باطل ولهو وهزل ومعصية وما لا يجمل من القول والفعل» [2] .
وفسر أبو عبيدة (ت 201 هـ) اللغو بكل كلام ليس بحسن [3] .
هذه التعاريف التي ذكروها لكلمة اللغو بينها قاسم مشترك تتلاقى فيه وهو
البطلان وعدم النفع.
والفرقان الحكيم ذكر اللَّغو سبع مرات: مرتين في سياق عدم المؤاخذة على
اليمين اللغو الساقط الذي لا يعتد به ولا يعقد القصد عليه [4] وهذا لا يعنينا الآن
ومرة في معرض تعداد الكمالات الإنسانية والمعاني السامية التي يستحق العبد بها
أن يكون في عداد ورثة الفردوس المؤمنين المفلحين: [وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ] (المؤمنون: 3) . ومرة في سياق يشبه السياق الثاني وهو تعداد تلك
المكارم المثالية والأخلاقيات العالية التي يستحق العبد بها أن ينال بها شرف
المنسوبية إلى الرحمن وكفاها شرفاً والخلود في الغرفات: [وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ
الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً] (الفرقان: 72) . ومرة أخرى أيضاً في
سياق تعداد صفات الذين سيؤتيهم الله أجرهم مرتين: [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا
عَنْهُ] (القصص: 55) . وفي المرات الأربع الباقية إنما ذكر اللغو في مقام
تعداد نعيم الجنة ومحاسنها ونزاهتها عن كل رجس معنوي، وطهارتها عن كل
خبث أخلاقي [5] . فمن أهم ميزات الجنة أنها لا لغو فيها ولا تأثيم.
فأولاً: إن أدنى لفتة للسياق القرآني الذي ذكرت كلمة اللغو فيه يطلعنا على
حقيقة أخلاقية لا ينكرها إلا غافل متجاهل، وهي أن الابتعاد عن اللغو وعدم
الخوض فيه وعدم التلبس به يشكل القمة الأخلاقية في المنظور الإسلامي، فاستحق
العبد المتصف بها وبغيرها مما ذكر في السياق أعلى درجات الشرف المضافة إلى
الرحمن. وأفضل أنواع الجزاء: أن يكون من ورثة الفردوس ويخلد في غرفاته،
ونعمَّا هما.
وثانياً: في هذا الاهتمام البالغ بتجنب اللغو لفتة حضارية هامة أيضاً؛ حيث
يوجه الناس بالتجنيب عن اللغو أي السقط الذي لا نفع فيه إلى الجاد النافع المفيد
وعلى رأسه استثمار أوقاتهم واستغلال أعمارهم فيما ينفع أنفسهم وأمتهم؛ فإن من لم
يتلبس باللغو الباطل يتلبس بالجد الحق، ومن لم يذهب عمره سدى باللغو واللهو
يستغله في النافع والجاد وفي العلوم الصالحة والمعارف المفيدة والأعمال التعميرية
التي عليها انبنى جميع الحضارات. فالتجنب من تضييع الوقت الذي ترشد إليه تلك
الحكمة القرآنية: الإعراض عن اللغو من أفضل العناصر الحضارية التي تكسب
عجلتها حركة وسرعة وتنقذها من البطء والتخلف والتكسل. ولما يحوزه استغلال
الوقت في النشاط والكيان الحضاري من الأهمية القصوى جعل مالك بن نبي (ت
1391 هـ) الوقت ثالث الأثافي في الثالوث الحضاري: الوقت، والإنسان،
والتراب. حسب رأيه [6] .
وإذا انطلقنا مما ذكره العلماء في معنى اللغو وحاولنا تسليط بعض الضوء
على البعدين الكمي والكيفي للغو وصنوه اللهو وسيطرتهما على حياة المسلمين فضلاً
عن الكفار حتى يتحدد لنا بعض التحدد الإطار الذي تستمر حياة الإنسان المسلم
المتخلف فيه وجدنا الأمر ظاهراً كالشمس في رابعة النهار. ففي أدنى لفتة للحياة
المعاصرة في البلاد الإسلامية يجد المرء تلك المظاهر العريضة والمشاهد المنتشرة
للغو استولت على جميع مرافق الحياة ومراكزها ومناشطها. فإن المسلمين حيث
غابت من مدارك حياتهم ومظاهرها العقلية القرآنية الرشيدة ومن ثمة الحكمة بمعناها
القرآني والنبوي الجامع الشامل نشأ من ذلك بصورة دورية فراغ مرعب امتلأ
بمظاهر اللغو واللهو، ففقدوا العقلية الحضارية السديدة، وفقدوا نفسية الشهامة
والإباء والاعتزاز بقيمهم المثلى والثقة بشريعتهم العظمى، وفقدوا الآليات التي
تتكون بها في الفرد والأمة نفسية السيادة والقيادة، وأضاعوا الكماليات التي كانوا
يقودون بها العالم ويسوسونها، فانقلبوا أذلة صاغرين، وصاروا إمعات داخرين.
اللغو بمعناه اليسير يضفي صبغته الممقوتة على جميع صفحات بعض من
المسلمين ومعظم جوانب حياة بعضهم الآخر منهم، مع أن المفروض أن يكون أبعد
خلق الله من اللغو هم المسلمين؛ لوفرة تلك التعاليم القرآنية الإسلامية الرادعة لهم
عن التلبس باللغو إلى درجة أن جعل في المنظور النبوي ترك اللغو شاهداً على
حسن إسلام المرء: «إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» [7] . ولما
يحوزه التجنب عن اللغو من الأهمية القصوى في العقلية الإسلامية، عدَّ النووي (
ت 676هـ) في آخر أذكاره هذا الحديث من ثلاثين حديثاً التي يدور عليها رحى
الإسلام [8] . لكن مع الأسف الشديد بلغ الأمر بالمسلمين في التوجه لهذا اللغو
البغيض واللهو المقيت إلى حد لا تفرق بين حياة مسلم وغيره في الانعكاسات
اللَّغْوية والتظاهرات اللهوية، ولم يقف فُشُوُّ اللغو عند حد الفرد بل وصل إلى
مستوى التوجه الجماهيري؛ فمن هنا تراجع المسلمون تراجعاً حضارياً مرعباً،
فارتبكوا من جراء ذلك في أوحال التخلف والجهالة الجهلاء. ورغم الضربات
القاسية التي كانت تتوالى ولا تزال على جسد أمتهم العظمى بين فينة وأخرى لكنهم
لم يتنبهوا من غفلتهم، ولم يتجنبوا مواطن ذلهم وخنوعهم لما خدرهم به ذلك التلبس
باللغو والممارسة البالغة له، فأورثهم أمراضاً لم يعلموها؛ فكان اللغو من أعظم
العوامل في ازدياد سباتهم في مراقد غفلتهم وجهالتهم.
لعل من أبرز سمات هذا العصر الذي سادت فيه قيم الحضارة الغربية بقضها
وقضيضها على معظم أرجاء العالم اللغو؛ فبينما كان في سالف الأزمان سمة فردية
تبدو في بعض الأحيان على بعض الأفراد فقط، صار اليوم ظاهرة اجتماعية تحدد
كمّاً كبيراً من جوانب حياة كثير من الحشود البشرية، كما أنه من أبرز الكيفيات
التي يتكيف بها كثير من جبهات حياتهم. ترى الرغبة الجماهيرية متوجهة إلى
أنواع اللغو توجهاً جنونياً يضحك منه الذئاب والكلاب. الحشود العظيمة تتكتل على
مظاهر اللغو في الشرق والغرب والجنوب والشمال تكتلاً تتحير فيه الألباب، وتنفق
القوى الكبرى العالمية في هذا العصر على مشاهد اللغو واللهو ومظاهر العبث
والمجون أموالاً طائلة لو أنفقت على محاويج الناس فربما لم يبق فقير على سطح
الكرة الأرضية، ولكن لا لوم عليهم في ذلك من ناحية أنفسهم؛ فإنهم وصلوا بذلك
البث اللغوي إلى قدر كبير من التخدير البشري، ذلك التخدير الذي به وصلوا إلى
جل مآربهم السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم عامة والإسلامي خاصة؛
بحيث ما كانوا يتصورون تحقق ذلك ولا في أحلامهم؛ فحق لهم أن ينفقوا عليه كل
ما أرادوا أن ينفقوا ويدل على ذلك ما اشتهر عن الغربيين من مقولتهم: بإدخالنا
ثلاث سينات بين المسلمين ارتحنا كثيراً: (الرياضة، السينما، الحياة الجنسية
غير المشروعة) [9] .
تُصرف هنا وهناك أوقات نفيسة طويلة على التفرج على اللغو واللهو
والباطل دون فائدة تعود على الفرد والأمة التي لو أنفقت على عمارة البلاد لكفتها،
ولأنقذتها من كثير من أزماتها الاقتصادية، ولخفف عنها تخلفها الحضاري. وفي
غمرة هذا الضياع تنشأ الأجيال القادمة على حب اللغو بمختلف مظاهره وجعله
ركيزة أساسية من ركائز الحياة، فيأخذ مركزاً أصلياً ومحوراً حيوياً في حياة الناس
يدور في فلكه كثير من شؤون حياتهم، ويتشكل حسب الاتجاه اللَّغْوي الاتجاه العقلي
والثقافي عند غير قليل منهم، فيظن كثير من الناس أن اللغو أو ما يعبرون به عنه
حاجة أساسية في حياة الناس ولا يستغنى عنه أبداً.
فهيَّا بنا نذكر طرفاً من مظاهر اللغو:
لغو في القول، لغو في العمل، لغو في الفعل، لغو في النظر، لغو في
السماع، لغو في التفرج، لغو في الدعابة، لغو في القراءة، لغو في الرياضة،
لغو في السوق، لغو في المنزل، لغو في المدرسة، لغو في التجارة، لغو في
الإعلام، لغو في التعليم والتعلم، لغو في الإدارة، لغو في السياسة، لغو في الحب،
لغو في الكراهية، لغو في المنشط والمكره، لغو في العادات، لغو في العلاقات،
لغو في الممارسات، لغو في السلوكيات، لغو في لغو، ظلمات بعضها فوق بعض
إذا ظهرت الجدية النافعة لم يكد يراها.
نعم إن استيلاء اللغو على معظم نواحي حياة المسلمين نجم منه أضرار فادحة
يرزح تحت عبئها الباهظ كاهل الأمة، وتنقض تحت وزرها ظهرها، من أهونها
التسمم الفكري والتوسخ العقلي والذهني والتدنس العملي والإفلاس القيمي والانهيار
الخلقي والتخلف الحضاري إلى جانب أنه أنتج تلبداً عقلياً وبلادة ذهنية وبساطة
فكرية وطبيعة بهيمية أيضاً؛ فصار معظم أهل اللغو نفعيين براجماتيين لا يهمهم
من القيم والمبادئ إلا ما عاد عليهم بنفع عاجل أو آجل إلى ثالوثهم الذي أهداه اللغو
إليهم وهو ثالوث البطون والفروج والجيوب.
انقلبت الموازين، واختلت المعايير، وشوهت المفاهيم، والتبست معيارية
الحق على الكثير فاختلط الحابل بالنابل. ومن أسوأ الانعكاسات السيئة والآثار
السلبية له على المجتمعات كلها فقد الأمن والأمان في الدماء والأموال والأعراض
والعقول، فبسببها تقع اعتداءات تشمئز منها النفوس وتنفر منها العقول.
ألم تر تلك الكوميديات القاتلة للوقت؟ ! ألم تر تلك المسارح الفخمة التي يفدى
في سبيلها الملايين والملايين سواء من المال وسواء من الوقت؟ ألم تر تلك الأفلام
الساقطة تعرض على ملايين الناس عبر شاشات التلفاز والسينما فتوجه الجماهير
إلى الفحشاء والمنكر، وتعوِّدهم على سلب الأموال والأعراض، وتحرضهم على
الاغتيال والانتحار؟ ! أليس من هذا التعويد الذميم ما انتشر في الأوساط المسلمة
من جميع هذه السلبيات وعلى رأسها الانتحار؟ ! فيصرف الجماهير أوقاتهم النفيسة
لها، يتفرجون عليها ساعات تلو ساعات دون أن تعود لا عليهم ولا على أسرهم ولا
على أمتهم بأدنى نفع عاجل أو آجل سوى تعويدهم على الفحشاء والرذيلة أو على
أيسر الاحتمالات قتل الوقت؛ على حد تعبيرهم، فأهدرت خامات إنسانية وطاقات
غزيرة في سبيله. ألم تر إلى ذلك اللغو العظيم والباطل الجسيم وما أدراك ما ذلك
اللغو العظيم: تلك المباريات الرياضية التي تنشأ الأجيال على حبها وهواها بحيث
جعلت إلهاً من دون الله، فتظهر بشكل واضح في جماهير الناس مصداقية قوله
سبحانه: [] أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [ (الفرقان:
43) ألم تر ذلك اللغو والباطل الذي يسيطر على قطاع كبير من الصحافة العالمية
سواء في الشرق أو في الغرب؟ ! ألم تر إلى النسيج العنكبوتي عبر الإنترنت وهو
الأدهى والأمر كيف استولى على العقول واستأسر النفوس؟ ! ألم تر أن أهل اللغو
في كل واد يهيمون ولا يتبعهم في مسالكهم إلا الغاوون؟ فهل من مدكر!
والأكثر إثارة للعجب والدهشة أن كثيراً من المسلمين الذين يقرؤون صباح
مساء قوله تعالى:] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [ (المؤمنون: 3) ، وقوله
جل في علاه:] وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [ (الفرقان: 72) وكثيراً من
الذين يعدون في مصاف المسلمين الواعين الساهرين على هموم الإسلام لم ينجوا
من هوى اللغو في بعض مظاهره كالمباريات الرياضية أو الأفلام غير المجدية أو
غير ذلك مما هم به أدرى بما أملت عليهم أهواؤهم من الفتاوى الباطلة والعلل
الساقطة، فتراهم يصرفون أوقاتاً نفيسة عليها بدون جدوى. ولكن سوف يعلمون!
وإلى الله المشتكى!
__________
(*) كلية أصول الدين جامعة الإمام، الرياض.
(1) لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، دار إحياء التراث العربي الطبعة الثانية، بيروت، 1418هـ 1997م، ج 12، ص 299.
(2) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار الوفاء، الطبعة الأولى، بيروت 1415 هـ 1994م، ج3، ص471 472.
(3) مجاز القرآن، معمر أبو عبيدة بن المثنى، تحقيق فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، بيروت، 1401هـ 1981م، ج2، ص 82.
(4) الشوكاني، ج، ص 301.
(5) انظر: مريم آية 62، الطور 23، الواقعة 25، النبأ 35.
(6) انظر: شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر بدمشق، 1406/1986، ص 50 وما بعدها.
(7) الترمذي، الزهد 11، رقم الحديث 2322؛ ورواه ابن ماجه رقم الحديث 3976.
(8) يحيى أبو زكريا النووي، الأذكار، تحقيق علي الشربجي وقاسم النوري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، بيروت 1412هـ/1992م، ص 645.
(9) الرياضة: (SPOR) السينما: (SINEMA) الحياة غير المشروعة: (SEX) .(171/39)
ندوات ومحاضرات
التعليم بالمغرب على مفترق الطرق!
(1 - 2)
أعد الندوة: د. فريد بن الحسن الأنصاري [*]
المغرب الأقصى كباقي دول العالم العربي والإسلامي شهد، وما يزال يشهد
هزات عنيفة في مجال التعليم سميت كل مرة بـ (مشروع إصلاح التعليم) ،
وفي مشاريع إنما كانت تحاول بالأساس مسخ هويته الإسلامية، واستئصال لغته
العربية. وقد أتسمت في عموهما بأمرين: ترسيخ الفرنكوفونية، وإضعاف
الطابع الإسلامي لكل برامجه ومواده، فكان أن انقدحت عن هذين الأمرين معارك
عديدة منها معركة التعريب التي شهدتها الساحة المغربية منذ أوائل عهد الاستقلال
إلى اليوم، ومعركة مادة التربية الإسلامية، وكل ما له صلة بالدين في التعليم،
هذه المعركة التي ما تزال أدخنة وطيسها تملأ أفق الساحة المغربية إلى الآن.
فاليوم يشهد المغرب مشروع ما سمي بـ (إصلاح التعليم) على مستوى
الوزارتين: وزارة التربية الوطنية وتكوين الأطر، ووزارة التعليم العالي
والبحث العلمي، وباتفاق كثير من الخبراء تعتبر هذه المعركة هي الأخطر من
نوعها على مستقبل التعليم في المغرب منذ عهد الاستقلال إلى اليوم!
من أجل ذلك نظمت مجلة البيان ندوة حول هذه القضية الشائكة تحاول بذلك
استجلاء طبيعة هذه المعركة المصيرية، وتبين طبيعتها وأسبابها، ثم محاولة
استبصار مآلاتها، وقد استدعينا لهذه الندوة أربعة من المختصين في المجال
التعليمي مراعين في ذلك تنوع الاهتمامات وتكاملها، وكل منهم يجمع بين الاشتغال
الدعوي الإسلامي والتخصص التربوي التعليمي المهني، وكلهم طبعا شارك،
ويشارك في خوض معركة التعليم بالمغرب. وهم كما يلي: ·
الدكتور خالد الصمدي: رئيس قسم الدراسات الإسلامية، وأستاذ التعليم
العالي بالمدرسة العليا لتكوين الأساتذة الوطنية، التابعة لوزارة التربية الوطنية،
المكلفة بإعادة هيكلة البرامج والمناهج التربوية، بالنظام التعليمية بالمغرب، في
إطار مشروع إصلاح التعليم.
الدكتور حسن العلمي: أستاذ كرسي الحديث والفكر الإسلامي بجامعة ابن
طفيل بالقنيطرة / المغرب، ورئيس وحدة الدراسات المنهجية الشرعية في الغرب
الإسلامي (الدراسات العليا) بالجامعة نفسها، ثم هو مدير معهد الغرب الإسلامي
للتكوين والبحث العلمي بالقنيطرة. وعضو المجلس العلمي بالمدينة نفسها.
الشيخ الداعية أبو سلمان محمد العمراوي: عضو رابطة علماء المغرب،
خريج معهد البعث الإسلامي للتعليم الشرعي بوجدة المغربية، اشتغل بالإرشاد
الديني في صفوف الجالية المغربية بأوربا، وهو الآن مدير معهد الإمام مالك للتعليم
الشرعي بمدينة سيدي سليمان المغربية.
