في دائرة الضوء
الأمة الحائرة بين تصادم الحضارات وعلمانية العالم..!
عطية فتحي الويشي
في إطار نظرية المفكر الأمريكي صموئيل. ب. هانتنجتون عن تصادم
الحضارات: انصبت جهوده في استعداء الحضارات الإنسانية على الإسلام باعتبار
ما يتمثل خطره - على حد قوله - في التيارات الأصولية المتشددة، تلك التيارات
التي ألمح إليها في مطاوي نظريته، مشيراً إلى مقولة أخيه المفكر اليهودي
الأمريكي برنارد لويس Luis، التي يقرر فيها: «إننا نواجه حالة نفسية، وحركة
تتجاوز إلى حد بعيد مستوى القضايا والسياسات التي تنتهجها الحكومات، وهذا
ليس بأقل من صدام الحضارات، وهذا إن كان رد فعل غير عقلاني، ولكنَّ له
جذوراً تاريخية مناوئة لتراثنا اليهودي المسيحي، وحاضرنا العلماني، والتوسع
العالمي لكليهما» ا. هـ.
ووفق هذا التصور الغربي الذي تغلب على جل أدبياته - الفكرية والسياسية
وغيرها - مسحة الكراهية والرفض والتشويه، يُعَدُّ الإسلام مصدر تهديد، ومبعث
قلق وتوجُّس غير مقرون ببينة؛ فمن ناحية الواقع السياسي والاقتصادي الإسلامي:
فإنه ليس ثمة مدعاة للخوف والترقب من جهة الغرب بأي حال. قد تكون قضية
الوعي التاريخي التي انفتحت ملفاتها مع وخز الاستفزاز الغربي المعاصر، أنعشت
خيالنا المثقل بالقضايا والهموم: تاريخ الصليبيات والاستعمار والعلمانية، وكلها
ذكريات بالغة في إيلامها الحس الإسلامي مبلغاً مروعاً، ذلك الوعي الذي تجسده
بصورة أو بأخرى: ظاهرة الصحوة الإسلامية التي تمتد على طول عالمنا الإسلامي
المترامي الأطراف وعرضه..!
ولعل كراهية هانتنجتون وبرنارد لويس، وحقدهما الفريد على الإسلام لا
يمنعان بحال من التوقف والتأمل فيما يعنُّ لحاضرنا العربي والإسلامي من منغصات
وحساسيات علائقية بين بعض الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، وقد بلغت في
جانب منها حد المواجهات المسلحة تلبية لداعية الفتنة وتمشياً مع تخطيط المركز
السياسي العالمي للحيلولة دون عملية التبلور الحضاري داخل النسق الإسلامي..!
وتنطوي مقولة لويس هذه على بعض المعاني والدلالات التي نرى أن تبيانها
من الأهمية بمكان كبير، ومنها:
أولاً: إن الأحداث الكائنة على المسرح العالمي المعاصر تمخض المفاهيم
الإنسانية مخضاً شديداً، فتنفض عنها غبار العوارض والملابسات الأيديولوجية
الآتية، وتعود بها سيرتها الحضارية الأولى؛ فبعد طلاق تاريخي موغل في القدم،
ورغم عوارض العلمانية على مجتمعنا: نلحظ ثمة إرهاصاً بحالة «رجعة» مسيحية
إلى فراش الزوجية اليهودي، وعلى الرغم من كون تلك الرجعة تكتيكية،
بيد أنها كما تبدو: حالة فريدة من التناغم المفاهيمي، والانسجام الفكري،
والتنسيق الاستراتيجي المؤسس على قواعد وأصول عقدية وحضارية، والذي لا
حيلة في الافتراق من بعدُ مرة أخرى.
هذا، ولن يصبح الدعم الغربي للكيان الصهيوني مؤسساً على المصالح
الاستراتيجية فحسب، وإنما على العقائد الدينية والأفكار كذلك، وهو ما يؤمن بقوة
مسيرة تلك العلاقة نحو أهدافها المنشودة في دنيا الوجود!
ثانياً: أن المرء يتشكك كثيراً إزاء المقولات التي تذهب إلى أن ميراث ما بعد
القرون الوسطى من عداء للدين لا يزال يلقي بظلاله على الوضع السياسي
الأوروبي.
ويجدر في هذا السياق أن نشير إلى أن موقف العلمانية الغربية من المسيحية
قد خضع بدوره لمنطق المنفعة بصفة عامة؛ فتارة نراها تعادي الدين إلى حد
«شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس» ، وتارة تهادنه، حين تنص دساتيرها على
احترام المشاعر الدينية للمجتمع، وعدم المساس بحرية العقيدة والعبادة، وتارة
أخرى تسخره لخدمة أغراضها، كما حدث في حملاتها الاستعمارية على الشرق
المسلم، مثلاً؛ حيث كانت الإرساليات التنصيرية بمثابة «هراوات حضارية»
لضرب الفكر الإسلامي، وتفريغ جوهر التوحيد من مضامينه ومعانيه، جاعلة من
ذلك نوعاً من الإحلال الحضاري في البلاد المستعمرة، ولكن الكنيسة الغربية في
كل الأحوال والكنيسة البريطانية بصفة خاصة استطاعت أن تتكيف مع البيئة
العلمانية، فوفقت أوضاعها على نحو قد سهَّل لها وعبَّد كثيراً من صعوبات التغلغل
بصورة أو بأخرى - وبمرور الوقت - إلى عمق المؤسسة السياسية في الغرب
المعاصر!
وقد يتأكد هذا الزعم في ضوء الضغوط الغربية اللحوحة على بعض حكومات
الدول الإسلامية لتقويض أركان الصحوة الإسلامية، وتثبيط تيارها المتدفق بالخير
على امتداد القرن العشرين، بل وصل الأمر إلى حد التلويح بالعقوبات والمضايقات
السياسية للدول التي تبدي تجاوباً مع ظاهرة الصحوة، ليس هذا فحسب، بل إن
عصا الاتهام الغربي باضطهاد الأقليات غير الإسلامية لا تزال ممتدة ومرفوعة من
حين لآخر في وجه بعض البلاد المسلمة؛ ذلك فضلاً عن حالات فرض الثقافة
الغربية من غير سبيل على بعض بلادنا، كالترويج لتيار الفرانكفونية في الشرق
المسلم، وتحبيب التشيع لثقافة العولمة والطريق الثالث، وكلها وسائل للخروج
بالعالم الإسلامي عن إطار خصوصياته الحضارية، وللحد من شعوره بذاتيته
الإسلامية، وقد وصل الأمر بالغرب إلى استصناع أنماط نخبوية في بيئاتنا المحلية
حملت على عاتقها رسالة إنسانية - بزعمهم - تعنى بتجميل تاريخ الاستعمار
الغربي إلى درجة الجهر في كل واد وصعيد - دون حياء - بالدعوة إلى الاحتفال
بالمئوية الثانية للحملة الفرنسية على مصر، إيماناً منها وإيهاماً بأن للحملة الفرنسية
فضلاً سابغاً ليس على مصر وحسب، وإنما على الشرق الإسلامي كله..! كل هذا
يحدث على حساب ذكرى مرور أربعة عشر قرناً على الفتح الإسلامي لمصر، تلك
الذكرى التي تلقى من جانب طيور العقوق كل جحود..! وهكذا تغرر التيارات
العلمانية بالأمة المسلمة لترديها في حفر التبعية وأغوار المهانة والضياع والتلاشي
والانمحاء..!
ولعل ميلاد تلك الحالة النفسية الإسلامية المناوئة للغرب ليست مسؤولية
المسلمين بقدر ما هي إفرازات التعصب الغربي لثقافته وقيمه وأيديولوجياته
السياسية المدججة بأقلام وحركات ومنظمات تدندن حول أفكار استفزازية وانفعالية
من أخطر ما فيها أنها مؤسسية، ليس بوسع أحد أن ينكرها، أو أن يجهل مدى
نفوذها، وعظم تأثيرها في مجتمعها الغربي، وكل مجتمع ينتمي للحضارة الغربية
الممتدة أفقياً ورأسياً، حتى لم يعد للجغرافيا الغربية أي حيلة إزاء زخمها التاريخي -
الحضاري الطاغي..!
ومما يُستغرَب له: أن تلك الحالة النفسية الإسلامية التي يتحدث عنها برنارد
لويس، وهذا الشعور بالهضم والاحتواء الذي يعم المجتمع الإسلامي ويسوده، لم
يصل حتى الآن إلى الدوائر العليا الحكمية في كثير من بلداننا المسلمة؛ إذ لم تزل
معظم هذه الدوائر تنظر إلى الغرب باعتباره مركزاً للقيم كما هو مركز للتقنيات
الواجب تبنيهما معاً، ولا جدوى لإحداهما دون الأخرى..!
وفيما ضمن نظريته اتصالاً بالعلمانية: يزعم هانتنجتون أن «اقتلاع
العلمانية من العالم هي إحدى حقائق الحياة الاجتماعية المهيمنة في أواخر
القرن العشرين» اهـ.
ومن جملة اعتباراتنا نقرر أن ظاهرة اقتلاع العلمانية من العالم تنم في حقيقتها
عن عمق في التصورات الدينية، وتعاظم في الشعور بحتمية صياغة الذات
الحضارية لدى الأمم والشعوب على نحو صحيح يرتقي بنظرة الآخر الحضاري
إليها وفق ما يتناسب وقدرها الذي تحسه وتشعر به، وأبلغ ما توصف به هذه
الظاهرة: أنها حركة «تفلية» حضارية..!
ومن غير الموضوعية أن نبدي إزاء ولاء هانتنجتون المطلق لليهودية أي شك
هذا ولن يغرنا بتدثره بلباس مسيحي باهت تبدو بغير قصد منه في بعض الأحيان
أنياب تلمودية زرقاء..! ومن ثم فهو حين يرصد أفكاراً من قبيل ظاهرة اقتلاع
العلمانية من العالم: إنما يكرس العلمانية ذاتها بدهاء شديد..! فهو يرمي إلى أن
الفائدة من بث وترويج الأفكار والفلسفات التي تدفع بالعالم بعيداً عن الدين والتدين:
تتجلى في استئمان جانب الكيان الصهيوني الغاصب من خطر أي مواجهة حضارية
مع الأغيار - لا سيما العرب والمسلمين - في ظل فريضة اقتلاع العلمانية من
العالم..! ومن ثم فهو يستحث من جهة أخرى بل يعنى بتحفيز آلة الفكر السياسي
الغربي للتصدي ومواجهة تلك التيارات التي سماها بالأصولية الرجعية..! وذلك
بحسبانها لديه الخطر الحقيقي الذي يتهدد فلسفة النظام العالمي الجديد التي يسعى
روادها إلى تكريس آليات العلمنة داخل الأنساق الإنسانية، لا سيما عند نقاط
التماس الحضاري الساخنة، ولدى البؤرة الأشد سخونة هناك في فلسطين المحتلة
بصفة خاصة..!
والحقيقة أنه من يوم أن تجردت القضية الفلسطينية من بُعدها الديني
الحضاري، والأوضاع لا تزداد إلا خبالاً وتعقيداً، ومضياً نحو أفق مسدود، ولئن
عولجت تلك القضية في سياق مفاهيم التدافع لكان أوْلى وأجدر ألا تدخل في
تضاعيف الانتكاس والإخفاق الذريع!
ولعل ما يعفينا من الاستطراد بهذا الخصوص ما صرح به الزعيم الكوبي
فيديل كاسترو Kastro حين قال: «على إسرائيل أن تسعى لتجعل كل دولة
عربية غير إسلامية، كأن تكون وطنية أو اشتراكية؛ فإن منتهى المطاف لأي
حركة مقاومة عربية ذات طابع علماني هو التعايش السلمي مع الدولة الإسرائي [1] .
لماذا؟ لأنه في ظل العلمانية تتجاوز المؤسسات السياسية كثيراً من الثوابت
الحضارية، وقد تتجاهلها إلى حد الرفض الصريح في بعض البلدان؛ وذلك تلافياً
لأي أفكار من قبيل القيم الدينية التي تظنها تصادمية: [إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ
شَيْئاً] (يونس: 36) .
العلمانية وأوهام الحل:
إن خرق سنن التعددية ونواميس التنوع والاختلاف والتمايز بين الأمم
والشعوب الإنسانية، إنما ينم عن اتجاه ما إلى تحييدها قسراً وإخصائها، وتغييبها
عن وعيها، فتفقد عناصر تكافئها ومقومات تنافسها، مما يعد تكريساً لمنطق
الأحادية والاحتكار الحضاري بكافة صوره وأنماطه السياسية والاقتصادية
والعسكرية والاجتماعية، وهو ما يتأكد في خِضَمِّه حدوث حالة من الحساسية وفقدان
معايير الصواب في سياق التدافع الإنساني، وهو ما يستدرج خطى البشرية إلى شفا
الحروب والمشاحنات الإنسانية غير المحكومة باعتبارات مقبولة..! وهذه واحدة
من أخطر مثالب العلمانية.
ولعل أي مشروع بإزاء عزل الدين عن حركة الحياة بمختلف وجوهها - ولو
بصورة نسبية - إنما يمثل في حقيقته انتحاءً بهذه الحياة عن سياقها الفطري،
وخروجاً على مألوفها. والعلمانية بطبيعة الحال تعد انحرافاً في التصور الإنساني
لطبيعة الوجود؛ ذلك فضلاً عن كونها مظنة قوية لتصادم الحضارات باعتبار ما
سيقدر للقيم المادية والتوسع والانتشار في الأرض، وهو ما يعد ذريعة لسنَّة كونية
جديدة من التدافع الإنساني، ويبزغ من ثم فجر جيل رباني جديد يقود دورة جديدة
من التاريخ الإنساني بشيء من الوعي والتحضر والتفاعل الإيجابي المثمر بين
حضارات هذا العالم، وتفلت من ثم البشرية من كلاليب التصادم الأعمى، وسفك
الدماء بغير حق.
ومن ثم فإن الفرضية القائلة بوجود» علاقة وثيقة بين تصادم الحضارات
وعدم علمانية العالم «إنما تطوي دلالات بالغة الخطورة - حسب رؤية هانتنجتون
ولويس - فبمقتضى تلك الرؤية تعمد كل من الأنساق الحضارية إلى تقلد خصال
الحقد والطمع والجور والنهب والاغتصاب والتحرش والاصطدام، وتلك مغالطة
فاحشة وزيف منكور، ثم هي على جانب آخر: مدعاة للخوف والترقب.
ولكن إذا ساغ للبعض أن يتخوف من عواقب تلاشي العلمانية من العالم،
ويلقي ببذور الرعب والترقب في روع الفكر الإنساني، فحري بهم أن يُبدوا تخوفاً
أعظم من سلطان المفاهيم المادية، ومن غلبة الشهوات والنوازع الشريرة على
أدمغة البشر أجمعين التي بلغ الصراع بزخمها ذروة الهمجية والتوحش بين الأمم
والشعوب على اختلافها، والحروب الأهلية الأوروبية التي لم تهدأ نارها منذ بدايات
القرن السابع عشر، وانتهاءً بالحربين العالميتين: الأولى، والثانية ليست بخافية
على أحد.
ولم يكن للتاريخ على امتداد عصوره أي نظرة إيجابية إزاء قضية التعايش
السلمي بمنأى عن بيئة القيم الدينية الربانية، ولقد كانت قيم العلمانية في المقابل
على مدار تاريخها: مثاراً للأحقاد والبغضاء والتحرش والاحتكاك، والتصادم بين
مختلف الحضارات، ولعله في ظل تلاشي العلمانية - على عكس مذهب
هانتنجتون - أن يدرك العالم الراحة والسلام والتفاهم والحوار؛ لأنه كلما اقترب
منحنى الوعي الحضاري من خط القيم الدينية والروحية تحرك مؤشر التفاعل
الإنساني ليسجل نتائج تثير التفاؤل والاستبشار بمستقبل إنساني كريم.
ونحن إذ نعني بمصطلح تلاشي العلمانية من العالم؛ فإنما نريد أن تتجه
المجموعات الحضارية - على اختلافها - إلى تعاطي مناهجها وقيمها ومأثوراتها
الدينية تعاطياً إيجابياً وافياً بغير ابتسار أو اجتزاء، فتكون هذه المناهج وتلك القيم
معياراً وقاسماً مشتركاً للسلوك الإنساني والتفاعل بمختلف أنماطه واتجاهاته، مما
يعني ترسيخاً جاداً لمبادئ التسامح والتراحم.
وتأصيلاً لمرجعية التفاهم والمجادلة بالتي هي أحسن. يقول أرنولد توينبي
Twinpy:» إن مستقبل الإنسانية يتوقف على أخوة روحية لا يمنحها غير الدين،
وهو الشيء الذي يحتاج إليه النوع الإنساني في هذا الوقت. الشيوعية تزعم أنها
تستطيع أن توحد النوع البشري، وقد أخفقت في ذلك، كما أن الإسلام يثبت
صلاحيته بوصفه قوة موحدة للإنسان، والمسيحية أيضاً تستطيع أن تلعب هذا الدور
إذا عملت بمبادئها، ولكن القومية لا تستطيع أبداً أن توحد الإنسانية، بل إنها
توزعها وتشتت شملها، ومن أجل ذلك ليس لها مستقبل؛ وإنها لا تستطيع إلا أن
تدفن الإنسانية في ركامها « [2] .
وهنا ينبغي التقرير بأن حاجة الإنسانية إلى الدين بعامة، والإسلام بوصفه
رسالة عالمية بخاصة: ليست حاجة ثانوية من قبيل الترف والكماليات.. كلا، بل
ضرورة ملحة؛ فلقد أنبأت الخبرة التاريخية عن الصلاحية المطلقة لذلك الدين
لتأسيس علاقة إنسانية سوية ومتوازنة بكل من الكون والحياة، علاقة ترفد البشرية
بقيم الحق والعدل والحرية والمساواة، تفصل بكل صرامة في تلك علاقة تفتح
أبواب الحوار المتكافئ بين الحضارات، وتسد ذرائع الصراع والمشاحنات
الفوضوية التي تقتل في الإنسانية المؤمنة كل طموح إلى عمارة الأرض بمنهج
السماء.
وغاية ما نخلص إليه: أن العقائد الدينية التي يسعى العلمانيون إلى تحييدها،
ونزع مؤثراتها من واقع الحركة الإنسانية المؤرقة بهواجس تصادم الحضارات هذه
العقائد: إن لم تطلها يد التحريف، ولم تعبث بها الأهواء، أو تحركها النوايا
الفاسدة، كانت بحقٍّ مأمنَ الإنسانية، وملاذَها الوحيد مما يلاحقها من ويلات التناحر
وهواجس الأحقاد، بل إن تلك العقائد والعقائد الإسلامية على وجه الخصوص تعد
من أهم مقومات اندفاع التيارات الحضارية في مسارات سوية ومعقولة: [وَاللَّهُ
يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (يونس: 25) .
وعلى الصعيد العلمي: حقق المسلمون في ظلال عقيدة التوحيد ثورة علمية
هائلة قد أثمرت منتجات حضارية فريدة لم يكن للإنسانية إلْفٌ بها في أزمنتها الغابرة؛
تلك الثورة التي امتدت هداياتها العلمية والتطبيقية إلى العالم أجمع، حتى لقد
أوعزت تلك العقيدة إلى حركة النهضة الغربية الحديثة بالفكاك من إسار الجهل
وأغلال الفكر الظلامي الشائه الذي غرقت في بركه الآسنة قروناً طويلة. يقول
(مونتجمري وات) في تقييم الظاهرة الإسلامية بأوروبا:» حين يصبح الإنسان
على بينة من كامل التجربة العربية والتفكير العربي (يعني التفكير الإسلامي) ؛
فإن المرء يقول: إنه لولا العرب لما كان لعلم أوروبا وفلسفتها أن يتطورا، وحين
أصبحت أوروبا مهتمة بالعلم والفلسفة: كان عليها أن تتعلم كل ما يمكن من العرب
قبل أن تتمكن من تحقيق خطوة إلى الأمام « [3] .
ولقد أخطأت أوروبا - كما أخطأ مقلدوها - حين خاصمت السماء بالعلمانية،
وأبدت لقيمها تنكراً بيناً بوازع من ضغوطات كنسية موتورة، مورست ضد سنَّة
العلوم الكونية باسم المسيحية، وبدلاً من أن تتجه دفة التقدميين الغربيين إلى الإسلام
إقراراً بالفضل وعرفاناً بالجميل، نابذته الجحود والنكران والإلحاد، بل ظاهرت
عليه بالإثم والعدوان، فحق عليها الحرمان من مدد الله، وأوكلت في مواجهة سعار
ماديتها التي اصطنعتها بأيديها: إلى تدبير فلسفتها التي انتحت بالغرب كله - في
حين من الزمن - شطر الضلالة والتمزق الضياع.
ولقد امتدت يد العلمانية الآثمة إلى كيان الخلافة الإسلامية، فطعنت قلبه،
وصدعت أركانه، ومزقت أوصاله، وأقصت نخب الفكر الإسلامي ورموز الوفاء
عن دائرة الحضور والفاعلية في بلدانهم، وكان في هذا الإجراء الحنون ردم لرافد
حضاري ثري، وتدمير لمنهج مدني مؤسس على الضمير والفكر والروح الإنسانية
المؤمنة، وكان في إبعادهم والقضاء على بعضهم والتغرير ببعض آخر حكم على
طبيعة الحياة الإنسانية في هذه البقعة الممتدة بالموت البطيء، كان في هذا الإجراء
كما في الفلسفة العلمانية سلخ للروح عن الجسد، ونزع للعقل عن الضمير،
وتغييب للقيم الأخلاقية النبيلة عن دنيا الناس أجمعين إلا من رحم الله.
والذي تجدر إثارته في هذا السياق عدة أسئلة: ماذا بوسع الإنسانية تحقيقه من
مكاسب بعيداً عن الدين والتدين؟ وماذا جنت بانتكاسها عن قيم السماء، وإعراضها
عن منهج الفطرة وتنكبها سبيل الأخلاق الفاضلة؟ أو بتعبير آخر: ماذا كسبت
الاتجاهات العلمانية بعد أن خسرت الله؟ ! وهل كانت العلمانية عند حسن الظن بها
في تجنيب العالم مشكلات التصادم وفواجع الحروب؟ !
لقد مضينا والعلمانية في بلداننا الإسلامية قرابة قرن من الزمان، فهل حققت
العلمانية وعودها إلى الجماهير من نهضة منشودة، وصحوة ممدودة، ومدنية
موعودة، وعيشة مرغودة؟ ! وهل تحرك مؤشر هذه المدنية التي زعم العلمانيون
تحولها بفارغ وسعهم وغاية جهدهم: نحو الصعود بدرجة أو بأخرى؟
أم أننا لا زلنا منزوين في خانة التبعية والانحسار دون أن نلوي على شيء
مما كنا نتطلع إليه بعيداً عن الله؟ ! ! إن القيم الربانية بأبياتها الخلاَّقة المبدعة
وآلياتها الفاعلة هي وحدها مدعاة بلوغ الإنسانية أمر رشدها الذي لا ضلال معه ولا
سبيل إلى تصادمها وتناحرها به! فالعلمانية إذن» ليس لها مكان في وجود الإنسان
مع الإسلام: فإما أن يوجد الإسلام ولا علمانية، أو توجد العلمانية ولا إسلام « [4] ؛
فالتركيبة الحضارية الإسلامية ذات خواص متميزة ومضادة للعلمانية، ومفطورة
على مجافاة الابتذال الحضاري على هذا النمط الغربي الكريه، ولأن هذه التركيبة
اختلطت بعناصر غريبة فقد غيرت من طبيعتها نوعاً ما؛ فإن ظواهر الصحوة
الإسلامية على مر السنين كانت بمثابة عنصر التوازن المنشود الذي يعيد إلى هذه
التركيبة حيويتها المدهشة الفعالة.
والإسلام في هذا السياق كله: لا يعتد بأنصاف الحلول ولا بأرباعها؛ فإما
علمانية وإما إسلام؛ فلا تملق ولا تلفيق، ولا عوج أو انحراف. يقول - تعالى -:
[فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ]
(هود: 112-113) .
إنني لأرى العالم بأسره شارعاً سفائنه - طوعاً أو كرهاً - باتجاه رياح
العولمة والطريق الثالث وغيرهما، وكلها صوارف وذواهل عن طريق الله المستقيم،
وكأنني بالله ينادي هذه القطعان الشاردة: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام: 153) .
يناديها فلا تلقي له سمعاً أو تعيره أي انتباه، ثم ما يلبث نداء الله يتكرر باتجاه
تلك الجموع السادرة لا سيما أولئك الذين بينهم وبينه عهد وميثاق، ولكنَّ وَهَنَ
التبعية لغيره جل وعلا أعياهم، وصرفهم بريق الحول عنه سبحانه فهل سيصغي
المعنيون بنداء الله، فيفيئوا إلى مرافئ الهداية وشطآن النجاة؟ ! أم أنهم سيظلون
سادرين حتى تمخر بهم سفائنهم في لجج التخبط والحبوط، فيمضوا إلى المجهول
غير مأسوف عليهم، فإذا بنداء رباني عاتب وأخير: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ
أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ]
(يس: 60-61) .
__________
(1) نقلاً عن مجلة نور الإسلام، مصر، العدد الثالث، لسنة 65، ربيع الأول 1417هـ، ص 14.
(2) نقلاً عن: رجعية التقدميين، أبو الحسن الندوي، مقال صحيفة الرائد الهندية، العدد: 8 1417هـ، ص 4.
(3) Montgompry watt, The influence of islam on medieval Evrope, Edimb urgh, 1972 p 58.
(4) العلمانية والإسلام، محمد البهي، كتاب مجلة الأزهر، مصر، 1415هـ، ص 15.(165/115)
في دائرة الضوء
الحرب النفسية ومفاهيم جديدة لممارسات قديمة
محمد أحمد منصور
تعد الحرب النفسية في العصر الحديث أخطر الحروب التي تواجه الحركات
الإصلاحية أين وكيف كانت فهي تحاول أن تصيب الأفكار والتعاليم الناهضة،
وتحول بينها وبين الوصول إلى العقول والرسوخ في القلوب، وهى تبذر بذرة
الفرقة والانقسام، وتضع العقبات أمام التقدم والتطور، وتعمل في الظلام، وتطعن
من الخلف، وتلجأ إلى تشويش الأفكار، ونشر الإشاعات، واتباع وسائل الترغيب
والتهديد، مما يجعل هذه الحرب أشد خطورة من حروب المواجهة العسكرية في
ميادين القتال [1] .
عرف هذا النوع منذ أن قال ابن آدم لأخيه: (لأقتلنك) ، وذكره القرآن في
معرض آيات جهاد الأنبياء لأقوامهم وتكذيبهم لهم، وسيرة النبي صلى الله عليه
وسلم وحروب التاريخ مليئة بنماذج قوية، ولهذا فليس عجباً أن يشير إليها سون
تسي (551 479 ق. م) في كتابه: «فن الحرب» [2] ، ولعل أقرب مثال يعبر
عن حال المسلمين اليوم هو ما قام به المغول في العالم الإسلامي [3] ، وروى طرفاً
منه المؤرخون.
ويمكن لذلك أن نقدم أمثلة من العصر الحديث:
أولها: انهيار الجيش الفرنسي أمام قوات هتلر حين سيطرت عليه بل على
الشعب كله روح الانهزامية إلى حد اعتراف رئيسها آنذاك بأن فرنسا لم تستطع
مقاومة الاحتلال، وبعد أن سقطت باريس لم تستطع أن تسترد إمبراطوريتها
بجيوشها وإنما بجيوش الحلفاء.
ثانياً: موقف مخالف وهو صلابة قوات المقاومة الفيتنامية وصمودها عشر
سنوات أمام نصف مليون جندي أمريكي على أعلى كفاءة قتالية وبأعلى تجهيز
حربي تساندهم مئات الطائرات من سلاح الجو الأمريكي.
أقسم زعيم المقاومة أنه لن يذعن ولو استمرت الحرب ربع قرن، واستمرت
الحرب لتسقط رئيسين أمريكيين هما جونسون ونيكسون، وانشق المجتمع الأمريكي
على نفسه أمام طول نفس المقاتل الفيتنامي.
ظلت هذه السقطة الأمريكية ساكنة في الوجدان الأمريكي حتى جاء ريجان
وخطط لحرب الخليج الثانية.
وعُرفت الحرب النفسية بشكل جلي عن طريق اللاسلكي، لكن النازية بقيادة
هتلر وبدهاء جوبلز وزير الإعلام النازي ومع توفر اختراع المذياع بدأت الحرب
النفسية تنتقل نقلة واسعة وتتميز بسِماتٍ لم تكن فيها من قبل، ومن أهم تلك السمات
ما يلي:
1 - أن الحرب النفسية ارتقت من كونها وسيلة ثانوية في الحرب العسكرية
إلى أن أصبحت وسيلة أساسية لا تقل عن الترسانة الحربية.
2 - ظهور مفهوم الحرب الشاملة مع اختراع قاذفات القنابل التي لا تفرق
بين مدني وعسكري، وهذا الأمر وسَّع مفهوم الحرب النفسية ليوجه للمدنيين مثلما
يوجه للعسكريين.
3 - ظهور المذياع كآلة جماهيرية ساعد على كون الحرب النفسية أخذت
طابع الجماهيرية والتكرار اليومي مما ضاعف من أثرها، وكان مبدأ جوبلز الشهير:
«اكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس» .
4 - ظهور فكر منظم وتكوُّن مدارس تقدم نظريات مختلفة في هذا المجال،
وقد ساعد على ذلك أن الحلفاء استخدموه بكفاءة، إلاَّ أن السبب الأول كان للدعاية
للنازي.
لكن سقوط القنبلة النووية على هيروشيما ونجازاكي كان بمثابة إسدال الستار
على حقبة وبدء حقبة جديدة عرفت بحقبة (الحرب الباردة) التي أصبحت فيها
الحرب النفسية هي الوسيلة الأولى للحرب يدعمها الآلة العسكرية والحروب التي
تشن بالوكالة على مسرح ما عرف بالعالم الثالث.
ولهذا رأى بعضهم أن الحرب النفسية عبارة عن قذائف من الكلمات التي
تُختار بعناية وتُصاغ بحساب دقيق مستهدفة تشكيك شعب دولة العدو وجنوده في
قضيتهم، وهدم ثقتهم في قياداتهم، وفي حكومتهم وفي قدرتهم على تحقيق النصر،
فبقدر ما يسعى طرف إلى تأكيد عدالة قضيته الخاصة والمحافظة على إيمان شعبه
وجنوده بها وثقتهم بقياداتهم وحكومتهم وفي قدرتهم على تحقيق النصر، فإنه يسعى
إلى النقيض تماماً في دعايته الموجهة إلى الأعداء.
وفي النظم الشمولية القائمة على القهر يشيع ما يسمى بـ «غسيل أدمغة»
شعوبهم، عن طريق حملات دعائية دائمة كاسحة، متكررة العناصر وثابتة الاتجاه
لشحن عقول الشعب - وجنوده - بصورة «الزعيم» وأقواله وأفكاره، كما نرى في
الدعاية الهتلرية والستالينية [4] .
لكن الدولة التي تدير حربها ودعايتها بكفاءة أعلى من حيث المعلومات
والاستفادة من العلوم الإنسانية والهندسية ومقدار الحبكة والتناسق في التدفق
والتكرار، والتنسيق بين أدوات الحرب، وتوظف الجميع لخدمة الهدف وتوضحه
لهم بدقة، وتنجح في توفير المعرفة الدقيقة بنفسية العدو وسلوكه الفردي
والاجتماعي، ومكامن قوته وضعفه، ومراعاتها للمتغيرات الداخلية، فإذا ما واكب
ذلك آلة حربية متخمة، وآلة إعلامية ذات صدى عال، وقدرة سياسية على المناورة،
فيمكن القول إن هذه الدولة هي التي يمكنها أن تكسب الجولة قبل إطلاق
الرصاصة الأولى.
لكن يمكن القول أيضاً إن العلم بالإنسان هو السر في ذلك كله. يقول أحد
الخبراء اليهود: نحن نعتقد أن أكثر الأسلحة فعالية ضد الثائر العربي هو معرفة
عقليته وردود فعله المحتملة على مختلف المواقف؛ فيجب أن نعرف طريقته في
الهجوم والدفاع والتمويه والهرب، وحبه للسلطة، وقدرته على الصمود في وجه
الرشاوى، ومدى إخلاصه، وميله إلى الجدل والتخلي عن رفاقه وقت الشدة،
وتأثير النزاعات الاجتماعية، ومدى استعداده لخيانة رئيسه، وموقفه من عدوه ومن
جاوره، وما هي قواعده القتالية، وما الذي يثير أعصاب المقاتل العربي، وما هي
أكثر الوسائل فعالية في ضربه، ثم متى يكون الهجوم عليه شخصياً فعالاً، ومتى
يكون الهجوم على أملاكه أفضل [5] ؟
ومن هنا عملت أجهزة الاستخبارات جنباً إلى جنب مع الإعلاميين وعلماء
النفس والاجتماع والعسكريين والسياسيين في أداء هذه المهمة.
كيف تفرَّد الغرب:
كان لسقوط القطب الشرقي أثر واضح في تفرُّد دول الغرب في العالم وسعيها
عبر وسائل إعلامها في فرض سيطرتها على العالم بتشكيل المواقف والسياسات
والرؤى وأنماط الحياة بالشكل الذي يحقق أهدافها. وقد أوضحت حرب الخليج أن
صناعة الأخبار، بصفتها إحدى أدوات الحرب النفسية تفوق في أهميتها صناعة
السلاح، وأن آلة الإعلام قد تكون أقوى من آلة الحرب، وأن الحرب يمكن أن
تدور عبر شاشات التلفزيون وصفحات الصحف، وغير ذلك فتهزم الشعوب
والأنظمة داخلياً، وتفقد ثقتها في نفسها، وتنهار قدرتها على الحرب.
والهزيمة النفسية تفوق بكثير في آثارها ونتائجها الهزيمة العادية؛ فقد تتحول
تلك الأخيرة إلى نصر يوم أن تنطلق الإدارة لتواجه التحدي، لكن الهزيمة النفسية
تظل تقيد إرادة الإنسان وتعطل قدراته على المقاومة.
والأمر الذي لا شك فيه هو أنه لو خيرت دول الشمال بين أن تتخلى عن
جيوشها وقنابلها الذرية وقاذفات صواريخها، وبين أن تتخلى عن وكالات الأنباء
الأربع الكبرى، وشاشات التلفزيون، والأقمار الصناعية والصحف الكبرى، فإنها
لن تتردد في أن تتخلى عن الأولى. وعلى أي حال فهذا افتراض خيالي وسفسطة
غير منطقية، فدول الشمال ستظل تهدد العالم بآلة حربها وآلة إعلامها معاً وفى
الوقت ذاته [6] .
الحرب النفسية وأخواتها:
تطوُّر مفهوم الحرب اليوم يواكب كل القفزات في العلم الحديث ليشمل إلى
جانب الحرب العسكرية الميدانية - الحرب النفسية - الحرب الإلكترونية - حرب
الصواريخ - الحرب البيولوجية - الحرب الكيماوية - الحرب النووية ... إلخ.
والحرب النفسية لا شك في أنها تعتبر أحد المكونات الأساسية لإصدارات
الحرب المتتالية التي تفرزها قرائح الغرب وتطورها بعقول قد تكون غير غربية.
وإذا كانت الحرب النفسية لا يمكن فهم أبعادها دون معرفة العلاقة بين أجهزة
الإعلام التي تتولى عملياً مهمة الدعاية لأهداف ومصالح الدولة الوطنية في مراحل
الإعداد للحرب أو في أثناء الحرب أو حتى في وقت السلم - معرفة هذه بأجهزة
الرقابة المسؤولة عن حماية كل أسرار الدولة وقواتها المسلحة ومصالحها القومية
العليا.
إذا كانت الحرب النفسية لا يمكن فهمها إلا في هذا الإطار، فلا يمكن فهمها
كذلك بمعزل عن أخواتها التي ظهرت كمسميات أفرزها اختلاف التجارب في بعض
الأحيان أو التكامل في أحيان أخرى أو مجرد الاختلاف في التسمية دون مشاحَّة في
الدور.
ومن هذه المسميات:
الدعاية - حرب الأعصاب - الحرب المعنوية - حرب الأفكار - حرب
الإرادات - حرب الدعاية - الحرب الباردة - حرب الإشاعات - الحرب السياسية -
غسيل الدماغ - الحرب الأيديولوجية - الحرب السيكولوجية - الحرب الثورية -
الاستعمار النفسي ... إلخ.
قد تستخدم هذه الألفاظ بمعنى الحرب النفسية ذاته في بعض الكتابات، وقد
تشير إلى دور وظيفي مكمل ومستقل في كتابات أخرى؛ ف (الحرب النفسية) هو
المصطلح الأشهر والأدق والأكثر شهرة، وقد تم استخدامه لأول مرة عام 1941م
في ملحق معجم (وبستر) الدولي الجديد للغة الإنجليزية، وهي نوع من القتال
النفسي الذي لا يتجه إلا إلى العدو، ولا يسعى إلا إلى القضاء على إيمانه المستقل
بذاته وبثقته بنفسه. وبعبارة أخرى هي تسعى لا إلى الإقناع والاقتناع وإنما تهدف
إلى تعظيم الإرادة الفردية.
أما الدعاية: فيقصد بها عملية الإثارة النفسية بقصد الوصول إلى تلاعب
معين في المنطق؛ فإذا بنا إزاء استجابة ما كان يمكن أن تحدث لو لم تحدث الإثارة
العاطفية.
وهي كما تتجه إلى الصديق فإنها تتجه إلى غيره، وكما توظف خارجياً
توظف داخلياُ. وقد تتخذ شكل تمثال أو مبنى، أو قطعة من النقود، أو رسماً، أو
طابع بريد، أو فناً، كما يمكن أن تأخذ شكل الخطاب أو المواعظ أو الأغاني أو
الفنون عبر موجات الإذاعة أو صور التلفزيون، وهي ببساطة عملية يجري من
خلالها توصيل فكرة أو رأي ما إلى شخص آخر من أجل غرض محدد. لكن
الحرب النفسية هدفها أكثر اتساعاً بينما دائرة فاعليتها أكثر تحديداً من الدعاية وهي
التي تسعى إلى القضاء على الإرادة ولكنها لا تتجه إلا إلى الخصم أو العدو.
أما الحرب الأيديولوجية: فيُقصَد بها نوع من أنواع الصراع النفسي أساسه
الرغبة في سيادة أيديولوجية على أخرى.
وأما غسيل المخ: فأسلوب من أساليب التعامل النفسي يدور حول تحطيم
الشخصية الفردية بمعنى قتل الشخصية المتكاملة، أو ما في حكم المتكاملة، إلى حد
التمزق العنيف؛ بحيث يصير من الممكن التلاعب بتلك الشخصية للوصول بها لأن
تصير أداة طيعة في يد المهيِّج أو مثير الفتن والقلاقل.
التحويل العقيدي: صورة من صور غسيل المخ لكنها تتجه إلى المجتمع
الداخلي بقصد خلق الأصدقاء المتعصبين.
التسميم السياسي: زرع قيم جديدة وأفكار معينة من خلال الخديعة والكذب؛
بحيث تؤدي إلى تصور معين للموقف يختلف عن حقيقته مما يترتب عليه عند
اكتشاف تلك الحقيقة نوعٌ من الصدمة النفسية، مما يؤدي إلى شلل نفسي، ومن ثم
إلى عدم القدرة على عملية المواجهة.
والتسميم السياسي بهذا المعنى قد يكون مقدمة لمعركة أو قد يكون لاحقاً لها،
يقدم بحيث يسمح بتحقيق النصر العضوي بأقل تكلفة، أو يأتي لاحقاً لها بحيث
يكمل الانتصار بالقضاء المطلق على الخصم بوصفه وجوداً ذاتياً لا يزال يناضل
في سبيل التمسك ببقائه الحضاري.
حرب المعلومات: وهو اصطلاح برز في العقدين الأخيرين أساسه تخزين
المادة الإعلامية وإطلاقها في لحظة معينة بحيث تؤدي إلى فقد الثقة في الأخبار [7] .
ومع تعدد الأشكال والأساليب يبدو أن التعامل النفسي أضحى عنصراً من
عناصر الحركة وأداة من أدوات السيطرة على إرادة الصديق أو الخصم قبل احتوائه
أو تحطيمه. والواقع أن الاهتمام بالتعامل النفسي ليس بجديد في تاريخ الإنسانية إلا
أنه في الربع الأخير من القرن الفائت فرض على تلك الظاهرة تطورات ضخمة
بحيث جعلنا من هذا العامل المنطلق الحقيقي ليس في العلاقات الفردية وحدها؛ بل
أيضاً في مجال العلاقات الدولية، ولهذا فقد أضحت علوم النفس بفروعها: التربوي
السلوكي الاجتماعي ... إلخ أحد أبرز عوامل التطور في هذا المجال.
وإذا كانت البشرية تسعى اليوم بجد للوصول إلى الجذر الأصغر في سائر
العلوم سواء الكيميائية أو الوراثية أو النفسية أو السلوكية ... فإننا نجد على سبيل
المثال بأن إسرائيل استفادت من جميع المدارس النفسية الدعائية في التاريخ القديم
والحديث، ومن التجارب المعاصرة كالتجربة النازية، بل طبقت التجربة نفسها مع
عرب فلسطين.
وعلى أيدي مجموعة من الأساتذة المتخصصين (الأكاديميين والممارسين) تم
تطوير مجموعة من الأصول والقواعد التي تستهدف الإقناع السياسي والأيديولوجي
والنفسي في مختلف الظروف.
ولهذا نجد أن أقسام علم النفس تحظى في الجامعات الإسرائيلية بما لا يحظى
به الطب؛ إذ لا يقبل فيه إلا ذوو التقديرات العالية والقدرات الخاصة. وفي بعض
الأقسام ربما يتقدم 15 طالباً فلا يقبل منهم إلا واحد. وهذه الأقسام تحتوي على كافة
تخصصات علم النفس المعاصر، ومن بين الاهتمامات البحثية لأعضاء هيئة
التدريس الآن:
علم النفس العصبي، العمليات العقلية، الإدراك الاجتماعي، الذكاء
الاصطناعي، التفكير الاستنباطي، الاضطرابات الوسواسية القهرية، الأسرة
والاكتئاب، الانفصال، علم نفس الطفل الإكلينيكي، الإرشاد المهني، الموهبة
والإبداع، الحكم تحت الضغوط، قياس الشخصية، التأثير الدائم للمحرقة اليهودية،
علم النفس الإعلامي، العدوان الاجتماعي، العدوان السياسي، الإرهاب [8] .
ولذلك فإن جمع المعلومات حول شخصيات الزعماء ورؤساء الحكومات
وزعماء المعارضة وقادة العمل السياسي وكل ما يتعلق بالهيئات والتنظيمات
السياسية ونظم الحكم والأحزاب السياسية وتأثيرها ومدى الدور الذي تلعبه
الأقليات ... كل ذلك يتم توظيفه بتقنية حديثة ووفق منهجية علمية عالية من أجل
البقاء فى محيط عدائي بل السيطرة وحدها على مفاتيح المنطقة الإسلامية. وهذا
هو منطق عالم الاجتماع الأمريكي أرنولد جرين (عالم الاجتماع الأمريكي في
منتصف الثلاثينيات) : إذا كانت حكومة الولايات المتحدة ترغب في إقامة روابط
اقتصادية وسياسية وعسكرية وثيقة مع بلدان وشعوب العالم بأسره، فإن علينا
نحن علماء الاجتماع أن نعرف أكثر مما نعرف عن هذه البلاد وعن شعوبها وما
هي ثقافتها، وما هي الاتجاهات السائدة نحو الولايات المتحدة، وما هي معتقداتهم
وانحيازاتهم التي يمكن التعرف عليها والإفادة منها لجذبهم إلى فلك نفوذنا [9] .
وللأسف فقد نجحت الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل إلى حد كبير ليس في
الوصول فقط إلى الجذر الثقافي والنفسي والاجتماعي وإنما في اللعب فيه أيضاً
بدأت هناك وانتهت هنا، كما يقول (أديان أركند) في خطاب له: «بواسطة
وكالات الأنباء العالمية يغسل اليهود (أدمغتكم) ويفرضون عليكم رؤية العالم
وأحداثه كما يريدون هم، لا كما هي الحقيقة، وبواسطة الأفلام السينمائية؛ فخلال
ساعتين من الزمن، وهي مدة عرض فيلم سينمائي، يمحو اليهود من عقول شبابنا
وأجيالنا الطالعة، ما قضى المعلم والمدرسة والبيت والمربي ستة أشهر في تعليمهم
وتثقيفهم وتربيتهم؛ قال هذا الكلام عام 1937م في نيويورك؛ واليوم زاد الأمر
واستفحل؛ إذ إن وسائل الاتصال فرضت إلغاء عامل الانفصال المكاني والزماني
بين الشعوب مع تغليف الفكرة بعامل العاطفة والالتقاء المعنوي وتوفر صفة التكرار
اليومي التي مكنت منها التطورات الإعلامية، وفتحت المجال أمام الجميع ليحارب
الجميع عبر الكلمة، وعلى حد تعبير (ألبير كامي) :» على اتساع خمس قارات
خلال السنوات المقبلة سوف ينشب صراع لا نهاية له بين العنف وبين الإقناع
الودي.... ومن هنا سيكون السبيل المشرق الوحيد هو رهن كل شيء في مغامرة
حاسمة مؤداها أن الكلمات أقوى من الطلقات «، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله إذ قال:» إن من البيان لسحراً « [10] .
الدوائر المتقاطعة:
حين تتقاطع دوائر الحرب النفسية المختلفة التي يشنها الجميع ضد الجميع فإن
مجال التقاطع يحدد هوية عدو الجميع، أو على أحسن تقدير من يناله أذى الجميع.
والملاحظ دون جهد أن الشخصية المسلمة هي التي تتبوأ وحدها هذه المنزلة وفق
سنة التداعي.
فهي مستهدفة من الملل الأخرى، ومستهدفة من الأنظمة الغربية، ومستهدفة
من المنظمات والتكتلات والتنظيمات العالمية؛ وإلى هذا ينالها ظلم ذوي القربى فيما
تشنه الأنظمة العربية المتعارك بعضها ضد بعض، أو ما تمارسه الأنظمة من
عمليات كبت أو قمع أو تقزيم أو تهميش أو تشويه أو تعتيم أو إقصاء ضد
الإسلاميين في داخل الأوطان.
وهي في نظري أكبر خطيئة؛ إذ المفترض أن تؤدي مثل هذه الأنظمة الدور
المناسب من خلال أجهزتها في رفع الروح المعنوية لرجل الشارع، ودفع ما يمكن
أن يتعرض له من غزو وحرب نفسية، لكن الواقع يحكي عكس ذلك تماماً؛ إذ
تمارس هذه الأجهزة دورها في تشويه الإسلام ورموزه عن حسن نية أو عن فساد
طوية، فيأتي دورها مكملاً لما لم تستطع الوسائل الأجنبية الوصول إليه لولاها.
ومن جهة أخرى نجد أن الحرب موزعة الأدوار بدءاً من القادة والسياسيين؛
فهؤلاء لهم رسائلهم الخاصة التي تناسبهم، ومروراً بالأكاديميين والمثقفين سواء
الذين تربوا في الغرب ورضعوا الكره للإسلام وعادوا لينفثوه سماً، أو أولئك
المعجبون حتى الحياديون [11] ، وعروجاً إلى العسكريين على مختلف اختصاصاتهم
ومستوياتهم، ووصولاً إلى رجل الشارع بمختلف فئاته واهتماماته وانتماءاته، من
شيوخ ورجال وشباب وفتيات ونساء وصغار؛ كل هؤلاء ينالهم خطاب عام إلى
جانب خطابات خاصة موجهة لكل نوع، وانتهاءً بالمربين والدعاة الذين ينالهم
نصيبهم الأوفر غير منقوص من التشويه والتخذيل والملاحقة وسائر صنوف هذا
المجال وفنونه.
ومهما تصورنا المصيبة فلن تكون كمقارنة بسيطة نجريها بين شخصية عربية
ضعيفة مذبذبة وبين شخصية غربية أو شرقية مرفوعة الرأس معتدة بدينها وقوميتها
وانتمائها، فيظهر مدى الانسحاق النفسي والروحي الذي وقعت فيه منطقتنا
وجماهيرنا، وإذا ما أجرينا مقارنة كذلك بين جيل الثلاثينيات وجيل التسعينيات
والمواقف هنا وهناك نجد الفارق السلبي واضحاً مع أن المفروض كان العكس بأن
تتزايد درجة وعينا لخطر العدو الذي لم يكن في ذلك الوقت غير مئات مهاجرة لا
جذور لها، وكان المفروض أن تتعاظم المقاومة لهذا العدو بما يوازي درجة خطره،
ولكن الذي حصل أن الذي كان خائفاً تجرأ، والذي كان جريئاً خاف؛ فالذين لم
يكونوا يجرؤون على التصريح بالتعايش مع اليهود صاروا هم أصحاب الصوت
الأعلى إن لم يكن الأوحد، وأصحاب النجدة الذين عرفوا بهيبتهم لنصرة إخوانهم
صار جناحهم مهيضاً وصوتهم خفيضاً.
إن الأمر ليس أمر تطور القوة الإسرائيلية فحسب؛ ولكن قبل ذلك وأهم من
ذلك أمر تدهور النفسية العربية حين غُيِّبت عقيدتها، وتآكلت آمالها في مواجهة
إسرائيل.
وكما قال تشرشل: كثيراً ما غيرت الحرب النفسية وجه التاريخ.
وهذا ما يسميه بعض الباحثين بالاستعمار النفسي، والذي يعمد إلى استعمار
النفوس والعقول بدلاً من استعمار الأرض؛ ذلك أن السيطرة على النفوس والعقول
والأفئدة تعني السيطرة على كل شيء فلا تكاد النفوس ترى إلا بعينه ولا تسمع إلا
بإذنه ولا تفكر إلا بعقله، تكره ما يكره وتهوى ما يهوى وتقضي حياتها في سبيل
رضاه، وليتها تحظى به؛ فربما كان نصيبها النقمة والازدراء [12] .
__________
(1) الرسول صلى الله عليه وسلم والحرب النفسية ص 2، نقلاً عن الحرب النفسية د أحمد نوفل ج 1: ص 30 - 31، دار الفرقان للنشر والتوزيع.
(2) انظر على سبيل المثال: ص 28 29، ص 31 33.
(3) انظر: الحرب النفسية د أحمد نوفل ج 1.
(4) قصف العقول: 13، 14، تأليف: فيليب تايلور، ترجمة: سامي خشبة، إصدار عالم المعرفة.
(5) البيان الإماراتية، عدد 22/6/2000م.
(6) صناعة الأخبار، تأليف د سليمان صالح عن دار النشر للجامعات مصر.
(7) راجع الحرب النفسية في الوطن العربي د حامد ربيع، والحرب النفسية ج 1 د أحمد نوفل.
(8) انظر: البيان الإماراتية عدد 15/6/2000م.
(9) عن اختراق الأمن القومي المصري، عبد الخالق فاروق، مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر، ص 50.
(10) أخرجه البخاري، رقم 5767.
(11) انظر كيف اضطررنا لتسمية مثل هؤلاء حياديين إلى الله المشتكى.
(12) انظر: البيان الإماراتية عدد 1/5/2000م.(165/121)
قضايا ثقافية
العلم والدين علاقة ارتباط أم انفصام؟ !
محمود محمد دبش
ما زالت مقولة (العلم والدين) منظورة من قِبلَ بعض الباحثين عن
المتقابلات والثنائيات الحديثة في محيطنا الثقافي، من أمثلة (العقل والنقل)
و (التراث الحداثة) و (التخلف التطور) و (الإسلام الغرب) ، ولا تنتمي
هذه المتقابلات في تنوعها إلى حقل معرفي موحد، بل هي ربما تستمد سلطانها
المعرفي من أفق مختلف كل الاختلاف عن مقابلتها الحديثة.
ومن اللافت للنظر أن المقولة التي يمليها مدار بحثنا قد انطلقت وتناوشتها
العقول مع التماسِّ المباشر مع الغرب؛ فلذلك تراها انبثقت من تصادمية أخرى
وهي الإسلام باعتباره مفهوماً حضارياً ودينياً؛ والغرب من قبيل أنه مفهوم إقليمي
تتحدد سلطته المعرفية في انتمائه للدين النصراني - اليهودي.
وثنائية العلم - الدين نشطت في ظل هذا التماسِّ مع ما يكتنفه من خلفية
تصادمية سابقة على هذا التماس؛ مما ولَّد العديد من الفصائل الفرعية التي ربما لا
تكون حقيقية في واقع أمرها، بل جاءت من ظلال هذه الحالة التصادمية التي
عززت موقعها من بنات أفكار بعض الباحثين مستلهمين في ذلك الوازع
الأيديولوجي الذي يكون منطلقاً لباقي الأفكار والتصورات؛ وهذا مما أدى في حقيقة
الأمر إلى ارتباك في المفاهيم، وبناء المصطلحات على غير بنية علمية مؤكدة.
بل إن طرح المشكلة على شكل مواجهة حادة بين العلم على إطلاقه، وبين
الدين عموماً، ما هو إلا تنظير غربي محض من واقع تجربته المريرة مع الدين
ورجاله، والتي أفرزت هذه المواجهة الحادة التي لا نهاية لها في واقع الأمر.
وقد تم نقل هذه الثنائية على أيدي المفكرين العرب، من دون ردها إلى
حيثياتها الأساسية المسوغة للواقع التاريخي لهذا التصادم الحاد.
وقد ساد تصوير هذه العلاقة على هذا الشكل، وتحديدها ضمن هذه الأطر
والمفاهيم المستلة من ثقافة الغرب لكي تخدم الموقف الغربي في بسط تصوراته
وآليات تفكيره على المجتمعات الخاضعة لسيطرته؛ وفي ذلك تأبيد لهذه السيطرة
الاحتكارية للحقائق والمفاهيم، وهو الأمر الذي يسلم له موقفه من العلم والدين،
وهو مَفْصل الإشكال الذي يرد على هذه القضية من حيث الأساس، وما عدا ذلك إن
هو إلا حلقات في تعزيز المفهوم الأساسي الذي يستند إلى واقع منفصم عن الحقائق
والتصورات الصحيحة التي يستند إليها الدين والعلم معاً. وفي هذا المقال سوف
نحلل هذا الارتباط المتعاكس بين العلم والدين، وتقرير حقيقة العلاقة التعاضدية
التواصلية بينهما، ولا أقول علاقة توأمية كما يدعي بعضهم؛ بل هي حقيقة واحدة
تبتدئ بالعلم وتنتهي بالدين، وهي خط بياني واحد متواصل مهما امتد شوط العلم
في مساره تألقت له الحقيقة الدينية في ذروة شوطه بأجلى مظاهرها وأينع ثمارها،
والعلم - مهما تفرع في بيداء المعرفة - سوف يقطف ثمار معرفته في كنف الحقيقة
الدينية الربانية.
وهذا مما يساعد على تبديد وهم الانفصام النكد الذي رسمه لنا الوهم الغربي
عن العلم والدين معاً.
العلم في منظوره الغربي:
العلم كما صورته المصادر الغربية والموالية لها قد انحصرت يقينياته فيما
يخضع لسيطرة الحواس الإنسانية وما عداه من اليقينيات فهي لا تخضع لمقولة هذا
العلم أو توزن بموازينه، وهذا يشمل بطبيعة الحال المفاهيم الدينية ومرتكزاتها
الغيبية. وقد امتد هذا الرفض حتى شمل كل المفاهيم التجريدية غير التجريبية التي
لا يصادق عليها الواقع أو مما يتيسر قياسه أو تجربته، وامتد سلطان التجريبية في
شتى معاهد العلم الغربية، واستقرت الأخلاق والقيم على مبادئ وأسس جديدة بعيدة
عن الدين وأحكامه وصارت المعايير الأخلاقية والقيمية تقاسي من حيث مدى نفعها
على الذات الإنسانية بغض النظر عما تسببه للآخرين، وهو ما نشأت عليه
الذرائعية على أنها فلسفة للحياة تتوافق مع المنهج التجريبي حين فرَّغت العلم من
مفهومه الحقيقي، وصبته في قوالبها التجريبية البحتة.
والذرائعية لا تملك مفهوماً محدداً في بيئتها المعرفية طالما كل الأفكار والقيم
ممكن استخدامها في نظرهم ذرائعياً، وبذلك تكون القيم ومنها الدينية مجرد حامل
للتوجهات والغايات التي ترتبط بالمراد النفسي للإنسان مهما كان باعثه عاطفياً أو
عقلانياً!
بهذا المدى وتحت تكييف هذه الشروط أصبح للعلم مفهوم مختلف لدى الغرب
عما هو عليه في الحقيقة، وبات هذا المنظور هو السائد وهو ما يجب اعتناقه
طوعاً أو كرهاً؛ وهو ما تحاول الجهات العلمية والسياسية بجميع اختصاصاتها أن
تسوِّقه وتروِّج له في المحافل العلمية محاولةً إخضاع الشعوب وموروثاتهم الدينية
والثقافية والقيمية لهذا المقياس الكمي، وهو التوجه الحالي للعولمة المعاصرة.
الدين من المنظور الغربي:
بالمقابل كان للدين في المفهوم الغربي في (المخيال الاجتماعي) سلطة
كهنوتية لا تستمد من المفاهيم الدينية الموجودة أو الثابت علمياً ونطقت به وقائع
الحياة، فعادوا بنتيجة مفادها أن هذا المسمى: (ديناً) ليس له من حقيقة الدين إلا
الإشباع الغريزي لهذه العاطفة الإنسانية الكامنة؛ فهو غير مستند إلى دليل عقلي
مقنع أو حجة نقلية صادقة، بل ما هو إلا أفكار بشرية صيغت بلبوس ديني لكي يتم
القبول بها؛ فاللجوء إلى مقولات دينية هو الوجه الآخر لنفي صفة العلمية عنها
والعكس بالعكس، ومن هنا تولد التضاد بين المسارين وما زال. وهذا الشكل من
التقنين للمسألة هو نتيجة منطقية لفساد المفهومين معاً في المنظور العلمي الغربي؛
حيث لا العلم الذي اعتنقوه تصوراً وتطبيقاً يحصر بذلك الذي فهموه منه كمّاً وقياساً
وحساً فقط، ولا الدين في عمومه الذي صُوّر لهم بمفاهيم الكنيسة هو الدين الحق
بدلائله الصادقة، والذي يمكن أن يركن إليه العلم ويصل إليه بوسائله العديدة،
ويميز الحق من الباطل منه.(165/129)
الباب المفتوح
كأنك تراه
عادل بن سعد الحسيكي
الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه؛ إنه الله - سبحانه وتعالى - إنه الملك، إنه
السميع البصير، إنه الذي يعلم السر وأخفى، إنه الرقيب علام الغيوب.
لماذا كأنك تراه عياناً بياناً أمام ناظريك؟ أليس لتستحي منه وترقبه في أقوالك
وأفعالك؟ !
إن هذه المقولة الإيمانية عندما نتملاّها تنقلنا إلى آفاق عالية، آفاق تجعلنا على
أفعالنا وأقوالنا حراساً، وعلى أفكارنا وخواطرنا مراقبين.
ألا ترى أن كل الوشائج تلاشت في ظل هذا الدين، لتبقى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات: 13) خفاقة فوق كل رابطة، ومداد كل شرف ومكرمة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت» [1] ، إنه الحياء من
الله - سبحانه وتعالى -، إنها الرقابة التي تسمو بها النفس فوق أعمال الجوارح
وفلتات اللسان، وخطرات الأفئدة، قمة الحياء، ومعيار الكرامة والشرف؛ لأن هذا
الدين ليس دين المظاهر والأشكال، وليس دين العنصرية ومراعاة الأعين
والنظرات.
إنه دين التربية، دين أكمله الله وجعله مهيمناً على جميع الأديان والمذاهب
المنحلة التي غصت بها عصور سالفة، وتجرعت مرارتها عصور حاضرة، ظناً
منها أن هذا الدين قاصرٌ عن متطلبات كل مكان وزمان، فحارت في مفاوز التخلف
والرجعية، وتاهت في ظلم الأحكام والقوانين الوضعية.
ترى! ما عسى أن تفعل النفس الأمارة بالسوء إذا انفلتت من هذا الحصن
الحصين، وهذا القيد المتين وتعرت من أثواب الحياء؟ أليست ستقع في مهاوي
الردى، ودركات المعاصي، ولجج الدناءة واللامبالاة؟ !
إن هذه قضية مشهودة، وواقعة ملحوظة، فلا نبعد عن مجتمعنا الإسلامي،
فضلاً عن مجتمعات الكفر والإلحاد، فيوم أن تخلى المسلمون عن هذا المنهج
النبوي القويم رأيت المعاصي تُقتَرف آناء الليل وآناء النهار، من سب للدين،
واستهزاء به في مقالات سافلة، وأدبيات حوت دسائس عداء متأصل دفين، إلى
قتل وإجرام علني مجاهر به، في شتى مجالات الحياة ومختلف معتركات العمل.
إن المجتمع النبوي يوم أن رسخ في سويداء قلبه هذا المنطلق التربوي العظيم
كان خير القرون، عز فيه الإسلام وقويت شوكته، فساد المعمورة وأرسى فيها
قواعد عزه؛ فهذا شاب في الثامنة عشرة من عمره يقود جيشاً، وآخر يمتلئ قلبه
غضباً على فرعون هذه الأمة؛ لأنه علم أنه يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيجندله صريعاً قتيلاً، وآخر يهتز لموته عرش الرحمن، ورابع تغسله الملائكة بين
السماء والأرض، إنها نفوس شبت على الخوف من الله والحياء منه، واستشعار
مراقبته وإحاطته - سبحانه - في السر والعلن، جعلت نصب أعينها: [إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] (النساء: 1) ؛ فهلا كان لنا فيها أسوة وقدوة.
إن الإسلام في حاجة ماسة إلى رجال مخلصين يملأ الإيمان قلوبهم، ويتملك
الاعتصام بالله والخوف منه أفئدتهم حتى يقيم لبنات عزة على أكتافهم، يحتاج إلى
سواعد بناءة تعمل جاهدة في رفعة هذا الدين، والذود عن حياضه، والصمود في
وجه أعدائه.
وختاماً: تشبث بالصبر، وتحلَّ بالإقدام، وكن دائماً كأنك تراه.
__________
(1) رواه الإمام أحمد، (5/158) برقم (21441) ، والترمذي، (4/355) برقم (1987) .(165/131)
الباب المفتوح
لفظ التوحيد في السنة النبوية
طلال بن علي الجابري
استقر التوحيد بأقسامه الثلاثة - عند أهل الحق -:
1- توحيد الألوهية.
2- توحيد الربوبية.
3- توحيد الأسماء والصفات.
ووفقهم الله - عز وجل - للعمل بمقتضى هذه العقيدة السمحة، إلا أنه لا بد
لأهل الحق من المدافعة والمنابذة من أهل الزيغ أو الجهل بين الحين والآخر [سُنَّةَ
اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ] (الأحزاب: 62) ، ومن ذلك:
1- إنكار تقسيم التوحيد من بعض أهل البدع وادعاؤهم أن أول من جاء به
شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب؛ رحم الله الجميع.
وقد تولى الرد على هذه الفرية جمعٌ من العلماء. قال الشيخ بكر أبو زيد:
(هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده وابن جرير
والطبري وغيرهم، وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقرره الزبيدي في
تاج العروس، وشيخنا الشنقيطي في أضواء البيان في آخرين؛ رحم الله الجميع،
وهو استقراء تامٌّ لنصوص الشرع، وهو مطرد لدى أهل كل فن كما في استقراء
النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف، والعرب لم تَفُهْ بهذا، ولم يعتب على
النحاة في ذلك عاتب، وهكذا من أنواع الاستقراء) [1] .
2- تسمية أقسام التوحيد اصطلاحاً. وهذا خطأ؛ والصواب أنه استقراء من
نصوص القرآن الكريم وليس اصطلاحاً أنشأه بعض العلماء من عندهم؛ ولهذا نجد
أن العلماء لا يسمون ذلك اصطلاحاً، بل يقولون إنه استقراء كما في (أضواء
البيان 3/410 414) وما تقدم من كلام الشيخ بكر أبو زيد وغيرهما، وقد سمعت
الشيخ عبد الله الغنيمان يرد هذه التسمية ويسميها: استقراء.
3- زعم بعضهم أن لفظ التوحيد مصطلح عليه (أي أنه من عند العلماء)
ولم يرد في القرآن ولا في السنة، كما صرح بعضهم في درسه بذلك، وقد نبهته
ورجع جزاه الله خيراً.
ثم وجدت الخطأ نفسه من بعض الفضلاء في كتاب له، وهذا لا نشك أنه
ناشئ من عدم الاستقراء. ورحم الله أهل الاستقراء التام «كدت لا أراهم إلا في
كتاب أو تحت تراب» . وها هنا بعض الأحاديث النبوية الثابتة في ذكر لفظ
التوحيد ولن آتي به إلا صريحاً؛ لأن بعضهم قال إنه جاء متصرفاً، أما صريحاً
فَلَمْ يأت. فإلى الأحاديث:
1- أخرج الإمام أحمد عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «يُعذب ناسٌ من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حُمماً،
ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة، قال: فيرش عليهم أهل
الجنة الماء فينبتون كما ينبت القثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة» [2] .
2- وجاء في صحيح مسلم وغيره في كتاب الحج عن جابر - رضي الله
عنه -: « ... فأهلَّ بالتوحيد ... » [3] .
3- أخرج أبو داود وغيره، وصححه الحاكم والذهبي وحسنه النووي
والعسقلاني؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض النسوة: «عليكن بالتسبيح
والتهليل والتقديس، ولا تغفلن فتنسين التوحيد (وفي رواية: الرحمة) ، واعقدن
بالأنامل؛ فإنهن مسؤولات ومستنطقات» [4] .
وفي الجملة فقد يكون هناك أكثر وأكثر من الأحاديث النبوية الصحيحة في
ذكر لفظ التوحيد؛ وإنما أردت إثبات هذا اللفظ الشريف، ويكفي في ذلك حديث
واحد؛ ولله الحمد.
كما أني أنصح الجميع بعدم النفي لبعض القضايا أو الأسماء إلا بعد الاستقراء
التام والاعتماد على العلماء المتقدمين في ذلك؛ لأنهم أهل الاستقراء حقيقة من أمثال
شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما، رحمهم الله.
وأذكر في هذا المقام أن بعض أهل البدع قال: لم يرد تسمية صفات الله بلفظ
(صفة) ، أما الأسماء فقد وردت! !
وهو بهذا الزعم يشوش على بعض البسطاء من العامة والله المستعان، وغاب
عنه حديث في صحيح البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]
(الإِخلاص: 1) ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «سلوه
لأي شيء يصنع ذلك؟» فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله يحبّه» [5] .
[سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ العَالَمِينَ] (الصافات: 180-182) .
__________
(1) التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير، ص3، وانظر الكتاب القيم: (القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد) ، للدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد.
(2) أخرجه أحمد (3/391) ، والترمذي، رقم 2597، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) أخرجه مسلم، رقم 1218.
(4) أخرجه أبو داود، في كتاب الوتر، 24، والترمذي في الدعوات، 71، وانظر: السلسلة الضعفية (1/186) ، المعارف.
(5) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، رقم 7375.(165/132)
بأقلامهن
من أحكام العِدَّة والحِداد
أمل القصيمي
العدة لغةً: بكسر العين، جمع (عِدَد) [1] ، وهو إحصاء الشيء.
يقال: عددتُ الشيء عِدةً، أي أحصيته إحصاءً [2] .
واصطلاحاً: «اسم لمدة تتربصها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها أو
فراقه لها: بالولادة، أو الأقراء، أو الأشهر» [3] ، وقيل: «التربص المحدود
شرعاً مأخوذ من العدد؛ لأن أزمنة العدة محصورة مقدورة» [4] . فتبين لنا من
التعريفين أن سبب وجوب العدة أحد أمرين: طلاق أو موت.. ومدار حديثنا عن
عدة الموت وأحكام الحادة.. فما هو الحداد؟
الحداد لغةً: الترك [5] ، وقيل: المنع. لأن الإحْداد صفة تتعلق بالمرأة المحدّة،
فهو يمنعها من كثير مما كان مباحاً لها قبله.
واصطلاحاً: تجنب المرأة المعتدة المتوفى عنها زوجها، كل ما يدعو إلى
نكاحها ورغبة الآخرين فيها من طيب، وكحل، ولبس مطيّب، وخروج من منزل
من غير حاجة [6] .
أحكام الحِداد من حيث الوجوب والإباحة:
أولاً الوجوب: «فيجب على كل امرأة متوفى عنها زوجها، في نكاح
صحيح [7] ، سواء المدخول بها أو غير المدخول بها» لما روى أحمد وأهل
السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في (بروع بنت واشق)
امرأة عقد عليها زوجها ومات قبل الدخول بها، بأن عليها العدة، ولها
الميراث «الصغيرة، والكبيرة [8] ، حامل أو حائل» فأمّا عدّة الحائل: فأربعة أشهر
وعشر بلياليهن. لقوله - تعالى -: [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً] (البقرة: 234) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد
على ميت فوق ثلاث ليالٍ إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» [9] ، وأجمع
المسلمون عليه.
أما ذات الحمل فقد خُصّصت بقوله - تعالى -: [وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] (الطلاق: 4) ، وحديث المِسوْر بن مخرمة: أن سُبيعة الأسلمية -
رضي الله عنها - نفست بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي صلى الله عليه
وسلم، فاستأذنته أن تنكِح، فأذن لها، فنكحت « [10] ، فالحديث دليل على أن
الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وإن لم يمضِ عليها
أربعة أشهر وعشر، ويجوز بعده أن تنكح.
وفي المسألة خلاف، وهذا الذي أفاده الحديث قول جماهير العلماء من
الصحابة وغيرهم لهذا الحديث ولعموم قوله - تعالى -: [وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ
أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] (الطلاق: 4) [11] . ويُشترط لانتهاء العدة على المرأة
الحامل أن يكون الحمل الذي وضعته ليس مضغة أو نطفة أو دماً لم تظهر فيه
الخلقة، وإنما يكون الحمل الذي وضعته هو ما يتبين منه شيء من خلق الآدمي.
فإذا وضعت حملها الذي تبين فيه خلق آدمي خرجت من العدة، ولا عبرة بالأيام
للحديث آنفاً، حتى ولو وضعت بعد الوفاة بنصف يوم فإنها تخرج من العدة. حتى
وإن كان سقطاً لقول ابن المنذر - رحمه الله تعالى -:» أجمع كل من نحفظ من
أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط إذا عُلِم أنه ولد « [12] ، وأكثر مدة
الحمل أربع سنين وهو ظاهر مذهب الحنابلة، ونقل ابن القيم:» أنه وجد لخمس
وأكثر إلى سبع، ووُجد في عصرنا لثلاث عشرة وعاش «اهـ وأقلها ستة
أشهر [13] .
ثانياً: الإباحة:
أولاً: يباح الحداد على قريب المرأة من أب وأخ وابن وغيره ثلاثاً؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم:» لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تحد على ميت
فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا « [14] ، فدل الحديث على جواز
الإحداد على القريب الميت وأن مدة ذلك ثلاثة أيام [15] فما دونها، وتحريمه فيما
زاد عليها، كأن هذا القدر أُبيح لأجل حظ النفس ومراعاتها وغلبة الطباع
البشرية [16] .
ثانياً: كما يباح الإحداد لبائن من حي، ولا يُسن لها بالإجماع كمطلقة ثلاثاً
والمختلعة.
ثالثاً: لا يجب الحداد على المطلقة الرجعية بلا خلاف، بل ولا يُسن؛ لأنها
في حكم الزوجة التي لها أن تتزين لزوجها الحي وتستشرف له ليرغب فيها، ولا
على موطوءة بشبهة أو زنا في نكاح فاسد أو نكاح باطل أو ملك يمين؛ لأنها ليست
زوجة متوفى عنها [17] .
ولكن هل يجب الحداد على الكتابية؟ أئمة الفتوى اتفقوا على إباحة الحداد لها،
لكنهم اختلفوا في الوجوب، أو السنية فالجمهور يرى وجوب الحداد على الكتابية،
وذهب المالكية، وبعض الفقهاء إلى عدم الوجوب سواء كان زوجها مسلماً، أو
ذمياً [18] .
بدء وقت الحداد:
الجمهور يرى أن عدة المتوفى عنها تبدأ منذ موت الزوج وهو زمن الإحداد،
سواء علمت بذلك حين الوفاة أو لم تعلم إلا بعد ذلك ما لم تنقض أربعة أشهر وعشر.
فإن انقضت قبل علمها فلا عدة عليها ولا إحداد، وهناك قول لعلي - رضي الله
عنه - أن العدة تبدأ وقت علمها بالوفاة [19] .
أما حكم تأخير العدة لغير عذر شرعي فهو عمل محرم؛ لأن الواجب على
المرأة أن تبدأ بالعدة والإحداد من حين علمها بوفاة زوجها، ولا يحل لها أن تتأخر
عن ذلك لقوله - تعالى -: [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ] (البقرة: 234) [20] .
وتتم العدة بمضي زمانها أي زمان العدة؛ لأن الإحداد ليس شرطاً لانقضاء
العدة [21] .
أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟
المتوفى عنها زوجها تعتد في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه [22]
ساكنة [23] ، ولا تخرج منه إلى غيره [24] بلا عذر سواء كان المسكن لزوجها، أو
بإجارة، أو عارية [25] ، لحديث فُريعة بنت مالك أن زوجها خرج في طلب أعبُدٍ له
فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن
زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه ولا نفقة. فقال:» نعم «. فلما كُنت في الحجرة
ناداني، فقال:» امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله «، قالت: فاعتددت فيه
أربعة أشهر وعشراً، قالت: فقضى به بعد ذلك عثمان» [26] . فاستُدِل بحديثها على
أن المتوفى عنها تعتد في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه ولا تخرج منه
إلى غيره [27] ، بلا عذر، فإن تحولت خوفاً على نفسها أو مالها أو حُوّلت قهراً،
أو حُوّلت بحق - يجب عليها الخروج من أجله - (كتحول لأذاها) ، أو بتحويل
مالكه لها، أو طلبه فوق أُجرته، أو لا تجد ما تكتري به إلا من مالها، انتقلت
حيث شاءت للضرورة [*] .
حكم خروجها زمن عدتها:
يجوز للمعتدة أن تخرج في حوائجها نهاراً لما ثبت من حديث جابر بن عبد
الله - رضي الله عنه - قال: طُلّقت خالتي فأرادت أن تَجُدَّ نخلها، فزجرها رجل
أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «بلى! فجُدّي نخلك، فإنك
عسى أن تصَدَّقي أو تفعلي معروفاً» [28] ، قال ابن قدامة - رحمه الله - مفسراًِ:
«وللمعتدة الخروج في حوائجها نهاراً سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها حتى
قال:» وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلاً إلا لضرورة؛ لأن الليل
مظنة الفساد بخلاف النهار لأنه مظنة قضاء الحوائج « [29] .
قال الشيخ ابن باز - طيب الله ثراه -:» فيجوز لها تبعاً للضرورة مراجعة
المستشفى عند المرض وشراء حاجتها من السوق كالطعام ونحو ذلك إذا لم يكن لديها
من يقوم بذلك « [30] . وإذا كانت طالبة فيجوز لها أن تذهب إلى المدرسة لحاجتها
إلى تلقي الدروس، وفهم المسائل، وتحصيلها، مع التزام اجتناب ما يجب على
المعتدة عدة الوفاة اجتنابه [31] .
وقد سُئل ابن تيمية - رحمه الله تعالى، وطيب ثراه - عن امرأة معتدة عدّة
الوفاة، لم تعتدّ في بيتها بل كانت تخرج في ضرورتها الشرعية فهل يجب عليها
الإعادة؟
فأجاب:» العدة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشر من حين الموت، ولا
تقضي العدة، فإن كانت خرجت لأمر يُحتاج إليه ولم تثبت إلا في منزلها فلا شيء
عليها، وإن كانت قد خرجت لغير حاجة، أو باتت في غير ضرورة، أو تركت
الإحداد فلتستغفر الله وتتوب إليه من ذلك ولا إعادة عليها « [32] .
مكان عدة الرجعية والبائن:
وعدة الرجعية في لزوم مسكن كمتوفى عنها، وتعتد البائن بمكان مأمون من
البلد حيث شاءت، ولا تجب عليها العدة في منزله لحديث فاطمة بنت قيس، قالت:
» طلّقني بعلي ثلاثاً، فأذن لي صلى الله عليه وسلم أن أعتدّ في أهلي « [33] ، ولا
تبيت البائن إلا به أي المسكن المأمون ولا تسافر [34] .
نفقة المحادّة:
من المعلوم أن الحادّة وهي المتوفى عنها لا تخلو من أحد أمرين: إمّا أن
تكون حائلاً، أو حاملاً. فإن كانت حائلاً [35] فلا نفقة لها ولا سكنى [36] ، لانتهاء
الزوجية بالموت [37] ، ولأن المال انتقل من الزوج إلى الورثة ولا حق لها على
الورثة، ولا سبب لوجوب النفقة [38] ، أمّا إن كانت حاملاً: فالجمهور على عدم
وجوب النفقة لها مطلقاً سواء كانت حاملاً أو حائلاً. وهناك رواية عند الحنابلة في
لزوم النفقة للحادّة إذا كانت حاملاً؛ لأنها حامل من زوجها؛ فكانت لها النفقة
كالمفارقة في الحياة [39] .
حكم خطبة المحادّة:
يُحرّم التصريح بخطبة المعتدة كقوله:» أُريد أن أتزوجك « [40] ، قال شيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:» ولا مانع من التعريض لها من غير
تصريح لقوله - تعالى -: [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ]
(البقرة: 235) « [41] .
ما تجتنب المحادّة وما رُخص لها فيه:
لما علمنا أن العدة هي اسم الزمن الذي تتربص به المرأة مدة معلومة، علمنا
أن الحداد هو اجتناب الحادّة مظاهر الزينة في بدنها وفي ثيابها.. فمما يحرم على
الحادّة:
أولاً: الطِّيب:
بجميع أنواعه، فلا تتطيب في بدنها ولا ثوبها ولا تستعمل الأشياء المطيّبة
لقوله صلى الله عليه وسلم:» ولا تمس طيباً « [42] متفق عليه، قال الشيخ ابن
عثيمين - رحمه الله -:» وعلى هذا فالصابون ذو الرائحة الطيبة لا يجوز
استعماله للمحادّة، وفي الصابون الخالي من الطيب ما يُغني عنه « [43] ، ويدخل في
الطيب البخور إلا إذا طهرت من الحيض؛ فإن المحدّة تتبع أثر الدم [44] بنحو
أظفار؛ فقد ثبت عن أم عطية الأنصارية - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله
عليه وسلم قالت:» كنا نُنهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة
أشهر وعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عَصْبٍ،
وقد رُخِّص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نُبْذة من كُسْت
أظفار « [45] .
وفي رواية:» قُسْط وأظفار «، وهما نوعا بخور.
ثانياً: تجنب الزينة:
من حلي كقلائد أو أساور ولو خاتم ذهب أو فضة [46] ، لحديث:» المتوفى
عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا المُمَشَّقة، ولا الحَلْيَ، ولا تكتحل،
ولا تختضب « [47] .
وقد سُئِلت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية عن حكم لبس
الساعة فأجابت:» لها ذلك لأن الأمر يتبع القصد، وتركها أوْلى لأنها تشبه
الحلي « [48] .
ثالثاً: تجنب ثياب الزينة:
كلبس الثوب المطيّب والمصبوغ بالأحمر أو الأصفر [49] للحديث السابق
واختُلف في الحرير؛ فذهبت الشافعية في الأصح إلى المنع لها منه مطلقاً مصبوغاً
أو غير مصبوغ [50] . ورخّص بعضهم في لبس الحرير الأبيض. أما تخصيص
لبس السواد حداداً على المتوفى وخاصة إذا كان الزوج فأجاب عن المسألة الشيخ
محمد بن عثيمين - رحمه الله - بقوله:» لبس السواد عند المصائب شعارٌ باطل لا
أصل له، وهو أمر باطل ومذموم « [51] ، فتلبس المرأة من الثياب ما لا زينة فيه
ولا يتعين لون خاص مما جرت العادة بلبسه [52] .
رابعاً: تجنب الكحل:
لقوله صلى الله عليه وسلم:» ولا تكتحل «متفق عليه، لما فيه من
زينة للعين [53] ، فليس لها أن تكتحل ولا ما يكون في معنى الكحل من
التجميل للوجه [54] كمساحيق التجميل، ويُستثنى من الكحل ما كان تداوياً لا زينة؛
فلها أن تكتحل ليلاً وتمسحه نهاراً، ولا بأس أن تداوي عينيها بغير الكحل مما لا
زينة فيه [55] .
خامساً: تجنب الخضاب:
وهو الحناء لقوله صلى الله عليه وسلم:» ولا تختضب «متفق عليه، وهو
شامل لكل أنواع الخضاب والصباغ. لحديث:» ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء
فإنه خضاب « [56] .
سادساً: الدهن:
وتجنب الحادّة الدهن المطيّب وغير المطيّب؛ لأن فيه زينة الشعر، ولا يخلو
الدهن من نوع طيب [57] .
أمّا ما يباح للحادة:
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -:» ولا تُمنع من تقليم الأظافر،
ونتف الإبط، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا عن الاغتسال بالسدر
والامتشاط به « [58] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:» ويجوز لها أن تأكل كل
ما أباحه الله كالفاكهة واللحم وكذلك شرب ما يباح من الأشربة « [59] إلى أن قال:
» ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة مثل التطريز والخياطة والغزل
وغير ذلك مما تفعله النساء، ويجوز لها سائر ما يُباح لها في غير العدة مثل كلام
من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت متسترة وغير ذلك، وهذا الذي ذكرته هو
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات
أزواجهن « [60] .
أفعال لا صحة لها:
وقد ذكر منها إمام العصر ابن باز - رحمه الله تعالى - بقوله:» أمّا ما قد
يظنه بعض العامة ويفترونه من كونها لا تتكلم بالهاتف، ومن كونها لا تغتسل في
الأسبوع إلا مرة، ومن كونها لا تمشي في بيتها حافية، ومن كونها لا تخرج في
نور القمر، وما أشبه هذه الخرافات فلا أصل لها بل لها أن تمشي في بيتها حافية
ومنتعلة، تقضي حاجتها في البيت تطبخ طعامها وطعام ضيوفها، تمشي في ضوء
القمر، في السطح، وفي حديقة البيت، تغتسل متى شاءت، تُكلّم من شاءت كلاماً
ليس فيه ريبة، تُصافح النساء وكذلك محارمها، أمّا غير المحارم فلا، ولها طرح
خمارها عن رأسها إذا لم يكن عندها غير محرم، ولا تستعمل الحنّاء، ولا
الزعفران ولا الطيب لا في الثياب، ولا في القهوة؛ لأن الزعفران نوع من أنواع
الطيب « [61] .
ومن أفعال الجُهّال كذلك الخروج في آخر أيام العدة لإعطاء أول من تلاقيه
صدقة، وتغطية جميع مرايات البيت طوال أيام العدة، وبعضهن تمكث أيام الحداد
كلها في غرفتها وتلبس السواد والقفازين وجراب الأرجل، وكذلك منع الصبي
الصغير غير المكلّف من الدخول على المعتدّة، وتحريم الإجابة على الهاتف،
والذبح عند انتهاء العدة. فهذا كله من البدع ومن التشدد وهو مأخوذ من كلام
الجهّال [62] .
هذا.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على
سيدنا محمد ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي (6/624) .
(2) 32 سؤالاً في العدة والحداد: عيسى الدريويش، ص 9.
(3) سبل السلام: الصنعاني، (3/373) .
(4) حاشية الروض المربع: عبد الرحمن بن قاسم (6/46) .
(5) 32 سؤالاً في العدة، ص 17.
(6) الإمداد بأحكام الإحداد: فيحان المطيري، ص 11.
(7) حاشية الروض (7/79) .
(8) أحكام المؤمنات: صالح الفوزان، ص 149.
(9) متفق عليه، وهو في البخاري، برقم 5334، ومسلم، برقم 1486.
(10) رواه البخاري، رقم 5320.
(11) سبل السلام، ج 3، ص 374.
(12) 32 سؤالاً في العدة، ص 14، وانظر: المغني لابن قدامة.
(13) حاشية الروض المربع، ج 7، ص 53.
(14) 32 سؤالاً في العدة، ص 14.
(15) الإمداد بأحكام الحداد، ص 11.
(16) نيل الأوطار، الشوكاني، ج 7، ص 96.
(17) حاشية الروض المربع، ج 7، ص 80 81 بتصرف.
(18) الإمداد بأحكام الإحداد، ص 28 30 بتصرف.
(19) المرجع السابق، ص 62 63، بتصرف.
(20) فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ج2، ص 815.
(21) حاشية الروض المربع، ج 7، ص 86.
(22) نيل الأوطار، ج 7، ص 101.
(23) العدة شرح العمدة، المقدسي، ص 431.
(24) سبل السلام، ج 3، ص 385.
(25) حاشية الروض المربع، ج 7، ص 84.
(26) أخرجه أبو داود، رقم 2300، والترمذي، رقم 1224، وابن ماجه رقم 2031، والنسائي (6/199) ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم 2016.
(27) نيل الأوطار، ج 7، ص 101.
(*) الحاشية (7/85) .
(28) رواه مسلم، رقم 1483.
(29) 32 سؤالاً في العدة والحداد، ص 27 28.
(30) فتاوى المرأة، جمع محمد المسند، ص 138.
(31) اللجنة الدائمة للإفتاء، المرجع السابق، ص 142.
(32) فتاوى النساء، لابن تيمية، ت: قاسم الشماعي، ص 218.
(33) رواه مسلم، رقم 1480 والبعل: الزوج.
(34) حاشية الروض المربع، ج 7، ص 86 87 بتصرف.
(35) الإمداد بأحكام الإحداد، ص 117.
(36) العدة شرح العمدة، ص 433.
(37) الفقه الإسلامي وأدلته، ج 7، ص 659.
(38) حاشية الروض المربع، ج 7، ص 117.
(39) الإمداد بأحكام الحداد، ص 117 118.
(40) الحاشية، ج 6، ص 239.
(41) فتاوى النساء لابن تيمية، ص 723.
(42) المؤمنات، ص 153.
(43) فتاوى محمد صالح العثيمين، ج2، 814.
(44) الأحكام الشرعية في الدماء الطبيعية، عبد الله الطيار، ص 76.
(45) رواه البخاري، رقم 313، 5343، ومسلم، رقم 938.
(46) الفقه الإسلامي وأدلته، ج7، ص 661.
(47) أخرجه أبو داود، رقم 2304، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم 2020.
(48) فتاوى المرأة، ص 139.
(49) الفقه الإسلامي وأدلته، ج7، ص 662.
(50) سبل السلام، ج 3، 381.
(51) فتاوى محمد العثيمين، ج2، ص 814.
(52) أحكام المؤمنات، الفوزان، ص 154.
(53) الفقه الإسلامي وأدلته، ج 7، ص 661.
(54) فتاوى المرأة، ابن باز، ص 139.
(55) المؤمنات، الفوزان، ص 153.
(56) رواه أبو داود والنسائي، وإسناده حسن.
(57) الفقه وأدلته، ج 7، ص 661.
(58) زاد المعاد، ابن القيم، (5/507) .
(59) مجموع فتاوى ابن تيمية، (34/ 7 28) .
(60) المؤمنات، الفوزان، ص 154 155.
(61) فتاوى المرأة، جمع محمد المسند، ص 139.
(62) 32 سؤالاً عن العدة والحداد، ص (31 33) بتصرف.(165/134)
المنتدى
المسلم والتميز
نهى بنت عبد الله العريني
إننا اليوم نواجه تياراً من تيارات مسخ الهوية بدأ يسيطر على جل مقدرات
الأمة، فقلَّ من ينجو منه، فأصبح يحيطه بسلاسل من القيود والتبعية الممقوتة
بحيث يسير وقد تخلَّى عن كل مظاهر ذلك التميز، وليس ذاك إلا من مظاهر
الضعف في بنيان الذات المسلمة التي استشرى فيها الوباء فأضعفها. ولا غرو أن
قوة التيارات والأعاصير تزلزل الجبال؛ ولكن هناك قوة تتصدَّى لها وهي القوة
الثابتة المحافظة على تميزها المتحررة من قيود التبعية «حتى لو دخلوا جحر ضب
تبعتموهم» [1] ولكن عجباً! ! كيف كان لهذا التيار الخبيث الكثير من الانتشار
والذيوع في مجتمعاتنا المحافظة؟
بالطبع إنه تلبس بأقنعة الحضارة الزائفة ذات الشعاع الكاذب، وكثير
ممن كان طابعهم التقليد يتأثرون بتلك البهارج، ولكنهم حتماً سيصطدمون بمسلَّماتهم
التي نشؤوا عليها مما تقوم عليه معالم الشخصية المسلمة؛ فإمِّا أن تعود إلى الأصل
وإمِّا أن يستمر التذبذب بها إلى أن تأتي موجة فتبتلعها وينتهي خبرها؛ وهو
الأكثر والأغلب مع الأسف. فما أجمل المسلم أن يحافظ على تميزه في كل جوانب
حياته، وأن يتخلص من تلك القيود «فإن مسلماً نودي بالسير مع الهمم العالية،
فانتفض وأفلت من قيود الأرض، وحلق بجناح العزة هو مسلم حري به أن تتم
انتفاضته بخطوة تميز واضحة» [2] ، ولكن المسلم قد يستشكل عليه ماهية التميز
المطلوب؛ فقد يتشبث بأنواع مختلفة من السلوك ظناً منه أن ذلك تميز وهو في
الحقيقة وهم.
إن التميز الحق هو المنبثق من أقاصي الذات، ومن بنيات أفكارها، إن
تميزها في مبادئها الأصيلة التي لا تبلى ولا تتحلل مع مرور الزمن؛ فتتأصل فيها،
وتترسخ حتى تسري مسرى الدم في العروق، فيعمَّ الجسد كله، وتعمل به
الجوارح في ثبات ورسوخ؛ حينها لن يجرفه أي تيار مهما عظم بعد تثبيت الله -
تعالى - له. ولعل أكبر مثال على ذلك ثبات الصحابة - رضي الله عنهم -
وتميزهم في الحبشة، في زمن الهجرة من أرض الوطن، وهم في موضع التجاء
وطلب معونة من أهلها بعد طلبها من الله - تعالى - حيث كانوا فارين بدينهم من
عذاب المشركين وملاحقتهم لهم؛ فبعد طول المشوار ولجوئهم إلى الحبشة، ومنها
إلى النجاشي ملكها الذي كان آنذاك نصرانياً ابتدرهم الرهبان والقساوسة أن
اسجدوا للملك! فأجاب جعفر بن أبي طالب وهو على رأسهم، وانطلقت منه تلك
الأحرف الشجاعة المتميزة: «نحن قوم لا نسجد إلا لله» ، في عزة وأنفة، في
يقين بالمبادئ، في أحلك الأحوال وأكثرها إظلاماً، لكن يبقى التميز المتأصل في
النفس يعمل دوره، فماذا كان رد هذا الملك أمام ذلك الثبات؟ هل قتله.. هل
وبخه.. أم طرده؟ كلا، أتدرون ماذا فعل به؟ ! ! لقد أكرمه ورفعه، ورد عليه
بالحسنى، ومنحه امتياز الأمان والجوار فلا يُعتدى عليه هو ومن معه. أرأيتم
كيف يصنع التميز بالمواقف! ! أرأيتم كيف يصنع الثبات بالرجال؟ ! !
وبالمقابل نرى كيف تفعل الانهزامية فيما نراه من رموز التغريب أمثال رفاعة
الطهطاوي، وقاسم أمين، وسلامة موسى وغيرهم ممن تترفع أقلامنا عن تسطير
أسمائهم؛ فما كان لهم إلا الخسران والسقوط في تلك الأوحال النتنة. بقي القول:
إن مثل هذا التميز المنشود يعزُّ وجوده في هذه الأجواء إلا لمن رحم الله.
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 7320.
(2) الرقائق، محمد أحمد الراشد.(165/140)
المنتدى
الشعوذة وألوانها
علي أحمد الخلب
أمقت هذه الكلمة، وأمقت كل من يعمل بألوانها؛ فقد كنت وأنا صغير السن
عندما أسمع هذه الكلمة يسبح عقلي في الخيال، وأرى صورة شخص يتصاعد من
أمامه دخان كثيف يعمي القلوب قبل العيون أحياناً، ويلبس ثياباً رثة قذرة عفنة
تستنكرها العقول قبل أن تستنشقها الأنوف.
هذه الصورة التي ظهرت لي وأنا صغير خدعتني عن حقيقة الشعوذة
والمشعوذين؛ فكنت أعتقد أن من يكون بهذه الصورة وبهذا الأسلوب هو المشعوذ؛
وإذا بي أرى أنه كالحرباء يتلون حسب البيئة التي يقطن فيها، ويطور أساليبه
ويغير من هيئته، فهناك من هو مشعوذ بالقلم الساحر وإن من البيان لسحراً والإبداع
الماكر، وهناك من يروي تاريخه المزيف على أنه بطل زمانه، ويصنع له قصصاً
مخترعة من نسج خياله يقنعك أنه يحرر البشرية، ومنهم من يوهمك بقوته وأنت
تراه يفر ولا يصمد أمام طفل يحمل حجارة التقطها من الأرض، ومنهم من يقنعك
أنه يعالج قضاياك المستعصية رغم أنك ترى بأم عينيك بأن مشكلاتك تزداد بقدر
معالجته لها، ومنهم ومنهم ... إلخ. إنها شعوذة القرن العشرين، أشعلت أبخرتها
وتصاعدت في الفضاء وانتشرت في الأثير لكي نستنشقها، لتنفذ بطقوسها الحديثة
حواسنا وتسيطر على عقولنا وقلوبنا، تنفذ من خلال البصر فتعمي البصيرة
وتخترق أسماعنا فتخرق قلوبنا وتخل بتوازننا واعتقاداتنا وتراثنا. إن
مشعوذ القرن العشرين استنفر قوى الطبيعة بكل معنى لهذه الكلمة، وسخر كل مارد
يتجاوز الحدود، لا تقتله طلقة، ولا سيف يقطعه، ولا قرار يمنعه.
مشعوذ القرن العشرين والمشعوذ القديم وجهان لعملة واحدة، لم يتغير أسلوبه
وإن غيّر من هيئته، الكذب مبدؤه، والخداع منهجه، والمال مقصده، وقلب
الحقائق غايته.
لقد استطاع المشعوذون أن يرسموا في مخيلتنا صورتهم القديمة، استطاعوا
أن يجعلونا كمن يحلم داخل الحلم كلما أراد أن يستيقظ منه وجد نفسه في حلم آخر،
إنهم مبدعون في فن الخداع وفي قلب الحقائق كيلا نكتشف حقيقتهم فنحذر من
شعوذتهم وألوانها.(165/141)
المنتدى
انتفاضة الأقصى الحزين
عبد القادر الزين
أهدي إليك تحية ... يا أيها الأقصى الحزين
حيّاك ربكَ قبلَها ... سبحان ربِّ العالمين
أسرى إليكَ بعبده ... ليلاً مع الوحي الأمين
صلَّى إماماً قدوةً ... صلَّى بجمع المرسلين
أُهدي إليك تحية ... يا أيها الطفل الحزين
ألق الحجارةَ مِدفعاً ... لتهزَّ عرشَ المعتدين
طفلاً أراك مشمراً ... ما للجنود المقعدين؟
سلمت ذراعك مُدَّها ... سلمت حصاتك واليمين
اِرم الجمار مكبراً ... قلِّد حجيج المسلمين
قوَّاك ربُّك فاغزُهميا ... وسلمتَ يا بنَ الأكرمين(165/141)
المنتدى
ردود
* الأخ: حمد بن عبد الرحمن السالم: نشكر لك تواصلك الطيب مع مجلتك،
كما نشكر لك ملاحظاتك وجزاك الله خيراً.
* الإخوة: محمد بن عائض، متعب بن سريان العصيمي، خالد الهديب:
وصلتنا مشاركتكم بارك الله فيكم، ونفيدكم بأنها مجازة للنشر في المنتدى.
* الإخوة: د. فهد بن محمد الخضيري، عبد الله بن عبد العزيز الحميدة،
محمد عبد الله الباردة، ناصر عبده وحان، عبد الإله الكثيري: نرجو التكرم بإفادة
المجلة بعناوينكم الخاصة، وجزاكم الله خيراً.(165/142)
المنتدى
من رسائل القر اء
- أخي في الله رئيس تحرير مجلة البيان المباركة المحترم؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أكتب إليك - أخي - هذه الكلمات البسيطة من فيضٍ لا ينقطع معينه من
الكلمات النابعة من صميم قلب محب يحمل لكم كل معاني الود والعرفان والشكر
الجزيل على ما تجودون به علينا من هباتكم المتتالية والتي نتطلعها مع هلال كل
شهر ونحن مبتهلون إلى الله «اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام
والتوفيق لما تحب وترضى - ربي وربك الله -. هلال خير ورشد - اللهم إني
أسألك من خير هذا الشهر وخير القدر، وأعوذ بك من شره» .
وبفضل الله - سبحانه وتعالى - نبدأ بتطلع أولى هبات خير شهرنا؛ وذلك
من خلال عطائكم الوفير من خلال مجلتنا المباركة البيان. فجزاكم الله خير الجزاء،
وجعل عملكم هذا في ميزان حسناتكم.
لا يخفاكم - أخي - أن مجلتنا هذه «البيان» كالدوحة العظيمة المليئة بالثمار
اليانعة الطيبة، ونحن آكلون هذا الثمر وأنتم أصحاب السدانة لهذه الشجرة، فأنتم
أصحاب الجهد الكبير الذي لا يخفى على كل ذب لب، وأذكر لك أخي موقفاً طريفاً
حدث لي مع هذه المجلة المباركة وكان ذلك في يوم من أيام شهر المحرم الحرام لهذه
السنة حيث حصلت على عدد البيان من أحد الأصدقاء بعد أن طلبته منه فأخذت
أتصفحها، لم أدرِ إلا وشعور غريب ينتابني وإذا بي أريد أن أمزق المجلة بأسناني
وأبتلعها، وكل السبب في ذلك أنني لم أدرِ كيف أعبر عن صدق حبي للمجلة وشدة
إعجابي بها؛ وهذا مصداق لمثل عندنا هنا في اليمن: «الهرة إذا أحبت أولادها
أكلتهم» وهذا الشعور نفسه الذي عانيته.
أخي العزيز: أُشهد الله أني أحبكم فيه، والسلام.
صلاج بن أحمد مصلح العواضي
- أحسن المنتدى الإسلامي بإصدار كتابه: «حقوق النبي صلى الله عليه
وسلم بين الإجلال والإخلال» ، وأحسنت مجلة البيان صنعاً عندما جعلته هدية
مجانية مع العدد (163) الصادر في ربيع الأول 1422هـ.
وهو كتاب طيب نفيس وجاء توزيعه في وقت مناسب جداً حيث يحتفل
الغوغائية والدهماء بالمولد الموافق 12 من ربيع الأول؛ هذا المولد الذي ابتدعه
وأحدثه العبيديون الشيعة الباطنية، ثم قلدهم الرسميون والقبورين والصوفية،
وساعدهم على كل ذلك من يظن أنهم علماء من الدكاترة وأصحاب المناصب؛ حيث
أفهموهم شرعية ذلك وعدم بدعيته؛ بل وصل الأمر بالسواد الأعظم منهم أن قاموا
بالسب واللعن للعلماء الربانيين أهل السنة والجماعة السائرين على منهاج السلف؛
حتى إنهم سفهوا أقوالهم وتطاولوا عليهم وانتقصوا من فتاواهم، واتهم هؤلاء
المبتدعة أهل السنة والجماعة العلماء الربانيين السائرين على منهاج السلف بكره
وبغض النبي صلى الله عليه وسلم: [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ
كَذِباً] (الكهف: 5) . وفي الفصل الأول «دمعة على حب النبي صلى الله عليه
وسلم» ذكر الكاتب - حفظه الله - بعضاً من مظاهر الجفاء مع النبي صلى الله
عليه وسلم: وذكر منها ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. وأقول: مما
يؤسف له أن ثمة بدعة عصرية منتشرة جداً جداً ولا يلتفت إليها كثير من الناس
حتى صار بعض الناس يعتبرها أمراً عادياً وهي صورة من ترك الصلاة عليه
صلى الله عليه وسلم. وهذه البدعة اللفظية هي الاكتفاء بلفظة (صلعم) أو الحرف
(ص) في معرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
محمد نجيب لطفي(165/142)
الورقة الأخيرة
حذار.. الأسرة في خطر
عبد العزيز بن محمد التميمي
أصدقكم القول إنني مندهش جداً؛ فثمة خطر حقيقي مفزع يلوح في الأفق ...
قد بدت نذر هبوبه ومع ذلك فلا يبالي أحد - على الأقل حتى الآن - ولا يتحدث
عنه أحد - إلا النذر اليسير - بينما يشكو الكثير من تفشي الجريمة وتعاطي
المخدرات والتحلل الخلقي وغير ذلك من العلل والأمراض ... المخدرات التي تبذل
لأجلها حكومة الولايات المتحدة وأوروبا المليارات، وتجند لها مئات الألوف من
رجال الأمن والتحري والدوريات و.... دون جدوى! ! تعقد الكثير من المنتديات
والمؤتمرات حول السبل الناجعة لمواجهة هذا الخطر المرعب، وتتخذ الكثير من
التوجيهات والقرارات، ولا يزداد الأمر إلا خطورة واستفحالاً ... الحل الحقيقي هو
الأسرة ... ! والخطر الحقيقي المخيف ... هو تقويض الأسرة.
يؤمن الناس في الغرب أن وراء كل عظيم «امرأة» لكن إيماني عميق بأن
وراء كل عظيم أسرة عظيمة؛ ولذلك فكل ما من شأنه دعم كيان الأسرة وتعزيزها
يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار ويعطى الأولوية.
الأسرة هي ملاذ الأمن الاجتماعي المطلوب، وأي خطر يتهددها هو خطر في
نواة الأمن الاجتماعي الصلبة الذي يجب أن تقام من حوله القلاع وتبنى من حوله
المتاريس ... في الماضي كانوا يقولون عن الرجل إذا بالغوا في الثناء عليه:
«فلان ولد حمولة» أي أنه نتاج أسرة كريمة [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ
رَبِّهِ] (الأعراف: 58) ، ولما كان حاله كذلك فلا عجب أن يكون على خير
صفات الكمال ... فالشيء من معدنه لا يستغرب ... واليوم بدأت تتحطم القبيلة
لحساب «الوطنية» ، ويتمزق كيان الأسرة لحساب «الحرية الفردية» . في
الماضي كانت الأجيال الثلاثة تسكن بيتاً واحداً ... الجد وابنه وأحفاده ... في
الماضي لم تكن الأسرة تتناول طعامها إلا مجتمعة ... واليوم تتكفل محلات
الوجبات السريعة «Fast Food» المهمة، لا يجمع الناس في البيت الواحد إلا
لحظات النوم ... وحتى هذه اللحظات متفاوتة؛ فمن أفراد الأسرة من لا ينام إلا
مع بواكير الفجر الأولى بعدما يمل من مراقبة «القنوات الفضائية» المتنوعة،
أو ينتهي من حوارات «الدردشة Chatting» في الإنترنت تلك التي لا تكاد
تنتهي ... ! ! ! ومنهم من ينام من أول الليل حتى «يلحق بالدوام الباكر» ، ومنهم
من لا ينام حتى ترتفع الشمس في كبد السماء ويزداد الحر فيفر منه إلى سكينة النوم
عاكساً قانون الله الكوني في جعل الليل سكناً ... !!
يا سادة! هل تصدقون أن نسبة الطلاق في المدن الكبرى تجاوزت «30%»
أي أنه بين كل ثلاث زيجات تنتهي واحدة بالطلاق بعد مدة ... تنبهوا ها هو
حصن الأمن تتقوض أسواره ... هل تبحثون عن الأسباب....؟ !
ثمة أسباب كثيرة ... ربما يساعدنا إدراك أن هذه الظاهرة - أعني ظاهرة
الطلاق والتمزق الأسري - ظاهرة عالمية تتزايد في كل مكان في هذا العالم، ولما
كنا وكم يؤلمني ذلك نعيش في عصر العولمة «عولمة وسائل الاتصال والنقل،
والمعلومات وعولمة الجريمة والتحلل الأسري، وهيمنة النموذج الغربي ... لما كنا
نعيش هذا العصر فلا ريب أن علله الأخلاقية تعدينا تماماً» كما يعدي الصحيح
الأجرب «.
زرت العديد من الدول الأوروبية ... ورأيت أنك تتمكن بسهولة من ملاحظة
رجل يسير مع امرأة، أو امرأة تسير مع أطفالها ... بل الرجل يسير مع أطفاله،
لكنك من الصعب جداً أن تجد أسرة مكونة من الأم والأب والأطفال! !
لقد تخيل بعضنا أنا بدأنا نستهلك الغرب ... ، وأذبناه - ويا للمفاجأة -
نحن الذين تستهلكهم الحضارة الغربية ... ، ثم تلفظهم مشتتين ممزقين، واهني
القوى ...
تشتكي الكثير من الأمهات من عدوانية أطفالهن التي لا تطاق ... ولا غرابة
... فالطفل الذي يمضي سحابة نهاره في حضن خادمته المكدودة طوال نهارها في
العناية بالمنزل، تعاني الكثير من الآلام في بعدها عن زوجها وأطفالها؛ فكيف لها
أن تكون مصدر حنان يكفي لطفل قذفت به أمه بين يدي هذه المربية، ثم انطلقت لا
تلوي تعمل في هذه الوظيفة أو تلك! !
كيف لا يكون الطفل عدوانياً ... وأمه تنتظر كالنمرة عودة زوجها مكدوداً
مرهقاً من عمل النهار كي تنطلق نحوه بأعيرة كلامية لا تنتهي حول تقصيره في
بيته وإهماله لها.... أو حول تصرفات أهله أو أقاربه معها أو ... أو ... كيف
يمكن لهذا الطفل المسكين أن يكون ودوداً لطيفاً مبدعاً معطاءاً؟ !
ثم كيف يمكن لهذه الأم التي يكيل لها زوجها الصاع صاعين ... كيف يمكن
لها أن ترضخ له، وهي الموظفة المرموقة التي تملك السيارة والسائق والخادمة
والمربية.... إلخ، إنها ليست في حاجة إليه ... بل هو الذي يحتاجها ... وإن لم
يحترمها وصبر على» نكدها «فليذهب إلى الجحيم ولا عليها أن تكون بلا زوج
... فأزواج هذه الأيام - كما يقلن كثيراً - البعد عنهم خير من القرب منهم! !
الضحية في النهاية هم هؤلاء الأطفال المساكين ... إنني عاجز عن أن أكف
تفكيري الدائم في المستقبل المجهول الذي ينتظر هؤلاء المساكين الذين لم يجدوا
حظاً من الرعاية والاهتمام في طفولتهم الأولى ... أي نوع من الرجال سيكونون؟
وأي نوع من الأُسَر سوف يشكلونها؟ !
ثم هذا الغلاء الفاحش في تكاليف المعيشة، وهذه النفقات الباهظة للزواج من
يطيق احتمالها والقيام بها؟ !
إنني أعتقد اعتقاداً لا أشك فيه أن أجراس الخطر لا بد أن تقرع الآن، وأنه
آن للعقلاء من هذه الأمة أن يبدؤوا بتشكيل الملتقيات والندوات والجمعيات الخيرية
ومنظمات التوعية التي تواجه هذا الصدع الخطير في بنيان الأسرة التي نواجهها
اليوم ... وتذكروا معي جيداً أن» وراء كل عظيم أسرة عظيمة «.(165/143)
جمادى الآخرة - 1422هـ
سبتمبر - 2001م
(السنة: 16)(166/)
كلمة صغيرة
ظاهر الدعم وباطنه
تفاعل رئيس تحرير إحدى الصحف العربية مع ما يحدث للمسلمين على
أرض فلسطين، فقد استحى من عمليات المتابعة المكثفة التي يقوم بها الصحافة
الأجنبية ومحطات التلفاز والقنوات الفضائية خارج دائرة الوطن العربي، وهو لم
يرسل حتى الآن أي صحفي للتغطية الميدانية للأحداث.. ولكن ما السبيل وصحيفته
رسمية أو شبه رسمية؟ والموقف الرسمي واضح المعالم في دعم القضية الفلسطينية
وهو كالموقف العربي كله يريد السلام ويحرص عليه أيما حرص.
بيد أن غليان المسلمين - غير الرسمي - أقلق الكثيرين من الرسميين،
فاقترح رئيس التحرير، وهو " رئيس تحرير " جريدة لا تحرير أرض سليبة أن
يجاري أولئك الأغيار في حميتهم، وأسال دماء حبره الأسود على الصفحة الأولى
مهاجمًا السياسة الإسرائيلية البغيضة، وندد بالتخاذل العربي، ونادى التضحية
بالأرواح دفاعًا عن الأقصى الشريف، ودعا لتطهيره من رجس اليهود الغاصبين،
ونادى بالتعبئة العامة لتحرير الأرض.
تفاعلت الجماهير مع كلمات الرجل، وعندها جاراه غيره من الصحف
الرسمية وشبه الرسمية، وخاصة عندما ارتفعت نسبة توزيع الصحف.
عند ذلك استُدعي رئيس التحرير إلى مكتب أحد المسئولين الذي منحه مكافأة كبيرة
لنجاحه في تلميع الصورة الرسمية! !(166/1)
الافتتاحية
الطريق إلى التغيير
سلسلة الهزائم والنكسات الحضارية والعسكرية التي تشهدها الأمة الإسلامية
في هذا العصر أصابت قطاعًا عريضًا من المسلمين بالإحباط والوهن والتخاذل
العقدي والاجتماعي، وجعلتهم يستسلمون للواقع مكبلين بآصار ثقيلة من العجز
أقعدتهم عن الحركة والعمل، وسلبت قدرتهم على الصمود والثبات.
وساعد هذا الواقع في هيمنة المشروع الحضاري العلماني والتغريبي الذي
انطلق في بلادنا الإسلامية كالطوفان الجارف حتى طغى وبغى وراح يعيد صياغة
القيم والمثل صياغة جديدة لا تعدو أن تكون محاكاة مسوخة للتيارات الليبرالية
الغربية.
وأشد أنواع الهزيمة الاستسلام للواقع، والركون إليه؛ لأنه يفت في عضد
الأمة ويحطم قدراتها وطاقاتها. وسبيل النهوض بهذه الأمة من كبوتها واضح
المعالم؛ فمن الحقائق البينة الثابتة التي تواترت فيها النصوص الشرعية أن
الاستقامة على دين الله - تعالى - هي طريق النصر والتمكين، قال الله - تعالى -
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
والمؤمن بحق لا يمكن أن يغلبه اليأس أو يشعر بالإحباط المطلق؛ لأنه يعلم
يقينًا أنه يستمد قوته من إيمانه بالله العلي الأعلى؛ ولهذا قال الله - تعالى -
للمؤمنين لما خرجوا منكسرين بعد غزوة أحد [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) . فالاستعلاء بالإسلام، والاعتزاز بالدين،
هو الطريق الصحيح لنهضة الأمة وعزتها.
ومن سنن الله - تعالى - الثابتة التي لا تتبدل ولا تتحول أن نهضة الأمة لن
تتم بمعجزة خارقة، بل بسنة جارية بيَّنها ربنا - عز وجل - في قوله: [إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
ولكن من أيد يبدأ تغيير واقع الأمة ... ؟ !
لقد تعددت مناهج المدارس الدعوية المعاصرة في تغيير ذلك الواقع، وتباينت
مسالكها وأطروحاتها، ونحسب أن إعادة بناء الإنسان وتربيته هي الطريق الصحيح
للتغيير الحضاري المنشود، وهي بداية لكل التحولات الإنسانية.
التي نطمح إليها؛ فالإنسان أساس البناء والنهوض، وعليه تقوم الحضارات
والأمم؛ ولهذا توجهت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لبناء الإنسان وتزكيته، قال
الله - تعالى -[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] (الجمعة: 2) . وتحطيء الحركات الإسلامية خطأ
بالغًا عندما تبدأ في تغيير الواقع دون تغيير الإنسان نفسه..!
إن الإنسان بما وهبه الله - تعالى - من ملكات يملك طاقات هائلة قادرة على
صناعة التاريخ، ولهذا حمله ربنا - عز وجل - أمانة من أعظم الأمانات، [إِنَّا
عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب: 72) .
وبناء الإنسان من أعقد وأشق ألوان التغيير والبناء، ويتطلب قدرًا كبيرًا من
الجدية والمثابرة وطول النَّفَس، كما يتطلب قدرًا كبيرًا من سعة الأفق ويُعد النظر،
وبقدر ضخامة المهمة التي سيقوم بها الإنسان يكون مقدار التربية وطبيعتها، ولهذا
كانت ريادة البشرية وقيادة الشعوب والحضارات تتطلب نوعية من الرجال مختلفة،
قال الله - تعالى -: [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] (البقرة: 124) .
وقال الله - تعالى -[وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) .
وتأمل التربية النبوية الكريمة للرعيل الأول من جيل الصحابة - رضي الله
عنهم - فأولئك الأعراب الحفاة أصبحوا رواد الأمم، وقادة الشعوب، لما آمنوا بالله
حق الإيمان واعتصموا بحبله المتين، وها هو ذا خباب بن الأرت - رضي الله
عنه - يقول: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل
الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة -، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟
فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليًمشط بمشاط الحديد، ما دون
عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق
رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك على دنيه، وليًتمن الله هذا الأمر حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه» [1] .
إنها تربية إيمانية عظيمة تبنى الإنسان وترفعه عن زخارف الدنيا وأهوائها،
وترسى في نفسه عائم صلبة راسخة الجذور، قادرة على تحمل تبعات الطريق،
ويسمو هذا الإنسان بعد ذلك على الفتن والأهواء، فلا تضره فتنة ما دامت السموات
والأرض. ومن هنا يكون التغيير المنشود بإذن الله تعالى.(166/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الربا.. آثام وأضرار
إبراهيم بن محمد الحقيل
بناء النفس والأسرة، وبناء المجتمع والأمة لا يكون إلا باكتساب، ولا
اكتساب إلا بعمل. والعمل لا يكون إلا بالتعامل مع الآخرين، سواء كان العمل
والاكتساب مشروعًا أم غير مشروع، أخلاقيًا أم غير أخلاقي.
وأحكام الإسلام لم تكن كنظريات الاشتراكيين التي ألغت الملكية الفردية،
وقتلت أبناءها، وأدت بهم إلى العطالة والبطالة. وهي كذلك ليست رأسمالية تعطي
الحرية المطلقة في الأموال ليسحق الأقوياء والضعفاء، ويكونوا بمثابة العبيد والخدم
لهم، والعمال لديهم. كلا! ليست أحكام الإسلام في التعاملات كذلك؛ إذ وازنت
بين حق الفرد في الملكية الخاصة وبين حاجة المجتمع بما يحقق التقارب والألفة
والأمن، فأعطت الفرد حق تنمية ماله بالكسب المشروع، ولم تحرمه من ابتكارات
في التجارة ما دامت في حدود الحلال. وفي الوقت ذاته أغلقت تشريعات الإسلام
منافذ الاستبداد المالي، والاحتكار التجاري، واستغلال الطبقات الفقيرة وحاجاتها
إلى المال، وفتحت أبواب الإحسان والقرض والصدقة، والمضاربة المشروعة..
إلخ.
وفي هذه المقالة عرض لبعض آثام الشرعية، وأضراره الدينية والدنيوية؛
تلك الكبيرة من الذنوب التي عمت وطمت في العصر الرأسمالي، وتمت عولمتها
قبل عولمة أي شيء آخر؛ إذ إن الربا انتشر في كل بلاد العالم انتشار النار في
الهشيم منذ عشرات السنين، أي قبل أن يتحدث الناس عن العولمة.
ومع بالغ الأسف فإن انتشار هذه الجريمة النكراء هُوَّن وقعها على القلوب،
حتى ألفتها فلم تعد تنكرها؛ بل صار الإنكار على من ينكرها في عصر أصبح
الباطل فيه حقًا ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن كان يظن أن هذه الكبيرة المقيتة
ستوجد لها المسوغات وتوضع لها المبررات؟ وممن؟ من شيوخ معممين يحملون
أعلى الإجازات العلمية في الدراسات الإسلامية، ويتربعون على سدة مناصب
الإفتاء في بلادهم.
وأضحت اليوم كثير من المعاملات المحرمة بالأمس تصنع لها المخارج
الشرعية، وتتحول تدريجيا من دائرة الحرمة المغلظة إلى الأخف إلى المشتبه، إلى
مسائل خلافية يجيزها بعض ويحرمها الأكثر، ثم العكس يجيزها الأكثر ويحرمها
بعض، حتى يخفت صوت المُحرَّم لها شيئًا فشيئًا فتصبح حلالاً.
ولإقناع جمهور الأمة التائه في غابة تلك التعاملات التي تخرج لنا الآلة
الرأسمالية كل يوم منها عشرات الصور، عمدت كثير من صروح الربا المشهورة
- التي تحاد الله ورسوله وتعلن الربا صراحة - إلى إقناع الواقفين على عتبتها
مترددين بفتاوى تجيز بعض أساليبهم وتعاملاتهم. تصورها وتوزعها وتعلقها على
جدران الصرح الربوي الشامخ، وإنها لمهزلة أن يكون سند من يجاهر بحرب الله
ورسوله فتوى خطتها أنامل من يدعو إلى الله - تعالى - وإلى سنة رسوله صلى الله
عليه وسلم.
أضرار الربا الشرعية:
1- الربا من معاملات اليهود والمشركين:
كان من أعظم أمور الجاهلية، وتعاملاتهم المالية ممارسة الربا وكسب الأموال
عن طريقة، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن إلغاءه على مسمع من الناس
في حجة الوداع حينما خطبهم فقال: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي
موضوع، ثم قال: وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا العباس ابن
عبد المطلب فإنه موضوع كله) [1] .
واليهود يتعاملون بالربا حتى كان أكلهم له سببًا من أسباب عقوبتهم كما قال
الله - تعالى -: [فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً] (النساء: 160-161) .
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: (أي أن الله قد نهاهم عن الربا
فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع الحيل وصنوف من الشبه) [2] .
ولم يفارق اليهود عادتهم القديمة؛ فأباطرة الربا في هذا العصر وملاك
كبريات مؤسساته ومصارفه هم من اليهود، وهم الذين أفسدوا اقتصاد العالم،
ونشروا المعاملات المحرمة، وحطموا أسعار كثير من العملات، وأفقروا كثيرًا من
الشعوب.
فمن تعامل بالربا فقد تشبه بأعداء الله - تعالى - من المشركين واليهود،
وكفى بذلك إثمًا وخسرانا.
2- أنه محاربة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم:
جاء الزجر عن الربا في كتاب الله - تعالى - عنيفًا شديدًا؛ إذ هو من الذنوب
العظائم القلائل [3] التي وصف اقترافها بمحاربة الله ورسوله.
وإذا كان قطاع الطريق يحاربون الله - تعالى - بإشهار السلاح، وإزهاق
الأرواح، واغتصاب الأموال، وترويع الآمنين، وقطع السبيل؛ فإن أكلة الربا
يحاربون الله - تعالى - بدمار المجتمعات، والإفساد في الأموال مما يؤدي إلى
الفساد في الأرض، وتوسيع الهوة بين الطبقات مما يلزم منه حدوث الجرائم وكثرة
الخوف، وقلة الأمن.
إن أكلة الربا لا يرفعون السلاح كما يرفعه قطاع الطريق، ولا يأخذون المال
عنوة؛ ولكنهم يمتصون دماء الفقراء وهم يبتسمون لهم! ! وينتبهون أموال الناس
وهم يربتون على أكتافهم! !
إنها محاربة ماثلت في بشاعتها محاربة قطاع الطريق؛ ولكنها أوسع نطاقًا،
وأكثر تنظيمًا ومخادعة؛ ففاقت في انتشارها وقبحها رفع السلاح وانتهاب الأموال
بالقوة، وقد قال الله - تعالى - محذرًا منها: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن
تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] (البقرة: 278-279) .
وويل ثم ويل لمن حارب الله - تعالى - وهو يمشي على أرضه، ويأكل
رزقه، وينعم بفضله، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يقال يوم القيامة
لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب [4] . وعنه - رضي الله عنه - قوله في معنى
الآية: [فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] (البقرة: 279) [5] .
وقال قتادة السدوسي - رحمه الله تعالى - (أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون؛
فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا) [6] ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية قد أومأت إلى
سوء خاتمة أكلة الربا [7] .
3- أن فيه كفرًا لنعمة المال:
لم يكتف المتعامل بالربا بما رزقه الله من مال، ولم يشكر نعمة الله - تعالى-
به عليه؛ فأراد الزيادة ولو كانت إثمًا، فكان كافرًا لنعمة ربه عليه؛ فمال ماله إلى
الحق ومزع البركة، كما قال الله - تعالى -: [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ] (البقرة: 276) . قال ابن كثير - رحمه الله -
تعالى: (أي لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم
هذه الآية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا
يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل
بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس
بالباطل) [8] .
4- أن الربا مخل بالإيمان:
كل معصية تخل بإيمان العبد، وعلى قدر المعصية يكون اختلال الإيمان؛ إذ
إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما هو مذهب السلف الصالح وأتباعهم
بإحسان، وقد قال الله - تعالى - في شأن الربا: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (البقرة: 278) ، قال القاسمي - رحمه
الله تعالى - (فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان) [9] .
ولذا كان المتعامل حقيقًا باللعن والطرد من رحمة الله تبارك وتعالى. قال
جابر - رضي الله عنه -: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله
وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) [10] .
5- أنه من المهلكات للأفراد والأمم:
أما الأفراد فقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الربا من التسع الموبقات [11] ،
ثم عده في السبع الموبقات [12] التي حذر منها وأمر باجتنابها.
وأما على مستوى الأمم فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه: ما ظهر في قوم
الربا والزنا إلا أخلوا بأنفسهم عقاب الله [13] ، وكفى بذلك زاجرا عنه للأمم التي تود
المحافظة على اقتصادها، وتخشى الكوارث والنوازل.
6 - الربا أعظم إثمًا من الزنا:
ورد في السنة النبوية أحاديث كشفت حقيقة تلك الجريمة النكراء، وأبانت
بشاعتها وقبحها بما يردع كل مؤمن بالله - تعالى - والدار الآخرة عن مقاربتها بله
مقارفتها؛ ومنها حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى
الربا عرض الرجل المسلم) [14]
وكذا حديث عبد الله بن حنظلة - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين
زنية) [15] .
قال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: (وله: أشد من ست وثلاثين ... إلخ
يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا
هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها؛ لا شك أنها قد
تجاوزت الحد في القبح) [16]
ومن نظر في هذين النصين وشواهدهما من السنة النبوية تبين له أن قليل
الربا أعظم من كثير الزنا، مع ما في الزنا من فساد الدين والدنيا؛ حيث سماه
الله - تعالى - فاحشة وساء سبيلا، ونهى عن الاقتراب منه كما قال - تعالى -:
[وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] (الإسراء: 32) ، وحرمت
الشريعة الطرق المفضية إليه، وسدت الذرائع الموصلة له، وفيه خيانة كبرى
لزوج المزني بها ووالديها وأسرتها، ويؤدي إلى فساد الأخلاق وارتفاع الحياء،
واختلاط الأنساب، وفشو الأمراض، وحصول الشكوك، وتبرؤ الزوج من نسبة
ابن زوجته الزانية وملاعنتها على ذلك، وربما حصل عنده شك في أولاده من
زوجته قبل زناها إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة التي استوجبت أن يكون حد
الزناة المحصنين الرجم بالحجارة حتى الموت.
وحد غير المحصنين الجلد والتغريب، ورد شهادتهم ووصفهم بالفسق إلا أن
يتوبوا، ومصيرهم في البرزخ إلى تنور مسجور تشوي فيه أجسادهم.
رغم ما تقدم كله فإن الدرهم من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية؛ فإذا كان
هذا في درهم واحد فكيف بحال من يأكلون الألوف من الربا بل الملايين والمليارات؟
وكم هي خسارة من أسس تجارته على الربا، ومن كان كسبه من فوائد الربا
الخبيثة، ومن كانت وظيفته كتابة الربا، أو الدعاية له، أو حراسة مؤسسته؟
وما هو مصير جسد ما نبت إلا ما نبت إلا من ربا، وأولاد ما أطعموا إلا من
كسبه الخبيث وما غٌذّيت أجسادهم إلا عليه، فما ذنبهم أن تبنى أجسادهم بالسحت؟
الصلة بين الربا والزنا:
إن المتأمل للحديثين السابقين وما في معناهما يجد أن ثمة علاقة وثيقة بين
جريمتي الربا والزنا، وأن الربا أشد جرمًا من الزنا؛ فما هو السر في ذلك يا ترى؟
إن الذي يظهر لي - والعلم عند الله تعالى - أن من أهم أسباب انتشار الزنا
في الأمم تعامل أفرادها بالربا، ودرهم الربا ضرره على الأمة كلها، أما الزنا
فضرره مقصور على الزاني والزانية وأسرتها وولدها ولا يتعدى ذلك في الغالب إذا
لم يكن ثمة مجاهرة به، وإقرار له [17] .
إن الطبقية التي يصنعها الربا بين أبناء الأمة الواحدة، والفجوة بين الفقراء
والأغنياء التي تزداد اتساعًا وانتشارًا كلما تعامل الناس بالربا تجعل الفقير لكما
اقترض تضاعفت ديونه، وازداد فقره وأشتد جوعه؛ حتى يٌضعٍفَ الفقر والجوع
والحاجة غيرته على عرضه، فلا يأبه إن زنت محارمه إذا كان من وراء ذلك عائد
مالي يقلل فقره ويشبع بطنه. وما زنت الزانية المحتاجة أول ما زنت إلا لما جاع
بطنها، وصاح رضيعها واحتاج أهلها، ولربما أمرها وليها بالزنا - عوذًا بالله -
من أجل أن تطعم أسرتها. وإذا انكسر حياؤها مرة فلن ينجبر أبدًا حتى تتخذ الزنا
مهنة لها إلا أن يشاء الله تعالى؛ والواقع يشهد ذلك في كل البلاد التي عمّ فيها الربا،
وزال من أفرادها الإحسان؛ حتى أصبح المال في أيدي عدد قليل من عصابات
المرابين، وأما بقية الناس فيغرقون في ديونهم، ويموتون جوعًا وفقرًا. فالربا ليس
سببًا في وقوع الزنا فحسب؛ بل هو سبب لانتشاره في الأمم، وإذا كان الزنا
جريمة أخلاقية؛ فإن الربا جريمة أخلاقية مالية تجر إلى كوارث عدة من انتشار
البطالة والفقر والجوع والأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة.
7- المتعامل بالربا يُعذَّب في قبره وعند نشره:
الربا من المعاملات التي أجمعت الشرائع السماوية كلها على تحريمه، الآخذ
والمعطي فيه سواء.
وآكل الربا يٌبعث يوم القيامة وهو يتخبط في جنونه كما قال - تعالى -:
[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ]
(البقرة: 275) .
قال سعيد بن جبير - رحمه الله تعالى -: (بعث آكل الربا يوم القيامة
مجنونًا يخنق) [18] ، وقال وهب بن منبه: (يريد أن بُعث الناس من قبورهم
خرجوا مسرعين لقوله: [يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ] (المعارج: 43) ، إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم
الذي يتخبطه الشيطان من المس، وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا، فأرباه الله في
بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا
يقدرون [19] .
ويشهد لهذا المعنى حديث مرفوع فيه ضعف عن أبي هريرة - رضي الله
عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتيت ليلة أسرى بي على
قوم بطونهم كالبيوت فيها حيات تُرى من خارج بطونهم؛ فقلت: من هؤلاء يا
جبريل؟ قال: هؤلاء أكلةُ الربا) [20] .
وأما عذابه في البرزخ فكما جاء في حديث المنام عن سمرة بن جندب -
رضي الله عنه - وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأتينا على نهر - حسبت
أنه كان يقول: أحمر مثل الدم - وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط
النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، فيأتي ذلك السابح إلى ذلك الذي جمع
الحجارة عنده، فيغفر له فأه فيلقمه حجرًا حتى يذهب به سباحة إلى الجانب الأخر
وذكر في تفسيره في آخر الحديث أن ذلك السابح الناقل للحجارة أكل الربا [21] .
قال ابن هبيرة - رحمه الله تعالى -: (إنما عوقب أكل الربا بسباحته في
النهر الأحمر وإلقامه الحجارة؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر.
وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئًا، وكذلك الربا فإن
صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من ورائه يمحقه) [22] .
8- أن المتعامل به ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: (لعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء) [23] .
قال النووي - رحمه الله تعالى -: (هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين
المترابين، والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل) [24] .
وقال الصنعاني: (أي دعا على المذكورين بالإبعاد عن رحمة، وهو دليل
على إثم من ذكر وتحريم ما تعاطوه، وخص الأكل لأنه الأغلب في الانتفاع،
وغيره مثله) [25] .
أضرار الربا الدنيوية:
إذا تلوثت الأجواء أصاب كل من يتنفس الهواء نصيب من هذا التلوث، وإذا
تكدرت المياه دخل شيء من كدرتها جوف كل شارب منها، وهكذا يقال في كل
شيء متلوث يباشره الناس، حتى الأموال إذا داخلها الكسب الخبيث أصاب
المتعاملين بها بيعًا وشراءً، وأخذًا وعطاءً شيء من خبثها وسحتها؛ فكيف إذا كانت
بنية الاقتصاد العالمي على الكسب الخبيث؛ وفقًا للنظرية الرأسمالية المبنية على
الحرية المطلقة في الأموال، والمقررة أن الغاية تسوِّغ الوسيلة؟ فلا شك - والحال
ما ذكر - أن تتلوث الأموال عالميًا بالكسب الخبيث؛ حتى إن من حاول الاحتراز
والتوقي يصيبه رذاذ خبث الأموال، وغبار الربا المتصاعد منها، مصداقًا لحديث
أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليأتين على
الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره) [26] .
وإذا كان الأمر كذلك فإن حصول أضرار دنيوية اقتصادية واجتماعية وغيرها
متحقق ولا مفر مه في كل أمة انتشر فيها الربا وما يتبعه من كسب خبيث كما دلت
على ذلك النصوص والعقل وواقع حال البشر في هذا العصر الذي علا فيها شأن
الاقتصاد المبني على الربا على الشؤون الأخرى.
ومن تلكم الأضرار الدنيوية ما يلي:
1- أن الربا سبب للعقوبات ومحق البركات:
قال الله - تعالى -: [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ
كُفَّارٍ أَثِيمٍ] (البقرة: 276) .
ونظير هذه الآية قوله - تعالى -[وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ
فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ]
(الروم: 39) .
والآياتان دالتان على مباركة المال بالصدقة لترغيبهم فيها، ومحقه بالربا
لترهيبهم وتنفيرهم منه، ولا سيما أن النفوس البشرية تحب تملك المال وتنمية له؛
فبين الله - تعالى - أن البركة تحصل بالصدقة، والمحق يحصل بالربا.
قال الرازي: (لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة
في الأمر بالصدقات ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل
الربا، وكشف عن فساده، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في
الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير؛ فبين - تعالى -
أن الربا وإن كان في زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأن الصفة وإن
كانت نقصانًا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى، ولما كان الأمر كذلك كان
اللائق بالعاقل ألا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوراف،
بل يعول على ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف) [27] .
والظاهر أن محق الربا للمال يكون في الدنيا والآخرة؛ لعموم النصوص وعدم
تخصيصها المحق بدار دون أخرى:
ومن صور محقه في الدنيا: عدم بركته، وإنفاقه فيما لا يعود على صاحبه
بالنفع بل فيها يصره؛ ليقينه أنه كسب خبيث فينفقه في خبيث أيضًا، فيكتسب به
إثمين: إثمًا في الاكتساب وإثمًا في الإنفاق؛ ذلك أن كسب المال في حرام لا يجيز
إنفاقه في الحرام كما يظن كثير ممن يتخوضون في الحرام. ثم إن من استغل حاجة
الفقراء وأكل أموال الناس بالربا فإنهم يبغضونه ويلعنونه ويدعون عليه؛ مما يكون
سببًا لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله، وإذا جمع مالاً عظيمًا بالباطل
توجهت إليه أطماع الظلمة والغاصبين، ويشجعهم على ذلك أنهم لا يرون أحقيته
بالمال، فيسوغون لأنفسهم أخذه منه أو مشاركته فيه.
ومن صور محقه في الآخرة: عدم تسخيره في الطاعة لعلمه أنه محرم، ولو
تصدق به أو حج أو أنفق في وجوه البر لكان حريًا بالرد وعدم القبول؛ لأن الله -
تعالى - طيب لا يقبل إلا طيبا، ثم إن ما يحصل له من شدة الحساب والعذاب
المرتب على الربا في البرزخ وعند النشر من أعظم المحق، ذلك أن الأصل في
المال منفعة ينفع صاحبه، والمرابي عاد عليه ماله بالضرر.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته
إلى قلٍّ) [28] .
قال المناوي - رحمه الله -: (أي أنه وإن كان زيادة في المال عاجلاً يؤول
إلى نقص ومحق آجلا بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك؛ فهو مما يكون
هباء منثورا. قال الطيبي: والكثرة والقلة صفتان للمال لا للربا؛ فيجب أن يقدر:
مال الربا؛ لأن مال الربا ربا) [29] .
ولا يشك مؤمن أن القليل المبارك من المال خير من الكثير الممحوق البركة
ولو كان الكثير محل إعجاب الناس وتطلعاتهم ورغباتهم؛ ولذا قال الله - تعالى -
[قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي
الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (المائدة: 100) .
والواقع المشاهد يؤكد هذه الحقيقة التي قررتها نصوص الشريعة سواء على
المستوى الفردي أو الجماعي والأممي.
أما على المستوى الفردي فإن أكثر الناس في هذا العصر - عصر الربا -
يشكون من قلة بركة أموالهم رغم كثرة دخولاتهم وتعدد سبل كسبها.
أما على المستوى الأممي - العالمي - فرغم اختراع الآلة، واستغلال ثروات
الأرض، وتنوع الصناعات، وتعدد الزراعات التي أصبح الإنسان المعاصر ينتج
منها في اليوم ما لم يستطع إنتاجه من قبل في سنوات؛ حتى صارت أرقام الإنتاج
الزراعي والصناعي أرقامًا عالية جدًا؛ رغم ذلك كله فإن أكثر سكان الأرض
يعيشون فقرًا، ولا يجدون كفافًا وفي كل يوم يموت منهم جموع من الجوع والمرض،
فأين هي المنتجات الزراعية والصناعية؟ لِمَ لَمْ تسد جمع الملايين من البشر وهي
تبلغ ملايين الملايين من الأطنان؟ فما كانت إذن قلة إنتاج، ولكنها قلة بركة فيما
ينتجون ويزرعون ويصنعون! !
وأما حلول العقوبات، فإن المحسوس المشاهد منها الذي يعاني منه البشر في
عصر الربا من التنوع والكثرة بما لا يعد. وهناك عقوبات معنوية يعاني منها أكثر
الناس ولم يكتشفوا سر تلك المعاناة ومنها: استعباد المادة للإنسان بحيث تحولت من
كونها وسيلة لراحته وهنائه إلى غاية ينصب في تحصيلها، ثم يشقى بحفظها،
ويخشى فواتها. وتلك عقوبة أيًُّ عقوبة! !
إن الإنسان في العصر الرأسمالي الذي أساسه الربا يريد الاستغناء بالأشياء،
فإذا ما استغنى بها سيطر عليه هاجس زوالها فيظل شقيًا في تحصيلها، شقيًا في
الحفاظ عليها، وهل يجد لذة الحياة من نعم جسده، وعذّب قلبه، وأي عذاب أعظم
من عذاب القلب؟
وقد كان الإنسان قبل العصر الرأسمالي يستغني عما لا يستطيع تحصيله،
ويقنع بما كتب له، فيرتاح باله، ويطمئن قلبه.
2- الربا سبب لازدياد الفقر:
سيطرة المادة على الناس، وخوفهم من الفقر والحاجة، وانعدام قناعتهم
بالضروري من العيش، وتطلعهم إلى كماليات لا يحتاجونها، إلى غير ذلك انتشر
وساد في العصر الرأسمالي الربوي، وكل ذلك وتوابعه ليست أخلاقا ذميمة فحسب؛
بل هو عقوبات وعذاب يتألم الناس من جرائها في زمن انتشار الربا؛ حتى
أصبح الفقير يريد الغنى، والغني يريد أن يكون أكثر ثراء، وصاحب الثراء
الفاحش يريد السيطرة على أسواق المال في سلسلة لا تنتهي من الجشع وحب الذات
وكراهية المتنافسين، وغير ذلك من الأخلاق الرديئة، وصار في الناس مستورون
لا يقنعون، وأغنياء لا يحسنون ولا يتصدقون إلا من رحم الله تعالى.
وإذا ما استمر العالم على هذا النحو من تفشي الربا، وارتباط المعاملات
المالية به فإن النهاية المحتومة ازدياد الفقر والجوع حتى يهلك أكثر البشر،
واجتماع المال في خزائن فئة معدودة من كبار المرابين، وهذا ما جعل أحد كبار
الاقتصاديين الأوروبيين يطلق على الربا: تجارة الموت، فيقول: (الربا تجارة
الموت، ومن شأنه أن يشعل الرأسماليون الحرب وإن أكلت أكبادهم في سبيل
مضاعفة رأس المال ببيع السلاح) [30]
وما حطم قيمة الأوراق النقدية، وقضى على أسعار العملات إلا الربا الذي
يقوم عبره عصابة من المرابين بضخ المال في عملة من العملات ثم سبحه من
رصيدها لتقع قيمتها من القمة إلى الحضيض، فيصيب الفقر شعوبًا وأممًا لا تملك
سوى عملتها التي ما عادت تساوي شيئًا، وليس ببعيد عن الأذهان ما حصل لبعض
دول شرق آسيا.
3- الربا سبب لرداءة النقود وضعفها:
المتخصصون في الاقتصاد يقررون أن النقود هي دماء الاقتصاد، والنقود
السليمة هي التي تجعل الاقتصاد سليمًا؛ ولكن نقود العالم الحالية مريضة بالتضخم
الناتج عن الربا، ولا يمكن علاجها إلا بمعالجة التضخم، ولن يتم علاجه إلا بإلغاء
فوائد الربا. ويشخص هذه الحقيقة الاقتصادي الألماني: (جوهان فيليب بتمان)
مدير البنك الألماني (فرانكفورت) فيقولك: كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد، فكما
يؤدي الماء إلى رداءة النقود. قد يبدو الأمر أننا نسوق تعبيرات أدبية، أو أننا
نبسط المسألة ونسطحها؛ ولكن الحقيقة أن هذه العبارة السهلة البسيطة هي في
الواقع معادلة سليمة وصحيحة تدل عليها التجربة، ويمكن إثباتها؛ فالفائدة العالية
تدمر قيمة النقود، وتنسف أي نظام نقدي ما دامت تزيد كل يوم، وتتوقف سرعة
التدمير وحجمه على مقدار الفائدة ومدتها [31] .
وهكذا صارت عاقبة الربا وإن كثر إلى قِلٍّ وهذه صورة من صور المحق
التي يسببها الربا للأموال المتعاملين به.
وبسبب انتشار الربا في المعاملات المالية أضحت البورصات العالمية وكأنها
صالة قمار واسعة، ليس الأمر فيها يتصل بالمقامرات غير المحسوبة فحسب؛ بل
إن هناك من يبيع دائمًا ما لا يملك، ومن يشتري من دون أن يدفع ثمنًا. ومن
يتظاهر بأن هناك أسهما لشركات وما هي في الواقع بشركات، ومن يقيد بالدفاتر
مليارات كبيرة دون أن يراها، ودون أن يقابلها رصيد من أي نوع، إنها الفائدة
الملعونة المسؤولة عن المصائب الكبرى في النظام النقدي العالمي، وهي المسؤولة
عن التضخم، وعن ضياع الأموال، وعن عجز دفع المدينين ديونهم، كما قرر
حقيقة ذلك الاقتصادي الغربي (موريس آليه) الحائز على جائزة نوبل في
الاقتصاد [32] .
4- الربا سبب لرفع الأمن وانتشار الخوف:
تسود الأنانية وحب الذات وانعدام الرحمة كل المجتمعات التي ينتشر فيها
الربا؛ فالموسرون المرابون يقرضون الفقراء المحتاجين بفوائد الربا التي تزداد مع
طول المدة وشدة الحاجة، مما يجعلهم عاجزين عن السداد. والنتيجة النهائية: إما
أن يسرقوا لسداد القروض الربوية، وإما أن تصادر أملاكهم وتباع للمقرضين؛
ليعيشوا وأسرهم بقية أعمارهم على قارعة الطريق يتكففون الناس، أو في الملاجئ
والدور الاجتماعية مما يكون سببًا في قتل كرامتهم، وحرمان المجتمع من عملهم
وإنتاجهم.
إن الربا هو السبب الرئيس في انتشار الجريمة والانتقام بين أصحاب رءوس
الأموال وكبار المرابين، مما يكون سببًا في رفع الأمن، وبسط الخوف والذعر في
المجتمعات.
وواقع كثير من البلدان التي ينتشر فيها الربا شاهد على ذلك، وهل يستطيع إنسان
بِيعَ بيتُه، وشُرِّدَ هو وأولاده لسداد ما عليه من قروض الربا أن يصبر عن الانتقام؟
وماذا يبقى له في الدنيا إذا كان يريد العيش لها إلا أنه فقدها فجأة؟ ! .
وأخيرًا.. اجتناب الربا أهون من التخلص منه:
إن المتعامل بالربا يعز عليه الخلاص منه بعد الغرق فيه، ولا سيما إذا كانت
تجارته كلها مؤسسة عليه. ولا ينجو من ذلك بعد الانغماس فيه، ويبادر بالتوبة
والخلاص منه إلا من هدي للرشاد ووفق للخير.
قد يغتر المبتدئ في حياته الوظيفية أو التجارية بالقروض الربوية الميسرة أو
بالفوائد المركبة والبسيطة التي تعلن عنها بين حين وآخر البنوك الربوية؛ بقصد
أكل أموال الناس بالباطل، ويتولى إثم الإعلان عنها، والدعاية لها المؤسسات
الإعلامية المختلفة من مشاهد ومسموع ومقروء؟ ولكن ذلك المسكين الذي أغتر بها
حين يفرق في الربا ربحًا أو خسارة فلن ينجو بسهولة، وكان الأسهل عليه أن
يجتنب طريقها أولاً.
إنه قد يربح الفوائد من الإيداع ولكنه سيخسر بركة ماله، ولقمة الحلال ودينه
وآخرته، وإن كان مقترضًا فسيجني أغلال الديون مع الإثم والفقر.
والشاب الذي يغريه راتب الوظيفة الربوية وسيارتها وبعثاتها وميزاتها عليه
أن يتذكر أن عاقبة ذلك خسران في الدنيا والآخرة، والرضى بالقليل الحلال خير
وأعظم بركة من الكثير الحرام، ولن يندم عبد تحرى الحلال في كسبه وإن فاته
الكثير من المال؛ لكنه سيندم أشد الندم إن أدخل في جوفه حرامًا، وقد يكون ندمه
متأخرًا لا ينفعه.
والله - تعالى - قال: [فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ
إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (البقرة: 275)
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه (147) .
(2) تفسير ابن كثير (1/889- 890) .
(3) لم يأت إطلاق لفظ المحاربة في الشريعة - حسب علمي - إلا على ثلاث من الكبائر: أ- أكل الربا وفيه قول الله - تعالى -: [فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] (البقرة: 279) ب- قطع الطريق وفيه قوله - تعالى-: [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن
يُقَتَّلُوا] (المائدة: 33) ج- معاداة أولياء الله - تعالى - وفيه الحديث القدسي: (من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب) أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وجمع الذنوب والمعاصي فيها نوع محاربة لله ورسوله، لكن نص الشارع على هذه الثلاث من الكبائر لعظيم جرم مرتكبها، فهو مستحق لسخط الله ومقته.
(4) انظر: هذا الآثار في جامع البيان، للطبري 3/ 108.
(5) أنظر: هذه الآثار في جامع البيان، للطبري 3/ 108.
(6) أنظر: هذه الآثار في جامع البيان، للطبري 3/ 108.
(7) انظر: محاسن التأويل، للقاسمي، 1/ 631.
(8) تفسير ابن كثير، 1 / 493.
(9) محاسن التأويل، 1/ 631.
(10) أخرجه مسلم في المساقاة، باب لعن أكل الربا وموكله (1598) .
(11) كما في حديث عبيد بن عمير الليثي عن أبيه أخرجه أبو داود في الوصايا (2875) وفيه:.
(هن تسع) وذكر زيادة على السبع المذكورة في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الشيخين: (وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتنا) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (898) والحاكم وصححه ووفقه الذهبي 1/ 95.
(12) أخرجه الشيخان البخاري في الوصايا (2766) ، ومسلم في الإيمان (89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(13) أخرجه أحمد، 1/ 402، وأبو يعلى كما في المقصد العلي (1859) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وجود إسناده الهيثمي في الزوائد 4/118، والمنذري في الترغيب 3/ 194، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا، وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 37.
(14) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/ 37، وأخرجه ابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا مختصرًا بلفظ: الربا ثلاثة وسبعون باباً (2275) وصححه البوصيري في الزوائد 2/ 198، وأخرجه البزار في البحر الزخار (1935) وقال الهيثمي في الزوائد: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح 4/ 116- 117، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1851) ، وله شاهد عند البيهقي في الشعب (2761) من حديث أبو هريرة - رضي الله عنه - وفي سنده عبد الله بن زياد، قال البخاري: منكر الحديث كما ي ميزان الاعتدال 2/424، وله شاهد آخر من حديث عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - عزاه الألباني للطبراني وصححه في صحيح الجامع (1531) .
(15) أخرجه أحمد 5/ 225، والطبراني في الأوسط (2682) ، والدراقطني (92819) ، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح 4/117، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033) .
(16) نيل الأوطار، 6 / 278.
(17) هذا إذا لم ينتشر الزنا في المجتمع، والغالب أنه لا يخلو مجتمع كبير من حالات زنا، وقد وقع ذلك في الزمن الأول من الإسلام وهو أفضل العصور، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامدية - رضي الله عنهم، ولاعن هلال بن أمية زوجته - رضي الله عنهما - ولعل السبب في ذلك أن الزنا تدفع إليه غزيرة قد يضعف العبد حيالها في وقت من الأوقات، وتحجب عقله فيقع المحظور خلاف الربا فإنه متعلق بغريزة حب المال وهي أقل تمكنًا من غريزة الشهوة الفطرية ولذلك لم تقع حالات ربا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - فيما أعلم - بعد ورود النهي عنه رغم أنه كان من معاملاتهم المشهورة في الجاهلية.
(18) وجاء نحوه عن قتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد، وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مثله، وهو قول جمهور المفسرين، وانظر آثارهم في جامع البيان، 3/103، وتفسير ابن كثير 1/ 487، 488.
(19) التفسير الكبير للرازي، 7/ 79.
(20) أخرجه ابن ماجه (2273) ، والبيهقي مطولا وابن أبي حاتم وأحمد كما في تفسير ابن كثير، 1/ 488، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
(21) رواه البخاري، ح / 7047.
(22) فتح الباري، لابن حجر 12/ 365، وفي: " والله من ورائه محقه " ولعله خطأ مطبعي.
(23) أخرجه مسلم (1598) .
(24) شرح النووي على صحيح مسلم، 11/ 37.
(25) سبل السلام، 5 / 109.
(26) أخرجه أبو داود (3331) ، والنسائي 7/ 243، وابن ماجه (2278) ، والحاكم 2/11 كلهم من رواية الحسن عن أبي هريرة وسماع الحسن - رحمه الله - من أبو هريرة - رضي الله عنه - مختلف فيه؛ ولذا قال الحاكم بعد روايته: " قد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة، فإن صح سماعه منه فهذا الحديث الصحيح " اهـ، والذهبي يرى سماع الحسن لهذا الحديث من أبر هريرة، حيث قال: " سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح " انظر التخليص (2162) وتبع الذهبي في تصحيح الحديث السيوطي في الجامع الصغير فرمز له بالصحة 2/ 444 والظاهر أن الألباني - رحمه الله - لا يرى سماع الحسن هذا الحديث من أبي هريرة ولذا ضعفه في ضعيف الجامع.
(4874) وبكل حال فإن وقوع ذلك في هذا الزمن مما يشهد للحديث ويقويه وهو من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
(27) التفسير الكبير، 7/ 83، وانظر محاسن التأويل للقاسمي، 1/ 630.
(28) أخرجه أحمد 1/ 395، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 37، وصححه السيوطي في الجامع الصغير، 2/ 22، وأحمد شاكر في شرحه على المسند (3754) ، والألباني في صحيح الجامع (3542) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(29) فيض القدير 4/ 50.
(30) مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (91) ، جمادى الآخرة، 1409هـ، ص 7.
(31) ذكر ذلك في دراسة له عنوانها: كارثة الفائدة، ترجمها الدكتور أحمد النجار، ونشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (194) ، ص 54.
(32) مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (184) ، ص 68.(166/6)
دراسات في الشريعة والعقيدة
رسالة إلى المفتي والمستفتي
عثمان عبد الله حمد آل عبد الله
يقول الله - تعالى -: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل:
43) ، هنا يوجب الله على عباده أن يتوجهوا إلى العلماء حين تعرض لهم أمور أو
مسائل يجهلون الحكم الشرعي فيها؛ فكما أن المريض يتجه للطبيب فكذا الجاهل
بأمور الشرع ينبغي أن يتجه إلى العلماء والفقهاء ليسألهم ويستوضحهم.
ولكن السؤال المهم هنا: إلى من يتجه المستفتي؟ أو بمعنى آخر: هل كل
من تصدى للإفتاء يعد أهلاً له؟ طبعًا لا؟ وهذا ما سوف نناقشه فيما بعد.
إن على المستفتي أن يتقي الله ويسأل أهل العلم الموثوقين الذين يضعون تقوى
الله نصب أعينهم، والكتاب والسنة دليلهم ومنهجهم، وفي هذا يقول محمد بن
سيرين ومالك بن أنس وغيرهم - رحمهم الله -: (إن هذا العلم دين؛ فانظروا
عمن تأخذون دينكم) [1] .
ويتأكد هذا الأمر في هذا الزمان الذي فشا فيها الجهل وقلَّ العلم، كما أخبر
بذلك نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: (من أشراط الساعة أن يًرفع
العلم) [2] ، كما هو مشاهد في هذا الزمان، وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه
وسلم فقال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم
بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْق عالمًا أتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسُئلوا، فأفتوا بغير
علم فضلوا وأضلوا) [3] .
وعلى من يتصدى للإفتاء في أي زمان أن يعلم خطورة هذا المقام وعظم شأنه،
ويتجلى ذلك في أمور منها:
أ- أن المفتي مُوَقِّع عن الله - تعالى - أمره ونهيه (فإذا كان منصب التوقيع
عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب
السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات) ، و (كيف وهو
المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال - تعالى -: [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ] (النساء: 127) ، وكفى بما
تولاه الله - تعلى - بنفسه شرفًا وجلالة [4] .
ب - إن القول على الله بغير علم أعظم من الشرك، يقول - تعالى -:
[قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]
(الأعراف: 33) .
يقول ابن القيم - رحمه الله -: (فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ
بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثني بما هو أشد تحريمًا منهما وهو الشرك به سبحانه،
ثم ربَّع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول
عليه - سبحانه - بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه) [5] .
ج- تخوف السلف - رضوان الله عليهم - من الصحابة والتابعين من الفتيا،
وتمني كل واحد منهم أن يكفيه غيره إياها، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن أبي
ليلى - رحمه الله -: (أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه ولا مقت إلا ود أن أخاه
كفاه الفتيا) .
وبناء على عظم مكانة الفتيا وعلة شأنها فقد وضع العلماء شروطًا كثيرة ينبغي
توافرها فيمن يتصدى للإفتاء، كالإسلام والعلم والعدالة في الأقوال والأفعال،
وحسن الطريقة وسلامة المسلك، وطلب المشورة من أهل العلم والدين، وشهادة
الناس له بهذا المنصب، وغير ذلك من الشروط المطلوبة وهي مبثوثة في مظانَّها.
ولكن لَعَلِّي أُفَصِّل القول عن بعض النقاط الهامة التي ينبغي على المفتين أن
يلموا بها ويكونوا على دراية بها، وهي كما يلي:
أ - تعظيم نصوص الشريعة واحترامها وعد تأويلها أو تحريفها عن وجهتها
الصحيحة بدعوى مخالفتها للعقل أو الواقع؛ فهذه شبه باطلة يبثها ضعاف العقول
وأنصاف المتعلمين الذين لم يرسخوا في العلم الشرعي ولم يتمكنوا منه، وإلا لم
تقًدهم عقولهم إلى هذه المسالك الباطلة؛ فإن النقل الصحيح لا يعارض العقل السلم
ألبتة.
ب- فهم الكتاب والسنة على ما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم،
وتفسير نصوص الوحيين على ما ذكروا وبينوا، فهم الحجة في ذلك، لأنهم الأقرب
إلى عهد النبوة والصحابة رضوان الله عليهم، وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود -
رضي الله عنه -: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتهم) .
ج- أن يحذر المفتي من أن يكون همه مقتصرًا على تخليص السائل، بل
عليه أن يعمل على تخليص نفسه أولاً، فيفكر في السؤال؛ ف، وجد لنفسه مخرجًا
تكلم، وإلا فليقل: (الله أعلم) فذلك هو الأسلم، فإن يوقع عن الله أمره ونهيه،
وهو موقوف ومسؤول عن ذلك أمام الله عز وجل - ولعل من المؤسف حقًا ما
يسلكه بعض المفتين في زماننا من التساهل مع الناس في أمور الدين بدعوى
التيسير والوسطية، وأن الإسلام دين اليسر والسهولة، وهذا كلام حق أريد به غير
مراده الصحيح، فإن الوسطية والسماحة لا تعني تمييع أمور الدين وتعريتها من
أحكامها الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة وقد بدا جليًا أثر هذا المنهج
الخاطئ في شيوع المنكرات والمحرمات في المجتمع لدى كثير من المسلمين بسبب
فتاوى ضعيفة لا يسعفها دليل من كتاب أو سنة صحيحة.
مع أنه كان ينبغي على كل مفتٍ في هذا الزمان أن يسلك سبيل الحزم مع
الناس وعدم التساهل معهم كما كان منهج سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم -
حيث كانوا يتشددون في الفتيا عند تساهل الناس وتهاونهم بأمور الشرع كما ورد
ذلك عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - وغيره، ولعل في فعل عمر - رضي الله
عنه - وغيره، ولعل في فعل عمر - رضي الله عنه - وفتواه في مسألة الطلاق
الثلاث دليل واضح على ذلك؛ فما أوسع علمه وفقهه رضي الله عنه! .
د - معرفة أحوال الناس والتفطن لتصرفاتهم واليقظة التامة للطرق التي
يسلكونها؛ وذلك لينكشف للمفتي مكر بعض المستفتين وخداعهم؛ فلا يغتر بظواهر
ما يدلون به في إفتائهم تبعًا لذلك [6] ؛ وذلك أن بعض المستفتين يعرض سؤاله
بصيغة معينة يتحايل بها على الحكم الشرعي تحريمًا أو وجوبًا، وقد انطلت هذه
الطريقة على بعض المفتين مما سبب إشكالات كثيرة.
وهنا أمر مهم ينبغي على جميع المستفتين العناية به ألا وهو قضية (زلة
العالم) فإن (العالم يزلُّ ولا بد؛ إذ ليس بمعصوم؛ فلا يجوز قبول كل ما يقوله
ويُنزل قوله منزلة قول المعصوم؛ فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض
وحرمه وذموا أهله) [7] .
وفي الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد ما أتخوف
على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، والتكذيب بالقدر) [8] .
يقول الشاعر:
أيها العالم إياك الزلل ... واحذر الهفوة فالخطب جلل
هفوة العالم مستعظمة ... إن هفا أصبح في الخلق مثل
إن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل
أنت ملح الأرض ما يصلحه ... إن بدا فيه فساد وخلل
ختامًا:
ينبغي ألا يترك باب الإفتاء مفتوحًا لكل من أراد؛ بل الواجب أن توضع له
قواعد أساسية وشروط محكمة يقوم بها الأشخاص، ويعلم من خلالها مدى
صلاحيتهم لهذا الأمر العظيم.
وعلى الجميع - المفتي والمستفتي - أن يراقبوا الله - تعالى - في أقوالهم
وفتاواهم، فإنهم محاسبون على جميع ذلك: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]
(ق: 18) .
أسأل الله أن يمن على الجميع بتقواه ويوفقنا لرضاه؛ والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، 1/14، بإسناد صحيح، وانظر الفقيه والمتفقه، 2/98.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) إعلام الموقعين لابن القيم - رحمه الله -، 1/11، الطبعة الثانية، دار الفكر 1397هـ.
(5) إعلام الموقعين 1/38.
(6) مجلة البحوث الإسلامية، 1/157، المفتي في الشريعة الإسلامية، الأستاذ عبد العزبز الربيعة.
(7) إعلام الموقعين، 2/173.
(8) قال الألباني في السلسلة الصحيحة، 3/ 119: رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء مرفوعًا، وقال الهيثمي: وفيه يحيى بن معاوية الصدفي وهو ضعيف.(166/18)
قضايا دعوية
الفتور الدعوي عند الشباب.. الأسباب والحلول
د. عبد الله بن علي الجعيثن
الدعوة إلى الله اليوم واجب الأمة الإسلامية جمعاء لا يشذ عن ذلك إلا عاجز،
كل على حسب قدرته وما وهبه الله من استعدادات وإمكانات.
والناظر في حال شباب الأمة يجد تقهقرًا عن القيام بهذا الواجب وتراجعًا عن
الاشتغال بتلك الأعباء فإننا نجد أنها ترجع إلى أمور كثيرة يمكن الإشارة إلى شيء
منها في هذا المقام:
1- ضعف استشعار المسؤولية والغفلة عن استحضار ذلك الواجب، فلا
نشعر المرء بأنه مطالب بعينه بالنهوض بالأمة ومداراة عللها وتضميد جراحها.
2- اعتقاد بعضهم أن في الساحة من يكفي، إذن فلا حاجة إليه.
3- الاشتغال بالدنيا وملذاتها من الأموال والبنين والمراكب والمساكن
والمناصب.
4- الانهزامية والشعور بالضعف أمام تيارات الفساد، وتطرق الإحباط إلى
النفوس من جراء كثرة الشر والباطل وتفنن أهله في عرضه وترويجه، فوق في
بعض النفوس أن الأمر أكبر مما يمكن أن يقدمه، وأنه يتطلب جهودًا ليس هو من
أهلها ولا من القادرين عليها، ووصل الحال بآخرين بعد بذل شيء من الأسباب إلى
أن يقول بلسان الحال: إما أن تصلح الأوضاع ويستقيم أمر الناس أو ننسحب من
الميدان ونخلي المكان.
5- تصور بعضهم ضيق ميدان الدعوة وأنه محصور في خطبة على منبر أو
محاصرة مرتجلة أو كلمة أمام الجماهير، وهو غير قادر على شيء من ذلك،
فينصرف عن الدعوة بالكلية.
6- الصدمات التي قد يتعرض لها بعض العاملين في حقل الدعوة
والمضايقات التي قد تحصل لبعض الدعاة، فربما كان ذلك سببًا في تطلب بعضهم
للسلامة بزعمه، وقد وقع في العطب!
7- تقصير المنظِّرين والدعاة في تحفيز الشباب نحو العمل الدعوي وفتح
الآفاق أمامهم للولوج إلى ميدان الدعوة الفسيح كل على حسب ما آتاه الله من علم
ومقدرة وموهبة.
8- دعوى بعضهم أن المشكلة ليس من أسبابها جهل الناس وحاجتهم إلى
التعليم والدعوة والبيان، بل إن الناس - بزعمهم - عاصون على بصيرة ومعاندون
للحق؛ فما ثمرة السعي في تعليمهم ما يعلمون وتبصيرهم فيما لا يجهلون؟ ! .
9- ميل الكثيرين إلى الكسل والبطالة أو كثرة الرحلات والمخالطات،
وبعدهم عن الجدية في عموم أحوالهم وأمورهم؛ ومن ذلك أمر الدعوة إلى الله؛
فليس عند الواحد منهم استعداد لأن يناط به علم أو يتحمل مسئولية؛ لا عجزًا،
ولكن تهاونًا وكسلا.
10- اشتغال بعضهم بالجدل والمراء في بعض القضايا الفكرية، وبعض
الأطروحات المعاصرة مما شغله عن الاهتمام بالنهوض بالأمة في أعمالها وسلوكها
وأخلاقها.
11- اشتغال بعضهم بالتنقيب عن عيوب الناس وخصوصًا العاملين في حقل
الدعوة، وإظهار تلك العيوب ونشرها وتضخيمها، وربما ليس عليه الشيطان بأن
هذا في سبيل الإصلاح وأنه محسن في ذلك قائم بأمر الدعوة.
12- اشتغال بعضهم بالنظر في الواقع وتتبع ما يجري في الساحة والمبالغة
في ذلك إلى حد الانهماك فيه، ثم يظن أنه بذلك قدم شيئًا للأمة بمجرد هذه المتابعة
وحصوله على هذا الفقه. وهو بهذا قد لا يعدو أن يكون نسخة مما تحتفظ به أجهزة
الإعلام من أخبار وتقريرات وتحليلات! ! .
13- عدم التوازن والاعتدال لدى بعض الشباب في توزيع الحقوق
والواجبات؛ فربما انهماك في جانب على حساب الجوانب الأخرى، كمن ينهمك في
طلب العلم أو في تربية النفس وتهذيبها أو في جانب من جوانب الخير على
حساب أبواب أخرى من الخير كالدعوى إلى الله سبحانه؛ حتى ربما أعتقد أنه إذا
خرج عن هذا الأمر الذي رسمه لنفسه قد ضيع زمانه وأهدر جهده فيما لا ينفع.
14- تثبيط القاعدين وتحبيط المتقاعسين عن القيام بأمر الدعوة، فلا يكتفي
أولئك بقعودهم وتقاعسهم، بل ربما سعوا إلى تثبيط غيرهم والحط من قدر أعمالهم،
وأنه لا فائدة من جهودهم، فربما قاد ذلك بعض الضعفاء إلى التأثر بذلك الهذيان
ومن ثم إخلاء الميدان.
15- اشتراط بعض الشباب أن يكون في موقع معين في المشروع الدعوي؛
فإن لم يتحقق له ذلك المكان، ولم يحصل له المركز الذي يريده أنف أن يكون في
موضع أقل مما يطمح له، فيكون البديل أن يولي الأدبار، وينأى بجانبه، ويترك
المجال برمته، وهو الخاسر بكل حال.
العلاج:
بمعرفة الأسباب يتضح العلاج. وهناك بعض الأدوية التي تداوى بها تلك
العلة منها:
1- استشعار المسؤولية العظمى المناطة بكل مسلم تجاه دينه وأمته،
وخصوصًا الشباب الصالح الذي تربى على الخير واغترف من معين الحق؛ فهو
أجدر من يتصدى للنهوض بأمته ورفع الجهل عنها ورأب صدعها ومعالجة عللها
وأدواتها. ويزيد من عظم الأمر أن واقع الأمة الإسلامية اليوم بحاجة ملحة إلى دعاة
كثيرين بل إلى استنفار عام من قِبَل كل طالب علم وصاحب غيرة ليؤدي دوره
وبخاصة أن الدعاة الموجودين اليوم لو اجتمعوا في بلد واحد لما سدوا الحاجة القائمة؛
فكيف مع قلتهم وتوزعهم؟
ثم على فرض وجود من يكفي ألا يسر المرء ألا يكون من جملة قافلة الدعاة
وركاب سفينة النجاة؟
2- معرفة حقارة الدنيا وأنها لا تستحق انصراف القلب إليها وانهماك البدن
في الاشتغال بها، وأن قيمتها الحقيقية تكمن في كونها ميدانا للأعمال الصالحة
والجهود المباركة التي تنفع المرء في آخرته. ومن ذلك العمل الدعوي ونفع الخلق
بجميع صور النفع.
3- الثقة بنصر الله واليقين بوعده وأنه - تعالى - يؤيد حملة هذا الدين،
وأنه مهزوم أمام قدرة الله وقهره، ولكن لا بد من الابتلاء، والامتحان. قال -
تعالى - ( [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ]
(محمد: 4) .
4- إدراك اتساع ميادين الدعوة والعمل لهذا الدين يتيح للجميع فرصة
المشاركة، كل فيما يخصه وما أعطاه الله من مواهب وقدرات. ومن ذلك:
- النصيحة الفردية ملفوظة ومكتوبة.
- الكلمة القصيرة.
- المراسلة لهواة المراسلة.
- كتابة المقالات في الصحف والمجلات.
- التعقبات والردود على بعض الكتابات المغرضة في الصحف والمجلات
وأجهزة الإعلام الأخرى.
- المشاركة في الكلمات والندوات في الإذاعة والتلفاز.
- كتابة القصص الهادفة.
- تأسيس قناة تلفازية أو مجلة إسلامية أسبوعية أو شهرية في شبكة
الإنترنيت وعرض البرامج التربوية والعلمية والمقالات الهادفة من خلال ذلك.
- توزيع الشريط النافع والكتاب الهادف والمطويات والنشرات الجيدة.
- نظم الشعر في مناصرة الدعوة الإسلامية وقضايا المسلمين.
- الأعمال الإغاثية داخل البلاد وخارجها.
- معالجة قضايا الشباب ومشكلاتهم.
- تربية الشباب من خلال الحلقات القرآنية ومكتبات المساجد ومجموعات
الأحياء.
- الدراسة والتخطيط للبرامج الدعوية، ووضع الخطط للمشروعات الخيرية،
واقتراح الأمور النافعة في حق الدعوة التي يقوم بها غيره من القادرين الأكفاء.
وهذا الإدراك لاتساع ميادين الدعوة يقطع الطريق على كل معتذر ويسد الباب
أمام أي متنصل.
7- فهم أن ابتلاء أصحاب الدعوات سنة ماضية، ولا بد من توطين النفس
على التعرض لشيء من الابتلاء القولي وربما الفعلي. [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ]
(لقمان: 17) .
وإن كان الملحوظ في عصرنا أن ممارسة الكثير من ميادين الدعوة ومجالات
العمل الإسلامي الأصل فيه السلامة وعدم التعرض للفتنة.
8- التفاؤل في الأعمال الدعوية مطلب، وهو حافز للعمل ودافع إليه، ومع
ذلك فلا تفترض سلفًا عدم جدوى شيء من هذه الأعمال، ولا تُصب بالإحباط حينما
لا ترى الثمرة ماثلة للعيان، لأنك مطالب ببذل الأسباب، والنتيجة أمرها إلى رب
الأرباب، وليس بالضرورة أن يرى المرء ثمرة دعوته وقد يراها غيره، وربما
كان الغرس على يده وجنى الثمار على يد غيره.
9- واجب على من ولاّهم الله أمر تعليم الأمة وتوجيهها من العلماء والدعاة أن
يوجهوا الشباب إلى الانخراط في مجال العمل الإسلامي وأن يحفزوهم إلى ذلك،
ويفتحوا لهم الآفاق الدعوية التي يمكنهم العمل من خلالها.
10- لا بد من معرفة أن الناس، وإن كان الغالب عليهم أنهم متعلمون إلا أنهم
يجهلون الكثير الكثير من أمور دينهم ولا سيما في المناطق والهجر النائية؛ فواجب
على كل من يحمل علمًا ولو قليلا - أن يقوم بوظيفة البلاغ؛ فالرسول صلى الله
عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) رواه البخاري [1] .
ثم إنه ليس المقصود بالدعوة التعليم فحسب، بل الناس بحاجة إلى تذكيرهم
بما يعلمون وهم عنه غافلون، والله - تعالى - يقول: [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ
المُؤْمِنِينَ] (الذاريات: 55) .
وما أكثر ما يقع فيه الناس من المخالفات والأخطاء؛ فإذا ذكروا بالله تذكروا
فإذا هم مبصرون.
11- الجدية وعلو الهمة مطلب في حياة الشاب الملتزم: فلا بد من البعد عن
مظاهر الكسل والبطالة والإخلاد إلى الراحة، بل المبادرة بملء الوقت بمعالي
الأمور من علم وعمل ودعوة، مع إجمام النفس الفينة بعد الأخرى.
على أن الأمر كما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام
12- إدراك أن الاشتغال بالجدل والمراء مما يورث قسوة القلب والضغائن
بين الناس ويصمد القلب عن الاشتغال بما ينفع العبد وينفع أمته، فليبتعد المرء عن
المراء والجدال، وليشتغل بنشر الخير وتأليف القلوب على الحق.
13- التنقيب عن عيوب الأنام سمة اللئام، وليست من خصال أهل الإسلام،
وتزداد قبحًا وسوءًا حينما يصورها الشيطان بأنها من مناصرة الحق وتقويم الخلق،
فيصد العبد بذلك عن نشر الخير وإيصاله إلى الناس بتتبع عثراتهم وإبراز عيوبهم،
خصوصًا القائمين بالحق منهم، فعلى من كانت هذه سمته أن يتقي الله ويشتغل بعيبه
عن عيوب الناس، ويمحض الناس النصح والتوجيه، ويجتهد في إيصال الخير
إليها بكل طريق.
14- معرفة الواقع والاطلاع عليه وسيلة وليس غاية في نفسه؛ فإن لم يكن
اطلاعك عليه طريقًا إلى القيام بالمسؤولية تجاهه وبذل الأسباب في معالجته فلا
تعدو أن تكون أقمت الحجة على نفسك، وأعلنت أمام الله والملأ بقلة مبالاتك! !
فاتق الله ولا تجعل الاشتغال بتتبع الأخبار ورصد الواقع غاية في نفسه فتظن أنك
بذلك قدمت شيئًا للإسلام؛ بل استثمر ذلك في القيام بما يجب عليك نحوه حسب
استطاعتك.
15- التوازن في الأمور مطلب شرعي، فلا يكن اشتغالك بجانب من جوانب
الخير سببًا في اشتغالك عن جوانب أخرى ربما كانت واجبة كالدعوة إلى الله تعالى
وليست العبرة في ذلك بالميول القلبية والرغبات النفسية، فالشرع هو الميزان في
ترتيب الأولويات وتوزيع الواجبات.
16- مجانبة المتقاعسين والبعد عن مخالطة القاعدين؛ فالمرء على دين خليله
فإذا بُليت بمثل أولئك فكن معهم ببدنك لا بقلبك، ولا تكترث بتثبيطهم، وأحمد الله
الذي عافاك مما ابتلاهم به، من غير أن يصيبك الإعجاب بالنفس؛ فالله هو المانُّ
عليك بذلك.
17- الإخلاص أعظم الحوافز نحو العمل الدعوي ونفع الخلق، لما يرجوه
العبد من الثواب ويؤمله من الأجر. كما أنه سبب من أسباب الثبات على الطريق
مهما حصل من إخفاقات كالارتباك والعي أثناء إلقاء الكلمات، أو كان ذلك في
حصول أخطاء غير متعمدة في المشروع الدعوي؛ لأن العامل حينئذ يشعر أنه بذل
ما يستطيع وصدق في ذلك وأراد الخير فلا يقلق حينما يقع أمر بغير اختياره أو لم
يتمكن من إنجاز ما يريد إنجازه، وهو لا يرجو من الناس ثناء ولا شكورا؛ فلا
يضيره إن لم يحصل على شيء من ذلك.
كما أن الإخلاص من عوامل الاستمرار في دعوة الناس مهما أعرضوا؛ لأن
المخلص لا يزال يؤمل صلاحهم، كما أنه يرجو الثواب في استمراره في دعوتهم،
فلا يضيره إعراضهم.
وكذلك فإن الإخلاص يجعل المرء يرضى بما يناط به من عمل في أي
مشروع خيري أو دعوي؛ فهو لا يشترط منصبًا أو مكانًا معينًا إن حصل له وإلا
فإنه لا يعمل؛ لأن همَّ المخلص أن يقدم خيرًا لأمته في أي موقع كان، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعناه فرسه في سبيل الله أشعث رأسه،
مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في
الساقة) [2] فهمه الجهاد ونصرة هذا الدين، فلا يبالي في أي موقع وُضِعَ، وحيثما
وضع نفع؛ وهذا لا يعني أن لا يسعى المرء إلى أن يقدم لهذا الدين وينفع الأمة من
خلال القدرات والمواهب التي يحسنها؛ لكن الكلام هنا في أن المخلص لا يسعى
للصدراة والظهور والرئاسة، بل هو مجتهد مستجيب لكل ما يناط به مما له قدرة
عليه.
18- علم المرء بفضائل وثمرات الدعوة إلى الله من أعظم ما يدفعه نحو
الاشتغال بذلك. ومن ذلك قوله - تعالى -: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ
وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) ، قال - عليه الصلاة
والسلام -: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم) متفق عليه [3] .
وقال أيضًا: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) [4] . فكم يكون
لك من الأجر إذا كانت الأعداد الكبيرة من الناس تعمل على ضوء ما أرشدتهم إليه!
وكم من الأجر يلحقك من آثار ذلك حتى وأنت مفارق للدنيا في قبرك!
أسال الله أن يجعلني وإياك من الهداة المهتدين، والصالحين المصلحين، وأن
يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر منه وكرمه.
وصل اللهم على الهادي البشير وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) صحيح البخاري (6/ 496) ، ح/ 3461.
(2) صحيح البخاري (6 / 81) ، ح / 2887.
(3) صحيح البخاري (6/ 111) ، ح/ 2942، وصحيح مسلم (4/ 1872) ح/ 2406.
(4) صحيح مسلم (3/1506) ، ح / 1893.(166/22)
قضايا دعوية
إطلالة من نافذة العَظمة
سلطان عبد الله الشهري
يقف الداعية أحياناً في منتصف الطريق الذي يسير عليه، يوقفه طوله،
وتضنيه مشقته، فيلتفت يميناً فيأسر نظره كثرة الناقدين الحاقدين من بني قومه
الذين أجلبوا بخيلهم ورجلهم ليرسموا الخطط وينصبوا الشراك، ويندهش حين
يلتفت شمالاً ليرى أَكفّ الأعداء تتحد لتوقع به. سهرٌ بالليل لإعداد العدة والعتاد،
وعملٌ بالنهار لرصد الحراك، ثم يدير وجهه للخلف رجاء أن يجد من يزكي فيه
روح الأمل الذي يشكو وطأة الألم، ولكن للأسف فهو لا يرى إلا نفراً قليلاً يسيرون
معه، ويرون ما يرى.
فتنثني قدماه تدريجياً، ليهبط مكانه، وكأنه آلة نفد وقودها! !
ثم تلهمه الفطرة لأن يتجه ببصره إلى السماء لعلّ صفاءها يزيح كآبة أرست
بثقلها على فؤاده، ويشاء الله أن تتلبد السماء بالضباب الذي وضع آخر حلقة في
سلسلة الحزن التي تخنق ذلك القلب الشجي.
ثم يطلق تلك الزفرات الحارة، لتنساب إثرها دمعات ثقيلة تكتب على وجهه
قصيدة اليأس، يلقيها الشيطان بلسان الشفقة والعطف، وما أن ينتهي حتى يوسوس
في ذهنه بهذه الكلمات:
«أيها المسكين أنت تبذل وتزرع ... ولكن أين الثمرة؟ ! !
تعمل وتتعب ... فهل ترى من مجيب! ! ؟
تمدُّ يدك فترى الإعراض ... تنادي ولا مستمع؟ ! !
أنت في الطريق وحيد ... فلِمَ الشقاءُ والحرمان؟» .