الأستاذ أحمد إبراهيم: أستاذ العلوم الطبيعية بمدرسة المعلمين بمدينة مكناس
المغربية، منذ أكثر من عشرين سنة، له خبرة في (التكوين البيداغوجي)
للمعلمين، وهو داعية معروف بدروسه في التفسير بدور القرآن والمعاهد الشرعية.
هذا وقد دارت مناقشة القضية كما يلي:
البيان: لا بد في البداية من محاولة تحديد مفهوم (التعليم) في علاقته بمفهوم
(التربية) ، ذلك أنه كثيرا ما قٌرن في تسمية وزارة التعليم، بين ضميمتي: (
التربية والتعليم) ، فإلى أي حد يمكن الحديث عن تداخل المفهومين في العملية
التعليمية؟
- الدكتور حسن العلمي:
في البداية أود أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى مجلة البيان، ومؤسسة المنتدى
الإسلامي التي أتاحت لنا هذه الفرصة للتواصل والحوار مع الفئة المتعلمة، أو الفئة
الباحثة في بلاد المغرب.
والحقيقة أن هذا الموضوع الذي هو موضوع التعليم والتربية هو من
المواضيع التي شغلت بال الباحثين والدارسين، ورجال التربية القائمين على هذا
الشأن خاصة في هذا العصر الذي صار الإسلام فيه يواجه من التغريب، وموجات
الانحلال لإبعاد الناس عن دين الله عز وجل، وفصلهم عن هويتهم وحضارتهم،
فالتعليم في المنظور الإسلامي لا ينفصل أبدا عن التربية، بل إن العلم إنما جاء
لتربية هذا الإنسان، وربطه بالله عز وجل، وبالمشروع الحضاري الإسلامي في
هذه الأرض لإقامة الدين في الأرض؛ ولذلك نلاحظ في القرآن الكريم أن الله - عز
وجل - ربط بين العلم والتربية، قال الله - عز وجل -: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ] (محمد:
19) . فهما أمران متتابعان: (اعلم واستغفر) . وقد بوَّب لذلك الإمام
البخاري - رحمه الله - بقوله: (باب العلم قبل القول والعمل لقول الله - تعالى -:
(فاعلم أنه لا إله إلا الله) وذكر في الترجمة - مما ذكر - قول عبد الله بن عباس -
رضي الله عنه -: " كونوا ربانيين: فقهاء علماء. والرباني الذي يعلّم الناس
بصغار العلم قبل كباره) ، فلا فصل ثمة بين التعليم والتربية. ومن سير السلف
الصالح - رضي الله عنهم - نقتبس هذا النهج، فهذه أم مالك العالية بنت شريك
التي كانت من أذكى خلق الله فطرة، كانت تعلم ابنها وترسله إلى ربيعة الرأي،
وتقول له: (تعلم من أدبه قبل علمه) .
ونحن اليوم إذ نرى واقع التعليم في البلاد الإسلامية، نجد أن مسؤوليتها أمام
الله - عز وجل - يوم القيامة عظيمة، وأنها أمة فرطت في جانب التربية والخلق،
وجعلت التعليم تعليمأ مهنيا، تعليما لتخريج الموظفين فحسب، وليس لتربية
المجتمع وهدايته وتأطيره، ولا نرى هذا إلا في أمة نسيت عقيدتها وأصولها، أما
الأمم التي لها أصول إيديولوجية، ولها أفكار علمانية؛ فهي لا تنفصل أبدا عن
أصولها. فهذه جماعة (الجيزويست) الكنيسة تعتمد التعليم المسيحي والأصول
المسيحية في التربية، ولا تقدم على ذلك شيئا. وكذلك اليهود مهما بلغوا في التطور
العلمي والتكنولوجي لا ينفكون عن عقائدهم في تعليمهم.
- الدكتور خالد الصمدي: فيما يخص التلازم بين التربية والتعليم - كما قال
الدكتور حسن العلمي - أعتبر أن المفهومين متداخلان، وبينهما عموم وخصوص،
فالتعليم: هو أسلوب من أساليب التربية؛ فهي أعم وهو أخص؛ فقد يؤدي التعليم
إلى التربية، وقد لا يؤدي باعتبار طبيعة الأهداف المرسومة لهذا التعليم، والمقاصد
المحددة له. والقرآن نفسه تحدث عن التعليم وعن التزكية، وتحدث عن جملة من
الصور التي يرتبط فيها التعليم بالتزكية، أي بالتربية، فنتج عن ذلك مجموعة من
الصور التي تفترق فيها التربية عن التعليم، أو تتطابق معه. فعلى سبيل المثال:
إبليس كان عالما أتاه الله من العلم ما لم يؤت غيره، ومع ذلك أخفق في الاختبار؛
بسبب فقدان التربية، بسبب الكِبْر والكِبْر لا يكون إلا في شخص لم يتلق التربية،
لذلك كان هدف الرسالات السماوية بالأساس هو إعادة ربط التربية بالتعليم، ولذلك
قال إبراهيم - عليه السلام - في دعوته لأمته: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
(البقرة: 129) ، فطبيعة الرسالة هي هذه.
وإذا انتقلنا إلى واقعنا المعاصر، نجد أن نظامنا التعليمي منذ القديم، كانت
ترتبط فيه التربية بالتعليم، فلم يكن هناك فصل نهائي بين (الأدب) كمصطلح
تربوي بالأساس، وبين (التعليم) . فالمؤلفات التراثية التعليمية كلها تسير في هذا
الاتجاه، نذكر مثلا: كتاب (تذكرة السامع والمتكلم في أداب العالم والمتعلم) لابن
جماعة، أو كتاب القاضي عياض: (الجامع بين العلم وفضله وما ينبغي في روايته
وحمله) ، ونحفظ في ضميمتي (التربية والتعليم) صورا كثيرة من هذا؛ فقد كان
العالم لا يبدأ في درسه إلا بعد أن يصلي ركعتين، والتعليم لم يكن إلا في
المسجد، وللمسجد حرمته، وبعده التربوي وسكينته ... وفعلا التعليم حينما ارتبط
بالتربية كانت له آثار جيدة جدّا، على مستوى تكوين شخصية المتعلم، وعلى
مستوى طبيعة المعارف التي يتلقاها، وطبيعة رسالة العلم الذي من أجله يتعلم.
لكن من مجيء الاستعمار إلى بلدان العالم الإسلامي كان هذا الفصل النكد بين
التربية والتعليم؛ حيث أصبح للتعليم أغراض أخرى غير الأغراض التي كانت
محددة سلفا في النظام التربوي للتعليم الإسلامي؛ حيث ارتبط بسوق المادة،
وارتبط بسوق الشغل، وما شاكل ذلك. وهذا ليس عيبا بإطلاق؛ ولكن المشكل أن
جانب التربية قد أخذ يضمر، ويضعف، ويضمحل في النظام التربوي المعاصر؛
حتى انتهى أمره. ومازلت أذكر هنا مقولة للدكتور المهدي بن عبود - رحمة الله
عليه - حين قال: (مدارسنا تعلم ولا تربي، ولذلك فهي تخرج الأباليس) لأن
إبليس كما ذكرت سابقا كان عالما، ولم يكن مُتَربيا. والحقيقة أن نظامنا
التعليمي الحالي وخاصة في المغرب صورة من صور التعليم في العالم العربي
والإسلامي قد انفصلت فيه التربية عن التعليم، في البرامج والمناهج والوسائل؛
ولذلك أعتقد أن تدريس مادة (التربية الإسلامية) بوضعها مادة في نظامنا التربوي
والتعليمي - أقول مادة - هو نوع من العلمانية: كأننا نكرس صورة مفادها أن
العلوم الأخرى التي يدرسها الطالب من تاريخ، وجغرافيا، وفلسفة، ولغات،
إلخ، ليس من شأنها أن تؤدي إلى تربية إسلامية! ولذلك تجد التلاميذ الآن في
المؤسسات التعليمية قد يعيبون على أستاذ التربية الإسلامية مجموعة من التصرفات،
كالتدخين وغيره، في حين لا يعيبون هذا التصرف نفسه على أستاذ اللغة الفرنسية،
أو العربية، أو الرياضيات! ولذلك نعتبر أن التربية الإسلامية في إطار ربط
التربية بالتعليم يجب أن تكون هدفا، وليس مادة، هدفا ينبغي أن تسعى إليه كل
المواد. كل المواد ينبغي أن تحقق في شخصية المتعلم تربية إسلامية، لكن الذي
حصل هو أن التربية انفصلت عن التعليم، وأصبح رجل التعليم الآن في المؤسسات
الابتدائية والثانوية يمارس التعليم ولا يمارس التربية، باعتباره مسؤولا عن
تقديم مجموعة من المعارف ليس إلا، ولذلك تجد هذا الأثر السيئ في سلوك
المتعلمين الآن، على اعتبار أن ما يدرسونه في المؤسسات التعليمية مجموعة من
المعارف، يطلب منهم استظهار في نهاية الاختبارات السنوية أو الفصلية، دون أن
يكون لهاته المعارف، يطلب منهم استظهارها في نهاية الاختبارات السنوية أو
الفصلية، دون أن يكون لهاته المعارف انعكاسات سلوكية على تصرفات المتعلمين،
سواء تجاه أنفسهم، أو تجاه خالقهم، أو تجاه مجتمعهم، وأعتقد أنه لا مجال لإعادة
الاعتبار لأساتذة التعليم مرة أخرى إلا لإعادة الاعتبار لأساتذة التعليم مرة أخرى إلا
بإعادة ربطهم بالتربية وفقا للنسق القرآني الذي تحدثنا عنه، والقائم على هذا
الثلاثي الذي هو: العلم، والحكمة والتزكية: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
(البقرة: 129) .
- الشيخ محمد العمراوي: الحقيقة هي أنه في تاريخنا الإسلامي، بل في
نصوصنا الشرعية قبل ذلك لا يمكن أبدا فصل التربية عن التعليم، والقرآن الكريم
أشار إلى هذه الحقيقة في آيات واضحة وبينة تتحدث عن وظائف الرسالة المحمدية،
قال - عز من قائل -: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ]
(الجمعة: 2) . فالتعليم مرتبط بالتزكية، والتزكية هي ما يمكن أن يصطلح عليه
اليوم بالتربية بمعناها السلوكي، وإن كان لفظ التزكية أقوى وأعمق، من حيث
الآثار النفسية والمدلولات الباطنية؛ لأن التربية يمكن أن تنصرف إلى الجوانب
المادية؛ فقد تربى جسما ليطول، أو شيئا من هذا القبيل. بينما التزكية أمر يتعلق
بالتطهير، والتطهير هو المقصود بالأساس في هذا المعنى الذي يعبر عنه اليوم
بالتربية. كذلك يقول القرآن: [كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ] (آل
عمران: 79) ، [تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ] (آل عمران: 79) ، [تُعَلَّمُونَ الكِتَابَ]
(آل عمران: 79) يعني وظيفة المعلم أنه يتلقى التعليم مصحوبا، ومقرونا،
وممزوجا بالتربية والتزكية. و [بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ] (آل عمران: 79) أي
تتعلمون الكتاب؛ ففي الحصيلة كل هذه الأصناف: المتعلم، والمعلم، والعالم،
مشمولون في نهاية المطاف بالتربية. فلا انفصام للتربية عن التعليم، ولا للتعليم عن
التربية في التصور الإسلامي الصحيح. إنه لم الغريب أننا عندما نقرأ كتب العلماء
القدامى، حتى في المجالات التي تكون بعيدة عما يسمى اليوم بالتربية، كالنحو،
والبلاغة، والطب ... إلخ. نجد الخطاب التربوي حاضرا بقوة. فالنحو مثلا
في حقيقته علم لساني، وعلم جاف بطبيعته، ومع ذلك نجد ابن مالك مثلا يورد
أمثلة تربوية كثيرة جدا في ألفيته. فالطالب يقرأ قاعدة نحوية عن النكرة عن القضية
الابتداء بالنكرة فيقول:
ولا يجوز الابتدا بالنكرة ... ما لم تفد كعند زيد نمرة
ويذكر أمثلة كلها حكم، فيقول: (ورغبة في الخير خير) . ويقول أيضا:
(عمل بر يزين) ، مثل هذا كثير.
فالعلماء كانوا يهتمون بالتربية وبالتزكية، حتى في أمثلتهم فيما يضربونه من
حٍكم، في مجالس الدرس الذي كان يسوده الوقار والحشمة، فقد كان الشيخ يقوم
مقام الأب ولم يكن هناك نوع من الانفصال أو المشاكسة بين الطالب وبين الشيخ.
هذه أمور معروفة في تاريخ التعليم الإسلامي.
وعلى كل حال فالمجتمع الإسلامي كباقي المجتمعات، لا بد أن تظهر
فيه انحرافات على مستوى التعلم وغيره، لكن تصدي لها علماء وتحدوا عن
آفات العلوم إذا جردت من التربية وصار لها هدف آخر غير القصد التعبدي،
كطلب المنصب أو الجاه أو غير ذلك، وأنت تعلم أن أبا حامد الغزالي ألف في هذا
الصدد كتابه الإحياء ففي مقدمته حملة شديدة على علماء الظاهر: حيث إن هؤلاء
بدلا من أن يصلوا بهذه العلوم إلى معارج الكمال الروحي والتزكية، صرفوا
جهودهم إلى التعلم من أجل المناصب. وجاء بعده ابن الجوزي فكتب كتابه (تلبيس
إبليس) في نقد العلم والعلماء. وليس ذلك نقدا للعلم في ذاته حقيقة؛ لأن العلم عند
هذه الأمة هو أشهى شيء، وأغلى شيء، وإنما هو نقد سلوك بعض المنتسبين
إلى العلم. وجاء بعدهما الحافظ الذهبي وألف كتابا مختصرا، وهو جميل
جدا، والعبد الضعيف يشتغل بالتعليق عليه، وهو في (بيان زغل العلم
والطلب) والمعروف أن المراد بالزغل هو الزيف. فهو في بيان آفات العلوم،
يعني آفات حاملي العلوم، إذا لم يصحب العلم التزكية والتربية.
ولذلك ليس هناك انفصام في تصور هذه الأمة ولا في تاريخها بين العلم
والتربية؛ بينما جاءت هذه البرامج الحديثة اليوم مجردة عن هذا المعنى؛ فهي -
كما تعلمون - برامج جاءت من قوم لا يؤمنون بما نسميه نحن بالتربية؛ لأن
التربية عندهم مفهوما آخر ينظر إلى الإنسان من جانبه المادي فقط، لا ينظر إليه
من جوانبه الأخرى. تلك طبيعة الغرب، وهذا مفهومه لما ينبغي أن يكون عليه
الإنسان في المستقبل. فنحن أخذنا هذه البرامج على علتها، مع تباين المنطلقات،
وتباين المفاهيم، وتباين الماصدقات في نهاية المطاف، فطبقناها على مجتمع لا
يؤمن بها في الحقيقة؛ فأنشأنا جيلا شائها. المصيبة العظمى اليوم أننا بهذه البرامج
التي فصلنا بها التربية عن التعليم، لا نربي الأجيال على شيء، حتى ما نسميه
بـ (التربية الوطنية) هؤلاء الأجيال هم أول من يفرون من أوطانهم وبذلك لا
يتعلمون أي شيء؛ لأنهم ليست لهم أهداف كبرى يتحركون من أجلها. نحن عندنا
العلم - كما قرره علماء هذه الأمة - مقصد في حد ذاته. وهو غاية في حد ذاته؛
فحولناه نحن إلى وسيلة فقد وعندما لا يكون الهدف واضحا فالوسيلة لا قيمة لها،
فالعلم بعناه القرآن صفة من صفات الخشية والتقوى؛ فالقرآن وضع لنا قاعدة تكلم
عنها العلماء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام والإمام الشاطبي مفادها، (كل علم
ليس تحته عمل فهو باطل) ، وذلك أخذا من قوله - تعالى -[وَمِنَ النَّاسِ
وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ] (فاطر: 28) . فالعلم الذي لا يصل بالإنسان إلى هذا المستوى من
الخشية من الخوف من الله، من التعلق بالله عز وجل، ليس علما. بل هذا صاحبه
جاهل. ولذلك حتى في الأمثال الشعبية المغربية، يقولون: (حتى الشيطان عالم) ،
يضرب لمن لم يصل به علمه إلى التقوى والخشية، فالعلم الذي يبعد عن الله -
تعالى- ليس علما، لا يسمى علما بحال من الأحوال.
فهذا واقع هذه الأمة اليوم، فصلت التربية عن التعليم؛ فلم يبق لا تربية ولا
تعليم.
البيان: شيء طبيعي أن يقودنا سياق الحديث إلى معركة (التربية الإسلامية)
باعتبارها مادة معروفة في المقررات الدراسية بالمغرب؛ فقد كانت تفرض حينا
مادة إجبارية، وتترك حينا آخر، وهي كذلك في حال مد وجزر، حسب مذهبية
من تولى الوزراة وأيدلوجيته، من هذا الاتجاه أو ذاك. واليوم تقوم ضجة كبرى
حول محاولة الوزارة الوصية حذف هذه المادة من مقررات التعليم الثانوي، فإلى
أي حد يشكل ذلك خطرا على الجيل؟ وإلى أي حد تسهم فعلا هذه المادة في تكوين
الاتجاه الفكري للتلميذ؟
- د. خالد الصمدي: فيما يتعلق بهذا السؤال، خاصة موقع مادة التربية
الإسلامية في النظام التعليمي والتربوي بالمغرب، لا بأس أن نرجع إلى الوراء
قليلا لكل أتحدث عن المحطات التاريخية التي مرت بها المادة؛ فالمادة مرت
بتسميات متعددة: ففي بداية عهد الاستقلال، أي في الستينيات من القرن الماضي،
كانت مادة التربية الإسلامية في التعليم الابتدائي تدرس تحت اسم (مادة الدين) ،
ومرة تحت اسم (مادة الأخلاق) ، ثم بعد ذلك في التعليم الأساسي والثانوي، كانت
تدرس ضمن اللغة العربية، كانت آنئذ مادة اسمها اللغة العربية والتربية الإسلامية) ،
كانت مقررات التربية الإسلامية غير مبرمجة، ولا معدة، ولا خاضعة لأي قاعدة
من قواعد من البرامج، وغالبا ما كانت تسند إلى أساتذة اللغة العربية. وأستاذ اللغة
العربية في هذه الحالة يكتفي بتدريس اللغة العربية غالبا، ولا يهتم بتدريس التربية
الإسلامية إلا فيما ندر. ثم بعد ذلك في نهاية السبعينيات استقلت المادة بنفسها،
فأصبحت مستقلة عن مادة اللغة العربية. أصبحت التربية الإسلامية مادة، واللغة
العربية مادة أخرى. لكن التربية الإسلامية في هذه الحالة كانت تدرس بأساليب
تقليدية وعتيقة، وبرامجها ومنهاجها لم تكن تخضع بأي حال من الأحوال للبناء
العلمي والمنهجي، ووسائل التعليم فيها كانت ضعيفة جدا؛ ولذلك فإن جيل
الثمانينيات احتفظ بذكريات سيئة عن مادة التربية الإسلامية باعتبار أنها مادة
للحفظ، وأن المواضيع التي تدرس فيها مواضعي جافة لا علاقة لها بالسلوك
اليومي للمتعلم، أضف إلى ذلك أنها لم تكن مادة إلزامية في الامتحانات، فكان
بعض الطلبة؛ نظرا لحسهم الديني، أو لحاجاتهم للاطلاع على الجديد في مجال
الثقافة الإسلامية؛ يحرصون على حضور حصص تلك المادة تطوعا.
ثم بعد ذلك لما أنشئت شعب الدراسات الإسلامية بالجامعة المغربية، في بداية
الثمانينيات، كان لهذا الحدث وقع مهم جدا على واقع تدريس مادة التربية الإسلامية
في التعليم الأساسي والثانوي؛ إذ أصبحت المادة - لأول مرة في تاريخ المغرب
الحديث - تستند إلى مجموعة من الأساتذة الذين لهم تكوين معرفي مرتبط بالعلوم
الإسلامية، لكن بقي الخلل قائما من جهة أخرى، وهي أن شعب الدراسات
الإسلامية في التعليم العالي لا تحتوي على مواد تربوية بالمعنى (البيداغوجي)
للكلمة. يعني أن برامج ومناهج شعب الدراسات الإسلامية، كانت تقتصر بشكل
كبير على مجال العلوم الإسلامية، من فقه وحديث وأصول وتفسير وما شاكل ذلك.
أما المواد التربوية وأقصد (النظرية التربوية الإسلامية) ننفسها، (علم
التربية الإسلامية) ، فهذه لم تكن مادة مدرجة في المقررات أو في المناهج
والبرامج التعليمية؛ وهذا ما انعكس بشكل كبير على وضعية الخريجين؛ لأن مراكز
التكوين التي كان يتكون فيها الأساتذة المتخرجون كانت قاصرة آنئذ عن تكوينهم؛
فالأساتذة المكونون أنفسهم لم يكن لهم تكوين تربوي / بيداغوجي في التخصص
الإسلامي، بقد ما كان لهم تكوين في العلوم الإسلامية العامة. فاقتصر التكوين
على الجانب المعرفي الصرف، في حين أننا ما زلنا نفتقد في المغرب حتى الساعة:
1422/ 2001 التخصص التربوي الإسلامي. لا يوجد عندنا في المغرب
متخصص واحد يحمل دكتوراه الدولة في تخصص (طرق تدريس التربية
الإسلامية) مثلا! علما بأن هذا التخصص قائم بذاته في المدارس المشرقية، وعلى
كل حال هو تخصص متجذر في الجامعات المصرية، والسعودية، والأردنية،
فانعكس هذا على بناء مقررات التربية الإسلامية؛ بحيث ارتبط بجانب العلوم
الإسلامية أكثر مما ارتبط بجانب التربية الإسلامية؛. ولذلك لم يكن للمادة التأثير
المرجو على سلوك المتعلم. لكن ولله الحمد عرفت المادة في خمس سنوات الأخيرة
تطورا مهما جدا، حينما بدا الانفتاح على المؤسسات المشرقية المتخصصة في
مجال التربية الإسلامية عن طريق المؤتمرات التربوية، وعن طريق شبكة
الإنترنيت؛ حيث سهل الدخول إلى المواقع المتعددة المرتبطة بمجال التربية
والتعليم، والمعتمدة في مجال التربية الإسلامية بشكل أخص؛ بحيث أتيحت
الفرصة لتبادل التجارب وتبادل الخبرات في بناء البرامج وبناء المناهج، وبذلك
طورت مؤسسات التكوين عتادها التربوي، ورصيدها المعرفي المرتبط بتدريس
مادة التربية الإسلامية. فكان هناك خريجون أسهموا في رفع مستوى تدريس
المادة. وما زلنا نأمل حتى الساعة فتح سلك التبريز في تخصص طرق تدريس
التربية الإسلامية، وسنعمل إن شاء الله - تعالى - في هذا الاتجاه.
- د. حسن العلمي: محاربة مادة التربية الإسلامية بالمغرب، هي في
الحقيقة من مخلفات الغزو العلماني، والغزو الثقافي الاستعماري الذي غزا أمتنا من
خل الهجمة الفرنسية الفرنكوفونية التي غزت التعليم بالأساس. والآن صار
للاستعمار خطط وأساليب ماكرة في العصر الحديث فلقد يئس المستعمرون من لغة
الحديد والنار فبدلوا السلاح لوجهة أخرى، وهي غزو الأفكار وغزو الضمائر؛
فأول ما فعلوه هو أنهم عزلوا التعليم الديني عن التعليم المدني، ففصلوا هذين بعد
أن كانا مشتركين. وقد كانا إلى عهد قريب شيئا واحد. فنذكر أن في جامع
القرويين، والأزهر، وفي الجوامع الإسلامية، والجامعات العتيقة، كان يتخرج
الأطباء والمهندسون والبيطريون، والمساحون والرياضيون. وكانت العلوم الدينية
إلى جانب العلوم المدنية التي تبني الحضارة التكنولوجية مقترنتين.
ولما أُخرِج التعليم من الجوامع وأدخل الجامعات الحديثة كانت هذه هي نقطة
الفصل بين الدين والدنيا، حتى يتسنى لذلك الفتى المراهق أن يبعد عن دينه،
بدراسته في جامعة بلا مراقبة شرعية ولا تربية دينية. هذه قضية استعمارية
تاريخية معروفة. الذي حصل هو أنه جاء بعد ظهور الصحوة الإسلامية المعاصرة،
وانتشارها في الأرض، ودخولها في مرحلة التمكين في بعض البلاد الإسلامية
ودخولها محنا مع الأنظمة، بدأت فكرة المخطط الذي وضع من طرف هؤلاء
المكرة الصليبيين والماسونيية، ومن يعاونهم في البلاد العربية الذي سمي بمخطط
(تجفيف منابع الأصولية في العالم الإسلامي) ، وأجهز على البقية الباقية من برامج
التعليم الديني، فأقصى الإسلام من كثير من المعاهد المدنية، والمدارس المدنية
وعٌزِلت عن أن تخضع للتأثير الديني والإسلامي، وأبقي للإسلام هذه الحصة التي
تسمى: (التربية الإسلامية) .
ثم لم يزالوا بعد ذلك في كل وقت، وفي كل مرحلة من مراحل التغيير
السياسي؛ فكلما جاءت حكومة نظرت لتكون (أرقى) من الحكومة التي سبقتها في
التضييق على التربية الإسلامية وتقزيمها، إمعانا في محاربة الإسلام، فحوربت
المادة من جهتين:
أولا: من جهة تقزيم مقررها، وتقزيم ساعاتها وأعطى لها مُعامل ضعيف
جدا! فمُعامل اللغة الفرنسية مثلا - بتأثير من الاتجاه الفرنكوفونية بالمغرب - يقوم
بخمسة أو ستة، بينما معامل التربية الإسلامية لا يكاد يتعدى الواحد، وحصة
واحدة في الأسبوع. ثم بدأ الناس يجادلون ويناقشون، ويأملون أن تصير في
المخطط الحديث للإصلاح الآن مادة اختيارية، بل لم يسموها التربية الإسلامية
وإنما سموها: (الحضارة الإسلامية) . وكانت الجدالات والنقاشات في اللجان التي
وكلت إليها مهمة تهيئة مشروع الإصلاح أن يحصر تدريس مادة التربية الإسلامية
في المستوى الابتدائي والإعدادي. وكان بعضهم يتبجح ويقول: عار علينا أن نعلم
التلميذ الدين الإسلامي وهو في سن المراهقة؛ بل الواجب أن يتعلم ذلك في الصغر،
أي في طفولته الأولى. هكذا أرادوا حتى إذا وصل سن المراهقة عزل عن دينه،
حتى يتسنى لهم ببرامجهم التعليمية الزائغة أن يفسِّقوه ويبعدوه عن دينه. ومن هنا
فهذه المادة أصبحت لا تؤدي مفعولها الحقيقي وأثرها المرجو، وإن كان الله -
سبحانه وتعالى - لا يترك هذا الدين من غير مؤثر؛ فعلى هزال ما فيها وقلة
أساتذتها، فإنها لا تخلو من تأثير.
أما الوجهة الثانية التي حوربت من خلالها التربية الإسلامية فهي أنه أدخل
إليها أساتذة غير مختصين في هذه المادة، بل أساتذة - في بعض الأحيان - لا
يمثلون القدرة الإسلامية، قد تجد منهم المدخنين، والسكارى والمعربدين، بل
والملاحدة أحيانا يدرسون التربية الإسلامية؛ حتى يقال: هذا هو الإسلام. الإسلام
هو قول بلا عمل، مرجئة جدد يظهرون الآن في هذا الزمان ليعلموا الناس أن
الإسلام في القلب فقط، لا في العمل.
- الشيخ محمد العمراوي: من الخطأ التاريخي لهذه الأمة أن يتحول التعليم
في المغرب إلى تعليم علماني محض، المغرب الذي كان قبلة طلاب العلم في
المشارق والمغارب، وتأسست فيه أو جامعة في التاريخ والتي هي جامعة القرويين،
جامعة القرويين لم تكن تدرس الفقه المالكي، والحديث النبوي، والنصوص
القرآنية الكريمة فقط، بل كانت تدرس كل علوم الكون، كعلم الفلك والرياضيات،
كل العلوم الكونية. فالقرآن هو الذي أسس الأصول لنظرية المعرفة العلمية. ففي
كتاب (التراتيب الإدارية) لعبد الحي الكتاني فصل رائع جدا يتعلق ببيان ذلك. إلا
أنه عندما جاء الاستقلال تغير كل شيء مع الأسف، هذا الاستقلال الذي كان آباؤنا
وأجدادنا يموتون من أجله؛ لا ليستقل المغرب عسكريا، ويبقى مستعمرا في جانبه
الثقافي، وإنما ليستقل استقلالا تاما، ومن بين معاني استقلاله التام أن يكون تعليمه
مبنيا على الإسلام من أوله إلى آخره. فعلمنة التعليم خطأ كبير وقع فيه من يمكن
تسميته ب (المشرع المغربي) الذي وضع هذه البرامج، إن كان مغربيا في حقيقته.
هذا جانب الآخر أن مادة التربية الإسلامية، جُعلت مادة معزولة مظلومة من
جوانب متعددة فهي أولا لا تحتوي على مقررات جيدة، وإنما يدرس فيها ما اتفق.
إلا أن هذه السنوات الأخيرة بدأ فيها بصيص من النور يظهر في المقررات دون أن
يُختار لها الأستاذ الكفء. ولعلك تعلم أن بعض الأساتذة الذين كانت تخصصاتهم
في التاريخ والجغرافيا، أو الرياضة البدنية، أو اللغة العربية، إذ بهم بين عشية
وضحاها يدرسون مادة التربية الإسلامية! وأنتم تعلمون ذلك، ثم لا يختار لها حتى
الوقت المناسب وطامة الطوام وداهية الدواهي أنه لا قيمة لمعاملها؛ ومن ثم فإن
الطلاب لا يُقبلون عليها، ولا يرغبون فيها.
إذن فالتعليم المغربي مظلوم كله؛ لأن عُزل عن التربية الإسلامية. ثم ظلمت
مادة التربية الإسلامية بهذه المظالم كلها، مع ذلك فوجودها خير من عدمها، وهناك
كثير من التلاميذ إنما تعلموا الصلاة وتعلموا الوضوء بهذه الطريقة. بل كثير من
الأسر وصلهم الإسلام من جديد، يعني الالتزام به، والعودة إليه، وصلهم عن
طريق أستاذ مقتدر من أساتذة التربية الإسلامية يزرع هذه الروح في تلامذته،
ويحولِّهم إلى دعاة داخل بيوتهم، وداخل أسرهم. إذن لا يجوز، ولا أسمح
باعتباري مواطنا مغربيا، ولا أقبل بحال من الأحوال أن تحذف هذه البقية الباقية
من التعليم الإسلامي في الأمة - على علاتها - من برامج التعليم. بل نحن نطالب
أن تكون مادة التربية الإسلامية هي المهيمنة على التعليم كله، بل وأن يكون التعليم
كله يدور في فلك التربية الإسلامية، كما كان في السابق.
- الأستاذ أحمد إبراهيم: إن حركة المد والجزر التي تتعرض لها شواطئ
مادة التربية الإسلامية بفرضها تارة وإلغائها أخرى، أو بتقلص الساعات
المخصصة لها، أو بتهميشها من خلال تقليص معاملها، وذلك حسب فكر من يتولى
الوزراة لخير دليل على أهمية هذه المادة في بناء شخصية الفرد المسلم، وتعريفه
بما له وما عليه؛ بما يسهم في صنع أجيال بناءة ذات قيم ومثل عليا تدفعها إلى
التضحية، وإيثار المصلحة العامة على الخاصة. ومما لا شك فيه أن الاتجاه
الفكري للتلميذ يتأثر كثيرا بهذه المادة، خاصة إذا اجتمعت مجموعة من العوامل
نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- المضامين والقيم والمثل التي تقوم عليها المادة.
2- شخصية المعلم أو الأستاذ ومدى تشبعه بهذه المثل والقيم، ومدى تأثير
سلوكه بتلك المضامين، ودرجة التواصل والمحبة بينه وبين التلاميذ، وهذا عنصر
عظيم الأثر على درجة إقبال المتعلمين على المادة؛ فالمريض قد يعود إلى عيادة
الطبيب منجذبا بطريقة معاملة الطبيب وخلقه، رغم وجود أطباء آخرين أكثر منه
كفاءة، لكنهم أقل منه إنسانية ورحمة.
3- منهجية تقديم مادة التربية الإسلامية؛ فإن إضافة المذاق الحلو إلى الدواء
المر يجعله مستساغا مطلوبا؛ فكيف إذا كان الدواء في ذاته حلوا، وأضفنا إليه
حلاوة أخرى من خلال منهجية تقديمه؟
4- قدرة المعلم أو الأستاذ على تنزيل المفاهيم والمضامين على واقع المتعلم،
وبيان إمكانية تطبيق المضامين، وأثر ذلك على مستوى الفرد والجماعة.
5- امتداد العلاقة بين المعلم والمتعلم إلى خارج حدود قاعة التدريس أمر مهم
جدا لإزالة الحواجز النفسية التي قد تكون عند الكثير من التلاميذ، ولضمان الوقوف
على مدى تطبيق التلاميذ لما يقدم لمهم داخل قاعة الدرس؛ لمعرفة مواضع الخلل
إن وجد، والإسراع في ترميم ذلك قدر الإمكان.
البيان: جاءت المسودة الأولى لإصلاح التعليم بالسلكين الإعدادي والثانوي
متضمنة لشعبة الموسيقي. وكذلك لما سمي بمادة (علوم الحركة) التي قيل: إنها
كناية عن (مادة الرقص) وفي المقابل كان هناك إغفال ملحوظ لمادة التربية
الإسلامية في كل الشعب الأدبية والعلمية؛ فهل يمكن اعتبار وزارة التعليم كسائر
الوزارات تتولاها أي حكومة لتفعل بها ما تشاء، أم أنها وزارة (وطنية) فعلا،
كما تنطق تسميتها (وزارة التربية الوطنية) ، أي أنه عمل يهم كل أبناء هذا
الوطن، ويخدم عمقه العقدي وهويته التاريخية، ولا يجوز استغلاله لخدمة فئة ذات
أيديولوجية خاصة؟ فهل يمكن اعتبار التعليم فعلا مجالا حقيقيا مفتوحا؛ لتصريف
الإيديولوجيات والمذهبيات الفكرية؟ ألم يكن حريا أن يعتبر وزارة من (وزارات
السيادة) كما هو حال وزارات العدل، والداخلية والخارجية، ثم الأوقاف الشؤون
الإسلامية، ولا وزراة من (وزارات الحكومة) كما هو مصطلح عليه في الشأن
السياسي بالمغرب؟ ثم إلى أي حد يعتبر هذا الأمر مؤثرا في الاستقرار النفسي
والأمن الروحي للوطن؟
- د. خالد الصمدي: دعني أؤكد لك في البداية أن المشروع التعليمي لأي
بلد تتقاذفة التوجهات التي تحاول ما أمكن تصريف مواقفها من خلال التحكم في
مستقبل البلد الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، وما شاكل ذلك. تبدأ الدورة
عبر التمكن من ترسيخ نمط تعليمي معين، ومحدد وبالاطلاع على النظام التعليمي
لأي بلد يمكنك أن تحدد مستقبله على مدى 15أو 20 سنة. لذلك يعيش المغرب
الآن نقلة نوعية، في محاولة إعادة النظر في مناهج التعليم بصفة عام، من الأوَّلي
إلى التعليم الجامعي، ويمكن أن أؤكد لك أن هذه الحركية التي يعرفها ملف إصلاح
التعليم في المغرب الآن، وبهذا الزخم الكبير تحدث لأول مرة منذ استقلال المغرب!
إذ إن إصلاح مناهج التعليم منذ بداية الاستقلال إلى الآن كانت توكل إلى أشخاص
بعينهم خبراء في المجال التربوي، يعتكفون في معتكفات خاصة، فتعمد الدولة
على خبرتهم وتجربتهم لإنجاز برامج ومناهج يمكنها أن تلبي حاجة المغرب
المتزايدة في هذا المجال، لكن إعادة النظر اليوم بشكل جذري في برامج ومناهج
التعليم بمحاولة إشراك فئات واسعة من خبراء مغاربة في هذا المجال هو أمر في
اعتقادي يحدث لأول مرة بهذا الشكل، ولذلك قد تعتبرها محطة مهمة جدا لمحاولة
ترسيخ وهيمنة النظرة التربوية الإسلامية للتعليم كما قد يعتبرها غيرنا محطة مهمة
جدا لترسيخ وهيمنة التصور الأيديولوجية والسياسة الموجودة عندنا في المغرب،
ونظرا لطبيعة الحكومة التي تسيِّر المغرب الآن؛ فمن الطبيعي أن يكون هناك
صراع مواقع؛ لأنني ذكرت لك أن التحكم في النظام التعليمي، ومحاولة ترسيخ
نمط معين في بداية الألفية الثالثة سيحكم مستقبل المغرب لعشرين أو ثلاثين سنة
قادمة! لذلك لا عجب ولا غرابة في أن نرى هذا الصراع الكبير جدا المتعلق بإعادة
النظر في البرامج والمناهج.