ليوقع إبليس بهذه الشبهات الفصل الأخير من سيناريو تلك المسرحية! !
معاشرَ الدعاة..
إنّ من الأبجديات التي يجب أن نعلمها ونفهمها جيداً من أول خطوة نضعها في
هذا الطريق أنْ نعلم ماهية هذا الطريق وحقيقته وما واجبنا؟ ! ! ومن يمد العون
لنا؟ !
أما حقيقة الطريق فلأنه طريق الجنة؛ فهو محفوف بالمكاره، لا يستمر في
المسيرة عليه إلا الجادون، قال فيه ابن القيم رحمه الله: «أين أنت والطريق تعب
فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل،
وبيع يوسف بثمنٍ بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا،
وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاءُ داود،
وسار مع الوحوش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه
وسلم» [1] .
هذا هو طريق الأنبياء ومن حمل الرسالة وسار على نهجهم من الدعاة
والصالحين من بعدهم، ومع وعورته، وقلة الثابتين عليه: هل هذا يعني أن يخالج
صدورنا رعشة خوف، أو هزة رعب؟ كلاَّ وألف كلاَّ؛ لأن أعمالنا وتحركاتنا إنما
هي نتائج أخيرة لدوافع الحب والشوق الذي يسير في عروقنا لهذه الدعوة، وهذه
الوظيفة الربانية.
نسير على الدرب وليس في عقولنا إلا الجنة وكيف السبيل إليها! ! وما هو
مهرها؟ ! !
نعمل دون خوف ولو هددونا بإراقة الدماء..! سبحان الله بالموت يخوفوننا! !
وهل الموت عندنا إلا أمنية؟ ! وطرفة زماننا! ! يهددوننا بالفقر والجوع! !
سبحان الله أهم يملكون خزائن رحمة الله! ؟ يتوعدوننا بالإهانة والتعذيب.. هل
نهدأ لحظة واحدة؟ ! ! قولوا غيرها.
فهناك من يهتف من جانب الأفق بصوت عالٍ: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) أعلون منزلة، أعلون قيماً،
أعلون منهجاً، أعلون لأن ارتباطنا سماوي علوي بربنا، هذه الآية تجعلنا ننطلق
ونصرح بالحق دون أن نبالي ولو وقفت أمم الأرض بآلياتها ودباباتها، لتعيق
طريقنا نحو الأمام؛ فالصدارة والرفعة مكان شاغر حتى نأتيه؛ لأنه باختصار:
مكاننا الذي يجب أن نكون فيه! ! وأنّى لمن هم أرضيو المبادئ، سفليو الهمم أن
يزعزعوا عزمتنا، وعندنا عقيدة منقوشة في صميم قلوبنا أن العاقبة للمتقين، فمِمَّ
الخوف! ! ولمن الوهن! !
إذن مساكين أهل الدنيا ما علموا أن الجماجم التي قدمناها في بدر، واليمامة،
وعين جالوت، وحطين وما زلنا نقدمها في أفغانستان والشيشان والبوسنة إنما
هي براهين أشواقنا لموعود ما في السماء، وبهذه الدماء نسبك تاريخنا الذهبي
المجيد.
يقول سيد قطب رحمه الله: «نحن في الدنيا نتحرك، تحركنا أشواق
وهواتف، ومطامح ومطامع، وآلام وآمال وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية
المضمرة، والستار الذي تراه العيون، لليد التي لا تراها الأنظار، ولا تدركها
الأبصار، يد المدبر المهيمن القهار» [2] .
أما عن واجبنا ووظيفتنا الحقيقية فهي أن ننقل البشرية من براثن الجاهلية في
أشكالها المتعددة، ومجالاتها المختلفة السياسية والثقافية والاجتماعية إلى رياض
الإسلام والاستشراف الروحي عبادة الله وحده. إن البشرية تنحدر نحو هوة سحيقة
حفرتها أسنة الحضارة الغربية الزائفة، ولا نجاة للعالم إلا بالإسلام، وليس غير
الإسلام ينقذ الكون والأمم من الخطر المحدق بها؛ فمن يمد يد النجاة.. غير
الدعاة؟ !
وكيف ستكون المصيبة عظيمة إذا تخلى الدعاة عن هذه المهمة؟ !
«نحن الذين نمنح للحياة جمالها ومعناها ومغزاها، ونحن الثقل الذي يمنع
الأرض أن تميد، وما من منصفٍ إلا ويتساءل معنا أن:
كيف الحياة إذا خلت منّا الظواهر والبطاح؟ ! ... أين الأعزة والأسنة عند ذلك والسماح؟ !
ستعوج الحياة، وتغيب المروءة بغيابنا، والمقارنة توضح ذلك جلياً.
ففي غياب دعوة الإسلام اليوم عن الصدارة ساد غير الأعزة فيها، فترى
تبعية للدول الكبرى، وخوفاً من يهود، وترقيعاً فكرياً، وانهزامية نفسية، وبغيابنا
غابت الأسنة، وما عادت رءوس الحراب تلمع بين الروابي ولا النبال، وافتقد
السماح، وحصر للناس التعذيب والحديد والحبال» [3] .
نحن لا نملك عصا موسى عليه السلام وليس بأيدينا خاتم سليمان لكي نحقق
الهداية للبشرية لكن الذي نملكه هو العمل لهذا الدين والاجتهاد كل قدر استطاعته
وحسب موضعه الذي يشغله، فإذا ما عملنا واجتهدنا فلسنا مسؤولين عن الثمرة،
وليست بأيدينا النتائج النهائية، إنما تدير تحركاتنا إرادة الله، والله بحكمته يقدر ما
يشاء، هذا هو الميزان الذي به نحاسب أنفسنا لا يضيرنا أنَّا على الدرب قليل،
ولن نشتط غضباً إذا نادينا الناس: الطريق من هاهنا، فسلكوا فجّاً غيره، سنسير
ونحن ننشد ما قاله الشاعر:
عجبت لهم قالوا: تماديت في المنى ... وفي المثل العليا والمرتقى الصعبِ
فاصبر ولا تجهد يراعك إنما ... ستبذر حبّاً في ثرى ليس بالخصبِ
فقلت لهم: مهلاً فما اليأس شيمتي ... سأبذر حبي والنبات من الربِّ
إذا أنا بلَّغت الرسالة جاهداً ... ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي؟
هذه معذرتنا أمام الله عز وجل نقدمها بين يديه.
حياتنا ومماتنا لله رب العالمين، الدعوة إلى الله دمٌ يجري في عروقنا، فلله
درُّ لمؤمن حين يستعلي بإيمانه في تواضع، ويخالط الناس في تميز.
أمّا الركن الذي إليه نأوي فهو ركن شديد، تكلؤنا عناية الله عز وجل يراقبنا،
ينظر إلينا، يدافع عنا [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا] (الحج: 38) سنظل
نبتسم للكروب، نقبِّل جبين الحتوف؛ فمن رَحِمِ الظلام سيولد الفجر بإذن الله.
__________
(1) الفوائد، ص 49.
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، 4/2330.
(3) نحو المعالي، محمد أحمد الراشد، ص 50.(166/28)
تأملات دعوية
نظارة خضراء
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
«أحدهم كانت لديه شاة (مترفة) لا ترضى أن تأكل غير البرسيم الأخضر،
وصاحبها لا يملك إلا العلف الجاف (التبن) كما تسميه العامة فاحتال عليها،
وألبسها نظارة خضراء فصارت ترى العلف الجاف أخضر اللون فتظنه برسيماً
فتقبل عليه وتأكله» .
كانت هذه طرفة نستمع إليها حين كنا صغاراً، ولم أكن أظن أني سأحتاج إلى
تسطيرها في مقالة جادة.
حين تأملت واقعنا رأيت أننا أحياناً نرتدي هذه النظارة، لكننا نرتديها حول
عقولنا وتفكيرنا؛ فكثيراً ما ننظر إلى الأمور من حولنا من خلال منظار صغير
نجتهد أن نحشر كل شيء داخله.
وقد يكون هذا المنظار الذي ننظر من خلاله إطارنا المرجعي وتجربتنا
الشخصية المحدودة، وقد يكون مدرسة دعوية أو فكرية، وقد يكون مجتمعاً نشأنا
وعشنا فيه وهذا المجتمع له خصوصيات وطبيعة تميزه عن غيره.
والنظر من خلال منظار محدد يؤطِّر التفكير، ويزيد من مساحة الأحكام
الذاتية على حساب الأحكام الموضوعية التي تمثل أهم شروط التفكير الصحيح؛
وهذا يعني أننا سنصل في أحيان كثيرة إلى مواقف خاطئة منشؤها الخطأ في آلية
التفكير والاجتهاد، أكثر من مجرد القصور البشري.
ومن الأمثلة على ذلك:
1 - على المستوى النظري نستوعب كثيراً تعدد المجالات والميادين، ونعتقد
أن ذلك مطلب بل ضرورة، بل نتحدث عنه وننادي إليه وندعو له؛ لكن حين
ننتقل إلى الميدان العملي فإننا نضخم ما يتفق مع اقتناعاتنا من ميادين أو بعبارة
أخرى ما يستوعبه منظارنا المصغر ونهمش تأثير ما سواه. ويترك هذا أثره على
مواقفنا؛ فقبولنا أو رفضنا لتلك الميادين ربما ينطلق من خلال مدى تأثيرها وتأثرها
بالميدان الذي يتفق مع رؤيتنا.
2 - حين نقيم مواقف الآخرين، أو جهودهم وأعمالهم وإنتاجهم فإنما نقيمها
من خلال هذا المنظار المصغر؛ فنحن على سبيل المثال حين نتفاعل مع فكرة
وتسيطر علينا، يزداد إعجابنا بمن يتفق معنا فيها، ونهوِّن شأن من يخالفنا. أليس
بعض شباب الصحوة اليوم يقبل أو يرفض العلماء من خلال آرائهم في مسائل
محدودة يعتقد هو أن لها الأولوية؟ فالذين يتفاعلون معها لهم المنزلة والعلم والمكانة،
ومن لهم فيها رأي آخر فهم قوم لا يفقهون حديثاً ... إلخ.
3 - حين ننظر إلى مشكلات الأمة أو مشكلات الأفراد فإننا ننظر إليها أحياناً
من خلال هذا المنظار، سواء في تقدير حجمها وخطورتها؛ فقد نهوِّن من شأن
بعض المشكلات والظواهر، وقد نبالغ فيها ونعطيها أكبر من حجمها، كما أننا
ننظر إليها من خلاله حين نتناول العلاج، فيتأثر العلاج الذي نقدمه إلى الناس
بنظرتنا، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما نقدمه من حلول لمشكلات الناس التربوية؛
فكثير من حلولنا غير واقعية؛ لأنها تنطلق من نظرتنا وواقعنا نحن.
إن الشخص الجاد المتزن الذي يتطلع إلى تربية جيل متميز يقدم خدمة جليلة
للأمة، ويسد ثغرة لا غنى عنها، لكن حين يصدر أحكامه على جهد موجه لمجموع
الناس ممن لا تستوعبه تلك الدائرة التي يتحرك من خلالها، فإنه قد يصدر حكمه
من منظاره هو، فيرى أن من يسعى لاستيعاب الناس، والحفاظ على جوانب الخير
لديهم وتأصيلها، أو من يسعى لحماية الناشئة من التأثر والانجراف، أن هؤلاء
يهدرون أوقات الأمة ويهمشون اهتماماتها.
إن لكل امرئ ما يحسنه، بل لكل امرئ ما يتلاءم مع اجتهاده ورؤيته للأمور،
ولا يطالب البشر أن يستوعبوا كل التجارب، أو أن يتقنوا كل الميادين؛ لكن
لنحذر أن نجعل من اجتهاداتنا ورؤيتنا منظاراً ننظر للجميع من خلاله.(166/31)
دراسات تربوية
نحو تدريس فعّال
نظرة إلى معاهدنا العلمية
إبراهيم بن عبد العزيز الخميس
ثمة أمور تدعونا للحديث عن واقع معاهدنا العلمية [1] التعليمي:
* أهمية المراجعة المستمرة لطرقنا ووسائلنا التعليمية والتربوية، مع التنبيه
على أن حديثنا عن هذه المعاهد المباركة ليس إلا نقداً للذات ومحاولة لتصحيح
المسار.
* اعتماد كثير منها على التلقين مما أنتج طلاباً ضعيفي العزم غير قادرين
على البحث والتحليل، و «لن تستطيع مدارسنا وجامعاتنا فعل شيء ذا قيمة إلا إذا
كفّت عن تلقين المعلومات» [2] .
* الفوضوية والعشوائية في طلب العلم؛ فهذا يقرأ في شروح الألفية وهو لم
يتقن الآجرومية، وذاك يتدارس مباحث الطحاوية قبل المرور على كتاب التوحيد أو
الواسطية.. وهكذا [3] .
* في زمن ضعفت فيه الهمة وكثرت فيه الملهيات يصرُّ المعلمون على
التدريس بنفس الطريقة التي تعلموا بها دون مراعاة لاختلاف الزمان، وتدني
الهمم؛ فمن الصور الشائعة لنا جميعاً: «قراءة المعلم خلف مكتب مائل أمام
الفصل، حيث يصل للطلاب صوت المعلم، بينما يغط الطلاب أو بعضهم في نوم
عميق! !» [4] .
ومما يزيد الطين بلة غفلة كثير منهم عن أهمية التنويع والتجديد في طرح
وتدريس العلوم الشرعية أو عدم قناعتهم بذلك، وزعمهم أن الحديث عن (تقنيات
التعليم) وطرق التدريس ضرب من الهذيان والكلام الفارغ، بل هو تقليد للكفار
وإعجاب بهم! ! فهؤلاء هم السلف حازوا العلم ونشروا العلوم ولم يقرءوا ما كتبه
«رونتري» عن تكنولوجيا التعليم، ولا ما كتبه «بلوم» عن الأهداف؛ فنحن
على خطاهم نسير وبهداهم نقتدي! ! والجواب عن ذلك من عدة أوجه:
أولاً: أن الحكمة ضالة المؤمن، وإذا كان في كلام القوم ما ينفعنا فلماذا لا
نستفيد منه؟
ثانياً: زماننا يختلف عن الزمان الذي عاشه أسلافنا، بل المتتبع لأحوالهم
يلحظ اختلافهم في طريقة تحصيل العلم [*] ؛ وهل قال أحد: إن ابن عباس رضي
الله عنه، وابن حنبل، وابن حجر، وابن إبراهيم رحمة الله عليهم أجمعين
طلبوا العلم بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب؟ ! ثم أين همم هؤلاء من همم أبنائنا؟ !
ثالثاً: إن من تمام التبليغ أن ننشر العلم بصورة لا تخالف الشرع وتناسب
روح العصر، وهل من أداء الأمانة أن تدرَّس الرياضيات والفيزياء والأحياء
ونحوها باستخدام أفضل الوسائل التعليمية مع توظيف أحدث ما توصلت إليه
تكنولوجيا التعليم من بحوث ودراسات، بينما نظل على الأسلوب التقليدي التلقيني؟
أليس من المحزن أن تطل على الطلاب في درس العلم الشرعي فترى رءوسهم
تخفق من النوم وقد علاهم الملل، بينما تراهم بعدها شعلةً من النشاط مع مدرس
الكيمياء؟ ! ! إن كثيراً من المعلمين قد يفرِّط في أداء الأمانة بحجة اتباعه السلف،
والله الهادي إلى سواء السبيل.
رابعاً: على الرغم من أن أكثر الدراسات الأكاديمية في هذا الباب هي
دراسات غربية إلا أن أغلبها مفيد ونافع، بل كثير مما ذكروه إسلامي أصيل؛ إلا
أن السلف لم يفردوه في كتابة مستقلة؛ فأنت لا تجد لهم حديثاً مفصلاً عن
(التخطيط الجيد لعرض الدروس) ، أو التصريح بأهمية (تحديد الأهداف) أو
(التقويم) ، لكنك تجد مفهوم ذلك وأكثر مبثوثاً في كتبهم. وما أحوجنا إلى دراسة
متخصصة تجمع شتات هذا الموضوع (تقنيات التعليم) من كتب علمائنا وأئمتنا.
لذا كان لزاماً علينا أن نسعى لتفعيل دروسنا.
لكن ما هو التدريس الفعّال؟ !
قد تختلف الإجابات طولاً وقِصراً في تفصيل سمات الدرس الفعّال وذكر
أبعاده، لكن ما ينبغي علينا ألاَّ ننساه أثناء تشعبات الإجابة أن التعليم الفعّال هو
التعليم الذي ينتج عنه تعلّم فعّال! والتعلم الفعّال هو الذي تتوفر فيه السمات
الآتية:
1 - أن تدوم آثاره ونتائجه، بعد دخوله وجدان المتعلم.
2 - أن يستفيد منه المتعلم في حياته، ويطبقه في أرض الواقع [5] .
العملية التعليمية تقوم على ثلاثة عناصر: معلم، ومتعلم، وتعليم. وفي هذا
المقال سأحاول إلقاء الضوء على هذه العناصر مبيناً دورها في تفعيل الدروس،
مقارناً ذلك بما يعايشه طلابنا في معاهدنا العلمية؛ ومع أنه ليس لديَّ إحصائيات
دقيقة حول وضعها التعليمي إلا أن المنصف لن ينكر وجود شيء مما سأذكره إن
شاء الله.
ولنبدأ الحديث عن منهجنا التعليمي.
تكنولوجيا التعليم والتدريس الفعال [6] :
نتيجة لإحساس النخب التربوية بأهمية تطوير طرقنا ومناهجنا التعليمية ظهر
منهج (تكنولوجيا التعليم) في النصف الأول من القرن العشرين، وازدهر حتى
أصبح علماً مستقلاً وركناً أساسياً في العملية التعليمية. إن تكنولوجيا التعليم لا تعني
مجرد استخدام الآلات والأجهزة الحديثة، بل هي «طريقة منظومية في التخطيط
والتنفيذ والتقويم لجميع عناصر عمليتي التعليم والتعلم في ضوء أهداف محددة،
تقوم أساساً على البحوث في تعلم الإنسان وتواصله، وتستخدم جميع المصادر
المتاحة البشرية وغير البشرية وذلك لإحداث تعلم فعّال» [7] .
وغاية تكنولوجيا التعليم هي الوصول إلى تعلم فعّال كما هو واضح من
التعريف السابق؛ وذلك من خلال أسسه الأربعة (تحديد الأهداف ثم تصميم مادة
التعلم ثم التقويم ثم التحسين) . إذا طبقنا هذا المفهوم (تكنولوجيا التعليم) ،
وراعينا أسسه عند تخطيطنا للدروس فإننا ننتج بعون الله تعليماً فعّالاً.
أولاً: الأهداف:
الهدف من المنظور التربوي هو ما يكون الطالب قادراً على أدائه بعد
تعرضه لعملية تعليم. وللأهداف درجات من حيث التعميم؛ ولذا عمد علماء التربية
إلى وضع مسميات تضع فواصل بين تلك الدرجات هي:
الغايات والمرامي، الأهداف العامة، الأهداف الخاصة (السلوكية) ؛
والأخيرة تركز على ما يتعلمه الطالب في كل درس.
تصنيف الأهداف: أشهر تصنيف للأهداف هو تصنيف بلوم Bloom؛
حيث صنف الأهداف إلى ثلاثة مجالات، هي: المجال الإدراكي (المعرفي) ،
والمجال الوجداني، والمجال المهاري. ولكل مجال من هذه المجالات مستويات
تتدرج من البسيط إلى المركب [8] .
أهمية تحديد الأهداف: تحديد الأهداف من الركائز المهمة لنجاح الدرس
وفعاليته؛ وذلك لما يلي:
1 - في دراسة أجراها ميجر Mager وكلارك Clark أوضحت أن
الطلاب الذين يعرفون الأهداف الرئيسية للمقرر الدراسي والذين يزودون بقائمة
بالمراجع المناسبة، يمكن أن يقوموا بتدريس أنفسهم في نصف الوقت الذي
يستغرقونه بطرق التدريس العادية.
2 - عند تحديد الأهداف فإنها تصبح هاجساً للمعلم يفكر في كيفية تحقيقها.
3 - عند تحديد الأهداف يساعد المعلم في اختيار المحتوى؛ إذ إنها تحدد له
النقاط المهمة والمحتوى المناسب.
4 - تحديد الأهداف يساعد على اختيار طريقة التدريس المناسبة، واختيار
أنسب الوسائل لتحقيقها.
5 - تحديد الأهداف يساعد في تحديد أنسب الطرق لعمليات القياس والتقويم
والاختبارات.
معايير الهدف الصحيح: الصياغة السليمة للهدف تمكن المعلم من معرفة ماذا
يريد تماماً! ويُشترَط لصحة صياغة الهدف شروط من أهمها ما يلي:
1 - أن يصاغ الهدف من خلال التلميذ، مثل: أن يذكر الطالب نوع التوحيد
الذي أقرَّ به الكفار زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح الهدف التالي: أن
أبين للتلاميذ نوعاً.. أو أن أشرح..
2 - أن يعكس الهدف سلوكاً مشاهداً، إما أن يكتب أو يتكلم أو يقوم بنشاط
عملي، مثل: أن يكتب الطالب ما لا يقل عن ثلاثة أسطر يعبر فيها عن بغضه
للنفاق الاعتقادي، أن يعدد الطالب نواقض الوضوء، أن يتوضأ الطالب وضوءاً لا
يخل بأركانه الستة، ولا يصح مثلاً: أن يبغض الطالب النفاق الاعتقادي، أن
يَعْرِف الطالب نواقض الوضوء، أن يفهم الطالب أركان الوضوء.
3 - أن يحوي معياراً للأداء المناسب: وذلك لنتمكن من قياس مدى تحقق
هذا الهدف، مثل: أن يذكر الطالب نسب الرسول صلى الله عليه وسلم كما في
الكتاب ص.. خلال نصف دقيقة، ولا يصح: أن يذكر الطالب نسب الرسول
صلى الله عليه وسلم.
بعد هذا العرض الموجز نتساءل: في معاهدنا العلمية هل يستحضر المعلمون
الأهداف العامة للمنهج؟ وهل يحددون الأهداف السلوكية التي يرجونها بعد
الدرس؟ ! الكثير منهم هدفه الأساس: إعطاء الطالب أكبر كمية من
المعلومات!
ثانياً: تصميم مادة التعلم:
في معاهدنا العلمية: تصميم مادة التعلم معناه إعداد المادة العلمية اللازمة
لشرح الدرس؛ وذلك بالرجوع إلى المراجع وقراءة ما يتعلق بالموضوع. وفي
الواقع أن هذا العمل خطوة مهمة لا غنى عنها، لكنها لا تكفي لإعداد درس فعّال! !
عند تصميم مادة التعلم ينبغي الإجابة على الأسئلة الآتية:
ما هي الطريقة المناسبة لتدريس هذا الدرس؟
ما هو المحتوى المناسب لتحقيق الأهداف؟
ما هي الوسائل التعليمية المناسبة؟
الإجابة عن هذه الأسئلة هي أهم ما يواجه المعلم عند تصميم مادة التعلم:
1 - طريقة التدريس: نجاح العملية التعليمية مرهون إلى حد كبير بنجاح
الطريقة؛ فالطريقة الجيدة تغطي عيوب الكتاب المدرسي، وتتغلب على ضعف
التلاميذ، وتحقق الأهداف بأيسر جهد وأسرع وقت، وتدفع التلاميذ إلى التعلم.
وطرق التدريس كثيرة، منها: الإلقائية، والحوارية، والاستنتاجية، وطريقة
المشروع، وحل المشكلات، والقصة، ولكل طريقة مميزاتها وعيوبها، وعلى
المدرس أن يختار منها ما يناسب، ويحاول التقليل من عيوب الطريقة المختارة.
وثمة أمور ينبغي للمعلم التنبه لها عند اختيار طريقة التدريس، أُجمل منها ما يلي:
طبيعة المادة، طبيعة التلاميذ والفروق الفردية بينهم، المرحلة الدراسية ومستوى
خبرات التلاميذ، وضوح الهدف لدى التلاميذ، ربط الدروس بالبيئة، إثارة الدافعية
لدى المتعلم، المرونة في الطريقة؛ فإذا اتصفت الطريقة بالجمود وسارت على
وتيرة واحدة دون تعديل أو تكيف فقد آلت إلى الإخفاق؛ ولذا يقال: إذا أردت أن
يرسخ الدرس في أذهان الطلاب فاشرحه بطريقة غير مألوفة! وطرق التدريس
متنوعة إلا أن المعلمين في معاهدنا العلمية لا يستخدمون غالباً إلا الطريقة الإلقائية،
وهي مع جودتها في بعض الدروس إلا أنها ليست الطريقة المثلى [9] .
2 - المحتوى: وهو المادة العلمية التي تعرض لتحقيق الأهداف. وقد طغى
المحتوى على كثير من المعلمين بَلْهَ المؤسسات التعليمية حتى نشأ ما يعرف بالتعليم
الببغائي ROTE LEARNING الذي ينعكس سلباً على طريقة أداء الدارس
وقدرته على ترتيب الأفكار والتعبير عن نفسه بمنطقية وإيجاز، وكذلك قدرته على
استدعاء المعلومات وقت الحاجة إليها، كما تقلل فيه ملكات الإبداع والخيال
والابتكار والتحليل وربط الأسباب بالنتائج [10] .
ويسعى منهج تكنولوجيا التعليم إلى الابتعاد عن العشوائية والمزاج الشخصي
للمعلم في نقل المعارف، بل يجب أن تخضع عملية نقل المعرفة لتحديد دقيق للمراد
توصيله إلى الدارس، وذلك من خلال الأهداف التي حددها المعلم مسبقاً. وحينئذٍ
نعلم الارتباط الوثيق بين الأهداف السلوكية والمحتوى (مادة التعلم) .
وعند تصميم المحتوى لا بد من مراعاة أمرين مهمين:
الأول: التسلسل السهل والمنطقي والابتعاد عن القفزات التي لا يسهل
استيعابها أو متابعتها من قِبَل الدارسين متوسطي الذكاء.
الثاني: مراعاة معدلات التعلم (السرعة التي يتم بها تعلم المادة التعليمية) .
3 - الوسائل التعليمية: وهي كل أنواع الوسائط التي تعين المعلم على
توصيل المعلومات. ولا يختلف اثنان في أهمية الوسائل التعليمية ودورها في تفعيل
الدروس، ومن فوائدها ما يلي:
1 - تساعد على استثارة اهتمام الطلاب، وتعزز الدافعية لدى المتعلم وتجعله
أوفق مزاجاً للتعلم.
2 - إشباع حاجتهم للتعليم وزيادة خبراتهم.
3 - اشتراك جميع الحواس عند المتعلم يؤدي إلى ترسيخ وتعميق التعلم؛
فالإنسان يتعلم عن طريق حواسه بالنسب الآتية: البصر 75%، السمع 13%،
اللمس 6%، الشم 3%، الذوق 3%. وهذا ببساطة يعني أن عملية التعلم ترتفع
إلى 88% عندما تشترك في ذلك حاستا السمع والبصر، وبدخول أي حاسة ثالثة
ترتفع النسبة إلى أكثر من 90% [11] .
4 - تساعد على ترتيب وتسلسل الأفكار لدى التلاميذ.
5 - زيادة قدرة الطالب التأملية، وزيادة قدرته على الملاحظة.
وهناك عوامل عديدة ومتداخلة تؤثر في اختيار الوسيلة في أي عملية تعليم أو تعلم،
منها:
1 - الأهداف التعليمية المحددة، وهي تؤثر بشكل مباشر في اختيار الوسيلة
فإذا كان هدف الدرس: أن يذكر الطالب أعمال الحاج الأساسية في أيام التشريق،
فربما كان عرض شكل تخطيطي لهذه الأعمال أفضل من عرض فيلم وثائقي عن
الحج.
2 - خصائص ومميزات الدارسين، فإن العدد يعتبر عنصراً مهماً في اختيار
الوسيلة، وكذا نوعية الطلاب وأعمارهم ومستواهم الدراسي.
3 - موضوع الدرس؛ ففي درس (حكم موالاة مَنْ حادّ الله ورسوله) لا
تستطيع أن تجري تجربة عملية كما هو الحال في صفة الوضوء.
4 - التكلفة المالية؛ فكلما كانت الوسيلة تحقق الهدف بتكلفة مالية قليلة كانت
أنسب.
وتعتبر الوسائل البصرية (خاصة السبورة) من أفضل وأسهل الوسائل
لتحقيق أكثر الأهداف؛ ومع أهمية الوسائل التعليمية إلا أننا نلحظ على مدرسي
معاهدنا العلمية عزوفاً عنها، وذلك لأمور منها:
1 - الفهم الخاطئ لمعنى الوسيلة، وأنها تعني استخدام الأجهزة التعليمية
(السبورة الضوئية Over-head Projector، جهاز عرض المواد المعتمة
Opaque Projector، جهاز عرض الشرائح Slides Projector..) ومع
أهمية استخدام هذه الأجهزة إلا أن الوسيلة التعليمية أعم من ذلك بكثير؛ فقد يستخدم
المعلم وسيلة تعليمية من الإمكانيات البيئية المحيطة به.
2 - اعتقاد أن استخدام الوسائل التعليمية في تدريس العلوم الشرعية يخالف
منهج وطريقة السلف، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم ما يسمى
(تقمص الأدوار) ووسيلة تعليمية من الواقع كما في قصة الجدي الأسكِّ [12] ،
واستخدم الرسوم التوضيحية كما في حديث ابن مسعود عن طول الأمل [13] .
والواقع أن إمكانية استخدام الوسائل في العلوم الشرعية أقرب منها في غيرها من
العلوم؛ لأنها تمس الواقع، وتحتاج إلى تطبيق مباشر.
3 - إحساس المعلم بأن العلوم الشرعية سهلة الفهم لا تحتاج إلى كبير إعداد
أو وسائل تعليمية، وينسى أن الوسيلة مهمة في ترسيخ الأهداف في نفس المتعلم.
4 - تكاسل المدرس وعدم اهتمامه بأداء الأمانة التي ألقيت على عاتقه،
وتأثره ببيئته والواقع التعليمي الحالي.
5 - عدم تأهيل معلمي معاهدنا العلمية (في طرق التدريس وتكنولوجيا
التعليم) ، وكثير من خريجي الجامعات الإسلامية التي تؤهل المعلمين الأكفاء لا
يشاهدون الأجهزة التعليمية إلا بعد تخرجهم! ! وقد أوضحت دراسة متواضعة قمت
بها على عدد من معلمي المواد الدينية في التعليم العام أن 90% من أفراد العينة لا
يعرفون كيفية تشغيل تلك الأجهزة أو تشغيل أغلبها! !
6 - عدم توفر الأجهزة التعليمية في كثير من معاهدنا التعليمية؛ وذلك ربما
يرجع إلى عدم الوعي الكامل بأهمية مثل هذه الأجهزة في العملية التعليمية [14] .
ثالثاً: التقويم [15] :
المفهوم الشامل للتقويم: أنه عملية تشخيصية علاجية هدفها الكشف عن
مواطن الضعف أو القوة بقصد تطوير عمليات التعليم والتعلم بالصورة التي تسهم
في تحقيق الأهداف المنشودة.
فالتقويم له ركنان لا يغني أحدهما عن الآخر:
1 - التشخيص، ويسمى (القياس) ASSESSMENT ويعني: تقدير
المستويات تقديراً كمياً رقمياً أو وصفياً، وله أدوات مختلفة أهمها: الاختبارات
(موضوعية ومقالية) ، والتقارير الذاتية (المقابلات، والاستبانات) ، والملاحظة
بأنواعها. ولا يتسع المجال لبسطها؛ لكني أؤكد هنا على أهمية كون القياس صورة
صادقة لأهداف المادة التعليمية.
2 - العلاج، ويطلق عليه (التقويم) EVALUATION وكثيراً ما تستخدم
نتائج القياس في عمليات التقويم. وللتقويم بمعناه العام أنواع، من أهمها:
1 - التقويم القَبلي: وهو عملية تقويمية منظمة تتم قبل دراسة الطالب لوحدة
دراسية أو مقرر دراسي، أو موضوع جديد؛ بغرض معرفة ما لدى الطالب من
معلومات وخبرات سابقة. وهو يفيد المعلم بمعرفة الفروق الفردية بين التلاميذ،
والاستفادة من الخبرات السابقة إن وجدت، وغالباً ما يؤثر التقويم القبلي على
طريقة التدريس، والمحتوى اللازم للدرس. في معاهدنا العلمية يندر وجود هذا
النوع من التقويم، بل غالباً ما يبدأ المعلم بعرض المعلومات التي جمعها متجاهلاً
الخبرات السابقة التي لدى الطلاب، مع أن معرفته لذلك قد تختصر له الكثير من
الوقت.
2 - التقويم البنائي: وهو عملية تقويمية منظمة تتم أثناء التدريس بغرض
الوقوف على نقاط الضعف وعلاجها، وله فوائد عديدة، منها: اكتشاف نقاط
الضعف عند الدارس وعلاجها، وتطوير طريقة التدريس والبرنامج التعليمي،
وتعزيز نشاط الطالب القوي. ويعتمد بشكل رئيس على الملاحظة المستمرة
والأسئلة الصفية التي يوجهها المعلم للطلاب؛ ويفضل عند توجيه الأسئلة ألا يكون
السؤال معرفياً خالصاً بل يفضل أن يقيس قدرة الطالب على توظيف ما درسه،
مثلاً: نسيت الاستفتاح، ولم تتذكر إلا بعد انتهاء الركعة الثانية؛ فماذا تفعل؟ وهذا
النوع (التقويم البنائي) يؤكد على أهمية تحديد أهداف يمكن قياسها.
3 - التقويم التشخيصي: ويهدف إلى تشخيص حالة الطالب وتحديد نقاط
الضعف لديه، وتحديد أسباب المشكلات الدراسية التي يعاني منها الطالب.
4 - التقويم النهائي التجميعي (الختامي) : وهو عملية تقويمية منظمة تحدث
في نهاية التدريس؛ وعادة ما تكون في نهاية الفصل الدراسي أو المرحلة الدراسية
بغرض تحديد اجتياز الطالب من عدمه. والملاحظ هنا إلى أن دروس المساجد
والدورات العلمية تهمل جميع أنواع التقويم؛ فلا نستغرب أبداً إذا شاهدنا فيها طلاباً
في مستويات علمية مختلفة ومراحل عمرية متفاوتة، ومع هذا يتلقون نفس المادة
التعليمية! ! وبعد انتهاء الدورة العلمية أو الكتاب المقرر لا يُجرى للطلاب اختبار
نهائي للتأكد من استفادتهم. وقد كان علماؤنا إلى عهد قريب يراعون مثل هذا
التفاوت؛ فلا يقرأ الطالب في المطولات حتى يتقن المختصرات، وهكذا.
يحتاج المعلم إلى تقويم جميع عناصر العملية التعليمية الستة، وهي: المعلم،
والطالب، والأهداف، وطرق التدريس، والمحتوى، والتقويم. بينما نلاحظ في
معاهدنا العلمية أن المعلمين يقتصرون على جزء من أجزاء أحد هذه العناصر! !
فهم لا يقومون غالباً إلا بتقويم تحصيل الطالب العلمي فقط؛ على ما يشوب هذا
التقويم من نقص وقصور. ونادراً ما يقوّم المعلم نفسه مثلاً، أو طريقته في
التدريس، أو أساليبه في التقويم وتوظيفه لأنواعه وأدواته المختلفة في خدمة العملية
التعليمية.
رابعاً: التحسين:
التقويم هو الذي يضع مؤشرات التحسين، والتحسين يعني تلافي الأخطاء
والنقص لاحقاً، وهو لا يتم مرة أو مرتين فحسب بل هو عملية مستمرة ما بقيت
المادة أمام الطلاب يدرسونها.
وغالباً ما يكون التحسين منصباً على تصميم مادة التعلم بعناصره الثلاثة:
(طريقة التدريس، والمحتوى، والوسائل المستخدمة) ؛ إلا أن المعلم قد يحتاج إلى
مراجعة الأهداف التي حددها مسبقاً لاكتشافه مثلاً عدم مناسبتها أو مناسبة شيءٍ منها
لمستوى الطلاب أو للزمن المتاح، وقد يحتاج بعد تقويمه لعمليات التقويم التي قام
بها إلى تطويرها وتحسينها وتلافي عيوبها مستقبلاً.
وهكذا يتبين أن التحسين يعود إلى الأسس الثلاثة في حلقة دائرية مستمرة لا
تتوقف عند حدٍّ معين، وذلك لما فطر الله الإنسان عليه من نقص دائم ملازم له
يجعله دائماً محتاجاً إلى التطوير والتحسين.
وتبين بعد هذا كله أن المعلم إذا خطط لدرسه تخطيطاً جيداً فرسم الأهداف
السلوكية وحددها تحديداً دقيقاً، وصمم مادة التعلم، ونفذها على أتم وجه وتأكد من
تحقق الأهداف عن طريق التقويم السليم؛ إذا فعل ذلك كله فلا نقول إنه بعد هذا
الدرس (النموذجي) قد وظّف تكنولوجيا التعليم، بل لا يكون كذلك حتى يحسِّن من
مستوى الأداء في المرات القادمة؛ فتكنولوجيا التعليم ليست درساً منظماً مبنياً على
أسس علمية فحسب، بل هي عملية مستمرة متواصلة لا تتحقق إلا بمواصلة الجهود
وتحسين النتائج بشكل مستمر.
ومن نافلة القول أن هذا الدرس الذي أُعد ونُفذ بطريقة جيدة لا يصح تطبيقه
على مجموعة أخرى من الطلاب؛ وذلك لأن تغيراً في عنصر من عناصر العملية
التعليمية يؤثر بالتأكيد على بقية العناصر.
بقي أن نشير أخيراً إلى أن هذه العملية تتأثر بمؤثرات خارجية ينبغي على
المعلم مراعاتها عند التخطيط للعملية التعليمية؛ فالمنظومة التدريسية إحدى
منظومات التعليم وليست المنظومة الوحيدة في العملية التعليمية.
المعلم:
يعتبر المعلم (مهندس) العملية التعليمية؛ فعلى حسب تأهيله وخبرته
وإخلاصه تكون الدروس فعّالة مثمرة، أو مملة ومحدودة الفائدة. لذا نود تسجيل
النقاط الآتية:
* لا يكفي لنجاح المعلم أن يكون ملماً بفنه الذي يدرسه؛ بل لا بد من توفر
صفات كثيرة قوامها الإخلاص والتقوى كي ينفع الله بعلمه، كما قال الشافعي:
«ليس العلم ما حُفِظ؛ العلم ما نفع!» [16] .
* ينبغي هنا التأكيد على المعلم بأهمية التخطيط الجيد لكل درس، ويحتاج
المعلم في الجملة إلى نوعين من أنواع الخطط:
الأول: التخطيط العام، وهو ما يسمى (توزيع المنهج) [17] .
الثاني: التخطيط لكل درس.
والتخطيط بأنواعه المختلفة مهم، ومفيد للمعلم فهو:
1 - يوفر للمعلم الأمن والطمأنينة النفسية؛ فالمعلم الذي خطط للتدريس
تخطيطاً جيداً يظل بعيداً عن التوتر والقلق، واثقاً من أدائه، مطمئناً للخطوة التي
هو مقبل عليها.
2 - يوفر للمعلم خبرة تعليمية، فيبدأ بالأهم، ويعرف متى يجب عليه أن
ينتقل إلى خطوة قادمة.
3 - يتيح للمعلم التغلب على صعوبات التعلم والفروق الفردية بين الطلاب.
4 - يوفر للمعلم استراتيجية للتعليم، وأسلوب عمل في التدريس.
وفيما يلي بعض العوامل التي تساعد على رفع مستوى التخطيط لدى المعلم:
أولاً: أن يكون التخطيط كتابياً قدر الإمكان، وهذا يفيد المعلم أثناء الشرح،
وبعده عند تقويم عمله وتقويم خطته التدريسية، ويفيده أيضاً عند وضع أسئلة
التقويم الختامي (الاختبارات النهائية) .
ثانياً: أن يعمل المعلم على تطوير اتجاهاته في التخطيط، وذلك بقراءاته
التربوية المتنوعة في هذا الموضوع، واشتراكه بالدورات التربوية المتخصصة،
وقبل ذلك كله يجب عليه أن يتابع أداءه باستمرار، ويحاول أن يرفع من مستواه
التربوي والتعليمي.
ثالثاً: أن يخصَّص للمعلم الوقت الكافي للتخطيط، فإذا كنا نريد من المعلم
أداءً جيداً فلنمنحه وقتاً كافياً، وإذا أردنا منه أن يمارس ثلاث ساعات تعليمية في
اليوم فلنمنحه مثلها ليُعد ويخطط، وينفذ أنواع الأنشطة.
* «لا بد من تدريب المعلم تدريباً مستمراً ليواكب ما يدور حوله في العالم،
من وسائل وطرائق وتكنولوجيا وغيرها من مستجدات، في عصرٍ يوصف بعصر
الانفجار المعرفي. وغني عن القول أن المعلم الذي يتوقف عن المواكبة والمتابعة
والتجديد، ومن ثم الابتكار والإبداع في طرائقه يسعى بقدميه إلى تحنيط نفسه في
قوالب الطرق النمطية القديمة التي كان يدرِّس بها الناس قبل خمسين سنة خلت،
ويجد نفسه بعد فترة أنه قد تجاوزه الزمن وأصبح خارج خارطة التقدم البشري،
وحينها يصبح اللحاق أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً» [18] .
المتعلم:
المتعلم هو أهم عناصر العملية التعليمية؛ حيث تُسخَّر جميع عناصر العملية
التعليمية من أجله ولخدمته، والمعلم الفعّال لا يقاس بأسلوبه وطريقته، أو بالأدوات
والوسائل التي يستخدمها، بل بسلوك تلاميذه والخبرات التي معهم [19] .
لذا كان لا بد من معرفة حاجات التلاميذ لإشباعها، ومشكلاتهم والمعوقات
التي تحول بينهم وبين التعلم الفعَّال لحلها والتخلص منها، ولا بد من زيادة دافعية
الطالب للتعلم.
ولإيجاد دافعيّة قوية لدى الطالب لا بد من مراعاة أمور منها:
1 - المعهد العلمي (مدرسة، جامعة، مسجد ... ) : مظهره الداخلي
والخارجي، ومظهر غرفة الدراسة ونظافتها. وراحة الطالب فيها وحبه لها. وهذا
يوجب على معاهدنا العلمية إعادة النظر في (الضرب) وتقنينه بما يعود على
الطالب بالفائدة خاصة في زمن قلَّت فيه الحوافز وكثرت الملهيات، وتخلى كثير من
أولياء الأمور عن تربية أبنائهم.
2 - المقرر (الكتاب) : يحتاج المعلم (أو المعهد) إلى تفكير عميق ودراسة
واسعة عند اختيار الكتاب المناسب لقدرات الطلاب.
3 - تعزيز السلوك لدى المتعلم، وعلى المعلم معرفة أنواع التعزيز، وطرقه،
ليحفز الطالب دوماً نحو التعلم [20] .
4 - التشويق والتنويع في عرض المادة، وكلما كان عرض الدرس بطريقة
غير مألوفة كان ذلك أدعى لرسوخه في أذهان الطلاب. ومن ذلك تكثيف الأنشطة
المتعلقة بالمادة العلمية المدروسة.
5 - ترغيب المتعلم بطلب العلم؛ وذلك ببيان فضله، وإشعاره بحاجته إليه.
6 - قبول الطالب للمعلم وثقته به وحبه له، وقد سبقت الإشارة إلى السمات
المهمة في المعلم.
7 - جلساء الطالب في المعهد العلمي يؤثرون على دافعيته للتعلم.
8 - المنزل بعجره وبجره، وللأسف فالبيت أصبح لا يساعد المعهد العلمي
في كثير من الأحيان في أداء رسالته، بل يهدم في لحظات ما بناه المعهد في
سنوات، ووسائل الإعلام، وسائر الملهيات تتحمل المسؤولية العظمى في تقليل
دافعية الطالب للتعلم.
9 - المجتمع، والشارع، والأندية الرياضية تكمل ما تبقى، وتلتهم بقايا الجد
لدى الطلاب، ثم يسلم بعد ذلك للمعهد، ويطالب بالتعلم والجدية! ! فإن أخفق
المعهد في إحياء روح أماتتها المسلسلات الماجنة، والصور العارية، وإيقاظ نفسٍ
أنهكها طول السهر وكثرة اللهو، رمي بالتقصير؛ لأنه لم يستطع إحياء الموتى! !
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً ... ولكن لا حياةَ لمن تنادي! !
ولو ناراًَ نفختَ بها أضاءت ... ولكنْ كنتَ تنفخ في رمادِ.
__________
(1) أعني بمعاهدنا العلمية: مؤسساتنا التربوية والتعليمية كالجامعات الإسلامية والمؤسسات الدعوية مروراً بمدارس التعليم العام، والمعاهد العلمية التابعة للجامعات الإسلامية، ودروس المساجد والدورات العلمية المختلفة التي ينظمها علماء ودعاة الصحوة مع أن الحديث أحياناً قد يخص بعضها دون بعض.
(2) د عبد الكريم بكار، القراءة المثمرة مفاهيم وآليات، ص 20.
(3) عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، برنامج علمي للمتفقهين، ص 35.
(4) مارشال ج كوك، التدريب الفعال، ترجمة بيت الأفكار الدولية، ص 15.
(*) المقصود في الاختلاف: الاختلاف الفني إن صح التعبير لا اختلاف المنهج؛ فطريقتهم جميعاً في طلب العلم هي النظر فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستدلال بأدلته والعمل بموجبها كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي وغيرهما (انظر: جمال بن أحمد بن بشير باذي، وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، ص 258) .
(5) التربية العملية وأسس طرق التدريس، ص 9، د إبراهيم عصمت مطاوع، د واصف عزيز واصف، المعلم الفاعل والتدريس الفعْال، محمد عبد الرحيم عدس، ص 36، 37.
(6) الحديث عن تكنولوجيا التعليم وأسسه مقتبس من كتاب الدكتور عبد الرحمن كدوك، تكنولوجيا التعليم (الماهية والأسس والتطبيقات العملية) ، وفقه الله، وما كان من سواه أشير إليه في حينه.
(7) لجنة التكنولوجيا التعليمية (الأمريكية) انظر: د كمال إسكندر، د محمد غزاوي مقدمة في التكنولوجيا التعليمية، ص 38، بعضهم يسميه: تقنية أو تقنيات التعليم، ولا مشاحة في الاصطلاح.
(8) للتوسع ينظر مثلاً: د محمد بن أمين المفتي، د حلمي بن أحمد الوكيل: أسس بناء المناهج وتنظيماتها، 156 164، د إبراهيم بن محمد الشافعي، د راشد الكثيري، د سر الختم علي، المنهج المدرسي من منظور جديد، ص 166 177.
(9) وللاستزادة حول طرق التدريس ينظر: التربية العملية وأسس طرق التدريس، د إبراهيم عصمت مطاوع، د واصف عزيز واصف، ص 25 42، دليل المعلم، ص 144 155.
(10) كما هو الحال في معاهدنا العلمية؛ فكثيراً ما ينصب اهتمام المعلم (أو الشيخ) على توضيح المادة العلمية التي في المقرر وشرحها بل والإضافة عليها بما يراه مفيداً، وربما عمد بعضهم إلى تكثيف هذه الزيادات ليثبت لطلابه مقدرته على جمع المادة العلمية ليثقوا به ويستمروا عنده! دون التفكير في كمية المعلومات المناسبة لطلابه! ! أما الطلاب فأفضلهم هو الأسرع في الكتابة والتعليق و (التحشية) خلف المعلم! ولو سألت واحداً منهم عن مسألة من مسائل المقرر لما زادك على قوله: فيها خلاف! ! .
(11) لاحظ إهمال كثير من معاهدنا لهذه الحواس عند التعليم وتركيزها غالباً على حاسة السمع
فقط! ! .
(12) الإمام يحيى بن شرف النووي، شرح صحيح مسلم، 9/305، ح/ 2957، والأسك: صغير الأذنين و (تقمص الأدوار) طريقة تدريسية.
(13) فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، 11/239، ح/ 6417، وانظر: المدرس ومهارات التدريس، محمد الدويش، 39، 40.
(14) الوسائل التعليمية وتكنولوجيا التعليم، د يس عبد الرحمن قنديل، ص 21، وما بعدها.
(15) أساسيات القياس والتقويم في التربية، د فريد كامل أبو زينة، ص 18 28.
(16) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، ابن جماعة الكناني، 41 108، 133 135 وينظر في الصفات اللازمة للمعلم الناجح: محمد بن عبد الله الدويش: المدرس ومهارات التوجيه، 43 72، محمد عبد الرحيم عدس: المعلم الفاعل والتدريس الفعّال، ص 45 54، 81، 86، 100، 207 213 د إبراهيم مطاوع، د واصف عزيز: التربية العملية (مرجع سابق) ، ص 23، 24، 81 93 وغيرها كثير.
(17) بعض دروس المساجد تفتقد هذا النوع من التخطيط، فغالباً ما يبدأ المعلم بتدريس متن لا يعلم متى ينهيه! ! وربما تغير الكتاب المقرر عبر (السنين) مما يشعر بشيء من التخبط والفوضوية.
(18) تكنولوجيا التعليم، د عبد الرحمن كدوك، (مرجع سابق) ، ص 132.
(19) المعلم الفاعل والتدريس الفعّال، محمد عبد الرحيم عدس، ص 37.
(20) علم النفس التربوي، د عبد المجيد نشواتي، ص 281 312.(166/33)
الإسلام لعصرنا
حوار عن العلمانية الديمقراطية بين مثقفين عربيين
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
قال الأول لصاحبه: إنه من حسنات البلاد الديمقراطية العلمانية أنها
تعاملنا من حيث الدين معاملة أحسن من معاملتنا لها.
أجاب الأول: من أمثلة ذلك أنهم يسمحون لنا بأن نبني المساجد ونقيم
فيها الصلوات، ويسمحون بحرية الدعوة إلى الإسلام بينما لا نسمح نحن
لهم بشيء من ذلك في بلادنا.
قال الثاني: أولاً: إن ما ذكرته عنا ليس بصحيح على إطلاقه؛ ففي
العالم العربي والإسلامي نصارى ويهود يمارسون دينهم في كنائسهم وبيعهم
في حرية كاملة. ألم تزر بلاداً كمصر والسودان؟
قال الأول: ولكن ماذا عن السعودية؟
الثاني: للسعودية وضع خاص؛ فهي جزء من الجزيرة التي أمر
الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يكون فيها دين غير الإسلام. وينبغي
أن لا يكون هذا أمراً غريباً حتى على الدول الغربية التي أراك تدافع عنها.
الأول: ماذا تعني؟
الثاني: ألم تسمع ببلد اسمه الفاتيكان؟ هل تجد فيه من مساجد أو
دور للعبادة غير دور الكاثوليك؟
الأول: كلاَّ.
الثاني: الأمر الثاني الذي كنت أود أن أنبهك إليه هو أنهم لا يسمحون
لنا بما يسمحون بدافع الإحسان إلينا، أو مجاملة لنا كما يظن بعض الذين لا
يعلمون، وإلا لقالوا لنا: إما أن تسمحوا لنا بما نسمح به لكم وإلا منعناكم
كما تمنعوننا.
الأول: هذا ما كنت أظنهم فاعليه، وقد ازداد تقديري لهم إذ لم
يفعلوه.
الثاني: إن ما يسمحون لنا به من قدر من الحرية الدينية هو أمر
يسمحون به لكل صاحب معتقد مصدقاً بوجود الخالق أو منكراً لوجوده،
مؤمناً كان أم مشركاً، عابد وثن أو عابد بشر. وكما يسمحون بهذا القدر من الحرية
الفكرية فإنهم يسمحون بقدر مثله أو أكبر منه لدعاة الرذيلة من الشواذ
والزناة وراسمي الصور الفاضحة. يفعلون كل هذا؛ لأنهم يرونه في
مصلحة بلادهم بحسب تصورهم للحرية. وأما الأمر الثالث فهو أنهم
يستعملون كثيراً من قوانينهم ليحدوا من هذه الحرية سواء لزائريهم من البلاد
الإسلامية أو القاطنين فيها.
الأول: أوافقك. ولكن ألا ترى مع ذلك أن نظامهم خير من نظامنا
من حيث إن القدر الذي يسمح به من الحرية أكبر مما نسمح به نحن؟
الثاني: كلاَّ! لست أرى ما ترى؛ لأن الحريات لا تقاس كمِّياً، وإلا
لكان أحسن النظم هو الذي يترك الناس سدى لا يأمر أحدهم بشيء ولا ينهاه
عن شيء ألبتة.
الأول: بِمَ تقاس إذن؟
الثاني: تقاس بمدى نفعها وضررها. فالنهي عن السرقة هو حد من
الحرية، لكنه حد مفيد. أما النهي عن أكل السمك مثلاً فهو حد لا فائدة
فيه، بل قد يكون ضرره بالغاً بالنسبة لبعض الناس. ولذلك وصفت
النواهي الإسلامية بأنها حدود إذا تجاوزها الإنسان وقع في ما يضره.
وبإمكانك أن تتصورها كالحدود التي توضع على جنبتي الجسر؛ فهي
أيضاً تحد من حرية السائر أو السائق، لكنها مفيدة له؛ لأنها تمنعه من
الوقوع في البحر أو الهوي في واد سحيق.
الأول: لا شك في ذلك. لكن من الذي يصدر هذه القوانين التي تحل وتحرم؟
إن النظام الديمقراطي يكل ذلك للناس؛ فهم الذين يحددون ما يصلحهم
وما يضرهم في حرية كاملة. أما النظم الدينية، ومنها النظام الإسلامي،
فإنها لا تعطي الناس هذه الحرية، بل تكل الأمر إلى الدين.
الثاني: أتعني أن كل قانون يحل أو يحرم إنما يصدر بإجماع الناس؟
الأول: كلاَّ؛ فأنت تعلم أن الأمر ليس كذلك، وإنما الذي يصدره هم
غالبية الناس.
الثاني: لكن غالبية الناس ليست هي التي تصدر القوانين في البلاد
الديمقراطية العلمانية، وإنما الذي يصدرها هو المجالس التشريعية.
الأول: نعم! لكن هذه المجالس تتكون من أفراد اختارهم الناس
بالأغلبية؛ فهم يعبرون عن أفكارهم.
الثاني: تعنى أنهم يعبرون عن أفكار من صوَّت لهم.
الأول: لكن يستحيل واقعاً أن يكون الأمر على غير ذلك.
الثاني: نعم! ولكنك تعلم أيضاً أنه حتى قولنا بأنهم يعبِّرون عن رأي
الأغلبية التي انتخبتهم ليس بصحيح؛ لأن هذه الأغلبية لا تستشار، ولو
استشيرت لما كان لأغلبيتها رأي في غالبية القوانين؛ لأنها تحتاج إلى
معرفة لا تتوفر لهم.
الأول: لكن تبقى مع ذلك الحقيقة بأن هؤلاء قوم رضيهم الناس
حكاماً لهم، وأوكلوا إليهم إصدار ما يرونه مناسباً من القوانين.
الثاني: إذن؛ فالناس في البلاد الديمقراطية العلمانية رضوا بأن
يكون المشرعون لهم بشراً مثلهم.
الأول: أجل! وهذا ما يمتازون به.
الثاني: واشترطوا عليهم أن تكون تشريعاتهم في إطار الدستور، ولم
يتركوهم أحراراً يشرعون ما شاؤوا.
الأول: نعم! لأن الاستقرار السياسي لا يتوفر إلا بشيء كهذا.
الثاني: ما الفرق بيننا وبينهم؟ نحن أيضاً يمكن أن تكون لنا مجالس
تشريعية يختار الناس أعضاءها ويعطونهم حق التشريع على شرط أن لا
يكون مخالفاً للقانون الأعلى للبلاد الذي يسمى دستوراً. والذي هو بالنسبة
لنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأول: لكن دستورهم هو نفسه من وضعهم، وبإمكانهم أن يغيروا
فيه ما شاءوا.
الثاني: لكن دستورهم أيضاً يتضمن مواد كتلك المتعلقة بما يسمونه
حقوق الإنسان ليس لأحد أن يغيرها.
الأول: نعم! لأن هذه حقوق لكل إنسان بما هو إنسان، فلا يجوز لأحد أن
يجور عليها.
الثاني: من الذي أعطاها هذه المكانة؟ وعلى كل فأنا لا أريد أن
نخرج عن موضوعنا لنتحدث عن حقوق الإنسان، فلعلنا نفعل ذلك في
مناسبة أخرى. فلنعد إلى موضوعنا إذن!
الأول: حسن.
الثاني: أردت أن أقول لك إنه ليس لهم علينا فضل في كون دستورهم من
اختراعهم؛ لأنه إذا كانوا هم بمحض اختيارهم رأوا أنه من مصلحتهم أن
يشرِّع لهم بشر مثلهم؛ فنحن أيضاً فكَّرنا لأنفسنا ورأينا أنه من مصلحتنا
أن نرضى بما شرعه لنا ربنا الذي خلقنا، والذي هو أعلم منا بما هو مفسد
أو مصلح لنا، والذي هو رحيم بنا لا يأمرنا إلا بما ينفعنا، ولا ينهانا إلا
عما فيه ضرر علينا. لا فرق إذن بيننا وبينهم من حيث مبدأ الاختيار.
فكما أنهم اختاروا بحريتهم، فنحن كذلك اخترنا بحريتنا، ولم يجبرنا ربنا
على الرضى بما شرع لنا، وإنما ترك الأمر لنا نحن البشر [فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] (الكهف: 29) ونحن اخترنا بتوفيق من ربنا أن نؤمن.
فلا فضل لهم علينا إذن من حيث مبدأ حرية الاختيار، وإنما الفضل لنا نحن
الذين أرانا الله الحق حقاً ووفقنا لاتباعه.
الأول: لكن الذي اخترتموه دين، والناس يختلفون في أديانهم،
ومجتمعاتنا المعاصرة مجتمعات متعددة الأديان، ولا بد لكل مواطن فيها
من أن تكون له حقوق مساوية لغيره بغض النظر عن دينه.
الثاني: فكيف حلت العلمانية هذا الإشكال؟
الأول: حلته حلاًّ يسيراً، هو أن تُقصَى الأديان عن الحكم حتى
يكون لكل مواطن الحق في أن يتقلد أي منصب سياسي من رئاسة الدولة
إلى ما دونها مهما كان دينه أو اعتقاده.
الثاني: ونحن أيضا نفعل ما فعلوا: نقصي كل الأديان عدا الإسلام
عن الحكم وكما ...
الأول مقاطعاً: لكنهم أقصوها كلها ولم يستثنوا منها واحداً كما
تفعلون.
الثاني: تعني أنهم أقصوها كلها ما عدا الدين العلماني.
الأول: لكن العلمانية ليست ديناً.
الثاني: أجل إنها واللهِ لَدينٌ بمفهومنا العربي الإسلامي! لكنها شر
دين.
الأول:ماذا تعني؟
الثاني: أعني أن الدين عندنا هو كل أمر يدين به الناس ويعتادونه
ويمارسونه في أي جانب من جوانب حياتهم المادية والروحية سواء كان من
عند ربهم أو كان من اختراعهم. ألم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته
التي اجهدها بكثرة الترحال:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا شددت لها وضيني: ... أهذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال؟ ... أما يبقي عليَّ وما يقيني؟
الأول: لكنك تعلم أن الشاعر استعمل الدين هنا بمعنى العادة؛ فما
علاقة ذلك بأنظمة الحكم؟
الثاني: لا جدال في أنه استعمله بمعنى العادة؛ ولكن ألا ترى أنه إذا
كان اعتياد الحل والترحال وهو أمر واحد في حياة رجل وناقته يسمى ديناً،
فمن باب أوْلى أن يسمى كذلك اعتياد ما كان أشمل نطاقاً وأكثر عدداً. ثم إن
القرآن الكريم استعمل الدين بهذا المعنى العربي، ألم تسمع قول الله
تعالى عن يوسف وأخيه: [مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ
اللَّهُ] (يوسف: 76) فالمقصود بالدين هنا ما نسميه الآن بالقانون.
وفي القرآن الكريم أيضاً يطلق الدين على الهدي الذي أنزله الله
تعالى وأرسل به رسوله، كما يطلق على ما يدين به الناس في الواقع سواء
كان موافقاً لذلك الدين الحق أو مخالفاً له. يبين لك ذلك بوضوح حديث
الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة
على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها؛ فالدين الذي يجدد هو ما يدين به
الناس.
أما الدين النازل من السماء فلا يحتاج إلى تجديد؛ لأنه لا يَخْلَق.
وتجديد ما يدين به الناس هو جعله موافقاً للدين الحق.
الأول: هذا تفسير غريب للدين، وهو مخالف لما اصطلح عليه
الناس، ولا سيما في البلاد الغربية العلمانية التي هي موضوع حديثنا.
الثاني: لكن هل من الإنصاف أن يكون النقاش دائماً وفق تصوراتهم
ومصطلحاتهم؟ لماذا لا نفهمهم أن هنالك اختلافاً بيننا حتى في تصورنا
للدين؟ على كل أنا لا أريد للحوار أن يتحول إلى جدل عن الألفاظ. المهم
أن تتضح المعاني؛ وإذا اتضحت فلا مُشاحَّة في الألفاظ. ألا يمكن أن
نترك كلمة الدين ونستعمل بدلاً عنها كلمة تنطبق على العلمانية وما يسمونه
هم ديناً؟ ما رأيك في عبارة منهاج الحياة؟
الأول: لا بأس بها.
الثاني: أرجو أن يتضح لنا من استعمالها أن القول بأن النظام
العلماني نظام محايد بين الأديان إنما هو خرافة راجت على كثير من الناس.
الأول: أظنني من المصدقين بهذه الخرافة؛ فهلاَّ أوضحت لنا
ياسيدي المنكر للخرافات دليلك على كونها خرافة؟
الثاني: هب أننا قلنا لإنسان منصف: إن هنالك نظامين (أ) و (ع)
وأعطيناه الجدول الآتي:
النظام أ ... ... ... ... ... ... النظام ع
- إنِ الحكمُ إلا الله ... ... ... ... - إن الحكم إلا للشعب
- يباح للرجل أن يتزوج مثنى ... ... - لا يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من ... ...
وثلاث ورباع ... ... ... ... ... واحدة
- يأخذ الورثة حقهم أوصى بذلك ... - إنما يرث من أوصى له المورث ولو ... ... ... ... ... ... ... ...
المورث أم لم يوص ... ... ... ... كان حيواناً، وإذا لم يوص فللدولة أن ...
... ... ... ... ... ... تتصرف في ماله
- الخمر حرام ... ... ... ... - الخمر حلال
- لا تكون علاقة جنسية إلا ... ... - تباح العلاقة الجنسية بين كل بالغين ... ... ... ... ...
بين متزوجين ... ... ... ... تراضيين رجلاً وامرأة أو رجلين أو ... ...
... ... ... ... ... ... امرأتين
- الربا حرام ... ... ... ... ... - الربا حلال
الأول: ما أظنه سيستطيع إذا وضع الأمر بهذه الطريقة.
الثاني: ولا طريقة غيرها. إذن فيجب على من يريد أن يكون مسلماً
أن لا يخدع نفسه. إنه لا يمكن للإنسان أن يكون مؤمناً ويكون مع ذلك
راضياً بالعلمانية نظاماً للحكم. فإما هذا أو ذاك.
الأول: نعم! إن منهاج الحكم العلماني يُقصي غيره من مناهج الحكم؛
لأنك لا يمكن أن تطبق منهجين مختلفين في وقت واحد كما يتضح ذلك
من جدولك. لكن ميزته على المناهج الأخرى ومنها المنهج الإسلامي أنه
يفرق بين إقصاء الأفراد وإقصاء المناهج.
الثاني: ماذا تعني؟
الأول: أعني أنه يعامل الأفراد جميعاً معاملة متساوية باعتبارهم
مواطنين من حق كل واحد منهم أن يتقلد أي منصب سياسي في الدولة إذا ارتضاه
الناس.
الثاني: بشرط أن يكون حكمه وفقاً للدستور العلماني الذي يُقصي
منهجه عن الحكم إذا كان مسلماً.
الأول: أجل! وأظننا قد اتفقنا على الأمر البدهي الذي يقضي
باستحالة الجمع بين منهجين في الحكم مختلفين.
الثاني: لكن معنى هذا أنك تعطي المسلم الأمريكي مثلاً الحرية في
أن يكون رئيساً بشرط أن يتخلى عن دينه.
الأول: كلاَّ! فبإمكانه أن يظل مسلماً يصلي ويصوم ويحج ويفعل
كل ما يأمره به دينه.
الثاني: إلا في ما يتعلق بالحكم.
الأول: نعم.
الثاني: لكن المسلم المخلص لدينه العارف به لا يرضى بهذا؛ لأنه
يعرف أن دينه كلٌّ لا يقبل التجزئة؛ فالذي ينكر بعضَه فقد أنكره كلَّه. قال
تعالى: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن
يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
العَذَابِ] (البقرة: 85) وهذا هو الذي يشترطه النظام العلماني على
المسلم.
الأول: لكن النظام الإسلامي لا يعطيه حتى هذا القدر.
الثاني: النظام الإسلامي لا يمنع غير المسلم أن يكون مسلماً، وأن
يتأهل بذلك أن يكون حاكماً للمسلمين. لكن الإنسان كما ذكرنا لا يكون
مسلماً إلا إذا آمن بالدين كله؛ لأن نظام الحكم في الإسلام غير منفصل عن
شرائعه الأخرى؛ بل إن هذا هو الحال في الديانات الأخرى، وما زال هو
الذي يراه بعض اليهود وبعض النصارى الرافضين للنظام العلماني، والذين
يصفون العلمانية كما نصفها بكونها ديناً محارباً لأديانهم.
الأول: نعم! إنهم ليفرضون عليهم هذا باعتباره الدستور الذي
ارتضته الأغلبية، لكنهم بعد ذلك يسمحون لهم بما لا يتعلق من دينهم بأمر
الحكم.
الثاني: ونحن أيضاً نسمح لهم بما ذكرت، بل إننا لنعطيهم أكثر مما تعطيهم
العلمانية الديمقراطية.
الأول: لكنهم يرون أن نظام الحكم الذي تفرضونه عليهم هو دينكم
وهم لا يرضون أن يُفرَض عليهم دين ليس بدينهم.
الثاني: نحن لا نفرضه عليهم بكونه ديناً بمعنى كونه عبادة يتقربون
بها إلى الله، وإنما نفرضه عليهم باعتباره نظاماً للحكم ارتضته أغلبية
المواطنين؛ ولا فرق في هذا بيننا وبين النظام العلماني الديمقراطي. فإذا
كانوا وهم الأغلبية في البلاد الغربية العلمانية قد رضوا بأن يُقصوا دينهم
عن الحكم، ويرضَوا بالعلمانية بديلاً؛ فما الذي يمنعهم حيث يكونون أقلية
في البلاد الإسلامية من أن يرضوا بإقصاء دينهم عن الحكم والرضى
بالحكم الإسلامي باعتباره اختيار الأغلبية في البلد الذي يعيشون فيه.
الأول: يبدو من كلامك هذا أنك تكاد ألاَّ ترى في الحياة العلمانية
الغربية الديمقراطية أي حسنة.
الثاني: أنا لم أقل ذلك وإنما كنت أرد ظنك بأن نظامهم يفضُل النظام
الإسلامي.
الأول: أفهم من ذلك أنك ترى في الحياة الغربية جوانب حسنة؟
الثاني: لا شك في ذلك. بل أرى أن في كل أمة من الأمم بعض
الجوانب الخيرة. أقول هذا ديناً؛ لأنني أعتقد أنه لا يمكن لإنسان لا خير فيه ألبتة
أن يرى الخير الذي في الدين الحق فيؤمن به. وما دام هذا الدين قد جاء
للناس جميعاً، فلا بد أن الله سبحانه وتعالى جعل فيهم من الخير ما يمكِّنهم
من رؤيته حقاً.
الأول: هلاَّ ذكرتَ لي بعض هذه الجوانب الخيرة؟
الثاني: الحديث في هذا قد يطول؛ فلأكتف لك بذكر أحسن ما أراه عندهم،
أحسن ما عندهم هو هذا التطور الكبير في العلوم الطبيعية وما بني عليه من
تقنية في شتى جوانب الحياة ومنها الجانب العسكري. وقد كنت أتمنى لو
أننا ركَّزنا على هذا الجانب العلمي التقني فيما نأخذه من الغرب، لكن
العلمانيين في بلادنا شغلونا بمثل هذه القضايا التي كنا نتحدث عنها
الآن؛ لأنهم لسذاجتهم ظنوا أن السبب الأساس لتطور الغرب هو فصله
للدين عن الدولة. وقد كان هذا التركيز على الجانب الثقافي في التجربة
الغربية هو السبب الأساس لضعفنا وعدم تطورنا؛ لأنه كان السبب الأساس
في النزاع بيننا؛ وأنت تعلم أن الأمم لا تستطيع أن تحقق إنجازاً كبيراً دينياً
أو دنيوياً وهي منقسمة على نفسها متنازعة فيما بينها. فأسأل الله تعالى أن
يجمعنا على الخير، وأن يوفقنا إلى الأخذ بأسباب النهضة والقوة والرفعة
في كل جوانب حياتنا المادية والروحية.
الأول: آمين.(166/43)
قراءة في كتاب
حرب المعلومات الحرب القادمة
المؤلف: الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز المنيف.
عرض: حسن الرشيدي.
اسم الكتاب: حرب المعلومات الحرب القادمة الدليل الشامل لحرب المعلومات
المؤلف: الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز المنيف.
الناشر: المؤلف.
حجم الكتاب: 338 صفحة.
مقاس: 17 X 24.
«إن العالم لم يعد يُدار بالأسلحة بعد الآن أو الطاقة أو المال، إنه يدار
بالأرقام والأصفار الصغيرة ... إن هناك حرباً تحدث الآن.... إنها ليست من يملك
أكثر رصاصاً؛ إنها حول من يسيطر على المعلومات: ماذا نسمع أو نرى، كيف
نقوم بعملنا، كيف نفكر؟ إنها حول المعلومات» .
هذه مقولة صدرت في بيان خاص من اتحاد العلماء الأمريكيين يعلنون فيه أن
البشرية قد غدت في طور جديد ومرحلة لها طابعها الخاص وخصائصها المميزة.
وهذا الكلام لا يقال على سبيل المبالغة أو إعطاء موضع اهتمام لا يستحقه بل
أضحى حقيقة تتوالى فصولها بسرعة لاحقة.
وفي هذا السياق تأتي المواجهة الأخيرة بين الصين والولايات المتحدة لتدشن
في الواقع العملي عصراً جديداً من الحروب، ونوعية غير مألوفة من المواجهات.
هذه الحرب لا بد أن تأخذ الدراسة الكافية والبحث المعمق لكشف أبعادها وخلفياتها.
ويعتقد كثير من المحللين أننا دخلنا بهذه المواجهة نوعاً جديداً من حرب المعلومات:
فمن طائرة مزودة بأحدث ما وصلت إليه التقنية في مجال الاستطلاع والتجسس،
بداخلها فريق عمل له القدرة على التقاط هذه المعلومات أو بصورة أدق:
(البيانات) ثم تحليلها وغربلتها لاستنتاج الخطوط العريضة وتفاصيل دفاعات
الطرف الآخر.
ثم تندلع بعدها حرب الفيروسات واختراقات أنظمة المعلومات على الإنترنت
بين الطرفين التي لا زالت تتوالى فصولها حتى اليوم.
ويأتي كتاب «حرب المعلومات الحرب القادمة» ليعطي خلفية شبه كاملة
عن طبيعة تلك النوعية من الحروب ومراحلها وخصائصها.
ففي الفصل الأول تناول مفهوم حرب المعلومات بوصفه إطاراً نظرياً شاملاً
أنماط هذه الحرب المتعددة الأهداف، وفي الفصل الثاني ناقش هذه الحرب من
حيث نشأتها وتطورها، ولماذا وجدت هذه الحرب. والفصل الثالث نظر إلى حرب
المعلومات ومنطقة الشرق الأوسط بوصفها أحد أكثر مناطق العالم تأثراً بالصراعات
منذ مئات السنين. هذا وقد طرح في هذا الفصل سيناريو عملية العاصفة الرقمية
كأحد الاحتمالات التي قد تواجهها هذه المنطقة؛ بينما في الفصل الرابع تطرق إلى
حرب المعلومات والرؤيا الإدارية مع بعض المفاهيم الأساسية، وتناول في الفصل
الخامس أسلحة حرب المعلومات وتأثيراتها والمستويات المختلفة لهذه الحرب؛ وفي
الفصل السادس جاء باحتمالات من سيستخدم حرب المعلومات. وناقش في الفصل
السابع الأسس والقضايا الاستراتيجية ذات الصلة بصناع القرار والخطوات اللازمة
التي تنطوي تحت هذه القضايا الاستراتيجية. وفي الفصل الثامن ناقش بنية
المعلومات التحتية وأسس ومقومات الحماية والردع والتفادي، مع ذكر للأخطار
الكامنة والتهديدات اليومية لهذه البنية وقضايا الدفاع وكيفية الدفاع عن هذه البنية.
وفي الفصل التاسع تطرق إلى الجانب الاجتماعي وحرب المعلومات مع التأثيرات
والنتائج، إضافة إلى التقنية ومجتمعات العالم الثالث والعالم الرابع الآخذ في الظهور،
مع ذكر للجانب الأخلاقي لهذه الحرب. ويختتم الفصل العاشر بتناول النظرة
الاستراتيجية والإنترنت، والنشاطات السياسية الدولية في الإنترنت. هذا وقد
اشتمل هذا الفصل كذلك على رحلة حقيقية مع أحد قراصنة المعلومات.
وهكذا يبدو هذا الكتاب موسوعة حقيقية لحرب المعلومات.
مفهوم حرب المعلومات:
قبل أن نبدأ في تعريف هذه الحرب لا بد لنا من من الإحاطة بمصطلح
المعلومات نفسه. يقول الكاتب: إنه من الصعوبة التحدث عن حرب المعلومات
بدون تعريف المفهوم المركزي؛ ألا وهو المعلومات؛ فالمعلومات مشتقة من ظاهرة،
والظاهرة تعتبر حقائق أو أحداثاً يمكن مشاهدة كل شيء يحدث حولها. فالظاهرة
يجب أن يتم تلقيها وتفسيرها لتصبح معلومات. إذاً فالمعلومات هي نتاج شيئين هما:
ظاهرة تم تلقيها (بيانات) ، والتعليمات المطلوبة لتفسير تلك البيانات وإعطاؤها
معنى.
إن هذا التمييز مهم، وكثير من الباحثين يتجاوزونه في الكثير من التحليلات؛
إذاً فإن الظاهرة تصبح معلومات من خلال الملاحظة والتحليل، ولذا فإن
المعلومات تعتبر خلاصة مجردة للظاهرة ونتاجاً لمفهوم وتفسيرات البشر. وبغض
النظر عن ذلك فإن تعريف المعلومات يتطلب صفتين أساسيتين هما:
1 - المعلومات، بيانات وتعليمات.
وهنا فإن تعريف المعلومات يختلف تماماً عن تعريف التقنية. لكن ماذا نفعل
بهذه المعلومات؟ إن مدى سرعتها في ذلك يعتمد اعتماداً كلياً على هذه التقنية. هذه
التقنية وبشكل سريع طورت قدراتنا في الملاحظة مع قدرتها على التوسع والتركيز؛
في حيز التخزين مع السرعة في إجراء العمليات. لذا فإن الصفة الأساسية الثانية
تستخدم لاحتواء اعتماد التقنية على العناصر المرتبطة بالمعلومات.
2- وظائف المعلومات:
أية نشاطات تتعلق بالحصول على المعلومات ونقلها وتخزينها أو تمويلها.
ثم ينتقل الكاتب بعد ذلك للبدء في إشكالية تعريف حرب المعلومات فيقول:
هناك العديد من التعريفات لحرب المعلومات، وأحد هذه التعريفات ينص على الآتي:
«الفصل أو إيجاد الحدث للوصول إلى التفوق المعلوماتي لإسناد
الاستراتيجية العسكرية من خلال التأثير على معلومات الخصم وأنظمة معلوماته
وفي نفس الوقت حماية المعلومات وأنظمة المعلومات لصاحب الحدث» .
تعريف آخر ينص على الآتي:
أي فعل لحجب واستغلال وتدمير معلومات العدو وأهدافه مع حماية صاحب
الفعل من ذلك الإجراء واستغلال جميع القدرات المعلوماتية المتوفرة لعمل ذلك.
إن الهدف من هذه التعريفات هو رؤية حرب المعلومات هذه من منظور فني
واجتماعي. لذا فإنه يجب النظر إلى العناصر التي تحتوي على البشر والتقنية
(أنظمة المعلومات) والمنشآت والثقافة أو الحضارة. هذا وعلى الرغم من أن ذلك
يعقِّد النظر في هذه المسائل إلا أنها تضفي أسساً غنية ليس فقط لتعريف حرب
المعلومات لكن لطبيعة أنواع هذه الحرب المختلفة.
وبذلك يحاول الكاتب تعريف هذه الحرب من خلال ذكر أنواعها فيقول:
لقد أشار الدكتور مارتن ليبيكي إلى سبعة أنواع لحرب المعلومات وهي:
1- حرب القيادة والسيطرة.
2- الحرب الاستخبارية.
3 - الحرب الإلكترونية.
4 - حرب العمليات النفسية.
5 - حرب قراصنة المعلومات.
6 - حرب المعلومات الاقتصادية.
7 - حرب المعلومات الافتراضية.
هذا وعلى الرغم من الكثير من الدراسات والأبحاث والمناقشات ذات الصلة
بمفهوم حرب المعلومات، إلا أنه توجد الكثير من التعقيدات والمشاكل للتفريق بين
ما هو حقيقي وما هو محض توقعات. لكن هناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى
حقيقة ما أفرزته وستفرزه التقنية الحديثة. إن الوصول إلى تعريف جازم وصحيح
في هذه الفترة من تطور التقنية سيؤدي إلى صياغة سياسات غير مكتملة النمو لما
هو حرب معلومات وما هو غير حرب معلومات. على كل حال فإنه من الأهمية
وضع بعض التعريفات التي ستساعد في الوصول إلى تعريف أدق وأشمل. وهذا لا
يتأتى إلا بتفصيل كل نوع سابق فيكون التعريف الشامل الذي يتضمن جميع هذه
الأنواع:
حرب القيادة والسيطرة:
إن النشاطات المصاحبة لحرب المعلومات لا تقتصر على ما تقوم به
المؤسسات العسكرية في هذا المجال؛ لأن الأمر يتطلب نشاطات الكثير من
المؤسسات الحكومية وتعاونها؛ لأنه لا يمكن لمؤسسة واحدة أو قسم واحد أن يكون
قادراً على القيام بنشاطات حرب المعلومات. إن الإجراء الوحيد الذي سيحقق نجاح
هذا المفهوم هو إذا استطاعت أية دولة استخدام واستغلال جميع ما لديها وبتنسيق
متوافق ومتزامن من القيام بشن هذه الحرب على بلد معادٍ.
لذا فإن حرب القيادة والسيطرة تعكس محاولة استمرار السيطرة على مقدرات
أنظمة معلومات القيادة والسيطرة التابعة للعدو.
الحرب الاستخبارية:
إن حرب المعلومات تعتبر لعبة جديدة وفريدة من نوعها على البيئة
الاستخبارية، ويعزى هذا التفرد إلى قلة أو ندرة المعلومات التي يمكن الأخذ بها
لمعرفة أنماط نشاطات هذه الحرب. وقد أدى ذلك إلى بروز العديد من الصعوبات
بسبب تعدد المؤشرات حيال ذلك؛ ففي حرب المعلومات، وعلى أقل تقدير في نظم
المعلومات والشبكات، فإن أدلة هذه الحرب تصنف بأنها حرب عابرة على أفضل
تقدير، ومن الصعب ملاحظتها بالمفهوم المادي.
الحرب الإلكترونية:
إن البناء المادي لأنظمة المعلومات بما فيها الحاسبات الآلية الصغيرة
والمحمولة يعتمد في إدارة مهامه على الحقول الكهرومغناطيسية والاختلاف في
الطاقة والبيئة المقننة والجودة المصاحبة للأجهزة والبرامج. لذا فإن أحد مفاهيم
الحرب الإلكترونية في مجال حرب المعلومات يركز على تعديل أو تحريف بيئة
النظام الكهرومغناطيسية؛ حتى إن هناك بعض التقارير التي تحدثت عن استخدام
تلك النوعية من الحروب في حرب الخليج الثانية.
حرب العمليات النفسية:
نتيجة لاعتماد الكثير من المجتمعات على أنظمة معلومات معقدة كأحد إفرازات
عصر المعلومات، فقد بدأ التركيز على مناطق الضعف في هذه الأنظمة في مجال
جرائم الحاسب الآلي. ونظراً لطبيعة هذه الأنظمة المتطورة وما تتطلبه من خبرات
وقدرات فنية في مجال التطوير، فإنه من غير المستغرب أن يتم الانتباه بشكل قوي
لمناطق الضعف هذه والحلول المرادفة من قبل الكثير من الخبراء والمختصين في
مجال التقنية. إنهم البشر الذين استطاعوا تطوير هذه الأنظمة، وهم القادرون على
مهاجمتها بكافة أسلحة الحرب المعلوماتية.
لذا فإنه من المهم معرفة وفهم الوضع النفسي لمجرمي أنظمة المعلومات من
أجل حماية هذه الأنظمة.
هناك جانب آخر لحرب المعلومات النفسية يعني بمحاولة طمس الحقائق عن
أية مجتمع وتغليفها بأكاذيب أو التأثير على الخصم من أجل أن يقوم بعمليات
عدوانية. هناك العديد من حرب العمليات النفسية والتي منها على سبيل المثال
العمليات النفسية ضد الجنود، ضد القيادات، ضد إرادة المجتمع؛ وعمليات نفسية
صممت لفرض ثقافة معينة على دولة ما. لقد أتاحت شبكة الإنترنت مجالاً واسعاً
للكثير من الجماعات مثل جماعة السلام الأخضر والجيش الجمهوري الإيرلندي
وغيرهم لاستخدام الحرب النفسية للتأثير على المجتمعات بأهدافها ومبادئها.
حرب قراصنة المعلومات:
إن مجال قرصنة المعلومات يحمل العديد من التعريفات ووجهات النظر
المختلفة. ولو نظرنا بشيء من التبسيط لتعريف هذه القرصنة، فإنه يمكن القول
إنه يكمن في طرح الكثير من الأسئلة مع عدم الكف عن السؤال، ولهذا فإن أنظمة
المعلومات تعتبر مثالية لفضولية هؤلاء القراصنة.
ولكن هذه القرصنة تعتبر استخداماً لأنظمة المعلومات والشبكات بطرق غير
شرعية. فمصطلح قراصنة المعلومات كانت تعني في الأصل مبرمجين موهوبين،
لكن في السنوات الأخيرة ومع كثرة أنظمة المعلومات وسهولة الوصول إليها بدأ هذا
المصطلح يحمل طابعاً سلبياً.
حرب المعلومات الاقتصادية:
بسبب العديد من الخصائص المميزة، فإن الاقتصاد سيكون بلا شك هدفاً
لحرب المعلومات الاستراتيجية لأي بلد. إن المؤسسات المالية تعتمد على قاعدة
معلوماتية تقنية متطورة لا مركزية، يعتمد بعضها على بعض، وتدير منتجات
مالية غير محسوسة معتمدة على قيمتها الاقتصادية. هذه الخصائص تخلق من نفسها
هدفاً طبيعياً في مجال حرب المعلومات لما تملكه من أهمية سلامة الاقتصاد ونفعه
لأي مجتمع. ولذا فإن مهاجمة نظام دولة اقتصادية كبرى كالولايات المتحدة
الأمريكية قد يتيح مجالاً لحدوث أزمة داخلية ستكون عواقبها خطيرة بلا شك.
إنه عندما تتوقف أجهزة الصرف الآلي، وبطاقات الائتمان، والشيكات
وتحويل الأموال، فهذا يعني أن حركة الاقتصاد بكاملها قد توقفت.
حرب المعلومات الافتراضية:
إن حرب المعلومات الافتراضية تعني القيام بالعمليات العسكرية بناء على
مبادئ مرتبطة بالمعلومات. وهذا يعني تعطيل وإتلاف أنظمة المعلومات
والاتصالات، إنها تعني كذلك محاولة معرفة كل شيء عن الخصم مع إبعاد هذا
الخصم عن معرفة ما لديك. إنها تعني أيضاً قلب التوازن في مجال المعلومات
والمعرفة لصالحك خاصة إذا كانت موازين القوى العسكرية ليست في صالحك.
معنى آخر يعني استخدام المعرفة للتقليل من المصاريف المالية والقوة البشرية.
إن هذا النمط من الحروب قد يعني إدخال عناصر تقنية متنوعة خاصة في مجال
القيادة والسيطرة، وجمع ومعالجة وتوزيع المعلومات الاستخبارية بغرض
الاتصالات التكتيكية، وتحديد ومعرفة الأصدقاء من الأعداء وأنظمة الأسلحة الذكية.
وقد يعني كذلك إدخال عناصر التعتيم الإلكتروني على هيئة: تعطيل، خداع،
وتحميل، والتدخل في أنظمة المعلومات ودوائر الاتصالات الإلكترونية للخصم.
مجالات حرب المعلومات:
يقصد الكاتب بالمجالات: الجهات التي توجه والمستهدفة من هذه الحرب
وقسمها إلى ثلاثة مستويات:
1 - حرب المعلومات الشخصية.
2 - حرب معلومات الشركات.
3 - حرب المعلومات العالمية.
المستوى الأول: حرب المعلومات الشخصية:
هذا المستوى يصف الهجوم ضد الخصوصية الإلكترونية للفرد والذي يشمل
الإفصاح عن السجلات والمعلومات المخزنة في قواعد المعلومات. إن الفرد العادي
في الوقت الراهن لا يملك إلا القليل للحفاظ على سرية وسلامة معلوماته الشخصية
والمخزنة داخل جهازه الخاص إذا كان مرتبطاً بالشبكة الدولية. حتى إن هذا الفرد
لا يملك السيطرة على كمية المعلومات التي تخصه سواء كانت صحيحة أم خطأ.
في السابق كان التجسس على الإنسان يتطلب وضع أجهزة تجسس على تليفونه
واستخدام كاميرات تصوير صغيرة الحجم وميكروفون للحصول على المعلومات
المطلوبة. أما في هذه الأيام، فبالإضافة إلى استخدام أجهزة التجسس والكاميرات
والميكروفونات المتطورة، فإن المعلومات المطلوبة حول هذا الإنسان مخزنة في
قواعد المعلومات. ولابتزاز شخص ما، فإن الأمر لا يتطلب مراقبة لعدة أشهر،
وما على محاربي المعلومات أو قراصنة المعلومات للحصول على هذه المعلومات
سوى استخدام حاسب آلي وخط تليفون.
المستوى الثاني: حرب معلومات الشركات:
هذه الحرب توصف بحرب التنافس بين الشركات حول العالم. إنه لمن
السهل تخيل أن شركة ما تستثمر مليون دولار أمريكي لبناء نظام يستطيع كسر
الحواجز الأمنية والدخول على قاعدة معلومات الشركة المنافسة ونسخ نتائج الأبحاث
التي قيمتها خمسة عشر مليون دولار للتأكد من أن الشركة المنافسة لن تكون الشركة
الأولى في طرح إنتاجها في الأسواق. حتى إن الأمر قد يصل إلى تدمير قاعدة
المعلومات وإظهار ذلك على أنه حادث عرضي بفيروس على النظام الرئيسي.
إن هذا المشهد من هذه الحرب التنافسية ليس جديداً، هذا النوع من التجسس
معروف أيام الحرب الباردة ولا زال حتى وقتنا الحاضر؛ بل إن حرب معلومات
الشركات أخذت بعداً جديداً هذا البعد لا يقتصر على الحصول على المعلومات، بل
إنه قد يصل إلى نشر هذه المعلومات سواء كانت صحيحة أم لا. إن الاحتمالات
متوفرة فيما لو أقدمت شركة أدوية منافسة على نشر معلومات تفيد بأن الدواء (ح)
لمعالجة الربو والمستخدم على نطاق واسع يسبب سرطان الرئتين، فإن معظم
الأطباء سيوقفون استخدامه لمرضاهم حتى تتم دراسة هذا الموضوع، ونشر هذه
الدراسة قد تكون مزورة وجزءاً من حملة كبيرة ومصممة للكذب؛ إذاً فقد حصل
التأثير وملايين الدولارات ستخسرها الشركة حتى يتم إثبات العكس.
المستوى الثالث: حرب المعلومات العالمية:
هذا المستوى من حرب المعلومات يعمل ضد المؤسسات الصناعية، وضد
المؤسسات المصرفية وحتى ضد الدول، هذه الحرب لا تقتصر فقط على التسلل
(إلكترونياً) على معلومات الأبحاث للمنافسة، لكن لسرقة الأسرار وتمويل هذه
السرقة ضد أهلها.
في هذا المستوى بإمكانك أن تقوم بضرب المستوى الأول والمستوى الثاني
بعامل كبير، ولن تكون قادراً على تخيل الأضرار التي ستنجم عن حرب معلومات
على مستوى المسرح الدولي. وهنا؛ فإن المال والبشر لا يمثلون عاملاً مهماً. إن
الدول الصناعية ودول العالم الثالث ينفقون بلايين الدولارات الأمريكية على
الطائرات والقنابل والذخيرة؛ فماذا سيحدث لو أن أي بلد قرر أن ينفق مائتي مليون
دولار على أسلحة الموجة الثالثة (ثورة المعلومات) من ميزانية أسلحة الموجة
الثانية (الثورة الصناعية/ الأسلحة) . وكمثال على ذلك: لو قام أحد زعماء الدول
الني لا ترضى عنها أمريكا بإنفاق مبلغ مائتي مليون دولار في السنة على أسلحة
حرب المعلومات (الموجة الثالثة) ، فإنه قد يكون قادراً على إحداث أضرار بالغة
بالصناعة الأمريكية والأنظمة الفيدرالية لا يمكن تخيلها.
هذا المستوى الثالث من حرب المعلومات قادر على شن الهجمات من مسافات
تصل لآلاف الكيلو مترات وبتأثير قوي، وباستطاعة هذا الزعيم تحطيم أسواق
المال في نيويورك، والأنظمة المصرفية في أي بلد. والأبعد من ذلك أن آثار هذه
الهجمات ستجعل تحطيم وول ستريت شيئاً ثانوياً إذا ما قورن بنتائج ذلك على
المسرح الدولي.(166/49)
نص شعري
طريق المجد
د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني
ساروا على عجلٍ وما وصلوا..! ! ... وتمهلوا.. فتضاعفَ العملُ..! !
هم يعلمون وليس ينفعهمْ.. ... إلا الذي صلُحتْ به الأُوَلُ..؟ ؟ ! !
وتعطلت لغة العقولِ فما ... كانوا على هديٍ ولم يزلوا..! !
يا أمةً طال الطريق بها.. ... وأصابها في نهجها خلل..! !
يا أمةً ترجو النجاح وفي ... أعضائها تتسابق العللُ..! !
ماذا أصاب العزمَ؟ ؟ ! ! هل حفروا ... قبراً له ... أم هدَّهُ شللُ..؟ ؟ ! !
المجدُ عند بنائهِ تعبٌ.. ... لكن وقت حصادهِ عسلُ..
كلٌّ يرى أن الطريق له..! ! ... وبأنه في دربه البطلُ..! !
المجدُ: لا تُبنى قواعدُهُ ... حتى يكونَ أساسَه العملُ..
المجدُ: إنجازٌ وأبنيةٌ ... ... لغراسها تتسابقُ الدولُ..
المجدُ: مدرسةٌ وجامعةٌ ... ومنابرٌ تسمو بها المُثُلُ..
المجدُ: تجربةٌ إذا عثرت ... قامت.. ويحدو دربها الأملُ..
ومصانعٌ.. ومعاملٌ.. ورؤىً.. ... وعلى جناح الصدق ينتقلُ..
المجدُ: في الأعماقِ منبعهُ ... وإذا سقاه النورُ يكتملُ ...(166/55)
نص شعري
الليل القرمزي
محمد مهاوش الظفيري
وتمطر السماء ... رغم الشجا ... دما على صحرائنا القاحلة
ويصرخ الطفل، وينتابه ... خوف جنونيٌّ من القابلة
وتخجل الحروف من شكلها ... وتخرب النقاط والفاصلة
وفي عيوني ينتهي المبتدا ... وتبدأ النهاية العاجلة
تقلب الكلام في منطقي ... واحتبست نظراتيَ الذاهلة
وفي المدى.. ترمقني أعينٌ ... زرقاء.. والموت.. بها قاتلة
وكل شيء في يدي يكتسي ... ذل المصير، والرؤى الذابلة
تكسّر التاريخ في داخلي ... واحترقت نفحاته الباسلة
وثمّ حلم فوضوي هزني ... بعثر أوراقي على الطاولة
لا ليلنا يشبه ليل الورى ... وصبحنا هدّ الردى كاهلهْ
أحاول السير ولم أستطع ... وضيّع الحادي خطا الراحلة
وبين شطريْ ليلنا القرمزي ... وصبحنا البنفسجي.. نازلة
أبو رغالٍ صافح السامري ... وانفلتت من يده القافلة(166/56)
البيان الأدبي
عذراً ... أبي!
د. حمدي شعيب
أفقتُ على صرخات الإمام، أرى المنبر يرتجُّ أسفل منه، اختلطت كلماته،
تاهت صيحاته، وامتزجت بأصوات الباعة خارج المسجد، عجوزٌ بجواري يغط
في نوم عميق، فيميل على جاره، يهزه الجار بعنف، لقد قطع عليه حبل أفكاره،
فبعد الصلاة هو على موعد مع سامي بك خارج المسجد، ليساعده في الحصول
على ترخيص تزويد عمارته الجديدة بالكهرباء. طفلٌ أمامي يعبث بشعر والده،
شابٌّ خلفي يعاتب صديقه: لِمَ تخلفت عن سهرتنا أمس؟ ! !
ما زال الإمام يصيح:
أيها الناس! أولادَكم، أولادَكم!
«أعينوا أولادكم على البر، بالإحسان إليهم، وعدم التضييق عليهم،
والتسوية بينهم في العطية، من شاء استخرج العقوق من ولده» [1] .
إيهِ أيها الشيخ! هدير صيحاتك لا يجد مكاناً، توجيهاتك لا يصغي لها أحدٌ.
ازدواجية شائهة، فصامٌ شاذ، انفصالٌ غريب بين القول والعمل، بين ما تنادي
به وما هو واقع، بين دموعنا داخل المسجد وحياتنا خارجه! ؟
ما زال هدير الإمام يهز أركان المسجد، ويزلزل جنباته، ولا يتعدى جدرانه؛
هذا هو المسموح!
وما زالت صيحات الباعة تهتز لها أركان المدينة، بل أركان الدنيا كلها، بما
فيها المسجد!
صراعٌ سرمدي، تدافعٌ أبدي، معركة خالدة.
زاغت عيناي، لم تعد تتبين موقع ذلك الهدير، تزاحمت خواطري، لم أعد
أشعر بصرخات الشيخ المسكين، التفتُّ إلى مروحة في سقف المسجد، فدارت معها
أفكاري!
سنواتٌ بعيدة في عمق التاريخ، محطات كثيرة، شقت أخاديد في طريق
حياتي، آلمتني، أعاقت مسيرة حياتي، سأقف عند بعضها، أو عند أهمها، لقد
نشأت في أسرة كثيرة العدد، متوسطة الحال، كنت خامسهم، ورابعنا كان من
نصيبه بل من نصيبنا جميعاً أن يكون ولداً، بعد ثلاث بنات، فاستحوذ على
النصيب الأعظم من الاهتمام الأسري، ومن الرعاية والمحاباة الأبوية، مالت به
كفة الحنان والحب، حتى أثارت حفيظتنا جميعاً. فالحق ما يراه ماهر، والصواب
ما يدلي به ماهر، والخير ما يأتي به ماهر!
حاول بعضنا النصيحة، فكان من نصيبه الزجر، والاتهام بعدم تقدير
المسؤولية، بل وعدم البصيرة!
ذات يوم حاولت أمي القيام بدورها التقويمي، ومسؤوليتها التصحيحية:
أبا ماهر! حذار من هذا الميل الزائد، والاهتمام الملموس، بل والمحاباة، والدعم
لماهر، ولرغبات ماهر، ولآراء ماهر، يا رجل لا تنس أن له سبعة إخوة آخرين
يحتاجون إلى برك وعطفك. يا رجل اعدل! أبا ماهر حذار أن ... !
قاطعها أبي صائحاً فيها:
أم ماهر ... لا أريد فتح هذا الموضوع.
سكتت أمي على مضض.
تزوج ماهر، فزاد الطين بلة؛ حيث كثرت زيارات أبي له دون إخوتي!
ذات يوم سمعت عمي يحادثه في هذا الأمر:
أبا ماهر أليس لك من الأولاد سوى ماهر لتزوره؟ ! !
رد عليه أبي:
يا أخي كما يقولون في المثل: (الرِّجْل تدب إلى ما تحب) .
ابتلعت هذا الرد الغريب. لم أشأ أن أريهما نفسي. توقفت برهة، تنازعتني
صراعات نفسية كثيرة، شعرت بالضيق، أحسست بألم رهيب يعتصرني، ظلامٌ
مركب يهاجمني، ظلام الليل، وظلام غياب العدل، وظلام تلك الأمثال البغيضة
وآثارها. ظلمات بعضها فوق بعض.
تسللت كالقطا إلى صومعتي؛ إلى حجرتي الصغيرة.
صورة إخوة يوسف عليه السلام وهم يرفعون راية التمرد لم تفارق مخيلتي،
لم أكن أتصور أن يتهم نبي كريم، بهذا الاتهام الرهيب [إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ]
(يوسف: 8) هربتُ من أفكاري، إلى مكتبتي، قلَّبتُ محتوياتها، وقعت
عيناي على إحدى روايات (شكسبير) ، على لسان (الملك لير) ، يقول كلمات
حفرتها في ذاكرتي تجربة صعبة:
(ليس أشد إيلاماً من ناب حية رقطاء غير ابن جحود!
ولكن.. كيف بالله يشكر الأبناء ما لم نعودهم نحن الشكر؟ !
إن الجحود فطر، مثله مثل الأعشاب الفطرية.
والشكر كالزهرة لا ينبتها إلا الري والسقيا.
فإذا لم نعوِّد أبناءنا إجزال الشكر للآخرين، فكيف ننتظر منهم أن يشكرونا
نحن؟ !) .
ألقيتُ بالرواية جانباً سقطت من بين الكتب ورقة، كنت قد أهملتها أسابيع
عدة. عقد عمل أرسله لي صديق يعمل بالخارج. لم تعد هناك مقاومة أو حجة
لرفض هذا الصيد الثمين.
فرصةٌ لتحقيق بعض خططي المستقبلية، أقصد للهروب، والانسحاب من
هذا الواقع!
سافرتُ، ولم تسافر أفكاري، ظلت مرتبطة بالماضي، وآثاره وآلامه.
كنتُ على البعد تأتيني رسائل إخوتي، ولكن لم تزل الأحوال كما هي.
حتى جاء يوم كئيب، برسالة كئيبة، أحضر حالاً، والداك في حالة خطرة،
أثر حادث أليم.
حملتُ حقائبي، وعدتُ في أقرب رحلة.
رجعتُ وكلي أمل.
لكن.. فات الأوان، وجدت الجميع ينتظرني، إخوتي المساكين، أحاطوني
بالحب، فأحطتهم بالحنان.
شد عمي على يدي، أنت الآن رجل الأسرة، أخوك المدلل ماهر لا خير فيه،
بعد صلاة الجمعة سنذهب لزيارة قبر والديك! ؟ ؟
ما زال الإمام يصيح ويهدر.
ولم تزل أصوات الباعة، كل الباعة، تعلو، وتحاصر كلماته، وتصارع
صيحاته، لتظل حبيسة جدران المسجد.
سكت الصياح، وانتهت الصلاة.
خرجت مع الناس، بعد أن فتحت أبواب المسجد، أبواب كثيرة للمسجد،
ومشارب كثيرة للناس، سبحان من وفق وجمع!
على قبر أمي بكيتُ كثيراً.
بكيتُ الحنان الذي لا يعرف تفرقة، الدفء الذي يكفي الجميع، يكفي العالم.
بكيتُ صاحبة المحاولات التوفيقية، والمبادرات التصحيحية.
بكيتُ الود الذي لا يعرف قيداً، الأمل الذي انطفأ! النور الذي خبا!
بكيتُ الشمعة التي حاصرتها كتائب الضباب، فلم تقوَ على المقاومة.
على بعد خطوات يرقد أبي.
رجلاي لا تكادان تحملاني.
صورة إخوة يوسف عليه السلام تحاصرني، كلمات (الملك لير) تصم أذني
أردتُ أن أزور قبر والدي، فلم تطاوعني قدماي.
عذراً ... أبي، لقد تذكرت بعض ما علمتنيه:
(الرِّجْلُ تدب إلى ما تحب) .
أحس عمي بتثاقل قدميَّ
أخذ بيدي إلى قبر والدي
وهو يتلو قوله تعالى: [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً] (العنكبوت: 8) .
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط.(166/57)
مراجعات في السيرة والتاريخ
أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ
أ. د. جمال عبد الهادي
شاع في العصر المتأخر في كثير من محافل العلم والثقافة عدد من المغالطات
والأباطيل التي يراد من ورائها زحزحة المسلمين عن دينهم وحقهم، وتشويه العقائد
الخالصة لصد الناس عنها، هذه المغالطات تقدم بصورة يحسبها بعضهم علماً وما
هي كذلك؛ ولهذا يجب كشف مثل هذه المغالطات وإظهار ما يهدمها من حقائق،
ومن بين هذه الأخطاء:
1 - أن الدين من اختراع العقل البشري، وأن الإنسان من سلالة القردة،
وأنه لا إله، وأن الكون خُلِق من تلقاء نفسه.
هذه المقولات من الأباطيل الشائعة التي تمتلئ بها غالب المصادر والمراجع
التاريخية المقررة والمعتمدة في دور العلم الأجنبية والعربية؛ حيث يدعى أنه ليس
من إله خالق لهذا الكون، ولا ملائكة، ولا وحي ولا رسل، والكون خلق مصادفة،
والإنسان من سلالة الحيوان (القردة) التي تطورت عن الأحياء الدنيا التي نشأت
في البرك والمستنقعات على مدار ملايين السنين، وأن الإنسان القرد كان في بداية
نشأته محدود التفكير لا يتعدى تفكيره تفكير طفل صغير بلغ الخامسة من عمره،
ولم يكن يميز بين الجمادات والكائنات الحية، وأن الدين من اختراع العقل البشري،
وكذلك الزراعة واستئناس الحيوانات [1] .
وتزداد الأباطيل شناعة حينما يزعم أدولف ارمان في كتابه: (ديانة مصر
القديمة) الذي ترجمه أ. د. محمد أنور شكري، أ. د. محمد عبد المنعم أبو بكر،
أن الإنسان تعلم التدين من الحيوانات، ومنها تعلم لغة التخاطب، ومنها تعلم
الزواج وإنشاء الأسرة والدولة، والملفت للنظر أن المترجمَيْن وهما من أبناء
المسلمين لم يحاولا الرد أو التصحيح في ضوء التصور الإسلامي؛ على كل لقد
أفضوا إلى ما قدموا.
العجيب أن هذه الترهات وغيرها تدرس لبني الإنسان في جميع أقسام التاريخ
والآثار في العالم تحت مسميات: (تاريخ وحضارة الشرق الأدنى القديم، تاريخ
العصر الحجري، عصور ما قبل التاريخ، بلاد ما بين النهرين، مصر الفرعونية،
تاريخ الشام القديم، الجزيرة العربية قبل الإسلام، تاريخ اليونان، الرومان، إلى
غير ذلك) بوصفها مقررات دراسية دون فحص أو تمحيص؛ مع أن الرسول
صلى الله عليه وسلم علمنا أن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
والذين قاموا ويقومون بهذا التزوير لتاريخ العقائد والكون والإنسان وهم
المستشرقون ومن سار على نهجهم يهدفون من وراء ذلك إلى ما حذر الله سبحانه
وتعالى منه: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا]
(البقرة: 217) وذلك تمهيداً للسيطرة الاقتصادية والسياسية وغيرها على ثروات
الشعوب والأمم.
ماذا يترتب على ذلك التفسير اللاديني لتاريخ العقائد والكون والإنسان؟
إن كُتَّاب التاريخ الديني الذين تبنوا هذا التفسير اللاديني اعتماداً على الحدس
والتخمين، واستبعاداً للقرآن والسنة، حريصون وهم يتبنون ذلك التفسير على هدم
الإسلام بوصفه عقيدة ونظام حياة شاملاً: اقتصادياً، وسياسياً، وثقافياً، وتعليمياً
وجهادياً، وهو صالح لكل زمان ومكان، ومن ثَمَّ زعزعة ثقة بني الإنسان في رب
العالمين، والملائكة والكتب والرسل عليهم السلام؛ مع تشويه تاريخ الأمة المسلمة
باعتباره واقعاً تطبيقياً لذلك الدين وتزييفه وبعثرته حتى لا تهتدي الأمة إلى ذاتها
وغاياتها، منطلقين في ذلك من العداء للاتجاه الديني عامة والاتجاه الإسلامي على
وجه الخصوص.
ولقد ترتب على هذه المعتقدات الفاسدة قيام مقررات دراسية تتبنى هذه
التصورات: علم الاجتماع، علم النفس والدراسات النفسية، علم الاقتصاد، وعلى
هذه التصورات الفاسدة تقوم العلاقات الدولية وعلى سبيل المثال لا الحصر على
أساس أن بني الإنسان (الحيوانات) يعيشون في غابةٍ البقاءُ فيها للأقوى لا للأصلح؛
ولعل هذا يفسر المنطق السائد الآن وهو اغتصاب أوطان بأكملها وثروات، وإبادة
وتشريد لقطاع من بني الإنسان، بل واغتيال عقائد الأمم، إن هذا لا يثير حفيظة
أحد خاصة إذا كان المغتصَب هو الإنسان المسلم، وإذا كان الوطن المغتصَب هو
الوطن الإسلامي، والثروة المغتصبة هي الثروة التي ادخرها الله ببلاد المسلمين،
لماذا؟ لأننا تعلمنا أننا في غابة مليئة بالحيوانات لا ضابط لها من دين أو خلق،
والبقاء للأقوى، هذه هي المحصلة الثقافية التي تنشئها كتب التاريخ المزور في
أذهان النشء على امتداد العالم.
الشيء المؤسف والمحزن أن الذين قاموا بكتابة تاريخ الكون والعقائد والإنسان
يشغلون أعلى المناصب في الجامعات ومراكز البحث العلمي، والذين قاموا بترجمة
هذا الفكر الفاسد يحملون أعلى الدرجات العلمية، وهم الذين تحملوا تبعة تدريس
هذا الفكر التاريخي الفاسد في الجامعات العربية والإسلامية، والذين ينتسبون
إلى العروبة والإسلام لم يحاولوا إلا من رحم ربي أن يصححوا هذه الأخطاء.
إن من حق البشرية الضالة اليوم أن تحصل على صورة صحيحة لتاريخ
البشر على الأرض؛ ومن الإجرام في حقها تزوير ذلك التاريخ، وإعطاؤها
معلومات مضللة وخاصة في مجال العقيدة. ومن الأمانة العلمية أن يمتنع العلماء
وخاصة الذين يرسمون للناس صورة القرون الخوالي عن تقديم كتابات يعلمون أنها
غير صحيحة، كما أن من واجب القادرين إزالة أخطاء التاريخ وإزالة آثارها،
وتصحيحها التصحيح الواجب؛ لأنه ليس من مصلحة الإنسانية أن ترى الحياة كلها
من زاوية واحدة لا تكشف عن كل جوانبها، وأن تسودها فِكَر خاطئة عن ماضيها
وحاضرها، وأن تجهل الدوافع الكاملة لسيرها وتحركها، والقيم الإنسانية لحياتها
وحضارتها، وإن هذا الجهل لينشِئ أخطاء عميقة الأثر، لا في التصور والتفكير
فحسب، ولكن في علاقات الأمم بعضها ببعض، وفي علاقات الكتل الدولية بعضها
ببعض، كما ينشئ أخطاء بعيدة المدى في تكييف سياسة كل أمة وتوجيهها. هذه
الأخطاء ينشأ معظمها عن سوء دراسة التاريخ البشري، وسوء تقدير الدور الذي
قام به الإسلام الذي يمثله العالم الإسلامي، هذا العالم الذي يمثل وحدة إنسانية شاملة
لها خصائصها المستقلة، ويمثل قوة إنسانية ثابتة لا يؤثر ضعفها العسكري الطارئ
إلا تأثيراً عارضاً في وزنها الحقيقي.
وبعد: ما هو التصور الصحيح عن تاريخ العقائد وتاريخ الكون والإنسان،
وكلها غيب؟ وما ينبني عليها من تكاليف؟
إن لهذا الكون إلهاً خالقاً متصفاً بكل صفات الجلال والكمال، وإنه خالق كل
شيء: الكون والإنسان والملائكة والجن، وإليه يؤول مصير هذا الكون، وإن آدم
هو أبو البشر خلقه الله وسواه على هذا النحو البديع، ورضي له الإسلام ديناً،
واستخلفه في الأرض لمهمة وغاية وهي العبادة بمفهومها الشامل [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ
وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) ، وأخذ عليه العهد والميثاق أن يخضع
حياته لمنهاجه وشريعته. يقول الله تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ
القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] (الأعراف: 172) .
كما إنه سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان هملاً، وإنما تعهده بالأنبياء والرسل
يعرِّفونه بربه الحق ودين الحق (الإسلام) والسلوك الحق ( [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] (النحل: 36) .
2 - لم يعرف الإنسان والكون الإسلام قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم:
وهذه أيضاً من الأخطاء الشائعة في مصادر ومراجع التاريخ المعتمدة في كثير
من دور العلم؛ إذ يُدّعى أن التاريخ الإسلامي يبدأ ببعثة رسول الله محمد صلى الله
عليه وسلم، وأن ما قبله عبارة عن تاريخ وثني جاهلي محض لا أثر فيه للإسلام؛
أي تجاهل الكون المسلم وتجاهل الرسالات السماوية التي حملها رسل الله عبر
التاريخ.. فبعض المستشرقين يثيرون أن ما يسمى ب (العرب البائدة) ومنهم
عاد وثمود على سبيل المثال ليس من التاريخ الحقيقي في شيء إنما هو جزء
من (الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري) الذي يسبق عادة التاريخ
الحقيقي لكل أمة؛ كما قد زعم طه حسين أن: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم
وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذه الأسماء في التوراة
والقرآن لا يكفي لإثبات وجودها التاريخي» . وهذا غير صحيح؛ لأن نبيي الله
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا مسلمين وحمل الأول رسالة الإسلام إلى أهل
العراق وأرض الشام وأرض مصر وأرض الحجاز: [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ] (البقرة: 128) .
والحقيقة التي لا مراء فيها أيضاً أن التاريخ الإسلامي يرتبط بخلق الكون
والمخلوقات وكل ما فيه ما عدا الثقلين مستسلم طائع لله رب العالمين. يقول الله
تعالى: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً] (الإسراء: 44) .
وفي الحديث: أن نملة قرصت نبياً من أنبياء بني إسرائيل، فأمر بقرية
النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: «أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم
تسبح الله؟ !» [2] .
وثبت في صحيح البخاري عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال: «كنا
نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل» [3] .
وأن النبي يحدثنا: «إني أعرف حجراً بمكة كان يُسلم عليَّ قبل أن أبعث
وإني لأعرفه الآن» [4] .
فالكون مسلم وكله مسجد كبير تتجاوب جنباته بالتسبيح والتعظيم والتمجيد
للأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. هذه هي الصورة الحقيقية
للكون لا كما يراها المزيفون.. إن الإسلام أصيل أصالة هذا الوجود الذي خلقه رب
العالمين.
التاريخ الإسلامي يرتبط بآدم وزوجه عليهما السلام وبنيه الذين شكلوا نواة
أول مجتمع إسلامي على سطح الأرض، وبعشرة قرون على الإسلام بين آدم
ونوح، عليهما السلام.
ويرتبط أيضاً بدعوة الأنبياء والرسل المسلمين إلى دين الإسلام الذي لا يقبل
الله من الأولين أو الآخرين غيره، بداية بآدم ونوح عليهما السلام أول رسل الله إلى
أهل الأرض، ونهاية بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
فالرسالات تتعدد والدين واحد وهو الإسلام وإن كان لكل نبي شريعته كما
يقول الله تعالى: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) .
يقول الله تعالى: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ
مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (البقرة: 136)
ويقول محمد صلى الله عليه وسلم: «إنَّا معاشر الأنبياء ديننا واحد» [5] .
والتاريخ الإسلامي مرتبط بدين الإسلام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين
غيره. يقول رب العالمين: [إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ] (آل عمران: 19)
[وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] (آل
عمران: 85) .
والإسلام هو الدين الذي كان يتنزل به الوحي من السماء على جميع الأنبياء
والمرسلين. يقول الله تعالى: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (البقرة: 136) .
وجميع الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم
ويعقوب (إسرائيل) وعيسى قد دعوا إلى دين واحد هو الإسلام، تتعدد الرسالات،
والدين واحد، وإن اختلفت الشرائع. يقول الله تعالى: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) . يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: [وَمَن
يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ] (البقرة: 130) .
ويعقوب عليه السلام (إسرائيل) : [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ
إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (البقرة: 133) .
وسليمان عليه السلام: [إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ
تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ] (النمل: 30-31) . وعيسى عليه السلام: [فَلَمَّا
أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *] (آل عمران: 52-53) . ويقول الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم: «إن الدين عند الله الحنيفية المسلمة» [6] .
ومن هنا كان توجيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته نحو الإسلام:
«أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» [7] ، و: «لا يجتمع دينان في جزيرة
العرب» [8] .
3 - اليهود ورثة فلسطين عن أبيهم وجدهم إبراهيم عليه السلام:
ومن الأخطاء الشائعة في مصادر ومراجع التاريخ القديم والآثار المعتمدة في
أقسام الآثار والتاريخ أيضاً، إسقاط سيرة إبراهيم عليه السلام من تاريخ العراق
القديم (دولة أور الثالثة) على اعتبار أنه غير حقيقي، وبعض المصادر التي تعالج
سيرته تزعم أنه كان يدين باليهودية، وأن اليهود هم شعب الله المختار، وأن الله قد
وعدهم أرض فلسطين بحدود من النيل إلى الفرات بعد إخراج الكنعانيين
(العرب) منها.
واستناداً إلى هذا الوعد المفترى، اغتصب اليهود فلسطين بيت المقدس على
اعتبار أنهم ورثة هذا النبي الكريم إبراهيم عليه السلام في زعمهم بعد أن أبادوا
وشردوا شعب فلسطين، ويعملون بجد واهتمام لاستكمال اغتصاب ما تبقى من
الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، واستطاعوا بتزويرهم للحقائق التاريخية أن
ينتزعوا اعتراف المجتمع الدولي.
وقد كشفت لنا المصادر الإسلامية هذا التزييف والتزوير الذي أوقعه
المستشرقون ومن سار على نهجهم بتاريخ إبراهيم عليه السلام وتاريخ الوعد
الرباني له، وتاريخ الأرض التي بارك الله فيها للعالمين.
القرآن الكريم يؤكد أن دين إبراهيم عليه السلام هو الإسلام: يقول رب
العالمين: [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ *
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ] (البقرة: 130-132) .
وينفي رب العالمين عن إبراهيم اليهودية والنصرانية: [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ]
(آل عمران: 67) .
ويؤكد رب العالمين أن أبناء إبراهيم هم المسلمون وليسوا اليهود، ويسجل
القرآن الكريم دعاء إبراهيم عليه السلام: [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]
(البقرة: 128) . ويسجل أيضاً: [إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ] (آل عمران: 68) ، [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]
(المائدة: 55) .
واليهود ليسوا كذلك؛ لأنهم كفروا بالله والرسالات، وانتهكوا الحرمات،
واستحلوا الدماء والأعراض والأموال، والكافر لا يرث مسلماً، وتتضح هنا الحقيقة
الشرعية والتاريخية في رد الله تعالى على إبراهيم عليه السلام حينما أكرمه الله
بإمامة المسلمين؛ فطلب من الله أن تكون الإمامة في عقبه من بعده، وجاء الرد:
[قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] (البقرة: 124) . فكل من كان ظالماً، لم يكن
نبياً ولا خليفة، ولا حاكماً ولا مفتياً، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن
صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام. واليهود ظلمة، ومن ثم فلا حق
لهم في وراثة إبراهيم عليه السلام.
ويؤكد ذلك قول الله تعالى: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105) .
نخلص من العرض السابق إلى الحقائق الآتية الغائبة عن مصادر ومراجع
التاريخ القديم: ومن ذلك:
إبراهيم عليه السلام رسول مسلم وإلى الإسلام كان يدعو، وأن أتباعه وذريته
هم المسلمون، وليسوا اليهود.
إن أوْلى الناس بإبراهيم في وراثة فلسطين (المسجد الأقصى) ، وأوْلى
الناس بالإمامة من بعده هم المسلمون وليسوا اليهود، وليسوا ممن يدينون بغير
الإسلام مهما كانت جنسياتهم.
إن اليهود مغتصبون لأرض الرسالات فلسطين والأقصى، مهما زوَّروا
في حقائق التاريخ، ومهما حازوا من دعم المجرمين، ومهما نالوا من
موافقات المنظمات الدولية والدول غير الإسلامية، ومهما حازوا من تنازلات من
أصحاب الحق في بيت المقدس.
المراجع:
1 - الإسلام دين الله في الأرض وفي السماء (مدخل إلى الدراسات التاريخية)
د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار الوفاء للطباعة والنشر
بالمنصورة.
2 - تاريخ الأمة المسلمة الواحدة منذ أقدم عصورها وحتى القرن السابع قبل
الهجرة، د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار الوفاء للطباعة والنشر
بالمنصورة.
3 - دائرة المعارف الإسلامية، ج 15 ص: 452 454.
4 - في الشعر الجاهلي، طه حسين، القاهرة 192.
5 - الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، أ. د: محمد محمد حسين،
دار النهضة العربية، بيروت 1392هـ/ 1972م، صفحة 299.
6 - سلسلة أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ: جزيرة العرب، ج 1،
سيرة إبراهيم وإسماعيل وهاجر عليهم السلام، وتاريخ حرم الله الآمن، د. جمال
عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار الوفاء.
7 - جزيرة العرب، ج 2، سيرة هود وصالح وشعيب عليهم السلام،
المؤلف نفسه ودار النشر.
8 - ذرية إبراهيم والمسجد الأقصى، المؤلف، ودار النشر السابقين.
9 - الطريق إلى بيت المقدس، ثلاثة أجزاء في مجلد واحد، دار التوزيع
والنشر الإسلامية، القاهرة.
10 - ليس لليهود حق في فلسطين، دار النشر السابقة.
11 - هذه قضيتك يا ولدي: القدس إسلامية (للبراعم المسلمة) دار النشر
السابقة.
__________
(1) تاريخ العالم، إعداد ج أهامرتن، معالم تاريخ الإنسانية إعداد هـ، ج ولز، موسوعة تاريخ العالم، أشرف على إعدادها لانجر؛ قصة الحضارة ول ديورانت؛ الموسوعة الأثرية العالمية ل كوتريل، حضارة مصر والشرق القديم، أد محمد أنور شكري وآخرون.
(2) رواه البخاري، ح/ 3319.
(3) رواه البخاري، ح/ 3314.
(4) صحيح مسلم، ح/ 4222.
(5) رواه البخاري، ح/ 3443، بلفظ: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» .
(6) رواه أحمد، ح/ 2108، ولفظه: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الأديان أحب إلى الله، قال: الحنيفية السمحة» من حديث ابن عباس.
(7) مسند أحمد، ح/ 14189، بلفظ آخر.
(8) موطأ مالك، ح/ 1388.(166/59)
المسلمون والعالم
الإسلاميون.. وساعة الحقيقة
عبد العزيز كامل
الإسلاميون هم - بعد الله عز وجل - الأمل الباقي لهذه الأمة، وبالرغم من
كل هوانهم واستضعافهم وتفرق كلمتهم، فالأمل معقود على توحد كلمتهم وتبدل
ضعفهم وذهاب هوانهم.
* فماذا بعد أن سقطت كل أقنعة الرايات والزعامات والمناهج والبرامج
العلمانية الجاهلية الكذَّابة؟ ماذا بعد أن ظهر لآحاد الناس أنهم لم يفلحوا في السلم
بعد الحرب، وأصبحوا يتكففون الحماية من النصارى على اليهود؟ ماذا بعد أن بان
أنهم باعوا الدين ولم يكسبوا الدنيا، فأفسدوا على الناس دينهم ودنياهم..؟ !
* ماذا بعد أن هتكوا كرامة خير الأمم أمام إذلال أذل الأمم؟ ! وماذا بعد أن
ظهر أن ثورانهم لم يكن إلا على شعوبهم، وهياجهم وهمجيتهم لم تنل إلا من أحرار
أمتهم، وطغيانهم وكبرياءهم لم يتألق ويتأنق فعلاً وقولاً إلا على محاولات الإصلاح
التي تواصوا على وأدها أولاً بأول لصالح الأعداء والألدَّاء؟
* ماذا بعد أن كشفت أحداث الأشهر الأخيرة أن القوم دون مستوى المسؤولية
ودون مستوى الكلمة، ودون مستوى الشبهات في الملمات؛ حتى إنهم لهم يثلجوا
صدر الأمة بموقف سياسي ولا عسكري ولا اقتصادي فاعل لنصرة شعب ينكِّل
اليهود المجرمون بهم أمام العالم على الهواء؛ ومع ذلك فلا سفارات أغلقت، ولا
جيوش تأهبت، ولا شعوب أُعدت، بل ولا سماح بفتح أبواب الإعانة الجادة من
الشعوب الغاضبة للوقوف مع إخوانهم المجاهدين المخلصين الذائدين وحدهم عن
الحرمات والمقدسات؟
* ماذا بعد أن ظهر أننا نحن الإسلاميين كنا ولا نزال أشد الناس عداوة عند
العلمانيين من اليهود والذين أشركوا، حتى إن ما أضير به الإسلاميون على مدى
الخمسين عاماً الماضية قتلاً وأسراً وتشريداً وتهديداً لم ينل اليهود والكفار ربع
مقداره، بل ولا عُشر معشاره؟
* ماذا بعد أن ظهر للناس جميعاً أن أعداءنا يحاربوننا بالدين وللدين، وفي
أكثر بلادنا يحارب الدين وأصحاب الدين؟ ماذا بعد أن تبين أن التوراة والتلمود
تحكمان مجتمع اليهود، بينما القرآن والسنة محجوبان محجوزان عن التحكيم في
غالب بلاد المسلمين؟
* ماذا بعد أن تبين أن اليهود قد قطعوا من الشوط أطوله في الوصول إلى
أمانيهم الدينية، ومخططاتهم التلمودية وبرامجهم السياسية والاقتصادية أمام أعيننا،
دون أن يعوِّق المعوَّقون فكرياً من زعمائنا خلال ما مضى شيئاً من برنامج
سيطرتهم الكاملة الشاملة على الأرض المقدسة وما حولها، حتى إنهم أي اليهود
أقاموا الدولة (إسرائيل) واتخذوا العاصمة (القدس) وها هم يهمون بإعادة بناء
قبلتهم المنسوخة (الهيكل الثالث) مكان قبلة المسلمين الأولى بعد أن وضعوا مؤخراً
حجر الأساس لهيكلهم المزعوم؟
* ماذا بعد أن ظهر أن واقع دولة اليهود قد بلغ من الجبروت حداً جعل
(الجماعة) يُجمعون، في كل لقاءاتهم ومؤتمراتهم على أن السلام هو الخيار
(الوحيد) ؛ إذ إن الحرب كلمة قد عفى عليها الزمان عندهم بعد عقود من
(سلام الشجعان) ؛ فالأمة العربية كما عوَّدونا ليست مستعدة للحرب، ولن تستعد
للحرب، ولن تُستدرَج إلى حرب مهما كان إلا....! إذا كانت تلك الحرب حرباً
عربية عربية!
* ماذا بعد أن فوجئوا بأن (الصديق) الأمريكي، قد ألقى في وجوههم قناع
السلام والوئام والابتسام، وأظهر ملامح التحرش وأنياب النهش والانتقام؟ ! وماذا
بعد أن اكتشفنا نحن الشعوب أن ذلك (الصديق) اللدود، قد انتهى منذ زمن بعيد
من تجنيد أكثر من زعيم من (الملهمين التاريخيين) لخدمة اليهود وحماية اليهود
وإعادة مجد اليهود؟ !
* ماذا بعد أن تبين أن (العالم الحر) صار عبداً لليهود ينصرهم في المحافل
الدولية، ويطوِّع لهم (الشرعية الدولية) ويتستر على إلغاء وليس انتهاك اليهود
لحقوق الإنسان الفلسطيني، في أن يعيش آمناً على نفسه أو يسكن في أرضه، أو
يدافع عن عرضه، أو يحمي أطفاله وحقوقه وحقوله.... . ولو بالحجارة؟ !
مَنْ لهذه التحديات؟
بداءة نقول: إن هذه التحديات العظمى لن تزول بنفسها، ولن تذوب بذاتها؛
بل إن حكمة الله تعالى تأبى أن تتعطل سُنة الأسباب لمجرد أن المسلمين مسلمون،
والكافرين كافرون: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ]
(محمد: 4) ، وفي الوقت نفسه، فإن الله تعالى خالق الأسباب ومسبباتها يشترط
علينا لكي يسخِّر لنا الأسباب أن نسخر له أنفسنا، ونعبِّدها له متبعين لرضوانه،
مبتعدين عن كل ما لا يليق بأولياء يطلبون النصرة وضعفاء يستنزلون التأييد؛
وعندها أي عند اتباع رضوان الله فلا علينا لو اجتمع علينا من بأقطارها [الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ
ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] (آل عمران: 173-174) نعم [وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ]
(آل عمران: 174) نعم [وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]
(آل عمران: 174) .
فَمَنِ المخاطَبُ بتلك الآيات؟ ! أهم اللادينيون العلمانيون؟ أهم اللهاة
اللاعبون؟ أهم الطغاة الظالمون؟ ! أهم السكارى والحيارى والعرايا وبقية أصحاب
البلايا؟ أهم الهائمون في الطرقات أو المنغمسون في الشهوات؟ !
ليسوا هؤلاء، وإن كانوا عن التوبة غير محجوزين، ولكن الخطاب يستهدف
قلوب المخبتين، ويستشرف وجوه وعيون الوعاة الهداة المستمسكين بالدين، ولو
كانوا في غفلة أو مشغلة صارفة، أو في فرقه أو خصومات عارضة؛ فأولئك
الأولياء الذين يخوفهم الشيطان بالأعداء، فمن يكون أولئكم إلا أنتم أيها
الإسلاميون؟ !
هل نحن منتبهون؟
إن الأحداث في العالم بعامة، وفي المناطق العربية والإسلامية بخاصة تشي
بأن الإسلاميين قد وُضعوا، من حيث يدرون أو لا يدرون، ومن حيث يريدون أو
لا يريدون، في وسط أتون الصراع الدائر في أكثر بقاع العالم؛ فما من منطقة
توتر في الدنيا منذ انتهاء الحرب الباردة إلا وُضع الإسلاميون طرفاً أساسياً في
النزاع فيها؛ فمن أفغانستان إلى السودان، ومن البوسنة إلى كوسوفا، ومن كشمير
إلى فلسطين، ومن الشيشان إلى ألبانيا، ومن الصومال إلى مقدونيا إلى إريتريا إلى
بورما إلى غير ذلك من البقاع والبلدان التي يجد فيها الإسلاميون أنفسهم في صدر
الأحداث وفي صفها الأول، فإذا أضفنا إلى ذلك الصراعات الداخلية التي استُجر
الإسلاميون إليها في أكثر الأحيان مع الأنظمة اللادينية واللاأخلاقية، لوجدنا أن
الغالبية العظمى من المتدينين في العالم الإسلامي، قد حُشروا حشراً في معارك مع
أولياء الشيطان قبل الأوان. ولكن العجيب في كل ذلك، أن الإسلاميين كانوا دائماً
أو غالباً غير قادرين على تقدير قوة أعدائهم ولا تقدير قوة أنفسهم! حيث إن قوتهم
تفوق أضعاف قوة أعدائهم لو وُجد الوفاق والاتفاق والتناصر والتناصح، ووجد
الأخذ بقوانين القوة وأسباب التمكين وعوامله؛ فقد وعد الله به عباده ولو كانوا
مستضعفين [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
(النور: 55)
هل نحن مستعدون؟
نعم! هل نحن مستعدون لليوم الذي سنجد أنفسنا فيه وجهاً لوجه مع اليهود،
كما سبق للأفغان أن وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الروس، وللبوسنيين والألبان
عندما وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الصرب، وللباكستانيين والكشميريين عندما
وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الهندوس، وللإسلاميين في العديد من الدول العلمانية
عندما وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الرافضين المحاربين للدين من المتسمين بأسماء
المسلمين؟
والسؤال عن الاستعداد هنا ليس سؤالاً عن الاستعداد بالسلاح والعتاد؛ فهذا
أمر له ظرفه وطبيعته، ولكن السؤال عن الاستعداد بحيازة أسلحة النصر الربانية؟ !
بمعنى آخر: هل الإسلاميون وهم جزء من الأمة على حال تستحق نصر الله..؟ !
هل لنا من أفعالنا وأقوالنا وأحوالنا ما نستنزل به رحمات الله وتأييده الذي يؤيد
به أولياءه؟ !
أم أننا ما زلنا نحتفظ كبقية الأمة بحقوق الفشل، وعلى رأسها التنازع والتدابر
والتنافر؟
هل نحن جادون؟
مهما بلغت بلاغة المتحدثين عن أسباب ضعفنا وهواننا وقلة حيلتنا وطول
عجزنا أمام الأعداء، فلن تصل إلى الوصف الجامع البليغ في القرآن حيث حذرنا
الله فقال: [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 46) .
إنه التنازع، ومعناه: حرص كل طرف على نزع ما بيد الآخر، حرصه
على نزع ما بيده من قوة، من حجة، من جاه، من احترام، من فاعلية في التأثير،
من قدرة على النجاح، من انتظام في العمل!
ماذا يبقى بأيدي الإسلاميين عندما ينزع بعضهم عن بعض أسباب القوة
والاحترام؟ ! لن يبقى إلا الفشل.. ثم الفشل ثم الفشل! حيث يكون هذا الفشل هو
الإنجاز الأكبر، وعندها فما على أصحاب هذا (الإنتاج) إلا أن يتقاسموه فيما بينهم،
فهو ثمرة طبيعية لبذرة صناعية تصنعها أيدي الغافلين، بتزيين من الشياطين
[أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلاَ
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] (فاطر: 8) .
إن الأصل أن يضيف بعضنا ما صنع من خير ولو قليلاً إلى جانب ما صنع
إخوانه، لا أن ينزع بعضنا من الآخرين ما أنجزوه ليلقي به في تُرَعِ الضياع
والضعف والضعة التي تصب جميعاً في نهر يحيا به الأعداء.
ومع ذلك:
ومع كل ذلك؛ فالإسلاميون هم أولياء الله على الرغم مما يسرق الشيطان من
كمال ولايتهم، فلا نعرف لله ولياً إن لم يكن أولياؤه هم عُمَّارَ المساجد، ومقيمي
الصلوات، والباذلين للجود، والداعين إلى التوحيد، والمعلمين الخير للناس.
ولكن أولياء الله بشر ممن خلق، يضعفون ويقوون، ويجتمعون ويتفرقون،
ويطيعون ويعصون، ولذلك فهم يُنصَرون ويُهزمون، ويَعِزُّون ويذلون، بمقدار ما
أخذوه من أسباب الولاية وأركان الهداية، وعوامل النصرة وموجبات العزة، ولا بد
لنا أن نقيس قدر ولايتنا بما يتحقق فينا من ثمرات الولاية، وأهم ثمرات الولاية
الحقة أن يكون الله تعالى وليَّنا في الدنيا قبل الآخرة؛ فقد قال الله تعالى للذين قالوا
ربنا الله ثم استقاموا: [نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]
(فصلت: 31) .
الولاية والنصرة:
من أخص صفات أولياء الله أنهم يوالون من والى الله، ولا يتورطون في
أدنى أسباب الولاية لأعداء الله: قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ] (الممتحنة: 1) .
وعلى عكس فعل أهل الإيمان يبذل أهل النفاق النصرة للأعداء، ويمنعونها
عن الأولياء [الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ
فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً] (النساء: 139) .
ونحن الإسلاميين بحاجة إلى أن نسأل أنفسنا بصدق:
- هل نحقق شرط الولاية الحقة الدافعة للخوف والحزن بتحقيق
معنى الربوبية لله والاستقامة على دينه كما هو مذكور في الآية: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] (فصلت: 30) . وهل نستشعر تنزُّل الملائكة لرفع
الخوف والحزن عنا: [تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]
(فصلت: 30) ؟ ؟ !
سؤال تجيب عنه أحوالنا!
- هل يوالي بعضنا بعضاً، وينصر بعضنا بعضاً حتى يوالينا الله وينصرنا
على أعدائنا؟ !
سؤال يجيب عنه واقعنا:
- هل نعادي الأعداء حقاً، ونطيع أمر الله بالإعداد والاستعداد لهم؟ !
سؤال يجيب عنه أعداؤنا:
- هل نؤدي واجب النصرة لإخواننا ضد أعدائهم وأعدائنا بما يرفع الكرب
عنهم والإثم عنا؟ !
سؤال يجيب عنه إخواننا:
- وقبل كل ذلك: هل نصرنا الله حتى ينصرنا؟
سؤال سيعاد علينا يوم بعثنا:
إن هذه السؤالات وغيرها ستظل تتهاوش في فضاء واقعنا المؤلم، حتى نضع
لها إجابات بالعمل قبل القول، وبالحركة مع التنظير، وبالاتقان المقترن بالنية؛
فالتحديات التي تواجه الإسلاميين اليوم وقبل اليوم، وفي الغد وبعد الغد، تفرض
عليهم أن يكونوا على مستوى المرحلة، وعلى مستوى المسؤولية، وعلى مستوى
الأمانة.
الإسلاميون والرجولة:
لن نناشد في الإسلاميين اليوم إلا الرجولة؛ فلنكن رجالاً وإلاَّ فلن نكون شيئاً
مذكوراً، ولنكن رجالاً كما أراد الله؛ فالله أرادنا رجالاً في العبودية له، وأرادنا
رجالاً في الانتصار لدينه [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ
فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ] (النور: 36-37) ، [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]
(الأحزاب: 23) .
إن واقعنا اليوم، وفي هذه المرحلة بالذات لا يحتاج منا إلا أن نكون رجالاً؛
بل يحتاج أن يكون نساؤنا وأطفالنا كالرجال في الثبات والعطاء والفداء.
- ومن الرجولة أن نكون نحن الإسلاميين أفراداً وجماعات كالبنيان
المرصوص كما يحب الله؛ فأين رصنا؟ بل أين بنياننا.. أين الذلة على المؤمنين
مع العزة على الكافرين..؟ أين فريضة التعاون على البر والتقوى؟ ! أين سجية
التراحم والتناصح والتسامح؟ ! أين إخباتنا وخشوعنا وضراعتنا إلى الله ومجافاة
الهجوع بالدعاء والرجاء؟
- أين دعمنا للصامدين الصابرين الذين يدافعون نيابة عنا، ويخففون الإثم
عن كواهلنا، ويدفعون الشر عن أبوابنا؟ !
أين وأين؟ !
- أين برامجنا في أحوال السلامة لمواجهة أيام الخطر؟ أين جهدنا في بلدان
الرفاه والأمان لدفع الجوع والخوف عمن ابتلاهم الله وعافانا، وقَدَر عليهم رزقهم
وأعطانا، واختبرنا معهم واستحفظنا أرضنا وديارنا وقدسنا وأقصانا؟ !
- هل نحدث أنفسنا بالغزو حتى لا نموت على شعبة من النفاق؟ أم تحدثنا
هي بدلاً من الغزوات بالنزوات والشهوات واللذائذ والغرائز؟
- أين جهاد الروح وروح الجهاد والاستشهاد في ذواتنا وذرياتنا؟ أين نماذج
الفداء والعطاء في زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا عند مجيء الجد أو نزول الخطب؟ !
- نتساءل وحق لنا أن نتساءل: ألسنا مكلفين قبل سائر المكلفين بحمل أعباء
هذا الدين، وحماية جنابه من شرور الأعداء الظالمين؟
أعداؤنا استعدوا بالدين الباطل لنا، فهل استعددنا بالدين الحق لهم..؟ !
أعداؤنا يطرقون أبوابنا وبأيديهم توراة وإنجيل محرفان؛ فهل أوصدنا تلك الأبواب،
وصددنا ذلكم الطغيان وبأيدينا السُّنَّة والقرآن؟ !
متى نتصارح.. متى نتصالح؟
* يقولون: ما لك تنكأ جراح أمة مثخنة تحتاج إلى الضماد والدواء قبل الكلام
عن الأمراض والأدواء؟ !
أقول: نعم! الأمة جريحة، ولكن أخشى أن نكون أخطر جراحها، ولو
صلحنا لأصلح الله حالها بنا، ولأنزل النصر عليها إكراماً لسعينا وعملنا وجهادنا،
ولغيَّر ما بها وبنا بتغييرنا لأنفسنا.
* سيقولون: لسنا نحن سبب الهزيمة والعار الذي حاق بالأمة؛ إذ ليس لنا
من الأمر شيء! ! أقول: وما الذي جعلنا في موقع من ليس له من الأمر شيء
طيلة هذه العقود، إلاَّ أننا على مختلف مستوياتنا لا نريد الخروج من هذا الشيء،
ونستمرئ أن نظل هكذا بتشرذمنا وتشعثنا واستنكاف بعضنا عن إجابة دعوة الله لنا
جميعاً [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً] (آل عمران: 103) يا الله ماذا لو
اعتصمنا بحبل الله (جميعاً) ماذا يكون حالنا؟ ! إننا سنكون كل شيء ولن يقف
أمام اعتصامنا بالله أي شيء.
* سيقولون: كيف تطالب الإسلاميين بأن يكونوا على مستوى المعركة
المصيرية مع الأمة الغضبية، ونحن لم نفلح في كسب معركة واحدة فاصلة ضد
العلمانية العربية؟ ! والجواب: لو نجحنا في هذه، لنجحنا في تلك، وأسباب
الإخفاق هنا، هي أسباب الإخفاق هنالك، تنازعنا وفشلنا أمام العلمانيين، وتنازع
العلمانيون ففشلوا أمام اليهود، وأخشى أن يظل التنازع سيد الموقف، حتى نغدو
عبيداً لأذل العبيد، والفضل عندها يعود للتنازع!
إننا نتنازع ونتنازع حتى في أسباب التنازع ونتائج التنازع، وأسباب وعلاج
التنازع، فعندما نفشل، أو تذهب ريحنا، يرمي بعضنا بعضاً بتبعة الهزيمة والفشل
على الآخرين! !
يا عزيزي! كلنا مهزومون..! وإلى إشعار آخر.. كلنا مغلوبون، فلِمَ
التعالي فيما بيننا؟ ولِمَ التعامي عن أحوالنا، ولِمَ يظن بعضنا أنه الوحيد المعصوم
عن أسباب الهزائم؟ ! صحيح أن الأمة مهزومة ولكننا طليعتها وخلاصتها وإن كنا
بعد الله أملها ورجاءها.
نصر الله قريب ... ولكن!
كنت أريد ألا أستدرك بـ (لكن) ولكن: نحن أمام مسؤوليات جسام تستدعي
تجييش أمة، وإعداد شعوب، وترتيب طاقات وحشد إمكانات، نحن أمام عدو عادٍ
وعاتٍ متجبر مزود بأحدث وأخطر سلاح، ومدعوم من أخبث وأطغى القوى،
ومجهز بأمكر وأكبر الخطط، والذين ولاَّهم الله أمر أمتنا المبتلاة يعلمون ذلك
ولكنهم لا يعملون، والظاهر أن جعبتهم ما تزال ملأى بالمزيد من التفريط في حق
الأمة، والتوريط لها في مزيد من المحن والنكبات..
ولا أمل بعد الله كما بدأت القول إلا في قيادة اعتبارية للأمة الإسلامية، من
علمائها ودعاتها، وعامليها ومجاهديها، تكون بديلة للقيادات الشوهاء الرعناء على
المدى القريب والبعيد، وهذا لن يكون إلا بأن يصبح الإسلاميون على مستوى رضا
الله، فيحوزوا رضا الناس، ويستعيدوا احترامهم، فيسلموا لهم القيادة الاعتبارية
في أوقات التحدي، كما هو حادث الآن في فلسطين، وما أكثر ما تعلِّمُنا فلسطين!
إنني أتصور أن الأحداث في المنطقة قد دخلت منطقة اللاعودة، أما عودتنا نحن،
فقد دخلت منطقة اللاتراجع وإلا [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
لنغتنم اللحظة ... ولننتهز الفرصة.. ولنوحد صفوفنا أمام التحديات والمحن؛
فتلك فريضة الوقت ... ولنطهر قلوبنا من البغضاء والشحناء والإحن؛ فتلك أمانة
المرحلة ... ولننظر بعين المسؤولية إلى خطورة الواقع؛ فتلك رسالة الساعة،
ورسالتنا بوصفنا مصلحين في الأمة، لن يؤديها غيرنا، مهما تمنينا على الله
الأماني.
إن هناك الكثير مما يقال لتسويغ واقع الحال، أو التملص من تبعته، حتى
من بعض الإسلاميين؛ فهناك حجج وطروحات جعلت منا نحن الإسلاميين كغيرنا
من بقية الناس سبباً لاستهانة الأعداء بالأمة، ولكن ذلك حديث يطول.
فإلى بقية في لقاء آخر بإذن الله(166/66)
المسلمون والعالم
تقرير ميتشيل: دعوة لإجهاض انتفاضة الأقصى
(1 - 2)
د. سامي محمد صالح الدلال
قبل أن ندخل في تفاصيل مناقشة تقرير ميتشيل لا بد أن نقرر القواعد
والثوابت العشر التي ننطلق منها ونتحاكم إليها خلال المناقشة؛ وذلك من وجهة
نظرنا التي نرى أنها مطابقة للحق وملتزمة بالحقيقة، ونلخصها على الوجه الآتي:
1 - فلسطين كلها، من النهر إلى البحر، هي ملك للمسلمين.
2 - الأراضي الفلسطينية التي أقام عليها اليهود كيانهم بعد عام 1948م،
والأراضي التي احتلوها عام 1967م، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة، هي
أراض محتلة مغتصبة عنوة باستخدام القوة العسكرية.
3 - إن الكيان اليهودي الحالي في فلسطين يستمد قوته من وعود تلمودية
ودعم صهيوني عالمي ومن النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة إضافة إلى قواه
الذاتية العسكرية والمؤسسية.
4 - إن الكيان اليهودي ضرب بجميع القرارات والمواثيق الدولية التي هي
لصالح الشعب الفلسطيني عرض الحائط.
5 - منذ بدء الاحتلال عام 1948م، ولغاية هذه اللحظة فإن أساليب تثبيته
لاحتلاله اتسمت بأعلى درجات الوحشية والقمع والإرهاب.
6 - إن الشعب الفلسطيني يتمتع بالحق المطلق في استخدام كافة الوسائل
التي تساعده على الدفاع عن نفسه ومقاومة الاحتلال وتحرير أراضيه المغتصبة.
7 - إن مسؤولية تحرير فلسطين لا تقع على الشعب الفلسطيني وحده، بل
هي مناطة بالمسلمين جميعهم، وإن الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي المفرِّطة في
هذه الأمانة تضطلع بالوزر الأعظم.
8 - الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وإن الانتفاضات المتتالية
للشعب الفلسطيني هي وجه من وجوهه، يتحتم على جميع المسلمين دعمها بكافة
الوسائل المادية والمعنوية.
9 - كل من يقف مع الكيان اليهودي ويدعم وجوده هو عدو تجب معاداته.
10 - إقامة الدولة الإسلامية الحاكمة بشرع الله تعالى على أرض فلسطين
كلها، وإرجاع اليهود إلى حيث أتوا، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم،
وتعويض جميع الفلسطينيين المتضررين، هدف أساس ومطلب ملح لا يملك أحد
التنازل عنه أو المناداة بسواه.
تلك هي الثوابت العشر في الصراع مع الكيان اليهودي الصهيوني وهو
صراع عقدي في لحمته وسداه.
ما هو تقرير ميتشيل؟
في السابع عشر من تشرين أول (أكتوبر) عام 2000م، اختتم مؤتمر
الشرق الأوسط للسلام أعماله في شرم الشيخ مصر حيث كان المشاركون جميعاً
على مستوى الزعماء لكل من السلطة الفلسطينية، ومصر، والأردن، والولايات
المتحدة الأمريكية، والكيان اليهودي، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي. وفي
هذا المؤتمر قال الرئيس الأمريكي: «إن الولايات المتحدة سوف تطور مع
الإسرائيليين والفلسطينيين، وبالتشاور مع الأمين العام للأمم المتحدة لجنة لتقصي
الحقائق أطلق عليها اسم:» لجنة شرم الشيخ لتقصي الحقائق «.
وفي السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2000م طلب الرئيس الأمريكي
بعد التشاور مع باقي المشاركين من الأعضاء أن ينخرطوا في لجنة تقصي
الحقائق [1] .
وفي السادس من كانون أول (ديسمبر) عام 2000م وجه الرئيس الأمريكي
رسالة إلى لجنة تقصي الحقائق إبان انعقادها، جاء فيها:
إن هدف اللقاء والاتفاق الناتج عنه هو:
أ - إنهاء العنف ومنع تكراره.
ب - إيجاد طريق العودة إلى مسيرة السلام في إجراءاتها وطريقة عملها.
وعن مهمة اللجنة قال: على اللجنة:
أ - أن تسترشد بهذه الأهداف الملزمة.
ب - محاولة قيادة الأمور بعيداً عن أي خطوة من شأنها تكثيف اللوم المشترك
أو التأشير بإصبع الاتهام بين الفرقاء، ولا ينبغي أن تصبح مصدر خلاف أو نقطة
تركيز للوم أو الاتهام.
ج - أن تخدم ككابحة للعنف والمواجهة.
د - أن تقدم عبراً للمستقبل.
هـ - أن لا يكون هدفها تحديد جرم أو براءة أفراد أو فرقاء.
و أن يكون هدف اللجنة تحديد ما حدث وكيفية منع تكراره في المستقبل.
وانظلاقاً من هذه التوجيهات الإرشادية الأمريكية شرعت اللجنة في ممارسة مهمتها
التي رفعت بشأنها تقريرها إلى الرئيس الأمريكي بتاريخ 30/4/2001م فيما عرف
بـ» تقرير ميتشيل «الذي سيكون محل تحليلنا ومناقشتنا في هذه الدراسة.
رفع اللثام عن تشكيل اللجنة:
1 - إن تقرير ميتشيل جاء منسجماً مع توجهات أعضاء لجنة التقصي التي
نعتبرها» غير محايدة «فأعضاؤها جميعاً لم يكن لهم في يوم من الأيام أي موقف
متعاطف مع ما اصطلحوا على تسميته بـ» قضية فلسطين «؛ إذ إن جميع
أعضاء اللجنة نصارى، ما عدا سليمان ديميريل الرئيس السابق لتركيا، والذي
ضُربت الحركة الإسلامية إبَّان رئاسته بضربات مؤلمة وموجعة، كما أنها تضم
اثنين من الأمريكان من مجموع خمسة أشخاص هم أعضاء اللجنة، إضافة إلى أنها
رفعت تقريرها للرئيس الأمريكي وكأنه رئيس العالم؛ فاللجنة ذات ثقل أمريكي،
وبناء عليه فإنها من حيث تركيبتها وتوجهاتها متحفظ عليها جداً، ولا يرقى تقريرها
إلى مستوى الإنصاف كما سنرى.
2 - لم تشر اللجنة في مقدمتها أو نقاشاتها إلى قرارات الأمم المتحدة
المتعلقة بالانسحاب اليهودي غير المشروط من الأراضي المحتلة عام 1967م، بل
ناقشت المسألة من منطلق وجود» متصارعين «على تلك الأراضي وبينهما
مشكلات تفاقمت إلى مرحلة استعمال» العنف «. وكان الصحيح من وجهة نظرنا
إبراز أن الكيان اليهودي في فلسطين كلها هو حالة اغتصاب واحتلال واستعمار
ينبغي إزالته، غير أن تشكيل اللجنة لم يكن ليصب في هذا الاتجاه بتاتاً.
3 - إن العنف اليهودي قد ابتدأ منذ عام 1948م، وسنأتي على بعض
مظاهره لاحقاً، فلماذا لم تشكل هذه اللجنة إلا بعد أن ابتدأت الانتفاضة، وبعد أن
ظهر أنها تتجه نحو الاستمرار، مع تصاعد لآثارها الخطيرة في المجتمع اليهودي
نفسياً وسياسياً واقتصادياً؛ فالواضح أن هذه اللجنة اضطلعت بمهمة فرش البساط
لاحتواء الانتفاضة وإنهائها.
4 - إن اللجنة مجمعة على أهمية إيقاف الانتفاضة والتخلص من آثارها لإنقاذ
الكيان اليهودي من ورطته مع الانتفاضة.
5 - إن طبيعة تركيبة اللجنة وتوجهاتها قد انعكست على تقريرها الذي جاء
غير متوازن من حيث النتائج رغم محاولة إبراز التوازن في بعض صياغة
العبارات، وسيتضح عدم حيادية القرارات والتوصيات وميلانها بشكل واضح
وفاضح لصالح الكيان اليهودي.
أبرز نصوص تقرير ميتشيل:
في تاريخ 30/4/2001م رفعت لجنة شرم الشيخ لتقصي الحقائق تقريرها
إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (جورج دبليو بوش) :
لقد طلبنا وتلقينا المعلومات والمشورة من قطاع واسع من الأفراد والمؤسسات
والحكومات، وعلى رغم ذلك فإن النتائج والتوصيات صادرة عنا فقط.
وبعد الديباجة وضع هيكل التقرير كما يلي:
تكوَّن التقرير من:
أولاً: مقدمة.
ثانياً: النقاش والحوار:
- أوقفوا العنف، استئناف التعاون الأمني.
ثالثاً: التوصيات:
وقد تضمنت: وقف العنف، إعادة بناء الثقة، استئناف المفاوضات.
مناقشة أبرز نصوص التقرير:
أولاً: المقدمة:
نسوق أهم العبارات التي جاءت في المقدمة:
» إن العنف لن يحل مشاكل المنطقة، إنه فقط سيزيدها سوءاً «.
» إن الموت والدمار لن يأتيا بالسلام، بل سيعمقان الكراهية ويصلبان
العزيمة لدى الجانبين «.
» ثمة طريق واحد للسلام وللعدل وللأمن في الشرق الأوسط ألا وهو
المفاوضات «.
» إن بعض (الإسرائيليين) والفلسطينيين لا يتفهمون بشكل كامل
مشاكل وهموم الطرف الآخر «.
» يبدو واضحاً أن بعض (الإسرائيليين) لا يستوعبون الإذلال والإحباط
الذي يتحمله الفلسطينيون بشكل يومي نتيجة اضطرارهم للعيش مع نتائج الاحتلال
المدعوم بوجود قوات عسكرية إسرائيلية، ومستوطنات مغروسة في وسطهم، ولا
يفهمون إصرار الفلسطينيين على الحصول على الاستقلال وتقرير مصير حقيقي «.
» يبدو واضحاً أن بعض الفلسطينيين لا يفهمون مدى الخوف الذي يخلقونه
في أوساط الشعب الإسرائيلي مما يضعف إيمانهم بإمكانية التعايش، أو إصرار
الحكومة الإسرائيلية على عمل كل ما هو ضروري لحماية شعبها «.
» إن الخوف والكراهية والغضب قد تصعد لدى الطرفين، إن الخطر الأعظم
هو على ثقافة السلام التي تمت تغذيتها عبر العقد السابق، والتي تحطمت، وبدلاً
منها هناك إحساس متعاظم من عدم الجدوى واليأس ولجوء متزايد نحو العنف «.
» إن على القادة في كلا الطرفين التصرف والكلام بحزم لكبح هذه التوجهات
الخطرة، عليهم أن يعيدوا إضاءة الرغبة والدافعية للسلام «.
» إن شعبين لهما كبرياء يقتسمان الأرض والمصير، وقد أدت ادعاءاتهما
وخلافاتهما الدينية إلى صراع مستعر أضعف الروح المعنوية، وضرب الفهم بقيمة
الإنسان، وبإمكانهما أن يستمرا في الصراع، أو أن يتفاوضا لإيجاد طريق للعيش
جنباً إلى جنب بسلام «.
ولنسجل الوقفات الآتية مع» المقدمة «:
1 - اكتفت المقدمة بذكر» العنف «ولم تحدد الطرف الذي تسبب فيه،
وذكرت» الموت والدمار «ولم تشر إلى مصدره، وأشارت إلى» السلام «ولم
تبين ماهيته.
2 - حددت اللجنة طريق المفاوضات باعتباره طريقاً وحيداً للسلام والعدل
والأمن في الشرق الأوسط، وأغفلت أن ثماني سنين عجافاً قد مرت على الشروع
في المفاوضات ابتداءً من مدريد وإلى طابا ولم يتحقق شيء مما ذكرته، وسبب ذلك
أن مفهوم العدل والأمن والسلام لدى الكيان اليهودي مجموع في اصطلاح واحد هو
استسلام الفلسطينيين، وقد جاء ذلك جلياً في اتفاقيات» أوسلو «وما تلاها.
3 - وضعت اللجنة الفلسطينيين و (الإسرائيليين) على كفتي ميزان ونادت
بينهما وادعت عدم تفهم كل منهما مشكلات وهموم الطرف الآخر، وهذا غير
صحيح؛ فالفلسطينيون يفهمون ويعلمون أن هَمَّ اليهود ومشكلتهم تتلخص بإدامة
الاحتلال ومصادرة إرادة الشعب الفلسطيني وتحقيق النبوءات التوراتية بزعمهم.
واليهود يفهمون ويعلمون أن هَمَّ الفلسطينيين ومشكلتهم تتلخص بإقامة دولتهم
الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني؛ فهذه المشاكل والهموم واضحة بجلاء لدى
الطرفين.
4 - أقرت اللجنة ب:
* الإذلال والإحباط الذي يتحمله الفلسطينيون بشكل يومي نتيجة اضطرارهم
للعيش مع نتائج الاحتلال المدعوم بوجود قوات عسكرية إسرائيلية ومستوطنات
مغروسة في وسطهم.
* إصرار الفلسطينيين على الحصول على الاستقلال وتقرير مصير
حقيقي. الخوف الذي يضعه الفلسطينيون في أوساط الشعب الإسرائيلي، ثم
ادعت أن اليهود لا يعلمون بالمذكور في (1) و (2) وأن الفلسطينيين لا يعلمون
بالمذكور في (3) ، فهذا الاستنتاج غير صحيح ومغاير للواقع كما ذكرنا آنفاً، لكننا
نسجل للجنة إقرارها بما جاء في (1) و (2) وسنستعيد هذا الإقرار في مناقشتنا
اللاحقة.
5 - أقرت اللجنة بـ» إصرار (الحكومة الإسرائيلية) على عمل كل ما هو
ضروري لحماية شعبها «.
إن هذا تحيز صارخ من قبل اللجنة؛ إذ جعلت الشعب الفلسطيني معتدياً،
ولذلك يحق للحكومة اليهودية أن تفعل ما هو ضروري لحماية شعبها، وهذا يعني
ضمناً أن اللجنة موافقة على إجراءات الحكومة اليهودية في التنكيل بالشعب
الفلسطيني.
6 - تباكت اللجنة على» ثقافة السلام «التي تحطمت، ونحن نعلم أن
المقصود بهذه العبارة هي مكاسب الاستسلام التي ظفر بها اليهود ثم جاءت انتفاضة
الأقصى فاقتلعتها من جذورها.
7 - قالت اللجنة:» هناك إحساس متعاظم من عدم الجدوى واليأس ولجوء
متزايد نحو العنف « (أي لدى الطرفين) ، ونحن نعتبر هذا الكلام معبراً حقيقياً
عن جاهزية وفاعلية» الحجارة «في مقابلتها للآلة العسكرية للعدو المتفوقة عدداً
وعدة.
8 - في الوقت الذي يريد فيه العلمانيون ومن في حكمهم جعل الصراع مع
اليهود صراعاً وطنياً، وهو خلاف الواقع، فإن اللجنة أقرت بما لا شك فيه أن
الصراع بين المسلمين واليهود هو صراع عَقَدي؛ حيث قالت بالحرف:» وقد
أدت ادعاءاتهما وخلافاتهما الدينية إلى صراع مستعر «. نعم؛ لقد أصابت اللجنة
في هذه العبارة كبد الحقيقة!
9 - أقرت اللجنة بتكافؤ الطرفين في الصراع، وهذا يعني أن إرادة الشعب
الفلسطيني في الاستقلال قد وقفت مع التفوق اليهودي العسكري والسياسي
والاقتصادي موقف الند للند.
10 - انتهت المقدمة بالإشارة إلى وجود طريقين لا ثالث لهما، وهما
استمرار الصراع أو المفاوضات. ونحن نقول: إن المفاوضات لن تحقق للشعب
الفلسطيني ما يريد، في حين أن استمرار الصراع سيرجح كفة الفلسطينيين بإذن
الله تعالى.
ثانياً: النقاش والحوار:
ماذا حدث؟ ولِمَ حدث ما حدث؟
قالت اللجنة:» جاءت معظم المعلومات التي تلقيناها من الفرقاء، ومفهوم
أنها تميل إلى دعم وجهات نظرهم «.
» في أواخر سبتمبر 2000م، تلقى الإسرائيليون والفلسطينيون ومسؤولون
آخرون تقارير مفادها أن عضو الكنيست (الذي يشغل الآن منصب رئيس الوزراء)
آرييل شارون يخطط لزيارة الحرم الشريف، جبل الهيكل في القدس وحث
المسؤولون الفلسطينيون والأمريكيون رئيس الوزراء آنذاك، إيهود باراك، على
منع تلك الزيارة، ثم قام شارون بزيارته تلك يوم 28 سبتمبر يرافقه ما يزيد على
ألف من قوات الشرطة الإسرائيلية، وفي اليوم التالي، وفي المكان نفسه، حدثت
مواجهة بين عدد كبير من الفلسطينيين المتظاهرين غير المسلحين وعدد من قوات
الشرطة الإسرائيلية، مما أدى إلى قتل أربعة أشخاص وإصابة حوالي مائتي شخص
بجروح. ووفقاً لمصادر الحكومة الإسرائيلية فقد تم جرح أربعة عشر شرطياً
إسرائيلياً، وقد حدثت تظاهرات عدة خلال الأيام اللاحقة، هكذا بدأ ما عرف فيما
بعد بـ «انتفاضة الأقصى» (الأقصى هو مسجد في الحرم الشريف/ جبل
الهيكل) «» أنكرت منظمة التحرير الفلسطينية الاتهامات بأن الانتفاضة كان
مخططاً لها «.
من النص أعلاه يتبين ما يلي:
1 - رغم أن اللجنة رفعت تقريرها بعد حوالي ستة أشهر من مباشرتها عملها
فإنها تعترف أن معظم معلوماتها تقلتها من الفرقاء، أي لم تجمع معلوماتها من
أرض ميدان الصراع، وهذا خلل كبير في أصل تقرير اللجنة.
2 - اعترفت اللجنة أن تدنيس شارون للمسجد الشريف كان مخططاً له مسبقاً،
وأن الإدارة الأمريكية والسلطة الفسلطينية كانا على علم به؛ علماً بأن الصحافة
الإسرائيلية قد شرعت ابتداءً من أوائل سبتمبر 2000م بنشر تصريحات لمسؤولين
يهود مدنيين وعسكريين بأن الحرب مع الفلسطينيين على وشك الاندلاع، ولم يكن
ثمة انتفاضة بعد، غير أن الذي لم يحسب شارون وزبانيته له حساباً هو هذا
الصمود العاتي الذي تجسد بأيدي الفلسطينيين حجارة وثابة تقذف بشدة أفراد الجيش
اليهودي وشرطته ومستوطنيه. إن استمرار صمود الفلسطينيين سيبطل بإذن الله
تعالى مخطط المكر والدهاء والدماء اليهودي.
3 - إن منظمة التحرير الفلسطينية سارعت إلى نفي الاتهامات بأن الانتفاضة
قد خطط لها؛ وهذا النفي صحيح من جانب واحد هو جانب السلطة الفلسطينية،
لكن الانتفاضة لم تكن خارج حسابات الجانب اليهودي، بل هو كان بحاجة لها،
غير أنها جاءت في ضخامتها وتوسعها وآثارها وصمودها على خلاف ما رسمته
الزعامة اليهودية لها، فأوقعت الطرفين المتآمرَيْن عليها: الكيان اليهودي والسلطة
الفلسطينية في» حيص بيص «.
4 - أفاد تقرير اللجنة أن الذي ابتدأ بالعنف الذي فجر الانتفاضة هو شارون
نفسه عندما اقتحم المسجد الأقصى على رأس ما يزيد على ألف شرطي يهودي،
وأن الجيش الإسرائيلي هو الذي أطلق الرصاص المطاطي والذخيرة الحية على
المحتجين الفلسطينيين، علماً بأن الاحتجاج الفلسطيني هو احتجاج مشروع في كل
الأحوال؛ فاللجنة تعترف بشكل واضح غير قابل للبس أن اليهود هم الذين بدؤوا
العنف الذي فجر الانتفاضة.
5 - لا بد من الإشارة إلى أن الوجود اليهودي على هيئة دولة على أرض
فلسطين هو بحد ذاته عنف شديد ينبغي مقابلته بعنف مقابل لإبطاله؛ لأنه اعتداء
صارخ على أراضي غيرهم وممتلكاتهم، تم في ظل قتل للأبرياء وفتك بالنساء
والأطفال والشيوخ وهتك للأعراض ومصادرة للأموال من خلال مجازر وحشية
وممارسات همجية، وسنأتي على مزيد من تفاصيل ذلك عند مناقشتنا للفقرات
الخاصة بالعنف.
6 - لا بد من ملاحظة إشارة اللجنة إلى أن الأقصى ليس هو مجرد مسجد في
ساحة المسجد بل هو أيضاً جبل الهيكل، وهذه دلالة واضحة على أن اللجنة معترفة
بادعاء اليهود أن أرض جبل الهيكل هي نفسها المسجد الأقصى، وفي ذلك برهان
ساطع على تحيز اللجنة إلى جانب الادعاءات اليهودية.
قالت اللجنة:» من خلال وجهة نظر منظمة التحرير، استجابت (إسرائيل)
لأحداث الشغب بعنف زائد واستخدام غير قانوني للأسلحة الفتاكة ضد
المتظاهرين «.
» من منظور الحكومة الإسرائيلية فإن التظاهرات كانت تنظم وتوجه من
القيادة الفلسطينية «.
» فرضت الحكومة الإسرائيلية قيوداً على حركة الناس والبضاعة في الضفة
الغربية وقطاع غزة (الإغلاقات) تطور منذ ذلك الحين إلى مجموعة من الأعمال
العنيفة وردود الفعل، كان هناك تبادل لإطلاق النار في منطقة مكتظة، وحالات
قنص وصدامات بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين «.
» لا توجد أدلة للاستنتاج بأن السلطة الفلسطينية قامت بجهد متواصل
للسيطرة على التظاهرات وعلى العنف لحظة حدوثه، أو أن الحكومة الإسرائيلية
قامت بجهد متواصل للسيطرة على التظاهرات وعلى الفلسطينيين غير
المسلحين «.
من النص أعلاه يتبين ما يلي:
1 - اعترفت اللجنة أن الكيان اليهودي قام باستخدام غير قانوني للأسلحة
الفتاكة وبعنف زائد.
2 - قالت اللجنة:» التظاهرات كانت تنظم وتوجه من القيادة الفلسطينية «
وهذا غير صحيح؛ فالمظاهرات التي أشعلت الانتفاضة والتي لا تزال مستمرة
كانت رد فعل تلقائي من الشعب الفلسطيني وليس للسلطة الفلسطينية فيها نصيب،
بل إن السلطة الفلسطينية وضعت كل ثقلها واستنفرت جميع عناصر أمنها وشرطتها
لوقف الانتفاضة، لكنها لم تفلح؛ لأن الخرق اتسع على الراقع، وبناء عليه فإن
ادعاء تقرير ميتشيل أنه لا توجد أدلة للاستنتاج بأن السلطة الفسلطينية قامت بجهد
متواصل للسيطرة على التظاهرات ادعاء باطل وغير صحيح، بل إن السلطة
الفلسطينية بذلت أقصى المساعي للتعاون مع حكومة شارون للقضاء على الانتفاضة؛
حيث كانت ولا تزال الاجتماعات بين مسؤولي أمن السلطة الفلسطينية ومسؤولي
الأمن الإسرائيلي مستمرة لإيقافها.
3 - أما أغرب وأعجب زعم اللجنة أن (الحكومة الإسرائيلية) لم تقم بجهد
متواصل للسيطرة على التظاهرات؛ فقد بذلت الحكومة الإسرائيلية جهوداً حربية
مضنية لإيقاف التظاهرات مستخدمة الرصاص الحي والقنابل والصواريخ والقصف
بالطائرات الحربية والمروحية وهدمت المنازل، وجرفت مئات الآلاف من
الأراضي الزراعية، وأتلفت المحاصيل، وحاصرت المدن، وقتلت مئات المدنيين،
وركزت قتلها على الأطفال، وأوقعت أكثر من عشرة آلاف جريح، وأجاعت
الناس وقطعت عنهم الكهرباء والمياه واعتقلت المئات وغير ذلك كثير جداً جداً؛
فماذا تريد اللجنة من الحكومة الإسرائيلية فعله أكثر من ذلك لتسيطر على
المظاهرات؟ !
قالت اللجنة (في تعليلها لاندلاع الانتفاضة) :
» الحكومة الإسرائيلية تؤكد أن الدافع الفوري للعنف كان انهيار محادثات
كامب ديفيد يوم 25 تموز (يوليو) 2000م، والتقدير المتزايد في المجتمع الدولي
لمسؤولية الفلسطينيين عن الطريق المسدود (كامب ديفيد) «.
» إن زيارة شارون لم تكن سبب انتفاضة الأقصى، لكن توقيتها لم يكن موفقاً،
وكان بالإمكان التنبؤ بما يمكن «.
وتعليقنا على هذا النص ما يلي:
1 - إن انهيار محادثات كامب ديفيد الثانية لم يكن أمنية الشعب الفلسطيني
فقط، بل كان أمنية جميع الشعوب المسلمة؛ ذلك أن بوصلة توجهات تلك
المحادثات قد ثبت مؤشرها على استعداد السلطة الفلسطينية لإعطاء تنازلات خطيرة
لصالح اليهود فيما يخص الوضع النهائي، وخاصة فيما يتعلق بالقدس وعودة
اللاجئين والمستوطنات وطبيعة كيان الدولة الفلسطينية المرتقبة، ولذلك عندما
انهارت تلك المباحثات تنفس الشعب الفلسطيني، والشعوب الإسلامية بعد صعداء،
مما جعلهم في انتظار أي حدث على أرض الواقع ليفجر تلك المشاعر المحتقنة في
الصدور والناجمة عن استمرار الاحتلال اليهودي لفلسطين.
2 - أشار التقرير إلى تحميل المجتمع الدولي الفلسطينيين مسؤولية وصول
مباحثات كامب ديفيد 2 إلى طريق مسدود، وهذا افتئات على الحقيقة؛ لأن الذي
حال دون استمرار المباحثات هو إصرار حكومة الكيان اليهودي على لاءاتها
المعروفة، وهي: لا لدولة فلسطينية مستقلة، لا لتقسيم القدس، لا لعودة اللاجئين،
لا لإزالة المستوطنات؛ فمن الذي تقع عليه مسؤولية انهيار تلك المباحثات؟ !
وهل تكون هذه الحقائق فعلاً غائبة عن المجتمع الدولي، أم أن المجتمع الدولي هو
الولايات المتحدة وبريطانيا فقط؟
3 - زعمت اللجنة أن زيارة شارون لم تكن سبب الانتفاضة، بل توقيتها هو
السبب؛ فهل تريد تبرئة ساحة شارون وباراك وزبانيتهما من المسؤولية عن أحداث
العنف اليهودي ضد الفلسطينيين؟ ! أم تريد الزعم أن مسبب الانتفاضة هو منظمة
التحرير الفلسطينية؟ ! طبعاً لا تستطيع ادعاء ذلك بعد أن نفت هي تحميل المنظمة
مسؤولية بدء الانتفاضة. إذن من المسؤول عن تفجير أحداث العنف سوى الجانب
اليهودي، وشارون بالذات؟ علماً أن اللجنة قد أقرت بهذه المسؤولية عندما تحدثت
في المقدمة عن بدء اشتعال الأحداث في الضفة الغربية وقطاع غزة.
توقعات متباينة:
قالت اللجنة:» لقد صدمتنا التوقعات المتباينة التي عبر عنها الفرقاء فيما
يتعلق بتطبيق مسيرة أوسلو «.
» لقد أعطت الحكومة الإسرائيلية أولوية للتحرك نحو اتفاق للوضع النهائي
ضمن مناخ من عدم العنف «.
» وترى منظمة التحرير أن إعاقة العملية نجم عن محاولات إسرائيل إطالة
الاحتلال وتعزيزه «.
» اعتقد الفلسطينيون أن اتفاق أوسلو سيؤدي إلى نهاية الاحتلال الإسرائيلي
في غضون خمس سنوات «.
» بدلاً من ذلك حسب وجهة النظر الفلسطينية وصلت الإعاقات الإسرائيلية
المتكررة إلى ذروتها في قمة كامب ديفيد؛ فالعروض (الإسرائيلية) تضمنت
بالإضافة إلى ضم أفضل المناطق الفلسطينية لإسرائيل، السيادة الدائمة لإسرائيل
على القدس الشرقية، واستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في المناطق
الفلسطينية والسيطرة الإسرائيلية على المصادر الطبيعية الفلسطينية والأجواء
والحدود الفلسطينية، وأخيراً عودة أقل من 1% من اللاجئين إلى موطنهم «.
وتعليقنا على ذلك هو:
1 - منذ البداية لم يكن هناك فهم موحد لنصوص اتفاقيات أوسلو بين السلطة
الفلسطينية والكيان اليهودي؛ ذلك أن الحكومة اليهودية تريد أن تفسر نصوص
الاتفاقيات حسب فهمها هي؛ ولذلك عرقلت تنفيذ تلك الاتفاقيات بشدة، ومن
المستغرب حقاً أن الطرفين قد شرعا في مفاوضات الحل النهائي في حين أن
اتفاقيات أوسلو لم تكن قد طبقت بالكامل على الأرض بسبب التعنت اليهودي.
2 - كيف تقول اللجنة إن (الحكومة الإسرائيلية) أعطت أولوية للتحرك نحو
اتفاق للوضع النهائي ضمن مناخ من عدم العنف، وهي التي مارست كثيراً من
مظاهر العنف ضد الفلسطينيين خلال الفترة الانتقالية.
3 - لا نشك أبداً أن التوقعات متباينة بين الفلسطينيين و (الإسرائيليين)
فيما يخص استعادة الفلسطينيين حقوقهم كاملة من اليهود؛ وهذا هو سبب الصراع؛
لكن ما ساقته اللجنة من المطالب اليهودية يكفي لنسف أي نوع من أنواع
المفاوضات التي تعطي الكيان اليهودي كل شيء، ولم تُبقِ للفلسطينيين سوى
الفتات.
منظورات متباينة:
تحت هذا العنوان ذكرت اللجنة المنظورين الفلسطيني و (الإسرائيلي) ،
وعبرت عن تباينهما بالقول:» وجسَّد كل طرف، سواء بالتصريحات أو الأفعال
منظوراً عجز عن إدراك أي حقيقة في وجهة نظر الآخر «.
أولاً: المنظور الفلسطيني:
قالت اللجنة: عن ذلك:
1 - فيما يتعلق بالفلسطينيين، بشرت مدريد وأوسلو بإمكان قيام الدولة
وضمان نهاية الاحتلال، وقرارات حول القضايا الهامة ضمن مدة زمنية محددة.
2 - الفلسطينيون غاضبون بصدق من النمو المستمر للمستوطنات، ويرى
الفلسطينيون أن وجود المستوطنات والمستوطنين في مناطقهم لا يشكل فقط انتهاكاً
لروح عملية أوسلو بل أيضاً تطبيقاً للقوة بشكل يتناسب مع عقلية الهيمنة الإسرائيلية
العسكرية التي تبقي على هذه المستوطنات وتحميها.
3 - كذلك ل1دى الفلسطينيين مشاعر غاضبة تجاه تجاربهم اليومية المريرة
والمذلة والناجمة عن استمرار (الوجود الإسرائيلي) على الأراضي الفلسطينية.
4 - ينص الاتفاق الانتقالي على أنه» يرى الطرفان بأن الضفة الغربية
وقطاع غزة وحدة مناطقية واحدة يتم تحديد وضعها والسيادة عليها في المرحلة
الانتقالية ويترافق مع ذلك نص في الاتفاق النهائي يمنع اتخاذ أي خطوات تعمل
على تغيير وضعية المفاوضات الانتقالية، وتزعم منظمة التحرير أن القادة
السياسيين الإسرائيليين لم يخفوا أن تفسيرهم لأوسلو تمت صياغته بحيث يتم فصل
الفلسطينيين في مناطق غير متواصلة محاطة بحدود يسيطر عليها الإسرائيليون مع
وجود مستوطنات وطرق خاصة بها تنتهك السيادة الفلسطينية.
5 - كما تدعي منظمة التحرير الفلسطينية أن (حكومة إسرائيل) لم تذعن
لالتزامات أخرى مثل الانسحاب اللاحق من الضفة الغربية والإفراج عن المعتقلين
الفلسطينيين.
6 - عبر الفلسطينيون عن غضبهم تجاه الطريق المسدود بخصوص مسألة
اللاجئين وتدهور الظروف الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة «. انتهى
كلام اللجنة.
ثانياً: المنظور الإسرائيلي:
قالت اللجنة: (عنه ما يلي) :
1 - إن توسيع النشاط الاستيطاني واتخاذ إجراءات لتسهيل حياة المستوطنين
وأمنهم لا يعتبر ماساً بمفاوضات الوضع النهائي، وتتفهم إسرائيل معارضة الجانب
الفلسطيني للمستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي تعترف بأن
المستوطنات قضية مهمة يجب أن يتم التوصل لاتفاق بشأنها باعتبارها جزءاً من أي
حل للوضع النهائي دون تمييز للوضع الرسمي الراهن للمستوطنات.
2 - إن الأمن هو الهم الأول لحكومة إسرائيل، وتدعي الحكومة الإسرائيلية
أن منظمة التحرير الفلسطينية أخلَّت بالتزاماتها التي قطعتها على نفسها؛ وذلك
بالاستمرار في استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية. إن الأمن كان وما يزال الهم
الرئيسي في عملية السلام. وهو مسألة لن تساوم (إسرائيل) بشأنها أو تقدم
تنازلات حولها. إن إخفاق الجانب الفلسطيني في الالتزام بنص وروح البنود
المتعلقة بالأمن في العديد من الاتفاقيات كان ولأمد طويل مصدراً لعدم الاستقرار
والانزعاج في (إسرائيل) ، وإن هذا الإخفاق يتمثل بتحريض مؤسساتي ضد
(إسرائيل) واليهود وإطلاق سراح الإرهابيين من السجون، وعدم التمكن من
السيطرة على الأسلحة في التظاهرات بالإضافة إلى اعتداءات إرهابية على مدنيين
إسرائيليين.
وإن منظمة التحرير خرقت بوضوح إدانتها للإرهاب وأعمال العنف الأخرى؛
وبهذا زعزعت الثقة بشكل كبير بين الفرقاء.