أما فيما يتعلق بما ذكرتم من كون مجموعة من الشعب الجديدة التي أدرجت
في مسودة المقترحات التي هي مجرد مقترحات حتى الساعة: شعبة الموسيقى،
وشعبة علوم الأنشطة الحركية التي هي تسمية جديدة لشعبة التربية البدنية والرياضة،
بالإضافة إلى شعب أخرى كالتربية التشكيلية، وغيرها من الشعب؛ فيما يتعلق
بالرقص في المسودة التي بين أيدينا الآن لا توجد مادة بهذا الاسم، وإن كانت هذه
الشعبة حينما تحمل اسم (علوم الأنشطة الحركية) فيمكن أن يندرج فيها كل ما
يتعلق بالأنشطة الحركية، بما فيها ما ذكرتم؛ لأن الأساس هو إقرار الشعبة أولا،
أما الحدي عن محتويات الشعبة فأمر داخلي. إذا قرت الشعبة فيمكن أن يقرر في
داخلها من المواد ما يمكن أن يحقق هذا المفهوم.
أوكد مرة أخرى أن المجال مفتوح جدا في النظام التربوي التعليمي الآن،
وخاصة في التعليم الثانوي لإدخال أكبر عدد ممكن من الشعب؛ بحيث وصل عدد
الشعب المقترحة الآن إلى أكثر من 17 شعبة، وهذا لم يكن في التعليم الثانوي
الحالي المعروف بما فيه التعليم التقني والعلمي والأدبي. الدافع الأساسي لهذا هو
محاولة الارتباط بسوق الشغل، ومحاولة (مَهْنَنَة) التعليم، وخاصة الاهتمام
بالمقاولات الصغرى والمتوسطة، لكن هذا لا يخلو طبعا مما ذكرت سابقا من
صراع أيديولوجي! لإثبات شعبة ونفي شعبة أخرى. وإذا ما اتجهنا إلى مادة
التربية الإسلامية كما ذكرتم، فإننا سنجد أن المقترحات التي كانت في المسودة
السابقة حقيقة حملت إقصاء لمادة التربية الإسلامية في حوالي 13 من أصل 17
شعبة! واقترح بديلا عنها مادة تسمى ب (مادة الحضارة الإسلامية) وأدرجت في
(المكون الاختياري) أي أنها مادة اختيارية يمكن أن يختارها الطالب في
الاختبارات، ويمكن أن يختارها وشيء طبيعي أنه لو وضعت أمام مادة الحضارة
الإسلامية مجموعة من الاختيارات الأخرى كالإعلاميات، أو الوسائل السمعية
البصرية، وغيرها من المواد المشوقة اليوم، فشيء طبيعة أن يختار التلميذ المواد
ذات الصبغة التلقينية المعتمدة على الحفظ وما شاكل ذلك.
- الاستاذ أحمد إبراهيم: نعم التعليم مجال خصب ومناسب جدا لتصريف
الأيديولوجيات والمذهبيات الفكرية، بل أظنه أنسب المجالات لذلك وخاصة وهو
يستقبل الإنسان طرياَ يسهل تشكيله وإدماج مادة الموسيقى وعلوم الحركة (مسرح،
رقص، ... إلخ) في ظل اكتظاظ البرامج التعليمية بالعديد من المواد المختلفة
الطباع، وفي ظل الساعات المحددة التي يقضيها التلميذ بالمدرسة التي لا تقبل
الزيادة؛ سيكون بلا شك على حساب مادة من المواد الأخرى المدرسة، وبالتحديد
مادة من المواد التي يسميها الكثيرون بالمواد غير الأساسية وعلى رأسها - مع
الأسف - مادة التربية الإسلامية التي يقلصون الساعات المخصصة لها عاما بعد
عام، فلا يخفى على أي إنسان ذي بال أن ذلك يدخل ضمن منهجية التدرج في
تهميش مادة التربية الإسلامية لطمس معالم الشخصية المسلمة.
- البيان: علمنا أن اللجنة الوزارية اقترحت بدل مادة (التربية الإسلامية)
مادة (الحضارة الإسلامية) فما رأيكم في هذا الحرص على استبدال مصطلح (
تربية) ؟ وما يضير المادة أن تسمى بهذا الاسم أو ذاك ما دامت مقيدة بنسبة (
الإسلامية) ؟
- د. خالد الصمدي: هذا سؤال مهم جدا يحتاج إلى بسط لأنه سؤال
جوهري ومحوري. فمصطلح (التربية الإسلامية) يَسِمْ مادة تعليمية في النظام
التربوي التعليمي في الغرب - هذا المصطلح آثار كثيرا من الجدل، ولا يزال،
ويمكن أن أؤكد لك أنه في بعض البلدان العربية أيضا، هناك صراع كبير جدا
حول محاولة تغيير اسم (التربية الإسلامية) ، رغم أن المسيحيين في مصر يشكلن
أقلية، ولكن مع ذلك يدافع كثير من المهتمين بمجال التربية والتعليم في مصر عن
تسمية (التربية الدينية) عوض (التربية الإسلامية) ، والآن المصطلح الرائج في
مصر هو مصطلح (التربية الدينية الإسلامية) وأعتقد أن هذه محطة أولى في
اتجاه حذف صفة (الإسلامية) ، وإبقاء (التربية الدينية) .
أما عندنا في المغرب - هو بلد إسلامي لا أقلية مسيحية فيه - فالغريب أن
نفس الشيء يقع لأن الصراع التعليمي الآن في البلدان العربية والعالم الإسلامي يكاد
يتزامن، بحيث إن مشاريع الإصلاح الآن موجودة في الأردن، وفي لبنان، وفي
مصر، وفي غينيا من الدول الإسلامية. ونحن عندنا في المغرب شيء طبيعي أن
ندافع عن مصطلح (التربية الإسلامية) ، وألا نرضى عنه بديلا؛ لأن المقترحات
التي كانت هي (العلوم الإسلامية) ، و (الحضارة الإسلامية، (والفنون الإسلامية) .
نحن لن نقبل هذا لسبب بسيط هو أن تلك التسميات الأخرى هي عبارة عن
تخصصات توجد حتى في الجامعات الأوربية، والمؤسسات الغربية. فالحضارة
الإسلامية يدرسها حتى اليهود والنصارى وغيرهم باعتبار أنها ثقافة عامة، لكن
(التربية الإسلامية) باعتبارها نسقا خاصا له ارتباط بالجانب الاعتقادي، والتعبدي،
وما شاكل ذلك، وكذا التوجيه السلوكي للإنسان الصحي، والبيئي، والإعلامي،
والتواصلي، والأسري، والاجتماعي ... إلخ، لا يتم إلا بالتربية الإسلامية.
فهذا كله هو روح مادة التربية الإسلامية، وهي بهذا لا يمكن أن يتلقاها إلا
المسلم. فبما أننا في بلد مسلم، وأن نظامنا التعليمي يهدف إلى تكوين الإنسان
المسلم الذي يعتز بعقيدته ودينه، إذن المصطلح المناسب في اعتقادي هو (التربية
الإسلامية) لا غير. وإن كان التحدي الكبير الذي نواجهه حاليا - بالإضافة إلى
المصطلح - هو في محاولة تمتين التطابق والانسجام بين طبيعة التمسية، وطبيعة
المحتوى؛ ذلك أن هذا من المفارقات الكبيرة جدا التي نعيشها الآن؛ إذ إن المادة
هي تحت اسم التربية الإسلامية، كلن المحتوى هو مرتبط بالعلوم الإسلامية أكثر،
من فقه وحديث، وأصول، وهذه النقطة آثارت تساؤلات كبيرة جدا في أكثر
المحاضرات والندوات واللقاءات العلمية، التي نظمت على الصعيد الوطني،
بحيث كانت هنا حسب ما أتذكر حوالي ثلاثة مقترحات: فمنهم من أقترح تسمية
(العلوم الإسلامية) حتى ينسجم المحتوى مع المضمون، ومنهم من اقترح الإبقاء
على مادة (التربية الإسلامية) ، ولكن مع إعادة النظر في المحتوى كلية كلي
يتلاءم مع المحتوى.
ونحن نرى أن هذا الاقتراح الثالث هو الأهم؛ بحيث نعتقد أن جميع المواد
التي تحمل صفة (التربية) في النظام التعليمي لها طابع تطبيقي، ولها ارتباط
واسع جدا بالجانب السلوكي. فأنا لا أتصور أن أستاذًا للتربية البدنية على سبيل
المثال سيجمع التلاميذ في فصل من الفصول، ثم يحدثهم على تاريخ التربية البدنية
طيلة الموسم الدراسي؛ فهم تربية بدنية من حيث إنها سلوك عملي، وممارسة بدنية.
كما لا أتصور أن أستاذ الفنون التشكيلية، أو التربية الفنية، أو الرسم سيجمع
التلاميذ في فصل، ثم يحدثهم على (بيكاسو) ، وعن تاريخ الرسم فقط دون أن
يعلمهم كيف يستعملون الفرشاة ويخلطون الألوان. نعم الجانب النظري ضروري،
كلن بهامش ضيق وتابع. فالجانب التطبيقي العملي هو الجانب المقصود بالأصالة
في مسمى (التربية) . كذلك (التربية الإسلامية) فإن الجانب المعرفي فيها لا
يغفل، لكن الجانب العملي التطبيقي هو الذي يجب أن نقصد إليه في المقررات،
والبرامج، والمناهج لبناء سلوك التلميذ المغربي حتى يكون له سلوك تعبدي،
وسلوك عقدي، أو قل بكلمة جامعة: سلوك إسلامي، داخل المجتمع، وداخل
الأسرة، وتجاه وسائل الإعلام، وتجاه البيئة.. وهكذا.
هذه السلوكيات كلها ينبغي أن توجه التربية الإسلامية وتصوغها. ولذلك
وينبغي في اعتقادي أن تكون وحدات التربية الإسلامية بدل علوم القرآن، وعلوم
الحديث، والأصول، ينبغي أن تكون وحدات مرتبطة بالسلوك التعبدي، فتكون
هناك (تربية تعبدية) ، (تربية عقدية) ، (تربية فكرية) ، و (تربية اجتماعية) ،
(وتربية أسرية) و (تربية تواصلية) ... إلخ، من حيث إننا نواجه يوميا
تربية مضاداة للتربية الإسلامية مما تعرض وسائل الإعلام والمعلويات يوميا.
فلذلك أعتقد أن هذه المحاور التربوية هي وحدات مكونة لمادة التربية
الإسلامية باعتبار أنها تنصرف مباشرة إلى المتعلم. فهذا الأمر يحتاج في الواقع
إلى إعادة النظر في هيكلة مقررات وبرامج ومناهج مادة التربية الإسلامية في
التعليم العام لكي ننتقل من تدريس العلوم الإسلامية إلى تدريس التربية الإسلامية.
علما أن العلوم الإسلامية نفسها هي المادة الخام التي ستشكل جل هذه المناهج
والبرامج. وعلى سبيل المثال عوض تدريس درس تحت عنوان: (أسباب
النزول) ، فنتحدث فيما هو معرفي عن تعريف أسباب النزل، وعن أنواعها،
يمكنني أن أتحدث في إطار التربية الإسلامية عن مقاصد تلك الأسباب، وآثارها
على مستوى التربية الإيمانية مثلا، أو التربية الصحية، أو التربية البيئية،
أو التربية الاجتماعية والأسرية ... إلخ موظفا في ذلك نصا من القرآن أو من
السنة يتضمن مفاهيم عقدية، أو اجتماعية أو صحية أو وقائية، لكن يوظف فيه
سبب نزول الآية، أو سبب ورود الحديث بما يخدم الجانب السلوكي
التطبيقي للتلميذ.
على أن التلميذ في مرحلة التعليم الثانوي، ومرحلة التعليم الأساسي ينبغي أن
يتوجه التكوين بالنسبة إليه إلى المجال السلوكي والمجال الوحداني؛ بحيث أنه في
مرحلة تشكيل التصورات والمفاهيم وصنع الاتجاهات. أما المجال المعرفي فيمكن
أن يتدارك في أي وقت، وله مجال آخر في غير التربية الإسلامية؛ ذلك أن
الجانب السلوكي والجانب الوجداني إذا حرم منهما الطفل في مرحلة ما بين عشر
سنوات، وبين ثمانية عشر سنة من عمره، فإني أعتقد أنه يصعب أن يكسبه فيما
بعد؛ بخلاف الجانب المعرفي الذي يمكن يُتدارك في كل وقت.
- الأستاذ أحمد إبراهيم: الاقتراح المقدم لتغيير اسم مادة التربية الإسلامية ما
هو إلا خطوة من خطوات تهميش مادة التربية الإسلامية مادة تحكمها قواعد فقهية،
وأصول، ونصوص صحيحة، ومحفوظة أما الحضارة فهي تشتمل على مضامين
تعكس وجهات النظر المختلفة والتيارات أكثر مما تعكس الحقيقة الدينية الصافية،
بما يضمن سهولة تمرير الأيديولوجيات والمذهبيات الفكرية إلى أذهان المتعلمين.
البيان: هناك من يرى أن التعليم كي يكون ناجحا فيجب أن يتمتع بالحرية،
فإنه يختار قيمه عن اقتناع، أما إذا فرضت عليه فإنه يتمرد عليها، ويحدث له
حينئذ انفصام شخصي، ومفارقة للمجتمع، بينما يرى آخرون أن التعليم يجب أن
يلتزم بقيم المجتمع الذي ينهل من ماله العام، والذي به يكون استمراره. كيف
يمكن مقاربة الأمرين: الحرية والالتزام في التربية والتعليم؟
- د. خالد الصمدي: يمكنني أن أقول إنه لا يوجد نظام تعليمي يعتمد هذا
المفهوم الذي ذكرتم، وهو الحرية المطلقة في تلقي وتعلم القيم والمبادئ؛ فكل
مجتمع له قيمه مهما ادعى من الحرية، وتعليمه تبع له. نعتقد أنه حتى الانفلات
من القيم بصفة نهائية هو سلوك قيمي، أي هو قيم في حد ذاته، فلا يمكنك أن تنفك
من القيم مطلقا، إلا أن تقع في قيم أخرى: ولذلك كان الانفصال بين النظام
التعليمي والقيم أمر غير منطقي، والدعوة إليه خدعة؛ إذ لا بد لكل تعليم أن يرتبط
بقيم محددة كيفما كان نوعها، إذن! مفهوم الحرية في هذه الحالة هو مفهوم نظري
ليس إلا؛ فليس له طابع تطبيقي عملي. فتوجب على كل نظام تعليمي أن يحدد
استراتيجية كبرى بأن يحدد مقاصد وأهدافا عامة، ولا يخلو أي نظام تربوي تعليمي
من هذا. وأعتقد أن الإشكال ليس في الإلزام والالتزام بقيم محددة، إنما هو في
طريقة تبليغ هذه القيم، وطريقة نقلها إلى الأجيال، فإذا كان هناك أسلوب تقليدي
يعتمد التلقين، يعتمد الحفظ المجرد، ويعتمد النظريات التربوية البالية فشيء أكيد
أن أثر هذا التعليم في نقل القيم سيكون ضئيلا، ويكن ضعيفا؛ لأنه يعتمد بشكل
كبير على السلطة، أكثر مما يعتمد على الحكمة، أما إذا كان نقل القيم بناء على
ثلاثة أمور:
الأول: رصد حاجيات المتعلم المناسبة له.
الثاني: مخاطبته بالوسائل التي يفهمها.
والثالث: إيصال هذه المفاهيم بالوسائل المبنية على الحوار والنقاش والإقناع.
فشيء أكيد أن هذه القيم تنتقل بسلام من جيل إلى جيل آخر. فأنا لا أرى أن
الأزمة أزمة علاقة بين الحرية والالتزام بقدر ما أرى - والله أعلم - أن العلاقة هي
علاقة تكامل بالأساس بينهما حتى يتم نقل القيم إلى المتعلم بشكل ينساب إليه، دون
أن يلحظ نوعا من القهر، أو نوعا من الإجبار. وأعتقد أن هذا هو التحدي الكبير
الذي يرفع في وجه الأنظمة التعليمية. فالأزمة ليست أزمة مناهج، بقدر ما هي
أزمة طرق تعليمية، ووسائل تربوية.
- د. حسن العلمي: الحقيقة أن هؤلاء الناس ليسوا أحرارا في أفكارهم.
القوم عبيد لمنظومة علمانية تؤخذ وترضع من لبان العولمة الثقافية. وما يسمى
الآن ب (الثقافة الكونية) ، أو (الثقافة الإنسانية) التي ليس لها هوية، تجعل
الإنسان لا هو مسلم، ولا هو يهودي ولا هو نصراني، ولا هو مجوسي، يعني
(دعه يقل، دعه يفعل، دعه يتكلم) . هذه الحرية هي نوع من الحيوانية البهمية
التي تتبع الغرائز والأهواء والأذواق والشهوات، ولا تحكم المنطق والعقل، ولا
تحكم ما ينفع الأمة، ولا ما يقدم الخير لها.
يعني لو كان هؤلاء الناس أحرارا في أفكارهم حقا، وكانوا يصدرون عن
ذواتهم وعن اجتهاداتهم، وكانوا أصحاب مبادئ لكان الكلام معهم كلام الرجال مع
الرجال، لكن الوضع غير هذا؛ ولذلك فإننا نقول: إن الذين تأخذهم الغيرة على
أوطانهم، وعلى لغتهم، وعلى حضارتهم يتكلمون من منطق سليم، ويرون أن
الأمة التي تنفق الملايين، وتنفق من دمها على هذه الأرض، وعلى هذه الحضارة،
يجب أن يُحترم مشاعرها، وتحترم هويتها. فالأمة لا تريد أن تدفع مالا لتحارب
به، تدفع مالا لتحرق نفسها في نار جهنم. هؤلاء الناس يريدون مجتمعا يرتبط
بالأرض، والأمة تريد قوما يرتبطون بالسماء، يرتبطون بالله عز وجل
فالأمة التي تختار الدين وتختار الإسلام، هي أمة مسلمة فلماذا يفرض عليها من
طرف نخبة علمانية قليلة أن تخرج عن ذاتها وتكفر بربها؟
فالعلمانية اليوم بالمغرب قد تتجلى عبر صوت الأمازيغية التي تنادي بتعليم
اللغة الأمازيغية، والتكفير بالأمازيغية، والكتابة بالأمازيغية ليقولوا للعلم:
انظروا.. هؤلاء الناس جذورهم كانت غير إسلامية، يريدون بذلك العودة إلى
الحضارة البرغواطية، وفكر الساحرة جارزيس يعني الكفرة الذين كانوا يعبدون
الأوثان في بلاد المغرب، ولذلك يرفعون هذه الشعارات، ويقولون إن الإسلام
دخيل، وإن العرب غزاة، مع أن الإسلام هو الذي صنع المغرب. الحقيقة أن
حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الأمة. وحرية الأمة في عقيدتها وفكرها أولى من
حرية الأفراد النشاز الذين هم شرذمة قليلون مقلدون للغرب، وليسوا رجالا
مفكرين من الذين يمكن لهم أن ينظروا، أو يقبل قولهم في مثل هذا المجال.
- الأستاذ أحمد إبراهيم: إن الحرية بدون التزام فوضى مقنعة، ودعوة إلى
تمزيق الجسد الواحد للأمة التي يمثل كل فرد فيها عضوا منه. قال أحد علماء
التربية في أمريكا: (إذا أردت أن تعلم ابنك القيم، والمثل والمبادئ؛ فعلمه إياها
في الوقت الذي لا يناقشك فيه) . فإذا أضفنا إلى تجربتنا بأرض الواقع قول هذا
العالم، أمكننا الجزم بأن الالتزام بقيم ثابتة، نلقنها للمتعلم، وندربه عليها،
ضروري في المراحل الأولى للتربية التي لا يحسن فيها المتعلم الاختيار على التقليد
أكثر من اعتماده على العقل المستقل على أن نعطي له في مراحل متقدمة الاختيار
بما لا يناقض مع جوهر مفهوم الحرية، فلا نضر نفسه أو مجتمعه. وصدق من
قال: (من يكن راحما فليقس أحيانا على من يرحم) ، ففي فرنسا مثلا يمكن
اختيار المعهد أو الكلية التي تدرس فيها بحرية في أي مدينة، ولكنك إذا قبلت؛
فإنك تتقيد وتلتزم بدراسة بعض المواد الخاصة بهذه المدينة المعمارية التي تلزم
الدارسين بمعرفة مواطن الجمال فيها، وتعليمهم كيفية المحافظة على رموز تلك
الجمال.(171/45)
البيان الأدبي
قراءات في الشّعر اليهوديّ المعاصر
الشاعر الإرهابيّ (أفرايم سيدون) نموذجاً
بقلم: محمد شلال الحناحنة [*]
يظلّ العداء اليهوديّ للإنسانيّة جمعاء، ولا سيما عداء المسلمين، يأخذ حيّزاً
واسعاً من العقيدة اليهوديّة المنحرفة، ولم يكن اليهود في يوم من الأيّام إلا محطات
إفساد للمجتمعات، وأدوات هدم لكل القيم المثلى، والأخلاق الفاضلة؛ فما من
شرور في الأرض إلاّ ويحرّكُها أو يدعمها اليهود، أمّا الأدب اليهوديّ، فلمْ يكن
أحسن حالاً من أصحابه وصانعيه، بل نرى هذا الأدب ملتحماً بالنفس اليهودية
الإجرامية، خاضعاً لسطوة القتل المتعطش لها اليهود أينما وجدوا؛ ومن هنا تأتي
هذه القراءات في الوجدان الأدبي اليهودي لتكشف بيسر أنه لا مجال لمسالمة يهود
وهم يوقدون نيران الحروب، ولا مجال للركون لمشاريعهم الكاذبة الحاقدة لما يسمَّى
الأمن والسلام في منطقتنا، وقد نرى أنَّ بعض شعرائهم يتباكون على الإنسانية
المظلومة المذبوحة متناسين أن هذا الذبح والظلم يتم بآلتهم الحربية المدمرة، وأن
هذا الآلة ما زالت تحصد كثيراً من الضحايا والأبرياء في فلسطين المحتلة،
وغيرها من بلاد المسلمين!
أما الشاعر اليهودي (أفرايم سيدون) ؛ فما زال يعيش هذه الغطرسة لبني
قومه، وهو يخاطب حكومته، فيظهر أنّها لن تسقط رغم مجازرها وإرهابها للشعب
الفلسطيني. يقول (أفرايم سيدون) في قصيدته:
(حكومة لن تسقط) المنشورة في صحيفة (دافار) اليهودية بعد مجازر بيروت
عام 1985:
(لا ... هذه الحكومة لن تسقط ...
هي لن تسقط ...
لأن قلبها مطمئن وهادئ ...
ورصيدها الأخلاقي مرتفع ...
مَنْ أنتَ أيها الطفل الفلسطيني؟ ...
ومَنْ أنتِ يا جثة المرأة الحامل ...
أمام «مناحيم» الفارس العبريّ ...
الممسك بالتوراة القائل: بعون الله؟ ! ...
ومن أنتم أيها الشيوخ المبتورون بغضب؟ ...
ومن أنتِ يا أنهر الدّماء ...
أمام ضمير إيرليخ العادل ...
المدافع عن كرامة الإنسان؟ !
بدأ الشاعر الإرهابيّ (أفرايم سيدون) قصيدته ينفي إمكانية سقوط
حكومته، وهو يسوِّغ هذا المنطق بصورة تحمل الكثير من المعاني: فهي حكومة
أُسّست على الجريمة والإرهاب، وهي تمارس اليوم ذلك بكلّ جلاء؛ فكيف ستسقط
ورصيدها عظيم من التناقضات والمذابح والدّماء، والشاعر يكرّر أنَّها لن
تسقط تأكيداً وإصراراً لثقته بما يقول، وإنْ كان هذا المقطع يبدو ساخراً في ظاهره
من الحقائق الدامغة، ومن جرائم الذبح، وجثث الأطفال والنساء مقابل
ادعاءات الضمير اليهودي في الدفاع عن العدل وكرامة الإنسان! ! إلا أنَّ هذه
السخرية لا معنى لها، ولا مردود لأثرها في نفوس حاقدة ضالعة في الإرهاب،
وقد مارس هذا الشاعر المجرم مرات كثيرة تحريضاً دموياً في شعره ضد أهلنا في
فلسطين ولبنان، ومن هنا فلا سلطان في الدولة العبرية العنصرية إلا لسلطان
القتل والتشريد للشعب الفلسطيني المسلم.
ويجيء تكرار (أفرايم سيدون) للاستفهام الساخر من خلال صور المقابلة
المفجعة الدامية ليعطينا مؤشراً واضحاً على أن هؤلاء الشعراء يرتبطون بعقائدهم
الدينية الضالة المنحرفة بقوة وصلابة؛ بينما نجد من شعراء الحداثة عندنا من
يسخر من عقيدة الإسلام الصحيحة السوية لإرضاء أسياده، وتشعل المفارقة في هذا
الصدد المزيد من الجراح المثخنة والأسى الموجع!
ولا بد أمام ذلك أن ننتقل لمشهد زاخر بالدلالات المعنوية الروحية المقدسة
العميقة لدى يهود مع انحرافاتهم وضلالاتهم وفجورهم في هذا المقطع:
(من أنت أيها الطفل الفلسطيني ...
ومن أنت يا جثة المرأة الحامل ...
أمام «مناحيم» الفارس العبري ...
الممسك بالتوراة القائل: بعون الله؟ !)
هذا الزهو الفاضح، وهذا الغرور الدموي الذي يجعل جثث الحوامل
والأطفال الفلسطينيين لا تساوي مجرد التفاتة من الفارس المقدام لم يكن زهواً
دموياً مجرداً من دلالاته الضاربة في عمق النفس اليهودية الضالة؛ فالفارس هنا لم
يكن مجرد فارس بل هو معرّف وموصوف بالعبري، ثم نرى الشاعر يمعن في
الوصف الديني العقيدي فيقول: (الممسك بالتوراة) . كذلك لم يحمل هذا الفارس
العبري التوراة بل يمسك بها، وفرق شاسع في الدلالة بين من يحمل، ومن يمسك؛
فقد تحملُ شيئاً ليس لك، ولمجرد إيصاله لغيرك دون اهتمام، أمّا الإمساك ففيه
القوة والتمكن مما تمسكه. ثم نجد هذا الفارس يفيض روحيّة بأفعاله وأقواله؛ فهو
يبدأ حربه بالاستعانة بالله! إنَّ ترسيخ هذه الصفات الدينية لدى الفارس العبري
الممسك بالتوراة القائل بعون الله، لَيُثبت أنَّ هؤلاء الشعراء يدركون مفاهيم
عقيدتهم، ويحفظون تاريخهم، رغم أنَّ عقيدتهم ضالّة، وتاريخهم مزوّرٌ حافلٌ
بالإرهاب والانحراف والجريمة، كما يثبت هذا الشعر أن عداءنا لليهود عداءُ عقيدة،
وحربنا معهم ليست مجرّد حرب أرض وحدود.
__________
(*) شاعر وناقد إسلامي أردني.(171/59)
البيان الأدبي
حين هاجت ذكرى القرون
عبد الله بن حماد البلوي
فرس خالد بن الوليد وسحابة هارون الرشيد ...
رواية عجيبة وملحمة خالدة ...
لم يصُغها الجاحظ ولم ينسجها الخيال ...
بل هي حقيقة سجلها التاريخ لتبقى ...
ليفرح بها المؤرخون.. ...
ويبتهج بها الكتاب.. ...
* * *
فتحت ظل سحابة هارون.. ...
لتمطر هذه السحابة على جبال الهند ...
لتحمل خيرات الأمطار إلى بغداد ...
ثم لتقسم الخيرات على فقراء بغداد ...
ومساكين المغرب.. ...
وحين تعثرت بغلة في العراق ...
بكى عمر بن الخطاب.. ...
وحين نادت الثكلى أين المعتصم؟ ! ...
تحركت جيوش ...
وحمحمت خيول ...
وصلصلت سيوف.. ...
* * *
وأذَّن المؤذنُ في الصين ...
فرددت جموع المسلمين في الأندلس النداء ...
نظر المسلمون إلى تمرات عمير ...
فتقدموا للموت بكنانة سعد ...
وحين طارت الرؤوس رفعوا أكف البراء ...
راجين النصر أو كفن مصعب ...
فجاء النداء ...
«إن تنصروا الله ينصركم» .. ...
* * *
صاح اليهود: محمد والخميس [1] ...
فنادى الرسول صلى الله عليه وسلم: «خَرِبَتْ خيبر» ...
وحين نام الكثير ... ...
أعلن لويس التاسع لجنده: ...
ارموا بالحرب بعيداً.. ...
وهاتوا الكأس والغانية ... ...
ونادوا: هيا لخلع ثياب الطهارة ...
على عتبات الحضارة.. ...
وقاوم هذا الضجيج بعضنا ...
ولكن ... بلا كنانة سعد ...
وبلا.. حربة خالد.. ...
أما الباقون فتاهوا باحثين ...
عن تمرات عمير التي ألقى ... ...
* * *
وتمضي القرون ويتسع الجرح ...
وتهب رياح الشام بنسمات من القدس ... ...
فيلتهب الشوق في الأفئدة ... ...
فيتمنى الجميع سجدة فيه للمعبود ...
فيمنعنا من دخوله اليهود ...
فهاجت ذكرى القرون ...
فمَلَكَتْنا عدالةُ الأرض! ! وتحت هذه العدالة ...
مات أطفال الصومال ...
وصرخت فاطمة الكشميرية ...
ونصبت خيام كوسوفا على مقابر الآباء والأبناء
وسالت العيون البريئة ...
أين صوت الأذان يا أبي؟ ...
فيبست خبزة الشيشان ...
وتاه أيتام الأفغان ...
وتوارت سحابة هارون في الأفق الحزين ...
وأبت أن تعود حتى ترجع تلك القرون التي ملكنا.. ...
__________
(1) الخميس: الجيش.(171/61)
نص شعري
شهادة الطفولة
وليد حرفوش
إلى رموز الشهادة والبطولة الذين يذودون عن شرف الأمة بأجسادهم الصغيرة.
لا تحرميهِ! من رصاصِ عُداتِهِ ... فهوَ الأمينُ على مَصيرِ حياتِه
بَل شَجِّعيِه لكي يموتَ بعزةٍ ... يا أمُّ كوني من دُعاةِ مماتِهِ
غَضِبَتْ أناملُهُ الرقيقةُ فانبرى ... حجرٌ أطاعَ الأمرَ في هجماتِهِ
القدسُ تُنظرُ في صفاءِ عيونِهِ ... والمسجدُ الأقصى على بسماتِهِ
وشواطئُ البحرِ الغضوبِ بأعينٍ ... قَذفَتْ جحيمَ الموجِ من نظراتِهِ
من سَددَ الأولى لرأسٍ شامخٍ؟ ... من سددَ الأخرى إلى خفقاتِهِ؟
فاستبشرَ الزيتونُ بالعبقِ الذي ... روَّى عروقَ الأرضِ من قَطَراتِهِ
فإذا الشقائقُ زينة لضريحهِ ... وأزاهرُ الليمونِ في وجناتِهِ
سيعيشُ في التاريخِ رمزاً خالداً ... ويظلُّ يصرخُ في جموعِ رُماتِهِ:
قاومتُ بالحجرِ الصغيرِ جحافلاً ... ونقشتُ تاريخاً على صفحاتِهِ
واجهتُ سيلَ النارِ صدراً عارياً ... وقذائف الجزارِ مع هرواتِهِ
وسلكتُ دربَ (الله) رغمَ طفولتي ... أحيا مع الأبرارِ في سمواتِهِ
الراقصونَ على الجراح تراهمُ ... يتسابقونَ اليومَ كسرَ قناتِهِ
يتآمرونَ على الصغيرِ لأنهم ... يتجرعونَ الذلَ من وثباتِهِ
يتآمرون على بقايا دمعِهِ ... وعلى عذاب الموتِ في سكراتِهِ
ماذا نقولُ عن البطولةِ؟ إنها ... جزءٌ صغيرٌ من عظيمِ صفاتِهِ
ماذا نقولُ عن الشهادة إنه ... يرجو لقاءَ الموتِ في ساحاتِهِ
يا حاملاً نعشَ البراءةِ لم تَزَلْ ... تَمضي ببحرِ الموتِ في سكناتِهِ
إن فار تَنُّورُ الشهادة، لم يَذَرْ ... في الأرضِ نمروداً يتيهُ بذاتِهِ
سَيَدَّكُّ أعناقَ الطغاةِ لينتهي ... عصرُ الجريمةِ بانتهاءِ طغاتِهِ(171/62)
تأملات دعوية
حاجتنا إلى تفعيل الطاقات
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
تحتاج الدعوة الإسلامية والمشروع الإصلاحي إلى طاقات وإمكانات تتناسب
مع حجم المهمة المناطة بها.
إننا حين نعقد مقارنة بين الطاقات الفاعلة المنتجة، وبين من يملكون القدرة
على العمل والعطاء نلمس فجوة هائلة بين القدرات والإنتاج، وأنه لا تزال هناك
إمكانات واسعة لم تستثمر، والإنتاج أقل بكثير من الإمكانات المتاحة.
وهذه الفجوة تبدو في الجانب الكمِّي؛ فالأعداد العاملة في الميادين الدعوية لا
تزال دون القدر المطلوب، وثمة أعداد ليست بالقليلة ممن يمكن استثمارهم في
الميادين الدعوية لا يزالون لا يحركون ساكناً، ومن هؤلاء:
* فئة من طلبة العلم الشرعي؛ فهم يملكون قدراً من العلم يفتقر إليه الناس
وخاصة في هذا العصر الذي انتشر فيه الجهل، كما أنهم يحظون باحترام الناس
وتقديرهم ويستمعون لهم ويتقبلون منهم.
* فئة ممن كان لهم نشاط وهمة وتقدم بهم السن قليلاً فلم تعد المؤسسات
الدعوية قادرة على استيعابهم، إضافة إلى أن بعضاً منهم لم يَسْتوعِب التغيرات
الجديدة التي أملاها الواقع المعاصر والنضج لدى المؤسسات الدعوية [1] ؛ كل ذلك
أدى إلى أن يبقوا بعيدين عن الميدان بأبدانهم، وإن كانوا معه بقلوبهم ومشاعرهم.
* فئة ممن تلقوا التربية في المؤسسات الدعوية، ولا يزالون على طريق
الاستقامة ويحملون مشاعر إصلاحية صادقة وجادة لكنهم لا يحركون ساكناً.
* فئة من المسلمين الخيِّرين غير المحسوبين على المتدينين، ويملكون
إمكانات يمكن أن توظف للدعوة، كالمال والتخصص النادر والوجاهة الاجتماعية
وغير ذلك.
* فئات عدة من عامة المسلمين ممن لديهم تقصير ومخالفات ظاهرة، لكنهم
يملكون قدراً من التعاطف مع الدعوة وأهلها ومشروعاتها، ويمكن أن يستثمر هذا
التعاطف ويحوَّل إلى طاقة منتجة..
كما تبدو هذه الفجوة من جهة أخرى في الجانب الكيفي؛ فكثير من العاملين
في الميادين الدعوية يعملون بأقل من طاقاتهم الفعلية، أو أن جزءاً كبيراً من جهدهم
ينصرف لمجالات لا تتناسب مع ما يُتطلع إليه من أمثالهم، ولا تزال هناك إمكانية
لأن تتضاعف طاقات هؤلاء وأداؤهم.
وثمة مجالات من الأعمال والتخصصات تعاني من جفاف وفقر من العاملين.
وهذا يدعو الدعاة والمصلحين إلى التفكير الجاد في استثمار الطاقات المهدرة،
والبحث عن وسائل وبرامج تسهم في تضييق هذه الفجوة الهائلة.
ومع الشعور اليوم بهذه المشكلة إلا أن التعامل معها لا يزال دون القدر الذي
يتناسب مع أهميتها وحجمها.
ويكاد يتركز الجهد المبذول في التعامل مع هذه المشكلة على توجيه اللوم
والتأنيب إلى القاعدين والمتخاذلين والساكتين، وعلى الحديث عن أهمية المشاركة
الدعوية وضرورتها، إضافة إلى أنه لا يتعامل إلا مع شرائح محدودة من الطاقات
المهدرة.
إن الدعاة اليوم بحاجة إلى التعامل الجاد مع هذه المشكلة، وإعطائها حجمها
الذي يتناسب مع أهميتها، وبحاجة إلى التفكير الجاد في الحلول والمقترحات العملية
لتفعيل أكبر قدر ممكن، وتضييق الفجوة قدر الاستطاعة.