هكذا عرضت اللجنة المنظورين المتباينين لكل من الفلسطينيين
والإسرائيليين.
ولنا مع هذا العرض الوقفات الآتية:
1 - ما بشرت به مدريد وأوسلو بإقامة دولة فلسطينية وضمان نهاية الاحتلال
لم يكن أكثر من سراب؛ بل هو وهمٌ اعترى أعضاء السلطة الفلسطينية، وحاولوا
أن يوهموا به السذج من سواهم.
2 - بعد توقيع اتفاقيات أوسلو استمر الكيان اليهودي في إقامة المستوطنات
واستجلاب المستوطنين، ولم يكن هذا مستغرباً بل كان متوقعاً تماماً. فنقضهم
للعهود والعقود والمواثيق هو ديدنهم على مر التاريخ، وقد سجله القرآن الكريم.
3 - إن دعوى أن توسيع النشاط الاستيطاني واتخاذ إجراءات لتسهيل حياة
المستوطنين وأمنهم لا يعتبر ماساً بمفاوضات الوضع النهائي كذب محض؛ فلقد
دعمت إسرائيل بشدة إقامة المستوطنات وشقت لها الطرق وملأتها بالمستوطنين
لوضع الفلسطينيين في مفاوضات الوضع النهائي أمام الأمر الواقع، وليس على
الفلسطينيين إلا القبول بهذا الوضع شاءوا أم أبوا. إن فحوى هذا الطرح أن لا دولة
يمكن إقامتها للفلسطينيين على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ذلك أن هذه
الأراضي مزروعة الآن بالمستوطنات ولا سيادة عليها إلا للحكومة اليهودية فقط.
4 - المسلمون يرون أن الأمن يتحقق بزوال دولة (إسرائيل) وعودة
الفلسطينيين إلى ديارهم واستعادة حقوقهم المشروعة، ومنظمة التحرير ترى أن
الأمن يتحقق بانسحاب اليهود من الضفة الغربية وقطاع غزة.
والحكومة اليهودية ترى أن الأمن يتحقق بمزاولة منظمة التحرير أعلى
درجات القمع للشعب الفلسطيني المطالب بالاستقلال، هذا يمثل مرحلة أولى. وأما
الأمن الحقيقي الذي ترمي إليه الحكومة اليهودية (مهما كانت) ، هو إخلاء الضفة
الغربية وقطاع غزة من سكانهما بتهجيرهم في الآفاق وإحلال المستوطنين بدلاً منهم.
وعلى هذا فإن مفاهيم الأمن بين الفلسطينيين واليهود متضادة تماماً؛ ولذلك
فلن يتحقق الأمن لأي من الطرفين إلا بانتصار ساحق لأحد الطرفين على الآخر.
والذي نعلمه من موعود الله هو انتصار المسلمين على اليهود في نهاية مطاف
الصراع، وهذا الذي نعلمه يعلمه أيضاً كثير من اليهود.
5 - إن وجهات النظر المتباينة بين الفلسطينيين واليهود خلاصة عناوينها
هي: الأمن، والمستوطنات، والقدس، واللاجئون، والدولة الفلسطينية
المستقلة. وبما أن وجهات النظر في هذه المسائل الخمسة متباينة مائة في المائة بين
الطرفين؛ فهذا يعني استمرار الصراع إلى أن تنتصر إرادة المسلمين على اليهود
بإذن الله تعالى القائل: [وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً]
(النساء: 141) .
أوقفوا العنف واستأنفوا التعاون الأمني:
قالت اللجنة:» من خلال صلة القرابة والصداقة والدين والمجتمع والمهنة
كان لكل شخص في كلا الجانبين صلة بشخص قتل أو أصيب إصابة خطيرة في
أحداث العنف الأخيرة، ورواياتهم مؤثرة جداً «.
» منذ 1991م التزم الطرفان وبصورة مستمرة في كل اتفاقاتهما
(بعدم العنف) ؛ ولوقف العنف يجب اتخاذ خطوات فورية لإنهاء الصراع والتأكيد
من جديد على الالتزامات المتبادلة والبدء في المفاوضات «.
» المهم أن تقوم السلطة الفلسطينية بكل ما تستطيع من جهد لتطبيق
وقف شامل للعنف وأن يكون هذا جلياً للحكومة (الإسرائيلية) ، وعلى
الحكومة الإسرائيلية أن تقوم ببذل جهد كامل (مائة في المائة) لضمان عدم
جعل نقاط الاحتكاك المحتملة؛ حيث يحتك الفلسطينيون (بالمسلحين الإسرائيليين)
مسرحاً لعداء متجدد «.
» إن انهيار التعاون الأمني في بداية أكتوبر (تشرين أول 2000م) قد
عكس القناعة لدى كل طرف بأن الآخر قد ألزم نفسه بطريق العنف تجاه الآخر،
وإنه من دون تعاون أمني فعال فإن الفريقين سيمضيان في اعتبار كل عمل من
أعمال العنف قانونياً ورسمياً «.
» إن الأمر متروك للفرقاء أنفسهم ليتحملوا عبء التعاون اليومي، إلا أن
عليهم أن يبقوا منفتحين لقبول مساعدة من آخرين لتسهيل عملهم بمساعي أمريكا
والاتحاد الأوروبي.
ولنا مع ما ذكرته اللجنة الوقفات الآتية:
1 - أوحت اللجنة بالمساواة بين إصابات الطرفين، وهذا خروج سافر عن
الحيادية؛ ففي حين بلغ عدد القتلى والجرحى من اليهود بضع عشرات فإن الشهداء
(فيما نحسبهم) من الفلسطينيين قد فاق حتى الآن ستمائة وخمسين شهيداً، وفاق
عدد الجرحى أحد عشر ألف جريح، فإن كان لدى اليهود بضع عشرات من
الروايات المؤثرة فإن لدى الفلسطينيين بضع آلاف منها.
2 - ليس صحيحاً أن الطرفين منذ عام 1991م التزما (اللاعنف) ؛ فالواقع
خلاف ذلك؛ حيث تعرضت فصائل الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع
غزة منذ ذلك التاريخ وقبله وبعده إلى إرهاب أمني شديد، وقد شملت الحملات
الإرهابية مطاردة واعتقال ومحاكمة الناشطين ضد استمرار الاحتلال اليهودي ومن
السلطة أيضاً.
3 - بعد بدء انتفاضة الأقصى التزمت السلطة الفلسطينية ببذل كل جهد ممكن
لإيقافها؛ حيث مارست ضغوطاً قوية على جميع الفصائل الفلسطينية لترك الشوارع
والعودة إلى المنازل وعدم التعرض إلى قوات الاحتلال، وقامت بالتنسيق مع العدو
اليهودي لتحقيق هذا الهدف، لكنها لم تفلح في ذلك بسبب إرادة التحدي لدى الشعب
الفلسطيني وإصراره على مواصلة الانتفاضة إلى حين الحصول على الاستقلال،
في حين أعطت الحكومة اليهودية أوامرها لقواتها باستخدام جميع أنواع الأسلحة
لقمع الانتفاضة.
4 - إن اللجنة لم تكن محايدة أبداً في معالجتها لقضية العنف؛ إذ إن العنف
منذ بدء الانتفاضة كان يهودياً. أما ردود فعل الفلسطينيين فلم تتجاوز الدفاع عن
النفس، وإننا نعتبر أن التصدي لأي جندي يهودي وطئت قدماه الأرض المحتلة هو
دفاع عن النفس.
5 - ربما نكون بحاجة إلى ضرب أمثلة عن العنف اليهودي ضد الفلسطينيين؛
ولو فعلنا ذلك لاحتجنا إلى مجلدات، ولكن يكفي تصفح أي جريدة لتجد القتلى
الفلسطينيين يمثلون المسلسل اليومي بمعدل 3 شهداء وأربعين جريحاً منذ بدء
الانتفاضة في سبتمبر (أيلول) 2001م.
6 - إذاً! كان ينبغي على اللجنة أن توجه خطابها إلى الحكومة اليهودية
لوقف العنف، أي كان عليها مطالبتها بالانسحاب الفوري من الأراضي المحتلة؛
فليس هناك معنى لوقف العنف سوى ذلك.
إعادة بناء الثقة:
قالت اللجنة: «لقد عبرت المصافحة التاريخية بين الرئيس عرفات ورئيس
الوزراء إسحاق رابين التي تمت في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول)
1993م عن آمال الطرفين بأن الباب نحو حل سلمي للخلافات قد بات
مفتوحاً» .
«وعلى رغم العنف الراهن وفقدان الثقة المتبادل عبَّر الجانبان مراراً عن
رغبتهما في السلام، وقد تأكدت صعوبة تحويل هذه الرغبة إلى تقدم حقيقي؛ إذ إن
استعادة الثقة أمر ملحّ» .
«يتعين على الجانبين اتخاذ خطوات ثابتة لتحقيق هذا الغرض، وفي ضوء
المستوى العالمي من العداء وفقدان الثقة فإن توقيت وتعاقب هذه الخطوات يتسم
بالأهمية الواضحة» انتهى كلام اللجنة.
ونعقب على هذا الكلام فنقول:
1 - الخلاف بين الفلسطينيين واليهود ليس خلافاً سياسياً بل هو خلاف عقدي؛
وعلى ذلك فإن المصالحة السياسية التي تمت لا تعبر عن حقيقة ما يضطرم في
الساحة من صراع، ولا تعني أن الشعب الفلسطيني موافق عليها.
وأما قول اللجنة إن تلك المصافحة عبرت عن آمال الطرفين نحو حل سلمي
للخلافات؛ فهو كلام إنشائي لا يصف حقيقة الواقع بل يصف ظاهره فقط.
2 - تأمل اللجنة في أن يستعيد الطرفان الثقة بينهما باعتبار ذلك أمراً ملحّاً،
ولا بد من اتخاذ خطوات ثابتة لتحقيق هذا الغرض.
مرة أخرى نقول: إن هذا كلام إنشائي ومجرد تلاعب بالألفاظ؛ إذ كيف
يستعيد الفلسطينيون الثقة باليهود وهم يقتلونهم ويحتلون أرضهم وينتهكون
أعراضهم؟ ثم ما هي الثقة المطلوبة من الفلسطينيين: هل هي ثقة بالحكومة
اليهودية، أم ثقة بالمستوطنين، أم ثقة بعامة اليهود في أرض فلسطين المحتلة؟
إن جميع هؤلاء مشتركون في مصادرة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني،
ويكرهون الفلسطينيين أشد الكراهية، ويمقتونهم أعظم المقت. الصحافة
اليهودية اليومية مملوءة وبشكل كثيف بهذه المعاني، وإن أمنية استعادة الثقة التي
نادت بها اللجنة لا محل لها على ساحة الصراع طالما بقي يهودي واحد على
أرض فلسطين.
الإرهاب:
قالت اللجنة: «في مذكرة شرم الشيخ التي صدرت في سبتمبر 1999م
تعهدت الأطراف بأن تبدأ العمل ضد أي عمل أو تهديد بالإرهاب أو القصف أو
التحريض» .
«ويشمل الإرهاب القتل والجرح المتعمد لأشخاص غير محاربين يتم
اختيارهم عشوائياً لأهداف سياسية، وهو يهدف إلى الوصول إلى نتائج سياسية من
خلال بث الرعب وإشاعة الفوضى في أوساط الجميع» .
«إنه لأمر غير أخلاقي وسوف يرتد في النهاية على أصحابه» .
«الحكومة الإسرائيلية وجهت اتهامها إلى السلطة الفلسطينية بدعم الإرهاب
عبر إطلاق سراح إرهابيين كانوا محتجزين، والسماح لأفراد من أجهزة أمن
السلطة بالتحريض، وأحياناً القيام بعمليات إرهابية، ووقف التعاون الأمني مع
(الحكومة الإسرائيلية) ، ونفت السلطة الفلسطينية بشدة هذه الاتهامات» .
«إننا نعتقد أن على السلطة الفلسطينية المساعدة في إعادة بناء الثقة عبر
الإيضاح لكلا الشعبين بأن الإرهاب مدان ومرفوض، وعبر اتخاذ الإجراءات كافة
لمنع العمليات الإرهابية ومعاقبة مرتكبيها، ويجب أن يشمل هذا الجهد خطوات
فورية بمنع الإرهابيين من العمل داخل المناطق التي تخضع للسلطة الفلسطينية»
انتهى كلام اللجنة.
ونعقب على هذا الكلام بما يلي:
1 - إن المعتدي اليهودي هو إرهابي ابتداءً؛ فكيف إذا عبر عن اعتدائه
بقصف المدنيين العزل بالصواريخ والقنابل ودك منازل الآمنين بالمدفعية، ولاحق
الأطفال والنساء والشباب بالرصاص الحي المتفجر؟ ! فإذا كان الإرهاب يشمل
القتل والجرح المتعمد لأشخاص غير محاربين كما قالت اللجنة، فمن هو الإرهابي
سوى الحكومة اليهودية وشذاذ الآفاق الذين انتخبوها؟ إنهم هم الإرهابيون وهم
المجرمون حقاً وصدقاً.
2 - لقد كان تحيز اللجنة واضحاً في كلامها عن الإرهاب؛ إذ إنها ساقت
الاتهامات الإسرائيلية، وغضت الطرف تماماً عن الإرهاب اليهودي الصهيوني
وكأنه لم يقع أصلاً، بل إن اللجنة حملت الفلسطينيين مسؤولية الإرهاب وطلبت من
السلطة الفلسطينية إدانته ورفضه بل ومعاقبة شعبها الذي يتصدى للعدوان اليهودي؛
لأنها إذا فعلت ذلك فستساعد في إعادة بناء الثقة! ! يا له من صلف وغرور وقلب
للحقائق!
3 - إن اللجنة بهذا الصدد قد تكلمت بالفم اليهودي، وهي تقصد العمليات
الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون ليلجموا الإرهاب اليهودي عن الاستمرار في
إراقة دماء الفلسطينيين.
4 - إن العمليات الاستشهادية الفلسطينية في مجملها وتفصيلاتها لا تخرج عن
كونها دفاعاً عن النفس، ضد الاعتداء اليهودي الصهيوني المستمر.
* تُعِدُّ إسرائيل خطة تهدف إلى إقامة معسكرات اعتقال كبيرة للآلاف من
الفلسطينيين الذين دخلوا الخط الأخضر واستقروا هناك، وقالت مصادر في ديوان
شارون إنه لما كانت السجون القائمة مكتظة، فقد كلفت مصلحة السجون بإقامة
مخيم اعتقال مفتوح لآلاف الأشخاص معظمهم من مواطني الأردن.
هذه واحدة من حلقات المسلسل الإرهابي اليهودي اليومي ضد الفلسطينيين وقد
شملت هذه الحلقة عمليات قتل وجرح جثة شهيد (نحسبه كذلك إن شاء الله)
وإحراق بساتين الزيتون والتوغل في الأراضي الفلسطينية المعروفة بمناطق (أ)
وهدم منازل وتشريد آمنين، واستخدام جرافات عسكرية وقصف بالدبابات،
وإرسال جرحى إلى خارج الأراضي المحتلة، والإعداد لمعسكرات اعتقال ضخمة،
كل ذلك في يوم واحد فقط، فمن هو الإرهابي؟ ! سؤال نوجهه إلى اللجنة!
* لكن يؤسفنا أيضاً أن نقول: إن هذا الإرهاب الذي مارسته الحكومة
اليهودية قد شاركت فيه السلطة الفلسطينية أيضاً ضد شعبها؛ فقد قال مسؤول
فلسطيني: إن السلطة الفلسطينية وجهت تحذيراً شديد اللهجة لحركة المقاومة
الفلسطينية «حماس» وتوعدت باتخاذ عمل جازم ضد أي جماعة أو أشخاص
ينتهكون وقف إطلاق النار أو يحاولون التلاعب بالوضع الأمني.
فماذا تريد اللجنة من السلطة أكثر من ذلك الإرهاب لشعبها لصالح دعم
الإرهاب اليهودي له؟ !
__________
(1) تتكون اللجنة من: (جورج ميتشيل رئيس الغالبية في مجلس الشيوخ الأمريكي رئيساً، وعضوية كل من: سليمان ديميرل رئيس جمهورية تركيا السابق وتوربيان باغلاند وزير خارجية النرويج،
وخافيير سولانا الممثل الأعلى لسياسة الأمن والتعاون في الاتحاد الأوروبي، وارن رودمان عضو سابق في مجلس الشيوخ الأمريكي) .(166/74)
المسلمون والعالم
حتى لا يقال: كان السودان بلداً سُنّياً! !
عثمان عيسى
ما كان السودان يعرف مذهب الشيعة على الإطلاق، لكن التشيع بدأ يتسلل
إلى البلاد عن طريق ما تقدمه إيران من منح دراسية للطلاب السودانيين؛ حيث
ولجت أفكار الرفض أرض السودان، وكانت تلك أرضية مناسبة لإنشاء ما يعرف
الآن بـ (المراكز الثقافية الإيرانية) ؛ ونشطت السفارة الإيرانية في مجال تطوير
العلاقات السودانية الإيرانية، وحرصت على إنشاء تلك المراكز ورعايتها بعناية.
ومن أبرز أنشطة السفارة الإيرانية انضمامها لجمعية الصداقة الشعبية العالمية
باسم: (جمعية الصداقة السودانية الإيرانية) ، وربطت هذه الجمعية بالسفارة
الإيرانية مباشرة، وقد أسهمت هذه الجمعية في تنشيط المراكز الثقافية الإيرانية
وغيرها من الأنشطة الدعوية، فيتوجه أعضاء هذه الجمعية إلى المكتبات التابعة
لتلك المراكز.
ولعل مما يجدر ذكره في بدايات دخول التشيع إلى السودان زياراتهم لشيوخ
الطرق الصوفية وتوثيق العلاقة بهم؛ وخصوصاً من يدعي منهم أنه من آل البيت،
والتظاهر لهؤلاء الشيوخ بأنهم يجتمعون وإياهم في محبة آل البيت ومناصرتهم،
وادعاؤهم أن أساس اعتقادهم واحد، وهكذا تتوالى الزيارات لهؤلاء مع الإغراءات
المادية لهم، فتكونت العلاقات المتينة؛ ومن خلال هؤلاء الشيوخ تم الوصول إلى
مريديهم (حيرانيهم) وأتباع طرقهم، وسمح لهم بإلقاء المحاضرات في مساجدهم
وقراهم، كل هذا حدث بسبب هذا المدخل وهو اجتماعهم مع الطرق الصوفية في
ادِّعاء محبة آل البيت.
أبرز المؤسسات والأنشطة:
إن العمل المؤسسي من أشد الأنشطة تأثيراً على الفرد والمجتمع؛ إذ يجد
الفرد نفسه عضواً في العمل بالتدريج، ولا بد أن يتشرب أثناء عمله شاء أم أبى
أفكار صاحب العمل، وهذا ما اتجهت إليه أنظار الرافضة في السودان، فاستوعبوا
أكبر قدر ممكن من الموظفين سواء في المراكز أو المعاهد التابعة لهم على شكل
حراس ومستخدمين وسكرتاريين وسائقين ومترجمين وغير ذلك، وهذا التوظيف
بهذه الكثرة ليس سببه كثرة العمل وضغوطه بقدر ما هو استيعاب أكبر قدر ممكن
للتأثير المباشر عليهم عقدياً، وهذا ما حصل مع الأسف.
بالإضافة إلى ذلك اتجه اهتمام الرافضة إلى الأساليب التي تمس المجتمع
مباشرة، مثل إنشاء المدارس والمعاهد، والجمعيات. ونسوق هنا بعض ما يخص
هذه الأنشطة بشيء من التفصيل:
أولاً: المراكز الثقافية:
تعتبر هذه المراكز آليات لتنفيذ الأنشطة في مجال نشر الرفض بين المثقفين،
وهي في الوقت نفسه تمثل واجهات يتستر خلفها دعاة الرافضة لتشييع المجتمعات
المستهدفة في السودان ومن أبرزها:
أ - المركز الثقافي الإيراني بالخرطوم:
يقع هذا المركز جوار السفارة الهندية، وهو بمثابة العقل المدبر لنشر الفكر
الشيعي في السودان؛ ولهذا المركز عدة أقسام:
1 - قسم الإعلام والثقافة:
يحتوي على مكتبة لأشرطة الفيديو، وأشرطة الكاسيت، والجرائد الإيرانية،
ومن أهم عروض الفيديو التي تقدم: عروض عن ولاية الإمام علي رضي الله
عنه، وعن بطلان بيعة أبي بكر رضي الله عنه في السقيفة، وأنها كانت بمحاباة
وقبلية، ويتم في هذا القسم نشر أشرطة فيها سبٌّ للصحابة رضي الله عنهم
وخاصة الإمامين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما توزع في هذا القسم الكتب
الخاصة بفكر الرفض لزوار المركز وخاصة الطلاب. ومن أخطر أنشطة هذا
القسم تقديم المنح الدراسية للجامعات الإيرانية، وأكثر المنح تكون لجامعة الإمام
الخميني؛ لأن هذه الجامعة تقوم بتدريس ما يعرف بالفقه الجعفري، وقد تم خلال
السنوات التسع الأخيرة إرسال عدد كبير جداً من الطلاب إلى تلك الجامعة،
وخاصة الطالبات، وقد تخرج في تلك الجامعة عدد كبير، وتم تعيين أغلبهم
في المراكز الثقافية الإيرانية، وبعضهم في السفارة الإيرانية بالخرطوم [1] ، وتعطى
تلك المنح للطلاب الذين سبق التحاقهم بإحدى الدورات التي ينظمها المركز،
والذين يبدو عليهم الاستعداد لمناقشة العقيدة، أو يظهر أن لديهم رغبة في المال
مقابل التنازل عن عقيدتهم، ويقوم بمهمة مراقبة الطلاب مشرف مكلف رسمياً
بتدوين ملاحظاته عن مدى تأثر الدارسين.
2 - قسم الدورات:
يقدم هذا القسم عدداً من الدورات حول عدد من الموضوعات والمهارات:
أولاً: دورات في اللغة الفارسية:
وهي للعامة والمثقفين، فيستشهدون أثناء تدريسها بأفكارهم، ويناقشون فكرة
الإمامة والرجعة ومسح القدمين، وغيرها من عقائد القوم، ووقع بذلك كثير من
الدارسين بسبب الدورات في شباكهم.
ثانياً: دورات في الخط الفارسي:
وعبرها يضعون السم في العسل [2] بترسيخ أصولهم الرافضية في خطوط
عريضة لا تغيب عن الذهن بتكرارها.
ثالثاً: دورات في الفقه المقارن:
يُدرس في منهجه كتاب اسمه: (الفقه على المذاهب الخمسة) ويعنُون بها
المذاهب السنِّية الأربعة المعروفة: (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) ،
بالإضافة لمذهب الرافضة الفقهي الذي يسمونه بـ (المذهب الجعفري) ، ويؤتى
بالمعلمين الذين يقومون بتدريس هذا النوع من الدورات من إيران مباشرة.
يقوم من يدرس في هذه الدورات بترجيح جانب المذهب الجعفري دوماً وفي
كل قضية، مركِّزاً على أن الإمام جعفر الصادق إمام معصوم، وأن كل المذاهب
السنية قد أخذت منه، ويحرصون على تكرار مقولة منسوبة للإمام أبي حنيفة أنه
قال: «لولا السَّنَتان لهلك النعمان» ، ويعنون بذلك أن أبا حنيفة قد درس سَنَتين
على الإمام جعفر الصادق. وقد أقيمت حتى الآن (خلال الأعوام العشرة الماضية)
90 دورة في الفقه المقارن، نوقشت خلالها كثير من المسائل العقدية عند الرافضة
مثل سبِّ الصحابة والطعن فيهم؛ بينما يلاحظ الضعف الكبير في أنشطة أهل السنة
في السودان مقارنة بأنشطة الرافضة هناك من حيث أعداد الدورات، وتأهيل الدعاة،
ونشر مذهب أهل السنة، مع الانفتاح الشديد جداً أمام أهل السنة في الدعوة إلى
الله حكومة وشعباً.
رابعاً: دورات في المنطق:
يدرس فيها كتاب: (خلاصة المنطق) وهو مدخل للتشكيك في عقائد الطلاب،
فبه يبدءون، ثم يدخلون في الفقه المقارن، ثم يُخرِجون الطلاب من السُّنَّة إلى
الرفض، والله المستعان.
خامساً: دورات في أصول الفقه:
تقام هذه الدورات خاصة للطلاب الجامعيين، وبالأخص طلاب جامعة أم
درمان الإسلامية، وجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، فيقوم المدرس
الإيراني بتدريس هذه المادة لأهميتها عندهم؛ ففي هذه المادة خاصة يتكلمون عن
الخلاف بين السنة والشيعة، وعن الإمامين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد
يتكلمون عن الوهابية بسوء القول في كل مناسبة بل وبغير مناسبة! ويكفِّرون
الصحابة إلا قليلاً، فيثور النقاش بين الطلاب في مسألة لعن الصحابة [3] ، وقد
ينتهي هذا النقاش أحياناً بإقناع عدد ليس بالقليل من الطلاب.
3 - قسم المكتبة:
توجد في هذا المركز مكتبة عامة تحوي كميات من الكتب في كافة
التخصصات؛ وذلك لجلب كل طبقات الطلاب والباحثين، واستقطاب كل فصائل
المجتمع، ومن أقسام تلك المكتبة جناح خاص بالعلوم الشيعية باللغتين العربية
والفارسية، وتتوفر فيها الصحف اليومية السودانية والإيرانية.
4 - قسم المناسبات:
وهو من الأقسام المهمة جداً في المركز؛ فهو يختص بإقامة المناسبات الدينية
والسياسية، مثل إقامة ذكرى ميلاد الأئمة الاثني عشر، وذكرى ميلاد السيدة فاطمة
الزهراء، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكرى الإسراء والمعراج،
ويوم عاشوراء الذي يجتمعون فيه ويبكون ويسبُّون الصحابة، وتقام مناسبات أخرى
مثل تأبين الأئمة، وكذلك الاحتفالات السياسية كذكرى تولي الحكم، وميلاد الخميني
وموته، وعيد النيروز (وهو عيد وثني مجوسي معروف) ، وسائر الاحتفالات
التي تقيمها الشيعة في العالم. ويتم أثناء تلك الاحتفالات عرض أفلام وثائقية حول
الأئمة الاثني عشر، والخميني باسم: (من الميلاد حتى العروج) ، وفيلم يشتم
الوهابية باسم: (الوثنية السعودية) ! وفي هذا الاحتفال يتم توزيع كتاب بنفس
الاسم: (الوثنية السعودية) ، مع 70 كتاباًَ آخر كلها حول الوهابية، ومن هذه
الكتب كتاب مختلق باسم: (مذكرات مستر هنفر) وُزِّع منه حوالي مليون نسخة ما
بين 1990م 2000م، وقد تم خلال هذا العام عرض فيلم حول الإمام محمد بن
عبد الوهاب رحمه الله، وفيه افتراءات لا تنطلي إلا على جاهل أو حاقد.
ولا يكتفي هذا القسم بعرض تلك الأفلام بل يقوم بتوزيع كثير منها أيضاً.
ومن أنشطة هذا القسم كذلك استقطاب المسؤولين والوجهاء وشيوخ الطرق
الصوفية وأساتذة الجامعات بتوجيه بطاقات الدعوة في المناسبات، ودفع مبالغ لهم
باسم الهدية، وتوجيه دعوات لهم لزيارة الجمهورية الإيرانية، وخلال السنوات
الخمس الماضية قام مجموعة من أهم رجالات الحكومة بزيارة طهران، بالإضافة
إلى زيارات على مستوى قيادات الجيش والطلاب وحفظة القرآن، إلى جانب أفراد
من أساتذة الجامعات ومشايخ الطرق الصوفية.
ويوجه هذا القسم دعوته للطلاب الأفارقة في (جامعة إفريقيا العالمية
بالخرطوم) والتي كانت سابقاً تسمى: «المركز الإسلامي الإفريقي» وكان مركزاً
هاماً من مراكز نشر السنة في إفريقيا عموماً، ولأن هناك محاولات جادة بل مثمرة
لكسب هذه الجامعة والتأثير عليها مباشرة أو غير مباشرة؛ فقد ظهر هذا التأثير
المباشر على إدارة الجامعة والمسؤولين فيها وتم كسبهم وكسب ولائهم، وليس من
الغريب أن يكون أحد المسؤولين الكبار في هذه الجامعة هو أحد الأشخاص الذين
كان لهم أكبر الأثر في إيجاد موطئ قدم للرافضة في السودان في بداية نشر مذهبهم
فيه.
ويأتي التركيز على هذه الجامعة؛ لأنها على غرار جامعة الأزهر في مصر
والجامعة الإسلامية في السعودية؛ حيث إن نوعية غالب الطلاب من جنسيات
أجنبية؛ فالتأثير عليهم سهل ومثمر في بلادهم بعد تخرجهم.
وأما الطريقة غير المباشرة فهي أنه قد تم منحهم قطعة أرض كبيرة جداً
وقريبة من هذه الجامعة لإقامة مركز إسلامي يحتوي على مسجد وسكن ومكتبة
وقاعة محاضرات وأندية وسكن داخلي للطلاب ليتم من خلاله استقطاب الشباب
الأفارقة لهذه الأنشطة والتأثير عليهم مع ملاحظة قرب هذا المركز الشديد من هذه
الجامعة لحضور المناسبات المختلفة، ومع توفير وسائل المواصلات لكل الطلاب،
ودفع الأموال للذين يروِّجون للرفض في الأوساط الطلابية بالجامعة.
ب -المركز الثقافي الإيراني بمدينة أم درمان:
تم إنشاء هذا المركز بإيحاء من الشيعة الذين يقطنون هذه المنطقة، وله
أنشطة المركز الثقافي الإيراني نفسها بالخرطوم، ويستعين المركز في أنشطته
بالذين سبق لهم أن نالوا دراسات في إيران ممن يتقنون اللغة الفارسية.
ويقوم هذا المركز بعقد لقاءات جماعية أسبوعية كل يوم أربعاء، ويتوافد إلى هذه
اللقاءات جم غفير من الطلاب، ويحضر بعض تلك اللقاءات زائرون من إيران،
ويقومون بندوات لنشر فكر الشيعة [4] . يتميز مدير مركز أم درمان (وهو سوداني)
بالمبادرة إلى الأعمال، وله خبرة في أساليب استدراج الطلاب إلى فكر الرفض.
ثانياً: المكتبات العامة:
للاهتمام العظيم الذي يوليه الرافضة لأنشطة التشييع قاموا بإنشاء المكتبات
العامة التي تمثل في السودان مأوى لكل الطلاب لاعتبارات عدة، ومن أبرز تلك
المكتبات:
1 - مكتبة المركز الثقافي الإيراني بالخرطوم.
2 - مكتبة المركز الثقافي الإيراني بأم درمان.
3 - مكتبة الكوثر بحي السجانة (وسط الخرطوم) .
4 - مكتبة مركز فاطمة الزهراء بحي العمارات (وسط الخرطوم) .
5 - مكتبة مدرسة الجيل الإسلامي بحي مايو [5] (جنوب الخرطوم) .
6 - مكتبة معهد الإمام جعفر الصادق بحي العمارات (وسط الخرطوم) .
وقد حققوا نجاحاً في استخراج إعفاءات جمركية (عبر الاتفاقيات بين
السودان وإيران وللأنظمة والأعراف الدبلوماسية بين الدول) لإدخال الكتب
والأشرطة المسموعة والمرئية، وقد أدخلوا 8 ملايين نسخة من الكتب المختلفة التي
تدعو إلى فكر الرفض، وقد نشرت منها كميات ووزعت على المتصوفة والطلاب
والمعاهد الدينية بالسودان عبر مشرفي المعهد الإيراني بالخرطوم.
وهذه قائمة بأهم تلك الكتب التي وزعت خلال الأعوام السابقة:
الكتاب ... ... ... ... ... المؤلف ... ... ... ... ... ملاحظات
1- الوهابية في الميزان ... ... جعفر السبحاني ... وهذا الكتاب مغالطات حول عقيدة السلف
عمومًا بدعوى نقدها
2- معالم المدرستين - 3أجزاء ... مرتضى العسكري وهذا الكتاب من أخطر الكتب الموزعة للمثقفين
ثقافة عالية جدا، ويحتوي
هذا الكتاب على شبه قوية
جدًا في مذهب أهل السنة
لا يستطيع التصدي لها
إلا العلماء وطلبة العلم
3- براءة الشيعة من افتراءات الوهابية محمد أحمد خير
... ... ... ... ... ... سوداني متشيع
4- زبدة الأحكام ... ... ... ... الخميني
5- القرآن ودعاوى التحريف ... ... رسول جعفريان
6- مخالفة الوهابية للقرآن والسنة ... عمر عبد السلام
7- الإسلام والوثنية في السعودية. ... فهد القحطاني ... هذا الكتاب يوزع بكثرة مع أن اسم هذا
المؤلف اسم لا حقيقة
له سوى الكذب
المعروف عنهم
علماً بأنه قد وزعت مليون نسخة من المصحف الشريف في مساجد العاصمة
الخرطوم وبعض القرى وهي نسخة مزخرفة جميلة، واسم الجلالة مكتوب فيها
بالأحمر. وعليها اسم الجمهورية الإيرانية، وهذه النسخ جاءت بعد أن قام أحد
دعاتهم بصلاة الجمعة في أحد مساجد ولاية الجزيرة حيث سمع الخطيب يخطب عن
الرافضة ويذكر من عقائدهم أنهم يعتقدون أن القرآن ناقص.
فقام هذا الرافضي برفع برقية لمرجعه، فعمدت إحدى دور النشر في الشام
بطباعة مليون نسخة مصحف طباعة فاخرة تم توزيع كميات كبيرة منها في هذا
الجامع بالذات وفي السودان عموماً حتى تلغي هذه النظرة عن الرافضة من العامة،
وحتى لا ينفضحوا في بداية مشوارهم التشييعي في السودان مع المكاسب التي
حققوها.
ثالثاً: المؤسسات التعليمية:
أ - المدارس: وهي على النحو الآتي:
1 - مدرسة الإمام علي بن أبي طالب الثانوية للبنين بمنطقة الحاج يوسف في
محافظة شرق النيل: أنشئت هذه المدرسة في هذه المنطقة الشعبية أملاً في إقبال
الطلاب عليها نظراً للظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها أكثر الناس.
2 - مدرسة الجيل الإسلامي لمرحلة الأساس للبنين بمنطقة مايو في محافظة
الخرطوم: وهي أيضاً منطقة نائية في طرف العاصمة يقطنها النازحون إلى
العاصمة من جنوب السودان وغربه.
3 - مدرسة فاطمة الزهراء لمرحلة الأساس للبنات بمنطقة مايو في محافظة
الخرطوم.
ب: المعاهد:
1 - معهد الإمام علي العلمي الثانوي للقراءات بمنطقة الفتيحاب بمحافظة أم
درمان: أنشئ في سنة 1996م، لاستقطاب طلاب الخلاوي، وفي السنة الأولى
وقعت في المعهد جريمة أخلاقية تم على إثرها إغلاقه؛ ولله الحمد.
2 - معهد الإمام جعفر الصادق الثانوي للعلوم القرآنية والدينية بحي
العمارات: محافظة الخرطوم.
وهو من أخطر مراكز التشيع؛ إذ لا يقبل سوى حَفَظَة القرآن الكريم،
ويلاحظ تركيزهم على حفظ القرآن ممن لا يحملون علوماً شرعية أخرى لهدف
واحد وهو قبول الناس واحترامهم لحافظ القرآن الكريم وخصوصاً أبناء الأرياف
والقرى، ومن ثم وبعد التأثير عليهم حيث يرسل من حفظ منهم القرآن إلى قريته
ويتبنى إما فتح خلوة له أو بناء مسجد يؤمه هو، أو أن يكون إمام مسجد القرية
القديم، ثم يبدأ التأثير على أهل قريته وقبيلته. مع ملاحظة شروط القبول في هذا
المعهد التي تخدم هذا الهدف المراد، ومنها:
أ - حفظ القرآن الكريم كاملاً.
ب - أن يكون عمر الطالب أقل من سبعة عشر عاماً!
ت - أن يكون الطالب سوداني الجنسية.
ث - أن يكون الطالب معافى من العاهات المستديمة.
ج - أن يكون الطالب صوفياً.
وبالطبع يشترطون ألا يكون للطالب علاقة بالسلفية أو اتصال بالعلوم
الشرعية [6] .
يتكون المعهد من طابقين، وفيه قسم داخلي كبير للطلاب يحوي كل وسائل
الراحة، وفيه مطعم يقدم ثلاث وجبات يومية فاخرة مجاناً، وبه غرف وأسرَّة لكل
الطلاب، وبالمعهد مكتبة ضخمة فيها جميع كتب الرافضة وكتب السنة، وفيها
جهاز فيديو ومكبرات للصوت للأذان، ومن مرافق المعهد قاعة للمطالعة، ومسجد
للصلاة.
يقدم المعهد لطلابه كل ما يحتاجون من ملابس وأحذية وغذاء وعلاج ووسائل
ترحيل.
وللمعهد أقسام دراسية ثلاثة:
1 - قسم التجويد: ومدة الدراسة فيه سنتان، يمنح الطالب بعدها شهادة إجازة
في التجويد.
2 - قسم القراءات: ومدة الدراسة فيه أربع سنوات، يمنح الطالب بعدها
شهادة إجازة أهلية في القراءات.
3 - القسم الثانوي العلمي: ومدة الدراسة فيه ثلاث سنوات، يمنح بعدها
الطالب شهادة إجازة أهلية في العلوم الدينية.
ومن الجدير بالذكر أنهم يسعون لفتح كلية لعلوم اللغة العربية والشرعية،
ويبذلون كل وسعهم في استصدار تصريح لذلك.
رابعاً: الجمعيات والروابط والمنظمات
1 - رابطة أصدقاء المركز الثقافي الإيراني:
هذه الرابطة ليست إلا (رابطة شيعة السودان) فهي واجهة شيعية تتم عبرها
اللقاءات مع المدعوين للتشيع، ويتم في هذه اللقاءات إلقاء المحاضرات وتقديم
الكتب والهدايا من قبل مدير المركز محمد الهادي تسخيري الذي خلف المدير السابق
علاء الدين واعظي.
2 - رابطة الثقلين.
3 - رابطة آل البيت.
4 - رابطة المودة.
5 - رابطة الظهير:
وهذه الروابط الأربع روابط طلابية يشرف عليها بعض خريجي الجامعات
الإيرانية والسورية واللبنانية والتركية، ولها أنشطة مختلفة كإقامة الندوات
والمحاضرات وإصدار مجلات حائطية ومطويات.
6 - رابطة الزهراء:
وهي رابطة خاصة بالطالبات في المدارس والمعاهد والجامعات، وتشرف
عليها إحدى أهم الناشطات في الحركة الشيعية النسائية وممن امتزج التشيع فيها
امتزاج الروح بالبدن، وهي أيضاً عضو مهم ومؤثر في الاتحاد النسائي الإسلامي
السوداني العالمي.
يقوم المركز الثقافي الإيراني بدفع مبالغ كبيرة لكل الروابط المذكورة من أجل
تمويل الأنشطة؛ إضافة إلى الرسوم الدراسية للأعضاء، وتأمين ملابس وكتب
دراسية ومبالغ مالية للمواصلات، وغير ذلك مما يحتاجه الطلاب.
7 - جمعية الصداقة السودانية الإيرانية:
نشأت هذه الجمعية بدعم بعض السياسيين من البلدين، ويرأسها حالياً الدكتور
المكاشفي طه الكباشي وهو شخصية لها اعتبارها عند العامة من وجوه، منها:
ارتباطه الكبير بالصوفية، فهو من كبار زعماء الصوفية في السودان ومن أشهر
رجالاتها، وكان رئيساً للقضاء في فترة تطبيق الشريعة في عهد النميري، وقد
أصدر حكماً نهائياً بقتل الهالك محمود محمد طه زعيم الحزب الجمهوري ومؤسسه
ردةً، كما أن للمشرفة على رابطة الزهراء جهوداً كبيرة في نفس الجمعية.
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن لهذه الجمعية صلة وثيقة بمجلس الصداقة الشعبية
العالمية وهو أحد أهم الواجهات الرسمية التي تمارس ما يسمى بالدبلوماسية الشعبية
إضافة إلى الدبلوماسية الرسمية [7] ، ويرأس هذا المجلس أحد كبار الحزب الحاكم
هو الدكتور أحمد عبد الرحمن الذي يبدي تعاطفاً كبيراً مع الشيعة ويدافع عنهم في
المجالس والمنتديات، وقد تمكنوا من خلال هذا المجلس من الاتصال بجمعيات
الصداقة الأخرى، وكذلك بالطلاب الوافدين خاصة من الدول الإفريقية، وقد تشيع
طلاب من السنغال وإفريقيا الوسطى ومالي وبوروندي وموزمبيق ونيجيريا
ممن يدرسون في جامعة إفريقيا العالمية.
8 - منظمة طيبة الإسلامية:
وهي تعنى بإنشاء المدارس والمعاهد، ويتبعها بعض المعاهد والمدارس سالفة
الذكر، كما يتبعها ما يعرف بـ (مجلس أمناء المدارس الإيرانية بالسودان) والذي
يضم عدداً كبيراًَ من الشخصيات السودانية الموالية للرافضة في السودان.
خامساً: مؤسسات اقتصادية ومشاريع استثمارية:
1 - شركة إيران غاز:
وهي إحدى أهم الشركات العاملة في تعبئة أنابيب الغاز ونقلها وتوزيعها في
السودان، ويوجد في كل حي موزع أو أكثر لهذه الشركة؛ حيث يعمدون إلى
إعطاء التوكيل في الحي لمن كان على مذهبهم ليكون مصدر دخل لأبناء ملتهم.
ومن الجدير بالذكر أن المسؤولين الإيرانيين في هذه الشركة بدءاً من مديرها العام
يشاركون في الأنشطة الدعوية الشيعية، ويباشرون الدعوة بأنفسهم في الأوساط التي
يحتكون بها.
2 - المطعم الإيراني:
وقد أقيم في مبنى فخم من ثلاث طوابق يطل على شارع المطار، وشارع رقم 15
بحي العمارات، إلا أنه قد أخفق من ناحية اقتصادية وتم إغلاقه.
3 - استثمارات في البترول:
للإيرانيين استثمارات في مجال التنقيب عن البترول السوداني واستخراجه.
وهكذا نرى السودان، البلد الإسلامي السني يتعرض لتلك الهجمة الرافضية، في
ظل غفلة من أهل السنة وانشغال، فهل نترك لهم السودان ليكون إيران إفريقيا؟ !
__________
(1) ومن هؤلاء المتخرجين المتشيعين بالرفض من يكون داعية متجولاً يجوب الأندية الرياضية ومجامع الشباب، وقد رصدت حركة ثلاثة من هؤلاء الشباب قد قدموا إلى مدينة الحصاحيصا وهم يدعون الشباب في أحد الأندية دعوة فردية لإقناعهم باعتناق هذا الفكر وإغرائهم بأمور مادية.
(2) فمثلاً يجعلون من النماذج المخطوطة للتطبيق ما يتناقلونه من قول جعفر الصادق: (التقية ديني ودين آبائي؛ فمن لا تقية له لا دين له) وأثناء التمرين على كتابة هذه المقولة يبدأ المدرس بشرح هذه المقولة ومعناها، وطرح شيء من أقوال جعفر الصادق وإقناع الطلاب بها وهكذا! ! .
(3) بحسب مصادرنا فإن كثيراً من الطلاب ما زالوا يرفضون لعن الصحابة رضي الله عنهم بالجملة ولكن لا يبعد تبدلهم مع كثرة طرق الرافضة لمثل هذه المسألة.
(4) كان آخر تلك الندوات ندوة بعنوان: (حوار الحضارات) ، وكان من المتحدثين فيها: محمد باقر كريميان (إيراني جاء في زيارة للخرطوم) د عوض الكرسني (سوداني) ، وقد أقيمت في حديقة مجلس الصداقة العالمية بالخرطوم.
(5) حي شعبي فيه كثافة سكانية عالية وأغلب من يقطنه أبناء دارفور والفلاتة، وهؤلاء يغلب عليهم الجهل وسرعة التأثر للسماحة ورقة الطبع التي يتحلون بها ومحبتهم للغريب.
(6) حيث تم فصل أحد الطلاب لما بدأ يرد عليهم بالأدلة الشرعية على تكفيرهم للصحابة رضي الله عنهم، وقالوا له: أنت وهابي فطرد من المعهد.
(7) هذا المجلس متورط حتى النخاع في حوار الأديان، وهو أحد أهم المنابر للدعوة إلى ما يعرف بالديانة الإبراهيمية أو جبهة المؤمنين.(166/86)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
كم ثمن السيارة إذن! ! ؟
في أجواء تشبه تعاملات بورصة الأسهم، شهدت دبي مزادات على الأرقام
المتميزة للسيارات، بلغت حصيلتها 31. 8 مليون درهم، وطرحت في المزاد
الأول الأرقام الأحادية من (2) إلى (9) والأرقام الثنائية المتماثلة، وكانت
مفاجأة المزاد عند الرقم (7) الذي رسا عند السعر 910 آلاف درهم للفريق أول
الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وزير الدفاع وولي عهد دبي، وحقق الرقم (2)
أعلى سعر، وهو مليون و 240 ألف درهم، تبعه الرقم (3) بسعر مليون و 40
ألف درهم، ثم الرقم (9) بسعر مليون و20 ألف درهم. وما أن بدأ أول مزاد،
حتى علت الأيدي وتوهجت القاعة بالمزايدين، فبدأت المزايدة على الرقم (99) ،
الذي كان من نصيب أحد المزايدين الذي قال: لم أكن أتوقع أن يصل الرقم لهذا
الحد، فكنت أتوقع ألا يزيد سعره عن 280 ألفاً، لكن كان الارتفاع مفاجئاً، حيث
وصل سعره إلى 700 ألف درهم، وقامت مجموعة من الحضور تمثل مجموعة
شركات كبيرة، تمتلك عدة فنادق بشراء أكثر من رقم، حيث تم شراء الرقم
(88) بسعر بلغ 360 ألف درهم، وشراء الرقم (77) بمبلغ 400 ألف درهم.
كذلك الرقم (66) بلغت قيمته 410 آلاف درهم، وذكر صاحب الرقم أنه كان
يتوقع أن تكون الأسعار أقل، لكنه أصر على خوض المزاد، واشترى آخر رقمين،
إذ اشترى الرقم (55) بمبلغ 480 ألف درهم، إضافة إلى الرقم (9) بمبلغ
مليون و20 ألف درهم، وذكر أن الرقم المميز يعني شخصية صاحب الرقم! !
واشترى أحد رجال الأعمال ثلاثة أرقام منها الرقم (44) بقيمة 550 ألف درهم،
كذلك الرقم (4) بقيمة 980 ألف درهم، والرقم (8) بقيمة 910 ألف درهم.
وكان الرقم (33) ثمنه 550 ألف درهم، إضافة إلى الرقم (22) بقيمة 610
آلاف درهم، ورسا المزاد على اللوحة (11) على أحد الحضور، ودفع قيمتها
840 ألف درهم، كما رسا عليه أيضاً الرقم (2) ودفع مبلغ مليون و 240 ألف
درهم، إضافة إلى الرقم (6) بقيمة 810 آلاف درهم، وقال الفائز بالرقم: إن
الرقم المميز يوفر مظهراً جيداً لرجال الأعمال، والأرقام التي وقع عليها اختياره
تعد أفضل الأرقام المعروضة، من وجهة نظره، تستحق أن تدفع فيها هذه المبالغ،
وقام أحد المزايدين بشراء رقمين أحاديين بدأ بالرقم (5) بقيمة 930 ألف درهم،
والرقم (3) بقيمة مليون و40 ألف درهم! ! وفي المزاد الثاني أثار أحد تجار
الفحم مفاجأة بشرائه (12) رقماً بقيمة 14. 11 مليون درهم من إجمالي (81)
رقماً بلغت قيمتها 31. 8 مليون درهم؛ فقد حرص تاجر الفحم على حضور
المزايدة واقتناء أرقام متميزة، ومنذ بداية المزاد استطاع مع ابن أخيه لفت أنظار
الحضور إليهما بسبب إصرارهما على الاستحواذ على الأرقام لدرجة أن المزايدين
جلسوا معهما وحادثوهما لشراء أرقام رست عليهما.
وقال: إنه حضر للمزايدة ليتحدى تجار العقارات ورجال الأعمال، مشيراً
إلى أنه حصل على الأرقام المتميزة في كل مزايدة دخلها؛ لأنه راغب بشدة في
امتلاك هذه الأرقام وهي: 20، 30، 40، 50، 60، 70، 65، 36، 75،
91، 95، 98 بقيمة 14 مليون درهم. ويقول عندما سئل عن رقم (الموبايل)
الذي يحمله، إنه لا يعرفه، ولا حتى رقم هاتف المنزل، ومحلاته التجارية! !
[مجلة المجلة، العدد: (1115) ]
أليسوا أكرم من لوحة السيارة؟
شهدت موازنة القسم الصحي لوكالة الأونروا غوث اللاجئين الفلسطينيين
المخصصة للبنان تخفيضات حادة هذا العام بلغت أكثر من ثلاثة ملايين دولار.
ومن المتوقع أن تشهد الموازنة العامة تخفيضات جديدة في الربع الأخير من هذا
العام بسبب زيادة العجز في الميزانية العامة والبالغ 60 مليون دولار. وقد ضاعف
من حجم المشكلة في القسم الصحي ما تسرب من معلومات مؤكدة عن تزوير في
الفواتير من قبل بعض الموظفين السابقين في الأونروا التي بلغت أكثر من 65%
من قيمة الموازنة المخصصة لهذا القسم. وبدلاً من أن تقوم إدارة الأونروا، ممثلة
بشخص مديرها العام في لبنان، بزيادة الموازنة المخصصة للبنان والقيام بتحقيق
جاد يكشف ملابسات مسألة التزوير ومحاسبة الفاعلين، اتخذت مجموعة من
الإجراءات الشكلية. وأخطر ما قامت به «الأونروا» كان التوقف عن تغطية
علاج ونفقات مرضى السرطان قبل ثلاثة أشهر، مما أدى إلى وفاة المواطن
الفلسطيني مصطفى مراد والمواطنة أم حسين الأفندي إضافة إلى مواطن ثالث توفي
داخل إحدى عيادات الأونروا بعد انتظاره لوقت طويل، وكل ذلك بسبب التوقف
عن دفع نفقات العلاج.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8262) ]
رفاهية! !
المصارف تجني الأرباح، والدولة تخسر الملايين. هذه المعادلة الصعبة
والثقيلة كشفتها قضايا سجناء الديون والشيكات، السجين الواحد من هؤلاء حسب
إدارة المؤسسات العقابية يكلف الدولة يومياً مئة درهم، وإذا كان العدد بالآلاف فإن
الدولة تخسر الملايين، بينما البنوك تتضاعف أرباحها نظراً للتسهيلات غير
المحسوبة التي تقدمها للقروض خصوصاً للشباب الذين يقعون نهباًَ لهذه القروض
على مختلف مسمياتها حتى قرض شراء الدين. وقد أشارت دراسة حديثة عن حجم
هذه الظاهرة المرعبة إلى أن 95% من أفراد المجتمع في الإمارات مدينون للبنوك
ومعظهم من الموظفين الحكوميين الذين تتراوح رواتبهم بين ثلاثة آلاف وعشرة
آلاف درهم، أي المجتمع كله يعيش تحت رحمة البنوك ووطأة أقساط القروض
ومن يتخلف فمصيره وراء القضبان!
[جريدة الاتحاد الإماراتية، العدد: (9491) ]
سننتصر بإذن الله
أعلنت موسكو عزمها اعتماد برامج خاصة لمكافحة «التطرف الإسلامي»
وعقد لهذا الغرض اجتماع حضره رئيس النيابة العامة فلاديمير أوستينوف
ووزير الأمن نيكولاي باتروشيف ورئيس المحكمة الدستورية مارات باغلاي
ومسؤولون آخرون. وأعرب المشاركون في الاجتماع عن «القلق» لتزايد عدد
المنظمات الإسلامية والصناديق الخيرية المسجلة رسمياً، وقال بيان صدر عن
الاجتماع إن الهيئات المذكورة تعمل على «أسلمة» روسيا و «زرع الأيديولوجيا
الأصولية» فيها. وأشار المكتب الإعلامي للنيابة العامة إلى أن الحاضرين أكدوا
على أن «التطرف الإسلامي في روسيا يشكل خطراً فعلياً على الأمن
الدستوري والاجتماعي» ، ومعلوم أن في روسيا زهاء 20 مليون مسلم لهم هيئات
دينية معترف بها رسمياً، ولم يسبق أن وجهت اتهامات لها بالتورط في أعمال
مخالفة للقانون. ويبدو من المعلومات الأولية أن النية متجهة إلى الحد من نشاط
المؤسسات التعليمية الإسلامية؛ إذ أعرب المشاركون في اجتماع عقد لهذا الغرض،
عن الاستياء من ازدياد عدد هذه المؤسسات التي زعم أنها تستخدم كتباً ووسائل
سمعية وبصرية «أصولية التوجه» وقال بيان النيابة العامة: إن المتفوقين من
الشباب يتم اختيارهم وإرسالهم للدراسة إلى بلدان الشرق الأوسط حيث يقعون تحت
التأثير الكامل للمنظمات الإسلامية المتطرفة.
[جريدة الحياة، العدد: (13996) ]
تنصير.. رسمي! !
بطريقة غير مسبوقة وبشكل استفزازي قامت مجموعة من الإرساليات بتوزيع
بعض المطبوعات وقصص وكتب تبشيرية خلال الأسابيع الماضية في مدينة معان
بالأردن، الأمر الذي دفع الأهالي هناك إلى الاحتجاج والتوجه للمسؤولين للتعبير
عن استيائهم الشديد من هذه التصرفات. الغريب في الأمر أن هذه الحملة التبشيرية
جاءت على ما يبدو بتعاون رسمي كامل؛ حيث قامت مديرية التربية والتعليم في
معان بإرسال كتب رسمية لمدراء ومديرات المدارس في المناطق المعنية بالنسبة
للإرساليات التبشيرية للتعاون معها وجمع الطلبة لذلك. هذا بالإضافة إلى إشراف
الهلال الأحمر فرع معان على عملية توزيع طرود على الطلبة يحتوي كل منها على
مجموعة كبيرة من القصص مثل يسوع يدخل المدينة المقدسة، ويسوع يمشي على
الماء، ودَعْ شعبي يرحل، والد الطفل يسوع، الدخول إلى أورشليم، وميلاد سعيد
لي، وقصص أخرى تتحدث عن الهيكل وبنائه مثل «صموئيل طفل الهيكل»
وهذه القصص تمجّد اليهود وتحاول إظهارهم بمظهر المظلوم والمضطهد وجميعها
صادرة عن دار الكتاب المقدس والمركز اللوثري للخدمات الدينية في الشرق
الأوسط. كما تم توزيع بعض القصص للتلوين والتي تحتوي على صور نساء
عاريات وبلباس فاضح بالإضافة إلى كتب باللغة الإنجليزية هذا عدا عن توزيع
رسائل تبشيرية للطلبة من طالبات مع صور شخصية لهن واحتوت الطرود على
ألعاب متعددة عليها صلبان.
التعاون والدعم الرسمي لهذه الإرساليات التبشيرية لم يتوقف عند ذلك حسب
ذكر المواطنين حيث تم نقل أفراد من المبشرين بسيارات حكومية تابعة لمؤسسة
سكة حديد العقبة واستضافتهم للمبيت في مدرسة البيضا الأساسية. وقال المواطنون
إنه كان يتم في كل زيارة عرض مسرحية أطفال «دمى» عن الرب «يسوع»
وكانت الفئة المستهدفة من الصف الأول وحتى الصف السادس الابتدائي، وقاموا
بتعليمهم حركات الصلاة في الديانة المسيحية «الأب، والابن، والروح القدس»
حيث كان يتم جمع الطلبة بعد انتهاء الدوام وأيام الجمعة مما حدا بالأهالي في
منطقتي قرين والقاسمية إلى جمع تلك المطبوعات وحرقها في ساحة المدرسة
وتوجيه اللوم الشديد لوزارة التربية والتعليم والهلال الأحمر لتقديمهم المساعدة
والعون لهذه الإرساليات التبشيرية. الجدير بالذكر أن أحد المراكز التبشيرية يعمل
بشكل رسمي في منطقة رأس النقب تحت اسم «مصح النور» ويقوم وبشكل علني
بتوزيع مطويات ونشرات وكتب للمراجعين تحت ستار تقديم الرعاية الصحية
المجانية؛ وإحدى الرسائل التي تم توزيعها على الطلبة من طالبات أجنبيات
كاثوليكيات جاء فيها: «إن المسيح يعطيك الحب، إن الله الرب يحبك كثيراً وهو
يعتني بك كثيراً أيضاً، ما هو عنوانك أريد أن أرسل لك الكثير من الرسائل، وإذا
أردت أن تذهب إلى الجنة ما عليك إلا أن تقول هذه الكلمات عندما تصلي:» يا
إلهي! أنا أحبك وأنا أؤمن أنك مت من أجلي، اشكرك يا إلهي «فقط قل هذه
الكلمات وآمن بها فسوف تذهب إلى الجنة عندما تموت» .
[صحيفة السبيل الأردنية، العدد: (391) ]
تكريم.. كلب! !
حكم قاض في ولاية كاليفورنيا بالسجن ثلاث سنوات على رجل قتل كلباً
بسيارته في نوبة من السياقة الرعناء. وقد أدين الرجل ويدعى أندرو بيرنيت
بمعاملة حيوان بقسوة وذلك بالتسبب في قتل الكلب ليو وهو كلب أبيض صغير
خارج مطار سان خوسيه الدولي العام الماضي؛ حيث أمسك به من سيارة مالكه
ورمى به وسط السيارات في غمرة حركة المرور، وقال بيرنيت إنه فعل ما فعله
رداً طبيعياً بعد أن عضه الكلب في يده على حد قوله للقاضي. ولكن القاضي قال
مخاطباً أندرو بيرنت إنه حكم عليه بالسجن لأنه لم يظهر أي أسف أو حسرة على ما
حدث، وقد هتف دعاة الرفق بالحيوان مبتهجين عند النطق بالحكم.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
http://www.bbcarabic.com
وإهانة دين! !
فوجئ الذين وصلتهم الدعوات لحضور مهرجان الرقص الشرقي الدولي الذي
شهده أحد فنادق القاهرة ببطاقات الدعوة عليها صورة راقصة بخلفية مسجد ذي
مئذنة شاهقة وقبات عالية، وكان هذا المهرجان الذي نظمته جمعية الرعاية
الاجتماعية لفناني الفنون الشعبية قد عقد دورته الثانية بمشاركة 275 راقصة يمثلن
18 دولة من قارات العالم المختلفة، واستمر عشرة أيام تحت شعار «أهلاً وسهلاً» .
وحرص منظمو المهرجان على إقامة عدد من المحاضرات في الرقص الشرقي
بإشراف كبار الراقصات في مصر، وتم تقسيمها إلى مستويين: الدرجة الأولى:
ولها أسعار تذاكر خاصة تصل إلى 140 دولاراً. الدرجة الثانية: وأسعارها ما بين
70 و 100 دولار.
[مجلة المجلة، العدد: (1115) ]
معاول هدم
ألا يمكن أن نكون في حرب مع بريطانيا، مثلاً، وأن نكون في الوقت نفسه،
في سلام مع شكسبير؟ ألا يمكن أن نعادي ألمانيا، أو فرنسا، أو إيطاليا، ونظل
في الوقت نفسه أصدقاء لبيتهوفن وغوته، لديكارت ورامبو، لدانتي وليوناردو
دافنشي؟ إذا كان الجواب نعم، وهو بالنسبة إليَّ كذلك، فلماذا لا يمكن أن نحارب
إسرائيل ونسالم في الوقت نفسه الفن والأدب اللذين ينتجهما كبار الأدباء والفنانين
اليهود، خارج إسرائيل وداخلها؟ كلا! ليس بالتجارة، أو بالسواعد، أو بالبنادق،
أو بالعيون السود أو الزرق، تصادق أمة أخرى أو تحاربها. هكذا يتوجب أن
يدرك أن معنى «العدو» في السياسة يختلف عنه في الكتابة، وأن الموقف إزاءه
يختلف هو كذلك في السياسة شيء، وفي الكتابة شيء آخر. تُرى، ألم تعد لدينا
قضية إنسانية تتجاوز حدود أنانياتنا، وحدود مصالحنا المباشرة؟ تُرى ألم يعد لأي
منا عالم داخلي يشغله؟ ألم يعد لديه ما يقوله عن هواجسه، وأحلامه، عن رؤاه
وحدوسه، عن ثورته على نفسه، وثورته فيها؟ تُرى ألم تعد لديه إلا قضية واحدة
تملأ وجوده كله: أن يدمر غيره، في شكل أو آخر، بطريقة أو أخرى؟
[أدونيس صحيفة الحياة، العدد: (13976) ]
كرم الحزام الإنجيلي
تعتبر ولايات الجنوب الأمريكي المعروفة باسم: (ولايات حزام الإنجيل)
الأكثر كرماً في الولايات المتحدة، ورغم أن سكان هذه الولايات هم بشكل عام أكثر
فقراً، فإنهم يقدمون لأعمال الخير أكثر بكثير مما تقدمه الولايات الأغنى. وجاءت
ولاية ميسيسيبي على رأس قائمة أعمال الخير التي صدرت من خلال مؤسسة
«كتالوج الأعمال الخيرية» التي وجدت أن متوسط الإنفاق السنوي للفرد على
الأعمال الخيرية في الولاية يصل إلى 4070 دولاراً أمريكياً سنوياً، وقالت وكالة
أنباء أسوشيتدبرس: إن ولايات أركنساس، ولويزيانا، وتينيسي، وآلاباما
وأوكلاهوما جاءت ضمن المراكز العشرة الأولى. واحتلت ولاية ميسيسيبي رأس
القائمة رغم أن متوسط الدخل الفردي السنوي فيما 31056 دولاراً، بينما وصل
متوسط الدخل السنوي في ولاية ماساشوستس، التي جاءت في المركز الخمسين في
القائمة إلى 51812 دولاراً، لكن بقي متوسط الإنفاق الخيري فيها عند 2645
دولاراً، وقد أجرى المسح المركز الوطني لإحصاءات الأعمال الخيرية التابع لمعهد
الدراسات الحضرية الذي قال إن الاختلافات الدينية كانت جزءاً من السبب الكامن
وراء هذه التباينات، إلى جانب تباينات مستوى المعيشة وقوانين الضرائب في
الولايات.
[مجلة الكوثر، العدد: (21) ]
آلام متجددة
مدينة موانيلا من مدن المنطقة الوسطى في سيرلانكا وفيها حوالي 19 قرية
مسلمة، ونسبة المسلمين فيها حوالي 45% وهي موقع استراتيجي بالنسبة إلى
التجارة حيث تخترق سوقها الرئيسي الطريق الرئيسي الذي يربط Colombo
العاصمة بمدينة Kandy (أبرز وأشهر مدن سيرلانكا وكانت عاصمة من قبل)
ومن الجدير بالذكر هنا أن المسلمين يمتلكون 70% من المحلات التجارية في سوق
موانيلا. وقد اعتادت فرقة من المتطرفين البوذيين أخذ الإتاوة من التجار المسلمين،
وقامت هذه الفرقة بأعمالها الوحشية بمساندة من أحد الوزراء الحكوميين، كما
استطاعت هذه الفرقة بمساندته إبطال المحاضر التي ترفع ضدهم في مراكز
الشرطة، وعلى هذا المنوال خرجت مجموعة منهم يوم الثلاثاء الموافق 30 إبريل
2001م إلى مطعم «زاهرة Zahira Hotel) الذي يمتلكه أحد المسلمين في
موانيلا وكانت الساعة آنذاك تشير إلى التاسعة والنصف مساء فطلبوا الإتاوة حسب
عادتهم، ولكن الأخ المسلم رفض طلبهم فقام المتطرفون بالاعتداء عليه بوحشية ثم
أخرجوه إلى موقف الأتوبيس المجاور وربطوه مع التمثال الموجود هناك كالمصلوب
وجرحوا جميع جسده بالشفرة كما قاموا بشق بطنه بالسكين وأذاقوه كل ألوان الأذى.
ولم يكن أمام المسلمين إلا الذهاب إلى مركز الشرطة والإخبار بجميع ما حدث،
ولكن هذا الإخبار لم يحرك ساكناً، ولم تتخذ الشرطة أية إجراءات في شأن هؤلاء
المجرمين، فقام المسلمون في صباح الأربعاء بمظاهرة احتجاجية مطالبين باتخاذ
الإجراءات اللازمة في شأن المجرمين وإخضاعهم إلى الحكم العادل؛ فحشدت تلك
الفرقة المتطرفة كل البوذيين باسم الصراع العرقي واتجهت نحو المسلمين واشتبك
الفريقان وقتاً من الزمن حتى جاءت الشرطة وأطلقت الغازات المسيلة للدموع
والرصاصات النارية وكانت خسائر المسلمين فادحة.
[جميعة أنصار السنة المحمدية بسيرلانكا]
وفي الصين مأساة
اتهمت منظمة العفو الدولية السلطات الصينية باستهداف المسلمين في حمى
تنفيذ الأحكام بالإعدام التي تجتاح الصين حالياً. وقال بيان صحفي صادر عن
المنظمة التي تتخذ من لندن مقراً لها إن المسلمين في إقليم كسينجيانج الغربي هدف
من أهداف الحملة وأن القمع ضدهم سيستمر بصرف النظر عن أي عامل آخر.
وذكر البيان أن» عدد الذين أعدمتهم الصين في الشهور الثلاثة يربو عن عدد
الذين تم إعدامهم في العالم كله خلال السنوات الثلاث الماضية «. وأفادت المنظمة
أن هذا العدد أقل من العدد الحقيقي للأشخاص الذين أعدموا؛ لأن الصين لا تعلن
عن كل حالات الإعدام، وذكر البيان:» أن الحملة لا يمكن وصفها بأقل من حمى
مسعورة أدت إلى خسائر بشرية كبيرة «. وفي بكين قالت المتحدثة باسم وزارة
الأمن العام: إن الحملة ستستمر لمدة عامين وقد تكون الأكبر منذ عام 1949م.
وأشار مسؤول آخر في الوزارة إلى حملتين كبيرتين أخريين في عامي 1983،
1996م وأضاف:» ستكون هذه حملة كبرى أيضاً «. وقالت منظمة العفو الدولية:
إن السلطات في إقليم كسينجيانج الغربي الذي يشكل المسلمون غالبية سكانه،
تنوي استخدام الحملة لمحاربة» الانفصالية والأنشطة الدينية غير المشروعة «.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7690) ]
منظف جديد! !
ذكرت صحيفة» الزمان «التي تصدر في لندن أن مبعوثاً من رئيس الوزراء
الإسرائيلي أرييل شارون وصل إلى العاصمة القطرية الدوحة دون تحديد موعد ذلك.
وقالت الصحيفة إن مبعوث شارون سلم خلال زيارته رسالة إلى الشيخ حمد بن
جاسم بن جبر آل ثاني وزير الخارجية القطري. وأضافت أن الرسالة تضمنت
تصورات إسرائيلية بشأن كيفية العمل من أجل اختراق الاستياء الذي يعم الشارع
العربي إزاء سياسة شارون وذلك عن طريق خطوة تقوم بها قطر تظهر شارون
شخصية محبة للسلام ومتمسكة بالحوار.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7690) ]
حرب صليبية
غادر المبشر فرانكلين غراهام، نجل القس الأمريكي الشهير بيلي غراهام
والصديق الحميم للرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش، بيته في مقاطعة كارولينا
الشمالية بالولايات المتحدة الأمريكية، ملتحقاً بالمتمردين المسيحيين في جنوب
السودان، ليقدم لهم» الدعم اللازم «حسب تعبيره في حربهم ضد حكومة الخرطوم،
وهو لا يتردد في القول إنه سيقود» حرباً صليبية «حقيقية ضد ما أسماه بـ
» النظام الأصولي «في السودان الذي حوَّل حسب رأيه مسيحيي جنوب السودان إلى
» عبيد «، وهو يضيف قائلاً:» هذا النظام شن الجهاد ضد أبناء شعبه، وهذا
شيء مرفوض. ويقود رجل الدين فرانكلين غراهام قوة ضغط أمريكية، وترى
مجموعة الضغط هذه أن السودان لا بد أن يكون على رأس أولويات السياسة
الأمريكية؛ ذلك أن الرئيس عمر البشير حسب رأيها يقود نظاماً يضطهد المسيحيين،
ويرى فرانكلين غراهام، القائد القوي لهذه المجموعة أن الحرب الأهلية في
السودان، ليست فقط «مسألة إنسانية» وإنما هي حرب بين الأصوليين الإرهابيين
المسلمين والمسيحيين الطيبين الذين يحبون الله وأمريكا! وقد وصل فرانكلين
غراهام إلى جنوب السودان بطائراته الخاصة ليقيم هناك قاعدة خاصة به، تقع على
بعد أربعين كيلو متراً من جبهة القتال، كما بعث جمعية مسيحية تقوم بتسيير شؤون
أفضل مستشفى في جنوب السودان، وتملك هذه الجمعية ثماني طائرات بينها طائرة
هليكوبتر يستعملها فرانكلين غراهام في تنقلاته جنوب السودان، أما ميزانيتها
فتبلغ 150 مليون دولار، وخلال المعارك قامت الجمعية المذكورة التي تحمل
اسم «ساماريتانس بورس» بمداواة الجرحى من الجنود المتمردين.
ويرتبط فرانكلين غراهام بعلاقة صداقة حميمة بالرئيس الأمريكي الحالي جورج
بوش منذ فترة طويلة، ويقول إن عائلته أمضت مع عائلة الرئيس عطلات كثيرة
في مناطق مختلفة، وهو لا يخفي أنه تحدث إلى جورج بوش حول مسألة جنوب
السودان أكثر من مرة حتى قبل أن يعين رئيساً، وأنه سيبذل كل ما في وسعه من
جهد لإقناعه بضرورة تقديم المساعدات الكافية واللازمة لمساعدة المسيحيين
السودانيين في حربهم ضد نظام الخرطوم، ويؤكد فرانكلين غراهام أنه حصل على
دعم كبير من كولن باول وزير الخارجية الأمريكية الذي قال له: إن ما يجري في
السودان يمكن أن يكون أفظع مأساة في العالم، ويختتم فرانكلين غراهام كلامه قائلاً:
«إن هذا البلد، أي السودان، مجروح وهو ينزف دماً، وأنا سأضمد هذا
الجرح!» .
[مجلة المجلة، العدد: (1118) ]
الحل الوحيد ... ! !
أعلن رئيس الوزراء الأردني علي أبو الراغب أن التوصل إلى هدوء تام بين
الإسرائيليين والفلسطينيين «أمر مستحيل» وأن السبيل الوحيد سيكون إعطاء
الفلسطينيين «حبوباً منومة» . وقال أبو الراغب خلال لقاء في عمان مع نادي
الصحافة الأجنبية في الأردن: «إن الطريقة الوحيدة لضمان الهدوء التام خلال
سبعة أيام هو إعطاء الفلسطينيين حبوباً منومة ليناموا ويسيتقظوا بعد أسبوع» .
[صحيفة البيان الإماراتية، العدد: (7699) ](166/94)
مقالات معربة
سيناريوهات صهيونية لما بعد:
انهيار السلطة الفلسطينية
المقال عن صحيفة معاريف الإسرائيلية 18/6/2001م.
الكاتب الصهيوني: ناداف هيماتساني.
ترجمه من العبرية: يوسف رشاد [*]
بعد الضربات الموجعة التي شنها أبطال الانتفاضة في الآونة الأخيرة، وبعد
العمليات الاستشهادية التي هزت إسرائيل وأصابت الشعب اليهودي بحالة من الهلع
والفزع والرعب برز الآن مطلب شعبي يهودي يطالب بإسقاط ياسر عرفات ونظامه
ظناً من هؤلاء البلهاء أن ياسر عرفات هو الذي يحرّك أبطال الانتفاضة، ومع
الإلحاح على هذا المطلب إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بما فيهم حكومة
الخنزير «شارون» لا تستطيع أن تسقط ياسر عرفات؛ لأن البديل أمامهم صعب.
وقد نشرت صحيفة معاريف بتاريخ 18/6/2001م بقلم المدعو ناداف
هيماتساني موضوعاً في هذا الصدد قال فيه:
«في الأسابيع الأخيرة أخذ ينطلق في فضاء واقعنا العام مطلب شعبي بإسقاط
ياسر عرفات ونظامه، بيد أنه في كل مرة يطرح فيها هذا الاحتمال تهب كتائب من
الساسة والمعلقين لتوضح سبب عدم التفكير حتى في هذا الاحتمال، أما ما لا يقوله
هؤلاء الساسة والمعلقون فهو أنه سيحل محل عرفات أحمد ياسين، وأننا سوف
نصطدم بدلاً من السلطة الفلسطينية، بعصابات وأن كل شيء سوف يصبح أسوأ
بكثير مما يحدث الآن.
وحتى عندما توجه الأسئلة لمتحدثي اليمين حول هذا الموضوع فإنهم يتلعثمون
ويردون بإجابات مبهمة ويطرحون مقترحات غير جادة؛ وهذا التعلثم مرده إلى
السطحية، والجهل؛ فهؤلاء يزعمون أن الكارثة الحالية لا تختلف عما كان سائداً
قبل أوسلو؛ فهذا الطرح يعتمد على ذاكرة الإسرائيليين الضعيفة. ولنعد إلى
الأعوام الخمسة عشر التي سبقت التوقيع على اتفاقيات أوسلو في عام 1993م؛
ففي هذه الأعوام بلغت حصيلة ما قُتل في عمليات فدائية 254 إسرائيلياً، وهذا
الرقم يتضمن كل من قتل من الإسرائيليين أثناء الانتفاضة الحالية في حين بلغ عدد
الإسرائيليين الذين قتلوا في العمليات الفدائية في الأشهر الثمانية الأخيرة 213
إسرائيلياً؛ حتى في السنوات الخمس الأولى التي تلت أوسلو قتل 279 إسرائيلياً،
أي أن عدد القتلى في» عصر السلام «كان أكبر بكثير من عدد القتلى في خمسة
عشر عاماً مجتمعة.
وبشكل عام، فإن عدد القتلى السنوي حتى نهاية الثمانينيات لم يتجاوز الأربعة
عشر قتيلاً. ففي عام 1982م قتل اثنان، وفي عام 1981م قتل خمسة، وفي عام
1984م قتل سبعة. صحيح كانت عمليات المقاومة موجودة إلا أن عدد ضحاياها
كان ضئيلاً جداً، وكان بالإمكان السيطرة عليها إلى حد أن إسرائيل ظلت حتى
منتصف الثمانينيات تحتفظ في الضفة الغربية بلواء واحد يقدر عدده ببضع مئات
من الجنود، وفي كل مدينة عربية كانت تقوم بأعمال الخفارة آنذاك سيارة جيب
واحدة تابعة لسلاح الحدود في دورية واحدة.
بل إن من الغريب أن نتذكر أنه لم تحدث أية مشكلة أمنية في الضفة وغزة
قبل ذلك بعشرة أعوام، وأثناء حرب 1973م.
تحطيم العصابات:
إن هذه الأرقام والمقارنات تؤكد ما يعرفه الكثير منا من أن ما تمخض عن
اتفاقيات أوسلو، أي قيام السلطة الفلسطينية العرفاتية هو الذي يضع أمامنا اليوم
عقبة جوهرية، ومن ثم فإنه لا مفر من أن نفكر في بدائل تدمير هذه السلطة وإعادة
العجلة إلى الوراء.
إلا أنه ونحن نبحث عن مخرج من الورطة الحالية لا يكفي التخطيط
للإجراءات العسكرية التي ستمحو السلطة الفلسطينية من الوجود. وفي المقابل،
فإنه ينبغي علينا أن نقيم أنموذجاً جديداً لمجموعة العلاقات التي ستسود بيننا وبين
الفلسطينيين بعد انهيار سلطة عرفات.
ويتردد الآن في الدهاليز السياسية والأوساط الشعبية أنه إذا ما حطمنا هيكل
دولة عرفات فإنه سوف تتشكل عصابات ستنغص علينا حياتنا بشكل أشد قساوة،
وفي هذا السياق فإنه من المفيد أن نذكِّر بمعلومة أخرى لم تُستوعب بذاكرتنا
الجماعية لسبب أو لآخر؛ ففي نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات وأثناء الانتفاضة
الأولى الشهيرة كانت ترتع أيضاً» عصابات «مسلحة مختلفة ومتعددة، بل إن هذه
العصابات احتلت أجزاء من الضفة وغزة لفترات زمنية، وقد قام الجيش
الإسرائيلي بتحطيم هذه العصابات قبل التوقيع على اتفاقيات أوسلو بوقت طويل.
وقد أحسست بوفاة الانتفاضة جيداً عندما ذهبنا إلى قرية» عربة «شمال السامرة
بسيارتي العادية غير المصفحة أثناء عام 1992م، وكانت هذه المنطقة قبل ذلك
بشهرين فقط بمثابة قلاع» الفهود السود القوية «التي لم يجرؤ الجيش الإسرائيلي
على دخولها بشمال السامرة، وبعد معارك خاضتها وحدات الصفوة بالجيش
الإسرائيلي في هذه المنطقة في أواخر أيام شامير وآرنز صدرت الأوامر أخيراً
بالقضاء تماماً على الانتفاضة وبتعاون إهود باراك وبوجي ياعلون رئيس الأركان
آنذاك تم القضاء على آخر معاقل المقاومة للعصابات المسلحة، وفي النصف الثاني
من عام 1992م لم يبق أثر للمظاهرات والعصابات.
وبشكل عام فإن القتال ضد العصابات يعد عملاً سهلاً؛ حيث لا قيود تُقيِّد يد
الجيش، وليس هناك بحث عن» شريك «سياسي أو خوف من حماية دولية
تفرض على» جنين «الدولة الفلسطينية، كذلك أيضاً العصابات لا تتمتع بحرية
العمل التي تتمتع بها بقية الأجهزة العسكرية الخاصة بالسلطة.
الانتفاضة:
والزعم التالي أو السيناريو الثاني الذي يتردد في هذا الصدد يتمثل في المقولة
الآتية: حسناً، فلتطردوا ولتحطموا، ولكن انتفاضة أخرى سوف تنشب بعد بضعة
أعوام كما حدث عام 1987م، ووفقاً لهذه المقولة فقد كان لا بد من تفجر هذه
الانتفاضة بسبب» الاحتلال «إلا أن من يتابع عن كثب ما حدث في الضفة
الغربية في الأعوام التي سبقت عام 1987م رأى كيف جلبنا على أنفسنا هذه
الانتفاضة.
ففي نهاية عام 1984م صُدمت وأنا في بداية عملي مراسلاً في الضفة وغزة
حينما اكتشفت ما تسمح به حكومة شامير في القدس الشرقية، وكيف كانت تسمح
لمنظمة التحرير بالسيطرة بالقوة وبالمال على مفترق الطرق وأدوات التأثير والنفوذ
الرئيسية على الصحف وعلى مجالس واتحادات الطلبة والنقابات المهنية، وقد كان
جهاز الدفاع (وزارة الدفاع والاستخبارات الحربية وجهاز الأمن العام الداخلي)
يحذر من ذلك، ولم يبد الشعب اليهودي اهتماماً بذلك بل إن الحكومة كانت لا تبالي
أيضاً.
وقد أسهمت بعض الأحداث الدرامية في هذه السيطرة مثل الإفراج عن 1150
فدائياً في صفقة» جبريل «وقد استقر المئات منهم وهم قتلة خطرون ومحنكون،
داخل أراضي يهودا والسامرة (الضفة وغزة) وبلوروا المعسكر الذي نظم صفوفه
ضدنا، وجنباً إلى جنب دفعوا السكان العاديين وجندوهم في التنظيمات التابعة
لمنظمة التحرير، وقد حدث كل ذلك نتيجة للعجز الحاد عن التعامل مع المحرضين
وللعقوبة الجماعية التي كانت تفرض على الأبرياء.
المبادرات:
لقد أمضينا قرابة عشرين عاماً من التصرفات الحمقاء والسياسات الخرقاء منذ
عام 1967م إلى أن أدى تعاملنا مع الفلسطينيين إلى بلورة وتكوين جبهة أعداء مع
عرب إسرائيل عام 1987م، ولم نكن في حاجة إلى تشكيل هذه الجبهة، ولم يكن
الواقع يفرض ذلك.
فمنذ الأسابيع الأولى التي تلت حرب الأيام الستة (يونيو عام 1967م) أخذ
قادة الجماهير العربية في إسرائيل يطرقون أبوابنا ويتقربون إلينا؛ فقد تقدم رئيس
بلدية» بيت لحم «آنذاك» إلياس بندق «، مع رئيس بيت جالا وبيت ساحور
بطلب ضم أراضي بلدياتهم إلى دولة إسرائيل مع ضم القدس، وبعد ذلك بعدة أشهر
في بداية عام 1968م تقدم لقادة الإدارة العسكرية رئيسا بلدية جبل الخليل وبيت لحم
باقتراح بالتوقيع على اتفاقية حكم ذاتي كانت ستعطيهم صلاحيات أشد تواضعاً وأقل
بكثير من الصلاحيات التي عرضها مناحيم بيجن في كامب ديفيد، وقد شكلت هذه
المبادرات جزءاً من عدد لا حصر له من مظاهر الود والصداقة التي أبداها عرب
الضفة وغزة لنا، من ذلك على سبيل المثال، كان سكان مستوطنة» قريات أربع «
يتوجهون سيراً على الأقدام إلى الضفة وغزة ليقوموا بالتسوق وشراء حاجياتهم،
ثم يتوجهون بسيارات تاكسي عربية إلى القدس.
إلا أن هذه المبادرات دُفعت وتحطمت بسبب عدم وجود سياسة تستجيب لها
وتستغلها في كل من حكومات العمل والليكود على حد سواء. لقد بادر عرب
إسرائيل بمد يدهم للتعايش تحت سلطتنا وحكمنا إلا أن هذه الأيادي كانت ترد،
وكانت المبادرة شبه الوحيدة التي استخدمت في الاتجاه الصحيح هي مبادرة إقامة
الجمعيات القروية في نهاية السبعينيات وقد بذلت آنذاك محاولة لتكوين زعامة بديلة
لزعامة وقادة منظمة التحرير، بيد أنه وقعت أخطاء تكتيكية وانتهت المبادرة بإخفاق
ذريع.
البوتقة:
من هنا فإن هدف اليوم التالي لرحيل عرفات هو العودة إلى الوضع الذي كان
سائداً هنا في منتصف السبعينيات، وهي الفترة التي كان من الممكن فيها بلورة
الأحداث، حسبما نريد وكيفما نشاء بشكل أو بآخر.
إن الاتجاه المرغوب يقود إلى أنموذج الحكم الذاتي الذي لا يمكن أن يكون
دولة مستقبلاً بأي حال من الأحوال. صحيح أنه ليس لنا أية مصلحة في العمل
بإزالة القمامة من نابلس أو الاهتمام بمضامين الكتب الدراسية والعملية التعليمية في
غزة طالما أنه سيكون بإمكاننا التحكم في عدم التحريض ضدنا هناك.
ومن ثم فإنه بعد الانفجار الكبير الذي ينتظر بالأبواب سوف نضطر لأن
نعطي لأنفسنا ولعرب إسرائيل فرصة ثانية، فمن جانب سيتعين علينا الاحتفاظ بقوة
الردع، ومن ناحية أخرى منح خيار معقول للعيش معنا وبجانبنا. بعبارة أخرى:
ينبغي أن نمسك بعصا كبيرة، ونقدم جزرة كبيرة، وتظل السيطرة على الشؤون
الخارجية والدفاع والأمن والأرض والأبنية في أيدينا، وسوف يتعين علينا أيضاً أن
نوطن عدداً من اليهود في أراضي الدولة، بيد أننا سنحرص باستثناء كل ذلك إلى
فعل النقيض تماماً مما فعلناه منذ عام 1967م.
فكيف نعيد الواقع إلى ما كان قبل 25 عاماً؟ إن الإجابة على هذا التساؤل
تكمن في طابع الأحداث المفاجئة والقوية التي من المنتظر أن نشهدها قريباً، وليس
ثمة شك في أن ذلك لن يصبح ممكناً ومتاحاً بدون أن تحدث صدمة عنيفة وهزة
قوية للفلسطينيين، حتى لو كانت في شكل نكبة جديدة مصغرة، ولكن من المفيد أن
نذكِّر من لا يصدق أنه كان من الصعب في عام 1948م أن نعتقد وأن نقدر أننا
سوف نستولي على الضفة الغربية بعد 25 عاماً بعدد قليل من الجنود. لقد نشأ واقع
السبعينيات نتيجة للصدمة العربية التي وقعت في عام 1948م، وعام 1967م،
وليس ثمة شك في أن الفلسطينيين يحتاجون مرة أخرى إلى علاج من الصدمة.
وهذه الصدمة ستحدث تلقائياً إن عاجلاً أو آجلاً؛ إذ إننا سوف نضطر خلال
فترة غير طويلة إلى إعادة بسط سجادة دماء أوسلو مرة أخرى، عندها سوف يكون
من المهم أن نتأكد من أننا سوف نسير فوق هذه السجادة إلى آخرها. من المهم أن
نعد خططاً ومشاريع دقيقة، والإجهاز تماماً على كل من سيطلق النار علينا وطرد
كل المسارات القيادية وزمرة القيادة المركزية التابعة لعرفات ومنظمة التحرير وبقية
المنظمات» حماس، والجهاد الإسلامي «كل هؤلاء سوف يدعون لتلقي تذكرة
إياب إلى تونس أو إلى إقامة غزة جديدة في» مرج الزهور «بجنوب لبنان.
وبلا أية علاقة بإغلاق حسابنا العادل معهم، فإن صدمة تحطيم السلطة سوف
تكون بمثابة طرقة حديد قوية في بوتقة صب النحاس، وذلك كما أعيد تشكيل ملامح
وتربية ألمانيا النازية القاتلة بالقوة بعد الحرب العالمية الثانية. إن الحل موجود في
أيدينا؛ فمن الممكن أن ننتصر وأن نسيطر أيضاً بشكل محتمل ومعقول، لا بشكل
مثالي بالضرورة، ومن دون أي حاجة إلى دليل مادي للتعامل الجديد الممكن مع
الفلسطينيين يكفيه أن ينظر إلى هدوء عرب القدس الشرقية؛ فهؤلاء لديهم الكثير
الذي يمكن أن يخسروه وقد آثروا الانضمام الآن بالذات إلى جانبنا.
البديل:
ولن يكون من الممكن تجاهل الحساسية الدولية في عصر التلفزيون؛ لكن من
ناحية أخرى لا ينبغي أن نحبط أنفسنا بسبب ذلك، فإذا ما وجهنا الدفة وأدرناها إلى
هذه الأهداف بتكتيك ذكي، فإننا سنمنع أيضاً حدوث تدخل دولي، والأهم من ذلك
أن نقوم بعدة تدريبات داخلية استعداداً لهذا السيناريو؛ لأننا نعلم أنه ليس لدينا أي
بديل حقاً بعد ثماني سنوات» سلام «على الطراز العرفاتي» ا. هـ.
__________
(*) كاتب وباحث وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(166/100)
بأقلامهن
ويبقى الود ما بقي العتاب
سارة بنت عبد الله الزامل
نستبشر معشرَ النساء ونُسَرُّ ونبتهج حين نرى إخوة لنا يسارعون ويسعون
لطرح قضايا إصلاحية زوجية تُعنى بتأسيس البناء الأُسري وتشييده، ليشتد عوده
ويقوى ويصلب أمام العوادي، ولتؤدى رسالة الحياة من خلاله في ظل أجواءٍ آمنةٍ
مطمئنةٍ سعيدةٍ، فنسأل الله للبقية المصلحة هذه أن يجزل لهم الأجر والثواب،
ويرزقنا وإياهم الصدق والعدل والثبات والإخلاص، وأن يحفظهم ويحفظ بهم
مجتمعنا المسلم.
ومع تقربنا إلى الله بموالاتهم، وبالدعاء لهم في ظهر الغيب؛ إلا أنه وكما
تقتضيه هذه الموالاة؛ كانت هذه المقالة التي تحمل تنبيهات، وإشارات مختصرة
حول بعض السلبيات المؤثرة على فاعلية هذه الأطروحات الإصلاحية، مقروءة
كانت أو مسموعة، والتي قد تضعف ثقة المتلقي بها وبأهليتها، وتجعل الرباط
بينهما واهناً.
وحَرِيٌّ بصاحب منبر التوجيه والإرشاد الذي يروم تقويم مادته، وإلى أي
شيء بلغت، أن يصغي إلى من يعينه على ذلك، حتى وإن كانوا دونه فضلاً وعلماً،
لذا ندعكم دعاة الحق مع أولى هذه الإشارات:
وإن طلبت مهذباً رمت الشطط:
حينما يقوم بعضهم مجتهداً محتسباً للأخذ بالحياة الزوجية إلى درب السلامة
والأمان، ولتطهيرها من الشوائب والأكدار، يريد أن يصل بها درجة من العلو
والكمال، فتراه يتعجل الأمر، ويحسب أن ليس بينه وبين تحقيقه إلا أن ينثر بين
يدي الزوجين جملة من شمائل الأخلاق وعلوها وفضائلها ونفائسها، مطالباً بتمثلها
وبالتحلي بها، ليرتفع عنهما ما كان وكان! وأنى وكيف الفوز بذلك وهو يغفل
مراعاة الظروف والأحوال، ويغفل أيضاً عنصر الزمن في تكوين الأزمات
وتراكمها، ويغيب عن ذهنه تقلب النفسيات وتفاوت الشخصيات؟ فمن الشخصيات
كما هو معلوم مشاهد من تأسره هذه المعاني أسراً، ومنها من تزيده هذه اللمسات
ترفعاً وتجبراً، وعُجباً بالذات.
وحيناً تجد من يطالب الزوجة بصور شتى وبألوان وطرق من فنون التعامل
الزوجي، دون الالتفات إلى بشرية وضعف من يخاطب، ودون الالتفات إلى أن
فاقد الشيء لا يعطيه، ودون مراعاة بعض هذه المطالب التي يثقل على المرأة القيام
بها ما لم تجد عوامل مساعدة من الطرف الآخر، وإن بقي هذا التغافل والتجاهل
عن هذه الحقائق، وبقيت معه تلك المنى والمطالب فلن يكون إلا الشطط؛ فيوم
تسمع مثلاً: «من الفن في تعامل الزوجة مع زوجها أن تعتذر منه وإن كان مخطئاً،
وإن رفض العذر والاسترضاء فاعتذري، وكرري، وكرري حتى يقبل ويرضى»
وفضلاً عن أن في هذه المقولة إجازةً لأن يخطئ الرجل وهو مطمئن، ففيها
أيضاً كَسْرٌ لنفس المرأة وتحميلها ما لا تحتمل، وإن بلغت في خلقها وتقواها، فلن
تبلغ درجة الصدِّيقة بنت الصدِّيق رضي الله عنها والتي حين قالت لها أمها في
حادثة الإفك: قومي إلى رسول الله وهو يزفُّ لها بشرى البراءة قالت: والله لا
أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي. فبقيت مضطجعة على فراشها لم
تقم إليه، وهو الذي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يواجه العصبة المؤمنة،
والعصبة المنافقة يذبُّ عن عرضها ويقول: «والله ما علمت على أهلي إلا
خيرا» [1] ومع هذا فإنها لم تقم إليه!
أترى أن في خلق عائشة شكّاً؟ ! أم ترى أن عشير اليوم أوْلى وأجل؟ ! أم
هي المثاليات التي كثيراً ما تشل البناء وتُعيقه؟ !
كم هو جميل بالداعية الذي ينشد الإصلاح والإحسان أن يتوسط في قوله
ومُراده، وأن يلتمس من الكلمات أطيبها وألينها، ويؤلف بينها ثم يسوقها إلى أهلها
سوقاً، وكم هو لطيف لو همس في آذان الأزواج رجالاً ونساءً:
خُذ من خليلك ما صفا ... ودع الذي فيه الكدر
فالعمر أقصر من معاتبة ... الخليل على الغِيَر
وهْم الحياة السعيدة:
وحيناً تأخذك الحيرة من بعضهم وهو يَعِدُ النساء اللاتي يعانين مشكلات
زوجية بحياة سعيدة، وبعاقبة حسنة حميدة، إن هي كظمت الشكوى، وأقالت
العثرات والسقطات، وتركت السؤال عن حقها ... و ... و ... في حين أن نبيهم
صلى الله عليه وسلم يوم كانت تأتيه النساء بمثل هذا كُنّ لا ينصرفن من عنده إلا
وقد وجد لهن مخرجاً، فلا يدع العِلَل الموجعة معلقة في النفوس تفتك بأمنها
واستقرارها؛ فها هي امرأة ثابت بن قيس تأتي إليه لتقول: إنها لا تعيب على
زوجها خلقاً ولا ديناً إلا أنها لا تطيق البقاء معه؛ فما كان منه صلى الله عليه وسلم
إلا أن أمرها برد حديقته إليه ليكون الفراق الذي تريده، وتعود من عنده وقد ألقى
عنها ما تجد.
ويوم جاءته هند تشكو شحّ زوجها أبي سفيان قال لها صلى الله عليه وسلم:
خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف، فتعود هي الأخرى وقد طابت نفسها
بحكم نبيها.
وأبلغ من ذلك ما كان من نسائه يوم اجتمعن يسألنه النفقة، ويراجعنه فيها،
وشق عليه الأمر ووجد عليهن ما وجد؛ إلا أنه لم يشأ أن يكرههن على العيش الذي
هو فيه، ولم يلزمهن بالبقاء عنده، لعلمه صلى الله عليه وسلم أن الإكراه والإلزام
لا يأتي بخير، وأن ما يرد على النفس من أمور لا يُدفع بذلك، فما كان إلا التخيير،
والتخيير لهنّ كان من العليم الحيكم: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ
الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً]
(الأحزاب: 28-29) فما كان منهن رضي الله عنهن إلا أن عُدن واخترن الله
ورسوله، والدارالآخرة، عُدن يوم أن أُتِيَ الأمر من بابه.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في معنى قوله سبحانه:
[وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً] (الأحزاب: 28) : «أي أفارقكن من دون
مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى ما
ينبغي» .
ويعلق رحمه الله على آية التخيير هذه، ويذكر أن من فوائده: «أن هذا
التخيير داع وموجب للقناعة التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول
عنهنّ جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلب القلب واضطرابه وهمّه
وغمّه» .
لذا إن هي أوهام هذه التي ترى أن قسر النفس وكظمها للذي تجد أو تهميشه
وتعليق قضاياها في سقف البيت هو العلاج لها، وهو طريق سعادتها.
بل وتعجب أيضاً من حزمة وصايا وتوجيهات تُساق للمرأة، ويراها بعضهم
أنها سمات للزوجة الصالحة الناجحة، المخلصة لزوجها، وأن الحياة بها تطيب
وتتلاشى المنغصات!
- وإن كان بعض من هذه التوجيهات فيها تلطف وتأدب يحسن بالمرأة القيام
به تجاه زوجها، إلا أن فيها من التهويل الشيء الكثير فتسمع مثلاً:
* أن حق الزوج، وحق أقاربه مقدم على حقك، وعلى حق أقاربك، وعلى
رضى والديك.
* آثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك؛ فأحبي ما يحب، واكرهي
ما يكره «وكأن الولاء والبراء أصبح في الزوج وما يهوى» .
* الحذر أن تقع جوارحه الأذنان والأنف والعينان على ما يكره «ومن ذا
الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط» .
* احتملي توتره، وقدري مشاكله في عمله وكثرة مشاغله، وإياك وبث هموم
البيت والأولاد عنده «طيّبٌ هذا من المرأة وحسن، لكن هي الأخرى تجد المشاكل
والمتاعب في البيت ومن والأولاد؛ فلمن تبثها؟ ! بل إن معاناتها ليلة من الليالي
من جنينها الذي في أحشائها أو من رضيعها وهو بين يديها، أو من مراهق لها لا
تدري على أي شيء يبيت، لتعدل متاعب شهر كامل مما يجده بعض الرجال وهو
في مكتبه أو متجره» .
وتسمع أيضاً:
* لا يسبقك أحد لاستقباله عند دخوله، وأيضاً لتوديعه عند خروجه.
* لا تنامي في حضرته ولا حتى في غيبته، فتهملي بيته وأولاده.
* تجب طاعته مطلقاً بالمعروف ولو أمرك بنقل جبل من مكانه.
* ولو قمت على رأسه ولم تجلسي حتى يفرغ من غدائه وعشائه؟ !
والقائمة طويلة، وطويلة من أشباه هذه التوصيات، والتوجيهات التي يُراد بها
إصلاح البيوت، وتهذيب النفوس، وجلب المحبة والمودة بين القلوب.
والسؤال: أتُرى أن هذا يكون ويتحقق؟ ! وأن بمثل هذا ستبرأ الجراح
وتُجبر الكسور، وتقوم البيوت على السمع والطاعة بالمعروف؟ ! أيكون هذا
والطرح بهذه الصورة وبهذا البعد عن الواقع المشاهد؟ !
إننا نخشى ضد ذلك! فقد تتراجع الزوجة عن بعض ما كانت عليه، يوم
تسمع بأنها ليست هي الزوجة الصالحة المخلصة الناجحة، إلا إذا قامت بمثل تلك
الهالات من التعظيم والتفخيم لزوجها وهي التي تدري أهذا يزيده قرباً منها أم تمرداً.
وأما الرجل حين يسمع مثل هذه النداءات لزوجه، فقد تتعالى نفسه وتعظم
وتكبر في عينه ويستقل ويستصغر كل حسنة وفضيلة من صاحبته، ويحدث عنده
خلط في حقيقة القوامة التي شُرعت له، وبين العلو والكبر الذي ليس هو له، حتى
إنه وتحرزاً من تسرب هذا الشعور عنده؛ فقد ختم الحكيم الخبير آية القوامة بقوله
تعالى: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياًّ كَبِيراً] (النساء: 34) تحرزاً من ذاك، وبياناً منه
سبحانه أن العلوّ والكبر لله وحده لا ينازعه فيهما منازع. فيا دعاة الخير والإصلاح!
سددوا وقاربوا، واتقوا وارفقوا بأخواتكم المسلمات اللاتي يُقرئنكم السلام ويُذكرنكم
بحديث نبيكم عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً،
ولكن بعثني معلماً ميسراً» [2] .
رويداً.. رويداً:
وتزداد المعاناة حين تُنادى [3] النساء بالتزين، والتجمل للزوج، وليس هو
التزين والتجمل المعتاد، لا إنما وكما يعبر بعض المصلحين للتفوق على نساء
المجلات، وفتيات الفضائيات، حتى لا يفتن الزوج! ويقع في المكروه والحرام!!
وعجباً منكم أيها المصلحون! أوَمَا كان الأجدر والأوْلى أن تكون ثمة التفاتة صادقة
حازمة لذاك الطَّرَف كي يغض الطَّرْف عن تلك المفاتن؟ !
ثم لو أن الحياة الزوجية يوم وليلة تقضى والسلام؛ فلربما أمكن هذا، أمَّا
وهي حياة طويلة، سنوات العمر كلها، والتي فيها يتم بناء الدارين معاً الأولى
والآخرة ولكل بناء عدته وأدواته، وفيها يتم تنشئة وإعداد جيل يُعلم من حاله ما يُعلمُ،
وفيها أيضاً وكما توجبه الحياة بناء علاقات بشرية علاقات لها حقوق وتبعات،
وفيها مع ذلك كله مرض وضعف، وهم وحزن، وفتور وإدبار، يلحق بالنفس،
فيها هذا كله وأنتم تعلمونه فما الذي دهى حتى تطالب المرأة أن تتجمل وتتزين
للتفوق على هؤلاء النسوة؟ ! ثم لا بد إذن ولتحقيق ذلك من تجاوزات شرعية كثيراً
ما نددتم بها ونفَّرتم منها: التشبه، الترجل، التنمص ... إلخ هذه المحاذير؟ !
ثم أيضاً أتريدون بالمرأة المؤمنة الحيية العفيفة الحافظة للغيب بما حفظ الله أن
تنزل ميدان السباق والمنافسة مع هؤلاء النسوة؟ ! مع هؤلاء اللاتي لا همّ لهن إلا
الجسد والجسد لا غير، تُعطيه وتعطي به [4] ، ولا همّ لهن إلا زعزعة مرضى
القلوب؟ !
أتريدون بأمَةِ الله أن تهبط بعقلها وفكرها لتنافس هذه؟ ! لتنافس من تستوي
عندها الظلماء والنور؟ ! أهذا كله حتى لا يفتن زوجها وتبوء بإثمه؟ ! [أَلاَ فِي
الفِتْنَةِ سَقَطُوا] (التوبة: 49) : فيوم زاغ البصر، وغلب الهوى وتدنت الهمة
سقط الرجل في الفتنة؛ هو سقط وليست زوجه هي المسؤولة عن ذاك.
فاتقوا الله دعاة الحق، [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا] (الأنعام: 152) ؛ [َلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] (الأنعام: 164) .
وأين هي بقية الكنوز النبوية؟
ثم ومع أن غاية ما يريده إخوتنا هؤلاء هو الإصلاح والنصح والنفع للعباد ولا
شك في ذلك إلا أن ثمة تساؤلاً لا نجد له جواباً؟ !
فبينما الأخذ والعطاء فيما على الرجل والمرأة من حقوق وواجبات، إذا
بالألسنة تجري وتجري ولا تتعثر ولا تتلعثم وهي تكيل لنفسها الحقوق والواجبات،
وإذا بها تسرد جملة مفصلة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يدعون منها
ضعيفاً ولا صحيحاً إلا تشفعوا بها، وحاجُّوا النساء بها، وحيَّ هلا بها، وهي من
عند محمد الزوج الوفي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم.
إلا أن الذي نأسف له، ونعجب منه إذا جاء الحديث عن حق أخواتهم
المسلمات، إذا بالأصوات تخبو، وإذا بالشفاه تطبق عن درر وكنوز نبوية من
سيرة حياته الزوجية، والتي بلغت في سموها ورقتها، وفي جمالها وكمالها،
وإنصافها ما حدا بزوج من أزواجه أن تدين له بذلك، وتحفظ له ذلك، وتقول يوم
سئلت عن خُلقه: كان خلقه القرآن، ولو علمت رضي الله عنها ثناء أبلغ وأعظم
من ذلك لوسمته به، وذلك للذي رأته منه في الذي بينها وبينه.
ثم ولو تصفحنا بعضاً من الأحداث الأسرية في بيت النبوة، والتي من المفيد
المُجْدِي أن تكون ثمة وقفات معها وتأملات لها؛ ليدرك المتلقي حقيقة بشرية نبيه
ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو قدوته وبشرية أزواجه رضي الله عنهن.
كأن تكون مثلاً وقفات مع آيات سورة التحريم، والتي نزلت إبَّان حدث
أُسري في ذلك البيت، ثم أُحسن عرض الحدث واستثماره وكيف أن هذا حدث في
بيت النبوة من تدبير خفي وتواطؤ مرتب له، وإفشاء لحديث النبي صلى الله عليه
وسلم في بيت رجل يحمل همَّ أمة، ويقود أمة ليخرجها من الظلمات إلى النور. ثم
من كان خلف هذا الحدث؟ وابنتا من هما تلك المرأتان؟ ثم كيف أن الله يفتح لهما
خط العودة والأوبة ... ثم ... إلخ ما في هذه القصة من دروس وعبر، هنا سيخرج
المتلقي بشعور هادئ متوازن يواجه به أحداثه البيتية، ويتعامل معها بشيء من
الإنصاف والواقعية.
العتاب الأخير:
وحين تضيق أَمَةٌ من إماء الله وهن كثير بالحال التي تعيشها مع زوجها،
وبالذي تجده في بيتها من ظلم، وبخس لا يحتمل، هي لا تشكو هيئته الرثة، ولا
تشكو تفوُّق رجل الشاشة عليه لطفاً وحسناً ولا تشكو الحرمان العاطفي، لا؛ إنما
تشكو ما هو أشد من ذاك، تشكو تنصله الكامل من مسؤولياته: الزوجية، أو
الأبوية أو البيتية أو ربما نفض يديه من ذلك كله حتى ألحقها بركاب السائلين أو
الغارمين، أو أنها تشكو فساداً في دينه، فساداً يصل إليها وإلى أبنائها الشيء الكثير
منه، وينتزع من شعب إيمانها ما ينتزع، أو تجد سوءاً في خلقه، حيث السخرية
والتجريح والازدراء والتشهير والتهديد لها بكل ما يروعها، يكيل لها هذه المعاني
كيلاً، ويستذلها ويستحقرها، ويحرمها أن تعيش لا نقول عيشاً حين تضيق هذه
وتجد أن الصبر لا مكان له، وأن العيش جد لا يطاق، والمواجع تتجدد عليها تجدد
الليل والنهار، عند ذاك تريد مخرجاً.
فها هي تطرق أبواب إخوة لها في الله، سمعت لهم كثيراً واستجابت لهم كثيراً
تطرق أبوابهم حاملة بين يديها مظلمتها هذه عسى أن يرفعوها ويلقوها بعيداً عنها،
وعسى أن تجد النصرة والشفاعة الحسنة وعسى.. وعسى؛ ظناً منها أن الجسد
واحد والشعور واحد كما هو الأصل.
وإذا بها تفاجأ ببعضهم؛ فهذا يهوِّن من شأن ما تحمله، وذاك يشك في صدقه،
والثالث يرى أن الصورة ضخمة مبالغ فيها، والرابع والخامس.
حتى إذا ما وصلت إلى العاشر الذي رق لها قلبه وظهر له صدق ما تقول
وأنها أمَةٌ مستضعفة، مظلومة، مهضومة الحقوق، قام وأسرع يغيثها من كأس
طالما سقى منه عشرات النساء قبلها، والذي لا ندري أهم لا يملكون غيره؟ ! أم لا
يريدون لنا غيره؟ !
اصبري واحتسبي أمة الله! ! فتدافع الدموع والعبرات وتراجعه، وتراجعه
ولا يزيد على: اصبري واحتسبي، احتسبي واصبري.
عند ذلك تعود هذه من حيث أتت، وتعود بالذي أتت به ومعه غيره.. معه
أسف وألم وعتاب: أهذه نجدة الإخوان؟ ! أهذه نصرة من علموا السنة والكتاب؟!
مسكينة هذه التي لولا أنها تخاف الله وتخشى لقاءه لوجدت لها ألف مخرج
ومخرج، ولولا أنها تريده مخرجاً شرعياً سامياً سماوياً لاستفتت أرباب الهوى
ودعاته.
مسكينة هي، لكنها أمة ترجو الله واليوم الآخر، وتعلم أن الأمر كله لله، وبيد
الله وأنه سبحانه عالم الغيب والشهادة العزيز العلي الكبير المتعال مالك يوم الفصل
والحساب يوم ترد فيه المظالم، يوم سيأخذ الله بحقها ويوفيها أجرها ويظهرها على
من ظلمها وخذلها يوم كانت في الدنيا.
وتبقى كلمة:
دعاتنا الفضلاء! ومع ما سبق إلا أن في الخاطر كلمة.. كلمة حق ووفاء.
إذ إن لكم عندنا صنائع بر وخير، وإحسان صنائعكم محفوظة لم تُنسَ، ولكم علينا
بعد الله فضل ومنة؛ فما صحوتنا هذه، وما عودتنا إلى طريق الحق والدعوة إليه
والاعتزاز به إلا ثمرة عطائكم وجهودكم، وما من نعمة نتقرب بها إلى الله سبحانه
وتعالى وإلا ولكم من الأجر مثلها بإذنه جل جلاله.
فلكم في السر والعلن دعوات صالحات بأن يحفظكم مولاكم ويثبتكم ويسددكم،
وينزل لكم القبول، ويفتح لكم القلوب، ويُظهر بكم الحق، ويزيح بكم الباطل،
ويجزيكم خير الجزاء وأوفاه.
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 2661.
(2) رواه مسلم، ح/ 1478.
(3) وتأتي هذه المناداة تبعاً لمناداة جَمْع من الأزواج: أن أهليهم ليسوا كأهل الفضائيات، وأنهم يجدون ويعانون ويخشون الفتنة وو «وسلام على أمة هذه هِمَم رجالها» .
(4) والعطاء درجات؛ فإبداء الوجه مُزيّناً، مُحسناً، على صفحات مجلة، أو من وراء شاشة هذا عطاء وله مقابل.(166/105)
الباب المفتوح
بناؤنا الذاتي
رؤى وتصورات
عبد الله العزام المطيري
تشهد الأمة الإسلامية اليوم تراجعاً ملموساً على مستويات كثيرة، كما أنها
تشهد على صعيد آخر احتدام الضرام، وصليل السيوف، وهي لا زالت في انتظارٍ
قديم إلى من يشق الصفوف، ويكتسح الساحة ليكون في مقدمة القادة ضارباً على
صدره بيده قائلاً: «ها أنذا» .
ذلك الشخص الذي دأب المربون في جهد جهيد إلى بنائه، والبحث عن
مقوماته ليس شخصاً يعيش في كوكب آخر، ولا شخصية أسطورية خلقت على
غير خلقنا وذواتنا، كلاَّ! بل هو شخص منا وينتسب إلينا، لكنَّ فرق ما بينه وبين
من سبق أن أولئك ارتقوا وذا لا زال يقبع بين السهوب.
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
لذا كان من اللازم علينا أن نتجة إلى حرث الذوات، والزرع فيها. قال أحد
الحكماء: «إن من تفرَّس في نفسه فعرفها، صحت له الفراسة في غيره وأحكمها»
فثمة ذوات تمتلك معدات كثيرة ولكنها تنتظر من يوصل لها الإمداد، أشخاص
كثيرون بمقدراتهم أن يبصموا في تاريخهم بصمات كثيرة، لكن مشكلتهم تكمن في
ذواتهم، فهيا أيها الإخوة إلى تحرير الذات من رِقِّ الشيطان وأعوانه، في انطلاقة
إلى عالم الروح لنخرجها مما هي فيه، وننقلها إلى الاطمئنان بعد أن كانت لنا لائمة؛
واسمع إلى الفضيل بن عياض رحمه الله وهو يخبرك عن ضعف ذاتك؛ إذ قال:
«ما حُلِّيت الجنة لأحد ما حُلِّيت لهذه الأمة، ثم لا ترى لها عاشقاً» . فهناك رؤى
وتصورات في هذا الجانب، نسأل الله أن ينفع بها قائلها وقارئها:
أولاً: إننا نؤمن بأن كل شيء بيد الله سبحانه، وأنه هو المصرف والمدبر.
والمُشاهَد في ساحات الكثير ضعف صلتهم بربهم وسؤاله الهدى والرشد والتسديد.
إنه بمقدار ما تعظم صلتنا بخالقنا نصبح أقوياء؛ ولهذا حثّ الله نبيه أن يكون على
اتصال به حينما يهجع الهاجعون، ويسكن الساكنون؛ لأن له في النهار سبحاً [إِنَّ
لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَّبُّ المَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً] (المزمل: 7-9) واليوم نرى إكثار الدعاة
من أعمالهم، ولكننا نجد هذا المعنى أبعد ما يكون عن أذهانهم، فلا عجب أن تُظلِمَ
عليهم الأمور، وأن تتشابك عليهم المسائل ليكثر التخبط والتراجع، وما ذلك دأب
المؤمنين؛ بل اللوذ بربك هو تمام المفترق.
قال الشاعر أحمد المختار واصفاً للنفس للمؤمنة:
ساكنة في صمتها أبين ممن ينطق ...
وإن ونت وقفتها أعجلها المنطلق ...
لكم رأت خيالها ماج به المنبثق ...
كأنه النجم يَرُفُّ والمياه الأفق ...
فحوَّمت ترنو، تودُّ لو به تَعْتَلِق ...
وأوشكت لو لم تفق يقضي عليها الغرق ...
لكنها مؤمنة هيهات لا تستحق ...
بين الضلال والهدى يبدو لها المفترق ...
وهكذا، ما لم تكن أنت كذلك، فقل لي: من أين ستعرف المفترق؟
ثانياً: النفس بطبعها ميالة إلى العطاء والتصدُّر، وأنت إذ ذاك ينبغي لك أن
تكبح الجماح، وأن تدرك أن صاحب البضاعة القليلة لا بد لبضاعته يوماً من
انقضاء، وحينما يأخذ لبَّكَ جمالُ الاستئناس بما تحدث وتعطي، فتذكَّرْ أن في القوم
لك سابقاً وإنما هي ضحكات لسانك، فلا تغتر وأنت الفطن، ولا تُعمينَّك العتمة أن
تتدبر، كما أعمت من سبقك. لا أيها الإخوة لا نريد شجرة واحدةً فقط، إنما نريد
جناتٍ وبساتين، فاحذر أن تنزلق في الاستعجال بالعطاء وأنت بعدُ لم تشتد، ولقد
نبهك حبيب فقال:
اضرب وجوه الخيل واكبح زحفها ... ليضيء فجر الأمنيات ظلامها
ثالثاً: في حال ثوران الفتن، أنت مطالب أن تبني قلعة الإيمان مع إخوانك،
وليس هذا هو كل شيء، إخوانك عزماتٌ عند الشدائد هذا صحيح، ولكن ما
لم تكن لك روافدك الذاتية فلا يؤمن عليك الغرق. ألا ترون من يعلل دائماً:
«بضعف برامجنا، إخواننا مقصرون في حقنا، الفائدة قليلة.. أخوتنا مبنية
على الارتياحة» وهذا حقٌّ لا نماري فيه، ولكن هذا الكلام يحدو بنا إلى أن
نقول:
أ - أين موقعك أنت في محاولة تغيير ذاتك، وتغيير الآخرين؟ ولو كنت في
الساقية فإن دورك عظيم، فلو لم تسقهم لمات القادة عطشاً، ولو علل كل واحد بهذا
واكتفى لانصرف القوم ولم يبق لنا أحد.
ب - إخوانك لا تنظر إليهم دائماً نظرة الكُمَّلِ؛ فمن أكبر أخطائنا أننا نذكر
عِدَة إخواننا، ولا نذكر حاجتنا إلى ربنا. أيها الأخ: اجعل إخوانك روافد لك؛
فليسوا هم أصل المستقى، وإنما إرشاد ربك وهدايته لك وتوفيقه ورحمته هو
المستقى؛ فكم ممن عاش بين الألمعيين ولكنه لم يظفر منهم بشيء، وكم ممن عاش
بين قوم أشبه بالعاديين ولكنه بزَّ فأحرق عيون غيره بجمال ذاتيته، وقوة أفعاله.
رابعاً: بقدر ما تقدم يبين لك الخطأ، وإذا بإمكانك أن تتخلص مما يثقل عليك
الصعود لتبقى نقياً، وفي نظري أنه لا يعضد تقدمك ويقويه مثل شيئين:
أ - القراءة: فالعيش مع السابقين يطيل عمرك بالبقاء معهم وتجرب أقواماً لم
ترهم، لكن من خبرهم عندك غنية، وتجمع بين شيئين: معرفة الصواب لتبني
فوقه، ومعرفة الخطأ لترميه وراءك ثم تتقدم.
ب - الخلوات: نقل من أخبار الأفذاذ أن لهم خلوات مع ذواتهم يراجعون فيها
ويمحصون، ويحمون فيها البَيْضَة من بطش السهام وتراكم الأيام. من المهم لك إذا
أردت التقدم أن تخلو بنفسك في غرفتك، في سيارتك، في مزرعتك، في أي مكان
شئت، المهم أن تكفينا همَّ الفواجع بك.
خامساً: احذر عدوك أن يلتف من ورائك، بينما أنت تجاهد منشغلاً بتدبير
أمورك، وتحصين المواقع. احذر من فِكْرك أن يلتف عليك من الوراء فيذكرك
(بالمستقبل) ونعني به حمل همِّ المال والمركب والوظيفة والزوجة، والعلاقات
الاجتماعية، ورعاية الأولاد.
شغلت هذه البلية تفكير بعضٍ من بني قومنا، فهزت عروشهم بعد أن عجزت
الصعاب والشدائد أن تحرك لها ساكناً. ليس عيباً أيها الإخوة أن يفكر الإنسان فيما
أمامه بل هو مطلب أي مطلب، لكن أن يغلب على فكرنا، فنضطرب، ونقلب
الأوراق رأساً على عقب فليس من طبع المهتدين، وإنما أنت ابن يومك وللغد ما له،
وكيف تخاف وأنت داعية مخلص نحسبك أبداً؟ أيها الأخ أحسن الظن بربك
واطمئن إليه واعمل وتقدم وأنت واثق برحمة أرحم الراحمين أن يحقق لك ما تصبو
إليه. وتأمل، ولكل منا أمله «ولكنه لو نظر ببصيرته لعرف أن أمله الوضاء إنما
يلفه محيط أسود حالك، يتيه فيما دونه من الظلمات ما لم يتتبع في مشيته مخرجاً
تدل عليه التقوى؛ فهو ترقب جميلٌ لكنه يتنغص، وظلٌّ ظليل لكنه يتقلص،
ومطامع وراء الأودية والمفاوز، وليس هو لما قُدِّرَ له بمجاوز» [1] .
سادساً: إنما يشتد عودك حينما تكون لك التجارب؛ فالأخذ والرد في قضية
الأفكار، وإعمال التجارب في صالح فكر وتصور سليم قضيةٌ جوهرية في بناء
الذاتية وتحسين المستوى، وكلما تقدم بك العمر فإن ركام المعلومات الذي عندك
يتمحص إلى آراء تقرب إلى السداد والتوفيق من آراء غيرك، أذهاننا ليست هي
مجرد (ارشيفات) تحفظ ما يوضع فيها، بل هي ذات اقتدار كبير على أن تستفيد
من الماضي الاستفادة الكاملة لتنير به طريقها الذي تسير فيه، فخذ من حياتك معملاً
تُخْرِج لنا به أنواعاً من روائع التجارب.
وبعد: أيها الأخ المسدد..
وما أنت بالمستسيغ القعود ... ولو كبلوك بهذي الحفر
فلا يهولنّك كثرة الحفر في الطريق؛ فإن معك نوراً من ربك وسنة من نبيك
صلى الله عليه وسلم، ولا تضجر حينما تتنفس خيلك الصعداء؛ فإنما هي استراحة
يعقبها تجدد، وأنت وحدك قادر على أن تخرج لنا سيفك من غمده، وأن تضرب
بسهمك لنراك يوماً من طلائع الفاتحين والمجددين، [وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ]
(إبراهيم: 20) .
ولكن: [إنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
جعلنا الله أعواناً على الحق، وأنصاراً له، ومذكرين به إذا غفل الغافلون،
كما قال عمر رضي الله عنه: «إن لله عباداً يحيون الحق بذكره» . جعلنا الله
منهم.
__________
(1) الراشد في رقائقه / 102.(166/112)
قضايا ثقافية
نظرة في سنن الكون وقوانين التاريخ
عبد الباري أحمد العطار
إن المسلم الحق ليعلم أن التاريخ ليس مجرد ماض مسجل على أوراق قديمة
أو جديدة؛ وإنما ينبغي تجريد أحداثه من قيود الزمان والمكان ليتمكن من الإفادة منه
في التعامل مع الحاضر ويرى المستقبل أيضاً من خلاله؛ ولذلك يقول ابن خلدون
وهو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع وليس «أوجست كونت» أو «هربرت
سبنسر» أو من حذا حذوهما ك «أميل دور كايم» كما يزعم مغسولو الدماغ من
المنتسبين إلى الفكر الإسلامي، يقول رحمه الله وهو يقسم التاريخ إلى ظاهر وباطن:
«إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون
الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتُطرف بها الأندية إذا غصَّها
الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها
النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان فيهم الزوال،
وفي باطنه أي حقيقته نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات
الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في
علومها خليق» [1] .
فالوعي التاريخي من أهم الموارد الثقافية والمعرفية لثقافة الحاضر ورؤية
المستقبل، وإن القطيعة التاريخية تجعل التعامل مع الحياة نوعاً من الخبط الأعشى
«لذلك كان من معطيات منهج القرآن والحديث في هذا المجال، البحث في سند
الحدث التاريخي والتحقيق فيه لمعرفة صدقه ومن ثم التفسير والتقويم والتعليل
والمراجعة لدوافع الحدث ونتائجه وعواقبه» [2] .
ويقول الشيخ محمد الخضري (*) في سبب دراسة التاريخ: «فلا بد أن
نجعل أمام أعيننا أننا ندرس تاريخ أمم إن كانت أخطأت في بعض تصرفاتها فليس
علينا من تبعة ذلك الخطأ شيء، ليس لنا إلا أن نعرفه ونستفيد منه، وإن كانت
أصابت المحجة فإن ذلك أيضاً لا ينفعنا إذا لم يكن لنا مثل أعمالهم، لذلك يحتاج
دارسو التاريخ إلى سعة صدر تحتمل كل ما يرد على تاريخ قومه من نقد حتى لا
تبقى حقائق الأشياء محجوبة بسحب عاطفتي الحب والبغض» [3] .
وإذا نظرنا في كتاب الله باعتباره المصدر الأول للتشريع لنستدل منه على
أهمية دراسة التاريخ والاعتبار بحوادثه وتقلباته وجدنا قوله تعالى: [قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ]
(آل عمران: 137) ، ثم يقول تعالى موضحاً حتمية هذا الإرشاد والتوجيه
وضرورته: [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ] (آل عمران: 138) ،
ويقول جل شأنه مبيناً ميزة من يستفيد من التاريخ في تقويم حياته: [لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ] (يوسف: 111) .
وكأنه لا يعتبر بالحدث التاريخي وينتفع بالوقائع الماضية إلا أصحاب العقول
النيِّرة، وبمفهوم المخالفة يصبح كل من لم ينتفع بما مضى وبأحوال من سلفوا ليس
له عقل يؤهله لقيادة غيره أو حتى نفسه في المحكات الاجتماعية بحنكة ودراية،
ويتكرر الإرشاد بقوله تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ]
(العنكبوت: 20) ، وأوجب سبحانه وتعالى تعلُّم سِيَر الصالحين بقوله آمراً نبيه
صلى الله عليه وسلم؛ والأمر للقدوة أمر لاتباعه وهو من الخاص الذي يُراد به
العموم [4] كقوله تعالى: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ]
(الزمر: 65) ، وما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشرك أبداً، وهو
المصطفى والمجتبى الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه خطاب من
الله للتحذير من الشرك، وغير الرسول صلى الله عليه وسلم أوْلى بهذا التحذير،
وقد أوجب علينا سبحانه اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الآيات؛
فتارة يخبرنا جل شأنه أن لنا في الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة لمن
كان يرجو الله واليوم الآخر، وتارة يأمرنا بأن نأخذ كل ما أتانا به صلى الله عليه
وسلم وننتهي عن كل ما نهانا عنه، وتارة بأمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يعلمنا أن اتباعه دليل على حبنا لله سبحانه وتعالى. يقول تعالى آمراً نبيه صلى الله
عليه وسلم بعد الكلام عمن سبقه من الأنبياء: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ]
(الأنعام: 90) .
ولئن كان هناك بعض العذر قديماً للإنسان عامة في الإلمام بأحداث التاريخ
ووقائعه؛ فقد انقشع ذلك العذر في وقتنا الراهن بعد أن أصبحت الكرة الأرضية
قرية كونية، وأصبحنا نعيش في ثورة معلوماتية تمكننا من استقراء كل ما يدور
حولنا سواء على المستوى المحلي أو الدولي العالمي.
أما ما يتعلق بماضي الأمم الغابرة فقد وصَلْنا أيضاً إلى أزهى عصور التدوين
الورقي والإلكتروني، وإن كنا نعتبر هذه الوسائل كلها إضافية لا أساسية؛ فإن
الوحي من قرآن وسنة يستوعب التاريخ الإنساني في خطوطه العريضة، ويرسم
حركته على الأرض ليس فقط في ماضيه بل في مستقبله أيضاً [5] ؛ وتلك خاصية
من خصائصه لا تشاركه فيها المعارف الإنسانية مجتمعة باعتباره أحكاماً إلهية يقينية
نهائية قاطعة تظهر في صيغة الخبر عما كان وما سوف يكون بشكل قطعي من
شاهد للأحداث وليس بغائب؛ كما قال تعالى: [فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ]
(الأعراف: 7) ، وقوله تعالى: [قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي
وَلاَ يَنسَى] (طه: 52) .
وفي هذه الخطوط العريضة التي جاء بها الوحي من «قرآن وسنة» تغطية
كاملة لحياة الإنسانية الممتدة في أعماق التاريخ، وفيه إضاءة لجوانب حضارية
اجتماعية وسياسية ومالية وقانونية وأخلاقية وأسرية ودينية ... إلخ. ففيه الكشف
عن نُظُم قانونية كانت سائدة عند الأمم السالفة كالقصاص في التشريع: [وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ] (المائدة: 45) ، وبعض الأخلاقيات السيئة
التي انتشرت في عهود مضت: [وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ
وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ]
(النمل: 54- 55) والوثنية وقتل الأنبياء وإباحة المحرمات عند بني إسرائيل لما
انتهكوا حرمة السبت وطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً، وعبدوا
العجل لما ذهب للقاء ربه، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف.
وفيه الكشف أيضاً عن ظاهرة التقليد واتباع الموروث وإن كان باطلاً،
والترف والظلم والاستبداد في الحكم، ووأد البنات، وظهور الطبقية في مجتمع ما
قبل الإسلام.
كما كشف أيضاً عن الجوانب المتعلقة بالحياة الدينية وأنواع العبادات
والمعتقدات كتحريم ظهور الأنعام وقتل الأولاد افتراءاً على الله، ووصف الصراع
الذي اشتد بين أنصار عقيدة التوحيد الإسلامية القائمة على التوجه بالعبادة لله وحده
وأصحاب العقائد الشركية كما في قصة موسى وفرعون وشعيب وقومه وخاتم
الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن التاريخ يعيد نفسه والحوادث تتكرر ولا
تتغير باستثناء اختلاف الأماكن والأشخاص.
وحينما نتكلم عن الاستفادة من التاريخ والاعتبار به في الحاضر والمستقبل
فإننا ندعو بالقصد التابع إلى ضرورة وجود عقليات سليمة ووجوب تصحيح
العقليات السقيمة؛ فإن العقل السليم هو الذي يقود صاحبه إلى الإيمان بوحدانية
الخالق المدبر، وصدق التوجه إليه بكل صور العبادة من شعائر ونسك وحكم وولاء،
كما أن العقل المجرد عن هذه الخاصية خاصية السلامة يظل عقلاً معتلاً مهما كان
دقيقاً في الكشف عن أسرار الكون ونظامه، وسبب ذلك الاعتلال أنه أعرض عن
الدلائل المبثوثة في الكون بوصفها شواهد على الربوبية والألوهية ومن موجبات
تأملها الإيمان بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والإيمان
بمُنزل ذلك الحق والنور؛ كما قال تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ] (فصلت: 53) .
فلم يفهم العقل المعتل عن الله أدلته وآياته «والقرآن يصور العلاقة بين العلم
والإيمان بأنها علاقة توافق واتحاد، ويصور العلاقة بين الإيمان والجهل بأنها علاقة
اختلاف وتضاد، فحسَّن العلم ورغَّب فيه، وقبَّح الجهل وحذَّر منه، ووصف العلم
بمستلزماته من النور والضياء، وبعث الحياة كما وصف الجهل بمستلزماته من
الظلمة والشر والهلاك. قال تعالى: [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا]
(الأنعام: 122) [6] .
ولكننا للأسف نلحظ في غالب التوجهات الفكرية القائمة اليوم والمتمسحة
بالإسلام نلحظ الاهتمام بالتاريخ لاستخراج الجزئيات المنحرفة والإشكاليات الغامضة
كتضخيم التراث الفلسفي أو الصوفي المنحرف بالإضافة إلى التيارات الباطنية،
وتمجيد الحركات السرية العميلة أو الضالة التي نشأت واستهدفت تقويض المجتمع
الإسلامي؛ وكل ذلك على حساب التاريخ الفكري للتراث المنبثق عن الفهم
الإسلامي الواضح المستنير، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تعطيل الإفادة من هذا
التاريخ وحجب للتراث الصحيح النافع عن القيام بدوره الريادي وبروز عناصر
القوة منه؛ فإن الكثير من علمائنا أصحاب هذا التراث نبغوا في بيئة ثقافية ولدت
معها شروط نهضتها الحضارية.
أما الدوران في فلك جزء من الترفيه العقلي الخالي من مقومات التفكير العملي
القادر على العطاء والاستمرارية كفلسفات الكلاميين أو تشدقات المتصوفة وترهاتهم
أو انحرافات الباطنية بحجة الحفاظ على التراث وإحياء الموروث القديم فهو انتقاء
مخل ودور سلبي خالٍ تماماً من الإيجابية العلمية والنفع الذي كتب له الدوام [فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] (الرعد: 17) .
ومنذ الاحتكاك الثقافي الكثيف بين العالم الإسلامي وأوروبا و» أنصار
التجديد «دعاة العلمانية يحاولون الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، أو بين
العلوم التجريبية وما جاء به الوحي. وفي جل الجوانب الثقافية قالوا بوجوب
الاحتلال الكامل للعلوم داخل ما جاء به الوحي. على أنه تراث يجب تنقيته [7] ؛
فقد أرادوا انتزاع الحكم والسياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع مرة واحدة من
مملكة الوحي لكي تستأثر بها علوم الإنسان وخبراته الحياتية وشهواته الدنيئة،
والدليل عندهم على هذا كله هو التاريخ حتى وإن جاء متواتراً في مصادره
الصحيحة؛ فما ينبغي أن نصدِّق أن النار لم تحرق إبراهيم عليه السلام لأن تخلُّف
خاصية الإحراق عنها يخالف مقررات العلم التجريبي، ثم كيف يواجه موسى عليه
السلام عنجهية فرعون واستكباره بعصاه، وفرعون صاحب الجيوش الجرارة التي
لا تهزم؟ وكيف يُحيي عيسى عليه السلام ويصنع من الطين كهيئة الطير فيكون
طيراً بعد أن ينفخ فيه، وكيف يبرئ الأكمه والأبرص؟ بل كيف نصدِّق أن محمداً
عليه السلام قد أُسري به روحاً وجسداً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في
جزء من الليل ولم تكن الطائرة قد اخترعت بعد، وكانت وسائل المواصلات
الوحيدة حينئذٍ هي الفرس أو الناقة؟
إن هذه الحقائق التاريخية كلها من وجهة نظر هؤلاء الذين يدَّعون الإصلاح
الفكري والثقافي كما يزعمون خرافات غير علمية ويجب علينا اقتلاعها من تربتنا
الثقافية من أجل استنبات زرع جديد بريء منها ومتسق مع النتائج المعملية
التجريبية [8] ، وصدق الله سبحانه وتعالى حينما قال: [يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ] (البقرة: 26) .
نسي هؤلاء أن الذي أعطى النار خاصية الإحراق قادر على انتزاعها منها في
قصة إبراهيم، وتناسوا أن الله أيد أنبياءه بالمعجزات لإقامة الحجة على أقوامهم كما
جاء في قصة موسى عليه السلام وعصاه، ونسوا أن الإحياء والإماته وإبراء الأكمه
والأبرص من خصائص الرب سبحانه وتعالى وأنه قادر على منحها لمن يشاء من
عباده و [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ] (المائدة: 54) ، وهي أفعال لا يستقل
العبد بها، بل بمشيئة الله تجري على يديه كما كرر عيسى عليه السلام جملة
» بإذن الله «بعد كل فعل وهو مشابه لقول الخضر عليه السلام: [وَمَا فَعَلْتُهُ
عَنْ أَمْرِي] (الكهف: 82) .
» فالكون بتاريخه المديد خاضع لسنن الله؛ لكن الخالق جلَّت قدرته يخرق
هذه السنَّة عبر لحظات مدهشة قصيرة، لكي يضع في أيدي أنبيائه دليلاً محسوساً
على صدق بعثتهم، وليس في هذا ما يقدح في إيمان المسلمين باطراد القوانين
الطبيعية والاجتماعية، وليس فيه ما يمنع العلماء المسلمين من الكشف عند هذه
القوانين وتطبيقاتها، وهذه الصورة العلمية للكون رسمها القرآن في آيات محكمات
فنصَّ على السنة ونصَّ على المعجزة ولا معنى للسنة دون المعجزة « [9] [فَإِنَّهَا لاَ
تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج: 46) .
كما أخبر سبحانه والمعجزة تمثل الاستثناء من القانون الطبيعي كولادة عيسى
عليه السلام من أمٍّ بلا أب، أما بيع الدين بالدنيا وتشكيك المسلمين في معتقداتهم من
خلال استنتاجات تاريخية واهية وساقطة، وإخضاع السنن الخارقة لمعطيات العلوم
الحديثة؛ فهي عمالة مكشوفة يعرفها ويدركها كل من آمن بما جاء من عند الله إيماناً
صادقاً مستلزماً لليقين، أما السنن العادية التي تمثل جل ما جاء به الوحي فلا
تناقض أبداً بينها وبين سائر معطيات العلوم التجريبية والنظرية الصحيحة،
ويستطيع المسلم أن يحصِّن نفسه من هذا الغزو المتعمَّد والعمالة الفكرية المكشوفة
باستيعاب التاريخ ومعرفة أصول السنن وقواعدها؛ لأن الثقافة التاريخية تبرز
أهميتها فيما يلي:
1 - الاعتبار الذاتي للمكلف.
2 - إقامة المعيار الفقهي الحاكم.
2 - معرفة سنة الله في الخلق.
4 - فهم قوانين بناء المجتمعات وما تتميز به كل أمة عن غيرها.
5 - التمكن من ردِّ هذه الاعتداءات الغاشمة على تاريخ المسلمين وهو من
أعظم صور الجهاد في سبيل الله.
6 - الأمان من الوقوع في الزلات أو اتباع العثرات والاجتهاد الخاطئ.
7 - تصويب الخطوات المستقبلية نظراً وتطبيقاً.
ولا بد أن يكون الإيمان بالله وقدرته على كل شيء كما نطق بذلك القرآن
مقروناً بدراسة التاريخ الإنساني بشكل عام والإسلامي بالأخص لكي يتمكن المسلم
من استيعاب الحقب التاريخية وما تميز به المسلمون عن غيرهم على مدى الدهور
مما هو خاضع لمشيئة الله وإرادته، حتى وإن كان صعب التصور كتحطيم
المسلمين الأوائل لنظرية MAN TO MAN الحربية التي لا مجال لإعمالها الآن
في ظل التسليح النووي والكيماوي والبيولوجي، على الرغم من أنها كانت هي
الحاكمة والمسيطرة في إدارة الحروب؛ حتى إن العالم تعجَّب من نسف المسلمين
لتلك القاعدة في الغزوات والسرايا بالإيمان، فرأوا القلة القليلة تهزم الكثرة الكاثرة
كما قرر القرآن وثبت في كتب السيرة؛ وتلك مسألة حينما يكون المسلمون طرفاً
فيها؛ فهي غير خاضعة لحسابات البشر؛ فالإيمان بنصر الله لعباده موجود في
ضوء قوله تعالى: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ *
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات: 171-173) وبمقتضى الثقة في العلماء
الأثبات والأئمة الثقات الذين جمعوا السنة أوردوا هذه الأخبار بعد تحقيق وتمحيص
وعمل دؤوب واصلوا فيه الليل بالنهار واحمرت عيونهم، وهزلت أجسادهم حباً في
السعي والسهر لجمع العلم والتشديد في صحة الرواية حتى قال أحدهم [10] :
سَهَري لتنقيح العلوم ألذُّ لي ... من وَصْل غانيةٍ وطِيبِ عناقِ
وتمايلي طرباً لحل عويصة ... في الدرس أشهى من مدامة ساقي
وألذُّ من نقر الفتاة لدُفِّها ... نقري لألقي الرمل عن أوراقِ
وأَبِيتَ سهران الدُّجى وتبيته ... نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي [11]
وخلاصة القول:
أننا هنا لا نتكلم عن التفسير المادي للتاريخ أو كما يسميه بعضهم: (المادية
التاريخية) وتعني عندهم وجود نمط من الانتظام في التطور التاريخي أو
الاجتماعي، ويفسرون تطور المجتمع البشري على أنه تركيب يتكون من عمليات
ديالكتيكية يكون الحافز الأصلي فيها هو التفاعل بين الإنسان والبيئة المادية في
عملية الإنتاج الاجتماعية [12] . ولم نتكلم أيضاً في التفسير المثالي للتاريخ، وهو ما
يقابل الأول كما يقول» ماكس فيبر «أحد رواد مدرسة» ماركس «و» هيجل «
ويعني عندهم أن لكل عصر تاريخي روحه التي تنحصر في مجموعة من
الاتجاهات السيكيولوجية (النفسية) البشرية التي تضفي على ذلك العصر طابعه
الخاص، فجعلوا الاتجاهات النفسية في التعريف الثاني بديلة للقوى الإنتاجية في
التعريف الأول، ولم نقصد أيضاً مناقشة هذه التفسيرات أو الرد عليها وإنما ما
أردناه لفت النظر إلى سنن الكون ونواميسه العامة والقوانين التاريخية الحاكمة على
حركات الأمم وسكناتها في محاولة لتنمية الإيجابيات، وقمع السلبيات للحصول على
رشد التعبد الذي يقودنا في النهاية إلى التمكين في الدنيا ورضوان الله في الآخرة،
وحتى يتجرد التوحيد من كل شائبة، وتتوحد الوجهة، ويتحقق قوله تعالى:
[لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً] (النور: 55) ؛ وبذلك تعود لنا هيبتنا،
ونسترد كرامتنا، ويؤول إلينا مجدنا وحضارتنا المفقودة في عزٍّ بلا وَهَن، والله
الغني ونحن الفقراء؛ فإن تولينا استبدل قوماً غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا [13] .
__________
(1) مقدمة المقدمة، ص 4، دار القلم بيروت.
(2) من مقدمة الأستاذ عمر عبيد حسنة لكتاب:» المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند
العرب «، من سلسلة كتاب الأمة.
(*) كتابات الشيخ الخضري عن تاريخ صدر الإسلام عليها مآخذ وفيها بعض الزلات التي تتبعها العالم الجليل الشيخ (محمد العربي التباني) المدرس الأسبق في الحرم المكي الشريف، في كتابه: (تنبيه العبقري عن محاضرات الخضري) - البيان -.
(3) الدولة الأموية، ص 8.
(4) يراجع مقال:» لماذا ندرس حياة الأنبياء؟ «لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل في مجلة البيان العدد: (111) من ص 28 35؛ فهو عظيم النفع.
(5) نشير إلى الإخبارات التي لم تقع بعد، ومنها أحاديث الفتن والملاحم.
(6) يراجع بحث» أصول المنهج المعرفي من القرآن والسنة «، للدكتور محمد أمزيان، في مجلة المسلم المعاصر العدد (87) ، ص 77 154، وقد استفدت منه كثيراً في هذا المقال.
(7) الفرق بين التراث والقرآن والسنة مصدر التشريع أوضحه الأستاذ جمال سلطان في كتابه القيم» الغارة على التراث الإسلامي «فجزاه الله خيراً.
(8) انظر كتاب:» أساطير المعاصرين «للدكتور أحمد عبد الرحمن، ص 51، في رده على زكي.
نجيب محمود.
(9) المصدر السابق، ص 56.
(10) هو الإمام الشافعي رضي الله عنه في ديوانه.
(11) القصيدة أطول من هذه الأبيات الأربعة، ولكنها كتبت من الذاكرة لعدم توفر المرجع عندنا.
(12) أوسكار لانج» الاقتصاد السياسي «ترجمة راشد النبراوي، ص 65 67، طبعة دار
المعارف.
(13) معنى الآية الأخيرة من سورة محمد المرادف للفظ.(166/116)
مصطلحات ومفاهيم
الإنسانية
أ. د. محمد يحيى
يتسم هذا المصطلح بدرجة من الغموض والعمومية؛ لتوزُّعه بين مجالات عدة
لكننا طبعاً نهتم بالمجال الفلسفي الفكري منه؛ لأن استعماله في المجال الخيري
مثلاً بمعنى المعونات الإنسانية أي الإغاثة والعون واضح. كذلك فإن استعماله
للدلالة على نزعة محبة عطوفة على البشر واضح. أما في مجال الفكر ونعني به
الفكر الأوروبي الغربي فإن المصطلح يعود إلى عصر النهضة أي إلى القرون من
الخامس عشر إلى السابع عشر؛ حيث اتسم ذلك العصر بظهور وسيادة ما عرف
بالنزعة الإنسانية، وكانت تلك النزعة ذات وجود متشعب في ميادين عدة؛ ففي فن
الرسم والنحت مثلاً كانت تعني اتخاذ موضوعات بين البشر والعناية بهم في مقابل
الموضوعات الدينية (المسيحية) التي هيمنت على الفترات السابقة، وكانت تعني
التصوير الواقعي والمثالي في آن واحد لتلك الموضوعات البشرية، أما في ميدان
الفكر فكانت النزعة الإنسانية تعني الاحتفاء بالبشر وشؤونهم الدنيوية في مقابل
الانكباب السابق على الأمور الدينية والتحلق حولها وإعلائها.
ويجب أن يكون واضحاً أن هذا الاهتمام بالبشر أو الإنسان لم يأت على خلفية
من نزعة الخير والعطف على الناس والمحبة لهم والحَدَب عليهم؛ بل كان مجرد
اعتناء عامٍّ وتركيز على الأمور البشرية بمعنى الدنيوية في مواجهة الدينية؛ منبعه
ما شعر به مفكرو تلك الحقبة في الغرب من اهتمام الفترات السابقة بالدين وشؤونه،
والعقيدة والآخرة على حساب الأمور الدنيوية حسب تصورهم، ومن هنا كانت
النزعة الإنسانية ومنذ نشأتها مرتبطة بتوجه علماني دنيوي يبعد الدين عن مجال
اهتمامه، ويقلل حجم المساحة التي يحتلها في بؤرة الضوء إن لم يناصبه العداء.
وتطورت تلك النزعة في العصور التالية، وتلقت الدعم من حركات العقلانية
والتنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ حيث وضعت العقلانية العقل
البشري موضع التأليه، وحولته إلى معيار الحكم على الأشياء، ووضع القيم
والمبادئ الحاكمة لسلوك المجتمعات ليحل محل الوحي الإلهي عند أهل الغرب الذي
أصبح موضع الشك الجسيم بعد حركات نقد نصوص كتابهم المقدس بكل ما يحتويه
من عقائد وقيم.
وجاءت حركة التنوير لتعمق تَوَجُّهَ العقلانية هذا، ولترسِّخ النزعة الإنسانية
بما وجهته إلى الدين المسيحي من ضربات قاصمة مست عقائده وهدمتها؛ مما جعل
الساحة خالية من أي مصدر للقيم والتوجيه يمكن تسميته أو وصفه بالوحي الإلهي،
ولم يتبقَّ إلا الإنسان وعقله مصدراً وحيداً للعناية والاهتمام، ولم يتبق سوى الدنيا
مجالاً وحيداً للاهتمام وبؤرة تتعلق بها الأفكار، وميداناً يسعى الجميع لتحويله إلى
جنة على الأرض بعد أن ضاع الإيمان بجنة في الآخرة.
وبهذا ارتبطت النزعة الإنسانية بالتدريج ليس فقط بالإقلال من أهمية الدين
ومكانته أو حتى بالعلمانية (الاتجاه الدنيوي) ؛ وإنما أيضاً وفي نهاية المطاف
بالتوجه الإلحادي المفارق للدين. وليس من قبيل المصادفة أن جمعيات الملحدين
وروابطهم في الغرب أصبحت تعرف في العقود الأخيرة بروابط الإنسانيين في
محاولة لتجنب لفظ الإلحاد الذي ما زال يصدم المشاعر حتى في البلدان التي
اعتمدت العلمانية منذ عقود وسنين طويلة.
والواقع أن النزعة الإنسانية بمعنى التحلق حول الأمور البشرية الدنيوية في
معارضة حادة مع أي وحي إلهي أو ديني كانت سمة ميزت الفكر الغربي على مر
القرن التاسع عشر ومعظم العشرين منه، وهو ما نشير إليه عادة بهيمنة النزعة
العلمانية. ولكن في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة نشأت اتجاهات فلسفية مثل
البنيوية والتفكيكية، أصبحت توصف في الفكر بأنها معادية للنزعة الإنسانية.
والمقصود بهذا المصطلح الفلسفي الجديد ليس الرجعة عن العلمانية أو التوجه
الدنيوي، بل على العكس هي تعني الإيغال فيه. ومعنى هذا المصطلح الجديد هو
القول بأن الظواهر اللغوية والاجتماعية والثقافية تتآلف وتتشكل من عناصر تتجمع
في قوانين أو كما تسمى (شِفْرات) خاصة بها، وتعلو على الفرد أو الجماعة
بحيث يصبح لها قوة وأثر وفعل متميز. والعداء للإنسانية في هذا الصدد يعني أن
الأفراد وحتى الجماعات لا يتمتعون بأي قوة منفردة وفاعلة في تشكيل الظواهر
والأحداث اللغوية والاجتماعية والثقافية، وإنما يتمتع بهذه القوة وهذا الأثر هو تلك
القوانين أو (الشِفْرات) العامة. وعلى الرغم من سيادة هذا الاتجاه في السنوات
الأخيرة إلا أنه أخذ يتعرض لنقد متصاعد من جانب تيارات الفكر الأقدم التي تنتمي
إلى النزعة الإنسانية التي يجب رغم ذلك أن نعتبرها التيار الأكثر حضوراً في
الفكر الغربي العام.
والنزعة الإنسانية عند طرحها في بلاد المسلمين في إطار عملية النقل
والترجمة تمر بعملية خداع وتمويه كبرى؛ فالذين يروِّجون لهذا المصطلح يوهمون
المتلقين بأنهم في الحقيقة ليسوا سوى مدافعين عن الإنسان والعقل، وهي أمور في
صميم جوهر الدين؛ أفلم يكرم الإسلام العقل والإنسان في آيات قرآنية عديدة؟
وهذه الخدعة تستخدم في تمرير العلمانية بحجة أن الاهتمام بالدنيا وبالبشر الذي هو
جوهر العلمانية (حسب المفهوم المموه لها) وهو أيضاً جوهر الإسلام عندهم ولم
يكن غريباً في هذا الصدد أن نسمع دعوة تتردد منذ سنوات (وحتى يرددها بعض
الإسلاميين المزعومين) من أن الإسلام دين علماني أو أن الإسلام والعلمانية شيء
واحد لا لسبب إلا لأن المذهبين يهتمان بالدنيا! ولا يهم بعد ذلك أن يكون هذا
الاهتمام بالدنيا مدفوعاً من ناحية بأنها مزرعة للآخرة، وعلى الناحية الأخرى بأنه
لا توجد آخرة ولا إله! وهذه الخدعة أو التمويه تستخدم ليس فقط لتسويغ النزعة
الإنسانية في الفكر الغربي (حسب تعريفها هنا فيما سبق) وإنما كذلك لتسويغ
نزعات أخرى كالعقلانية (حسب المفهوم المادي التشكيكي) والدنيوية ومما يتفرع
عنهما، وذلك الخداع والتمويه يأتي من الخلط بين مفهوم الإنسانية بوصفها دعوة
للخير ومحبة البشر وبذل العون والغوث ... إلخ (وهو ليس وارداً هنا) وبين
المعنى الحقيقي للنزعة الإنسانية في الفكر الغربي، من الإعلاء المطلق لمفاهيم
وتوجهات الدنيوية والعقلانية المادية المتشككة، والإنسان المنفصل عن الوحي
الإلهي وعن أي دين أو توجيه سماوي.(166/123)
في دائرة الضوء
إشكال المصطلحات من المنظور الحضاري
د. أحمد محمد الدغشي [*]
على كثرة العاهات الفكرية والنفسية والتربوية التي تعاني منها الأمم المغلوبة،
فإن ثمة مشكلة ما انفكت تفتك بنخبها وعامتها على حدّ سواء، وذلك فيما يتصل
بغزو المصطلحات الأجنبية الوافدة لتلك المجتمعات.
ويسعى بعضهم لتبسيط هذا الإشكال، فيما يسعى آخرون ليجعل منه عنوان
الثقافة المستنيرة، وسمة التحديث، ويكاد القاسم المشترك بين جميع هؤلاء يبرز
في صورة تسويغ ساذج مفاده أن مسألة المصطلحات عبارة عن أداة تواصل إنساني
مشتركة لا تعرف وطناً أو ديناً أو حضارة، حيث غدت لغة عالمية مشتركة، من
تخلَّف عن استعمالها كتب على نفسه الانزواء، والبحث خارج دائرة الحدث، وبقي
في ذيل القافلة في حين يتقدم كل شيء حوله، لا بل إن من نازع في أهمية التفاعل
مع مصطلحات الآخر على نحو لا يؤمن بخصوصية، ولا يعترف بأي فارق فيها
يكون قد حكم على نفسه بالإعدام الحضاري!
ويضيف بعض المفتونين بالآخر قائلاً: إن التشدد في ضبط المصطلحات،
والبحث عن خصوصياتها، اهتمام سطحي لا قيمة له، ولا جدوى من ورائه،
والواقع الموضوعي. والنظر العلمي الفاحص يخالفان كلاهما ذلك الزعم، ويكشفان
أن الاهتمام بالمصطلحات وضبطها وتحديدها ليس اهتماماً ترفياً، ولا قضية
هامشية، فضلاً عن أن يكون انغلاقاً أو اهتماماً بالأشكال والصور على حساب
الجوهر، أو بالمباني والألفاظ على حساب المعاني والدلالات.
إن دراسة هذه المسألة بحث في جانب علمي منهجي معقد ذي ارتباط نفسي
وتربوي وثيق بين شخصية الباحث وموضوع البحث، أو بين الذات العارفة
والموضوع المعروف، أو بين التعبير والتفكير. ولعله لم يصب البحث العلمي في
عصرنا الحاضر بآفة منهجية أكثر مما أصيب بالعشوائية في استخدام المصطلحات
العربية، على حين يجري اللهث والانتقاء وراء استعمال المصطلحات الأجنبية
الوافدة، مع ورود مصطلحات أصلية حيناً، ومعربة بديلة حيناً آخر، غير أن
الجهل بالذات، والانهزام أمام الآخر، وفقدان حرية الإرادة، دفع بالكثير من
النخب المثقفة والمتخصصة للأخذ بألفاظ الآخر ومفرداته من غير ضرورة منطقية
وبدون أدنى ضابط منهجي، بدعوى أنها مفردات علمية، وأنها باتت حقاً مشاعاً
للجميع، ولم تعد حكراً على ذويها وبيئاتها الأولى.
عولمة اللغة:
من هذا المنطلق يمكن استيعاب مدلول النهي القرآني الصريح عن استخدام
مفردة عربية لا غبار عليها من حيث الأصل هي «راعِنا» ؛ لكن لما غدا
استخدامها دالاً على معنى سلبي غير حسن استحال استخدامها في النهي، ثم جاء
الأمر باستخدام مفردة عربية أخرى هي «انظرنا» ؛ كما في قوله تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
(البقرة: 104) . وتفسير ذلك أن اليهود عدّوا اللفظ «راعِنا» دالاً على الرعونة
وهي الحمق، رغم أنه موضوع في الأصل للدلالة على الإنظار والإمهال، فقام
التوجيه باستعمال مفردة جديدة صريحة في دلالتها هي الإنظار والإمهال وهي قوله:
«انظرنا» [1] .
وليس من قبيل الاهتمام بالأشكال تشديد الإسلام على تسمية المواليد بالأسماء
الحسنة، وكراهيته الأسماء غير المستحبة، حتى إنه دعا إلى تغيير الاسم غير
الحسن إلى اسم حسن، حتى لو كان صاحبه قد عرف به ونشأ على ذلك فيما ذهب
من حياته [2] .
تأمل هذا وقارنه بالاستهانة بدلالة المفردات اليوم لدى بعض الكتاب
والمتحدثين في قضايا كبيرة وخطيرة تتصل بالأمة وسيادتها، ظناً منهم أنه لا داعي
للتشدد والضبط في الأشكال، وعلينا أن نوفر ذلك للاهتمام بالمضامين وليس
العناوين، ومع أن بعض هؤلاء قد فرّط بالمضامين قبل العناوين، إلا أن قسماً
كبيراً هو الذي يعنينا الحديث معهم لم يفرّط ولن يفرط بإذن الله في المضامين؛ بيد
أنه يتوسع قليلاً أو كثيراً في استخدام المفردات التي يعلم الجميع عند التأمل بأن
التهاون فيها يقود تدريجياً إلى التهاون في المضامين [3] ، ومع أني سأفرد الحديث
المستقل لمصطلحين شائعين كبيرين فيما بعد، إلا أني أشير هنا إلى مصطلح
«الشرق أوسطية» و «إسرائيل» فعلى حين ما يزال بعضنا محتشماً وغير
راضٍ عن استخدام الأول فإنه قد تساهل كثيراً في استخدام الثاني، وكأنه بذلك يقر
دعاوي الصهيونية في تقرير أمر واقع، له جذوره التاريخية الجغرافية، وما هو قائم
على الأرض خير دليل! !
ولأن الأمر قائم على عاطفة مجردة أو تقليد ساذج يمثل سمة الخطاب العربي
في مرحلة معينة، فإنه من غير المستبعد أن يزول ذلك التحفظ المتبقي مع الزمن،
ما دام الأمر ليس نابعاً من الإدراك الحضاري القائم على بعدي المبدأ والمعرفة
العلمية، وليس مقبولاً منطقياً المضيّ في الترويج والمشايعة لمصطلح «إسرائيل»
عَلَماً على كيان مغتصب لقيط، ثم التحفظ على مصطلح «الشرق أوسطية» مع
أن المدلول يكاد يكون واحداً تماماً!
أما حين يصر بعضنا على أن اللغة تفقد هويتها وتصبح مفردة علمية مشاعة
فإن من حقنا المطالبة بالإجابة الموضوعية عن السؤال الموضوعي المنطقي
الآتي: كيف لنا أن نسلِّم أن تلك المصطلحات فقدت هويتها، وأصبحت أداة تواصل
عالمي، ثم نجدها وحدها هي السائدة، تبعاً لسيادة لغتها، وهيمنة أهلها ذوي
النفوذ والتفوق والقوة؛ أولئك الذين أصبحوا أوصياء على البشرية اليوم تحت
شعار «النظام العالمي الجديد» بعد أن أخفق حلفاؤهم بالأمس في فرض الثقافة
ومن بينها اللغة بقوة السلاح.
إن سيطرة لغة واحدة وإقصاء ما عداها في البحث والدراسة، ومحافل العلم،
وحلقات النقاش وسائر المؤتمرات والندوات، إنما يؤكد حالة الاستلاب الحضاري
لدى الشعوب المهزومة، ويعزِّز من هيمنة أقوياء الحضارة الغربية، ولعله لم
يتمحض الأمر في هذا الجانب كما تمحض اليوم في صورة ما يسمى بالعولمة التي
لا تبقي على مقوم حضاري ذي خصوصية إلا أتت عليه بالوصاية والفرض
لأنموذجها السائد المهيمن، والذي تمثل اللغة فيه أداة التأثير الفاعلة سلباً إلى حد لا
يكاد يتصوره من أغفل العلاقة العضوية بين طريقة التعبير ومنهجية التفكير.
درس مزدوج من فرنسا:
إن العاقل من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، والمفترض فينا جميعاً
أن نستخلص العبر من تلك البلدان التي استعمرت ردحاً من الزمن في الشمال
الإفريقي حتى نشأت فيها أجيال كاملة لا تعرف لغتها الأصلية تماماً؛ إذ هي نشأت
على لغة الآخر ليس في مجال العلم فقط، ولكن تدخلت حتى في نطاق التعامل
الأسري، وخصوصيات أفراد العائلة وداخل غرف النوم.
وأدركت حكومات بعض تلك البلدان غداة الاستقلال حجم التركة الاستعمارية
الكبرى التي خلَّفها المستعمر أثناء احتلاله فيما يتعلق باللغة وما يرتبط بها من قيم
معرفية وسلوكية بعيدة عن العمق الحضاري والأصالة والهوية والاستقلال
والخصوصية.. مما دفع ببعض تلك الحكومات لبذل جهود مضنية في سبيل العودة
إلى الذات عن طريق التأهيل اللغوي بالعربية، ولا شك أن الأمر قد كلفها الكثير
وما يزال.
ومن المفارقات العجيبة الجديرة بالتأمل والتوقف عندها طويلاً في هذا السياق
أنه على حين يراد لنا قبول لغة الآخر بلا تحفُّظ؛ بدعوى أنها سبيل نهضتنا الحتمية،
نجد أن الحكومة الفرنسية اتخذت قراراً (في مايو 1994م) يقضي بالعقوبة
سجناً، أو تغريماً مالياً يصل إلى ما يعادل ألفي دولار بحق كل من تثبت عليه
(جريمة) استخدام غير الفرنسية في الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة
والمرئية، وكافة مكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية، وخاصة
المحلات التجارية، والأفلام الدعائية التي تبث عبر الإذاعة والتلفاز. وقد جاء هذا
القرار في مواجهة هجمة اللغة الإنجليزية، التي أوصلتها الأقمار الصناعية إلى
البيوتات الفرنسية [4] .
إن قرار الحكومة الفرنسية يدل على رفض محاولة الهيمنة: فرض الأنموذج
الثقافي الأمريكي على الفرنسيين كما يراد له أن يفرض على غيرهم.. والأمم الحية
هي التي ترفض وتنازع ولا تستسلم، في حين أن الأمم المغلوبة مولعة بتقليد
الغالب وتقمص شخصيته الحضارية في كل مظهر من مظاهره.
التفاعل لا الاستلاب:
وقد يتصور بعض المتعجلين في إصدار الأحكام وتصنيف الناس أن في
الدعوة إلى الانعتاق والاستقلالية دعوة ضمنية إلى الانعزال والتقوقع والجمود، وهم
بهذا يؤكدون وقوعهم في فخّ الاستلاب الحضاري، الذي أفقدهم حتى إصدار أحكام
موضوعية متأنية في حق كل مخالف لسيادة الغرب الحضارية وهيمنته الثقافية،
فالتواصل المعرفي أمر مشروع، بل وفريضة حضارية، وإغفال أداة هذا التواصل
يمثل غيبوبة حضارية، وتخلفاً عن قافلة الركب الحضاري، وتجاهل ما وصل إليه
الغرب في نواح معرفية وتقنية كثيرة، وهذا استعلاء أهوج مرفوض، وليس عزة
إيمانية أو استقلالاً حضارياً سليماً.. كما تعي هذه الدعوة استحالة النهوض
الحضاري بغير إفادة من المعرفة التراكمية والخبرة الجادة التي بلغها الغرب،
ولكنها تعي كذلك أن هذا كله أمر آخر يختلف عن الاستلاب الحضاري الذي من
شأنه أن يسهم في مزيد من التخلف والنكوص، وإن زعم ذوو الجهل المركب أنه
وحده طريق التقدم الحتمي وسفينة النجاة.
نماذج النهوض الشرقية:
ومن النماذج الحيّة على زيف الدعوة إلى استعارة لغة الآخر ومفردات خطابه
وجعل ذلك شرطاً لازماً للنهوص الحضاري، ما شهدته التجربة اليابانية من تفوق
وتنمية شاملة، دفعت بها إلى مصاف الدول العملاقة التي بات الغرب وبالأخص
الولايات المتحدة يضع لها ألف حساب، ولأن أجواء التحدي تصنع الإبداع؛ فقد
أفاق اليابانيون بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، فاندفعوا لبناء نهضة ذاتية
قائمة على خصوصيات المجتمع الياباني فيما يتعلق بلغة التعليم؛ حيث لم يستعر
اليابانيون لغة الغرب، ولكن تم الاعتماد كلياً على اللغة اليابانية رغم صعوبتها التي
يكاد ألاَّ يتصورها أي منا ممن لم يحط علماً بها. فهل يتصور أحد أن عدد حروف
هذه اللغة يبلغ عشرة آلاف حرف، وأنه يشترط لقراءة صحيفة يومية يابانية أكثر
من ثلاثة آلاف وخمسمائة حرف [5] . هذا مع إفادتهم من التقنية الغربية التي تم
نقلها وتعلمها، وكانت بحد ذاتها دافعاً لاستحداث نظام تعليمي جديد يكفل لليابانيين
اللحاق بالدول الغربية الكبرى [6] . ومن الملفت للنظر أن اليابانيين الذين يتعلمون
اللغة الإنجليزية يعدون أنفسهم إعداداً جيداً لمعرفة قواعدها التي عادة ما تشملها
الاختبارات، دون الاهتمام بالقدر نفسه بتعليم اللغة عملياً وقراءتها [7] .
والأمر ذاته ينطبق على التجربة الصينية وتجربة الكوريتين؛ فسرُّ النهوض
فيها جميعاً يرجع إلى جملة أسباب جوهرية من بينها لغة التعليم الذي مثل مفتاحاً
للتقدم وعموداً للنهوض في الوقت ذاته.
والسؤال المفترض هنا: هل ثمة أوجه للمقارنة من حيث الصعوبة بين هذه
اللغات وبين العربية؟ !
أقسام المصطلحات:
والمصطلحات الوافدة قسمان رئيسان: الأول: مصطلحات العلوم الطبيعية
والتطبيقية، والثاني: مصطلحات العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتعامل مع الأول
ليس أمراً هيناً كما قد يتصور بعضنا؛ حيث لا يقف في مدلوله عند حدود المعنى
الموضوع له من قبل مكتشفيه وذوي السبق إلى صناعته، بل لا يخلو من إيحاءات
ودلالات نفسية وذهنية تحمل معنى الغلبة والانبهار لأصحابه، والضعف والتبعية
لمن لم يسهموا في الاكتشاف والسبق. ومع التشديد على ضرورة أن يكون للمسلم
المعاصر مشاركة إيجابية أو فعل حضاري في هذا القسم كي لا يظل مستهلكاً عالة
على الآخر، فإنه لا مناص من التعريب، والبحث عن ألفاظ عربية مناسبة، مع
عدم إغفال ضرورة المبادرة إلى الاكتشاف والإبداع، كي يسهل الوصف العربي
النابع من الذات الفاعلة لا المستهلكة المتسولة! وهنا يأتي دور المجامع اللغوية
العربية وذوي الشأن من المختصين والمهتمين بهذا الجانب.
يجب أن يقدم مجمع اللغة العربية طبعة جديدة مستوعبة للمستجدات العلمية في
معجمه الوسيط. ولا بد من الإشارة هنا إلى التجربة السورية الرائدة في هذا المجال،
أعني مجال تعريب العلوم الطبيعية والتطبيقية، والإفادة من ذلك ضرورة عينية؛
إذ التجربة السورية تمثل رداً عملياً على المتشككين في استيعاب المفردات اللغوية
العربية للكم الهائل من المعرفة العلمية الطبيعية والتطبيقية المعاصرة.
وتعدّ الاستهانة بالجهود المبذولة في هذا السبيل استسلاماً لسيل الغزو الثقافي
الجارف، كما يعد استهجان المفردات العربية التي تبدو غريبة أو مشكلة أو ثقيلة
على اللسان العربي المعاصر عيباً كبيراً في المستهجنين لا في اللغة العربية.
إن قدرة الغربيين البارعة في تضخيم ما يرغبون في تضخيمه، وتقليل ما
يودون التقليل من شأنه ينسى بعضنا ممن يحمل تجربة في التعلم لأي لغة أجنبية ما
يواجهه من الصعوبات في البداية، سواء من حيث حفظ حروف الكلمة، أو نطقها
نطقاً سليماً تماماً، أو تطبيقها في الواقع العملي، أو اختيار اللفظ المناسب في
السياق المناسب، أو المقدرة على الاستيعاب الجيّد عند السماع. والغريب حقاً أن
الأمر لا يبعث على الاستغراب أو الاستهجان، بل إن وقوع المتعلم المبتدئ أو غير
المبتدئ في خطأ ما يتعلق بأي من تلك الجوانب يدفع كل ذوي الخبرة اللغوية لهذه
اللغة المتعلمة للتصويب، ويكون ذلك علامة الثقافة والنبوغ، ولا يجد المتعلم حرجاً
في قبول تلك التصويبات مصحوباً بشكر جزيل وامتنان بالغ، ولا يشعرون بأدنى
حرج، بل إن الحرج قد يلحق من يفكر بالاستدراك عليهم، وقد يسمع من ألفاظ
الاستخفاف والاتهام بالشكلية والسطحية، دون أن يكلف هؤلاء المتهمون المستخفون
أنفسهم السؤال: لماذا ينزه المستدركون على الخطأ في إنقاص حرف، أو في
زيادته، أو في النطق به خطأ ... إلخ بالنسبة للغة الإنجليزية مثلاً عن الاتهام
بالشكلية والتسطيح ... إلخ، في حين يصب ذلك كله لمن يفعل الشي نفسه بالنسبة
للغة الأصلية؟
ضوابط المصطلحات:
ثمة قواعد أربع أساسية حيال إشكال التعامل مع المصطلحات. ولكن قبل
البدء بها يحسُن التأكيد على ما يلي:
إن المصطلحات الإنسانية والاجتماعية تمتاز بحساسية أشد من قريناتها
المستخدمة في إطار الدراسات العلمية الطبيعية والتطبيقية؛ إذ إن من المسلّم به في
نطاق هذه الدراسات مدى الخصوصية والتداخل والإلباس على نحو يستلزم معه
أهمية ضبط التعامل مع هذه المصطلحات وفق قواعد قد لا تمتلك اتفاقاً نهائياً. أما
حين تتصل تلك المصطلحات بمفردات الشريعة وأحكام الدين فإن الأمر يكون أكثر
حساسية وأدعى للضبط، والحفاظ على تلك المصطلحات.
القاعد الأولى:
إن المصطلح الحضاري ينبغي أن يؤخذ في سياق منظومته الحضارية؛ إذ
هو يعبّر تمام التعبير عنها، وإن محاولة إخراج المصطلح من سياقه الحضاري
لاستخدامه في سياق منظومة حضارية أخرى يؤدي إلى التداخل في المفهومات وإلى
زعزعة المنطق الداخلي فيها. وبذلك فليس من المنهج في شيء إغفال تطور
المصطلح الحضاري في إطار منظومته الحضارية [8] .
القاعدة الثانية:
إن المصطلح المتعلق بالعلوم الإنسانية والاجتماعية يمثل مفردة من مفردات
اللغة المعبرة عن الاتصال والتفاهم، إلا أنه قد ينقلب إلى أداة لسوء التفاهم؛ إذ
للاستخدام العرفي اعتبار يوحي بمدلولات وإيحاءات اجتماعية تعلق بها ذلك
المصطلح من جراء الاستخدام العرفي الخاص في بيئة اجتماعية ما، ومن هذا
القبيل مصطلح «خلافة» فإنه لفظ عربي معروف في الميراث السياسي الإسلامي،
ولكن من المعلوم أن تمثل هذا المصطلح على نحو مشرق لا غبار عليه إنما كان
في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، مما اضطر الفقهاء والمؤرخين لتمييز حكم
الخلفاء الأربعة الأوائل بـ «الخلافة الراشدة» [9] .
ومن هنا ندرك مدى الأهمية والخطورة التي قد يتسبب فيها الاستهانة في
تحديد المصطلح المطلوب وتحديده باستصحاب جميع الملابسات التي تكتنفه نشأةً
وتطوراً وعرفاً.
القاعدة الثالثة:
تظل هذه المصطلحات محتفظة بأسسها ومنطلقاتها الفكرية وبملابساتها
وظروفها التاريخية والبيئية إذا أريد لها الانتقال إلى بيئة حضارية أخرى ما دامت
حالة الانكسار الحضاري هي السائدة لدى ذوي الرغبة في النقل إلى بيئاتهم الجديدة؛
بخلاف ما لو كانت هذه البيئة الأخرى قد بلغت مرحلة العزّ الحضاري، فإن هذه
المصطلحات في هذه المرحلة ستذوب، وستصاغ على نحو يتمشى مع المنظومة
الحضارية المستعيرة، ولعل هذا يفسر مغزى التحذير النبوي من تقليد غير
المسلمين في عاداتهم وأنماط سلوكهم المتعلقة بالمأكل والمشرب والملبس وما إلى
ذلك، للتحرر من الهيمنة الثقافية والسلوكية لغير المسلمين، ولكن اختلف الأمر
بعض الشيء عند أمن الفتنة فيما بعد؛ فحين سادت القيم الإسلامية على الحياة
استعار المسلمون نظم الدواوين والتراتيب الإدارية والعملية، كما توسعت لغتهم
بالاشتقاقات الذاتية وبالتوليد والتعريب [10] .
القاعدة الرابعة:
هناك ألفاظ مجملة عربية وغير عربية يحددها السياق وطبيعة الاستخدام.
فألفاظ مثل: الثورة أو الطبقة أو التقدم، ألفاظ عربية كانت وما تزال تستخدم في
مختلف الثقافات إما مطلقة وإما مقيدة؛ فحين ترد مطلقة يجب أن نبحث عن مقصود
السياق الذي وردت فيه، مثل قول الماركسي: «ثورة الطبقة» ، والرأسمالي:
«الثورة الفرنسية» ، والإسلامي: «جاء الإسلام ثورة على المجتمع الجاهلي» .
فمراد الماركسي: ثورة الطبقة الكادحة على البرجوازية، ومراد الرأسمالي ثورة
الشعب الفرنسي على الظلم الذي كان سائداً قبل الثورة، ومراد الإسلامي: اقتلاع
الإسلام لجذور الجاهلية [11] .
وأحسب أن التباساً قد يكتنف هذه القاعدة (الرابعة) على نحو يستدعي البيان
المناسب للمقام؛ فعلى حين نجد المفكر الإسلامي الدكتور محسن عبد الحميد يتبنى
هذه القاعدة ويورد تلك الأمثلة عليها، نراه يفرق بينها وبين مصطلحات أخرى
وضعها جميعاً في سياق واحد كالاشتراكية، والدكتاتورية، والرجعية، والتقدمية؛
فهو يذهب إلى أن هذه المصطلحات «ثمرة تطور النمط الحضاري الغربي، لا
علاقة لها بتاريخ الإسلام وحضارته وتطور الحياة فيه» [12] .
والواقع أن ليس من الدقة في تقديري اقتران مصطلح الاشتراكية بتلك
المصطلحات التي أوردها الدكتور عند إجازته التلفظ بها بحسبان أن السياق سيكون
المحدد للمراد منها، كما أنه ليس هناك ما يستدعي التفريق بين تلك المصطلحات
عينها وبين هذه المقرونة بالاشتراكية وهي: (الدكتاتورية والرجعية والتقدمية) .
فالعبرة بالمعنى الغالب المتبادر إلى الذهن أول ما يطرق السمع. ومن المعلوم أن
الأنظمة السائدة كانت ثلاثة: الاشتراكية بهذا المعنى والرأسمالية، والإسلام، ولم
يكن يتبادر إلى ذهن أحد أن الاشتراكية تعني النزعة الإنسانية في العدالة الاجتماعية
على النحو غير المطبق في الاتحاد السوفييتي (السابق) أو الصين. إن هذا
المدلول المذكور للاشتراكية ليس إسلامياً بأي معنى، حتى لو قُيِّدَ بلفظ الإسلام أو
العروبة؛ لأن المسلمين أو العرب لم يعرفوا هذا المدلول على مدى تاريخهم، ولأن
أصل المدلول الذي وضعت من أجله فلسفي معروف بارتباطه بمذهبية غير إسلامية
من الأساس. ولئن وجدت بعض الجوانب المشتركة بين فلسفة الإسلام وبين
الاشتراكية من الناحية الاقتصادية فإن ذلك لا يغير من حقيقة الجذور المختلفة كلية
لنشأة كل منهما ومقاصده.
إما إدراج مصطلح «الاشتراكية» والدكتاتورية والرجعية والتقدمية في سياق
واحد فأمر لا يستقيم؛ إذ إن هذه المصطلحات (غير الاشتراكية) لا تمثل فلسفة
لأي مذهب وإن استخدمتها بعض المذاهب أكثر من غيرها، لكن يظل السياق هو
المحدد المنهجي للمقصود عند الإطلاق.
أرأيت استعمال مصطلح «الرجعية» ؟ فإن الماركسي يعني به مناهضة
الإقطاعية الزراعية التي كانت سائدة قبل قوانين الإصلاح في الدول
الشيوعية يوماً ما، كما أنه إذا استعمل مصطلح «الديكتاتورية» فسيعني
به ديكتاتورية «البروليتاريا» أما إذا استعمل مصطلح «التقدمية» فسيعني
به المضي نحو المستقبل بعيداً عن أفكار وممارسات ماضوية صبغت مرحلة
الإقطاع.
أما بالنسبة للمسلم فإنه إذا أطلق مصطلح «الرجعية» فإنه يعني به: العودة
إلى أفكار وممارسات الجاهلية الأولى، و «الديكتاتورية» تعني الظلم والاستبداد
الذي يقاومه الإسلام وعدالته. أما «التقدمية» فتعني بالنسبة له: المضي بأفكار
الإسلام وسلوكياته نحو المستقبل الإسلامي.
إذن فالسياق وحده هو الذي يحدد المراد؛ وأحسب أن مصطلحات كهذه ليست
أعلاماً ملازمة للشيوعية أو لغيرها، بل قاسماً مشتركاً بين الجميع.
وحاصل القول يلخصه الدكتور محسن عبد الحميد بقوله: إن «المذهبية
الإسلامية بكلياتها ومصطلحاتها غدت غريبة في مجتمعاتنا الإسلامية؛ فالمسلمون لا
يعيشون في إطارها. فلا بد لمنهج التغيير الذي يتبناه الإسلاميون أن يلتزم بإطار
المصطلحات الإسلامية حتى ترجع الأصالة الفكرية إلى مجتمعاتنا، فلا نعيش إلى
الأبد على فتات موائد المذهبيات المادية التي توجه الحضارة الغربية المعاصرة.
إن المذهبية الإسلامية تعيش اليوم في معركة ضارية مع المذهبيات المادية العلمانية،
واستعمال المصطلحات التي تعبر عنها لن يكون في صالح تمكين أفكارها ونمطها
الثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية» [13] .
وللتدليل العملي على خطورة التساهل في استعمال المصطلحات الوافدة، لا
بأس من الاستشهاد بنموذجين هما: التقويم المسيحي (الميلادي) ، ومصطلح
الديمقراطية.
أولاً: أنموذج التقويم النصراني (الميلادي) :
كم من المسلمين يعلمون في أي شهر هجري نحن، فضلاً عن اليوم؟ وهل
ثمة احتفاء أو احتفال بأي عام هجري جديد يمكن مقارنته من أي وجه مع حجم
الاهتمام بأي عام ميلادي، ناهيك عن هذا الهوس غير المسوَّغ من قبل العرب
والمسلمين للاحتفاء بقرن ميلادي نصراني جديد، ولو تذكرنا استقبالنا للقرن
الخامس عشر الهجري الإسلامي قبل عشرين عاماً لأدركنا مدى الكارثة الحضارية
التي تمكن الطرف الحضاري الغالب أن يفرضها علينا حتى غدونا مستلبين حضارياً
حتى في توثيق أحداثنا الخاصة وقضايانا الإسلامية المختلفة، في حين لا يخطر
ببال أي من الغربيين على أي مستوى أن يوثق حدثاً خاصاً أو عامّاً يعنيهم أو يعني
سواهم بالتقويم الهجري الإسلامي.
والواقع أن الاتهام المنتظر عند طرق هذا الموضوع من قِبَل المستلبين
حضارياً من حيث يدرون أو لا يدرون قد يرد في صورة استخفاف واستهجان يصم
المهتمين بإثارة موضوع كهذا بالسطحية والشكلية، بل لربما يقول قائلهم: إن علينا
الاهتمام بصناعة الأحداث التي تستحق الرصد، ثم نبحث بعد ذلك بأي التقويمين
توثق؟ ! وذلك الاتهام هو صناعة ذوي المنزع السطحي من هؤلاء المستلبين
استلاباً مركباً، ولعل ذلك يتضح من خلال هذه المحاورة لهم.