__________
(1) لا يزال هناك عدد لم يستوعبوا القدر المتحقق من الوعي والنضج في المؤسسات الدعوية؛ مع أنه لا يزال دون المستوى المطلوب.(171/63)
الإسلام لعصرنا
ودُّوا لو تكفرون كما كفروا
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
يتساءل كثير من المسلمين اليوم عما إذا كانت الحرب الأمريكية الغربية على
ما يسمونه بالإرهاب حرباً دينية؟ الإجابة تعتمد فيما أرى على المقصود بالحرب
الدينية. فإذا كان المعني بها أن الغرب يريد أن يحارب الإسلام باسم المسيحية أو
أنه يريد نشر المسيحية؛ فإن حربه ليست دينية؛ لأن الواقع أن إيمان الغربيين
بالمسيحية أو اليهودية صار أضعف بكثير مما كان عليه في الماضي، بل إن
جمهرة كبيرة من قادتهم ومسؤوليهم لم تعد تؤمن بها ولا بأمثالها من الأديان. بَيْدَ
أنهم وحتى الملحدين منهم لهم نوع من الانتماء إلى هاتين الديانتين باعتبارهما جزءاً
من تاريخهم ومكوناً مهماً من مكونات حضارتهم التي يفاخرون بها ويعدونها خير
حضارة عرفتها البشرية. وهذا هو الذي يعنيه بوش وبلير ومن دونهما حين
يُصرِّحون بأنهم يدافعون عن منهج حياتهم، أو حين يقولون إنهم يحاربون أعداء
الحضارة. هذه الحضارة التي لا ترضى عن دين إلا إذا رضي هو بأن يقر في
المكان الضيق الذي حددته له فلا يتعداه إلا إذا أقر بأن الله تعالى قد ترك الناس
سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم في أي أمر يتعلق بحياتهم السياسية أو الاقتصادية أو
الاجتماعية، بل ترك كل هذا للناس يقررون فيه ما شاؤوا، ويغيرونه متى شاؤوا.
الدين المرضي لديهم عنه هو دين لا يعترض على رأسمالية ولا ليبرالية، ولا
يستعمل يداً في أمر بمعروف أو نهي عن منكر. وقد رضيت الأديان كلها فيما يبدو
بهذه الحدود التي خطتها لها العلمانية، بل إنه لم يبق بعد سقوط الشيوعية منهج
حياة منافس للمنهج الغربي الرأسمالي الليبرالي.
الاستثناء الوحيد هو الإسلام كما كان قد صرح بذلك فوكوياما الذي عبر عن
هذا الغرور الغربي تعبيراً واضحاً حين زعم أن التاريخ انتهى فيما يتعلق بمناهج
الحياة؛ فالناس كلهم سائرون نحو هذا النموذج الغربي الذي يراه النموذج الوحيد
المناسب لعصرنا، والذي يسمى لذلك بالحداثة. فالإسلام الذي ما يزال يؤمن كثير
من أهله بأنه بديل أصلح للناس من النموذج الغربي لا بد أن يكون حركة رجعية
تعرقل تقدم البشرية؛ فلا مناص من حربه وإيقافه عند حده. فإذا كان هذا هو
المقصود بالحرب الدينية فإنها لحرب دينية ما في ذلك من شك.
لكن السياسة عندهم مخادَعة. ومن المخادَعة أن لا يصرح قادة الدول الغربية
إلا بعض أغبيائهم بأن خصمها هو الإسلام. فالإسلام دين سلام ومعايشة مع بقية
الأديان، والغالبية العظمى من المسلمين أناس طيبون مسالمون راضون بالرأسمالية
والليبرالية، إلا شرذمة تسمى الوهابية.
واختيار الوهابية أيضاً اختيار سياسي بارع لا بد أن من أوصوا به أناس
مختصون في الدراسات الإسلامية وفي الشعوب الإسلامية. فما يسمى بالوهابية
دعوة لها خصوم كثر في العالم الإسلامي سيخدعون فعلاً ويظنون أن الهجوم عليها
ليس هجوماً على الإسلام وإنما هو هجوم على حركة ظلوا يعدونها خطراً عليهم
لمحاربتها لما هم عليه من أنواع الشرك في العقيدة، والبدع في العبادات، ولما
نسب إليها زوراً من أقوال مخالفة للإسلام. لكن الذي لا يدركه هؤلاء المخدوعون
أن ما يكرهه الغربيون فيما يسمونه بالوهابية ليس هو ما يكرهونه هم.
إن ما يعنيه الغربيون وأذنابهم بالوهابية إنما هو إسلام الكتاب والسنة الذي
يرسم للناس منهج حياة متكامل ويربيهم على الدعوة إليه وجهاد أعدائه؛ ولذلك فإنهم
لا يقصرون كلامهم عن الوهابية على السعودية وإنما يُدخلون فيه مصر وبلاداً
إسلامية أخرى أي كل بلد فيه حركة إسلامية سنية رشيدة سواء كانت سياسية أو
غير سياسية؛ لأنهم يرون أن مناخ الفكر السني هذا هو المناخ الذي يغرس فى
نفوس المسلمين اعتزازاً بدينهم ووقوفاً صارماً ضد خصومهم.
قادة الحضارة الغربية يريدون منا معاشر المسلمين أن نلبي لهم ثلاثة مطالب:
أولها: أن تكون العلمانية منهج حياتنا كما هي منهج حياتهم، وأن لا يحتل
الإسلام إلا مكاناً ضيقاً في إطارها.
ثانياً: لكن هذه العلمانية يجب أن تكون ليبرالية ديمقراطية في السياسة،
رأسمالية حرة في الاقتصاد، إباحية في القيم.
ثالثاً: أن تكون هذه العلمانية العربية أو «الإسلامية» خادمة لمصالح الدول
الغربية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك لأن الدولة قد تحقق ذينك
الشرطين السابقين لكنها تكون مع ذلك دولة قوية مستقلة منافسة للدول الغربية.
فالذي تحرص عليه الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة هو أن لا يكون لها في
مجال القوة المادية منافس تمكنه قوته من الاستقلال عنها في مراعاة مصالحه. ومن
هنا فإنهم ينظرون بكثير من القلق إلى دول مثل الصين واليابان، ويعملون على
أن لا تكون أي منهما منافساً للغرب.
فالمطلب الثالث هذا هو أبو المطالب عندهم، وما الآخران إلا وسائل إليه،
إن حققا غرضهما فبها، وإلا ضحي بهما في سبيله. أعني أن الديمقراطية مثلاً
مطلوبة شريطة أن لا تؤدي إلى موقف معاد، أو منافس للولايات المتحدة. فإذا
كانت كذلك استبدل بها نظام دكتاتوري يحقق التبعية.
وهم يسعون لتحقيق هذه الردة فينا أولاً بأن نتبع سبيلهم في الاستماع إلى
نصائح يسدونها إلينا في الطريقة التي نفهم بها ديننا ونفسره. تأتي هذه النصائح
أحياناً منهم مباشرة، ولكنها تأتي في كثير من الأحيان عن طريق عملائهم الفكريين
المنافقين في بلادنا. لكنهم ينسون أن كتاب ربنا يحذرنا من الاستماع في أمر ديننا
إلى قوم جاهلين به، معادين له، كافرين به. قال الإمام الطبري معلقاً على قوله
تعالى: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ
خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (البقرة:
105) . قال رحمه الله: «وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى
نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من
قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، باطلاعه جل
ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن
أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون» .
أما الوسيلة العملية الخطيرة الثانية فهي أن يطلب منا أن نغير مناهج دراساتنا
الإسلامية لكي تتمشى مع تلك الفهوم التي يرونها مجافية للأصولية، ومجاملة
للعلمانية. لكن هذه وسيلة خاسرة. فإن خضعت بعض الدول فغيرت وبدلت
وحرفت؛ فما كل الدول بفاعلة ذلك. ولئن غاب الدين الصحيح من المدارس
الرسمية فلن يغيب من صدور العلماء الدعاة الربانيين. لقد تكفل الله تعالى بحفظ
هذا الدين في صورة آيات تتلى، وأحاديث تقرأ، وفي صورة طائفة لا تزال على
الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
لكن هذا الإيمان ينبغي أن لا يكون سبباً للتثاقل والغفلة، بل يجب أن يكون
دافعاً قوياً للسعي والحركة استبشاراً بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد.
وإنه لمما يساعد على الاستبشار والرجاء أن نعلم أنه ما كل الغرب على قلب
رجل واحد في عدائه للإسلام؛ ففيه مسلمون تتزايد أعدادهم صباح مساء، وفيه
منصفون متعاطفون مع المسلمين، وفيه مرتابون في حضارتهم أو كافرون بها
باحثون عن بديل لها. فعلينا أن لا نعادي الناس في الغرب كافة ما داموا لا يعادوننا
كافة، وأن نتذكر أن هذا من نعم الله علينا وإلا [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ] (النساء: 90) .(171/65)
آفاق
إلى متى
د. عبد الكريم بكار [*]
لست أدري متى سنبصر طريقنا إلى التخلص من أدوائنا القديمة التي حولتنا
من أمة تقود الأمم إلى أمة تستجدي الشعوب في لقمة عيشها وفي أمنها وفي تنظيم
شؤونها؟ ولعل من أدوائنا القديمة الاستسلام للَّحظة الراهنة؛ فنحن نستمتع ونهجع
ونأكل ونلعب كلما أتيح لنا ذلك غير آبهين بما يأتي به الغد ولا مكترثين بما يتطلبه
ما بعد الغد!
إن القرآن الكريم حين أمرنا بإعداد العدَّة كان يستهدف إخراج المسلم من
ضغوطات الساعة الحاضرة، لتنفتح له آفاق المستقبل. والتخطيط في حقيقة الأمر
يعني الحصول على شيء من هذا؛ حيث إنه يساعدنا على توظيف إمكاناتنا
الحاضرة في مشروعات تستهدف تحسين أوضاعنا في المستقبل. وهذا يستوجب
ألا نهدأ حين يتاح لنا الهدوء، ولا نغفل في أيام الرخاء. وهذا ما تفعله الدول
العظمى والأفراد المتفوقون.
قد أثبتت كل الأحداث التي وقعت في العقدين الماضيين أن أعداء هذه الأمة
ومنافسيها يعتمدون في الكيد لها واستغلالها على عقدة النسيان لديها، وعلى كون
تحركاتها لا تنبثق من رؤيتها للمستقبل، وإنما من مواجهة مشكلاتها الآنية. ولذا
فإننا أصبحنا ألعوبة في أيدي الآخرين؛ إذ ما عليهم حتى يُنسونا ما نحن منهمكون
فيه إلا أن يخترعوا لنا مشكلة جديدة فننسى القديمة، وننطلق نحو معالجة الجديدة
بنفس الحماسة التي كنا نعالج بها المشكلة القديمة، وبذلك ننسى الذين ورَّطونا في
المشكلة القديمة والذين ورّطناهم أيضاً!
إن كثيراً من مشكلاتنا الفردية والجماعية ناشئ من قصور في المفاهيم لدينا؛
فنحن كثيراً ما نظن أن توفير أكبر عدد ممكن من الأفكار والرؤى والطروحات
يكفي للإصلاح والتقدم. ومع أن مثل هذا شرط لا يستهان به، لكنه ليس الشرط
الوحيد؛ فنحن إذا عمقنا النظر في تجاربنا، وفي تجارب الأمم من حولنا، وجدنا
أن أكثر ما يرتقي بالأمم أمران:
النماذج. والمؤسسات.
فعقولنا تميل إلى عدم تصديق ما يطرح من أفكار نهضوية وعدم الاهتمام به
والتفاعل معه ما لم نره مجسَّداً في نموذج بشري، فينتقل ما كان يُنظر إليه على أنه
مثالي جداً أو صعب التحقيق من حيز غير العملي إلى حيز الممكن الذي يقع ضمن
المكنة والطاقة، ولعل هذه هي الحكمة من وراء عصمة الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام وتجسيدهم لما يدعون إليه في سلوكهم. وهكذا المسلمون اليوم يحبون أن
يروا نماذج راقية تتحرك على الأرض في كل اتجاه من اتجاهات الحياة: العلم
والخُلُق والإدارة والسياسة والإنتاج والعلاقات الاجتماعية.. وعلى مقدار ما يتوفر
من نماذج راقية يندفع الناس في طرق الصلاح والإصلاح، وإن لم يكونوا مفكرين
أو مثقفين أو فقهاء..
أما المؤسسات فإنها تشكل أطراً لتخريج النماذج، كما أنها تنسف الجهود
المبعثرة، وتتيح لكثير من المشروعات أن يستمر فترات طويلة. وإن في شباب
الأمة الكثير والكثير من الرغبة في الخير والعمل، ولكنهم لا يجدون المؤسسات
التي ترسم الأهداف، وتمهد الطريق، وتوفر لهم التدريب، وتعينهم على أنفسهم.
إذا أردنا لهذه الأمة أن تنهض فلنركز على إيجاد أكبر عدد ممكن من النماذج الرفيعة
والمتفوقة، وأكبر عدد ممكن من المؤسسات ذات الاهتمامات الجزئية والمتخصصة؛
فبذلك وحده نتعلم العمل في أيام الرخاء لأيام الشدة، وبذلك تتحول العواطف
النبيلة من كونها فورة مؤقتة إلى وقود لإنجاز الأعمال الجليلة. والله حسبنا.(171/68)
المسلمون والعالم
الموقف الإيراني من حرب أمريكا لأفغانستان:
الجمهورية الحائرة.. والخيارات الخاسرة
حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
«إننا لسنا طالبان، ونحن لا نهدف إلى انتهاج خطط أمنية على غرار
طالبان، ولا نريد هذا الضرب من الإسلام الذي تمارسه طالبان»
الرئيس الإيراني محمد خاتمي
«إن أمريكا لها حضارة تستحق الاحترام، ويزداد احترامنا لها عندما نلاحظ
جذور هذه الحضارة، وفيما يتعلق بحرق العلم الأمريكي، فإنني لن أرضى مطلقاً
بكل شيء يتسبب في جرح مشاعر أي شعب، أو الإساءة إلى رمز ونموذج أي
شعب»
الرئيس الإيراني محمد خاتمي
تفرض الطبيعة البراجماتية العقدية والسياسية الإيرانية كثيراً من الغموض
على موقف الدولة من الأحداث الدولية، سواء كانت هي أحد أطراف الحدث، أو
كان الحدث يتطلب بيان موقف الدولة منه. وجاءت أحداث تفجيرات الولايات
المتحدة وما تبعها من الحرب الأمريكية في أفغانستان لتفرض نفسها على إيران
بشكل كبير؛ فقد كان الحدث في دولة ذات علاقة خاصة مع إيران، فهي تعتبرها
بالمنهج البراجماتي المتشدد الشيطان الأكبر، وينادي الشعب الإيراني كل يوم جمعة:
«الموت لأمريكا» ؛ في حين يعتبرها المنهج البراجماتي الإصلاحي دولة ذات
حضارة تستحق الاحترام.
وعلى كل فقد فرض الحدث نفسه على إيران، شاءت ذلك أم أبت، وصار
المشهد أكثر التصاقاً بها حين جاءت الولايات المتحدة لتنصب خيامها مرة أخرى
على الحدود الإيرانية الشرقية مع أفغانستان بعدما نصبتها على حدودها الغربية مع
العراق قبل ذلك، وكأن الولايات المتحدة أصبحت القرين الشيطاني لإيران!
كما تأتي هذه الحرب من طرفها الآخر مع جار عدو لإيران متمثل في نظام
طالبان، وهو عدو قديم جداً بالاعتبار المذهبي، وعدو غير تقليدي في مذهبه
براديكاليته السنية!
فالحدث باعتبار التصاقه الحدودي بإيران، وباعتبار طرفيه يمثل تحدياً كبيراً
للدولة الإيرانية، وكما قال وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي: «إن إيران
وأفغانستان تشتركان في حدود طويلة، ومن الطبيعي ألا تستطيع إيران أن تصمت
إزاء الوضع الراهن في جارتها الشرقية، ولهذا فإننا نعتقد أن حكومة طهران يجب
ألاَّ تواجه الأحداث الأخيرة في المنطقة بالتساهل والتبسيط» [1] .
وإن أدركت إيران أن مثل هذه الأحداث لا تحتاج إلى تساهل معها أو تبسيط
لها، إلا أن التعاطي معها كان مرتبكاً وحائراً، وإن كان هذا شأن عدد غير قليل من
الدول إلا أنه كان في أجلى صوره مع إيران.
* إيران وطالبان.. انتهزوا الفرصة:
لعل مما يلفت الانتباه في الموقف الإيراني من جيرانها أنها في حالة عداء
تاريخي دائم ومستمر إلى اليوم مع جيرانها من المسلمين؛ فمن أفغانستان إلى
باكستان وتركيا والعراق ودول الخليج تكاد هذه القاعدة العدوانية ألا تنخرم إلا
باستثناءات زمنية ومصلحية محددة. وعلى الجانب الآخر توطدت وترسخت
وتعمقت العلاقات الإيرانية مع كل من: روسيا والصين والهند وكوريا،
وأضحت العلاقات مع الشيوعيين والبوذيين والهندوس علاقات استراتيجية! !
وهو أمر ليس جديداً على الدولة الإيرانية الشيعية، فتاريخها ينبئ عن شر
من ذلك، ولكن حسبنا من ذلك أنها إشارة ولفت انتباه.
وبجانب من هذا الاعتبار لم يكن العداء الإيراني لطالبان مستغرباً ولا مستبعداً،
وقد اتضحت صورة الموقف الإيراني من طالبان من خلال ما يلي:
1- لإيران موالون كثر في أفغانستان، وهو ولاء عقدي مذهبي من الدرجة
الأولى؛ حيث تبلغ نسبة الشيعة في أفغانستان قريباً من 10% من السكان،
وكالعادة الشيعية فإن الولاء الأول يكون للدولة الأم إيران ولهذا فقد كانت الأحزاب
الشيعية في أفغانستان عامل توتر وقلق للحكومات الأفغانية عامة وطالبان خاصة،
حيث الآمال الإيرانية بنشر «أنوار الثورة» وتصديرها لم تخبُ بعد.
ولتفعيل الدور الشيعي في أفغانستان، فقد ضمت إيران الأحزاب الشيعية
الأفغانية تحت حزب واحد وأسمته «حزب الوحدة الشيعي» الذي يترأسه الآن
كريم خليلي، بعد مقتل عبد العلي مزاري في مواجهات مع طالبان. ولم يقتصر
الدعم الإيراني على الدعم السياسي والأدبي، بل كان دعماً استخباراتياً وعسكرياً،
تدريباً وتسليحاً. وهو ما يعد في الأعراف الدولية تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية
للدول الأخرى الذي يجب أن تحترمه إيران في أفغانستان كما تحترم بقية الشعوب
حسب التعبير الخاتمي.