إن قضية الاستقلال وترسيخ الهوية والإصرار على الخصوصية الحضارية
تشمل ضمن ما تشمل الاحتفاظ بذاكرة الأمة عن طريق توثيق أحداثها من منطلق
تاريخها الذاتي الذي ينتسب إلى حدث كبير غيَّر مجرى التاريخ في العهد الإسلامي
الأول؛ وذلك الحدث هو هجرة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛
كما أن مسألة الاستقلال تعني استقلالاً شاملاً عن الغرب لا يقف عند حدود تحرير
الأرض فحسب، ولكنه يتجاوز ذلك إلى تحرير منهج التفكير وأسلوب العمل. ولنا
أن نوجه جملة من التساؤلات المنطقية إلى كل من ينازع في اتصال هذه المسألة
بالبعد الحضاري:
* هل يقبل الغربيون النصارى إن كانت المسألة هامشية سطحية أن يرصدوا
أحداثهم بالتقويم الهجري الإسلامي بحيث لا يترددون أن يوثقوا تاريخ الحملة
الصليبية الأولى عام 498 هـ بدلاً من 1096م، ومعركة حطين التي انتصر فيها
المسلمون على الصليبيين عام 583 هـ بدلاً من 1187م أو أن الحرب العالمية
الأولى اندلعت عام 1290 هـ بدلاً من 1914م، أو أنه قد حدث في رمضان أو
محرم أو ذي الحجة من عام كذا حدث كذا وكذا ... إلخ؟
ألا ترون أن حديثنا سيكون ضرباً من الهراء، بحيث بدا مستحيلاً إقناعهم
بأهمية وجدوى ومعنى العدول عما هم عليه إلى ما عليه غيرهم خاصة من ذوي
النزاع الحضاري معهم؟
والسؤال المفترض هنا: إذن لماذا يصمم بعضنا على أن المسألة هامشية
وإثارتها أمرٌ غير مفهوم ومستهجن لدى بعضهم الآخر؟ أليست المسألة إذن راجعة
إلى «سُنَّة ولع المغلوب بتقليد الغالب أبداً» كما نص على ذلك العلاَّمة ابن خلدون؟
* هل للاحتفاء والاهتمام المبالغ فيه اليوم بقدوم الألفية الثالثة أو دخول القرن
الحادي والعشرين أي منطق إسلامي مقبول خاصة في ظل تاريخ صراع حضاري
متعدد الوجوه مع الغرب عرفه المسلمون الأولون باسم «الحروب الصليبية» ،
وعرفناه نحن في «القرن العشرين» باسم «الاستعمار الغربي» وحلت بنا في
ظله كوارث تهتز لها الجبال الشوامخ، ولعل أكبرها ما كان يعرف بـ «القضية
المركزية» هل ما تزالون تذكرونها؟ وهل نسيتم وعد بلفور؟ أم هل نسيتم
الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني وراعي عملية السلام؟ ! ! أم هل غفلنا عن
اللون الجديد للصراع وهو صراع الثقافات والحضارات وغزو العولمة
(Glabolisation) خصوصاً؟
* هل يعي الذين يهونون فداحة الخطأ المرتكب بحق ذاكرة الأمة أن الأمر بلغ
ببعض الكتاب والمتحدثين أن يطلقوا مصطلح «العصور الوسطى» على نحو
يشعر ظاهره بالوقوف ضد هذا العصر وأحداثه جميعاً؛ لأنه رمز الرجعية والتخلف
والجمود. وهم بهذا يؤكدون أنهم ضحية الغزو الثقافي الغربي ومركزيته المتطرفة
التي تفترض في نفسها الكون كله، وأنه لا يسع الآخرين إلا متابعتها في كل شيء؟
* إن مصطلح العصور الوسطى أو النهضة أو التنوير أو سواهما مما هو
نبتة غربية خالصة، لا يعني المسلم المعاصر من قريب أو بعيد؛ لأنه يطلق
عندهم على الفترة الواقعة بين سقوط روما في القرن الرابع الميلادي وبين عصر
النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، وتمثل هذه الفترة أسوأ مراحل
الضعف والتخلف بالنسبة للأوروبيين، في حين شهد التاريخ الإسلامي في الفترة
الواقعة في القرن السادس الميلادي تحديداً فجر الإسلام وعصر الرسالة ومبعث
الوحي المحمدي وبدء انطلاقة التحرر وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم،
وسرايا الصحابة وفتوحاتهم. وامتداد الحضارة الإسلامية بعد ذلك يعد امتداداً لرسالة
الإسلام الأولى؛ فكيف تم تقبل ذلك المصطلح والترويج له؟ ! ألا ترون خطورة
التقليد الأعمى.
* ألا ترون أننا نقع في التناقض المعيب حين تحصل أحداث مباركة كحرب
رمضان 1393 هـ، وتشتهر عقب المعركة بحرب 10 رمضان، ثم ما تلبث أن
تختفي، وتصبح مشتهرة بحرب 6 أكتوبر 1973م؟
* أيستطيع أحدٌ اليوم في بلد كاليمن، ولا أقول مصر أو الشام أو المغرب
العربي، أن يؤرخ لحدث محلي بالتقويم الهجري وحده؟ ناهيك أن يكتب تاريخ
الحدث بالتقويم الهجري الإسلامي دون الإشارة إلى كونه هجرياً كأن يرمز له
بالحرف (هـ) ، في حين أنه بوسع أي مؤرخ أو كاتب اليوم أن يكتب أي
تاريخ لأي حدث من غير ذكر كون التقويم ميلادياً أو أن يرمز له بالحرف (م) ،
وذلك يعني بلا نزاع أن الميلادي النصراني أضحى الأصل الذي لا يحتاج إثارة أو
تمييزاً، والهجري الإسلامي هو الاستثناء الذي يستحق ذلك، وبهذا انقلبت موازين
الأصيل والدخيل حقاً، فغابت ذاكرة الأمة الحضارية تماماً أو تكاد.
* نظراً لهذا الاستغفال الصارخ للعقل المسلم المعاصر بلغ الأمر ببعض
الدعاة والمفكرين والكتاب الإسلاميين أن يجاروا هذا الاتجاه الغازي، بل أن يزيدوا
عليه مع الأسف تأصيلاً غاية في الغرابة، وذلك حين يستشهد بعضهم على حديث
المجدد الذي يبعثه الله على كل قرن كما ثبت ذلك عند أبي داود والحاكم بإسناد
صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه
الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» [14] ، فيتحدثون عن فلان أو
فلان أو.... إلخ أنه أو أنهم مجددون للإسلام في القرن العشرين! ! وإنما مثلهم في
هذا كمثل الذي يفهم أن القرآن إذ يتحدث عن الشهور [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ]
(التوبة: 36) ، أو الأشهر الحرم: [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] (التوبة: 5) ، فيستخلص أن الاثني عشر شهراً أو الأشهر
الحرم المنصوص عليها في الآيتين محمولة على التقويم الميلادي المسيحي وأشهره
الحرم! ! وليس المقصود هنا الشماتة بل الإشارة إلى مدى الغيبوية الحضارية التي
لم يسلم من الوقوع في شركها حتى دعاة ورواد التغيير الإسلامي!
* قد يقال: إن أحداثاً ضخمة شهدها القرن الميلادي السابق، مما دعا إلى
الاهتمام به على ذلك النحو، ورغم سذاجة اعتراض كهذا فإن أقرب رد بديهي عليه
هو طرح السؤال الآتي: هل تمت تلك الأحداث خارج نطاق القرن الهجري؟ وهل
استباق الهجري بعشرين عاماً على الميلادي مسوِّغ مقبول ومعقول لكل هذا العبث؟
ثم ما نسبة ما حدث في العشرين عاماً الأخيرة مقارناً بثمانين عاماً مرت فيها حربان
عالميتان وأحداث جسام لا يمكن لذاكرة التاريخ نسيانها؟
عودة لضوابط المصطلحات:
وإذا تذكرنا قواعد المصطلحات الأربعة الضابطة لمنهجية التعامل مع الوافد
منها، فإننا سنجد القاعدة الأولى منها القاضية بضرورة أخذ المصطلح في سياق
منظومته الحضارية تدفعنا نحو ضرورة التحرر الشامل من التبعية في استعمال
التقويم الأوروبي النصراني؛ لأنه بالفعل جزء من سياق حضاري مختلف تماماً.
كما أن القاعدة الثانية التي فحواها أن الاستخدام العرفي قد يحيل اللغة من أداة
اتصال وتفاهم إلى أداة سلبية لسوء التفاهم، تؤكد أن الاستخدام الشائع للتقويم
النصراني جعل منه عُرفاً مسيطراً أفضى إلى هيمنة الطرف الحضاري الغالب
القوي؛ ففرض بذلك جزءاً من ثقافته على الطرف المغلوب الضعيف. أما القاعدة
الثالثة التي تميز بين حالتي العز والانكسار الحضاريين، فإن واقع الحال يشهد بأن
الأمة تعيش حالة انكسار حضاري لا تخفى، رغم الجهود المبذولة لحركة البعث
الإسلامي المعاصر، غير أن مخالب الوحشية الغربية عموماً والإمبريالية الأمريكية
على وجه الخصوص ما تزال ناشبة في جسد الأمة الإسلامية وقلبها الثقافي،
والتخلص من حالة كهذة يتطلب إرادة وسلوكاً يتأبى على التبعية الفكرية والسلوكية
والانعتاق من ربقة التقليد، ونزع قابلية الاستعمار.
وأما القاعدة الرابعة القاضية بأن السابق هو الذي يحدد مقصود الألفاظ
المجملة؛ فإن التقويم الأوروبي إياه ليس مجملاً يحدده السياق بل هو تفصيلي
موضوع للدلالة على معنى حضاري معروف.
الأنموذج الثاني: الديمقراطية:
ولعلي مضطر في البدء أن أقرر حقيقتين على غاية من الأهمية قبل المضي
في تفصيلات هذا المصطلح:
الحقيقية الأولى: أن مناقشة المصطلح تنطلق من سياقه الحضاري المنهجي
دون أن يعني ذلك منازعة من أبَى إلا أن يسطح القضايا المعقدة والإشكالات الفلسفية
الكبيرة ليظهر أمام أرباب صيحة الديمقراطية ودعاتها الصادقين أو سواهم بمظهر
المناصر لقضايا العدل والحرية والمساواة؛ فهذه المسائل الثلاث لا يجوز النزاع
فيها ولا الخلاف حول جوهرها، ومن أبَى إلا المنازعة والخلاف فذلك شأنه وحده؛
غير أن ذلك لا يعني من جانب آخر مرادفة حرفية بينها وبين الديمقراطية، كما
يعلم دارسو الفكر السياسي الحديث [15] .
الحقيقة الثانية: تنطلق مناقشة المصطلح من مسلَّمة أن ليس للغرب وصاية
على العالمين؛ فلئن انتزعت الشعوب هناك حقوقها الديمقراطية بعد نضال مرير
مديد فذلك أمر مشرف لها، بيد أن ذلك لا يعطي دوائر القرار الغربية اليوم حق
فرض هذا الأنموذج على الإنسانية جميعاً؛ لأنه نتاج كفاح أوروبي خالص دفعت
إليه ظروف وملابسات وإشكالات لا تنطبق بالضرورة على نمط حضاري آخر
كالنمط الحضاري الإسلامي.
ولنشرع بعد هذا في مناقشة المصطلح ابتداءً من جذوره.
مفهوم الديمقراطية:
الديمقراطية كلمة يونانية الأصل تتركب من مقطعين: الأول بمعنى شعب،
والثاني بمعنى حكم، ويقصد بها حكم الشعب إما عن طريق نفسه بما يعرف
بالديمقراطية المباشرة، أو عن طريق ممثلين له ويعرف بالديمقراطية غير المباشرة،
وتمثل الأمة مصدر السلطات جميعها في هذا النظام [16] .
اتفاق واختلاف:
هذا المفهوم للديمقراطية يلتقي مع نظام الشورى الإسلامي في العملية الآلية
بيد أنه يختلف معه في نقطة جوهرية أخرى هي المصدرية.
أما بالنسبة لعملية الاتفاق فتتمثل في منح الأفراد حقهم في انتخاب من يمثلهم
ليحكمهم بمحض إرادتهم، وفق عقد اجتماعي يحق للحاكم في ضوئه ممارسة
صلاحياته في إدارة شؤون البلاد عن طريق الموافقة الشرعية الحرة التي تعرف في
الفكر السياسي الإسلامي بالبيعة. ثم إن نظام الشورى لا يختلف مع الديمقراطية من
حيث المباشرة وغير المباشرة، ولا فرق حقيقياً بين أن يكون هذا الحاكم منتخباً
مباشرة من الأمة، أو عن طريق ترشيح أهل الحل والعقد الذين يتَّسمون بجملة من
الخصائص والمؤهلات، ويتكونون من «الأمراء الحكماء والعلماء ورؤساء الجند،
وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة»
وهذا التعريف لأهل الحل والعقد يعد من أجمع التعريفات، وقد انتهى إليه الأستاذ
محمد عبده حسبما نقله عنه تلميذه محمد رشيد رضا [17] .
أما جوهر الخلاف بين النظامين الديمقراطي الغربي والشورى الإسلامي
فيتجلى في مفهوم المصدرية الشعبية للسلطان؛ فإن قصد بها ممارسة الحكم من قِبَل
أفراد الشعب فذلك أمر لا يستدعي النزاع، ولا أحسب أن أمره يمثل إشكالاً في
الفكر السياسي القديم أو المعاصر، ولكنه خلاف المتبادر المقصود من اصطلاح:
(الشعب مصدر السلطات جميعاً) في سياق الحديث عن النظام الديمقراطي. إذن
المقصود بداهة بالنسبة لأهل المصطلح اشتقاق النظام التشريعي من الشعب وحاجاته
ومصالحه وآماله وطموحاته، وليس من أي مصدر آخر، سماوياً كان أو غير
سماوي، والواقع أن هذا مفصل الخلاف الجوهري بين النظامين؛ حيث إن
الشورى تستمد تشريعاتها من الوحي الإلهي (الكتاب الكريم، وصحيح السنة
المطهرة) وتعدّ جميع المصادر الثانوية الأخرى تابعة لهذين المصدرين، محكومة
بمرجعيتهما، والمصلحة أو الحاجة أو الأمل والطموح الذي يشعر ظاهره بمخالفة
النص الصحيح الصريح في وروده ودلالته أمر موهوم مردود لا يلتفت إليه.
ضبط المصطلح في ضوء قواعد التعامل:
تجدنا حيال مصطلح غازٍ مستأسر لهوى كثيرين نظراً إلى بريق الحضارة
الغربية المعاصرة بصورة عامة من جهة، ولوضعية الاستبداد والتخلف السياسي
العام الذي يغشى مناطق العالم العربي والإسلامي من جهة أخرى؛ وهنا لا مناص
من التذكير بقواعد التعامل الأربع التي سبق أن حاكمنا في ضوئها مصطلحات سابقة؛
لأنها في رأينا تمثل معيارية أحسبها منضبطة إلى حد كبير؛ فإذا رجعنا إليها
فسنجد ما يلي:
أولاً: إن مصطلح الديمقراطية ينتسب إلى منظومة حضارية غير عربية ولا
إسلامية؛ ومحاولة استعارته بكليته لأمتنا أمر لا يستقيم ولا يؤدي مدلوله المنشود
منهجياً إلا بقدر من الاعتساف والتداخل وزعزعة المصطلح الحضاري الأصيل،
وهو الشورى، ولا يوجد مسوِّغ موضوعي منهجي لذلك إلا بوصفه أمراً واقعاً،
وهذا منطق هش فرضه أقوياء الحضارة الغربية، وتابعهم المستلَبون التابعون
عندنا، وهو أمر يشبه فرض الأنموذج الأمريكي اليوم في مختلف المجالات الحياتية
عبر فكر وسياسة «العولمة» .
ثانياً: بالنظر في منطق القاعدة الثابتة المؤكدة على أن مفردات اللغة تعبير
عن الاتصال الإنساني والتفاهم؛ بيد أن ذلك قد ينقلب إلى العكس بفعل الاستخدام
العرفي للمصطلح. إذا أعملنا هذه القاعدة في مصطلح الديمقراطية فسنجد أن العرف
السائد لاستخدامها في بلد المنشأ يقوم على عناصر أربعة رئيسية هي: الحرية،
والمساواة، والتمثيل النيابي، والواقع الدستوري [18] .
وكل واحد من هذه العناصر غير مقيد بضوابط الدين، بل متروك لتقديرات
البشر واجتهاداتهم المراعية لملابسات الواقع وإشكالاته؛ وذلك اتساقاً مع منطق
فكرة الديمقراطية ونشأتها.
إن محاولة نقل هذه العناصر من بيئتها إلى بيئات أخرى مغايرة سيصطدم
بجملة من المعتقدات الفكرية والسياسية والقيم والأعراف المناهضة لكثير من
متضمنات تلك العناصر، كما أن السعي نحو تكييف أي منها وفق معتقدات وقيم
وأعراف البيئة الجديدة سيفقد مضمون المفهوم الديمقراطي فاعليته، وسيستحيل إلى
شيء آخر (مسخ) يمكن تسميته أي شيء آخر، إلا أن يكون ديمقراطية.
ويلاحظ اليوم أن ثمة أصواتاً في مجتمعاتنا الإسلامية (المحافظة) تدعو إلى إحلال
القيم والسلوكيات الديمقراطية كمنظومة متكاملة، لا أن تؤخذ بانتقائية، تتخير ما
تشتهي وترفض ما عداه.
والواقع يشهد بوجود أصناف ثلاثة في مجتمعاتنا ترغب في التعامل مع
المسألة الديمقراطية، بيد أنها تختلف في منطلقاتها ودوافعها:
فالصنف الأول: يسعى لتكييف فلسفتها وفق أهوائه وبما لا يتعارض مع
مصالحه بحيث يفقده مجداً، أو يسقطه من موقع اكتسبه بطريق مشروع أو غير
مشروع.
والصنف الثاني: يروم تكييف الديمقراطية مع معتقدات الأمة، وقيم المجتمع؛
بحيث يُزال أي تعارض قد ينشأ بين تعاليم الدين وفلسفة الديمقراطية، حرصاً منه
على الإفادة من إيجابياتها، وحتى لا يظهر أمام الآخر خصماً للحريات العامة؛ وذا
موقف سلبي من مضامين الديمقراطية دون أن يعني ذلك تسليمه المطلق لكل
مستلزماتها، ولذا فإنه يسعى كثيراً لإقران المصطلحين ببعضهما؛ فلا ينفك يذكر
الشورى إلا مقرونة بالديمقراطية أو العكس (الديمقراطية الشوروية أو الشورى
الديمقراطية أو الشوروقراطية) .
أما الصنف الثالث: فيدعو صراحة حيناً، وضمناً حيناً آخر للتعاطي مع
المسألة الديمقراطية منظومة واحدة متكاملة، وما عدا ذلك في نظره تلفيق وترقيع لا
ينسجم وأهداف التغيير الاجتماعي المنشود، معللاً ذلك بأن أوروبا والغرب عموماً
إنما حقق منجزاته السياسية تحديداً حين قَبِلَ بها جملة واحدة لا تحتمل التجزؤ.
وفي مقابل هذه المواقف الثلاثة يبرز موقف مضاد لها جميعاً يعلن رأيه
الرافض صراحة لفلسفة الديمقراطية جملة وتفصيلاً، ويرى أن وجود الديمقراطية
في المجتمع الإسلامي أمر لا ينسجم مطلقاً وروح الإسلام وتشريعاته وأحكامه.
وإزاء ذلك التباين في الموقف من المصطلح نرانا حيال تعارضات وتناقضات لا
مسوغ لترجيح بعضها على بعض أياً ما اختلفت نسبة الصواب أو الشطط في
بعضها مقارناً بالبعض الآخر.
إن القبول بأي من هذه المواقف لا يسلم من جموح أو انغلاق أو توسع لا
يتسع له منطق البحث أو منهج الموضوع الذي نتوخى بلوغه في هذه الدراسة،
وعليه نقول:
أجل لا تتعارض الديمقراطية مع الإسلام في جانب هام من التوجهات الآلية
كما أشرنا قبلاً، أما من حيث المضامين فيدير كل منهما ظهره للآخر تماماً، ويقعان
في التعارض البيّن، والتنافر التام، وكون الديمقراطية تشترك مع الإسلام في
بعض الجوانب الآلية فإن ذلك لا يؤذن بالقول: إن الديمقراطية باتت إسلامية
المقصد والمنزع والهدف؛ إذ الاشتراك في جزئيات الفكرة لا يصير أصل القضية
أمراً مشتركاً متفقاً عليه؛ فمن المعروف أن أصل مصطلح الثيوقراطية على سبيل
المثال وتعني الحكم الإلهي لا يختلف مع مفهوم حاكمية الإسلام إذا استبعدنا حكم
طبقة رجال الدين باسم وصاية السماء، أو سواها من الادعاءات المعروفة في تاريخ
الكنيسة الغربية؛ فالحكم لمن يهيمن به على البشر، والاحتكام إلى شريعته أمر
واجب في المجتمع المسلم؛ فهل يعني ذلك الاشتراك في هذه الجزئية الإذن بوصف
الإسلام بأنه ثيوقراطي، أو أن هناك ما يمكن تسميته بالثيوقراطية الإسلامية، أو
ثيوقراطية الإسلام أو نحو ذلك؟ ! [19] .
ويذهب بعض الباحثين في سياق بيان الفروق الجوهرية بين المصطلحين إلى
التشديد على ضرورة إدراك اختلاف مصدرية النظامين من جهة، وحقيقة فلسفة
الحكم على الأشياء والظواهر من جهة أخرى [20] . على أننا لو أمعنا النظر في
جوانب الاتفاق والاختلاف بين الإسلام والديمقراطية لكان المنطق الأكثر معقولية
قبولاً يقودنا إلى القول: إن وجود قدر من التشابه بين آليات العمل السياسي وسواه
بين النظامين يجعل من الديمقراطية نظاماً أقرب إلى الإسلام في تلك الجوانب وليس
العكس؛ فالإسلام من الناحية التاريخية يتقدم الديمقراطية بما يزيد على ألف عام
والفرق التاريخي يقضي بأن اللاحق يتبع السابق وليس العكس [21] .
ثالثاً: أما إذا طبقنا القاعدة الثالثة الضابطة لقواعد التعامل مع المصطلحات
الوافدة من حيث وضعية العز أو الانكسار، فالواقع الراهن يشهد بأن الأمة
الإسلامية رغم صحوتها الكبيرة ما برحت ترزح تحت نير أحوال التخلف
والانكسار، وهو ما يجعل منها الجانب الأضعف في معادلة التوازن بين القوى
الحضارية على الساحة العالمية اليوم.
ومع إقرار أحد الباحثين في مجال القانون الدستوري والنظم السياسية بأن
مصطلح الديمقراطية طاغٍ على حياتنا المعاصرة؛ غير أنه يرى أن حضور الأمة
الإسلامية اليوم قد تجاوز مرحلة غربة الإسلام وغلبة المفهومات الغربية بكل
ملابساتها ومضامينها وظلالها، فلا بأس من الاستعانة بمصطلح الديمقراطية
وإدراجه في سياق الدعوة إلى الإسلام ولفه بأطر التصورات الإسلامية حيث العبرة
بالمعاني وليس بالمباني، وبالمقاصد وليس بالصور والألفاظ [22] .
ولست أدري ما وزن هذا الحضور وما مقدار تجاوز الغربة الحضارية، وهل
هما يؤهلان حقاً لاستعارة مصطلحات الآخر الغالب المهيمن بلا تحفظ؟ ثم هل
يمكن القول بأن مصطلحات كهذه من قبيل عدم المشاحَّة في استعمالها؟ !
إن القول بأن واقع الأمة أضحى في حال لا يُخشى عليه فيها من التأثير
بالغالب نظراً لوضع العز وليس الانكسار والقوة وليس الضعف لكأنما يرتفع بهذا
الواقع إلى موقع الازدهار والنِّدِّية، وليس التخلف والتبعية. وصحيح أن الأمة
تشهد تقدماً نحو العز الحضاري بفعل الصحوة المباركة، لكن ذلك لا يمنحنا
استنتاجاً منطقياً وواقعياً بأنها ارتقت إلى مواقع الندية أو ما يشبهها.
وإذا كان مفكر بحجم رجاء جارودي يقر صراحة في بعض الحوارات
الصحفية معه بأن فرنسا باتت اليوم تابعة صغيرة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية
سيدة النظام العالمي الجديد ويعد حوارهما غير متكافئ فهو في نظره أشبه بحوار
السيد مع العبد؛ فكيف يستقيم القول بأن الأمة الإسلامية تجاوزت حالة الغربة إلى
حالة العز والازدهار؟
إن كلاماً كهذا فضلاً عن تجاوزه لمنطق الواقع السائد، فإنه يورث قبولاً
ضمنياً لا شعورياً بمصطلح أجنبي في سياق فلسفي مغاير، ويخل بأداة التواصل
الحضارية عبر اللغة.
رابعاً: إن مصطلح الديمقراطية ليس من الألفاظ المجملة غير العربية التي
يحددها السياق، بل هو لفظ غير عربي ولا مجمل، ولا يختلف استخدام المسلم له
عن غير المسلم من الناحية المنهجية والموضوعية، اللهم إلا في نظر فئة من
الإسلاميين التي لا تولي جانب المنهجية والموضوعية من الاهتمام ما يستحق،
وتعد هذا الاهتمام ضرباً من الهدر واللغو، وإخال أن ذلك عندها يرجع إلى سببين
جوهريين:
أحدهما: حرصها على أن يظهر الإسلام براءً من الاستبداد والأحادية
والفردية، مناصراً لقضايا الحرية والعدالة والمساواة والتعددية والتقدم وهو ما ترمز
إليه الديمقراطية.
والآخر: ضعف التربية العلمية المنضبطة بصوارم المنهج، وآفاق الواقع،
وعمق الوعي؛ مما أنتج خللاً في ضبط قاعدة المصطلحات المنهحية، ويندرج في
إطار هؤلاء بعض حملة الشهادات العليا؛ فرب حامل علم لا يلتزم بمقتضياته،
نزولاً عند واقع طاغٍ بالإعجاب وربما الانهزام النفسي الخفي أمام بريق الغالب
المهيمن وطغيان نفوذه..
والله من وراء القصد.
__________
(*) أستاذ أصول التربية وفلسفتها المساعد، جامعة صنعاء، اليمن.
(1) محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، ج 1، ص 71، 1401هـ 1981 م، الطبعة الأولى، بيروت، دار القرآن الكريم.
(2) ابن قيم الجوزية، تحفة المودود بأحكام المولود، ص 89 105، 1403هـ 1983م، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتاب العربي.
(3) حول موقف النخب من هذه المسألة راجع: حول أبعاد السوسيو أنثربولوجية للمسألة اللغوية وإشكال التنمية والحداثة، مصطفى محسن، المستقبل العربي العدد (214) ، ص 54 57، ديسمبر 1996م، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
(4) صحيفة الخليج الإماراتية، العدد (5502) ، ص 9 صادرة في 7/6/1994م «نقلاً عن: عمر عبيد حسنة، من فقه التغيير: ملامح من المنهج النبوي، 1415هـ 1995م، الطبعة الأولى، بيروت: المكتب الإسلامي.
(5) عثمان سعد، من مقالة له بعنوان» المأزق الثقافي «.
(6) أدوبين رايشاور، اليابانيون، ص 240 (ترجمة: ليلى الجبالي) ، سلسلة عالم المعرفة، 1409 1989م، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
(7) المرجع السابق، ص 245، 247.
(8) صالح سميع، أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي، ص 58، 1409هـ 1988م، الطبعة الأولى، القاهرة: الزهراء للإعلام العربي.
(9) حسن الترابي، الشورى والديمقراطية: إشكالات المصطلح والمفهوم، مجلة المستقبل العربي، العدد 75، ص 7 8، مايو 1985م، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
(10) المرجع السابق، ص 8 9، وانظر: محسن عبد الحميد، المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، ص 113 115 (كتاب الأمة رقم: 6) ، 1404هـ، الطبعة الأولى، الدرحة: رئاسة المحاكم الشرعية.
(11) محسن عبد الحميد، المرجع السابق، ص 119 - 120.
(12) المرجع السابق، ص 119.
(13) محسن عبد الحميد، مرجع سابق، ص 121 122.
(14) أخرجه أبو داود، ح/ 4291.
(15) حول بعض تلك المفهومات راجع: صالح سميع، مرجع سابق، ص 37 49.
(16) أحمد عطية الله، (القاموس السياسي) ، ط 3، القاهرة، دار النهضة العربية، ص 547، 548.
(17) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج 5، ص 181، 1414هـ 1993م، د ط، بيروت: دار المعرفة.
(18) سامي الدلال، رؤية إسلامية لإشكاليات الديمقراطية، مجلة البيان، العدد (90) ، ص 34 45، صفر 1416هـ، يوليو 1995، لندن، المنتدى الإسلامي.
(19) جمال سلطان، حوار في الديمقراطية، البيان، العدد (58) ، ص 35، جمادى الآخرة 1413هـ، ديسمبر 1992م.
(20) محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة، ص 252، د ت، د ط، بيروت والقاهرة، مطابع الشروق.
(21) المرجع السابق، ص 252 253.
(22) حسن الترابي، مرجع سابق، ص 9.(166/126)
المنتدى
يا من يريد نزع حجاب المرأة! !
ظافر بن محمد بن فهاد المنديل
ما زال الإسلام مستهدفاً قديماً وحديثاً من أعدائه؛ فهم وإن اختلفت مذاهبهم
ومشاربهم لكنهم يجتمعون على حرب المسلمين، وكان من أعظم وسائلهم لتحقيق
هدفهم وهو صد المسلمين عن دينهم، وتشويه صورته في أذهانهم: هجومهم
العنيف على تعاليم الإسلام المتعلقة بالمرأة بشكل عام، وبحجابها وعفافها ووقارها
بشكل خاص، فاستطاعوا إلى حد كبير زعزعة الثقة في النفوس بحجاب المرأة
المسلمة، وساعدهم على ذلك غياب الفهم الحقيقي لحكمة الحجاب، وتساهل المرأة
المسلمة ذلك التساهل الذي أغاض ماء الحياء، وقلب الموازين، وهبط بالمستوى
الفكري لكثير من الفتيات، فأصبح الاهتمام ينصب على أمور تافهة؛ ومن هنا
وَجَدَت المجلات سوقاً واسعة لنشر كتاباتهم بل رذائلهم. وكذلك استهدف أعداء
الإسلام المرأة المسلمة في عصر حرب الأفكار والمبادئ؛ وذلك بعد أن أُحبطوا في
حرب المواجهة عبر تاريخ الإسلام الطويل، فكان لا بد من إشاعة الفتنة في
المجتمع الإسلامي. ولما كانت المرأة هي أخطر وسائل الدمار على الرجال وعلى
الأمة جمعاء، فقد جندها العدو لتكون سلاحاً فتاكاً، وذلك بعد نزعها حياءها وعفتها؛
ولذا أثاروا شبهاً في مشروعية الحجاب، ومن هذه الشبه:
1 - زعم بعضهم أن الحجاب مشروع لكنه خاص بأزواج النبي صلى الله
عليه وسلم.
2 - قالوا: إن ذكر الحجاب وارد في القرآن الكريم، وهو تشريع عام
للمسلمين، ولكن أين في القرآن ذكر تغطية الوجه؟
وغيرها من الشبه الكثيرة التي يثيرها أعداء الإسلام. وإذا استمر الإنسان
مستسلماً لهذه الشبه فستؤدي به في النهاية إلى الانسلاخ عن دينه؛ إذ إن الدين
الإسلامي عقيدة وشريعة؛ والتزام المسلم بما شرعه الله دليل على سلامة ما في
صدره، ودليل على تقواه وقوة عقيدته.
ونقول لمن يقولون: إن الحجاب ليس أمراً واجباً: كذبتم وافتريتم على
الكتاب والسنة؛ والدليل من الكتاب على مشروعية الحجاب قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَرَاحاً جَمِيلاً] (الأحزاب: 28) .
وقوله تعالى: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ]
(الأحزاب: 53) . وغيرها كثير.
وكذلك من الأدلة: قوله تعالى: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ
حِجَابٍ] (الأحزاب: 53) ، وسبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر زوجاته بالحجاب كما روى
أنس رضي الله عنه قال: «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قلت: يا
رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب.
فأنزل الله آية الحجاب [1] » .
قالت عائشة رضي الله عنها: «يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَلَ لما أنزل
الله: [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] (النور: 31) شَقَّقْن مُروطَهُنَّ
فاختمرن بها» [2] .
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 4790.
(2) أخرجه البخاري، رقم 4758.(166/138)
المنتدى
سأثأر
عبد العزيز الخالدي
إلى كم يُهان الدين والعِلْجُ يطربُ ... وحتى متى يا قومُ ننعي ونشجبُ
وحتى متى يستأسد الفأر في الربى ... ويزرع فينا الخوفَ والحقَ يَسلبُ
أفي كل يوم يشتكي الظلم إخوتي ... وفي كل صقعٍ من بلادي معذّبُ
وفي كل يوم تستباح حقوقنا ... وما عاد فينا من يذود ويغضبُ
أللخائن العربيد ألفُ تحيةٍ ... وللعالم المغوار سيفٌ مذرّبُ
أننعم والإسلام يشكو مصابهُ ... ونضحك والرحمن للحق يغضبُ
فمن يا ترى للحق يأسو جراحهُ ... ومن في سبيل الله للنفس يُتعبُ
أهذا أوان النوم يا ابن عشيرتي ... ودمع ذوي القربى على الخد يُسكبُ
أهذا أوان النوم يا شبل خالدٍ ... وأنفاسنا في اللوح تحصى وتكتبُ
فقم يا حفيد الصحب واثأر لأمةٍ ... يسوم لها الباغي وفي المجد يلعبُ
وقل لبني الإسلام واصرخ بجمعهم ... سأنصر دين الله والحقّ أطلبُ
سأثأر للحق الذي بات يشتكي ... فلا القيدُ يثنيني ولا السوطُ يُرهبُ
سأنصرُ هذا الدين مهما تكالبت ... عليه الأعادي أو على العود أُصلبُ
سأثأر علّي أن أموت مجاهداً ... شهيداً إلى الجنات أسعى وأذهبُ
فمن يا ترى للذل يحني جبينهُ ... ومن ذا عن الهيجاء يرضى ويرغبُ
لئن كان للشر المبجَّل صولة ... فإن هدى الرحمن أعلى وأغلبُ(166/139)
المنتدى
رسالة إلى مُبحر
فيصل بن خالد بن جابر الغريب
كانوا على الشاطئ.. في أمن ودعة.. سحرتهم الأمواج الزرقاء.. وطيور
النورس البيضاء.. سلب لبَّهم التقاء الماء بالسماء.. فقدوا الاتزان لحظة
الغروب.. تسللوا دوني إلى قارب.. صغير.. صغير.. لا يكاد يحتويهم.. ألواحه
متآكلة.. مجاديفه متكسرة.. لكنها النشوة الهوجاء.. دفعوه.. طفا فوق الموج
الهادئ.. توغل في المحيط.. فتح المحيط فاه ليبتلع قرص الشمس.. ثارت
الأمواج.. وهم في غفلة.. أطلت رؤوس أشباح الظلمات.. ورفعت رايات الغدر..
أحبائي حتى هذه اللحظة لم يشعروا بما يدور من حولهم.. صرخت بأعلى صوتي..
لم يسمعوني.. لم يكترثوا بي.. سأصارع جنود اليأس.. سوف أصمد.. سيفيقون
من غفلتهم يوماً ما.. لكني.. أخشى فوات الأوان.. ولات حين مندم.. وهل بعد
اليقين من عودة؟ ! .. وليت شعري هل من يعرف مَرَدَّه؟ ! .. رعب وظلام..
تجلجل في أعماق القتام.. وهل من يفيق من سكرته لتخبره الأيام أن تلك الأنسام
لم تكن سوى أحلام؟ !(166/139)
المنتدى
الزنازين المتجولة وأثر الدعاة
عبد العزيز بن عبد الله الوايلي
الدعوة إلى الله عز وجل حقل يُزرع فيه أنواع من الأشجار والنباتات
والزهور، ليقطف المجتمع بعد ذلك ثماراً يانعة وأزاهير فواحة، وهذه الدعوة لا
تعرف مكاناً دون مكان ولا أشخاصاً دون أشخاص؛ فهي دعوة عامة للكبير
والصغير، وللذكر والأنثى، وللقوي والضعيف. وإن هناك مسلكاً دعوياً يفيد الدعاة
وهو إرشاد سجناء الزنازين المتجولة وتوجيههم، وهؤلاء يتشكلون من فئات: فمنها
فئة الحيارى الذين يبحثون عن الدين الحق والطريق المستقيم فأصبحوا في دوامة لم
يجدوا منها مخرجاً ولا محيصاً. ومنها فئة العصاة الذين انغمسوا في بحر المعاصي
فندموا على ذلك؛ بيد أن عندهم هواجس شيطانية لم يستطيعوا منها خلاصاً أو فكاكاً.
ومنها فئة الضعفاء الذين فيهم خير وصلاح؛ إلا أن هناك أناساً يتسلطون عليهم
ولا يرضون منهم السير في ركاب الصالحين. وهؤلاء جميعاً وغيرهم يعيشون في
زنازين ولكنها متجولة، وقد يُستغلون من قبل أولياء الشيطان ليصرفوهم عن الخير
الذي يتأجج في صدورهم، وعن فطرة الله التي فطر الناس عليها. ولو صنفهم
دعاة الهدى والصلاح ضمن خططهم الدعوية لوجدوا الإقبال من هؤلاء على كلامهم،
ولزالت عنهم هذه القيود بإذن الله.
فيا دعاة الحق! خذوا بأيدي هؤلاء ووضِّحوا لهم سبيل النجاة، وبيِّنوا لهم
سعة رحمة الله، ولا يغلبنكم أهل الباطل والضلال؛ فإنهم لا يملكون من وسائل
الإقناع إلا مثل فتات الخبز.(166/140)
المنتدى
نور القلوب
محمد حماد وأحمد
سأركب ناقتي وأسير حُرّاً ... طليقاً سالكاً كل الدروب
سأنطق بالحقائق في ضميري ... على سنن الهدى رغم الخطوب
سأُعرض جاهداً عن كل قول ... وفعل مائل نحو الغروب
سأبقى شاعراً يشدو بلحن ... يؤلف عنوة بين الشعوب
ومهما هبت الأقدار يوماً ... فإني صابر عند الهبوب
أنا المسكين للقرآن أتلو ... تلاوة مسلم وجل هيوب
سأحيا مؤمنا بالله حقاً ... وأنشر حكمتي بين القلوب
ولست أريد بالإحسان مالاً ... ولا جاهاً على أهل الذنوب
ويكفيني بأن الله ربي ... ورب الكون يهدي في الكروب
لك الحمد الذي يبقى دهوراً ... فإنك خالقي نور القلوب(166/140)
المنتدى
الجمال بين الجوهر والمظهر
عبد الله بن خضر الغامدي
قد تتغير المفاهيم، وتنقض المُسلّمات عند الكثير من الناس في حكمهم على
الأشياء وقناعتهم بها، ولكن رؤية هذه الأشياء بمنظارٍ سليم كفيلة بأن تبقيها داخل
أطر ثابتة بدون تغيّر، واضحة بدون غبش، مهما طال الزمان أو تغيّر المكان.
والجمال من الأشياء التي تختلف آراء الناس في تحديده والوقوف على حقيقته، فما
كان في نظر بعض الناس جميلاً قد يكون في نظر الآخرين قبيحاً! وما كان في
نظر بعضهم قبيحاً قد يكون في نظر الآخرين جميلاً! ولذلك قيل: «للناس فيما
يشتهون مذاهبُ» وهذه المذاهب وتلك الاختلافات نابعة من الرواسب التي نشأت
مع هذا الإنسان ونمت في أفكاره حتى أصبحت معياراً يقيس من خلاله الأمور،
ويسبر به غور الأحداث.
ولكن بماذا يقيس الشرع الجمال؟ وما الجميل في معياره وما القبيح؟ !
روى الإمام البخاري في صحيحه عن سهل رضي الله عنه قال: مرَّ رجل
غني على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن
خطب أن ينكح، وإن شفع أن يُشفّع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر
رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خطب أن لا
ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» [1] . يقصد الأول.
إذن ليس الجمال بالأشكال ولا الصور، ولا في زهرة الدنيا وزينتها!
إن الأمر أعظم من ذلك، إن الإنسان بقدر استقامته على شرع الله تعالى
وتمسكه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يكون جماله ورونقه مع هذا الكون العظيم
المنقاد لله تعالى الطائع لأمره المسبح بحمده.
لا والذي جمعَ الخلائقَ في (منى) ... وبدا فأعطى من أحلَّ وأحرما
ما في ربوعِ الكونِ أجملُ منظرٍ ... من مؤمنٍ للسعدِ جدَّ ويمّما [2]
ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: «فاظفر بذات الدين تربت يداك» [3] ؛
لأن الدين هو الجمال الحقيقي، أما المال والنسب وغيرها فهو جمال زائف ومتاع
زائل. يقول الله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ]
(المنافقون: 4) ، ثم بيَّن تعالى ذلك بأن جمال الأجسام وعذوبة اللسان ليس
مقياساً ولا معياراً، فقال: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]
(المنافقون: 4) ، وقال في موضع آخر: [وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا] (التوبة: 85) . (فتدبّر) .
وهب أنك ظفرت بزوجةٍ حسناء ذات مالٍ ونسب، ولكنها لا تتورع عن قول
الزور أو العمل به، فما قيمة جمالها ومالها!
أو أنك وجدت صديقاً يمتاز بقوة الجسم وعذوبة اللسان ووفرة المال، ولكنه
منتهك لحرمات الله، متعدٍّ لحدوده، فيما قيمة قوته وماله وعذوبة لسانه؟ !
وقد يكون هناك رجل أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره [4] .
__________
(1) أخرجه البخاري (6/123) .
(2) ديوان لحن الخلود، عايض القرني، ص 24.
(3) أخرجه البخاري (3/417) ، ومسلم (4/175) .
(4) انظر صحيح البخاري (6/26) برقم (2806) وصحيح مسلم (3/1302) برقم (1675) .(166/141)
المنتدى
الهمة العالية
محمد صلاح صالح
بدا لنا مقبلاً بالمجد صداحا ... بهمة تبدل الأتراح أفراحا
النار في كفه اليسرى لنا ظهرتْ ... والنور في كفه اليمنى لنا لاحا
مغامراً في خطوب الهول مدّرعاً ... وعائماً في سماء المجد سبَّاحا
وقانعاً بالردى إن فات مطلبه ... وعائداً بالعلا إن نال إنجاحا
والمجد يصحب مَنْ يسعى ليدركه ... بعزمه، وبطيء اليأس، ملحاحا
وليس مَنْ يقطع الأيام في دعةٍ ... يشيد أحلامه بالنوم مرتاحا
وليس مَنْ جرَّب الأمجاد واحدةً ... فملَّها جازعاً، للبذل كبَّاحا
وليس مَنْ يحسب العليا مدارجه ... قد زُرْكِشَتْ بزهور الروض فوَّاحا
وليس مَنْ ينصب الميزان منتقداً ... لمن سعى للعلا، للمجد طمَّاحا
كثعلبٍ جال يوماً في حدائقنا ... ولم يطلْ شجر الأعناب، قد طاحا
فقال: تفٌّ عليكِ أنت حامضةٌ ... وإنني أنثني للظبي جرَّاحا
والمجد مقتربٌ في القرب مبتعدٌ ... وعطره بالشذى في الكون قدْ فاحا
لكنما دونه الأشواك واضحةٌ ... ولست تجني بغير البذل أرباحا
تناله فتيةٌ في الأمر حازمةٌ ... بعزمها تجعل الإظلام إصباحا
يناله فارس للصعب مطَّرحٌ ... يناله بالسرى والصبر مفتاحا(166/142)
المنتدى
ردود
* الإخوة: عمر بن عبد الرحمن العمر، فهد بن عبد العزيز الدحيّم، مصطفى
سعيد سنكر: نشكر لكم تواصلكم الكريم مع مجلة البيان، كما نشكر لكم ملاحظاتكم
واقتراحاتكم. وجزاكم الله خيراً.
* الأخ: مَيَاح نسيم بن لشْهَبْ: نشكر لك تواصلك الطيب مع المجلة،
والأسئلة نرجو توجيهها إلى الجهات المختصة بالفتوى، وجزاكم الله خيراً.
* الأخوين: ياسر بن محمد بابطين، أسعد التهامي: وصلتنا مشاركاتكما،
جزاكما الله خيراً، ونفيدكما بأنها مجازة للنشر بإذن الله.
* الأخ: صلاح أحمد العواضي، عبد الرشيد محمود وان جمال: جزيت
خيراً على تواصلك الطيب مع المجلة، ومشاركتك ستعد للنشر في المنتدى
بإذن الله.(166/142)
الورقة الأخيرة
تيار الحداثة وقضايا المرأة
د. رقية طه جابر العلواني
الحداثة حركة ثقافية غربية المنبت والمنشأ، من أهم مرتكزاتها عقدة التمحور
الأوروبي على الذات، والعلمانية، وفقدان القيم الدينية لصدقها الضروري
كموجهات للحياة البشرية، والنزعات العقلانية المتطرفة Rationalism Deism
فالعقل مقياس الأشياء كلها، واللاهوت الطبيعي Natural Theology المنكر
للوحي والنبوة والمعجزات وكل أمر خارق لقانون العِلِّية المادية.. إلى آخر ذلك من
قضايا تبنتها الحداثة وقامت بتوظيفها.
وقد برزت الحداثة في العرف الغربي في أواسط القرن السابع عشر، وبلغت
ذروتها في القرن التاسع عشر، وانتهت وانحسرت مع الحرب العالمية الأولى،
وتجاوب المفكرون في العالم الإسلامي لتحديات تلك الفلسفة التي غلب على
صياغتها إما: تقمُّص مبادئ فلسفة الحداثة وتنزيلها كما هي في المجتمعات المسلمة،
أو ردّها ونقضها، أو التكيف معها ومحاولة التلفيق والجمع بينها وبين مبادئ
ومقومات الهوية الإسلامية، وبهذا باتت الحداثة مرجعية مطلقة تستفتيها جميع
الاتجاهات بقصد أو بدون قصد خاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة.
وتوجهت جهود العديد من المفكرين ممن تبنوا فلسفة الحداثة نحو وضع المرأة
في العالم الإسلامي، فطالبوا بحقوقها في التعليم والعمل والمشاركة في مختلف
المناحي العامة من سياسية واجتماعية وثقافية من تلك الزاوية، كما حاربوا وضع
المرأة في مختلف المجتمعات المسلمة، وأكدوا على ضرورة إعادة كرامتها عن
طريق الإصلاح القانوني والتربوي على حد سواء.
والحداثة في مفهومها الأساسي ومعالجتها لقضايا المرأة لم تنبثق من نظرة
أصيلة تستحضر مفهوم القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة لتلك القضايا وكيفية
معالجتها، بقدر ما راحت تروم الإصلاح والتطوير من خلال المقارنة بالآخر
الخارجي البعيد عن منطق الإسلام ومقاصده ابتداءً.
ومن هنا باتت تطرح أدبيات تتسم بالمقارنة حيناً والمقاربة حيناً آخر بين
المفاهيم الغربية والإسلامية دون محاولة جادة للكشف عن مفاهيم الإسلام الأصيلة
في قضايا المرأة وما يتعلق بمشاركتها في بناء المجتمع والنهوض به، فوقعت في
محاولات الجمع والتلفيق بين ضدين غير متشابهين.
وقد أغفلت تلك الأدبيات حقيقة هامة وهي أن المفاهيم الكلية لأية دائرة
حضارية وليدة عنصرين متضايفين: الوضع التاريخي الذي أفرز تلك المفاهيم،
والجهد الجمعي المشترك للجماعة الذي قام بصياغتها، والواقع الإنساني يشهد
باستحالة استزراع مفاهيم حضارةٍ مَّا لها مكوناتها وخصائصها في دائرة حضارة
أخرى لها خصائصها الذاتية كذلك، فمعالجة قضايا المرأة وغيرها مما يتعلق
بالمجتمعات المسلمة لا يتم البحث فيها بمنظار الآخر وتطلعاته، بل ينبغي أن تتم
المعالجة من خلال نظرة شمولية متوازنة تستحضر القيم الإسلامية العليا التي جاءت
بها نصوص القرآن الكريم والسنة من جهة، وتحديات الواقع ومفرزاته من جهة
أخرى.(166/143)
رجب - 1422هـ
أكتوبر - 2001م
(السنة: 16)(167/)
كلمة صغيرة
حديث الحجارة
في عام 1401هـ /1980م التقى عدد من رجال الثقافة والأدب بمصر
الرئيس الإسرائيلي آنذاك إسحاق نافون، وأسرف بعضهم في الإشادة بالرئيس
الذي وُصف بالاعتدال وحب السلام، وبعد العشاء قال أحد كبار معاوني
الرئيس الإسرائيلي للوفد: إن الحديث كان رائعاً، وإن كل كلمة قالها الكتّاب
وصلت إلى قلب الرئيس، فقال الكتّاب: «لأنها صادرة من قلوبنا!» (الأهرام
30/10/ 1980م) .
ومنذ ذلك الحين انفتح باب التطبيع الثقافي بلا حياء ولا خجل، حتى قال
كبيرهم (نجيب محفوظ) بمناسبة عرض قصته (ثرثرة على النيل) بالعبرية على
أحد المسارح اليهودية: «التطبيع الثقافي أمر هام؛ لأن فيه تلاقي الفكر في إطار
من النقاء والصفاء، عند ذلك تذوب سحب التقاتل والصراعات التي تثير جواً من
القلاقل وفقدان الثقة» (مجلة أكتوبر 25/4/1982م) .
وفي ذلك العام نفسه (1982م) جاءت مذبحة (صبرا وشاتيلا) لتصفع
أولئك المستهترين بحرمات الأمة ومقدساتها، لكنهم بلا مبالاة أداروا رؤوسهم وكأن
شيئاًَ لم يكن..! !
وبعد تأسيس (مجموعة كوبنهاجن) أخذ المطبعون بُعداً جديداً يجاهر بكل
صفاقة، ويدعو إلى الوئام الثقافي مع اليهود، وبدأنا نرى الأيام الثقافية التي تقيمها
مكاتب الارتباط الإسرائيلي تنتشر في تونس والمغرب والأردن ... ثم تأتي مذبحة
(قانا 1996م) صفعة جديدة على وجوههم، ولكنهم دفنوا رؤوسهم في التراب،
وأغلقوا عيونهم وآذانهم، واستمروا في الترويج لثقافة التطبيع.
وبعد أحد عشر شهراً من الانتفاضة الحالية ما زالت هذه الأصوات النشاز
تصيح هنا وهناك، وتتهم الحركات الإسلامية في فلسطين بالتطرف والتعنت
والسذاجة السياسية، وغاية تحليلها لما تراه من مذابح وانتهاكات للحرمات والحقوق
أنه (تطرف وتطرف مضاد.. عنف وعنف يقابله..!) ، والحل الوحيد عند
هؤلاء هو تغليب صوت العقل في زعمهم، والجلوس على طاولة المفاوضات..!
إن هذه المواقف المخزية للتيارات العلمانية فرصة كبيرة للمصلحين من أبناء
هذه الأمة لكشف تلك الأقنعة وإبراز الصورة الحقيقية للمعركة، ونحسب أن أبلغ رد
عليهم هو في حجارة أولئك الأبطال في أكناف بيت المقدس.
طفل صغير والمدافع حوله ... مبهورة والغاصبون تبرّموا
في كفه حجر وتحت حذائه ... حجر ووجه عدوه متورم
سكت الرصاص فيا حجارة حدثي ... أن العقيدة قوة لا تهزم(167/1)
الافتتاحية
انحياز أم عداء لكن.. حتى متى؟ !
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فإن المتابع للواقع المأساوي الذي يعيشه إخواننا في فلسطين من العدوان
الصهيوني عليهم والحرب الهمجية التي لم يبق بيت ولا حقل ولا سكن إلا ناله من
جرائها الكثير، من قتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ بأساليب وحشية على
مسمع العالم وبصره بدعوى مقاتلة المجاهدين الفلسطينيين الذين ضاقوا ذرعاً بالقتل
والحصار والاستئصال الصهيوني بكل الوسائل الحربية المحرمة دولياً حتى السلاح
الأمريكي (الممنوع استخدامه للاعتداء على المدنيين) استخدموه، ولم يحرك ذلك
شعرة لدى الإدارة الأمريكية! وبدلاً من أن تحذر أمريكا ربيبتها (إسرائيل)
وتُوقفها عند حدها وتستخدم الوسائل التأديبية التي استخدمت مع بعض الطواغيت
أمثال (صدام، وميلوسوفيتش) نجد الإدارة الأمريكية تتحاشى حتى الإدانة
الكلامية، ونجد (نائب الرئيس الأمريكي تشيني) يقول: «إن لـ (إسرائيل)
الأسباب التي تسوِّغ ما تقوم به من عمليات ضد (الإرهابيين) ! !» وهي في
مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة العنصرية ترفض وصف الصهيونية بالعنصرية مع أنه
سبق للأمم المتحدة أن أصدرت قراراً بذلك وألغي بضغوط أمريكية عام 1993م.
ونتساءل وبكل صراحة: أين الحرية، وأين حقوق الإنسان، وأين حقوق
الشعوب في تقرير مصيرها التي طالما جعجع بها الغرب وعلى رأسه أمريكا حيث
اتخذت حيال تجاوزها المواقف الصلبة كالحصار والقصف الجوي؟ أم أن ذلك
لشعوب دون شعوب، ولدول دون دول؟ وهذا هو الحاصل أمام المذابح الصهيونية
ضد الشعب الفلسطيني.
والأعجب أن تصطنع الولايات المتحدة الأمريكية ما تسميه بالدول المارقة!
وتعني بها بعض الدول الخارجة عن نطاق سيطرتها والتي ترفض الآستكانة
لضغوطها الجائرة، وللدول الإسلامية النصيب الأكبر كما هو معروف للجميع، نعم!
قد يكون لبعض الدول تصرفات ومواقف لا تُرضى؛ لكن ما بال الشعوب تهان
وتحاصر وتحطم مقدراتها؛ بينما دولة الكيان الصهيوني تعربد وتضرب بما يسمى
عندهم بالشرائع والقوانين عرض الحائط وتستهتر بكل الأنظمة المرعية ولا تمس
منها شعرة وهي لا تقلّ انحرافاً ولا همجية عما تسميه أمريكا: (الدول المارقة) ؟
هذه الانحرافات اليهودية البشعة التي لا يصدقها عاقل حتى ضج منها بعض
الغربيين أنفسهم. ولا يغيب عن الذهن البرنامج الوثائقي الذي بثه التلفزيون
البريطاني عن جرائم رئيس الوزراء الصهيوني (شارون) والمذابح التي تبين
ضلوعه فيها مما يفوق بدرجات كبيرة ما يسمونه بالهلوكست. وأذاعت القناة الرابعة
للتلفزيون البريطاني مؤخراً برنامجاً آخر بعنوان: (الحكام السريون في العالم)
الذي أذاعه المذيع البريطاني المعروف (ديفيد إيك) وقال عن هؤلاء الحكام:
(إنهم الذين يمسكون بلجام القوة في العالم ويعيثون فساداً فيه) ، ومع إيماننا بأن مثل
هذه الأمور مبالغ فيها وتشكل دعاية غير مباشرة لليهود، ومع أن المذيع المذكور لم
يشر لليهود في برنامجه ومع ذلك فإنه تعرض لحملة صهيونية مضادة بدعوى
الإساءة لهم، غير أن هذا البرنامج قد أحدث ردود فعل إيجابية ضد الغطرسة
اليهودية كما جاء في المقال المنشور في صحيفة الحياة الصادرة في 2/4/1422هـ
هذه سلوكيات الصهاينة التي لا يقبلها شرع ولا عقل، ومع ذلك نجد الغرب بعامة
وأمريكا بخاصة يتجاهلون هذه الحرب العنصرية والهمجية ضد الشعب الفلسطيني
الأعزل، وللمرة الثانية تعلن أمريكا الفيتو ضد إيجاد قوة دولية لحماية الفلسطينيين
وكأنها تصر على تصفية للفلسطينيين بتلك الحرب الوحشية القائمة بدون مراعاة
حتى لآداب اللياقة الدولية مع الدول التي تربطها بهم مصالح وعلاقات؛ ولكن كما
قيل: من أمن العقاب أساء الأدب.
ونحن لا نطمع في انحياز الغرب بعامة وأمريكا بخاصة ليكونوا معنا ضد
(اليهود) ؛ وإنما نرغب ونطالب بالعدالة والعدالة وحدها، وإن كان ذلك فيما
نحسب مستبعداً لأسباب عقائدية وتاريخية ونفسية من أهمها:
1 - ما ذكره الله جل وعلا في كتابه: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
2 - ما ترسب في النفسيات الغربية من آثار الحروب الصليبية التي سُجِّلت
برؤى معادية للإسلام والمسلمين مما لا يستغرب معها عداؤهم للأمة الإسلامية؛ مع
أن الحقيقة خلاف ذلك؛ فالصليبيون هم المعتدون؛ وقد تم طردهم من ديار الإسلام
بقوة الإسلام والمسلمين.
3 - العقلية النصرانية الصهيونية التي أوجدت اتجاهاً كبيراً له وزنه حتى
عند كبار صناع القرار في الغرب؛ فهم يوقنون بأن وجود دولة العدو في فلسطين
وقيام هيكلهم المزعوم يؤذن بعودة المسيح عليه السلام، وهذا الاتجاه مصادم للعقل
والنقل، والصحيح أن المسيح عند نزوله سيكون مصدقاً لرسالة الإسلام، وسيكسر
الصليب ويقتل الخنزير، كما روته كتب الصحاح والسنن النبوية ضمن أشراط
الساعة.
4 - التمسك بأي عذر حتى ولو كان كاذباً ومن ذلك ما يزعم أن محاربة العدو
الصهيوني معاداة للسامية، تلك الدعوى التي تولى كبرها الصهاينة لمصلحتهم؛
وإلا فإن شعوب المنطقة هم أقرب للسامية إن كان لها وجود من الصهاينة الوافدين
من شتى الآفاق والذين هم أبعد ما يكونون عن السامية حسب التصنيف المشهور
لكونهم من شذاذ الآفاق.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: لماذا يكون أعداؤنا أكثر إيماناً
بعقائدهم الباطلة منا نحن المسلمين بعقائدنا الصحيحة؟ ولماذا يكونون أكثر التزاماً
بمنطلقاتهم الدينية في الموالاة والمعاداة لبني دينهم؟ فهذا حال أمريكا مع عدونا
اليهودي، وتلك الحال نفسها بين روسيا والصرب السلافيين في حربهم للمسلمين
في البوسنة والهرسك والبلقان؛ فهم يؤيدون ويدعمون بني دينهم غير آبهين لما
يسمى بالقوانين الدولية ولا مبالين بمعاناة المسلمين من جراء ما يوجه إليهم من
عدوان وحشي معروف.
إن عداء أعدائنا لأمتنا وديننا لم يعد خافياً إلا على من ختم الله على قلوبهم
وأبصارهم؛ ومن ثم فإن التساهل مع الأعداء في انحيازهم ضد إخواننا المسلمين
في العقيدة والمصير غير مقبول؛ ولا بد للمسلمين بعامة أن يقفوا مواقف صلبة من
المنحازين ضدهم ومفاتحتهم بأن عدوانهم ولا مبالاتهم بما يُكاد لنا ولإخواننا هو
تواطؤ ضدنا غير مقبول؛ ولا بد له من مواجهة مؤثرة بالمقاطعة التي يجب أن
تَفُعَّل من جميع الشعوب الإسلامية ضد كل عدو لنا حتى ولو كان من أمريكا أو
روسيا.
نعم! قد تدعي بعض الدول بأن لها من الصلات والعلاقات مع الدول المعادية
لنا ما يصعب معه المقاطعة لها، ومع عدم قناعتنا بهذا العذر إلا أنه يجب تشجيع
الشعوب على مقاطعة كل من يعادينا باعتبار أن ذلك من حق الشعوب حيال كل من
يعاديها ويستهتر بمقدساتها أو يكون نصيراً لأعدائها؛ فمن حق الشعوب أن تثأر
لكرامتها، وأن تقف مواقف صلبة مع كل من يعاديها أو يقف في سبيل نهضتها
وقوتها.
إن هذه المواقف التي تقوم بها الدول الغربية ضد أمتنا وشعوبنا بالانحياز
لأعدائنا ليست محل المقت من شعوبنا المسلمة فقط بل هي محل مقت واستنكار
كثير من المنصفين في الغرب حتى في أمريكا نفسها؛ فهذا الدبلوماسي الأمريكي
(وليام ستولزفوس) وقد كان سفيراً لأمريكا سابقاً في الإمارات واليمن والكويت
يقول منتقداً السياسة الأمريكية لبلاده انتقاداً مريراً: «إن المصالح الأمريكية تختلف
اختلافاً بيِّناً بين المبادئ العامة التي تنادي بها واشنطن مثل مناصرة الديمقراطية
والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.... وعندما تصطدم المصالح الأمريكية
بالمبادئ لن تتردد واشنطن في التضحية بالمبادئ من أجل المصالح؛ وخاصة إذا
كان ذلك يهدد المصالح الأمريكية والإسرائيلية» [1] .
ويقول الكاتب الأمريكي (تشارلز ريس) : «إن مفتاح السلام في الشرق
الأوسط هو واشنطن وليس (القدس) ؛ ذلك أن حكوماتنا هي التي تتحكم وتوجه
الحكومة الإسرائيلية، ومن العبث أن يستمر الناس في نداءاتهم بتجديد عملية السلام
لكونها ماتت وانتهت» (الوطن العدد: 321) .
ولا يغيب عن الذهن نداءات وتحذيرات السياسي الأمريكي عضو مجلس
الشيوخ السابق (بول فندلي) في كتابه: (من يجرؤ على الكلام؟) الذي فضح
فيه اللوبي الصهيوني وأدواره المشبوهة في الحياة الأمريكية وائتمار الإدارة
الأمريكية بأوامره.
فلماذا يضيق أولئك المنصفون بانحياز بلادهم لـ (إسرائيل) ونحن
متساهلون وغير مبالين! ! يجب أن تُفهِم الشعوب المسلمة أمريكا ومن لف لفها أن
انحيازها لعدونا سيكون له ثمنه الكبير، وحينها لن تكون شعوبنا العربية ألعوبة في
أيدي العدو وحلفائه كائناً من كانوا. فاحتياجاتهم لعالمنا العربي والإسلامي أكبر من
احتياجنا لهم؛ وعندها سيفكرون وبعمق بمدى خطورة الصهاينة على مصالحهم؛
فالمسألة حرب مصالح؛ وتفريطنا في ذلك تساهل وتصاغر لا يليق بأمة الإسلام
التي كتب الله لها العزة. ويجب ألا يفتَّ في عضدنا بعض ما يكتبه بعض
المنهزمين ممن يزعم صعوبة وعدم إمكانية المقاطعة لأعدائنا ونقول لهم:
[وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) .
نعم! لقد جعل الله العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن، العزة المستمدة من
عزته تعالى التي لا تهون ولا تهن ولا تنحني ولا تلين ولا تزايل القلب المؤمن في
أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان؛ فإن استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه
مستقرة راسخة [2] .
فضلاً عن الآثار الكبيرة والخطيرة للمقاطعة قبل دعاوى السلام؛ ولذلك كثيراً
ما يطالبون بإيقافها لدورها المؤثر والخطير على مصالحهم؛ ومن ثم فإن من يدعون
للتطبيع مع العدو على شتى اتجاهاتهم في ظل الغطرسة والهمجية الصهيونية لا شك
أنهم خائنون لله وللمؤمنين، ويجب أن يُفضَحوا على رؤوس الأشهاد؛ لأن موالاة
الكفار ناقض من نواقض الإسلام، وصدق الله العظيم: [لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ
الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ]
(آل عمران: 28) .
__________
(1) انظر كتاب: (العوائق الاقتصادية والسياسية في طريق السلام في الشرق الأوسط) والذي تم عرضه في مجلة: (المجلة) العدد (1055) في 6/5/2000م.
(2) في ظلال القرآن، ج 6، ص 3580 بتصرف.(167/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
وسطية الإسلام والأمة المسلمة
د. عثمان جمعة ضميرية [*]
تمهيد:
برزت في حياتنا المعاصرة بعض ظواهر الانحراف في العقيدة والفكر
والسلوك، وانطلقت الأصوات تدعو للوقوف في وجه تلك الانحرافات ومعالجتها،
وتوسّلت إلى ذلك من جملة ما توسّلت به بالدعوة إلى الوسطيّةِ وعدمِ التطرف، وفي
أثناء ذلك جمح الحماس ببعضهم فوصموا كلّ ملتزم بدينه وبخاصة في الأمور
المظهرية بالتطرف والتنطّع ومجانبة الوسطية؛ فالذي يحافظ على السنن والآداب
في عباداته ومعاملاته: متشدّد، والذي يبتعد عن الخنا والفجور: متزمّت متحجّر،
والذي يجتهد في الطاعة والعبادة: غالٍ في الدين، والذي يدعو إلى تصحيح
المفاهيم ووضع الأمور في نصابها: متنطّع متحذلق، والذي يرتفع إلى مستوىً
عالٍ وأفقٍ وضيء: خياليّ مثاليّ.
أما التفريط في الدين؛ بحيث لا يتعرف المرء على دينه ولا يفهمه كما هو في
مصادره الأساسية الموحى بها، أو لا يحمل نفسَه على الالتزام بآدابه وسلوكه، ولا
يأخذ نفسه بالطاعة والعبادة، ولا يبالي بما يرتكب من آثام وموبقات؛ حيث يطلق
العنان لشهواته وأهوائه؛ فهذا وأمثاله ليس تطرفاً في الجهة المقابلة، بل هو عندهم
سَعةٌ في الأفق، وواقعيةٌ في السلوك، وإدراكٌ لحقّ النفس ومطالبها، وانفتاحٌ على
الحياة والمدنية المعاصرة.
وبين هذا الفهم وذاك ضاعت معاني الوسطية الصحيحة والتبست بمفاهيم
أخرى، وغدت حلاً وسطاً، أو انحلالاً وانخلاعاً من أحكام الدِّين؛ فكان من الخير
أن نعود بالأمر إلى نصابه لنتعرَّف على الوسطية بمفهومها الصحيح من خلال
المصادر الأصلية في ذلك، وبخاصة إذا أدركنا أنَّ هذه الوسطية هي السِّمَة العامة
لهذا الدِّين الذي أكرمَنا اللهُ تعالى به، ولهذه الأمة التي جعلها الله تعالى خيرَ أمةٍ
أخرجت للناس، وجعلَها الأمة الرائدة الشّاهدة على الناس، بما منحها الله تعالى من
مؤهلات القيادة والرّيادة والشهادة، ويزكّي هذا الموضوع ويزيده أهمية: أن
تحديد المصطلح في البحث العلميِّ يرفع الخلاف الواقع بين المختلفين، ويوفر
الجهد والوقت، وينأى بالباحث عن اللبس والخلط في المفاهيم؛ ولذلك نعقد
لهذا الموضوع فقرات عن معنى الوسطية في اللغة العربية، ووجوه استعمالها في
القرآن الكريم، وفَهْمِ العلماء لمعنى الإسلام ووسطيته بين الأديان، ووسطية الأمة
المسلمة، ودور هذه الأمة ومسؤوليتها. والله الموفق
(1) الوسط والوسطية في اللغة العربية:
الواو والسين والطاء: بناءٌ في اللغة صحيحٌ يدلُّ على العدل والنَّصَف،
وأعْدلُ الشيء: أوسَطُه ووسَطُه. وشيءٌ وسَط: بين الجيّد والرديء. ووَسَطُ
الشيء: ما بين طرفيه. قال الشاعر:
إذا رحلتُ فاجعلوني وسَطاً ... إنّي كبيرٌ، لا أطيق العُنَّدا
أي اجعلوني وسطاً لكم ترفُقُون بي وتحفظونني؛ فإني أخاف إذا كنت وحدي
أن تفرُط دابتي أو ناقتي فتصرعني.
والوسَط والأوسط: المعتدلُ من كل شيء، والعدلُ والخير. والوسط: ما
يكتنفه أطرافه ولو من غير تساوٍ، يوصف به المفرد وغيره. وهو من وسط قومه
ومن أوسطهم: من خيارهم. وفلانٌ وسيط في قومه: إذا كان أوسطهم نسباً
وأرفعَهم محلاً. قال العَرْجِيُّ:
كأنِّي لم أكنْ فيهم وسيطاً ... ولم تَكُ نِسْبَتي في آلِ عَمْرِو
قال أبو محمد بن بَرّي من علماء اللغة: إن «الوسَط» بالتحريك اسم لما بين
طرفي الشيء، وهو منه، كقولك: قبضت وسَط الحبْل وكسرت وسَط الرمح.
وجاء الوسَط محركاً أوسطُه على وزان يقتضيه في المعنى وهو الطَّرَف؛ لأن
نقيض الشيء يتنزّل منزلَة نظيرِهِ في كثيرٍ من الأوزان نحو جَوْعان وشَبْعان،
وطَويل وقَصير.
والوسط قد يأتي صفةً، وإن كان أصله أن يكون اسماً، من جهة أن أوسط
الشيء: أفضله وخياره، ومنه «خيار الأمور أوساطها» ، فلما كان وسَطُ الشيء
أفضلَه وَأَعدله جاز أن يقع صفة، وذلك في مثل قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً] (البقرة: 143) أي عدلاً وقال بعضهم: خياراً، اللفظان مختلفان
والمعنى واحد؛ لأنَّ العدل خير، والخير عدل. فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه،
وأنه اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه.
وأما «الوَسْط» بسكون السين فهو ظرفٌ لا اسم، جاء على وزان نظيره في
المعنى وهو «بَيْن» ، تقول: جلست وسْط القوم. أي بينهم، قال سَوَّار بن
المُضَرَّب:
إنّي كأنّي أرى مَنْ لا حَياءَ له ... ولا أمانةَ، وسْطَ الناسِ، عُرْيانا
ولما كانت «بين» ظرفاً كانت «وسْط» ظرفاً، ولهذا جاءت ساكنة
الأوسط لتكون على وزنها، ولما كانت «بين» لا تكون بعضاً لما يضاف إليها
بخلاف «الوسَط» الذي هو بعض ما يضاف إليه، كذلك «وسْط» لا تكون
بعض ما تضاف إليه. ألا ترى أن وَسَط الدار منها، ووسْطَ القومِ غيرُهم؟
هذا، وقد يقع أحد اللّفظين مكان الآخر على جهة الاتساع والخروج عن الأصل،
وقيل: كلٌّ منهما يقع موقع الآخر، وهو الأشبه والأقوى.
والأصل في الوسط أن يُستعمل وصفاً للأمور الحسيّة المادية، كما في الأمثلة
السابقة: وسط الدار، وسط الحبل، وسط الرمح، ثم يُستعار ذلك لوصفِ الأمور
المعنوية نحو: أوسطهم نسباً وعلماً، والدين الوسط [1] .
(2) وجوه الوسطية في القرآن الكريم:
وقد عُني علماء التفسير وغريب القرآن ببيان معنى الوسط ووجوه استعماله
في القرآن الكريم، فقال الرَّاغبُ الأصفهانيُّ: «والوسط تارة يقال فيما له طرفان
مذمومان كالجود الذي هو بين البخل والسَّرَف، فيستعمل استعمالَ القصد المصون
عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل والنَّصَف، نحو قوله:
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) . وعلى ذلك قوله تعالى:
[قَالَ أَوْسَطُهُمْ] (القلم: 28) .
وتارة يقال فيما له طرف محمود وطرف مذموم كالخير والشر، ويكنى به
عن الرَّذِل، نحو قولهم: فلان وسط من الرجال، تنبيهاً أنه قد خرج من حدّ
الخير» [2] .
وقال أبو عبد الله الدّامَغانيّ: «تفسير الوسط على وجهين: العدل، الوسط
بعينه» .
فوجه منهما: (وسطاً) : أي عدلاً، كما في قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) . يعني عدلاً، وقوله تعالى: [مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ] (المائدة: 89) ، يعني أعدل.
والوجه الثاني: الوسط بعينه، كقوله سبحانه وتعالى: [حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى] (البقرة: 238) . يعني: صلاة العصر. وقيل:
الصبح « [3] .
(3) الإسلام بمعنييه العام والخاص:
والإسلام بمعناه العام هو إسلام الوجه لله تعالى، بمعنى التذلُّلِ لطاعته
والإذعان لأمره والخضوعِ الكامل له بالجوارح ظاهراً وباطناً، والخلوصُ من
الشرك بكلِّ صوره وأشكاله. قال الله تعالى: [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] (البقرة: 112) .
وقد أخبر الله تعالى في غير موضعٍ من كتابه الكريم: أن الإسلام هو دينُ
جميعِ الأنبياء والمرسلين من أولهم إلى آخرهم، وهو دين مَن اتّبعهم من الأمم
السابقة؛ وبذلك أعلن الوحدة الكبرى للدين من لدن آدمَ ونوح إلى موسى وعيسى
عليهم السلام إلى أن خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم [4] ، ثم خصَّ الله تعالى
الدعوة التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم باسم» الإسلام «وجعلها دعوة
عامة للناس جميعاً ختم بها الرسالات السابقةَ كلَّها، وتكفّل بحفظ مصدرها وكتابها
المنزّل، وجعله مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، وخصّ أتباعها باسم
» الأمة المسلمة «وباسم» المسلمين «: تشريفاً لها، واستجابة لدعوة إبراهيم
عليه السلام، وإظهاراً لمعنى الاستسلام لله والانقياد لربِّ العالمين، فأصبحت كلمة
الإسلام هكذا معرَّفة بالألف واللام مطلقاً لا تنصرف إلا إلى هذا الدين، وأصبحت
كلمة» المسلمين «عَلَماً على هذه الأمة التي جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت
للناس، وجعلها الأمة القائدة الرائدة الشاهدة على الأمم جميعها؛ لأنها تأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وهي أمة العدل والوسط، تحمل ميزان
العدالة من منتصفه ولا تلوي على الحافات والأطراف.
وهذا» الدين «:» الإسلام «منهجٌ إلهيٌّ للبشر ينبغي أن يصرّف حياة
الناس وينظمها؛ ولذلك يشمل عقيدةً تستقرُّ في قلب المسلم ويكونُ لها أثرها في
حياته وتصرُّفاته، وعبادةً تحدّد صلة العبد بربه تبارك وتعالى، وشريعةً أو منهجاً
تستقيم به حياةُ الإنسان، وسلوكاً أو أخلاقاً تتم بها المكارم التي تعاقَبَ الأنبياء
والرسل على الدعوة إليها، ويشمل أيضاً الأصولَ السليمةَ التي نتخذها للنظر
والاستدلال في معرفة هذه العقيدة والعبادة والسلوك [5] .
(4) وسطية الإسلام بين الأديان:
ومن أهم خصائص هذا الإسلام الذي أكرمنا الله تعالى به أنه وسط في المِلَل
والأديان، جعله الله تعالى وسطاً بين الإفراط والتفريط، أو بين الغلوِّ والتقصير؛
وتظهر هذه الوسطية في المجالات أو النواحي التي ألمحنا آنفاً إلى أن الدين يشملها
كلّها:
أ - ففي العقيدة: المسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ فهم
لم يغلوا فيهم غلوَّ البوذيين وغلوَّ النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من
دون الله والمسيح ابن مريم، ولا جَفَوْا عنهم كما جفَت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء
بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا
تهوى أنفسهم كذّبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، وكذَبوا على ربهم، بل المؤمنون المسلمون:
آمنوا برسل الله جميعاً، وعزّروهم ووقّروهم، وأحبُّوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم
ولم يتّخذوهم أرباباً، وآمنوا بجميع الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء، فكان ذلك
وسطية وتوازناً بين أمرين مذمومين.
وكذلك الوسطية والتوازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله، ومقام الإنسان
الكريم في الكون؛ فقد نأى الإسلامُ بعقيدته الصافية عن كلِّ الإفراطات والتفريطات
وعن كلِّ الهزات والأرجحات التي تعاورت المذاهب والمعتقدات والتصورات ما
بين تأليه الإنسان في صُوَره الكثيرة، وتحقير الإنسان إلى حدّ الزراية والمهانة.
ويبدأ الإسلام فيفصل فصلاً تاماً بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وبين
خصائص الألوهية وخصائص العبودية، بينما تقول الكنيسة بألوهية المسيح عليه
السلام على اختلاف المذاهب الكنسية كما أن المذاهب والفلسفات الأوروبية وما قام
عليها من مناهج التفكير، لما أعلنت رفعة الإنسان ومقامه جعلت ذلك على حساب
إيمانها بألوهية الربّ سبحانه وما ينبغي له.
وكذلك توسطت العقيدة الإسلامية في الاهتمام بالمجالات المادية والروحية،
ونأت عن الإفراط والتفريط في كليهما؛ فوازنت بين الجانبين موازنة دقيقة،
وضبطت العلاقةَ والنسبةَ بينهما، وبذلك يلتقي العمل للدنيا والعمل للآخرة، وكلٌّ
منهما عبادة لله تعالى، وتحقيقٌ لغاية الوجود الإنساني، ضمن شروط معينة. بينما
تأرجحت المذاهب الأخرى بين الاهتمام بالنواحي المادية الذي يظهر في المدنية
الغربية الحديثة التي لا تقرّ الحاجة إلى خضوع مّا إلا لمقتضيات اقتصادية أو
اجتماعية، وأصبح معبودها هو المال والقوة والرفاهية والرقي الماديّ - وبين
الإزراء بهذا الرقيّ المادي والمتاع الدنيوي، كما هو الشأن في المذاهب التي تدعو
إلى الرهبنة وتعذيب الجسد من أجل رقيّ الروح وتهذيبها للوصول إلى مرحلة الفناء.
ب - وفي مجال العبادة والتحليل والتحريم: جاء الإسلام وسطاً بين الرهبانية
التي قطعت كل صلة بالحياة وانقطعت للعبادة وبين الإغراق في المجال المادي
والاهتمام بالنواحي الحسية والمادية والطغيان المالي والانصراف عن العبادة وترقية
النفس، كما أنَّ أمر التحليل والتحريم جاء في الإسلام وسطاً بين اليهود الذين حُرّم
عليهم كثير من أنواع الطعام واللباس، بسبب ظلمهم؛ فلا يأكلون ذوات الظفر مثل
الإبل والبط.. والنصارى الذين استحلّوا الخبائث وجميع المحرمات وباشروا
النجاسات، أما المؤمنون المسلمون فقد أحلَّ الله لهم الطيبات وحرَّم عليهم الخبائث.
ج - وفي التشريع: جاء الإسلام وسطاً بين اليهود الذين حرَّموا على الله أن
ينسخ ما يشاء ويمحو ما يشاء ويُثْبت، وبين النصارى الذين أجازوا لأكابر علمائهم
وعُبَّادهم أن يشرعوا بالتحليل والتحريم من دون الله.
د - وفي مجال السلوك والأخلاق: جاءت شريعة الإسلام وسطاً بين الإفراط
والتفريط في الإلزام الأخلاقي، بين الجنوح إلى المثالية الخيالية والواقعية المتزمتة؛
فهي لا تترك الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا الترف والميوعة والهوى الذي
يعصف بها في تيارات الخلاعة والمجون، ولكنها ترفع الضمائر بالتهذيب والتوجيه،
تعمرها بتقوى الله ومراقبته، وسلوك محاسن الأخلاق تأسياً بنبينا صلى الله عليه
وسلم الذي مدحه الله تعالى بعظمة الخُلُق؛ وهكذا في سائر العلاقات الفردية
والاجتماعية، والمصلحة الذاتية والجماعية.
هـ - وأما في منهج النظر والاستدلال: فإن الإسلام وَازَنَ بين مصادرِ
المعرفة، وهي الوحيُ والعقلُ والحسُّ، ولم يسمح بالصراع بين هذه المصادر، ولم
يكن إعلاء شأن أحدها سبباً لإهمال الأخرى، فلكلٍّ مجاله ودوره وخصائصه،
بخلاف ما وقع من صراع بينها في الكنيسة الأوروبية، وفي المذاهب المادية
الوضعية، فإن الاعتراف بمصدر عندهم معناه إلغاء المصادر الأخرى، وكذلك جاء
الإسلام وسطاً يوازن بين أمور الغيب وأمور عالم الشهادة، وفي سائر الأمور
المتقابلة [6] .
الوسطية والاقتصاد في أعمال الخير:
وهذه الوسطية، لم تكن بمنأى عن اهتمام علمائنا رحمهم الله؛ فقد أوْلَوْهَا جُلّ
عنايتهم في مباحث كثيرة، وحسبنا هنا مقتطفات من كلام سلطان العلماء العز بن
عبد السلام رحمه الله حيث عقد لها فصلاً في كتابه:» القواعد الكبرى «بعنوان:
» فصل في الاقتصاد في المصالح والخيور «، قال فيه:» الاقتصاد رتبة بين
رتبتين، ومنزلة بين منزلتين، والمنازل ثلاثة: التقصير في جلب المصالح،
والإسراف في جلبها، والاقتصاد بينهما، قال تعالى: [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً] (الإسراء: 29) . وقال
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «الحسنة بين السيئتين» ، ومعناه: أن التقصير
سيئة، والإسراف سيئة، والحسنة: ما توسط بين الإسراف والتقصير، وخير
الأمور أوساطها، فلا يكلف الإنسان نفسه من الطاعات إلا ما يطيق المداومة عليه،
ولا يؤدي إلى الملالة والسآمة، ومن تكلف من العبادة ما لا يطيقه فقد تسبب إلى
تبغيض عبادة الله إليه، ومن قصَّر عما يطيقه فقد ضيع حظّه مما ندبه الله إليه
وحثَّه عليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنطع في الدين وقال:
«هلك المتنطعون» [7] .
ثم قال: «وللاقتصاد أمثلة:
منها: الاقتصاد في استعمال مياه الطهارات، فلا يستعمل من الماء إلا قدر
الإسباغ ولا ينقص منه. ومنها الاقتصاد في المواعظ، فإذا كثرت المواعظ لم تؤثر
في القلوب فتسقط بإكثارها فائدة الوعظ، ومنها الاقتصاد في قيام الليل، والاقتصاد
في العقوبات والحدود والتعزيرات، فيعاقب كل واحد من الجناة على حسب قوته
وضعفه، وكذلك الاقتصاد في الضرب، ومنها الاقتصاد في الدعاء؛ لأن الغالب
على أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختصار فكان يدعو دعوات
مختصرات جامعات، ومنها الجهر بالكلام: لا يخافت بحيث لا يسمعه حاضروه
ولا يرفعه فوق حدّ أسماعهم؛ لأنه فضول لا حاجة إليه، ومنها الأكل والشرب: لا
يتجاوز فيهما حدّ الشبع والرّي، ولا يقتصر فيهما على ما يضعفه ويضنيه، ومنها
زيارة الإخوان: لا يكثر منها بحيث يملُّونه ويستثقلونه، ولا يقلل منها بحيث
يشتاقونه ويعتبونه، ومنها دراسة العلوم: لا يكثر منها بحيث يؤدي إلى السآمة
والكراهة، ولا يقللها بحيث يُعدُّ مقصِّراً فيها، وكذلك المزاح والضحك واللعب،
وكذلك المدح المباح.
وعلى الجملة: فالأوْلى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جَلْب
مصلحة أو درء مفسدة، مع الاقتصاد المتوسط بين الغلو والتقصير» [8] .
ثم كان للإمام أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله نظرٌ دقيق نافذ أبانَ فيه أنَّ
الشريعةَ جاريةٌ في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعْدل الآخذ من
الطرفين بقسط لا مَيْلَ فيه، الداخلِ تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا
انحلال، بل هو تكليفٌ جارٍ على موازنةٍ تقتضي في جميع المكلَّفين غاية الاعتدال
كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شُرع
ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو شرع لسبب يرجع إلى عدم العلم
بطريق العمل؛ كقوله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ] (البقرة: 215) ، وأشباه
ذلك.
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلّف، أو وجود مظنّة انحرافٍ عن الوسط
إلى أحد الطرفين، كان التشريع رداً إلى الوسط الأعدل؛ لكن على وجه يميل فيه
إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، فِعْلَ الطبيب الرفيق يحمل المريضَ على
ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا استقلت صحته
هيّأ طريقاً في التدبير وسطاً لائقاً به في جميع أحواله.
فإذا نظرت في كلية شرعية فتأمّلْها تجدْها حاملة على التوسط، فإن رأيت
ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقعٍ أو متوقَّع في الطرف
الآخر.
فطرف التشديد وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر يؤتى به في
مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص يؤتى به
في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط
لائحاً، ومسلك الاعتدال واضحاً. وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ
إليه.
وعلى هذا: إذا رأيت في النقل من المعتَبَرِين في الدِّين مَنْ مال عن التوسط
فاعلم أنَّ ذلك مراعاةٌ منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى؛ وعليه يجري
النظر في الورع والزهد، وأشباهها، وما قابلها [9] .
الوسطية تعرف بالشرع:
ومعرفة الوسطية والتوسط لا تخضع للأهواء أو التقديرات الذاتية وإنما تُعْرَف
بالشرع، وقد تعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء، وإذا كنا قد ألمحنا إلى
معاني الوسطية ووجوه استعمالها، فإن ذلك يشير إلى أنَّ الوسطية هي: كون
الإنسان في دائرة المشروع، وهي الخير والعدل، فإذا وقف المرء دون هذه الدائرة
ولم يعمل فيها كان مقصِّراً مفرّطاً، وإذا تجاوزها كان مُفْرِطاً مغالياً متطرفاً إلى
الجهة الأخرى المذمومة، فليس معنى الوسطية إذن أن يكون الإنسان دائماً في نقطة
الوسط المادي بين جهتين أو صفتين، فقد يتعدى هذه النقطة ليصل إلى ما هو أعلى
منها دون أن يُخْرِجَه ذلك عن دائرة الوسطية، وليس هناك ما يمنع شرعاً من
تجاوز العدل إلى الفضل، بل هنا ما يحمل أصحاب النفوس العالية والهمم القوية
على الارتقاء دائماً والسموِّ والتطلُّع نحو الآفاق العالية الكبيرة التي لا يستطيعها
المهازيل أو ضعاف النفوس، ويحملُهم أيضاً على الاستكثار من الأعمال الصالحة
والتمسك بأحكام الكتاب والسنة.
وقد جعل الله تعالى هذه الأمة، التي ورثت الكتَاب والوحيَ، ثلاثة أصناف:
الأول: ظالمٌ لنفسه، وهو الذي يطيع الله تعالى، ولكنه يقصّر في العمل
بالكتاب وفي فعل بعض الواجبات، ويسرف على نفسه بارتكاب بعض المحرمات
وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه، وتربو سيئاتُه في العمل على حسناته، ووَجْه
كونه ظالماً لنفسه في هذه الحال: أنه فوَّت عليها الثواب، ونقَصَها منه بما فعل من
الصغائر؛ فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعاتٍ، لكان لنفسه فيها من الثواب
حظ عظيم.
ويصْدُق هذا الظلمُ للنفس على من يظلم غيره أيضاً؛ وذلك لأنه يعرّض نفسه
للعقاب الذي يترتب على ظلم الآخرين.
الثاني: مقتصدٌ في فعل الخيرات، وهو الذي يطيع الله تعالى ولا يعصيه،
فيؤدي الواجبات ويترك المحرمات، ولكنه لا يتقرَّب إلى الله تعالى بالنوافل من
الطاعات، ويترك بعض المستحبَّات، ويفعل بعض المكروهات؛ فهو يتردد بين
العمل ومخالفته، فيعمل تارة ويخالف أخرى، دون أن يصيب كبيرة من الكبائر،
وهو بهذا وسطٌ بين السابق والمقصِّر، تتعادل سيئاته وحسناته.
الثالث: سابقٌ بالخيرات بإذن الله، وهو الذي كثر عمله بكتاب الله، وزادت
حسناته على سيئاته، ويقوم بالواجبات ويتقرب إلى الله بالنوافل والمستحبات،
ويجتنب المحرمات والمكروهات وبعض المباحات، فيتقدم إلى ثواب الله وجنته
بالأعمال الصالحة، ويسبق بها الصنفين السابقين، في الدرجات بسبب الخيرات
وإحراز الفضل بسببها.
وهذه الرتبة التي يصل إليها هذا القسم من الأمة المسلمة عزيزةُ المنال صعبة
المأخذ، لا ينالها إلا من كان ذا همّة عالية تتوق إلى ما عند الله تعالى من الجنة
والرضوان، ومن كان له رسالة سامية في هذه الحياة فهو يسعى للقيام بها [10] .
وهذه الأصناف الثلاثة هي التي جاءت في الآية الكريمة من سورة فاطر، في
سياق الحديث عن الكتاب المنزل، وما فيه من الحق، وتوريث الكتاب لهذه الأمة
المسلمة، ودرجات الوارثين، قال الله تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ
الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32) .
(7) نقد نظرية الوسط في فلسفة الأخلاق:
واعتبار الخُلُق أو الفضيلة وسطاً بين طرفي الإفراط والتفريط، ليس قاعدة
إسلامية مسلَّمة، وإنما هي نوع من التحليل اليوناني لفلسفة الأخلاق اقتبسه بعض
الأخلاقيين الإسلاميين؛ لأنه أقرب إلى ما يوضح فكرة الآداب العامة عند المسلمين،
وليس في الإسلام ما يجعل التجاوز والسموَّ في الخلق مذموماً؛ فالمؤمنون درجات،
كلٌّ يعمل على أن يرتقي في معارج السالكين إلى أن يصل إلى أعلى درجات
اليقين والمحبة، وهم يقولون: إن الولاية لله لا تُحَدُّ مراتبها، وكلٌّ يعمل للوصول
إلى أسمى منازلها دون أن ينال ذلك، والكمال لا نهاية له، وهل يعقل أن يقال لمن
أنفق جميع ماله في سبيل الله: إنه مبذّر، أو إنه ارتكب مذموماً؟ أرأيت أبا بكر
الصديق رضي الله عنه وقد جاء بكل ماله ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم نفقة في سبيل الله، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: بارك الله
لك في أهلك ومالك؟ فهل كان بذلك مسرفاً متجاوزاً للحدّ في الإنفاق؟ وإنما يقال
ذلك في مجال الإنفاق الشخصي، أما في مجال الخير والتسابق فإنه لا إسراف فيه
ولا تبذير؛ بينما لو أنفق درهماً واحداً في وجه غير مشروع لكان ذلك تبذيراً
مذموماً منهياً عنه.
وكذلك خُلُق الشجاعة، أليست هي بذل النفس في سبيل الخير، أو الإقدام
والجرأة؟ فهل يقال إن الشجاعة جزء من الجبن أو التهور حتى تكون وسطاً أو
طرفاً؟ وقد علمنا أن الوسط هو بعض ما يضاف إليه؛ فإن وسط الدار جزء منها
كما تقدم فلو كانت الشجاعة وسطاً بين الجبن والتهور لكانت جزءاً من الجبن
والتهور [11] .
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله: «ومذهب
الفلسفة اليونانية ينتهي بنا إلى مقياس للأخلاق شبيه بمقاييس الهندسة والحساب؛
بعيداً عن تقدير العوامل النفسية والقيم الروحية؛ في الأخلاق العليا على التخصيص،
وقد تصدق هذه الفلسفة إذا كان المطلوب من الإنسان أن يختار بين رذيلتين
محققتين، فإنه في هذه الحالة يحسن الاختيار بين طرفين متقابلين كلاهما مذموم
ومتروك، إلا أننا لا نقول مع ذلك: إن الكرم نقص في رذيلة البخل أو نقص في
رذيلة السَّرف، ولا نقول مع ذلك: إن الكرم إذا زاد أصبح سَرَفاً، وإن السَّرف إذا
نقص أصبح كرماً، بل تكون الزيادة في الكرم كرماً كبيراً، والنقص في السرف
سرفاً قليلاً، ولا يكون الكرم أبداً درجة من درجات السرف، ولا البخل درجة من
درجات الكرم، بل هي أخلاق متباينة في القيمة، يتقارب الطرفان فيها أحدهما من
الآخر؛ ولا يتقارب الطرف من الوسط كما يظهر من قياس الهندسة أو قياس
الحساب. ولقد رأينا في مباحث العلل النفسية التي كشفها العلم الحديث أن الشذوذ
يقرِّب بين المسرفين والبخلاء في أعراض متشابهة.
إلى أن يقول:
ولن يشذ الإنسان عن الاعتدال في الطبع إذا هو آثر أن يذهب في كل فضيلة
إلى نهايتها القصوى؛ فماذا يعاب في جمال الوجوه مثلاً، إذا انتهى إلى مثل تلك
الغاية في معهود البصائر؟ إن كلمة من كلمات اللغة العربية العامرة بمدلولاتها
النفسية والفكرية لَتَهْدِينا إلى قسطاس الحمد في كلِّ حسنةٍ مأثورةٍ بكلمة (ناهيك) ؛
حين نقول: ناهيك من رجل، أو ناهيك من عمل، أو ناهيك من خلق! هو
قسطاس الثناء فيما تنشده النفوس الإنسانية من كل فضل منشود» [12] .
(8) معنى الوسط في آية سورة البقرة:
وتلك المعاني التي أسلفت إنما هي قبس من الآية الكريمة التي وصفت هذه
الأمة «الوسط» بهذا الوصف؛ حيث قال الله تعالى في سياق آيات تحويل القبلة
من بيت المقدس إلى البيت الحرام، وبها تحولت قيادة البشرية إلى هذه الأمة:
[سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ
لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (البقرة: 142-
143) .
يعني بقوله: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) أي: كما
هديناكم أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاءكم به من عند الله،
فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته وفضلناكم على من سواكم من أهل الملل،
كذلك خصصناكم وفضّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطاً.
وقد اختلفت عبارات العلماء في معنى «الوسط» في الآية الكريمة فذكروا
أقوالاً أربعة:
الأول: الوسط هو العدل، ويدل على هذا قوله تعالى: [قَالَ أَوْسَطُهُمْ]
(القلم: 28) أي أعدلهم. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: [أُمَّةً
وَسَطاً] (البقرة: 143) قال: عدولاً. وهو منقول عن أئمة اللغة، وقال زهير
ابن أبى سُلْمى:
هم وَسَطٌ تَرْضى الأنامُ بِحُكْمِهمْ ... إذا نزلتْ إحدى الليّالي بِمُعْظَم
ويؤيد هذا من حيث المعنى: أن الوسط حقيقة هو البعد عن الطرفين، ولا
شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان؛ فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن
الطرفين، فكان معتدلاً فاضلاً. ثانياً: إنما سمي العدل وسطاً؛ لأنه لا يميل إلى
أحد الخصمين، وثالثاً: لا شك أن المراد بالآية المدحُ للأمة؛ فلما مدحهم بهذا
الوصف دلَّ على أنه يتعلق بالمدح في الدين، ولا يمدح الله تعالى الشهودَ حال
حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً، ورابعاً: أن أعدل الأمور الوسط
البعيد عن الأطراف التي يتسارع إليها الخلل والفساد، والوسط محميَّة أطرافه.
القول الثاني: الوسط من كل شيء: خياره، وهذا أوْلى من القول السابق كما
قال بعضهم لأنه مطابق لقوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] (آل
عمران: 110) .
القول الثالث: الوسط: الأكثر فضلاً، فإذا قيل: فلان أوسطنا نسباً، فالمعنى
أنه أكثر فضلاً، وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة.
القول الرابع: يجوز أن يكون وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين
المُفْرط والمفرّط والغالي والمقصر في الأشياء؛ فهم وسط بين اليهود والنصارى كما
تقدم.
وبالنظر في هذه الأقوال نجدها متقاربة غير متباينة؛ فهي تؤدي معنى واحداً،
أو تتلاقى في المعنى والنتيجة وإن اختلفت في العبارة، وهذا ما يسميه العلماء
اختلاف التنوع [13] . والله أعلم.
(9) الأمة الوسط في «ظلال القرآن» :
وفي ظلال هذه الآية الكريمة يقول صاحب الظلال يرحمه الله: «إنها الأمة
الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط
بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد
الروحي ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد،
أو جسد تتلبس به روح، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقَّه المتكامل من كل
زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة
وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط،
في قصد وتناسق واعتدال.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في التفكير والشعور، لا تجمد على ما
عملت، ولا تغلق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتبع كذلك كل ناعق، أو تقلد تقليد
القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر
في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها
أخذها، في تثبت ويقين.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلها
للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب، إنما ترفع ضمائر البشر
بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب، وتزاوج بين هذه
وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان،
ولكن مزاج من هذا وذاك.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية
الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه
كذلك فرداً أَثِراً جشعاً لا همَّ له إلا ذاته، إنما تطلق من الدوافع ثم تضع من الكوابح
ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر
من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في
تناسق واتساق.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في المكان في سُرَّة الأرض، وفي أوسط
بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غَمَرَ أرضَها الإسلامُ إلى هذه اللحظة هي الأمة
التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها
هذا تشهد الناس جميعاً، وتشهد على الناس جميعاً، وتعطي ما عندها لأهل الأرض
قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك،
وتتحكم في هذه الحركة مادّيها ومعنويّها على السواء.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من
قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية
ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل
والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي في
النماء، وتسير بها على الصراط السويِّ بين هذا وذاك» [14] .
مسؤولية الأمة المسلمة ودورها:
وهذه الوسطية للأمة المسلمة هي التي حددت وظيفتها الضخمة في هذه
الأرض، ودورها الأساسي في حياة الناس؛ فهي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم
بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو
الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها،
وتقول: هذا حق وهذا باطل، وهي لا تقوم بهذه الوظيفة إلا إذا كانت حاضرة
شاهدة؛ فإن الشهادة تدل على حضور وعلم وإعلام أو إخبار، وبهذه الشهادة تقام
الحقوق وتصان العدالة، وتحفظ الكرامة للإنسان، وتبنى الحضارة الإنسانية التي
تتطلع إليها الأجيال المعاصرة، بعد أن أنهكها الصراع، وتقاذفتها الأنظمة والأهواء
البشرية، ومزقت كيانها النفسي في رحلة الضياع التي تقلبت فيها بين طغيان
الكنيسة الأوروبية ورجالها إلى عقلية أوروبية مثالية، إلى حسية وضعية ومنفعة
مادية، وعندئذ شقيت البشرية بما عرفت من استعمار وأطماع، وبما وصلت إليه
من سقوط أخلاقي تجده ظاهراً في تفاهات الجنس والعري والمخدرات وانتشار كل
أنواع الجرائم والموبقات.
ولئن آل حال هذه الأمة المسلمة إلى ما نعرفه اليوم من تخلف وحرمان؛
حيث سبقتنا الأمم الأخرى أشواطاً كبيرة في مجال العلم والصناعة والمادة،
وأصبحنا نقتات على فتات موائدهم، لئن كان ذلك فإن مقومات الشهادة والريادة مرة
أخرى متوفرة كامنة في هذه الأمة؛ فهي وإن لم تستطع الآن على الأقل أن تقدم
للعالم علماً مادياً وتقنية ومدنية، فإنها تستطيع أن تقدم للبشرية الحائرة نظاماً إلهياً
يستنقذها مما تعاني منه، ويرتفع بها إلى مستوى إنسانيتها.
ويعبّر عن هذا خير تعبير كلمة الأستاذ إيرفنج، الأستاذ بجامعة (تنسي)
الأمريكية، حينما وقف مخاطباً تجمعاً للمسلمين في مدينة (جلاسجو) ببريطانيا منذ
سنوات، فقال: «إنكم لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علمياً، أو تقنياً، أو
اقتصادياً، أو سياسياً، أو عسكرياً، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا تلك الدول تجثو
على ركبها أمامكم بالإسلام. أفيقوا من غفلتكم لقيمة هذا النور الذي تحملون، والذي
تتعطش إليه أرواح الناس في مختلف جنبات الأرض! تعلموا الإسلام وطبّقوه،
واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويَدِنْ لكم كل ذي سلطان. أعطوني
أربعين شاباً ممن يفهمون هذا الدين فهماً عميقاً، ويطبقونه على حياتهم تطبيقاً دقيقاً،
ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر وأسلوبه وأنا أفتح بهم الأمريكتين [15] .
ويقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في محاضرة قيمة ألقاها في قاعة
المؤتمرات بوزارة الخارجية البريطانية في ديسمبر (كانون الأول) من عام
1996 م، تحمل دلالة واضحة بالنسبة للمعنى الذي أشرنا إليه:» إن المادية
المعاصرة تفتقر إلى التوازن، وأضرار عواقبها بعيدة في تزايد، إن القرون الثلاثة
الأخيرة شهدت في العالم الغربي على أقل تقدير انقساماً خطيراً في طريقة رؤيتنا
للعالم المحيط بنا؛ فقد حاول العلم بسط احتكاره، بل سطوته المستبدة، على طريقة
فهمنا للعالم، وانفصل الدين والعلم بعضهما عن بعض؛ بحيث صرنا الآن كما
قال الشاعر «وردزورث» : «لا نرى إلا القليل في أمنا الطبيعة التي نملكها» .
لقد سعى العلم إلى انتزاع الطبيعة من الخالق، فجزّأ الكون إلى فرق،
وأقصى «المقدّسَ» إلى زاوية نائية ثانوية من مَلَكةِ الفهم عندنا، وأبعده عن
وجودنا العمليّ. والآن فقط بدأنا نقدر العواقب المدمِّرة، ويبدو أننا نحن أبناء العالم
الغربي قد فقدْنَا الإحساسَ بالمعنى الكليِّ لبيئتنا، وبمسؤوليتنا إزاء الكون كله الذي
خلقه الله، وقادنا ذلك إلى إخفاق ذريع في تقدير أو إدراك التراث وحكمة السلف،
ذلك التراث المتراكم على مدار القرون. والحق أن ثَمَّةَ تحاملاً شديداً على التراث،
كما لو كان جذاماً اجتماعياً منفراً.
وثَمَّة الآن في نظري حاجة إلى مقابلةٍ كلية شاملة. لقد أدى العلم لنا خدمة
جليلة في تبيانه لنا أن العالم أعقد بكثير مما كنا نتخيل، ولكن العلم في شكله المادي
الحديث، الأحادي، عاجز عن تفسير كل شيء. إن الخالق ليس ذلك الرياضي
الذي تخيّله نيوتن، وليس صانعَ الساعة الأول [16] . إن انفصال التكنولوجيا عن
القيم والموازين الأخلاقية والمقدسة قد بلغ حداً مريعاً مفزعاً، وهذا ما نراه في
التلاعب بالمورثات (الجينات) أو في عواقب الغطرسة العلمية التي تتجلى في
أبشع صورها في مرض جنون الأبقار.
لقد كنت أستشعر دائماً أن التراث في حياتنا ليس من صنع الإنسان، إنما هو
إلهام فطري وهبه الخالق لنا لإدراك إيقاع الطبيعة، والتناغم الجوهري الذي ينشأ
عن وحدة أضداد متفرقة، ماثلة في كل مظهر الطبيعة. إن التراث يعكس النظام
السّرمدي للكون، ويشدّنا إلى الوعي بالأسرار العظيمة للكون الفسيح، بحيث
نستطيع كما قال الشاعر «وليم بليك» أن نرى كامل الكون في ذرة، ونرى
الأبدية في لحظة.
إن الثقافة الإسلامية في شكلها التراثي جاهدت للحفاظ على هذه الرؤية
الروحية المتكاملة للعالم بطريقة لم نجدها نحن خلال الأجيال الأخيرة في الغرب
موائمة للتطبيق، وهناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من رؤية العالم الإسلامي في
هذا المضمار.
إننا نحن أبناء الغرب نحتاج إلى معلمين مسلمين ليعلمونا كيف نتعلم بقلوبنا
كما نتعلم بعقولنا، وإن اقتراب الألف الثالثة قد يكون الحافز المثالي الذي يدفعنا
لاستكشاف هذه الصِّلات وتحفيزها. وآمل ألا تفوتَ الفرصة السانحة لإعادة
اكتشاف الجانب الروحي في رؤيتنا لوجودنا بأجمعه « [17] .
ويعزّز هذا أن علماء أوروبيين في تخصصات شتى يتطلّعون إلى هذه الأمة
ومنهجها وشريعتها لترسم لهم طريق الخلاص مما يعانونه من مشكلات فكرية
وخلقية وحضارية وقانونية، ويرى كثير من القانونيين الغربيين أن أحكام الشريعة
الإسلامية في المسائل الدولية يمكن الاستفادة منها وبخاصة في مجالين رئيسيين:
الأول: تطوير أحكام القانون الدولي في شأن مركز الفرد فيه والاعتراف به
شخصاً من أشخاص القانون الدولي.
المجال الثاني: إدخال المبادئ الأخلاقية في القانون الدولي؛ لأن الشريعة
الإسلامية غنية بالمسائل التي تتصل بهاتين المسألتين، وهما من الحاجات الملحَّة
لقانون العلاقات الدولية المعاصرة [18] .
وهذا كله يلقي على علماء الإسلام ومفكّريه وقادته مسؤوليةً ضخمة أمام الله
تعالى، وأمام دينهم وأمتهم والأجيال القادمة، ولعلهم يقدّرون هذه المسؤولية حقّ
قدرها.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(*) عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى فرع الطائف.
(1) انظر:» مقاييس اللغة «: 6/108،» الصحاح «: 3/1167،» لسان العرب «: 7/ 426 430،» بصائر ذوي التمييز «: 5/209،» المعجم الوسيط «: 2/1030،» الفروق اللغوية «: ص 253.
(2) » مفردات القرآن «، ص 869، وانظر:» عمدة الحفاظ «للسمين الحلبي، ص 630.
(3) » الوجوه والنظائر لألفاظ الكتاب العزيز «، للدامغاني: 2/279، وانظر:» مفردات الراغب «، ص 869 870،» تفسير الطبري «: 5/217 221،» تفسير البغوي «: 1/287 289.
(4) انظر بالتفصيل:» الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى «، عثمان ضميرية، ص 11 27.
(5) انظر:» مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية «، عثمان ضميرية، ص 27 42،» أباطيل وأسمار «، محمود محمد شاكر، ص 522 523.
(6) راجع:» الوصية الكبرى «، لابن تيمية، ص 47 52،» مدارج السالكين «، لابن القيم، 2/496، وله أيضاً:» الفوائد «، ص 183،» الخصائص «، لسيد قطب، ص 136 وما بعده،» دراسات في النفس الإنسانية «للأستاذ محمد قطب، ص 56 71، صفوة الآثار والمفاهيم، للدوسري، 2/390،» الإسلام على مفترق الطرق «، لمحمد أسد، ص 35، وما بعدها،» عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي «، د عثمان ضميرية، ص 21، وما بعدها.
(7) أخرجه مسلم، 4/2055.
(8) القواعد الكبرى، 2/340، وما بعدها، بتحقيق د نزيه حماد، عثمان ضميرية.
(9) الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي: 2/163 168، باختصار.
(10) انظر:» تفسير ابن كثير «، 6/532،» روح المعاني «، للآلوسي، 22/95،» أضواء البيان «، للشنقيطي، 6/164،» في ظلال القرآن «، 6/2944.
(11) » مقاصد الشريعة ومكارمها «، للأستاذ علال الفاسي، ص 45 46، بتصرف وزيادة.
(12) » حقائق الإسلام وأباطيل خصومه «، عباس محمود العقاد، ص 285، 286.
(13) انظر هذه المعاني:» تفسير الطبري «، 3/141،» تفسير الفخر الرازي «، 4/ 5107،
» تفسير ابن كثير «، 1/275.
(14) » في ظلال القرآن «للأستاذ سيد قطب، 1/131.
(15) نقلاً عن:» قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي «، د زغلول النجار، ص 137، وراجع:» الإسلام ومشكلات الحضارة «، سيد قطب، ص 136، وما بعدها.
(16) قال نيوتن:» إن الله خلق الكون على هيئة ساعة كونية منضبطة الحركة، ولكن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الكونية الضخمة؛ لأنه هو ذاته لا يستطيع تغيير مسارها حتى لو أراد ذلك! «عن كتاب:» منشأ الفكر الحديث «، تأليف برنتون، ص 151، من الترجمة.
(17) جريدة الشرق الأوسط، العدد 6592 بتاريخ 15/12/1996م، نقلاً عن كتاب:» كيف ندعو الناس «، للأستاذ محمد قطب، ص 186، 187.
(18) انظر: أصول العلاقات الدولية، عثمان ضميرية، 1/ 266.(167/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
البَرَكة أهميتها، ضوابطها، وسائلها، نواقضها
سليمان بن محمد الهذال
إن حياة المسلم محدودة ومعدودة؛ ومهما بلغ من حرص وجهد لكسب
الحسنات والتسابق في الخيرات والعمل في مرضاة الله تعالى فلا يزال عمره قصيراً؛
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أعمار أمتي ما بين ستين وسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» [1] .
وإذا كان عمر الإنسان بهذا الحد وبهذا الحال فلا بد من بذل الجهد الذي يمكننا
من حصول البركة في أعمالنا وأوقاتنا، ولا سيما أن الأعمال المنوطة بالإنسان
كثيرة؛ فتجد كثيراً من الدعاة وطلاب العلم الذين يحترقون لنصرة هذا الدين والنجاة
من عذاب الآخرة تجدهم كثيراً ما يشتكون من عجزهم عن القيام ببعض الأعمال،
وذلك لعدم وجود الوقت الذي يتمكنون فيه من القيام بهذا العمل. وإنك لتتعجب أشد
العجب من حال السلف وعظم ما أنجزوه وصنفوه؛ إلاَّ أنك تجد أن هناك سراً في
حياتهم وهو تمكنهم من حصول البركة في جميع شؤونهم؛ فكانت البركة في حياتهم
أنهم جمعوا من العلم الشيء الكثير حتى قيل: إن الإنسان لو أفنى عمره في قراءتها
فلن ينتهي منها؛ فكيف درسوا هذا العلم وسجلوه؟ !
ومن ذلك حال شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول عنه تلميذه ابن القيم: «وقد
شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وكتابه أمراً عجيباً؛ فكان
يكتب في اليوم من التصانيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر
من قوته في الحرب أمراً عظيماً» [2] .
بل لم يكن هذا العمل هو الوحيد عند شيخ الإسلام وإنما كان صاحب عبادة
وتعليم وإنكار للمنكرات وجهاد، وسجن في آخر عمره، وخلف بعد وفاته مشروعاً
عظيماً لا يزال العلماء وطلبة العلم عيال عليه؛ فما السر في ذلك؟ ! لا شك أنه من
البركة في الوقت والعمل.
وهذا الموضوع يحتاج إليه العالم والمتعلم والمربي، والداعية إلى الله،
وأصحاب الأعمال، وأصحاب الأموال وغيرهم من الأمة الإسلامية، يحتاجون إليه
وخاصة الدعاة والعلماء وطلبة العلم، وحتى يتمثلوا بقول الله تعالى: [وَجَعَلَنِي
مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ] (مريم: 31) . في
أي مكان وزمان؛ فالبركة جعلها الله في تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر،
والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله؛ فكل من جالسه أو اجتمع به نالته بركته،
وسعد به مصاحبه « [3] .
أهمية الموضوع:
1 - أن العبرة في كثير من الأعمال والأمور إنما هو بالكيف وحصول البركة،
وليست بالكثرة مع عدمها، وقد ذم الله ذلك فقال: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]
(غافر: 61) .
2 - قلة الإنتاجية في بعض الأعمال الدعوية وغيرها مع كثرة الجهود
المبذولة في ذلك.
3 - حاجة الدعاة والمربين وطلاب العلم والعباد إلى حصول البركة في
أعمالهم.
4 - حاجة عامة المسلمين إلى حصول البركة في أعمالهم وأرزاقهم.
تعريف البركة لغةً:
1- أصل البركة الثبوت واللزوم. قال الراغب الأصفهاني:» برك البعير:
ألقى ركبه. واعتبر منه معنى اللزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا
موضع الحرب « [4] .
2 - النماء والزيادة. وفي معجم مقاييس اللغة:» قال الخليل: البركة من
الزيادة والنماء « [5] . وفي حديث أم سليم:» فحنكه وبرَّك عليه «أي: دعا له
بالبركة. وروى ابن عباس: ومعنى البركة الكثرة في كل خير.
وقال ابن الأثير في حديث:» وبارك على محمد وعلى آل محمد «أي:
أثبت له وأدم ما أعطيته من التشريف والكرامة. وهو من برك البعير إذا أناخ في
موضع فلزمه، وتطلق أيضاً على الزيادة والأصل الأول [6] .
ويمكن أن نخلص بتعريف للبركة بأنها: الزيادة في الخير والأجر وكل ما
يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات مباركة أو زمان مبارك [7] .
أو هي: أن تعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيرك في الزمن الكثير.
ضوابط في البركة:
1 - البركة كلها من الله كما أن الرزق من الله؛ فلا تطلب البركة إلا من الله؛
ويدل على هذا قوله تعالى: [قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ]
(هود: 48) ، وقوله: [رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ] (هود: 73) .
وما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال:» كنا نعد الآيات
بركة وأنتم تعدونها تخويفاً، وكنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ
الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء. فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء،
ثم قال: حَيَّ على الطهور المبارك والبركة من الله. فلقد رأيت الماء ينبع من بين
أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم « [8] .
فإذا كانت من الله فطلبُها من غيره شرك.
2 - أن ما يُتبرك به من الأعيان والأقوال والأفعال التي ورد الشرع بها إنما
هو سبب للبركة وليس هو البركة.
كما أن ما يُتداوى به من الأدوية إنما هو سبب للشفاء وليس هو الشفاء، وما
ذكر الشرع أن فيه بركة فيُستعمل استعمال السبب الذي قد يتخلف تأثيره لفقد شرط
أو وجود مانع كما هو معلوم في قاعدة الأسباب الشرعية. وما تضاف البركة إليه
إنما هو من باب إضافة الشيء إلى سببه! كما قالت عائشة رضي الله عنها عن
جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:» فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على
قومها منها « [9] . أي: هي سبب للبركة وليست المعطية للبركة؛ فلذلك لما
تزوجها صلى الله عليه وسلم أعتق الصحابة من سَبَوْهُ من قومها بني المصطلق
لكونهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذه بركة عظيمة من الله والسبب
هو جويرية بنت الحارث؛ فهكذا الأشياء المباركة سبب للخير والنماء والزيادة.
3 - أن التماس البركة في شيء من الأشياء مبني على التوقيف؛ فالذي يدل
على حصول البركة من عدمها إنما هو الدليل الشرعي فحسب [10] .
4 - أن البركة التي توجد في بعض المخلوقات من الذوات أو الأماكن
وغيرها أن هذا من فضل الله اختصها الله بذلك لحكمة يعلمها [11] .
فيما تُجلب به البركة:
1- طلب البركة بأمور عبادية: ومنها:
أ - التقوى:
تقوى الله ومراقبته في السر والعلن سبب رئيس في حصول البركة؛ فلهذا
قال عز من قائل عليم: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأعراف: 96) .
وقوله تعالى: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ] (الطلاق: 2) .
وقوله تعالى: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] (الطلاق: 4) .
قال الواحدي: أي: يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.
فلهذا لو تأملنا حال السلف الذين مُكِّنوا من البركة فإن الواحد منهم كان له
نصيب من تقوى الله في جميع شأنه؛ فلو نظرنا إلى نموذج واحد منهم وهو شيخ
الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله حيث يقول عنه تلميذه ابن القيم:» وحضرت
شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من
انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد سقطت قوتي «أو
كلاماً قريباً من هذا. وقال لي مرة:» لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها
لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر؛ أو كلاماً هذا معناه « [12] .
ب - كثرة الاستغفار:
قال تعالى: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم
مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً]
(نوح: 10-12) .
وقوله تعالى: [وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ
مُّسَمًّى] (هود: 3) .
ج - الصلاة وإقامتها بالخشوع:
قال تعالى: [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ
وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] (طه: 132) .
وقال وهب:» كانت الكُرَبُ العظام تكشف عن الأولين بالصلاة «.
د - البر وصلة الأرحام وحسن الجوار:
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» من
أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصِلْ رحمه « [13] .
واختلف العلماء في معنى الإطالة الواردة في الحديث.
قيل: البركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في
الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. وهذا القول اختاره ابن حجر
والطيبي [14] .
الثاني: أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك؛
فيظهر لهم في اللوح المحفوظ أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها
زيد له أربعون.
الثالث: قيل المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت، وهذا ضعيف أو
باطل [15] .
واختار شيخ الإسلام:» أن الله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة فإذا
وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك
المكتوب « [16] .
وقال الألباني:» الحديث على ظاهره: أي أن الله جعل بحكمته صلة الرحم
سبباً شرعياً لطول العمر، وكذلك حسن الخلق وحسن الجوار كما في بعض
الأحاديث الصحيحة، ولا ينافي ذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة أن العمر
مقطوع به؛ لأن هذا بالنظر للخاتمة « [17] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛
فإن صلة الرحم منجاة في الأهل، منسأة في الأثر، مثراة في المال « [18] .
وقال ابن عمر رضي الله عنه:» من اتقى ربه، ووصل رحمه أنسئ له في
عمره يعني يزاد له في عمره وينمو ماله يعني يكثر ويحبه أهله « [19] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:» إن حسن الخلق، وحسن الجوار،
وصلة الرحم تعمر الدار وتزيد في الأعمار « [20] .
وقال أبو الليث:» وفي صلة الرحم خصال محمودة:
أولها: رضا الله؛ لأنه أمر بتقواه وصلة الرحم فقال: [وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ] (النساء: 1) .
الثاني: إدخال السرور عليهم. وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن.
الثالث: فرح الملائكة، وحسن الثناء من المسلمين، وزيادة في العمر،
وبركة في الرزق « [21] .
هـ - ذكر الله وتلاوة القرآن:
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:» إن لله ملائكة يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر؛ فإذا وجدوا
قوماً يذكرون تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء
الدنيا. قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال:
يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟
قال: فيقولون: لا، والله ما رأوك. قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون:
لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما
يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا،
والله يارب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم
رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: فمِمَّ
يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون:
لا، والله ما رأوها! قال يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا
أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال:
يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة! قال: هم الجلساء
لا يشقى بهم جليسهم « [22] .
فانظر إلى بركة الذكر؛ حيث كان سبباً لمغفرة الذنوب ودخول الجنة، بل إن
هذه البركة لم تقتصر على الذاكرين وحدهم بل شملت حتى الجالس معهم.
وقال تعالى: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] (الأنعام:
92) .
وقوله تعالى: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
(ص: 29) .
قال الآلوسي:» قوله [مُبَارَكٌ] (ص: 29) أي كثير الفائدة والنفع
لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة « [23] .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:» اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه.
اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما
غمامتان أو كأنهم غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافٍّ تحاجَّان عن أصحابهما،
اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تسطيعها
البَطَلَة « [24] .
2 - طلب البركة في الأمكنة المباركة، ومنها:
1 - المساجد:
لِمَا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» أحب البلاد إلى الله
تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها « [25] .
وطلب البركة في المسجد؛ وذلك يكون من خلال الاعتكاف فيه، وانتظار
الصلوات وصلاة الجماعة، وحضور مجالس الذكر [26] ، ونحو ذلك مما هو
مشروع.
فمن المساجد التي لها مزية وزيادة في البركة: المسجد الحرام، ومسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء؛ لقوله صلى
الله عليه وسلم كما في الصحيحين:» صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة
فيما سواه إلا المسجد الحرام « [27] . وعند الإمام أحمد بزيادة:» وصلاة في
المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا « [28] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم:» لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي
هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى « [29] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم:» من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء
وصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة « [30] .
2 - مكة والمدينة والشام واليمن:
قال تعالى عن مكة: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى
لِّلْعَالَمِينَ] (آل عمران: 96) . قال القفال في تأويل البركة هنا:» يجوز أن
تكون بركته ما ذكر في قوله: [يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ] (القصص: 57) .
وقيل: «بركته دوام العبادة فيه ولزومها» [31] .
وقال الطبري: «لأن الطواف به مغفرة للذنوب» [32] .
وقال القرطبي: «جعله مباركاً لتضاعف العمل فيه؛ فالبركة كثرة
الخير» [33] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «والله إنكِ لخير أرض الله وأحب أرض إلى
الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» [34] .
وقال صلى الله عليه وسلم عن المدينة: «اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي
ثمارنا، وفي مُدِّنا، وفي صاعنا، بركة مع بركة» [35] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني
حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلَيْ ما دعا
إبراهيم لأهل مكة» [36] .
وأما الشام فقال صلى الله عليه وسلم: «طوبى للشام. فقلت: لأي شيء ذاك؟
فقال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه» [37] .
وقال تعالى: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] (الإسراء: 1) .
واختصت الشام بهذه البركة؛ لأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بُعثوا فيها،
وانتشرت في العالم شرائعهم.
وأما اليمن فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك
لنا في يمننا» [38] .
فمن سكن مكة أو المدينة أو الشام أو اليمن ملتمساً لبركات الله فقد وفق لخير
كثير.
3 - طلب البركة في أزمنة مباركة:
1 - كشهر رمضان:
قال صلى الله عليه وسلم: «قد جاءكم رمضان شهر مبارك، افترض الله
عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه
الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرم خيرها فقد حرم» [39] .
ومن بركات هذا الشهر:
1 - أنه سبب لمغفرة الذنوب: قال صلى الله عليه وسلم: «من صام
رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [40] .
2 - فيه ليلة خير من ألف شهر.
3 - ما يحصل فيه من المنافع الدينية والدنيوية [41] .
وفيه ليلة القدر التي قال الله فيها: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنذِرِينَ] (الدخان: 3) ؛ ولبركة هذه الليلة وعظم شأنها أمر الرسول صلى
الله عليه وسلم بالتماسها فقال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر
الأواخر من رمضان» [42] .
ومن بركات هذه الليلة:
1 - فيها يفرق كل أمر حكيم؛ فيكتب فيها ما هو كائن في السنة من الخير
والشر.
2 - مضاعفة العمل فيها ومغفرة ذنوب من قامها.
3 - إنزال القرآن.
4 - تنزل الملائكة فيها [43] .
2 - عشر ذي الحجة:
كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر.
قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع
بشيء» [44] .
ومن بركات هذه العشر:
1 - فضل العمل الصالح في هذه الأيام.
2 - أن فيها يوم عرفة، ومن صامه حصل له تكفير سنتين، وفيها يوم
النحر وأيام التشريق.
3 - يوم الجمعة:
قال صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه
خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم
الجمعة» [45] .
ومن بركات هذا اليوم:
1 - أن فيه ساعة الإجابة؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: «فيه ساعة
لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه» [46] .
واختلف أهل العلم في تحديد هذه الساعة على أقوال أرجحها قولان:
أ - أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة.
ب - أنها آخر ساعة بعد العصر [47] .
2 - أن من أدى صلاة الجمعة بآدابها غفر له ما بين الجمعتين.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من
اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم
يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام» [48] .
4 - يوم الإثنين والخميس:
قال صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس،
فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شئياً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال:
أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى
يصطلحا» [49] .
ومن بركة هذين اليومين:
1 - تفتح أبواب الجنة في هذين اليومين.
2 - أعمال الناس تعرض في هذين اليومين.
5 - الثلث الأخير من الليل:
كما قال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء
الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني
فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [50] .
4 -طلب البركة ببعض المطعومات، ومنها:
1 - الزيت: لقوله تعالى: [يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ] (النور: 35) . ولقوله صلى الله
عليه وسلم: «كلوا الزيت وادَّهِنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة» [51] .
2 - اللبن: لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا أُتي باللبن قال: «كم في البيت بركة أو بركتين» [52] .
3 - الحبة السوداء: لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام» [53] .
4 - العجوة: قال صلى الله عليه وسلم: «من تصبَّح سبع تمرات عجوة لم
يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» [54] .
«قال الخطابي: كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة
النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر. وقال النووي: في
الحديث تخصيص عجوة المدينة بما ذكر، وأما خصوص كون ذلك سبعاً فلا يعقل
معناه كما في عدد الصلوات ونُصُب الزكوات» ا. هـ.
وقال القرطبي: «ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السحر
والسم، والمطلق منها محمول على المقيد» ا. هـ.
وقال ابن حجر: «والأوْلى أن ذلك خاص بعجوة المدينة» [55] .
وقال ابن القيم: «وهذا الحديث من الخطاب الذي أريد به الخاص كأهل
المدينة ومن جاورهم، ولا ريب أن للأمكنة اختصاصاً بنفع كثير من الأدوية في
ذلك المكان دون غيره» [56] .
5 - الكمأة: قال صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن، وماؤها شفاء
للعين» [57] .
6 - العسل: قال تعالى: [يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ
لِّلنَّاسِ] (النحل: 69) .
7 - ماء زمزم: قال صلى الله عليه وسلم: «إنها مباركة، إنها طعام
طُعم» [58] .
وكان عبد الله بن المبارك إذا أتى زمزم استقبل القبلة ثم قال: اللهم إن ابن
أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «ماء زمزم لِمَا شُرِبَ له» ، وهذا أشربه لعطش القيامة. ثم شربه « [59] .
ولما سئل ابن خزيمة: من أين أتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:» ماء زمزم لما شُرِبَ له «، وإني لما شربت سألت الله علماً
نافعاً [60] .
8 - ويلحق بما سبق:
أ - الخيل: لقوله صلى الله عليه وسلم:» الخيل معقود في نواصيها الخير
إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم « [61] .
ب - الغنم: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مرابض
الغنم فقال:» صلوا فيها؛ فإنها بركة « [62] .
وقد ذكر القرطبي رحمه الله وجوه البركة في الغنم:» ما فيها من اللباس
والطعام والشراب وكثرة الأولاد؛ فإنها تلد في العام ثلاث مرات، إلى ما يتبعها من
السكينة، وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح، ولين الجانب « [63] .
ج - النخل: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينما نحن عند
النبي صلى الله عليه وسلم جلوس إذا أُتي بجمار نخلة فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:» إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم « [64] .
5 - طلب البركة في خصال حميدة، ومنها:
أ - الاجتماع على الطعام والأكل من جوانب القصعة، ولعق الأصابع، وكيل
الطعام [65] ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» فاجتمعوا
على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه « [66] .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:» كلوا جميعاً ولا تفرقوا؛ فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين
يكفي الثلاثة والأربعة، كلوا جميعاً ولا تفرقوا؛ فإن البركة في الجماعة « [67] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من
حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه « [68] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» إذا أكل أحدكم فليلعقن أصابعه؛ فإنه لا يدري
في أيتهن البركة « [69] .
ويقول الشيخ الألباني:» وفي الحديث أدب جميل من آداب الطعام الواجبة
ألا وهو لعق الأصابع ومسح الصحفة بها، وقد أخل بذلك أكثر المسلمين اليوم
متأثرين بعادات أوروبا الكافرة وآدابها القائمة على الاعتداد بالمادة ... إلخ « [70] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» كيلوا الطعام يبارك لكم « [71] .
ب - الصدق في المعاملة: جاء في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا؛
فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما « [72] .
ومعنى قوله:» بورك لهما في بيعهما «أي: كثر نفع البيع والثمن [73] .
ت - سخاوة النفس في طلب المال: قال صلى الله عليه وسلم:» إن هذا
المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس
لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع « [74] .
ث - التسمية في جميع الأعمال: لما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال:» فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه « [75] .
ج - شكر الله على نعمه: قال تعالى: [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]
(إبراهيم: 7) .
وحقيقة الشكر: أن تُظهِر في قلبك الفرح بالله وبنعمته وفضله عليك، ثم
تخوض في العمل بموجبه، وذلك بالجوارح والقلب واللسان.
أما الجوارح فباستعمالها في طاعة الله، والقلب فشكره دوام المراقبة، واللسان
فشكره ذكر الله [76] .
د - استغلال أوقات البكور: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: بورك لأمتي في بكورها» [77] .
وعن صخر بن وادعة الغامدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها» ، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم في
أول النهار، وكان صخر رجلاً تاجراً، وكان يبعث تجارته في أول النهار فأثرى
وكثر ماله [78] .
ما يُذهِب البركة:
1 - الذنوب والمعاصي:
قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
(الرعد: 11) .
وقوله تعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الأنفال: 53) ، ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن
جميع الفساد في جوّه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت
حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام
والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض، والأسقام والطواعين، والقحوط
والجدوب، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصانها
أموراً متتابعة يتلو بعضها بعضاً « [79] .
2 - الحرص وكثرة الطمع والرغبة في الدنيا:
قال صلى الله عليه وسلم:» إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بسخاوة
نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا
يشبع « [80] .
ويقول الحافظ:» ضرب المثل لما يعقله السامع من الأمثلة؛ لأن الغالب من
الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير؛ فبيَّن بالمثال المذكور أن البركة هي
خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون؛ فالآكل إنما يأكل ليشبع؛
فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه
وإنما هي لما يتحصل به من المنافع؛ فإذا كثر عند المرء تحصل منفعة كان
وجودها كالعدم « [81] .
3 - البعد عن أسباب جلب البركة:
وهي ما ذكرناه سابقاً.
__________
(1) رواه الترمذي، 13/65، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير، (1199) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1073) .
(2) صحيح الكلم الطيب (144) .
(3) تفسير السعدي، 3/ 200.
(4) المفردات في غريب القرآن، ص 24.
(5) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، 1/230.
(6) انظر لسان العرب، 1/386، ومختار الصحاح، ص 49، والنهاية لابن الأثير، 1/20.
(7) التبرك المشروع والممنوع، للعلياني، ص 21.
(8) صحيح البخاري مع الفتح، 6/433.
(9) رواه أحمد في المسند، 6/277.
(10) انظر التبرك المشروع والتبرك الممنوع، ص 17 بتصرف يسير.
(11) التبرك، للجديع، ص 24.
(12) الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم، ص 63.
(13) رواه البخاري (10/429) ، ومسلم (16/114) .
(14) انظر: فتح الباري (10/429) .
(15) انظر شرح مسلم، للنووي (16/114) .
(16) مجموع الفتاوى، (14/490) .
(17) صحيح الأدب المفرد، للألباني، ص 50.
(18) رواه أحمد (8513) ، والترمذي (1902) ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (276) .
(19) البركة، للحبيشي، ص 93.
(20) رواه أحمد، الفتح الرباني، (19/53) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3767) .
(21) البركة، للحبيشي، ص 95.
(22) صحيح البخاري مع الفتح، (11/177) ، رقم (6408) .
(23) تفسير الآلوسي، 7 / 221.
(24) رواه مسلم مع شرح النووي، 6/90 البطلة: السَّحَرَة (لسان العرب) .
(25) رواه مسلم مع شرح النووي، 5/ 171.
(26) فلهذا تميز علم السلف مع قلة إمكانياتهم عن علم الخلف مع وفرة إمكانياتهم وسهولة تحصيله، فتأمل ذلك! ! .
(27) البخاري، 2/ 57، ومسلم، النووي، 9/163.
(28) مسند أحمد، 4/5.
(29) رواه البخاري، 2/ 58، ومسلم، 9/ 168.
(30) مسند أحمد، 3/ 487، والنسائي، 2/ 37، وابن ماجه (1412) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 238.
(31) انظر تفسير الآلوسي، 4/5.
(32) انظر تفسير الطبري، 4/ 10.
(33) الجامع لأحكام القرآن، 4/ 139.
(34) مسند أحمد، 4/ 305، وابن ماجه (3108) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 196.
(35) رواه مسلم، 9/ 146.
(36) صحيح مسلم، النووي، 9/134.
(37) رواه أحمد، 5/ 185، والترمذي (5/734) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 2/55.
(38) رواه البخاري، 8/ 59.
(39) مسند أحمد، 2/ 230، وقال الألباني: هو حديث جيد لشواهده كما في مشكاة المصابيح، 1/612.
(40) رواه البخاري، 2/ 228، ومسلم 1/ 524.
(41) التبرك، للجديع، ص 135.
(42) رواه البخاري مع الفتح، 2/ 383.
(43) التبرك، للجديع، ص 146.
(44) رواه البخاري مع الفتح، 4/ 226.
(45) رواه مسلم، 6/141.
(46) رواه البخاري، 1/224، ومسلم 2/ 584.
(47) انظر هذه المسألة في فتح الباري، 2/ 416 421، وزاد المعاد، 1/ 389، وشرح مسلم للنووي، 6/ 140.
(48) رواه مسلم، 2/ 587.
(49) رواه مسلم، النووي، 16/122.
(50) رواه البخاري، 8/ 197.
(51) رواه أحمد، 3/ 497، والحاكم، 2/ 398، وقال محقق زاد المعاد: رجاله ثقات، 4/ 317.
(52) رواه أحمد، 6/145، وابن ماجه، 2/ 1103، وقال صاحب الفتح الرباني، 17/115: سنده جيد.
(53) رواه ابن ماجه (3428) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 254 السام: الموت.
(54) صحيح البخاري مع الفتح، 10/204.
(55) فتح الباري، 10/250.
(56) زاد المعاد، 4/ 78.
(57) صحيح البخاري، في كتاب التفسير، رقم 4478، ومسلم في كتاب الأشربة، رقم 2049.
(58) رواه مسلم مع شرح النووي، 16/30.
(59) نزهة الفضلاء، 3/ 1160.
(60) نزهة الفضلاء، 3/ 1160.
(61) رواه البخاري، 3/ 215.
(62) رواه أبو داود، 1/184، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 37.
(63) 10/80 (4) رواه البخاري، 6/211.
(64) التبرك المشروع والممنوع، ص 37.
(65) رواه أحمد، 3/ 501، ورواه أبو داود (3764) ، وابن ماجه (3286) ، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 717.
(66) حديث حسن انظر: صحيح الجامع (4501) .
(67) رواه أحمد، 1/ 270، وأبو داود (3772) ، وابن ماجه (3277) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 719.
(68) رواه أحمد، 2/341، والترمذي.
(69) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (382) .
(70) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 676) .
(71) رواه البخاري، 3/ 22.
(72) رواه البخاري، 3/10، ومسلم 3/ 1164.
(73) عمدة القاري، 11/ 195.
(74) رواه البخاري، 2/ 129، ومسلم 2/ 717.
(75) وراه أحمد، 3/ 501، وراه أبو داود (3764) ، وابن ماجه (3286) ، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 2/ 717.
(76) انظر البركة في السعي والحركة ص 168.
(77) أخرجه ابن ماجه رقم 2237، وأحمد رقم 1325 وصححه الألباني في صحيح الجامع (2841) .
(78) رواه أبو داود 3/ 79 والترمذي، 3/ 517، وابن ماجه، 2/ 752 وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم 345.
(79) زاد المعاد.
(80) رواه البخاري، 2/ 129، ومسلم 2/ 717.
(81) فتح الباري 3/ 337.(167/20)
دراسات في الشريعة والعقيدة
مسائل مهمة في باب القضاء والقدر
فؤاد بن عبده أبو الغيث
تعريف القضاء والقدر والعلاقة بينهما:
القدر: ما اقتضاه علم الله وحكمته في تسوية أمر الكائنات [1] .
والقضاء: وقوع الخلق على وزن الأمر المقدر السابق، وقيل العكس [2] .
معنى الإيمان بالقضاء والقدر:
معنى الإيمان بالقضاء والقدر يتضمن الإيمان بأربعة أركان [3] تسمى مراتب
القدر وهي:
1 - الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملةً وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، سواء كان
ذلك مما يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده. فالله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو
كان كيف يكون!
2 - الإيمان بأن الله تعالى كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم
القيامة في اللوح المحفوظ.
3 - الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة؛ فما شاء كان، وما لم يشأ
لم يكن لعدم المشيئة لا لعدم القدرة.
4 - الإيمان بأن الله خالق كل شيء لا خالق غيره، ولا رب سواه خلق
الخلق وأعمالهم. فأفعال العباد من الطاعات والمعاصي كلها داخلة في خلق الله
وقضائه وقدره، وهي من العباد فعلاً وكسباً، والله هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون
لها.
مسائل مهمة في هذا الباب:
المسألة الأولى: لا يجوز قياس أفعال الله تعالى على أفعال خلقه [4] ؛ فلا
يصح أن يوجب أحد على الله شيئاً ولا أن يُحَرِّم؛ فالله سبحانه وتعالى له الملك التام؛
أما المخلوق فملكه ناقص؛ فإذا اقتضت حكمة الله فعلاً في خلقه يتضمن شراً من
وجه وهو سبحانه لا يخلق شراً محضاً لم يكن سبحانه مسؤولاً عن ذلك بخلاف
المخلوق؛ فالله سبحانه وتعالى لا يُسأل عما يفعل؛ ليس لأنه الخالق المالك
المتصرف وحده فحسب، بل لكمال علمه وحكمته أيضاً، ولكن لا يلزم أن نعلم
الحكمة في كل فعل؛ إذ قد تخفى الحكمة في بعض الأفعال فيجب التسليم بها مطلقاً.
وإذا تقرر أنه لا أحد يوجب على الله شيئاً ولا يحرم فقد أوجب سبحانه على
نفسه بعض الأمور وحرَّم بعضاً باختياره لا أن هذه الأمور واجبة الصدور عنه
لذاتها وإنما هي صادرة عن إرادته وعلمه [5] .
المسألة الثانية: دعوى الجبر باطلة؛ فلا أحد يشعر أنه مجبر على ما يفعل
بالقوة، ولا أحد إلا وهو يميز أن حركاته وسكناته على نوعين:
1 - إرادية اختيارية كالقيام إلى الصلاة والامتناع عن الزنا.
2 - لا إرادية اضطرارية إجبارية كالارتعاش من البرد وغلبة النعاس.
فمن زعم أنه مجبر على عدم القيام إلى الصلاة وعلى فعل الزنا فقد سوَّى بين
النوعين؛ وكفى به بهتاناً وإثماً مبيناً [6] .
المسألة الثالثة: «القدرة» نوعان، و «ما لا يطاق» له إطلاقان، ومن
الخلط بين هذه الأنواع، والإجمال في الإطلاق وقعت الإشكالات:
فنوعا القدرة:
1 - القدرة المصححة للتكليف، وهي: سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من
الفعل، وصحة أعضائه ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل وتهيئة طريق فعله
وفتح الطريق له، وتكون قبل الفعل مثل شرط الاستطاعة في الحج.
2 - القدرة الموجبة للفعل المستلزمة له التي لا يتخلف الفعل عنها، ولا
تكون إلا مع الفعل.
والأولى عدل تقوم بها حجة الله على عبده، والثانية فضل يؤتيه الله من يشاء.
وأما «ما لا يطاق» فله إطلاقان:
1 - ما لا يطاق لاستحالته؛ كالجمع بين النقيضين. أو للعجز عن فعله؛
كتكليف الأعمى بنقط الكتاب.
2 - ما لا يطاق لتركه والاشتغال بضده؛ كالكافر كلفه الله عز وجل الإيمان
حال كفره؛ لأنه غير عاجز عنه ولا مستحيل منه؛ فهو كالذي لا يقدر على العلم
لاشتغاله بالمعيشة.
فالأول لا يجوز تكليف العبد به. أما النوع الثاني فلا مانع من تكليفه [7] .
المسألة الرابعة: إذا كان الأمر مفروغاً منه وما من أحد إلا كُتب مقعده من
النار أو من الجنة؛ ففيمَ العمل، ألا نتكل على القدر ونحتج به؟ !
استشكل بعض الصحابة رضي الله عنهم هذا فأوردوه على الرسول صلى الله
عليه وسلم، فقال: «لا أي لا تتكلوا على القدر اعملوا؛ فكل ميسر» [8] ؛
فالعاقل لا ينشغل بالبحث عن سر لا يمكن أن يكتشفه ويدع ما هو مأمور به وفي
مقدوره أن يعمله.
إن الله عز وجل قد أراد بنا وأراد منا، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا
أمر بالقيام به [9] ، وهو الذي كتب المقادير وأوجب العمل بالشرائع؛ فتوهُّم المنافاة
بين القدر والشرع يعني نسبته إلى خلاف العلم والحكمة، تعالى الله عن ذلك. فقد
قدَّر الأمور على نحو لا تبقى معه حجة لمحتج أو اعتراض لمعترض؛ فالقدر سر
مكتوم لا يعلمه العبد؛ فكيف يحكم بمنافاته للشرع؟ ! وعلم الله بالضال والمهتدي لا
ينافي الأمر والنهي؛ لأن العلم ليس صفة مؤثرة، ولأن ما علم الله عدم وقوعه
جعله مقدوراً للعبد بالقدرة المصححة للتكليف، وإذا قيل للعبد: أمرناك بأمر ونحن
نعلم أنك لا تفعله لم يكن في ذلك تنافياً أو تكليفاً بما لا يطاق [10] .
__________
(1) انظر: لسان العرب، مادة: ق د ر.
(2) الإيمان بالقضاء والقدر، لمحمد بن إبراهيم الحمد، ص 27 29.
(3) هذه الأركان مشروحة في معظم مراجع باب الإيمان بالقضاء والقدر.
(4) انظر: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، لشيخ الإسلام (3/151) .
(5) انظر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، لمحمد ربيع المدخلي، ص 111.
(6) انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، للإمام ابن القيم، (1/ 328، 269) ، ط الشلبي.
(7) فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، (8/294) .
(8) رواه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، باب وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
(9) الإيمان بالقضاء والقدر، ص 143.
(10) انظر: الحكمة والتعليل، ص 127، 129.(167/30)
دراسات في الشريعة والعقيدة
مسؤولية الكلمة.. دعوة لتصحيح ألفاظنا كما نصحح نياتنا
د. السيد العربي
العقيدة أو التوحيد أو الإيمان وهي مسميات لقضية واحدة تتضمن الاعتقاد
القلبي والكلام اللساني وعمل الجوارح، وهذا يعني أن الكلام أو الكلمة من مهمات
الاعتقاد؛ وقد دل الدليل الشرعي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم بما يفوق الحصر على أن الكلام من أعمال المسلم التي يحاسب بمقتضاها،
وأنه يترتب عليه من الثواب أو العقاب ما الله به عليم. قال تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِن
قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] (ق: 18) ، وقال: [سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ]
(الزخرف: 19) ، وقال: [سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا] (آل عمران: 181) وقال:
[وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ] (الانفطار: 10-
12) ، وقال: [كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَداًّ] (مريم: 79) ،
وقال: [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (الجاثية: 29) .
إن هذه النصوص القرآنية الجامعة وغيرها تبين خطورة الكلمة والكلام في
دين الله عز وجل، وأنها معدودة على قائليها، مسجلة عليهم، وأنهم محاسبون على
ما يتكلمون؛ لأن الكلام من جملة الدين الذي يُسأل الإنسان عنه.
وكذلك جاء في السنة المطهرة الكثير من الأحاديث التي تثبت خطر الكلام وأثره في
دين العبد ثواباً أو عقاباً؛ فمن ذلك ما أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد من
حديث معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال
صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على
وجوههم أو على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم» [1] .
وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليتكلم
بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار» [2] .
وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان عن بلال ابن الحارث المزني أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما
كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل
ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه
إلى يوم يلقاه» [3] .
من هذه النصوص وغيرها يتبين أن الكلمة في دين الله عظيمة الشأن، من
حيث الربح أو الخسارة؛ ولله در صاحب الداء والدواء ابن القيم عندما قال في ذلك
الكتاب: «وأما اللفظات فحفظها بألا يخرج لفظة ضائعة، بألا يتكلم إلا فيما يرجو
فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل ربح فائدةً أم لا؟
فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تُفَوَّت بها كلمة هي
أربح منها فلا يضيعها بهذه؟» إلى أن قال: «ومن العجب أن الإنسان يهون عليه
التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن
النظر إلى المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحرز من حركة لسانه، حتى ترى
الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي
لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من
رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري أعراض الأحياء والأموات ولا
يُبالي ما يقول؛ وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه مسلم في صحيحه من
حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رجل:
والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله عز وجل:» من ذا الذي يتألى [4] عليَّ أني لا
أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك «. فهذا العابد الذي عَبَدَ الله ما شاء أن
يعبده، أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله، ثم قال أبو هريرة صاحب الرواية
الأخرى من الحديث:» تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته « [*] [5] .
كل منا على خطر دائم مما يجنيه لسانه، ولو كان مجرد كلام فيما لا يعنيه،
وما أكثر ما نتكلم به فيما لا يعنينا، وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس
رضي الله عنه قال:» توفي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشرْ بالجنة! فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل
بما لا ينقصه» ، وفي لفظ: «إن غلاماً استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة
مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئاً لك يا بني الجنة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:» وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه،
ويمنع ما لا يضره «.
لهذا كان الصمت أحياناً أضمن طريق للنجاة من ورطات اللسان؛ حيث يمتنع
الإنسان عن التكلم إلا فيما يعلم حقاً أنه خير، وهذه وصية رسول الله صلى الله
عليه وسلم التي أخرجها الشيخان في صحيحيهما؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام:
» من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت « [6] .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف علينا من ألستنا، ويأمرنا
بالاستقامة التي يدخل فيها استقامة اللسان، فقد طلب سفيان بن عبد الله الثقفي من
رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً عزيزاً: قال له: يا رسول الله! قل لي في
الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم» [7] ،
وفي رواية للترمذي: «قل: ربي الله، ثم استقم» . فقال: يا رسول الله! ما
أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: «هذا» [8] .
فاحذر أخي رحمني الله وإياك أن تخرج من فمك الألفاظ الضائعة التي لا تعي
معناها؛ فقد تكون من كلام الشر والسوء التي تضرك في دنياك وآخرتك؛ فالله
تعالى يقول: [وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ
عَظِيمٌ] (النور: 15) .
لقد فقه السلف مسؤولية الكلمة، وعرفوا أمانتها، ووعوا خطورتها؛ فهذا
صدِّيق هذه الأمة: أبو بكر رضي الله عنه كان يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه
عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: «هذا الذي أوردني الموارد» .
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «والله الذي لا إله إلا هو!
ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان» ، وقال طاووس: «لساني سَبُع؛ إن
أرسلته أكلني» [9] .
لقد فهم سلفنا الصالح مراد الله تعالى من قوله: [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ
إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ
اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء: 114) . وعلموا أن النجاة في كف
اللسان إلا من ذلك الذي أشار إليه القرآن في التناجي بين الناس؛ ولهذا سأل عقبة
بن عامر الجهني رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: «ما النجاة؟ قال: أمسك
عليك لسانك، ولْيسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك» [10] .
قال النووي رحمه الله: «اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن
جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في
المصلحة؛ فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه؛
وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء» [11] .
وقد يقول قائل عند التنبيه بما تقدم: إنني عند تكلمي بالكلمة السيئة الخبيثة
المحرمة؛ فإن نيتي تكون حسنة، ولا أعتقد ما وراء هذه الكلمة من اعتقاد سيئ
خبيث، ولا أعتقد حِلَّها بل أعتقد حرمتها؛ لأن نيتي وقصدي حسن؛ فهل أعاقب
بما أقول والحال كذلك؟ والجواب أنه ينبغي أن يصحح العبد لفظه كما يصحح نيته؛
فمتى علم أن الكلمة في دين الله حرام، وجب عليه تصحيحها، أو التخلي عنها،
وإن لم يعتقد حل القول بها أو جوازها، وهذا ما أجاب بنحوه الشيخ محمد بن صالح
العثيمين رحمه الله عندما سئل: «بعض الناس يقول: إن تصحيح الألفاظ غير مهم
مع سلامة القلب؛ فهل هذا صحيح؟ فأجاب رحمه الله: إن أراد بتصحيح الألفاظ
إجراؤها على اللغة العربية؛ فهذا صحيح؛ فإنه لا يهم أن تكون الألفاظ غير جارية
على اللغة العربية ما دام المعنى مفهوماً سليماً، أما إذا أراد بتصحيح الألفاظ ترك
الألفاظ التي تدل على الكفر والشرك، فكلام غير صحيح، بل تصحيحها مهم، ولا
يمكن أن تقول للإنسان: أطلق لسانك في قول كل شيء ما دامت النية صحيحة،
بل نقول: الكلمات مقيدة بما جاءت به الشريعة الإسلامية» ا. هـ[12] .
ومن أخطر ما يمكن أن يجري على لسان الإنسان أن يقع في الاستهزاء بدين
الله أو شيء من دين الله ظاناً أن ذلك يجوز على سبيل الفكاهة واللعب. يقول ابن
تيمية رحمه الله محذراً من عاقبة ذلك في أثناء بيانه لمعنى قول الله تعالى: [وَلَئِن
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ] (التوبة: 65) : «فاعترفوا واعتذروا،
ولهذا قيل لهم: [لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ
طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ] (التوبة: 66) ؛ فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم
قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيَّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله
كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه؛ فدل على أنهم كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا
المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً، وكان كفراً كفروا به، فإنهم
لم يعتقدوا جوازه» [13] .
فانظر يرحمني الله وإياك خطورة الكلمة، حيث لا يصح الاعتذار بالنية؛ فإن
ذلك تلبيس إبليس؛ فالكلام الفاسد والعمل الفاسد، لا تشفع له النية الصالحة، والنية
السيئة الخبيثة لا يشفع لها العمل الصحيح والكلام الحسن، وصدق من قال:
احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشجعان
وقال آخر:
يصاب الفتى من عثرة لسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجِل
فعثرة في القول تُذهب رأسه ... وعثرة في الرِّجل تبرأ على مَهَل
__________
(1) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1122) ، وفي صحيح الجامع برقم (205) .
(2) صححه الألباني في الصحيحة برقم (540) ، وفي صحيح الجامع برقم (1618) .
(3) صححه الألباني في الصحيحة برقم (188) ، وفي صحيح الجامع برقم (1619) .
(4) يتألى من الإيلاء، وهو اليمين.
(*) رواه أبو داود، برقم (4255) ، وأحمد، برقم (7942) .
(5) الداء والدواء لابن قيم الجوزية، ص 17، المطبعة السلفية ومكتبتها.
(6) متفق عليه.
(7) رواه مسلم.
(8) أخرجه النسائي والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4395) .
(9) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، شرح حديث «قل آمنت بالله ثم استقم» .
(10) أخرجه ابن المبارك في الزهد، وأحمد والترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة برقم.
(890) .
(11) رياض الصالحين، للإمام النووي، باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان.
(12) نقلاً عن كتاب (المناهي اللفظية) ، للعلامة الشيخ بكر أبو زيد، مكتبة السنة بالقاهرة.
(13) مجموع فتاوى ابن تيمية، (7/273) .(167/33)
قضايا دعوية
التقنية والعمل الدعوي ضرورة شرعية ملحة
د. سليمان بن محمد بن فالح الصغيّر [*]
المتأمل واقعََ العمل الدعوي ومناشطه يرى ولله الحمد أنه يجري من خلال
قنوات عديدة ونشاطات متميزة في الدعوة والإرشاد إلى دين الحق، وتمثله هيئات
ومؤسسات حافلة بالأعمال الإسلامية المختلفة، وساحاته الإعلامية آخذة في شق
طريقها بقوة وثبات ترعاها بتوفيق الله أيدٍ مخلصة حتى علا بعضها منابر دعوية
انتشر صيتها وارتفع ذكرها، ولا نملك إزاء تقصيرنا تجاهها إلا أن ندعو لهؤلاء
بأن يخلص الله لهم العمل، ويحقق الهدف الذي يؤمَّل من رجالها وأنصارها بل
وعامة الأمة الإسلامية.
ولكن الملاحظ أن الساحة الإعلامية الإسلامية قلما تتطرق في صحفها
ومنابرها إلى الحديث عن التقنية ومنجزاتها، وإن تطرقت فبشكل نادر؛ وغالباً ما
يكون ذلك من جهة عامة باعتبار أنها ليست الغاية أو الجانب الأهم في حياة الإنسان،
وهي وإن كانت كذلك، فليس معناه أن يكون موقف العمل الدعوي سلبياً، وفي
المقابل حينما نتأمل الأعمال المهنية والتقنية وساحاتها الإعلامية نجدها بعيدة عن
ربط مبادئ الإسلام وقيمه وآدابه وأحكامه في ذلك الشأن، وبمعنى أدق: لماذا نرى
النشاطات التقنية تكاد تخلو من ربط التقنية بمفاهيم الإسلام وآدابه وأحكامه وبخاصة
في المجلات والصحف التي تعنى بالجوانب التقنية، وغالباً ما يصطبغ طرح
الموضوعات المهنية والتقنية فيها بصبغة دنيوية جافة ليس فيها ذكر للإيمان والنية
وابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
إن ذلك فيما أرى يستوجب مضاعفة الجهود وتكاتف فئات المجتمع. ويعظم
دور العلماء والدعاة في ضرورة توجيه أعمال المهن في منظومة العمل الدعوي
ومجالاته الرئيسة، والسعي إلى ترابط الجهود الدعوية والتنسيق التعاوني بين
ساحاتها الإعلامية ومع جهود رجالات الدعوة وإسهاماتهم من خلال مجالات
تخصصاتهم التقنية والمهنية والفنية، وتشجيع البحث العلمي والتقني بين المسلمين
بإنشاء المراكز للبحوث العلمية والتقنية، والعمل على نشر العلوم التطبيقية والتقنية
انطلاقاً من تصور إسلامي صحيح، وإحياء المفهوم الصحيح للبحث العلمي والتقني
في الإسلام وتعميقه في نفوس المسلمين، وإبراز الإشارات العلمية في القرآن
الكريم، ووضع سياسات علمية وتقنية دقيقة ومستقرة للعالم الإسلامي.
أليس الإسلام دين العلم؟ بل لم يعرف التاريخ أمة من الأمم رفعت من شأن
العلم وأهله كأمة الإسلام؟ فَلِمَ لا تُربَط العلوم الحديثة بأهداف الإسلام وغاياته
ومبادئه وأحكامه كلما طرحت؟ ولماذا لا يركز العلماء والدعاة على هذا الجانب
الهام في العمل الدعوي؟ لا نجد مسوغاً يجعل العمل الدعوي بمنأى عن العمل
المهني والتقني؛ فالعصر عصرها، وضرورة توضيح قيمة هذه الأعمال المهنية
والتقنية في الإسلام قائمة وملحة؛ فإن تعزيز العلاقة وتنمية روابطها بين كل من
العملين من شأنها أن توحد الجهود ويعظم تأثيرها. نعم! قد نرى شيئاً من ذلك
الربط في مجلة (الإعجاز) مثلاً التي تصدر عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن
والسنة برابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وإن كانت ذات توجه تخصصي
أكثر؛ مما قد يكون أثَّر على انطلاقها المأمول في الساحة الإعلامية والدعوية.
فمن هنا تبرز أهمية طرح المفهوم الإسلامي للعمل التقني والمهني وربطهما
بالمفهوم الإسلامي والمبادئ والقيم والآداب والأحكام التي جاء بها حتى تتبين أهدافه
وتتضح غاياتهُ وتَمَيُّزُ أحكامِهِ واختصاصه بالشمولية. ونظرة الإسلام إلى العلم
بعامة والحِرَف والمهن التقنية بخاصة نظرة كلها تكريم وإجلال تكمن في أنه جعلها
ضرورة من ضروريات الحياة، كما رتب عليها الأجر وجعلها من أفضل وسائل
الكسب، ورفع من شأن تعلمها وتعليمها حتى جعلها في ذاتها عبادة ما دامت في
حدود ما شرعه الله تعالى، وجعل أداءها وإتقانها والإخلاص فيها غاية يجب أن
يسعى إليها المسلم، وإذا أدرك الإنسان حقيقة الإيمان وجد باعثاً من داخل نفسه إلى
العمل في مجالات الحياة المختلفة ليقوم بمهمته في عمارة الأرض؛ وأعرض على
سبيل المثال بعض ما تضمنته مبادئ الإسلام وما جاء به من قيم وأحكام في أداء
العمل، وبخاصة العمل المهني الذي هو أصل التقنية ويلتحق به كل جديد في
عالمها اليوم.
إن ارتباط السعادة بالعمل في الإسلام ليس مقصوراً على الدار الآخرة وحدها،
بل يجري الجزاء عليه في الدنيا؛ فمن سنن الله فيها أن يُعطي كل عامل مجدٍّ
ثمرة عمله؛ فالطالب أو المدرس أو الصانع أو المزارع أو التاجر يدعوه دينه إلى
أن يكون عاملاً مثابراً مخلصاً متقناً لعمله؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن
يتقنه، ولهذا نستطيع أن نقول: إن العمل التقني سبب لحصول ثمرته من سعادة
وأجر دنيوي وأخروي فيما إذا سُخِّر لصالح الأمة.
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتقنون مهن الحياة: زراعة، وتجارة،
وصناعة، ولم يكن إيمانهم بالآخرة مانعاً لهم من العمل للدنيا، قال تعالى: [وَابْتَغِ
فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] (القصص: 77) .
وقيمة العمل اليدوي والمهني والتقني استمراريته حتى آخر لحظة من العمر؛
فالأخذ بأسباب عمارة الأرض حتى آخر لحظة من العمر هو شأن المسلم؛ إذ يقول
صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم
حتى يغرسها فليغرسها» [1] .
العمل التقني ضرورة شرعية وحضارية حيوية؛ فقد نظر الإسلام إليه نظرة
كلها تكريم وإجلال تكمن في أن جعل العمل ضرورة من ضرورات الحياة بها ينعم
الإنسان ويعمر الأرض، ومما يدل على ذلك أن الإسلام قرن العمل بالجهاد؛ حيث
قال تعالى: [وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] (المزمل: 20) .
وقد فُسِّر الضرب بأنه التقلب في التجارة، والتجارة تُعَدُّ من أصول الأعمال
المهنية والفنية.
ومما يؤكد ذلك أيضاً اقترانه بالصلاة والحج، كما في قوله تعالى: [فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ] (الجمعة: 10) .
وفسر بعض العلماء (المنافع في الحج) في قوله تعالى: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ] (الحج: 28) بأنها «الأجر في الآخرة والتجارة في الدنيا» ، ولم يكتف
الإسلام بهذا القدر في بيان قيمة العمل والحث عليه بل اعتبر العمل جهاداً؛ فقد قال
بعض الصحابة حين رأوا شاباً قوياً يسرع إلى عمله: لو كان هذا في سبيل الله!
فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله: «لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان
خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين
شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل
الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان» [2] .
أجر العمل اليدوي والمهني في الإسلام دنيوي وأخروي: إذ حث الإسلام على
العمل ووعد صاحبه بالأجر العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى بنياناً
من غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرساً في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجرٌ جارٍ
ما انتفع به من خلق الله تعالى» [3] .
وقال أيضاً: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو
إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» [4] ؛ فالزراعة أصل من أصول الأعمال
الفنية المهنية.
أما حكم العمل المهني والتقني فيعد من فروض الكفاية التي إذا قام بها بعض
أفراد المجتمع قياماً يسد حاجة المجتمع ويدفع عجلته للتقدم والرقي سقط الإثم عن
الباقين، وإلا أثمت الأمة كلها، وتحوَّل فرض الكفاية هذا إلى فرض عين على كل
من يستطيع. والأعمال التقنية من أولويات ذلك؛ ولذلك قال الإمام ابن تيمية رحمه
الله: «لهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد ابن حنبل
وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم: إن هذه الصناعات
فرض على الكفاية؛ فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها» ، ثم يقول: «والمقصود
هنا أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان
صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غير عاجز عنها» .
والعمل ضده البطالة والكسل، وكان موقف الإسلام منهما أن حاربهما وسعى
إلى القضاء عليهما بجميع أشكالهما سواء كانت البطالة بطالة ظاهرة أو بطالة مقنعة،
بطالة إجبارية كعدم الحصول على العمل مع وجود الرغبة والقدرة، أو بطالة
اختيارية بسبب عدم الرغبة وتفضيل الكسل والخمول. وهناك عدد من الأحاديث
الصحيحة الصريحة في النهي عن البطالة والقعود بلا عمل كقوله صلى الله عليه
وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفَّ الله بها
وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» [5] .
وقد ذم السلف الصالحُ العاطلَ عن العمل، كقول ابن مسعود رضي الله عنه:
«إني لأكره الرجل فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة» [6] .
يقدم لنا الإسلام القدوة والمثل الأعلى على الاهتمام بالعمل وبيان شرفه حتى
إن الله تعالى جعل العمل نوعاً من الشكر له؛ فبه تتحقق فائدة ما أنعم به وما أوجده
في هذا الكون. قال تعالى: [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ]
(سبأ: 13) . والرسول صلى الله عليه وسلم ربى المسلمين على هذا الاهتمام،
فبين شرف العمل وأهميته عند الله في مناسبات شتى.
إن احترام العمل وتقديره والنظر إليه بصفته مبدأ إسلامياً بحد ذاته سبب
رئيس في قيام الحضارة الإسلامية؛ فالعمل هو الثروة الدائمة لأية أمة من الأمم،
وهو الطريق الأقوى لبناء الاقتصاد والتقدم العلمي وتحقيق القوة والسيادة، ولقد
أدرك المسلمون الأولون ذلك جيداً وطبقوه في شكل ممارسات واقعية لم يُستثن أحد
لمكانته أو ثروته مما أدى بهم إلى بناء مجتمع إسلامي قوي استطاع أن يفرض
وجوده على العالم أجمع.
وإحياء مثل هذا المبدأ واجب لتخليص الأمة الإسلامية من الافتقار إلى موارد
الغذاء والآلات والمصنوعات.
إن إصلاح النظرة الدونية تجاه العمل والعمال يكمن في سيادة القيم الدينية
الإسلامية داخل برامج التعليم العام وبخاصة برامج التعليم اليدوي والمهني والتقني.
إن العمل التقني في الإسلام يتطلب مهارة ودقة وإتقاناً، بل إن الإتقان
والإحكام مطلوب في كل شيء يعمله الإنسان، ولا تستقر الحياة، ولا تتقدم الأمم،
ولا تنضبط الأمور إلا عندما تكون متقنة ومحكمة، والإسلام حث على الإتقان؛
ففي الحديث: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» [7] ، وفي
رواية: «إن الله يحب من العامل إذا عمل عملاً أن يحسن» [8] .
ولقد كان من أهم أسباب نجاح الصناعات الحديثة في بعض الدول وتفوقها
على غيرها اهتمامها بمراقبة الجودة النوعية، ثم انتشار أسلوب وجود قسم
متخصص في كل مصنع لمراقبة جودة الإنتاج واستبعاد أي قطعة ليست في غاية
الإتقان، ثم عقد اجتماعات دورية للجان الجودة النوعية لاقتراح ما يرونه مناسباً
لتحسين نوعية المنتجات، بل تطور الأمر فيما بعد إلى إيجاد فريق متابعة الجودة
خارج المصنع، وذلك باكتشاف أي خلل أو قصور في أي سلعة، واستبدالها
وتعويض المستهلك عن أية خسارة تحملها نتيجة لذلك.
وقد أوجدت تلك الدول جائزة سنوية تمنح للشركات التي تحقق أعظم تحسن في
الجودة والنوعية؛ ولأهمية ذلك فقد أنشئت رابطة دولية لحلقات مراقبة الجودة
النوعية [9] .
وإذا كان هذا حال الإنسان الذي لا يهمه إلا الكسب المادي في هذه الحياة فما
أحرانا نحن المسلمين بمثل هذا السلوك، لننال القوة في الدنيا والفوز في الآخرة.
إن كل عمل لا بد له من هدف في هذه الحياة؛ فالإنسان وجد في هذه الحياة لهدف
وغاية، ولم يوجد عبثاً، ولذا يجب أن تكون أعماله لأهداف وغايات، ولا يمكن
تحقيق هذه الأهداف إلا بإتقان العمل.
اهتم الإسلام بالعمل المهني والتقني بمفهومه العام والاصطلاحي، وجعله من
القيم التي حرص عليها؛ وذلك أنه يدفع إلى تطور البلاد وزيادة الإنتاج؛ ففي
مخاطبة الله سبحانه وتعالى نبيه نوحاً عليه السلام مغزى صريح لأهمية الصناعة
في حياة الإنسان والمجتمع. قال تعالى: [فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا
وَوَحْيِنَا] (المؤمنون: 27) . وفي قصص الأنبياء وأحاديث الرسول صلى الله
عليه وسلم توجيهات تربوية تقدم ذكر بعضها نستوحي منها أهمية الصناعة
والزراعة والتجارة والمهن الأخرى في حياة المجتمعات، وقد حرص الغرب على
أن يبقى المسلمون محتاجين إلى علومهم وصناعاتهم وإنتاجاتهم التقنية التي غزت
أسواقنا ووفرت الاحتياجات الأساسية والكمالية، ولا سيما الكمالية منها، مما
أضعف اشتغالنا بالصناعة، ولئلا يكون ذلك هدماً لحضارتهم. ولنستمع إلى أحد
الساسة الفرنسيين في هذا الشأن؛ إذ يقول: «إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق
ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة؛ فلنعط
هذا العالم ما يشاء، ولنقوِّ في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني؛ فإذا
عجزنا عن تحقيق هذه الخطة وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه
عن مجاراة الغرب في الإنتاج، فقد بؤنا بالإخفاق السريع، وأصبح الخطر الذي
يصيب العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً
يتعرض به التراث الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته
القيادية» [10] .
وقد اعتنى القرآن الكريم بالعمل المهني وجعله نعمة تستوجب الشكر؛ حيث
قال تعالى: [لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ] (يس: 35) ،
قال الإمام الرازي: «يحتمل أن تكون (ما) موصولة بمعنى: وما عملته، أي:
بالتجارة كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما وهما الزراعة والتجارة» [11] .
يقول سيد قطب رحمه الله: «مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون
للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد، وفلاحة هذه الأرض، وصناعة خاماتها،
ونقل خيراتها من مكان إلى مكان، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو
نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان» [12] .
وقد نوه القرآن الكريم بشأن كثير من الصناعات، ومن ذلك:
- صناعة الحديد: [وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ]
(الحديد: 25) ، وقوله تعالى: [يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ
كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ] (سبأ: 13) .
- صناعة الأكسية: [وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى
حِينٍ] (النحل: 80) .
- صناعة الدروع: [وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ]
(سبأ: 10-11) .
- قالوا: درع سابغ تام واسع [13] ، والسرد: خرز ما يخشن ويغلظ كنسج
الدروع وخرز الجلد، واستعير هنا لنظم الحديد [14] .
- صناعة الجلود: [وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ
وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ] (النحل: 80) .
- صناعة السرابيل: [وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ]
(النحل: 81) ، وقوله تعالى: [وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ
فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ] (الأنبياء: 80) .
- قالوا: السربال: القميص من أي شيء كان [15] ، فقد يكون من القطن
والكتان وغيرها، وقيل: هي ما لبس من قميص ودروع فهو سربال « [16] .
- الصناعات الإنشائية: [وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً
وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً] (الأعراف: 74) .
- صناعة السفن والمراكب: [فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا]
(المؤمنون: 27) . يقول الفارابي:» إن فضيلة العلوم والصناعات تكون بإحدى
ثلاث: إما بشرف الموضوع، وإما باستقصاء البراهين، وإما بعظم الجدوى التي
فيه. وأما ما يفضل على غيره بعظم الجدوى التي فيه فالعلوم الشرعية
والصنائع « [17] .
ومن خلال ذلك تتبين قيمة تعلم الصناعات والحرف والأعمال اليدوية والتقنية،
وأنها مطلب شرعي قبل أن تكون ضرورة حضارية وأرضاً خصبة للعمل الدعوي.
دور القيم في تطوير أداء العمل:
وإنه ليتحقق دور هذه المبادئ والقيم في تطوير أداء العمل التقني وتسخيره
لصالح الدعوة وإقامة بناء المجتمع الإسلامي على أصول ثابتة وأسس حضارية من
خلال القنوات والاعتبارات الآتية:
1 - الإخلاص في العمل يجعل العمل الدنيوي قربة وعبادة إلى الله تعالى
وهذا بدوره حافز لمضاعفة الجهد والإنتاج.
2 - إيجاد الشخصية الإنسانية الصالحة المسلمة السوية التي تؤدي عملها
وتقدر دورها التنموي في المجتمع الذي تعيش فيه وتتعامل معه.
3 - التوصل إلى جهود علماء المسلمين في مجال ترسيخ قيمة العمل المهني،
ومن ثم إبراز هذه المجهودات في هذا المضمار؛ إذ استطاعت النظرة الإسلامية
من خلال هذه المجهودات أن تفتح ذراعيها لجميع التجارب الإنسانية الصالحة.
4 - إذا أدرك الإنسان حقيقة الإيمان وجد باعثاً من داخل نفسه يدعوه إلى
العمل في مجالات الحياة المختلفة ليقوم بمهمته في الأرض، وسعادة الإنسان في
الدنيا والآخرة مرهونة بعمله، ولا مجال في الإسلام أن يعيش المسلم على الأماني.
5 - سد الاحتياجات المعرفية والمتطلبات من الطاقات المهنية والفنية التي
تحتاجها الأمة لتنفيذ خططها الإنمائية في شتى مجالات الحضارة الإنسانية
وتطبيقاتها العملية.
6 - الإسهام في تطوير المجتمع وزيادة إنتاجية المنتجين للعمل على تقليل
نسبة البطالة المبطنة والواضحة.
7 - التخصص في الأعمال يعني المهارة لدى المختصين؛ وهذا بلا شك
يعني أن إنتاج المتخصص فيما تخصص به أجود من إنتاج غير المتخصص، وفي
هذا العصر تبرز وتتأكد أهمية التخصصات التقنية والفنية في تجويد الإنتاج الذي
حض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:» إن الله يحب إذا عمل أحدكم
عملاً أن يتقنه « [18] .
8 - القيم الإسلامية للعمل تجعل المجتمع يرتكز على قاعدة صلبة من
الدراسات العملية والتطبيقية القادرة على التعاون مع التكنولوجيا ومنجزاتها تعامل
المدرك لأسرارها والعالم بمكنوناتها.
9 - قيمة احترام العمل وتقديره تخلِّص الأمة الإسلامية من الافتقار إلى
موارد الغذاء والآلات والمصنوعات؛ فاحترام العمل وتقديره وإتقانه والنظر إليه
بصفته مبدأً إسلامياً سبب رئيس وطريق قوي لبناء الاقتصاد والتقدم العلمي، واللبنة
الأولى في إصلاح القيم السلبية تجاه العمل والعمال.
10 - إن إدراك الإنسان لمسؤوليته عن نفسه وسعيه وكسبه ومجتمعه وعن
مواهبه أيضاً وملكاته واستعداداته العقلية والجسمية النفسية يجعله يعمل بروح عالية
فيما يعود على نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته بالخير، ورفع مستويات ذلك من
الناحية المادية والمعنوية، كما يجعله مجالاً خصباً للدعوة.
11 - إتقان العمل من قيم الإسلام التي تعد من أهم أسباب نجاح الصناعات
التقنية الحديثة.
12 - ومن آثار القيم الإسلامية أنها يوجب الاهتمام بالعمل المهني والفني
والتقني؛ إذ سيسهم ذلك في الحد من نمو القوى العاملة غير المسلمة، كما يؤدي
الاعتماد على قوة العمل الإسلامية إلى رفع درجة تأهيلها للتكيف مع المتطلبات
التقنية الحديثة.
13 - إدراك قيمة المسؤولية يوجب على المسؤولين تحديد احتياجات المجتمع
الإسلامي تحديداً واضحاً وفق استراتيجية مرسومة على المدى الطويل تراعي
النواحي التنموية والتطورات الحضارية؛ لتتضح الرؤية تماماً، وتتحدد الأهداف
الكمية والنوعية، وتأتي الخطط المرحلية وافية بحاجات المجتمعات الإسلامية.
إن هذه القنوات والاعتبارات لتؤكد مسؤولية القائمين على العمل الدعوي
بخاصة والأمة الإسلامية بعامة دولاً ومجتمعات وأفراداً أن تتدارك هذا التهور التقني؛
فقد خصها الله وميزها بخصائص ومزايا تؤهلها لكبح جماح ذلك التهور والوقوف
به على تطويره وتسخيره في عمارة الأرض. ولكن السؤال المطروح هو: كيف
يتم ذلك وهي في مؤخرة الركب، ويسود معظم أفرادها ومجتمعاتها التخلف والرضا
بالواقع المكاني دون ركب التقنية الذي يقوده تطوره إلى تهوره؟ والإجابة عن هذا
السؤال تدعونا أن نتأمل أولاً موقف غالبية الأمة من التطور التقني المعاصر إعلامياً
وعملياً! والواقع أنه موقف مرير؛ فنحن بين مهتمين بنظريات ودعوات وندوات
وخطب ومواعظ ليس للتقنية وجود فيها ولا ذكر، وبين مهتمين بالتقنية غير مبالين
بالآداب والمبادئ والأخلاق الإسلامية. وثانياً ما حال العمل الدعوي؟ وأين مكان
التقنية الشاغر في ساحاته الإعلامية ومؤسساته الخيرية والتربوية؟ وماذا أعدت
لشباب الأمة: هل استهدفت تأهيلهم ليملكوا زمام كبح جماح التهور التقني وضبطه
في عالم اصطبغ بملوثاته، وعانى من أضراره التي باتت تخيم في سماء البشرية
أجمع؟
أسباب التخلف:
ومما يتوجب على القائمين بالعمل الدعوي دراسة أسباب التخلف، ودراسة
مقومات التقنية ووسائل ضبطها وإبقائها في مستوى التطور بما يخدم البشرية
جمعاء؛ وذلك بالعمل الجاد لإعداد أبناء الأمة لمعرفة أسرار التقنية ومنجزاتها،
وإدراك أسرارها وخفاياها. وأشير هنا إلى بعض عوائق التقدم وأسباب التخلف
والتأخر التقني في عالم المسلمين المعاصر؛ علها تفتح أبواب العمل الدعوي
لدراسة جادة لمقومات التقدم التقني ووسائله ضمن مشروعاته ونشاطاته
واهتماماته.
فمن العوائق ما يكون مادياً مثل:
1 - الأمية المنتشرة بين المسلمين وتمزق العالم الإسلامي المعاصر إلى دول
وأقليات.
2 - إهمال الدراسات التقنية في دول العالم الإسلامي، واعتمادهم على
الغرب والشرق في ذلك نظراً لعدم توفر وسائل البحث العلمي والتقني من الأجهزة
والمواد والقوى الفنية.
3 - فقدان التنسيق والتعاون والتشاور بين المؤسسات الدعوية والعلمية
والتقنية.
وإذا تجاوزنا هذه العوائق المادية وجدنا أهم العوائق المتصلة بذات المسلمين
ومن أهمها غياب التطبيق الصحيح للإسلام بصفته التشريع الشامل لجميع شؤون
الحياة، وغياب الفهم الصحيح لدور الإنسان المسلم، وانعدام الشعور بالمعنى
الحقيقي للأخوة الإسلامية ومتطلباتها.
إننا إذا أدركنا ذلك وأدركنا أن العالم الإسلامي يمتلك من المقومات المختلفة
للتقدم ما يؤهله للقيام بدوره فليس من العسير استخلاص الوسائل والطرق الكفيلة
باللحوق بركب الحضارة بل والتقدم التقني في عالمنا الإسلامي.
__________
(*) أستاذ الثقافة الإسلامية في الكلية التقنية بالرياض.
(1) رواه أحمد في المسند، تحقيق محمد سليم سمارة وزملائه، المكتب الإسلامي، بيروت، 1413هـ، والبخاري في الأدب المفرد، تحقيق كمال الحوت، عالم الكتب، بيروت، 1405هـ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (9) .
(2) أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (1441) .
(3) المسند للإمام أحمد، مرجع سابق، ج 2، ص 438، وضعفه الأرناؤوط في تحقيقه للمسند، رقم (15616) .
(4) أخرجه: البخاري، في كتاب الحرث والمزارعة، فتح الباري، ج 5، ص 2.
(5) متفق عليه.