وبما أن أفغانستان ساحة كبيرة تستعرض فيها القوى الإقليمية المحيطة بها
قوتها، فإن الوجود للنفوذ الإيراني من خلال الأحزاب الشيعية مطلب إيراني هام
لإيجاد هذا التوازن، ولذلك جاءت الهزيمة الكبيرة لتلك الأحزاب ومقتل عبد العلي
مزاري على يد طالبان لترسم انتكاسة كبيرة للآمال الإيرانية في أفغانستان،
ولتصب كثيراً من الزيت على نار العداء الإيراني لطالبان.
ومع عودة باميان مرة أخرى لحزب الوحدة الشيعي بعد الانحياز الطالباني،
كانت العين الإيرانية على نصيبها من كعكة كابول؛ ولذلك أمرت ألفاً من قوات
حزب الوحدة بالتوجه إلى كابول، وترك (باميان) في حماية الحرس الجمهوري
الإيراني.
2- كما أن للدولة الإيرانية تمدداً تبشيرياً بالمذهب الإثني عشري في
الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى؛ ووجود نظام مثل طالبان في حكم
أفغانستان يمثل عائقاً كبيراً أمام هذا التمدد المذهبي.
3- كذلك فإن إيران طالما ادعت أنها تمثل النموذج الإسلامي الحقيقي، وأن
ولاءها وعداءها منطلق من هذا الإسلام، وعندما جاءت «الطالبان» لتضع نفسها
قريناً لإيران، وتنازعها أمر المصداقية في الحكم باسم الإسلام إضافة لكونه سنياً
فإن هذا تجاوز لم تمرره العقلية الإيرانية بسهولة، وهو ما أشار إليه صراحة نائب
الرئيس الإيراني للشؤون الحقوقية والبرلمانية محمد علي أبطحي حين قال: «إن
أحداً في العالم الإسلامي لم ينصب طالبان ممثلاً عنه، ونعتقد أن طالبان وفكرها
المتخلف لم تكن يوماً ممثلاً للإسلام والعالم الإسلامي، والعالم اليوم مستعد لسماع
صوت الإسلام الحضاري كما يدعو إليه الرئيس الإيراني خاتمي، أي الدين الذي
يقر بالقيم الإنسانية والديمقراطية» [2] .
4- وإذا تركنا الدعم الإيراني للأحزاب الإيرانية المعتقد والولاء؛ فقد دعمت
إيران كذلك وبكل قوة التحالف الشمالي بكافة أحزابه وأعراقه للهدف ذاته، وهو
التخلص من حكم طالبان لأفغانستان. ومؤخراً كشف مستشار عسكري إيراني
لإحدى الصحف العربية [3] صوراً من تعاون ودعم إيران لتحالف الشمال، وذكر
أن دعم التحالف لم يكن سراً داخلياً، بل كان أمراً معروفاً لدى السياسيين
والعسكريين، وذكر أن إيران سحبت العشرات من العسكريين الموجودين في
مراكز التدريب في شمال أفغانستان ومن منطقة باميان بعد مقتل الدبلوماسيين
الإيرانيين في مزار شريف عند سقوطها في أيدي طالبان قبل ثلاثة أعوام، وكانت
الطائرات العسكرية قد سحبت الضباط الإيرانيين من قاعدة باميان قبل ساعات من
دخول طالبان إلى المدينة.
وعاد الدعم ليقوى بشكل كبير بعد زيارة كل من رباني ومسعود العام الماضي
إلى طهران؛ حيث توجه المستشارون والفنيون العسكريون الإيرانيون إلى شمال
أفغانستان، كما أقامت إيران معسكرات تدريب للمتطوعين الأفغان في شمال
خراسان «شمال شرق إيران» ، وكان أولئك تحت قيادة إسماعيل خان، حاكم
هيرات.
كما شملت المساعدات الإيرانية لتحالف الشمال الآلاف من البدلات والأحذية
العسكرية ورشاشات الكلاشينكوف وراجمات الصواريخ من أنواع «إيران 130»
و «شاهين» و «رعد» والصواريخ المضادة للدروع.
وعندما شنت قوات طالبان عقب اغتيال مسعود هجوماً على عدة جبهات
بهدف السيطرة على المناطق الخاضعة للتحالف الشمالي في بدخشان وفيض أباد
وبخشير وحول قاعدة باغرام الجوية القريبة من كابل، تمكنت قوات التحالف بفضل
الدعم الإيراني من صد الهجوم ورد قوات طالبان.
5- كما كانت هناك اجتماعات جمعت بين قادة التحالف ووزير الخارجية
الإيراني في العاصمة الطاجيكية «دوشمبه» ، وعندما بدأت الحرب الأمريكية
صدرت الأوامر لضباط الاستخبارات العسكرية والمدربين الفنيين الإيرانيين
العاملين بين قوات تحالف الشمال بالتنسيق مع الضباط الأمريكيين في استهداف
مواقع طالبان شمال كابل وحول مدينتي مزار الشريف وهيرات.
6- كذلك فإن إيران عضو في مجموعة «6 + 2» التابعة للأمم المتحدة
والتي تضم جيران أفغانستان إضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا، وتُعنى هذه
المجموعة بالتنسيق حول الشأن الأفغاني فقط.
7- وإذا رجعنا إلى الوراء قليلاً لاستطلاع بعض صور الموقف الإيراني من
طالبان، عندما رد بعض أفراد طالبان على مقتل «900» منهم على أيدي حزب
الوحدة بقتل «6» دبلوماسيين إيرانيين في مزار شريف، وذلك عام 1419هـ
1998م. صعدت إيران الأمر بصورة خطيرة، حيث تزامن الحادث مع اقتراب
طالبان من باميان، فأجرت أكبر مناورات عسكرية في تاريخها، ضمت 200 ألف
عسكري من القوات النظامية، وانتشرت ثلاث فرق عسكرية على الحدود الإيرانية
الأفغانية، واستقرت على طول 730 كم من الحدود البالغ طولها 850 كم.
وأجريت المناورات بالذخيرة الحية وشاركت فيها الطائرات ومضادات الطائرات،
ونادى بعض السياسيين باستغلال الفرصة والقضاء على طالبان، لولا «تعقل»
الرئيس الإيراني، وشارك المرشد الأعلى للثورة خامنئي وأعضاء السلك
الدبلوماسي وكبار المسؤولين في تشييع القتلى، ووصف خامنئي مقتل الدبلوماسيين
بأنها فاجعة لم يسبق لها مثيل، وأن الحكومة الإيرانية ستسترد شرف الجمهورية
الإسلامية، كما تظاهر ملايين الإيرانيين منددين بجريمة طالبان، داعين إلى
الجهاد ضدها! !
* إيران في الجنازة الأمريكية:
سارع الرئيس «الإصلاحي» محمد خاتمي بإدانة التفجيرات التي وقعت في
نيويورك وواشنطن بعد ساعات من وقوعها، وإن اعتبرت إدانة خاتمي إدانة
«إصلاحية» ذاتية لا تعكس السياسة «المتشددة» لإيران، إلا أن إدانة مرشد
الثورة علي خامنئي للتفجيرات بعد أسبوع كانت بياناً واضحاً للموقف الرسمي
«المختلط» .
وتحت مقال بعنوان: «الطريق الثالث» كتب صحفي إيراني [4] يقترح
الصورة التي يجب أن تكون عليها السياسة الإيرانية من الأحداث، وهو ما توافق
بشكل كبير مع التطبيقات الإيرانية بعد ذلك، كان مما جاء فيه:
1- أن تتم إدانة الهجمات الأخيرة على أمريكا من جانب كافة كبار المسؤولين
في الدولة كما فعل الرئيس خاتمي، وأن تعلن إيران عن استعدادها الكامل للتعاون
مع أي مشروع لاستئصال جذور الإرهاب.
2- إبداء المواساة والتضامن مع الأمة والحكومة الأمريكية، وكذلك الاشتراك
في أي مؤتمرات دولية لإيجاد حل مشترك يحضره مندوبون عن أمريكا، ومثل هذا
المنعطف من الممكن أن يساعد على إقامة علاقات سياسية في المستقبل قائمة على
أساس الاستقلال والمصالح القومية لكلا الطرفين.
3- التأكيد على ضرورة تجنب الانتقام والعمليات التي تعرض روح الأبرياء
والثروات القومية أو استقلال البلاد للخطر.
4- وبخصوص أسامة بن لادن وحكومة طالبان يتم الضغط على الحكومة
الباكستانية وجهاز استخباراتها لإيقاف دعمها لحركة طالبان وتقديم بن لادن
للمحاكمة.
5- بخصوص الأحداث المرتقبة في أفغانستان، على إيران أن تدعم التحالف
الشمالي المعارض في هذا البلد، وأن تعمل على ألا يؤثر فقدان القائد البارز أحمد
شاه مسعود على دوره في هذه الفترة الحساسة.
6- يجب تنسيق المساعي المشتركة بين إيران والهند وروسيا وباكستان
وطاجيكستان لتبني سياسة تتماشى مع مصالح إيران وجيرانها في إطار الجهود التي
تبذل اليوم لمكافحة الإرهاب.
ثم توالت صور المشهد التأبيني في إيران بصورة تدعو للدهشة، وترسم
صوراً ذات دلالات كبيرة للسياسة الإيرانية الرسمية وللموقف الشعبي تجاه الولايات
المتحدة إذا قورنت على الأقل مع الموقف الإيراني من طالبان:
* فلأول مرة منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979م لا يرفع شعار «الموت
لأمريكا» في خطبة الجمعة المركزية في طهران، وكأن القوم لم يكونوا يريدون «
الموت لأمريكا» حقيقة؛ إذ عندما جاءها الموت لم يرضوا بذلك، بل إنهم توقفوا
عن هذا الدعاء! ! ووصف إمام الجمعة المركزية في طهران الحادث بأنه «حادثة
مفجعة للقلب، ومثيرة للرعب، وهذه الأعمال التي قام بها مجموعة الإرهابيين من
الأعمال المدانة والتي تدينها جمهورية إيران الإسلامية» [5] .
* كما أعلن محسن آرمين نائب رئيس مجلس الشورى الإيراني إدانته قائلاً:
«إن حادثة أمريكا سواء قام بها فرد أو جماعة، فهي عمل إجرامي غير
مقبول» [6] .
* قام 165 عضواً من أعضاء مجلس الشورى البالغ 290 عضواً بالتوقيع
على وثيقة أعربوا فيها عن تعاطفهم مع الشعب الأمريكي، وطالبوا بحملة دولية
لمكافحة الإرهاب.
* وقد بعث كل من محمد عطريا نفر، رئيس مجلس مدينة طهران،
ومرتضى الويري، رئيس بلدية طهران برسالة إلى عمدة نيويورك، رادولف
جولياني جاء فيها:
«لقد استقبلنا الأعمال الإرهابية الأخيرة التي راح ضحيتها العديد من
المواطنين الأبرياء ببالغ الأسى والحزن، ومما لا شك فيه أن هذه الأعمال لا
تستهدف مواطني مدينتكم فقط، بل إنها تستهدف كل مواطني العالم، ونحن نيابة
عن مواطني مدينة طهران ندين وبشدة هذه الأعمال اللا إنسانية ومرتكبيها، ونقدم
خالص مواساتنا لسيادتكم ولمجلس المدينة ولكل مواطني نيويورك الأعزاء، آملين
أن يتم استئصال جذور الإرهاب» [7] .
* ومن الأعاجيب الإيرانية إدانة عضو مجلس الشورى الإيراني «عباس
عبدي» وهو قائد المجموعة التي قامت باحتجاز الرهائن الأمريكيين في طهران؛
فقد اعتبر اختطاف طائرات ركاب بالمسافرين واصطدامها بمبنى البنتاجون ومركز
التجارة هي إشارة للابتذال في المعايير الأخلاقية! ! وقال: «إنه لم يتم أي هجوم
إرهابي بتلك الفظاعة» [8] .
* كما سمحت وزارة الداخلية الإيرانية لعدد من التيارات السياسة بتنظيم
مظاهرات للتعبير عن مواساة الشعب الأمريكي في ميدان «محسني» شمال
طهران، هذه المظاهرات لم تخرج بعد ذلك عندما دكت الولايات المتحدة الأراضي
الأفغانية! ! بل طالب بعضهم بتنظيم حملة للتبرع بالدم لضحايا نيويورك لإظهار
المواساة الحقيقية للشعب الأمريكي [9] .
كان هذا المشهد الجنائزي الحار في إيران يريد إيصال رسالة واضحة
للولايات المتحدة بأن موقفنا إيجابي من الأحداث ومستعدون للتعاون، وكانت
الولايات المتحدة تريد هذه الرسالة أيضاً لاستغلال إيران في خدمة أهدافها في حربها
في أفغانستان؛ ولذلك صرح ريتشارد هيل رئيس قسم وضع السياسات بوزارة
الخارجية الأمريكية أن الإيرانيين قد قدموا الرد الإيجابي المناسب على ما حدث في
أمريكا، بل إن لها سجلاً حافلاً في معارضة طالبان، وتستطيع كل من أمريكا
وإيران الجلوس سوياً والتباحث في إطار دبلوماسي فيما يخص أفغانستان.
وقد أثار هذا الموقف الإيراني «المتعاطف» مع الحدث اهتماماً أمريكياً،
امتد إلى حليفتها الدائمة بريطانيا؛ حيث سعت الولايات المتحدة لاستثماره من
خلالها بدفع إيران للدخول إلى التحالف الأمريكي ضد طالبان والقاعدة؛ فقد اتصل
توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني ووزير خارجية الولايات المتحدة أثناء
الأحداث بالرئيس الإيراني محمد خاتمي عندما كان متوجهاً إلى واشنطن يوم 20/9/
2001م، وكان هذا الاتصال بداية للتنسيق الرسمي والانتقال إلى «العلني» في
الاتصالات الإيرانية الأوروبية الأمريكية، وقد دفع هذا الموقف الإيراني صحيفة
صنداي تايمز البريطانية إلى القول بأن إيران بعد هجمات 11 سبتمبر تحولت من
دولة تعتبرها الولايات المتحدة أكثر الدول نشاطاً في دعم الإرهاب إلى «حليف
محتمل» لأمريكا.
* افتحوا كل الأبواب:
تعيش السياسة الإيرانية في صراع داخلي عنيف فيما يتعلق بالعلاقة مع
الولايات المتحدة، وهو صراع صنعته الثورة الإيرانية بنفسها، بافتعالها للمواقف
«العلنية» غير الحقيقية في التعاطي مع الشأن الأمريكي. حوّل هذا «العلني»
كثيراً من الإيرانيين إلى شعب مصاب بانفصام سياسي ونفسي في هذه القضية
المحورية التي تدور عليها كثير من السياسات الإيرانية. وأصبح من المتعين على
كثير منهم أن يهتفوا بالموت لأمريكا حتى تبقى ذكرى الخميني حية، لكننا لم نسمع
أكثر من هذا من الأقوال، ولا رُئي غيرها من الأفعال ضد الولايات المتحدة،
وأصبح موقف شعوب الدول التي تعلن وتعترف بتبعيتها للولايات المتحدة أحسن
حالاً من شعب لا يعرف حقيقة مسوِّغات عداء أمريكا ولا دوافع القرب منها.
فهي قضية شائكة بلا شك، وأحدثت ولا زالت تحدث انقساماً كبيراً بين
شرائح عديدة في المجتمع الإيراني.
وهذا الأمر تدركه الحكومة الإيرانية بوضوح، وخاصة الرئيس «الإصلاحي»
محمد خاتمي؛ ولذا فقد أحست إيران أن الأحداث قد تفتح الباب لمحاولة تجاوز
هذه الأزمة والتأكيد على الشفافية والعلنية، ففتحت إيران جميع أبوابها «المواربة»
في الاتصالات على مصراعيها متكئة في ذلك على أن الحدث عالمي يشغل
الجميع، وكل الأوراق الآن مكشوفة، وهي كذلك فرصة سانحة لأن تقوم الولايات
المتحدة بما كانت تتمنى إيران القيام به من القضاء على نظام حكم طالبان في
أفغانستان.
ومهدت إيران لفتح أبواب الاتصال [10] بالعزف على قصيدة المرجعية الدولية
التي تدرك سلفاً أنها في القبضة الأمريكية ولا تشذ عنها، إضافة لكون الولايات
المتحدة قد بادرت إلى تشكيل ما تريد من تحالفات وأن أحداً لم يعترض.
وقد برزت هذه السياسة الجديدة من خلال تطبيقات عملية
على أرض الواقع، منها:
1- اللقاء الذي تم بين سفير طهران لدى الأمم المتحدة «محمد هادي نجاد
حسينيان» ومجموعة من أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ الأمريكي؛ حيث
تلقى السفير الإيراني الدعوة من السناتور «أرلن سبنسر» السياسي اليهودي
والشخصية البارزة بين مؤيدي إسرائيل في واشنطن، وقد حظي اللقاء الذي تم في
مقر الكونغرس الأمريكي باهتمام وترحيب قيادات مجلس الشيوخ والنواب ونوقشت
خلاله سبل تلطيف أجواء العلاقات بين البلدين على خلفية الاتفاق الحاصل تجاه
(حركة طالبان) ! ؛ وتعد هذه الزيارة العلنية الأولى لمسؤول إيراني منذ أكثر من
عشرين عاماً، وتم خلال اللقاء الاتفاق على عقد لقاءات مشتركة بين نواب
أمريكيين وإيرانيين سواء في إيران أو أي بلد آخر.
2- صدر تقرير اللجنة البرلمانية الإيرانية الخاصة بالأزمة الأفغانية،
وأوصى بفتح حوار مع الولايات المتحدة ولو عبر مجموعة «6 + 2» ، وقد
صرح الناطق باسم اللجنة إبراهيم باي سلامي بأنه ينبغي على إيران استغلال ما
وصفه بحاجة أوروبا وأمريكا الحالية لإيران ودورها في حل الموضوع الأفغاني،
وتوظيف ذلك لتحقيق مكاسب وطنية.
3- قامت اتصالات هي الأعلى منذ قيام الثورة الإيرانية بين المخابرات
المركزية الأمريكية وحكومة خاتمي، وقد انصبت هذه الاتصالات على أمرين:
الإطاحة بحكومة طالبان، والإتيان بنظام حكم جديد في بغداد، وقد أجريت هذه
المحادثات في السفارة الأمريكية في أنقرة في 11/10/2001م.