(6) المقاصد الحسنة، للسخاوي.
(7) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1113) .
(8) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1113) .
(9) كيف تصبح غنياً وسعيداً، للأستاذ/ مصطفى أبو طحيش، ص 54.
(10) انظر المرتكزات الأساسية والمضامين التربوية لمكانة العمل من المنظور الإسلامي، للدكتور عطية عبد الصادق، بحث ضمن الكتاب السادس للجمعية السعودية للعلوم النفسية والتربوية، جامعة الملك سعود، 1416هـ.
(11) الفخر الرازي، التفسير الكبير، 7/ 80، دار الفكر، بيروت، 1398هـ، (طبعة مصورة) .
(12) في ظلال القرآن، 2970.
(13) الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، 228.
(14) المصدر السابق، 235.
(15) الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، 237.
(16) المصدر السابق.
(17) التربية عبر التاريخ، لعبد الله عبد الدائم، دار العلوم، 1973م، ص 210.
(18) صحيح الجامع، للألباني، رقم 1876.(167/37)
تأملات دعوية
سلامة المنهج والعصمة
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
مع انتشار الصحوة الإسلامية اليوم، وفشوِّ العلم الشرعي، كثر الحديث عن
المنهج والاعتناء بسلامته.
والمنهج يرتبط بالدعوة والتغيير ارتباطاً وثيقاً؛ ولذا فقد جاء ذلك في وصف
الطائفة المنصورة القائمة بالحق إلى قيام الساعة، وورد تحديد ذلك بقتال الدجال؛
ففي رواية أبي داود: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على
من ناوأهم حتى يقاتل آخرُهم المسيحَ الدجال» [1] .
وجاءت صفة هؤلاء أنهم من كانوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله
عليه وسلم وصحابته.
وخط الاهتمام بسلامة المنهج يتجه نحو الرقي والتصاعد، وهو أمر باعث
للفأل والاستبشار بمستقبل التغيير.
لكن الحرص على المنهج ليس وحده كافياً؛ فثمة أمور كثيراً ما يحصل الخلط
فيها، ومنها:
الربط بين المنهج والعصمة:
ونشأ عن ذلك الربط عدة ممارسات منها: التعامل مع الاتجاهات التي تسير
وفق المنهج السلفي على أنها معصومة وإن كان ذلك لا يقرر على المستوى النظري
فالنقد يتعامل معه بحساسية مفرطة، وردَّة الفعل تجاهه تركز حول الطعن في
السلفية وكراهيتها.
وفي الطرف المقابل يتعامل مع كل من يبدو عليه خلل منهجي بالرفض
والنفور، وتتحول النظرة إلى أحكام قاطعة بالرفض المطلق والقبول المطلق.
الخلط بين المنهج والأسلوب:
تتفاوت الاتجاهات الإسلامية اليوم في مدى انضباطها الشرعي والمنهجي؛
وثمة اتجاهات لها تجربة ثرية في مواقع عدة من العمل الإسلامي، وقد تكون حققت
جوانب من النجاح وسدت ثغرات عدة، إلا أن التحفظ المنهجي عليها قد يعوق
بعض الغيورين على سلامة المنهج عن الاستفادة من تجربتها، بل ربما تحول الأمر
إلى اعتبار المخالفة أمراً مقصوداً لذاته.
وفي المقابل قد يكون لدى بعض الاتجاهات التي تتسم بالانضباط الشرعي
والمنهجي إخفاق وفشل في تجارب ووسائل وبرامج عملية، فينشغل أصحابها عن
المراجعة والتقويم بالحديث عن سلامة المنهج، وقد يتلقى بعض المعجبين والمحبين
لهم الأمر مجملاً دون تمييز بين المنهج وبين الممارسة والأسلوب.
إن سلامة المنهج لا تغني أبداً عن سلامة أسلوب تقديمه للناس، والخطوة
الأخيرة لا تتم بمجرد وضوح معالم المنهج بل لا بد من الاعتناء ببرامج العمل التي
تتيح تقبل الناس له، وتجنب الدعاة تكرار الإخفاقات والتجارب غير الناجحة التي
كثيراً ما ينسبها الآخرون إلى المنهج ذاته، وقد أشار طائفة من أهل العلم إلى ذلك
عند حديثهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك قول شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله واصفاً حال من يفتقر إلى الفقه في أمره ونهيه: «فيأتي بالأمر
والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتدٍ في حدوده» [2] .
والخلاصة أنه لا بد من الاعتناء بالانضباط الشرعي والمنهجي، ولا بد من
دعوة العاملين للإسلام جميعاً إليه، ولا بد أن يضاف إلى ذلك تقديمه للناس بالقالب
والإطار المناسب، كما ينبغي ألا تشغلنا سلامة منهجنا عن التقويم والمراجعة
الجريئة لأساليب عملنا.
ولا بد من الارتقاء بالتفكير، وسعة الأفق وإلاَّ فسوف يتجاوزنا القطار،
ونفوِّت على أنفسنا فرصاً ثمينة.
__________
(1) رواه أبو داود (2484) ، وأصل الحديث متواتر.
(2) مجموع الفتاوى، (28/128) .(167/44)
فتاوى أعلام الموقعين
حكم ترشيح المرأة
حسنين محمد مخلوف
من المشكلات المزمنة: إقحام المرأة في ميادين تصادم طبيعتها وجِبِلَّتها،
وتضاد شرع الله المنزل، ومن ذلك أن تسند الولايات العامة للمرأة كالولاية العظمى
والقضاء ونحوهما، وقد سئل الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية
رحمه الله سنة 1952م، عن حكم ترشيح المرأة نفسها ودخولها مجالس النواب أو
الشيوخ أو الشورى ونحو ذلك فأجاب فضيلته:
بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله.
عُني الإسلام أتم عناية بإعداد المرأة الصالحة للمساهمة مع الرجل في بناء
المجتمع على أساس من الدين والفضيلة والخلق القويم، وفي حدود الخصائص
الطبيعية لكل من الجنسين، فرفع شأنها وكوَّن شخصيتها، وقرر حريتها، وفرض
عليها كالرجل طلب العلم والمعرفة، ثم ناط بها من شؤون الحياة ما تهيئها لها
طبيعة الأنوثة وما تحسنه؛ حتى إذا نهضت بأعبائها كانت زوجة صالحة، وأماً
مربية، وربة منزل مدبرة، وكانت دعامة قوية في بناء الأسرة والمجتمع.
وكان من رعاية الإسلام لها حق الرعاية أن أحاط عزتها وكرامتها بسياج منيع
من تعاليمه الحكيمة، وحمى أنوثتها الطاهرة من العبث والعدوان، وباعد بينها وبين
مظانِّ الريْب وبواعث الافتتان؛ فحرم على الرجل الأجنبي الخلوة بها والنظرة
العارمة إليها، وحرم عليها أن تبدي زينتها إلا ما ظهر منها، وأن تخالط الرجال
في مجامعهم، وأن تتشبه بهم فيما هو من خواص شؤونهم، وأعفاها من وجوب
صلاة الجمعة والعيدين مع ما عرف عن الشارع من شديد الحرص على اجتماع
المسلمين وتواصلهم، وأعفاها في الحج من التجرد للإحرام، ومنعها الإسلام من
الأذان العام، وإمامة الرجال للصلاة، والإمامة العامة للمسلمين، وولاية القضاء
بين الناس، وأثَّم من يوليها، بل حكم ببطلان قضائها على ما ذهب إليه جمهور
الأئمة، ومنع المرأة من ولاية الحروب وقيادة الجيوش، ولم يبح لها من معونة
الجيش إلا ما يتفق وحرمة أنوثتها.
كل ذلك لخيرها وصونها وسد ذرائع الفتنة عنها والافتنان بها حذراً من أن
يحيق بالمجتمع ما يفضي إلى انحلاله وانهيار بنائه؛ والله أعلم بما للطبائع البشرية
من سلطان ودوافع، وبما للنفوس من ميول ونوازع، والناس يعلمون والحوادث
تصدق.
ولقد بلغ من أمر الحيطة للمرأة أن أمر الله تعالى نساء نبيه صلى الله عليه
وسلم بالحجاب وهن أمهات المؤمنين حرمةً واحتراماً، وأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم تمس يده (وهو المعصوم) أيدي النساء اللاتي بايعنه، وأن المرأة لم تُوَلَّ
ولاية من الولايات الإسلامية في عهده ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهود
من بعدهم من الملوك والأمراء، ولا حضرت مجالس تشاوره صلى الله عليه وسلم
مع أصحابه من المهاجرين والأنصار؛ ذلك شأن المرأة في الإسلام ومبلغ تحصينها
بالوسائل الواقية فهل تريد المرأة الآن أن تخترق آخر الأسوار، وتقتحم على
الرجال قاعة البرلمان فتزاحم في الانتخاب والدعاية والجلسات واللجان والحفلات
والتردد على الوزارات والسفر إلى المؤتمرات والجذب والدفع، وما إلى ذلك مما
هو أكبر إثماً وأعظم خطراً من ولاية القضاء بين خصمين وقد حرمت عليها؟ !
واتفق أئمة المسلمين على تأثيم من يوليها تاركة زوجة وأطفالها وبيتها وديعة في يد
من لا يرحم؛ إن ذلك لا يرضاه أحد ولا يقره الإسلام؛ بل ولا الأكثرية الساحقة من
النساء؛ اللهم إلا من يدفعه تملُّق المرأة أو الخوف من غضبتها إلى مخالفة الضمير
والدين ومجاراة الأهواء، ولا حسبان في ميزان الحق لهؤلاء.
على المسلمين عامة أن يتعرفوا حكم الإسلام فيما يعتزمون الإقدام عليه من
عمل؛ فهو مقطع الحق وفصل الخطاب، ولا خفاء في أن دخول المرأة في معمعة
الانتخاب والنيابة غير جائز لما بيناه.
وإننا ننتظر من السيدات الفضليات أن يعملن بجد وصدق لرفعة شأن المرأة
من النواحي الدينية والأخلاقية والاجتماعية والعلمية الصحيحة في حدود طبيعة
الأنوثة والتعاليم الإسلامية قبل أن يحرصن على خوض غمار الانتخاب والنيابة،
وأن نسمع منهن صيحة مدوية للدعوة إلى وجوب تمسك النساء عامة بأهداب الدين
والفضيلة في الأزياء والمظاهر والاجتماعات النسائية وغير ذلك مما هو كمال
وجمال للمرأة المهذبة الفاضلة. ولهن منا جميعاً إذا فعلن ذلك خالص الشكر وعظيم
الإجلال. ذلك خير لهن والله يوفقهن لما فيه الخير والصلاح [1] .
__________
(1) عن كتاب: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، 7/1513 1515.(167/46)
نص شعري
ثورة ألم
صالح علي العَمري
العينُ تبكي على إخوانها ألما ... والقلب في هذه الدُّنيا ينزُّ دما
والكون مكتئب الأنفاس منتكسٌ ... وكان في سالف الأيام مبتسما
كان الهدى والتقى والنصر مؤتلقاً ... فأصبح البؤسَ والآهاتِ والندما
ما غيّر الكون لا خسفٌ ولا غرقٌ ... إلا معاصٍ فَشَت في الكون فاضطرما
يا عينُ جودي بدمعٍ صادقٍ ودمٍ ... وابكي المآثر والأمجاد والقيما
وارْثي دياراً من الإسلام خاليةً ... كانت تشعُّ الهدى والحبَّ والكرما
وساحة الحق تشكو الظلم في أسفٍ ... ألاّ ترى من عدو الله منتقما
كأننا ما ركبنا الخيل مُسرجةً ... وجيشنا في سبيل الله ما انتظما
كنا نصون على حصبائها ذمماً ... فانظر لأعدائنا لا تحفظ الذمما
أجدادنا طوّعوا الدنيا لخالقها ... وعلّموها معاني خلقها قِدَما
تألقوا في رؤى الأخلاق كوكبةً ... وإن شدا البأس كانوا الشهب والرجما
تحدثي يا رُبا الشيشان وانتحبي ... ويا فلسطين أفدي ذلك الحرما
يا روضة الصين. . يا كشمير عزتنا ... قولا لقلبي المعنَّى كيف حالكما؟!
وهل يجيبك في البلقان من أحدٍ ... إلا دماءٌ زكياتٌ وأيُّ دِمَا؟!
ما با لنا ما حفظنا عهد خالقنا ... وما رعينا عرى الإيمان والرحما؟!
كأن في العين عن أشلائكم حجباً!! ... أو أن في السمع عن آهاتكم صمما!!
ماذا أُسطّر والتاريخ يشهدني ... وقد قتلنا على أشداقنا الكلما؟ !
نوح الأرامل يا تاريخ يفضحني ... قد مُتن في البيد من جوعٍ وطول ظما
كم زهرةٍ في يد الطغيان ذابلةٍ ... باتت تناجي الغضا والريم والسلما
هل من ثرى نجد من يهفو لنجدتنا ... أو من ربا النيل من يستنهض الهمما
أو حملة من بني عثمان صادقة ... تحمي حمانا فيغدو شعثنا لمما
الله. . يا رهبة الأشلاء داميةً!! ... يا شيبةً لم يجد في الأرض من رحما
يا مرضعاً قتلت في جوف مسكنها!! ... يا طفلةً هُتكت لم تبلغ الحُلُما!!
يا ألف أمٍّ أهان العِلْجُ عفّتها ... وطفلها بلظى الرشَّاش قد فُطما
لو أُنطقت قسوة الأحجار في زمني ... لأسمعتنا الأسى والحزن والألما
تصيح مهتوكة الأستار في فزعٍ ... فما نقلنا إلى إنقاذها قدما
ويجأر الشيخ في ضعفٍ وفي قلقٍ ... ويشعل الضير في أعماقه حمما
ما بال إخوتنا. . هانت مصيبتنا ... إن المصيبة ألا يرفعوا علما
يدحرجون على آلامنا كرةً ... ويعزفون على أشلائنا نغما
من أين للعين أن تُجلى بدمعتها ... وفي العيون عن النور المبين عمَى!!
لقد قُتلت فما أبكيت ذا كبدٍ ... وقد صرخت فما أسمعت معتصما
أدعوك يا رب دعوى من يموت أسى ... ومن رآك تزيل الضرّ فاعتصما
أدعوك دعوة من تنهلّ عبرته ... من كان في عزّةٍ فانذل وانظلما
أن تكشف الكرب يا ربي وتنصرنا ... وأن تسخّر للثارات منتقما
ما لي سوى الله والدنيا تناوشني ... والأرض تقذف من بركانها حمما
ما لي سوى الله والأمواج تصرعني ... وقاربي في لجاج الهمّ قد هُزما
ظننت أني بكُثر القوم مغتبطٌ ... فصرت من بعض قومي أبتغي العدما
لو كنت أمضي بشرع الله معتصماً ... لكان ذكري على الأيام محترما!!
قد يصمد السدُّ يثني كل هائجةٍ ... لكنْ إذا شيك في أركانه انهدما!!(167/48)
البيان الأدبي
قصة قصيرة ... قارب النجاة
إسلام دعدوشة
خرج من الفندق الضخم الذي غالباً ما ينزل فيه مدة إجازته رغم أن لديه شقة
في القرية. لقد قرر أن يُجشِّم نفسه مشقة السفر إلى قريته بين حين وآخر ليزور
بعض الأهل، ويتفقد أحوال صديق صباه وشبابه؛ فمنذ أن بدأت رحلة الغربة لم
يزر القرية التي ترتمي في أحضان الحقول الخضراء، ولم يملأ رئتيه من أريج
أشجار التفاح.
الطريق موحش ومترب، غاصتْ قدماه في طريقها المترب الطويل. وطافت
بذهنه وهو يتهاوى في كلل وسأم ذكرى يوم أن عزم على السفر والغربة وصوت
صديقه الهامس يدوي:
- أخاف عليك من هذه الغربة.. إنها مغامرة.
- سأجرب حظي.
اختار صديقه كلية الطب، فلقد كان مولعاً بشفاء الأبدان من أدوائها وأسقامها،
وليخفف من أتراح الملهوفين وأناتهم، واختار غريب كلية التربية ليعالج الصدور
من أمراضها وجواها، ولتحيا قلوبهم وأرواحهم بنور البصائر.. إنها رسالة واحدة؛
فبالطب تحصل حياة الأبدان والأشباح، وبالعلم تحصل حياة القلوب والأرواح؛
فالظلام والفقر والمرض ثالوث مرعب يخيم على أهل القرية. ويتردد صوت
صابر وهو يودعه بكلماته المؤثرة:
- أتمنى ألا تخرج من أحلامك كما خرجت من قريتك.
- لا تخف.. سنة أو بعض سنة ونعود لنكمل رسالتنا.
وطالت رحلة الاغتراب لكنه عازم على أن يضع حداً لغربة طالت؛ فهل
تنتهي غربته عن نفسه حين يضع عصا الرحيل والسفر؟ !
نعم! إن جيوبه الآن ممتلئة بالدراهم لكن قلبه فارغ من الأهداف، خالٍ من
المشاعر، إنه يستطيع أن ينثر الدراهم التي جمعها في أعين الآخرين، ويمكنه أن
يدسّها في جيوبهم ليحقق مآربه وأمانيه، ووسط هذا الشرود اعترض طريقه بعض
أهل القرية فحياهم ببرود وفتور. وقاده أحدهم إلى منزل صديقه.
وهرول الصديقان فتعانقا، وأجلسه صابر إلى جانبه قليلاً.
- كيف حالك يا غريب؟ منذ وقت طويل لم نتقابل.
- لكن قدر الله أن نلتقي ثانية.
وجاء ابن صديقه بالشاي، فراحا يحسوانه، وأخذا يقلبان صفحات ذكريات
ثرّة.. وابتدره صابر:
- ترى هل قررت أخيراً الاستقرار وإنهاء هذه الغربة؟
- نعم! لكن الاستقرار سيكون في المدينة، فلم أعد أطيق هذا الموات!
- آه ... لقد تغيرت كثيراً.
- لا بل أفكارك أنت لا تزال تقليدية تماماً مثل هذه القرية الموحشة.
اغتصب ضحكة وواصل:
- حدثني عن أحوالك وأفكارك بالتفصيل.
- أنوي بناء مستشفى أهلي خمسة نجوم، فهل تضع يدك في يدي؟
- عظيم.. لكن..
- أعرف أنك ستقول: لِمَ لا نجعل هذا المشروع في القرية؟
- ولِمَ لا؟ الأقربون أوْلى بالمعروف، وليكن بجانب المستشفى «معهد ديني»
ينشر النور في ربوع القرية؟
فردَّ متململاً:
- ألا زلت قائماً على هذه الأوهام؟ أتظن أني مجنون أنثر الصدقات وألقيها
على كل من هب ودب؟ !
ساد صمت مطبق، لقد أصبح شخصاً غريباً، إنه تاجر لا مجال عنده
للعواطف، يحمل في جيبه آلة صغيرة تحسب له كل شيء الربح والخسارة، لم يعد
يقنع إلا بحديث الأرقام.
- وهل خُلق أمثالنا ليعيشوا لأنفسهم كما يعيش الرعاع البشري الهائم؟
- الإنسان يعيش مرة واحدة، ليعبر قنطرة الفقر المخيم على القرية.
وصل غريب إلى الثراء الذي كان يحلم به ويرغب فيه.. ولكنه انسلخ من
القرية الفقيرة، تغيرت أفكاره، وتبدلت نظرته للحياة؛ فأحاديثه كلها عن شراء
قطعة أرض هنا أو بناء عمارة هناك.. لكنَّ وجهه تعلوه سحابة من الضجر والأرق،
وعيناه يكحلها القلق، فطفق يشعل السيجارة من السيجارة. فانطلق صوت صديقه
يهدئ من روعه:
- يكاد القلق يحرق قلبك كما أحرق الدخان شفتيك؟ !
- لا أدري إني خائف ألاَّ يكفينا راتبي الذي سأحصل عليه هنا
- الأمر بسيط.. غيِّر قليلاً من عاداتك.
- لكني أفكر في مستقبل الأولاد الثلاثة.. وكيف أضمن لهم مستقبلهم فلا
يتعبون مثلي.
- إن تأمين مستقبل أولادك لا يكون إلا بشيء واحد.
- وما هو؟ .. لكن لتكن واقعياً.
- أن تكون رجلاً صالحاً، فتفكر في غيرك وتعيش للآخرين.
- آه.. كف عن هذه المثاليات.. وانشغل بتأمين مستقبل أولادك.
لكنَّ صابراً رد في ثقة وهدوء:
- صدقني يا غريب! صلاح الآباء هو التأمين الحقيقي لمستقبل الأبناء،
وجرب مرة أن تعيش لغيرك ولأمتك.
وافترقا دون أن يقتنع كل منهما بوجهة نظر صاحبه. وبدأ الجو يعبق بجنان
الشتاء المولي وبشائر الربيع، وتوارت الشمس خلف الأفق تسكب دماً قانياً على
الوجود الذي تلفع بالسواد. وارتفع صوت المؤذن فوق المئذنة القديمة المتهالكة.
ودلف غريب إلى المسجد ليصلي مع المصلين لعله يجد برد الراحة، ويسكت عنه
القلق.
واختلط صوت المؤذن بكلام صديقه الذي يدوي في مسامعه:
- التأمين الحقيقي أن تكون رجلاً صالحاً تعيش للناس. وانطلق صوت العم
رمضان إمام المسجد يتلو آيات من سورة الكهف. يا له من صوت عذب افتقده منذ
سنين! تذكر سورة الكهف التي تعود أن يهذها هذَّ الشعر غداة يوم الجمعة بلا أدنى
فهم أو تدبر وكأنه يسمعها لأول مرة، وانتهى العم رمضان إلى قوله تعالى: [وَأَمَّا
الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ] (الكهف: 82) .
كاد عقله يطيش وهو يسمع هذه الآيات، لقد حفظ الله الغلامين بصلاح
الأب.. هكذا يجني الولدُ صلاحَ الوالد.
جلس يستغفر، وبدأ برد السكينة يدب في عروقه، لقد أعادت هذه الآيات
الكريمة روحه إلى جسده المتعب، لقد انتهت غربته على عتبة هذا المسجد، فليست
السعادة كما تخيل في فراشٍ وثير ومالٍ وفير.
وبات يتساءل:
- كيف استحالت نفوسنا قبوراً تحمل أرماس رسالة خالدة؟ فمَن لمن أشله
الجهل وأعماه؟ ومَن للقطيع الشارد عن مولاه؟ ومَن للتائهين في لجج الحياة؟
من لكل هؤلاء إذا انكفأ أهل الخير على مرآة ذواتهم، وعاشوا لأنفسهم؟ !
حقاً إن هذا اللهاث المادي، والعيش في سرداب الذات جعل من روح الإنسان
العلوية نفساً دنية دنيوية، تنتهي كحمار الرحى لا ينقطع عن الدوران لحظة ليل أو
نهار.
لا والله لن يبرح القرية بعد اليوم، الآن فقط انتهت غربته الحقيقية، واهتدى
أخيراً إلى الطريق.(167/50)
الإسلام لعصرنا
حُماة الرذيلة
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
يبدو أنه ما من مجتمع بشري إلا وفيه دعاة إلى نوع من الفضيلة وحماة
للرذيلة، وأن حال المجتمع ومصيره رهين بغلبة أحد الفريقين. وأعني بالفضيلة
أشياء مثل الصدق والعدل والأمانة والعفة وعدم الانغماس في الشهوات، والتحذير
من كل ما يؤدي إلى ذلك من وسائل. هذه الأمور من الفضائل التي ركزها الله في
طبيعة البشر، والتي تأتي أنوار الرسالات لتؤكدها وتشرع للناس ما يتناسب معها
من عقائد وعبادات ومعاملات.
أريد أن أعطي القارئ الفاضل أمثلة من هذا لبعض ما اطلعت عليه في الغرب
في الأسابيع الأخيرة من غير بحث ولا تنقيب.
قرأت قبل بضعة أسابيع مقالاً بجريدة (نيويورك تايمز) يسخر فيه صاحبه
من كثير من الفضائل التي يتميز بها المجتمع السعودي، ويقول إنها تعوق فتح باب
السياحة للأجانب، ويرى أن الاستفادة من هذه السياحة تتطلب التخلص من تلك
الفضائل، وأن تستبدل بها الرذائل التي اعتاد عليها في بلده والتي أصبح كثير من
أمثاله حتى في بلادنا يرونها ضربة لازب لكل مجتمع يريد أن يرتقي إلى مصاف
الدول المتحضرة بزعمهم. يسخر من الحجاب، ومن قتل القاتل، ومن منع اختلاط
الرجال بالنساء، ومن توقف العمل لأداء الصلاة. ويقول: إن فكرة تجوال امرأة
شابة غير متزوجة وهي لا ترتدي إلا ... هو مما يراه السعوديون أمراً مرعباً.
لم أعرف تلك اللبسة التي ذكرها حتى سألت عنها، فإذا بها لبسة لا تغطي من
جسم المرأة إلا شيئاً من صدرها، وشيئاً قليلاً مما فوق ركبتيها بكثير إلى ما تحت
خاصرتها! هذا الذي يراه هذا المطموس الفطرة أمراً طبيعياً، بينما يرى الحجاب
أمراً منكراً.
ثم قرأت بعد أسابيع من ذلك في جريدة (الواشنطن بوست) مقالاً يقول: إن
تلك اللبسة صارت اليوم معروضة في كبرى المحلات التجارية ضمن ألبسة طالبات
المدارس حتى اللائي لم يبلغن سن العاشرة! لكنه يذكر أن كثيراً من الآباء احتجوا
على الدعاية لها، وأن بعض الأمهات رفضن أن يشترينها لبناتهن رغم إلحاحهن
الشديد، وأن بعض مدراء المدارس يفكر الآن في فرض زي معين للطالبات. فمن
الذي سينجح في هذه المعركة إن كانت معركة؟ أغلب ظني أنهم حماة الرذيلة.
وكنت قد ذهبت قبل أسبوعين إلى لندن للمشاركة في مؤتمر عن العولمة نظمه
المنتدى الإسلامي. وأثناء وجودي بالفندق كنت أقرأ بعض الصحف اليومية وبعض
المجلات، كما أشاهد التلفاز. فوجدت في تلك الأخبار العجب العجاب. سمعتهم
يتحدثون عن برنامج عرضته إحدى القنوات التجارية أثار سخط الآباء والأمهات،
بل سخط بعض الوزراء والوزيرات. أتدرون عما كان البرنامج؟ كان عن المبتلين
بالميل الجنسي إلى الأطفال. ويبدو أنه عرضت فيه صور فاضحة وأنه سخر من
الاعتراض على هذا الانحراف. لكن حماة الرذيلة وعلى رأسهم المسؤول عن القناة
جاء يدافع عنه ويزعم أنه لا يرى فيه منافاة للأخلاق!
ثم قرأت في إحدى الجرائد عن فيلم سيعرض بعد أسابيع يشاهد فيه الشعب
الإنجليزي لأول مرة الفاحشة تمارس على شاشات السينما. بل إن الدعاية له التي
نشرتها الجريدة والتي رأيتها بعد ذلك معلقة في الأماكن العامة تتضمن شيئاً من ذلك
المنكر. قالت إحدى الكاتبات في تلك الجريدة: هل نحن مقبلون على ممارسة
الجنس في قارعة الطريق؟ وتذكرت كما أن القارئ لا بد أن يكون قد تذكر الحديث
الذي رواه أبو يعلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتكلم عن آخر الزمان:
«والذي نفسي بيده لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في
الطريق؛ فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريتَها وراء هذا الحائط» [1] .
لكن منتجي الفيلم، وكاتب القصة التي بني عليها ظهروا على شاشات التلفاز
يدافعون عن هذا المنكر ولا يرون فيه شيئاً منافياً للأخلاق.
ثم قرأت بإحدى المجلات مقالاً طويلاً بعنوان: (عصر الانحطاط) ذكَّرني
بكتاب جديد في تاريخ الثقافة الغربية عنوانه: (من الفجر إلى الانحطاط) ، عرفت
من صاحبة المقال أن ذينك البرنامجين المذكورين آنفاً كاناً ضمن سلسلة من
المنكرات التي توالت في مدى بضعة أسابيع بتلك البلاد، منها اعتراف أحد الكبار
بأنه أقسم أمام القضاء كاذباً، واعتراف بعض المتزوجين لوسائل الإعلام بأنهم زنوا،
ومنها كثرة العلاقات الجنسية بين أقرب المحارم. لكن هذا الكلام لم يعجب إحدى
حاميات الرذيلة فكتبت في إحدى جرائد التابلويد تسخر من الكاتبة ومن المجلة التي
نشرت المقال. وكان مما قالته: إن زنا المتزوجين ليس بالخطيئة الجديدة؛ فلا يعد
معياراً لانحطاط الأمم. أقول: نعم! إنه ليس بالخطيئة الجديدة؛ بل قد يحدث في
أكثر المجتمعات عفة. لكن هناك فرق بين أن يكون حوادث شاذة متناثرة، وبين أن
تعم به البلوى فيكون سمة للمجتمع. وأقول للكاتبة: ما رأيها فيما نشرته الجرائد
عن مسرحية ظهر فيها أحد الممثلين عرياناً أمام الجمهور، ثم أعطاهم قفاه و ...
تخيلوا ماذا؟ تغوط! أترى هذا أيضاً لا يدل على الانحطاط حتى في الأذواق؟
إن الإجرام دركات؛ ففرق بين أن يرتكب الإنسان جرماً محصوراً في نفسه،
وبين أن يتباهى به ويعلنه على الناس، ثم بين هذا وبين من يدعو إليه ويسعى
للدفاع عنه وحماية مرتكبيه. هؤلاء هم شرار الخلق وهم سبب انحطاط الأمم
وهلاكها. وقد أعطانا ربنا صورة واضحة عنهم لنسعى جاهدين لقمعهم ودفع باطلهم
تعلمنا من كتاب ربنا أن بعض الناس لا يفعل الغواية فحسب، بل يحبها ويكره
الهداية. [وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى] (فصلت: 17) ،
وأن بعض الناس لا يرتكب الفاحشة فحسب بل يحب لها أن تنتشر ولا سيما بين
الصالحين. [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا] (النور: 19) ،
وأن بعض الناس يحب الكفر والفسوق والعصيان إلى درجة تجعله مستعداً لأن
يبذل كل ما في وسعه للدفاع عنها بالحجة والمال، بل بالنفس وكل رخيص وغال.
[كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ
يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] (المائدة: 64) .
[وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوَهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ] (الأنعام: 121) .
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ
حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال: 36) .
[الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] (النساء: 76) .
وأنت ترى في هذه الآيات الكريمة وغيرها كيف أن الله تعالى لا يكتفي
بإخبارنا عن باطلهم، بل يحثنا على مدافعته وتغييره. فعلى المؤمنين بالحق أن لا
يقفوا عند حدود الاستمساك السلبي به، بل أن يكونوا متعاونين في الدعوة إليه،
والدفاع عنه، والسعي لقمع أعدائه بالحجة والبرهان، وبذل النفس والنفيس.
[وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ]
(الأنفال: 73) . إن حماة الرذيلة لا يقفون عند حد الدفاع عنها، بل يسعون لمحو
معالم كل فضيلة مضادة لها. لكن الذي يمنعهم من ذلك هم جنود الحق المدافعون
عنه الباذلون الجهد لإعلاء كلمة الله.
[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة: 251) .
__________
(1) مسند أبي يعلى، رقم 6183، الفردوس بمأثور الخطاب، رقم 7044.(167/52)
ندوات ومحاضرات
مع الانتفاضة في عامها الأول
(1 - 2)
ضيوف الندوة:
* فضيلة الشيخ: حسن يوسف: من القيادات البارزة في حركة حماس في
الضفة الغربية رام الله.
* الدكتور: محمد صالح: عضو مؤسس في حركة حماس، ممن شهد النكبة
عام 1948م.
* الأستاذ الدكتور: سيف عبد الفتاح: أستاذ العلوم السياسية، كلية الاقتصاد
والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
* الأستاذ الدكتور: عبد الستار فتح الله سعيد: أستاذ التفسير بجامعتي الأزهر
وأم القرى سابقاً.
المحور الأول: حول المرحلة السابقة من العمل الإسلامي في فلسطين
قبل الانتفاضة الأخيرة:
البيان: ما هي قصة الانتفاضة السابقة عام (1408هـ / 1987م) ، وما
هي أهم ثمراتها التي قطفت، وما أهم ثمراتها التي خطفت؟
يجيب الدكتور محمد صالح:
في الحقيقة لم تكن الانتفاضة الأولى وليدة ساعتها ولكنها كانت ثمرة تنامي
العمل الإسلامي داخل فلسطين بعد أن تراجع دور منظمة التحرير في المقاومة على
إثر خروجها من لبنان نتيجة للاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1982م.
ونتيجة لانتشار الحركة الإسلامية الواسع داخل فلسطين أصبحت الحركة في
مواجهة مع الأحداث؛ فبدأت بتشكيل أجهزة أمنية عسكرية ومجموعات مقاومة
مدنية على مستوى الأحياء والقرى والمدن قبل عدة سنوات من انفجار الانتفاضة،
وقد بلغت تلك التشكيلات مرحلة متقدمة في قطاع غزة على وجه الخصوص قبل
الانتفاضة بأكثر من عام.
ومنذ عام 1984م قام جناح الحركة الإسلامية خارج فلسطين بتشكيل أجهزة
عديدة من أبناء فلسطين في الشتات للقيام بأنشطة متعددة أهمها الجهاز المالي
والسياسي وكذلك الإعلامي؛ وذلك قبل الانتفاضة بنحو ثلاثة أعوام، وقد تنامى هذا
العمل في كافة ساحات الشتات الفلسطيني وخاصة في العالم العربي وفي الغرب.
لقد تزايد التوتر ضد الاحتلال في أواخر عام 1987م، وتزامن ذلك مع قرار
الحركة الإسلامية بالبدء بمقاومة الاحتلال، فتفجرت الانتفاضة على إثر حادث
السيارة المعروف، وذلك عندما قام مستوطن إسرائيلي بصدم ثلاثة فلسطينيين عمداً
في قطاع غزة، مما أدى إلى استشهادهم.
وثار الشارع الفلسطيني في قطاع غزة على إثر هذا الحادث الاستفزازي؛
فبدأت الانتفاضة في القطاع بشكل قوي ومنظم تقودها الحركة الإسلامية بشكل
ظاهر ولكن غير معلن، لتمتد بعد ذلك إلى الضفة الغربية بالنهج المتمثل في
التصدي لقوات الاحتلال الإسرائيلية بالحجارة، وقد ظهر ذلك إلى العلن مع صدور
أول بيان عن الحركة الإسلامية بخصوص الانتفاضة بعد أسبوعين من بدايتها.
ظلت حركة فتح والمنظمات الفلسطينية الأخرى مترددة حيال الانتفاضة؛
لأنها لا تعلم شيئاً عنها، إلى أن اتخذت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية المنعقدة في
بغداد قراراً بدعم الانتفاضة والمشاركة فيها بعد نحو شهر من بدايتها.
ثم إنه وعلى إثر اجتماع بين قيادات الحركة الإسلامية داخل فلسطين وخارجها
بعد نحو أسبوعين من بداية الانتفاضة تم الاتفاق على قيام حركة المقاومة الإسلامية
حماس، وتشكلت في حينها قيادة عليا للحركة في خارج فلسطين وقيادة ميدانية في
كل من الضفة وقطاع غزة، وصدر في حينها أول بيان لحركة حماس من داخل
فلسطين.
وتشكلت بعد ذلك (كتائب الشهيد عز الدين القسام) الجناح العسكري للحركة
داخل فلسطين، وكان تركيز عملياتها على القوات الإسرائيلية المسلحة بما في ذلك
المستوطنون، وكانت معظم عملياتها خارج المدن، ولقد استمر ذلك النهج في نمط
العمليات حتى عام 1993م، حين اتخذت قيادة كتائب القسام قراراً بمعاملة المدنيين
الإسرائيليين بالمثل، وذلك على إثر قيام الإسرائيليين بقتل أعداد كبيرة من
الفلسطينيين العزل، وبدأت كتائب عز الدين القسام بتنفيذ عملياتها الاستشهادية ضد
العسكريين والمدنيين، ولقد أعلنت كتائب القسام أكثر من مرة بأنه في حال توقُّف
الجيش الإسرائيلي والمستوطنين عن استهداف المدنيين العزل من الفلسطينيين فإنه
يمكن لكتائب عز الدين القسام أن توقف عملياتها الاستشهادية ضد المدنيين
الإسرائيليين.
البيان: ما هي في رأيكم أهم ثمرات الانتفاضة التي قطفت؟
يجيب الشيخ حسن يوسف من قيادات حماس في رام الله:
من هذه الثمرات: عبور الإسلاميين إلى ميدان العمل الجهادي في فلسطين،
وما يحمله ذلك من وزن ومغزى يعطي الصراع عمقه العقائدي والحضاري، وهو
ما كان غائباً تقريباً طيلة الفترة من 1948 1987م باستثناء الحضور المؤثر في
حرب 1948م، ثم النشاط الإخواني في النصف الأول من الخمسينيات في قطاع
غزة.
وكان للحضور الإسلامي الفاعل في انتفاضة 1987م دوراً أساسياً في إعادة
الاعتبار للإسلاميين في العالم العربي والإسلامي تجاه مشاركتهم في الساحة
الفلسطينية وحمل همِّ القضية والجهاد والنضال في جبهاتها المختلفة، وكان لهذا
الحضور أيضاً الدور المقرر في أن يعترف الوطنيون/ العلمانيون في الساحة
الفلسطينية بشرعية الوجود الإسلامي الذي طالما كان منفياً ومشكوكاً فيه حتى اندلاع
انتفاضة 1987م.
وأيضاً غدا الإسلاميون ومن خلال تصاعد تجربتهم الجهادية وبروزها خلال
الانتفاضة العنوان الوحيد الحامل لمشعل مقاومة المشروع الصهيوني الذي تعاقب
على حمله أجيال الفلسطينيين في مائة العام الماضية، وخاصة حينما حان وقت
الحلول وتصفية القضية، ولو أن انتفاضة 1987م تركت دون عوائق الاتفاقيات
والمؤامرات على العمل الجهادي لأصبح الإسلاميون؛ ليس فقط قادة الساحة
الفلسطينية دونما منازع، بل لأمكن بعون الله انتزاع حقوق على الأرض.
ونذكر أيضاً أنه في انتفاضة 1987م ارتفعت نسبة التدين والإقبال على الله،
وانتشار قيم التماسك والتضامن الاجتماعي التي يُعتبر الإسلام وقيمه وأخلاقياته
حاضنها وراعيها، وفي حالتنا غدا الدين الحامي الأهم لهويتنا الوطنية أمام الاحتلال
وقيمه المادية والعنصرية.
البيان: وما هي أهم ثمراتها التي خطفت؟
يجيب الدكتور محمد صالح:
- كان مقرراً أن تستمر الانتفاضة وتتصاعد في المناطق المحتلة (الضفة
والقطاع) ، وأن تتطور المقاومة المسلحة إلى أن يتم دحر الاحتلال، ولكن اتفاق
أوسلو عاجل الانتفاضة وأجهض أهدافها. وتتحمل منظمة التحرير الفلسطينية
المسؤولية الكاملة عن هذا الإخفاق، وخاصة أنه لم يكن هناك مسوِّغ سياسي أو
اقتصادي أو حتى عسكري لتوقيع ذلك الاتفاق المهين، اللهم إلا خوف منظمة
التحرير الفلسطينية وقياداتها من صعود نجم الحركة الإسلامية ومنافستها على قيادة
الشعب الفلسطيني بعد أن شاخت قياداتها وعجزت عن احتواء تقدم حركة حماس
جماهيرياً وعسكرياً وسياسياً على مستوى الداخل ومستوى العالم العربي والإسلامي.
- كان من أهداف الانتفاضة الإعلان عن وحدة الشعب الفلسطيني حول هدف
التحرير، وحشد طاقات الأمة العربية والإسلامية لدعم المقاومة داخل فلسطين،
وزيادة الحصار حول (إسرائيل) وصولاً إلى الحصول على التأييد العالمي لمساندة
الحق الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وإقناع الغرب بأن (دولة إسرائيل) لا
تحقق أهدافهم بالسيطرة على الشرق الأوسط بل تؤدي إلى تزايد العداء ضدهم في
حال استمرار دعمهم لـ (إسرائيل) ، وجاء اتفاق أوسلو ليخرج بالسلطة
الفلسطينية عن الإجماع العربي، ويفتح الباب أمام الاختراق الإسرائيلي للعالم
العربي والإسلامي ودول عدم الانحياز، كما تسبب في ضرب وحدة الشعب
الفلسطيني.
- وكان من أهم أهداف الانتفاضة دفع اليهود إلى الهجرة المعاكسة من
(إسرائيل) ؛ فجاء اتفاق أوسلو ليفتح الباب أمام هجرة يهودية كبيرة جديدة، وليؤدي
إلى تزايد وتيرة الاستيطان في القدس والضفة الغربية وغزة.
البيان: كيف توقفت الانتفاضة تلك الأولى، وما الأطراف التي تسببت في
ذلك التوقف؟
يجيب الدكتور محمد صالح:
لقد توقفت الانتفاضة على إثر توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير
الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وبين الدولة العبرية؛ فانسحبت حركة فتح
والمنظمات الفلسطينية التي قبلت خيار السلام مع (إسرائيل) من ساحة المواجهة
ومن المشاركة في فعاليات الانتفاضة الجماهيرية، وأعلنت معارضتها لأي عمل
عسكري ضد (إسرائيل) .
وبانتقال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من تونس إلى فلسطين وقيام السلطة
الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة توقفت فعاليات الانتفاضة الشعبية تماماً،
ولكن العمليات العسكرية بشكل عام والعمليات الاستشهادية بشكل خاص لم تتوقف،
بل تزايدت وتصاعدت وتيرتها بشكل كبير، حتى بلغت ذروتها في عام 1996م؛
مما أدى إلى عقد مؤتمر مقاومة الإرهاب (أو مؤتمر السلام) بقيادة الولايات
المتحدة في شرم الشيخ، وحينئذ تعهدت السلطة الفلسطينية بالتصدي لحركة حماس
وقامت باعتقال كافة عناصرها العاملة في مجال العمل الخيري والسياسي والإعلامي
إلى جانب كل من يشتبه بعلاقته بالعمل الجهادي، ولقد تعاونت كل من السلطة
الفلسطينية والأردن والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مع (إسرائيل) في
ملاحقة أبطال المقاومة المسلحة وكل من له صلة بها داخل فلسطين وخارجها
وخاصة في الأردن وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
ويضيف الشيخ حسن يوسف:
وفعلت السياسات الاحتلالية فعلها في إنهاك الناس؛ فقد كانت تقتل، وتعتقل
الآلاف، وتبعد بالعشرات، وفي مرات بالمئات، هذا فضلاً عن نسف البيوت،
وفرض الغرامات والضرائب، والتنكيل بالناس، وفرض الحصارات المتكررة.
واجتمعت عوامل القوى التي كان لها تأثير كبير على المجتمع الفلسطيني
ورسم مستقبله لتعمل على تطويع الانتفاضة وتوقفها عن المضي، وإذا كانت أوسلو
هي اللحظة التي يشار إليها على انتهاء انتفاضة 1987م فما كانت لتحدث لولا ما
يجمع عليه المحللون فضلاً عن صانعي القرار أنفسهم (انظر في ذلك ما كتبه كل
من بيرس، أوري سبير، ايهود باراك، محمد حسنين هيكل، عزمي بشارة،
توفيق أبو بكر، إيليا زريق، المستشرق اليهودي باروخ كيمرلينج، الباحثة
الأمريكية سارة روي، وغيرهم الكثير) من أن سببها المباشر كان الخوف من
تعاظم قوة الإسلاميين التي كانت آنذاك آخذة في التصاعد، أي إن الانتفاضة كانت
مرشحة على يد الإسلاميين إلى تطور جديد من المقاومة والمواجهة، إلا أن مصالح
الإسرائيليين وقيادة عرفات آنذاك ومصر والأردن وغالب الدول العربية كانت
متوافقة مع نتائج اتفاق أوسلو، وهي بهذا شبيهة بالكتاب الأبيض الذي تمخض عن
لقاء الدائرة المستديرة عام 1939م الذي أنهى ثورة 1936م؛ حيث اتفقت آنذاك
القوى المؤثرة في المستقبل الفلسطيني على حل لم يوافق عليه آنذاك الفلسطينيون
ولا اليهود على السواء.
البيان: هل يمكن أن يتكرر سيناريو الإيقاف وهذا السؤال نتوجه به إلى
الأستاذ الدكتور سيف عبد الفتاح؟
أ. د. سيف عبد الفتاح:
يمكن أن نقول بالفعل كما قال أحد المحللين متحدثاً عن ثلاثة أطوار مر بها
العمل الفلسطيني في الفترة الماضية:
الطور الأول: هو الذي يتعلق بانتفاضة من غير سلطة واستغرق فترة سبع
سنين.
ثم الطور الثاني: سبع سنين أخرى سلطة بغير انتفاضة.
ثم المرحلة الأخيرة: جاءت فيها الانتفاضة مع السلطة.
أنا أظن أن هذا مفتاح جيد للإجابة عن التساؤلات حول الواقع الانتفاضي.
الأمر الذي يتعلق بالانتفاضة الأولى؛ هل توقفت الانتفاضة الأولى؟
نستطيع القول إن الانتفاضة الأولى لم تتوقف تلقائياً ولكن الدرس الذي ينبغي
أن نتعلمه هو أنه حدث ما يسمى بالالتفاف حول الانتفاضة، كان ذلك في إطار وعد
من سلطة فلسطينية أتت على الأرض تحاول أن تروِّج لهؤلاء أن السلام قادم لا
محالة، وأن السلام مع (إسرائيل) ممكن، وأن ذلك سينعكس على الحياة المعيشية
داخل الأراضي الفلسطينية، من هنا ظل هؤلاء الناس يصبرون على الأوضاع التي
تولدت مع السلطة، لكن السنوات السبع في الحقيقة شهدت تصعيداً خطيراً على
الأرض في إطار أن (إسرائيل) بمشروعها الصهيوني وبمشروعها التهويدي في
القدس وبمشروعها في وأد كل إمكانات المقاومة.
وحينما نتأمل الوضع الالتفافي الذي كان من المفترض أن يؤدي إلى إيقاف
المقاومة والجهود التي تواطأت من أجل ذلك نجد أنها زادت المقاومة اشتعالاً ولو
بعد حين.. الانتفاضة إذن لم تتوقف!
إذن من الوارد الالتفاف من جديد حول الانتفاضة؟
د. سيف: من الوارد بلا شك، وقد حدث ذلك على سبيل المثال؛ فإن إدانة
السلطة الفلسطينية لعمليات المقاومة تحت مسمى إدانة قتل المدنيين من الجانبين هو
نوع من الالتفاف والمغالطة؛ لأنه وفق التعريف ليس هناك مدني في إسرائيل سوى
الأطفال الذين لا يعون؛ فما عدا الأطفال فإن كل فئات الشعب الإسرائيلي محاربة
ومقاتلة.. وإن واجب المقاومة غاية في الأهمية؛ والانتفاضة في أشكالها المختلفة
بما فيها العمليات الاستشهادية عمل مشروع بل واجب، ولا يستطيع أي أحد بأي
حال من الأحوال أن يتحدث عن عدم مشروعيته أو عدم جدواه.
البيان: لكن يبدو أن الدكتور صالح له رأي آخر؟
الدكتور صالح: نعم، من الصعب أن يتكرر الإيقاف بالشكل الذي حدث سابقاً؛
لأنه من غير الممكن خداع الشعب الفلسطيني بالوعود كما حدث بشأن الانتفاضة
الأولى، وخاصة أن (إسرائيل) تصر على موقفها حول القدس والدولة المستقلة
وعودة اللاجئين.
وإن انتهاء مؤتمر كامب ديفيد الأخير بين عرفات وباراك دون اتفاق لم يترك
مجالاً لخداع الشارع الفلسطيني. فإذا أضيف إلى ذلك قوة الموقف العربي
والإسلامي الرسمي والشعبي الداعم سياسياً للانتفاضة ولمطالب الشعب الفلسطيني
العادلة، فإن هذه الأمور جميعاً تجعل من المستبعد أن تتوقف الانتفاضة دون تحقيق
الحد الأدنى من أهدافها، وهو: دحر الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة
وعاصمتها القدس بإذن الله.
ولكن في حال اجتياح الجيش الإسرائيلي لمناطق السلطة الفلسطينية يمكن
للانتفاضة الشعبية أن تتوقف قسراً، وحينئذ تتحول الانتفاضة إلى مقاومة مسلحة
شاملة ضد الاحتلال؛ ولذا يستبعد أن تبادر (إسرائيل) إلى إسقاط السلطة نهائياً،
بل يحتمل أن تعمد إلى تغيير القيادات لتأتي بمن يقبل أن يكون عميلاً لها أكثر.
الاحتمال الأكثر خطورة على الانتفاضة هو قيام (إسرائيل) بإشعال حرب
إقليمية بدعم أمريكي يتم من خلالها احتلال غرب سوريا وصولاً إلى نهر الفرات،
وفي حال تحقيق نصر حاسم لـ (إسرائيل) على سوريا في مثل هذه الحرب
سينهار النظام العربي على الجبهة الشرقية، ليؤدي إلى إحباط الانتفاضة الفلسطينية.
هذا الاحتمال يحتاج إلى عدة سنوات من الإعداد المشترك بين (إسرائيل)
والولايات المتحدة الأمريكية، ويحتاج إلى ظروف موضوعية ومسوغات دولية تتيح
لأمريكا أن تشارك في مثل هذه الخطة.
البيان: يبدو أن طبيعة الصراع مع اليهود بالغة التعقيد، فما هي برأيكم
فضيلة الدكتور عبد الستار سعيد مصادر هذا التعقيد؟
الأستاذ الدكتور عبد الستار سعيد:
أهم مصادر هذا التعقيد التواء طبيعة الشعب اليهودي في القديم والحديث والتي
صورها لنا القرآن في وضوح وجلاء، وهي كما عرفها التاريخ ليست في الشرق
وحده بل في كل مكان، ومما يعبر عن ذلك نموذج (شايلوك) في رواية شكسبير
الشهيرة.
بل وكتبهم أيضا تبين لنا قدراً كبيراً من هذه الطبيعة، وهي في غاية الحقد
ليس على المسلمين وحدهم بل على البشرية كلها، وما زالت أجيالهم يستقون من
منابع الضلالة وكأنه شيء في دمائهم.
الأمر الثاني: الذي يزيد في تعقيد هذا الصراع هو ظروف المرحلة، وهي
غير مسبوقة في تاريخنا. إن الأمة الإسلامية في كل مرة كانت تصاب في المعارك
كما حدث في الغزوة التترية والحروب الصليبية كانت تستفيق إلى أنها انحرفت عن
طريق الله فتسرع الفيئة إلى دين الله، أما هذه المرة عندما دخل الكفار بلادنا فإنهم
تركوا طبقات تدمر الإسلام في العالم الإسلامي: المرأة أصبحت عارية.. أصبح
الربا في كل شُعَبِ الاقتصاد.. أصبح القانون الوضعي يحكمنا في اتجاهات الحياة
وفي العالم الإسلامي كله ما عدا بعض البلاد.. كيف نستمد النصر من الله ونحن لم
نتب ولم نرجع إليه؟
الأمر الثالث: التدخلات الدولية ومصالح الدول الكبرى وخنوع بعض
القيادات التي في المنطقة إما خوفاً وإما حرصاً على مظاهر الحياة والأبهة التي هم
فيها. أنا لا أتكلم عن قوة الدول الكبرى وأسلحتها وجيوشها وإنما أتحدث عن
الشعوب حين تؤمن بقضية، حتى الشعوب الكافرة تستطيع أن تذل القوى العظمى؛
فهذه فيتنام أذلت فرنسا وأمريكا خلال 15 سنة وهما من الدول الكبرى، وهم لا
يؤمنون بدين ولا بيوم آخر، وعندنا الشعب الأفغاني وهو شعب مسلم طيب فقير لا
يملك مقومات الحرب بل ولا الحياة استطاع بإذن الله أن يحطم عنجهية روسيا وهي
دولة مجاورة لحدوده ليست كأمريكا التي كانت تسير آلاف الأميال لتنقل معداتها إلى
فيتنام، ولهذا لا بد أن تمكن الشعوب من أن تقول كلمتها، ولا بد أن تتحرك.. نعم!
ستكون هناك تضحيات هائلة ومغارم كبيرة؛ لكن نحن أمة تؤمن بالله واليوم
الآخر ولا يضيع لنا ذرة عند الله؛ من مات منا فهو شهيد، ومن عاش فهو في
رعاية الله. الشعوب الآن لا تملك حتى التظاهر ولا جمع التبرعات علناً في أغلب
بلادنا خوفاً من الأنظمة، ويجرم من يفعل ذلك ويحاكم مع أن هذا هو أدنى صور
النصرة..
الأمر الرابع: هو وجود نخب حاكمة في بلادنا لا تملك ولا تحسن التعبير عن
قضايا الأمة ولا تسعى بل ربما لا تريد أن تسعى لحل هذه القضايا، وأبلغ دليل
على هذا هو سلسلة التردي التي تحياها الأمة على مستوى الأنظمة وعلى مستوى
الدول، ومتى ما تستفيق هذه الحكومات وتعطي الشعوب نوعاً من الحركة والحرية
في أن تتبنى هذه القضية فإنه باستطاعتها بإذن الله أن توقف الخطر اليهودي عند
حدود محددة إلى أن يتم لفظه خارج أرضنا بإذن الله في يوم ما.
البيان: ما هي الفروق الجوهرية بين طبيعة العمل بالداخل الفلسطيني قبل
مجيء السلطة وبعده؟
الدكتور محمد صالح:
لم تحدث فروق سياسية جوهرية في الداخل الفلسطيني قبل مجيء السلطة
الفلسطينية وبعده بالرغم من وجود مجلس تشريعي منتخب إلا فيما يخص بعض
جوانب الحياة المدنية التي تولاها الفلسطينيون بأنفسهم تحت إشراف غير مباشر من
السلطات الإسرائيلية. أما على مستوى المقاومة فقد أصبحت الأمور أكثر صعوبة؛
لأن أجهزة الأمن الفلسطيني تنسق بشكل مباشر مع قوى الأمن في (إسرائيل) ،
وبذلك اجتمع على المقاومة عبء الموساد، وعبء الأمن الفلسطيني. إضافة إلى
ذلك عملت السلطة على منع أي عون أو تأييد شعبي فلسطيني لحركات المقاومة
الإسلامية داخل فلسطين من خلال الترغيب والترهيب والتضليل بمقولة أن المقاومة
تتعارض مع المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وأن المقاومة تعطي ذرائع وحججاً
لـ (إسرائيل) لعدم تنفيذ بنود اتفاق أوسلو.
يضيف الشيخ حسن يوسف:
ومع مجيء السلطة يمكن لنا القول بأننا دخلنا إلى حد كبير في العصر العربي
بما فيه من بيروقراطية وأمراض ومحسوبية وكبت واحتكار التعبير باسم وحدانية
السلطة ومشروعيتها؛ ومن هنا فإن هامش الحركة والمناورة انحسر كثيراً في ظل
وجود طرف داخلي فلسطيني (السلطة) إضافة للاحتلال وتصفياته.
جاءت الانتفاضة الحالية في البداية، وبالدرجة الأولى متناغمة مع التوجه
الرسمي للسلطة الفسلطينية، وذلك بعدما أعلن عن انهيار قمة كامب ديفيد؛ حيث
كانت هذه القضية نهاية شوط طويل من المفاوضات التي بدأت منذ عام 1993م،
وكانت السلطة ومنذ أيار (مايو) 1999م، تمر في حالة فراغ قانوني، وشكلت
الإعلانات المتكررة والممجوجة حول النية بإعلان استقلال الدولة محاولة تكتيكية
للسلطة من أجل الضغط واتخاذها ورقة بيدها، وذلك من أجل ملء الفراغ السياسي،
ولما استنفدت هذه الورقة أغراضها، تزامن ذلك مع انتهاء قمة كامب ديفيد التي
لا نعلم على التحديد ماذا جرى فيها والتي سمعنا بعد انتهائها مباشرة عن
سيناريوهات عنيفة متوقعة من أجل التحريك، وتهيئة الأوضاع لحل غامض لا
نعرف ماهيته ولا كيفيته.
ولقد جهدت السلطة الفلسطينية ومنذ بداية عام 2000م على التهيئة لدخول
الشعب الفلسطيني في أجواء من التصادم مع الاحتلال، تمثل ذلك في مناسبتي يوم
الأرض وذكرى يوم النكبة من عام 2000م، وتحرك الشارع في أيار (مايو)
وقبل ذكرى النكبة بأسبوع؛ وذلك لتزامن المناسبة بالإضراب عن الطعام الذي كان
المعتقلون في سجون الاحتلال قد أعلنوه مما جعل هناك هبة جماهيرية صاحبت
الإضراب حتى نهايته في أواخر أيار، ولكن ومع التحضيرات التي كانت تجري
من أجل قمة كامب ديفيد في بداية حزيران (يونيو) التي قيل بأنها ستكون واعدة،
عملت السلطة على إنهاء تلك المواقف على ضوء الاتفاقات بينها وبين اليهود.
البيان: ما هي ظروف إخراج قيادات حماس من الأردن قبل الانتفاضة؟
وهل هناك إمكانية للعودة؟
الدكتور محمد صالح:
لم يكن خروج قيادات حماس من الأردن لأسباب أردنية داخلية أو نتيجة
لتجاوزات قامت بها الحركة على الساحة الأردنية، أو تجاوزت لبنود اتفاق الحركة
مع الحكومة الأردنية في عام 1993م، وإنما كان خروجهم نتيجة لضغوط
(إسرائيلية، أمريكية، فلسطينية) على النظام الأردني توافقت مع رغبة النظام
الأردني الجديد في التخلص من أي ارتباط رسمي بالقضية الفلسطينية بعد مباحثات
الملك عبد الله الثاني وعرفات حول القضايا العالقة بشأن الأردنيين من أصول
فلسطينية.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى ما تعلنه الأردن حول الآثار السلبية لوجود
قيادات حركة حماس في عمان على المعاهدة الأردنية الإسرائيلية (معاهدة وادي
عربة) ، وحرصها على عدم إعطاء ذريعة أو مسوغات لـ (إسرائيل) لتنفيذ
خطة ترانسفير من الضفة الغربية إلى الأردن في حال استمرار نشاط حركة حماس
في الأردن.
لذا فإن عودة قيادات حركة حماس مرتبطة بعدم السماح لهم بممارسة نشاط
سياسي أو إعلامي من الأراضي الأردنية.
البيان: هل هناك تنسيق بين حماس، وبين المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان؟
ولماذا لم يكن هناك وجود للعمل الفلسطيني لمواجهة (إسرائيل) في الجنوب
اللبناني طيلة السنوات الماضية؟
هناك تواصل بين حركة حماس وكافة القوى الوطنية والإسلامية على الساحة
اللبنانية، ولكن لا يوجد أي تنسيق مع المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان، وذلك
لأسباب سياسية؛ لأن وجود قوى فلسطينية على الأرض اللبنانية لم يعد ممكناً بعد
الاتفاق الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1982م بين الحكومة اللبنانية
و (إسرائيل) والذي تم بموجبه إنهاء حصار (إسرائيل) لبيروت مقابل خروج
القوات الفلسطينية نهائياً من لبنان.
المحور الثاني: ملامح التعامل مع المرحلة الحالية في حال استمرار
الانتفاضة.
البيان: هل كان لمنظمة (حماس) دور مبكر في تفعيل الانتفاضة الثانية؟
وهل كان مخططاً أن تبدأ الانتفاضة بهذا الشكل؟
الدكتور محمد صالح:
إن تمسك حركة حماس بثوابتها واستراتيجيتها في مقاومة الاحتلال هو
الأساس الذي هيأ لانطلاق الانتفاضة وتصاعدها.
إن اهتمام الحركة بالمحافظة على الذاكرة الفلسطينية والعربية تجاه المقدسات
وتجاه الحقوق الوطنية ومواجهة جميع محاولات طمس هذه المفاهيم وإضعافها طوال
(مرحلة أوسلو) كان الأرضية التي انطلقت منها انتفاضة الأقصى؛ حيث قامت
حركة حماس بحشد طاقاتها ودعت الشعب الفلسطيني في الداخل للتصدي لزيارة
شارون دفاعاً عن حرمة المسجد الأقصى منذ اللحظة الأولى للإعلان عن تلك
الزيارة.
وتجدر الإشارة إلى أن الشارع الفلسطيني وكافة القوى الفلسطينية كانت
غاضبة، وكانت تشعر أنها مقبلة على مواجهة مع الاحتلال في أعقاب انهيار مؤتمر
كامب ديفيد الأخير، ووصول مسيرة السلام إلى طريق مسدود، وخاصة أن
الإجراءات الإسرائيلية التعسفية تزايدت وتصاعدت منذ نهاية ذلك المؤتمر.
لم يكن مخططاً أن تبدأ الانتفاضة بهذا الشكل؛ لأنه لم يكن متوقعاً أن يقوم
الإسرائيليون بمثل هذا الاستفزاز للمشاعر الدينية وبهذه الطريقة، وقد جعل الله من
زيارة شارون شرارة فجرت المشاعر الدينية والوطنية جميعاً، في داخل فلسطين
وخارجها وعلى امتداد العالم العربي والإسلامي، وذلك فضل الله أولاً وأخيراً.
البيان: هل يمكن القول بأن زيارة شارون جاءت عفوية دون تخطيط مسبق؟
الأستاذ الدكتور عبد الستار سعيد:
من طبيعة اليهود كما قال ربنا تعالى: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ]
(البقرة: 100) يأتي نتنياهو لينقض ما عقده رابين، ويأتي باراك ليتنصل من
خطوات نتنياهو، وهذا المجرم السفاح شارون جاؤوا به ليوصل القضية إلى الحلم
الأكبر مسقطاً جميع الاتفاقات المسبقة؛ وهذا ليس غريباً على طبيعة اليهود كما
حدثنا القرآن، كما في الآية الأخرى: [الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي
كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ] (الأنفال: 56) وهذا كلام القرآن ينبغي أن نفهمه جيداً
في كل مرة.. لا يتخلف مرة، وقد كانوا في مفاوضتهم لنبيهم موسى عليه الصلاة
والسلام بشأن البقرة في غاية الإتعاب، ولهذا كانت النتيجة المراوغة والأكاذيب
والتلاعب في كل شيء.
ولما انكشف الأمر واستبان سبيلهم للجميع ودنس أشقاهم باحة المسجد الأقصى
في زيارة لها ما بعدها هب الشعب وانتفض بعد أن طفح الكيل، وأيقنت السلطة أنها
وصلت إلى طريق مسدود.. وجاءت الانتفاضة تلقائية حين أحس الناس بالخطر
بعد أن ضُيق الخناق عليهم وظن اليهود أنهم قاربوا النجاح في أن يُلجِئوا هذا الشعب
إلى الهجرة إلى مصر أو إلى الأردن أو أي قطر آخر. لكن من رحمة الله أن هب
الشعب وانتفض دفاعاً عن دينه وحقوقه وهو عارٍ من كل سلاح إلا قوة الإيمان
واليقين في نصر الله عز وجل. هذه الانتفاضة هي المدخل الآن الذي هز اليهود
وهز العالم وأمد القضية الفلسطينية بنبض جديد وقوة جديدة عسى أن تبلغ مداها
المأمول إن شاء الله.
البيان: ما مدى الدور الذي تقوم به حماس مقارنة بالدور الذي تقوم به
المنظمات الفلسطينية الأخرى؟ ومتى دخلت تلك المنظمات على خط الانتفاضة؟
الدكتور محمد صالح:
تعتبر حركة حماس ثاني أكبر القوى الوطنية داخل فلسطين، وهي أكبر
القوى الإسلامية الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها وعلى امتداد العالم العربي
والإسلامي.
ودور حركة حماس والحركات الإسلامية الأخرى مثل الجهاد الإسلامي العقدي
والثقافي والتربوي هو الأخطر في تفعيل الانتفاضة واستمراريتها؛ ومن ثم فإن دور
حركة حماس المباشر وغير المباشر في تفعيل الانتفاضة الجماهيرية هو كبير
وفاعل جداً، ودورها على مستوى المقاومة المسلحة هو الأكثر فاعلية والأعظم
خطراً على الدولة العبرية وعلى المستوطنين؛ لأن عملياتها تهدد الأمن الشخصي
لكل يهودي يقيم على أرض فلسطين. وتجدر الإشارة إلى أن المنظمات الأخرى
وفي مقدمتها حركة فتح قد لحقت خط الانتفاضة بعد تفجرها واندلاع موجة الغضب
الشعبي العام من كافة طوائف الشعب الفلسطيني، وأصبح لفتح بعد ذلك دور فاعل
في الانتفاضة وفعاليات المقاومة.
البيان: يعني هل كانت الانتفاضة هذه المرة من قبيل رد الفعل؟ بمعنى: هل
يصح القول بأن اليهود استدرجوا الفلسطينيين لهذه المواجهة غير المتكافئة لأغراض
أكبر؟
الدكتور محمد صالح:
لقد بدا للمراقبين أن هذه الانتفاضة كانت ردة فعل على زيارة شارون لباحة
المسجد الأقصى، ولكن الحقيقة أنها القشة التي قصمت ظهر البعير؛ لأن هذه
الزيارة قد وضعت السلطة في مأزق حرج أمام الشارع الفلسطيني من حيث أن
قبولها بالوضع الحالي يعني أنها ستصبح أداة بيد الاحتلال؛ لأنه بدون مواجهة مع
الاحتلال ستفقد السلطة احترامها وتفقد بذلك مسوِّغ وجودها في نظر أبناء فلسطين.
أما الحكومة الإسرائيلية برئاسة باراك التي كانت تدرك آثار الزيارة السلبية
عليها فإنها لم تكن راغبة في زيارة شارون تلك، ولكنها لم تكن قادرة على منعها؛
لأن القدس بحكم الدستور الإسرائيلي تعتبر جزءاً من إسرائيل، ولذلك فإن إلغاء
زيارة شارون مخالف للدستور الصهيوني ويتعارض مع عقيدة كل إسرائيلي.
أما شارون فكان يسعى إلى استفزاز الفلسطينيين، وكان يريد أن تحدث
انتفاضة تؤدي إلى سقوط حكومة باراك ليتقدم نحو الإمساك بالسلطة في أجواء ثورة
فلسطينية توحد المجتمع الإسرائيلي خلفه، وتعطيه ذريعة للتنصل من جميع
الاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين.
أما القول بأن الفلسطينيين قد استُدرِجوا لهذه المواجهة غير المتكافئة لأغراض
أكبر: فهو أمر وارد إسرائيلياً. أما على الجانب الفلسطيني فيمكن أن يكون هذا
صحيحاً لو أن الانتفاضة توقفت بعد فترة قصيرة أو أن السلطة الفلسطينية خضعت
لتهديدات (إسرائيل) وتنازلت، ولكن الواقع يشير إلى أن الانتفاضة التي أدخلت
السلطة في مأزق، قد أدخلت (إسرائيل) أيضاً في مأزق سياسي وأمني واقتصادي.
وحركة حماس لا تعتبر أي مواجهة مع الاحتلال استدراجاً، بل إنها تعتبر
الاستدراج الأخطر هو الاستمرار في مسيرة السلام العبثية، أما الانتقال إلى
المواجهة مع الاحتلال فهو الخيار الصحيح، سواء كان ذلك مطلوباً أو مرفوضاً
بالنسبة لـ (إسرائيل) خصوصاً في ظل وحدة وطنية إسلامية ودعم عربي
وإسلامي ودولي للانتفاضة.
ويضيف الأستاذ الدكتور عبد الستار سعيد:
لست مع هذا الرأي القائل بأن الفلسطينيين استُدرجوا، وهذا ليس بصحيح
بدليل أن اليهود اليوم يسعون سعيهم لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الانتفاضة،
كما أن الانتفاضة الأولى ما زالت تمثل كابوساً مزعجاً للعقل اليهودي يخشى أن
يتكرر، وهو يعلم أنه لو تكرر فإن رد الفعل سيكون حركة شعب وربما أمة وليس
حركة سلطة يمكن أن تستدرج. إن الآلام والمتاعب المروعة التي تعرضت لها
إسرائيل من جراء الانتفاضة الثانية تؤكد أن اليهود شعباً ودولة يحيون أزمة
يحاولون الفكاك منها بكل سبيل لا يدخرون في ذلك محرماً ولا غيره ولا يرعون
عهداً ولا يقدرون رأياً؛ فهم كما قال القرآن: [الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ] (الأنفال: 56) ، فلا يتقون الله ولا يتقون ما
يسمى بالرأي العام العالمي أو القانون الدولي.
هذه الانتفاضة أوقعت باليهود أشد أنواع الألم والرعب رغم كل ما يمارسونه
ضد المسلمين هناك من سياسات الإرهاب والتقتيل والتخريب والوقيعة مستخدمين
الطائرات الحربية والدبابات والصواريخ؛ فمع أن المعركة غير متكافئة إلا أن
رصيد الإيمان والصبر يعدلان الكفة بفضل الله، والله تعالى يقول: [وَإِن تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) .
البيان: ظهر تفاعل من فلسطينيي 1948م في بداية الانتفاضة، ثم توقف،
فما هي الأسباب؟ وهل أفلح اليهود في تشويه هوية أولئك بدعوى أنهم عرب
إسرائيل؟
الشيخ حسن يوسف:
لفلسطينيي 1948م ظروفهم وسياستهم الخاصة، وهم منذ أوسلو ومن قبله
طبعاً يطورون حركتهم السياسية والاجتماعية في مواجهة العدو، ولكن على نار
هادئة؛ إلا أن تطورات الأحداث في السنين الماضية، وفي هذه الانتفاضة على
وجه الخصوص، رفعت درجة مشاركتهم لتغدو بإذن الله في قابل الأيام من أكثر
الساحات الفلسطينية تمركزاً للعمل الوطني الفلسطيني والصبر على القضية، من
هنا يأتي دور القوى الحية المعنية في مقارعة العدو للاستنفار في هذه الساحة.
البيان: ما هو تقييمكم لحجم المشاركة الإسلامية الرسمية وغير الرسمية
خارج فلسطين في تفعيل الانتفاضة، وما السبيل في رأيكم لضمان استمرار هذه
المشاركة وعدم ترك القضية تبرد مرة أخرى؟
الشيخ حسن يوسف:
في الحقيقة كان لاستفزاز شارون وهو يتحدى مشاعر مسلمي الأرض،
وللمناظر الفظيعة التي ارتكبتها حكومة باراك مثل الشهيد محمد الدرة، الدور الكبير
في رفع درجة التعاطف الذي لقيته الانتفاضة، ومع أن صور هذا التعاطف أفضل
بكثير منها في الانتفاضة الأولى إلا أنها لا تتناسب مطلقاً مع حجم التحدي القائم،
وهو بالتأكيد دون التعاطف الذي تلقاه إسرائيل من يهود العالم فضلاً عن تعاطف
الحكومات والشعوب الغربية النصرانية معها! وفي أضعف الإيمان يجب أن يرقى
التعاطف مع الانتفاضة إلى درجة المتعاطفين مع العدو. والعتب هنا كبير على
إخواننا في الحركات الإسلامية؛ لأن موضوعنا هو موضوعهم، ولأن مشاكلهم
الداخلية مع نظمهم متداخلة مع طبيعة قضيتنا، ولأن الثورة السياسية والاجتماعية
المكبوتة منذ أكثر من قرن من الزمان في ربوع عالمنا العربي والإسلامي، هي
مسألة متشابكة جداً مع القضية الفلسطينية لدرجة الالتحام؛ ففلسطين كقضية مركزية
للمسلمين في الأرض والإحساس بها سواء بالسلب أو الإيجاب من قبل شعوب
المسلمين تعبر عن مؤشر الضمير بين صحوته ويقظته أو نومه وغفلته، بإمكان
الحركات الإسلامية أن تحرك جماهيرها أسبوعياً من خلال المساجد، أو من خلال
تفعيلها للحركة الطلابية، أو النقابات أو غير ذلك.(167/55)
المسلمون والعالم
الإسلاميون.. وساعة الحقيقة إمكانات هائلة
... وطاقات معطلة
(2)
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
هل نحن الإسلاميين حساسون بقدر زائد عن الحاجة؟ ! .. وهل هذه
الحساسية مطلوبة في كل الأوقات؟ ! وهل يجب علينا كلما أردنا أن ننقد أنفسنا
ذاتياً أو نخاطب أنفسنا خطاباً موضوعياً أن نتدسس ونتحسس إلى درجة الوسوسة
في كل كلمة وكل معنى وكل عبارة، حتى لا نغضب أحداً، ولا نخدش شعور أحد،
ولو كان هذا الأحد هو نحن جميعاً؟ !
إن الظروف الاستثنائية تحتاج إلى أساليب استثنائية في الكلام والطرح
والعرض، والذي أراه أن الظروف التي تمر بها الأمة لا تحتمل المجاملة والمحاباة
والاستخفاء بالحقائق أو الاختباء وراءها.
أُلخص وجهة النظر التي أردت المصارحة بها والمطارحة في شأنها بدءاً من
العدد السابق من مجلة (البيان) وهي: أننا نحن الإسلاميين لم نَرْقَ بعدُ إلى
مستوى خطورة المرحلة التي تمر بها أمتنا، وأن انشغالنا برصد خيبات العلمانية
العربية وتخبطاتها في شأن قضية العرب والمسلمين الأولى (قضية بيت المقدس)
هذا الرصد قد أنسانا وألهانا عن تقصيرنا نحن في حقها، وإهمالنا في القيام بشأنها.
ماذا قدمنا عبر نصف قرن؟
قدمت الحركات الإسلامية منذ أن اغتُصب بيت المقدس آلافاً مؤلفة من
الشهداء والضحايا في العديد من الأحداث والقضايا، وتلك القضايا التي قدمت فيها
تلك التضحيات لا توجد قضية فيها وأكرر لا توجد قضية واحدة فيها تبلغ في
الأهمية والخطورة حد أهمية وخطورة قضية فلسطين، ولا يبلغ الطرف المعادي في
أيٍ منها في شدة عداوته ما يبلغه الطرف المعادي اليهودي في فلسطين، بل إن
كثيراً من تلك القضايا الأخرى قُدِّمت فيها التضحيات بلا ثمن، أو بخسارة فادحة في
معظم الأحيان!
إن من العجيب أن التيارات والجماعات والمنظمات الإسلامية كافة كانت ولا
تزال مجمعة على اعتبار قضية فلسطين (القضية المركزية) و (القضية المحورية)
و (قضية العرب والمسلمين الأولى) ، ولو رحت تفتش عما قُدم لهذه القضية
على المستوى الإسلامي الخاص، لوجدت خليطاً من التفريط والتخبيط عند الأكثرية
إلا من رحم الله، بدءاً من قلة فهم أبعاد القضية، ومروراً بكمِّ المشاركة فيها،
وانتهاء بحجم الانشغال بها. خمسون عاماً من الصراع أو يزيد، ولا تزال الشريحة
الأكبر من الإسلاميين لا تعي شيئاً ذا بال عن (القضية المركزية) ، مع أن العدو
المناوئ فيها عدو لم تتوافر نصوص الشرع كتاباً وسنة في التحذير من عدوٍ آخر
كتحذيرها منه، وتفصيلها عنه، وتعريفها به، ومع أن ما يكتب وما يذاع عن هذا
العدو في الأوساط العامة يحتل المرتبة الأولى في المعالجات الجادة منذ عقود طويلة،
ومع هذا.. ومع أننا نحن الإسلاميين أوْلى الناس بفهم ومتابعة أبعاد تلك القضية
وذاك الصراع؛ فإننا للآن ما زلنا نتجادل في أمور كان مفترضاً أن نكون قد انتهينا
منها منذ زمن، كذاك التساؤل المكرور عن المعركة القائمة مع اليهود: هل هي
إقليمية أو عالمية ... وهل هي دينية أم دنيوية؟ ! وهل دولة اليهود القائمة الآن
عقائدية أم علمانية؟ ! وهل هم بالفعل أقوياء أم أننا نحن الجبناء؟ ! وهل قوتهم
المزعومة حقيقية أم خرافية أسطورية؟ !
لقد كان واجباً علينا ولو من باب العلم بالشيء أن نكون على قدر معقول من
الاهتمام بهذا الصراع المصيري: ما هدفه.. ما صفته.. ما صبغته ما برامجه..
وما أبعاده.. ماذا تحقق من مراحله.. وما هي حدود ما فيه من حقائق أو أوهام..
ما هي مخاطره الماضية ومحاذيره المستقبلة.. ما تفسير رموزه الدينية والاعتقادية،
ما دورنا تجاه مواجهته دينياً وفهم طبيعته شرعياً، ووضع ضوابط تلك المواجهة
علمياً، ورصد الإمكانات لأجلها عبر الآجال والأجيال باعتبارها صراعاً وجودياً لا
حدودياً.
قليل من الإسلاميين من يعلم، والأقل منهم من يعمل بالمستوى الرافع للإثم
فضلاً عن الجالب للأجر فيما يتعلق بتلك القضية الكبرى، اتكالاً على أن لها من
يديرها، واتكاء على أن لنا ما يشغلنا عنها.
أستثني من ذلك بالطبع، أُسْدَ الإسلام داخل فلسطين الذين قاموا في انتفاضتهم
الأخيرة بشق طريق من الدم وسط النار، ليقيموا الحجة علينا وعلى كل من يكتفي
بالمشاركة (الوجدانية) فقط في معركة الوحدانية مع كفر اليهود وشرك النصارى
في الأرض المقدسة.
لكننا لا بد أن نعترف أننا سلمنا الأمانة لمن نعرف أنهم يعرفون أنهم ليسوا
أهلاً لحفظها، ولا بد أن نعترف أيضاً أننا نحن الإسلاميين كنا من أكوام الرمال إلى
جنبتي الطريق الممهد الذي مشى فوقه اليهود ليعبروا إلى بيت المقدس، وكنا جزءاً
من الفراغات التي تولوا ملأها، والحواشي التي تولوا شرحها! حيث إنهم لم يُقابَلوا
منذ بدأت دولتهم بدعوة جهاد إسلامية جادة شاملة على مستوى الأمة التي استهدفوها؛
بحيث تستطيع أن تفلَّ حدهم أو توقف مسيرتهم.
إننا وبعد أكثر من خمسين عاماً لا زلنا ندور حول أنفسنا ونتساءل: (ماذا
نعمل؟ !) مع أننا لم نفرغ بعد من مرحلة: (ماذا نعلم؟ !) ، فحتى من ناحية
التصورات العلمية لا نزال متأخرين عن القضية نصف قرن؛ فالآن والآن فقط بعد
سقوط ألوف الضحايا، وضياع ملايين المشردين على يد اليهود، نبحث عن
شرعية العمليات الاستشهادية ضدهم أو سر المواقف والتواطآت النصرانية معهم!
اليوم فقط نستفهم عن الخلفيات الدينية لأكبر القضايا السياسية التي تملأ أخبارها
الآذان والأعين والأفئدة عبر أكثر من خمسين عاماً، وعندما حدثت واقعة وضع
حجر الأساس لهيكل سليمان الثالث، تساءل الناس وأكثرنا معهم: ما معنى هيكل..
ولماذا نسب لسليمان..؟ ولماذا عدوه ثالثاً لا ثانياً ولا رابعاً..؟ !
هل لاحظت معي أننا نطرح هذه التساؤلات (البريئة الساذجة) بعد خمسين
عاماً من قيام دولة تتخذ من الهيكل شعاراً لها؟ ! هل لاحظت أن هذا الهيكل الذي
جئنا نحن نتساءل عنه الآن، هو الذي جاؤوا لتنفيذ الفصل الأخير من مؤامرته
المتواصلة منذ مئة عام؟ !
إنني لا أتحدث عن عوام الناس في البلدان المحيطة بدولة (هيكل سليمان)
ولكنني أتحدث عن الشريحة الكبيرة من المثقفين الذين أحاطوا القضية بأحاسيس
صادقة مجملة ولكنهم لم يبذلوا الجهد المطلوب لمعرفة أبعادها مع أنهم كانوا هم أوْلى
الناس بمعرفة الأعداء والتعريف بالأعداء حتى تستبين سبيل المجرمين كما أمر الله؛
فالهيكل الذي هو رمز دولة اليهود منذ قامت هو نفسه جوهر الصهيونية، وشعار
الماسونية، ومنتهى آمال المخططات السرية والبرامج العملية لليهود على مدى
العقود الماضية، ومع هذا ظللنا غافلين عن أمره، حتى فاجؤونا بأنهم
يريدون الانتهاء من (الحل النهائي) لمشكلته عسكرياً، بعد أن لم يفلحوا في الكامب
الثاني في حله سياسياً! كل هذا، ونحن أو أكثرنا لا نتابع، لا نراجع، لأننا
(مشغولون) ! !
فهل نحن مقصرون ... ؟ ! لا، لا أقول بهذا.. بل نحن مفرِّطون.
أثمان التفريط:
كما أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في القوة ومضاداً له في الاتجاه؛ فإن لكل
تفريط جزاءً مساوياً في الدنيا ومضاعفاً يوم الحساب إلا لمن تاب الله عليه أو عفا
عنه؛ ولا يظلم ربك أحداً، وهو القائل سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (الأنفال:
15-16) . فمن ولى الأدبار، صَلِيَ النار إن لم يكن معذوراً.
ولقد فرط المسلمون في الماضي في حفظ الأرض المقدسة، فسقطت تلك
الأرض في أيدي الصليبيين، واحتُل المسجد الأقصى ورُفعت الصلبان على مآذنه،
وفرط المسلمون في زمان تلا ذلك في كيانهم السياسي الجامع (الخلافة) فسقطت
عاصمة تلك الخلافة (بغداد) في أيدي التتار الهمجيين الوثنيين، وفرط المسلمون
في حفظ الأندلس، فضاعت الأندلس! وفي المحافظة على الهند فضاعت الهند
ومثلها الفلبيين وغيرها وغيرها.
وفي عصرنا يتوالى التفريط، ولكل تفريط هزيمة، وبكل هزيمة عار.. عار
هزيمة تركيا (الباب العالي) 1914م، وعار إلغاء الخلافة فيها 1924م، وعار
ضياع فلسطين 1948م، وعار ضياع القدس 1967م، وأنا على يقين أنه كان
وراء كل عار فرار وتولية أدبار، وقبل ذلك الفرار وتولية الأدبار لا بد أنه كان
هناك خذلان من الله؛ وإلا فما معنى تلك الهزائم المتوالية، مع أن الله تعالى تكفل
لنا بفرار الأعداء من أمامنا إذا واجهناهم مستقيمين على أمره مستحقين لنصره:
تأمل هذا الحكم القدري الإلهي: قال تعالى عن الكفار عموماً: [وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ
وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: 22-23) ، وقال سبحانه عن اليهود
خصوصاً: [لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ]
(آل عمران: 111) ولكنهم انتصروا ولا يزالون ينتصرون؛ فهل تخلفت السنن
الإلهية أم كنا نحن المتخلفين؟ !
حتى لا يلحقنا العار الأكبر:
المرحلة التي تمر بها أمتنا تشير كل أسهمها إلى أن اليهود ومن ورائهم
النصارى يريدون أن يُلحقوا بنا عاراً أكبر من كل ما مضى؛ إنه عار سقوط شعار
التوحيد الذي جاء به الأنبياء وفي أرض الأنبياء وهو المسجد الأقصى؛ نسأل الله
ألا يجعلنا محلاً لهذا العار؛ فخراب المسجد إن وقع ونتضرع إلى الله ألا يقع
بتفريطنا سيكون أكبر من عار سقوط بغداد على يد التتار، وأكبر من سقوط
الأندلس على يد الأسبان، وأكبر من سقوط القدس في يد الصليبيين، بل أكبر من
نكبة 1948م، ونكسة 1967م؛ أما لماذا؟ فلأن هذا إن حدث فسيكون تتويجاً
لانتصار أذل الأمم وأحقر الأمم على خير الأمم وأعز الأمم، يختمون به معركتهم
الدينية التي أداروها دينية من طرف واحد، ولأن ذلك سيعني أن نصيبنا من الذلة
في عصرنا قد فاق نصيب الأمة التي كتبت عليها الذلة، وإلا.. فكيف تتوالى
انتصاراتهم علينا بهذا الانتظام ونحن أمة خير الأنبياء التي ينيف عددها على ألف
وثلاثمائة من الملايين، وهم أمة قتلة وأعداء الأنبياء لا تزيد على بضعة عشر من
الملايين؟ !
أحذرك وأذكرك أخي الموحد وأحذر نفسي وأذكرها: أن العار الذي يتهددنا لا
يتهددنا بوصفنا أمة بمجموعها فقط، بل بآحادها ... وآحادها هم أنا وأنت، وهو
وهي، وهم وهن، وهذا وذاك؟ ! العار ليس شيئاً يستحيا منه في الدنيا فقط،
ولكنه إثمٌ إي وربي يُخشى علينا فيه من النار وغضب الجبار. ألم يقل علماؤنا
قديماً وحديثاً إن جهاد الأعداء بالأموال والأنفس وبكل المستطاع يأخذ حكم الواجب
المتعين على كل مسلم إذا دُهمت أرض من أراضي المسلمين؟ فكيف إذا كانت تلك
الأرض هي أرض الأنبياء والمرسلين؟ ! وكيف إذا كان مغتصبوها هم اليهود
الملعونين؟ !
صحوتنا تختبر:
نعم.. تختبر الآن بما يحدث في فلسطين.. إننا نتكلم منذ ما يزيد على ثلاثة
عقود من (الصحوة الإسلامية) التي أذهلت العالم، ولفتت انتباهه إلى أن هنا أمة
تبعث، ونهضة ستقوم، وعملاقاً على وشك الانطلاق ليحطم القيد ويكسر الأغلال،
وقد كان من المحتم بحسب سنن الله أن تختبر هذه المقالة عملياً؛ فالصحوة إفاقة في
الأمة تقود فيها الخاصةُ العامةَ إلى المرحلة الحتمية والطبيعية التالية لتلك الصحوة
وهي (النهضة) .
كان من المحتم أن تختبر مقالتنا نحن الإسلاميين بأننا نعيش صحوة كبرى في
أرجاء العالم الإسلامي وأنحاء العالم العربي، ولقد اختُبر إسلاميون كثيرون بأعداء
صرحاء ألِدَّاء في بلدان كثيرة من العالم.. وها نحن يجيء دورنا (نحن الإسلاميين
العرب) لنُختبر مثلهم. وهذا الاختبار ليس موكولاً إلى قوى عالمية معادية، ولا
نظم محلية عميلة، ولكنه اختبار الأقدار التي كانت تجري بها سنة الله في الذين
خلوا من قبل.
ولقد تواطأت نصوص الوحي على أن الإنسان يُبتلى ويُختبر، على مستوى
الفرد والجماعة والأمة، وحديث القرآن عن الاختبار في القرآن المكي يتناول في
الغالب أحوال الأفراد. أما في القرآن المدني فيتوجه إلى المجموع بعد أن تكونت
الأمة وقامت الدولة، ولقد اختُبرت تلك الأمة بعد تكوينها، واختُبرت بعد ذلك مرات
عديدة، وهي تختبر الآن ونحن في مقدمتها نختبر بما اختُبر به الجيل الأول الذي
كان أقل منا عدداً، وأضعف منا قوة، وأندر مالاً وثروة. بل وأصعب منا ظروفاً
وأكثر استضعافاً.
تأمل معي ملامح هذا الاختبار (الجماعي) الذي واجه مجتمع الأطهار
الأخيار ولَمَّا يشتد عوده، أو تنتشر في العالم دعوته أو تتعدد كياناته، أو تتضاعف
ثرواته أو يبلغ عدده ما يزيد على المليار! تأمل هذه الكلمات التي تنزلت عليهم ثم
توجهت لمن بعدهم، حتى وصلت إلينا.
أرجوك ألا تمر على هذه الآيات سريعاً ببصرك بل مررها وكررها على قلبك
وبصيرتك، ولاحظ معاني (الاختبار) في تكرار لفظ (يعلم) . يقول من يعلم
السر وأخفى سبحانه وتعالى:
[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ
لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ] (آل عمران: 166-167) .
-[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ
اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] (التوبة: 16) .
-[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]
(محمد: 31) .
-[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]
(آل عمران: 142-143) .
-[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل
عمران: 140-141) .
-[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا
أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (النور:
63-64) .
-[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البَأْسَ
إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي
يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ
أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] (الأحزاب: 18-
19) .
-[وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
أَعْمَالَكُمْ] (محمد: 30) .
ماذا أعددنا للاختبار؟
بداية أقرر أنه ليس من الجائز أن نغمط أحداً حقه، أو ننتقص من عمله، أو
نتهم نواياه، ولكنا فقط نناقش مواقف عامة وأفكاراً مطروحة، وظواهر موجودة منذ
زمن، أو وجدت الآن، بعد أن بدأت سُحب الأزمة تخيم فوق رؤوس الجميع. لا
شك أن هناك من يعمل، وهناك من يبذل، وهناك من بدعائه وبكائه وصلاحه
وإصلاحه يستمطر الفرج ويستنصر على الأعداء، غير أن الدين النصيحة، والهمَّ
عام، والنازلةَ في اتساع، ولا يجوز هنا أن تترك الساحة نهباً للفوضى الفكرية بعد
أن اجتاحتها طويلاً الفوضى العملية والحركية.
هناك طروحات تتعدد وتزداد بين بعض الإسلاميين وهي مرشحة للتوسع
والازدياد، وهي تتعلق بسِمات المواقف المتخذة والمواقع المختارة حيال ما يحدث
في فلسطين، وأحاول هنا رصدها للتنبيه أو للتحذير أو حتى للتعريف؛ أما التحليل
والمناقشة والتقويم فله مجال آخر ومكان آخر. إنها ظواهر نظرية، ولكنها تتحول
إلى مواقف عملية، سلبية كانت أو إيجابية، والإيجابية هنا تعني التفاعل مع الفكرة
قبل استيفاء بحثها وتمحيصها وفق منهج علمي شرعي سديد، وفهم واقعي راشد.
إنها أفكار، والأفكار تحتاج دائماً إلى الاختبار قبل القبول والاعتبار.
أولاً: أفكار الانتظار:
هناك آراء ترُوج، وأفكار تموج تجعل الموقف الإسلامي الراهن قريباً من
الموقف الشيعي قبل الخمينية، والموقف اليهودي قبل الصهيونية! مع إثبات الفارق
في التشبيه والاعتذار عن التمثيل.
فالشيعة قبل الخميني كانوا يتدينون بالانتظار، ويعطلون فرص الانبعاث حتى
يُبعث (صاحب الزمان) ، وكان علماؤهم يجعلون من السعي نحو التمكين عملاً
منافياً لكمال اليقين في النصر القادم بقدوم المهدي، فجاء الخميني، وابتكر (ولاية
الفقيه) ليجعل فقيه الشيعة بمثابة النائب للإمام الغائب، يقوم بما ينبغي أن يقوم به
حتى يحضر ... ولا ضير بعد ذلك إذا تأخر خروج (الإمام الغائب) ما دام الركب
يتقدم!
وقبل الخميني بعشرات السنين، قاد (تيودور هرتزل) اليهود من تيه الترقب
المستمر منذ ألفي عام انتظاراً لخروج المسيح، إلى السير على طريق الانتصار
ملغياً فكر الانتظار، ووضع أسس (الصهيونية الحديثة) التي تناقض الفكر
الانتظاري، وبالفعل لم يمضِ على هلاكه بضعة عقود حتى أقيمت دولة اليهود التي
كانت مجرَّمة محرَّمة قبل ظهور المسيح عندهم!
في ديننا الحنيف ومنهجنا الصحيح لا مجال هناك لتعطيل شيء من واجبات
الشريعة بدعوى انتظار أحد ... صحيح أنَّا نؤمن بما أخبرت نصوص الشريعة
بحدوثه قَدَراً، ولكننا لا نبني عليه مواقفنا شرعاً؛ فمثلاً إذا كان مكتوباً للمسلمين
كوناً وقدراً أن ينتصروا على اليهود في النهاية، فليس معنى ذلك أن يعطلوا ما
أُمروا به من جهادهم ديناً وشرعاً حتى يجيء موعد هذه النهاية، وأيضاً إذا كان
مقدراً بحسب ما عندنا من نصوص صحيحة وصريحة أن تشهد الدنيا قيام دولة
خلافة عالمية راشدة في آخر الزمان، فلا يعني ذلك أن يبطل السعي الواجب لإقامة
الخلافة قبلها انتظاراً لمجيء أيام آخر الزمان.
هذه بدهيات لا أظنها تغيب عن فطنة الوعاة الدعاة، ولكن ما أكثر ما تتيه
البدهيات في خضم التفريعات والتفصيلات. ومما يدل على غياب بعض هذه
البدهيات وجود مثل هذه الطروحات التي يأتيك ذكرها:
* هناك نزعة (مهدوية) تتنامى هذه الآونة، زاعمة أن المهدي المبشر به
في الأحاديث، إن لم يكن بيننا الآن، فهو على الأقل وراء أقرب الأبواب، وأنه
سيتولى بنفسه جهاد (إسرائيل) وأعوانها، وسيأتي الخلاص على يديه قريباً،
وسوف نصلي خلفه في بيت المقدس عاجلاً غير آجل!
* هناك وجهة قريبة من تلك النزعة المهدوية، لكنها تتجه نحو
(السفيانية) [1] بمعنى انتظار انتصار السفياني على (إسرائيل) بعد غزوه لها
وحرقه لنصفها بجيش يخرج من الشرق أو بالتحديد من العراق، وهؤلاء ينتظرون
حدوث انتصار (السفياني) لا مجرد خروجه؛ لأن (القائد الركن) قد خرج بالفعل
منذ زمان! ! [2] . إن هؤلاء يقولون: إن (أم المعارك) كانت أول الملاحم
الكبرى، ونحن بانتظار بقية العائلة بعد أن جاءت المعركة (الأم) !
* هناك من ينتظرون زماناً آخر، وهو زمان (الدجال) ، حيث يقولون: إن
القضاء على دولة اليهود لن يكون إلا في زمن الدجال؛ حيث سيقودهم في إفسادهم
الأخير، فيسلَّط عليهم المسلمون، وينطق عندها الحجر والشجر، أما قبل ذلك
(فلا أمل) هكذا يقولون في الانتصار على اليهود!
* وهناك موجة بدأت مؤخراً من الانهماك في عالم الرؤى والمنامات، ودنيا
التأويلات والتفسيرات التي تتنافس في تحديد أقرب المواعيد ليوم دخول القدس،
دون أن تحدد كيف وبمن ومع من؟ ولكنها تتفق جميعاً على أن ذلك الانتصار
الساحق (المجاني) سيكون أقرب مما نتصور؛ فبين متمهلٍ مطَمْئِنٍ بأنه سيحدث
بعد بضع سنين، وبين متعجل مبشِّر بأنه سيكون بعد عام أو أقل من عام!
* وهناك موجة موجودة منذ عقود وأعوام تتجه للغوص في الأرقام، للخروج
بنتائج (حاسمة) و (محددة) و (أكيدة) عن موعد زوال إسرائيل، باستخدام
خاصية بعض الأرقام تارة، وبمقارنة أرقام السور والآيات القرآنية تارة،
وباستقصاء خاصية الزمان تارة، وبالرجوع إلى بعض أخبار الفتن في كتبنا تارة،
أو في أخبارها عند أهل الكتاب تارة أخرى.
إن تلك الطروحات الخمسة التي تغلب عليها روح التفاؤل والانتظار والتبشير
عليها الملاحظات الآتية:
1 - لا حرج في التبشير بأن المستقبل للإسلام؛ فالفأل الحسن محمود، ولكن
بشرط ألا يكون موقفنا من هذا المستقبل مجرد انتظار استقباله؛ فنحن أمة تؤمن
بالغيب ولكنها لا تقبع وراء ذلك الغيب مستشرفة حدوثه وهي في عالم الشهادة
والتكليف؛ فالخشية كل الخشية من هذه الموجة (التبشيرية) أن تتحول إلى
جرعات تخديرية.
2 - الأفكار المهدوية تنشئ أجواء تسمح بالادعاءات المهدوية، وقد كفى أمتنا
ما عانت من أدعياء المهدوية عبر العصور والقرون، وآخرها ما كان في بداية
القرن الهجري الحالي الذي عشناه وخبرناه، وما تكرر قبلها وبعدها من انتحالات
المحتالين وادعاءات المدعين لأنفسهم أو لغيرهم. إنه يكفينا من المهدي بعد
التصديق بما صح عنه أن نعمل بما سيخرج من أجله؛ وهو نصرة الدين، حتى إذا
ما خرج المهدي وجدنا مهديين عاملين، لا منتظرين خاملين.
3 - الأفكار السفيانية تصادم بتحديداتها وتعييناتها الشخصية والزمانية مفاهيم
مهمة في الولاء والبراء وقواعد الإيمان بالغيب؛ فهي تفترض أن (جابر الأمة)
و (كاشف الغمة) سيكون بعثياً أو علمانياً، وأنه رغم علمانيته أو بعثيته سينال
(الشرف) الذي عجزت عنه، أو عوقبت بحرمانه جموع المسلمين الملتزمين
بالدين، وأنه سيتولى، تحت رايات البعث أو غيره من الرايات غير الإسلامية،
تحرير بيت المقدس! ولهذا فإن تلك الأفكار تحبذ إن لم تكن توجب على المسلمين
جميعاً أن ينضووا تحت هذا اللواء الفاسد والراية العِمِّية ريثما تتحول إلى راية
إسلامية!
4 - القول بأن القضاء على دولة اليهود سيجيء مع مجيء زمان المسيح
مسيح الضلالة أو مسيح الهداية يبنيه أصحابه على فرضية أن جيل المسلمين
المعاصرين للمسيح هم فقط المطالبون غداً بدفع (فواتير) ما نجتنيه نحن اليوم،
وهم من حيث يدرون أو لا يدرون، قد جلبوا على طائفة الحق السنية مواقف
(انتظارية) قدرية، لا واقعية ولا شرعية، وقد تتخذ في بعض صورها قوالب
بدعية.
5 - الرؤى والأحلام لها إطار ينبغي ألا تتعداه، وهي سلوى للعاملين
المجتهدين، لا طمأنة للخاملين القاعدين؛ فالذي يتصور أنه سيكون غداً أو بعد غد
في الصفوف الأولى ضمن من قال الله عنهم: [وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ] (الإسراء: 7) ، الذي يتصور ذلك في منام أو أحلام، وهو لا يعد نفسه
وغيره لذلك اليوم من اليوم، هو حالم في أحسن الأحوال، وظالم في أسوئها [وَلَوْ
أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ
القَاعِدِينَ] (التوبة: 46) ؛ إذ كيف يترك للمجاهدين اليوم في فلسطين مراكب
الهم والهدم والدم، ويدخر لنفسه غداً مواكب النصر والفخر والعز؟ ! ومع ذلك؛
ليحلم من شاء بما يشاء، ولنؤوِّله له بما نشاء أو يشاء إذا كنا معذرين إلى الله
قائمين في اليقظة بما أمر الله.
6 - أما الحسابات والإحصاءات والمعادلات، فالذي أخشاه أن نظل مشغولين
بموعد نهاية اليهود حتى تأتي نهاية أعمارنا منصرفين أو مصروفين إلى ضرب
أخماسنا في أسداسهم، وطرح حقنا من باطلهم، وجمع قرآننا مع توراتهم في صعيد
التصديق والتأييد!
لقد حُددت سنون وأعوام ... ولكن، لا والله ما كلفنا الله بتحديد خطط الأقدار
الكونية، بل كلفنا بتحديد خطط المواجهة الشرعية لكيد الكفار والفجار!
إن بين يديَّ الآن ما لا يقل عن عشرة من الكتب والأبحاث المطبوعة والمنشورة
بخلاف ما لا يزال تحت الطبع أو تحت التأليف كلها تحدد أزمنة مختلفة لـ (زوال
إسرائيل) ، ولست في معرض الحديث عن تقييمها أو الحكم عليها؛ فبعضها هزيل
منهار، وبعضها جدير بالنظر للاعتبار لا للانتظار.
وفي كل الأحوال فنحن في حاجة إلى موازنة بين مقتضيات التصديق بأمور
الغيب، واعتبارات التطبيق في عالم الشهادة، ولا أظن أننا أكثر إيماناً وتصديقاً
بالغيب من الصحابة الذين لم تحجزهم نبوءات الفتوح الغيبية في دوائر الانتظار،
بل تعاملوا مع تنفيذ الشرائع (افعل ولا تفعل) قبل تفنيد الأخبار (صدق أو لا
تصدق) .
ثانياً: أفكار اليأس من الانتصار:
إذا كان التفاؤل والتبشير بلا عمل يلام، فإن التشاؤم واليأس ولو مع شيء من
العمل مدان، وفي ساحة الإسلاميين اليوم أفكار تشاؤمية جرها علينا شؤم التحرر
من الضوابط الشرعية، والبعد عن التأصيلات العلمية، وإذا كانت هذه الظاهرة
موجودة من أزمنة سابقة وفي أمكنة متعددة، فإنها اليوم تتفاعل بشكل يبعث على
القلق، وبخاصة مع تزايد حدة التحدي المزمن مع اليهود.
وإذا كانت الأفكار السابقة تصبغها صفة غيبية اعتقادية، فإن الأفكار التي
أوردها الآن تكتسي مسحة فقهية علمية، وهذه أمثلة من تلك المواقف:
* هناك من (يبشر) بأنه لا فائدة من دعم العمل الجهادي في فلسطين؛ لأن
ثمرة ذلك الجهاد مصيرها إلى الاختطاف بعد القطاف، والشريعة لم تأمر بإضاعة
المال أو بإلقاء النفس إلى التهلكة. ومن ثم فإن إضاعة الوقت والجهد مع قضية
(خاسرة) فيه إضافة خسارة جديدة إلى العمل الإسلامي الذي لم يعد يتحمل خسائر
أخرى! !
* وهناك من يشكك أصلاً في وجود هذا العمل الجهادي المرشح للاختطاف
على أساس أن الراية الآن ليست إسلامية خالصة، وما دام الأمر كذلك، (فلا
يجوز) القتال تحت راية عِمِّية! فلنبق مكاننا حتى ترتفع للجهاد راية حقيقية
شرعية. ويأخذ بعض هؤلاء على عوام الفلسطينيين وجماهيرهم أنهم (حليقون)
و (مسبلون) وقد يكونون (مدخنين) أو عصاة فاسقين [3] !
* وهناك من يقول: ما لكم ولأمور السياسة؟ اتركوا أمرها للساسة،
وفوِّضوا الأمور لولاة الأمور من الرؤساء والزعماء في فلسطين وما حولها؛ فهم
أجدر بأن يخرجوا الأمة من الأزمة ويسيروا بها إلى بر الأمان! وإلى أن يأتي هذا
الأوان (فلا يحل) لأحد أن يتكلم.. أن يتبرم ... أن يتعلم أو يعلِّم شيئاً يؤدي إلى
(الخروج) على الإجماع العربي المنعقد على أسس متينة من (الشرعية) الدستورية
الجاهلية!
* هناك من يفلسف القعود عن نصرة المستنصرين المستضعفين بأن الله أمرنا
بالعدو الأقرب فالأقرب، فعلى (المجاهدين) في الجزائر مثلاً أن يظلوا مشغولين
بما هم فيه، ولا يشتتوا جهودهم أو جزءاً من جهودهم في معارك (فرعية) مع
اليهود أو غيرهم، وإذا كان الإسلاميون في بلدان أخرى قد أفرغوا الطاقات في
ساحات خاسرة، فهذا حسبهم، ولنترك مواجهة اليهود للأجيال القادمة! !
* وهناك من يعزِّي نفسه بأن الراية الجهادية في فلسطين هي راية (حزبية)
ولو كانت إسلامية، ولأن هذا (الحزب) غير موضوع في قائمة المصالحة أو
الحوار، حالياً ولا مستقبلاً، لشدة الخصومة، أو لعدم الثقة، أو لمواقف نفسية أو
شخصية؛ فإن الانحراف إلى تأييد هذا العمل (الحزبي) هو انحراف عن
«المنهج الصحيح» واعتراف بـ «المنهج المنحرف» وصواب خطه
وسداد سياسته، وهذا «الاعتراف» هو ما لن يكون أبداً، ولو كانت الضحية
فلسطين، أو ما تبقى من فلسطين بشعبها وأرضها ومقدساتها!
إن هذه الطروحات الخمسة أيضاً وغيرها تساهم في تفريغ طاقات شريحة
أخرى من الإسلاميين، وصرف هممهم عن الوقوف مع إخوانهم في محنتهم ومحنة
الأمة كلها معهم.
وعلى كل حال، فإن هذه الأفكار التيئيسية التعجيزية التي تشيع روح الوهن
والاستسلام لا يستحق أكثرها رداً علمياً بقدر ما تحتاج تذكيراً وعظياً؛ لأن الغالب
أن وراء طرحها والله أعلم مشاكل قلبية، لا مسائل خلافية.
قد تسأل أخي القارئ: وهل صحيح أن كل الإسلاميين على هذه المواقف
السلبية؟ وهل تمثل هذه الأفكار الشريحة العظمى من الإسلاميين؟ ! والجواب:
هي في الحقيقة لا تمثل الشريحة الكبرى، ولكن الشريحة الكبرى هي شريحة من
ليست لديهم أفكار أصلاً، لا سلبية ولا إيجابية، وهؤلاء يظنون فقط أن مجرد
متابعة الأخبار على الشاشات والإذاعات مع الحوقلة والاسترجاع يعفيهم من الإثم
عند الله، أو أن مجرد ترديدهم لكلمة (آمين) في القنوت في رمضان سيفتح القدس
بإذن الله! [4] .
أعرف أنني قد فتحت ملفات كثيرة، وأثرت قضايا عديدة قد لا يصلح لمثلي
أن يثيرها أو يتحدث فيها، مع وجود أهل العلم والفضل من ذوي الحكمة
والاختصاص في أنحاء عالمنا الإسلامي، ولكن حسبي أن يكون فتح هذا الملف
نذيراً لنفسي ولمن يطلع عليه من الإسلاميين الصادقين، من الوقوع في هاوية
الانصراف عن الواجبات، أو الانجراف مع التوهمات والتخيلات والتوسمات، في
زمان نحن فيه أسرى واقع مرير مشاهد ومعاش، وفتنة تتطلب لدرئها جهد كل
عامل وداع ومذكِّر ومجاهد. إن فتح هذا الملف مجرد تحذير من المزيد من التخدير
وسط أمة ذات طاقات هائلة ولكنها معطلة.
إن قبساً صغيراً من الجهاد الإسلامي المفروض قد بدأ في اللمعان في ليل
فلسطين الطويل، وهو يحتاج إلى جهود تحوله من قبس صغير إلى شهاب جبار،
والهاجس الأكبر؛ أن يُضيِّع الإسلاميون فرصة استمرار اشتعال هذا القبس فضلاً
عن اتساعه، بتركهم القيام بحق النصرة الواجبة والدعم المفروض، إن الجهاد
القائم الآن، هو نبتة أمل إسلامية في صحراء اليأس العربية، وواجبنا أن نتعهدها
بالسقيا والري حتى يشتد عودها وتورف ظلالها، إنهم يقومون بواجبهم فلنقم بواجبنا.
قارئي العزيز: أراك تبادرني على عجل بالسؤال المنتظر: (وما العمل؟)
وأعاجلك بالجواب: أنت أعرف قبل كل الناس بحدود ما تستطيع أن تعمل، فأكثر
ميادين العمل مفتوحة ومشروعة، وما لم يفتح الآن فسوف يفتح عما قريب بإذن الله،
بحكم الواقع والتاريخ والسنن. فقط ... أرجو منك في وقت مناسب أن تجلس مع
نفسك في اجتماع مغلق مع عقل مفتوح وضمير حاضر لمدة عشر دقائق فقط عشر
دقائق وسل نفسك أمام ربك: هل أديتُ ما عليَّ؟ هل لديَّ جواب إذا استُجْوِبت يوم
الحساب؟ هل أنا بالفعل (عاجز) عن كل شيء ولا أستطيع فعل أي شيء؟ أم
أنني أستطيع أن أفعل كذا وكذا..؟ أنا على يقين أخي الصادق أن مثل هذا الحوار
المتجرد مع نفسك سيولد عندك فكرة أو فكرتين.. أو ثلاثاً أو خمساً، وهذه الخمس
يمكن أن تتحول إلى عشر لو شاورتَ بعد ذلك صديقاً صدوقاً، وهذه العشر يمكن
أن تتضاعف إلى مئة لو قضيت وقتاً أكبر في دائرة أوسع وشريحة أكثر جدية في
تحمل المسؤولية.
لا تظن أنني أتهرب من سؤالك الآنف: (ما العمل؟) فأعدك بأن أعرض
عليك بضاعتي المزجاة في لقاء قريب بإذن الله، وإلى أن يأتي أوان ذلك أطلب منك
طلباً محدداً:
تصور ... تمثل.. تخيل؛ تخيل بكل الجدية والتحقق أن هذه الأم الثكلى التي
تراها في عشرات الوجوه المختلفة هي أمك تبكي يوم فقدت أحد إخوانك ... أو أن
تلك البرعمة الصغيرة الناعمة ... المثقوبة الجسد، المحروقة الأطراف هي ابنتك
الساكنة في قلبك ... أو أن ذلك الصغير التائه الأفكار الزائغ العينين، المتعفر
الثياب باحثاً عن أبيه، هو ولدك المفدى بما تملك.. تخيل أن تلك الفتاة المنزوعة
الحجاب والأخرى المدفوعة بين الذئاب والكلاب هي أختك التي تحبها وتخاف عليها
وتحمي حماها، تصور أن تلك العجوز المرتعشة الأصابع، الضعيفة البصر،
الرافعة كفيها إلى السماء بالدعاء، بعد هدم بيتها وغياب عائلها هي جدتك أو خالتك
أو عمتك! تمثل تلك المرأة المملوءة البطن ... أو المشغولة الصدر التي يردها
أولئك النتنى من شارع إلى شارع، ومن حاجز إلى حاجز! بلى! هي زوجتك..
هي حرمك المستباح! ماذا كنت ستفعل لو أن هؤلاء هم أهلك..؟ ! ماذا كنت
ستفعل؟ هل كان مثلك سيأتي ليسأل مثلي: ماذا أفعل؟ ! أخي: إنهم أهلك!
ماذا كنت ستفعل لو كانوا أهلك؟ أوَ ليسوا أهلك؟ بلى إنهم أهلك وإخوتك
بوشيجة عُقِدت في السماء [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) .
نعم إنهم أهلونا! ولو خذلناهم لنُخْذَلَنَّ، ولئن أسلمناهم لَنَنْدََمَنَّ، ولئن بخلنا
عليهم لنفتقرنَّ ونُحرَمنَّ.
نعود إلى سؤال الساعة: (ما العمل؟) سؤال كبير، وهمٌّ شاخص،
ومسؤولية عظيمة؛ أسأل الله أن يفتح فيه ويعين على معالجته.
فإلى بقية في عدد قادم بإذن الله.
__________
(1) السفياني هو رجل وردت بشأنه آثار وأحاديث تفيد بأنه سوف يخرج قبل مجيء المهدي ويمهد لمجيئه ثم يعاديه، ومجموع هذه الأحاديث كما ذكر الشيخ حمود التويجري لم يصح منها شيء يعتمد عليه (انظر: إتحاف الجماعة (1/49) ، وانظر تحقيق كتاب: (السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها) (5/1027) ، تأليف أبي عمرو الداني، تحقيق الدكتور رضاء الدين محمد بن إدريس المباركفوري.
(2) جزم بعض الكتاب الإسلاميين أنه (صدام حسين) وخالفه آخر فقال: بل هو الملك حسين، فلما مات الملك حسين ظهر رأي ثالث في كتاب ثالث يجزم بأن السفياني هو ابن الملك حسين! ! .
(3) يتناسى هؤلاء أن عوام الأفغان كانوا أسوأ حالاً وقت قيام الحرب مع الروس، ومع ذلك كان أهل العلم والفتوى يختلفون فقط في حكم الجهاد معهم: هل هو فرض عين أم فرض كفاية؟ ! وكذلك كانت شعوب البوسنة وكوسوفا والفلبين وغيرها على أحوال مشابهة، ولم يدفع ذلك أهل العلم عن الإحجام عن الفتوى بشرعية جهادهم ومشروعية الوقوف معهم.
(4) بمناسبة القنوت: فإن فهمي القاصر وإدراكي المحدود لم يستوعب السر في أن النازلة الأفغانية والبوسنية والكوسوفية على بعدها منا كانت أوْلى بقنوت المسلمين في مساجدهم من النازلة الفلسطينية على قربها وجسامة خطرها! ! .(167/66)
المسلمون والعالم
تقرير ميتشيل: دعوة لإجهاض انتفاضة الأقصى
(2 - 2)
د. سامي محمد صالح الدلال
في العدد الماضي من البيان تحدث الكاتب عن قواعد وثوابت مطابقة للحق
على رأسها أن فلسطين كلها من النهر إلى البحر هي ملك للمسلمين، ثم تحدث عن
تقرير ميتشيل وعرف به وناقش مقدمته وفقراته بنداً بنداً، وها هو في مقاله اليوم
يتابع الحديث عما قالته لجنة ميتشيل، مع وقفات مع ما بقي من بنوده.
- البيان -
المستوطنات:
قالت اللجنة: «من الصعب تكريس وقف العنف الفلسطيني الإسرائيلي ما لم
تجمد الحكومة الإسرائيلية نشاطات البناء الاستيطاني كافة» .
«على امتداد نصف قرن من وجودها تلقت إسرائيل دعماً قوياً من الولايات
المتحدة، وفي المحافل الدولية.
» جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكية في حينه قال في 22 أيار (مايو)
1991م: في كل مرة من المرات الأربع التي ذهبت فيها إلى إسرائيل بشأن عملية
السلام، ووجهت بالإعلان عن نشاط استيطاني جديد، إنه أمر يخالف سياسة
الولايات المتحدة «.
ونقف مع هذا الكلام عدة وقفات:
1 - نفهم من تقرير اللجنة وما نقلته من أقوال لوزير الخارجية (جيمس بيكر)
أن إسرائيل ماضية قدماً في بناء المستوطنات ونشرها بسرعة رغم معارضة
جميع الأطراف لها في هذا التصرف.
2 - نحن نعلم مدى ثقل الضغط الأمريكي على الكيان اليهودي فيما لو أراد
أن يضغط، وفي مسألتنا هذه نعتقد أنه لم يكن هناك ضغط جاد على الكيان اليهودي،
ولو حصل لاضطرت الحكومة اليهودية إلى الكف عن الاستمرار في التوسع
الاستيطاني.
3 - إن التوسع اليهودي الاستيطاني يمثل حركة متحفزة في منظومة الخطوط
الاستراتيجية اليهودية؛ لأنه يمثل الحجر الأساس في بناء الدولة التوراتية.
4 - هنا يأتي دور الانتفاضة التي فهمت كيف تتعامل مع الكيان اليهودي وفق
اللغة التي يفهمها، وهي لغة العنف، وهو عنف مشروع يدخل في إطار الدفاع عن
النفس.
5 - هذا العنف الفلسطيني المضاد هو الذي أصابهم بالرعب، وأدخل في
روعهم ضرورة الهجرة المعاكسة، وترك المستوطنات؛ حيث إن الخدمات الحيوية
الهامة بدأت بالتراجع أو التوقف؛ مما دعا الحكومة اليهودية إلى اتخاذ إجراءات
أمنية ووضع خطط مضادة من مثل تكثيف الكمائن ضد الفلسطينيين وتحصين
السيارات التي تنتقل من وإلى المستوطنات وتفعيل الاستخبارات الجوية؛ غير أن
هذه الإجراءات لم تكن مجدية فعلياً؛ حيث استمر تدفق المستوطنين إلى داخل الخط
الأخضر (الأراضي المحتلة عام 1948م) ، وسيستمر بإذن الله.
6 - إن استمرار الانتفاضة سيحول حياة المستوطنين إلى جحيم لا يطاق،
والذي اعتقده أن حكومتهم لن تبقى متفرجة على تعاظم كرة الثلج، وأغلب الظن
أنها قد تقرر الدخول في مغامرات عسكرية ستصل حتماً إلى إعلان حالة الحرب.
خفض التوتر:
قالت اللجنة:» إن تجديد الجهود لوقف العنف يمكن أن يمثل ولوقت محدود
فترة تهدئة يمكن من خلالها عدم تشجيع التظاهرات الجماهيرية في/ أو بالقرب من
نقاط الاحتكاك من أجل كسر دائرة العنف، وفي حال استمرار التظاهرات فإننا
نحض على أن يحافظ كل من المتظاهرين ورجال الأمن على المسافة التي تفصل
بينهما من أجل خفض احتمالات المواجهة المميتة «. انتهى كلام اللجنة.
تعليق:
اتفق الطرفان على فترة تهدئة ووقف لإطلاق النار، غير أن القوات اليهودية
لم تلتزم بذلك ولا ليوم واحد، وهذا يؤكد سبق الإصرار اليهودي على مواصلة
العنف ضد الفلسطينيين، وقد أدى عدم التزام الجيش اليهودي بوقف إطلاق النار
إلى أن تواصل الانتفاضة الدفاع عن شعبها الأعزل.
الفعل والرد:
تحت هذا العنوان ذكر التقرير كلاماً كثيراً لا يخرج في فحواه عن المذكور
سابقاً.
ولنا على ما سبق التعليقات الآتية:
1 - إن الزج بالشباب اليهودي في طليعة المتصدين للانتفاضة الفلسطينية
يضاعف إيقاع المسؤولية على الحكومة اليهودية، ومن ثم فليس فيه تبرئة لها بل
مزيد اتهام.
2 - خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الانتفاضة كان إيقاع القتل من جانب
واحد، وهو الجانب اليهودي، وهذا يعني أن الشعب الفلسطيني قد صبر على تلقي
الرصاص القاتل لمدة تزيد على تسعين يوماً؛ فأين كانت الولايات المتحدة والأمم
المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا؟ !
لم يتحرك هؤلاء إلا بعد أن نفد صبر الشعب الفلسطيني وشرع يدافع عن
نفسه، فهبوا جميعاً للحيلولة بينه وبين الدفاع المشروع، فتتالت الوفود وترادفت
الاجتماعات وازدادت الضغوط، إنهم يريدون أن يذبح الشعب الفلسطيني كما تذبح
النعاج؛ فما أخطر هؤلاء على الإنسانية! !
3 - اعترفت اللجنة بأن الجيش اليهودي يستخدم الأسلحة الثقيلة للرد على
نيران الفلسطينيين الخفيفة.
4 - أقرت اللجنة استخدام الجيش اليهودي للرصاص المطاطي ليقتل به
الفلسطينيين، لكنها طلبت منه سحب القلب المعدني. يا سبحان الله! حتى اللجنة
تريد قتل الفلسطينيين لكن باستخدام الرصاص المطاطي فقط! !
كيف يمكن أن تكون هذه لجنة محايدة لتقصي الحقائق؟ ! !
التحريض:
قالت اللجنة:» في التقارير والأوراق التي قدمت إلى اللجنة، عبّر كل من
الطرفين عن قلقه في شأن اللغة والتصورات الكريهة التي يبثها الطرف الآخر، مع
تحديد العديد من الأمثلة على الخطاب الديني والعرقي المعادي في الإعلام الفلسطيني
و (الإسرائيلي) ، في المناهج الدراسية، وفي تصريحات القيادات الدينية
والسياسيين وغيرها «.
» إننا ندعو الطرفين إلى مراجعة التزاماتهم الرسمية، ورعاية التفاهم
المتبادل والتسامح، والابتعاد عن التحريض والدعاية المعادية «.
» نقترح على الطرفين أن يكونا حذرين بشكل خاص في شأن استخدام
الكلمات بطريقة توحي بالمسؤولية الجماعية «.
تعليق:
التحريض يلازم وجود الصراع، وهو أمر طبيعي، لكن في حالتنا هذه
التحريض من الجانب الفلسطيني يدعو إلى إحقاق الحق وإعادة الحقوق المشروعة
إلى أصحابها الأصليين وهم الفلسطينيون سكان الأرض وأصحابها، وأما التحريض
من الجانب اليهودي فهو يدعو إلى تمكين الباطل باستخدام القوة المسلحة بشكلها
المفرط، وذلك لتكريس الاحتلال وإدامة الهيمنة الباطشة على الأراضي المحتلة،
وسوم أصحابها سوء العذاب والتشريد والتنكيل عبر المجازر والإبادة الجماعية.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للعنف:
قالت اللجنة:» لقد فرض المزيد من القيود من قبل (إسرائيل) على حركة
الناس والبضائع في الضفة الغربية وقطاع غزة «.
» الإغلاقات تتخذ ثلاثة أشكال:
أ - تلك التي تقيد الحركة بين المناطق الفلسطينية وإسرائيل.
ب - تلك التي تقيد الحركة داخل المناطق الفلسطينية (بما في ذلك حظر
التجول) .
ج - تلك التي تقيد الحركة من المناطق الفلسطينية إلى البلدان الأخرى «.
» لقد تسببت هذه الإجراءات في:
* تمزيق وبث الفوضى في حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين.
* رفعت معدل البطالة بين الفلسطينيين إلى ما يقدر بـ 40% وذلك من خلال
منع 41 ألف فلسطيني من العمل في إسرائيل.
* أطاحت بحوالي ثلث إجمالي الإنتاج الفلسطيني المحلي.
* الآثار الضارة للإغلاقات (أي الحصار) :
1 - منع المدنيين من الحصول على العناية الطبية.
2 - منع الطلبة من التوجه إلى مدارسهم «. انتهى كلام اللجنة.
ونعقب على ما ذكرنا بما يلي:
1 - أصابت اللجنة في ذكر بعض الآثار الاقتصادية والاجتماعية للعنف
اليهودي ضد الفلسطينيين. غير أن اللجنة ذكرت في العنوان لهذا المقطع كلمة
» للعنف «في حق الصهاينة باعتبارهم المعتدين.
2 - إن الذي ذكرته اللجنة يدل على مدى الممارسات الهمجية واللاإنسانية
ضد الفلسطينيين.
3 - إن ما يسمى المجتمع الدولي لم يهب لدفع الظلم الشديد الذي وقع ولا
يزال ضد الفلسطينيين، في حين ما أسرع ما كان تحركه في أزمة تيمور الشرقية
النصرانية؛ لأنه يكيل بعدة مكاييل، يختار منها ما يحقق مصالحه ومطامعه وإن
كانت على حساب الشعوب المستضعفة والمضطهدة.
4 - إن تقرير اللجنة أغفل كثيراً من آثار التدمير اليهودية لمرافق
الفلسطينيين مما أدى إلى تشريد الأهالي، بالإضافة إلى ازدياد أعداد المعاقين بشكل
هائل، وتعاظم أعداد الأطفال، وتعاظم الأزمات النفسية التي أصابت الأطفال
الناجمة عن الخوف الذي تسببه الأصوات المدوية لتفجير القنابل وغير ذلك.
الأماكن المقدسة:
قالت اللجنة:» من المؤسف، بشكل خاص، أن الأماكن المقدسة مثل جبل
الهيكل، الحرم الشريف في القدس، قبر يوسف في نابلس، وقبة راحيل في بيت
لحم كانت مسرحاً للعنف والموت والإصابات، هذه أماكن للسلام، للصلاة، للتأمل،
ويجب أن تكون متاحة لجميع المتدينين «.
» إن الأماكن التي تعتبر مقدسة من قبل المسلمين واليهود والمسيحيين تستحق
الاحترام والحماية والحفظ، إن الاتفاقيات التي سبق أن تم التوصل إليها بين
الأطراف المعنية بشأن الأماكن المقدسة يجب أن يتم التزامها، ويجب تشجيع
الجهود الأمنية لتطوير الحوار بين الأديان «. انتهى كلام اللجنة.
ولنا مع كلام اللجنة الوقفات الآتية:
1 - جميع أعمال العنف التي وقعت في الأماكن المقدسة التي أشارت إليها
اللجنة تمت بواسطة اليهود، وهذا ما تم تجاهله، وجاءت بعبارات توحي أن العنف
في تلك الأماكن متبادل بين الأطراف كلها، وهذا تدليس واضح.
2 - ليس صحيحاً ما ذكرته اللجنة من أن هذه الأماكن المقدسة ينبغي أن
تكون متاحة لجميع المتدينين، بل هي أماكن متاحة لأتباع كل دين بعينه، إن
الخطورة في الصياغة التي أوردتها اللجنة تكمن في أن ما يفهم منها هو أن المسجد
الأقصى ينبغي أن يكون متاحاً لجميع المتدينين، وهذا مرفوض لدى المسلمين كلية،
جملة وتفصيلاً.
3 - إن تدنيس شارون المسجد الأقصى جاء مخالفاً لكل ما هو معلوم من
احترام جميع الأطراف للأماكن المقدسة، كما ينبغي أن تدين الاعتداء الذي حصل
على المسجد الإبراهيمي الذي أوقع عشرات القتلى من المصلين المسلمين أثناء
أدائهم للصلاة.
4 - أما قضية تشجيع الجهود الأمنية لتطوير الحوار بين الأديان فلا محل لها
في المسألة المعروضة، وكان ينبغي للجنة أن توضحه وتجليه.
القوة الدولية:
قالت اللجنة:» لقد كان أحد أكثر المواضيع التي أثيرت خلال عملنا إشكالية
موضوع نشر قوة دولية في المناطق الفلسطينية، لحماية المدنيين الفلسطينيين
وممتلكاتهم من جيش الدفاع الإسرائيلي ومن المستوطنين، وهذا ما عارضته
الحكومة الإسرائيلية «.
» إننا نرى أن مثل هذه القوة تحتاج من أجل أن تكون فاعلة إلى دعم
الطرفين «.
» أثناء زيارتنا لمدينة الخليل تلقينا تقريراً من طاقم القوة الدولية المؤقتة فيها
PLPH، وهي قوة وافق عليها الطرفان. إن مهمة هذه القوة هي مراقبة الوضع
المتفجر وكتابة التقارير حول مشاهدتها، فإذا وافق الطرفان، كخطوة لبناء الثقة،
على الاستفادة من تجربة قوة الخليل لمساعدتهم على السيطرة على نقاط الاحتكاك
الأخرى، فإننا نأمل أن يلبي المساهمون في قوة الخليل هذا الطلب «. انتهى كلام
اللجنة.
وهنا نقف الوقفات الآتية:
1 - نحن لا نؤيد نشر قوات دولية في المناطق الفلسطينية؛ لأن تلك القوات
ستشكل استعماراً إضافياً للأراضي المحتلة بغطاء دولي.
2 - لا نشك أن القوات الدولية ستكون متحيزة لصالح العدو اليهودي بحكم
توجهات النظام الدولي.
3 - إن القوات الدولية ستشكل حماية للوضع اليهودي في الأراضي المحتلة؛
لأن الوصول إلى اليهود لطردهم من الأراضي المحتلة سيصطدم بهذه القوات أولاً،
مما يجعل الشعب الفلسطيني وكأنه هو المعتدي وليس المعتدى عليه.
4 - الحكومة اليهودية لا تريد إدخال قوات دولية إلى الضفة وقطاع غزة؛
لأنها تريد هذه الأراضي لها وحدها ووجود هذه القوات يدخل الاضطراب على
مشاريعها الاستيطانية والتوسعية، ولأن القوات الدولية ستكون شاهد عيان على
الإجرام اليهودي الذي تمارسه قوات الدفاع الإسرائيلي والشرطة ضد المدنيين
العزل.
5 - يلاحظ أن اشتراط اللجنة موافقة الطرفين يوحي ضمناً إلى أنها تميل إلى
الرأي اليهودي.
6 - إن عدم توصية اللجنة باستجلاب قوات دولية للضفة الغربية وقطاع غزة
ينسجم ويتحد مع رأي أمريكا ذات الثقل في اللجنة.
مبادرات التقارب بين الشعبين:
قالت اللجنة:» على الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية أن ترعيا
وتدعما، بشكل مشترك، عمل المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية والفلسطينية
المنخرطة في عملية بناء الثقة من خلال مبادرات تربط الطرفين، بما في ذلك
توفير الدعم الإنساني للقرى الفلسطينية من المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية «.
انتهى كلام اللجنة.
ولنا تعليق:
إن الحكومة اليهودية تقوم بكل ما يقع تحت طائلة إمكاناتها في إيقاع التخريب
والدمار في الصفوف الفلسطينية؛ فهي التي تقوم بجرف آلاف الهكتارات من
الأراضي المزروعة، وهي التي تقوم بتدمير الأشجار المثمرة، وهي التي تقوم
بهدم المنازل على قاطنيها، وهي التي تلقي القنابل من الطائرات الحربية وتقذف
بالصواريخ من المروحيات العسكرية على المدن الفلسطينية الآهلة بالسكان، وهي
التي تقوم بعمليات الحصار والتجويع، وغير ذلك كثير، أقول: كيف لمثل هذه
الحكومة أن تخاطب بتشكيل لجان مشتركة للإغاثة والدعم الإنساني؟ ! !
استئناف المفاوضات:
قالت اللجنة:» لقد أعلن كلا الطرفين عن استمرارهما بالتزام اتفاقاتهما
وتعهداتهما، وعلى الطرفين إعلان عزمهما على اللقاء على هذا الأساس من أجل
استئناف مفاوضات شاملة وذات معنى، وبروحية تعهداتهما في شرم الشيخ في
عامي 1999و 2000م «.
» إن على السلطة الفلسطينية، كما فعلت في ظروف دقيقة سابقة، أن تتخذ
خطوات تطمئن إسرائيل في شأن القضايا الأمنية، وعلى الحكومة الإسرائيلية اتخاذ
خطوات مماثلة «.
» على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يتجنبوا في أفعالهم ومواقفهم إعطاء
الكلمة النهائية في تحديد مستقبلهم المشترك للمتطرفين والمجرمين العاديين والباحثين
عن الانتقام «.
» إن أساسات الثقة التي تتطلبها إعادة بناء شراكة فعالة تقوم على قيام كل
طرف بتقديم طمأنات استراتيجية للطرف الآخر «. انتهى كلام اللجنة.
ولنا الوقفات الآتية مع ما ذكر:
1 - رغم إعلان الطرفين عزمهما على استمرارهما بالتزام اتفاقاتهما
وتعهداتهما، فإن هذا الأمر لم يتم إلا من جانب السلطة الفلسطينية، أما الجانب
اليهودي فقد ضرب بكل تعهداته واتفاقاته عرض الحائط، وإلا فلماذا إذاً حصلت
مفاوضات واي ريفر، وواي بلانتيشن، وطابا، وشرم الشيخ، وكامب
ديفيد؟ ! !
2 - ما هي الخطوات التي على السلطة الفلسطينية أن تتخذها لطمأنة
إسرائيل أمنياً؟ ! لقد سقنا عدداً من الخطوات التي اتخذتها تلك السلطة ضد شعبها
وكأنها جندي يعمل تحت إمرة اليهود بما في ذلك الاعتقال والمطاردة والتشريد؛
غير أن كل ذلك لم يكن كافياً للجنة؛ فيا للعجب! !
3 - إن القضايا السياسية التي تطلب اللجنة من اليهود أن يتخذوا في شأنها
خطوات لطمأنة السلطة الفلسطينية غير واردة في التفكير اليهودي، وهم قد أعطوا
لاءاتهم منذ البداية، وهم مصرون عليها، ولا يظهر في الأفق أن هناك توجهاً
لإعادة النظر فيها.
4 - تدعو اللجنة إلى ممارسة السرية المطلقة في اتفاقيات الوضع النهائي،
مما يعني ضمناً أن السبب في ذلك هو أن تلك الاتفاقات لن تكون منصفة للشعب
الفلسطيني، مما سيجعله رافضاً لها. لكن اللجنة عامدة، حادت بالعبارة عن ذكر
الشعب الفلسطيني إلى ذكر» المتطرفين والمجرمين العاديين والباحثين عن
الانتقام «.
5 - مرة أخرى تتلاعب اللجنة بالألفاظ لتمرير معانٍ خطيرة والتي منها
» طمأنات استراتيجية «بين الأطراف فتأمل! !
ثالثاً: التوصيات:
لقد جاءت التوصيات خلاصة لمجمل ما قد ذكرناه في النقاش الذي أدارته لجنة
تقصي الحقائق عبر ما يزيد على ستة شهور، وقد جاء في مقدمة التوصيات:
» على الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية العمل بسرعة وحزم لوقف العنف
ثم إعادة بناء الثقة واستئناف المفاوضات «. أي ثلاثة محاور:
المحور الأول: وقف العنف:
قالت اللجنة:» على الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية التأكيد مجدداً
على التزامهما بالاتفاقيات والتعهدات القائمة والتطبيق الفوري لوقف العنف من دون
شروط، وعليهما أن يستأنفا التعاون الأمني فوراً، وأن يبحثا في توسيع مدى
التعاون الأمني ليعكس أولويات الشعبين «.
» إننا نقر بموقف السلطة الفلسطينية القائل بأن التنسيق الأمني يمثل صعوبة
سياسية في غياب سياق سياسي مناسب «.
المحور الثاني: إعادة بناء الثقة:
انقسمت التوصيات تحت هذا العنوان إلى ثلاثة أقسام: قسم موجه للسلطة
الفلسطينية، وقسم موجه للحكومة الإسرائيلية، وقسم موجه لهما معاً.
قالت اللجنة:
التوصيات للسلطة الفلسطينية:
1- على السلطة الفلسطينية أن توضح للفلسطينيين والإسرائيليين على
السواء، وعبر الفعل الملموس، أنها تستنكر الإرهاب وترفضه، وأنها ستبذل
جهدها الكامل لمنع العمليات الإرهابية ومعاقبة منفذيها.
2 - على السلطة الفلسطينية أن تجدد التعاون الأمني مع الأجهزة الأمنية
الإسرائيلية حتى تضمن لأكبر مدى ممكن أن الفلسطينيين العاملين داخل (إسرائيل)
قد تم التأكد من أنهم ليست لديهم صلات بمنظمات أو علاقة بالإرهاب.
3 - منع المسلحين من استخدام المناطق الفلسطينية المأهولة لإطلاق النار
على المناطق الإسرائيلية المأهولة ومواقع جيش الدفاع الإسرائيلي.
4 - اتخاذ كل الخطوات اللازمة لإنشاء تسلسل واضح وصلب للضبط في
القوات المسلحة التي تعمل تحت السلطة.
5 - فرض السلطة تنفيذ معايير للسلوك والمساءلة، سواء داخل القوات
الرسمية أو بين قوات الشرطة والقيادة السياسية التي تقدم تقاريرها إليها.
التوصيات للحكومة الإسرائيلية:
1 - على الحكومة الإسرائيلية تجميد جميع النشاطات الاستيطانية، بما في
ذلك النمو الطبيعي للمستوطنات.
2 - على جيش الدفاع الإسرائيلي أن ينظر في الانسحاب إلى المواقع التي
كان يتواجد فيها قبل 28 أيلول 2000م، الأمر الذي سيقلص عدد نقاط الاحتكاك
وإمكانيات المواجهات العنيفة.
3 - على الحكومة الإسرائيلية أن تضمن أن يتبنى جيش الدفاع الإسرائيلي
وينفذ السياسات والإجراءات التي تشجع ردود الفعل غير القاتلة على التظاهرات
السلمية بهدف تقليص عدد الإصابات والصدامات بين الشعبين.
4 - على الحكومة الإسرائيلية أن ترفع الأطواق، وأن تحول إلى السلطة
الفلسطينية كل عائدات الضرائب التي تدين لها بها، وأن تسمح للفلسطينيين الذين
كانوا يعملون في (إسرائيل) بالعودة إلى أعمالهم، وأن تضمن أن تكف قوات
الأمن والمستوطنين عن تدمير البيوت والطرق والأشجار وغيرها من الممتلكات
الزراعية في المناطق الفلسطينية.
5 - على الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي أن يتبنيا ويضعا موضع
التنفيذ السياسات والإجراءات لتقليص الخطر على حياة وممتلكات المدنيين
الفلسطينيين؛ آخذين في الاعتبار أنه ربما يكون هدف المسلحين هو استدراج رد
فعل عنيف من الجيش الإسرائيلي.
6 - على الحكومة الإسرائيلية اتخاذ كل الخطوات اللازمة لمنع أعمال العنف
من قبل المستوطنين.
التوصيات للطرفين:
1 - على السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية أن تعملا معاً من أجل
خلق» فترة تهدئة «، وأن تطبقا إجراءات لبناء الثقة سبق أن طرح بعضها.
2 - عليهما استئناف جهودها لتحديد وإدانة ووقف التحريض بكل أشكاله.
3 - على الطرفين التزام بنود اتفاق واي ريفر التي تحرم استخدام الأسلحة
غير المشروعة.
4 - عليهما أن يبحثا في التزام مشترك المحافظة على الأماكن المقدسة عند
المسلمين واليهود والمسيحيين وحمايتها.
5 - عليهما رعاية ودعم عمل المنظمات غير الحكومة الفلسطينية
والإسرائيلية العاملة في المبادرات المشتركة التي تربط بين الشعبين.
المحور الثالث: استئناف المفاوضات:
قالت اللجنة:» إن الجهد الكامل من أجل وقف العنف والعودة الفورية إلى
التعاون الأمني وتبادل إجراءات بناء الثقة هي أمور شديدة الأهمية من أجل استئناف
المفاوضات «.
» يجب ألا نؤجل المفاوضات أكثر مما يجب «.
» نوصي بأن يلتقي الطرفان ليعيدا تأكيد التزامهما بالاتفاقات الموقعة
والتفاهمات المتبادلة وليتخذا الخطوات العملية الملائمة «.
» إذا لم يعودا إلى طاولة المفاوضات فسيواجهان احتمال أن يستمرا في القتال
لسنوات طويلة، بحيث يغادر الكثير من مواطنيهما إلى شواطئ بعيدة ليعيشوا
حياتهم ويربوا أطفالهم «.
وقفتنا مع التوصيات:
أولاً: لقد جاءت التوصيات ظالمة بشكل سافر للشعب الفلسطيني؛ حيث إنها
طلبت من السلطة الفلسطينية:
1 - إيقاف الانتفاضة (تحت مسمى وقف العنف) .
2 - التمهيد لذلك بـ» فترة تهدئة «.
3 - استنكار ورفض ومنع العمليات الاستشهادية وعمليات الدفاع عن النفس،
(تحت مسمى استنكار الإرهاب) .
4 - اعتقال وسجن ومعاقبة من يفعل ذلك من الفلسطينيين.
5 - توفير الحراسة للمناطق اليهودية المأهولة ومواقع الجيش اليهودي
(وذلك بمنع المسلحين الفسلطينيين من مهاجمتهم من المناطق الفلسطينية المأهولة) .
6 - التأكد من أن الفلسطينيين الذين يعملون داخل الخط الأخضر ليس لهم
علاقة مع المنظمات الفلسطينية المشاركة في الانتفاضة، وأن تقوم بفحصهم! !
7 - اتخاذ إجراءات صارمة لضبط القوات المسلحة العاملة تحت إمرتها كي
لا تشارك في الانتفاضة أو تدعمها بل تمارس مهمتها في كبحها ولجم اندفاعها.
8 - التعاون الأمني الكامل مع الحكومة اليهودية والتنسيق معها لتنفيذ كل ما
ذكر.
ثانياً: جاءت التوصيات معضدة ومدعمة ومؤيدة لكثير من مواقف الحكومة
اليهودية. ومن ذلك:
1 - إقرار وجود المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة (اللجنة طلبت
فقط تجميد النشاطات الاستيطانية) ، وطلبت اللجنة من الحكومة اليهودية منع
أعمال العنف من المستوطنين ولم تطلب منها إجلاءهم من المستوطنات، وهذا
إقرار منها بشرعية المستوطنات ووجود المستوطنين فيها.
2 - إقرار وجود شبكة الطرق التي توصل بين المستوطنات فيما بينها أو مع
كافة المدن في داخل وخارج ما يسمى بالخط الأخضر، بل عدم الممانعة من
تدعيمها وزيادة فعاليتها، وعلى الحكومة اليهودية أن توضح للسلطة الفلسطينية أن
ذلك لن يشكل تهديداً للتواصل الجغرافي للدولة الفلسطينية! !
3 - إقرار وجود الجيش اليهودي في المواقع التي أعاد احتلالها بعد بدء
الانتفاضة، وتكتفي اللجنة بالطلب منه إعادة النظر في ذلك.
4 - أقرت اللجنة للجيش اليهودي قتل الفلسطينيين من حيث المبدأ، لكنها
طلبت منه تبني أساليب تقلص من عدد القتلى والمصابين! !
5 - وافقت اللجنة وأقرت أن التدمير الشامل والقتل بأنواعه الذي قام به
الجيش اليهودي له ما يسوِّغه وهو الأسباب الأمنية. إن هذا الإقرار يعطي الضوء
الأخضر من اللجنة للقوات اليهودية بمواصلة أعمالها الهمجية، وممارستها الوحشية
تحت غطاء دولي.
6 - أعطت اللجنة الحكومة اليهودية الحق في مباشرة ممارسات منوعة في
المسجد الأقصى والمساجد الأخرى، وكذلك الكنائس، وأضفت الشرعية عليها في
ذلك تحت مسمى الالتزام المشترك في المحافظة على الأماكن المقدسة.
ثالثاً: أبقت اللجنة دخول الأطراف في مفاوضات الوضع النهائي معلقاً، على
أن لا يتأجل لأكثر مما يجب؛ أي أنها أعطت فترة زمنية مفتوحة إلى حين القضاء
على الانتفاضة التي ينبغي أن يقضى عليها في فترة لا يجوز أن تمتد لأكثر مما
يجب! ! فتأمل! !
ماذا بعد تقرير ميتشيل؟ !
ما إن رفع ميتشيل تقرير (لجنة تقصي الحقائق) إلى الرئيس الأمريكي حتى
انصبت الجهود الدولية كلها في السعي لتنفيذه، ولقد أصبح بإمكاننا أن نطلق على
الفترة الحالية والتي قد تمتد لزمن طويل بأنها» مرحلة تقرير ميتشيل «، ورغم أن
هذا التقرير قد رفع بتاريخ 30/4/2001م غير أن الجدل حول متى وكيف ومن
يبدأ تنفيذه لا يزال قائماً حتى كتابة هذه السطور.
لقد دعمت الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تقرير ميتشيل،
وهلل له الجميع في العموم؛ غير أن استعراض وجهات نظر أهم الأطراف سيلقي
ضوءاً على مرحلة تقرير ميتشيل.
1 - السلطة الفسطينية:
* سارعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى إعلانها الموافقة على هذا التقرير،
لكنها طلبت من الولايات المتحدة الأمريكية تحديد جدول زمني لتنفيذه بأسرع وقت
ممكن.
* ومع عدم حدوث أي تقدم في البدء في تنفيذ تقرير ميتشيل، أعلنت السلطة
الفلسطينية بتاريخ 15 ربيع الثاني 1422 هـ الموافق 6 يوليو 2001م مبادرة
جديدة تستند إلى ثلاثة نقاط، هي:
1 - الإعلان الفوري من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بالالتزام بتنفيذ
توصيات لجنة ميتشيل واعتبارها» رزمة «واحدة وفق» جدول زمني «محدد
وقصير الأمد يتم الاتفاق عليه دون تحفظ من أي طرف.
2 - إعادة تأكيد التزام الطرفين بوقف فوري لكل أعمال إطلاق النار
والاعتداءات والانتهاكات التي تشمل المدنيين والممتلكات وسواها.
3 - قيام لجان من المراقبين الدوليين فوراً تعينهم لجنة دولية بالإشراف على
وقف إطلاق النار، وعلى تنفيذ الجدول الزمني لتطبيق التوصيات.
2 - الحكومة اليهودية:
رغم أن تقرير ميتشيل جاء ليصب في تحقيق الرغبات اليهودية ويضفي عليها
شرعية دولية، إلا أن الحكومة اليهودية أعلنت تحفظها (أو قل رفضها) لهذا
التقرير خاصة فيما يتعلق بالمستوطنات.
ولما رأت الحكومة اليهودية أن موقفها هذا من التقرير سيعزلها دولياً وضعت
شروطاً لتنفيذ بنوده، ورسمت خطتها وفق عدة محاور:
الأول: الدعوة إلى» فترة تهدئة «لا يعلم أي طرف متى ستبدأ! !
ثم» فترة الاختبار «.
ومعنى الهدوء أن» لا يكون هناك إرهاب أو عنف أو تحريض «بحسب
تعبير شارون.
الثاني: التحرك الدولي لتسويق الفهم اليهودي لتقرير ميتشيل، وفي هذا
السياق قام شارون بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا؛
حيث قابل الزعماء: بوش، وشيراك، وبلير، وجير هارد شرودر طالباً منهم
الضغط على السلطة الفلسطينية لتتمسك بالهدنة! !
الثالث: شن هجوم كاسح على السلطة الفلسطينية ممثلة برئيسها ياسر عرفات
لتحقيق هدفين:
الأول: إعادة تلميع صورة عرفات أمام شعبه بعد أن احترقت تماماً.
الثاني: إظهارالسلطة الفلسطينية بأنها سلطة إرهابية، وأنها هي التي تعيق
تحقيق السلام.
الرابع: التراجع عن اتفاقيات أوسلو؛ حيث انتقد شارون اتفاقيات أوسلو
للحكم الذاتي للفلسطينيين الموقعة في 1993م مؤكداً أن أوسلو لم تجلب لا السلام
ولا الأمن.
3 - الولايات المتحدة الأمريكية:
منذ البداية وقفت الولايات المتحدة الأمريكية مع تقرير ميتشيل؛ لكنها تحاول
مسك العصا من الوسط؛ حيث قال ريتشارد باوتشر المتحدث باسم وزارة الخارجية
الأمريكية:» إن الجانبين بحاجة إلى بذل أقصى جهد من أجل وقف العنف،
وسنواصل دعوتهما لعمل ذلك «.
في هذا الإطار جاءت زيارة جورج تينيت مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية
للأرض المحتلة؛ حيث عقد عدة اجتماعات مع المسؤولين الأمنيين الفلسطينيين
واليهود في مكتب الارتباط الفلسطيني الإسرائيلي في رام الله. وقد نشرت وسائل
الإعلام اليهودية تفاصيل خطة تينيت بتاريخ 23 ربيع الأول 1422هـ الموافق
14 يونيو 2001م، وقد تضمنت ما يلي:
أ - يجب عي الفلسطينيين التعهد بما يلي:
* توقيف واستجواب وسجن أعضاء المنظمات الفلسطينية الراديكالية الذين
تتهمهم سرائيل بالتحضير لعمليات إرهابية، والتي سلمت لائحة تتضمن عشرات
من أسمائهم إلى السلطة الفلسطينية.
* تقديم أسماء الأشخاص الموقوفين إلى لجنة أمنية مشتركة.
* مصادرة مدافع الهاون والأسلحة الأخرى التي يحوزها فلسطينيون بطريقة
غير شرعية في انتهاك لاتفاق أوسلو 1993م.
* إغلاق ورشات صنع قنابل الهاون.
* تسليم إسرائيل جميع المعلومات الخاصة بالتخطيط لهجمات.
* منع تهريب الأسلحة.
* وضع حد للحض الرسمي على العنف والهجمات ضد إسرائيل
والمستوطنات اليهودية.
ب - يجب على إسرائيل التعهد بما يلي:
* الامتناع عن مهاجمة المؤسسات المدنية أو العسكرية التابعة للسلطة
الفلسطينية.
* الامتناع عن استخدام الأسلحة القاتلة لتفريق المتظاهرين.
* اتخاذ التدابير اللازمة ضد مواطنيها المسؤولين عن عمليات انتقام أو حض
على العنف ضد الفلسطينيين.
* التحقيق في مقتل الفلسطينيين الذين لم يتورطوا في أعمال إرهابية والذين
قتلوا أثناء مواجهات مع الجيش.
* الإفراج عن الموقوفين الفلسطينيين الذين لم يشاركوا في أعمال إرهابية
وخصوصاً المتظاهرين الذين رشقوا بالحجارة.
* إعادة نشر القوات الإسرائيلية في مواقعها السابقة لبدء الانتفاضة في 28
سبتمبر الماضي.
* رفع الإغلاق عن الأراضي الفلسطينية والحصار الداخلي المفروض على
المدن الفلسطينية.
ج - يجب على الطرفين التعهد بما يلي:
* منع الأفراد والمجموعات من استخدام القطاعات التي تخضع لسيطرتها
كقواعد للقيام بأعمال عنف أو كملاذات بعد القيام بمثل هذه الأعمال.
* الالتقاء مرة في الأسبوع واتخاذ تدابير ملموسة لإعادة إطلاق تعاونهما
الأمني.
* إعادة تنشيط مكاتب الاتصال الإسرائيلية الفلسطينية.
* التشاور بانتظام على المستوى الأمني في مؤتمرات تعقد عبر أجهزة فيديو
بواسطة معدات تقدمها الولايات المتحدة. انتهى نص الخطة.
ولسنا بصدد مناقشة هذه الخطة؛ فهي في فحواها العام لا تكاد تخرج عما ورد
في تقرير لجنة ميتشيل. غير أن المسؤولين الأمريكيين اقترحوا وقفاً لإطلاق النار
غير مشروط تتبعه فترة هدوء لستة أسابيع قبل تطبيق توصيات ميتشيل، وقد وافق
الجانبان الفلسطيني واليهودي على خطة تينيت، ثم أعلن وقف إطلاق النار ابتداء
من 13 يونيو، غير أن هذا الوقف كان صورياً؛ حيث استمر الجيش اليهودي في
ممارسة هوايته اليومية في قتل الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم.
4 - مواقف دول أخرى:
* في بريطانيا أعلن متحدث رسمي أن بلير الذي اجتمع مع شارون لأول مرة
ذكر أنه صديق لإسرائيل، وأنه ليس بصدد أن يملي على أي من الجانبين ما يتعين
عليهما فعله في المرحلة القادمة.
* في فرنسا كانت زيارته فرصة لها لتؤكد تركيزها بالدرجة الأولى على
تطبيق» سريع وكامل «لتقرير ميتشيل.
* في مصر صرح وزير الخارجية أحمد ماهر أن على إسرائيل البدء في
اتخاذ إجراءات جادة وفقاً لما نص عليه تقرير ميتشيل، موضحاً أن التقرير يضع
خريطة توصل إلى مفاوضات الوضع النهائي استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة
والأسس التي عقد بموجبها مؤتمر مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام.
* في سوريا قال الرئيس السوري بشار الأسد في حديث للفيغارو الفرنسية:
» نخشى أن تتقلص مبادرات ميتشيل وتينيت إلى مجرد تحركات للتوصل إلى وقف
لإطلاق النار، ثم تصبح بعد ذلك في مرحلة ثانية مرجعيات جديدة للسلام «.
آفاق مستقبل الانتفاضة بعد تقرير ميتشيل:
إن بؤرة الصراع تتأجج حالياً في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي هذه
البؤرة يوجد متصارعان رئيسان: الشعب الفلسطيني، والكيان اليهودي. ثم خارج
بؤرة الصراع هناك مغذيات ومؤثرات عليها، وهي قسمان:
1 - النظام الدولي (ممثلاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم
المتحدة) ، وتأثيره في بؤرة الصراع يصب لصالح الكيان اليهودي.
2 - الدول العربية والإسلامية، وتأثيرها في بؤرة الصراع متفاوت من حيث
النوع والكم.
لكن كلا القسمين يقف بصف تقرير ميتشيل ولكن على أبعاد متفاوتة. وبغض
النظر عن كل ذلك فإن القرار النهائي في المسألة يتحدد في موقع البؤرة، والظاهر
في الأمر لحد الآن هو أن:
- الانتفاضة ستستمر.
- التصدي اليهودي لها سيستمر.
غير أن إمكانية الكيان اليهودي على استمرار التصدي للانتفاضة بدأ يعتريها
الخلل؛ لأن القضية ليست هي مجرد مواجهات عسكرية ضد جموع جماهيرية
عزلاء، بل هي قد تعدت ذلك إلى مرحلة النخر في البنية السياسية والنفسية
والاجتماعية والاقتصادية للكيان اليهودي بما يجعل إمكانية استمراره على هذه الحالة
الراهنة غير مستطاع، في حين أن الجماهير الفلسطينية لا تزال محتفظة بمخزون
هائل من طاقات المواجهة والصبر والتحمل؛ وعليه فإنا نرى أن استمرار الأمر
على نهجه الحالي سيرجح كفة الانتفاضة بإذن الله ولذلك فإن الحكومة الشارونية
الحالية لن تستجيب إلى هذا النوع من استمرارية المواجهة، بل ستسعى إلى
تطويرها بما يضعف كفة الانتفاضة أو يقضي عليها.
على هذا فإن تطوير المواجهة سيكون ضمن خطين:
الأول: محاولة إعادة احتلال المنطقة (أ) تدريجياً، وسحب البساط السياسي
الذي تقف عليه السلطة الفلسطينية، مما يعني مغادرتها للأراضي المحتلة أو
تعرضها للاعتقال أو التسفير القسري، وقد يتردد شارون في هذا الفعل بسبب
احتمالات المعارضة الدولية؛ غير أن شارون لا يعبأ كثيراً بذلك.
الثاني: تسخين الجبهات الأخرى (السورية واللبنانية) لتشتيت نظر الرأي
العام العالمي وصرفه عن التركيز عما تقوم به القوات اليهودية في محاولة إعادة
احتلالها للمنطقة (أ) .
ولكن أقول: لو حصل هذا، فإن احتلال المنطقة (أ) لن يوقف الانتفاضة،
بل سيزيد المواجهات مع العدو؛ وخاصة بعد زوال التأثير الكابح الذي تقوم به
قوات الشرطة الفلسطينية التي تنفذ سياسات السلطة. إن ذلك سيعمق آثار الانتفاضة
داخل الكيان اليهودي ويزيد كثيراً من خسائره. وأما تسخين الجبهات الأخرى فإنه
سيشكل ثقلاً إضافياً على الحكومة اليهودية ويزيد من أعبائها ويشتت تركيزها، بل
قد يبعثر كيانها السياسي بما سيحدث من اختلافات شديدة بين كتل الائتلاف الحاكم.
وإننا لا نشك أن هذه الاحتمالات جميعاً هي محل نظر ودراسة معمقة لدى
حكومة شارون، غير أن الخيارات المتاحة أمامها باتت قليلة حيث ضاقت عليها
الزاوية داخلياً وخارجياً، خاصة وقد بدأت توجهات الرأي العام العالمي تميل شيئاً
فشيئاً نحو كفة الفلسطينيين.
ولذلك؛ فإن آفاق المستقبل تشير والغيب يعلمه الله تعالى أن اليهود
سيضطرون في نهاية المطاف إلى الدخول في مفاوضات تقود في ختامها إلى
استقلال الضفة الغربية وقطاع غزة استقلالاً حقيقياً مرتبطاً بمعاهدات تعايش سلمي
وعدم اعتداء بين الدولة اليهودية وبين الدولة الفلسطينية.
هذا احتمال.
وهناك احتمال آخر، وهو أن استمرار الانتفاضة قد يفضي إلى حالات حرب
مستقبلية قريبة وبعيدة تهدد الكيان اليهودي ذاته، والله تعالى أعلم.(167/76)
المسلمون والعالم
رمال الجزائر المتحركة
أمير سعيد [*]
مرجل الجزائر اشتد غليانه طوال الأسابيع الماضية، وتناثر منه العديد من
الأسئلة التي لا يعرف اليقين سبيلاً للإجابة عنها: هل تتجه الأزمة الجزائرية
للتدويل؟ ما الأسباب الحقيقية لاضطرابات البربر الأخيرة؟ لماذا الآن بالذات
انفجرت الأوضاع في منطقة القبائل؟ ما حقيقة الصراع بين الرئيس الجزائري عبد
العزيز بوتفليقة وجنرالات الجيش؟ إلى أي مدى استفاد مسلحو الجماعة السلفية
للدعوة والقتال من تفجر الأوضاع في منطقة القبائل؟ هل تدفع الجزائر ثمن
تضارب المصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا؟ لماذا لم تستفد الجزائر
من ارتفاع أسعار النفط في تبسيط المعادلة الاقتصادية الصعبة لديها؟ هل تفككت
الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ وهل يفطن المسلحون في الجبال إلى أن أمريكا وفرنسا
سيعارضان بشراسة وصول الأسلحة النووية والنفط إلى أيدي من يرفعون شعار
الدولة الإسلامية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يحسن أولاً التعرف على ماهية أحداث القبائل التي
أعادت الأزمة الجزائرية إلى صدارة الأخبار مرة أخرى.
انطلقت شرارة هذه الاضطرابات إثر مقتل شاب في مركز للدرك استُقدم
للتحقيق معه بسبب اتهامه بالسرقة، وفور ذيوع الخبر عن مقتل هذا الشاب الذي
قيل إنه تلميذ في المرحلة الثانوية اندلعت التظاهرات من ثانوية بني دوالة بالقرب
من (تيزي أوزو) كبرى مدن منطقة القبائل، ومن ثم تجاوبت معها ولاية (بجاية)
المجاورة، وقد أخذت هذه التظاهرات شكل الاضطرابات العنيفة؛ إذ أحرقت
العديد من مؤسسات الدولة وسياراتها، وقذفت سيارات الأمن والدرك وعناصرها
بالحجارة، وامتدت يد التخريب لتطال مقرات حزب القوى الاشتراكية بزعامة
حسين آيت أحمد، ومقرات حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية بزعامة
الدكتور سعيد سعدي، وقد ردت قوى الأمن بعنف على هذه الاضطرابات مستخدمة
الذخيرة الحية لفضها مما أسفر عن مقتل ما بين 60 - 80 شخصاً معظمهم من
المدنيين، وإصابة المئات منهم، إضافة إلى حرق نحو 25 قرية والعديد من
المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وقد تبع تلك الاضطرابات العنيفة العديد من
المسيرات الاحتجاجية على القمع الرسمي لانتفاضة القبائل بلغت ذروتها في مسيرة
العاصمة التي نظمتها جبهة القوى الاشتراكية، وتجاوزت سقف ربع مليون أمازيغي
(بربري) حضروا خصيصاً إلى العاصمة من معظم مدن وقرى الولايات الثلاثة
البربرية: تيزي أوزو - بجاية - جيجل.
هكذا انطلقت شرارة أحداث القبائل، وهكذا عادت مرة أخرى تحت رماد
الحياة الأمازيغية، وحتى إن بدت عفوية، فقد فجَّرتها قضية مقتل الشاب ماسنيا
على أيدي رجال الدرك؛ إلا أنها قد حدثت في الحقيقة نتيجة منطقية لتراكمات
اجتماعية وسياسية طال أمدها وبقيت دون معالجة من السلطة المركزية، ومن
أبرزها:
1 - غفلة كثير من ساسة وحكام الجزائر وخاصة الأخيرين منهم عن أن
الإسلام، والإسلام فقط هو الذي يجمع بين عرقي الشعب الجزائري (العرب
والبربر) . وإنه متى أخفق الحكام في توكيد هذه الوحدة عبر مظانها بالتطبيق
العادل لأحكام الإسلام خاصة فيما يتعلق برفض التمييز الاثني للشعوب، فإن
النعرات القبلية لا بد أن تجد آذاناً صاغية، والتاريخ الجزائري منذ فجر الإسلام
يبرهن على تلك الحقيقة متمثلة فيما عرف على مر التاريخ بـ (فتن البربر) ،
ولقد فطن الاحتلال الفرنسي لتلك الحقيقة وبذل جهده لتحقيقها حينما بث في روع
البربر من جديد أن العرب قد جاؤوا إليهم منذ 1400 عام! ! فنهبوا ثروتهم،
وفرضوا حكمهم وحكامهم عليهم، وأن الخير لهم أن يديروا شؤونهم بأنفسهم.
ومما يؤسف له أن الثورة الجزائرية قد صاحبت مداً قومياً عربياً رهيباً إبان حكم
الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فمارست منذ نشأتها عام 1962م نوعاً من
التهميش والإقصاء لوجهاء البربر وأفرادهم، والملاحظ أنه منذ ذلك التاريخ وحتى
الآن تكررت اضطرابات البربر (أبرزها الربيع البربري 1980م، مقتل المطرب
القبائلي معطوب الوناس 1998م) بشكل لم يسبق له مثيل في تلك الفترة التي أبعد
فيها الإسلام باعتباره مقوماً ضامناً للوحدة الجزائرية.
2 - الوضع الاقتصادي السيئ الذي يعيشه الأمازيغ وهو بالمناسبة ليس
بمعزل عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة في عموم أرض الجزائر حيث جعل منطقة
القبائل في حالة غليان دائم، مع الأخذ بالاعتبار:
- وقوع أكثر من 50% من الجزائريين تحت خط الفقر (بدخل يومي للفرد
أقل من دولار) ، وإخفاق جميع برامج النهوض الاقتصادي التي وعدت بها الدولة
في تلبية الحد الأدنى من متطلبات المواطن الأمازيغي والجزائري بصفة عامة.
- تبدد الأمل في الخروج من عنق الزجاجة بعدما التهم الفساد الزيادة التي
طرأت على أسعار النفط حين تجاوز الدخل القومي الجزائري العام الماضي 22
بليون دولار منها 10 بلايين دولار من الضرائب على قطاع الهيدروكربونات (أي
ضعف ما تم الحصول عليه من ضرائب الكربونات العام الماضي) ، وهو ما يبرز
التناقض الكبير بين امتلاك الجزائر لإيجابيات اقتصادية تمكنها من تحقيق انطلاقة
اقتصادية وبين حالة الشلل الاقتصادي التام، والبطالة، وتناقص فرص العمل التي
تعيشها الجزائر اليوم.
3 - الخصوصية القبلية الأمازيغية التي تفسر انفراد ولايات البربر دون
غيرها بتلك الاضطرابات؛ فالشعب الأمازيغي شعب تحرري (كلمة أمازيغ تعني
بلغة البربر: الرجل الحر) يجري الدم الثوري في عروقه، وبحسبه أن يشعر
بالظلم والمهانة لمقتل شاب على يد دركيين حتى يثور وتمتلئ نفسه رغبة في
التظاهر العنيف والتخريب والحرق؛ فالأمازيغيون بحسهم الثوري رأوا في تلك
الحادثة امتداداً لما يرونه إقصاءً وتهميشاً لدورهم واستبعاداً متعمداً لأبنائهم.
وعلى ذلك فإن الخصوصية القبلية والحالة الاقتصادية المتردية وتغييب
الإسلام عن أخذ دوره المحكم في ترصيص بُنى الشعب الجزائري إذن هي أهم
روافد اضطرابات القبائل، ولكن بعض المحللين رأوا من وراء تلك الأحداث تدبيراً
متعمداً من جنرالات الجيش لإحراج الرئيس بوتفليقة تمهيداً لإزاحته عن سدة الحكم،
ولاحظوا كذلك أن قمع التظاهرات بهذه الصورة المبالغ فيها (60 - 80 قتيل،
ونحو 400 جريح) كان أيضاً متعمداً وبهدف صب الزيت على النار لإظهار
بوتفليقة بمظهر الديكتاتور القامع لشعبه، أو لإظهار عجزه أمام شعبه عن وضع حد
لهذه الاضطرابات؛ حتى إن الجميع وهم ينتظرون بشغف خطاب بوتفليقة للأمة
الجزائرية عن هذه الأحداث فوجئوا بالرئيس (اللبق) يخرج عليهم بكلام مكرر
يتهم الخونة في الخارج بإشعال الأزمة، ويعد بلجنة تحقيق يعرف الجميع أنها لن
تفضي إلى شيء؛ مما جسد لديهم الإحساس بعدم قدرة الرئيس على إدارة الأمور.
ويرى بعض المحللين أيضاً أن هذه الأزمة القبلية قد أذكى نيرانها أطراف خارجية
وداخلية ترى من مصلحتها انفصال منطقة القبائل، وأنها استغلت تلك الحادثة في
تأجيج ذلك التوجه، وذكروا في هذا الخصوص احتضان دول أوروبية لمطالب
البربر مثل فرنسا التي ما تفتأ تذكِّر البربر عبر وسائل إعلامها الموجه
بخصوصيتهم، وضرورة أخذ مطالب البربر الاستقلالية والثقافية في الاعتبار،
ومثل أسبانيا التي استضافت المؤتمر البربري العالمي مؤخراً على أراضيها والذي
عبأ جاليات الشتات البربري، وانطلقت فيها الدعوات صريحة تطالب بالانفصال
عن الجزائر الأم، وكذلك بلجيكا وإيطاليا اللتان توجد على أرضهما كذلك زعامات
الحركة الثقافية البربرية.
ثمة تحليل أخير لا يستبعد يداً خفية للاستخبارات الجزائرية وراء انتفاضة
البربر تهدف بالأساس إلى سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الأمازيغية لا سيما
جبهة القوى الاشتراكية التي تزعمها الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد، وإظهارها
بمظهر العاجز عن تبني تطلعات البربر الثقافية والاجتماعية، وأن على البربر ألا
يعوِّلوا كثيراً على الأحزاب، وأن يتدبروا أمورهم بأنفسهم.
هذا الرأي على غرابته لا يشذ بعيداً عن الواقع الجزائري الذي يتزاحم في
ملعبه اللاعبون المحليون والمحترفون الذين تتنافر مصالحهم فيه إلى حد التناحر،
وهو ما يؤدي بدوره إلى توالد الأزمات في إثر بعضها: انفجار القبائل، كثرة
المجازر، افتقار النظام إلى النظام، تسرب الثروة الجزائرية إلى جيوب حفنة من
المنتفعين، عدم نجاح برامج الإصلاح الاقتصادي، عجز البرلمان عن أداء دوره،
تفاقم ظاهرة الانتحار ... إلى العديد والعديد من الأزمات والمشاكل الطاحنة التي
خلفها التضارب في مصالح المتنفذين في الشأن الجزائري.
يقول مجدي عمر وكيل أول مجلس للدفاع الوطني المصري في عهد الرئيس
عبد الناصر: إن الجزائر في موقف خطير؛ لأن هناك صراعاً خفياً وقديماً بين
أمريكا وفرنسا: من الذي يسيطر على الجزائر؟ وفي وقت ما قيل إن بعض
شركات البترول الأمريكية كانت على صلة بشخصيات في الثورة الجزائرية، وهذا
يصدق من حيث المنطق؛ فالجزائر دولة ضخمة في مواردها، وقربها من أوروبا،
ومن ثم نتساءل: مَنْ وراء هذه المذابح الرهيبة هناك؟ بعد انهيار الاتحاد
السوفييتي اشتد الصراع بين فرنسا وأمريكا على الجزائر، وبرغم أن فرنسا
وأمريكا في منظومة غربية واحدة إلا أن هذا لم يمنع التنافس الشرس على الجزائر؛
ففرنسا بحكم الارتباط الثقافي بينها وبين الجزائر. أما أمريكا فبحكم أنها الدولة
العظمى كان لا يمكنها أن تترك موقعاً كهذا، وانظر ما يحدث في منطقة القبائل،
ويقال إن المذابح تحدث بالقرب من معسكرات القوات المسلحة دون أن تحرك
ساكناً « [1] .
أمريكا التي زار قيادة قواتها في ألمانيا اللواء العماري رئيس الأركان
الجزائري، والتي قامت بوارجها الحربية بمناورات وتدريبات في المياه الإقليمية
الجزائرية، وازداد نفوذها النفطي والعسكري مؤخراً هي أحد أهم اللاعبين على
الخريطة الجزائرية.
لكن فرنسا كما هو معلوم الدخيل الأجنبي الأول على الساحة الجزائرية، لا
تقبل بحال التسلل الأمريكي لهذه الساحة، وهي ما تزال تحتفظ بمعظم أوراق اللعبة
الجزائرية عبر سيطرتها شبه الكاملة على جنرالات الجزائر، والجسور المتينة التي
تربط علاقاتها بالتيار العلماني الاستئصالي، والقبائلي، والثقافي، والفرانكفوني.
فرنسا وأمريكا إذن هما أبرز النافذين الخارجيين في الجزائر، أما في الداخل
فثمة قوى مؤثرة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 - جنرالات الشرق والغرب الجزائري:
وهم يُحكِمون سيطرتهم على القرار الجزائري، وأبرزهم الفريق محمد
العماري رئيس الأركان، واللواء مدين (توفيق) رئيس جهاز الاستخبارات،
واللواء إسماعيل العماري رئيس جهاز مكافحة التجسس (مهندس اتفاق الهدنة مع
الإنقاذ) بالإضافة إلى المتقاعدين: الجنرال العربي بلخير (وزير الداخلية الأسبق) ،
واللواء خالد نزار (وزير الدفاع الأسبق المسؤول عن إلغاء الانتخابات 1990م،
التي فاز بها الإنقاذيون، وعن إقالة الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد) .
وهؤلاء الجنرالات يهيمنون على أربعة أجهزة أمنية هامة هي:
- جهاز مكافحة التجسس (يُعنى باختراق خلايا المسلحين) .
- جهاز الأمن العسكري (يُعنى بسلامة رجال المؤسسة العسكرية وثكناتها) .
- الأمن الخارجي (يُعنى بجمع معلومات عن المعارضة الإسلامية في
الخارج والداخل) .
- الأمن الخاص (يُعنى بوحدات مكافحة المسلحين وحماية شخصيات النظام) .
وغني عن القول أن الجنرالات يستمدون عظيم نفوذهم من القدرة على إبقاء
البلاد في حالة الاتزان بين العنف واللاعنف، وهو ما يدعمه المعلومات الموثوقة
التي تواترت عن تورط هؤلاء في ارتكاب المجازر سواء بصورة مباشرة أو من
خلال غض الطرف عن أفعال شطر في الجماعات المسلحة، أو المعلومات الظنية
التي تحدثت عن أيد لهم خفية في أحداث القبائل أو اغتيال العديد من الشخصيات
العامة (آخرهم رئيس قضاة المحكمة العليا 21/6/2001م، وأبرزهم الرئيس
بوضياف قاصدي مرباح رئيس الاستخبارات الأسبق عبد القادر حشاني الرجل
الثالث في الإنقاذ) .
ورغم قوة نفوذ الجنرالات والدعم الفرنسي لهم وسيطرتهم على معظم دخل
النفط الجزائري، إلا أن القلق قد بدأ يسري إليهم مما دفع ببعضهم إلى نقل معظم
ثرواتهم إلى سويسرا تحسباً لأي طارئ.
2 - الرئيس بوتفليقة:
يحظى بدعم أمريكي وشعبي محدود، وقد أشيع مؤخراً أنه بدأ سراً في إجراء
اتصالات مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية، وبعض الدول
الأوروبية بهدف حشد الجهود الدولية والشعبية لاستبقائه في منصبه لا سيما بعد أن
خرجت خلافاته مع الجنرالات إلى حيز العلن، وتتردد معلومات تؤكد أن إطاحته
من منصبه مجرد وقت بعد أن شب عن الطوق العسكري.
3 - الإسلاميون ومنتسبوهم:
جماعات متعددة أهمها:
- جماعات توصف بالاعتدال: من بينها حركة (حماس) ، وحركة
(النهضة) ، وأبرزها (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) ، وهذه الأخيرة برغم تعرضها
للتفكيك في الداخل، والانشقاق في الخارج، واستقطاب عناصرها المسلحة من قبل
الجماعة السلفية للدعوة والقتال، والاغتيالات من قبل الحكم والخوارج، والأسر
لقيادتها التاريخية إلا أنها ما زالت تمثل الحلم الإسلامي في الجزائر؛ حيث تملك
الجبهة الجيش المنظم، والغطاء السياسي، والشبكة الخارجية الواعية، وقبل ذلك
البرنامج الإصلاحي الشامل المؤسس على قواعد أيديولوجية رصينة.
- جماعات توصف بالتشدد: أبرزها اثنتان:
الأولى: الجماعة السلفية للدعوة والقتال بقيادة حسن حطاب، وهي تدعو
لإقامة دولة إسلامية، وتقتصر مجهوداتها العسكرية على استهداف العسكريين فقط؛
ولذا فهي تملك بعض الشعبية المتنامية (خاصة في أحداث القبائل التي هتف فيها
المتظاهرون!» معك يا حطاب «) لكنها لا تملك أي غطاء سياسي.
الثانية: الجماعة الإسلامية المسلحة بقيادة عنتر الزوابري: امتداد تاريخي
لجماعات الخوارج التي ظهرت في الجزائر من مئات السنين (تشاطر الاستخبارات
الجزائرية المجازر التي ترتكب بحق الأبرياء) .
4 - جماعات الضغط البربرية:
أبرزها تجمعات (شيوخ القبائل) جبهة القوى الاشتراكية (تضغط بقوة
لتدويل الأزمة) التجمع من أجل الديمقراطية والثقافة (فرنسي النزعة شديد
العلمانية) : تلك الجماعات تتراوح مطالبها بين المطالب الاجتماعية والانفصال
مروراً بالخصوصية الثقافية واللغوية.
وهكذا تتباين القوى الفاعلة في الجزائر، وكلما تغيرت موازين القوى انعكس
ذلك على صور الأزمة؛ وبذلك تتعدد الصور لكنها لا تنتهي! !
وبعد: فكما تقدم يتضح كم تعاني الجزائر جراء التناقض الرهيب بين
الأطراف الداخلية والخارجية، وكم تعاني إثر ذلك من تبدل موازين القوى الذي
يؤدي بدوره إلى توالي السهام في صدر الجزائر!
__________
(*) صحفي وكاتب مصري.
(1) جريدة الأهرام، 2/6/2001م.(167/88)
المسلمون والعالم
تركيا الكمالية تشترك مع الصهاينة في العداء للإسلام
د. إسماعيل المنصور
يمر الإسلام والمسلمون في تركيا الكمالية في هذه الأعوام الأخيرة ومنذ تسلم
فيها أربكان الحكم في سنة 1996م لمدة قصيرة لا تزيد على أحد عشر شهراً؛
بأزمات ومصاعب تقشعرُّ منها الجلود، وتشمئز منها النفوس، ويعانون من
الحكومة التركية العلمانية ضغوطاً ومطاردات وملاحقات وتشريدات وتعذيبات لم
يشهدها التاريخ أبداً لا في أيام هولاكو ولا في أيام أتاتورك وعصمت إينونو اللذين
كُلِّفا في معاهدة (لوزان) من طرف سادتهما الغربيين بالقضاء على الإسلام قضاء
باتاً.
إن الجمهورية التركية العلمانية البالغة من العمر ثمانية وسبعين عاماً عرفت
عبر عمرها الإسلام بمضمونه السياسي عدواً لدوداً وخصماً عنيداً لها، وربَّت
الجمهورية العلمانية جميع أبنائها المخلصين لها من الليبراليين العلمانيين
الديمقراطيين، وكذا ربت جميع حراسها من الضباط العسكريين كما يزعمون هم
أنفسهم أنهم حراس لنظام الجمهورية العلمانية الكمالية على دعوى أن أكبر الأخطار
الداخلية على النظام الجمهوري العلماني هو الإسلام والإسلاميون؛ فمن هنا ترى أن
جميع من في الجمهورية التركية من اليهود والنصارى واليزيديين والرافضة
والملاحدة والفسقة الفجرة حتى اللوطيين والزناة واللصوص والمرتشين يتمتعون
بحريات كاملة في الإعراب عن آرائهم، والإبانة عن وجهة نظرهم، والإفصاح
عن معتقداتهم، وتطبيق طقوسهم وعباداتهم، ولا يتعرض لهم أحد بشيء؛ حتى إن
اللوطيين رتبوا في أواسط التسعينيات مظاهرة اشترك فيها جميعهم في أكبر شوارع
إستانبول، ولم يتعرض لهم أحد بكلمة سوى أن شرطة الحكومة حرستهم من أن
يتعرض لهم أحد بسوء، وكذا لبعض الأقليات الدينية مدارس يصرف عليها ميزانية
ضخمة تؤمن من الداخل، وتستورد من الخارج مثل مدارس السريانيين في دير
الزعفران، ودير عمر في ماردين، ولا يحاسب أحد هؤلاء عن مصدر تلك
الموارد الضخمة، وكيف تصرف؟ ولكن إذا ساعدت إحدى الجماعات الخيرية من
الخارج هيئة إسلامية في داخل تركيا وعلمت بها سلطات الأمن التركي ترى كيف
تثور عنجهيتهم العلمانية الخرقاء، وتقوم قيامتهم، ويرون أن العلمانية وقعت في
خطر بالغ بذلك الدعم الإسلامي. ويعرب عن مدى حذر العلمانيين من المسلمين في
تركيا وعن بالغ قلقهم على مصير العلمنة ما قاله (حسام الدين جندورك) حينما كان
رئيس حزب الصراط المستقيم في أواسط الثمانينيات: «إننا لو أفسحنا المجال
للمسلمين وأعطيناهم الحرية الدينية لخرجوا أيام الجمعة من المساجد يرفعون
المصاحف طلباً للشريعة» .