وهذه المحادثات هي التي سهلت دخول إيران في الخطط العسكرية المعلنة
للإطاحة بحكومة طالبان وتنصيب حكومة جديدة يراعى فيها وضع الشيعة
المرتبطين بإيران.
4- قام مجلس الأمن الإيراني، وهو أعلى جهة تدير أمور النظام في إيران
بإصدار ما يمكن أن يسمى بـ «الصفح عن الولايات المتحدة» وأمر بفتح صفحة
جديدة للتعاون معها.
5- نشطت قناة الاتصال السويسرية التقليدية المتمثلة في السفارة السويسرية
في إيران، والتي تتولى رعاية المصالح الأمريكية منذ قطع العلاقات الدبلوماسية
بين إيران والولايات المتحدة منذ عام 1979م، وتلعب السفارة السويسرية وسفيرها
«تيم جولديمان» دوراً مهماً كقناة اتصال غير مباشرة بين الطرفين، وقد تم تفعيل
هذه القناة مؤخراً باستدعاء السفير السويسري إلى مقر الخارجية الأمريكية في
واشنطن لدراسة سبل الارتقاء بالتقارب مع إيران ورؤيته لإمكانية ذلك، وقد أكد
على محورية هذه القناة وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي في 23/9/2001م،
وأن بلاده على اتصال دائم ومنتظم وبشكل غير مباشر مع الولايات المتحدة فيما
يخص خطط مكافحة الإرهاب، وأن موقف الولايات المتحدة معروف لدينا، وأنها
تبعث برسائل إلينا عبر السفارة السويسرية وإيران ترد عبر القناة نفسها.
وتم من خلال هذه القناة الاتفاق على قيام إيران بتقديم المساعدات لأي جنود
أمريكيين جرحى أو يضطرون للهبوط في الأراضي الإيرانية مقابل ضمانات
باحترام الولايات المتحدة سلامة وسيادة الأراضي الإيرانية ومجالها الجوي، كذلك
اتفق من خلالها على أن تقوم إيران بتقديم معلومات استخباراتية عمن تتهمهم
الولايات المتحدة بالتورط في الهجمات على نيويورك وواشنطن في مقابل منع إدارة
بوش لجماعة أمريكية من تقديم شكوى ضد إيران حول قضية احتجاز الرهائن عام
1979م والمطالبة بتعويض يصل إلى 10 مليارات دولار.
6- قيام العديد من المسؤولين الأوروبيين بزيارات لإيران؛ فقد تحولت
العاصمة طهران إلى محطة رئيسة لعدد من وزراء الخارجية الأوروبيين ومسؤولي
الاتحاد الأوروبي منهم وزراء خارجية بريطانيا وإيطاليا وألمانيا الذين انصبت
جهودهم على الترويج للحملة الأمريكية، وجاءت زيارة جاك سترو وزير الخارجية
البريطاني بعد يوم واحد من لقائه مع نظيره الأمريكي، وعلى الرغم من أن الجانب
الأمريكي نفى أن يكون سترو قد حمل رسالة مطالب أمريكية إلى إيران حول آليات
دعمها للحملة الأمريكية، غير أن الواقع يشير إلى عكس ذلك.
وهكذا طرقت إيران كل الأبواب الموصلة للباب الأمريكي، وفتحت أبوابها
لكل طارق من الجهة الأمريكية؛ فماذا ستجني إيران من كل هذه الأبواب المفتوحة؟
وقبل الإجابة نعرج على أبواب أخرى طرقتها إيران لرسم سياستها في
الأحداث الأخيرة.
* الجيران والحلفاء:
كما فرضت الأحداث على إيران إحداث تغييرات في سياسة الدولة تجاه
الولايات المتحدة، فقد فرضت الأمر ذاته مع باكستان. وكما لا يخفى أن علاقات
البلدين مشوبة بالتوتر وعدم الاتفاق؛ حيث ترى إيران أن (باكستان) كانت الداعم
الرئيس لحركة طالبان التي قضت على الآمال الإيرانية في أفغانستان، كما تعلم أن
وجود حكومة أي حكومة أفغانية لا تنال جانباً من الرضى الباكستاني عنها هو أمر
في غاية الصعوبة، ورأت إيران أن أوراقاً كثيرة لم تعد موجودة في أيديها، أو
على الأقل تخشى من سحبها في المستقبل القريب، فبادرت بالتنسيق على أعلى
المستويات مع الحكومة الباكستانية حول الأوضاع في أفغانستان، وهو ما عُد
اختراقاً سياسياً مهماً في العلاقة بين البلدين، تمثل ذلك في زيارة وزير الخارجية
الإيراني كمال خرازي لإسلام أباد، وقد وصف وزير الخارجية الباكستاني عبد
الستار نتائج اللقاء فقال: «إن الشمس ستشرق على العلاقات بين البلدين، وإن
باكستان وإيران تخلصتا اليوم من الظل الذي خيم على العلاقات بين البلدين» في
إشارة إلى نظام طالبان. وأبدى خرازي أيضاً موافقته لحديث نظيره الباكستاني
حيث قال: «إننا ندخل الآن حقبة جديدة في علاقاتنا، ولم تعد هناك فجوة بين
إيران وباكستان، وكلاهما يجب أن يلعبا دوراً مهماً في تشكيل حكومة ذات قاعدة
عريضة» . وقال في مقابلة مع قناة الجزيرة: «إن سياسة باكستان تغيرت بشكل
أساسي في الوقت الحاضر» . ويعد هذا التقارب الإيراني مع باكستان عامل قوة
للجانبين أمام الموقف الأمريكي الذي لم يُبق للدولتين وباكستان خاصة شيئاً من
الخصوصية للنظر في شؤون المنطقة.
وقد اعتبرت الصحف الإيرانية أن زيارة خرازي لباكستان وليس زيارة وزير
خارجية باكستان لإيران يضعف الموقف الإيراني، كما أنها جاءت بعد زيارات
متكررة لعدد من المسؤولين الإيرانيين لإسلام آباد مثل محسن أمين زاده مساعد
وزير الخارجية وبقائه هناك نحو عشرة أيام.
وفي الوقت الذي فتحت إيران باب التعاون مع باكستان، كان الباب ما زال
مفتوحاً مع مجموعة «6 + 2» في التباحث فيما يخص الشأن الأفغاني، وقد زار
وزير الخارجية الإيراني كلاً من طاجيكستان وتركمانستان للتشاور حول الأحداث،
كما زار الهند مساعده محسن أمين زاده وهو المسؤول عن الملف الأفغاني للتباحث
حول تنسيق الموقف بشأن الأزمة.
* الخسران المبين:
بعد سقوط حكومة طالبان، وتشكيل (الحكومة الأمريكية) الجديدة في كابل،
كان التسلسل الطبيعي للموقف الإيراني من الأحداث يقول إن كل ما قامت به إيران
وقدمته لأطراف الصراع يؤهلها لجني ثمار وفيرة وغنيمة باردة؛ فقطار التباكي
الطويل على أحداث 11 سبتمبر كان من المفترض أن يليَّن القلب الأمريكي
المتحجر.
والدعم القوي والقديم لتحالف الشمال من جانب، والأحزاب الشيعية الأفغانية
من جانب آخر كان من المفترض أن يؤتي أكله بعد دخولها إلى كابل.
والتعاون الكبير الذي أبدته إيران مع الأمريكان، والذي أسمته هي بـ «
التعاون الإيجابي» والذي تلخص في قول محسن ميرد امادي رئيس لجنة الأمن
القومي في البرلمان: «إن أقصى ما يمكن أن ينتظره الأمريكان من إيران هو عدم
وقوفها في وجههم أو معارضة خططهم» . هذا التعاون كان يقتضي أن يأخذ
المحسوبون على إيران نصيبهم الوافر من كعكة الحكومة الجديدة في كابول.
والإشادة الأمريكية على غير عادتها بدور إيران البناء في العديد من المجالات
على حد قول ريتشارد هاس من خلال نشاطها من وراء الكواليس، واستخدام
نفوذها لدى تحالف الشمال؛ هذه الإشادة كانت تقتضي المكافأة العملية على أرض
الصراع.
إلا أن كل هذا لم يحدث، بل حدث عكس ذلك تماماً، وتحولت كثير من
الأحلام الإيرانية الوردية التي كانت تسعى إليها، وعلى رأسها إسقاط نظام
طالبان.. إلى كوابيس مقلقة للدولة الإيرانية بأسرها، وأضحى السعي الإيراني
الآن يتمحور حول قدرة النظام الإيراني على تقليل نسبة الأضرار التي لحقت
وستلحق به.
وتتمثل هذه الخسارة في نقاط عديدة، منها:
1- أن السياسة الأمريكية الراهنة خلال الأزمة فرضت على كثير من دول
العالم تقديم قرابين الطاعة التطوعية لإثبات البراءة من تهمة الإرهاب، وهو ما زاد
من الطغيان الأمريكي وجعلها تضع شروطاً وضوابط لكل من يريد التعاون معها في
مكافحتها للإرهاب! !
ولهذا كان الموقف الإيراني من طلب مكافحة الإرهاب عبر المؤسسات الدولية
غير مقبول لدى أمريكا، وصرح ريتشارد باتشر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية
أن الإدارة الأمريكية لن تكتفي من إيران بتعاون ظرفي ضد طالبان، بل تريد من
إيران قطع الجسور مع منظمات راديكالية مناهضة لـ (إسرائيل) ، وهذا ما دفع
خرازي للقول إنه لا ينبغي الخلط بين ما حدث في أمريكا والشرق الأوسط، وهذا
يعني أنه لكي تكسب إيران الرضى الأمريكي فإن عليها أن تفقد مكاسبها الحقيقية
التي تراكمت منذ عشرين عاماً في الشرق الأوسط من خلال التضحية بحزب الله
اللبناني، إما بإجباره على حل نفسه وتسليم أسلحته للسلطة اللبنانية والتحول نحو
العمل السياسي مع تفكيك بنيته العسكرية بالكامل، أو بتركه ليواجه مصيره إذا ما
كابر وقرر الاستمرار في نهجه، وكذلك الضغط على حركة الجهاد الإسلامي وهو
ما تم مؤخراً لإيقاف نشاطها ضد إسرائيل. وبهذا تفقد إيران ذراعها الموجودة في
المنطقة والصراع العربي الإسرائيلي، وهذا الفقدان بلا شك يضعف الموقف
الإيراني في المنطقة بشكل كبير.
2- إن إيران لا زالت حتى اليوم على القائمة الأمريكية دولة راعية للإرهاب،
وهو ما يجعلها عرضة حقيقة لضربة أمريكية غير مستبعدة، وقد أكدت مستشارة
الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس بعد تشكيل الحكومة الأفغانية الجديدة «أن
الشعب الإيراني سليل حضارة عظيمة وهو يستحق قيادة أفضل مما لديه الآن! !
ولدينا مشكلة كبيرة مع إيران بشأن دعم الأنشطة الإرهابية المناهضة لأمريكا؛ لذلك
فإن علاقتنا مع إيران ستظل متوترة إلى حين تغيير السلوك الإيراني» .
كما أن توني بلير رئيس الوزراء البريطاني اتهم إيران في ديسمبر 2001م
بأنها دولة داعمة للإرهاب، وتدرك إيران معنى التأكيد على هذا الأمر الآن في ظل
انفراد الولايات المتحدة بالمرجعية في مكافحة الإرهاب.
كما تلقت طهران تحذيرات من دولة أوروبية على علاقة وثيقة بإيران بشأن
المرحلة الثانية لحرب الولايات المتحدة على الإرهاب، وجاء التحذير مرفقاً بأسماء
شخصيات نصحت هذه الدولة إيران بإبعادهم عن المراكز التي يتولونها في الحرس
الثوري والاستخبارات الإيرانية.
3- لم تفلح سياسة «الحياد الإيجابي» الإيرانية في إبعاد شبح الضربة
المتوقعة من الولايات المتحدة، وكررت إيران مع الولايات المتحدة في أفغانستان،
ما فعله رفسنجاني مع أمريكا في حربها ضد العراق، وقامت بـ «الحياد
الإيجابي» ، فردت الولايات المتحدة بالاحتواء المزدوج للعراق وإيران معاً.
4- تعاني إيران من اضطرابات إقليمية مع دول جوار عدة: العراق،
وتركيا، وأذربيجان، ومن الممكن أن تضغط الولايات المتحدة على أكراد العراق
أو الحكومة التركية والأزربيجانية للعب دور المتحرش المستفز للدولة الإيرانية.
5- إن سلمنا بنهاية «حكم» طالبان في أفغانستان وتشكيل الحكومة الجديدة،
إلا أن ذلك لا يعني استقرار الأوضاع في أفغانستان؛ فليست الولايات المتحدة من
يقول للاستقرار كن فيكون، ولن تنسى الأطراف المتحاربة عداءها القديم والمكاسب
والخسائر والحسابات الكثيرة التي اختلطت، ولا زال هناك أكثر من مليوني لاجئ
أفغاني في إيران، وهذا ما يجعل الاستقرار الإيراني أمراً مشكوكاً فيه. ومن
الطريف أن الاضطرابات بدأت باقتتال المجموعات الشيعية بعضها مع بعض! !
6- جاءت الحكومة «الأمريكية» في أفغانستان على غير الهوى الإيراني؛
فالحكومة تضم عشرة وزراء يحملون الجنسية الأمريكية، والتمثيل الشيعي يعد
ترضية للشيعة في أفغانستان خشية من آثار التهميش السلبية؛ كما أن الوزارات
الثلاث التي أعطيت لهم التجارة، والحج، والزراعة ليست وزارات سيادية، كما
أن الوزراء كانوا خارج الأسماء الشيعية اللامعة الولاء لإيران.
7- تشعر الولايات المتحدة بالقلق من تنامي القدرات الصناعية الإيرانية
وتطبيقات التقنية الحديثة في مجال التسليح التي مكنت إيران من إنتاج صواريخ
بالستية يمكن تحميلها بأسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية أيضاً، وزاد من الريبة
الأمريكية إعلان علي شمخاني وزير الدفاع الإيراني أثناء زيارته لروسيا في شهر
أكتوبر الماضي أي بعد الأحداث أن إيران ستحصل على المفاعل النووي الذي
كانت قد تعاقدت مع روسيا عليه. ويأتي هذا الإعلان في هذا التوقيت بمثابة رسالة
للولايات المتحدة أن إيران عازمة على إكمال خططها النووية، وهو ما يعطي
الولايات المتحدة الذريعة للتفكير في توجيه ضربة استباقية للمنشآت النووية
الإيرانية قبل تدشينها.
8- يدرك الإيرانيون قبل غيرهم أن للولايات المتحدة طموحاً كبيراً للوصول
للمنطقة، وأنهم يريدون إقامة طويلة ودائمة.
وجاءت الأحداث لتحاول أمريكا من خلالها تحقيق عدد من الفوائد، منها:
أ - محاصرة الحركات الإسلامية في منطقة آسيا الوسطى الآخذة في النمو
خاصة الجمهوريات الإسلامية، وإضافة ثقل الوجود العسكري للأنظمة
المحاربة لها.
ب - حصار التعاون العسكري الآخذ في النمو بين روسيا وإيران، ومنع
احتمالات تطوره إلى مرحلة أكثر تقدماً.
ج - إنشاء وجود عسكري أمريكي للمرة الأولى في آسيا الوسطى، بهدف
السيطرة على بحر قزوين، وذلك على غرار ما فعلته الولايات المتحدة في الخليج
العربي.
د - إيقاف النفوذ الصيني المتنامي في منطقة آسيا الوسطى، وتجريده من
حلفائه في المنطقة، وعلى رأسهم باكستان التي ذهبت مرغمة إلى الأحضان
الأمريكية.
هـ - إجهاض أي فرص للتعاون بين القوى الرئيسة في القارة؛ حيث كانت
هناك إرهاصات للتعاون بين كل من روسيا والهند والصين وإيران فيما
يشبه الحلف.
و إن استهداف وإضعاف النظام الإيراني باعتباره النموذج الذي نجح من
خلاله الأصوليون وإن كانوا شيعة في الوصول إلى الحكم، يعد ذلك مطلباً أمريكياً
ملحاً لتيئيس الأصوليين في العالم من محاولة السعي لتحقيق ما تحقق من ثورة
إيرانية.
وهكذا نرى أن إيران تعد من أكبر الخاسرين في الأحداث الأخيرة،
وأصبحت هدفاً محتملاً لضربة أمريكية تغير النظام أو تقوضه أو تضعفه وتحوله
إلى النموذج العراقي، والإيرانيون أنفسهم يشعرون بذلك؛ فقد سئل نائب الرئيس
الإيراني للشؤون الحقوقية محمد علي أبطحي: هل أنتم مطمئنون إلى عدم تعرضكم
لضربة أمريكية؟ فقال: تجربتنا التاريخية مع الأمريكيين لا تسمح لنا بمثل هذا
الاطمئنان.
فلا ذهاب حكم طالبان أراح إيران بعد أن خلفتها (حكومة أمريكية مؤقتة)
والوضع مرشح للعودة إلى ما قبل طالبان، ولا التباكي في الجنازة الأمريكية ألان
من القسوة الأمريكية على (الملالي) أصحاب الإصلاح، ولا الحياد الإيجابي مع
الأمريكان أرضاهم عن دولة ما زالت ضمن قائمة الإرهاب، ولا تحالف الشمال
وتحالف الأحزاب الشيعية جنوا لإيران على أرض الواقع شيئاً؛ وإن أقصى ما
يمكن أن تخرج به إيران من الأحداث هو الوصول إلى طريقة مناسبة لتقليل
الخسائر.
__________
(1) صحيفة همشري «المواطن» 29/10/2001.
(2) جريدة الحياة، 6/10/1422هـ.
(3) الشرق الأوسط، 30/8/1422هـ.
(4) حسين علوي، إيران أمروز «إيران اليوم» 17/9/2001م.
(5) جام جم «المرأة المسحورة» 15/9/2001م.
(6) نوروز «اليوم الجديد» 21/9/2001م.
(7) إيران أمروز «إيران اليوم» 17/9/2001م.
(8) نوروز «اليوم الجديد» 21/9/2001م.
(9) إيران أمروز «إيران اليوم» 17/9/2001م.
(10) لمعرفة المزيد عن خلفيات الاتصالات الإيرانية الأمريكية الأوروبية، راجع: ويل للعرب، مغزى التقارب الإيراني مع الغرب والعرب، عبد المنعم شفيق، مكتب الطيب القاهرة.(171/70)