فرغماً عن أن المسلمين في تركيا يشكلون 98% من عدد السكان لكن لا تجد
لهم أي وزن لا في كفة السياسة، ولا في كفة الجيش، ولا في كفة الاقتصاد الذي
تقبله الجهات الرسمية، كما لا يعطى لهم أية حرية دينية سوى كونهم يصلون
ويصومون صلاة بلا روح وصياماً بلا وعي؛ حيث انتزع منهما فاعليتهما
الاجتماعية، وصارتا مجرد حركات تقليدية لا يفعلها كثير من الناس إلا لتقليد الآباء
والأمهات فقط. ترى المساجد تكتظ بالآلاف المؤلفة من الناس ولكنهم غثاء كغثاء
السيل لا خير في حشودهم ولا نفع في وجودهم، ولا يسمن ولا يغني من جوع إلا
ما شاء الله.
أول المحاولات للقضاء على الإسلام:
إن الجمهورية التركية أسست أول ما أسست على عداوة وخصومة شديدة
للإسلام، وكسيت تلك العداوة بلباس أعجوبة نظامية جعلت الأيديولوجية الوحيدة
للدولة الفتية ضد الإسلام والمسلمين ألا وهي العلمنة، فجعلت أيديولوجية العلمنة
الترس الوحيد الذي يحتمي خلفه جميع من له غرض على الإسلام والمسلمين من
الشيوعية والرافضة والدونمة اليهود والصليبيين الحاقدين أو من له غرض سيئ في
ثروات الدولة من اللصوص والناهبين الذين يتحينون الفرص في سلب أموال الدولة
وثرواتها. ورُبِّيَ على روح هذه العداوة الوقحة للإسلام حشد بالغ من المثقفين
والضباط والصحفيين وغيرهم من الليبراليين الذين يدعون أنهم ديمقراطيون؛ فهذا
الجيل الحاقد على الإسلام لا يشفي غيظ صدورهم إلا الهجوم الوقح على الإسلام،
وانتهاك قداسته وتشويه سمعته وتلويث كرامته في أية فرصة سانحة لهم كما سنذكر
ذلك.
أول الخطوات المشؤومة لهذه الدولة الأيديولوجية التي أسست بروح العداوة
البحتة للإسلام على أنقاض الإمبراطورية العثمانية كي تقر أعين الصليبيين الحاقدين
كان إلغاء الخلافة الإسلامية وشريعتها تماماً، وتبني العلمنة المادية التي هي أشبه
بالإلحاد العاتي في تطبيقاتها وسلوكياتها الموجودة في تركيا، وتثبيتاً لجذورها في
أعماق المجتمع حقق القائمون على الثورة الجمهورية وعلى رأسهم أتاتورك ثم بعده
عصمت إينونو ثورات غريبة الأصل والشكل هي فريدة في بابها ونسيج وحدها:
منها ثورة الأحرف أي الثورة على الأحرف العربية والعثمانية حتى لا تبقى للمجتمع
أية صلة بماضيه الإسلامي فيتولد منه وعي إسلامي؛ ومنها الثورة على التدريس
الإسلامي بتوحيد الدراسة وإغلاق جميع المدارس الشرعية والمؤسسات الإسلامية
وحذف المواد الإسلامية من المدارس الإسلامية. ومنها الثورة على الزي الإسلامي
في الملابس والثياب، فحظروا جميع الملابس الرجالية التي لها صلة بالإسلام من
العمامة والعباءة والجبة والثوب العربي، ومن الملابس النسائية حظروا الجلباب
وسائر ما تستر به المرأة بدنها الستر الكامل، وأوجبوا كشف الرأس على الرجل
والمرأة إذا كانت عاملة في الوظائف الحكومية، وكثروا ويسروا جميع الوسائل
لاختلاط النساء بالرجال في جميع الأماكن والمناسبات، وهذا بدوره أتى بفساد
عجيب وانهيار خلقي وانحلال أخلاقي عظيم؛ فكان ضربة قاسية أصابت مقتل
الأمة. ومنها الثورة على الأخلاق والأعراف والتقاليد الإسلامية كاملة؛ فكانت أول
خطوة في هذا المجال تأسيس معاهد تسمى بـ (معاهد القرى) ، وأسسوا بجنب
تلك المعاهد سكناً للطلاب أجبروا فيها الطلاب والطالبات على الإقامة والمبيت معاً
في الغرف نفسها حتى لا يبقى في نفوس الجيل الجديد أي وازع ديني أو رادع
خُلُقي من الحياء والحشمة والعفاف. ومنها منع بعض الشعائر الإسلامية مثل الأذان
العربي؛ فقد تمت ترجمته إلى التركية، وإغلاق الكثير من المساجد، وحول مسجد
آيا صوفيا إلى (متحف) و ... و ... و ...
وتنفيذاً لأهداف العلمنة وترسيخاً لجذور هذه الثورات التي تعد اللبنات الأولى
للجمهورية الكمالية العلمانية شنق فيما بين العشرينيات والأربعينيات جم غفير يعد
بالألوف من الصلحاء والعلماء وأرباب الهمم من المسلمين الذين رفضوا العلمنة
وإلغاء الخلافة والشريعة الإسلامية؛ وهاجر إلى خارج البلاد عدد آخر منهم فراراً
بدينهم من أمثال (مصطفى صبري) شيخ الإسلام للدولة العثمانية وغيره كثير.
الخطة الرهيبة التي تطبق في القضاء على الإسلام:
نعم! إن تلاميذ مدرسة أتاتورك وعصمت المعاصرين أنكى وأضر وأشد على
الإسلام منهما بكثير؛ لأن هؤلاء يأخذون مخططاتهم ومشاريعهم التي ينفذونها في
سبيل القضاء على الإسلام من مراكز استراتيجية عالمية درس فيها الصهاينة
والصليبيون الحاقدون ولا يزالون يدرسون جميع ما هو أنكى وأضر وأعظم مفعولاً
في استئصال شأفة الإسلام من مجتمعاته، وازداد وعي هذا المركز وخبرة الدارسين
فيه خاصة بعدما شوهد هنا وهناك على الصعيد العالمي تقدم الصحوة الإسلامية يوماً
فيوماً ونجاحها الواسع في شتى الميادين وخصيصاً ما وقع في إيران وأفغانستان
على رأس الثمانينيات، وتأسيس حركة حماس في فلسطين، والتقدم الهائل الذي
أحدثه الإسلاميون في كل من تونس وتركيا وسوريا والجزائر فيما بعد الثمانينيات
إلى أواسط التسعينيات، كل هذه التطورات على صعيد الصحوة الإسلامية أرّقت
الصهاينة وأنصارهم من الصليبيين الحاقدين؛ فمن هنا درسوا ويدرسون جميع ما
يمكن أن يقضوا به على الإسلام الذي يدعو الناس أن يرفضوا ويقضوا على
الاستعمار الغربي في ربوع العالم الإسلامي.
فترى اليوم أن الصهاينة وأنصارهم من الصليبيين يطبقون في شتى البلاد
الإسلامية بمكر ودهاء لا مثيل له على أيدي حفنة من المارقين الذين ضللت أدمغتهم
ورؤوسهم وصاروا أسرى التقليد للغرب يطبقون مخططاتهم في القضاء على الإسلام
واقتلاع جميع جذوره من جميع المجتمعات الإسلامية، وضمن هذا المخطط
المشؤوم يحاربون كل ما هو إسلامي من غير رفق ولا هوادة، وخير أنموذج لما
يطبق فيه ذلك المخطط الرهيب هو تونس وتركيا وأندونيسيا. ولكن نترك تلك
الدول جانباً ونتناول بشيء من التفصيل ما يجري اليوم على الساحة التركية من تلك
الخطة الرهيبة في القضاء على الإسلام وجميع شعائره كي نرى عن كثب ما يدبره
اليهود والصليبيون خلف الأبواب المسدودة ضد الإسلام، ويطبقه على رؤوس
الأشهاد أذنابهم المرذولون في المجتمعات الإسلامية.
ويمكن تلخيص هذه الخطة الرهيبة في كلمة واحدة وهي: تجفيف جميع
المنابع الإسلامية التي تستقي منها الشعوب الوعي الإسلامي.
إن الجيش التركي أسس من أول يوم ليكون حرباً على الدين وحراسة للعلمنة،
فترى أن الدستور الأساسي لتركيا ينص على ذلك من خلال المادة 136؛
فانطلاقاً من هذا صار الجيش التركي سيفاً مصلتا على الشعب التركي يمنعه من
جميع نشاطاته الإسلامية منذ أن أسس الجيش على يد أتاتورك إلى يومنا هذا.
العلمنة هي الأيديولوجية الوحيدة للجيش التركي كما أسلفنا ولكن ليست
بالصورة المطبقة في الغرب بحيث تعطي الحريات الدينية للناس حتى يطبقوا أوامر
دينهم كما يأمرهم به، بل هي علمنة شيوعية إلحادية تحارب الدين أكثر من محاربة
الشيوعية لها.
تقدم حزب الرفاه والكيد به:
إن من شدة عداوة الجيش التركي للإسلام أنه حينما أحس بتقدم حزب الرفاه
وفوزه في انتخابات 1995م بدأ يستعين سراً بالرافضة الموجودين في تركيا الذين
هم قلة قليلة فجعلوهم في المناصب العليا، وسلموا لهم مناصب مهمة، وحقد هؤلاء
على المسلمين لا يقل عن حقد الصهاينة والصليبيين بل ربما أشد بكثير، فصارت
فرقة الرافضة يقيئون جميع سمومهم على المسلمين.
وإلى جنب هذا الاتفاق اللئيم السري بين الجيش والرافضة ضد المسلمين وقع
اتفاق آخر هو أشد من الأول وهو تحالف ضمني وقع بين القوى الثلاث في البلاد
التركية وهم: الوطنيون الطورانيون، والديمقراطيون الليبراليون، واليساريون
الشيوعيون الماركسيون. فتلك القوى الثلاث بما أنها تتجمع على بساط العلمنة
تحالفت وتآزرت أيضاً في الكفاح ضد المسلمين فكان ضرر هؤلاء أكبر على
المسلمين؛ لأن جميع القرارات التي كانت تحتاج إلى مسوِّغ قانوني من إغلاق
مدارس تحفيظ القرآن الكريم وإغلاق ثانوية (الأئمة والخطباء) وغيره إنما أخذت
وقننت على أيدي هؤلاء؛ فكان الجيش يوجه وهؤلاء كانوا يطبقون؛ فمنذ عام
1995م والشغل الشاغل لجميع الكوادر الحكومية العليا في تركيا هو الكفاح ضد
الإسلام، وتجفيف منابع العمل الإسلامي في جميع المجالات، فمن هنا ترى أنهم
منعوا قانونياً تعليم القرآن الكريم لمن هم دون اثني عشر عاماً من العمر.
تجفيف المنابع:
إن ما يرتكبه اليوم الحاكمون بأمرهم في تركيا ضد الإسلام والمسلمين من
طرد وتشريد ذريع وتعذيب فظيع بحيث تقشعر منه الجلود وتشخص منه الأبصار
يفوق الوصف، ويمكننا أن نلمسه في المظاهر الآتية:
1 - تشويه سمعة الإسلام والمسلمين بكل ما أمكن من شتى الوسائل الإعلامية
وبخاصة على شاشات التلفاز كما رأينا ذلك بأم أعيننا في قصة تزويج المخابرات
التركية إحدى نسوانها (فاطمة شاهين) بواحد من رؤساء إحدى الجماعات
الإسلامية (مسلم كوندز) وفضح أمره على رؤوس الأشهاد بحيث تكلم به وكتب
عنه الناس أياماً عديدة.
2 - اغتيال المسلمين وخصيصاً من رأوا فيه دراية وبصيرة ونشاطاً وحكمة
من أمثال عز الدين يلدريم رئيس وقف الزهراء الإسلامي وجماعة النورسيين
الزهراويين، وزكريا آي، وإسماعيل أوز يورت، وغيرهم من الكثير الكثير
حتى أخبرني من أثق به من ذوي المناصب العليا في الحكومة التركية أن جهات
المخابرات والأمن أعدت فيما بينها قائمة بأسماء المسلمين الذين يريدون أن يغتالوهم
تحتوي على أسماء ثمانية آلاف أو أحد عشر ألف مسلم، وقالت تلك الجهات: إننا
إذا قتلنا من هؤلاء الرجعيين هذا العدد فإننا نخلص البلد من الرجعية (الإسلام)
على حسب تعبيرهم ولا تزال الجهات الأمنية تتبع الطريق نفسه عند من يريدون
قتله؛ والكيد الذي يطبق الآن في اغتيال المسلمين في تركيا هو المخطط نفسه الذي
كان الفرنسيون يطبقونه ضد الجزائريين سنوات كفاحهم لتحرير بلادهم من
الاستعمار.
3 - إغلاق جميع المؤسسات التي كان يجري فيها التعليم الإسلامي من
مدارس تحفيظ القرآن الكريم وثانوية (الأئمة والخطباء) والمدارس الإسلامية
الأخرى، أغلق أكثر من أربعة آلاف مدرسة من مدارس تحفيظ القرآن الكريم،
والآن يعملون لإغلاق كليات الإلهيات أيضاً التي ما يدرس فيها من العلوم الإسلامية
إلا القليل.
4 - الحد من نشاطات جميع الأوقاف والجمعيات الخيرية والهيئات
الإسلامية؛ فمنعت كلها من جميع نشاطاتها الكثيرة العظيمة؛ فأغلقت هي نفسها،
لأنها لا تستطيع أن تستمر في نشاطاتها من كثرة متابعة الجهات الأمنية الكثيرة
وملاحقتها لها.
5 - الحرب السافرة مع جميع أنواع الحجاب الإسلامي للمرأة، فأولاً فصلت
النساء المسلمات المتحجبات من العمل في الدوائر الرسمية، ثم في خطوة ثانية
فصلت الطالبات المتحجبات من الجامعات وجميع المدارس حتى الأهلية منها أيضاً،
ثم في خطوة شيطانية ثالثة منعت جميع نساء من يسكن في السكن الحكومي من
الاحتجاب؛ فمن لم يطبق ولم تسفر امرأته أخرجوه من السكن قسراً مع ما يرون
من العقوبة.
6 - إخلاء الجيش بكامله من العناصر التي لها أدنى صلة بالإسلام، وفي
هذا السبيل ينتهجون نهجاً شيطانياً، وهو أن من وجدوا عليه أو على أسرته حتى
أبويه أدنى أمارة دينية عدُّوها له جريمة ولاحقوه وتابعوه وفي آخر الأمر فصلوه؛
فمثلاً لبس العسكري لخاتم الفضة دون الذهب أو تغطية امرأته لرأسها أو حمله أو
أحد من أبويه علماً إسلامياً أو حتى تغطية أمه لرأسها أو صلاة والده ولو في بيته أو
عدم شربه للخمر أو عدم ارتياده لبيوت الزنا والخلاعة أو عدم اشتراكه مع زوجته
حاسرة الرأس وعارية الجسد في الحفلات العسكرية أو غيرها من الحفلات الرسمية
كل هذه الأمور تعد للضابط الموظف في الجيش التركي جريمة لا تغفر، يكفي
بعض هذه الأمور أن تكون جريمة مسوِّغة لفصله عن الجيش.
وبعد عام 1996م عدت جميع تلك الأمور جريمة للموظفين المدنيين الكبار في
المناصب الحكومية الهامة الأخرى من أمثال الوالي أو القائمقام أو المدير العام أو
المستشار في الوزارات، فيكفيهم جرماً عدم اشتراك نسائهم سافرات عاريات في
الاحتفالات، وعدم رقصهن مع الرجال الأجانب أو عدم احتسائهن للخمور،
وقس ...
7 - إغلاق حزب الرفاه الذي كان يُرى ممثلاً للمسلمين على الساحة السياسية
في تركيا والحظر السياسي مدى العمر على زعيمه أربكان، وعلى رئيس بلدية
إسطنبول من حزب الرفاه رجب طيب أردوغان الذي فاز باستقبال شعبي هائل أرّق
العلمانيين في لياليهم الحمراء بما كانوا يجدون فيه خيراً وأملاً للمسلمين، وكان
حينذاك يعد هو الجماعة الإسلامية في تركيا بخير كثير ومتابعة جميع أعمال حزب
الفضيلة الذي أسس فيما بعد، وتجمع تحت سقفه كثير من مندوبي البرلمان التركي
المتدينين وجعل ذلك تحت المجهر.
8 - مطاردة جميع الأثرياء والأغنياء الذين كانت الحكومة التركية العلمانية
تجد فيهم خيراً للإسلام والمسلمين، فكانت تسميهم أصحاب رأس المال الأخضر،
وكانت تزعجهم بجميع ما أمكن من وسائل العنف والإزعاج؛ بحيث اضطر الكثير
منهم إلى الهجرة من تركيا برأس ماله الأخضر إلى الخارج، والآن تحاول الحكومة
وأذنابها وتجدُّ وتسهر على مناورات شيطانية ينهار بها أرباب الرأس المال الأخضر.
9 - ألغت مؤسسة التعليم العالي جميع الشهادات التي حصل عليه أربابها من
الجامعات الإسلامية في الخارج من أمثال جامعة الأزهر بمصر، وجامعات المملكة
العربية السعودية وغيرها، ففصلت عن الوظائف الحكومية أرباب تلك الشهادات
وإن حصلوا على مراتب عليا أو عناوين كبيرة، ومن الجانب الآخر لا تعترف
الحكومة التركية بأية معادلة لتلك الشهادات وإن وقع الاتفاق الثقافي بينها وبين البلد
المأخوذ منها الشهادة.
10 - تنظيف الجامعات (على حد تعبيرهم) من جميع كوادر أعضاء هيئة
التدريس المسلمين؛ فتراهم يفصلون من الجامعات من هم على رتبة الأستاذ الدكتور
بدون أية جريمة قانونية سوى أنهم يؤمنون بالله وكتابه ورسوله [وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ
إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] (البروج: 8) .
11 - الملاحقة والمراقبة المزعجة من طرف رجال الأمن السري
والمخابرات السرية لجميع النشاطات الإسلامية بحيث يتبرم العاملون في الحقل
الإسلامي من الحياة، فترى أن كثيراً من المسلمين اضطروا إلى التنازلات البالغة
في كثير من أمور ديانتهم ومناهج حياتهم؛ فلهذا التجأ كثير منهم إلى حلق اللحى
والشوارب جميعاً إخفاء لشأنهم عن جبابرة العلمانيين.
12 - للتضعيف والتقليل من تأثير الشعائر الإسلامية وضع الحد عليها؛ فمن
هنا ترى أن العلمانيين الديمقراطيين الذين يتبجحون بأنهم لا يمسون حقوق الناس
وكراماتهم! ! منعوا المواعظ الإسلامية في المساجد والجوامع إلا في مسجد واحد
فقط يبث منه عن طريق الراديو إلى الجوامع والمساجد الأخرى، فيا ترى كيف
يكون مدى تأثير الخطاب الذي لا يرى السامعون الخطيب حتى يتأثروا بملامح
وجهه ونبرات صوته وأسارير جبينه، ومن هذه الجملة تحاول الآن تلك الحكومة
العلمانية أن تمنع الآذان أيضاً إلا من مركز واحد يبث منه إلى المساجد الأخرى.
13 - ومما يزيد الطين بلة والمرض علة هو ما ابتلي به مسلمو تركيا من أن
الحكومة العلمانية تسمح لبعض المغرضين الكارهين للإسلام من الأساتذة الجامعيين
أو شبههم ك (ياشار نوري أوز ترك) عميد كلية الإلهيات في إسطنبول،
و (زكريا بياض) عميد كلية الإلهية في جامعة مرمرا، تسمح لهم بإبداء وجهات
نظرهم بنشر بعض المسائل الإسلامية الفقهية والاعتقادية وغيرها عبر القنوات
التلفازية الكبرى حسبما تمليه عليهم أنفسهم وتميل إليه أهواؤهم، فيقيئون مرة بعد
أخرى عبر القنوات التلفازية جميع سمومهم الناقعة على الإسلام، يحرفون الكلم عن
مواضعه، يعتدون على علماء الأمة ومصادرها الرئيسة فيخالفون إجماع الأمة
ويشاقون الله ورسوله.
ألعوبة حزب الله وقتل آلاف الأبرياء من شباب المسلمين:
لمَّا رأى أعداء الإسلام في الداخل والخارج تقدم المسلمين يوماً فيوماً ونمو
وعيهم نحو ما يجري حولهم في العالم الإسلامي، وشاهدوا أنه تربى وترعرع كثير
من المسلمين في شتى الاختصاصات الفنية فتبوؤوا المراتب العليا ووصلوا إلى
المناصب المرموقة، فرأوا أن هؤلاء الفضلاء سيمنعونهم من نهبهم وسلبهم لخيرات
البلاد فبدؤوا يأخذون حذرهم بتدبير شتى المناورات ووضع مختلف الألاعيب
السياسية وبثها بواسطة عملائهم بين المسلمين من حيث لا يشعرون، ومن ذلك ما
دبروه في تركيا من أمر ما سمي بـ (حزب الله) الذي قتل تحت اسمه آلاف
شباب المسلمين الأكراد وقلة من الأتراك، وقصته هي أن الحكومة التركية لمَّا
عييت من حزب العمال الكردي، وكان الثوار الأكراد يلحقون بها الهزيمة تلو
الأخرى فرأت التدبير الناجع في أن تسلط على الأكراد عدواً من أنفسهم، فاستغلت
حماسة الشباب الأكراد الإسلامية ونفورهم من النظام العلماني والعصبية فأخذت
تحرضهم على التجمع تحت تنظيم سري سمي فيما بعد بـ (حزب الله) ، وطفقت
عناصر المخابرات التركية تحرض أولئك الشباب المتحمسين لدينهم على القتال ضد
حزب العمال حتى يخلص الشعب الكردي المسلم منهم ولا يستشري أمرهم أكثر
فأكثر، فلم يلبثوا إلا وقد نشبت الحرب بين الطرفين من غير رضى عناصر كثيرة
من الجانبين، فسنحت الفرصة الذهبية للقوات التركية فأوقعت بكلا الجانبين خسائر
فادحة في الدماء والأموال من غير علم منهما، وبدأت القوات الحكومية تلتقط
الرؤوس الفاهمة العاقلة من كلا الطرفين، وفي ذلك الوسط المكتظ بالدماء ذاع في
البلاد وبين العباد ما كان يسمى بـ «جنايات فاعلها مجهول» ، وتحت ذلك الاسم
قتل آلاف الشباب المسلمين الأكراد حتى اعترف وزير الداخلية السابق (محمد آغار)
أنه أجرى في منطقة الأكراد ألف عملية عسكرية دموية، فقتل في تلك الجنايات
المجهول فاعلها حسب الإحصاءات الرسمية أكثر من ثلاثة عشر ألف إنسان.
وللحكومة التركية هدف أهم من كل هذا وهو تشويه سمعة الحركات الإسلامية
الواعية التي تحاول أن تخلص الشعب المسلم من ظلم العلمانيين ومن تحت نير
العلمنة عند الشعب الكردي بما رآه الشعب ظاهراً في جماعة (حزب الله) ، ولم
تلبث القوات الحكومية أن كرت على (حزب الله) تفعل به الأفاعيل بين قتل،
وسجن، ولم تستطع جماعة حزب الله أن تقاومها بنقير ولا قطمير حيث كانت
القوات الحكومية تعرف أمرها جميعه، فأوقعت القوات الحكومية بها ما لم تكن
جماعة (حزب الله) تحسب له حسابًا قط، ولم ترقب الحكومة فيها إلاًّ ولا ذمة،
فأصابت الحكومة التركية من خلال تأسيس جماعة حزب الله أهدافاً ثلاثة هامة:
1 - استنفاد طاقات خيرة شباب المسلمين الأكراد الذين كان فيهم الأمل القوي
في مقاومة ما بدأ العلمانيون يفعلونه فيما بعد ويعيثون في الأرض فساداً.
2 - تشويه سمعة الحركات الإسلامية في مناطق الأكراد الذين كانت
العواطف الدينية فيهم ملتهبة والمشاعر الإسلامية فيهم متقدة؛ لأن الأكراد بما كانوا
يجدونه على أيدي ظلمة رجال الحكومة العلمانيين من الظلم والجور والفساد لم
يميلوا يوماً إلى الحكومة التركية، ولم يثقوا بها، بل كانوا يطيعونها على كراهية
نفس لا عن طواعية؛ فلما ظهر (حزب العمال) وجد الكثير منهم في الحزب
وخصوصاً الذين ما كانوا يعرفون حقيقة (حزب العمال) ومبادئه الفكرية ومنطلقاته
الأساسية متنفساً لهم وبارقة أمل؛ فلما ظهر (حزب الله) في صورة كأنها ممالئة
للقوات الحكومية كرهها عامة الأكراد ونفروا من سائر الحركات الإسلامية باحتمال
أنها أيضاً ممالئة للحكومة.
3 - وجدت القوات الحكومية فرصة ضرب الأسد في عرينه حين استكشفت
جميع مداخل ومخارج (حزب الله) .
هل من مغيث أو من مجيب؟ !
إن مسلمي تركيا يمرون اليوم بيوم عصيب ودهر رهيب أتلف الكثير من
دمائهم وأموالهم وانتهك الكثير من أعراضهم وكراماتهم، وضيع الكثير الكثير من
حقوقهم وحرياتهم؛ فاليوم يُمنعون على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي من أبسط
حقوقهم وهو حق الحجاب الشرعي، وحق التعلم فلا يسمح لهم أن تدرس بناتهم
المتحجبات في المدارس والجامعات، ويمنع أغنياؤهم من أن يثروا ويكونوا
أصحاب أموال طائلة، ويمنعون من أن يدرِّس أبناءهم الصغار القرآن الكريم،
ويفصل الموظفون منهم عن الوظائف الحكومية بمجرد أن يصلي أحدهم أو تكون
زوجته متحجبة؛ هذا فضلاً عما يتعرضون له من ملاحقة ومطاردة وتشريد وتعذيب
وقتل ونفي وسجن وما إلى ذلك؛ فكل هذا يجري على الساحة التركية وإخوانهم
خارج تركيا لا تنبس شفاههم ولو بكلمة.. ألم يكن من واجب إخوانهم أن يبعثوا
بعض المراقبين إلى تركيا حتى يروا ما يجري عن كثب ويعلنوه على رؤوس
الأشهاد فيفضحوا أمره على الأقل بأن يكتبوا ذلك في مختلف الجرائد والصحف
العالمية، ويعربوا عن ذلك في كثير من القنوات التلفازية، ويذيعوا ذلك عبر كثير
من القنوات الإعلامية، ثم يبتهلوا إلى ربهم خلوة وجلوة سراً وعلانية لعل الله يفرج
عن إخوانهم؟ !
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب(167/94)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish@albayan-magazine.com
ليسوا على شيء جميعاً
دعا الفاتيكان إلى الاحترام المتبادل بين الدارسين الكاثوليك واليهود الذين
يبحثون في سلوك البابا أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنه أنحى باللائمة مجدداً على
اليهود في توقف الدراسة. وانهار المشروع عندما طلب الدارسون الاطلاع على
مزيد من وثائق الفاتيكان لإلقاء الضوء على واحدة من أعقد القضايا بين الديانتين
فيما يتعلق بما إذا كان البابا بيوس السابع بذل جهوداً كافية لمساعدة اليهود أثناء ما
يطلق عليه «معسكرات الإبادة الجماعية لليهود» . وقال الكردينال وولتر كاسبر
رئيس لجنة الفاتيكان للعلاقات الدينية مع اليهود في بيان: «هذا النوع من البحث
العلمي يمكن تنفيذه فقط على أساس التأدب والثقة المتبادلة» ....
وكتب كاسبر: «التعقيبات الفظة من الجانب اليهودي غذت شعوراً من عدم
الثقة جعل من المستحيل مواصلة هذا البحث الثنائي» . وكان أحد الباحثين في
الفريق اليهودي اتهم مسؤولين عن السجلات في الفاتيكان بعدم الرغبة في «اتخاذ
خطوات أساسية نحو الكشف الكامل» ، وهو هجوم قال أحد الكرادلة إنه يعكس
«حملة تشويه» ضد الكنيسة الكاثوليكية.
[صحيفة الحياة، العدد: (14042) ]
بشر بلا عقول
اختيرت طفلة في الرابعة من عمرها لتكون إلهة نيبال الحية الجديدة، وبذلك
تقضي طفولتها مبجلة بوصفها مصدراً للرخاء في مملكة الجبل.
وتوجت: (بريتي شاكيا) ، وهي ابنة عائلة فقيرة، لتكون الكوماري أو
الإلهة العذراء، وسوف تظل محتفظة باللقب حتى تصل إلى سن البلوغ، حيث
ترجع مجدداً مجرد شخص فانٍ. وأقيم حفل تتويجها في قصر الإلهة الصغير في
قلب العاصمة النيبالية كاثماندو، وتبجل الكوماري من قبل كل من الهندوس
والبوذيين الذين يعتقدون أنها تبارك الملك وسكان نبيال البالغ عددهم اثنين وعشرين
مليوناً بالسلام والرخاء. وقد قضى كهنة ملكيون ومسؤولون شهري إبريل ومايو
(2001م) بحثاً عن الكوماري الجديدة لتحل محل السابقة التي ظهرت عليها
علامات البلوغ، ومن ثم فقدت حالتها الإلهية، وسوف تقدم الإلهة الجديدة إلى
العامة في أكتوبر القادم أثناء «الديزين» ، أكبر احتفالات نيبال. ورغم أن الإلهة
المختارة تعيش حياة مرفهة للغاية، فإنها أيضاً تعاني من عزلة شديدة. وتعزل
الكوماري في قصرها، ولا يسمح لها إلا بقليل من رفاق اللعب المختارين، ولا
ترى العالم الخارجي إلا مرات قليلة حين تنقل خلال العاصمة على مركبة يجرها
متطوعون، ولا ترتدي إلا ثياباً حمراء، ويعقد شعرها دائماً في منتصف الرأس،
كما ترسم لها عين ثالثة على الجبهة، وتقضي التقاليد بأن تنتمي الكوماري إلى قبيلة
(شاكيا) ، وهي القبيلة التي جاء منها بوذا، ويجب على المرشحات أن يجتزن
اختبارات قاسية، منها قضاء ليلة بين رؤوس ماعز وجاموس مذبوحة، ولا بد أن
تتمتع الكوماري ببشرة وشعر وعينين وأسنان ممتازة، وتشكو الكوماريات السابقات
من أنهن أعدن بلا إعداد إلى واقع صعب، وأهملن بمجرد أن وصلن لسن البلوغ،
ومعظم الإلهات السابقات الثمانية الأحياء لا يزلن غير متزوجات؛ إذ تقول
المعتقدات الشعبية: إن الرجال الذين يتزوجون إلهات سابقات يموتون في سن
مبكرة! !
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
http://www.bbcarabic.com
وحتى اليابان! !
خلال السنوات العشر الماضية ازداد عدد العمال المهاجرين القادمين من بلدان
آسيا الإسلامية في اليابان، وفي العام الماضي طلب قسم كبير من هؤلاء العمال من
الحكومة اليابانية السماح لبناتهم بارتداء الحجاب، وقد أثار هذه الطلب غضب نسبة
كبيرة من اليابانيين واليابانيات، وخلال شهر مايو قام أحد المجهولين بتمزيق نسخة
من القرآن الكريم، ثم ألقى بها في مرآب للسيارات، وفي اليوم التالي لهذا الحادث
خرج آلاف من المسلمين إلى الشوارع للتعبير عن استنكارهم لهذه الفعلة الشنيعة،
ومنذ مطلع العام الحالي عاشت اليابان أحداثاً على علاقة بالإسلام والمسلمين،
وكتبت إحدى الصحف اليابانية تعليقاً على ذلك: «يبدو أن صموئيل هينتنجتون
على حق؛ إذ إن بوادر حروب بين الأديان بدأت تظهر في الأفق» . غير
أن صحيفة «أساهي شيمبون» المعروفة برصانتها، ردت على هذا التعليق
قائلة: «المسألة ليست في التصادم بين حضارتين، نعني بذلك الحضارة
البوذية والحضارة الإسلامية، وإنما في التسامح بين الأديان، وبين الثقافات
الأخرى.... وإذا لم نحاول أن نفهم حقيقة الدين الإسلامي، فإننا نكون قد ارتكبنا
خطأ فادحاً، ونشرنا في بلادنا الأفكار المسبقة والخاطئة» .
وأضافت الصحيفة قائلة: «إن العالم الإسلامي برمته يبدي اهتماماً كبيراً
باليابان: خصوصاً على المستوى الاقتصادي، وعلى اليابانيين أن يسعوا لفهم
مشاكل المسلمين في بلادنا عن طريق الحوار وليس عن طريق التصادم؛ لأن في
هذا الأمر الثاني ضرراً كبيراً لنا على جميع المستويات» .
[مجلة المجلة، العدد: (1117) ]
جهنم في الدنيا والآخرة
على الرغم من حرص كل من شارون ووزير دفاعه بن إليعازر على أن
التصفية الشخصية هي الأسلوب الأمثل في التعامل مع قوى المقاومة الفلسطينية،
إلا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية زخرت بالتعليقات التي تنصح شارون بأن لا
يصدق نفسه أن مثل هذا الأسلوب يمكن أن ينجح مع حماس؛ فقد قال يوسي ساريد
زعيم المعارضة الإسرائيلية: «إن كنا نحن نقف مع الحكومة في الحرب ضد
الإرهاب لا سيما عمليات حماس التي تودي بكثير من القتلى، إلا أن تصفية
عناصر حماس يعني في المقابل إصدار حكم الإعدام على عدد كبير من الإسرائيليين؛
لأن حماس ستنتقم، أنا لا يوجد عندي أدنى شك في أن انتقام حماس قادم لا محالة» .
فهل ما قام به شارون يدل على حكمة؟ الجنرال أورن شاحور الذي شغل في
السابق منصب منسق شؤون الضفة الغربية وقطاع غزة في وزارة الحرب قال:
«إن عمليات التصفية ضد عناصر حماس تعني أن إسرائيل قد فتحت أبواب جهنم
على مصراعيها في مدننا، يجب أن نعرف أن الانتقام الحماسي قادم وبقوة، نحن
سندخل مجدداً لعبة محصلتها صفر من ناحيتنا، لا يوجد لدينا القدرة على مجاراة
حماس في أساليبها» .
أما عوديد جوانوت المعلق للشؤون الفلسطينية في القناة الأولى فقد كان أكثر
تشاؤماً؛ إذ حذر (إسرائيل) من أن ما قامت به ضد عناصر حماس وما قام به
المستوطنون زاد إقبال الفلسطينيين على الاستشهاد، «إنهم مقبلون على الاستشهاد
بشكل جنوني، هناك المئات من الشباب يعرضون أنفسهم من أجل الاستشهاد،
وهناك فتيات يعرضن أنفسهن للاستشهاد» .
[صحيفة السبيل الأردنية، العدد: (392) ]
حقوق.. ولكن للشواذ! !
رفع «المثليون» شعار: «يا شواذ العالم اتحدوا!» للتضامن مع أشباههم
المتهمين في قضية «قوم لوط» ولم تتوقع الحكومة المصرية وهي تحيل المتهمين
الاثنين والخمسين فيها على القضاء التلويح لها بحجب المعونة الأمريكية احتجاجاً
على قمع «حقوق الإنسان واضطهاد الشواذ» .
ونظم أعضاء ستين منظمةً للمثليين والمثليات في 15 دولة ومقاطعة فعاليات
لإعلان «الحداد والتضامن» مع زملائهم المصريين الذين ستواصل المحكمة النظر
في قضيتهم في الموعد المحدد.
وربما هي المرة الأولى التي يرفع فيها المثليون شعار الوحدة العالمية، وذلك
بعد النداء الذي وجهه شخص اسمه: (فيصل علام) يقود تجمعاً مزعوماً يطلق
عليه: «مجموعة المسلمين الشواذ» في الولايات المتحدة دعا فيه أشباهه في العالم
إلى «التضامن مع زملائهم المضطهدين في مصر» . وقال علام في أسباب النداء:
«إن العداء الحكومي للشواذ ليس جديداً؛ لكن تنظيم احتجاج دولي بهذا الشكل
ليس جديداً» ، ولم يفته انتقاد «تراخي الضغط الدولي على الحكومات المضطهدة
للشواذ» غير أنه في الوقت ذاته لفت إلى أن «حملة أعضاء الكونجرس الأمريكي
للتضامن معنا بداية طيبة» .
وفي استجابة سريعة اعتمدت تنظيمات المثليين 15 آب (أغسطس) «يوماً
للاحتجاج والحداد» ، وتنظيم فعاليات تضامن في أربع قارات، في مدن برلين،
وكانبيرا، وجنيف، وكمبالا، ولندن، ونيويورك، وباريس، وسان
فرانسيسكو، وأتلانتا، وفانكوفر، وواشنطن، ولم تتوقف استجابة واشنطن
للتضامن عند «المثليين» وإنما تجاوزتها إلى دوائر السياسة ورجال الكونجرس
وفي مقدمتهم باري فرانك عن ولاية ماستشوستس وهو من «المثليين» ومعه توم
لانتس المعروف عنه المشاركة في أي حملة ضد مصر؛ فهذان جمعا تواقيع خمسة
وثلاثين من زملائهم على خطاب وجه إلى الرئيس حسني مبارك.
المفاجأة كانت في تلويح أعضاء الكونجرس بالمعونة الأمريكية المقدمة إلى
مصر حينما بدأت الرسالة بالقول: «بما أننا من المساندين الأقوياء لتقديم المعونة
إلى مصر فإننا نحتج على محاكمة المثليين، ونعتقد بأن توجيه الاتهام إلى رجال
مارسوا الجنس بالتراضي مع أشخاص بالغين من الجنس نفسه موقف لا نستطيع
الدفاع عنه أو تفسيره» .
الطريف أن أعضاء الكونجرس عزوا الربط بين الاحتجاج والتلويح بحجب
بالمعونة إلى أنها تخصص من ضرائب الشعب الأمريكي وجزء لا يستهان به يسدده
الشواذ، وهذه المعونة يوافق عليها أعضاء الكونجرس المساندون لحق المثليين في
الحياة ورفض أي ممارسة أو تفرقة ضدهم.
[جريدة الحياة، العدد: (14031) ]
يوجد في الكويت
أكثر من 37 كنيسة كبيرة غير مرخصة وغيرها العشرات في السر موجودة
بالكويت!
- بوذا الصنم يُعبد بالكويت في أكثر من 300 موقع تقريباً!
- منصرون رجال ونساء متخصصون يزورون بعض الديوانيات.
- أول كنيسة في جزيرة العرب أُنشئت في الكويت بعد الاستقلال كانت
للكاثوليك، ثم أنشئت واحدة للأرثوذكس ومن بعدها ثالثة للبروتستانت أيضاً.
- بعض النصارى يحرص على عقد قداسهم في الأحمدي سراً منذ عام
1946 م.
[مجلة المجتمع، العدد: (1457) ]
يهود في (آسيا الوسطى)
الصراع العربي الإسرائيلي ليس صراعاً محصوراً في النضال الفلسطيني
ضد الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، أو صراعاً حول القدس على الرغم من أن
ذلك يمثل جوهر الصراع بين العرب وإسرائيل، كما أنه ليس صراعاً عسكرياً بين
دول الطوق العربية والدولة العبرية، إنما الصراع بمفهومه الاستراتيجي
والحضاري الأعمق يمتد ليشمل الدائرة المحيطة بالعالم العربي في آسيا وإفريقيا
والتي تدخل معظمها في نطاق الدول الإسلامية، ناهيك عن ضرورة إحداث التوازن
في المصالح والعلاقات مع أمريكا وأوروبا وشرق وجنوب آسيا على المدى الطويل.
لكن المؤكد أن العالم العربي الذي يواجه خللاً استراتيجياً في توازن القوى مع
إسرائيل يواجه أيضاً خللاً وربما بنفس القدر في علاقاته مع دول القرار في العالم
كله لصالح الكيان الصهيوني لأسباب قد تكون خارجة عن مسؤولية الدول العربية
تاريخية في معظمها.
غير أن المؤسف والمحير فعلاً أن تنجح إسرائيل في تحقيق اختراق كبير في
دول آسيا الوسطى التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي المنهار خلال عقد واحد فقط،
بل سارعت لهذا الاختراق بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م، بينما
نجد غياباً شبه كامل للعرب على نطاق المصالح في دول آسيا الوسطى رغم أنها
دول إسلامية وأوْلى بدعم الروابط معها.
[صحيفة المحايد، العدد: (11) ]
كوابيس.. وراء الكواليس! !
اتسمت قمة «اجرا» بين الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف ورئيس
الوزراء الهندي اتال بيهاري فاجباي بتعتيم إعلامي «.
رغم ذلك يرى المحللون أن ثمة اتفاقيات وصفقات مسبقة ربما أبرمت وراء
الكواليس مهدت لهذه القمة التي لم تكن متوقعة. كما علمت» المجلة «من مصادر
دبلوماسية غربية أنه ليس في مصلحة باكستان أن تراهن على قضية واحدة في هذه
القمة قد تعرضها لخوض حرب ربما نووية مع جارتها الهند، خاصة أن وجهات
النظر بين البلدين لم تزل متباينة حولها، وثمة مصالح كثيرة وكبيرة مشتركة بينهما
تفرضها طبيعة الجوار والتاريخ المشترك لأكثر من عشرة قرون، مع الأخذ بعين
الاعتبار قضايا مهمة وملحة أخرى على رأسها توقيع اتفاقية الحظر الشامل لإجراء
التجارب النووية والاتفاقيات الأمنية لا سيما أن السلام أساس البقاء والأمن والتطور
الحضاري في شبه القارة الهندية التي تقدمت عسكرياً على حساب مصالحها الوطنية
حسب الدبلوماسيين.
ويبقى السؤال المطروح: هل يمكن أن يتحقق حلم الشعب الكشميري بالأمن
والسلام والاستقلال على يد الجنرال مشوف قائد عمليات» كارغيل «الشهيرة عام
1999م التي كادت أن تشمل حرباً نووية بين البلدين بعد أن كلل ضريح داعية
السلام الهندي المهاتما غاندي بإكليل من الزهور فور وصوله إلى الهند، أم أن
قضية كشمير ستذهب ضحية المواقف الدبلوماسية بين البلدين؟
[مجلة المجلة، العدد: (1119) ]
مسجد آخر.. يُهدم! !
في جريمة مماثلة لهدم المسجد البابري الأثري قبل عقد من الزمان، قام
متطرفون هندوس بهدم مسجد أثري يعود إلى العهد المغولي وبناء معبد هندوسي
مكانه في زمن قياسي، وقد تكتمت سلطات المنطقة على هذه الجريمة فلم تصل
أخبارها إلى عامة الناس إلا حين خرجت صحيفة (هيندو) بهذا الخبر على صدر
صفحتها الأولى وقد عزته إلى مراسلها بمدينة جايبور عاصمة ولاية راجستهان
بشمال الهند، وقالت الصحيفة إن تكتم السلطات به يعود إلى خوفها من تدهور
الوضع الأمني نظراً لوجود توتر شديد في المنطقة بين الطائفتين المسلمة
والهندوسية عقب هذا الحادث. وطبقاً للخبر فقد وقع هذا الحادث الإجرامي ببلدة
(اسيند) الواقعة بمديرية (بهيلوارا) بالولاية وهو مسجد أثري يسمى بـ» مسجد
سواي بهوج «، وقد أنشأه جيش الإمبراطور المغولي أكبر حين عسكر بهذه
المنطقة في القرن السادس عشر الميلادي، عند العودة من معركة تشيتوركره» .
وهذا المسجد يتبع مجلس الأوقاف بالولاية وهو تنظيم حكومي يرعى الأوقاف
الإسلامية.
[جريدة الرياض، العدد: (12092) ]
هكذا يفكرون!
أكد الوزير الفلسطيني المكلف بملف القدس زياد أبو زياد، عبر الإذاعة
الرسمية الإسرائيلية أن نفوذ حركة المقاومة الإسلامية حماس يتزايد باستمرار على
حساب السلطة الفلسطينية. وقال زياد أبو زياد: «هناك تضامن ودعم متزايد من
الشعب الفلسطيني لحماس والجهاد الإسلامي» . وقال: «إن إسرائيل تشجع بذلك
المتطرفين وتضعف القيادة الفلسطينية المؤيدة لعملية السلام» . غير أنه أعتبر أنه
ليس هناك خطر على السلطة وعلى حياة الرئيس ياسر عرفات «. مشيراً بذلك إلى
عمليات التصفية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي وتستهدف زعماء فلسطينيين
متهمين بممارسة نشاطات إرهابية. من جهة أخرى أعرب الوزير الفلسطيني عن
معارضته تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حماس والجهاد الإسلامي، كما اقترح
أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية مروان البرغوثي، وقال:» لا أعتقد أن
حكومة كهذه يمكن تشكيلها؛ إذ تعتبر منظمات المعارضة أن عملية السلام انهارت
وأنه لم يعد من الممكن إطلاقها مجدداً «. وأضاف الوزير الفلسطيني:» من
المستحيل أن نعلن أننا نريد الانسحاب من عملية السلام ونشكل في الوقت ذاته
حكومة وحدة وطنية. أعتقد من جهتي أنه يمكن على العكس إعادة إحياء عملية
السلام «.
[صحيفة القدس العربي، العدد: (3086) ]
والعَوْدُ.. أفجر! !
طرأ تغيير مفاجئ في الآونة الأخيرة على طبيعة البرامج والفقرات التي
تقدمها إذاعة صوت فلسطين وتلفزيون فلسطين الرسميين؛ فقد عادت الإذاعة
الفلسطينية إلى تقديم الأغاني العاطفية إلى جانب الأغاني الوطنية بعد أن امتنعت
عن تقديمها منذ اندلاع انتفاضة الأقصى. وعكفت الإذاعة الفلسطينية منذ اندلاع
الانتفاضة على تقديم الأغاني الوطنية ذات الطابع الحماسي التي تحرض بشكل
واضح على العمل المسلح ضد إسرائيل، واستأنف التلفزيون بث المسلسلات، ولم
يعد ينقل صوراً حية للشهداء الفلسطينيين والجرحى نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية
كما كان عليه الحال السابق؛ حيث كان التلفزيون يخصص وقتاً طويلاً لنقل صور
حية من المستشفيات الفلسطينية للشهداء والجرحى لحظة وصولهم إلى أقسام
الاستقبال.
[صحيفة الشرق الأوسط، العدد: (8277) ]
ألم تفهموا الرسالة! ؟
1 - زادت موافقة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على حل حزب إسلامي
من اقتناع تركيا بصوابية نضالها في سبيل العلمانية، لكنها شكلت مفاجأة
للإسلاميين والليبراليين على حد سواء، واعتبر قضاة المحكمة الأوروبية في
ستراسبورغ أن القيم التي كان ينادي بها قادة حزب الرفاه، مثل تطبيق الشريعة
الإسلامية» والجهاد «للوصول إلى أهدافهم، لا تتوافق مع الاتفاقية الأوروبية
لحقوق الإنسان.
وقال الصحافي التركي المعروف محمد علي بيراند: هذا يشكل ارتياحاً كبيراً
لدى العلمانيين في البلد، وقال إنه كان هناك تساؤل حول ما إذا كان مبدأ العلمانية
في تركيا يتوافق مع الاتفاقية الأوروبية، واليوم حسم الأمر. ويقول يوسل سايمان،
نقيب المحامين في اسطنبول هذا حكم سياسي بامتياز، يشكل انتهاكاً للديمقراطية
بمعناها المحدد، وأضاف سايمان: يفاجئني كثيراً صدور هذا الحكم؛ لأنه عندما
قررت المحكمة الدستورية (التركية) حل حزب الرفاه، سمعنا أصواتاً تستهجن
التعدي على مبادئ الديمقراطية في إشارة إلى الانتقادات الأوروبية في تلك الفترة،
ويقول أحمد انسيل، أستاذ الاقتصاد في جامعة غلطة سراي في إسطنبول: إن
ستراسبورغ حكمت على النوايا لا على الأفعال؛ لأنه لا يمكن القول إن تصرفات
حزب الرفاه في الحكم أو في المعارضة أكدت، ولو لمرة، الرغبة في تغيير النظام
السياسي في تركيا، أو مخالفة المبادئ الديمقراطية، وذكر انسيل بأن المحكمة
الأوروبية كانت قد أدانت تركيا على حل الحزب المؤيد للأكراد، مضيفاً أنه من
الواضح أننا نشهد سياسة الكيل بمكيالين.
وقال روسن كاكير، الخبير في الشؤون الإسلامية، رداً على أسئلة محطة
التلفزيون الخاصة (إن. تي. في) : هذا القرار يثبت أن أوروبا مستمرة في
اعتبار الأصولية تهديداً لها أيضاً.
[مجلة المشاهد السياسي، العدد: (283) ]
2 - خرج المنشقون عن التيار الإسلامي في تركيا بحزب جديد يتزعمه
الرئيس السابق لبلدية إسطنبول رجب طيب أرضوغان، ويصعب تصنيفه إسلامياً
أو يمينياً أو محافظاً أو حتى ليبرالياً، وبعدما تقدم أرضوغان و72 من المؤسسين
بعريضة تشكيل الحزب إلى وزارة العدل عقد مؤتمراً صحافياً قدم فيه رفاقه
المؤسسين وفي عدادهم 13 امرأة بينهن أربع محجبات ومغنية مشهورة.
وضم الحزب الذي سمي:» العدالة والتنمية «54 نائباً من حزب» الفضيلة «
المحظور وحزبي» الوطن الأم «و» الحركة القومية «.
وعقد الحزب اجتماعاً لتكريس انتخاب أرضوغان زعيماً، ويقوم أعضاؤه بعد
ذلك بزيارة جماعية لضريح مؤسس الدولة العلمانية مصطفى كمال أتاتورك ثم
يؤدون صلاة الجمعة، ويقر برنامج الحزب بأن العلمانية هي أساس الديمقراطية،
لكنه يصنفها بالطريقة المعروفة لدى الإسلاميين وهي عدم تدخل الدولة في شؤون
الدين أو العبادة، ويؤكد أهمية التزام سياسة حقوق الإنسان الأوروبية ونظام السوق
الحرة.
[جريدة الحياة، العدد: (14031) ]
كلهم شارون!
هل تؤيد سياسة رئيس الوزراء أرييل شارون لضبط النفس؟
شارون يفعل الشيء الصحيح بالجمع بين حملة نشطة ضد الإرهابيين وضبط
النفس فيما يتعلق بالعمليات الأوسع نطاقاً التي يمكن أن تؤذي السكان المدنيين.
[ايهود باراك، رئيس وزراء الكيان السابق، مجلة نيوزويك، العربية، العدد:
(60) ](167/102)
مقالات معربة
رعب اليهود من انتشار الإسلام في أوروبا وأمريكا
ترجمه من العبرية: ياسين حسام الدين
عرض وتحليل وتعليق: يوسف رشاد [*]
قديماً قال ياسر بن أخطب لأخيه حيي بن أخطب عندما قَدِم رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية: أَهُوَ هُوَ؟ قال: نعم والله! ! قال: تعرفه بنعته
وصفته؟ قال: نعم، والله! قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته ما بقيت.
وصدق الله العظيم القائل: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] (المائدة: 82) .
وحديثاً قال حاييم بيالك وهو شاعر صهيوني: «إنني أكره أن أنظر إلى وجه
اليهودي الشرقي؛ لأنه يذكرني بوجه العربي» وحديثاً أيضاً قال الحِبْر اليهودي
زعيم حزب «شاس» عوفديا يوسف الذي يباشر بنفسه عملية تهويد القدس: إن
العرب حشرات وحيوانات ولا يستحقون العيش وأنهم غير آدميين؛ إلى غير ذلك
من قاموس البذاءات الذي يتقنه هذا اليهودي اللعين.
ومع حقدهم وكرههم وعداوتهم للإسلام والمسلمين فهم في الوقت نفسه يخافون
ويرهبون من انتشار هذا الدين في ربوع الأرض.
فقد كتبت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تقول في عددها الصادر في آخر يونيو
عام 2001م: «كما هو الحال في غرب أوروبا كذلك أدت الزيادة الكبيرة في
الولايات المتحدة في عدد المسلمين إلى ازدياد نفوذهم السياسي. ومن المستحيل
على سبيل المثال رفض أو معارضة التقدير الذي كان يقول: إن فرص آل جور
في الفوز في انتخابات الرئاسة الأمريكية كانت كبيرة لولا أن جزءاً من أصوات
الناخبين كانت متجهة إلى مرشح الخضر رالف نادر، كل هذا حدث؛ لأن نسبة
كبيرة من ناخبي نادر الذي هو من أصل عربي كانوا من أصل عربي أيضاً، ومن
المعتقد أنه لو لم يكن موجوداً لكان جزء كبير منهم على الأقل قد منح صوته للحزب
الديمقراطي الذي يجذب أصوات الأقليات العرقية بشكل تقليدي.
ومن المشكوك فيه أن تكون هذه الحقيقة قد استُوعبت جيداً في إسرائيل، أو
استوعبت دلالة تعاظم قوة الجماعات العرقية بشكل عام وعلى رأس هذه الجماعات
اللوبي العربي والإسلامي في أمريكا. إن قيمة وثقل اللوبي العربي والإسلامي لا
زالت أقل بكثير من قيمة وثقل اللوبي اليهودي، ويرجع ثقل الأخير إلى تركز
الناخبين اليهود في عدد من المناطق الجغرافية المهمة من حيث تأثيرها الانتخابي
كنيويورك وفلوريدا وكاليفورنيا، وإلى الانخراط الكبير لليهود في الحياة الأمريكية
العامة، وإلى نسبة التبرعات التي يقدمونها للأحزاب خاصة الحزب الديمقراطي.
بيد أن الزيادة في عدد المسلمين وتعاظم وتزايد وعيهم السياسي وخاصة
الطلاب العرب والذين يلاحظ أنهم من أكثر العرب نشاطاً وحركية من الناحية
السياسية وكذلك التضاؤل في عدد اليهود نتيجة لزيجاتهم المختلطة وذوبانهم في
المجتمع الأمريكي، كل ذلك سوف يلعب مستقبلاً دوراً في ميزان القوى المتنافسة
على النفوذ بواشنطن، وقد أصبح ذلك ملموساً ومحسوساً في نشاطات جماعات
الضغط العربية بالكونجرس؛ فقد كتب ديفيد هاريس مدير عام اللجنة اليهودية
الأمريكية في» الجيروزاليم ريپورت «: ينبغي ألا نتجرأ على التقليل (من أهمية)
جماعات الضغط العربية والإسلامية.
وفي المقابل يؤكد التقرير السنوي الأخير الذي أصدرته رابطة مكافحة التشهير
أنه حدثت زيادة كبيرة منذ تفجر انتفاضة الأقصى في عدد حوادث معاداة السامية في
الولايات المتحدة. وتعود نسبة هذه الزيادة صراحة إلى الوسط العربي؛ فإن التقرير
يقول: إن القفزة الحادة للغاية في عدد الحوادث (50%) قد حدثت في نيويورك
» التي يعيش فيها العرب واليهود جنباً إلى جنب «.
إن التغييرات في النسب العددية بين العرب واليهود ينبغي أن نراها وأن
نضعها نصب أعيننا إزاء التغييرات الديمغرافية العامة التي تحدث في تشكيل
السكان الأمريكيين حالياً؛ فنسبة الأقليات العرقية التي لا تنتمي أو التي لا تنسب
نفسها ولا تدين بالولاء للأمريكيين ذوي الأصل الأوروبي تتزايد باضطراد.
إن التنبؤات والتوقعات التي تقول إن (البيض) سوف يصبحون بعد خمسين
عاماً أقلية بين سكان الولايات المتحدة قد وصفت في التحليل الذي نشرته صحيفة
» النيويورك تايمز «مؤخراً بأنها تكهنات مبالغ فيها، إلا أن (البيض بما
فيهم الأسبان) يمثلون حالياً نسبة تقترب من 65% من مجموع السكان، وقد
انخفضت نسبتهم في العقد الأخير بمقدار 5%.
هذه الظاهرة تبرز في المدن الكبيرة التي تمنح تجمعاتها اليهودية حالياً قوة
كبيرة لجماعات الضغط اليهودية. إن (البيض) قد أصبحوا أقلية في 48 مدينة من
بين مائة من أكبر مدن الولايات المتحدة. وهذه الظاهرة تواكبها زيادة في عدد
المسلمين بين السكان السود، ويعد المسلمون السود بشكل عام أكثر عداءً تجاه
اليهود من السكان المسيحيين، وينعكس ذلك بصفة خاصة في العلاقة والمعاملة
لإسرائيل.
وتستطرد الصحيفة قائلة:» إن خوف اليهود من زيادة نفوذ المسلمين
وتأثيرهم على الكونجرس والرأي العام الأمريكي يعضده ويقويه الانخفاض الكبير
في عدد النواب اليهود في مجلس النواب، ولا يزال نصيب اليهود أكبر بكثير من
نصيبهم النسبي بين السكان، إلا أن عددهم انخفض من 32 إلى 25 منذ استيلاء
الجمهوريين على أغلبية المقاعد في مجلس النواب في عام 1994م؛ فمن بين الـ
25 نائباً يهودياً هناك اثنان فقط جمهوريان و 22 ديمقراطياً، وواحد مستقل، وفي
ذلك كتب هاريس يقول: «إن الزعماء العرب والمسلمين الأمريكيين يدركون جيداً
الدور الحساس والرئيسي الذي يلعبه اليهود في منظومة العلاقات الخاصة التي تجمع
بين الولايات المتحدة وبين إسرائيل؛ وقد توصلوا إلى استنتاج مؤداه أن تخفيض
قوة الجالية اليهودية الأمريكية النسبية يعد أمراً مركزياً لتحقيق أهدافهم.
لقد قامت المنظمات الإسلامية بالمبادرة بعمليات مقاطعة ناجحة للشركات
الأمريكية التي تعمل من أجل إسرائيل ولصالحها، أو التي اتهمت بتأييدها ودعمها.
كذلك تقوم هذه المنظمات بالترويج القائل بأن عدد المسلمين في الولايات المتحدة قد
بلغ ستة ملايين مسلم. فخبراء علم السكان (الديمغرافية) يختلفون مع هذا الرأي
إلا أن هذا الرقم هدفه إثارة الانطباع (غير الصحيح) بأنه يوجد حالياً مسلمون
أكثر عدداً من اليهود الذين يبلغ عددهم حوالي خمسة ملايين يهودي.
هذا الخوف والهلع من انتشار الإسلام في الولايات المتحدة وأوروبا جعل
اليهود يرصدون كل صغيرة وكبيرة عن الإسلام في أصقاع الأرض؛ فقد ذكرت
نفس الصحيفة» هآرتس «نقلاً عن صحيفة البوسطن جلوب هذا الموضوع محذرة
من انتشار الإسلام بين الفتيات والنساء الأمريكيات والأوروبيات، فذكرت الصحيفة
في عددها الصادر بتاريخ 25/6/2001م تقول:» كان والد سارة جارتسيانو
كاثوليكياً ابتعد عن الدين بينما كانت أمها تعمل في الكنيسة اليانتكوستية، بحيث
وجدت نفسها وهي في سن الرابعة عشرة متوزعة وممزقة بين عدم إيمان والدها
وأصولية والدتها، وأخذت تستعير من المكتبة كتباً عن البوذية والهندوسية
واليهودية، وكتباً عن الإسلام، ووجدت نفسها منجذبة إلى الإسلام الذي بدا لها
من خلال قراءاتها أكثر صدقاً وصراحة ووضوحاً من نصرانية أمها، وفي الثامن
من مارس الماضي قالت الأمريكية الشابة وهي طالبة في عامها الأول في وولسلي
كوليج عبارة واحدة: «أؤمن أنه لا إله غير الله وأن محمداً نبيه» [أي شهادة أن لا
إله إلا الله وأن محمداً رسول الله] ، وأصبحت مسلمة، وحينما سئلت عن سبب
اعتناقها الإسلام قالت: «إن النصرانية هي الذهاب مرة واحدة في الأسبوع إلى
الكنيسة ومحاولة أن تكون إنساناً طيباً، بينما الإسلام طريق حياة ومنهج حياة
متكامل» .
وتعد سارة واحدة من عدد يتنامى باضطراد من نساء بوسطن اللائي يعتنقن
الإسلام، وفي مسجد «الاتحاد الإسلامي» ببوسطن في كمبريدج ماستشوستس
يبلغ عددهم ضعف عدد الرجال المسلمين الجدد. وهذا الاتجاه يتناقض مع الصوة
العامة بالولايات المتحدة؛ فحسب بحث أجراه مؤخراً «مجلس العلاقات الإسلامية
الأمريكية» فإن ثلثي المسلمين الجدد بالولايات المتحدة هم من الذكور.
إن النسوة الأمريكيات اللاتي يلجأن إلى الإسلام على وعي وإدراك بأن
المحيطين بهن لا يفهمون سبب اختيار وتفضيل السيدة أو الفتاة الأمريكية للدين الذي
يوصف بأنه يقمع النساء ويضطهدهن، إلا أنهن يقلن إن هذا الوصف ما هو إلا
صورة كاذبة، وإن الإسلام على عكس هذه الصورة متقدم ومتطور بالفعل في
قضايا الحدود أكثر من تقاليد غربية كثيرة، ويقلن إن الإسلام سمح للنساء بحيازة
الممتلكات وامتلاك الثروات، ويشرن إلى أن الإسلام سبق بذلك ثقافات وحضارات
غربية بوقت طويل.
ويضفن أنه بتكوين وبرسم صورة أكثر مساواة للحضارة وللأدب الإسلامي
بالولايات المتحدة، على النقيض من أماكن أخرى في العالم، سيصبح بمقدورهن
التأثير على المسلمين في جميع أنحاء العالم.
وتقول كريستينا التي أصبحت فيما بعد (صفية طوبيا ناحي) وتبلغ من العمر
ثلاثين عاماً من سومرفيل وأمها يهودية علمانية وأبوها كاثوليكي، اعتنقت الإسلام
منذ ستة أعوام تقول: «لسوء الحظ أن الطريقة التي يطبق بها الإسلام اليوم في
العديد من الدول غير مثالية، إن دولاً كثيرة تتابع وتراقب تطبيق الإسلام هنا،
ونحن لدينا القدرة والإمكانية التي تجعلنا قدوة ونموذجاً قوياً يحتذي به الرجال
والنساء في الدول الأخرى» .
وحسب رأي النساء المسيحيات البيض اللائي يُعتبَرْن أغلبية بين معتنقي
الإسلام في مسجد الاتحاد الإسلامي بكمبريدج فإن تبني واعتناق الإسلام معناه بشكل
عام تغيير نمط الحياة والمعيشة حيث يغطين شعورهن بشال يسمى الحجاب،
ويتبعن قوانين الطعام والغذاء الإسلامية التي تتضمن حظراً على تناول لحم الخنزير
واحتساء الكحول، ويؤدين الصلاة خمس مرات في اليوم، والكثير من أبناء
عائلاتهن وأقاربهن يتألمون ويتحسرون على التغيير الذي حدث لهن. وتقول سارة:
«إن أبي قد جن جنونه بالفعل ويقول لي متهكماً: إنك لن تستطيعي الحصول
على عمل جيد إطلاقاً أو زوج حسن. أما أمي فقد بكت ورددت اسم يسوع أمامي»
وتضيف: «وعندما عدت إلى البيت في عطلة الربيع الماضي لم يرد أبي أن
يراني أبناؤه الآخرون بحجابي. إن الإسلام يولي قيمة كبيرة للعلاقات الأسرية،
ولا تزال سارة تتحدث عن محاولاتها إصلاح وتعديل علاقاتها إلا أنها لا زالت تجد
صعوبة في ذلك، لقد توقف والدها عن دفع رسوم دراستها في الكلية. وتستطرد
سارة بعد ارتدائها للحجاب الإسلامي قائلة:» فيما مضى اعتاد كل أنواع الطفيليين
الاقتراب مني يسألونني: «هل يمكن مداعبة شعرك؟ وكان ذلك يطيش عقلي
ويضايقني، وقد حررني الواقع الجديد؛ لأن الأشخاص لا ينظرون إليك ولا
يفكرون أو يتخيلون جسمك ولا تسريحة شعرك؛ ولا يشغلون أنفسهم بالتفكير في
كيفية البدء معك» .
تقول هدى الشرقاوي «مديرة جماعة الدعم وجماعة تعليم النساء المسلمات
الجديدات في مسجد كمبريدج» : إن حوالي الثلث من تلميذاتها يصلن إلى الإسلام
عن طريق زميل أو صديق مسلم، بينما تصل الأخريات عن طريق أصدقاء أو
بمبادرتهن البحتة، والكثيرات من النساء المسلمات الجديدات مثقفات وخريجات
جامعات معروفة بتسامحها الكبير، وفي كمبريدج معظم النساء المسلمات الجديدات
من البيض والقليل منهن من الأفريقيات الأمريكيات والهنود الحمر.
بعض المسلمات الجدد قلن إن خلفيتهن الدينية قد أصابتهن بالإحباط وخيبة
الأمل؛ فقد اعتنقت لاورا كوهون (20 عاماً) وهي طالبة في جامعة هارفارد
الإسلام بعد أن درست كتباً بمساعدة زميل في المدرسة الثانوية، بعد ذلك وقبل
اعتناقها الإسلام عرفت معلومات أكثر عن الإسلام عن طريق الإنترنت وعن طريق
دورة دراسية بالكلية. وتقول: كل ما اكتشفته عن الإسلام بدا لي منطقياً وعقلانياً
عندئذ، وذات مساء جلست منذ أربعة أعوام بغرفتي بدار الطالبات أمام المنضدة
وأخذت أردد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فأحسست أن حجراً ثقيلاً قد أُزيح
عن صدري. واتصلت بمسلمين آخرين؛ وأخذت تبعث برسائل بالبريد الإلكتروني
إلى مسجد كمبريدج طالبة النصح والمشورة، وتستطرد قائلة: وكان ذلك سهلاً
ويسيراً، لقد انتقلت إلى عالم جديد؛ لأنني ظللت أشعر لفترة طويلة أنني وحيدة،
وكان ولوجي عالم الإسلام الفسيح سهلاً بطريقة لا تصدق.
وأخيراً تتساءل الصحيفة: ما الذي يدفع الفتيات الأمريكيات إلى اعتناق
الإسلام؟ «ا. هـ.
وهذا السؤال لا يحتاج إلى كثير عناء للإجابة عليه، ولكن علينا بوصفنا دعاة
إلى الله عز وجل أن نعيد قراءة هذا الموضوع بتأنٍّ لنقف على ما يحتاجه المسلمون
الجدد في أوروبا وأمريكا، وأن نقوم بمد يد المساعدة لهم وتقديم كل عون ومؤازرة،
وكذلك ندعو إلى تضافر كل الجهود لبذل أقصى ما يمكن تقديمه من وسائل
وأساليب حديثة لمساعدة القائمين على التعريف بدين الإسلام. كذلك ندعو إلى
النهوض بالمراكز الإسلامية في جميع أنحاء العالم، ولا بد من فتح أكثر من مركز
إسلامي في البلد الواحد وتدعيم هذه المراكز بكل الوسائل المتاحة والممكنة.
وهذا العبء يقع على كاهل الدول الإسلامية الحريصة على نشر هذا الدين في
ربوع الأرض، وكذلك على الهيئات والمؤسسات الإسلامية.
إن العبء الذي يتحمله القائمون على هذه المراكز ثقيل؛ فكم من تائه وضال
في تلك الدول يحتاج إلى من يرشده ويدله إلى الهداية والطريق المستقيم، وكم من
تائهة وحائرة تبحث عمن يمد لها يد المساعدة ليأخذ بيدها إلى نور الهداية وطريق
الإسلام، وكم من قائل من المسلمين الجدد: ما ذنب أبي وأمي أن أحداً لم يعرض
عليهم الإسلام؟ إن ذنبهم في رقاب الذين تقاعسوا عن التعريف بهذا الدين، إن
ذنبهم في رقاب الدول والحكومات الإسلامية التي تقاعست هي الأخرى عن نشر
رسالة الإسلام وانغلقت على نفسها.
إن المراكز الإسلامية المنتشرة في أوروبا وأمريكا بل وفي بقية دول العالم
تعمل معظمها إن لم يكن أكثرها بالمجهودات الذاتية، ويقع عبء ذلك على الهيئات
والمؤسسات الإسلامية التي تحتاج إلى من يتبناها ويمد لها يد المساعدة من الدول
الإسلامية لنشر الإسلام الصحيح القائم على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة
الحسنة، والقائم على تعاليم القرآن والسنة الصحيحة بفهم السلف الصالح.
__________
(*) كاتب وباحث، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(167/108)
في دائرة الضوء
بين حضارة عاد وحضارة الغرب
إبراهيم بن محمد الحقيل
في أخبار من مضوا قبلنا عبرةٌ لمن يتذكر منا، عبرةٌ تحثنا على سلوك طريق
الصالحين الناجين، ومجانبة سبل المكذبين الهالكين.
لقد قص القرآن علينا أنباء أقوام كانوا قبلنا، سكنوا الأرض وعمروها،
وحرثوها وزرعوها، كانوا أولي بأس وقوة وشدة، فكذبوا المرسلين غروراً بما
لديهم من قوة، وما عندهم من علم، فأخذهم الجبار أخذ عزيز مقتدر، فأصبحوا
أثراً بعد عين وعبرة للعالمين، قال الله تعالى: [أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي
الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ
رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ] (غافر: 21-22) .
كان منهم عاد قوم هود عليه الصلاة والسلام سكنوا الأحقاف بين عمان
وحضرموت [1] ، زمنهم بعد نوح عليه الصلاة والسلام؛ فهم أولُ أمة اضطلعت
بالحضارة والعمران بعد الطوفان [2] الذي أغرق المكذبين من قوم نوح عليه الصلاة
والسلام.
قوة عاد وبأسهم:
أنعم الله على عاد بكل مقومات القوة والعمران، كما هو ظاهر في قول هود
لهم: [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا
آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الأعراف: 69) ، والبسطة: الوفرة والسعة في أمر
من الأمور [3] ؛ فالله تعالى زادهم قوة في عقولهم وأجسادهم، وسلمهم من الآفات
والعاهات. والعمرانُ في الأرض إنما يشيد بقوة أجساد البنائين، والصناعات لا
تزدهر إلا بذلك، وقد نُسبت الدروع والسيوف إلى قوم عاد فقيل: الدروعُ العاديّة،
والسيوفُ العادية [4] ، وقوة عاد وجبروتهم مشهورة حتى إنهم لما جاءهم هود عليه
الصلاة والسلام بالنذارة استكبروا [وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] (فصلت: 15) ،
ووصفهم نبيهم بقوله: [وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ] (الشعراء: 130) .
لقد بلغ من قوتهم وشدة بأسهم أنهم بنوا في طرق أسفارهم أعلاماً ومنارات
تدل على الطريق كيلا يضل السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي تمحو الآثار،
واحتفروا وشيدوا مصانع للمياه تجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون
وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار، وبنوا حصوناً وقصوراً على أشرافٍ
من الأرض [5] ، وفي شأن هذا العمران العظيم قال لهم نبيهم: [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ
آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] (الشعراء: 128-131) .
إغراقهم بالنعم:
مع ما وصلوا إليه من حضارة وعمران وتقدم مادي بما أعطاهم الله من بسطة
في العقول والأجسام؛ فإنه تعالى أفاض عليهم الخيرات، وفتح لهم أبواب النعم،
من وفرة المياه إلى خصوبة الأرض، والبركة في الزرع وفي الحيوان وتكاثر
الذرية؛ وبهذه النعم العظيمة ذكَّرهم هود عليه السلام فقال لهم: [فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]
(الشعراء: 131-134) ، وبيَّن لهم أنهم إن أطاعوه وأخلصوا عبادتهم لله تعالى
واستغفروه زادهم قوة وثراء، ونعمة ورخاء. قال لهم: [َيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ]
(هود: 52) .
تكذيبهم لهود عليه السلام:
إن عاداً غرتهم قوتُهم، وبطروا نعمتهم، فرانت على قلوبهم الغفلة،
واستحكمت فيهم الشهوة، فعميت أبصارهم عن رؤية الآيات، وصُمَّت آذانهم عن
سماع المواعظ، كما هي حال كثير ممن يوعظون فلا يستمعون ولا يتعظون، بل
يستكبرون ويستهزئون ويجاهرون بعصيانهم، ولا يخافون نقمة الله وعذابه، ولذا
قالوا لهود عليه السلام: [قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعِظِينَ * إِنْ
هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ] (الشعراء: 136-138) . لقد بلغت
جرأتهم على الله تعالى مبلغاً شنيعاً حتى قالوا: [مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ] (فصلت: 15) ، وكان
عذرهم في عدم استجابتهم للحق أقبح من ذنبهم؛ إذ تذرعوا باقتفاء آثار السالفين
الضالين منهم، وعدم الحيدة عن سبيلهم الذي اختطوه، ودينهم الذي ارتضوه ولو
كان ضلالاً وشركاً [قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] (الأعراف: 70) ، واتهموا هوداً بالجنون كما هي
سيرة المكذبين مع أنبيائهم، والمفسدين مع المصلحين، رميهم بكل نقيصة وباطل
لصرف الناس عن الحق.
وزعمت عاد أن الجنون أصابه بسبب العزوف عن عبادة أصنامهم [قَالُوا يَا
هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن
نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا
تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ] (هود: 53-55) ، فما كان
عاقبة تكذيبهم إلا العذاب المهلك؛ حيث نجى الله هوداً والمؤمنين معه واستأصل
المكذبين المعاندين [فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ] (الأعراف: 72) .
النهاية الأليمة:
لقد كانت نهاية عاد أليمة، وعاقبة كفرهم وخيمة، جمع الله لهم فيها عذاب
القلب مع عذاب البدن؛ فبينا هم ينتظرون الغيث بعد طول انقطاع وشدة ترقب،
فما كادوا يفرحون بسحائبه وبوادره وبداياته حتى كان مطر عذاب وليس غيث
رحمة [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ
مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ] (الأحقاف: 24-25) . انتهت حضارتهم،
وذهب عمرانهم، وما أغنت عنهم قوتهم من عذاب الله شيئاً، وحقت عليهم لعنة
الله في الدنيا وفي الآخرة [وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَاداً
كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ] (هود: 60) ، إنها لآية للمعتبرين وعظة
للمتعظين، ينتفع بها من ألقى لها سمعه، ووعاها قلبه فهل من مدَّكر؟ !
الحضارة المعاصرة:
لقد كانت قصة عاد من أعجب القصص التي تتكرر في بني البشر، وقليل
منهم من يعتبر، دلت على أن الإنسان إذا أنعم الله عليه، ولم يتترس بالإيمان ضد
الشياطين والشهوات كان الهلاك مصيره، والخسران عاقبته مهما بلغ ماله وجاهه،
ومهما كانت قوته وغلبته [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ] (الفجر: 6-8) .
إن الإنسان المعاصر الذي ينتظم في منظومة هذه الحضارة الزاهية، وينعم
بترفها قد أنعم الله تعالى عليه بنعم لا تحصى، ذلل له الأرض حتى مهدها وعبّدها،
والجبال فألانها وهدها، وأقام عليها بروجاً عظيمة، وشيد عمراناً كثيراً، ألان الله
له الحديد فابتنى به مصانع كثيرة، واستخدمه في منافع عديدة؛ حتى اتخذ المراكب
التي تنقله في البر والبحر والجو، فصار في مقدوره أن يقطع الأرض من شمالها
إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها في ساعات معدودة.
حفر الإنسان الأرض فاستخرج كنوزها، وشغّل الحديد بطاقتها، فدارت
الآلات في المزارع والمصانع تنتج للناس ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون، وما
به يتنعمون ويترفون.
حضارة عتيدة، وعمران ضخم، وتقدم سريع، ولكن هل اعتبر الإنسان بمن
مضوا في القرون السالفة، والحضارات البائدة؟ فسخر ما أنعم الله به عليه فيما
يرضيه [كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى] (العلق: 6-7) .
طغى على ربه فجحد نعمته، وأعلن إلحاده وكفره حينما ظن أنه مركز الكون،
والمتصرف فيه كيف يشاء، وأن عصر تدفق المعلومات سيلغي ما يسمونه
بالأيديولوجيات بما فيها دين الإسلام والعياذ بالله!
وطغى الإنسان على الإنسان فحاربه وجوَّعه، حتى قُتلت أمم من بني الإنسان
لا تعلم لِمَ قُتِلَتْ، ولا فِيمَ قُتِلَتْ، وترمي الدول العظمى فائض الطعام في البحار في
الوقت الذي يموت فيه في كل لحظة بشر من الجوع، وتشيَّد في بلاد الغرب البيوت
والملاجئ والمستشفيات للقطط والكلاب في وقت يموت فيه بشر في العراء.
بل تجاوز طغيان الإنسان غيره حتى طغى على نفسه فارتكب ما يوبقها،
وصنع ما يهلكها من آلات لهو وفساد، وأسلحة دمار شامل وغير شامل.
كيف ستكون حضارة بني الإنسان إذا كان من يسيرها قد أعرض عن ذكر الله
وركب هواه؟ ! إنها إلى دمار ماحق، وهلاك عاجل أو آجل! !
أما كان لهم اعتبار في حضارة من سبقوا من عاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم
لوط، وفرعون وهامان وقارون، وحضارة اليونان وحضارة الرومان؟ أما كان
لهم في هؤلاء وغيرهم اعتبار، إنه لن ينجي البشرية من شقائها، ولن يحافظ على
حضارتها وعمرانها إلا التزام دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده والاستمساك به ولا
شيء غير ذلك، وهذا ما أفصح عنه العالم الأسباني (فيلا سبازا) بقوله: «إن
جميع اكتشافات الغرب العجيبة ليست جديرة بكفكفة دمعة واحدة، ولا خلق ابتسامة
واحدة، وليس أجدر من أمم الشرق المحتفظة بالثقافة العربية الإسلامية، والقائمة
على إذاعتها بوضع حد نهائي لتدهور الغرب المشؤوم الذي يجر الإنسانية إلى هوة
التوحش والتسلط المادي» [6] .
__________
(1) البداية والنهاية (1/138) .
(2) التحرير والتنوير، لابن عاشور (8/205) .
(3) المصدر السابق (8/206) .
(4) المصدر السابق (8/206) .
(5) المصدر السابق (18/167) ، وانظر تفسير الرازي (8/550) .
(6) انظر: الإسلام وأزمة الحضارة الإنسانية المعاصرة في ضوء الفقه الحضاري، لعمر بهاء الدين الأميري (22) عن النظام الدولي الجديد، لياسر أبو شبانة (384) .(167/112)
في دائرة الضوء
مؤتمر العولمة تفاعل ومقاومة
تقوم نظرية (العولمة) أساساً على مبدأ التبعية واستعباد الأمم، واكتساح
ثقافة الشعوب وخصوصياتها الفكرية والاجتماعية، واقتلاعها من جذورها؛ ليصبح
العالم كله مفتوحاً أمام قوة المنظومة الأمريكية التي راحت بكل استعلاء تفرض
رؤيتها الأحادية على شعوب العالم وحضاراته.
ينقسم العالم في ظل العولمة إلى معسكرين: دول منتجة اقتصادياً وثقافياً
وفكرياً وإعلامياً، ودول أخرى مستهلكة لكل ذلك، مشرعة الأبواب غير قادرة على
الحفاظ على هويتها وخصوصيتها.
لقد أدركت جماعات كثيرة من الغربيين على اختلاف مشاربهم وتباعد
معتقداتهم أن العولمة لا سيما الاقتصادية منها ما هي إلا صورة لاستعمار جديد في
ثوب قانوني. يقول ريتشارد هبوت في كتابه: (العولمة والأقلمة) : «العولمة
هي ما اعتدنا عليه في العالم الثالث ولعدة قرون أن نطلق عليه: الاستعمار!» .
وإننا شهود على تحولات حضارية وفكرية واجتماعية هائلة تشهدها الشعوب
الإسلامية في أنحاء المعمورة في ظل هذه العولمة المكتسحة، ولا يمكن أن ننأى
بأنفسنا عن تياراتها وتأثيراتها، ومن ثم فلا بد من فهم ظاهرة العولمة فهماً جيداً
ليتسنى للمسلمين مقاومتها والتقليل من آثارها، ومن ذلك أن نفهم أيضاً أن العولمة
ليست شراً محضاً بل قد تحمل بعض الجوانب الإيجابية التي يمكن استثمارها
والتفاعل معها وتوظيفها لخدمة المسلمين.
وقد تيسَّر ولله الحمد إقامة مؤتمر في المركز الرئيس للمنتدى الإسلامي في
لندن بعنوان: (العولمة تفاعل ومقاومة) في الفترة من 6/5/1422هـ إلى 8/5/
1422هـ، شارك فيه عدد من أهل الاختصاص والخبرة، وقدمت المحاور الآتية:
1 - العولمة وصراع الحضارات للأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس.
2 - عولمة أم استعمار؟ ! للأستاذ الدكتور محمد أمحزون.
3 - العولمة الاجتماعية للمرأة والأسرة للأستاذ فؤاد آل عبد الكريم.
4 - العولمة السياسية والاقتصادية للدكتور محمد حامد الأحمري.
5 - العولمة الإعلامية للدكتور مالك الأحمد.
6 - اليهود والعولمة للأستاذ عبد العزيز مصطفى كامل.
7 - الإعلام الإسلامي وتحديات العولمة للأستاذ جمال سلطان.
ويسعدنا في مجلة البيان أن ننشر في هذا العدد مقالة للدكتور إبراهيم الناصر
بعنوان: (العولمة استثمار ومقاومة) لتكون بين يدي الملف الشامل الذي ينشر
بإذن الله تعالى في العدد القادم محتوياً على بعض الأوراق المقدمة في المؤتمر.
- مجلة البيان -(167/116)
في دائرة الضوء
العولمة مقاومة واستثمار
د. إبراهيم بن ناصر الناصر
هذه المقالة محاولة اجتهادية لطرح رؤية موضوعية لقضية العولمة، وهي
الجمع بين فكرة المقاومة والاستثمار؛ وذلك أن معظم الخطاب الإسلامي في هذه
القضية يتناول جانب المقاومة وبيان المخاطر الضخمة للعولمة؛ وهذا أمر مهم لا بد
منه. ولكن جانب الصورة الأخرى يبدو أنه لا يقل أهمية على الرغم من قلة من
يتطرق إليه؛ حيث نتلمس وجودنا الإسلامي من خلال خريطة العولمة الضخمة
والسريعة الإيقاع فيما نسميه في هذه المقالة بالاستثمار.
وهناك جانب آخر وهو جانب تصوريٌّ يساعد على التوصل إلى الحكم
السابق، وهو فهمنا لطبيعة هذه العولمة من خلال الملامح والواقع والمستقبل،
وأن فيها جانباً ليس إرادة مقصودة للأقوياء، وينبني على هذا الفهم أن بعض سلبياتها
قد يرتد على أصحابها؛ فهل تنجح هذه المقالة في تحويل بعض صور الخطاب
العاطفي حول هذه القضية ليكون أكثر موضوعية؟
مقدمة:
مصطلح العولمة مصطلح جديد ظهر في العالم الغربي في بداية عقد
التسعينيات، وقد سبقه حدثان ضخمان أثرا في حركة العلاقات الدولية واتجاهاتها
وعلى موازين القوى في العالم: الأول: سقوط المعسكر الشرقي الذي اتخذ من
سقوط جدار برلين رمزاً له في عام 1989م، والذي أنهى فترة من الحرب الباردة
بين المعسكرين (وارسو / الأطلسي) بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية،
وصاحبها حالات من الاستقطاب والمد والجزر في علاقات هذين المعسكرين؛
بحيث وصلت في الجَزْر إلى التهديد بحرب عالمية ثالثة مباشرة أثناء أزمة
الصواريخ الكوبية، وفي المد وصلت إلى الاتفاق على تقسيم مناطق نفوذ في بعض
بقاع العالم، وبين ذلك حصلت حروب بالوكالة كما حصل في فيتنام وأفغانستان.
وقد أتاحت حالة الحرب الباردة والصراع والتنافس العالمي على مناطق النفوذ وجود
هامش من الحرية لما سمي بـ (دول عدم الانحياز) مكّن كثيراً من الدول من
الاستقلال عن الدولتين الكبيرتين أو إحداهما.
ثم جاء الحدث الآخر الكبير وهو حرب الخليج الثانية في عام 1991م، وهي
حرب شبه عالمية لكن من طرف واحد ودون تكافؤ في القوى. وانتهت هذه الحرب
بانتصار أمريكي غربي أضيف إلى ذلك النصر التاريخي على المعسكر الشرقي.
وهذان الانتصاران أتاحا لأمريكا نوعاً من السيادة العالمية مستغلة تقدمها التقني
والاقتصادي وقوتها العسكرية في تكريس هذه السيادة. فبدأ في هذا الظرف
التاريخي ظهور مصطلحات جديدة مثل «العالم الجديد» ومثل «العولمة» . وهذا
المصطلح الأخير أخذ حظه من الانتشار باعتبار أنه يمثل حركة الهيمنة والسيادة
الغربية بأسلوبها الحضاري الجديد، وظهرت أعمال وكتابات كثيرة لدى الغربيين
تؤدلج هذه الفكرة مثل فكرة «نهاية التاريخ» ، وكذلك فكرة «صراع
الحضارات» وإن كانت سابقة لفكرة نهاية التاريخ إلا أنها شُهرت أخيراً.
تعاريف:
البعد الاقتصادي يأخذ النصيب الأكبر في أدبيات الكُتَّاب الغربيين عن العولمة
لقوة تأثيره على الدول والمجتمعات وارتباط كثير من المجالات به. وكمثال لذلك
كتاب: «فخ العولمة» ؛ فإنه يركز على البعد الاقتصادي وأثره على المجتمعات
الغربية. كما أن العولمة الاقتصادية هي المجال الوحيد الذي اتفق على تعريف له؛
حيث تبنى مؤتمر الأمم المتحدة للإدارة والتنمية UNCTADتعريفاً لها يقوم على
فكرة فتح الأسواق والتبادل الحر وتقليل سلطة الدولة على حركة الاقتصاد. لكن هذا
المصطلح اكتسب فيما بعد دلالات استراتيجية وثقافية مهمة من خلال تطورات
عديدة بدأت منذ أوائل التسعينيات. ومن هنا لا نستطيع أن نتوقف عند هذه النظرة
والرؤية الجزئية للعولمة، وإن كانت مهمة. ولذا عبر كثير من المفكرين والكتاب
عن رؤية أشمل للعولمة. وهذه النظرة الشمولية بدأت تظهر أخيراً حتى على
الكتابات الغربية. ومن الطريف أن كاتبين غربيين أصدرا في عام 2000م كتاباً
بعنوان: «إعادة النظر في العولمات» هكذا بصيغة الجمعRethinking
Globazation (s) .
ونستطيع أن نلخص أهم توصيفات العولمة وملامحها بما يلي:
هي التوجه الأيديولوجي لليبرالية الجديدة التي تركز على قوانين السوق،
والحرية المطلقة في انتقال البضائع والأموال والأشخاص والمعلومات في الاقتصاد،
وعلى فكرة الديمقراطية في البعد السياسي، وعلى مفهوم الحرية والمساواة
المطلقة في البعد الاجتماعي والأخلاقي. فهي نظام عالمي يشمل المجالات السياسية
والفكرية والثقافية والاجتماعية، كما يشمل مجال التسويق والمبادلات والاتصال.
ويرى بعضهم أنها فكرة تعبر بصورة غير مباشرة عن إرادة الهيمنة على
العالم وتغريبه أو أمركته مستغلة مظاهر وآليات التطور الحضاري الذي يشهده
العصر: فالهيمنة العسكرية بواسطة الأحلاف العسكرية ومنها حلف الأطلسي،
والسياسية بواسطة الهيمنة على مجلس الأمن، والاقتصادية من خلال المنظمات
الدولية الاقتصادية مثل منظمة التجارة العالمية، والاجتماعية من خلال مؤتمرات
دولية وإقليمية، والفكرية من خلال القوانين والاتفاقيات والصكوك الدولية في هذا
المجال؛ مدعومة بقوة دفع ضخمة بواسطة إمبراطوريات إعلامية وشبكة معلومات
دولية (إنترنت) يسيطر الغربيون على معظمها؛ حيث اعتبر بعضهم (جارودي)
العولمة هي الاسم الجديد للاستعمار.
وفي المقابل يرى بعض آخر أن العولمة هي اتجاه فطري للإنسان يتسارع
أثره مع تطور آليات الاتصال بين المجتمعات وتركيز الصناعات وتجاوز المجتمع
التقليدي، وأنها مظهر من مظاهر التطور الطبيعي الحضاري المعاصر، وأن
المجتمعات الأكثر حضارة تفيض على المجتمعات الأقل حضارة بشكل تلقائي عبر
قنوات تصل بين المنبع والمصب. فهو نظام رأسمالي أكثر تكاملاً وليس رسملة
للعالم بالمفهوم الغربي أو الأمريكي. وقد يعبر عن ذلك بطريقة أخرى فيقال: إن ما
يحدث هو إفراز من إفرازات الدولة الحضارية في لحظة تضخم قوتها في المجالات
المختلفة على العالم من حولها.
ويتفق عدد من المفكرين بأنها آلية يمكن أن تؤدي بشكل متسارع إلى نشوء
نظام عالمي جديد بواسطة ثلاثية التكنولوجيا ورأس المال والإدارة، وتشمل السياسة
والاقتصاد والثقافة والاجتماع والأعراف، ليؤسس القرية الكونية الجديدة التي تقوم
على ثورة الكمبيوتر والاتصالات والثورة المعلوماتية والأسواق المفتوحة والشركات
متعددة الجنسيات لتوحيد مصير الإنسانية.
هذه أهم الأدبيات في توصيف واقع العولمة ومستقبلها؛ على أن الساحة
الفكرية المنظِّرة لفكر العولمة لا تخلو من اتهام لمثل هذه الأطروحات موجه إلى
بعض نقاد العولمة وإلى بعض مؤيديها بالمبالغة.
السؤال الآن:
هل العولمة مظهر من مظاهر التطور الحضاري الطبيعي الذي يشهده العصر
ولكنه يتم بمقاييس الأقوياء؟ أم أنها عقيدة تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة
على العالم من قِبَل الأقوياء؟ ليكن الحال مزيجاً من الأمرين والنتيجة واحدة وهي:
سيطرة الأقوياء مادياً وحضارياً على الضعفاء مستخدمين قدراتهم وسبقهم في
توظيف آليات العولمة وثمار التقنية لصالحهم؛ حتى تتم عملية «تغريب العالم»
كما وصفها أحد الكتاب الغربيين أو «أمركة العالم» حسب وصف أحد الكتاب
المسلمين، وهو ما دعا الرئيس الأمريكي السابق كلينتون إلى أن يقول: «إن
أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً
مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا» .
مجالات العولمة:
تظهر العولمة في مجالات عديدة من مجالات الحياة التي تشكل شبكة العلاقات
الدولية المعاصرة، وأهم هذه المجالات:
أولاً: المجال الاقتصادي:
وترتكز العولمة فيه على فكرة وحدة السوق، وإزالة العوائق أمام حركة رأس
المال، وحرية الاقتصاد، واتخاذ الدولار معياراً للنقد، وتحويل المجتمعات إلى
مجتمعات منتجة هي مجتمعات الدول الصناعية، ومجتمعات مستهلكة هي مجتمعات
الدول الأخرى؛ حتى أصبح مظهر التأثر الاستهلاكي للعولمة هو لبس الجينز
وشرب الكوكا كولا وأكل الهمبرجر ومشاهدة المحطة الأخبارية CNN، وكلها نتاج
أمريكي، لدرجة أن الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتيران وقف يخطب في
الجموع المحتشدة محذراً من تفشي ظاهرة لبس بنطلون الجينز بين الشباب الفرنسي؛
لأنه مظهر من مظاهر الغزو الأمريكي.
وتستخدم العولمة الاقتصادية عدداً من الوسائل والآليات:
1- صندوق النقد الدولي والبنك الدولي: وهما منظمتان أمميتان. فالأول
يقوم على ضبط النقد الدولي واستقراره، والآخر يمارس عمليات الإقراض
ودراسات الجدوى في مجال الإنشاء والتعمير للدول المتضررة من الحروب والدول
الفقيرة ضمن شروط قاسية.
2 - منظمة التجارة العالمية: من خلال قوانينها في السلع والخدمات وحقوق
الملكية الفكرية، ومن خلال هيئة فض المنازعات والتحكيم؛ حيث تحوَّل مفهوم
التجارة لدى المنظمة من مفهوم تقليدي إلى مفهوم يشمل البيئة والعمل وحقوق
الإنسان والعمال. وهذه المؤسسات الثلاث تشكل ثالوثاً خطيراً يمكن أن يمسك
بخناق الدول الفقيرة حتى يجعلها في تبعية شبه كاملة للغرب وشركاته.
3 - الإعلام والدعاية الإعلامية: وهي من أوضح الوسائل لترويج المنتجات
الاستهلاكية، وتروج معها بشكل غير مباشر البيئات المطلوبة التي هي إفراز
للثقافة والمصالح الغربية، وتقوم إمبراطوريات إعلامية على خدمة الدعاية
والإعلان، وتنفق الشركات الكبرى مئات الملايين من الدولارات سنوياً على هذه
الخدمة.
4 - الشركات المتعددة الجنسيات: التي نجح الكثير منها في الهيمنة على
السوق بنوعية منتجاتها وخدماتها، وبضخامة رأس مالها، وباندماجاتها.
ولقد شهد العالم اندماجات ضخمة بين شركات عملاقةMega Mergers
فمثلاً:
أ - في مجال السيارات: اندمجت مرسيدس مع كرايزلر.
ب - وفي مجال النفط: اندمجت شركة أكسون مع شركة موبيل.
ج - وفي مجال الاتصالات: اندمجت شركة AT& T مع برتش تلكوم.
د - وفي المجال المصرفي: اندمج Citi corp مع Travelers group.
ويكفي أن نعلم أن رأسمال الشركات المندمجة في مجال الحاسبات فقط على
مستوى العالم قد قفز إلى 246 مليار دولار عام 1999م بينما كان 21 مليار دولار
عام 1988 م.
وهناك صناعات أخرى لم تذكر: كالتأمين، وصناعات الطائرات المدنية
والحربية. وفي المجالات المذكورة أمثلة أخرى مهمة جداً.
وقد يكون من المناسب التذكير بالتغير الذي طرأ على موقف الحكومات
الغربية من مثل تلك الممارسات؛ فقد كانت تلك الممارسات تعد صيغة احتكارية
يمنع منها القانون. ولكن اللعبة تغيرت، والسوق كبرت، وأصبح التحدي ليس
محلياً، بل ولا غربياً، بل على مستوى العالم كله، مما حدا بالدول الغربية إلى
تجاوز الفهم التقليدي للاحتكار في أسواقها لمساعدة شركاتها للحصول على نصيب
أكبر من السوق العالمية.
ثانياً: المجال الاجتماعي:
وذلك بتنميط العالم على نحو من نمط المجتمعات الغربية (تغريب العالم)
وبالذات أمريكا (الأمركة) ؛ وذلك بنقل قيم المجتمع الغربي والأمريكي بالذات
ليكون المثال والقدوة، سواء ما نقل منها بإرادة مقصودة، أو ما انتقل منها نتيجة
طبيعية لرغبة تقليد الغالب؛ لأن الأمة المغلوبة مولعة بتقليد الغالب؛ كما قال ابن
خلدون. وتسلك العولمة الاجتماعية وسائل لذلك منها:
أ - المؤتمرات الدولية في مجال المرأة والشباب والأطفال والسكان والتنمية
الاجتماعية والمستوطنات البشرية، التي شهدتها حقبة التسعينيات بشكل كبير وما
زالت متواصلة؛ حيث تطرح وثائقها وتوصياتها نموذج الحياة الاجتماعية الغربية.
ومثالاً على ذلك ما طرح في وثيقتي مؤتمر السكان في القاهرة ومؤتمر بكين عن
المرأة.
ب - نقل السلوكيات والعادات الغربية من خلال المواد الإعلامية في القنوات
الفضائية وشبكة الإنترنت. والمثال على ذلك عيد الحبValentine، وهي عادة
غربية ذات أصول دينية وثنية وأخلاقية غربية، وقد بدأ ينتشر حتى في المجتمعات
المحافظة كدول الخليج.
ثالثاً: المجال الفكري والثقافي:
وذلك بترويج الأيديولوجيات الفكرية الغربية، وفرضها في الواقع من خلال
الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية أيضاً؛ وذلك في مجالات عدة
كحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحقوق الأقليات، وحرية الرأي. وتستخدم في
ذلك آليات ووسائل منها:
أ - إصدار الصكوك والاتفاقيات الدولية المصاغة بوجهة نظر غربية
والضغط من أجل التوقيع عليها، مثل (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مكافحة
التمييز ضد المرأة.. إلخ) . وهذه الاتفاقيات وإن كان فيها بعض الحق إلا أن فيها
الباطل، ويكفي أنها مصاغة بوجهة نظر غربية صرفة.
ب - إصدار القوانين من أجل استخدامها ضد دول العالم الثالث باسم حماية
الأقليات، مثل قانون التحرر من الاضطهاد الديني الصادر عن الكونجرس
الأمريكي.
ج - إصدار التقارير الدورية للضغط الإعلامي والسياسي والاقتصادي على
المجتمعات الأخرى، مثل إصدارات الكونجرس الأمريكي ووزارة الخارجية
الأمريكية الدورية، وإصدارات المنظمات العالمية الكبرى الدورية، بل حتى
الشركات التي تعنى بالتصنيف الائتماني (أي الملاءة المالية) للدول؛ حيث تستغل
لصالح الدول والبنوك والمؤسسات المالية الغربية.
رابعاً: المجال السياسي:
وذلك من خلال استخدام الأمم المتحدة بعد الهيمنة عليها وعلى مؤسساتها
السياسية المؤثرة خاصة مجلس الأمن الذي تعتبر قرارته ملزمة عالمياً، واستخدام
حق النقض (الفيتو) المجحف عند الضرورة أو التلويح باستخدامه لمنع أي قرار
لا يريده الغرب وخاصة أمريكا. ولعل ما يجري الآن من تعسف أمريكي بدعم
بريطاني ومجاملة من بقية الأعضاء الدائمين في استعمال هذه المنظمة العالمية
لتكريس هيمنة أمريكا دليل على ذلك. وما كشفه بطرس غالي الأمين العام السابق
للأمم المتحدة في كتابه: «بيت من زجاج» بعد خلافه مع أمريكا هو غيض من
فيض.
خامساً: المجال العسكري:
وذلك من خلال الأحلاف والمعاهدات العسكرية التي تعقدها الدول الكبرى
وبالذات أمريكا مع الدول الصغيرة، ومن خلال الأحلاف الإقليمية التي تكون هذه
الدول طرفاً فيها، وكذلك من خلال حلف الأطلسي الذي حددت أهدافه تجاه الجنوب
بعد أن كان تجاه الشرق بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي
وانحلال حلف وارسو.
آليات العولمة التقنية:
وهي الوسائل التقنية التي تعتبر ثمرة المعرفة العلمية، ونتاجاً للثورة التقنية
الضخمة التي يشهدها الغرب؛ حيث تضاعفت الاختراعات التقنية بشكل كبير ربما
يصل إلى معدل اختراع أو اكتشاف جديد كل دقيقتين. وأبرز مجال يشهد ثورة
تقنية ضخمة هو مجال الاتصالات. ومن مظاهر ذلك ما يلي:
- سوف يدور قريباً حول الأرض حوالي 2000 قمر صناعي للاتصالات
المدنية سوى أقمار التجسس والأقمار ذات الأغراض العسكرية. ويكفي أن نعرف
أن (بل جيتس) صاحب شركة مايكروسوفت وعد بمفرده بإطلاق 500 قمر
صناعي لخدمة الاتصالات ونقل المعلومات.
- تضاعف استخدام هذه التقنية عالمياً حتى جاوز الوقت الذي استهلك في
الاتصالات 60 مليار دقيقة في عام 1995م، وتضاعف سوقها حتى قارب الآن من
نصف مليار دولار سنوياً، ويزداد بنسبة 10% سنوياً.
- ستقل تكلفة الاتصالات إلى أن تصبح شبه مجانية في غضون السنوات
العشر القادمة. فعن طريق الإنترنت الآن بإمكان أي شخص في منطقة الخليج
الاتصال بأوروبا وأمريكا بتكلفة لا تزيد عن 4 سنتات للدقيقة.
- صرحت شركة كيوويستQwest للاتصالات الأمريكية أن نظامها التقني
الحديث يستطيع نقل كم هائل من المعلومات يوازي ما تحويه مكتبة الكونجرس من
واشنطن إلى أي مكان في العالم خلال مدة لا تتجاوز عشرين ثانية.
- التطور التقني القادم سيشمل أجهزة التلفاز خاصة بعد تطوير الشاشة عالية
الوضوح (High definition TV) . وسيكون الدخول إلى الإنترنت عن طريق
التلفاز والتحكم بالبرامج أسهل. وقد بدأت الكثير من القنوات التلفزيونية بث
برامجها عبر شبكة الإنترنتWeb TV مثل قناةCNN، وقناة الجزيرة،
وغيرهما.
- ومع تطور كاميرات الفيديو الرقمية سيكون بإمكان الأشخاص العاديين بث
برامج ومعلومات عبر قنوات ومحطات شخصية خاصة بهم كما هو الحال في مواقع
شبكة الإنترنت.
- وفي مجال الإنترنت وهي الشبكة التي حطمت القيود والحواجز وحققت
وحدة معلوماتية نرى أهمية هذه الشبكة وخطورتها من خلال سعتها ومحتوياتها
وحرية استخدامها وسهولته، ومن ذلك:
- مستخدمو الإنترنت حوالي 500 مليون مستخدم؛ كما أن مواقع الإنترنت
Web Sites التجارية والحكومية والخاصة قد زادت على 200 مليون موقع
(عام 1999 م) ، وهي تزداد يومياً بشكل سريع.
- طرحت بدائل جديدة للتجارة تسمى الآن التجارة الإلكترونية
Commerce E-ونشأت الأسواق الإلكترونية، وتحققت وحدة للسوق
العالمي وضُخت مليارات الدولارات في هذا السوق. ولمثل هذا الغرض أنشأت
إمارة دبي مدينة الإنترنت. وقد يكون هذا بعض معنى ما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم في تقارب الأسواق في آخر الزمان.
- زادت صفحات الإنترنت (في نهاية عام 2000م) على 5ر1 مليار
صفحة، والمستخدمون العرب أقل من 1% من مجموع المستخدمين.
- محركات البحث لا تغطي سوى 15% من سعة الشبكة؛ فمحرك ياهو
Yahoo مثلاً لا يغطي إلا حوالي 5ر7% تقريباً من الشبكة.
ومع أن هذه الإحصائيات ليست دقيقة؛ وذلك لصعوبة تحقيق ذلك في مثل
نظام الشبكة، لكن المقصود هو تقريب الصورة.
مخاطر العولمة:
للعولمة مخاطر ضخمة ومفاسد جمة من خلال تحوُّل العالم إلى غابة إلكترونية
يستعلي فيها الكبار على الصغار؛ وتظهر هذه المخاطر داخل المجتمع للدولة
الواحدة، وكذلك داخل المجتمع العالمي. ومن أهم المخاطر:
الخطر المجتمعي:
يحذر علماء الإصلاح الاجتماعي من أن أسوأ ما يقع على الأمم هو انقسام
مجتمعها إلى طبقات الأغنياء والفقراء، وأن الآثار السيئة لتكدس الأموال في أيدي
قلة من الناس تسبب تسلطهم وتحكمهم في مصير الكثرة، وتسخرهم لخدمتهم بغير
حق. وكمثال لذلك أمريكا ذات النظام الديمقراطي، وكيف يؤثر المال على امتلاك
وسائل الإعلام ومن ثم التأثير على العملية الانتخابية؛ بحيث لا تعبر في النهاية عن
رأي الأغلبية. ولهذا كان منهج الإسلام هو وجود تشريعات تمنع أن يبقى المال
دُولة بين الأغنياء؛ وقد ظهرت الطبقية والاحتكار من خلال إيجاد آليات وهياكل
ومؤسسات اجتماعية، سواء كانت اقتصادية أو قانونية أو تشريعية، يتم من خلالها
توجيه المال والسلطة والتأثير للأغنياء دون الفقراء، وتكرس انعدام الفرص أمام
الفقراء في مزاحمة الأغنياء. بل ويكون المال والغنى معياراً لكثير من المناصب
والمهام. ومن ذلك التشريعات الخاصة ببعض الأسواق التجارية والبورصات
والتشريعات القانونية (غير المكتوبة) في أمريكا والمنحازة إلى فئة دون أخرى،
ومن ذلك ما يظهر في طبيعة هيكلة الأحزاب السياسية. وقد حذرت مجلة
Foreign Affairs الأمريكية في عدد سابق من نشوب ثورة اجتماعية عالمية بعد
نقدها لفكرة العولمة؛ لأنها تترك وراءها الملايين من العمال الساخطين، وحالات
اللامساواة، والبطالة، والفقر المستوطن، واختلال التوازن الاجتماعي، بالإضافة
إلى تخلي الدولة عن مواطنيها، ونشوء الطبقية الفاحشة داخل مجتمع الدولة الواحدة
كذلك تسبب تكريس الهوة بين الدول النامية والدول المتقدمة وبين أغنياء العالم
وفقرائه.
ومن مظاهر الخطر الاجتماعي:
- ثلاثة أغنى أغنياء أمريكا ثروتهم أكثر من ثروة قارة إفريقيا كلها التي فيها
600 مليون نسمة.
- 30% من سكان العالم دخلهم اليومي يقل عن دولارين، و20% من سكان
العالم يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد، وكلهم من الدول النامية.
- 20% من سكان العالم يملكون 80% من ثروته، والباقي من السكان
يملكون الباقي من الثروة.
- حركة المال العالمي اليومي تزيد على 10 تريليون دولار يملك معظمه عدد
محدود من الشركات والأشخاص في هذا العالم، معظمهم في العالم الغربي.
- التجارة الإلكترونية (السوق الإلكتروني) شبه محتكرة للغربيين خاصة
أمريكا التي تحصل على نصيب الأسد من هذه التجارة، حيث بلغت حصتها من
هذه السوق نسبة قريبة من النصف والباقي لبقية العالم وخاصة الدول الغربية
الأخرى، بينما الدول النامية لا تحصل إلا على واحد بالألف.
- خمس دول غربية فيها 172 شركة من أصل 200 شركة كبرى في العالم،
وهي أمريكا، واليابان، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا.
- في العالم 358 شخصاً يملكون ما يملك 45% من سكان العالم أي 6ر2
مليار شخصاً.
- هناك توقعات بازدياد البطالة والفقر مستقبلاً؛ فحوالي 30% من طاقات
العمل تكفي عندما تدخل التقنية الإلكترونية في الإدارة وفي سوق العمل.
- الأرباح المتوقعة من اتفاقيات منظمة التجارة العالمية قد تصل إلى 200
مليار دولار، معظمها يذهب إلى الشركات الغربية بينما لن يحصل العالم العربي إلا
على 1% منها.
- كل خمس دولارات في العالم يملك الغرب أربعة منها ويترك دولاراً واحداً
فقط لبقية المناطق.
- وفي مجال التكنولوجيا نجد أن 40% من كمبيوترات العالم توجد في أمريكا؛
بينما نجد واحداً من كل ثلاثمائة أفريقي يملك خطاً هاتفياً واحداً، ونجد أن 80 %
من مالكي الهواتف الخلوية هم من العالم الغني بينما توصف بنغلادش بأنها صحراء
هاتفية.
الخطر الثقافي:
محاولة صهر الثقافات الموجودة في ثقافة واحدة هي الثقافة الغربية وبالذات
الأمريكية، وجعلها النموذج العالمي مستغلة التقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات،
وما ترسله عبر الفضائيات من سيل جارف من المواد الإعلامية، وتفريغ العالم
من الهوية الوطنية والقومية والدينية.
ومن مظاهر ذلك أيضاً:
- يوجد في العالم 6000 لغة، لكن 90% من برامج الإنترنت تبث باللغة
الإنجليزية مما يسبب تهميشاً للغات الأخرى حتى الحية منها؛ مما دعا الرئيس
الفرنسي شيراك إلى الدعوة إلى إقامة تحالف بين الدول التي تعتمد لغات من أصل
لاتيني للتصدي بشكل أفضل لهيمنة اللغة الإنجليزية لدى افتتاحه منتدى حول
تحديات العولمة في 20/3/2001م. ومن المعلوم أن الوكالة الفرنكفونية والمنظمة
الدولية للفرنكفونية أُنشئتا لهذا السبب. كما أفادت دراسة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة
نشرت في 8/2/2001م أن نصف اللغات المحلية في العالم في طريقها للزوال،
وحذرت الدراسة من أن 90% من اللغات المحلية سوف تختفي في القرن الحادي
والعشرين.
- استخدام بعض الصكوك الدولية والقوانين عند بعض الدول للضغط من أجل
تغيير الهويات وصهر الثقافات، وكمثال على ذلك قانون (التحرر من الاضطهاد
الديني) الأمريكي الذي تستخدمه في التدخل بشؤون العالم الإسلامي بدعوى حماية
الأقليات، وإتاحة حرية ممارسة العبادة وإقامة دور لها.
- الآثار الثقافية السلبية التي يمكن أن تنشأ من السير في فلك منظمة التجارة
العالمية؛ حيث تتيح تفسيرات قوانينها الاعتداء على الخصوصيات الثقافية بدعوى
تسهيل انسياب حركة التجارة العالمية.
الخطر الأخلاقي:
- وذلك بما يبث عبر شبكات التلفزة والإنترنت من أفلام جنسية ومواد
إعلامية تروج الفاحشة والرذيلة. وقد بلغ هذا النوع من المواد والأفلام من الكثرة
لدرجة أن ألمانيا التي يسمح قانونها بعرض العملية الجنسية على المسرح مباشرة
أمام المشاهدين قامت بإغلاق 200 موقع إباحي عام 1996م. وبلغت تلك البرامج
رواجاً كبيراً لدرجة أن استفتاءً في بريطانيا أظهر أن نسبة 1: 3 من طلاب
المدارس الثانوية يشاهدون أفلاماً إباحية.
- هناك نصف مليون موقع على الإنترنت تتعامل مع الصور المخلة بالآداب،
وتشرح طرق استعمال المخدرات، ووسائل استخدام العنف (1997م) .
- استخدام جسد المرأة أداة نفعية مادية؛ وذلك بتضخيم الجانب الشهواني؛
حيث تعتبر المرأة سلعة يمكن تسويقها من خلال العروض التلفزيونية والإعلانات.
وكذلك تعتبر المرأة آلة لتسويق السلع الاستهلاكية لمستحضرات التجميل والأزياء،
ويظهر ذلك من خلال عروض الأزياء، ومسابقات ملكات الجمال، وقد توسعت
مسابقات ملكات الجمال لتشمل ملكات جمال الإنترنت.
الخطر الاجتماعي:
ويتمثل ذلك بمحاولات الدول الغربية تحت مظلة الأمم المتحدة أن تفرض
أنموذجها الاجتماعي، وأن تفرض على العالم قيم المجتمع الغربي المختلة في مجال
الأسرة والمرأة من خلال المؤتمرات الدولية في المجالات الاجتماعية المختلفة،
ومن خلال المؤتمرات الإقليمية ولجان المتابعة لتوصيات هذه المؤتمرات المتعددة
والمنتشرة، والتي تدعو إلى اعتماد النموذج الغربي في الحياة الاجتماعية والسكان،
كما أن توصيات هذه المؤتمرات قد تصل إلى ما يشبه القرارات الملزمة.
ومن أبرز توصيات هذه المؤتمرات:
- الحرية الجنسية وإباحة العلاقات الجنسية خارج إطار الأسرة، وتقليل قيمة
الزواج.
- تكريس المفهوم الغربي للأسرة، وهو أنها تتكون من شخصين فأكثر ولو
كانا من نوع واحد.
- إباحة الشذوذ الجنسي بكل أنواعه، ومن المعلوم أنه مُقَرٌّ في بعض القوانين
الغربية.
- فرض مفهوم المساواة الشكلي بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات
والحياة العامة.
ومن مظاهر الاستجابة لهذه العولمة الاجتماعية في العالم العربي نلاحظ:
- تزايد النشاط النسوي الوافد بما يحمله من فكر تغريبي، ومثاله: الخطة
الوطنية لإدماج المرأة في التنمية في المغرب (2000م) .
- الاتجاه لإعادة النظر في قوانين الأسرة في العالم الإسلامي، كما حصل في
مصر أخيراً.
- تزايد التمويل الأجنبي المشبوه لمنظمات وهيئات نسوية أو معنية بشؤون
الأسرة والمرأة.
- طرح مناقشات وبرامج حول المرأة في المجتمعات المحافظة، كما حصل
في بعض دول الخليج أخيراً.
خطر الفوضى العالمية وعدم السيطرة:
تتيح التقنية وسائل جديدة للمجرمين واللصوص وتجار المخدرات؛ حيث إن
توحد السوق وضخامة ما يضخ فيه من مال يغطي عمليات السرقة وغسيل الأموال،
فتكثر عصابات المافيا وأساليب الاحتيال، وقد تغري بدخول أجهزة استخبارات
لبعض الدول وسط معمعة الفوضى لتحقيق أغراض مالية أو سياسية. ومن مظاهر
ذلك:
- مواقع على الإنترنت فيها إرشادات للإرهابيين؛ حتى وصل الأمر إلى أن
يناقش هذا الموضوع في الكونجرس الأمريكي تحت عنوان: «الإنترنت وعلاقته
بالإرهاب» .
- عشرات الألوف من المواقع على الإنترنت تشرح طرق استعمال المخدرات
ووسائل استخدام العنف.
- سرقة البرامج؛ حيث قدرت قيمة البرامج المسروقة في عام 1993م
ببليوني دولار.
- سرقة أرقام بطاقات الائتمان؛ حيث قامت عصابة واحدة بسرقة 000.
140 بطاقة عام 1994م، وتم نشرها على لوائح.
- إفساد البرامج داخل أنظمة الكمبيوتر. وبحكم ترابط شبكات الكمبيوتر
والمعلومات يعظم الإفساد. وكمثال قريب لذلك فيروس «الحب» . وما زالت
محاولات نشر الفيروسيات عبر الإنترنت والبريد الإلكتروني مستمرة.
هذه جوانب من المخاطر، وهناك جوانب أخرى لم نتطرق إليها لوضوحها
للمراقب والمتابع، ومنها خطر العولمة الاقتصادية ذلك الغول الخطير الذي يهدد
دول الجنوب عامة، ويمكن أن يحولها إلى شبه ملكية خاصة للشركات الغرببة
العملاقة المتعددة الجنسيات.
مستقبل العولمة:
يظهر والله أعلم أن هيمنة الغرب وبالذات أمريكا الدولة المركزية على عملية
العولمة لن تستمر طويلاً؛ وذلك بحسب استشراف الأمريكان أنفسهم لمستقبل
دولتهم، وإن كانت ستبقى ذات مركز عالمي مهم لكن ليس مهيمناً، للأسباب
الآتية:
1 - أن فكرة العولمة ليست مثاقفة بين المجتمعات وحواراً بين الحضارات،
والتي من شأنها أن تتلاقح فيها الحضارات مع الاحتفاظ بالخصوصيات، وإنما هي
هيمنة نمط حضارة واحدة بكل ما تحمله من ازدواجية في المعايير، وتناقض في
القيم، وفوضى في الحياة الاجتماعية، وهذا يؤدي إلى روح المقاومة والمغالبة من
الآخرين، عندما تبدأ عملية الاختراق والتحدي الثقافي والفكري والاقتصادي
والسياسي.
2 - أن طبيعة الإنسان عندما يملك القوة ولا يضبطه منهج رباني، ولا يجد
مقاومة مكافئة فهو كما قال الله تعالى عنه: [إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب:
72) ، وقال: [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ
الخَيْرُ مَنُوعاً] (المعارج: 19-21) . ولذلك سيكثر الظلم والبغي والابتزاز
ومحاولة السيطرة على موارد الآخرين من قِبَل الأقوياء. وأما دعاوى الحرية
والمساواة وحقوق الإنسان فتلك داخل مجتمعاتهم، وتستخدم خارجها من أجل مزيد
من الهيمنة في الغالب، وهذا سيزيد من حجم العداء وإثارة روح المقاومة.
3 - أن أيديولوجية العولمة التي تقوم على الترغيب بمجتمع الليبرالية الغربية
كما في فكرة (نهاية التاريخ) عند فوكوياما، وعلى الترهيب من الصدام الحضاري
كما في أطروحة (صدام الحضارات) عند هنتنجتون، وهما مفكران أمريكيان
يستشرفان علاقة الغرب بالعالم الآخر، هما فكرتان توحيان بأن هذه الأيديولوجية
التي تسعى إلى محاولة إلغاء الخصوصيات الحضارية بالترغيب والترهيب يخالف
طبيعة الأشياء، مما يسبب قيام تيار معاكس في كل حضارة، وبالذات الحضارات
التي تملك عناصر القوة والمنعة، ثم يحصل الصراع الذي يعتقده هنتنجتون،
والإسلام في طليعة تلك الحضارات، وخاصة في ظل استهداف الإسلام بخصومة
ضخمة بالرغم من حالة ضعف المسلمين.
4 - إن توقع أن العالم سيتحول إلى ولايات أمريكية كما يعتقد أحد مؤلفي
«فخ العولمة» في ندوة له بالرياض هذا العام هو مخالف للسنة الإلهية التي تحكم
هذا الكون، ولسنة التدافع والصراع التي تحكم العلاقة بين الحق والباطل منذ
وجود الإنسان على هذه الأرض. فالاختلاف والتدافع والصراع كانت من سمات
الحياة البشرية عبر التاريخ بسبب الاختلاف بين الحق الذي جاء به الأنبياء والباطل
الذي تدعو إليه الشياطين، أو بسبب نوازع النفس البشرية وأنانيتها وعنصريتها
وظلمها وبغيها على الآخرين. قال الله تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) وقال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً]
(الحج: 40) ، وقال تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] (هود: 118-119) .
5 - إن وجود الطائفة المنصورة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم
إلى نهاية الزمان والتي هي بعض قدر الله في هذه الأرض يتناقض مع الدعوى
العريضة لهذه العولمة والمبشرين بها. بل فيه إشارة إلى أن ظهور هذه الطائفة
سيكون في بعض المراحل على ظلمات وظلم هذه العولمة، وأن عدم تضررهم بمن
خالفهم وخذلهم إشارة إلى بعض الفئام من المسلمين الذين سيركبون قطارها.
وعلى أرض الواقع نشاهد ما يلي:
1 - المشكلات الداخلية مثل التفكك الأسري المخدرات الطبقية: 60مليون
في أمريكا تحت خط الفقر، وفي الاتحاد الأوروبي 50 مليون تحت خط الفقر،
وفي أمريكا 1% من الناس يملكون 40% من الثروة.
2 - الأمراض الناتجة من التحلل الأخلاقي (الإيدز) : تشير تقديرات
منظمة الصحة العالمية (الغرب له نصيب كبير من هذه الأرقام) :
- حتى عام 2000م هناك 40 مليون مصاب بالإيدز، والنساء أكثر إصابة
بهذا المرض.
- عدد المتوفين بسبب الإيدز منذ بداية المرض في أواخر السبعينيات حتى
عام 2000م حوالي 22 مليون، أكثر من 4 ملايين منهم من الأطفال.
- 250 مليون حالة جديدة من حالات الإصابة بأمراض انتقلت عن طريق
الاتصال الجنسي.
3 - الفوضى الأخلاقية:
وهي إحدى مظاهر القصور في مجتمعات الحضارة المعاصرة، وهذا المظهر
مع غيره من جوانب قصور أخرى تخفف من بريق هذه المجتمعات وتزهد فيها،
ومن أمثلة ذلك:
- في بعض الدول الأوروبية 65% من النساء العاملات يتعرضن للتحرش
الجنسي في أماكن عملهن، وعلى مستوى كل دول الاتحاد الأوروبي تبلغ النسبة
35%، وهذا بحسب مسؤولة التوظيف والسياسة الاجتماعية في المجلس الأوروبي
في بروكسل.
- حوالي 18% من النساء في أمريكا اغتصبن أو تعرضن لمحاولة اغتصاب
في مرحلة من مراحل عمرهن، وأكثر من نصف الضحايا كن تحت سن 17 سنة
عندما تعرضن للاغتصاب للمرة الأولى، وهذا بحسب دراسة أعدت بتكليف من
وزارات العدل والصحة والشؤون الاجتماعية في أمريكا.
- كثر التحرش الجنسي في السنوات الأخيرة في اليابان حتى بات من
الضروري وضع قانون وطني لمكافحته، وذلك بحسب رأي خبيرة القضايا القانونية
في الحزب الديمقراطي. وجاء في هذا الصدد أن شركة القطارات في اليابان تفكر
جدياً بتخصيص عربات خاصة بالنساء، وقد بدأ تطبيق ذلك أخيراً، علماً أن
عربات النساء الليلية موجودة منذ سنين.
4 - ظهور ملامح صراع بين أمريكا وبعض الدول الغربية بسبب الاختراق
الثقافي والاقتصادي كما حصل مع فرنسا ومع كندا عندما احتجتا على الهيمنة
الأمريكية على حساب الثقافة المحلية والامتيازات الاقتصادية. وسبق ذكر موقف
الرئيس الفرنسي السابق ميتيران من ظاهرة لبس الجينز، وموقف الرئيس شيراك
من الغزو اللغوي.
5 - توقع ظهور مراكز قوى جديدة عسكرية واقتصادية (الصين، الاتحاد
الأوروبي، اليابان) يمكن أن تنافس أمريكا وتنهي بذلك حقبة القطبية الأحادية؛
وخاصة مع ما يتوقع من أن أمريكا ستبدأ مرحلة انكفاء على الذات على حساب
الهيمنة العالمية في غضون السنوات العشرين القادمة حسب دراسات أمريكية.
6 - مقاومة العديد من دول العالم خاصة النامية للعولمة أو على الأقل عدم
الاستسلام لشروطها القاسية؛ وذلك لما ترى لها من أثر على تقليص السيادة الوطنية
في مجال صنع السياسات الاقتصادية وغيرها؛ وخاصة أن هذه الدول ترى أن
الأزمات المالية والاقتصادية الطاحنة التي ألمت بالمكسيك عام 1994م، والبرازيل
عام 1999م وفي غيرهما كانت نتيجة حتمية للعولمة والاندفاع إلى الاندماج فيها
دون قيد وشرط، وأن الطبقية التي تحصل في بعض الدول كمصر، والمتوقعة في
أخرى كدول الخليج التي سارت في قطار العولمة أو التي تستعد لركوبه مؤشر آخر
على ذلك. وكمثال على ذلك السعودية التي كان من المقرر أن تنضم لمنظمة
التجارة العالمية في نهاية عام 2000م، لكنها قاومت الانصياع للشروط واستمرت
في المفاوضات إلى الآن.
7 - الأزمات العسكرية والثقافية والاجتماعية والشعور بالتفكك الداخلي لدى
الغرب تزداد عمقاً، كما أنه يزداد عجزاً عن فرض سياسته، وإن تم له ذلك
فبتكاليف باهظة.
8 - ازدياد وعي جماهير العالم الثالث وخاصة العالم الإسلامي، وازدياد فهم
النخب لقواعد اللعبة الدولية، وبروز روح تمرد عند دوله على الهيمنة الغربية
(نموذج ليبيا في ما يسمى مشكلة لوكربي) ، حيث تمردت دول منظمة الوحدة
الأفريقية على الحصار الجوي المفروض على ليبيا، وتهديد الدول العربية بالتمرد
أيضاً كما في توصيات مؤتمر القمة العربي في عمان.
9 - إخفاق بعض الأطروحات الغربية (تحرير المرأة) في تلك المجتمعات
لدرجة أن باحثة أمريكية أصدرت كتاباً باسم: «أخوات في الجريمة» ترى أن
تحرر المرأة سوف يزيد من إجرامها، وأنه يمكن التعامل مع الحالة الإجرامية
للمرأة كمؤشر على درجة التحرر التي تحققها في المجتمع. وأوردت بعض
الإحصائيات التي تدعم وجهة نظرها، وكمثال لذلك خريطة النساء في البرلمانات:
إحصائية عام 1993م الصادرة عن الاتحاد البرلماني الدولي:
أمريكا 11% بريطانيا 9% فرنسا 6%
روسيا 8% اليابان 2% مصر2% تركيا 2%
ويمكن القول إن معدل وجود المرأة في البرلمانات والمجالس الشعبية في العالم هو
10% بالرغم من الدعاوى والجهود المبذولة منذ مطلع القرن من أجل تحقيق مساواة
بين الرجل والمرأة وإلغاء التخصص بين الجنسين على أساس وظيفي.
10 - مصيدة الديمقراطية وحقوق الإنسان جعلت الغرب يظهر بعدم صدقه
فيما يدعو له، وبأنه صاحب معايير مزدوجة، وهو كذلك كما حصل مع الصين
ومع الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة، وهو كذلك الآن عندما تأتي الديمقراطية
بخصوم الغرب إلى الحكم أو تأتي حقوق الإنسان على حساب بعض أصدقائهم في
دول العالم الثالث، ولذا سكت الغرب عن انقلاب العسكر على الديمقراطية في كل
من نيجيريا والجزائر، وهذا يظهر الغرب بعدم صدقه في ادعائه حماية القيم.
11 - ظهور بوادر إخفاق وعود العولمة ومبشريها في تقليل الفجوة بين
الشمال والجنوب على مستوى العالم وعلى مستوى الدولة الواحدة؛ فالعولمة تمنح
الفرص للشريحة الغنية الضيقة وتظل الشرائح الكبيرة على مستوى الدول والأفراد
تعاني ويلات العولمة مما يعني تكريس الظلم واللامساواة الاجتماعية. ومن طريف
ما كتب في كتاب: (عالم منفلتRunway World) أن العولمة التي توصف
بأنها حولت العالم إلى قرية معولمة صغيرة global village قد حولته أيضاً إلى
عملية نهب معولمة صغيرةglobal pillage.
12 - ظهور تيار عالمي مناوئ للعولمة له جمعياته ومنظماته ومنتدياته داخل
الدول الصناعية مثل المنتدى الاجتماعي العالمي المناهض لمنتدى (دافوس)
والتنسيق العالمي المناهض لمنظمة التجارة العالمية. ويقوم هذا التيار بدور التوعية
بمخاطرها وآثارها السيئة على المجتمعات، ويحاول الاحتجاج عليها وإبطال أي
فعالية لدفع ودعم تيارها مثلما حدث في (سياتل، ودافوس، ومونتريال، وجنوا
أخيراً) . وتظهر عدائية عدد من منظمات المجتمع المدني الغربي للعولمة في
الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أقوى كالمنظمات العمالية واتحادات الشغل التي
تراقب أثر عولمة الاقتصاد على معدلات أجور العمال وعلى نسبة البطالة.
كيف نستثمر آليات العولمة؟
كما أن للعولمة أخطارها الضخمة فإن هناك كثيراً من المكاسب والفرص التي
هي جزء من الحركة الفاعلة والإيقاع السريع لمعطيات العصر؛ فالموقف العقلاني
الرشيد ليس فقط المقاومة، وإنما نضيف إلى ذلك ما ينبغي أن يكون عليه موقفنا من
استثمار الفرص السانحة باستخدام آليات العولمة بما يخدم المسلمين ويحافظ على
هويتهم ويبرز موقفهم ويحمي كيانهم. ومن أمثلة هذا الاستثمار:
في مجال الإعلام والاتصالات:
- إن سهولة الاتصالات ونقل المعلومات ستُحدِث نقلة نوعية في أساليب
الإدارة والعمل، فيستطيع الأفراد العمل من منازلهم في بعض الوظائف. وقد بدأت
عدد من الشركات الأمريكية والأوروبية بتخصيص أوقات معينة لكي ينجز
الموظفون أعمالهم الموكلة بهم من منازلهم دون الحاجة للحضور، وأغلب الذين
يعملون بهذا الأسلوب من النساء. فهذا الأسلوب سيتيح الفرصة أمام الأسر
المحافظة والمجتمعات المحافظة لإنجاز أعمال كثيرة عن طريق الإنترنت دون
الحاجة لخروج المرأة من منزلها وترك بيتها وأطفالها، وخاصة إذا علمنا أن نسبة
استخدام النساء للإنترنت في مجتمع محافظ كالسعودية نسبة عالية بحسب إحصائية
أخيرة.
- تحرير وسائل الإعلام وتطورها وسهولة امتلاكها وإنشاء القرى الإلكترونية
الحرة سيتيح مجالاً لأي فرد أو مجموعة أو منظمة تريد أن تقيم محطات فضائية أو
وسائل إعلام أخرى لنشر الإسلام والدعوة إلى الله، ونشر العلم، والدفاع عن
المسلمين، والرد على الشبهات بحرية دون وصاية أو رقابة رسمية أو الخضوع
لأنظمة مقيدة، ومن أمثلة ذلك الجهود الحثيثة في أكثر من جهة لإنشاء قنوات
فضائية إسلامية مستقلة داخل القرى الإعلامية الحرة المقامة في بعض الدول.
- التغطيه الإعلامية الواسعة للأحداث من خلال الفضائيات أتاحت تغطية
واسعة لقضايا المسلمين، وقلل من فرصة الإعلام الغربي أن يعتم إعلامياً على
قضايا المسلمين أو يعرضها من وجهة نظره المنحازة في أغلب الأحيان، وكمثال
على ذلك التغطية الواسعة لما يجري في فلسطين المحتلة بحيث وضع العالم في
صورة ما يحدث لحظة لحظة، وكشف ممارسات الصهاينة هناك، ولا شك أن
الإعلام له تاثير مباشر على صنع الرأي العام الذي يؤثر على الأنظمة السياسية في
سبيل تعديل مواقفها، ومما هو جدير بالذكر أن صورة مقتل (محمد الدرة) التي
أثرت بشكل ملحوظ على الرأي العام العالمي كانت لقطة لمصور وكالة الصحافة
الفرنسية، وهذا أمر أغضب اليهود، وأغضبهم أكثر أن تكون من مصور وكالة
غربية.
وفي المجال الاقتصادي:
مع التسليم بخطورة العولمة الاقتصادية على اقتصاديات الدول الضعيفة،
وخطورة فتح الأسواق وتحرير التجارة في هذه الدول والذي سيكون لصالح
الشركات الكبرى الغربية إلا أن كثيراً من هذه الدول إذا أحسنت استخدام إمكاناتها
وما تتميز فيه من موارد على غيرها من الدول الغربية، ورشدت سياساتها
الاقتصادية، وحاربت الفساد المالي والإداري المستشري، فإنه يمكنها أن توظف
جانباً من هذه العولمة الاقتصادية لصالحها فمثلاً:
- الانضمام لمنظمة التجارة العالمية يمنع أوروبا من وضع رسم 12% على
المستوردات البتروكيمائية من بعض الدول الإسلامية البترولية؛ فمثلاً الإنتاج
السعودي من البتروكيمائيات يزيد على 5% من الإنتاج العالمي؛ فكم ستكون الفائدة
إذا أزيلت الحواجز الجمركية أمام هذه السلعة المتوفرة لدى الدول المنتجة للنفط
ومعظمها دول إسلامية؟
- يتيح انضمام الدول المنتجة للنفط إلى المنظمة الفرصة للضغط بمعاملته
باعتباره سلعة صناعية من سلع المنظمة، فتزول الضرائب المفروضة عليه في
الدول المستوردة. ففي تقرير لمنظمة الأوبك مؤخراً أظهر أن أكثر من 70% من
سعر النفط المصدر إلى دول الاتحاد الأوروبي يذهب إلى الخزائن الحكومية بينما
يحصل منتجو النفط على أقل من 30%. كما أوضحت تقارير أخرى أن عائدات
أربع دول أوروبية من ضرائب النفط في عام 1998م يفوق عائدات كل دول أوبك
من تصدير النفط في ذلك العام. فإذا علمنا أن معظم الدول المنتجة هي دول
إسلامية، ومنها السعودية التي يعادل إنتاجها 13% من الإنتاج العالمي يتبين مدى
الفائدة المرجوة.
- كذلك فالانضمام إلى المنظمة سيدفع إلى إزالة معوقات كثيرة تقف في وجه
التنمية، وإلى تحديث الأنظمة وإلى وجود الشفافية لتصحيح مسارات التنمية، وإلى
تحديث الإجراءات القضائية، وتخليص الأنظمة الحمائية التي لا تتمشى مع روح
النظام الاقتصادي الإسلامي وتضعف هياكل الإنتاج.
- انفتاح السوق مع ما يجلبه من سلبيات إلا أنه سيدفع إلى التنافس الذي
سيحكم طبيعة السوق الحر المفتوح، وهذا سيدفع إلى تخصيص مؤسسات عامة
كثيرة؛ وخاصة قطاع الخدمات الذي يعاني من سوء في الإدارة وضعف في
الإنتاجية في معظم دول العالم الثالث، لتكون أقدر على المنافسة وأوضح للمحاسبة،
مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى الخدمات وتحسين مستوى المعيشة والرفاهية،
وسيخلق بيئة عمل حيوية وفعالية أكثر للمجتمع.
- انفتاح السوق وإزالة العوائق النظامية سيتيح طرح البدائل الإسلامية في
الخدمات، كالبنوك الإسلامية التي قيد انتشارها في عدد من البلدان مع نجاح
التجربة، بحيث ستجد فرصتها في سوق الخدمات الحر، كذلك بدائل التأمين
التعاوني الشرعي في مواجهة التأمين التجاري بصورته الرأسمالية.
- تتيح التقنية الحديثة للاستثمار (التجارة الإلكترونية) لمشاركة عدد من
مستثمري دول العالم الثالث عبر القنوات المفتوحة، خاصة إذا استحدثت قنوات
آمنة للاستثمار من الناحية الشرعية في أسواق البورصات العالمية، مثل محاولة
عدد من المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي إيجاد مؤشر إسلامي على «مؤشر
داوجونز» باسم Dowjones' Islamic Index.
وفي مجال الإنترنت:
- الإنترنت ثمرة من ثمار التقنية كسرت احتكار الغرب للمعلومات، وأتاحت
فرصة الوصول إلى المعلومات في المجالات المختلفة بنفس السرعة المتاحة
للغربيين سواء كانت معلومات علمية أو إخبارية. وإذا كانت مقولة أن العصر هو
عصر المعلومات، وأن هيمنة الغرب هي بالمعلومات وذلك باستخدامه الفاعل لها؛
فإن هذه الفرصة أصبحت متاحة لغيرهم، فإذا أحسنا استخدام المعلومة، وعرفنا
طرق الوصول إليها فسنستطيع أن نقلل الهوة بيننا وبين الغربيين في مجالات عدة.
- كذلك فالإنترنت منبر حر دون رقيب، وميدان فسيح دون قيود لكل من
يحسن استثماره واستغلاله، ويستطيع أي مفكر مسلم أو داعية مسلم أن يطرح ما
يريد من خلال صفحات لا حصر لها، ويمكن نشر الإسلام والعلم الشرعي وإتاحته
لكل من يطلبه دون عناء. ويمكن أن تصدر صحف ومجلات دورية دون قيد أو
شرط. وكمثال على ذلك موقع القوقاز الذي يغطي أخبار المجاهدين الشيشان على
شبكة الإنترنت؛ فلقد استطاع أن يحطم حاجز التعتيم الإعلامي عليهم، وأن يضع
العالم في صورة ما يحدث هناك بشكل شبه يومي، وشكَّل مصدراً مهماً لأخبار
المجاهدين الشيشان لوكالات الأنباء العالمية.
- كذلك نستطيع استخدام هذه الشبكة في مجال الاحتساب العام من خلال
توسيع مجاله وتطوير مفهومه ليتلاءم مع الآليات المتطورة. وبذلك نستطيع رفع
فعالية المصلحين والمحتسبين على المنكرات العامة الدولية منها والإقليمية.
ومن أمثلة هذه المحاولات: إصدار وثيقة تستنكر أفعال الصهاينة بالفلسطينيين
في بداية الانتفاضة الثانية والتي وقعها مئات العلماء والدعاة والمفكرين والمثقفين في
أنحاء العالم عن طريق الإنترنت. كذلك ما تجريه بعض القنوات الفضائية من
التصويت على قضية من القضايا وموقف من المواقف الهامة تجاه مستقبل الأمة
ومصيرها، وما تطرحه بعض المواقع على هذه الشبكة من حشد التواقيع ضد
قضية ظلم تجاه المسلمين وإرسالها إلى الظالمين. وكذلك ما تقوم به المنظمات
الإسلامية في أمريكا والمدافعة عن حقوق المسلمين مثل منظمة «كير» CAIR
في واشنطن واستخدامها الفعال للإنترنت في الاحتساب على منتهكي حقوق الإسلام
والمسلمين. ومن أبرز الأمثلة في هذا الجانب كيفية توظيف معارضي العولمة أثناء
قمة سياتل عام 1999م أدوات العولمة لمواجهتها، حيث نظم المعارضون جهودهم
ونسقوها عبر شبكة الإنترنت مما أربك المؤتمر وساعد على هزيمته.
- استثمار تقنيات نقل المحاضرات، مثل تقنية غرفPAL TALK في
نظام هذه الشبكة، حيث تستطيع أن تلقي دروساً وتقدم محاضرات وتجري حوارات
وتدفع بردود على الهواء مباشرة بشكل مرئي ومسموع، ويُستمع إليك من كل أنحاء
العالم. وإذا علمت أن المشتركين في هذا النظام بلغ حتى الآن خمسة ملايين
مشترك ويزيدون باطراد؛ فلك أن تتصور مقدار المصالح التي يمكن أن تتحقق في
باب الدعوة ونشر العلم وإزالة الشبهات وترسيخ المنهج. وقد استخدم هذا النظام في
نقل بعض دروس الحلقات العلمية الصيفية بالرياض فكان المستمعون لها من كل
أنحاء العالم يتابعون دروسها في الوقت نفسه الذي يستمع لها المشاركون في المسجد
نفسه، ويطرح البعيدون أسئلتهم كما يطرحها القريبون.
وفي المجال الثقافي والفكري والاجتماعي:
- نستطيع أن نوظف المشاركة في هذا النوع من المؤتمرات واللجان في
طرح الرؤى الإسلامية في المجالات الفكرية والثقافية الاجتماعية، ونبين مخاطر
قيادة الغرب للعالم في هذه المجالات، ببيان الآثار في الواقع وأن ذلك ثمرة لحَيْدة
البشرية عن مصدر الهدى والرشاد وهو الوحي. كما أن منتديات حوار الحضارات
ستكون ميداناً فسيحاً للغزو الفكري المضاد، وسنجد أننا استطعنا القيام بواجب
الدعوة إلى الله والشهادة على الناس من خلال هذه المنتديات والفعاليات. وسنجد
أننا نملك ما لا يملكه الآخر، وأنه أتيحت الفرصة لنا لإبراز جوانب القوة التي
نملكها أمام قوة الغرب المادية والتقنية. ولعله أن يهتدي من أراد الهدى من خلال
الدعوة إلى المنهج الحق وبيان محاسنه ومقارنته بفساد مناهج الآخرين في هذه
المجالات.
والملاحظ أنه رغم تأثيرات الإعلام الغربي والأمريكي بالذات في نشر نمط
الثقافة والحياة الأمريكية في العالم عبر الفضائيات والأفلام والمجلات والإنترنت فإن
الدعوات الدينية والأخلاقية المضادة ما تزال تكسب أنصاراً جدداً في غير مكان من
العالم وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهذا يجعلنا نتفق مع تأكيد صاحب
كتاب: «توالد العولمة: التحولات والممانعة» بتلازم التحولات العولمية مع
ازدياد تحولات الممانعة والمقاومة لها، وأن المنظومات الدينية تعتبر من أكبر
المنتفعين من العولمة لا سيما من جهة استثمار وسائل الاتصال الحديثة وتوظيفها
لنشر رسالتها الدينية.
- كذلك يستطيع العرب المسلمون أن يحدثوا عولمة للغة العربية خاصة في
أوساط المسلمين، وذلك بما يضخونه من مواد علمية وفكرية وشرعية وقرآنية
مكتوبة أو مسموعة بحيث يعتاد المسلمون من غير العرب قراءة هذه المواد وسماعها
مما ينعش حيوية اللغة العربية؛ خاصة إذا استحضرنا العلاقة الوثيقة بين اللغة
العربية والدين الإسلامي. ومن جهة أخرى يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقليل شأن
اللهجات المحلية والقطرية لصالح الفصحى.
وخلاصة القول:
هناك فرص أخرى كثيرة يمكن للمتأمل أن يجدها فيما تتيحه المعطيات الجديدة
المشكِّلة لبيئة العولمة، ولكن لا نعقلها وندرك كيفية استثمارها إلا بفهم عميق
وإدراك ذكي لقوانين هذا العالم وطبيعة هذه العولمة، ومعرفة جوانب القوة وجوانب
الضعف في مراكز القوى، وكيف ينشأ القرار العالمي، واستيعاب استخدام التقنية
وتعميمها بحيث لا تبقى في محيط النخبة فقط.
الموقف:
إذا استثنينا اتجاه فريق يرى المقاومة بالانعزال عن هذا العالم لضعف تأثيره
وقلة مؤيديه وعدم قدرته على الصمود الطويل؛ فهناك اتجاهان بارزان يحددان
مواقف النخب الفكرية من تيار العولمة:
الأول: اتجاه الذوبان، وهو الذي ينطلق من أن العولمة محتوى وآليات هي
خيار وحيد وحتمي لهذا العالم ولا بد من الذوبان فيها والانصهار الحتمي معها؛
ويمثله طائفة من المفكرين العلمانيين.
والثاني: اتجاه نقدي عقلاني رشيد يحاول تفهم قوانين العولمة دون التسليم
بحتمية القيم التي تجلبها، ويعرف كيفية مواجهة تحدي المحافظة على الهوية
الإسلامية والثوابت العقدية والثقافية مع معايشة العصر بفكر متفتح ورأي مستنير
وسلوك رشيد. وهذا الموقف الصحيح يقوم على مقاومتها موضوعًا ومحتوى،
واستثماره وسائل وآليات.
ولذا نحتاج إلى ما يلي:
أ- تعميق الوعي العقدي والديني والخلقي؛ ذلك أن العولمة تحمل روحًا
علمانية مادية، وتؤسس حياة استهلاكية دنيوية تختزل الإنسان في بعده المادي
والاستهلاكي، وتهون من شأن القيم والمعايير الأخلاقية والثوابت الدينية. والتركيز
على التربية الدينية والأخلاقية للحماية من تيار الشهوات الجارف الذي تغذيه وتدفع
به فكرة العولمة من جهة الآليات والمحتوى.
ب- إنعاش قيم التفوق الثقافي والفكري والأدبيات الحضارية المكافئة
والملائمة لقيم العولمة الثقافية والحضارية، مثل الشورى والعدل وحقوق الإنسان
بأصولها الشرعية بدلاً عمَّا يقابلها من القيم الغربية بأصولها العلمانية.
ج- المحافظة على الخصوصية الثقافية مع الانفتاح الفكري الذي يجعلنا
نستوعب ما عند الآخرين من علوم وفهوم ومنجزات حضارية، ونمتنع عن التأثر
السلبي لهذا الانفتاح.
د- قيام حركة تأصيلية نشطة لبعض قضايا المنهج، وتحرير بعض المواقف
العلمية، والتفريق بين قضايا الاجتهاد وقضايا الافتراق، ومواجهة النوازل
المستجدة التي تفرضها طبيعة العصر، والردود العلمية على الشبهات التي تنشرها
بعض وسائل الإعلام.
هـ - الحذر من ظهور تيارات عقلانية ومدارس منحرفة متأثرة بالاكتساح
الحضاري تفسر الإسلام وأحكامه وقيمه تفسيرًا يتلاءم ويتوافق مع قيم وفلسفة
الحضارة الغربية، ويستجيب للروح المنهزمة التي يعيشها كثير من المسلمين.
و الانفتاح والحوار الفكري والحضاري؛ بحيث تمتد أيدي الحوار،
والصراع الحضاري حيث تشرئب أعناق الهيمنة الحضارية.
ز- الاستعلاء بالإيمان، والثقة بأن المستقبل لهذا الدين ولهذه الأمة، وتحرير
العقل من ثقافة الغرب والولع به، واعتبار ذلك من الثوابت الدينية التي لا بد من
الإيمان بها، وأنها من مقتضيات الدين الصحيح، وهي من لب الرسالات وكلام
المرسلين، وقد توصل لهذه الحقيقة من أراد أن يحرر شعبه من هذه التبعية عندما
قال (مانديلا) : " حرروا عقولكم من ثقافة الرجل الأبيض تحرروا أرضكم من
هيمنته ".
ح- استخدام وسائل التقنية وآليات العولمة بكفاءة من أجل عولمة مضادة،
وذلك في معركة المشروع الغربي (التغريبي) بكل مفرداته وبين المشروع
الإسلامي الشامل بكل مفرداته، وذلك من خلال عولمة الرؤى والمواقف الإسلامية،
وتجاوز الروح والنظرة الإقليمية الضيقة في النظر إلى مستقبل الإسلام في أتون
الصراع العالمي.(167/117)
الباب المفتوح
عصا موسى
خالد عبد الحميد
إن أسلوب التربية والبناء الإيماني للشخصية يتنوع بتنوع المستويات
واختلافها، ويرتبط بنضج الفكر وقصوره؛ ولذلك تنوعت أساليب الدعوة والتربية
في القرآن على يد الأنبياء؛ فعلى سبيل المثال كانت آليات التفكير عند شعب بني
إسرائيل غير مكتملة المكونات، وغير ناضجة التصور، ضعيفة في بنائها، هشة
في مكوناتها، ضحلة في عمقها، فاستتبعت أن يكون منطق معجزة نبيهم قوة ربانية
تخرق نواميس الكون لتنشط الذهن، وتشحذ هذه العقول للعودة إلى ربها، واليقظة
من سباتها، وتمثلت هذه العودة الربانية إلى عصا تتحول إلى ثعبان يلقف ما بأفكار
السحرة، ويرعب فرعون وملأه، عصا تفلق البحر وتشقه فيتفرق كل فرق كالطود
العظيم، عصا يضرب بها الحجر فتنبجس منها اثنتا عشرة عيناً.
وتلاحظ أن الله لم يطالب الفئة المؤمنة في هذه المراحل بأي جهد؛ فلم يكلفوا
بحفر الأرض واستخراج الماء وقد كان ممكناً؛ ولم يكلفوا بمجاهدة فرعون وقتاله،
أو صنع فلك، أو حتى السباحة في الماء وقد كان ممكناً، ولم يكلفوا من قبل
بمجابهة سحر فرعون بدعوة الناس وإظهار زيف وبطلان ما يروجه، ولأن أتباع
موسى رفضوا تحمل تبعة هذا الدين منذ أن قالوا: [أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن
بَعْدِ مَا جِئْتَنَا] (الأعراف: 129) ؛ فلقد لعبت عصا موسى دوراً بارزاً في
حياتهم، فاستحقت أن يخلَّد ذكرها في القرآن الكريم، وتبقى في ذاكرة التاريخ
شاهدة على التخاذل اليهودي في تحمل المسؤولية، وما سمعنا عن واحد من ذرية
بني إسرائيل ممن برزوا في حياة موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة
والسلام جاهد مع موسى وأيده في دعوته؛ فقد كان مؤمن آل فرعون قبطياً مصرياً،
وكذلك امرأة فرعون، أما الرجلان فلم تأتنا التفاصيل عن هويتهما، كما قال الله
عن قارون معلناً نسبه: [إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ]
(القصص: 76) .
وما ذلك إلا لأنهم كانوا يعتمدون في منهج حياتهم على منطق العصا الذي
يعني عندهم عدم المشاركة في تحمل المسؤولية لتحقيق الغاية التي تستلزم الإعداد،
والتخطيط، والأداء. ولما نضجت البشرية أُرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم
حيث نُسِخَ منطق العصا إلى منطق المواجهة، منطق [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60) ، وإلى
منطق [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ]
(الأنفال: 65) ، فيترجمه الصحابة إلى واقع: «والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن
نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد
لفعلنا» [1] .
وإلى منطق «تجرع مر الهزيمة» [2] في أحد لتتعلم الفئة المؤمنة أن من
أحسن الدنيا أخذها ولو كان كافراً، وليتربى الموحدون على تحمل المسؤولية.
وإلى منطق «حفر الخندق» ليحفر النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة،
وما كلف بضرب الأرض لتنشق عن خندق، رغم أن حفر بئر أيسر من حفر خندق
يحيط بالجهة الشمالية للمدينة.
وتتجلى ثمار هذه التربية الناضجة في أوضح صورها في غزوة مؤتة يوم أن
واجه المسلمون وهم ثلاثة آلاف مائتي ألف في أحدث أسلحتهم وأكمل عدتهم،
فصمدوا أمامهم وحسبهم ذلك.
لذلك فحق للتاريخ أن يتغنى بسِيَر هؤلاء الأعلام الأبطال، مخلداً ذكرهم،
شاهداً ببطولاتهم، فلم نسمع عن عصا محمد [3] صلى الله عليه وسلم؛ لكن سمعنا
عن صاحب الغار، وعن فاروق الأمة، وعن مجهز جيش العسرة، وعن الفدائي
الأول، وعن أمين الأمة، وعن أسد الله، وعن رجل اهتز عرش الرحمن لوفاته،
وعن سيف الله المسلول، وعن الكثير والكثير ممن لا ينساهم الزمان وإن تناستهم
الأمة.
ولكن العجيب أن إخوان القردة والخنازير وأشباههم يتعاملون اليوم بمنطق
[وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] (الأنفال: 60) ليترجموها إلى تفكير عميق،
وبحث دقيق، وتخطيط جيد، وتنفيذ وأداء ليباغتوك بتحقيق أهدافهم؛ فتدمَّر
الخلافة الإسلامية، وتبنى دولة المسيخ الدجال أعني إسرائيل وتعرى المرأة،
ويسعى في طمس هوية المسلمين ليتحول الكثير الكثير إلا من رحم الله إلى أذيال
وببغاوات، فتمسخ هويتهم؛ سواء كانوا ممن يدَّعون العلم، أو من البسطاء السذج.
أما الأولون فيتحولون إلى متسولين على موائد الفكر الغربي في شتى مجالاته،
يقنعون بالفتات مما يستجدونه من أسيادهم، أمثال: رفاعة الطهطاوي، طه
حسين، رشاد خليفة، سلمان رشدي، فرج فودة، وغيرهم.
ثم وقف المضللون الذين خدعوا وغرر بهم أعني من المفكرين فمسخت
هويتهم إلا بقايا من أصول الدين والفطرة ينتظرون عصا موسى لتحل لهم مشاكلهم
وتغير أوضاعهم، فوقفوا بذلك على مفرق طريق ليخيروا أنفسهم بين ضلالين:
- إما التبعية العمياء، والرضى بالمذلة والمهانة، وطمس ما تبقى من الفطرة
السليمة وقواعد الدين.
- وإما التخاذل والاعتزال عن طريق الكفاح، واتباع منطق: [لِمَ تَعِظُونَ
قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً] (الأعراف: 164) ، وانتظار عصا
موسى التي ستعيد لهم المجد المسلوب واللبن المسكوب.
وأما السذج والعوام فينغمسون في محاكاة عدوهم، فيهم همج رعاع يتبعون
كل ناعق؛ فإن تكلم فيهم الرويبضة فدعا إلى خلع الدين على أعتاب المساجد،
صفقوا وهللوا، وإن قيل لقانون «الله» : إنك لا تصلح! وقيل لقانون
«نابليون» : إنك أنت الأصلح رضوا واستحسنوا، وإن دعي إلى حكم الشعب
بالشعب لأجل الشعب ونسيان الرب وافقوا وأيدوا.
وإن نودي بالتفسخ، والإباحة الجنسية، وعدم الختان، وشرب المسكرات،
رأيت من يصفق ويهلل، أو يُسر ويتكتم لكن القلب أسود، مربادٌّ، كالكوز مجخياً،
لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه.
فإن دعوتهم وناصحتهم ادعوا عجزهم وسيطرة أهل الهوى عليهم، وأجابوا
بمنطق «عصا موسى» : «لا أمل في النجاة إنا لمدركون» . فإن قلت: فلنبدأ!
قالوا: [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] (المائدة: 24) ، فإن
كررت لهم الدعوة شفقة عليهم وحباً لهم؛ [جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً] (نوح: 7) ، واعتقد كل واحد أن الكلام
لكل الناس إلا هو.
فإن دعوتهم ليلاً ونهاراً عسى القلوب أن تلين والعقول أن تفهم جاء جوابهم
النهائي: [لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا] (إبراهيم: 13) ، فإذا
وجدوا ثبات أهل الحق قالوها عياناً بياناً: [أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ] (الأعراف: 82) « [4] .
فإن تبين لبعضهم الحق حتى عاينوه تأثروا برواسب الجاهلية، وضعفت
الهمة، وعجزت عن نصرة الحق، وتأثرت النفوس بمنطق عصا موسى الذي
يعني عندهم السلبية وعدم تحمل المسؤولية، ولعلك تتلمح ذلك في مصطلحاتهم
اللغوية خذ مثلاً:
أ - (هو أنت ستغير الكون) : والمعنى أنت لا تملك عصا موسى، فلن
تغير شيئاً فلا تتعب نفسك!
أما من دعوة، نصيحة، أمر بمعروف، نهي عن المنكر، إنشاء البيت
المسلم.. لا ... لا ما دمت لا تملك العصا!
ب - (كن بجانب الحائط) : والمعنى أغلق فمك، واترك دعوتك؛ لأنك لا
تملك عصا موسى التي تنجيك من الهلاك.
ج - (من عاش جباناً مات مستوراً) : والمعنى أنت لا تملك عصا موسى
التي تمنحك القوة؛ فكيف تتأتى منك الشجاعة؟ فالأسلم أن تتخلى عن شجاعتك
حتى لا يمثل بجثتك.
ولكن فليعلم الجميع أن سر العصا لم يكن في ذاتها، بل لأنها في يد موسى
النبي الكليم عليه السلام وليعلموا أن عصا موسى قد استبدلها الله بقرآن بلغة محمد
صلى الله عليه وسلم وليس سر إعجاز القرآن وقوته في أن يتلوه محمد صلى الله
عليه وسلم، ولكن أن يُفهَم كما فهمه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يُطبق كما
طبقه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تتربى عليه الأجيال كما ربى محمد صلى
الله عليه وسلم أصحابه، عندئذ سيلقف ما يأفكه السحرة، وسيشق البحر، ويفجر
الحجر، وسيحل المشاكل الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وسينقلنا من
التبعية العمياء والتخلف الحضاري، والتأخر التكنولوجي، والنفعية المتسمة بالسلبية
وعدم تحمل المسؤولية إلى ريادة العالم وقيادة الشعوب.
فيا أمة القرآن! عَوْداً إلى القرآن نفهمه ونتدبره ونطبقه كما فهمه وتدبره
وطبقه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه مسلم، رقم (3330) .
(2) وإن كان بعض المؤرخين لا يعدونها هزيمة؛ لأن المسلمين نظموا صفوفهم وطالبوا بالقتال من جديد ففضل المشركون العودة.
(3) انتبه ليس هذا مقارنة بين نبي ونبي لكن مقارنة بين مرحلة تاريخية اتبعت أسلوباً معيناً في الدعوة تمثلت في عصا موسى عليه السلام وبين مرحلة ناضجة استتعبت كفاح الفئة المؤمنة بنفسها.
(4) ويترجم هذا الإعلان إلى طرد المنقبة من الجامعة، ومن التدريس، ومن شتى مجالات مخاطبة الجمهور، وكذلك كل ملتزم بالسمت النبوي.(167/132)
الباب المفتوح
التنصير بالمراسلة أسفٌ مزدوجٌ
أبو بكر بن عبد القادر سيسي
من الأساليب التي اعتمدها المنصِّرون حديثاً في التنصير: الدروس
بالمراسلة؛ فيوجد اليوم عدد كبير من المؤسسات التنصيرية متخصصة في هذا
المجال.
نذكر منها على سبيل المثال: (التاريخ والحياة) مقرها مرسيليا بفرنسا،
(نداء الرجاء) مقرها ستيغارت بألمانيا الغربية، (دار الهداية) مقرها ريكون
بسويسرا، (نور الحياة) مقرها فيلاش بأستراليا.
وأما كيفية ممارسة هذه الوسيلة فهذه أضواء على نشاط المؤسستين الأوليين.
أولاً: مؤسسة: (التاريخ والحياة) :
يوزَّع عنوان هذه المؤسسة في بعض الإذاعات والمجلات والمراكز الثقافية؛
وترسل سلسلة دروسهم النصرانية والأناجيل عن طريق البريد الجوي إلى الراغبين؛
حيث يمدّون دارسيهم بالظروف وبدل الطوابع البريدية، وللدارس جائزة كلما
أنهى مرحلة من سلسلتهم التعليمية ونجح في اختبارها، ويحصل الدارس في نهاية
كل ثلاثة أشهر على مجلة مجاناً تسمى: «مفتاح المعرفة» تحتوي على القصص
ومشاكل الحياة وحلولهم لها، والتوعيات النصرانية، وتقارير إنجازاتهم المضللة في
تنصير الأفراد والأسر في المجتمعات الإسلامية وغيرها وبخاصة في شمال إفريقيا،
وللمؤسسة محطة إذاعية تشرح فيها دروسهم التعليمية صباحاً ومساءً.
وهذه إرشادات المؤسسة في أول بريدهم إلى الدارس:
1 - جميع دروسنا مجانية وهي بالمراسلة لا حضورياً.
2 - تعطى دروسنا بلغة واحدة: العربية أو الفرنسية، وننصحك أن تدرس
باللغة التي تتقنها أكثر، أما إذا اخترت لغة ووجدت ثقافتك بهذه اللغة غير كافية
فيمكنك تبديلها.
3 - نحن مستعدون دائماً للجواب عن كل سؤال تطرحه بشرط أن يكون
متعلقاً بالدرس.
4 - إن استحسنت هذه الدروس واستفدت منها، فلماذا لا تعرِّف بها أهلك
وأصدقاءك، وتعطيهم عنواننا لنرسل إليهم بعض دروسنا.
ثانياً: مؤسسة: (نداء الرجاء) :
وهذه المؤسسة بدورها أيضاً ترسل الأناجيل والكتب النصرانية مقسمة إلى
حلقات تعليمية عن طريق البريد الجوي إضافة إلى الأشرطة والمفكرات والآيات
الإنجيلية المزخرفة بالطراز الإسلامي التي تلصق على الجدران والأدوات، وتبث
دروسها أيضاً مع تشجيع الدارسين في إذاعتها «صوت الرجاء» ، ودراستها
مجانية بالعربية أو الإنجليزية، ويحصل الدارس في نهاية كل حلقة على شهادة.
وهذه المؤسسة من أشد المنظمات التنصيرية هجوماً على الإسلام ونيلاً منه؛
إذ إن من نشاطاتها طباعة ونشر أي كتاب أو مطوي فيه الطعن في الإسلام، سواء
كان له علاقة بالنصرانية أم لا، وسواء كان كاتبه نصرانياً أو غير نصراني.
وإليكم نموذجين عن كيفية إغرائهم الناس بالمشاركة في دروسهم:
النموذج الأول:
أ - أتحب تطهير ماضيك؟
إن أردت المصالحة مع الله وتنقية نفسك فنحن على استعداد لنرسل إليك مجاناً
الإنجيل حسب البشير لوقا، بمقياس 20 * 30 سنتيمتراً بالصور الموضحة لحياة
المسيح إن طلبت ذلك منا.
ب - هل لديك سؤال ما؟
إذا أقلقك سؤال ما حول الإيمان وخلاص نفسك، فاكتبه إلينا صريحاً نجاوبك
بإخلاص ومحبة.
ج - أتريد مصالحة أصدقائك مع الله؟
إذا أعجبتك هذه النشرة وأردت تطبيقها في حياتك وحياة الآخرين فنحن على
استعداد أن نرسلها إليك مجاناً بشرط أن لا تطلب عدداً أكثر مما توزعه عملياً،
اكتب إلينا بخط وعنوان واضحين.
النموذج الثاني:
أ - اقرأ الكتاب المقدس يومياً.
إن قررت التعمق في كلمة الله فنحن مستعدون أن نرسل لك تفاسير الكتاب
المقدس إن طلبتها منا.
ب - ارفع كلمة الله في بيتك.
إن أعجبتك الآية الذهبية التي على الصفحة الأولى من هذه النبذة فنحن على
استعداد أن نرسلها لك مجاناً مطبوعة على كرتون ملون بمقياس أكبر إن طلبتها.
ج - استمع إلى البشارة.
إذا أحببت الاستماع إلى بشارة الإنجيل والكلمات التي تفتح لك أبواب السعادة
بأجمل الأصوات وأحسن الترانيم، فاطلب ذلك منا نرسل أشرطتها لك مجاناً.
ج - وزع بشرى الخلاص في محيطك:
إن أثَّرت فيك هذه النبذة وأنت على استعداد لتوزيع مثلها فنرسل لك العدد
الذي تطلبه منها مجاناً بشرط ألا تطلب منا أكثر مما توزعه عملياً.
أرسل طلباتك بخط واضح وعنوان كامل.
وبعد: فهذه الوسيلة التنصيرية تثير فينا أسفاً مزدوجاً، أو بعبارة أخرى
تؤسفنا من ناحيتين:
الأولى: ما يحصل من جراء الدروس بالمراسلة من التضليل ومحاربة العقيدة
الإسلامية.
الثانية: عدم استخدام المسلمين لهذا الأسلوب الدعوي الذي يتسابق ويتحمس
المنصرون فيه اليوم ويستبشرون بثمراته؛ علماً أن مرده ومصدره السيرة النبوية
ومنهج صدر هذه الأمة السلف الصالح.
فقد اهتم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمراسلة في تعريف الناس بالإسلام
وتصحيح معتقداتهم ودعوتهم إليه، وكان يتحرى في ذلك الأسلوب المناسب، وكمية
المادة، المرسلة، وطبيعة المرسل إليه.
ونماذج التعليم والدعوة بالمراسلة كثيرة جداً في كتب السنة والتاريخ
الإسلامي؛ فهذه صورة درس نبوي بالمراسلة: «من محمد رسول الله إلى
النجاشي ملك الحبشة. أسلم أنت؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك
القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح من الله وكلمته
ألقاها إلى مريم الطهور الطيبة الحصينة، فخلقه الله تعالى من روحه ونفخه كما
خلق آدم بيده ... وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل» .
وهذه صورة رسالة جوابية من المقوقس عظيم القبط على كتاب النبي صلى
الله عليه وسلم الذي أرسل إليه:
«فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد أكرمت
رسولك، وقد بعثت إليك بجارية لها مكان في القبط عظيم» [1] .
فإن طبيعة الحال تدعو المسلمين إلى انتهاج هذا الأسلوب الدعوي صداً
للزحف التنصيري في العالم الإسلامي وإحياءً للتراث الإسلامي، مع وقفات علمية
صادقة عند السيرة النبوية لفقه أساليبها الدعوية المتنوعة وتطبيقها بالوسائل الحديثة؛
ففيها ما يكفي ويشفي.
__________
(1) البداية والنهاية، لابن كثير، 4/257، وتاريخ الطبري، 2/ 244 657.(167/136)
المنتدى
إضاءة لموقف ابن تيمية من المجاز
رضوان بوزيدي
إن المطَّلع على تاريخ الإسلام ورجاله يجد نفسه وسط بحر زاخر من
الشخصيات اللامعة، والنجوم الساطعة ممن سطع نجمهم في سماء العلوم الدينية
والدنيوية، وعلت هممهم حتى ناطحت الجوزاء، ومن هذه الشخصيات الفذة فيما
تراءى لي شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الذي يعد نادرة من نوادر الزمان،
قلما يجود الدهر بمثله؛ فالرجل له إحاطة نادرة بعلوم الإسلام، من الكتاب والسنة،
وفقه الصحابة، وآراء الأئمة، والمذاهب، تميز بنفاذ في الفكر، وقدرة على
التمحيص والتدقيق، وفهم النصوص، وعلم متين بالعربية، وقدرة عجيبة على
استنباط مقاصد الشريعة، والتوفيق بين النصوص ومقاصدها، والحياة ومصالحها،
فاستطاع أن ينتقل من دائرة التقليد المذهبي الذي كان رائجاً في عصره إلى مجالات
الاستدلال والاستنباط، ثم إلى الترجيح والاجتهاد، كما أنه استطاع أن يقف في
وجه الانحرافات الفكرية والعلمية التي حدثت في المجتمع الإسلامي، من شتى
الطرق، وعمل على إحياء روح التوحيد الصافية في الفكر والاعتقاد والسلوك،
شاقاً الطريق لعلم العقيدة، مبرأ من تأثير الفلسفة اليونانية أو غيرها. وقد كانت له
في ذلك مواقف وآراء تحتاج منا إلى وقفات ومتابعة، ولكني سأقتصر هنا على
واحد منها ألا وهو: رفضه لكثير من المصطلحات الحادثة في عصره التي أقحمت
في أمور العقيدة إقحاماً، فجنت على أصل الإيمان لدى جمهور العامة؛ لأنها تحمل
في طياتها نوعاً من الغموض والالتباس على عقول العوام من المسلمين، فتثير فيهم
تساؤلات مريبة؛ وهذا ما أشار إليه رحمه الله في كتابه القيم الذي وسمه بـ «درء
التعارض بين النقل والعقل» ، قائلاً: «ما رفضنا المصطلحات الحادثة كالجوهر
والعرض إلا مخافة وقوع الناس في الالتباس» [1] . وقد عد رحمه الله مصطلح
المجاز، ضمن هذه المصطلحات الحادثة، وهذا المصطلح هو الذي سنتناوله
بالبحث والدراسة. فيقول رحمه الله في أحد كتبه: «إن مصطلح المجاز اصطلاح
حادث [2] بعد انقضاء القرون الأولى» [3] ، وإن القول بوقوعه في القرآن الكريم
والسنة النبوية، قد يؤدي إلى إثارة الشكوك والشبهات من حولهما، وهذا ليس من
مصلحة الإسلام والمسلمين في شيء؛ ولذلك أنكر رحمه الله وقوعه في كتاب الله
وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وربما يتساءل بعض الناس عن مكمن الالتباس والغموض الموجود في هذا
المصطلح، ولن يدفعنا هذا التساؤل إلى الخوض في التعريف بمصطلح المجاز،
ومدلولاته اللغوية والاصطلاحية؛ فذلك موضّح في كتب البلاغة وهي أملك به
وأوفى.
بيد أنني أكتفي بذكر العلاقة الموجودة بين الحقيقة والمجاز، وأهم فارق
جوهري يوجد بينهما؛ لأنه يمثل منشأ الغموض والالتباس في هذا المصطلح.
فالمجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة، دون الحقيقة فلا يجوز نفيها، فتقول مثلاً لمن
قال: رأيت أسداً على فرسه. هو ليس بأسد، وإنما هو رجل شجاع، ومن ثم فقد
وقعنا في إشكالية، وهي أن المجاز يساوي النفي والكذب، وهذا باعتبار أن المجاز
يقابل الحقيقة، بالإضافة إلى أن المجاز يحمل صفة العجز في المتكلم باعتبار أن
المجاز هو نقل اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى جديد.
ولو طبقت هذه المعادلة على القرآن الكريم أو السنة النبوية، للزم منه أن في
كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يجوز نفيه؛ وهذا باطل قطعاً.
وبهذا الباطل توصل المعطلون إلى نفي صفات الكمال والجلال الثابتة لله
تعالى في كتابه وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم بدعوى أنها مجاز. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى قد يُظن أن في القرآن الكريم أو السنة النبوية أشياء كاذبة،
باعتبار المعيار الأخلاقي الذي يحكم العلاقة بين مصطلحي الحقيقة والمجاز، وهذا
الأمر مخالف لما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فهموا كل
آية في الجانب الذي جاءت تصفه أو تقرره؛ فكانت منسجمة في واقعها، وفي
نفوسهم، وقد آمنوا بها وصدقوها.
فالقول بهذا المصطلح في نظر ابن تيمية لا يخدم عقيدة السلف رضوان الله
عليهم بل هو مدعاة لإثارة الشكوك والشبهات، من حول العقيدة الإسلامية؛ وخاصة
إذا علمنا أن عقائد المسلمين في ذلك العصر قد تعرضت إلى غزو الفلسفة اليونانية،
وظهر أثر ذلك في كتب الفلاسفة والمتكلمين الذين فتنهم الإعجاب بما نقله إليهم
التراجمة من ثمرات العقل اليوناني.
وقد تفطَّن لهذه القضية الخطيرة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتعامل معها بعقليته
المقاصدية، فأنكر وقوع هذا المصطلح في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
مخافة أن ينساق العامة وراء هذه المفاهيم الحادثة، وما تحمله من الالتباس، وهذا
بطبيعة الحال يؤثر على عقيدتهم التي تعد هي الأصل، وما عداها فرع لها، وأن
الحفاظ عليها، هو حفظ للدين، وهو أحد المقاصد التي جاء بها الإسلام، وربما
يظن بعض القراء من كلامي هذا أن ابن تيمية رحمه الله قد ألغى هذا المصطلح من
قاموس اللغة العربية، وهذا ليس بصحيح، بل عده أسلوباً من أساليبها، وإنما أنكر
وقوعه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مخافة وقوع العامة في الالتباس
كما ذكرت سابقاً.
بيد أنه استخدم مصطلحاً آخر بدل مصطلح المجاز، وهو: (الحقيقة العرفية)
أي ما يمكن أن يتعارف الناس عليه بعد ذلك، ولا مشاحَّة في الاصطلاح، كما
يقول علماء الأصول.
وراح رحمه الله يفصِّل الحقيقة العرفية، فجعلها على مراتب ثلاث، وهي:
أولاً: الحقيقة العرفية الخاصة: وتكون خاصة عند أهل العلم الواحد،
يصطلحون على الشيء فيما بينهم، كالنحو مثلاً له حقيقة لغوية وهي القصد والجهة،
وله أيضاً حقيقة عرفية خاصة عند النحويين، وهو العلم بالقواعد والضوابط التي
تقيد الكلام العربي.
ثانياً: الحقيقة العرفية العامة: وهي ككلمة: (كثير الرماد) للدلالة على كثرة
الكرم.
ثالثاً: الحقيقة العرفية المباينة: وهي التي تختلف اختلافاً كلياً ومبايناً عن
أصلها الذي وضعت له.
ولعل أحد القراء الكرام يعترض عليَّ بقوله: إن ابن تيمية رحمه الله قد أنكر
وقوع هذا المصطلح في القرآن الكريم أو السنة النبوية من منطلق يقوم على أساس
أن اللغة توقيفية، وليست اصطلاحية. وأجيب القارئ الكريم بقول ابن تيمية رحمه
الله في أحد كتبه: «إن اللغات ليست متلقاة كلها عن آدم عليه السلام» [4] ، وهذا
جواب كاف على هذا الاعتراض.
__________
(1) درء التعارض بين النقل والعقل، لابن تيمية.
(2) ليس المقصود من هذا الكلام أن لفظ المجاز لم يكن شائعاً قبل عصر ابن تيمية رحمه الله، وإنما يُحمل هذا الكلام على المعنى الاصطلاحي أي وضع اللفظ لمعنى غير الذي وضع له أصلاً وللإشارة فإن أبا عبيدة معمر بن المثنى (ت 271 هـ) هو أول من استخدم هذا اللفظ للدلالة على أسرار التعبير اللغوي في القرآن الكريم وذلك في كتابه: «مجاز القرآن» .
(3) كتاب الإيمان، لابن تيمية، ص 7، 87، 119، طبعة قصر الكتب، البليدة، الجزائر.
(4) كتاب الإيمان لابن تيمية، ص 99، طبعة قصر الكتب، البليدة، الجزائر.(167/138)
المنتدى
أنا المدينة
أحمد عبد الرحمن الليفان
أنا المدينة من في الكون يجهلني؟ ! ... أم من يروم من الثقلين إنكاري
أنا المدينة أعلى الله منزلتي ... وأبهج الكون من حسني وأنواري
لا غرو إذ كنت؛ فالوحيان قد نزلا ... بي واستضفت قديماً صاحب الغارِ
وقبل ذلك بي الآيات قد لهجت ... فاستفتها تلق فيها صدق آثاري
إن الحديث جميل حين أذكره ... عني؛ فدونك من مكنون أزهاري
لما أتاني رسول الله أيقظني ... من غفلة وفساد ساد أفكاري
وكان مني رجال طالما صدقوا ... ما عاهدوا الله في جهر وإسرارِ
وإن منهم رسول الله أفضل من ... يمشي على الأرض من بدو وحُضَّارِ
صلى الإله عليه كلما امتلأت ... بطحاء مكة من ضيف وزوارِ
هل بعد ذلك لي في الكون منقبة ... إذ كان أحمد من أهلي وأصهاري؟
من ذلك الحين كان الدين منتصراً ... ولا ثبات لأمر غير نصارِ(167/140)
المنتدى
يا قلبي الدامي
محمد عبد السلام الباشا
نبراتُ صوتي عاكستْ أسراري ... وتواصلتْ فبدتْ بها أخباري
ونوازعُ الشرِّ المريبةِ هاجمتْ ... كلَّ المواقع هدَّمَتْ أسواري
الغربُ يا وطني يُسابقُ أنجماً ... والكونُ ملعبُهُ وفيه يُباري
الغربُ يا وطني غزا أسواقَنا ... بصناعةٍ وبباهظِ الأسعارِ
بتْنا نُقَلِّدُهُ بتافهِ أمرِهِ ... في الجدِّ نبني خالصَ الأعذارِ
يا ويلتي من سلَّةٍ عادتْ بلا ... عنبٍ ولم أحمِلْ بها أزهاري
يا قلبيَ الدامي لكلِّ تخلُّفٍ ... أينَ البناةُ بِمُعظمِ الأقطارِ؟
أنا لا أُريدُ لأمتي تبعيَّةً ... هُمْ بائعونَ ونحنُ فيها الشاري
فكّر بِحلٍّ.. نستعيدُ مكانةً ... قد نستعيد نضارة الأزهارِ
إنْ بالغَ الإنسانُ في طفراتِهِ ... عادتْ وبالاً، أنكرتْ إيثارِي
إنْ لم نكنْ أهلَ الحضارِة.. مَنْ لَها؟ ... من ذا سيرعى خُضرةَ الأشجارِ؟
من ذا سيعطي في الشهامةِ قدوةً؟ ... إن لم أكنْ عَوناً لحاجةِ جاري؟
من ذا سيحمي موطني مِنْ غادرٍ ... من ذا سيوقفُ هجمةَ استعمارِ؟
من ذا سيُعطي للصِغارِ معارفا ... من ذا يحققُ مُجْمَلَ الأوطارِ؟
من ذا سيبني مَصنعاً في موطني ... من ذا سيُمْسِكُ دفةَ الإبحارِ؟
إنْ كنتَ حراً فاستمعْ لمقالتي ... وطنيتي تبني بنا إصراري
قومي هُم الأوْلى بكل حضارةٍ ... كونوا لها أهلاً بكل مدار(167/140)
المنتدى
ظلم الأزواج للزوجات حقيقة أم خيال؟
عبد الرحمن التميمي
قلّ أن تخلو المجتمعات من بعض الظواهر الاجتماعية السيئة حتى في الأزمنة
الطاهرة أزمنة النبوات، ومن هذه الظواهر السيئة على سبيل المثال المشاكل
الأسرية والخلافات الزوجية؛ حيث وقوع الظلم من الزوج للزوجة أو العكس، أو
وقوع الظلم على الأولاد من الزوجين أو العكس، أو وقوع الظلم بين الأولاد أنفسهم
وهكذا. ولكن من خلال متابعتي للصحافة منذ مدّة رأيت تركيزاً على قضية ظلم
الأزواج للزوجات سواء من قبل الكتاب أو الكاتبات أو رسّامي الكاريكاتير، حتى
خيّل لبعض القراء أنه لا يمكن أن يوجد بيت في بلدان المسلمين يعيش الحياة
الزوجية المستقرة المطمئنة، فأحببت أن أبدي وجهة نظري حيال هذا الموضوع
فأقول:
1 - إن من الثوابت التي ينبغي أن يفهمها ويحرص عليها المسلم المحب
لمجتمعه وأمته المسلمة هو مفهوم (الأمن الاجتماعي) ومن متطلباته الاجتماع
والوئام ووحدة الكلمة، ومن متطلبات ذلك الكف عن إثارة الصراعات والنزاعات
لتقوم الحياة على المودة والرحمة [وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً] (الروم: 21) ،
وعلى التكامل والتداخل والتشاور والتناصح، وعلى الموالاة الإيمانية والتعاون على
مكارم الأعمال [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (التوبة: 71) .
2 - إن ظلم بعض الأزواج للزوجات ووجود الصراع فيما بينهم أمر وارد
بل هو موجود؛ لكن بنظرة العقلاء المنصفين المتجردين من الهوى: هل هو يشكل
ظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية تستحق هذا الزخم من الطروحات؟ أظن أن جواب
المنصف المتجرد: (لا) بملء فيه.
3 - إن عرض صور المجتمعات الغربية فيما يحدث بين الأزواج والزوجات
هناك من الصراعات كأنموذج لمجتمعنا المسلم المحافظ أمر مرفوض من قبل العقلاء
الصالحين؛ لأن المجتمع هناك غالبه مبني على الخيانة والضياع والشقاق، وما
حادثة رئيس أكبر دولة في العالم منا ببعيدة. وإليك بعض الإحصائيات مما تعانيه
المرأة هناك؛ فمثلاً في بريطانيا تستقبل شرطة لندن وحدها مائة ألف مكالمة سنوياً
من نساء يضربهن أزواجهن، على مدار السنين الخمس عشرة الماضية، وأن
79 % من الأمريكيين يضربون زوجاتهم، و 83% دخلن المستشفى سابقاً مرة
واحدة على الأقل للعلاج من أثر الضرب، وإن مائة ألف ألمانية يضربهن الرجال
سنوياً، ومليوني فرنسية يضربهن الرجال سنوياً [1] . كل هذا في أرقى
المجتمعات كما يُزعَم؛ فما بالك في المجتمعات الغربية الضعيفة والجاهلة؟ بعد
هذا؛ هل يعقل أن تقاس مجتمعاتنا المسلمة الواعية بتلك المجتمعات التائهة
الضائعة؟
4 - إن تكرار مثل هذه المعاني عبر الصور الكاريكاتيرية والكتابات
والتحقيقات يحكي التعميم على كل طبقات المجتمع، والتعميم في الأحكام دون علم
وتدقيق أمرٌ نهى عنه شرعنا الحكيم؛ فما بالك في التعميم في أمر يخل بأمن البيوت
ومن ثم أمن المجتمعات الإسلامية كلها؟
5 - إن الخلافات الزوجية سنّة إلهية قديمة قدم البشرية يمتحن فيها الزوجان،
وقد نزلت آيات عديدة من أجلها، بل سميت سور بها كسورة الطلاق مثلاً. فهل
تضيق المجتمعات الإسلامية ذرعاً بكل مؤسساتها وأفرادها ببعض هذه الخلافات
الطبيعية التي لها حل في شرعنا الكامل الشامل الموافق للفطرة حتى تعلن هزيمتها
أمام الملأ؟
6 - إن الذين ينظرون هذه القضية «ظلم الأزواج للزوجات ووجود
المشكلات والنزاعات» . سواء من الكتّاب أو الكاتبات أو رسّامي الكاريكاتير لا
يخرجون عن أحد صنفين:
أ - إما عن حسن نية وقصد للإصلاح وتنبيه بعض الأزواج لفداحة ما يقعون
به؛ فهم مأجورون إن شاء الله.
ب - أما الصنف الثاني فهم الذين يتخذون افتعال الخصومة والنزاع فيما بين
النساء والرجال مطية ووسيلة إلى هدف آخر ممقوت وهو مناداة المرأة لإعلان
التمرد على الأزواج، ونفي القوامة الشرعية! فهذه دعاية تصادم الشرع من أدعياء
تحرير المرأة.
7 - أقول لكل مسلم رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً: قد كفيت همّ
حقوق المرأة؛ فشرعك قد تكفَّل للمرأة بكامل حقوقها؛ فما عليك سوى الاطلاع على
شرعك والنهل من معينه الصافي العذب، فستجد فيه الدواء الشافي والجواب الكافي
وإليك مثالاً واحداً يبين قدر تحميل الإسلام الرجل مسؤولية المرأة: قال صلى الله
عليه وسلم فيما صح عنه: «اللهم إني أحرّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة» [2] .
ولو أن المجال يتسع لذكرت من الآيات والأحاديث الشيء الكثير. وحسبي
أن الجميع يعرف مثل هذه الأمور في مجتمعاتنا الإسلامية والحمد لله.
__________
(1) ماذا يريدون من المرأة، عبد السلام البسيوني، ص 65.
(2) أخرجه أحمد في المسند، (2/439) .(167/141)
المنتدى
ردود
* الإخوة: مبارك بن عبد الله المحيميد، محمد سعد دياب، وليد حرفوش،
عبد الرازق المبارك، عبد العزيز بن عبد الله العزاز: وصلتنا مشاركاتكم بارك الله
فيكم ونفيدكم بأنها مجازة للنشر فى الملف الأدبي.
* الإخوة والأخوات: معاذ بن سلمان العودة، عبد الله بن صالح الخضيري،
عبد الكريم بن سعيد حاوة، أبو محمد الشيشاني، عبد الله العزام المطيري، شوحو
فيصل إبراهيم، سامي سالم حمدان المحمادي، أم أنس بنت عبد الله بن يوسف
الوابل: وصلتنا مشاركاتكم بارك الله فيكم ونفيدكم بأنها مجازة للنشر في المنتدى.
* الإخوة: محمد جلال، عبد الإله الكثيري، علي بن محمد الدهامي، محمد
إياد العكاري: وصلتنا مشاركاتكم بارك الله فيكم ونفيدكم بأنها مجازة للنشر في الباب
المفتوح.
* الإخوة: عبد الله بن عبد العزيز المحسن، فتحي الجندي، عبد العزيز
يحيى معافا، عبد الحميد بن حمد بريكة، عبد الله بن سعد الغانم، عبد الله عطية
عبد الله الزهراني، خالد المعبوف، صديق عبد الله النعمة، عبد الرزاق دحيم
الحربي: نرجو التكرم بإفادة المجلة بعناوينكم الخاصة، وجزاكم الله خيراً.(167/142)
الورقة الأخيرة
الصحافة وقضايا الأمة المصيرية
أ. د. محمد يحيى [*]
قضايا الأمة الإسلامية المصيرية معروفة؛ فمن قضية العدوان اليهودي
المتوسع والمهدد لكيان الأمة ذاتها بأسلحة الدمار الشامل إلى الزحف الصليبي
المتربص ليس فقط بأطرافها ولكن إلى قلبها، ومن تربص هندوكي يشهر هو الآخر
أسلحة الدمار الشامل نحو الكتلة الإسلامية المجاورة إلى اجتياح غربي علماني تحت
شعارات قديمة وجديدة من التحديث إلى العولمة، ومن التقدم إلى النظام العالمي
الجديد وإلى اقتصاديات السوق، ومن ضياع للهوية والعقيدة ذاتها إلى ضياع لمفهوم
الأمة الواحدة وتشرذمها إن لم يكن تصارُع أبنائها.
وإذا كانت قضايا الأمة معروفة واضحة فإنه يمكن القول كذلك إن الصحافة
تتابعها وتلاحق تطوراتها على مدى ساحة الأمة الإسلامية؛ فأين تكمن المشكلة إذن؟
القضية هي أن الصحافة باعتبارها مهنة ومؤسسة لا تستطيع أن تخدم وتساند
قضايا الأمة الحيوية الكبرى، وهي حتى في متابعتها لها تفعل ذلك من الجانب
المضاد أي من الجانب الذي يسهم في التعمية على هذه القضايا وطرحها من
المنظور الذي يخدم أعداء الأمة، ويشيع التضليل حول حقيقتها، ويبعد الجماهير
الإسلامية عن فهمها الفهم الصحيح ودفعها نحو الوجهة الصائبة التي تحلها وتؤدي
بها إلى خير الأمة.
والمشكلة الجوهرية التي تعترض سبيل مهنة الصحافة وتبعدها عن خدمة
قضايا الأمة المصيرية أو عن تناولها على النحو الصحيح تنقسم إلى جزئين رئيسين:
أولهما: هو درجة الاستقلال التي تتمتع بها المهنة.
والثاني: وقوع المهنة تحت هيمنة العلمانية ليس فقط من ناحية المضمون
الإخباري أو المنظور التحليلي؛ وإنما كذلك من ناحية المفاهيم الحاكمة للممارسات
الصحفية.
والواقع أن الجانبين مترابطان؛ ففقدان الاستقلال للصحافة في عالمنا
الإسلامي سواء كانت صحافة خاضعة للسلطات أم خاضعة لمصالح خاصة يصب
في صالح العلمانية المسيطرة بوضوح أو من وراء ستار على شتى المؤسسات
السلطوية أو الفاعلة في قطاعات واسعة في عالمنا الإسلامي.
ومن المفارقات أنه في بلدان إسلامية عديدة نجد أن صحافة الحكومة وصحافة
المعارضة التي يقال عنها إنها تعارض توجهات الإعلام الحكومي تتفقان في ترويج
الفكر والمفاهيم العلمانية نفسها وفي درجة رفض المنظور الإسلامي؛ حتى إن
اختلف الطرفان حول قضايا جزئية وفرعية تظل مع ذلك داخل إطار المجال
العلماني. وهكذا تصبح المشكلة الرئيسية التي تحول بين الصحافة وبين المعالجة
الصحيحة لقضايا الأمة المصيرية هي تغلغل الفكر العلماني وفرضه في شتى
جوانب العملية الصحفية من النقل والتغطية الخبرية إلى التعليق والتحليل
بمستوياتهما المتعددة.
والقضايا المصيرية التي أشرنا إليها في أول هذه الكلمة تجد لها مكاناً بالفعل
على صفحات الإعلام وبرامجه لكنه مكان مخطط ومعين سلفاً وواقع تحت منظور
معين يؤدي في نهاية المطاف إلى إجهاض وإحباط الفهم الحقيقي لهذه القضايا
وخدمتها؛ كما يؤدي إلى إفساد أي محاولة لدفعها نحو الحل أو التقدم. خذ مثلاً
قضية الوحدة الإسلامية تجد الصحافة تتحدث عنها إما في صورة شعارات حماسية
خالية من المضمون مما ينفر الناس ويشيع بينهم اليأس من إمكانية تحققها، أو
بصورة تبعث الشك في هذه الوحدة، وتطرح بديلاً عنها ولو في طرح تمهيدي
قضايا الوحدة الإقليمية والاقتصادية.
وفي قضية تجديد فكر الأمة وحيويتها تجد أن الطرح السائد في الإعلام
المعلمن هو التجديد بمعنى التغريب وتحويل الإسلام إلى نسخة من مذاهب الغرب
السائدة تحت ضجة المجاراة للعصر وما أشبه ذلك. وفي قضايا الغزو الصليبي
للأمة سواء كان بالتبشير أو بالثقافة الغربية تجد الصحافة تنفي حدوث مثل هذا
الغزو، وتتحدث عن تفاعل حضاري مزعوم، وتبشر بالحوار بين الإسلام والغرب
متجاهلة أن هذا الحوار يجري في ظل عملية غزو مستمرة من الجانب الغربي
ومؤسساته.
القضايا الحيوية للأمة إذن قد تكون حاضرة في الصحف لكن فقدان الاستقلال
المادي والفكري ثم تغلغل المنظور والمفاهيم العلمانية في ذهن القائمين عليها (أو
الذين يسمح لهم وحدهم ويرخص لهم وحدهم بالعمل فيها) يؤدي إلى المعالجة
العكسية لتلك القضايا بما يجهضها أو يميعها إن لم يكن مصيرها التهميش أو الإهمال
أما الصحافة الإسلامية فهي الآن في مشاكلها الخاصة المادية والفنية حتى الفكرية
أعجز من أن تقاوم هذا التيار أو تمثل قوة مضادة ترده، وهذه بالطبع قضية أخرى.
__________
(1) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(167/143)
شعبان - 1422هـ
نوفمبر - 2001م
(السنة: 16)(168/)
كلمة صغيرة
إنما الصبر عند الصدمة الأولى
التفجيرات التي هزت الولايات المتحدة الأمريكية كانت صدمة عنيفة
للأمريكيين خصوصاً، ولدول العالم عموماً، صدمة للساسة والمفكرين وعلماء
النفس والاجتماع، بل هي صدمة حتى للإسلاميين على مختلف اتجاهاتهم.
وقد ظهر أثر هذه الصدمة في ردود الأفعال الأولية على الحدث؛ حيث اضطرب
توازن كثير من الناس، وانتشر فيهم القيل والقال، وطاشت بهم الآراء والمواقف،
والتبس عندهم الحق بالباطل، واختلف تفسيرهم للأحداث وموقفهم منها، ولا شك
بأن (الصبر عند الصدمة الأولى) .
ومما يحسن تأكيده بعد أن أخذت الأحداث بعداً جديداً أدى إلى اجتماع قوات
الحلف الأمريكي، وتوجيهها لضربات شاملة لعدد من المدن الأفغانية، زادت من
مأساة الشعب الأفغاني المنهك بالفقر والمرض والمجاعة: ضرورة الالتزام
بالنصوص الشرعية في القبول أو الرد، والاعتصام بحبل الله المتين، وإحياء
عقيدة الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين؛ فالمواقف يجب أن تبنى بناءً شرعياً
محكماً بعيداً عن الضغوط الإعلامية والاجتماعية، قال الله تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (التوبة: 71) . ولزوم الاعتدال في حال
السراء والضراء، في المنشط والمكره، هو الموقف الذي يوزن به الرجال،
وتظهر به معادنهم. قال الله تعالى: [وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ] (آل عمران: 101) .
وهذا العدد من (البيان) جاء حافلاً بالعديد من التحليلات والآراء الاجتهادية
لنخبة من الكتاب كُتب معظمها قبل أن تبدأ مرحلة الهجوم على أفغانستان، نرجو أن
تكون إضافة مفيدة في ظل الصخب الإعلامي الذي طغى كثير منه على صوت
العقل والحكمة.
لقد بدأت الحرب على أفغانستان وهذا العدد في المطبعة، ولا يخفى على
القارئ اللبيب أن المطبوعة الشهرية لا يمكن أن تلاحق الأخبار المتسارعة، ولكن
نرجو أن يستمر تواصل المجلة معكم بالتحليلات واستشراف المستقبل قدر
الاستطاعة، ولعلَّ هذا يكون لنا عذراً أمام قرائنا الأفاضل الذين وعدناهم في عددنا
السابق بنشر ملف (العولمة.. مقاومة وتفاعل) ، ونحن بإذن الله تعالى على الوعد
في عدد قادم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين.(168/1)
الافتتاحية
وذكّرهم بأيام الله!
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن
والاه، وبعد:
فلم تكن الأحداث التي وقعت في أمريكا وأفغانستان مؤخراً هي الأولى من
الأحداث الفارقة في التاريخ، ولن تكون الأخيرة؛ فتاريخ البشر حافل بأقدار من
الخير والشر دارت بشأنها سنن، وجرت بسببها ابتلاءات، وحصلت بعدها تغيرات
في أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم.
كان بوسعنا في هذه الافتتاحية أن نسجل عدداً من الآراء في نقاط تُظهر ما
تتبناه المجلة من موقف تجاه الأحداث، ولكنا آثرنا أن نستخرج من خلال نصوص
الوحي مواقفنا جميعاً؛ فما أشد احتياجنا واحتياج الناس كلهم في أزمنة الشدائد إلى
النظر في الثوابت الشرعية والسنن الإلهية؛ لنقيس عليها الأمور ويعتبروا بها في
التغيير، وينطلقوا منها في التأملات والتوقعات والتحليلات؛ ومن ثم في التحركات
والتصرفات وأداء الواجبات.
فالأيام لا تزال تتوالى بجديد، بين خير وشر، ونفع وضر، ومحن ومنح
يُختبر بها العالمون [لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ] (المائدة: 94) .
ومخافة الله بالغيب تعني الالتزام بطاعته طمعاً في ثوابه وخوفاً من عقابه؛
وهذا لا يكون إلا بالإذعان لأحكامه الشرعية الدينية، والإيمان بأحكامه القدرية
الكونية. إن هذا الالتزام دعت إليه الرسالات كلها تحقيقاً للمعنى الشامل للتوحيد
المتضمن إفراد الله تعالى بالطاعة تحقيقاً لعبادته والإيمان المطلق بقيُّوميته، وهذا
هو المعنى الذي هتف به يوسف عليه السلام: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 40) ؛ فالدين القيِّم
يتضمن إفراد الله تعالى بالحكم شرعاً وقَدَراً، وقد صرَّح بهذا المعنى قبل يوسف
أبوه يعقوب عليهما السلام فقال: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
المُتَوَكِّلُونَ] (يوسف: 67) ، وهو المعنى نفسه الذي أمر الله تعالى خير الأنبياء
وسيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم أن يعلنه في العالمين بأفصح لسان
وأصرح بيان: [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ
أَهُوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ
مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ]
(الأنعام: 56-57) .
حكم الله إذن يتضمن نوعين: حكماً تشريعياً للعمل والامتثال، وحكماً كونياً
يُجري به الله تعالى المقادير في الدنيا بحسب مواقف الناس من الحكم الشرعي.
وأحكام الله القدرية تتضمن ما يُطلق عليه: السنن الإلهية، وهي تلك القوانين التي
تجري على وفقها المقادير؛ فلا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل [سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: 23) ، [سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً] (الإسراء: 77) ، [فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ
سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر: 43) .
والله تعالى أراد من عباده أن يفقهوا سننه الكونية مثلما هداهم إلى سننه
الشرعية، فقال سبحانه: [يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] (النساء: 26) ، قال ابن كثير: «عليم حكيم في شرعه
وقدره، وأفعاله وأقواله» [1] .
إن من سنن الله التي تجري عليها الوقائع والحوادث هي المسماة في القرآن:
(أيام الله) ، وكما أن السنن تحتاج إلى من يستخرجها، ويعرِّف بها؛ فإن أيام الله
تحتاج إلى من يلحظها ويذكِّر الناس بها، وهي تجري على البر والفاجر، والمؤمن
والكافر. قال تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ
أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ] (إبراهيم: 5) ، ومعنى أيام الله في الآية: «وقائع الله في الأمم السالفة،
والأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية» [2] ، وقال الطبري في معنى:
[وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ] : «وعِظْهُم عما سلف في الأيام الماضية لهم بما كان في أيام
الله من النعمة والمحنة» [3] .
إن ها هنا معنى عظيماً، وهو أن أيام الله هي تفسير لسنن الله؛ فتلك السنن
ليست معاني مجردة أو افتراضات محضة، بل هي حُكم وتطبيق، ودرس وشرح،
وعظة وعبرة، ولكن ها هنا أيضاً معنى أعظم، يحتاج إلى تأمل وتدبر وهو أن:
(أيام الله) التي تفسر سنن الله ليست ماضية فقط، بل هي حاضرة أيضاً ومستقبلة؛
فكما جرت بشأن السنن أيام ووقائع في الماضي الغائب عنا؛ فهي تجري في
الحاضر المحيط بنا والمستقبل البعيد منا.
وكل هذا يؤكد الفائدة العظمى والأهمية القصوى للنظر في تلك السنن
واستحضار الحقائق المحتفَّة بها؛ لأنها حكم الله الذي لا يُخالَف ولا يستطيع أحد
عصيانه؛ فلئن كان بإمكان العصاة أن يخالفوا حكم الله الشرعي؛ فإن أحداً من
الخلق لا يستطيع الخروج قيد أنملة عن حكمه القدري، وتجيء (أيام الله) بما فيها
من محن أو منح لتثبت ذلك.
ما أحوجنا في أزمنة الأحداث الجسام إلى أن نذكِّر أنفسنا ونذكِّر الناس بأيام
الله، وأن نبصِّر أنفسنا ونبصِّر الناس بسنن الله الكونية القدرية مع إرشادهم إلى
سننه الدينية الشرعية؛ فالأحداث الكبرى قد تطيش فيها عقول، وتذهل فيها أفئدة،
وقد تزل فيها أقدام أقوام، وتضل أفهام آخرين، ولا يثبت إلا من ثبَّته الله،
[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] (إبراهيم: 27) .
إن تلك الآية نفسها تشير إلى عدد من الأحكام القدرية والسنن الإلهية؛ فهي
تفيد أن الله تعالى قضى قدراً بأنه لا يثبت أمام فتن الدنيا والآخرة إلا من يثبته الله،
وتثبيت الله إنما يكون لمن هداه إلى كلمة لا إله إلا الله بمعناها الشامل المقتضي
إفراده سبحانه بالمحبة والخوف والرجاء؛ فمن أحب الله وحده، ورجا الله وحده،
ولم يخف إلا من الله وحده فذلكم الثابت بتثبيت الله. والآية أيضاً تفيد أن الثبات
يذهب عمن أخل بذلك فظلم نفسه بمحبة غير الله على وجه التعبد أو صرف رجاءه
أو خوفه لغير الله [وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] .
إن الزمان كلما تقارب كان فعل الفتن في الناس عجيباً؛ لأنها تتوارد وتتكاثر
حتى يرقق بعضها بعضاً، وتتابع بالهلاك على أقوام ما كانوا يظنون أو يظن الناس
فيهم أنهم يفتنون حيث تجيء الفتنة، فيقول المؤمن كما جاء في الحديث: «هذه
مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه» [4] ، ولا يزال الأمر
في تصاعد وتزايد حتى تتغير الأحوال من تنقُّل بين فتنة وفتنة إلى تقلُّب بين كفر
وإيمان عياذاً بالله؛ حيث «يصبح الرجل مؤمناً أو يمسي كافراً، ويمسي مؤمناً
ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا» [5] .
فالناس مواقف في أزمنة الشدائد، ومواقفهم بحسب معادنهم؛ فالمعادن
الأصيلة تجلِّيها نار الاختبار، أما الرخيصة فتُنفى مع الخبث.
إن كل موقف من المواقف له حكم شرعي، وعلى كل موقف ديني ينبني حكم
قدري كوني في الدنيا وحكم جزائي في الآخرة؛ ذلك أن الأحكام الجزائية في الآخرة
ثواباً أو عقاباً هي امتداد للأحكام الكونية والسنن الإلهية في الدنيا، وكلاهما يُبنى
على الطاعة أو العصيان.
نحن هنا لا نتحدث عن أحداث أمريكا الأخيرة، أو ما تولدت عنه، حيث إن
ذلك قد أفاض الناس في الكلام عنه منددين أو مؤيدين، ولكنا نتحدث عن صراعات
ستجري وأحداث ستتفاقم خلال مراحل يبدو أنها ستتتابع على شكل سلسلة من
التغيرات الحادة في العالم والله أعلم؛ فما الذي يحكم كل ذلك؟
أولاً: سنن الله في موجبات التغيير:
حركة التغيير على مستوى الأمم والجماعات والأفراد لا تتوقف؛ فإما أن
تكون إلى الأحسن وإما أن تكون إلى الأسوأ؛ فأما التي إلى الأحسن، فتحكمها السنة
القائلة: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
فما من أهل قرية ولا بيت ولا بلد كانوا على ما كره الله من المعصية، ثم
تحوَّلوا عنها إلى ما أحب من الطاعة إلا حوَّلهم الله عما يكرهون من العذاب إلى ما
يحبون من الرحمة [6] ، وأما التغيير إلى الأسوأ فتحكمه السنة القائلة: [ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ] (الأنفال: 53-54) .
ثانياً: سنن الله في موجبات العز أو الذل:
العزة لله وإلى الله كلها، وقد كتب العزة قدراً للمستقيمين على دينه شرعاً،
فبقدر استقامتهم تكون عزتهم، قال سبحانه: [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) ، وقد أخبر سبحانه أنه وحده الذي يعز
ويذل: [وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ] (آل عمران: 26) ؛
ولهذا فإن من أراد العزة فليستمدها منه وحده: [مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ
جَمِيعاً] (فاطر: 10) ، أما الذين يريدون أن يستمدوا العزة من عند غير الله،
فأولئك لهم شأن آخر مع الله. قال سبحانه: [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً *
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً] (النساء: 138-140) . وهذا ذل الدنيا والآخرة،
الذي أعلم الله به كل من يحادُّ دينه ويعادي أولياءه: [إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ] (المجادلة: 20) .
ثالثاً: سنن الله في موجبات النجاة:
يتطلع الناس إلى النجاة إذا جاء أمر الله بالانتقام أو العذاب الشديد بالكوارث
والمحن أو الحروب والفتن، وقد يعم العذاب بذلك في الدنيا، ثم ينجي الله تعالى من
أراد نجاته في الآخرة، ولكن تقوى الله تعالى في أوقات الرخاء تنجي وقت الشدة؛
تنجي على الأقل من الفتنة، وهي أعظم النجاة. قال تعالى: [ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقاًّ عَلَيْنَا نُنْجِ المُؤْمِنِينَ] (يونس: 103) . وقد نجى الله
أصنافاً وأصنافاً من المؤمنين من الرسل وأتباع الرسل (عليهم صلوات الله وسلامه)
من أنواع شتى من المحن والفتن، نجى نوحاً: [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الكَرْبِ العَظِيمِ] (الأنبياء: 76) ، وهوداً: [وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا] (هود: 58) ، وصالحاً: [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ] (هود: 66) ، وإبراهيم: [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا
اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ] (العنكبوت: 24) ، ولوطاً: [وَإِنَّ لُوطاً
لَّمِنَ المُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ] (الصافات: 133-134) ، ويونس:
[فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ] (الأنبياء: 88) ،
وموسى: [وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً] (طه: 40) ، وعيسى:
[وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ] (النساء: 157) ، [بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ]
(النساء: 158) ، ومحمداً (صلوات الله عليه وعلى جميع رسل الله) : [إِلاَّ
تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] (التوبة: 40) ، نجَّى الله هؤلاء الرسل ونجَّى
أتباعهم من نوائب وشدائد ومصائب حلت بأقوامهم، وقد كان الدعاء بالنجاة بعد
تحقيق الإيمان هو أقرب سبل النجاة، ولا يشابهه في الأثر إلا القوة في القيام بالحق
وقت الفتن، والجرأة على إنكار المنكر رغم المحن. قال تعالى عن رهط من قوم
موسى عليه السلام: [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا
فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ] (الأنعام: 44) .
رابعاً: سنن الله في موجبات الهلاك:
القانون في ذلك، أن الله تعالى لا يهلك أمة ظلماً، ولا يهلك أمة بغير نذير
وتحذير. قال سبحانه: [ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ]
(الأنعام: 131) ، فلا بد من انحرافٍ ما يستوجب الهلاك، وقد نص القرآن على
عدد من الانحرافات المستوجبة للهلاك الذي قد يكون هلاك استئصال أو هلاك
تعذيب واختبار، وقد يسلط العذاب على الكافرين، وقد يُبتلى به بعض المسلمين؛
إذ إنهم لا يخرجون عن السنن الإلهية إذا فرطوا في الشرائع الدينية.
ومن موجبات الهلاك التي تجري بها سنن الله:
* الظلم والطغيان: قال تعالى: [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ] (يونس:
13) ، وقال: [فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ] (الحج: 45) . [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً] (الكهف: 59) ، وقد أخبر القرآن أن الظلم والطغيان
كانا يقبعان خلف إهلاك أمم عظمى وقوى كبرى كانت ذات عمارة وحضارة. قال
سبحانه [وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا
هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى] (النجم: 50-54) .
* البطر والأشر وعدم الشكر: قال تعالى عن قارون: [قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]
(القصص: 78-79) ، وقال سبحانه: [وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ
مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوَارِثِينَ] (القصص:
58) .
* الجبروت والبطش: قال تعالى: [وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم
بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي البِلادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ] (ق: 36) ، وقال: [فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم
بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ] (الزخرف: 8) .
* التجاوز في السفاهة والتعالي بالترف والفسوق: قال تعالى عن قومٍ:
[قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ]
(الشعراء: 136-139) ، وقال سبحانه عن موسى وقومه: [وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ
سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ
أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ
أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ] (الأعراف: 155) .
وقال سبحانه: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ
عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) .
* السكوت عن قول الحق وترك الإصلاح: قال تعالى: [فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ
القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود: 116-117) .، وقال سبحانه: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً] (الأنفال: 25) ، والفتنة هنا هي المحن التي
تصيب المسيء وغيره إذا لم تُدفع وتُرفع [7] .
* موالاة الظالمين: قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ] (الممتحنة:
13) ، وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ] (المائدة:
51-52) . وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ
المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً] (النساء: 144) .
* معاداة المؤمنين: قال تعالى: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ
تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ] (الأنفال: 73) .
خامساً: سنن الله في موجبات الهزيمة والخذلان:
* التفرق والتنازع: قال تعالى: [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال: 46) .
* طاعة الأعداء واتخاذ البطانة منهم: قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران:
118) . وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ] (آل عمران: 149) ، وقال: [إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ
كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ
المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا
رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] (محمد: 25-28) .
سادساً: سنن الله في موجبات النصر والتمكين:
رُبط تحقيق النصر لأهل الإسلام بتحقيق الإيمان ونصرة الدين. قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) ،
وقال: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ
بَعْدِهِ] (آل عمران: 160) ، وقال: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ] (الحج: 40) ، وقال: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ
فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ]
(الروم: 47) ، وقال: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 39-40) ، ونصرة
الدين تتضمن الامتثال له، والقيام به، ووحدة الصف من أجله والصبر عليه،
والجهاد في سبيله.
وأخيراً: لا بد أن يعلم الناس أن هذا الدين منصور، وأن الله تعالى قد قيَّض
له طائفة لا يخلو منها زمان إلى آخر الزمان، ومن صفات هذه الطائفة:
1 - أنها على الحق والسنة.
2 - أنها ظاهرة على هذا الحق معلنة به.
3 - أنها منصورة بالحق مقاتلة عليه.
4 - أنها محفوفة بمن يسلمونها ويخذلونها.
5 - أنها محاطة بالمخالفين.
6 - أنها لا يضرها هذا الخذلان وتلك المخالفة.
7 - أنها جامعة لشرائح مختلفة من الأمة.
8 - أن الله يبعث منها المجددين للدين.
9 - أنها لا تنحصر بمكان واحد؛ ولكن تتنقل عبر الزمان في أكثر من مكان.
10 - أنها باقية إلى يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا
تزال عصابة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي
أمر الله وهم ظاهرون على الناس» [8] .
إن كل السنن الإلهية المذكورة، وغيرها كثير تحققت بشأنها أقدار ووقائع،
وتواريخ وحوادث هي من (أيام الله) وقد مضت بها سنة الأولين وستمضي عليها
سنن الآخرين، وقد ظل الإسلام عزيزاً شامخاً، وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله؛
فلنتدارس هذه الأيام والسنن، ولنذكِّر الناس بها، فالخوف ليس على الإسلام، ولكن
على من يتخلف عن ركب الإسلام.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) تفسير ابن كثير، (1/522) .
(2) تفسير القرطبي، (9/342) .
(3) تفسير الطبري، (7/122) .
(4) أخرجه: مسلم، رقم (1844) ، وأحمد (11/47) .
(5) أخرجه مسلم، رقم (118) ، والترمذي، رقم (2196) .
(6) انظر هذا المعنى في تفسير ابن كثير، (2/554) .
(7) انظر: تفسير ابن كثير، (2/331) .
(8) أخرجه مسلم، رقم (1037) .(168/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
رسالة في تعظيم الله
أديب بن محمد المحيذيف
إن الناظر في أحوال الناس ليعجب من هذه النفوس التي إذا ذُكِّرت بالله لم
تتذكر، وإذا وُعظتلم تتعظ، وإذا قُرئت عليها آيات الوعد والوعيد لم تبك ولم تتأثر ولا شك أن هذا نذير خطر على العبد إذا لم يراجع نفسه ويحاسبها ويذكرها بالله
تعالى، ولعله من أعظم الأسباب التي أوصلت الإنسان إلى هذه الحالة المتردية عدم
استشعار عظمة الله في القلوب والبعد عن خشيته والخوف منه سبحانه.
ولعلي في هذه المقالة المختصرة أن أبين هذه المسألة المهمة ألا وهي تعظيم
الله، فأقول:
ذكر الفيروز أبادي في القاموس المحيط في معنى التعظيم قال: العِظم بكسر
العين خلاف الصِغر، وعظَّمه تعظيماً وأعظمه أي فخمه وكبره، واستعظمه أي رآه
عظيماً [1] .
وقال الرازي في مختار الصحاح: عظُم الشيء أي كبُر فهو عظيم [2] .
وقال ابن منظور في لسان العرب: العظيم الذي جاوز قدره وجلَّ عن حدود
العقول [3] .
إن الله تعالى لم يخلق الخلق ولم يرسل الرسل ولم ينزل الكتب إلا من أجل
تحقيق غاية من أسمى الغايات ألا وهي عبادته سبحانه وتحكيم شرعه، ولا يمكن
أن تصل العبادة إلى أعلى كمالها إلا بتعظيم المعبود؛ فقد ذكر المناوي في تعريف
العبادة أنها فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه. وقيل أي العبادة هي
تعظيم الله وامتثال أوامره [4] . فمن هذا التعريف تتضح أهمية تعظيم الله، وأنها
العبادة التي خلقنا الله لتحقيقها.
ولقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة في بيان فضل تعظيم الله؛
فمنها قوله تعالى: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) ، قال القرطبي
رحمه الله: ثم الآية الرابعة جعلها الله بينه وبين عبده؛ لأنها تضمنت تذلل العبد
لربه وطلب الاستعانة منه؛ وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى [5] .
ومنها قوله تعالى في معرض ذكر صفات عباده المؤمنين: [وَالَّذِينَ صَبَرُوا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] (الرعد: 22) ، قال ابن جرير الطبري
رحمه الله: ابتغاء وجه ربهم أي طلب تعظيم الله وتنزيهاً له أن يخالف في أمره أو
يأتي أمراً كره إتيانه فيعصيه به [6] .
ومنها قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام مع قومه: [مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ
لِلَّهِ وَقَاراً] (نوح: 13) ، قال أبو السعود: أي ما لكم لا تؤملون له تعالى توقيراً
أي تعظيماً لمن عبده وأطاعه [7] .
ومنها قوله تعالى لما ذكر قصة أصحاب الجنة: [قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ
لَوْلا تُسَبِّحُونَ] (القلم: 28) ، قال الثعالبي: قيل هي عبارة عن تعظيم الله
والعمل بطاعته سبحانه [8] .
ومنها حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه حيث قال: أتى رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله! جُهدت الأنفس، وضاعت العيال،
ونُهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا؛ فإنا نستشفع بك على الله
ونستشفع بالله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك أتدري ما
تقول؟» ، وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك
في وجوه أصحابه، ثم قال: «ويحك إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن
الله أعظم من ذلك..» [9] ؛ فالأعرابي لما قال: (فإنا نستشفع بالله عليك) جعل
الله في مقام الشافع عند رسوله، وهذا تنقيص من قدره جل وعلا؛ ولهذا سبَّح
الرسول صلى الله عليه وسلم ونبَّه الأعرابي إلى هذا الخطأ الفادح لما قال:
«ويحك! أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك» إلى آخر الحديث.
ولكي نتصور أخي الكريم حقيقة وكنه التعظيم فإن علينا أن نتفكر في هذا
المثال: انظر إلى حال رفقاء الملوك والأمراء والرؤساء إلا من رحم الله تجد أحدهم
لا يستطيع أن يرد لهذا الملك أو لهذا الرئيس أمراً ولا أن يرتكب نهياً حتى وإن كان
هذا الأمر والنهي يضره في بدنه أو ماله أو أهله، وعندما نسأله عن سر هذه
الطاعة العمياء نجد أن تعظيمه لهذا الرئيس هو السبب الحقيقي لهذه الطاعة. إذاً
فالتعظيم يولِّد في النفس الخوف من المعظَّم.
ولهذا ما فتئ علماء الأمة يجتهدون في تذكير الناس بمسألة تعظيم الله؛ فها هو
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يصنف كتاب التوحيد، ويقرر فيه
مسائل العقيدة ثم يختم كتابه بأبواب عديدة كلها تتعلق بتعظيم الله، مثل: باب فيمن
لم يقنع بالحلف بالله باب التسمي بقاضي القضاة باب احترام أسماء الله باب لا يرد
من سأل الله باب قوله: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] (الزمر: 67) . وهذا آخر
باب ذكره الشيخ في كتابه القيم.
لكن هل نحن معظمون لله أم لا؟ للإجابة عن هذا التساؤل لا بد أن ننظر إلى
حالنا عند الإقدام على فعل طاعة من الطاعات: هل نؤديها رغبة ورهبة، خوفاً
وطمعاً؟ أم أن الطاعة أصبحت عادة من العادات نعملها كل يوم دون استشعار
الهدف من أدائها؟ وهل المرأة حين تلبس الحجاب الشرعي تلبسه لأنه شرعٌ من الله
أم أنه تراث وتقاليد؟ كذلك ننظر إلى حالنا عند فعل المعصية: هل نحس كأننا
تحت جبل يكاد أن يسقط علينا أم كذبابة وقعت على أنف أحدنا فقال بها هكذا؟
كذلك لننظر إلى حالنا أثناء أداء الصلاة والقيام لرب العالمين هل نستشعر عظمة من
نقابله فنخشع في صلاتنا أم تشغلنا الأفكار والهواجس؟ وهل إذا قابلنا ملكاً من ملوك
الدنيا صنعنا عنده مثل ما نصنع في صلاتنا؟ إذا أجبنا عن هذه التساؤلات بكل
تجرد فسنعرف يقيناً هل نحن معظمون لله أم لا؟
أخي الكريم! لنتأمل حال أولئك المعظمين لله تعالى عند قيامهم للصلاة؛ فقد
قال مجاهد رحمه الله: كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى
شيء، أو أن يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن
الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته، وكان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من
الخشوع، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع
رأسه، وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه فقام الناس وهو
في الصلاة لم يشعر. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضرت الصلاة
يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فقال: جاء والله وقت أمانة عرضها الله
على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها. وكان
سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خدَّيه على لحيته. وكان شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميل يمنة
ويسرة [10] وهذا غيض من فيض من أخبار وأحوال أولئك المعظمين لله، اللهم
كما رزقتهم تعظيمك فارزقنا إياه يا سميع الدعاء.
بل إن من العجيب أن كفار قريش كان في قلوبهم شيءٌ من تعظيم الله، وإليك
بعض الشواهد على ذلك:
1 - قصة عتبة بن ربيعة حينما قرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فواتح
سورة فصلت فلما بلغ قوله تعالى: [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ
صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ] (فصلت: 13) ، وضع يده على فم رسول الله صلى الله
عليه وسلم وناشده الله والرحم ليسكتن [11] .
2 - قصة جبير بن مطعم أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ
في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ
* أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ
المُسَيْطِرُونَ] (الطور: 35-37) كاد قلبي أن يطير [12] .
3 - كان الرسول صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وحوله صناديد قريش فقرأ
عليهم سورة النجم فلما وصل إلى السجدة في آخر السورة سجد فسجدوا معه [13] .
فهذه الشواهد تدل على أن كفار قريش رغم كفرهم وإشراكهم كان في قلوبهم
شيء من تعظيم الله. قال شيخ الإسلام: «والمشركون ما كانوا ينكرون عبادة الله
وتعظيمه ولكن كانوا يعبدون معه آلهةً أخرى» [14] .
أخي الكريم! إن عدم تعظيم الله في القلوب سيُسأل عنه كل فرد منا؛ فلا بد
من المحاسبة والمراجعة وتقويم النفس والنظر في علاقتنا بربنا جل وعلا.
ولعل من أعظم أسباب عدم تعظيم الله ما يلي:
1 - الوقوع في المعاصي، وهذه هي المعضلة، وهي السبب في كل بلاء
ومحنة وبعد عن الله تعالى. قال ابن القيم رحمه الله: «وكفى بالعاصي عقوبةً أن
يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه، ومن
بعض عقوبة هذا أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم
ويستخفُّون به كما هان عليه أمره واستخف به» [15] ، وقال بشر بن الحارث: لو
تفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله.
2 - التساهل في أوامر الله؛ فتجد كثيراً من الناس لا يؤدون العبادات على
الوجه المطلوب؛ فلو كانوا يعظمون الله حق التعظيم لعظموا أمره كذلك.
3 - عدم تدبر القرآن حال قراءته، وعدم الوقوف عند وعده ووعيده،
وأصبح همُّ القارئ آخر السورة فحسب دون اعتبار للهدف الذي أُنزل من أجله
القرآن. قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
(ص: 29) .
4 - الغفلة عن ذكر الله فتجد أحدنا في المستشفيات أو في إحدى الدوائر
الحكومية جالساً على كرسي الانتظار زمناً طويلاً وهو لا يذكر الله ولا يسبحه ولا
يكبره؛ حتى وإن سبح وكبر فهو لا يعي معنى هذا التسبيح وهذا التكبير، وهذه
مشكلة لا بد أن نعالجها في نفوسنا.
5 - النظر فيما حرم الله تعالى؛ فالنظر الحرام يولد في القلب القسوة والجفاء،
وهذا لا يتأتى مع التعظيم؛ لأن التعظيم لا يكون إلا من قلب خاضع خاشع لين
مقبل على الله بكليته.
ولهذا فلا عجب أن يكون السلف الصالح رضوان الله عليهم من أشد الناس
تعظيماً لله؛ لأنهم أحرص الناس على طاعته وأبعدهم عن معصيته. قال القنوجي:
وهم أي السلف الصالح أشد تعظيماً لله وتنزيهاً له عما لا يليق بحاله [16] . وقال ابن
منده في كتاب الإيمان: والعباد يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب
والإجلال له، والمراقبة لله في السر والعلانية [17] .
أخي الكريم! وبعد هذا كله فحريٌ بنا أن نتطرق إلى الأمور المعينة على
تعظيم الله وهي كثيرة ولله الحمد؛ ولكن قبل أن نذكرها ننبه إلى نقطة مهمة وهي
أن المسلم إذا أراد أن يكون ممن يعظم الله حق التعظيم، فلا بد من وجود نية
صادقة تدفعه دفعاً للوصول إلى هذه الغاية، وأن يكون حرصه على تعظيم الله نابعاً
من استشعاره لأهمية التعظيم، وأن يريد بعمله وجه الله تعالى لا أن يمدحه الناس
ويثنوا عليه.
أما الأمور المعينة على تعظيم الله فنذكر منها:
1 - تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى؛ فالعبد كلما تقرب إلى ربه بأنواع
العبادات وأصناف القرُبات عظُم في قلبه أمر الله؛ فتراه مسارعاً لفعل الطاعات
مبتعداً عن المعاصي والسيئات. قال شيخ الإسلام: «وكلما ازداد العبد تحقيقاً
للعبودية ازداد كماله وعلت درجته» [18] .
2 - التدبر الدقيق للقرآن الكريم وما فيه من حِكم وأحكام، والنظر فيما فيه
من الدروس والعبر، وأن نتدبر في الآيات التي تتحدث عن خلق الله وبديع صنعه،
والآيات التي تتحدث عن عقوبته وشديد بطشه، وآيات الوعد والوعيد، فإن تدبر
القرآن يؤثر في القلب ولا شك، ويُذكي فيه عظمة الخالق والخوف منه. قال الشيخ
عبد الرحمن بن قاسم صاحب حاشية الروض رحمه الله: بل قراءة آية بتدبر وتفهُّم
خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهُّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان
وذوق حلاوة الإيمان، وهكذا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده،
حتى إنه ليردد الآية إلى الصباح، وهذا هو أصل صلاح القلب، ومن مكائد
الشيطان تنفير عباد الله من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع في التدبر [19] .
3 - التفكر في خلق السماوات والأرض؛ فإن الناظر فيها ليدهش من بديع
صنعها وعظيم خلقها واتساعها؛ ومع هذا فهو لا يرى فيها شقوقاً ولا فطوراً قال
تعالى: [الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ
البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ
حَسِيرٌ] (الملك: 3-4) .
ولهذا أثنى الله على عباده الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض؛ قال
تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ
لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
(آل عمران: 190-191) .
ومن الأحاديث الدالة على عظمة السماوات ما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله
عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا
كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك
الحلقة» [20] . فهذا الحديث يبين عظمة السماوات وعظمة الكرسي والعرش؛
ونحن بني آدم لا نساوي شيئاً أمام هذه المخلوقات العظيمة، ومع ذلك يقول الله
تعالى في السماء والأرض: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] (فصلت: 11) ، قال الشوكاني: أي
أتينا أمرك منقادين [21] ؛ فيا سبحان الله! كيف بالإنسان هذا الضعيف الذليل يتكبر
ويتبجح ويقارع جبار السماوات والأرض بالمعاصي والآثام؟ ! نسأل الله السلامة
والعافية.
4 - النظر في حال من غبر؛ فلقد عاش على هذه الأرض أقوام وشعوب
أعطاهم الله بسطة في الجسم وقوة في البدن لم يعطها أمة من الأمم ولكنها كفرت
بالله وكذبت بالرسل؛ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ودمرهم تدميراً؛ فها هم قوم
عاد الذين قالوا: من أشد منا قوة؟ ! أهلكهم الله [بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ
خَاوِيَةٍ] (الحاقة: 6-7) ، وها هم ثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً
فارهين أهلكهم الله بالصيحة [فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ] (هود: 67) ، فالله
سبحانه لم يتكلف في عذاب هذه الأمم ولم يكن له سبحانه أن يتكلف؛ إنما أمره إذا
أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون؛ فما بالنا نحن الأضعف والأقل قوة وبطشاً لا
نخشى أن يصيبنا مثل ما أصاب أولئك؟
5 - الدعاء: وهو أنفع الأدوية وأقوى الأسباب متى ما حضر القلب وصدقت
النية؛ فإن الله لا يخيب من رجاه قال تعالى: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ]
(البقرة: 186) .
فاللهم إنا نسألك تعظيمك والخوف منك، وأن تمن علينا بتوبة صادقة تعيننا
على طاعتك واجتناب معصيتك.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) القاموس المحيط، 1/ 1470.
(2) مختار الصحاح، ص 185.
(3) لسان العرب، 12/409.
(4) التعاريف، 498.
(5) تفسير القرطبي 1/ 94.
(6) تفسير الطبري، 13/140.
(7) تفسير أبو السعود، 9/ 38.
(8) تفسير الثعالبي، 4/ 328.
(9) أخرجه: أبو داود، في كتاب السنة، باب في الجهمية، (5/94 96) وصححه ابن القيم في تهذيب السنن، (7/95 117) ، وضعفه الألباني في تخريج كتاب السنة لابن أبي عاصم (1/ 252) .
(10) انظر 33 سبباً للخشوع في الصلاة، 35 39.
(11) تفسير القرطبي، 15/221.
(12) أخرجه: البخاري، في كتاب التفسير، (8/603) ، رقم (4854) .
(13) الرحيق المختوم، 107 والحديث في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس كتاب سجود القرآن، باب سجود المسلمين مع المشركين، (2/553) ، رقم (1071) .
(14) مجموع الفتاوى، 21/282.
(15) الجواب الكافي، 46.
(16) قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 48.
(17) كتاب الإيمان، 1/300.
(18) مجموع الفتاوى، 10/ 176.
(19) حاشية الروض، 2/ 207.
(20) أخرجه: محمد بن أبي شيبة في كتاب العرش، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة، رقم (109) .
(21) فتح القدير 4/ 508.(168/10)
دراسات تربوية
سبل مواجهة الفتن
عبد الحكيم بن محمد بلال
belal1422. yahoo. com
من المتقرر شرعاً أن المسلم يبقى منذ بلوغه التكليف إلى مفارقته الحياة عبر
أحواله المختلفة في دائرة الابتلاء والاختبار التي خلق من أجلها لينظر الله عمله
ويحصيه عليه ليجازيه به حين المصير إليه سبحانه وتعالى. قال عز وجل:
[تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ] (الملك: 1-2) .
وحقيقة الابتلاء والتكليف تتطلب من المسلم السعي الحثيث إلى النجاح في هذا
الامتحان الطويل أمده، المختلفة صوره، فهو مستمر في الرخاء والسراء كما هو
في البلاء والضراء [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] (الأنبياء:
35) ، والابتلاء باقٍ مع الغنى كما أنه مع الفقر، يرافق المسلم في سره وعلانيته،
في حله وترحاله، في غضبه ورضاه، في بيته وعمله.. لا يخرج عنه ما دام
عقله معه لم يفارقه بنوم أو جنون، ولكل حال تمر بالمسلم عبودية تخصها.
وتبقى حالات الفتن أشد حالات الابتلاء؛ نظراً لالتباس الحق بالباطل، وكثرة
الدعاة على أبواب جهنم، وكثرة الصوارف عن الحق، وارتفاع ضريبة الثبات
عليه ومتابعته، وبسبب انشغال كثير من الناس عن العبادة بمتابعة الأحداث وتناقل
الأخبار والاستجابة للإثارة، في ظل تتابع الأحداث، واضطراب الأمور، وانقلاب
المواقف، وتوالي الهموم الدنيوية، من نجاة النفس والأهل، وسلامة الدور
والأموال والتجارات، وتوفير المعيشة، مع اشتداد دواعي الأثرة، والشعور بالندرة.
ويبدو أن تفجيرات أمريكا حدث كبير له ما بعده؛ فهو بالنسبة للأمريكان
والأوروبيين بداية حقبة تاريخية جديدة، ومرحلة من الصراع متقدمة، تجعلهم
يعيدون كثيراً من حساباتهم، وخاصة مع المسلمين مع أن الاتهامات ضدهم لم
تثبت؛ والظاهر أن مساحات الحرية الممنوحة لهم هناك ستكون بعد اليوم هامشاً في
بلاد الديمقراطية!
وقد بدأت الممارسات الشعبية لهذا على شكل مضايقات شخصية وعامة في
المساجد والمراكز بلغت درجة إحراق بعض المساجد، وخلع حجاب بعض
المسلمات ... ، في الحين الذي انطلقت فيه الإجراءات الرسمية، متمثلة في
الملاحقات والاعتقالات الواسعة نسبياً من أجل التحقيق، وفي الحملة المسعورة
لتجفيف المنابع، وتضييق الخناق المالي الذي بدأت دائرته تتسع في الغرب
والشرق؛ مما يؤذن بفتنة جديدة من الحرب مع المسلمين عموماً والصحوة
خصوصاً، هي أشرس وأوسع نطاقاً. نسأل الله العافية.
تستدعي تلك الحالة تأملات دقيقة للوقوف مع الحدث وتحليله ودراسته
وتقويمه، والبحث في أسبابه وتداعياته ونتائجه القريبة والبعيدة، وكيفية التعامل
معه.. وليس يمكن لهذه المقالة أن توفي شيئاً من ذلك حقه.
إنما تهدف المقالة إلى ذكر وقفات في التعامل مع الفتن عموماً.
أولاً: الاستعانة بالله تعالى والاعتصام بحبله:
يقين المسلم بأن الكون لله، وأن الخلق خلقه، والأمر أمره، يوجب عليه
التوجه إلى الملك المدبر عز وجل لصلاح شؤون الدنيا والدين. وذلك هو الباب
الوحيد الذي من ضل عنه لم يجد مخرجاً ولا خلاصاً؛ لأن الله يكله إلى نفسه رمز
العجز والضعف.
واجتماع أمر الناس وصلاح شأنهم أمر من المستحيل تحققه دون الاعتصام
بحبل الله، والقيام بدينه.
ومع توجه العبد إلى عبادة الله وطاعته فإنه لا غنى له عن عون الله طرفة
عين؛ ولذا أمر العبد أن يقول: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) ،
وقال عز وجل: [فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ] (هود: 123) . وهكذا سائر شأن
الإنسان ما لم يستعن فيه بربه تفرق عليه أمره واستعصى عليه أسهل الأمور،
فكيف بالفتن والشدائد.
ومشروعية الاستعاذة بالله من الفتن كل صلاة تنبؤك عن مسيس الحاجة إلى
ذلك، وإذا كان المعصوم صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً: «اللهم إني أعوذ
بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس
يموتون» [1] فنحن أحوج إلى هذا.
ثانياً: التعامل مع الفتنة بذكاء:
من المقاتل التي تصيب الناس في الأزمات: الانشغال بردود الأفعال التي لا
تنتهي في ظل توالي الأحداث. وخطورة الأمر تكمن في إمكانية تحويل المسار من
قِبَل الخصم الذي يجره عدوه إلى معركة ليست في صالحه، أو ساحة لا يحسن فيها
النزال، أو يشغله بقضية تحوِّل مساره وتلهيه عن رسالته، وعلى أحسن الأحوال
لا تخدم أهدافه.
ومن الذكاء: التخطيط لمواجهة الأزمة بحيث لا يُلغى الأصل بحالة الطوارئ،
والتحلي بالعقل والتؤدة والعمق في النظرة، واستشراف المستقبل، وحساب
المصالح الشرعية الحقيقية لا الوهمية بدقة، والسعي إلى الاستفادة من الحدث
بكل وسيلة.
فالمرء عليه من الواجبات ما يوجب عليه السعي للتوازن بينها؛ إذ من
الخطورة بمكان أن ينشغل المرء عن إصلاح نفسه ومحاسبتها والقيام بالفرائض
الواجبة عليه، وكذا أن يعطل مشاريعه التربوية والتنموية الحية التي يرتبط بها
مصيره ومصير الأمة كلها ... وليشعر كل فرد يعي مسؤوليته أنه على ثغر؛
فليحذر أن يؤتى الإسلام من قِبَله!
ومن الذكاء المطلوب: تجاوز ضغط الشائعات، والتحرر من أسرها، بإحياء
منهج تلقي الأخبار وروايتها، ومعرفة أن من الكذب والإثم أن ينقل الإنسان
ويتحدث بكل ما يسمع [2] دون فحص وتمحيص. وكم بنيت مواقف وأُقيمت
علاقات وقُطعت أخرى وحدثت أزمات من جراء تلقف الشائعات! وما أجل الأمر
الرباني للمؤمنين بالتبين والتثبت [3] لئلا يصيبوا قوماً بجهالة فيندموا! !
ورحم الله الإمام مالكاً حين قال: «اعلم أنه ليس يسلم رجل حدَّث بكل ما
سمع، ولا يكون إماماً أبداً، وهو يحدِّث بكل ما سمع» [4] .
ومن الذكاء ما يأتي في النقطة التالية.
ثالثاً: تجنب مواجهة الفتنة بفتنة أخرى:
الأسلوب الذي يقع فيه صاحبه في مثل ما فرّ منه أو أشد أسلوب قديم [وَمِنْهُم
مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا] (التوبة: 49) ، رداً على من
اعتذر عن الخروج في غزوة تبوك؛ خشية الافتتان بنساء الروم فوقع في فتنة
القعود عن الجهاد [5] .
ولتتضح الفكرة: فإن الفتنة في أصلها تدل على الابتلاء والاختبار [6] ، ومن
معانيها: «الضلال، والإثم، والكفر، والفضيحة، والعذاب، وإذابة الذهب
والفضة، والإضلال، والجنون، والمحنة، والمال، والأولاد، واختلاف في
الآراء» [7] . «وعلى هذا فالسكوت على المنكر، وتفرق الكلمة، والقعود عن
الجهاد، وتقليد اليهود والنصارى، كل هذا من الفتن» [8] .
وكم كان فقه الفاروق رضي الله عنه عظيماً، بعدما طُعن وأيقنوا موته، حين
دخل عليه شاب قد أطال إزاره، فناداه وقال: «ابن أخي: ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى
لثوبك، وأتقى لربك» [9] . وهذا يدل على غاية اليقظة لأمر الله وشرعه، وتجنب
السكوت على المنكر، حتى عند مجيء وقت فتنة الموت!
ومن الفتنة: الافتتان بالحدث وتضخيمه، وكأنه كل شيء، حتى يفقد الإنسان
توازنه، فتختل أحكامه، وربما كال بمكيالين، هذا من جهة. ومن جهة أخرى:
تجد آخرين يذهلون عن فرض الوقت وواجبه، والمطلوب: الإفاقة السريعة
وتجاوز الانبهار بالحدث والانتقال لمرحلة أخرى؛ فإن من يعيش روح الأزمة
وظلالها لربما أصابته بالشلل.
رابعاً: ضرورة تدارس أسباب الأزمة للخروج منها حالياً والاستفادة منها
مستقبلاً:
الظن بأن الأحداث وليدة نفسها خطأ كبير في التفكير؛ لأنها وإن بدت أحياناً
منبتَّة الصلة بما قبلها، إلا أن حقيقة الأمر ارتباطها بالأسباب والممهدات
والإرهاصات ارتباطاً وثيقاً، بمقتضى العقل والشرع.
وبمحاولة تجزئة المشكلة الواقعة الآن وتلمس أسبابها وهذا ما يحتاج إلى
دراسة مستقلة من ذوي الاختصاص، فإنه على كل حال لا يجوز قطع النظر عن
الممارسات الأمريكية التي صنعت العداوات في كل اتجاه، وخاصة مع المسلمين
في بلدان عدة، وبشكل فجّ مع القضية الفلسطينية.
ومن جهة أخرى: فإنه لا ينكر ما بالمسلمين من ضعف في شتى الجوانب:
الشرعية والفكرية والاقتصادية والإعلامية والسياسية والاجتماعية والعسكرية
والتقنية والتربوية والدعوية.
ودلائل هذا الضعف كثيرة في مثل هذه الأزمة، ومن ذلك:
* التأخر في بيان الحكم الشرعي لما وقع، من كثير من المعنيين.
* النظرة القاصرة التي تنظر إلى الحدث دون أسبابه وملابساته؛ مما يؤدي
إلى الكيل بمكيالين.
* العجز عن مواجهة الحملة الإعلامية المسعورة في اتهام المسلمين دون بينة.
* العجز عن القرار القوي المستقل أو الذي يخرج بأكثر المكاسب وأقل
الخسائر على الأقل.
* ظاهرة ضعف الأخوة الإيمانية والشعور بالجسد الواحد في بعض البقاع.
* التقصير في عرض الإسلام، وبيان حقيقة الصراع، واستغلال الحدث.
ولعل من الشواهد على أن جوانب الضعف تورث تسلط الأعداء أن ما وقع
من بيانات العلماء بحرمة التحالف مع أمريكا ضد الأفغان، ومن تحركات الشعب
الباكستاني وغيره من الأسباب التي جعلت أمريكا تتريث في ضرب أفغانستان وتعيد
حساباتها في طريقة الضربة وأهدافها.. وبالعكس كان تسلطها سيزداد بغياب مثل
هذه التحركات الإيجابية؛ مما يدل على أن ضعفنا سبب أزمتنا.
ومن ضعفنا أن لا ندرك أننا ضعفاء، فنعزو كل مصائبنا إلى أعدائنا
وتآمرهم، وتوضيحه في المسألة التالية.
خامساً: الحذر من طغيان فكرة المؤامرة ونسيان التقصير:
يحلو لكثيرين أن يعزوا مصائب المسلمين إلى مكائد الأعداء دائماً، فيُخرجوا
من دائرة تفكيرهم الأسباب الداخلية التي تصنع مناخاً مناسباً لنفاذ مكائد الأعداء
وفاعليتها وأثرها الذي لا ينكر.
والحقيقة أن «اليأس ... ، والخور المميت، والثقة المفقودة.. كل ذلك هو
العدو الحقيقي والعقبة الكبرى التي تواجه المسلمين. أما العدو الخارجي:
الصهيونية والصليبية والدعوات الملحدة؛ فكلها أمرها يهون إذا استطعنا أن نغير ما
بأنفسنا، لنقرّ فيها معاني الإيمان واليقين والصبر والجلد والثقة والعمل» .
«إن أكبر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم، كامنة في النقص في تربية
أفرادهم، والضعف الذي أصيب به أبناؤهم. وأكبر المصائب أن يصاب الفرد في
نفسه؛ وذلك أن معالجة أي خطر ممكنة ميسرة حينما تكون تربية الأفراد تربية قوية
تستطيع أن تجابه الصعاب وتصمد للشدائد» [10] .
وفي القرآن الكريم تجلية لهذه الحقيقة؛ فحين ذكر الله كيد الأعداء وشدته قال:
[وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) ، وحين
ذكر مدده وعونه ربطه بالصبر والتقوى فقال: [بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم
مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ] (آل عمران:
125) .
فلا بدّ من الشعور بالخطر الداخلي في المجتمع المسلم، وكشف مخططات
الأعداء في الداخل، ومكر الغزو الفكري الذي يناصرونه، ويعين على ذلك:
دراسة التاريخ التي تكشف عن عوامل الانحراف، ودراسة الحركات الإصلاحية
والعقبات التي قامت في وجهها.
كما أن من المهم إدراك مصائب النفوس الداخلية التي تسمح بتمرير مخططات
أعداء الداخل والخارج، كالسطحية، والأثرة والفردية، وضعف التعاون والتكافل،
وروح التردد والحذر، والخور والجبن، وعدم الإقدام، وفقدان روح المغامرة
والدافع للعمل [11] .
سادساً: الإيجابية في التعامل مع الحدث:
أُمر المسلم باعتزال الفتن، لخطورتها على دين المرء؛ فهي مرحلة تمحيص
يخشى المرء فيها الهلكة؛ نسأل الله السلامة والعافية والهدى والسداد.
وينبغي أن لا يعرض العبد نفسه للفتن اعتماداً على الثقة بنفسه وقدراته
وتمكنه من العلم وثباته في دينه؛ ففي الفتن تنقلب الموازين، ويلتبس الأمر وتختلط
الأوراق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «من سمع بالدجال فلينأ عنه؛
فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث من الشبهات أو لما
يبعث به من الشبهات» [12] .
هذا هو نهج الصحابة رضوان الله عليهم في الفتن الواقعة في زمنهم، بين
علي ومعاوية رضي الله عنهما، كما قال محمد بن سيرين: «هاجت الفتنة
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف، فلم يحضرها منهم مائة،
بل لم يبلغوا ثلاثين» [13] .
وإنما يجب اعتزال الفتنة حينما يلتبس الأمر، فلا ينحاز المرء مع رأي أو
جانب حتى تتضح الأمور، وتتمايز الرايات. أما إذا اتضح الحق فلا يجوز التذرع
بهذا إلى السكوت عن الحق والجهر به، وترك القيام بالواجب الشرعي في نصرة
الحق وأهله. هذا أمر.
وأمر آخر هو أن اعتزال الفتنة شيء، واعتزال الناس وترك العمل في زمن
الفتنة شيء آخر.
إن اعتزال الناس زمن الفتنة إنما يكون للضعفاء العاجزين عن فعل شيء،
وليس كذلك أهل العلم والدعوة والفكر الصحيح، وإذا كان يجب عليهم السعي في
شؤون الناس عموماً؛ فذلك أوكد عليهم زمان الفتنة التي هي أزمة كبيرة تفتقر
لجهود ضخمة متكاتفة؛ سعياً في إزالتها أو التخفيف من وطأتها.
قال الإمام النووي في حديث «خير الناس في الفتن رجل آخذ بعنان فرسه أو
قال: برسن فرسه خلف أعداء الله يخيفهم ويخيفونه، أو رجل معتزل في بادية
يؤدي حق الله تعالى الذي عليه» [14] ، قال النووي: «فيه بيان فضل العزلة في
أيام الفتن، إلا أن يكون له قوة على إزالة الفتن، فيلزمه السعي في إزالتها عيناً
وكفاية» [15] .
وصاحب القوة على إزالتها هم أهل العلم والفكر والدعوة والتربية وأصحاب
القدرات والطاقات والقيادة، وكل من له قدرة على شيء توجب عليه القيام به..
ولا خيار له في ذلك، ولا يجوز له التهرب من المسؤولية المتعلقة به، ولا التعلل
بتقاعس الآخرين، ولا الاحتجاج بالقدر.. إلى آخر قائمة فنون التهرب من
المسؤولية [16] .
أسهل شيء على الإنسان أن يلقي باللائمة على غيره ليبرئ ساحته،
ويتخلص من تأنيب الضمير وحالة الشعور بالخطأ التي تقلقه وتُذهب راحته وتؤثر
في اتزانه.
وتسمع كثيراً تساؤلات عن دور العلماء والقادة، وهذه التساؤلات لها ما
يسوِّغها؛ لكن هل تخاذُلُ فئة عن واجبها يجيز للآخرين مزيداً من التخاذل
والانسحاب والتقصير؟
إن رعاية الأمة وإصلاح شأنها وقيادتها زمن فتنتها واجب كبير لا يكفي فيه
دور شريحة دون أخرى، وهل سمعت أن أمة تقوم بفرد أو أفراد ما لم توجد الرغبة
والجدية لدى مجموع أفرادها؟ !
وإذا كان العمل والإصلاح والسعي في مواجهة الفتنة محفوفاً بالمخاطر، فذلك
شأن كل مناحي الحياة وشؤون المعاش زمان الفتنة؛ فهل يمتنع المتذرع بهذا عن
الخروج والسعي في شأنه الخاص؟ !
سابعاً: البحث عن المنح في رحم المحن:
اعتاد بعض الناس النظرة السوداوية إلى كثير من الأمور والأوضاع، في ظل
غلبة التشاؤم والسلبية والريبة في تقويم أعمال الآخرين.. وإذا كان الحال كذلك فما
ظنك بنظرتهم إلى الفتن التي لا يبدو منها سوى السوء والشر؟ !
غير أن يقين المسلم بحكمة الله عز وجل وأنه تعالى لا يخلق شيئاً عبثاً، بل لا
يخلق شراً محضاً.. يجعله يصحح نظرته لكثير من الأمور وطريقة تعامله معها،
بحيث يستكشف محاسنها وحِكَمها بنظرته الشمولية، ويحاول الاستفادة منها
وتوظيفها في التوجه والتوجيه نحو الأفضل.
فالشيطان الذي يسعى في إضلال الناس وإغوائهم وصدهم عن الصراط
المستقيم إنما كان خَلْقُه لحكمة بالغة، مما ندرك منها: تحقق الابتلاء وكماله، فالله
عز وجل بيَّن للناس الطريقين، وجعل للعبد ملائكة تدفعه للخير، وشياطين تؤزه
إلى الشر؛ ليتبين الراغب في الخير المقبل عليه من عكسه.. وهذا مقتضى حديث
النبي صلى الله عليه وسلم: «والشر ليس إليك» [17] .
وحادثة الإفك التي أزعجت بيت النبوة وهزت أطهر مجتمع قال الله في شأن
الإفك الذي قيل فيها: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] (النور: 11) .
وصلح الحديبية الذي لم يرُق لبعض المسلمين، كان بداية فتح مكة، بل سمَّاه
الله فتحاً، فأنزل في طريق رجوع النبي صلى الله عليه وسلم منه: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُّبِيناً] (الفتح: 1) .
إن يقين المرء بذلك معين له في تحقيق العبودية لله تعالى والنجاح في الابتلاء،
والصبر على المصائب، وسعادة القلب واطمئنانه، وسلامته من أمراض الخوف
والطمع والشحناء والحسد.
ومن الفوائد المرجوة في الفتن: تمحيص الصفوف، وتمايز المؤمنين من
المنافقين والكافرين، وتميز الصديق من العدو، ومراجعة النفس ومحاسبتها،
واختبار بعض الوسائل والأساليب، وإدراك آثار الأخطاء والتقصير في العلم
والعمل والتربية، وتصحيح كثير من المفاهيم والمواقف.
ومن أهمها: التعرف على سنن الله تعالى في خلقه وأقداره، وسننه في
التغيير للسير على هداها، مثل: أن الصراع بين الحق والباطل حتمي لا بد منه،
وأن العاقبة للمتقين وأن الغلبة والنصرة لهذا الدين، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم، وأن عاقبة العصيان الذل والهلاك [18] .
وهذا ما نرى أن كثيراً منه قد يتضح أكثر وأكثر في هذه المحنة وغيرها.
ومن الواجب: بث الطمأنينة في قلوب الناس وتبشيرهم بوعد الله ونصره،
وشروط تنزله، من واقع القرآن والسنة والتاريخ والواقع لترتفع معنوياتهم، وتزداد
فاعليتهم؛ وإلا فإن الدنيا تسودّ في أعين كثير من الناس، حتى الصالحين أحياناً،
إلى درجة تمني الموت! والإسلام لا يدعو «أتباعه إلى الموت، ولكنه يدعوهم
إلى الحياة، وليس في معاني الإسلام معنى تمني الموت، وإن اشتدت الفتن، وليس
في الإسلام فقدان كل أمل وضياع كل رجاء، ولكن روح الإٍسلام: روح الأمل،
وروح الجهاد، وروح القوة المستمدة من عند الله، والثقة بنصره، والاطمئنان إلى
عونه. أين يقع تمني الموت من قوله تعالى: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) » [19] .
ثامناً: التفكيرالعميق في الخروج من الأزمة:
هذه المسألة مما يستحق حديثاً خاصاً بل دراسات واسعة وجهوداً تراكمية
متتابعة، غير أن هذا لا يمنع من بعض الوقفات العجلى:
1 - قراءة التاريخ ضرورة ملحّة، لمعرفة الفتن التي مرت بالمسلمين
وأسبابها، وكيف استطاعوا تجاوزها والخروج منها. وأبرز ذلك غزو الصليبيين
والتتار [20] ؛ فنجاح من قادوا الأمة إلى بر الأمان يدعو إلى دراسة تلك التجارب
دراسة تحليلية عميقة.
2 - ضرورة إحياء مفهوم الأخوة الإيمانية ولوازمها؛ فهذه الفرقة سببتها
الإقليميات والوطنيات؛ فلا بد من بعث مفهوم الأمة الذي تجتمع به القلوب، وتشعر
بشعور الجسد الواحد، والبنيان المرصوص، بحيث نعدُّ التكافل واجباً لم نقم به بعدُ
كما ينبغي؛ فمهما قُدِّم لإخواننا فذلك جزء من واجب الأخوة، ولا يجوز أن ننظر
إليه على أنه تفضل ومنة.
3 - الإسهام في صناعة الرموز المنتجة الفاعلة لتكون نماذج يقتدى بها في
وقت تضعف فيه الفاعلية، ويستشري التخاذل، ويكثر المشاهدون الذين ينتظرون
(صلاح الدين) دون أن يهيئوا النفوس والأوضاع لتكون رصيداً لـ (صلاح الدين)
وعوناً له في أداء مهمته الكبيرة التي لا بد أن تتكاتف فيها الأمة.
4 - ضرورة السعي في استثمار الحدث والحذر من تضييع الفرصة.
وتقدَّمَ في طيات هذه المقالة عدد من الوسائل والآليات المعينة على الخروج
من الأزمات. أسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويعيذنا من شر أنفسنا.
__________
(1) أخرجه مسلم، ح/ 2717.
(2) كما في الحديث: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» ، أخرجه مسلم، ح 5، وفي رواية: «كفى بالمرء إثماً» ، أخرجه ابن حبان، ح 29 (1/213) ، وصحح المحقق إسناده.
(3) في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا] (الحجرات: 6) وفي قراءة سبعية: «فتثبتوا» .
(4) أخرجه مسلم في المقدمة، 1/11.
(5) اشتهرت القصة عن الجد بن قيس، وفي سندها مقال، انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د مهدي رزق الله أحمد، ص 619.
(6) انظر: معجم مقاييس اللغة (مادة فتن) 4/472.
(7) القاموس المحيط، مادة (فتن) ، ص 1575.
(8) المسؤولية، د محمد أمين المصري رحمه الله ص 73.
(9) أخرجه البخاري، ح / 3700.
(10) المسؤولية، ص 87.
(11) انظر: المسؤولية، ص50، 39 56.
(12) أخرجه أبو داود، رقم 4319 (4/116) ، وصححه الألباني، ح 3629، وبنحوه أخرجه أحمد (4/431، 441) ، وصحح المحققون إسناده (انظر: 23/107، ح 19875) ، وقد كرر فيها الأمر ثلاث مرات: «من سمع بالدجال فلينأ منه» .
(13) أخرجه عبد الرزاق 11/357، والخلال في السنة 2/466، وسنده صحيح، انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د محمد آمحزون 2/171.
(14) أخرجه الحاكم في مستدركه، ح 8380، 8433 (4/493، 510) ، وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه والطبراني في الكبير، 25/150.
(15) فيض القدير، للمناوي، 3/ 481.
(16) أساليبنا في مواجهة المسؤولية والتملص منها عديدة متنوعة، انظر بعضها في: المسؤولية، ص 59 85، واستمع لبعضها الآخر من شريط بعنوان: فن التهرب من المسؤولية، للشيخ محمد الدويش.
(17) أخرجه مسلم، ح 771.
(18) انظر سلسلة: وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم، للشيخ عبد العزيز الجليل، رسالة: (لا تحسبوه شراً لكم) ، ورسالة: (إن ربك حكيم عليم) .
(19) المسؤولية، ص 78.
(20) من الدراسات في هذا الموضوع: كتاب الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري عهد نور الدين وصلاح الدين للأستاذ محمد حامد الناصر، كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادت القدس د ماجد عرسان الكيلاني، كيف دخل التتر بلاد المسلمين، د سليمان بن حمد العودة.(168/15)
دراسات تربوية
عملية لا تعرف التوقف.. حتى في الفتن
عبد اللطيف بن محمد الحسن
Alhasan1422@yahoo.com
مهما قيل في مواجهة الفتن، فإن تغيير النفوس هو بداية التغيير وطريقه
الصحيح: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
وعملية بناء النفس عند الموفَّقين الجادّين: مسألة لا تعرف التوقف والملل،
فهي مستمرة بتوالي الأنفاس، [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] (الحجر: 99)
(أي: الموت) ؛ ليقينهم بأن اللحظة التي لا تساهم في البناء فإنها تشرع في الهدم
[لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ] (المدثر: 37) ، [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: 9-10) .. حالان لا ثالث لهما!
والملاحظ: أنه في الوقت الذي يتطلب مراجعة جدية للنفوس، وتجديداً
لإيمان القلوب، واستمراراً لبناء النفس الشمولي المتكامل.. بشكل أكثر إلحاحاً؛
لربما وقع إهمال لذلك بسبب ازدحام الأحداث، واضطراب الأمور، وافتقاد
التوازن، وتكاثر الأعباء، وتزاحم الأولويات جداً. ويكتسب التنبيه على أمر
مزيداً من الأهمية بارتفاع أهمية ذلك الأمر، وازدياد الصوارف عنه. وهذا ما
يدعو إلى الوقفات الآتية، في مثل هذه الظروف، والله المستعان.
أولاً: رعاية الإيمان:
المتأمل في الصراعات على مر التاريخ يبصر أن الأثر العقدي المحرك الأول
للصراع، ومع موجة التدين العامة التي يشهدها العالم بجميع ملله ونحله يتأجج
الدافع العقدي، وتتكشف كثير من الأقنعة عنه، وتزداد مع الأيام الأدلة الشاهدة على
الداء المتأصل عند جميع الملل في الكيد لدين الإسلام وأهله، وكما تحركت حروب
صليبية في القرون الوسطى تتحرك مثيلتها اليوم في قرن الصراع! !
حقيقة من لم يفهمها بالأمس فهمها اليوم، ومن لم تتكشف له اليوم تبدت له غداً
[لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] (الأنفال: 42) . حقيقة هي
من الجلاء بحيث شهد بها التنزيل الحكيم في مواضع عديدة، كقوله تعالى: [وَلَن
تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ، وقوله:
[وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ] (البقرة: 109) ، [وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
العَزِيزِ الحَمِيدِ] (البروج: 8) .
فإذا كان الإيمان محور الصراع فما أمام المسلم إلا خياران لا ثالث لهما:
متابعة أعدائه وإزالة أسباب التوتر بينه وبينهم، أو الاستعلاء بإيمانه وعقيدته،
والتحصن بذلك الحصن الحصين، وتحقيقه بالعمل قلباً وجوارح، والقيام بحقه
ولوازمه.
وإذا كان قيام الصراع من أجل الإيمان، فهل يرتضي عاقل أن يفقد الصراع
جوهره، ويتخلى عن محور تميزه وعقدة عداء الأعداء له؟
ولن تكون هناك وسيلة لرعاية الإيمان مثل مجاهدة النفس على فعل أمر الله
واجتناب نهيه، وتعاهد محاسبتها، وتجديد التوبة، وتفتيش القلب على الدوام.
ثانياً: الإقبال على العبادة:
يضعف أمر الدين في النفوس، ويقل الاعتناء به في حال الفتن، وينصرف
الناس إلى أمر دنياهم ومعاشهم..، ومن هنا عظم شأن العبادة في تلك الحال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرْج كهجرة إليّ» [1] .
قال النووي: «المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس [2] ، وسبب
كثرة فضل العبادة فيه: أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا
أفراد» [3] ، وهذا من مظاهر غربتهم «فمن تشاغل بالعبادة في تلك الحال كان
متشاغلاً بما أمر بالتشاغل به، تاركاً لما قد تشاغل به غيره من الهرج المنهي عن
الدخول فيه والكون من أهله، فاستحق بذلك الثواب العظيم» [4] .
ووجه تمثيله بالهجرة: أن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا
يفرُّون من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن وجب على
المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة [5] ، لترجع النفوس إلى طبيعتها وسجيتها
بهذه الجرعات المهدئة من طاعة الله وذكره، حتى تفكر بشكل صحيح، وتعمل
بشكل صحيح أيضاً.
وإني أدعو القارئ الكريم إلى تدبر مثل سورة [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ]
(الشرح: 1) ، التي «فيها البشرى.. باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سر
اليسر وحبل الاتصال الوثيق» [6] ، إنها العبادة الحقة.
أنواع العبادة:
إذا عرفنا أن لفظ العبادة يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال
الظاهرة والباطنة.. أمكننا أن نستوعب دخول أمور لا حصر لها من أعمال القلب
والجوارح واللسان في مفهوم العبادة، وسواء كانت تلك من العبادات اللازمة
الخاصة بالفرد، أو المتعدية التي يمتد أثرها إلى غيره، وسواء كانت من الفرائض
والواجبات أو النوافل..
ومما يتأكد من العبادات:
1 - تطهير القلوب وعمارتها:
من أخطر أسباب فتنة العبد عن الحق ووقوفه مع الباطل أو وقوعه فيه:
أمراض قلبه، وتقصيره في القيام بالواجبات القلبية، الأمر الذي لا يشعر به كثير
من الناس، ولا يلقون له بالاً! رغم أن القلب موضع نظر الرب تعالى، وسبب
صلاح الجوارح أو فسادها.
وللتحصن من الفتن: فإنه يتأكد تطهير القلوب من أمراض الرياء والعُجب
والغش والحقد والحسد وسوء الظن والتعلق بالدنيا وشهواتها وملذاتها، والسعي
الحثيث إلى إصلاح القلب وعمارته بمعرفة الله تعالى بالتعرف على أسمائه الحسنى
وصفاته العليا ومعانيها وآثارها، لتتحقق العبودية له تعالى [7] :
- حباً له ولدينه وأمره ونهيه، فيقدم محبته على محبة كل شيء سواه حين
يشتد امتحان المحبة، ومحبة لحزبه وموالاة لهم ونصرة على أعدائهم.
- وخوفاً منه وحذراً من وعيده ليكون رادعاً عن الزيغ عن الحق في زمن
تكثر فيه الصوارف عنه والاستجابة لاستهواء الباطل في وقت تقوى فيه الدوافع إليه.
- ورجاء لموعوده دنيا وأخرى الذي يهون كل أذى في سبيله.
- وتوكلاً عليه يقوِّي القلب على الصعاب، ويعظم أمله في تحقق موعود الله
عز وجل، في زمن يكثر فيه اليائسون القانطون.
- واستعانة به على طاعته، وعلى شؤون الحياة كلها.
- وصبراً على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره.
- ورضىً بقضائه وقدره، حلوه ومره.
- واعتقاداً بحكمته البالغة في كل أفعاله.
- ويقيناً في قدرته على كل شيء، وفي صدق خبره بنصرة حزبه، وفي
تفرده بالتدبير والتصرف.. سبحانه وتعالى.
- وإقبالاً على أمره، واستسلاماً له، وسعياً في مراضيه، وتجنباً لمساخطه.
وما لم تتوجه الرعاية المركزة إلى القلوب؛ فما أسرع الفتن إليها! وما أبعد النجاة
منها! ؛ إذ إن إهمال ذلك سبب خيانة القلب لصاحبه وقت الشدائد والفتن، وتكمن
الخطورة في تأصل الأمراض واستفحالها، واشتداد تعلق الإنسان بمكاسب الدنيا
وملذاتها، وخوفه من فواتها وإلفه لها، حتى تقف عقبة كؤوداً دون اتباع الحق
وتقديمه على النفس والمال والولد.
2 - العناية بالفرائض والواجبات:
وهي أحب ما تقرب به العبد إلى ربه عز وجل في السراء والضراء [8] .
وأشعر أنّا بحاجة إلى وقفة مراجعة صادقة، ونظرة فاحصة في مدى رعايتنا
لتلك الفرائض؛ لندرك الهوة بين الواقع والواجب.
فصلاتنا مثلاً تفتقر لمزيد من العناية بالاستعداد لها، والتبكير إليها،
واستشعار معانيها وأسرارها وحكمها، واستكمال خشوعها وسننها.. وتأمل في حال
كثير من الصالحين اليوم مع صلاة الفجر، وصلاة الجمعة تَرَ عجباً.. وعلى هذا
فقِس.
والملاحظ أن الله تعالى لم يمتدح المؤمنين بمجرد أدائهم لها، بل بالمداومة
والمحافظة عليها، وهي تقتضي شيئاً فوق مجرد الأداء، وهكذا الأركان الأربعة
كلها وسائر الواجبات.
3 - الاستكثار من أعمال البر المصلحة للقلب والعمل:
وهي طريق محبة الله عز وجل لعبده: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل
حتى أحبه» [9] ، وبها يزيد الإيمان، وترتفع الدرجات، وتصان الواجبات.
ومن أعمال البر المتأكدة في زمان الفتنة:
أ - دخول جنة القرآن:
وذلك بالإقبال على تلاوة كتاب الله تعالى، وتدبره وتفهمه، واستلهام العبر
منه، وترسيخ الحقائق، وتوضيح المبادئ، وتصحيح المفاهيم، وبيان المواقف من
الأحداث والمستجدات.
ولحكمةٍ كان القرآن يتنزل على حسب الوقائع والأحداث.. وأنت ترى أن
فهمك للآيات يختلف تماماً حينما تجيء مناسباتها، حتى كأنك لم تسمعها من قبل..
وهذا ما وقع لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم،
حين تلا أبو بكر رضي الله عنه قوله تعالى: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] (آل عمران: 144) ،
فاندهش، وقال بعد: «والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعَقِرت حتى ما
تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي
صلى الله عليه وسلم قد مات» [10] .
فهنيئاً لمن رزق إقبالاً على كلام الله وتدبراً له، فأبصر الحقائق قبل فوات
الأوان.
ب - الزاد الليلي:
قيام الليل.. تلك العبادة مفزع المؤمنين في الملمات، وقد أوجبها الله تعالى
على المؤمنين أول الإسلام عاماً كاملاً، ثم بقيت واجبة على النبي صلى الله عليه
وسلم، فصارت دأب الصالحين وسنة المصلحين يستمدون منها قوتهم، باستلهامهم
عون الله وتأييده، فكان ذلك سر قوة قلوبهم وثباتهم وهدايتهم، وخاصة مع
استفتاحهم صلاتهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح به صلاة الليل:
«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم
الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف
فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» [11] .
ج - الذكر:
وهو وصية الله لعباده عند اشتداد البأس: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الأنفال: 45) .
والذكر يستجلب تعرُّف الله على عبده حال الشدة، إذ يكون له عند الله تعالى
ما يذكِّر به.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله،
يتعاطفون حول العرش، لهن دوي كدويّ النحل، يذكرن بصاحبهن؛ ألا يحب
أحدكم أن لا يزال له عند الله تعالى شيء يذكر به؟» [12] .
د - الدعاء والتضرع وإظهار الافتقار:
كل خير يحصل للعبد فأصله التوفيق، والتوفيق بيد الله لا بيد العبد، ومفتاحه
الدعاء والافتقار، وصدق اللجأ والرغبة والرهبة إليه. فإذا منح الله عبده ذلك
المفتاح فقد أراد أن يفتح له، وإذا أغفله عنه فقد أُغلق باب الخير دونه. ولذا قال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن همّ الدعاء،
فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه» [13] . وعليه فإن من خاب فخيبته من
إعراضه عن ربه؛ ومن ظفر ونجح فبصدق افتقاره ودعائه وقيامه بالشكر على ما
يعطيه ربه. والله لا يخيب من دعاه مقبلاً عليه: [أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ] (النمل: 62) .
والمتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يجد من شأنه عجباً في دعائه وضراعته،
وخاصة يوم بدر الذي قد وعده الله النصرة فيه، ومع ذلك فقد اشتدت ضراعته،
«فما زال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبلاً القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه،
فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا
نبي الله! [كفاك] مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك» [14] .
ومن قام بذلك وهو في حال الرخاء نفعه ذلك حال الشدة: «تعرف إلى الله
في الرخاء يعرفك في الشدة» [15] ، وكل شدة بالنظر إلى ما هو أشد منها تعدُّ رخاء،
فليغتنمها العبد لئلا يشبه حال المشركين الذين لا يدعون إلا وقت الشدة، وهو
حال استنكره الله تعالى فقال: [وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا
خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ] (الزمر: 8) ، وقال: [وَإِذَا
أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ]
(فصلت: 51) .
وأشد نكارة منه حال المعرضين كلية: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ
فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن
قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ]
(الأنعام: 42-44) .
«وقد جاء أثر معناه: أن العبد المطيع الذاكر لله تعالى إذا أصابته شدة أو
سأل الله تعالى حاجة، قالت الملائكة: يا رب! صوت معروف من عبد معروف،
والغافل المعرض عن الله عز وجل إذا دعاه وسأله قالت الملائكة: يا رب! صوت
منكر من عبد منكر» [16] .
4 - العناية بالعبادات المتعدية:
مفهوم ضيق أن نقصر العبادات على ما تقدم مما يخص المرء في نفسه،
وذلك المفهوم لوثة علمنة، منشؤها: نظرة قاصرة في تصور العبادة وفهم الإسلام
الذي أراد الله له أن يصلح الدين والدنيا.
ومن أبرز العبادات المتأكدة هنا:
1 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2 - الدعوة إلى الله تعالى ونشر الخير.
3 - القيام بتعليم العلم ونشره.
4 - الاجتهاد في تربية الأمة على الإسلام بجميع فئاتها، وخاصة الشباب
ذكوراً وإناثاً.
قال الله تعالى في كل ذلك: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 104) .
5 - العناية بتربية الأهل والأولاد ووقايتهم من النار، بتعريفهم حقيقة الإسلام،
وآثار التوحيد، وفوائد العبادة، ومضار الشرك والمعاصي، وتعريفهم بحال أمتهم،
وتحذيرهم من سبل الشر والفتنة والفساد وأسبابه وكيد المفسدين في تحسينه
والدعوة إليه.
6 - الاجتهاد في القيام بالعدل، وأداء الحقوق والسعي في ردها لأصحابها
مادية كانت أم معنوية.
7 - حسن الخلق من سعة الصدر واحتمال الأذى، وبذل الندى، والكلمة
الطيبة.
8 - الإحسان بكل صوره، وخاصة بر الوالدين وصلة الأرحام وأداء حقوق
الأخوة والجوار.
9 - نصرة المستضعفين والاستعداد للتضحية والقيام بالواجب.
10 - بذل المعروف والجود والإنفاق والتكافل:
وما أجمل تلك الصورة الرائعة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة.. جمعوا
ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية؛ فهم مني
وأنا منهم» [17] .
ثالثاً: محاسبة النفس وتجديد التوبة:
من السنن الإلهية الجارية: أن الذنوب من ترك مأمور أو فعل محظور
تستنزل المصائب، ولم يخرج عن تلك السنة خير الأجيال رضي الله عنهم، فحين
ذكَّرهم الله بمصيبتهم يوم أحد قال: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران:
165) ، وبيَّن تعالى سبب هلاك الأمم فقال: [وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا
ظَالِمُونَ] (القصص: 59) .
وكم كان فقه أحد الصحابة رضي الله عنهم عظيماً حين بكى لما فتح المسلمون
إحدى المدن؛ فعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: «لما فتحت
قبرص فُرِّق بين أهلها؛ فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده
يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال:
ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره؛ بينما هي أمة
قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى» [18] وعلى هذا
النهج أوصى عمر جنده فقال: إنما سُلِّطتم على عدوكم بعصيانهم الله، فإذا
شاركتموهم المعصية فاقوكم بالعدد والعُدد.
وغير خاف على من عرف حال الأمة وما هي فيه من بعد عن كتاب الله في
واقع حياتها؛ فصور تضييع الفرائض، وشيوع المنكرات، وانتشار الظلم،
وتحكيم القوانين، وقلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، مع سكوت كثير
من المعنيين عن قول الحق والصدع به.. كلها تدعو إلى وقفة مراجعة لعودة صادقة.
رابعاً: كف اللسان وترك ما لا يعني من قول أو فعل:
والذي لا يعني هو: كل ما لا تعود على الإنسان منه منفعة لدينه ولا لآخرته.
فالخوض في أعراض المسلمين والتخرص في الأحكام وتناقل الشائعات..
أمر يتفاقم في الفتن، وهو شيء آخر تماماً غير الحديث الجاد في تحليل الحدث،
واستخراج الدروس، واستنباط العبر، وتوجيه الناس وتحذيرهم. والاشتغال بما لا
يعني ينقص حسن الإسلام والإيمان، ويضيع على الإنسان فرص النجاح في الحياة؛
لأنه اشتغل بغير رسالته فانحرف مساره [19] .
وبهذا الإجراء حفظ المصلحون والجادون جهودهم عن الهدر؛ فهذا عمر بن
عبد العزيز على نهج أهل السنة يقول في الفتنة بين الصحابة: «تلك دماء طهَّر
الله منها سيوفنا، فلا نخضِّب بها ألسنتنا» [20] ، وهذا الربيع بن خيثم لما قُتل
الحسين بن علي رضي الله عنه استرجع، وقرأ قول الله تعالى: [قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ] (الزمر: 46) ، قال ابن العربي: «ولم يزد على هذا أبداً؛ فهذا
العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين» [21] .
وأراد رجل أن يستخرج منه سيئة فقال: «ما تقول؟ فقال: ما أقول؟ إلى
الله إيابهم، وعليه حسابهم» [22] .
قارن هذا بإطلاق الألسن في كل صوب بما يندم عليه الإنسان أو يتراجع عنه
عجلاً؛ فكيف إذا جاء وقت الحساب؟
خامساً: استمرار بناء النفس الشمولي المتكامل:
«التحديات التي تواجه الأمم كالتحديات التي تواجه الأفراد هي غالباً داخلية،
والأفراد العظماء كالأمم العظيمة حين يشتد عليهم الهجوم من الخارج لا ينهمكون
في أنشطة خارجية لصده، وإنما يرتدون إلى الداخل تنمية وتحصيناً وتنظيماً
وتطهيراً» [23] .
وتنمية الأمة والفرد تستلتزم الشمول والتكامل في الجوانب الفكرية والمعرفية
والشخصية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها [24] . مع التوازن، والعناية
بالعمل والتدريب على تطبيق المعارف والعلوم، وإلا أصيبت التربية في مقتل.
وختاماً: قبل أن نتذكر شدة الهول حين لا ينفع التذكر: [كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ
الأَرْضُ دَكاًّ دَكاًّ * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي] (الفجر: 21-24) .
فلتكن الذكرى من هذه اللحظة.
__________
(1) رواه مسلم ح 2948، والترمذي، ح 2201، وابن ماجة، ح 3985، وابن حبان 5957.
(2) الهرْج في الأصل يدل على اختلاط وتخليط، ويقاس عليه فيقال للقتل هرج، (معجم مقاييس اللغة، مادة: هرج، 6/49) ، وذكر ابن الأثير (النهاية، مادة: هرج 5/256) أن أصله: الكثرة في الشيء والاتساع.
(3) شرح مسلم 18/117، وانظر: فيض القدير 4/ 373.
(4) انظر: معتصر المختصر 2/ 377.
(5) انظر: فيض القدير 4/ 373.
(6) في ظلال القرآن 6/ 3929.
(7) هناك دراسة بعنوان: (تحقيق العبودية بمعرفة الأسماء والصفات) ، للباحثة: فوز الكردي، جديرة بالتدارس والاهتمام.
(8) كما ثبت في الحديث القدسي الذي رواه البخاري، ح 6502.
(9) جزء من حديث قدسي أخرجه البخاري، ح 6502.
(10) أخرج البخاري، ح 4454.
(11) أخرجه مسلم، ح 770.
(12) أخرجه أحمد في مسنده 4/269 وحكم المحققون بصحة إسناده، ومعنى الحديث: أن من يذكر الله إجلالاً له، فإن ذكره يتعاطف حول العرش، وهذا مبني على تشكل الأعمال والمعاني بأشكال، (المسند، تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرون 30/312 314) .
(13) الفوائد، ص 97، وانظر: قبل الأثر وبعده.
(14) رواه مسلم، ح1763.
(15) جزء من حديث أخرجه أحمد 1/307، وصححه المحققون، ح 2803 (5/ 18 19) .
(16) الوابل الصيب، لابن القيم 1/ 64.
(17) أخرجه مسلم، ح 2500.
(18) انظر الجواب الكافي، لابن القيم، ص 27، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
(19) انظر دراسة تربوية حول حديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، عنوانها: معلم في تربية النفس، لعبد اللطيف بن محمد الحسن.
(20) البحر المحيط، للزركشي 6/ 187.
(21) العواصم من القوا صم، لابن العربي، ص 182.
(22) حلية الأولياء 2/111، صفة الصفوة 3/ 63.
(23) العيش في الزمان الصعب البعد العقلي والنفسي، د عبد الكريم بكار، ص 85.
(24) يفيد في هذا كتب منها: مدخل إلى التنمية المتكاملة، د عبد الكريم بكار، وبقية السلسلة (المسلمون بين التحدي والمواجهة) .(168/22)
ندوات ومحاضرات
مع الانتفاضة في عامها الأول
(2 - 2)
ضيوف الندوة:
* فضيلة الشيخ: حسن يوسف: من القيادات البارزة في حركة حماس في
الضفة الغربية رام الله.
* الدكتور: محمد صالح: عضو مؤسس في حركة حماس، ممن شهد النكبة
عام 1948م.
* الأستاذ الدكتور: سيف عبد الفتاح: أستاذ العلوم السياسية، كلية الاقتصاد
والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
* الأستاذ الدكتور: عبد الستار فتح الله سعيد: أستاذ التفسير بجامعتي الأزهر
وأم القرى سابقاً.
في القسم الأول من هذه الندوة دار الحديث حول المحور الأول، وكان عن
المرحلة السابقة من العمل الإسلامي في فلسطين قبل الانتفاضة الأخيرة، أما
المحور الثاني فكان عن ملامح التعامل مع المرحلة الحالية في حال استمرار
الانتفاضة، وقد تقدم في القسم الأول جزء من الحديث عن المحور الثاني، وفي
هذه القسم تتمة للمحور الثاني؛ إضافة إلى المحور الثالث الذي يدور حول الآفاق
المستقبلية للأوضاع في فلسطين.
- البيان -
البيان: هل هناك تصور لتفادي خطف ثمرات الانتفاضة مرة أخرى أو
تحويل نتائجها لغير صالح الفلسطينيين عموماً والإسلاميين منهم خصوصاً؟
الدكتور محمد صالح:
لقد استفادت حركة حماس داخل فلسطين من تجربة الانتفاضة الأولى بشأن
خطف ثمرات الانتفاضة، واحتمال الانحراف بها عن أهدافها من خلال الإجراءات
الآتية:
أ - الحرص على تكوين قيادة وطنية إسلامية للانتفاضة تلتقي حول أهداف
محددة للانتفاضة.
ب - اتفاق القيادة الوطنية والإسلامية على أهداف الحد الأدنى للانتفاضة
وهي دحر الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية على المناطق المحتلة عام 1967م،
وعاصمتها القدس لا يترك مجالاً للانحراف عن هذه الأهداف.
ج - حرصت الحركة على تكثيف تواصلها مع الشارع الفلسطيني من أجل
توعيته وتعبئته ضد الاحتلال؛ حتى تتحقق أهداف الانتفاضة من جانب، وتضمن
التعاطف مع الحركة ليحميها من عدوان السلطة عليها في حال توقف الانتفاضة من
جانب آخر.
د - تأكيد حركة حماس على تجنب أي مواجهة مباشرة مع السلطة، وأن
تكون المواجهة في حال حدوثها معارضة سياسية، ومن خلال موقف موحد بينها
وبين القوى الوطنية والإسلامية والشارع الفلسطيني.
وتدرك حركة حماس أن احتمال انحراف السلطة عن أهداف الانتفاضة وارد
في ظل المعطيات الحالية، وهو احتمال بعيد في عهد شارون الذي يرفض إعطاء
الفلسطينيين أي حقوق سياسية، ويرفض بشكل صريح قيام دولة فلسطينية مستقلة.
البيان: ماذا عن أموال الدعم، وهل من سبيل لطمأنة من يريدون تقديم الدعم
المالي من الخوف المزمن من عدم وصول هذا الدعم إلى من يخدمون القضية
بالفعل؟
الدكتور محمد صالح:
أموال الدعم التي تصل إلى السلطة الفلسطينية ظلت دوماً بعيدة عن الرقابة
الدقيقة، وفي مرحلة الانتفاضة أصبحت الضغوط المادية على السلطة كبيرة كما
زادت حاجات الناس.
أما أموال الدعم التي تصل عن طريق الجمعيات الخيرية ولجان الزكاة في
الأراضي المحتلة فإنها مأمونة ولا مجال لسوء توزيعها أو عدم وصولها؛ لأن
القائمين عليها ثقات، وهم حريصون على أن تصل الأموال إلى من يقوم على
كاهلهم عبء الانتفاضة ومقاومة الاحتلال، وإلى الفقراء وأبناء الشهداء وعائلاتهم.
ويضيف الشيخ: حسن يوسف:
هناك بالتأكيد عناوين موثوقة تتولى شأن تلقي الاعتمادات والتبرعات المالية،
سواء كانت شخصيات معتبرة مشهود لها بالجهاد ونقاء اليد والصدق والإخلاص،
أو لمؤسسات إسلامية هي أصلاً تعمل في صلب الخدمة المجتمعية العامة.
البيان: ما مدى جدية اليهود في ضرب العناصر المنتسبة للسلطة والتي تريد
أن تظهر بمظهر المقاومة الحقيقية؟ وبماذا تفسرون ضرب مراكز السلطة؟
الشيخ حسن يوسف:
ضرب اليهود لمراكز السلطة الهدف منه واضح، وهو جعل السلطة عنواناً
وحيداً يتولى شؤون الفلسطينيين؛ ومن ثم فإن ضربه بالأساس هو لإحداث التأثير
عليه بالدرجة الأولى، وفي حال أفلح ضربه فإن إسكات بقية قطاعات الشعب
الفلسطيني تصبح أسهل، وهو الدور الذي لا يؤيد اليهود جميعهم أن يدخلوه،
ويتركوه للسلطة في الأيام المقبلة في حال حصول توافق بين السلطة والاحتلال،
على غرار ما حدث في السنوات الفائتة، وسيكون الحال أشد في هذه المرة
لاعتبارات كثيرة. على أنه من الملاحظ أن ضرب أهداف السلطة هو مقصور على
المقرات والمراكز الرئيسة للأجهزة الأمنية؛ وذلك من أجل إظهار الصراع وكأنه
بين طرفين عسكريين! ثم إن العناصر التي تطالها إسرائيل هي الجنود والعناصر
الفاعلة من شباب فتح وهم بالعادة يتخذون وقوداً لمثل هذه المعركة، ولغاية الآن لم
تستهدف إسرائيل باغتيالاتها أحداً من المستوى السياسي سوى الشهيد ثابت ثابت،
مسؤول تنظيم طولكرم.
البيان: ننتقل في الحوار إلى الأستاذ الدكتور سيف عبد الفتاح:
ما تقييمكم لما جرى في كامب ديفيد الثانية؟
حينما نتحدث عن كامب ديفيد الثانية فإنه ينبغي ألا نذكر إسرائيل فحسب؛
ولكن الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها كانت برعاية أمريكية، مثلما كانت كامب
ديفيد الأولى، وبين الأولى والثانية صلات وثيقة وتشابه وتناغم؛ فبين تدشين
الأولى والثانية ضاعت الأهداف الامريكية.. لا بد أن نؤكد ذلك.. أن الانتفاضة
استطاعت أن تضع الأهداف الأمريكية الاستراتيجية موضع تساؤل، وهي التي
تتعلق بالنفط والأمن الإسرائيلي واستقرار منطقة الشرق الأوسط.
أما النفط فما زال الأمر بين شد وجذب؛ فالأوبك الآن استعادت دورها
لمصلحتها وإن صادف ذلك أن يكون مقترناً بعدم استقرار في منطقة الشرق الأوسط،
وعدم الاستقرار في المنطقة هو السمة السائدة على عكس ما كانت ترغب
الولايات المتحدة.
أما أمن إسرائيل فلا أحد يستطيع أن يقول إن هناك أمناً.
آخر هذا الأمر ما تؤكده تصريحات شارون بأنه أعطى الضوء الأخضر
لبيريز أن يقوم بالتفاوض مع الفلسطينيين؛ ومعنى ذلك أنه اعتقد تماماً خطأ ما قام
به من أفعال سعياً وراء الأمن؛ لأنه عندما أراد أن يوجد الأمن إذا به يفقد الأمن من
أوسع الأبواب.
الأمن لا يأتي من الحرب.. التجارب تخبرنا بذلك.. إسرائيل دائماً تنتصر
في المفاوضات؛ لأن لديها لجاجة في المفاوضات.. لديها قدرة على الجدل
والالتفاف على مائدة المفاوضات، أما في الحرب فأستطيع أن أقول لك إن الحرب
لو تمت على شكل المواجهة كما تتم في العملية الانتفاضية فإن إسرائيل دائماً تخسر
على الرغم من أنها تستخدم قدرات قتالية وسلاحاً وعتاداً بشكل مركز ومكثف لا
يتناسب مع العتاد الموجود على الجانب الفلسطيني، لكن يظل هنا أن للقوة سقفاً
وللضعف قوة!
وهذه القضية غاية في الأهمية كما رأينا في المقاومة اللبنانية التي استطاعت
أن تفرض عناصر المعادلة الخاصة بها على إسرائيل؛ لأن إسرائيل لا تعرف إلا
هذه اللغة.. لا بد أن يألموا كما نألم ويتضرروا كما نتضرر، ومن يقل إن بين
هؤلاء مدنيين فهو واهم وتفكيره فاسد في حقيقة الأمر.
علينا أن نصحح للعالم المفاهيم. لماذا يموت المدنيون على الجانب الفلسطيني
بلا حساب؛ وحينما يموت مدني واحد لإسرائيل تقوم الدنيا؟
الولايات المتحدة تظل صامتة عندما تأخذ إسرائيل في تصفية العناصر النشطة
أو في تصفية البشر أو في ضرب المدنيين الفلسطينيين، لكنها خرجت عن صمتها
وتحاول أن تحتوي الموقف من أجل إسرائيل وبصراحة. إن دفع الولايات المتحدة
لاتخاذ موقف لا يتأتى إلا بمزيد من هذه العمليات؛ لأن مثل هذه العمليات هو الذي
سيجعل الولايات المتحدة تبعث مراقبين دوليين لا لحماية الفلسطينيين ولكن لحماية
اليهود.
البيان: هل يتوقع في المستقبل القريب أن يزج بحلفاء إسرائيل في الصراع
الدائر الآن؟
أ. د. سيف عبد الفتاح:
هذه المنطقة بحكم التاريخ وبحكم الجغرافيا منطقة مستهدفة؛ لأنها قلب الدنيا،
ليس نحن الذين نقول ذلك ولكن التاريخ والجغرافيا، ولذلك قال العلماء
الاستراتيجيون: إن من يريد السيطرة على الدنيا عليه أن يسيطر على هذه المنطقة،
وإن هذه المنطقة إذا قوي أهلها ملكوا الدنيا. هذه المسألة مسألة أصبحت من
الأمور المتعارف عليها، وفي هذا المقام لا نستطيع بأي حال من الأحوال إلا أن
نقول: إن هذه المنطقة بطبيعتها عقدة استراتيجية.
البيان: هناك تصور يفترض أن اليهود حريصون على استمرار التوتر وعدم
إيقاف الانتفاضة لاستغلالها لأغراض أخرى؛ فهل توافقون على هذا التصور؟
الدكتور محمد صالح:
إن استمرار التوتر وتصاعد العنف في ظل تخبط السلطة الفلسطينية وتذبذب
الموقف العربي الرسمي، وقدرة إسرائيل الفائقة على كسب الجولة إعلامياً على
المستوى العالمي من خلال تحميل الفلسطينيين بطريقة مباشرة وغير مباشرة
مسؤولية استمرار العنف، إلى جانب تغليب العامل الأمني على حساب السياسي
والإنساني إضافة إلى التعتيم الإعلامي على الأهداف السياسية للانتفاضة والضبابية
الكثيفة التي تحجب بها عن العالم رؤية الأحداث في الأراضي المحتلة وتطور
الانتفاضة ومستقبلها؛ كل ذلك قد أتاح لإسرائيل أن تجعل العالم ينظر للانتفاضة
على أنها عنف ضدها، وأن إجراءاتها تمثل رداً على العنف حماية لأمنها.
في ظل هذه السياقات الدولية غير المواتية بالنسبة للانتفاضة ومع استمرار
موقف السلطة الفلسطينية المتردد تجاه الانتفاضة، والذي بات يشكل عبئاً على
الانتفاضة؛ فإنه يبدو أن إسرائيل مستفيدة من الانتفاضة بما تتيحه لها من ذرائع
لتقطيع أوصال الضفة والقطاع وتصعيد عمليات الاغتيال للقيادات الفلسطينية،
كما يغطي على إجراءات الحصار الاقتصادي والضغط على الفلسطينيين، وهو
الأمر الذي سيؤدي لهجرة معاكسة إلى خارج فلسطين في نهاية المطاف.
وبالنسبة لشارون فإن الانتفاضة هي التي جاءت به إلى الحكم؛ فإن
استمرارها بوتيرة منخفضة يضمن له الاستمرار في الحكم؛ لأنه الأقدر في نظر
الإسرائيليين على تحقيق الأمن الشخصي لهم، وأما تصاعد العمل العسكري فيمثل
بالنسبة لشارون ذريعة أمام العالم وأمام قوى اليسار الإسرائيلي لاجتياح مناطق
السلطة الفلسطينية والقضاء على مؤسساتها، وهو هدف يسعى إليه شارون واليمين
الإسرائيلي المتطرف؛ لأن وجود مؤسسات السلطة بشكلها الحالي يعني استمرار
التواصل الدولي في الخارج ومع الفلسطينيين داخل فلسطين، وهو ما يعمل شارون
على إنهائه من أجل إعادة الأحوال إلى ما كانت عليه قبل عام 1993م، أو إقامة
سلطة وطنية محدودة تنحصر مهمتها في إدارة الشؤون الفلسطينية المدنية وبدون أن
تكون لها أي صلاحيات سياسية.
أما في حال استمرار الانتفاضة مع تزايد آثارها الضارة على إسرائيل وعدم
القدرة على إخمادها فإن ذلك سيعطي ذريعة لشارون ودافعاً للإسرائيليين أن
يخوضوا حرباً إقليمية ضد سوريا ولبنان وربما العراق بدعم من أمريكا؛ لأن
تحقيق نصر حاسم على الجبهة الشرقية في رأي القيادة الإسرائيلية الحالية يصبح
هو الأسلوب الوحيد لتهديد النظام العربي بمجمله وفرض شروط إسرائيل على
العرب وعلى الفلسطينيين لإيقاف الانتفاضة، وهذا أمر يستبعد حدوثه قبل سنتين أو
ثلاثة.
يتبين مما سبق أن استمرار الانتفاضة دون تطوير لمواقف السلطة الفلسطينية
من الانتفاضة، ومواقف القوى الوطنية والإسلامية المشاركة في الانتفاضة، ومن
دون تطوير الموقف العربي والإسلامي نحو وضع برنامج وخطط عمل مرحلية أو
استراتيجية فإن النتائج الإيجابية للانتفاضة ستتآكل وتتراجع.
المحور الثالث: الآفاق المستقبلية للأوضاع في فلسطين:
البيان: هل هناك خطة أو تصور للانطلاق من المرحلة الحالية بطبيعتها إلى
مرحلة جديدة بطبيعة جديدة في التعامل مع اليهود؟ وهل سيظل طرح حماس هو
(المقاومة) ، أم يمكن أن يتطور إلى (التحرير) ؟
الدكتور محمد صالح:
الانتقال من مرحلة المقاومة إلى مرحلة التحرير يحتاج إلى مقومات ذاتية
وظروف إقليمية وعالمية، وأهم المتطلبات على المستوى الذاتي للبدء في مرحلة
التحرير هو:
- أن تتحقق الوحدة الوطنية الراسخة أولاً حول ميثاق تجمع عليه الأمة
وتلتزم به قيادة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وهو ما حرصت عليه
وعملت من أجله حركة حماس منذ نشأتها.
- والأمر الثاني هو أن يكون هناك إجماع عربي وإسلامي على تقديم الدعم
اللوجستي للمقاومة، والإعداد والاستعداد لصد أي عدوان إسرائيلي على الأمة
العربية، وهو أمر يحتاج إلى بناء ثقافي وسياسي واقتصادي للأمة إلى جانب القوة
العسكرية.
- والأمر الثالث متعلق بالموقف الدولي ومدى تفهمه للمطالب الفلسطينية
وتخليه عن دعم موقف إسرائيل.
أمام هذا الواقع يتبين أن المرحلة ما زالت مرحلة مقاومة، وهذا لا يمنع من
رفع شعار التحرير سواء مرحلياً أو نهائياً؛ لأن ذلك يساهم في حشد العون والدعم
للمقاومة.
البيان: ما هي الاحتمالات أو السيناريوهات المتوقعة للأحداث في المنطقة،
وما هو التحرك المناسب لكل احتمال منها؟
أ. د. سيف عبد الفتاح:
السيناريوهات المتوقعة كثيرة بعضها سيئ، وبعضها أسوأ، وبعضها أفضل
بحكم تفضيلات معينة.. لكن أستطيع القول إن الانتفاضة أحدثت تطوراً نوعياً
وكيفياً وكمياً بحيث أصبحنا نبصر سنناً للعمل الانتفاضي وقواعد يستطيع من خلالها
المواطن الفلسطيني أن يقدم دوراً وشكلاً ونشاطاً وفاعلية رائدة في هذا المقام.
ومن ثم أنا لا أحب فكرة السيناريو؛ لأن هذه الفكرة مأخوذة من الجانب الفني
والتخيلي وربط الأمور بعضها ببعض بطريقة لا تصلح لتصور المستقبل.
وعموماً علينا دائماً أن نتصور الأمور ليس في إطار سيناريوهات ولكن في
إطارها السنني؛ أي أننا لو فعلنا كذا وكذا لوجدنا كذا وكذا؛ ومن ثم هناك احتمالان
لما يمكن أن تؤول إليه الأمور:
الأول: أن تستمر الانتفاضة وتتعاظم وتنضج، وأنا أظن أن هذا هو الطريق
إلى الحصول على بعض الحقوق.
الثاني: أن تحدث عملية التفافية حول الانتفاضة بل مؤامرة، ومن ثم تظل
هذه الانتفاضة موجودة، تخبو حين يجتمع عليها الأطراف في الداخل والخارج
بشكل من الأشكال في محاولة جديدة لوأدها، لكن يبقى أن هذه الانتفاضة لن
تموت.. ستسير.. ستنمو، وهذه طبيعة الصراع الذي يستمر أجيالاً.. يجب ألا
ننظر إلى الصراع على أنه معركة واحدة وتنتهي سواء بهزيمتنا أو بهزيمتهم.. لن
تنتهي هذه المعارك إلا بعد فناء طرف لحساب آخر؛ لأنه صراع وجود وما يحدث
اليوم هو مداولة بين الطرفين.
وأنا أحسب أن الانتفاضة تتحدث عن نفسها الآن باعتبارها الجولة الأكثر
فاعلية بالنسبة للعرب والمسلمين، نحن عرفنا الآن الطريق.. الطريق هو العقيدة
القتالية التي تحترق معها أمريكا قبل إسرائيل.
الدكتور محمد صالح:
في رأيي أنه في ظل العنجهية الإسرائيلية المستندة إلى التفوق في الإمكانات،
والاستناد إلى التأييد الأمريكي الاستراتيجي لها في مقابل ضعف فلسطيني وعربي،
إلى جانب تعدد القوى المؤثرة بشكل مباشر وغير مباشر على الانتفاضة بشكل
خاص وعلى مجمل مسار القضية الفلسطينية بشكل عام؛ فإن هذا كله يفتح المجال
أمام عدة سيناريوهات محتملة تنتهي إليها الانتفاضة، نشير إليها فيما يلي:
1 - استمرار الانتفاضة على هذه الوتيرة لعدة سنوات إذا استمر موقف
السلطة السياسي يراوح مكانه، واستمر الدعم العربي للشعب الفلسطيني بصيغته
الحالية، وبقيت (إسرائيل) عاجزة عن حسم الموقف سلمياً بالتنازل للفلسطينيين
أو حربياً باجتياح مناطق السلطة الفلسطينية نتيجة لظروف دولية وضغوط أمريكية
تمنع ذلك الاجتياح.
2 - تطوير الانتفاضة وتصاعدها في حال قيام وحدة وطنية إسلامية تقود
الانتفاضة لتصبح العنصر الأساسي في قيادة مسيرة الحرب والسلام مع (إسرائيل) ،
وإن إمكانية ظهور مثل تلك القيادة لا تحدث إلا في حال اجتياح الجيش الإسرائيلي
لمناطق السلطة وانهيار مؤسسات السلطة الفلسطينية دون أن تتمكن إسرائيل من عقد
صفقة مع التيار الفلسطيني المتصهين في السلطة تتولى فيه تلك الشرذمة قيادة
الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال؛ وطبيعي ألا يحدث هذا إلا بعد تصفية عرفات
أو غيابه عن الساحة الفلسطينية.
3 -أن تشن (إسرائيل) حرباً إقليمية تُخرِج سوريا من معادلة الصراع مع
(إسرائيل) ، وتحاصر حزب الله في لبنان، وتنتهي بإتمام تسوية إقليمية لا تترك
للفلسطينيين الخيار وتفرض عليهم الاستسلام، وهذا السيناريو يقتضي تقاطع الخطة
الإسرائيلية تجاه سوريا وحزب الله مع الخطة الأمريكية ضد العراق.
4 - استئناف المفاوضات سواء كان ذلك في ظل استمرار الانتفاضة ولكن
بشرط توقف المقاومة المسلحة أو بشرط توقف الانتفاضة، وتعهد السلطة بالتصدي
للمقاومة المسلحة.
ويتحدد السيناريو بحسب معطيات الموقف الأمريكي والإسرائيلي وموقف
عرفات بشكل رئيسي، ومدى صمود الشعب الفلسطيني وإمكانية وحدة القوى
الفلسطينية المشاركة في الانتفاضة إلى جانب مواقف الدول العربية من السيناريو
المطروح.
وحيث إن التوجه الأساسي للرئيس الأمريكي الجديد (بوش) في المنطقة هو
الحفاظ على التوازن الإقليمي في المنطقة وضمان أمن إسرائيل وتفوقها؛ ولذلك فإن
السيناريو المفضل أمريكياً هو استئناف المفاوضات بشروط إسرائيل وبالشكل الذي
يقلل من العداء لأمريكا في المنطقة.
وبناءً على ذلك يصبح السيناريو المحتمل هو محصلة الاستراتيجيات الآتية:
الاستراتيجية الإسرائيلية وتوجهات شارون، والاستراتيجية الفلسطينية في حال قيام
قيادة وطنية موحدة، وتوجهات عرفات، إلى جانب موقف النظام العربي والمجتمع
الدولي خلال هذه المرحلة التي تمتد لعامين أي حتى موعد الانتخابات الإسرائيلية
القادمة.
وفي ظل المعطيات القائمة تظهر أهمية امتلاك رؤية لهذه المرحلة ابتداءً،
وهي استمرار المقاومة من أجل تكريس الرفض الشامل للاحتلال الإسرائيلي،
وتوحيد الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وتفعيل الدعم العربي والإسلامي
للانتفاضة والمقاومة، وعزل إسرائيل عربياً ودولياً، وإرهاقها سياسياً واقتصادياً.
وانطلاقاً من مثل هذه الرؤية يصبح التحرك المناسب على المستوى الفلسطيني هو
الوحدة الوطنية، واستمرار الانتفاضة، وتهديف المقاومة المسلحة وتصعيدها بشكل
مدروس ما أمكن.
أما على المستوى العربي فهو الإعداد والاستعداد لمواجهة عدوان إسرائيلي
محتمل إلى جانب إعداد الشعوب وتوعيتها بمثل هذا الاحتمال.
ولا بد من العمل بقوة وفاعلية على المستوى الدولي من أجل لجم إسرائيل عن
تصعيد عدوانها على الشعب الفلسطيني وتحذيرها من العدوان على الدول العربية.
البيان: متى ينتقل العمل الإسلامي في فلسطين وغير فلسطين من دائرة رد
الفعل إلى دائرة الفعل؟
الشيخ: حسن يوسف:
عندما تتجه قدرات الإسلاميين إلى تنظيم وتطوير واقعهم وتنمية هذا التطوير
بشكل علمي راشد؛ بحيث يتجاوزون مرحلة الخطاب، والارتفاع إلى مستوى
العصر واحتياجاته بما هو منسجم مع عقيدتنا، وبلورة أهداف واضحة، ووضع
وسائل مناسبة لبلوغها، والسير نحو تحقيق الأهداف بثبات ولو كان ذلك بطيئاً،
وأن نحترم هذه الأهداف ونكون أرضاً لها، ثم أن يتميز أداؤنا بالجدية والالتزام.
الدكتور محمد صالح:
سيحدث الانتقال إن شاء الله حين يصلح حال الشعوب ثقافة ووعياً، ويصلح
حال الأنظمة تطوراً وتتخلص من هيمنة الغرب عليها، وتتحقق لشعوبها الحرية
السياسية والاقتصادية، وتكون هناك شفافية تحول دون الاستبداد والفساد.
أ. د. سيف عبد الفتاح:
الذي أراه أن الظاهرة الإسلامية الآن هي في طريقها لأن تكون أكثر نضوجاً،
وأكثر فاعلية، وأكثر رسوخاً على الأرض؛ بمعنى أنها تقدم اليوم أطروحات،
ليس فقط حركية وإنما أطروحات فكرية، وأنا أظن أن الأطروحات الفكرية في هذا
الوقت لها أهميتها؛ لأن حركة بلا فكر لا يمكنها الوصول إلى مقصدها النهائي،
وفكر من غير حركة لا يمكنه أن ينشط ويحيا طويلاً في هذا السياق؛ ومن ثم على
ما أعتقد أن الحركة الإسلامية الآن تمر بمرحلة أكثر نضجاً، ودليلي على ذلك ما
يحدث للانتفاضة. إن خطاب القوى الإسلامية في الانتفاضة أصبح أكثر نضجاً؛
والقوى الإسلامية أصبحت تتعامل مع القوى الوطنية والقوى الوطنية، أصبحت
تعترف بالقوى الإسلامية وبفاعليتها على الأرض بحيث أصبحنا في سفينة واحدة.
البيان: لكن أما ترى في التجارب السابقة أنه في أوقات الأزمات دائماً
تُستخدم القوى الإسلامية وقوداً وعنصر دفاع حتى إذا ما انتهت الأزمة يلقى
الإسلاميون المصير المكرور؛ فما هي الضمانة لجدوى الوثوق في القوى الوطنية
إلى هذا الحد؟
أ. د. سيف عبد الفتاح:
القوى الإسلامية لها فضل دائماً على أن تظهر في الفترات التي تَهِنُ فيها الأمة،
فتكون الصورة التي تحمل لواء المقاومة في وقت ساد فيه الوهن، لكن لا ينبغي
للقوى الإسلامية أن تدخل في نزاع جانبي الآن مع القوى الوطنية؛ لأن الإسلاميين
رواد أمة.. ومن هنا كان ابن تيمية حريصاً على وحدة الصف إلى جانب السلطان
في حال وجود العدو الخارجي، وأنا أعلم أن الحركة الإسلامية على أرض فلسطين
تعرف كيف تواجه عدوها الخارجي وهو عدو استئصالي.. استيطاني، ولهذا فلنا
الفخر أن يحمل هؤلاء لواء الجهاد والمقاومة حينما تضعف وتخبو الأمة، وهذه
سلطة ما بعدها سلطة، سلطة في التاريخ قبل أن تكون سلطة بالمفهوم السائد اليوم.
البيان: هل يمكن التحكم من قبل الأعداء في رد فعل الأمة الإسلامية، إذا ما
تعرضت المقدسات في فلسطين لاعتداء تخريبي مباشر؟
الأستاذ الدكتور عبد الستار سعيد:
حين يكون الكلام عن المسجد الأقصى فحينئذ يستفز الناس ويستنفرون من كل
مكان في غضبة لا يستطيع أحد أن يقف أمامها، ومع ذلك حتى لا نخادع أنفسنا فإن
اليهود يستطيعون مع الأسف الشديد أن يفعلوا أشياء كثيرة في المسجد الأقصى ولا
يمنعهم من ذلك إلا أنهم يحسبون ألف حساب للرد الفعلي الفوري للأمة الإسلامية،
وهذا ما ينبغي أن تعلمه كافة الدوائر على المستوى الدولي وعلى المستوى الغربي
والعربي رسمياً وشعبياً؛ وهو أن المسألة إذا مست الأوتار الدينية فلا يستطيع أحد
أن يتنبأ على الإطلاق بما سيكون عليه الناس تلقائياً، بل قد يهدد هذا الدول التي
ستمنع رعاياها من مناصرة الفلسطينيين. ثم ينبغي أن يكون مفهوماً أيضاً للجميع
مسبقاً أن الأمة لن تستكين أبداً إذا ووجهت بخطر ديني.. قد تستدرج للَّهو واللعب؛
أما إذا هددت في دينها فالانتفاضة هي النموذج الحي، والحسابات الغربية لردود
الأفعال ثبت خطؤها مراراً؛ لأن العقول القابعة خلف أجهزة التكييف والحواسب
الإلكترونية لا يمكنها أن تحسب أثر العواطف الدينية.. سيظل الناس يقاتلون ولو
لألف سنة من أجل المسجد الأقصى، وهذه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم ماثلة
أمامنا: «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال؛ لا يبطله
جور جائر، ولا عدل عادل» [1] ، والبشارات على أن العالم الإسلامي سيؤوب
إلى الله كثيرة؛ ولعل إرهاصات ذلك قد بدت، وجيل صلاح الدين غالباً سيتكرر
بإذن الله.
__________
(1) أخرجه أبو داود، رقم 2170.(168/28)
تأملات دعوية
الحدث الساخن
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
الموضوع الذي يستحوذ على مجالس الناس هذه الأيام [1] هو الحدث الذي هز
العالم بأسره، وهو الهجوم على الأهداف الأمريكية في نيويورك وواشنطن.
ورغم عدم وجود أدلة حول اتهام الإسلاميين [2] بالمسؤولية عن هذه الأحداث
إلا أن سيطرة اللغة الإعلامية التي تعدهم المسؤول الأول عنها ترك أثره في
النقاشات وربما المواقف العملية مما يفرض علينا التعامل مع هذه الأثار رغم عدم
تسليمنا بمسؤوليتهم.
وبعيداً عن الموقف من الحدث وتداعياته نشير إلى بعض الوقفات الدعوية
المهمة، ومنها:
* سيطرت لغة حادة ومتطرفة على حديث طائفة ممن تناولوا الحدث ما بين
مرحِّب ومستبشر بهذا النصر للمسلمين، وما بين باك على الضحايا الأبرياء،
ومندد بوحشية المنفذين الذين هم كما قالت وسائل الإعلام الغربية التي لا تحيد عن
الحق قيد أنملة إسلاميون. أفلا يوجد خطاب أكثر اعتدالاً يبين الموقف الشرعي من
العمل، وفي الوقت نفسه يشير إلى الظلم الذي يرتكبه الغرب بحق المسلمين، وأن
ما حصل جزء من عقوبة الله لهم، وتقريرنا لخطأ الفعل لا ينفي كونه عقوبة
وانتقاماً إلهياً.
* بغضِّ النظر عن الموقف من الحدث؛ لماذا يتعاطف العالم كله مع ضحايا
هذا الحدث، ويتعامل بعفوية مع الإرهاب المنظم الذي يحصد عشرات الآلاف،
ويحاصر الشعوب لأجل الاختلاف مع زعامتها؟ وكيف يسوغ للأمة المسلمة أن
تسير في التيار نفسه متجاهلة مظالمها؟ إن الظلم مرفوض حتى تجاه الكفار، لكن
من العدل أن يعدل في التعامل مع الظالمين.
* هذه القضايا تترك آثارها على الأمة أجمع، ولا تقتصر على قُطْر بعينه؛
ومن ثم فالاجتهاد في تقريرها لا يسوغ أن يترك لفرد أو فئة محدودة، فضلاً عمن
لا يملك التأهيل العلمي الشرعي لمثل ذلك، وحري بعلماء الأمة أن يتداعوا إلى
رابطة تجمعهم ليجتهدوا من خلالها في قضايا الأمة.
* ما زال بعضنا يخلط بين التعاطف مع مسلم مظلوم مضطهد، وبين تسويغ
أعماله، ويخلط بين تفسير الحدث وبين تصويب من يرتكبه، وهو يعكس مشكلة
في التفكير لدينا.
* هذا الحدث هزَّ الشارع الأمريكي؛ والشارعُ الأمريكي له أثره على سياسة
أمريكا؛ فأين الإسلاميون من توجيه خطاب مكثف للرجل الأمريكي عبر وسائل
إعلامه هو يوقفه على الأسباب الحقيقية وراء كره العالم لدولته، ويدفعه إلى
ممارسة حقه في كفِّ قادته عن الجبروت والتسلط؟
* تناول بعض الخطباء الحدث مذكِّرين ببطش الله بالظالمين وعقابه لهم،
مستشهدين بالقرآن الكريم ونصوصه؛ فما أحوج الأمة إلى أن تُربط بكتاب ربها،
وأن تُستثمر الأحداث في تربيتها!
* ثمة طوائف من الشباب المسلم المتحمس للخير الغيور على دينه ينقصه
الفقه في الدين، وتعوزه النظرة الشرعية للمصالح والمفاسد؛ فحري بالدعاة وأهل
العلم الذين كتب لهم القبول أن يعنوا بتوجيه هؤلاء، والأخذ بأيديهم حتى لا ينجرفوا
وراء أعمال وتصرفات تفسد أكثر مما تصلح، وتقود المجتمعات إلى نفق مظلم من
الفتن والصراعات، والأمر يحتاج إلى رفق بهم، وتحمل لهم، وحسن خطاب،
وإيجاد بدائل عملية تفتح لهم الميدان للعمل الدعوي المنتج. ولا يظن المصلحون أن
اللهجة الساخنة ستصلح هؤلاء بل هي تزيد النار اشتعالاً.
* لقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس
أن محمداً يقتل أصحابه، وأذِن لأهل الحبشة أن يلعبوا في المسجد وعلَّل ذلك بقوله:
«لتعلم يهود أنَّ في ديننا فسحة» [3] . إن هذه النصوص وغيرها تعني أن إبراز
الإسلام أمام الآخرين بصورة حسنة تدعوهم لاعتناقه، إن هذا مقصد شرعي، وهو
أمر ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار حين تقرير الموقف من هذه الأحداث والتعليق عليها.
* يتحدث الإسلاميون عن الآثار المحتملة للحدث على بلدانهم في حال كون
الفاعل من الإسلاميين ومن الأوْلى أن نتجاوز مرحلة التحليل والتنبؤ إلى المبادرة
والتفكير بجدية في التأثير على القرار من خلال وسائل متنوعة، والسعي لخروج
مجتمعات المسلمين بأقل خسائر.
* يسيطر على كثير من الغيورين والخيرين الخوف من أن تؤثر هذه الأحداث
على مستقبل الإسلام؛ ومع تقديرنا لهذه المشاعر فلا بد من تقرير أن الدين لله،
وأنه متم نوره كما قال عز وجل: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 33) .
__________
(1) كتبت هذه المقالة أول يوم من رجب.
(2) مهما قدم الغرب من أدلة وقرائن فلا اعتماد عليهم في اتهام المسلمين اتهاماً غير مسوَّغ؛ فهم لا يُصَدَّقون ابتداءً إضافة إلى أنهم الخصم والحكم.
(3) رواه أحمد، رقم (24334) ، (6/116) .(168/37)
الإسلام لعصرنا
لا تحسبوه شراً لكم!
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
ظلت وسائل الإعلام الأمريكي منذ سنين تربط الإسلام في أذهان الأمريكيين
بالإرهاب، وقد نجحت إلى حد كبير في جعل الصورة النمطية للمسلم هي صورة
الرجل الإرهابي الذي لا همَّ له إلا قتل الأبرياء من الغربيين وتحطيم حضارتهم.
ثم جاءت حوادث يوم الثلاثاء 11/9/2001م لتؤكد هذه الصورة، وليستغلها أعداء
الإسلام في داخل أمريكا وخارجها أسوأ استغلال، وليردد الجاهلون والسفهاء منهم
ما يقوله أئمة الضلال أولئك. وبدأ المسلمون يشعرون بالخوف الشديد حتى إن
بعض المساجد ألغت صلاة الجمعة خوفاً على أرواح المسلمين. ثم بدأ الشعور
بالعداء للمسلمين يتحول إلى صورة عملية من سبٍّ وشتمٍ وتهديدٍ وضربٍ بل وقتلٍ
وتخريب. لكنني وكثيرين غيري ممن خطبوا الجمعة التي تلت الحوادث حاولنا أن
نذكِّر إخواننا الذين شهدوا الصلاة وكانوا أقل من العدد المعهود وأن ننصحهم بالدعاء
واللجأ إلى الله تعالى. وكان مما قلت كلاماً فحواه أن الله تعالى قد يجعل من
المصائب أبواباً يأتي منها خير كثير، وذكرتهم بقول الله تعالى لرسوله والمسلمين
بعد حادثة الإفك: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] (النور: 11) ،
وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «عَجِبْتُ لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ
أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ
فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ» [1] .
وقلت لهم كما قلت لغيرهم قبل الخطبة وبعدها: إنني أرى في هذه المصيبة
فرصة كبيرة للدعوة إلى الله، وتصحيح الصورة المشوهة للإسلام في أذهان
الأمريكان. وتذكرت أنواع كيد كثيرة فتح الله بها أبواب النصر لدينه. تذكرت
وقوف الكفرة على مداخل المسجد الحرام يحذِّرون الناس من الاستماع للرسول صلى
الله عليه وسلم، فإذا الدعاية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم تتحول إلى دعاية له
ما كان المسلمون المستضعفون ليقدروا على مثلها. ثم قلت كلاماً فحواه أنني كما
نصحت المسلمين نصيحة خاصة فأريد أن أنصح الشعب الأمريكي ولا سيما قادته
نصيحة عامة. قلت لهم: إنني أريد لكم أن تعرفوا الحقائق، وأن تبحثوا بحثاً
موضوعياً في ما يأخذه الناس عليكم؛ فإن أعداداً هائلة من المسلمين، وإن اختلفت
مع الذين قاموا بالتفجيرات في وسائلهم إلا أنهم يشاركونهم (إن صح أنهم مسلمون)
في مآخذهم عليكم. وقلت: إنكم تفاخرون كثيراً بنظامكم الديمقراطي وبما عندكم من
حرية والتزام بالقانون. لكن ينبغي أن تتذكروا أن هذا ليس هو الذي يراه الناس
فيكم باعتباركم قوة عالمية. بل إنكم بهذا الاعتبار تتصرفون تصرف الحكام
الدكتاتوريين المحليين. فأنتم في الداخل ديمقراطيون، وعلى الصعيد العالمي
دكتاتوريون يرى الناس فيكم كثيراً من خصال الدكتاتوريات المحلية؛ ففيكم كما فيهم
الصلف والغرور، فأنتم لا تكفُّون عن الفخر بأنكم أقوى دولة، وأن التاريخ البشري
لم ير مثلكم. لكن القرآن يذكرنا بأن أمماً قبلكم كانت هي الأخرى أقوى من غيرها
في زمانها، وأنهم قالوا كما تقولون اليوم: [مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] (فصلت: 15)
فجاءهم الرد الإلهي: [أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً]
(فصلت: 15) . وفيكم كما في الحكومات الدكتاتورية الظن بأنه بمثل هذه القوة
وبالعنف تحل كل المشكلات، وفيكم كما فيهم الاعتقاد بأن قوتكم تجعلكم فوق القانون،
مع أن الواجب عليكم باعتباركم قوة عالمية أن تكونوا مثالاً يحتذى في الالتزام
بالقانون الدولي. وذكَّرتهم بأن العدل ليس كله أرضياً، بل هنالك عدل سماوي،
وأنه إذا كان بعض الشعوب كأفغانستان لا تستطيع أن تقابل قوتكم المادية بقوة مثلها؛
فإنهم سيرفعون أيديهم إلى السماء مستجيرين بمن هو أشد منكم قوة.
ثم تتالت الأحداث وما تزال تتالى. زادت الاعتداءات على الأفراد من الرجال
والنساء والأطفال، وعلى الجماعات والمنظمات والمراكز والمساجد حتى اضطر
الناس لأن يغيروا مظهرهم الإسلامي، بل اضطرت بعض النساء إلى خلع الحجاب،
وتوقف كثير من طلاب المدارس والجامعات عن الدراسة. ولكن صاحَبَ هذا كله
اهتمام بالإسلام لم تشهد له أمريكا مثيلاً في تاريخها. توزعت وسائل الإعلام
كبيرها وصغيرها على مساجد أمريكا كلها تقريباً لتستمع إلى ما يقوله الخطباء،
(وقد علمت أن قناة CNN نشرت بعض ما ذكرت في خطبتي) . ثم استمر الحديث
عن الإسلام والاتصال بالمسلمين والتحذير من الاعتداء عليهم. لكن الأهم من ذلك
كله هو إثارة الرغبة في نفوس الأمريكان لمعرفة المزيد عن الإسلام. فما زال
الدعاة يدعون للحديث عن الإسلام في الكنائس والمدارس والجامعات، وما زالت
المراكز توزع ما عندها من مواد دعوية حتى نفد ما عند بعضها فهرعت تطلب
المزيد. حكى لي بعض الأصدقاء أن بعض المستمعين في إحدى الكنائس قالوا له:
إننا لا نعرف شيئاً عن دينكم، ونقترح عليكم أن تقفوا في الشوارع توزعون مواد
تعرِّف به. وحكى الكثيرون من المسلمين أنه لأول مرة في تاريخهم يتصل بهم
جيرانهم ليعبِّروا لهم عن أسفهم لما حصل للمسلمين، وعن إنكارهم الشديد له. إن
المعروف أن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً بين الناس في هذه البلاد؛ فما يمر
يوم إلا ويدخل فيه عدد منهم، يقدِّره بعضهم بأكثر من خمسين شخصاً، بل ذكر لنا
أحد إخواننا الأمريكان ممن حباهم الله تعالى بنعمة اتخاذهم وسيلة لهداية الناس إلى
دينه، أنه قد أسلم على يديه في هذه الأيام العصيبة أكثر من عشرين شخصاً.
لو كان للمسلمين قيادة واحدة، ولو كان أمرهم شورى بينهم، لما قدم أحد منهم
على عمل يعرقل سير هذا الخير؛ إذ المعروف أن الدعوة مقدمة على القتال؛ لأن
القتال إنما يشرع حين يكون وسيلة لازمة لها. أما حين تتيسر بدونه، فإن عاقلاً
عالماً بدينه لا يلجأ إليه، فكيف إذا كان معرقلاً لها؟
ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في
الحديث المتفق عليه وهو يعطيه راية الجهاد: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ
بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ
لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» [2] .
لكننا نرجع فنقول لإخواننا الدعاة بأمريكا: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَّكُمْ] (النور: 11) ، نقولها تفاؤلاً ورجاءً لا تحقيقاً؛ فالعلم بالعواقب عند علام
الغيوب.
وهذا يقودني إلى موضوع تحدثت عنه في مناسبات كثيرة خاصة وعامة،
وكنت أنوي جعله موضوع مقالي لمجلة البيان هذا الشهر. وها قد شاء الله تعالى أن
يجعل هذه الحوادث أحسن مناسبة لذلك الحديث. كنت أريد أن أوجه للمحسنين من
المسلمين رجاءً ملحاً أن يبذلوا أموالهم بسخاء لتوفير الآلاف المؤلفة، إن لم تكن
الملايين من ترجمة كتاب الله الكريم إلى اللغة الإنجليزية. والسبب في ذلك أننا
وجدنا بالتجربة، ووجد بعض إخواننا بالدراسة العلمية أن أكثر ما يُدخِل الناس في
دين الله هو قراءتهم لترجمة هذا الكتاب العزيز. ولو رحت أحدثكم عمَّا سمعت أنا
وحدي عن مشاعر الرضى والطمأنينة واليقين لبعض من هداهم الله تعالى بالاطلاع
على ترجمة تنزيل رب العالمين لطال الحديث. لكنني سأكتفي ببعض ذلك عسى أن
تكون فيه لنا ذكرى، وزيادة إيمان ويقين.
فهذا شاب هو الآن في صحبتنا يحدثنا أنه قرأ كتاباً لمؤلف غير مسلم عن
الأديان في العالم، وكان مما كتبه عن الإسلام ترجمة لسورة الفاتحة. يقول الشاب
إنني كثيراً ما كنت أتأثر تأثراً فكرياً ببعض ما أقرأ، لكنني حين قرأت ترجمة هذه
السورة شعرت بالتأثير في قلبي. ذهب الشاب يبحث عن المسلمين، فأسلم ثم انتقل
من بلده إلى واشنطن ليلتحق بمعهد العلوم العربية والإسلامية ليدرس اللغة العربية،
وليتعلم دينه. ومن قبله فتاة قالت: إنها لأبوين لا اهتمام لهما بالدين، لكنها عثرت
في بيتها على كتاب ديني قديم أثار اهتمامها فبدأت تبحث عن الأديان، فكان مما
قرأته شيئاً عن الإسلام. قالت وهي تسكن في مدينة نائية أشبه بالقرية إنها صحبت
بعض زميلاتها في الذهاب إلى سوق خارج القرية، لم تصحبهن إلا لتبحث عن
ترجمة للقرآن الكريم. عثرت على طلبتها، ثم بدأت تقرأ. تقول الفتاة إنها لم
تتجاوز الآية الثانية من سورة البقرة [ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ]
(البقرة: 2) حتى وضعت المصحف المترجم، وشهدت بأن لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله. ثم ذهبت تسأل عن المسلمين. ثم جاءت لواشنطن لإكمال
دراستها بجامعة جورج واشنطن وهي محجبة حجاباً كاملاً. ومن قبلها شاب لأبوين
كاثوليكيين كان يدرس الثانوية بمدرسة كاثوليكية، وكان مع ذلك يشهد دروساً دينية
خاصة. لكن عقله لم يقبل أبداً القول بأن لله ولداً؛ لذلك قرر أن يبحث عن دين
آخر. فكَّر في اليهودية لكنه لم يقتنع بها. ثم دخل الجامعة، وكان مما درسه مقرر
في التاريخ شمل الشرق الأوسط، وكان من ضمن ما ذكر لهم المحاضر من
المراجع القرآن الكريم. يقول إنه لم يكن قبل ذلك يظن أن هنالك ديناً يزعم أنه
سماوي إلا اليهودية والنصرانية! ولم يكن يعرف شيئاً عن الإسلام ألبتة؛ لكنه
حينما بدأ يقرأ في الترجمة اهتدى.
إن هذا الكتاب هو حقاً كلام الله تعالى، يميل كل قلب مهتدٍ إلى ما يناسب
حاله منه. فما علينا نحن إلا أن نوفره لهم ليتناولوا منه ما يشتهون فيهتدون. لقد
وجدنا بالتجربة مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على
الفطرة» [3] ، فما من أمة إلا وفيها من لا يزال قلبه ينبض بهذه الفطرة؛ ولولا ذلك
لما تحركت قلوبهم عند استقبالها للحق. إن نور الفطرة الداخلي هو الذي يستجيب
لنور الوحي الخارجي [نُّورٌ عَلَى نُورٍ] (النور: 35) .
فالذي أقترحه:
* طباعة الترجمة مجردة عن الأصل القرآني؛ وذلك لسببين أولهما: أن
المدعوين لا يقرؤون العربية. ثم إننا لا ندري ماذا سيفعلون به إذا ما وزعناه على
نطاق واسع؛ فقد يرميه بعضهم في أماكن غير مناسبة، وقد يقرؤه بعضهم في دورة
المياه كما هي عادتهم.
* أن تكون الغالبية العظمى منها طبعات شعبية ذات غلاف ورقي؛ لكي تقل
تكلفتها ويسهل حملها وتوزيعها.
* أن توزع بكميات كبيرة على كل المساجد والمراكز بالولايات المتحدة، بل
وعلى أكبر عدد من الأفراد المعروفين باهتمامهم بالدعوة.
كل هذا عمل يمكن أن يقوم به أفراد من المحسنين من غير تنسيق بينهم. لكن
الوضع الأمثل أن تكون لهذا الغرض مؤسسة حبذا لو كانت بالولايات المتحدة نفسها
تتولى هي طبع هذه المصاحف بأحجام وجَوْدات مختلفة، كما تتولى هي توزيعها
على سائر المؤسسات الإسلامية وغير الإسلامية. وحبذا لو استطاعت المؤسسة أن
توفر عدداً من المؤهلين للإجابة عن أسئلة من يطلعون على الترجمة ويرغبون في
مزيد تفسير وتوضيح.
لكن هذه ليست دعوة لأن تحل هذه المؤسسة محل مجمع الملك فهد لطباعة
القرآن، وإنما هي إضافة وتعضيد لها حتى لا يفوت عامة الناس فضل المشاركة
في هذا العمل العظيم الذي تقوم به الحكومة السعودية جزاها الله كل خير. إن
المجمع مهتم أساساً بطباعة المصحف الشريف نفسه، وهو عمل عظيم قد سدَّ وما
يزال يسدُّ حاجة ماسة في البلاد الإسلامية ولا سيما الفقيرة منها. ثم هو مهتم
بترجمة الكتاب العزيز إلى كل اللغات. أما الذي ندعو إليه فمؤسسة مختصة
بالترجمة الإنجليزية.
أيها الإخوة المحسنون! إن هذا والله لعمل مبارك، وإن الثواب عليه والله
لعظيم. كيف لا وقد تكون كل نسخة من ترجمة تنفق عليها سبباً في هداية إنسان
إلى الإسلام. ووالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، كما
أخبرنا الصادق المصدوق. وإذا كان خيراً لك من حمر النعم فهو خير لك من كل ما
تملك من مال إلا مالاً تنفقه في سبيل الله. فالبدار البدار ما دامت أبواب الدعوة إلى
الإسلام قد فتحت الآن على مصاريعها. والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.
__________
(1) مسند أحمد، 23412.
(2) أخرجه البخاري، رقم 3701، مسلم، رقم 2406.
(3) أخرجه البخاري، رقم 1385، ومسلم، رقم 2658.(168/39)
المسلمون والعالم
بعد الزلزال الأمريكي
الهيمنة الأمريكية في مفترق طرق
حسن الرشيدي
«إنها واحدة من تلك اللحظات التي ينقسم فيها التاريخ ومعها العالم إلى ما قبل
وما بعد. مركز التجارة العالمي أبرز وأضخم معالم عاصمة العالم الرأسمالي يتهاوى
تحت هجوم الطائرات الانتحارية ليتحول إلى ركام من الزجاج والحديد، وها هو
البنتاجون رمز الأمن الأميركي يتعرض هو الآخر لهجوم انتحاري وينهار الجزء
الذي يؤوي قيادة الجيش الأميركي. حتى طائرة الرئيس، (آرفورس) كانت لفترة
طويلة تبدو كما لو أنها تتنقل وسط البلاد (بعيداً عن العاصمة) ، بحثاً عن الأمن» .
بهذه الكلمات تعبِّر أشهر صحيفة أمريكية (النيويورك تايمز) عن خيبة الأمل
الأمريكية في أعقاب أحداث الثلاثاء الدامي في الولايات المتحدة.
لقد جاءت هذه الأحداث في غير السياق المرسوم للتفوق الأمريكي، هذا النجم
الذي ظن أصحابه أنه سيبقى ببقاء الحياة؛ فقبل شهر من هذه الأحداث ذكر تقرير
لوزارة الخارجية البريطانية أن من شبه الأكيد أن الولايات المتحدة ستظل حتى عام
2030م القوة العسكرية والاقتصادية العظمى الوحيدة في العالم؛ حتى جاءت هذه
الضربة.
ولكن هل ما حدث يأذن بتغيير موازين القوى العالمية، واهتزاز للهيمنة
الأمريكية على العالم؟
إن أي إطار تحليلي يحاول استجلاء تلك التطورات لا بد فيه من الإحاطة
بثلاث ظواهر:
الأولى: تتبع تاريخي لصعود الولايات المتحدة في العصر الحديث حتى
وصولها لهذه المكانة.
الثانية: أبرز خصائص التفوق الأمريكي، وأدوات هيمنتها على العالم.
الثالثة: دلالة الضربة التي تلقتها الولايات المتحدة.
ودراسة تلك العوامل تمكننا من تقدير أثر الضربة على الهيمنة الأمريكية؛
ومن ثم توقُّع حجم التغيُّر في هيكلة النظام العالمي وموازين القوى فيه.
تشكل النظام العالمي مع مطلع القرن العشرين:
حَفَل القرن العشرون بعدد من التغيرات الهائلة المدوية؛ ففي نصفه الأول
اندلعت حربان عالميتان، وانفجرت ثورتان كبيرتان في روسيا والصين، وانهارت
خمس إمبراطوريات هي «العثمانية والألمانية والإيطالية واليابانية والنمساوية
المجرية» ، وحدث تراجع هائل لقوتين من أهم القوى الاستعمارية العالمية ألا
وهما الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي. والخلاصة أنه طرأ تغير
جوهري على طبيعة النظام الدولي. ولو ألقينا نظرة على القرون السابقة
لوجدنا أن النظام الدولي اتسم دائماً بتعدد القطبية وتوازن القوى، حيث لم يكن
يسمح لدولة بمفردها أن تحقق تفوقاً أو سيطرة، لا يستطيع تحالف الدول الأخرى
التصدي لها بدرجة أكبر من القوة والجبروت. ونجح هذا النظام آنذاك في الحيلولة
دون ظهور قوة مهيمنة واحدة، لكنه مني بالإخفاق في نهاية المطاف؛ مما أدى إلى
نشوب الحرب العالمية الأولى التي أعقبتها فترة من الفوضى، ظهرت بعدها الفاشية،
واندلعت الحرب العالمية الثانية. ثم انكشف غبار هذه الحرب عن تبلور نظام
دولي ثنائي القطبية.
لقد كان هناك سببان رئيسان وراء التحول نحو القطبية الثنائية:
أولهما: التراجع الهائل في قوة العديد من الأطراف التي كانت تشكل الثقل
الأساسي خلال حقبة توازن القوى أي حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى بعد أن
انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وانحسرت قوة بريطانيا وفرنسا.
السبب الثاني: أن هذه التطورات رافقها تغير مهم، تمثل في انتقال القوة
النسبية إلى أيدي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق، وزيادة
تدخلهما في الشؤون العالمية. وكانت هذه التغيرات نتاجاً لمجموعة معقدة من
العوامل التي أفرزت نظاماً عالمياً جديداً ثنائي القطبية. وكانت السمة الرئيسة لهذا
النظام هي أن قطبيه الجديدين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يمثلان نظامين
مختلفين، لكل منهما قيم وأنماط معيشية مختلفة؛ ومن ثم أفرز هذا النظام عدداً من
القضايا التي تختلف إلى حد كبير عن قضايا عصر توازن القوى المتعدد القطبية
(أي ما قبل الحرب العالمية الأولى) . وأدت الأيديولوجيا الماركسية الثورية،
والإحساس بالدور التاريخي إلى تحفيز موسكو لكي تتبوأ مكانها في النظام الجديد.
وبعد فترة من الغموض والتردد قررت الولايات المتحدة أن تأخذ على عاتقها
مهمة احتواء المد السوفييتي؛ ومن ثم اندلع هذا الصراع الذي عرف باسم الحرب
الباردة، وترافق ذلك مع تطوير أسلحة الدمار الشامل.
وهكذا هيمنت أجواء الحرب الباردة على السياسة الخارجية الأمريكية
واستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وألقت بظلالها على القرارات الدفاعية
الرئيسية، بما فيها مشتريات أنظمة الأسلحة وحجم القوات والوجود العسكري في
الخارج والتحالفات. وبسبب القطبية الثنائية التي تميزت بها حقبة الحرب الباردة
أصبح على الولايات المتحدة أن تهيئ نفسها لاحتواء المد السوفييتي على النطاق
العالمي؛ مما كان له أكبر الأثر على تعاملات الولايات المتحدة مع مختلف المناطق.
ولكن الحرب الباردة انتهت نهاية مدوية، حينما حدث الانهيار المفاجئ
للاتحاد السوفييتي بوصفه إمبراطورية ودولة؛ ونتيجة لذلك تحول التوازن النسبي
للقوى السياسية والعسكرية ليصبح في صالح الولايات المتحدة الأمريكية. ومن
المعروف أن الولايات المتحدة خلال ما يزيد على أربعة عقود من الحرب الباردة
حققت منزلة سياسية عظيمة وقدرات عسكرية هائلة، فلم يعد أمامها أي منافس
دولي أو أي تحالفات معادية ذات شأن. بل إن معظم الدول التي تمتلك قدرات
اقتصادية متميزة، وتتمتع بارتفاع متوسط في دخل الفرد والناتج المحلي الإجمالي،
مثل ألمانيا واليابان، هي دول حليفة للولايات المتحدة. ويمكن القول بالفعل إن
الولايات المتحدة وحلفاءها قد أقاموا منطقة يعدُّ فيها نشوب الحرب فيما بينهم أمراً
غير وارد إطلاقاً. وإن ظلت الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم،
وبذلك أصبحت هي القوة العظمى الوحيدة.
ولكن في داخل الولايات المتحدة نفسها كانت هناك تيارات فكرية تتنازع في
محيط صناعة القرار السياسي الأمريكي:
التيار الأول تيار انعزالي: وهو يدعو إلى التخلي عن السيطرة والتفوق
والانطواء على الذات، وهذا التيار كان هو المسيطر على الفكر السياسي الأمريكي
طيلة القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين، وهذه الانعزالية وفي نظر
هذا التيار تسهم في تخفيض الإنفاق الدفاعي في مواجهة عجز الميزانية؛ مما يحسن
القدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتحدة، وكذلك يقلل من احتمالات مقتل عدد
متزايد من الجنود الأمريكيين؛ غير أن هذا التوجه الانعزالي في نظر مركز أبحاث
راند الأمريكي «يزيد على المدى الطويل من خطر نشوب الصراعات الكبرى؛
مما يتطلب قيام الولايات المتحدة بمجهود دفاعي أكبر، كما أنه في النهاية
يقوّض الازدهار الأمريكي بتقليص الفرص التجارية الناتجة عن الهيمنة» .
أما التيار الثاني: فهو يدعو إلى العودة إلى تعدد القطبية وتوازن القوى
للحيلولة دون ظهور قوة مهيمنة جديدة. والقوى المحتملة في المنظور الأمريكي هي
الصين واليابان وأوروبا وروسيا، وقد تتغير هذه القوى في المستقبل. وقد ثبت
أنه من المستحيل اتباع هذا النهج التوازني حتى بالنسبة للدول ذات الثقافات
المتشابهة خلال القرن التاسع عشر؛ فالمرجح أن تزداد حدة الخلافات بين الدول
الآن في ظل توجهات القوى الكبرى، واختلاف ثقافاتها؛ مما يجعل هذه القوى
بعيدة عن المرونة الكافية التي يتطلبها نظام توازن القوى هذا.
والتيار الأخير: السائد في الفكر السياسي الأمريكي هو الزعامة العالمية أو
الهيمنة الشاملة، وهي تقتضي منع ظهور منافس عالمي آخر يكون معادياً لها،
وتحول في الوقت نفسه دون العودة إلى تعدد القطبية. وأصبح هذا هو الاختيار
الأول بالنسبة للساسة في أمريكا خاصة منذ عهد ريجان في أوائل الثمانينيات من
القرن الماضي.
أدوات الهيمنة الأمريكية:
هذا الهدف الأسمى لدى الطبقة السياسية في أمريكا، وهو فرض الهيمنة
الأمريكية على العالم كان لا بد له من استراتيجية لتطبيقه، ويمكن تلخيص تلك
الاستراتيجية بكلمة واحدة أطلقت عليها ظاهرة العولمة؛ هذه العولمة لها عدة أذرع
وأوجه، ومنها:
عولمة اقتصادية: وغرضها السيطرة على رأس المال، وربط الاقتصاد
العالمي بالاقتصاد الأمريكي عن طريق آليات ومنظمات مثل الشركات المتعددة
الجنسيات، ومنظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد، واتفاقية
الجات، وغيرها.
عولمة سياسية: وهدفها النهائي تذويب الحدود بين الدول، والإلغاء التدريجي
لسلطان الحكومات على شعوبها بطرق كثيرة؛ أهمها تشجيع الأقليات العرقية
والدينية على التمرد، وإرسال الوفود والبعثات لتقصي الحقائق، وتقسيم العالم إلى
مناطق جيوبوليتيكية، ورسم إطار استراتيجي لهذه المناطق تراعى فيه المصالح
الحيوية لأمريكا، وتبقى هذه المناطق تدور دائماً في الفلك الأمريكي.
وكذلك اعتمادها بشكل أساسي على أداتين رئيسيتين لتحقيق السيطرة على
العالم، ويتلخصان في فرض العقوبات الاقتصادية على دول مختلفة من ناحية،
والتدخل العسكري المباشر في مناطق متفرقة من العالم من ناحية أخرى.
عولمة تكنولوجية: فأمريكا لديها الطاقة التكنولوجية الهائلة القادرة على إنتاج
مستويات أعلى وأرقى من المنتجات على مستوى العالم كله، وفي مجالات قائدة
مثل الاتصالات، والهندسة الوراثية، والفضاء، والطب، والدواء تزيد بكثير على
كل ما ينتجه منها العالم أجمع، مع قدرة غير مسبوقة على نشر هذه المخترعات
لكي تكون مكوناً رئيسياً لسوق الإنتاج والاستهلاك العالمي، وحتى نقرب الصورة
إلى الأذهان، فإن اختراعاً أمريكياً وحيداً مثل الكمبيوتر أصبح الآن جزءاً من
العمليات الإنتاجية والاستهلاكية الدولية حتى في البلدان التي تقوم بإنتاج الكمبيوتر،
والتي أصبح عليها أن تجعله متوافقاً مع المنتج الأمريكي لشركةIBM وشركة
مايكروسوفت حتى يمكن تسويقه على مستوى العالم.
عولمة قانونية: وغايتها وضع تعريفات قانونية لأوضاع سياسية يتم على
أساسها تصنيف الشعوب والدول والحركات؛ فمصطلح الإرهاب مثلاً لا ينطبق إلا
على كل ما تعده أمريكا مناوئاً لها ولسياساتها، وكذلك محكمة جرائم الحرب بلاهاي
تطبق عن طريقها التعريفات الأمريكية الانتقائية، فيتم محاكمة رئيس الصرب
السابق ميلوسوفيتش بتهمة ارتكاب مذابح ولا يحاكم شارون بالرغم من أن الاثنين قد
ارتكبا مجازر بشعة، وخاصة ضد المسلمين، ولكن لأن الأول وقف عقبة كأداء في
وجه الهيمنة الأمريكية.
عولمة ثقافية وإعلامية: عن طريق فرض النموذج الغربي، وخاصة الأمريكي
في التفكير وطرائق الحياة على شعوب العالم. ومن الملاحظ أنه توجد
جملة مدارس متضاربة في الداخل الأميركي خاصة وفي الغرب عموماً تحاول
تفسير الصراع بين الإسلام وما يسمى بالحضارة الغربية:
* هناك مدرسة صدام الحضارات التي يرّوج لها كما هو معروف المفكر
الأميركي (صموئيل هنتنجتون) ، والتي لا ترى في الإرهاب الإسلامي المزعوم
سوى تعبير من تعبيرات الحرب الحتمية بين الحضارتين الإسلامية والغربية.
* وهناك المدرسة التاريخية الواقعية التي يمثلها المؤرخ (برنارد لويس) ،
وهي ترى ضرورة التمييز بين القلة الأصولية المتطرفة وبين الأكثرية الإسلامية
المعتدلة، وقد نشر لويس مؤخراً دراسة في مجلة «فورين أفيرز» الشهيرة،
اعتبر فيها تفسيرات أسامة بن لادن اللاهوتية «تشويهاً تاماً للدين الإسلامي الذي لا
توجد في نصوصه أبداً ما يشجع على الإرهاب والقتل» . وكان ملفتاً أن ينهي
لويس دراسته هذه بالكلمات الآتية: «من الواضح أنه يتعيّن على الغرب أن يدافع
عن نفسه (ضد ابن لادن وأضرابه) بشتى الوسائل الفعالة. لكن وحين وضع
الاستراتيجيات لمقاتلة الإرهابيين سيكون من المفيد فهم الدوافع التي تحركهم» .
* وثمة مدرسة ثالثة حضارية اقتصادية يعبر عنها المفكر (بول كينيدي) ،
وتدعو الغرب إلى تفهم تظلمات العالم الإسلامي منه. ويقول كينيدي في كتابه
الأخير (التحضير للقرن الحادي والعشرين) : «إن الغرب، بإبحاره على طول
السواحل العربية، ومساعدته على تدمير الإمبراطورية المغولية، واختراق النقاط
الاستراتيجية للمنطقة بالسكك الحديدية والقنوات، والتقدم دوماً نحو إفريقيا الشمالية
ووادي النيل والخليج الفارسي (العربي) والهلال الخصيب ثم شبه الجزيرة العربية
نفسها، وتقسيم الشرق الأوسط وفق حدود غير طبيعية، وزرع إسرائيل في وسط
الشعوب العربية، وعدم الاهتمام بالمنطقة سوى بسبب نفطها؛ كل هذا جعل الغرب
يلعب أكثر من دور في تحويل العالم الإسلامي إلى ما هو عليه الآن. وهذا ما لا
يبدو أن الغربيين مستعدون للاعتراف به» .
* وأخيراً هناك المدرسة التاريخية الاجتماعية التي يجسدها الكاتب الأميركي
الليبرالي (وليام بفاف) ، والتي تدعو إلى حلول عادلة للمشاكل الإقليمية وإلى
الالتفات إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعوب العربية والإسلامية،
باعتبارها وسيلة وحيدة.
عولمة تربوية: وذلك بالتدخل في المناهج التعليمية في الدول المختلفة،
وتغيير عقول الناشئة، وتذويب هوياتهم العقائدية ليسهل على وسائل الإعلام بث
القيم الأمريكية البديلة؛ ففي مصر على سبيل المثال تقول الأرقام إن هيئة المعونة
الأمريكية قدمت 90 مليار جنيه منحاً ومعونات للحكومة المصرية خلال الـ 25
سنة الأخيرة، وإنه منذ عام 1981م قدمت الهيئة الأمريكية 185 مليون دولار
للتعليم فقط، باعتبار أن الجانب الأمريكي وضع مصر من بين الدول التي تتلقى
المساعدات التعليمية منحاً وقروضاً، ومعها بالطبع خبراء وبرامج وتوصيات لا بد
من تطبيقها بوصفها شروطاً للحصول على المعونة ولم تتوقف المساعدات عند هذا
الحد وإنما تجاوزته لتشمل مشروعات أخرى مثل مشروع التدريب الفني بتكلفة
(180) مليون دولار، ومشروع تعليم الإناث (60) مليون دولار، ومشروع
آخر يسمى: (المشاركة من أجل البنات والنساء) بتمويل قدره 5. 2 مليون
دولار.
المشكلة هنا أن المساعدات الأمريكية لا يتم إيقافها إلا وفقاً للتصور الأمريكي
بما يطرحه من برامج ونظم محددة يجب تطبيقها بدقة.
عولمة أمنية أو مخابراتية: وهي تقوم على التعاون بين مخابرات الدول
المختلفة في ضرب كل من تسول له نفسه الوقوف أمام الهيمنة الأمريكية، وتحاول
في الوقت نفسه منع الاعتداء على المواطنين في أمريكا سواء في الداخل أم في
الخارج، وعلى رأس أدوات أمريكا في تنفيذ هذا الشق العولمي وكالة الاستخبارات
المركزية الأمريكية (سي. آي. إيه) التي تعد نموذجاً لأجهزة المخابرات في
العالم؛ وذلك بفضل الوسائل التي توفر لها المعلومات بغزارة من شتى أنحاء الكون؛
بالإضافة إلى جيش العاملين بها من الخبراء في الشؤون الدولية، والمحللين
للمعلومات التي ترد إليها يومياً ساعة فساعة للوقوف على اتجاهات الدول
والمنظمات المختلفة؛ بهدف استشعار أي خطر وهو في المهد لإجهاضه، وهي
السياسة الأمريكية المعروفة بـ (الضربات الوقائية) ، وهي السياسة التي مكنت
أجهزة الأمن الداخلية من تتبع العديد من المخططات التي تستهدف المصالح
الأمريكية، وآخرها مخطط تفجيرات واحتفالات الألفية الثالثة الذي أحبط بسبب
التعاون الوثيق بين الـ (سي آي إيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي (إف
بي آي) ، ويتولى عملاؤه (ويقدرون بالآلاف) جمع المعلومات الداخلية ومراقبة
وإحباط أي محاولات عدوانية داخلية.
عولمة عسكرية: وذلك بامتلاك أحدث الأسلحة في جميع المجالات العسكرية
التقليدية، منها وغير التقليدية معتمدة على أذرع طويلة في البحر من حاملات
طائرات ومدمرات وغواصات، وفي الجو من طائرات الشبح، وفي الفضاء درع
صاروخي.
وهذا الاستعراض السريع لمفردات الهيمنة الأمريكية لا ينسينا أن كثيراً من
المحللين السياسيين يعتبرون أن النظام العالمي بعد انتهاء عصر الثنائية القطبية لم
يوجد بعد، وأنه في طور التشكل، وأن بوش الأب ومن بعده كلينتون لم ينجحا في
بناء أسس كاملة لنظام عالمي جديد قائم على المفهوم الأمريكي؛ حتى ذهب صمويل
هنتنجتون نفسه إلى وصف النظام العالمي الراهن بنظام: (الواحد والمتعدد
الأقطاب) أي النظام الذي يقوم على وجود قوى عظمى متفردة في عالم متعدد
الأقطاب. فالنظام متعدد الأقطاب يعني التساوي النسبي في قوى الدول الكبيرة في
العالم، وهو أمر لم يتوافر بعد إذا قيست هذه القوى بالقوة الأمريكية. كما أنه من
الصعب وصف النظام العالمي بالنظام «أحادي القطبية» بشكل كامل؛ لأن هذا
الأخير يعني وجود قوى عظمى وحيدة في العالم، وبجانبها قوى أخرى صغيرة
متعددة، وينفي في المقابل وجود قوى كبيرة يكون لها وزن تحسب له القوى
العظمى حساباً في القضايا الدولية والإقليمية المختلفة، وهذا أيضاً ليس واقع الحال
ولذلك ربما تكون هذه التسمية هي الأقرب إلى وصف الواقع الحالي الذي يمر به
النظام العالمي ولكن بالرغم من وجاهة هذه النظرة فإنها لا تنسينا التفوق الأمريكي
أو محذولة الولايات المتحدة الظهور بمظهر القوة العالمية الوحيدة، وخاصة مع
الضعف الظاهر للقوى التقليدية كأوروبا والصين وروسيا.
ثم جاء الرئيس الأمريكي الحالي بوش الابن الذي سيطرت عليه النزعة
الأمريكية بالسيادة والتفوق، وفي نفس الوقت لم يتمتع بالخبرة الكافية والعلم بواقعه
جيداً، فأحاط نفسه بمجموعة من الاستشاريين وتبنى أفكارهم، وهي في غالبها
أطروحات أكاديمية بعيدة عن الواقع، فحاول وضع أسس جديدة للنظام العالمي:
* أراد بناء الدرع الصاروخية لحماية أميركا من صواريخ الدول المارقة،
ضارباً بذلك معاهدة الـ (آي بي إم) التي كانت عامل استقرار بين القطبين منذ
تاريخ توقيعها عام 1972م وشكّل قرار بوش هذا قلقاً لدى الأعداء والأصدقاء على
السواء، فخاف الأوروبيون أن يشكل هذا الأمر سبباً لتسريع عملية سباق تسلّح
جديد، وأقلق الأمر الصين الصاعدة لكونه يبطل مفعول ردعها النووي فتصبح
عرضة للابتزاز السياسي الأميركي. يُضاف إلى هذا اعتباره الصين منافساً بدل أن
تكون حليفاً استراتيجياً كما كانت أيام كلينتون.
* رفض معاهدة كيوتو التي تحدّ من نفث ثاني أوكسيد الكربون في الفضاء،
متجاهلاً الرأي العالمي حول البيئة، ناسياً أن الولايات المتحدة هي أكبر مسبّبي هذا
التلوّث.
* رفض اقتراح التسوية حول الأبحاث الجرثومية والبيولوجية.
* تمنّع عن دفع المتوجبات للأمم المتحدة مخالفاً بذلك شرعة هذه المنظمة التي
هي من صنيعة الولايات المتحدة.
* آثر عدم الانخراط في مشاكل العالم ما دامت لا تؤثر على زعامة أمريكا أو
تمس مصالحها مباشرة، كمشكلة الشرق الأوسط.
* حاول عبر وزير دفاعه إعادة تنظيم القوات العسكرية الأميركية وتسليحها
وهيكلتها، فأدخل هذا الأخير أبعاداً جديدة على الصراع مضيفاً إلى الفضاء بعداً
رابعاً، وهو ما يعاكس الاتفاقات المعقودة حول عدم عسكرة الفضاء.
كل هذا فعله بوش من منطلق النظرة الاستعلائية المبنية على الإحساس
بالتفوق الأمريكي، ومقدار ما وصلت إليه هذه الهيمنة.
تأثير الضربة على الزعامة الأمريكية:
والآن بعد الضربة التي تلقتها أمريكا يبقى السؤال المهم وهو: كيف أثرت
هذه الضربة على بنية النفوذ الأمريكي في العالم، ومحاولات فرض الزعامة
العالمية؟
لا شك أن هناك تغييرات حدثت في جميع جوانب هذه الزعامة:
أولاً: في الجانب العسكري: يقول خبراء في الشؤون العسكرية: إن ما
شهدته الولايات المتحدة هو تعبير بارز عن مفهوم الحرب غير المتكافئة التي هي
حرب القرن الحادي والعشرين.
وهذه الحرب غير المتكافئة تدور بين طرفين أحدهما دولة محددة واضحة
المعالم، وطرف آخر مبهم جغرافياً، بدليل أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول
أعلن رسمياً أن ما حصل هو إعلان حرب على الولايات المتحدة، من دون أن
يكون قادراً على تحديد الجهة التي أعلنت هذه الحرب.
هذه الحرب غير متكافئة؛ لأنها لا تعلن على أرض المعركة بين جيشين بل
في المدن المكتظة أو ضد مصالح معينة وحساسة أو ضد عصب الدولة، ولا
تستعمل فيها الأسلحة التقليدية وإنما أسلحة تكتيكية ووسائل سهلة وسريعة ونقالة،
وهي حرب غير منطقية بالمعنى التكتيكي؛ لأن المشاركين فيها ليسوا سوى أفراد
يحركهم الشعور بالنقمة أو مشاعر عقائدية.
ويعتبر الباحث الفلسطيني مروان بشارة «أن هذه الحرب هي حرب القرن
الحالي وخصوصاً أن فريقاً من المحللين العسكريين الأميركيين يعتبرون أن آخر
حرب متكافئة هي الحرب على الرئيس العراقي صدام حسين الذي خاض حرباً
متكافئة على الأرض مع الولايات المتحدة، وأنه منذ حوالي ثلاثة أعوام بدأ هؤلاء
المحللون يعتبرون أن الحروب المستقبلية المحتملة لن تكون متكافئة» .
إنه منذ انتهاء الحرب الباردة بدأ الخبراء الأميركيون يميلون إلى القول بأن
أعداء الولايات المتحدة المباشرين على الأرض ليسوا كثيرين، وأن الردع المتبادل
يجعل من الصعب على أي دولة القيام بحرب مباشرة ضدها، وأن التهديد الفعلي
مصدره ما يسمى بـ (الدول المنحلة) ، وأن أرض المعركة هي منطقة رمادية:
غير معروف من هو الجندي، ومن هو الفرد، ومن هو المتطوع، ومن هو
الإنسان العادي؟
لقد شهدت المؤسسة العسكرية الأميركية على مدى السنوات الماضية نقاشاً في
شأن الصعيد الذي ينبغي أن يحظى بالأولوية، الصعيد الدولي الشمولي وما يمثله
من تهديدات بواسطة الصواريخ الباليستية والأسلحة الكيماوية والجرثومية، أم
ينبغي تكريس الأولوية لتهديدات الحرب غير المتكافئة؟
لقد انتخب الرئيس الأميركي جورج بوش على أساس برنامج يسعى لرفع
مستوى الاستثمار في الصناعات العسكرية، ومن هذا المنطلق أعطيت الأولوية
للدرع المضاد للصواريخ الباليستية؛ مما أثار العديد من الاحتجاجات في أوساط
الخبراء العسكريين المتنبهين لمخاطر الحرب غير المتكافئة، وفقاً لما أظهره مثلاً
حادث تفجير الـ (يو إس إس كول) .
وحذر هؤلاء الخبراء مراراً من أعمال إرهابية من نوع جديد تستند إلى
شبكات دولية تحظى بدعم مالي مهم، وتستخدم وسائل حديثة للاتصال والمواصلات،
وما جرى في نيويورك وواشنطن لا بد أن يرجح كفة الخبراء الذين تحدثوا عن
الحرب غير المتكافئة.
ويقر خبراء أمريكيون أن استهداف مقر وزارة الدفاع الأميركية وضرب قلب
نيويورك، جاءا بمثابة تحطيم لأسطورة، وإن ذلك جزء من الحرب النفسية التي
تشكل أحد أبرز العناصر المستخدمة في الحرب غير المتكافئة، وأن ما حصل
يوحي بأننا على عتبة مرحلة جديدة في تاريخ المواجهات الحديثة.
لقد ركزت المؤسسة العسكرية في أمريكا على سياسة خاطئة تماماً؛ فمنذ
اعتلائه سدة الحكم قدم الرئيس الأميركي جورج بوش الابن دعماً لا محدوداً
للمشاريع التي أعدها الصقور داخل البنتاجون، والذين يرون أن الحل الأمثل
لمشاكل أمريكا الأمنية هو درع الصواريخ الدفاعي، وقد أصر البنتاجون والجناح
المتشدد فيه بالذات على أن ذلك سيضمن أمن الولايات المتحدة في العالم، ويخلصها
من أخطار «الدول المارقة» التي قد تقدم على شن حرب على أمريكا. ولكن كم
كانوا مخطئين حتى قبل أن يظهر النموذج البدائي لمشروع الدرع الصاروخي
الأمريكي إلى الوجود فقد تحول حلم رونالد ريغان المعروف باسم: (مشروع حرب
النجوم) إلى خطة أخرى أقل تعقيداً تركز بشكل أساسي على السبل الكفيلة بتعقب
وتدمير الصواريخ بعيدة المدى قبل وصولها إلى الأهداف الحيوية داخل الولايات
المتحدة. وحتى الآن لم يتم وضع كافة التفاصيل الدقيقة لكيفية إدخال هذا المشروع
حيز التنفيذ، وإن كان التصور الأخير يتمحور حول نظام يتعقب الصواريخ في
«مرحلة الإطلاق» أي قبل خروجها من المجال الجوي للبلد الذي أطلقت منه عندما
تكون سرعتها بطيئة نسبياً. وبمجرد تعقبه وتحديد مساره يتم تدمير الصاروخ
المعادي بصواريخ موجهة ودقيقة تطلق إما من الأرض أو من الغواصات الأميركية
المنتشرة في جميع أنحاء العالم. ورغم عدم تأكدهم من هذه التكنولوجيا الجديدة إلا
أن صناع القرار الأميركيين يصرون على أنه وحده هذا النظام قادر على توفير
الأمن لأمريكا رغم أنها قد أثبتت أن هذه المغامرة العسكرية الكبيرة التي تسمى
بالدرع الصاروخي لن تأتي بالنتائج المرجوة في نهاية المطاف فضلاً عن تكاليفها
الباهظة على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي.
في الجانب الاستخباراتي: تم اختراق الحواجز الأمنية لأكبر قدرة معلوماتية
واستخباراتية في العالم؛ بحيث أتى الأمر كله مفاجأة فوق تصور الجميع، وهو ما
جعل الأمريكيين وغيرهم يصابون بالذهول ويتساءلون: ماذا لو كان هذا الهجوم من
قوة عظمى أو حتى من إرهابيين يملكون أسلحة فتاكة كالأسلحة النووية أو
الجرثومية أو غيرها؟ واستتبع ذلك ازدياد التنسيق الذي تقوم به الأجهزة الأمنية
المختلفة مع أجهزة الاستخبارات العالمية لملاحقة أصحاب الاتجاهات الإسلامية
خاصة الجهادية منها؛ فقد أفادت تقارير صحفية مختلفة بحدوث اجتماع مفاجئ
سري يوم الأحد 16/9/2001م أي بعد حوادث التفجير بخمسة أيام حضره رؤساء
الاستخبارات في عدد من الدول الأوروبية والشرق أوسطية مع رئيس وكالة
الاستخبارات الأمريكية بهدف وضع خطوط أساسية للتنسيق المقبل بين أجهزة الأمن
في الدول المختلفة من أجل محاصرة الإرهابيين وتسليمهم.
الجانب الاقتصادي: تدمير مركز اقتصادي ضخم، وكان من نتيجته موت
كثير من العقول التي تصنع الحياة الاقتصادية في أمريكا، وضياع قدر من الوثائق
والأموال ناهيك عما لحق كثيراً من الشركات من خسائر فادحة تقدر بالمليارات،
وهذا بلا شك سيضعف إلى وقت طويل المنظومة الاقتصادية العالمية التي كانت
أمريكا تريد ضم العالم إليها.
وكمثال واحد فقط؛ فإن مؤسسة (مورغان ستانلي آند دين وتر) كانت تحتل
خمسين طابقاً في أحد برجي مركز التجارة العالمي. ولك أن تتصور مدى الخسارة
المالية والبشرية التي ستواجهها مؤسسة استثمارية بهذا الحجم. هذه المؤسسة واحدة
من أكبر ثلاث أو أربع شركات أميركية تتعامل مع أسهم الأسواق المالية والسندات،
ليس فقط في الولايات المتحدة بل في آسيا وأوروبا كذلك.
الجانب الاستراتيجي: يحاول الرئيس الأمريكي وإدارته استثمار ما جرى في
نيويورك وواشنطن في 11/9/2001م؛ لينتزعوا من العالم كله، صغيره وكبيره،
دولاً وشعوباً وأمماً، استسلاماً تاماً للمشيئة الأمريكية، ومباركة الهيمنة الأمريكية
على مقدرات العالم، ومصائر الشعوب، والتسليم لأمريكا بأنها سيدة القرن الحادي
والعشرين؛ مما يعني انتصار أمريكا لا في الحرب الباردة وحسب، ولكن في
حرب السيادة على العالم كله، مدشنة مطلع القرن الحادي والعشرين مدخلاً لزمن
أمريكي يستمد مشروعيته من القوة التي تمتلكها أمريكا، والتي بدأت باستعراضها
وهي تذهب لحربها التي يعرف الجميع في العالم أهدافها، ولا يقتنع كثيرون جداً
بمسوغاتها، ولا بالتهم التي تسوقها لتسويغ هذه الحرب، ولا لقائمة الأعداء
المفتوحة تخويفاً وابتزازاً، والتي تتهدّد أي طرف يبدي اعتراضاً، أو يتمنع، أو
حتى يطالب بجواب عن السؤال: إلى أين بالضبط؟
وفي نفس السياق تحاول أمريكا بحجة مطاردة الإرهاب السيطرة على منطقة
آسيا الوسطى ومد النفوذ الأمريكي فيها، وكشف رئيس الاستخبارات الباكستاني
السابق في حديث صحفي الأهداف الأمريكية قائلاً: هناك هدفان لأمريكا الأول،
يرمي إلى ضرب ظهور حلف إسلامي يضم كلاً من باكستان وأفغانستان. أما
الهدف الثاني فهو تفعيل الخطة البريطانية القديمة في المنطقة والقاضية باحتواء
روسيا وعدم السماح لها بالوصول إلى المياه الدافئة، إضافة إلى احتواء شمال
غربي الصين الطامحة إلى الحصول على ممر إلى المحيط الهندي عبر باكستان
وأفغانستان.
وبالإضافة إلى ما سبق فهناك نفط بحر قزوين حيث تضم المنطقة حسب
التقديرات الغربية أكبر احتياطي للنفط في العالم وأمريكا تريد من خلال القاعدة
الأفغانية المزمع إنشاؤها جعل لها اليد الطولى على هذه الثروة.
الجانب الثقافي: بعد التفجيرات الأمريكية الأخيرة بدأت نظرية هنتنجتون في
صدام الحضارات هي التي تطغى على العقلية الأمريكية في تفسير صراعها مع
الإسلام؛ فقد لاحظت صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، على سبيل المثال،
أنها حين حاولت معرفة رأي بعض المسؤولين الأميركيين حول الفكرة بأن السياسة
الأميركية الخاطئة في الشرق الأوسط كانت وراء تفاقم ظاهرة الإرهاب، جوبهت
بثورات غضب رافضة لأي بحث في هذه المسألة. وكان رد الجميع «أنهم
يكرهون أمريكا، ليس لأنها تدعم إسرائيل بل لأسباب ثقافية» .
وفي هذا الاتجاه نشرت صحيفة نيس الفرنسية الصباحية مقالة للكاتب اليميني
المعروف بتوجهاته (مارك شيفانش) يذكر فيها أن ما حدث يعكس تماماً ما تنبأ
بحدوثه هنتنجتون في صراع الحضارات، وعلينا أن ننظم أنفسنا لمواجهة مثل هذه
التهديدات الحضارية التي تواجهنا؛ فإن هذه التفجيرات ما هي إلا مقدمة لمواجهات
حضارية.
حتى إن كاتباً آخر ذا ميول يسارية، وهو (جان دانيل) رئيس تحرير مجلة
(لونوفل أبرزفاتور) لم يتردد بدوره من تحليل الأحداث بالقياس إلى عالمية
إسلامية بحسب رأيه، والتي يرى أنها معادية للغرب بشدة، ومعادية في الأغلب
للمسيحية، وهي معادية بضراوة للأميركان وبالقياس إلى فكرة صدام الحضارات
يرى أن هذه العالمية الإسلامية لا تملك هدفاً آخر غير ضرب الغرب، وخاصة
الولايات المتحدة.
ويؤكد حول هذا المعنى، بأن هذه النظرية التي كانت محل استخفاف حتى
الآن، عادت لسطح الأحداث بقوة، وسارع لتبنيها خبراء البنتاجون، ووزارة
الخارجية الأميركية، ومختلف أجهزتها.
وحول المعنى نفسه كتب (فرانسيس بروشيه) في جريدة (لوبروغريه)
مؤكداً أن مسلسل صراع الحضارات قد بدأ مع لحظة انفجارات واشنطن ونيويورك؛
فإن ما حدث بالنسبة له ما هو إلا الحلقة الأولى من سلسلة من المواجهات التي
ستنهض بعنف بين العالم الإسلامي والغربي.. وما خروج الفلسطينيين إلى
الشوارع بعد هذه الأحداث راقصين فرحين، ما هو إلا دليل على ذلك! !
إن عقلية الهيمنة والسيطرة لا زالت تغشى أعين صناع القرار الأمريكي
وغرور القوة الذي دفعها إلى التطلع دائما إلى مواصلة بسط هيمنتها على شتى بقاع
العالم أنساها الالتفات إلى أولئك الذين داست أعناقهم بوحشية في طريقها لتكريس
الهيمنة، كما أسفر عن التراخي الأمني الداخلي الذي مارسته أجهزتها، وكما كانت
إمبراطوريات الماضي تنحدر إلى فنائها وسقوطها دون أن تدري؛ فإن أمريكا
ماضية على الدرب نفسه وهذه سنة من سنن الله [وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]
(الأحزاب: 62) .(168/44)
المسلمون والعالم
الإسلامفوبيا والعدالة الأمريكية
(تساؤلات حول الحقيقة المحترقة)
خالد محمد حامد
وسط الغبار المتصاعد من الركام الناتج عن انهيار مبنى التجارة العالمي
بنيويورك وجناح مقر البنتاجون بواشنطن يوم 11/9/2001م.. تصاعدت
تساؤلات عديدة، وبرزت علامات الدهشة والتعجب حول أكثر من نقطة:
- من وراء هذه التفجيرات؟
- ما أهدافهم منها؟
- كيف نفذوا هذه العمليات بهذه الدقة والكفاءة؟
- هل بهذه السهولة يمكن تهديد أمن أمريكا؟
- أين كانت أجهزة الأمن الأمريكية المتعددة المدربة على أعلى مستوى والتي
أنفق عليها مليارات الدولارات؟
- هل حدث اختراق لمؤسسات رسمية أمريكية؟
- كيف ستعيد أمريكا هيبتها أمام شعبها أولاً، ثم أمام حلفائها وأصدقائها ثانياً،
ثم أمام أعدائها ثالثاً وليس أخيراً؟
تساؤلات كثيرة ومعقدة وخيوط كثيرة ومتشابكة، من المفترض أن حل
ألغازها والوصول إلى إجابات صحيحة لها قد يستغرق شهوراً وربما سنوات
وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن حادث تفجير مبنى أوكلاهوما سنة (1995م)
وهو أقل تعقيداً بكثير استغرقت التحقيقات والمحاكمات فيه زهاء ست سنوات،
وتكلفت 180 مليون دولار.
ولكن المراقبين المحايدين فوجئوا أنه في سرعة مدهشة وربما قبل اكتمال
وصول المحققين إلى أماكن الحوادث أشار المسؤولون الأمريكيون بأصابع الاتهام
وإن أسموه اشتباهاً تجملاً للعدالة إلى جهة محددة ذات صفة معينة، بل إن ذلك قيل
بثقة من الرئيس الأمريكي أو مساعد بارز له وهم على طائرة الرئاسة عقب
التفجيرات مباشرة يوم الثلاثاء، بحسب رواية النائب الجمهوري دان ميلر الذي كان
مرافقاً للرئيس.
ونحن وإن لم نجزم بأنهم بهذه التصريحات أثروا على (اتجاه التحقيق) ، إلا
أنهم بلا شك أطلقوا بتلك الإشارات العنان للآلة الإعلامية ذات النفوذ الواسع على
الرأي العام للتهويل والتحذير مما دعوه (الإرهاب الإسلامي) وحده وإلصاق التهمة
به قبل التثبت من ذلك، ولأجل إحكام إلصاق التهمة وإغلاقه أشاعت وسائل الإعلام
عن أجهزة التحقيق ما قالت عنه إنه أدلة تصب في هذا الاتجاه.
وإذا استطعنا الخروج من تأثير الإرهاب الإعلامي الواسع والناشط باسم
محاربة الإرهاب، والذي يهدف إلى تعطيل أو التأثير على تعقل الأمور، ومن ثم:
الاندفاع خلف عاطفة غوغائية غير متزنة وقائمة على حجب الحقائق لتصب في
تحقيق أهداف معدة سلفاً ... إذا استطعنا الخروج من تأثير هذا الإرهاب فإن المنطق
يقتضي أن نمحص الأدلة التي راجت في وسائل الإعلام لاتهام إسلاميين بهذه
العمليات، وأن نبحث عن احتمالات منفذين آخرين لها، وأن ننقب وراء دوافع
أمريكا أو أهدافها، أو مصالحها من التسارع في إلصاق التهمة بهذه الجهة والتحرك
نحو (المواجهة) بهذه السرعة
ونحن حين نقوم بذلك لا نقوم به من منطلق عاطفة الدفاع عن إسلاميين بحق
أو بباطل بقدر ما نقوم به بحثاً عن حقيقة قد تغيب وسط التراشق الإعلامي
والألاعيب السياسية.
(سيناريو) مضطرب لحوادث غير خيالية:
إن أي منصف ومتابع للأحداث و (التسريبات) التي أعلنتها وسائل الإعلام
على شكل سيل من الأخبار والمعلومات: يدرك أن الغموض يكتنف كثيراً من
جوانب هذه الحوادث، ويدرك أيضاً أن لائحة الاشتباه والأدلة التي قدمت على
تورط الجهة التي حددتها السلطات الأمريكية.. إنما هي أدلة من الناحية القضائية
العدلية من الدرجة الثالثة يستطيع أي محام تحت التدريب أن يفندها بسهولة؛ فهي
في حقيقتها ليست أدلة للإثبات بقدر ما هي أدلة للإقناع.. إقناع الرأي العام
الأمريكي أولاً، والعالمي ثانياً.. بخطر الإسلام (الأصولي) على المدنية
والحضارة، وإقناعه بأن مجريات الأمور رغم كل ما حدث ما زالت تحت سيطرة
أجهزة الأمن والتحقيق الأمريكية، وإقناعه بأن تحركات أمريكا التالية لهذه الحوادث
تحركات مبنية على (العدالة المطلقة) ، ولتثبت أدلة هذه العدالة فيما بعد!
فالشكوك تبدأ من أول نقطة في (السيناريو) المحكي عن الحادث، من كونها
حوادث اختطاف طائرات أصلاً، ومن أن خاطفيها عرب مسلمون، وقد شكك
وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جورج شولتز في هذه النقطة متسائلاً: «منذ
عشر سنوات لم يتم اختطاف طائرة أمريكية؛ فكيف يتم اختطاف (5) طائرات
خلال ساعة واحدة؟ !» .
- فهناك شكوك في كون تفجير مبنى البنتاجون تم باستخدام طائرة سقطت
عليه، حيث بينت صحيفة (كيهان) الإيرانية - كما ذكر موقع الجزيرة نت -
«أنه وبعد تفجير مبنى البنتاجون ذكر صحفيون أنه لا يوجد أي أثر لحطام طائرة
في الموقع، وشككوا في كون الانفجار ناجماً عن ارتطام طائرة، وخاصة أن
شبكة التلفزة الأمريكية لم توفر حتى الآن أي صورة لحطام الطائرة في مبنى
البنتاجون كما هو الحال في نيويورك» .
- وإذا كان الانفجار حدث بسبب طائرة مختطفة كما قيل فإن هناك تساؤلات
حول الأسباب التي دعت خاطفي تلك الطائرة إلى (التلكؤ) في ضرب المبنى لمدة
60 دقيقة وقد كانوا قرب الهدف المقصود من البداية، وحول كيفية معرفة هؤلاء
الخاطفين بالجناح الذي يضم موظفي عمليات الجيش والبحرية دون الأجنحة الثانوية
الأخرى، رغم أن مبنى البنتاجون ليس مزاراً سياحياً - خصوصاً للعرب
والمسلمين -، وعن السر في عدم أخذ البنتاجون الاحتياطات الأمنية اللازمة رغم
وجود فارق زمني يقدر بـ (55) دقيقة بين انفجار الطائرة الأولى في نيويورك
وانفجار البنتاجون الذي يقال عنه إنه أحصن قلعة في العالم!
- كما أن الطائرة الرابعة التي قيل إنها سقطت بعد شجار مع الخاطفين،
ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أنها لم تسقط ولكن أسقطت بواسطة مقاتلات أمريكية،
ويؤيد ذلك ما أكدته قناة (TN) من أن إحدى قطع الطائرة المذكورة عثر عليها
على بعد مسافة أربعة أميال من القطع الأخرى للطائرة، وهذا ما يثبت فرضية
إسقاط الطائرة بحسب المصدر السابق ويشكك في رواية الخطف.
- ثم إن منطقة مثلث بوسطن نيويورك واشنطن التي وقعت فيها حوادث
(الاختطاف) والتفجيرات تعد من أكثر الأجواء ازدحاماً، ومن أكثر المناطق في
العالم حماية ومراقبة، ومن الصعب جداً خروج طائرة عن مسارها وقطعها
للاتصالات مع أبراج المراقبة من غير رصد وتتبع لها واستنفار ضدها.
- وتدور علامات استفهام كثيرة حول (عملية الاختطاف) ذاتها؛ فكيف
استطاع عدة أشخاص لا يملكون سوى المدى السيطرة على عشرات الأشخاص بمن
فيهم طاقم الطائرة الذي يفترض أنه مدرب لمواجهة مثل هذا (الشغب) ؟ ولماذا لم
يستخدم الطيارون الأربعة أزرار إعلان حالة الخطر عند إحساسهم بما يدور؟ كما
أن المهارات المهنية التي تتطلبها قيادة طائرات ركاب تجارية كبيرة كالتي نفذت بها
التفجيرات، والتنفيذ الفائق الدقة والكفاءة في إصابة الأهداف وخاصة ما ذكر عن
طائرة البنتاجون؛ حيث أدار قائدها الطائرة بزاوية 270 درجة نحو اليمين
وانخفض بها إلى مستوى متدن لا يسمح لأجهزة الرادار برصده وليكون في مستوى
المبنى المنخفض (خمسة أدوار) مما لا يستطيعه سوى الطيارين الحربيين، بل
يصعب على كثير منهم تنفيذه بواسطة طائرة مدنية، على حسب ما ذكره أحد
مدرسي الطيران ... كل ذلك يثير الشك الكبير في الرواية الرسمية عن خاطفين
قادوا الطائرات رغم أنهم من عينة التلميذ بليد الفهم الذي أخذ معه كتاب تعليم قيادة
الطائرات (باللغة العربية) إلى المطار ليراجع دروسه ويتذكر معلوماته قبل دخوله
(الامتحان) ، ثم يتركه في سيارته في مرآب المطار، أو أن يكونوا تدربوا على
قيادة الطائرات باستخدام إحدى ألعاب الفيديوجيم كما افترض بعض الصحفيين.
- وأيضاً من هم الذين يستطيعون معرفة واستخدام «شيفرة أمريكية خاصة،
كما كانوا على علم بمكان الرئيس بوش وبتحديد مكانه، وهو الأمر الذي جعل
السلطات الأمريكية تعلن فيما بعد أن طائرة الرئاسة كانت مستهدفة. وحسب
المعلومات الجديدة فإن معاوني الرئيس ورجال الاستخبارات شعروا بالقلق الشديد
بعدما تبين لهم أن منفذي العمليات كانوا على علم بالشيفرة الخاصة وبمكان وجود
الرئيس ... وأشارت المعلومات إلى أن رجال الأمن المرافقين للرئيس في طائرته
تلقوا رسالة استخدمت فيها الشيفرة الخاصة - ومصدرها من منفذي العمليات! -
بأن طائرة الرئيس ستكون الهدف التالي» (الشرق الأوسط، 16/9/2001م) .
خاطفون أم مخطوفون؟
وما سبق يجرنا إلى الحديث عن قائمة أسماء المختطفين الأولى التي أعلنت
سلطات التحقيق الأمريكية أنها لأشخاص عرب على صلة بتنظيم القاعدة وأسامة بن
لادن، لنجد أن إعلان هذه القائمة يمثل إخفاقاً ذريعاً لـ (FBI) مثلما كان الحدث
نفسه سقوطاً مدوياً لـ (CIA) .
فقد ذكرت صحفية (كيهان) الإيرانية «أن الركاب العرب لم يرد لهم أي
ذكر في قائمة أسماء الركاب التي نشرتها شركتا الخطوط الجوية الأمريكيتان،
ويبدو من خلال هذه الشواهد كما أشارت إلى ذلك صحيفة نيويورك تايمز أن
موضوع الاختطاف لم يكن سوى سيناريو غير حقيقي يهدف إلى إخفاء حقيقة كون
الحادث قضية داخلية» .
- ورغم ذلك أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) أسماء خاطفين
مزعومين، وذكر حينها روبرت مولر مدير (FBI) أن المكتب «على ثقة كبيرة»
بأن أسماء الخاطفين التي أذاعها ليست أسماء حركية، ولا ندري ما الذي يدعو
(إرهابيين) يملكون كل هذه الإمكانات ويتقنون فنون التزوير والاحتيال وسرقة
الهويات كما يذكر عنهم إلى استخدام أسمائهم الحقيقية وهم يقدمون على عمل بهذا
الحجم، مما يعرضهم للخطر قبل العملية وخاصة أن فيهم من هم على قائمة
المطلوبين من الشرطة الأمريكية ويعرض شبكتهم للملاحقة بعد العملية؟ !
- وبعد ذلك بقليل تهاوت مصداقية هذه الأسماء، عندما ظهر أن أحدها لطيار
مات منذ سنتين (أمير بخاري) ، وبعضها لأناس أحياء يعيشون خارج أمريكا،
وهم: عبد العزيز العمري (مهندس كهربائي بالرياض، وذكر في اللائحة تاريخ
ميلاده بدقة) ، عامر كنفر (مهندس طيار موجود في مكة المكرمة) ، عبد الرحمن
سعيد العمري (طيار موجود في جدة) ، عدنان بخاري (طيار موجود في جدة) ،
أحمد حيدر محمد النعمي (مشرف طاقم ملاحين بالخطوط السعودية بالرياض) ،
سعيد حسين الغامدي (طيار سعودي موجود في تونس، وكانت الصورة المنشورة
له حقيقية، وأعلن أنه لم يفقد جواز سفره سابقاً) ، وممن أعلن اسمه ضمن قائمة
المشتبه في ضلوعهم بالتفجيرات أيضاً الطيار السعودي (وليد أحمد الشهري) الذي
نشرت صورته (صورة حقيقية له بالفعل) ، ثم تبين عدم صلته بالهجمات وأنه
مقيم في المغرب حيث يعمل في الخطوط المغربية، وقد تم تقديم اعتذار أمريكي
رسمي له فيما بعد!
- وهذا مما يشكك ليس في هذه الأسماء فحسب، بل في حقيقة جميع الأسماء
المعلنة للخاطفين، ويطرح تساؤلات قوية ومشروعة حول الأساس والمصدر الذي
تم بناءً عليه إعلان هذه الأسماء، كما إن هذه الشكوك تزيد الغموض حول الهوية
الحقيقية للخاطفين (أيكونون عرباً ومسلمين أم غير ذلك؟) وتعيد الافتراضات مرة
أخرى إلى نقطة الصفر.
- كما أن السيرة الشخصية التي ذكرتها أجهزة الإعلام لبعض هذه الأسماء لا
تتناسب أبداً مع الاتجاه الفكري والأخلاقي الذي يُزعَم انتماؤهم إليه؛ فليس معروفاً
في أوساط الإسلاميين أن من بينهم من يشرب الخمور ويرتاد ملاهي ليلية ويراقص
النساء ويحتفظ بصورة (زعيمه) على سبيل الذكرى، إنما يوجد ذلك فقط في
مخيلة من اعتادوا رؤيته في أوساط (المنظمات النضالية) العلمانية والميكيافيللية،
ومن أجل ترقيع هذه الثغرة ودرء هذا التعارض خرج بعض المحللين والكتَّاب
بتفسير سمج يدَّعي أن مثل هؤلاء يعيشون بشخصيتين في الحياة: شخصية
المتكيف مع الحياة الأمريكية، وشخصية الورع صاحب المبدأ، وهو افتراض قائم
على محض التخمين؛ حيث لم يعايش من يذكر ذلك هؤلاء الأشخاص ويطلع على
الجانب الآخر من حياتهم الذي يدَّعي وجوده، وهذا التفسير فوق خياليته يجعل كل
منتسب إلى الإسلام إرهابياً افتراضياً حتى ولو كان من أفسق الناس.
- ولو افترضنا جدلاً أنه كان على الطائرات المتفجرة أشخاص عرب
ومسلمون بالفعل؛ فما الذي يثبت أن هذه الطائرات تم اختطافها؟ وإذا ثبت ذلك فما
الذي يثبت أن هؤلاء العرب والمسلمين هم الذين اختطفوها، فحتى لو زعم أنه
ظهرت تسجيلات شجار دار بين أصوات عربية وأخرى في غرفة القيادة: فلماذا
يستبعد احتمال أن هؤلاء العرب كانوا هم الذين يقاومون مختطفين آخرين؟ وإذا
ثبت جدلاً أن هؤلاء العرب هم الخاطفون فهل يعني ذلك تلقائياً أنهم ينتمون إلى
جماعات وتنظيمات إسلامية؟ ، ألا يمكن أن يكونوا عملاء لجهة غير عربية؟ ثم:
أليس في العرب من يعادي أمريكا غير هذه الجماعات؟ وخاصة في ضوء عدم
صدقية الأسماء المعلنة وذوبان الجثث مما يصعب إن لم ينف إمكانية التعرف على
حقيقة انتماء هؤلاء الأشخاص، وإذا افترضنا أن هؤلاء الخاطفين ينتمون إلى
جماعة أو أخرى فهل يعني ذلك بالضرورة أنهم نفذوا تلك العمليات بناء على
مخططات تلك الجماعة وأوامر قائدها؟ ألا يمكن أن يكونوا تصرفوا بصورة فردية؟
إننا هنا في معرض اتهام ينبني عليه إدانة أو براءة، ليس لأشخاص، بل
لجماعات وربما لشعوب ودول، بمعنى أننا في معرض تحقيق (عدالة) لا يكفي
فيها مجرد الزعم بحدوث اتصال هاتفي (يتطور مضمونه حسب معطيات ما بعد
الحادث) بين راكب وأحد أقربائه أو أصدقائه، ولا يكفي فيها أيضاً مجرد وجود
اسم عربي في سجلات معاهد الطيران؛ فهناك المئات من العرب والمسلمين
وأصحاب الجنسيات والديانات الأخرى الذين يتدربون في مدارس عديدة للطيران
في أنحاء أمريكا.. ولا بد قبل إعلان اسم مشتبه فيه أن تتوفر قرائن أو أدلة قوية
تؤكد ذلك، وهذا ما دعا بعض المسؤولين في (FBI) إلى الإقرار بأن عدداً من
أسماء قائمة التسعة عشر المعلنة أولاً ربما يكون الخاطفون استخدموها بعد سرقة
هوياتهم، وأن أسماءهم الحقيقية قد تظل مجهولة.
ومع ذلك فإن السياسيين والعسكريين مصحوبين بتظاهرات إعلامية كبيرة لا
ينتظرون حتى انتهاء التحقيقات، وتتسارع جهودهم لتوجيه الضربات للجهة التي
حددوها من قبل بدء التحقيقات.. غير معتبرين بتجربة حادث أوكلاهوما عندما
أشارت أصابع الاتهام بتلقائية إلى المسلمين، بل تبارى (الخبراء) في تقديم الأدلة
على ذلك، ثم اتضح بعد ذلك أن الجاني أمريكي (مسيحي) (أبيض) ، وبعد
القبض على الجاني الحقيقي (مصادفة) وإجراء تحقيقات ومحاكمات استمرت 6
سنوات، وقبيل تنفيذ حكم الإعدام في المدان (تيموثي ماكفي) اعترف مدير
(FBI) وقتها لويس فريه بارتكاب مكتبه أخطاء كبيرة لعدم تقديم جميع مستندات
الأدلة (والتي تقدر بالآلاف) إلى محامي المتهم المدان!
ويشار أيضاً إلى قضية العالم الصيني الأصل (وين هو لي) الذي اتهمه
(FBI) بالتجسس وتسريب التصاميم النووية إلى الصين، فأودع السجن لمدة
تناهز العام، ثم أخلي سبيله بعد أن تبين للقاضي أن الإفادات التي تقدم بها بعض
رجال (FBI) كاذبة.
ولم يعتبر السياسيون والعسكريون - ومعهم جوقة الإعلاميين - من تجربة
قصف مصنع أدوية الشفاء بالسودان عقب تفجير سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا،
حيث أكدوا وقتها أن لديهم (أدلة قاطعة) على أنه مصنع أسلحة كيماوية، وأن
صاحبه على علاقة بابن لادن، وبعد قصفه اعترفوا بخطأ أدلتهم واعتذروا عن
قصفه ودفعوا تعويضات لصاحبه.
ولكن يبدو أن الأمر يتجاوز هدف الوصول إلى الحقيقة، فبحسب الخبراء فإن
الكشف عن الفاعل الحقيقي سيستغرق وقتاً طويلاً، وبعد هذا الوقت أيضاً لن
تستطيع الأجهزة الأمنية أن تجزم واثقة بأن هذه الجهة بعينها أو غيرها هي التي
نفذت أو خططت للعملية.
ولكن في الوقت نفسه لا بد من استعادة هيبة أمريكا في العالم واستعادة إحساس
المواطن الأمريكي بالأمان وبقوة دولته.. في أسرع وقت.. لذا: كان لا بد من
تحديد جهة ما تفرغ فيها طاقة الغضب والثأر الأمريكي، ثم: ليكن إثبات مسؤولية
هذه الجهة فيما بعد.
من أحرق أمريكا:
ما ذكرناه سابقاً عن (السيناريو) المضطرب والأدلة المتهافتة يشير إلى أن
رواية الاختطاف قد تكون غير صحيحة، وأنها ذكرت لعدة أهداف: منها: ما ذكر
سابقاً من استعجال إرسال ضربة تعيد هيبة أمريكا وتطمئن مواطنيها، ومنها: ما
ذكره بعض المراقبين من أنه قد تكون للتغطية على احتمالات أخطر بكثير من
(سيناريو الاختطاف) ، كمحاولة انقلاب، أو حدوث انشقاقات وصراعات داخل
أجنحة السلطة والأجهزة الأمنية الأمريكية ذاتها، أو ضلوع جهات أجنبية أخرى لا
يسمح بالكشف عنها الآن.
وعموماً فإننا إذا قلنا إن تورط جهات إسلامية في هذه الأحداث احتمال وارد
فإننا نستطيع القول أيضاً إنه ليس الاحتمال الوحيد وليس هو الاحتمال الذي يحتل
رأس القائمة؛ فكون بن لادن أو غيره لهم دوافع للقيام بمثل هذه الحوادث أو أنهم
توعدوا أمريكا قبلها وابتهجوا بفاجعتها بعدها.. لا يعد ذلك مسوغاً كافياً لاتهامهم بها،
ولا لحشد عاطفة الغرب ضدهم، ثم حشد جيوشه لحربهم؛ فليس بن لادن ولا
العرب أو الإسلاميون وحدهم الذين لهم دوافع عداء مع أمريكا، فأعداء أمريكا
وخصومها كثر داخلها وخارجها، ومن توعدوا بإحراق أمريكا كثر أيضاً ومن
مشارب وأديان شتى، ومن ابتهج بهذه الحوادث متنوعون: صينيون وعرب ويهود!
وحدهم الإسلاميون والعرب الذين سلطت عليهم الأضواء وأشارت إليهم الأصابع
من أول يوم، وهذا يجعلنا نعيد إضاءة الاحتمالات الأخرى التي حجب عنها الضوء
وصرفت عنها الأنظار عمداً؛ لأن المنطق والتحليل السياسي يفترض طرحها ضمن
الجهات المحتمل وقوفها وراء الهجوم، مع ملاحظة أن ترتيب الاحتمالات التالية لا
يعني ترتيبها حسب قوتها:
أولاً: فأولى هذه الاحتمالات: أن يكون الطيارون أنفسهم هم الذين قاموا بهذه
التفجيرات، حيث يجمع الطيارين الأربعة (تشارلز برلينجيم، وجو أجوتاوسكي،
وفيكتور ساراسيني، وجيسون داهل) كونهم ضباطاً سابقين في سلاح الجو
الأمريكي (طيارين مقاتلين) ، ثلاثة منهم شاركوا في حرب فيتنام، والرابع قتل
أخوه في الحرب نفسها، مع ملاحظة حدوث تناقض في المعلومات بشأنهم بين تلك
التي نشرتها عنهم شركتا الطيران اللتان كانوا يعملون فيهما وبين المعلومات التي
نشرتها الشرطة الفيدرالية الأمريكية، وهذا يفسر المهارة (القتالية) التي نفذت بها
العمليات، كما يفسر عدم استخدامهم لأزرار حالة الخطر أو الطيران الآلي، كما
يفسر ما ذكر عن أن (الخاطفين) استطاعوا فك واستخدام الشيفرة الأمريكية
الخاصة، وهو ما لا يستطيعه إلا أشخاص نافذون على مستوى عال في الأجهزة
الأمريكية، وهو اختراق يصعب جداً إن لم يكن مستحيلاً أن يقوم به خاطفون
(أجانب) أو شركاء لهم أجانب أيضاً.
أما دوافع هؤلاء الطيارين وهوية الشبكة التي تقف وراءهم ويعملون فيها،
فهي احتمالات متعددة أيضاً:
أ - فقد يكونون طليعة الانقلاب العسكري (المفترض) أو أحد أدوات
الصراع بين أجنحة السلطة أو أجهزة الأمن المتنافسة التي تريد بسط نفوذها أو
إحراج خصومها بتحدي السلطة الأمريكية؛ لإثبات أن هذا الجناح هو الذي يملك
السلطة الحقيقية في أمريكا.
ب - وقد يكونون أعضاء في مجموعات ومنظمات معارضة داخلية، كمنظمة
(الجنود المعارضين لحرب فيتنام) ومنظمة (أعداء الإمبريالية) .
ج - وذكرت صحيفة الوطن القطرية (17/9/2001) أن مصادر غربية
مطلعة (جداً) سربت لمراسلها في لندن «أنباء عن توفر معلومات دقيقة لدى
القيادة الأمريكية بأن طيارين من الصرب من الموالين للرئيس اليوغسلافي السابق
سلوبودان ميلوسوفيتش هم الذين نفذوا العمليات الانتحارية الأخيرة انتقاماً من
الولايات المتحدة لدورها في حرب البلقان أولاً، وأيضاً لإجبارها الإدارة
اليوغسلافية الحالية على تسليم الرئيس السابق لمحكمة مجرمي الحرب في لاهاي.
ووفقاً لمصادر عليا فإن الطيارين الصرب يحملون الجنسيات الأمريكية، وأن الأمر
أعد ورتب بالاتفاق مع أطراف داخلية مهمة تدين بالولاء لميلوسوفيتش الذي يقال:
إنه أقسم على أن يجعل الولايات المتحدة تدفع ثمن كل يوم يمضيه في السجن
بلاهاي» .. لماذا يفترض الأمريكان أن الطيار المصري جميل البطوطي الذي
سقطت أو أسقطت طائرته قبالة الساحل الأمريكي الشرقي.. هو وحده الذي يمكن
أن ينتحر، رغم أن جيمع المعطيات لا تشير إلى هذا الاحتمال سوى ما ذكره
الأمريكان من أنه قال: (توكلت على الله) ؟ !
- وقد يكون الطيارون أعضاء في إحدى المنظمات اليمينية المتطرفة، وهي
منظمات متعددة ومتشعبة ومسلحة تسليحاً جيداً، ويتغلغل أعضاؤها المقدرون
بالآلاف في مؤسسات المجتمع الأمريكي، ولأهمية هذا الاحتمال نفرده بحديث
خاص.
ثانياً: فاحتمال أن يكون أعضاء في هذه الجماعات قاموا بهذه العمليات
(سواء كانوا طيارين أم خاطفين) احتمال لا يمكن تجاهله، فهذه الجماعات تضم
آلاف المنظمات التي تتعدد في أشكالها وخطاباتها السياسية وحركاتها، وفوق أن هذه
المنظمات تضم عشرات الآلاف من الأمريكيين فإنها تشكل ميليشيات مسلحة،
وتقوم بتدريب أعضائها على استعمال السلاح والمتفجرات الحية في معسكرات أو
مزارع خاصة أو غابات.
وبحسب كتاب (جنود الله - اليمين العنصري والديني المتطرف في أمريكا)
فإن هذه الجماعات تجمعها مبادئ مشتركة، أهمها:
أ - سمو العرق الآري الأبيض (الأنجلوساكسون الجرمان الغال
الإسكندنافيون، التيتونيون) باعتبارهم وحدهم أبناء آدم (عليه السلام) ؛ ومن ثم:
فإنهم يعدون العرق الأبيض هو شعب الله المختار، ويعدون أمريكا هي إسرائيل
البيضاء، وعلى ذلك فهم يقاومون اختلاط الأعراق الذي تسوغه التعددية الثقافية
وعملية الصهر داخل المجتمع الأمريكي.
ب - الهوية المسيحية هوية دينية، بمعنى أن أمريكا المسيحية هي إسرائيل
الحقيقية وريثة مملكة يهوه إله الكتاب المقدس التي تطبق قوانين يهوه.
ج - الهوية القومية الأمريكانية: لتكون أمريكا أمة آرية بيضاء مسيحية
خالصة: لا بد من تحريرها من جميع الأعراق والأديان الأخرى؛ ولذا: فهم
يشعرون بفخر وطني شاذ، وأن لديهم تفويضاً إلهياً بهذا التحرير.
د - تقديس الحريات الفردية، وعلى رأسها: الحرية الدينية، وحرية التعبير،
وحرية حمل السلاح، وحق الدفاع عن النفس، وحق تقرير المصير، ويرون أن
هامش الحريات في مجتمعهم خاضع لأهواء الحكومة الفيدرالية.
ومن تفاعل المبادئ السابقة لدى تلك الجماعات فإن أفرادها يعتقدون أنهم
مستعمرون في ظل حكومة شيطانية ماسونية صهيونية تصادر حرياتهم وتحكمهم
بأسلوب ديكتاتوري بهدف السيطرة على أمريكا لصالح اليهود، ضمن مخطط عالمي
تديره الأمم المتحدة يهدف إلى القضاء على الجنس الآري أو إخضاعه على الأقل.
لذا فهم يرون أنه: يجب الانفصال عن هذه الحكومة وعن غير البيض
ومقاومتهم والثورة عليهم ولو بالعنف المسلح وتشكيل مؤسسات حكومية خاصة،
فينص يمين الولاء الذي يقسمه أفرادها على الآتي: «نقسم بأن واجبنا المقدس هو
أن نقوم بكل ما هو ضروري لتحرير شعبنا من اليهود وتحقيق النصر الكامل للعرق
الآري.. إننا نتعهد بدمائنا ونعلن أننا في حالة حرب كاملة» .
ومن ثم: فقد شجعت هذه الجماعات العمل المسلح، وشاع فيها ثقافة العنف
والعنصرية والانتحار، بل إن بعض قادتهم أعلنوا مراراً أن الحرب الأهلية
الأمريكية لم تنته، وأن هناك ثورة أمريكية ثانية، وأنهم يعدون العدة للزحف نحو
واشنطن! وقد انخرطت هذه التنظيمات في عمليات عنف وقتل عديدة وخطيرة،
ليوجهوا الكراهية والعداء وأعمال العنف ضد رموز الحكومة الفيدرالية وضد
الأقليات العرقية والأجانب.
وهناك ثلاثة حوادث عنف كبرى تسجل في ملف هذه الجماعات:
الأول: عام 1992م وعرف باسم حادث روبي ريدج وأسفر عن مقتل ثلاثة
أشخاص.
الثاني: عام 1993م، وعرف باسم حريق مجمع الديفيديين في واكو بتكساس،
وأسفر عن مقتل أكثر من ثمانين شخصاً معظمهم من الديفيديين، الذين يقال إنهم
انتحروا حرقاً.
والثالث: انفجار المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما عام 1995م، وأسفر عن
مقتل 168 شخصاً وجرح 500 آخرين.
وقد اعترف (تيموثي ماكفي) مدبر انفجار أوكلاهوما بأنه قام بهذا العمل
انتقاماً وثأراً لمقتل الديفيديين في واكو (قام به في يوم 19/4 يوم الذكرى الثانية
للحادث، وليلة ميلاد الزعيم النازي هتلر 20/4/1889م) ، حيث كان عضواً في
ميليشيا ميتشجان، كما إنه أعلن مراراً حتى ساعة إعدامه: عدم إبدائه أي ندم أو
أسف على سقوط ضحايا، مبيناً أكثر من مرة أنه قام بهذا العمل «للحد من سوء
استغلال الحكومة للسلطة؛ إذ أخفق الآخرون في وقف القوة المتغطرسة التي تعربد
بلا حدود» ، وموضحاً أنه «قرر مخاطبة الحكومة بلهجتها» ، وأضاف قائلاً:
«قررت أن أبعث برسالة إلى حكومة تزداد عداء، بتفجير مبنى حكومي والموظفين
الذين يمثلون الحكومة بداخله!» .
ونأتي إلى حوادث تفجير نيويورك وواشنطن لنجد أنها ذات دلالات رمزية لا
تهمل:
أ - فالحوادث وقعت في أمريكا وحدها رغم اشتراك دول غربية أخرى وحلف
الأطلسي في مقومات العداء، وكان يمكن لمن في هذا المستوى من الدقة والتنسيق
من القيام بضربات في دول أخرى لإيصال رسالة أعمق.
ب - والحوادث من أكبر ما شهدته أمريكا لمناطحة غطرسة حكومتها وإسقاط
هيبتها، وطالت رموزاً واضحة لهذه الغطرسة وتلك الهيبة، عندما استهدفت مبنى
البنتاجون رمز القوة الأمريكية، واخترقت النظام الأمني الأمريكي.
ج - كما أنها دمرت مركز التجارة العالمي الذي يعد رمزاً للعولمية وذوبان
الجنسيات والقوميات في مكان واحد، ويعد أيضاً رمزاً للسيطرة اليهودية المالية.
د - كما أنه لم يعلن أحد مسؤوليته عن الهجوم مثلما لم يعلن ماكفي عن
مسؤوليته (إن كان وحده) عن تفجير أوكلاهوما.
هـ - ومن هنا: يمكن توزيع الاتهامات على (أجانب) أو (غير مسيحيين) ،
وشن حملات كراهية وعنف ضدهم لحملهم على الخروج من أمريكا وتطهيرها من
دنسهم!
و وأيضاً فإن هذه التفجيرات مدعاة إلى الدعوة إلى المحافظة على وإحياء
حق تسلح الأفراد، بدعوى وجود خطر عليهم وعلى حياتهم، وهو ما يشير إلى
التقاء مصالح اليمين الأمريكي مع مافيا السلاح القوية والنافذة.
ز - ونفذها انتحاريون مدعومون بقدرات وإمكانات واسعة ودعم لا ينقصه
التغلغل داخل المجتمع الأمريكي واختراق المؤسسات الرسمية.
ح - وقد جاءت التفجيرات بعد تنفيذ حكم الإعدام في ماكفي الذي فجر
أوكلاهوما ثأراً لحريق معسكر واكو.
وهذا الاحتمال ذهب إليه (توماس جرومكه) الخبير الألماني في شؤون
اليمين الأمريكي، حيث ذكر في حوار مع جريدة (ديرتاجيس شبيجل) نقل
ملخصه موقع محيط أن لديه معلومات بأن سلطات الأمن الأمريكية تقوي تحرياتها
في اتجاه مسؤولية اليمين المتطرف المعروف بالتعصب وبالأيديولوجية المتطرفة
اللازمة للقيام بمثل هذا الهجوم (الكاميكازي) ، ولديهم أيضاً الإمكانيات
الاستراتيجية الهائلة، مضيفاً أن الدقة غير العادية التي تم بها الهجوم تتجاوز قدرة
المنظمات الإرهابية العادية، كما أنها تشير إلى استحالة إتمام هذه العمليات بدون
مساعدة عديد من الأمريكيين الذين يشغلون مناصب حساسة في الأجهزة الأمنية
بصورة كاملة، وليس فقط عن طريق الدعم اللوجيستي الهائل الذي يمكن من خطف
عدة طائرات في وقت واحد، بل أيضاً الهروب من أجهزة الرادار، وهذا أمر غير
ممكن بدون خبرة تكنولوجية عالية من داخل المؤسسات الأمريكية نفسها ... مضيفاً
أنه لا يمكن المرور هكذا وبسهولة فوق البنتاجون بدون أن يشعر بك أحد! !
ويضيف جرومكه أن اليمين المتطرف متغلغل بالجيش بصورة كبيرة،
ويحصلون على تعاطف غير محدود؛ مما يمكنهم من الحصول على دعم لوجيستي
كبير، كما يستبعد وجود تعاون بين هذه المنظمات ومنظمات شرق أوسطية ...
ويضيف أن إليكس تورتس مؤسس جماعة (المراقب الوطني) كان قد عرض على
الإنترنت أدلة تشير إلى قدرته على إنتاج أسلحة بيولوجية، بينما تم القبض منذ
عامين على أحد أعضاء منظمة (أمة آريان) وهو ينقل فيروسات (الجمرة الخبيثة)
في سيارته.
والاحتمال نفسه رجحه جان فرانسوا جوزان أحد أبرز المتخصصين في
الإرهاب الدولي والخبير في مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية في باريس، وذلك في
حديث مع صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية.
ثالثاً: وليس اليمين الأمريكي وحده الذي يملك إمكانات القيام بمثل هذا العمل
ويتغلغل أفراده في نسيج المجتمع الأمريكي، فهناك أيضاً جهاز الموساد الإسرائيلي
واليهود الأمريكان؛ فمن المعروف أن الموساد متغلغل في الأجهزة الأمنية الأمريكية،
من خلال وجود اليهود باعتبارهم مواطنين أمريكيين في أعلى المناصب والمراكز
الأمريكية الحساسة، ويتيح لهم ذلك الوجود التحرك والتنسيق والعمل بهدوء ومن
غير إثارة شبهات.
ويشار هنا إلى أن بعض المسؤولين الأمريكيين ومنهم وزير الدفاع ألمحوا إلى
احتمال وجود دور لدولة ما في الاعتداءات؛ وإن كانوا بالطبع لا يقصدون إسرائيل
وفي الاتجاه ذاته أكد الخبير العسكري (الإسرائيلي) الذي تم تعريفه باسم
(ميراري) في حديث للإذاعة العبرية صباح يوم 12/9 استحالة وقوف منظمة
لوحدها وراء تلك الهجمات، مشيراً إلى أن هناك دولاً تقف وتدعم تلك المنظمات
في تنفيذ عملياتها، ذاكراً العراق بالاسم، الذي أضاف إليه بعض المسؤولين
الآخرين: إيران وليبيا.
وتأكيد أن يكون لدولة ما دور في الأحداث يصاحبه تجاهل تام لاحتمال أن
تكون هذه الدولة هي (إسرائيل) باعتبار أن ذلك غير وارد (بداهة) لعلاقة
إسرائيل الخاصة والمعروفة بأمريكا، ولكن (سوابق) اليهود الإرهابية قبل قيام
(إسرائيل) وأثنائه وبعده، والتي تم فيها تصفية أصدقاء - بل يهود - بأيدي أجهزة
مخابراتهم لتحقيق مصالح محددة وأهداف بعيدة تجعلنا نقف أمام هذه (البداهة)
موقف الريبة والشك.
وإذا كان للمذكورين في الاحتمالات السابقة دوافع للقيام بمثل هذه التفجيرات
فإن لـ (إسرائيل) مصالح من ورائها، أهمها:
1 - تخفيف الضغط السياسي والإعلامي عن (إسرائيل) ، وصرف الأنظار
عن الممارسات الصهيونية في فلسطين، واستغلال الفرصة لتصفية الانتفاضة بلا
رحمة، بل لتصفية القضية الفلسطينية برمتها.
2 - وضع الحركات الجهادية في فلسطين في مأزق عدم القيام بعمليات سوف
ينظر إليها العالم كله على أنها إرهاب مماثل لما تم في أمريكا، ومن ثم: يكون لدى
الصهاينة مسوغ أخلاقي وسياسي - من وجهة نظر غربية لتصفية الفلسطينيين
الناشطين بلا هوادة.
3 - تجييش العالم - وخاصة الغربي ضد الحركات الإسلامية بزعم أنها
منظمات إرهابية يجب محاربتها؛ وبذا: يخسر العالم الإسلامي المقاوم الحقيقي
للخطر الصهيوني.
4 - قطع الطريق على تحول الرأي العام الغربي نحو تفهم أفضل لمأساة
الفلسطينيين، وخاصة بعد ممارسات شارون الأخيرة، وذلك عن طريق تشويه
صورة العرب والمسلمين جميعاً.
5 - تعضيد التيار الأصولي المسيحي في الإدارة الأمريكية الذي يرى
ضرورة دعم إسرائيل لإقامة إسرائيل الكبرى وإعادة بناء الهيكل المزعوم للتعجيل
بمجيء المسيح، وذلك بإشعال عدائه للإسلام والمسلمين أكثر مما هو مشتعل.
وهكذا انطلق القادة الصهاينة في يوم الحادث نفسه لاستغلال الحدث استغلالاً
سافراً، ولقطف ثمار هذه العمليات: ففي اليوم نفسه أعلن وزير دفاعهم أن
(الإرهاب الإسلامي) هو المسؤول عن هذه العمليات، وكأنه يريد صرف الأنظار
عمداً عن احتمال تورط يهود في التفجيرات ويسابق لإلصاقها بالمسلمين لتحقيق
الأهداف السابق ذكرها.. ثم رأينا اليهود ينطلقون عقب الحادث مباشرة على ثلاثة
محاور لاستثمار الحادث:
الأول: محور عسكري سياسي لاقتناص (الفرصة الذهبية) «للقضاء على
أوكار الإرهاب، عصاباتٍ ودولاً» على حد تعبير رئيس الوزراء الأسبق نتنياهو
الذي عددها قائلاً: «السلطة الفلسطينية أولاً، ثم حزب الله وإيران والعراق
وأفغانستان، وغيرها!» ، وفي إطار هذا التحرك علت أصوات سياسييهم
وعلى رأسهم شارون بالدعوة «لإقامة تحالف يضم كل الدول ذات الحضارة
الديمقراطية لمكافحة الإرهاب» ، وأضاف بعضهم كلمة الإرهاب العربي، وبعضهم
الآخر كلمة الإرهاب الإسلامي.
الثاني: محور إعلامي عالمي؛ حيث يملك اليهود معظم وسائل الإعلام،
نشطوا فيه لتشويه صورة المسلمين والعرب والطعن في دينهم وحضارتهم بكل
وسيلة، وتسعير حملة كراهية وعداء للمسلمين والعرب.
الثالث: إظهار التعاطف مع الشعب الأمريكي والألم لما حدث له بإرسال
المساعدات الإغاثية، وعرض خدماتهم الإنقاذية والأمنية التي استفادوها من مواجهة
(الإرهاب الإسلامي والعربي) ، والتركيز على أنهم والأمريكان ضحايا عدو واحد
ويقفون في خندق واحد، ضد ذلك الإرهاب.
وفي هذا الإطار تطرح عدة تساؤلات تثير الشكوك حول عدم نفي احتمال
تورط (إسرائيل) وجهاز (الموساد) في هذه الأحداث، ومن تلك التساؤلات:
1 - هل هناك علاقة لهذه التفجيرات بتهديد كان رئيس الوزراء الأسبق
نتنياهو قد أطلقه عام 1998م بأنه سوف يشعل النار في قلب واشنطن لبيل كلينتون
إذا أجبرت الإدارة الأمريكية على ممارسة الضغوط على إسرائيل للقبول بمبادرتها
المتعلقة بالانسحاب من الضفة الغربية.
فما هي النار التي كان يقصدها نتيناهو؟ وهل يهدد رئيس وزراء دولة بما لا
يمكن لهذه الدولة فعله؟ ! ولماذا يهدد حليف حليفه؟
وجدير بالذكر أن بعض الأنباء الصحفية ذكرت أن مصادر في الإدارة
الأمريكية كشفت عن أن وزير الخارجية الأمريكي كان سيعلن في خطابه أمام الدورة
السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة سلام أمريكية ترتكز على تأييد فكرة قيام
دولة فلسطينية، لكن تفجيرات نيويورك وواشنطن حالت دون ذلك بعد أن ألغيت
الجلسات برمتها (الشرق الأوسط، 3/10/2001م) .
2 - ومن هذه التساؤلات: ما ذكر عن علم أجهزة المخابرات الإسرائيلية
السابق بهذه التفجيرات، وتورَد حول هذه النقطة معلومتان:
الأولى: ما ذكرته صحيفة (معاريف) الإسرائيلية يوم 13/9 من أن مصدراً
أمنياً إسرائيلياً نقل إلى جهات استخبارية أمريكية تحذيرات عن احتمال وقوع
عمليات تفجيرية قوية في الولايات المتحدة ضد أهداف أمريكية، ونقلت (معاريف)
عن صحيفة (إيل يوليو) الإيطالية الصادرة في اليوم السابق أن جهاز المخابرات
الخارجية الإسرائيلي (الموساد) كان أول من حذر الأسبوع الماضي من احتمال
انتقال ما وصفها بالأعمال الإرهابية من الشرق الأوسط إلى الدول الأوروبية
والولايات المتحدة.
ومن الممكن جداً أن يكون نقل هذه التحذيرات إلى أمريكا دون تحديد دقيق لها
هو لمجرد (إيجاد يد) على أمريكا من غير تأثير على العمليات نفسها التي تم
تعميتها تماماً.
الثانية: ما نقلته صحيفة (الحياة) اللندنية يوم 15/ 9 عن صحيفة (يديعوت
أحرونوت) الإسرائيلية من أن جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) رفض قبل
أسبوع طلب رئيس الحكومة إرييل شارون السفر إلى نيويورك للمشاركة في
مهرجان تضامن مع إسرائيل أعدت له المنظمات اليهودية والوكالة اليهودية، وكان
مفروضاً أن يبدأ في 23/9، ويضيف المعلق (الإسرائيلي) برنياع: أن منظمي
المهرجان التضامني الذين سعوا إلى تجنيد الأموال لدعم الدولة العبرية من خلال
حضور مئة ألف يهودي من أرجاء الولايات المتحدة كافة، اتفقوا رسمياً مع رئيس
الحكومة أن يكون هو الخطيب في الافتتاح، وهو عبر عن غبطته ووقَّع شخصياً
بطاقة الدعوة.. ويضيف: أن قادة (الشاباك) فاجؤوا المنظمين بإبلاغهم رفضهم
ظهور شارون في اجتماع حاشد «لأن مكان عقده يشكل خطراً كبيراً على سلامته» ،
ولم تفلح محاولات شارون ورئيس الوكالة اليهودية في عدول قادة الشاباك عن رأيهم؛
مما حدا بسكرتيرة شارون إلى إبلاغ المنظمين إلغاء مشاركة شارون قبل يوم
واحد من وقوع التفجيرات.
3 - ومن الحوادث التي تثير الاستغراب والتساؤل أيضاً: ما تناقلته الصحف
عن القبض على (5) سياح إسرائيليين بعد استدعاء السكان للشرطة عندما
شاهدوهم وهم يصورون البرجين المهدومين وهم ينكتون ويتضاحكون ويسخرون
من الأمريكيين المفزوعين، ثم راحوا يصيحون ويغنون ويرقصون وهم يتفوهون
بكلمات ساخرة! والجدير بالذكر أن رئيس بلدية نيويورك (سامحهم) ولم يحاكمهم
وأفرج عنهم بعد أن كانت الشرطة تحقق معهم للاشتباه بانتمائهم للموساد بعد تدخل
القنصلية الإسرائيلية لديه ولدى حاكم الولاية وإقناعهما بأن هؤلاء مجرد شباب
طائشين!
4 - ومن التساؤلات: ما ذكر عن حدوث تلاعب كبير وغير عادي في
مضاربات الأسهم عبر عمليات بيع على المكشوف في أسواق البورصات العالمية
خلال الأيام القليلة السابقة للتفجيرات؛ مما مكن هؤلاء المضاربين من جني أرباح
طائلة تقدر بمليارات الدولارات، وقد تركزت المضاربات المشبوهة حول ثلاث
شركات تأمين أوروبية، وشركتين للاستثمار في وول ستريت، وشركتي الطيران
يونايتد إيرلاينز وأمريكان إيرلاينز دون غيرهما، وهما اللتان تم اختطاف طائرتين
من كل منهما واستخدمتا في التفجيرات.
وقد حاول بعض المسؤولين تركيز الاشتباه في هذه المعاملات على ما أسموه
بشبكة بن لادن، غير أنه من غير المعروف عن إسلاميين مشاركتهم في أنشطة
اقتصادية من هذه النوع ابتداءً، ويبقى ذلك الاحتمال تجاههم مجرد تخمين غير
مبني على دلائل أو قرائن، وخاصة أن خبراء ماليين يستبعدون تورط متعاملين
ماليين يعملون لحساب بن لادن؛ لأن ذلك يعد (انتحاراً) بسبب مخاطر هذه العملية
المالية وسهولة كشف مدبريها، ويبقى بعد ذلك الاحتمال الآخر، وهو: أن أطرافاً
مخابراتية تقف وراءها، ومن المعروف أن الدوائر المالية اليهودية من أكبر
المتعاملين في البورصات العالمية.
ويطرح مع هذا التساؤل تساؤل آخر حول إن كانت هناك علاقة أو دلالة لبيع
هيئة الموانئ وهي هيئة يسيطر عليها اليهود لبرجي التجارة العالمية بمبلغ 307
مليار دولار قبل سبعة أشهر من وقوع التفجيرات!
5 - ومن التساؤلات أيضاً: مدى وجود علاقة بين أحداث التفجيرات الأخيرة
ولغز الاختفاء الغامض للمتدربة اليهودية في الكونجرس الأمريكي شاندرا، حيث
كانت على علاقة سرية وغير مشروعة مع عضو الكونجرس الأمريكي كونديت
الذي هو في الوقت نفسه عضو لجنة الاستخبارات المسؤولة عن ثلاث عشرة وكالة
مخابرات، ويقال إن شاندرا حصلت من كونديت على أسرار خطيرة، سواء منه
مباشرة أو عن طريق قراءتها أو تصويرها لتقارير وكالة الاستخبارات المركزية
(CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA) ، فهل تدخل هذه الأحداث وهذا الاختفاء
الغامض في إطار الحروب المخابراتية الخفية؟ .. يحتمل! .
أخيراً: نقول في هذا الاحتمال: إن صحيفة (نيوز امبرجو) الكندية كشفت
عن أن مصادر من الـ (CIA) أكدت لها أن لديها معلومات شبه أكيدة بتورط
جهاز الموساد في الهجمات الأخيرة على مبنيي مركز التجارة العالمي والبنتاجون،
وقد أكد المصدر ... أن هذه الاحتمالات واردة، وأن أجهزتهم كشفت وجود تهديد
(إسرائيلي) بضرب منشآت في الولايات المتحدة من أجل إثارة الرأي العام ضد
العرب ...
وقال المصدر: إن هذا الهجوم يتطلب دقة عسكرية عالية جداً في التنفيذ،
وأن العمل تم تنفيذه من قبل جيش أو جهة استخباراتية عالمية لا من قبل إرهابيين
لا يملكون ما تملكه الدول العظمى في هذا المجال.
رابعاً: وهناك عدة احتمالات أخرى متساوية في القوة أو في الضعف نوردها
في النقاط الآتية:
أ -أن يكون هناك دور لدول (شرق أوسطية) أخرى في هذه الأحداث،
وعلى رأسها العراق وإيران، وقد سربت بعض الأخبار عن التقاء المشتبه في
اتهامه محمد عطا بضابط مخابرات عراقي في أوروبا قبل أشهر، وأن بغداد تقوم
بتمويل إسلاميين متهمين بـ (الإرهاب) كالمصري أيمن الظواهري واللبناني
عمار مغنية، كما ألمحت مصادر أخرى إلى أن منشقاً إيرانياً كان قد أبلغ السلطات
الألمانية قبل أسبوع من التفجيرات عن معلومات لديه عن حدوث عمليات إرهابية
في واشنطن ونيويورك، وحاول تحذير أجهزة الاستخبارات الأمريكية، إلا أن
السلطات لم تأخذ أقواله بجدية، ثم صرح بعض المسؤولين الأمريكيين باستبعاد
وجود دور لمثل هذه الدول في التفجيرات، وربما يكون هذا الاستبعاد وتلك
التسريبات بقصد إبقاء هذه الدول تحت حد السلاح الأمريكي المسلط لضربها إذا
استدعت الأحداث ذلك.
ب - أن يكون وراء هذه التفجيرات مافيا تهريب المخدرات، حيث جاءت
هذه التفجيرات بعد أسبوع واحد من تسليم (فابيو أشوا) أحد كبار مهربي
المخدرات الكولومبيين إلى السلطات الأمريكية، وكان أنصاره قد هددوا بـ
«تحويل أمريكا إلى جحيم» في حالة تسليمه، وبأنهم سيجعلون الحكومة الأمريكية
تندم على محاكمته، وقد تزامنت هذه التفجيرات مع زيارة كان وزير الخارجية
الأمريكي كولن باول في طريقه للقيام بها إلى كولومبيا في خطوة تأييد لمساعي
الحكومة الكولومبية لمحاربة عصابات تهريب المخدرات، ومن المعروف أن
شبكات هذه العصابات داخل أمريكا وخارجها ذات انتشار واسع ونفوذ قوي
وإمكانات كبيرة تمكنها من القيام بمثل هذا العمل، وإن افتقرت إلى دافع عقائدي
يدفع أفرادها للقيام بمثل هذه العمليات (الانتحارية) .
ج - كما يشار إلى احتمال وجود علاقة بين التفجيرات وموقف أمريكا من
مؤتمر مكافحة العنصرية في ديربان، وقد ثارت تكهنات صحفية بهذا الخصوص
عقب الحوادث مباشرة؛ مما دعا الوزير في رئاسة جمهورية جنوب أفريقيا
(إيسهوب بهاد) إلى رفض هذه التكهنات.
د - ومن هذه الاحتمالات: ما ذكره السياسي الروسي المعروف فلاديمير
جيرينوفسكي في مؤتمر صحفي عقده في موسكو، حيث اتهم ما أسماه (النخبة
المالية الدولية) بالتخطيط للهجمات ضد منشآت أمريكية وتنفيذها لإحداث صدام بين
الغرب والعالم الإسلامي، وقال: إن هذه العمليات الإرهابية «جرى التحضير لها
في أمريكا نفسها، ولا علاقة لأي دولة أخرى بها» ، وأكد أن «العديد من
المؤشرات» تدل على ذلك، واعتبر أن اتهام أسامة بن لادن بالوقوف خلف
التفجيرات أمر لا دليل عليه حتى الآن.
العدالة الأمريكية المحترقة والإسلامفوبيا:
لا يفهم من كلامنا السابق أننا ننفي وجود احتمال بأن يكون إسلاميون وراء
هذه التفجيرات، وقد كفتنا أجهزة الإعلام الأخرى والعديدة الخوض في الحديث عن
هذا الاحتمال، ولكن الذي نريد إضافته هو أن الاحتمالات حول هوية من قام بهذه
التفجيرات عديدة ومتقاربة القوة، ورغم ذلك فمن دون كل هذه الاحتمالات لم يرق
للأجهزة الأمريكية إلا اتهام الإسلاميين وحدهم وأفغانستان (ضمناً) ، حيث ركزت
الجهود، وسلطت الأضواء على هذا الاحتمال دون غيره، مع استبعاد جميع
الاحتمالات الأخرى رغم وجود قرائن قوية تجعلنا لا نستبعدها.
ويمكننا القول إنه - إذا كان هناك بقية من حرص وخوف على المصالح
الأمريكية والأمن القومي الأمريكي - فإن التحقيقات الحقيقية - غير المعلنة - ربما
لا يكون لها علاقة بكل ما هو معلن، وأن ما أعلن وما يعلن وما سوف يعلن يهدف
إلى أهداف أخرى لا علاقة لها بمعرفة حقيقة مدبر هذه الانفجارات، حتى وإن
صادف ذلك الإعلان الحقيقة في النهاية، لأن المستهدف هو استخدام ما يعلن
للتغطية على هذه الأهداف وترضية الرأي العام الأمريكي وإيجاد الذريعة أمام الرأي
العام العالمي.
وقد أعلن الرئيس بوش يوم 25/9/2001م رفضه للكشف عن أدلة تورط بن
لادن وتنظيمه في التفجيرات، وفي الوقت نفسه ما زالت أمريكا تطالب العالم
بمشاركتها في حربها ضد ما تسميه الإرهاب، وإلا فإن الممتنع عن المشاركة في
هذا التحالف سيكون داعماً للإرهاب.
والحقيقة أن أمريكا لا تشعر بحاجتها إلى وجود أدلة؛ لأن حالة الخوف
المرضي من الإسلام (الإسلامفوبيا) التي تعيشها، والتي عبرت عنها بالإشارة إلى
ضلوع الإسلاميين في الحادث قبل انتهاء عمل 7 آلاف محقق من البحث في 2500
خيط تحقيق كما أعلن؛ هذه الحالة تجعلها تسعى للقضاء على هذا الخطر سواء كان
وراء هذه الأحداث أو لم يكن.
كما أنها لا تشعر بحاجتها إلى تقديم أدلة إلى من تطالبهم بالتحالف معها؛ لأن
الغرور الأمريكي يفترض أن الآخرين يثقون بلا تحفظ في نزاهة العدالة الأمريكية،
ويفترض أن خوف أمريكا من عدو يشاركها فيه الآخرون أو هكذا ينبغي وأن
مصالح أمريكا هي نفسها مصالح العالم أجمع؛ وهكذا فهي تحسم خيارها وتريد من
العالم اتباعها عليه وهو مغمض العينين.
إننا في النهاية إذا لم نقل إن الأجهزة الأمريكية نفسها لها ضلع في هذه
الأحداث - وهذا غير وارد في ضوء المعطيات التي بين أيدينا -، وإذا لم نقل إن
بعض الأطراف والقوى داخل النظام الأمريكي متورط في الأحداث بنفسه أو عن
طريق أطراف أخرى وهذا غير مستبعد فإننا نستطيع القول باطمئنان: إن الإدارة
الأمريكية استغلت الحدث أياً كان فاعله - لتحقيق أهداف وتنفيذ مخططات معدة سلفاً
قبل الحوادث، وقد تكون هذه الحوادث عجلت بإخراج هذه المخططات التي قد
يستغرق تنفيذها سنوات، ولكنها ليست هي التي أوجدتها.
ويمكننا في عجالة تلخيص هذه الأهداف والمخططات كما ظهرت من الدوافع
والتحركات الأمريكية فيما يأتي:
1 - القضاء على قوة التيارات الإسلامية وخاصة الدعوية المتنامية في العالم
الإسلامي باسم محاربة الإرهاب، بما يفسح المجال لتوغل أمريكي وغربي
حضاري وسياسي واقتصادي وعسكري في هذا العالم؛ حيث إن هذه التيارات هي
المعارض الحقيقي لهذا التوغل.
2 - إحداث اضطرابات وقلاقل داخل دول العالم الإسلامي عن طريق إقحام
حكوماتها في مواجهات عدائية شاملة وقاسية مع التيارات الإسلامية المعارضة، بما
يضعف هذه الحكومات ويجعلها رهينة للحماية الأمريكية المستمرة، ويقضي على
هذه التيارات في الوقت نفسه.
3 - تهيئة الأجواء والتوطئة على أرض الواقع لإعادة رسم خارطة المنطقة،
وتعديل موازين القوى للوصول في المستقبل القريب إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى
وبناء هيكل سليمان، وهذا هدف ملح للتيار الأصولي في الإدارة الأمريكية.
4 - القضاء على دولة أفغانستان الخارجة عن (الإجماع الدولي) وما تمثله
من خطر وجود قواعد آمنة لتفريخ مسلمين (خطرين) .
5 - محاصرة إيران (القوة العسكرية المتنامية) من الشمال والشرق إلى
جانب القوات الموجودة في الغرب والجنوب.
6 - استهداف باكستان وبرنامجها النووي خشية وقوعه في أيدي إسلاميين
(متطرفين) ، حيث لا يؤمَن عدم وقوع ذلك في ظل نظام حكم هش متقلب.
7 - إكمال تطويق العالم الإسلامي بحلف هندي روسي (أو من الجمهوريات
السوفييتية السابقة) تركي إسرائيلي إثيوبي.
8 - التواجد في منطقة آسيا الوسطى لمحاولة أن يكون لأمريكا نصيب في
كعكة ثروات بحر قزوين، الذي أسفرت التنقيبات فيه عن وجود احتياطات
استراتيجية ضخمة من النفط والغاز وثروات أخرى فاقت كل التصورات، ويتنافس
عليها - بحكم الموقع الجغرافي - خمس دول: روسيا، وإيران، وكازخستان،
وأذربيجان، وتركمانستان.
9 - تعزيز أداء الاقتصاد الأمريكي؛ حيث يرى الخبراء أن الإنفاق الحكومي
في حرب - بشرط ألا تكون برية طويلة الأمد سيعطي على الأرجح دفعة قوية
لقطاعات من الاقتصاد، كما أن التركيز الجديد على الأمن ونشاطات الاستخبارات
قد يحوِّل جزءاً من هذه الفوائد إلى تكنولوجيا المعلومات، بحيث لا تقتصر على
العتاد التقليدي. ويقول أكاديميون: إن الحرب ساعدت في الماضي على انتشال
أمريكا من براثن الكساد بفضل الانتعاش الاقتصادي الناتج عن الإنفاق الحكومي
على الأسلحة والإمدادات.
هذه - بحسب ما أرى - هي أهم ملامح الأهداف والمخططات الأمريكية التي
يراد تحقيقها حتى ولو أدى ذلك إلى إحراق العالم الإسلامي مع العدالة الأمريكية.(168/55)
المسلمون والعالم
الإسلاميون.. وساعة الحقيقة
(3)
الورطة الكبرى لقوى التخالف
عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
كان من المفترض أن يكون هذا المقال جواباً عن السؤال الذي كان ماثلاً أمام
الجميع ومطروحاً من الجميع وهو: (ماذا نفعل) بشأن قضية المسلمين الأولى في
بيت المقدس؟ وهو السؤال الذي ختمت به المقال الثاني من حلقات: (الإسلاميون
وساعة الحقيقة) ولكن الأحداث التي وقعت في أمريكا ثم أفغانستان دهمت الجميع،
وقلبت أوراق الجميع؛ فقبل أن ننتهي من مواجهة أنفسنا بـ (ساعة الحقيقة) إذا
بها تواجهنا في ساحة الخطر الدقيقة التي لم يتفاجأ بها الإسلاميون وحدهم، بل
فجأت الأمة الإسلامية جميعاً على حين غرة، وعلى غير استعداد في كل
المستويات.
لقد تكاثرت الآراء، وتباينت التحليلات حول أبعاد وتداعيات ما حدث في
الولايات المتحدة الأمريكية في العام الأول من الألفية الثالثة؛ حيث لم يكن يخطر
ببال أحد من الناس حتى أكثرهم تشاؤماً أن تختتم الألفية الثانية بأحداث الانتفاضة
الدامية الباكية، والتي لا يعرف أحد إلى أي شيء ستنتهي، ولم يكن يخطر ببال
أحد أيضاً أن تفتتح الألفية الثالثة [1] بأحداث تفجيرات أمريكا التي لا يعرف أحد
أيضاً إلى أي شيء ستقود العالم؟
إلا أن الشعور يتزايد بأن العالم كله أصبح على شفا ورطة كبرى تتوزع
أجزاؤها على مختلف الدول المهمة، بحيث لا يتصور أن دولة مهمة واحدة يمكن
أن تفلت من نصيبٍ قل أو كثر من تلك الورطات.
الورطة الأمريكية: لا حدود للورطة الأمريكية بسبب ما وقع على أرض
أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر 2001م؛ فالخسائر العسكرية أكبر من خسائر
أي حرب حقيقية خاضتها أمريكا؛ لأن تدمير مركز القيادة العسكرية في قلعة
(البنتاغون) قد حصد أرواح ما لا يقل عن 800 من كبار موظفي إدارة الجيش
الأمريكي وهو أثمن عند أمريكا من الدبابات وأغلى من الغواصات والطائرات
والصواريخ، فهؤلاء الضحايا العسكريون قد قضوا وقضت معهم خبرات وأخبار،
وخطط وأسرار لن تستطيع أمريكا بشكل شبه مؤكد تعويض خسارتها فيهم على
المدى القريب، أما ما هو مؤكد بالفعل، فإن أمريكا ستخوض حربها الأولى في
القرن الحادي والعشرين محرومة من تلك الإمكانات والكفاءات.
ومن الناحية الاقتصادية لا شك أن الكسر الذي أصاب الاقتصاد الأمريكي غير
قابل للجبر على المدى القريب، وقد لا ينجبر أبداً ليعود كما كان؛ حيث دخلت
أمريكا والعالم معها مجاهل أزمة اقتصادية مجهولة الأبعاد، ربما تحرمها إلى الأبد
من ميزة الرفاه الزائد، والفائض المتراكم الذي كانت تتمتع به لأكثر من ربع قرن.
أمريكا دخلت الحرب ضد أفغانستان، ومجرد الدخول في تلك الحرب هو في
حد ذاته ورطة كبيرة ذات فروع؛ فمن فروعها أن أمريكا اضطرت للدخول في تلك
الحرب بشكل شبه ارتجالي، وبتحالفات غير متينة ولا واضحة المعالم، وقد
اضطرت لهذه العجلة وذلك الارتجال تحت ضغط الداخل الأمريكي الثائر، والخارج
الأمريكي الشامت، فلم يكن بوسع الإدارة الأمريكية إلا أن تتخذ قرار الحرب، ولم
يكن بوسعها إلا أن تبدأ تلك الحرب خارج حدودها وهي غير آمنة للمرة الأولى في
تاريخها على ما هو داخل حدودها، وتلك ورطة أخرى؛ فالحرب قد تطول فتطول
معها حالة الطوارئ داخل أمريكا، وفي هذا ما فيه من ضغط هائل على الإدارة
الأمريكية لكي تنتهي في أسرع وقت من تلك الحرب! وكيف يمكن لأمريكا أن
تنتهي (بسرعة) من تلك الحرب التي استمر مثلها مع الاتحاد السوفييتي عشر
سنوات قبل أن تحسم لصالح الأفغان؟ !
وكيف تنتهي منها بسرعة وتخرج فيها منتصرة وقد تعهدت أمام العالم بتحقيق
أهداف محددة وهي القضاء على كل أعدائها في أفغانستان على عجل لتتفرغ للقضاء
على بقيتهم في كل بقاع العالم! لقد اعتبر قادة أمريكا أن تحقيق النصر لا يتم إلا
بتحقيق هذا الهدف، ولهذا تعهد بوش أمام شعبه والعالم بتحقيق النصر وقال:
(سننتصر حتماً) ! ! ولكن: بما أن النصر من عند الله وليس من عند بوش؛ فإن
هذا الرئيس قد ألجأ بلاده بهذا التعهد المعلن إلى أضيق طريق، وأوقع نفسه وإدارته
في حرج بالغ؛ لأن الأمر في أفغانستان ليس مجرد إخراج قوات غازية ستنتهي
الحرب بإخراجها كما حدث في العراق ولكنه هدف صعب إن لم يكن مستحيل
التحقيق لأن القضاء على أفراد معينين يعدون بالآلاف، ويمكن أن يظلوا متنقلين
من مكان إلى مكان في أرجاء التضاريس الوعرة لأفغانستان ولفترات قد تستمر
لسنوات، مهمة في غاية التعقيد لا يستطيع بوش أن يثبت انتصاره دون أن يثبتها،
وإثباتها يعني حقيقةً إفناء أفغانستان؛ فهذا هو الطريق الوحيد والمستحيل طبعاً
للقضاء على مقاومة هذا الشعب.
فالحرب في رأينا وعلى خلاف ما أعلن برويز مشرف ستطول وتطول، وقد
تستمر لسنوات أو لعقود، وطيلة هذا الاستمرار؛ من يضمن لأمريكا ألا يجرها
ساستها إلى مزيد من الورطات؟ !
لقد دشنت أمريكا حرباً (عالمية) ليست مقصورة داخل حدودها، وأمريكا
نفسها ليست محصورة داخل أرضها؛ لأنها دولة كوكبية المصالح، عالمية المرافق،
سرطانية الانتشار، فكيف تستطيع دولة بهدا الاتساع أن تفرض لصالحها حالة
(الطوارئ) على العالم؟ !
إن أمريكا في الوقت الذي لا تزال تحشد فيه لتحالف دولي (معها) لحروب
أخرى في غير أفغانستان فإنها تحشد بنفسها في الوقت نفسه تحالفاً آخر ضدها؛
ذلك لأنها رفضت مبدأ الحياد، واشترطت في صرامة واضحة أن من ليس معها
فهو ضدها.
وهذا توريط للعالم فالعالم.. إن العالم في كل تاريخه لم يشهد حرباً واحدة
تحقق فيها ذلك الشرط الأمريكي؛ بل كان هناك دائماً محايدون، أو حتى متفرجون؛
فكيف تريد أمريكا من عالم اليوم المعقد في علاقاته المتشابك في مصالحه أن يقف
صفاً واحداً معها في حرب ستستمر كما قالت عشر سنوات وتشمل ستين دولة؟ !
سوف ننتظر لنرى ماذا ستفعل أمريكا في الدولة رقم (واحد) وهي أفغانستان،
وهل ستقنعها ورطتها في أفغانستان باستئناف المسيرة (الصليبية) إلى الدولة رقم
(60) أم ستغير رأيها؟ !
الورطة الأوروبية التركية: نجحت أمريكا طوال العقود التي تلت الحرب
العالمية الثانية في أن تجعل من أوروبا تابعاً لها، غير قادرة على منافستها فضلاً
عن مواجهتها، ولما جاءت الضربات المسقطة للهيبة الأمريكية، فرح الأوروبيون
متظاهرين بالحزن العميق بمن فيهم بريطانيا التي قال أحد المسؤولين فيها: «إن
سلاحنا النووي سلاح أمريكي؛ ولو لم نكن مع أمريكا في خندق واحد لحرمتنا من
هذا السلاح» .
ولما كان سقوط أمريكا سقوط الجريح لا سقوط القتيل بعد ضربات نيويورك
وواشنطن، فقد عزمت على الثأر، وشرعت في الترتيب لتفعيل تحالف عسكري
مشترك مع أوروبا يقاتل معها في قضية لا تخص الأوروبيين، يريد الأمريكيون أن
يحاربوا فيها عدواً خفياً حتى آخر جندي أوروبي! ! في البداية سيداهن الأوروبيون
أمريكا، وأغلب الظن أن أكثرهم سيكتشف خطأ الانسياق الأعمى وراء رغباتها
الانتقامية التي ستفسد علاقات أوروبا مع الكثير من الدول المستهدفة، بل قد تقود
إلى تعريض أوروبا للخطر في حالة اتساع الحرب واختلاط أوراقها على مستوى
الدول، وخاصة أن التقارير العسكرية كانت تحذر قبل الهجوم بأيام من أن أي
صواريخ يمكن أن توجه لأمريكا إذا واجهت حرباً من عدوٍ ما، يمتلك الصواريخ
العابرة للقارات، فإنها سوف تسقط على المدن الأوروبية قبل أن تصل إلى المدن
الأمريكية. فهل تقبل أوروبا كلها باختراق جدران عواصمها من أجل جبران
الخواطر الأمريكية؟ هذا ما لا يترجح للآن إلا إذا وجد الأوروبيون أنفسهم في
مواجهة الخطر الأمريكي ذاته. ومن أوجه تورط أوروبا، أن خيار كثير من دولها
صعب بين أن تكون (مع) أمريكا أو (ضد) أمريكا؛ فأمريكا التي رفضت مبدأ
الحياد في الأزمة، ستضطر بعض الدول اضطراراً للنزول على أوامرها، ودول
أخرى ستضطر إلى إعلان معارضة الدخول في التحالف معها، وهذا بحد ذاته
ورطة أخرى ستهدد الوحدة الأوروبية أو تغير مسارها على الأقل.
أما عن الدولة التركية المسلمة السكان، الأوروبية الهوى، فإن ورطتها مع
أوروبا حادة؛ لأن الأوروبيين الذين رفضوا بإباء أن يضموها لدول المجموعة
الأوروبية الاقتصادية لدواعٍ (ثقافية) هم الذين يريدون الآن منها أن تدفع من
سيادتها ثمناً باهظاً مقابل ضمها لـ (حلف شمال الأطلسي) فالقوات الأمريكية
العسكرية في قاعدة (إنجرليك) التركية كانت منطلقاً لخوض الحرب وستصبح
تركيا طرفاً فيها. وهذا التورط التركي في الأزمات الراهنة والمقبلة قد ينعش
حركات التمرد داخل تركيا، وقد يعيد شرق أوروبا إلى توترات ظنت أوروبا
الغربية أنها قد فرغت من جُل مشاكلها في بلاد البلقان وما حولها.
إن أوروبا الغربية ذات الأغلبية الكاثوليكية، وأوروبا الشرقية ذات الأغلبية
الأرثوذكسية لن تسلسا قيادهما بسهولة لصالح أمريكا البروتستانتية في حربها الألفية،
وخاصة أن الفرصة القائمة الآن لإنزال أمريكا من فوق كرسي التفرد بزعامة
العالم، قد لا تعوض إذا فُوتت، وإذا فاتت فعلى أوروبا أن ترضى دوماً بالتبعية
الذليلة لأمريكا، كما ترضى تركيا بالتبعية الذليلة لأوروبا. نستطيع أن نقول: إن
كل الورطات الأمريكية في الحروب المقبلة بالأصالة، ستكون أوروبية بالتبعية.
الورطة الروسية الصينية: عاشت روسيا عقود النصف الثاني من القرن
الماضي على أمل الوصول إلى المياه الدافئة قرب الخليج العربي، لتنعم بمشاركة
الغرب في نهب العرب، ولكن ملحمة الجهاد الأفغاني الأولى خيبت مسعاها وعطلت
خطاها، وتبع ذلك انفراط عقدها الفريد الذي نظمته في سلك الظلم والطغيان؛
فهوى اتحاد الإلحاد السوفييتي الذي أقامته روسيا، وتبع ذلك ضعف وفاقة اقتصادية
هددت الاتحاد الروسي نفسه بالتفكك، حتى أصبح الروس يتكففون الدول الغنية.
وجاء الهجوم على أمريكا ليضع روسيا على محك الابتزاز الغربي؛ حيث تطمعها
أمريكا الآن في الدعم الاقتصادي مقابل التعاون العسكري بالاشتراك في التحالف،
إضافة إلى الدعم السياسي بالسكوت عنها في الشيشان مقابل أن تتعاون روسيا في
غزو أفغانستان، ولكن الدب الروسي سيظل متردداً في دخول تلك المصيدة فلا
تزال مخالبه دامية من جراء التورط في أفغانستان، الذي جر على روسيا كل ما قد
كان، ثم إن السكوت على (احتلال) أمريكا لأفغانستان تحت مسمى أي حكومة
وطنية (مخلصة) لا يعني لروسيا إلا الانتحار؛ حيث ستضطر للقبول بوجود
أمريكي دائم على حدودها، وهذا ما لم يخطر لقادة الكرملين السابقين واللاحقين ولو
في الكوابيس، ثم أن روسيا التي حرمتها أمريكا من المشاركة في ثروات الخليج
بعد أن أشركتها في التحالف ضد العراق، تريد أمريكا منها الآن أن تتحالف معها
ضد أفغانستان من أجل أن تنفرد هي بثروات بحر قزوين، فهل سترضى روسيا
بأن تضحك عليها أمريكا مرتين. وما يقال عن تخوف روسيا من التقارب الإجباري
مع أمريكا، يقال عن الصين التي حرصت أن تجعل من باكستان وأفغانستان جُنة
واقية، وساحة فاصلة عن أي اقتراب غربي أمريكي يمكن أن يزعج أحلام المارد
الأصفر المسترخي في عزلته. فهل ستسلم الصين لأمريكا في تثبيت نظام عميل لها
كما تريد في بلد لها حدود مع الصين؟ وهل ترتكب أمريكا حماقة فتح جزء من
الردم في بناء من يعتبرهم الشعب الأمريكي قوم يأجوج ومأجوج؟ !
الورطة الباكستانية الهندية: الهند والباكستان دولتان نوويتان متجاورتان،
حازتا السلاح النووي لكي تحميا نفسيهما به، ولكنهما وجدتا نفسيهما في حاجة إلى
حماية ذلك السلاح، أو بالأدق حماية نفسيهما منه، بعد أن تبين أنه أصبح يشكل
تهديداً داخلياً أكثر منه رادعاً خارجياً، وقد تأكد ذلك في الأيام الأولى من الهجوم
على أمريكا، حيث كشف مسؤولون باكستانيون كبار أن أمريكا مارست على الإدارة
الباكستانية إذا لم تتحالف معها ضغوطاً ترهيبية، منذرة إياها بأن (إسرائيل) لديها
خطط جاهزة لتفجير المحطة النووية الباكستانية. ولم يشأ الأمريكيون أن يذكروا
الهند صراحة، مع أن التهديد بها أقرب؛ لأن باكستان تعي نوايا الهند العدوانية
المبيتة، ولم يكن هناك لدى باكستان من خيار في الأمر إلا الأمرّ منهما، فاختارت
الوقوف مع أمريكا ضد أفغانستان، وقد كان في هذا القرار خطر لا يقل عن الخطر
النووي على المدى البعيد؛ لأن باكستان دولة تتحكم فيها العرقية حتى النخاع،
ومعنى ضرب أفغانستان من داخل باكستان أن ملايين الباكستانيين من أصحاب
العرقية البشتونية التي ينتمي إليها جمهور طالبان سيكونون أعداء للحكومة
الباكستانية، وإذا سعوا إلى إسقاطها فقد تقع البلاد في دوامة حرب أهلية لا تنتهي
بسهولة. يضاف إلى ذلك أن أفغانستان لو أقيم فيها حكم ممالئ للأمريكان ومناوئ
لباكستان؛ فإن الأخيرة سوف تضطر لإعادة كل حساباتها الداخلية والخارجية، بما
في ذلك إعادة نشر قواتها على كامل الحدود المشتركة مع أفغانستان، وهي حدود
في غاية الطول 2500 كم؛ بحيث تكاد تستحيل السيطرة عليها. أما الهند فقد تجد
نفسها في مواجهة نووية مباشرة مع باكستان إذا عزمت على اقتناص فرصة الرغبة
المشتركة مع أمريكا في القضاء على المقاومة الباكستانية الإسلامية في كشمير،
والتي تعد بالنسبة لباكستان قضية حياة أو موت، إضافة إلى أن كشمير ستتحول
إلى طالبان أخرى في خاصرة الهند حتى لو بسطت الهند سيطرتها عليها.
الورطة الإيرانية الأفغانية: ظلت إيران متوجسة بعد مجيء حكومة طالبان
في أفغانستان من عدم الاستقرار على حدودها الشرقية، وقد تدعمت تلك المخاوف
بعد سقوط المواقع الشيعية في (باميان) الأفغانية على أيدي القوات الطالبانية في
العام 1998م، وأقبلت إيران بالاشتراك مع الهند وروسيا على دعم قوى التحالف
الشمالي (المجاهدين سابقاً) ضد حكومة طالبان، وجاءت الأحداث الأخيرة لتوقع
إيران في شراك فخ خطير؛ فإيران التي لا تريد حكومة سنِّية قوية بجوارها لا تقبل
بحكومة عميلة للأمريكان على بعد خطوات منها، خاصة إذا قبلت تلك الحكومة
وذلك أمر مؤكد بوجود أمريكي دائم في أفغانستان على غرار الوجود الأمريكي في
البلقان. ولكن هذا الخطر المتوقع لا يمكن أن يدفع إيران إلى التعاون مع أفغانستان،
ولا يمكن أيضاً أن يدفعها إلى التحالف مع الأمريكان؛ فماذا تفعل إيران في هذه
الورطة؟
الراجح أنها ستركز على الوقوف مع المقربين منها من مناوئي طالبان؛ ولكن
مشكلة هؤلاء أيضاً أنهم لا ولاء عندهم لأحد، ولا ثبات في مواقفهم مع أحد؛ ولهذا
ستظل إيران واقعة في هذا الشَرَك الذي يبدو شَرَكاً أصغر بجانب الشَرَك الأكبر
المتمثل في النوايا المبيتة من الغرب تجاه إيران؛ فإيران أحد البلدان المرشحة
للتضحية بها على عتبة مقام الرضا الإسرائيلي، حتى تطمئن تلك (الإسرائيل)
إلى عدم وجود خطر مستقبل محتمل عليها في المنطقة بعد زوال الخطر العراقي.
لن تعدم الإدارة الأمريكية حيلة في مرحلة لاحقة أن تورط إيران في حرب مع
الغرب بالنيابة أو الأصالة، والذرائع جاهزة: فدعم إيران لشيعة لبنان، أو التحالف
مع شيعة سوريا، أو حتى رفض الدخول في التحالف المنعقد حالياً ضد أفغانستان،
قد يمثل بعضها ذريعة مناسبة لتصفية حسابات طال تأجيلها بين أمريكا وإيران التي
وجدت نفسها فجأة مدعوة للتحالف العسكري مع (الشيطان الأكبر الأمريكي)
لصالح (الشيطان الأصغر الإسرائيلي) ؛ فهل تجازف إيران بدعم أعداء طالبان،
أم تقع في شَرَك عائلة الشيطان؟ إنها فعلاً ورطة خطيرة، ولا تقل عنها خطورة
ورطة التحالف الشمالي المغضوب عليه من الجميع؛ فهو يحاول إثبات دور في
الأحداث، ولكن الراجح أن الدور سيأتي عليه فيجرد من قواه؛ لأن الغربيين
يريدون التخلص نهائياً من أي ذكرى لـ (الجهاد الأفغاني) ، ولهذا استدعوا
(ظاهر شاه) من على حافة القبر، لمحاولة تنصيبه ملكاً بعد غيبوبة استمرت ثلاثين
عاماً، ومن العجيب أن التحالف الشمالي (الإسلامي جداً) تورط في التحالف مع
ظاهر شاه الذي (كان) خائناً؛ ليقدم الطرفان للأمريكان قربان عرفان من دماء
الأفغان.
الورطة العراقية الخليجية: الخيوط تنسج من الآن لتوريط العراق في مشكلة
جديدة أقلها مضاعفة الحصار، وأقصاها العودة إلى الحرب والدمار؛ فالإشارات
تأتي من أمريكا باتهام العراق بأن له ضلعاً قوية في تدبير الهجوم على أمريكا من
خلال تعاون أجهزة مخابراته مع بعض الجماعات الإسلامية. وهذه التهمة مهما
كانت فضفاضة جاهزة لأن يُلبسها الأمريكيون للمسؤولين العراقيين ويجعلوها على
مقاسهم، ولا أشك أبداً في أن حرب السنوات العشر التي يراد لها أن تدوم حتى
تحقق كل الأهداف الأمريكية، سيكون العراق أحد ميادينها الرئيسة حتى يكمِّل بوش
الثاني ما بدأه بوش الأول. وقد بدأ الأمريكيون في حشد قواتهم مرة أخرى لتنفيذ
خططهم الجديدة التي لم يفصحوا عنها هذه المرة، مع أن دول الخليج التي تحملت
وحدها ثمن الحماقة العراقية والغطرسة الأمريكية، ما كانت لتريد التورط في حرب
أخرى، ولكنها الورطة! ! الورطة التي بدأها العراق قبل عشر سنين والتي ظن
نفسه قد تجاوزها بعد أن بدت تباشير الانفراج مع بعض جيرانه، وبعد أن ظهر له
خطأً قبل الأحداث أن الأمريكان ربما استغرقتهم المشاغل الداخلية عن المشاكل
الخارجية، فراح يعد نفسه لمواجهة (حاسمة) لتحرير القدس، فإذا به ينكبُّ الآن
للبحث عن سبل الدفاع عن بغداد!
الورطة المصرية السودانية: ضربت أمريكا السودان عقب تفجير السفارتين
الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، واتهمت بعض الدوائر السودانية الحكومة المصرية
بالسماح للطائرات أو الصواريخ الأمريكية بعبور الأجواء المصرية لتنفيذ الضربة،
ولكن الطرفين تجاوزا تلك الأزمة تخوفاً من أزمات أعقد، كانت الحكومتان
المصرية والسودانية قد عزمتا على حلها أو تجميدها لتفويت الفرصة على الخطة
الخبيثة المبيتة لتقسيم السودان؛ فالوفاق متفق عليه ولو تصنعاً تفادياً للخطر الأكبر
على البلدين من جراء قيام حكومة نصرانية في الجنوب.
السودان لا يزال مدرجاً على قائمة الدول الراعية للإرهاب وإن رفعت عنه
بعض العقوبات وقد حاول المسؤولون السودانيون جهدهم أن ينفوا عن أنفسهم تهمة
الإرهاب بما يحل وما لا يحل، وبما يعقل وما لا يعقل، ولكن المترجح أن اتهام
السودان بالإرهاب هو أحد الذرائع المقسمة بدقة على عدد من الدول الإسلامية
لترتيب أوضاع مستقبلية تخدم الأهداف الأمريكية. إن من الأهداف الأمريكية في
إفريقيا أن يكون لها وجود عسكري دائم في القرن الأفريقي وما حوله، وقد حاول
الأمريكيون ذلك أثناء الحرب الصومالية التي تدخل فيها الأمريكيون مباشرة،
ولكنهم دُحِروا، وهم يراهنون من وقتها على الاعتماد على ما يسمى بـ (جيش
تحرير السودان) بزعامة جون قرنق؛ فماذا لو أراد الأمريكيون تحقيق الهدف
المبيت في دفع هذا (الجون) لتحقيق الهدف؟ ! إنهم سيلقون بثقلهم خلف أي
محاولة إجرامية يقوم بها لـ (تحرير السودان) ! وعند ذلك: ماذا تفعل مصر مع
تلك الورطة التي قد تهدد عصب الحياة فيها إذا تحكم هؤلاء الحاقدون الموالون
لليهود في منابع النيل؟ ! وماذا تفعل مصر لو خيرت بين الخيارين الأمريكيين
الوحيدين (معنا أو ضدنا) ؟ ! هل يكونون ضد السودان التي تعد بوابة الأمن
الجنوبي لمصر؟ أم يضحون بصداقة أمريكا مع كل ما يعنيه ذلك من خسارة
اقتصادية ومخاطر عسكرية؟ وماذا يفعل السودان في مواجهة أمريكا التي لم تثبت
تهمته في تفجيرات إفريقيا ولم تنفها وإنما سكتت عنها؟ مع من يتحالف السودان..؟
وضد من سيحارب؟ ضد خطر شمالي محتمل أم ضد خطر جنوبي مؤكد؟ ! حقاً
إنها ورطة!
الورطة اليمنية العمانية: كانت التحقيقات بشأن تفجير المدمرة (كول) قد
تعقدت قبيل حدوث تفجيرات أمريكا؛ حيث تطاول المحققون الأمريكيون فيما يبدو
على شؤون سيادية يمنية، وبالرغم من أن اليمن ليس مدرجاً ضمن الدول الراعية
للإرهاب، إلا أن الحكومة الأمريكية تلمح إلى أن فيه معسكرات للتدريب على
الإرهاب، وهذا يرشح اليمن كما أكدت مصادر عديدة أن يكون مستهدفاً في حرب
أمريكا على (الإرهاب) . وهذه الحرب ضد اليمن قد لا تكون بالضرورة عسكرية؛
فقد تكون سياسية أو اقتصادية، ومع هذا فلا ينبغي استبعاد كونها عسكرية في
ضوء ما أذاعته وكررته الإدارة الأمريكية من أن حربها الصليبية قد تشمل ستين
بلداً، وأنها لن تستأذن أحداً في ضرب ما أسمته (معاقل الإرهاب) .
فإذا نوت أمريكا ذلك؛ فما هي أقرب البلدان التي تحوي قواعد عسكرية
أمريكية تصلح لضرب اليمن؟ ! قد تكون عُمان هي المرشحة لذلك وبخاصة أنه قد
أُجريت فيها مناورات عسكرية بريطانية كبيرة قريباً، وعُمان التي لم تدخل حرباً
خارجية منذ حروبها ضد المستعمرين البرتغاليين، والتي يتمركز فيها 20 ألف
جندي بريطاني ستجد نفسها في خيار مُرّ، إذا ما أُجبرت على السماح بانطلاق
ضربات من أراضيها ضد الجارة الآمنة اليمن؛ وهذا الحرج البالغ على عُمان،
سوف يتكرر مع أي دولة عربية أو غير عربية أخرى يريد الأمريكيون أن يصفُّوا
من فوق أراضيها حساباتهم مع البلد التي دمرت على ضفافه وفي ضيافته المدمرة
(كول) التي سُجلت القضية فيها للآن ضد مجهول.
الورطة السورية اللبنانية: اقترنت لبنان طوعاً أو كرهاً بالنفوذ السوري
السياسي والعسكري؛ حيث تطابق الموقف اللبناني طوعاً أو كرهاً أيضاً مع الموقف
السوري في الصراع العربي الإسرائيلي. وقد ساعدت سوريا بالاشتراك مع إيران
في بناء الوجود الشيعي القوي في جنوب لبنان، وأصبح لبنان مضطراً للاعتراف
العلني باحترام حزب الشيعة واعتباره جزءاً من القوى الوطنية اللبنانية.
ولكن (إسرائيل) ومن ورائها أمريكا تنظر لحزب الشيعة باعتباره نموذجاً
للتنظيم الإرهابي المدعوم من الدول، وخاصة أن له أراضيه ومواقعه وبرامجه
وقياداته المعلنة والمستخفية؛ فهو هدف سهل مؤجل، أُجِّلت مواجهته فقط لاستثمار
مشاغباته لمراحل لاحقة. والحاصل الآن بعد الهجوم على أمريكا أن حزب الشيعة
اللبناني توضع حوله إحدى دوائر الاتهام الحمراء، وقد أبرز المحققون الأمريكيون
اسم (عماد مغنية) الشيعي اللبناني مع اسم الطبيب المصري (أيمن الظواهري)
باعتبار أنهما كما يقول المحققون متورطيْن مع المخابرات العراقية في التخطيط
للهجمات على أمريكا! لهذا لا يبعد أن يُستهدف ذلك الحزب المعدود في القوى
الوطنية اللبنانية التحررية ضمن مرحلة من مراحل الحرب الأمريكية على
(الإرهاب) ، وإذا حصل ذلك فماذا سيكون موقف لبنان الرسمي، وهل سيقبل أن
يتحالف مع أمريكا ضد جبهة وطنية تحريرية طالما افتخر اللبنانيون في الفترة
الأخيرة بأنها أحرزت أول نصر عربي حقيقي في الصراع العربي الإسرائيلي؟ !
وماذا ستفعل سوريا عندما تطالَب بكشف حساب عن دعمها للحزب الذي يُزعم أنه
شارك في ضرب أمريكا، ويُجزم بأنه يعمل ضد وجود (إسرائيل) ؟ ! إن سوريا،
منذ إخفاق مؤتمر كامب ديفيد الثاني، بل ومنذ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب
لبنان مستهدفة بانتقام إسرائيلي معلن؛ فهل تقوم إسرائيل بهذا الانتقام، أم تقوم
بالنيابة عنها أمريكا كما حدث في العراق؟ ! وهل تقوى كل من سوريا ولبنان الآن
أن تقولا لأمريكا: لا، فتسمحا بذلك بكشف الغطاء عنهما أمام الذئب المتربص في
تل أبيب؟ ! وهل ستقف الأطراف العربية الأخرى إذا ما ضربت إسرائيل سوريا
أو لبنان موقف المتفرج أو تنضم إليهما في التحالف ضد أمريكا؟ ! إنها ورطة
سورية لبنانية سبق أن نسجت شباكها بأيد إسرائيلية.
الورطة الفلسطينية الأردنية: توهم (الواقعيون) العرب، أن تنفرج الأزمة
الفلسطينية بعد حدوث الكارثة الأمريكية، وتمنوا على العالم أن يتنادى إلى إنصاف
الفلسطينيين في (مدريد ثانية) تتمخض عن إعلان دولة فلسطينية مستقلة رئيسها
عرفات وعاصمتها القدس، مكافأة للفلسطينيين على عام من الانتفاضة! !
ويبدو أن القوم كذبوا وصدَّقوا أنفسهم، فراحوا يتسلقون مرة أخرى مع السلطة
جدران عملية السلام المتهالكة، لعلهم (يضحكون) على أمريكا وإسرائيل معاً! !
ولأجل إنجاح هذه الخطة الذكية نادى بعضهم بفض الانتفاضة، لبيع ثمراتها
المختطفة مرة أخرى في سوق الوهم والهراء. ولكن شارون أرسل بالإشارات تلو
الإشارات لعرفات لعله يفهم، عندما اتهمه صراحة وعلناً بأنه أسامة بن لادن
الفلسطيني! ! وأنه يقود منظمة إرهابية تريد تقويض إسرائيل من الداخل كما حدث
لأمريكا! ولكن عرفات لم يفهم الرسالة كعادته وراح يصافح يد بيريز الذي سلم
عليه (بقرف) كما ظهر في الصور أثناء اللقاء (الأمني) الأخير بينهما. إن
المطلوب من عرفات إسرائيلياً أن يسلم قوائم بـ (إرهابيين) فلسطينيين من حماس
والجهاد وغيرهما، والمطلوب منه أمريكياً أن يكون عضواً فاعلاً في التحالف ضد
الإرهاب، وقد قبل عرفات العرض الثاني بسرعة، ظاناً أن سرعة الاستجابة، مع
شيء من التبرع بقطرات الدم السخي، ستشغلان الأمريكان عن الطلب الإسرائيلي
بإلقاء القبض عن ما لا يقل عن مئة وثمانية من الفعاليات الجهادية الفلسطينية
وتسليمهم لإسرائيل، ولكن عرفات المتورط والمشهور تقليدياً بقدرته الفائقة على
التخلص من الأزمات يبدو أنه قد أُلجئ هذه المرة إلى أضيق الزوايا فلا خيار أمامه
إلا (ضد) أو (مع) ، فإما أن يرضي إسرائيل وأمريكا بمحاربة شعبه وتسليم
قيادته الحقيقية لليهود أو يخوض مع شعبه مواجهة مسلحة مع إسرائيل، قد سبق أن
تبرع عبر ثماني سنوات مضت بإبطال مفعولها وقهر أبطالها.
إنه خيار محيِّر، لا أظن أن صحة عرفات النفسية والبدنية ستصمد أمامها
طويلاً، وخاصة أن الجميع الآن مشغولون عنه بما حل أو سيحل بهم من هموم
أخرى بعيدة عن الهم الفلسطيني الذي بدأ إسلامياً ثم غدا عربياً حتى أصبح هماً
فلسطينياً وحيداً طريداً بفضل إصرار (الختيار) على الزعامة المنفردة. ستنفرد
(إسرائيل) على الأرجح بالفلسطينيين، لا كعمل ضمن التحالف ضد الإرهاب،
ولكن في إطار عمليات داخلية بحتة لا شأن للمجتمع الدولي (المشغول) بها. وهي
أي إسرائيل لن تفوت أيضاً فرصة ضرب الفلسطينيين بالأردنيين عندما تقدم
لأمريكا قائمة بمطلوبين أردنيين من أصل فلسطيني في الغالب بتهمة الإرهاب؛
فالأردن خياراته ضيقة في أن يكون مع أو ضد الولايات المتحدة في حربها ضد ما
يزعم عن (الإرهاب) الفلسطيني. وشارون صاحب مشروع (الوطن البديل)
الذي يقول إن الأردن هو دولة الفلسطينيين، ما زال حياً يرزق وعلى رأس السلطة
وما زالت همجيته ودمويته متعطشة للمزيد، وبخاصة بعد أن لاحت فرصة الفرص
في حرب عالمية ضد (الإرهاب) لا يصلح لقيادتها في الشرق الأوسط إلا أبو
الإرهاب (شارون) .
هل هناك ورطة إسرائيلية؟ نسأل الله أن يصب الورطات فوق رؤسهم صباً
ولكن للآن لم تتضح لي معالم أي ورطة وقع فيها الإسرائيليون بشأن ما حدث في
واشنطن ونيويورك، بل على العكس، كل الشواهد تثبت أنهم مستفيدون من كل
المصائب التي حلت أو ستحل على أي طرف في الحرب الدولية المتوقعة، ولهذا
فإنهم يتجهون بأي وسيلة إلى إسدال الستار على مسلسل (الحرب القائمة) المحلية
ضد الانتفاضة في فلسطين ليتفرغوا لـ (الحرب القادمة) الإقليمية ضد الإسلام في
المنطقة، وهنا أريد التنبيه على أن دولة اليهود لم تتخل عن برامجها، أو ما تبقى
من برامجها الدينية التسلطية في المنطقة العربية وعلى رأسها ابتلاع القدس نهائياً
بصفة (رسمية) و (دولية) والتخلص من المسجد الأقصى لبناء هيكلهم الثالث
الذي دشنوا منذ شهور قليلة مرحلة البدء فيه بوضع حجر الأساس (الرمزي) !
هل سيجد اليهود ظروفاً أنسب أو فرصة أرحب من تلك المتاحة الآن، أو بعد
الآن إذا انخرطت المنطقة في حروب أخرى؟ وهل مرّ على العالم الإسلامي الذي
طالما تخوفت (إسرائيل) من رد فعله مرحلة هو أشد ضعفاً وأشل قوة منه في
مرحلته الراهنة؟ !
والآن: كيف ستواجه الأمة هذه التحديات المتعددة الأبعاد والمتوالية المراحل؟
كيف ستصمد أمام تلك الحرب الطويلة التي بدأت ولا نعلم متى ولا كيف ستنتهي؟
كيف سيديرون معركتهم ويدبرون أمرهم في صراع لم يسبق لهم به عهد، ولم
يظهر لهم فيه بُعد؟ كيف سيدخلون تلك المعركة الكبرى بلا راية ولا دراية ولا
هدف ولا غاية؟
إن الحملة التي تواجه المسلمين اليوم باسم محاربة الإرهاب أخطر من الغزو
الصليبي، والاجتياح التتاري، وهي أكثر مكراً من الهجمة الصهيونية وأفدح
ضرراً من الموجة الاستعمارية الليبرالية والشيوعية؛ وذلك لسبب بسيط وهو أنها
تجمع بين إجرام كل هؤلاء إضافة إلى لؤم المنافقين وغشم الوثنيين، إننا كثيراً ما
كنا نردد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما
تداعى الأكلة إلى قصعتها» [2] ونظن أنه ينطبق على مرحلة من المراحل الزمنية
القريبة المعاصرة، ولكنا الآن نرى هذه النبوءة رأي العين، وبصورة لم تكتمل من
قبل على هذا النحو؛ فماذا نفعل؟ !
إن المرحلة أكبر من أي كلام بلا عمل، ومن أي عمل بلا فقه، ومن أى فقه
بلا إخلاص، وهي أخطر من أن تطغى فيها الاجتهادات الفردية، أو العصبيات
الحزبية أو النعرات القومية والوطنية والقبلية، إنها أشق من أن تتحمل مسؤوليتها
جهة أو جبهة واحدة، وأدق من أن تقوم بشأن مواجهتها سلطة أو دولة واحدة،
ولهذا أقول إنه لا بد من تحرك يتناسب مع حجم الورطة الكبرى التي وقع فيها
المسلمون ضمن بقية العالم.
مطلوب فوراً:
أولاً: من الحكومات والأنظمة: أن ترقى إلى مستوى وعي الشعوب؛ فقد
أثبتت الأحداث أن هناك شعوباً أوعى من حكوماتها، وأكثر شعوراً بحقيقة المواقف
منها؛ فتلك الشعوب، وبرغم كل عمليات التدليس والتلبيس والتجهيل الثقافي
والتعمية الإعلامية والدجل السياسي تثبت أن الخير أصيل في أمة محمد صلى الله
عليه وسلم، إنني اعتقد أن تلك الأمة بمن فيها من متعلمين وعاميين، وإسلاميين
وعاديين على استعداد للانضواء تحت لواء أية دولة أو حكومة تعلن ولاءها الصادق
لله ولرسوله والمؤمنين، وذلك بنفس القوة والحماس الذي ستعلن به عداوتها
ورفضها لكل من يعلن عداءه لله ورسوله والمؤمنين [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ] (المائدة: 55-56) .
ثانياً: مطلوب من الشعوب والمجتمعات: أن ترتفع بنفسها عن مستنقعات
السفاسف وانشغالات التوافه وصغائر الأمور؛ فالحرب المعلنة والتي بدأت بصورة
(حرب أمنية) ضد الإسلاميين ستتحول شيئاً فشيئاً إلى صورة عنصرية ضد
العرب لتنتهي صريحة إلى حرب دينية علنية ضد كل المسلمين بلا أية خدع سياسية
ولا رتوش دبلوماسية؛ وعندها سوف يرى الجميع أن أمة الإسلام سوف تستهدف
بانتظام في دينها وثرواتها، ومقدساتها وسائر حرمانها: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]
(البقرة: 217) .
ثالثاً: مطلوب من المثقفين والمنظِّرين: أن يقفوا دون تغييب وعي الأمة،
ويكفوا عن شغلها بما يضرها ويكتفوا بما ينفعها؛ لأن هذه الأمة التي طالما
استهدفت بـ (التثقيف) اللاديني واللاأخلاقي لحقب طويلة، قد غدت شرائح كبيرة
منها غير مدركة للفرق بين العدو والصديق، وبين الآمر بالخير والمعروف،
والمتآمر بالشر والمنكر، وليعلم كل صاحب فكر وثقافة أن فكره وثقافته، إما أن
تكون أداءً لأمانة، أو اقتراف لخيانة، ولا أخونَ من خائن يفسد العقول بما يخالف
قول الله وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وبخاصة إذا كان يتقاضى على تلك
الخيانة أجراً [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] (الأنفال:
27-28) .
رابعاً: مطلوب من الحركيين والتنظيميين: أن يدركوا أن التحديات الكبار
التي تواجهها الأمة اليوم لا تحتمل المزيد من المبادرات الفردية أو التحركات
المرتجلة أو التصرفات العجلى؛ فليكن تحرك الجميع مضبوطاً بضوابط الشرع،
وأفهام المخلصين من أهل العلم، وخبرات المحنكين من أهل التجربة؛ فأحوال
الأمة الآن لا تحتمل أنانية في الأخذ بزمام الأمة كلها إلى حيث لا تعلم ولا تفهم،
ولا إلى حيث لا تستطيع أو تريد؛ فلا خير في أثرة تلبس ثوب الإيثار، ولا بركة
في عمل لا يقوم على المشورة، [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] (الشورى: 38) .
خامساً: مطلوب من العلماء والدعاة: وهم أهم من كل مهم ممن ذُكر،
مطلوب من هؤلاء الأجلاء أن يراعوا حق الله في التوقيع عنه، وحق الرسول
صلى الله عليه وسلم في الوراثة منه، وحق الأمة في البيان لها والنصيحة المخلصة
في أمورها. فإذا كان الدين النصيحة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت
تلك النصيحة لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم، فإن هذا يدل على أن نصح
(الخاصة) من الدين، والعلماء من الخاصة، بل هم خاصة الخاصة، ولكن هذه
الخصوصية لم تعفهم من أثقل أنواع المسؤولية؛ حيث قال الله تعالى لهم آخذاً
الميثاق الغليظ عليهم: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]
(آل عمران: 187) .
فليتذكر العلماء المسموع لهم أن الله يسمع لقولهم ويعلم سرهم وجهرهم،
والأمة أحوج إليهم اليوم من المتخصصين الاستراتيجيين والقادة العسكريين؛ بل
ومن القادة السياسيين؛ لأن كل هؤلاء لا يصلحون إلا بصلاح أهل العلم، فإذا
كانت أمتنا اليوم تحتاج إلى أمثال المعتصم وصلاح الدين وبيبرس وقطز، فإن
حاجتها أشد لأمثال الإمام أحمد وابن تيمية والعز بن عبد السلام، محمد بن عبد
الوهاب.
إن علماءنا مدعوون في سائر أقطار العالم إلى البحث عن صيغة يستطيعون
بها أن يباشروا ما أسنده إليهم من الولاية الواجبة بإيجاب الله تعالى في قوله سبحانه:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ]
(النساء: 59) .
وأولوا الأمر: هم العلماء والأمراء [3] .
ولهذا فإن أوجب واجبات المرحلة فيما أرى تشكيل قيادة علمية من المخلصين
والمتجردين على مستوى الأمة تتفرع عنها سائر القيادات؛ وهذا الواجب وكل ما
سبقه من واجبات لا يستطيع ترتيب خطواته وترتيب فعالياته إلا العاملون الصادقون
من الإسلاميين، وعندها سنبدأ في السير الصحيح لمواجهة التبعات الثقيلة لساعة
الحقيقة.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. آمين.
__________
(1) باعتبار أن العام 2000 هو العام المتمم للقرن للعشرين.
(2) رواه أحمد، ح/ 8496.
(3) انظر: تفسير القرطبي، ج 5، ص 168.(168/69)
المسلمون والعالم
حرب الولايات المتحدة الأخيرة
د. يوسف بن صالح الصغير
Yosof@albayan-magazine.com
حقاً لقد أصبح العالم قرية واحدة تفرح لفرح المختار، وتحزن لحزنه؛ فالحق
قوله، والعدل فعله وحكمه، مطالبه مجابة، الخارج عن القانون هو من تمرد على
سلطانه، وسيئ الأدب من طالبه ببرهان على أحكامه، ومجلس القرية لا يسمع
شكاية أحد من الرعية إلا بإذنه، ولا يلام أحد من أبنائه على فعله أو فكره. كل ما
سبق هو الحال معه في وقت الرضا، أما في حال السخط والغضب فعلى الجميع
ترديد ما يقول والسير معه في طريق المجهول.
إنه وقت عصيب ومصيري هذا الذي تمر به الأمة الإسلامية؛ حيث تجري
حالياً محاولة جرها إلى صراع دامٍ غير محدود لا في الوسائل ولا في الغايات؛ فلقد
تعرضت رموز الهيمنة الأمريكية العسكرية والاقتصادية الممثلة بمقر وزارة الدفاع،
وبرجي مركز التجارة العالمي للهجوم، وعاشت أمريكا وقتاً عصيباً وحالة من
الارتباك؛ حيث تنقل الرئيس بين القواعد السرية، وتم إخفاء نائب الرئيس عن
الأنظار؛ وما زال محظوراً اجتماع الرئيس مع نائبه خوفاً من التصفية مما يدل
على شعور الإدارة بأن هناك تهديداً جدياً للحكومة الفيدرالية، ولا يمكن أن يكون
هذا إلا من الداخل؛ ومع ذلك وقبل تحديد كيفية الهجوم وأبعاده سارعت السلطات
إلى تلفيق سريع وغير متقن، وتم نشر لائحة المتهمين اعتماداً على استعراض
أسماء الركاب العرب في الطائرات، وعلى أسماء العرب الذين تدربوا على
الطيران، وحاولوا إيهام أنفسهم والعالم أن مجرد التدريب السريع على طائرة
صغيرة يؤهل لقيادة طائرات الركاب الضخمة المعقدة، وتنفيذ مناورات صعبة لا
يمكن أن يقوم بها إلا طيارون متمرسون؛ ومع انكشاف أن أحد المتهمين قد مات
قبل الحادثة وأن آخرين موجودون وأحياء في أماكن أخرى فإننا نلاحظ الإصرار
على دق طبول الحرب ضد جهات لم تتبنَّ العملية ولم يثبت عليها شيء؛ وكان رد
الحكومة الأمريكية على طلب طالبان المنطقي بإبراز الأدلة أن هذا الأمر غير قابل
للتفاوض، وحتى عندما أحرج وزير الخارجية وصرح بأنه سيتم إطلاع الحلفاء
الغربيين على أدلة فإن بوش تراجع من الغد، وليس هناك تفسير لهذا إلا أنه في
الحقيقة لا توجد أدلة تدعم مزاعم أمريكا، وأيضاً فإن من المريب أن الاستعدادات
الضخمة واستغلال الفرصة للتمركز في قواعد أجنبية حول العالم لا يتناسب مع
الهدف المعلن وهو القبض على شخص متهم لاجئ في بلد فقير مطحون! !
لقد أعلن الرئيس شعار: (حرب الإرهاب) ، وأرفق ذلك بتهديد جميع دول
العالم بأن من لم يقف مع أمريكا فهو في صف الإرهاب، وسرت الرعشة في
أوصال العالم، وأصبحت كلمة الإرهاب، تردد على كل لسان؛ ولا بأس في
استخدام الإرهاب من أجل محاربة الإرهاب، وأُجبر الفلسطيني الذي ينزف دمه
يومياً بسلاح أمريكا أن يتبرع بدمه لأمريكا ولسان حال الجميع أنه لا يمكن ضرب
بلد وقتل آلاف الناس بدون دليل ظاهر أو خفي، وأنه لا يمكن لدولة ترفع شعار
حقوق الإنسان والحرية أن تستغل هذا الحدث من أجل تحقيق مكاسب مادية
واستراتيجية، صحيح أنه لم يتم تحديد مفهوم الإرهاب، ولكن الذي نعرفه أنه في
بعض بقاع الدنيا يكون فيه الطفل الذي يرمي الحجر على جندي مسلح يحتل أرضه
إرهابياً، والمجاهد الذي يفجر نفسه بين جنود العدو إرهابياً؛ بينما يعتبر إطلاق
الجندي النار عمداً على رأس الطفل الأعزل دفاعاً عن النفس! أما استعمال
الطائرات في هدم المباني السكنية على رؤوس ساكنيها فهو حق مشروع، والسؤال
الملحُّ: هل لدى أمريكا مبدأ واحد تسير عليه؟ وهل تاريخ أمريكا وممارستها
يؤهلها لتحديد مفهوم الإرهاب قبل أن تكون جديرة بمحاربته؟ ولنستعرض بعض
الوقائع التاريخية:
أولاً: لقد قامت أمريكا أساساً على مبدأ استعماري حيث تلازم توطين
المستعمرين الأوروبيين على عمليات إبادة وطرد سكان البلاد الأصليين الذين
تناقص عددهم من 20 مليون في القرن السادس عشر الميلادي إلى حوالي 400
ألف فقط بعد خمسة قرون، بل الأنكى من ذلك أن البقية الباقية منهم معزولة
بصورة مقننة؛ فهي محرومة من أبسط الحقوق التي يتمتع بها حتى المهاجرون
الجدد.
أما الطامة الأخرى فهي استعباد ملايين الأفارقة واستمرار التمييز ضدهم حتى
وقتنا الحاضر.
ثانياً: بعد حرب الاستقلال بدأت مرحلة التوسع على حساب المكسيك، ثم
تطورت الفكرة إلى مشروع تصفية الاستعمار الأسباني والحلول محله، وبدأت منذ
عام 1898م ما يسمى بالحرب الأسبانية الأمريكية، وكانت النتيجة هي سيطرة
أمريكا على المستعمرات الأسبانية في أمريكا الوسطى والفلبين، وما تزال أمريكا
إلى يومنا هذا تعتبر أمريكا الجنوبية مجالاً حيوياً حيث تتمتع الدول باستقلال اسمي
يسمح لأمريكا بالتدخل المباشر؛ لإسقاط الأنظمة المتمردة بل حتى اعتقال رؤساء
الدول وجلبهم للعدالة في أمريكا! مثل أحداث جرينادا 1983 1984م، وبنما
1989 1990م، وهاييتي 1994 1996م.
ثالثاً: بعد الحرب العالمية الأولى وبروز أمريكا عالمياً دخلت حلبة التنافس
الاستعماري، وبدأت بمضايقة التوسع الياباني في منشوريا والصين في الثلاثينيات
الميلادية، وأثناء الحرب العالمية الثانية واحتلال اليابان لجنوب آسيا حتى حدود
الهند شرقاً وأندونيسيا جنوباً؛ فقد دخلت أمريكا في مواجهة مباشرة مع المستعمر
الآسيوي بهدف تحطيمه أولاً ووراءه الاستعمار القديم في المنطقة ثانياً. ويعترف
المؤرخون في أمريكا أن هناك تفرقة في التعامل الأمريكي أثناء الحرب مع كل من
الألمان واليابانيين؛ فقد كان التعامل مع الألمان يراعي إمكانية التحالف المستقبلي،
ولم يتم التعرض للأمريكان ذوي الأصول الألمانية. أما الأمريكيون ذوو الأصول
اليابانية؛ فقد تحركت آلة الكراهية ضدهم، وتم تجميعهم في معسكرات معزولة.
أما في مسارح العمليات؛ فقد كانت الحرب غير متكافئة خاصة في المراحل الأخيرة؛
ومع ذلك فقد كان هناك إصرار أمريكي على إبادة القوات اليابانية وتعداه إلى
ارتكاب إبادة جماعية للمدنيين؛ وذلك بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما
ونجازاكي بفارق ثلاثة أيام، وكان استعمال هذا السلاح جريمة مضاعفة؛ لأنه ليس
له ضرورات عسكرية؛ حيث إن اليابان المثخنة بالجراح تقف وحيدة بعد استسلام
ألمانيا، وكان استسلامها مسألة وقت. وحتى يعرف القارئ كيف كانت الحرب
تسير قبل استعمال هذا السلاح الرهيب نضع أمامه نتائج العمليات الكبيرة السابقة
لتدمير المدينتين:
- في احتلال جزيرة أبوجيما خسر اليابانيون 22. 300 قتيل و1000 أسير،
وخسر الأمريكيون 6000 قتيل.
- في احتلال جزيرة أوكيناوا خسر اليابانيون 110 آلاف قتيل، 7800
طائرة، 12 ألف طيار، وخسر الأمريكيون 7163 قتيلاً فقط.
- وكانت الطائرات الأمريكية تقصف القواعد البحرية والأهداف الصناعية
والمدن بدون مقاومة تقريباً نظراً لتدمير سلاحَي البحرية والطيران اليابانيين، وفي
26 يوليو عرض الرئيس الأمريكي (ترومان) فرصة الاستسلام دون قيد أو شرط
وإلا تعرضت لدمار شامل لم يحدد نوعه.
- وفي 16 أغسطس تم إلقاء القنبلة الأولى على مدينة هيروشيما التي تدمرت
بنسبة 60% وقتل فيها 150 ألفاً، وبعد ثلاثة أيام تم إلقاء قنبلة أخرى على
ناجازاكي.
والسؤال هنا: هل كانت هناك ضرورة لهذه المجزرة؟ لقد قدم حوالي 60
عالماً عريضة للرئيس الأمريكي يطلبون عدم استخدام هذا السلاح ولكن تم رفض
حتى استعمال هذا السلاح على جزيرة مهجورة في اليابان، وكان رد فعل الرئيس
الأمريكي على أنباء نجاح التفجير فوق هيروشيما هو أنه أخذ يصيح في غبطة وهو
يقول: «أيها الأولاد! لقد رميناهم ببلاطة تساوي قوة 20. 000 طن من
الديناميت» . والحقيقة أن أمريكا استعملت القنبلة لهدفين أساسيين هما:
أولاً: إظهار القوة والانفراد بامتلاك هذا السلاح الرهيب؛ وفي هذا إشارة
للعالم، وإنها القطب الأوحد.
والثاني: هو دراسة ميدانية لآثارها على البشر والمنشآت. وللعلم فحتى الآن
لم تتفضل أمريكا بالاعتذار عن هذه الجريمة للشعب الياباني بل تتضايق من إحياء
اليابان لهذه الذكرى.
رابعاً: لقد عاشت أمريكا فترة الانفراد بالقوة النووية حتى عام 1949م،
وبعدها بدأت تدخل في صراع جديد مع المد الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفييتي
والصين، ودخلت حرب كوريا التي استمرت حوالي 3 سنوات وقتل فيها 3 ملايين
من البشر وكادت تتطور إلى حرب شاملة، وتشير يوميات الحرب إلى أنها حرب
أمريكية تحت راية الأمم المتحدة؛ فقد كانت الدول المشاركة إلى جانب الولايات
المتحدة 15 دولة تقدم حوالي 9% فقط من القوات، وكان دخول الصين الحرب
بصورة مباشرة عاملاً أساسياً في عرقلة المشروع الأمريكي الذي يتلخص في تدمير
قوات كوريا دون التورط باجتياز حدود الصين أو الاتحاد السوفييتي، وصدر قرار
قاتل في الأمم المتحدة بتحديد هدف للحرب وهو: «خلق كوريا موحدة
مستقلة ديمقراطية» أي دولة تابعة للغرب، وذلك في 17/10/1950م واستمرت
الحرب سجالاً حتى انتهت في 27/7/1953م؛ مما أدى إلى تدخل صيني مباشر.
خامساً: في أثناء الحرب الكورية كان هناك حرب طاحنة تدور في الهند
الصينية بين القوات الفرنسية والقوات الفيتنامية المدعومة من الشيوعيين، ووصل
عدد القوات الفرنسية إلى 250 ألف جندي يدعمهم 130 ألف جندي فيتنامي،
وكانت الحرب خليطاً من الحرب النظامية وحرب العصابات، وفي النهاية تعرضت
فرنسا لهزيمة مشينة في معركة (ديان بيان فو) في 7/5/1954م وتم عقد اتفاقية
في جنيف في يوليو 1954م، ونصت على انسحاب قوات الطرفين إلى جانبي خط
العرض 17، والاعتراف بأربع دول مستقلة هي: كامبوديا، ولاووس، وفيتنام
الشمالية وفيتنام الجنوبية. ونص الإعلان على أن فيتنام ستتوحد بعد انتخابات
عامة تتم في يوليو 1956م تحت إشراف لجنة دولية، وقد رفضت الولايات المتحدة
وفيتنام الجنوبية التوقيع على هذا الإعلان، وبدأت مرحلة التدخل الأمريكي المباشر
في المنطقة بعد خروج الفرنسيين، وكونت حلف جنوب شرق آسيا للمشاركة في
الصراع المنتظر، وكان جيش فيتنام الجنوبية يدرب على يد مستشاريين أمريكيين
على أساليب الحرب الكورية، ولكن التورط الأمريكي بدأ يتزايد نتيجة إخفاق جيش
كوريا الجنوبية في مواجهة حرب العصابات الشرسة التي كانت تشنها قوات
الفييتكونغ (الثوار الفيتناميين الجنوبيين المدعومين من الشمال) ، وارتفع عدد
القوات الأمريكية من 33 ألف فقط عام 1965م يدعمون نصف مليون جندي جنوبي
إلى نصف مليون جندي أمريكي عام 1968م، وتوسعت الحرب إلى لاووس
وكمبوديا، وقامت القوات الجوية الأمريكية بعمليات قصف مستمرة لفيتنام الشمالية
بطائرات ب 52 (القلاع الطائرة) وتم تلغيم شواطئ فيتنام، ومع ذلك استمرت
الحرب حتى اضطرت الولايات المتحدة إلى الانسحاب وترك فيتنام الجنوبية
لمصيرها؛ حيث اجتاحتها قوات فيتنام الشمالية، وما تزال آثار حرب فيتنام
محفورة في ذاكرة الأمريكيين ووجدانهم.
سادساً: لقد كان سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الشيوعية مع الانتصار
السهل في حرب الخليج الثانية عاملاً أساسياً في عودة أحلام السيطرة على العالم إلى
أذهان المخططين الاستراتيجيين، وكانت النجاحات السريعة للتمدد الأمريكي ماثلة
للعيان في توسع حلف الأطلسي شرقاً ومحاصرة روسيا وإضعافها وخاصة مع
تورطها في حرب الشيشان الثانية التي لا يخفى فيها التشجيع الغربي والإسرائيلي،
واستمرار فرض العولمة، وتحطيم الاقتصاديات الناشئة في آسيا، واستخدام منظمة
التجارة العالمية من أجل كسر الحواجز بين الدول، وإجبار الاقتصاديات الناشئة
على خوض منافسة غير متكافئة.
ومع إملاء الغرب لمبادئه وأخلاقياته على الشعوب الأخرى واستغلال الأمم
المتحدة في تمرير هذه المخططات التي يقصد منها تحطيم المجتمعات الأخرى
وتذويبها، فإن أمريكا في هذا الخضم كانت بحاجة لعدو يبقي حالة التحفز ويحافظ
على فاعلية المجتمع الأمريكي عن طريق بث روح التحدي المستمر؛ ولم يكن هذا
العدو سوى الحضارة الإسلامية؛ فبدأ الحديث عن صراع الحضارات، وبدأت
أمريكا تتجه شيئاً فشيئاً نحو رفع راية الحضارة الغربية ذات الجذور النصرانية
واليهودية، وكان هناك شحن مستمر للفرد الغربي بأن الخطر القادم هو الإسلام
وكانوا يتحينون الفرص لشحن الأفراد عاطفياً، وكانت الاتهامات جاهزة عند تفجير
أوكلاهوما وسفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا، وإذا كان الفاعل قد كُشف في
أوكلاهوما أنه أمريكي أبيض؛ فإن منفذي الهجوم على السفارتين لم يتم التأكد منهم
حتى الآن؛ ومع ذلك فقد تم فرض حظر على السودان وأفغانستان من مجلس الأمن
الموقر؛ بل قامت أمريكا بشن هجمات استعراضية ضد أهداف منتقاة في السودان
وعشوائية في أفغانستان، ومع اعتراف أمريكا أنها قد أخطأت بضرب مصنع
الشفاء للأدوية في الخرطوم؛ فإنها لم تقم بدفع أي تعويضات للمالك أو للبلد الذي
انتهكت سيادته دون وجه حق! أما أفغانستان فقد كانت الرمز الذي يمثل العدو
الأول في مرحلة صراع الحضارات القادم ولذا فقد استمر الحصار، وحظر
الطيران، ومحاولة منع توريد أو تهريب السلاح، ومحاولة نشر مراقبين
«دوليين!» على الحدود الباكستانية الأفغانية لضبط تطبيق العقوبات «الدولية!» ،
وكانت أحداث نيويورك وواشنطن فرصة لا تعوض في تسريع المخطط؛ ولذا
نجد أن اتهام ابن لادن ومن ثم طالبان أعلن بينما كانت طائرة الرئيس تبحث عن
ملجأ؛ ولم يكن لدى المسؤولين في تلك اللحظات إحاطة حتى بمدى العملية؛ وهنا
تبرز الحقيقة الناصعة وهي أنه إذا كان الاتهام الأولي جدِّياً فهو يعني معرفة
الحكومة بالعملية قبل وقوعها؛ أما إذا كانت لا تعلم بالعملية فكيف تمت معرفة
المنفذ قبل إجراء أي تحقيق؟ ! حقاً إنه أمر مريب أن تقوم دولة تدعي أنها زعيمة
الديمقراطية بإصدار الاتهام قبل التحقيق، ثم الإصرار على هذا الاتهام وتلفيق
الأدلة والمسارعة بخطوات عملية تصب في اتجاه حرب غير محددة المعالم وغير
واضحة الأبعاد ولكنها كما يقول بوش: حرب شاملة عسكرية واقتصادية وفكرية؛
أي باختصار حرب موجهة ضد حضارة أخرى وفكر آخر؛ إنها حرب ضرورية
لإكمال وتثبيت السيطرة النهائية على العالم. وأرى أن المواجهة يجب أن تقع
بسرعة قبل تزايد المطالبة بأدلة وبراهين وإفاقة العالم من حالة الصدمة التي
يعيشها، وعندما تقوم الحرب فلن يتحدث أحد عن مصداقية الاتهام الأولي؛ لأنه
ستستجد أحداث تنسي العالم أصل المشكلة، نعم إنها حرب حتمية؛ لأنها في
الأصل تعشش في أذهانهم، ويتحرقون لحدوثها، وينتهزون أي فرصة لإشعال
الملحمة؛ إنها هدف مشترك لليهود وأصوليي النصارى؛ حيث لا بد من حدوث
الملحمة لنزول المسيح، ولا يظن ظان أن رئيس دولة كبرى في ظروف
مصيرية يزل لسانه بالحديث عن حرب صليبية، أو أن رئيس وزراء
دولة أوروبية يقرأ من ورقة مكتوبة في مؤتمر رسمي قد أساء التعبير عن
النظرة الدونية للحضارة الإسلامية. نعم! الحقيقة أنها ليست قضية ابن
لادن أو طالبان؛ إنها حرب حضارات تحت راية الصليب في جانب، أما
الجانب الآخر فهو لم يتشكل بعدُ ومن ثم لم ترفع الراية.
وأخيراً: إذا كانت الولايات المتحدة قد خرجت في حرب كوريا بدون نصر،
وخرجت من حرب فيتنام بهزيمة مدوية؛ فما هي توقعات الحرب القادمة إن وقعت؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي النظر في بعض الملاحظات حول ملامح
الحروب السابقة وتوقعات الحرب المقبلة:
1 - إن مجال الحروب في كوريا وفيتنام لم يتعد نطاق هذين البلدين، وكان
الجندي الأمريكي يقضي إجازته في بانكوك القريبة بكل اطمئنان.
2 - على الرغم من شجاعة الكوريين والفيتناميين فإن هناك إجماعاً على
تفوق المجاهد الأفغاني عليهم، وكما قال أحد قادة الروس في أفغانستان: إن حرب
أمريكا في أفغانستان ستنسيهم حرب فيتنام التي ستكون كنزهة.
3 - أن عجز أمريكا عن كسب حرب فيتنام المحدودة يوضح مدى إمكانية
ثبات أمريكا في حرب شاملة في المنطقة الإسلامية.
4 - أن حديث أمريكا عن مواجهة شاملة تغطي حوالي ستين دولة يعني أنه
ستتكون جبهة مقابلة تشمل كل المتضررين من سياسات أمريكا، وإذا كان كثير من
الشعوب مبتهجة بالضربة المهينة لأمريكا فإن الصراع القادم سيكون شاملاً غير
محدود المكان ولا الزمان، ولله عاقبة الأمور من قبل ومن بعد.
5 - إذا كان التوازن النووي مانعاً لأمريكا من استعمال سلاحها النووي في
حربي كوريا وفيتنام فإن توازن الرعب سيمنع أمريكا من استعمال هذه الأسلحة
خوفاً من استهداف المدن الأمريكية بحرب بيولوجية أو كيميائية، وهو خطر جدي
بالإضافة إلى أن نوعية الحرب القادمة ستحرم أمريكا من استعمال مؤثر لأسلحتها
المتطورة من حاملات ومدرعات.. حقاً إنها حرب من نوع جديد تحتاج إلى أسلحة
وأساليب جديدة؛ فمن سيكون المنتصر؟ !(168/79)
المسلمون والعالم
السلوك الأمريكي بعد ضربات الثلاثاء المريعة
الدوافع والأهداف
كمال حبيب
المفاجأة التي مثلتها ضربة يوم الثلاثاء 11/9/2001م وضعت أمريكا بكل
قوتها بالمفهوم الشامل في الميزان، ويذهب المؤرخ الأمريكي المعروف: (بول
كيندي) إلى أن البداية الحقيقية للقرن الواحد والعشرين تم تدشينها بعد الضربات
القاتلة؛ ومن ثم فهذه الهجمات هي حدث فارق في التاريخ الإنساني؛ لذلك ومهما
حاولت أمريكا استعادة توازنها وتأكيد هيمنتها فلن تعود كما كانت قبل انهيار
أكبر رموزها.. البنتاجون مبنى وزارة الدفاع الأمريكية القوة العظمى في التاريخ
البشري، ومركز التجارة العالمي الذي يناطح السحاب، ويمثل عنواناً على
السطوة الاقتصادية والهيمنة المالية المرعبة للرأسمالية الأمريكية بكل جبروتها
وبشاعتها. إن قوة الضربة وجسامتها وخطورتها لم تتمثل فقط في عنفها وقوتها؛
وإنما أيضاً في عدم توقعها وفجاءتها؛ فقد دهمت الهجمات أمريكا من حيث لم
تحتسب أو تقدِّر؛ فكل الهم الأمريكي قبل الضربة كان مركزاً على تحقيق الأمن
المطلق للمواطن الأمريكي ببناء درع صاروخي يواجه أي هجوم محتمل من دولة
خارج الحدود من التي تطلق علىها أمريكا الدول المارقةrough-state؛ فإذا
بالهجوم الكاسح الشرس يأتيها من داخلها، وهو ما لم يعرفه المواطن الأمريكي
المعاصر منذ الحرب الأهلية الأمريكية في أواسط القرن التاسع عشر.
لقد توارت تماماً فكرة القارة الحصينة الآمنة التي يحميها محيطان عظيمان
هما الأطلنطي والهادي، وتحميها القنابل النووية، كما تعرضت الهيبة الأمريكية
للاهتزاز والشك إلى حد اختفاء رئيس الدولة عن العاصمة ذعراً وهلعاً، وبدت
الولايات المتحدة الأمريكية بكل جبروتها في حالة فراغ كامل من السلطة، وكأننا
إزاء مشهد من مشاهد الانقلابات العسكرية في أفريقيا. لقد بدت نيويورك
وواشنطن عاصمتا السياسة والمال وكأنهما مدينتان للأشباح، ولم تكن آثار الضربة
سياسية ومعنوية واستراتيجية فحسب؛ وإنما كان لها آثارها الاقتصادية الهائلة التي
ضربت قطاعات حيوية تمثل عصب الرأسمالية الغربية في الصميم، مثل التأمين،
والطيران، والبنوك، والبورصات، والاتصالات.
لقد جاءت الهجمات الأخيرة لتعيد أمريكا من جديد إلى وضعها الطبيعي دولة
يجري علىها ما يجري على الدول الأخرى من عوادي الأزمان وصوارف الدهور،
ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إن أمريكا قبل الهجمات الأخيرة تلبستها روح التأله
والشعور بأنه لا يعجزها شيء [وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ
نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ] (يونس: 24) ، ومن ثم فإن فهم
السلوك الأمريكي الذي نشاهده أمامنا كل يوم في صورة تحركات وقرارات وضغوط
ومساومات وتصريحات وتهديدات لا يمكن أن نفصله عن عمق ما أحدثته الضربة
من تأثير عميق في التاريخ الأمريكي وإلى الأبد.
بيد أن الدافع الأساسي الذي نعتقد أنه يحرك السلوك الأمريكي هذه الحركة
العصبية الواسعة المضطربة يتمثل في الإحساس الأمريكي بأن الهجمة الأخيرة هي
مؤشر لا يمكن تجاهله لتأكيد أن القوة الأمريكية دخلت بالفعل طوراً جديداً من أطوار
بدايات الهبوط والانحطاط. والمتأمل في تاريخ الأمم وصعود القوى وهبوطها سوف
يلاحظ أن بلوغ أي قوة عظمى لمنتهى قوتها يواكبه في نفس التوقيت بدايات حركة
عوامل الضعف فالانحطاط، وهذا في العادة يكون أمراً غير محسوس؛ إذ إن آثاره
قد لا تبدو إلا بعد عقود طويلة؛ لكنه في الحالة الأمريكية يعلن عن نفسه أمام الدنيا
كلها وكأن الله سبحانه وتعالى يذكِّر أهل الأرض جميعاً بأن سننه لا تغالَب، وقدرته
لا تقاوَم، وأن أمره بين الكاف والنون إذا أراد شيئاً فإنه يقول كن فيكون.
سمات السلوك الأمريكي في الأزمة الراهنة:
1 - أهم سمات السلوك الأمريكي التي تؤكد ضعفه ورعونته هي التردد
والتخبط؛ فالرئيس الأمريكي يعلن أن الحرب التي تشنها أمريكا على أفغانستان
وعلى الإرهاب على حد زعمه هي حرب صليبية، وليس الأمر كما يقال هو أن
قصد الرئيس الأمريكي من كلمة صليبية هو التجييش الهائل، ولكن الصليبية تعني
المعنى الحرفي الحقيقي لكلمة الصليب كما عبرت عنها الحروب الصليبية في
العصور الوسطي، فكما يذكر مؤلفا كتاب (الدين والسياسة في الولايات المتحدة) :
«كان منهج الحرب المقدسة أو حرب الصليب هو أحد المظاهر المهمة للمواقف في
الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الحروب، ومصطلح الحرب المقدسة يعني حرباً
مقدسة يشنها الصالحون نيابة عن الرب ضد الكفار والمهرطقين سياسياً ودينياً» ،
فحين يتعلق الأمر عند الأمريكان بإيجاد تفسير أو معنى للحروب فإن نموذج الحرب
الصليبية يكون هو التعبير الحاضر في الوعي الأمريكي. تراجع الرئيس الأمريكي
بسرعة عن كلمة الحرب الصليبية هو نوع من التخبط، وهو في النهاية حيلة من
أجل عدم إثارة الدول والحكومات الإسلامية التي أرغمها الأمريكان على الدخول
معها في التحالف الدولي ضد أفغانستان المسلمة بزعم محاربة الإرهاب، ومن ناحية
أخرى نجد العنوان الذي اختاره الأمريكان لحربهم الصليبية الجديدة هو: (النسر
النبيل) ثم عادوا واختاروا عنوان: (العدالة المطلقة أو العدالة بلا حدود) لكنهم
تراجعوا؛ لأن العدالة المطلقة هي عند الله سبحانه وتعالى ثم عادوا أخيراً وجعلوا
عنوان حربهم: (الحرية الدائمة) ، ولا نعرف أي حرية يقصدون، ولا لمن تكون
هذه الحرية؟
ومن مظاهر التردد والتخبط الأمريكي إعلان الرئيس الأمريكي ووزير
خارجيته أنهم سيقدمون للعالم أدلة الاتهام ضد ابن لادن حتى تطمئن الدول الإسلامية
الداخلة في التحالف الصليبي ضد عالمها، ثم التراجع عن ذلك بحجة أن نشر هذه
المعلومات سيجعل الحرب صعبة، فكما قال وزير الخارجية الأمريكي: (لا نريد
أن نجعل الحرب أكثر صعوبة مع نشر معلومات تعتبر سرية) . هذا فضلاً عن
التخبط في نشر أسماء لمتهمين مزعومين هم على قيد الحياة يعيشون في بلدانهم
ويمارسون حياتهم ولا علاقة لهم بأي تفجيرات، وكل هؤلاء المواطنين من العرب
في الخليج أو المنطقة العربية. علماً أنه لم يعلن ولو على سبيل الخطأ أي اسم
لمتهم من جنسية غير عربية وغير مسلمة.
2 - استثارة المخزون الديني الكامن في الثقافة الغربية ضد الإسلام والمسلمين
عبر المقولات التي جرى الترويج لها عقب نهاية الحرب الباردة، مثل مقولات:
نهاية التاريخ، والعدو البديل، والعدو الأخضر، وصراع الحضارات، والتي
تعتبر الإسلام عدواً والمسلمين معادين لقيم الحضارة الغربية ومناهضين لها. وهناك
داخل الولايات المتحدة نوع من هوس العداء ضد الإسلام والمسلمين باعتبارهم
تهديداً لقيم الحداثة الغربية؛ والذي يراجع ما تكتبه الصحف الأمريكية والكتَّاب
الأمريكان سوف يجد ذلك واضحاً جداً، وهو ما يؤكد البعد الديني في الصراع، كما
يؤكد التحيز الكامن في العقل الغربي ضد الإسلام وضد المسلمين، ولسنا نبالغ إذا
قلنا إن أمريكا استغلت هذا التحيز ضد الإسلام، فأسرعت إلى إعلان التهمة ضد
أحد أبنائه وضد دوله دون التحقق من هذه التهمة؛ وأمريكا في هذا تقدم العدو
الإسلامي كبش فداء لتهدئة خواطر مواطنيها، وعودة الهيبة والثقة التي تمرغت في
الوحل بصرف النظر عن صحة الاتهام أو عدمه.
3 - اعتبار الحرب الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي حرباً بين الخير
والشر، وأن على العالم أن ينضم إلى أمريكا في هذه الحرب، وإلا فإنه مع قوى
الشر والإرهاب؛ فمن ليس مع الخير الذي تمثله أمريكا فهو مع الشر وهو هنا
الإرهاب الذي يمثله المسلمون. وفي الواقع فإن العقل الأمريكي لكي تكون الحرب
مسوغة عنده وعادلة فيجب أن يكون هدفها زيادة الخير وتقليص الشر، وهنا
الحرب العادلة هذه عند الأمريكان تكون حرباً مقدسة وتستبطن في الواقع الدفاع عن
الدين الحق الذي تمثله المسيحية هنا؛ فنظرية الخير والشر والحرب العادلة جذورها
دينية وأرساها في العقل الأمريكي مارتن لوثر وكالفن؛ ومن ثم فالحرب التي
يجري الإعداد لها الآن والتي يصفها كثير من المحللين الأمريكان وعلى رأسهم
(تماس فريدان) وثيق الصلة بدوائر صنع القرار الأمريكي ووثيق الصلة بدوائر
لوبي رجال المال والصناعة الأمريكان بأنها الحرب العالمية الثالثة ليست بعيدة عن
كونها حرباً بين المسيحية والإسلام، أو حرب الخير المسيحي والشر الإسلامي.
4 - فقدان الهدف وغموض العدو وتمييع المصطلحات ومعلوم أن الأمريكان
واليهود بارعون فيما يطلق علىه الغموض البنَّاء الذي يتلاعب بالألفاظ لكي يلبس
الحقائق ويضيعها؛ لكن من الواضح أن العبارات التي يطلقها كل يوم الرئيس
الأمريكي ومساعدوه تؤكد أنهم عاجزون فعلاً عن تحديد ومعرفة خصمهم، ولذا لا
تسعفهم بضاعتهم اللغوية؛ فكل يوم يخرج الرئيس على الشعب الأمريكي ليفحمه
بخطبة عصماء أشبه ما تكون بمواعظ القسس لكنها لا تحدد من العدو الذي تسعى
أمريكا إلى محاربته هل هو ابن لادن وحده، أم أفغانستان وحدها، أم ستون دولة
تلك التي تعتقد أمريكا أنها تؤوي إرهابيين وفقاً للمفهوم الأمريكي؟ ! وأخيراً انتهى
وزير الخارجية الأمريكي باول إلى القول بأنهم يفرقون بين العملية العسكرية التي
يجري الإعداد لها وهي غزو أفغانستان والقبض على (ابن لادن) وبين الهجوم
الأمريكي الشامل على الإرهاب الدولي والذي يتطلب استخدام وسائل اقتصادية
وسياسية ودبلوماسية.
5 - عدم التكافؤ الواضح بين القوة العسكرية الجبارة التي حركتها أمريكا
وبين الأهداف المعلنة، كما يبدو عدم التكافؤ الواضح بين الدولة المقصودة بالحرب
وهي أفغانستان وبين أمريكا والحلف الدولي الذي صاغته بالإكراه من ورائها؛ لذا،
ومن منظور نفسي فإن الحركة الضخمة للآلة العسكرية الأمريكية مقصود بها إثبات
الوجود، وتأكيد القوة حتى لا يظن ظان أن القوة العسكرية الأمريكية في حالة
ضعف أو استرخاء.
أهداف الحملة الأمريكية على أفغانستان:
تستهدف الحملة العسكرية على أفغانستان باعتبارها السلوك الأمريكي موضع
الفهم عدة أهداف في تقديرنا، وهي:
1 - القبض على (ابن لادن) حياً أو قتله باعتباره وفق المنظور الأمريكي
المتهم بتنفيذ الهجمات الأخيرة والتي راح ضحيتها وفق التقديرات المعلنة حتى الآن
أكثر من 6000 آلاف أمريكي، وهو ضعف العدد الذي راح في الاعتداء على
بيرل هاربر.
2 - إسقاط حكومة طالبان الإسلامية التي تمثل قمة التحدي للصلف الأمريكي،
وهو ما يعني رفض قيم التحديث الغربي ونمط الحياة الأمريكي الذي تريد أمريكا أن
تفرضه على العالم كله دون نظر أو اعتبار للخصوصيات الثقافية والدينية بين الأمم،
وهو ما يعبر عنه كيسنجر برفض قيم العالم المعولم. يقول بوش في معرض
تسويغه الحرب ضد أفغانستان: (إن طالبان حكومة قمعية تقهر النساء) ، ولا
نعرف من الذي نصب الرئيس الأمريكي ليكون محامياً عن المرأة الأفغانية؟ !
3 - بناء تحالف دولي ضد الإسلاميين الذين يمثلون تهديداً لأمريكا تحت
مظلة مكافحة الإرهاب في البداية، ثم استخدام هذا التحالف ضد العالم الإسلامي فيما
بعد وخاصة الدول التي تسميها أمريكا دولاً مارقة أو منظمات إرهابية مثل حماس
والجهاد الإسلامي الفلسطيني على وجه الخصوص دون تمييز بين حق استخدام
القوة لمكافحة المحتل وبين استخدام القوة لمجرد الترويع، وبمراجعة لقائمة
المنظمات والدول والأفراد والجهات التي أعلنتها أمريكا ممثلة للإرهاب من
منظورها أو تلك المتعاونة معها فإنها تشمل جهات خيرية إسلامية ليس لها أي صلة
بالإرهاب المزعوم، كما أن حماس والجهاد على قوائم وزارة الخارجية الأمريكية
باعتبارهما منظمتين إرهابيتين. وبشكل عام فإن العقل الغربي لا يمكنه التمييز أو
التحليل، ومخزونه الثقافي يجعله يرى في الإسلام وحده هو الدين الذي يغذي ثقافة
الإرهاب.
4 - إعادة رسم الحدود والجغرافيا السياسية لمنطقة آسيا الوسطى لصالح
الشركات البترولية الكبرى التي تتنافس على المخزون البترولي الهائل في بحر
قزوين كما تتنافس على مد خطوط الأنابيب لتوصيل هذا البترول لأوروبا وأمريكا
والعالم الغربي، وتشير التقديرات أن المخزون النفطي الهائل في بحر قزوين يبلغ
حوالي 200 مليار برميل، ومعظم الشركات التي لها عقود للتنقيب في المنطقة هي
شركات أمريكية مثل سيفرون، أيكسون، وكوبيل. وليس خافياً أن أباطرة البترول
في أمريكا هم الذين يصنعون حكام أمريكا، وهم الذين يصنعون السياسة الأمريكية
وفق مصالحهم.
5 - توسيع حدود حلف الأطلنطي شرقاً لمحاصرة الصين وكوريا الشمالية،
وتثبيت مواقع جديدة في منطقة آسيا الوسطي تحاصر روسيا في خاصرتها الجنوبية
ومن المعروف أن الثقل الكوني بدأ يتحرك مؤخراً في آسيا في نفس الوقت الذي
تعاظمت فيه كراهية الوجود الأمريكي في البلدان الآسيوية؛ ومن ثم محاولة استعادة
هذا الوجود في مناطق استراتيجية جديدة.
الخبراء والمراسلون يتحدثون عن القدرة الأمريكية والإرادة الأمريكية؛ لكننا
نعود فنؤكد أن أمريكا لن تعود كما كانت قبل يوم الثلاثاء الفارق الذي تلقت فيه
أمريكا صفعة قاسية ومهينة رغم التقدم الأمريكي، لكن الحرب تظل دائماً معلومة
البداية غير معروفة النتائج ولا النهاية. ونحن نعتقد أن أفغانستان ربما تكون
الأرض التي تشهد للمرة الثالثة هزيمة أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ المعاصر،
وربما تكون بدايات النهوض لعالم المستضعفين [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] (القصص: 5) .(168/84)
المسلمون والعالم
الإرهاب يباع ولا يعلَّم
دعوة للسلام ومواجهة الإرهاب ومحاكم التفتيش
د. محمد حامد الأحمري [*]
بعد أكثر من عقد من الزمان وقف بوش الابن موقف والده لينذر العالم من
عربي إرهابي آخر، فأما الأول فحاول ضرب مصالح أمريكا خارج أمريكا، وأما
الثاني إن كان الاتهام صحيحاً فقد كان موجعاً أكثر، حيث قام بحرب أمريكا على
أرضها؛ ولذا قامت وسائل الإعلام الغربية بحملة تجريم للعرب والمسلمين ووضعهم
في صندوق الإرهاب مهما رفضوه، وقد بادر الغربيون بالاتهام كما فعلوا من قبل
في حادثة أوكلاهوما، وبادر العرب والمسلمون بالشعور بالذنب وتقمص الدفاع قبل
ظهور أي دليل على متهم.
وليس هناك توجه للوقوف عند من الذي فعل الآن؟ ومذكرة الحكومة
الأمريكية الموعودة التي وعد بها باول ألغاها الرئيس، وقد يكون السبب صعوبة
معرفة ذلك الآن، أو لأن تعليق الأمر حرباً أو سلماً على المعرفة سوف يعطل
مشروعاً أكبر من مجرد الانتقام لما حدث، وما تلا حرب الخليج شاهد قريب.
جذور الإرهاب:
لم يكن من الممكن أن يتحدث أحد في الحكومة الأمريكية ولا الإعلام الأمريكي
عن جذور الإرهاب في المشرق العربي المسلم، تلك البلاد التي عاشت سلاماً وأمناً
قروناً طويلة، حتى بدأت الحملة العنصرية الصهيونية.. وجاءت بالقنابل وأدخلتها
في مخَّاضات الحليب إلى فندق داود في القدس لتفجرها في البريطانيين، ثم لتقوم
بحملة إرهابية واسعة لإخراج مليون عربي ونصف مليون من دورهم، ثم بعد ذلك
تقوم حملة لإرهاب اليهود المقيمين في القاهرة وبغداد وغيرهما من اليهود الذين
رفضوا الهجرة لإسرائيل، وإخراجهم قسراً إلى إسرائيل، ولم تقتنع الدول العربية
ولا اليهود أن يهوداً سيرهبون ويقتلون بني جنسهم حتى أثبتت التحقيقات
والاعترافات أن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يتقنها الصهاينة لجمع شتات قومهم
من العالم، وإقامة دولة الكراهية والعنصرية، وهي الثقافة التي سوف ينشرونها،
ولتبدأ سرطاناً مدمراً يصنع الإرهاب أو يجبر الآخرين على ممارسته، وسيبقى
مرهقاً للغرب والشرق ما بقيت هذه العنصرية.
ولا يملك بوش الاعتراف بالحقيقة الأخرى: أن الإرهاب المصبوب نيراناً
على الفلسطينيين ليلاً ونهاراً بطائرات إف 16 والأباتشي، وهدم البيوت على
الأرامل والأطفال، وحملات الاغتيال ودعم أمريكا لهذا الإرهاب، ثم قتل خمسمائة
ألف طفل عراقي، وتبجُّح أولبرايت في مقابلتها لدايان سوير عن جريمة قتل هذا
العدد الذي يفوق ضحايا هيروشيما قائلةً: «إنه ثمن يستحق» ، وتدمير العراق
وإعادته للعصور الحجرية، أن ذلك وغيره من أسباب الإرهاب الأولى.
ثم شعور المسلمين بالاستنزاف لثرواتهم، وغبنهم السياسي المستمر،
والمحاربة لإخوانهم المسلمين، من مثل تدبير وتأييد الانقلاب على الديموقراطية في
الجزائر والمجيء بضباط فرنسا، ثم بتأييد روسيا في تدمير الشيشان وتحويلها إلى
مجازر وكهوف للأشباح، والحرص على تقسيم السودان واستخدام المسيحيين
والعملاء لتمزيقه وإفقاره، وتدمير مصنع الدواء الوحيد دون سبب إلا الانتقام من
الأبرياء؛ إذ لم تقدم أمريكا دليلاً سابقاً ولا لاحقاً على صفة المصنع. ثم تحريم
حقوق الإنسان للمسلمين ومنع أي وسيلة للشورى أو الديمواقراطية في العالم
الإسلامي، وتأييد النظم العسكرية والاستبدادية، والموقف المعادي من علماء
الإسلام ومفكريه والإغراء بمطاردتهم وقتلهم، وبعضهم نجا من محاولات اغتيال
كما أشار (بوب وود ورد) في كتاب الحجاب ومنعهم من أي وسيلة للتعبير، وهم
روح الأمة وعقلها النابض، وقصر التوجيه على المتغربين الأتباع؛ مما أشعر
الأمة بأن دينها وحريتها وثروتها مستباحة محرومة منها، ومحرم عليها فوق هذا
حتى أبسط حق للتعبير. تلك جذور الإرهاب التي يحرم بوش واليهود نقاشها،
ويتكلمون عن سلوك ونتائج بلا أسباب.
إن مقارنة سريعة بين خطبة بوش الأب وخطبة بوش الابن وخطبة نابليون
للمصريين تكاد تكون واحدة، في نفس السياق حماية ورعاية، وعدلاً وخيراً يعد به
المستعمر، ولم نرَ فيما شاهدنا في بلاد المسلمين من نتائج الاحتلال إلا الخوف
والفقر والجهل، والإرهاب والحروب، وزيادة الاستعمار العسكري، والقهر
والتخلف السياسي، ونجاح الاستثمارات والبنوك الغربية وزيادة نفوذها وتحكمها في
القرارات.
وجاءت الحرب السابقة ببوش الصغير، جاءت به أموال كنائس تكساس
الغنية، ومواقف حزبية أخرى، وجاءت شركات البترول بوزير الدفاع السابق
تشيني نائباً ولكنه عملياً الحاكم الفعلي لأمريكا، والرئيس يتولى المظاهر وديكور
الإخراج، خَطَبَ بوش الابن ومدح الإسلام، ولم يكن قادراً ولا شجاعاً على أن
يعيد مسرحية نابليون ويكمل الصورة التاريخية فيعلن عن وزير مسلم في حكومته
أو أن يسلم أحد وزرائه ثم يزوجه واحدة من آل البيت كما فعل نابليون، فيفرح
ساذجون بنصر للإسلام والمسلمين وظهور الحامي الأمين. أما الخطاب فقد كان
نصاً تهييجياً فيه قليل من الحقيقة وكثير من الترويع والإرهاب والغرور والتعالي،
ولا أظن خطيباً قبله خطب بمثل هذه العنجهية والثقة، وأهمية الخطاب تبرز في
استعادة ماء الوجه، والتسلية عن المصيبة، وهذا واجب المرحلة، مع إعادة الثقة
بشخصه، وأنه ليس ديكوراً أو واجهة لغيره. وقد أصبح حكمه وضعف شخصيته
مثار سخرية من قبل التنصيب ومن بعده؛ مما يذكر بالمثل التركي: «إن وصلت
للحكم فسوف يعطيك الله عقلاً يناسبه» . غير أن أمريكا ليست بلد الحاكم المنفرد.
الحاجة للحرب وصناعة عدو:
قامت الولايات المتحدة على الحروب المتوالية، وكسب قادتها وزعماؤها
المؤسسون زعامتهم من صفاتهم الحربية ومن شجاعتهم، ومواجهتهم للهنود الحمر
ثم من مواجهتهم للحكومة البريطانية، ولا تكاد تجد تاريخاً لبطولة أمريكية منفصلة
عن القتل، والغارات على الأقليات أو على الحكومات المعارضة لتجارتهم. وبرز
من رجال الحكومة الأمريكية حكام دخلوا في مبارزات شخصية، وممن دخلها
الرئيس جاكسون، ووافق لينكولن على الدخول فيها، ولما خرجت القرعة عليه
ليختار السلاح الذي يبارز به خصمه اختار السيف، وقرينه قصير مما جعله يوقن
بالهزيمة بسبب الطول فانسحب، وكانت المبارزة بالسيف أو بالمسدس وجهاً لوجه
من مسافة قريبة، تلك كانت تقاليد الرجولة. وفي الحرب الأمريكية مع العراق
خرج كتاب يتحدث عن حرب السيد بوش يؤكد فيه الكاتب أن العامل الشخصي
والبحث عن البطولة، والدخول في أمجاد التاريخ الأمريكي تاريخ المحاربين كان
من موقدات الحرب. ولم تخل الأيام الماضية من الحديث عن حظ بوش الجيد أن
تشب حرب في عهده، والبكاء على الزعيم المحبوب عندهم كلينتون الذي لم يحالفه
الحظ بحرب في زمانه. وقد ترسخت ثقافة العنف في المجتمع الأمريكي كما لم
تترسخ في مجتمع آخر على وجه الأرض. واختلطت الحرية بالدين بالعنف
بالعنصرية في تشكيل هذه الثقافة.
ولربما كانت هذه الثقافة هي ثقافة شائعة بين المنتصرين الفاتحين الأقوياء
عبر الدهور؛ غير أننا لم نعرفها ولم نرها عند غيرهم لذا نراها أجنبية على
الإنسان، ومريعة ومخيفة أن تحكم العالم، وأن تكون هي السائدة، ثم قاعدة الرفاه
بعد الحروب دافع مهم أيضاً، وأمريكا عاشت أحسن أيامها بعد الحروب، ودرت
الأموال عليها نتيجة لذلك؛ ففيها البنوك التي يثق فيها المنهزمون، وفيها الحكومة
التي ترعب الجبناء، وكما قال بوش الابن: تأتي بخصومها إلى العدالة أو تحمل
العدالة إليهم. حسب منطق: «القوة حق» ، أو «قوي الغابة عادل» .
ثم خطب بلير رئيس الحكومة البريطانية من بعد ذلك بطريقة أعادت أيام
تشرشل، وتمسك إمبراطورية غاربة بحضور مكلف، ويحاول بلير أن ينقذ بلده
ولو بصحوة الموت، واعترف أن بلده أصبح مقوداً منذ خمسين عاماً، وهو يحاول
أن يرده للقيادة، فأرسلت الحكومة البريطانية من القوات ما لفت نظر المراقبين؛
حيث يرى بلير أن هذه الحرب هي حرب بريطانيا، وقد كان الشارع البريطاني
ينظر للحدث في وقته بعين المراقبة الباحثة عن السبب، ولكن رئيس الوزراء حمل
الميكرفون وشن حملة إعلامية كبيرة، وأصبح يخرج بطريقة أعاد بها ذكريات أحمد
سعيد في تهييجه للناس أيام عبد الناصر.
فهو يواجه أزمة ترسيخ سلطته الشخصية والحزبية، ويرى نفسه وذكاءه
وقدراته تبز بوش الذي يحكم أمريكا وليس قريباً من مستواها. ويواجه ظرفاً يتمنى
أن يكون فيه تشرشل القرن المسيحي الجديد، وأن يلقي بظلاله على فترة جديدة
يرى نفسه فيها الرجل المناسب للمرحلة وللحرب مع العالم الإسلامي الذي نال به
بريطانيون كثيرون أمجاد الفتوح، وليس زعيماً دينياً مثل جلادستون قبل أكثر من
قرن، ولكنه يتولى المنصب التنفيذي للقب الملكة الرسمي «حامية المسيحية» ،
فهو تنفيذياً حامي المسيحية البريطانية. وقد لا تكون الدوافع الدينية محركاً أكبر من
أزمة بريطانيا الداخلية والعالمية؛ فهذه فرنسا وألمانيا تسحب بساط أوروبا من
تحت أقدام الإمبراطورية، وأمام أي حاكم بريطاني تحد أكبر مما يتوقع وهو إعادة
بريطانيا لطريق التاريخ.
ومن الإجراءات التي بدأها جون ميجر في عهده إعادة الروح الدينية
لبريطانيا، وقد خطب منتقداً التعليم الذي لا يهتم بهوية بريطانيا وثقافتها قاصداً
الهوية الدينية ويقبل حتى حزب العمال على الثقافة المسيحية، وهو الحزب الذي
عاش لفترة مرتعاً للملحدين وخصوم المحافظين من غير المتدينين.
لقد أعلن بوش أنه يقود كما قال حرباً صليبية؛ فكيف يجمع معه المسلمين في
حرب صليبية؟ ثم أكد في خطابه أنه سينشر عملاً قد يكون أشبه بمحاكم التفتيش
ويروج لإرهاب جديد في كل مكان، وقبل خطابه هذا رأى أحد القساوسة حرب
المسلمين فرصة، ودعا لمواجهة المسلمين في العالم، وقتلهم وتنصير الباقين،
هكذا يخاطبون ملياراً وثلثاً من البشر، وأكثر من خمسين دولة مسلمة، حتى لقد
اغتنم النصارى الصغار المناسبة فاعتقلوا المسلمين، واستغلوها لحرب المعارضة
السياسية لفسادهم حتى في إرتيريا، وتلك أنسب الأوقات لتصفية الحسابات القديمة
والخروج على الأعراف، وإشباع الأحقاد، وقد استغل الهندوس أيضاً الحدث كما
فعل حاقدون آخرون ورأوا في هذا بدء بناء معبد على حطام المسجد، وستنطلق
أحقاد أخرى مؤجلة.
صعود الحساسية الدينية:
وللغربيين وبخاصة البريطانيين بعض العذر في الموقف المنفعل تجاه الإسلام،
وهو ما حدث أخيراً من مواجهات في بعض المدن البريطانية بين المسلمين
والمتطرفين البيض، وكثرة المهاجرين، حتى أصبحت بعض أحياء لندن من
المسلمين فقط، وفي بعض المدن أصبحوا الأغلبية من السكان مثل برادفورد، ثم
إقبال العديد من الناس على الإسلام؛ مما يهدد مع الزمن الهوية التي يخاف عليها
بعض المسيحيين. فوقفة زعيم بهذا الحجم تمثل عنده وعندهم وقفة إنذار تاريخي
من الهجرة الإسلامية إلى أوروبا من الجنوب.
والذي يعمل له الغربيون في خارج بلادهم فيما يراه بعض المحليين أنه موقف
حاسم من الشعوب الإسلامية التي عليها أن تقر القيم الغربية بالإكراه والعنف،
وتقبل بالمسيحية مشكلة للمجتمع الإسلامي ومؤثرة فيه، والبابا يبشر ويتجول في
العالم الإسلامي كما لم يحدث لزعيم مسيحي من قبله وبنفس الجرأة والتوسع والقوة،
والتأثير السياسي والاقتصادي للكنيسة الكاثوليكية، وفي تعاملها وتسامحها مع
خصومها البروتستانت والاتجاه لكسب بلاد جديدة وسياسة ودول. وقد يعجب المسلم
من المبادرة البابوية في عقد مؤتمر عن الموقف من القتلى حضره ممثلون من الدول
الإسلامية زعماء ومشايخ وسياسيين، ولا يجد للمؤسسات الإسلامية ولا للمنظمات
الإسلامية حضوراً، ولا اسماً ولا موقفاً دولياً مؤثراً، مع أنها المحاصرة بالجيوش
النصرانية تسد عليها الآفاق في كل صقع، وهي المتهمة.
ونظرية صراع الديانات كما بشروا بها تأخذ دوراً كبيراً حتى على ألسنة
المعلقين والعامة. والغربيون لا يمكن أن يقبلوا بقولنا إنهم هم الذين يصنعون من
أقليةٍ مسلمة أقليةً إرهابية، ويدفعون بها قسراً أن تحتج بهذه الطريقة وكل هذا القول
مبني على تصديق تُهم الإعلام؛ فالحكومة الأمريكية لم تصدر التهمة بعد وقد بدأت
المواجهة الحضارية للمسلمين قبل عرض الأدلة.
هل قصد بوش حرباَ صليبية؟
اعتذر الناطق في البيت الأبيض عن كلمة بوش في وصف حربه بالحرب
الصليبية، وأبقت البي بي سي الخبر يوماً ثم غيرته واعتذرت عنه، ومن العدل ألا
نهيج لمعنى قيل لعله لم يقصده، ولكن ما لنا وللألفاظ وترك الحقائق والمعاني؛ فإن
المدارس الإسلامية والجامعات في الغرب أغلقت، والمساجد عطلت فيها الصلوات،
وحل الخوف، وتركت نساء الحجاب، وقلَّ رواد صلاة الجمعة، وأرهقت
المؤسسات الإسلامية، وأصبح الراكب المسلم يُخرَج من الطائرة، ويوقَف القطار
بسبب وجود معمم سيخي فيه ظنُّوه مسلماً، ويضيق الأمر على المسلمين، واعتقلت
أعداد كبيرة، وقد أصبحت الضجة سبباً للمطاردة. ولم يأبه صاحب متجر أن يكتب
لوحة على بابه تقول: (اقتلوهم جميعاً يعني المسلمين ثم الله يميز بينهم فيما بعد) .
وقد كان نداء الحكومة الأمريكية ومسؤوليها مشجعاً، وتعاطف عدد كبير من
عامة الناس طيباً، وبعضهم أعلن إسلامه، غير أننا نراقب حال الإسلام عموماً،
وليس في بلد محدد بل في كل مكان؛ فالاعتقالات ومواجهة البنية المؤسسية
والدعوية الإسلامية في خطر كبير في كل مكان، وتصرف الحكومة الأمريكية مع
الدين ومؤسساته في الغرب وفي المناطق الإسلامية هو الذي يحدد هل هي حملة
صليبية تجتث الإرهاب أم تهدف لحرب الإسلام، وشل قوته، ومحاصرته بالنشاط
الكنسي والمليارات الكريمة المتدفقة على التبشير؟ يقابل ذلك أن الحكومات في
العالم الإسلامي ليس لها وجود رسالي دعوي.
أمريكا الظالمة لن تقف أمام هذه الحقيقة ولكن سيخطب بوش ويسترضي
بعض الناس، ثم تخالف قوته المرعبة لبيوت الأبرياء في العالم، مطاردة وترويعاًَ
لإجراء حملة تفتيش وإرهاب على الأفراد والحكومات في العالم الإسلامي،
وستستغل هذه الحادثة إلى أقصى الحدود لتعيير الحكومات العربية وهجائها،
وانتقاص سيادتها، وإضعاف مكانتها ومطالبتها بتنفيذ حملة الإرهاب والتفتيش في
كل مدينة.
إننا ضد الفساد والتدمير وقتل الأبرياء نقولها دائماً، والآن نؤكد، وضد قيام
حملة صليبية مرعبة حول العالم، تستخدم الدول العربية والإسلامية طواعية أو
قسراً، وسوف يحرِّمون الأوصاف الصحيحة لما يجري، ويمنعون الناس من ترديد
هذا اللفظ الذي اختاره بوش، ولن يسمحوا لنا أن نستخدم كلامه العفوي مستقبلاً،
وسيقولون إننا متعصبون ومتهورون ومتطرفون؛ لأننا صدقنا قوله، وكان علينا أن
لا نصدق أنه قال. إن لغة وثقافة جديدة يجب أن تسود، وسلوك المكارثية الجديدة
سيكون أشنع من مجرد المحاسبة على الأفكار.
التحيز ضد الإسلام:
يستغرب أحد المراقبين كيف يختلف تعامل المجتمعات الغربية مع حوادث
الإرهاب؛ فعندما يضرب الجيش الإيرلندي لندن لا تخرج الأصوات باتجاه طلب
تفجير نيويورك، ولا السؤال عن تمويل الجيش الإيرلندي، بل يتعاونون على
معرفة المطالب، والجلوس إلى مائدة الصلح، ومواجهة العنف بالعدل، وانتخاب
الممثلين للمعارضة، أما يوم حدث تفجير أوكلاهوما فكان الرد من بعضهم بطلب
ضرب العالم الإسلامي، وزاغت القلوب والعيون وأحرقت مساجد، ولما تبين من
الذي كان سبب الإرهاب وأنه واحد منهم جاء الرد متعقلاً مؤدباً وحضارياً، لأنه لن
يبنى على هذه الحركة حرباً استعمارية، فقد جاء الأمر بطلب بدء البحث عن
الأشخاص الذين فجروا، ولم تعلن الحرب على الولايات التي أنتجت الإرهابيين،
ولا جيش البيض المسلحين الذين بقوا بأسلحتهم إلى هذه اللحظة. أما بعد التفجير
الأخير فكانت الحملة موجهة مباشرة للعالم الإسلامي قبل أي أدلة، مع تهييج العالم
كله، ووضع الدول والأشخاص والأحلاف الدولية جزءاًً من العملية، نعم إنها
مرعبة من حيث الحجم! ولكن لو تبين بعد فترة عدم مسؤولية المسلمين فلن يتعامل
الغرب بالطريقة نفسها.
أبعد من طالبان ومن تخريب الخرائب:
أصول بعض المتهمين ومكانهم تسوِّغ إلى حد كبير الموقف المتشدد ضد
طالبان وبعض الدول العربية، غير أن المطلوب لا يمكن أن توافق عليه حكومة
ذات سيادة وطنية، إذ تواجه طالبان موقفاً تدميرياً لوجودها، وإنهاءً لحكمها،
ولكنها لو سلّمت ابن لادن لما وقفت شهية الغرب النصراني عند هذا، ولو أنهت
القواعد المدعى وجودها لما قبل الغرب بذلك، ليس فقط لأن الغرب كما يقول سيد
قطب: «لا يقبل بدولة إسلامية ولو جزيرة في المحيط» ، وليس فقط بسبب
بعض التشدد والأخطاء التي مارستها طالبان. ولكن لأسباب مختلفة لا تذكر هذه
الأيام، وهي خطورة وجود دولة إسلامية مستقلة في مناطق وسط آسيا الإسلامية
وقد بدأت تصحو وتتفلت من الاستعمار الروسي الطويل، وتنذر بحياة إسلامية
جديدة في بلدان واسعة وثروات ضخمة، ومستقبل يعد بالكثير؛ ما لم تدمر هذه
التوجهات في مهدها.
وقامت طالبان بموقف آخر أثار الغرب أيما إثارة، وهو العالم الذي تؤثر
كثيراً في قراراته الجمعيات غير الحكومية الكنائس تحديداً هذا الموقف هو الإقدام
على سجن مجموعة من المبشرين ومشروع محاكمتهم، ومحاكمة المرتدين
للنصرانية، وهذه جريمة دولية عند النصارى تفوق في حساسيتها ما يتوقع
المسلمون؛ فمن قبل ذلك كلَّف تصرف عيدي أمين مع قسيس بريطاني منصبَه،
وسُلِّمت أوغندا للنصارى بسبب إثارة حمقاء لبريطانيا التي تحمل ملكتها لقب حامية
الكنيسة، وبريطانيا تحمي وترعى مصالح النصرانية حقيقة لا مجرد لقب.
حرب طويلة المدى:
يقول طرف الحرب الغربي إن هذه الحرب قد تستمر لعشر سنوات، ومنهم
من يراها أقصر أو أقل، فأما عملية مواجهة شخص بن لادن وحكومة طالبان فقد
تكون قصيرة، ومثلها مواجهة الجماعات المتهمة بالعنف، ولكن الطول المقصود قد
يراد به المواجهة التي يسمونها حضارية وهي عند العرب «الدينية» فهذه لم تهدأ
منذ أربعة عشر قرناً ليقول أحد أنها ستقف، بل ستكون أبعادها الأمنية والمالية
مرهقة لجميع الأطراف، ما لم يتوقف الغرب عن إيقادها في كل مكان، ويوقف
الترويع والإرهاب الرسمي من الشيشان إلى فلسطين والسودان وغيرها من المناطق
التي يسود فيها الإرهاب المحمي بالقوة الدولية الكبرى.
رؤية العالم لأمريكا:
إن أمريكا دخلت بجيشها أكثر من مائتين وستة عشر مرة لبلاد أجنبية،
وقتلت أكثر من اثني عشر زعيماً لدولة، ودمرت الديموقراطية في المستعمرات،
وأقامت انقلابات ضد الشعوب، وقتلت الحكام المنتخبين ونصبت خدمها وجواسيسها
من أمثال بينوشيه، وبأوامر من كيسنجر قتل آلاف الناس في العالم من المعارضين
لأمريكا ولسياستها، عندما كانوا مقرين لقانون الاغتيال للمعارضين السياسيين
يناقش الآن إعادة هذا القانون ولم تدنها هيئة الأمم، ويوم أدانتها محكمة العدل
الدولية فمر الخبر وكأنه نكتة عابرة، وعندما تريد أمريكا أن تدين المحكمة الدولية
بلداً مسلماً فإنه يحاصر، ويمنع منه الرزق ويوقف الطيران، وتشل الحياة، حتى
يركع المعترضون أذلاء وهم غالباً دول مسلمة تحت أقدام طغيان هذا الصنم
المسيحي الذي يسمى هيئة الأمم المتحدة.
وتدمير البنى الثقافية والسياسية والعلمية والاقتصادية في العالم الإسلامي هدف
تعلنه الدول الغربية أحياناً وتكتمه أحياناً أخرى، بحسب الحاجة لمنافقة الضحايا،
ثم تسلب أموالهم مرة أخرى لإعادة البناء، كما فعلت فرنسا التي سلبت مال العراق،
ثم هاجمته مع المهاجمين ثم تطالب بالعقود لإعادة بنائه، وهكذا أفغانستان مكسب
للجيش الأمريكي: أن يحارب هناك ولو جوياً، ثم مكسب بعد الهدم ثم يأتي الخير
فيما بعد لعقود وصفقات البناء، وحكومة عميلة وهكذا دواليك.
المسلمون والحادثة:
تعلَّم المسلمون من حادثة صدَّام السابقة أنهم كانوا ضحية المعركة الأولى،
سواء بسبب تصرفاتهم، أو بسبب الموقف المسبق منهم، ولا فرق هنا بين حركة
قومية صادقة، أو وطنية مخلصة أو إسلامية هادية، فكلها لن يغفر لها الاستعمار
أن توجد، ولا أن تؤثر، وكلها حركات معادية في نظر المحتلين، وبحكم أن
الإسلاميين كانوا الأعلى صوتاً أخيراً، والأنفذ أثراً، فقد تلقوا العقوبات الأشد قتلاً
ومطاردة وتشويهاً للسمعة؛ فالمستعمر لا يقبل إلا صداه. والحملة الجديدة لا تبحث
عن غيرهم، ويجب أن يوضعوا في صندوق الإرهاب، ويلحق بهم كل ذي كرامة
وحس وطني حتى وإن لم يكن مسلماً في عالم الإسلام.
فإن من المهم للمسلمين أن يعلموا أنهم قد رُموا عن قوس واحدة، وأنهم قد
دخلوا طوراً جديداً من العلاقة بينهم وبين الغرب، وهذا يلزم بتغيير طريقة التعامل،
وبتوفير النفس والمصالح، وعدم توجيه السهام كلٌّ إلى نحر قريبه؛ فقد أثبت
الموقف أن هؤلاء لا تقف شهيتهم عند حد من حيث الرغبة في تدمير الكيان
الإسلامي بأي وسيلة، ولو كانت مجرد تهمة، والطريق الصحيح هو البحث عن
وجوه الخلاص من الظاهرة الإرهابية السياسية الجديدة، والبحث عن السلم والأمن
والثقة، وتجاوز المواقف الخاطئة السابقة التي أثمرت ذلاً وفقراً وتبعية؛ لأن
الموقف الإرهابي الغربي الجديد لا يفرق بين الأطراف، وقد بدا ذلك صريحاً جداً،
لا يقبل المساومة مع أمريكا أو ضدها، وللحكومات قيم ومجتمع ومصالح ودين
وظروف مختلفة، ولكن السياسة المعلنة لأمريكا مقلقة لكل عاقل، حتى ولو رغب
في ولائها ومجاملتها. فهذه اللغة السياسية متطرفة منفعلة إرهابية تنذر بعنتريات
وبمجازر كمجازر رعاة البقر للهنود الحمر، وتنذر بالقضاء على الحريات وكرامة
الشعوب والأديان الأخرى؛ لأنهم يختلفون مع أمريكا فقط.
وما هي حدود الإرهاب؟ وما هو تعريفه؟ إن كان قتل المدنيين وإرهابهم،
فهذا الإرهاب قائم مرعي تدفع له معونات من دافعي الضرائب الأمريكيين،
ويحصل كل بيت إسرائيلي على ما معدله ألف دولار من المعونات الأمريكية، ربما
لأنهم يقومون بعمليات إرهاب وقتل للأطفال والنساء الآمنين العرب. وتقتل أمريكا
في العراق مائة وخمسين طفلاً يومياً، وتمطر الأُسر بالإرهاب كل ليل، وتحافظ
على صدَّام وسيلة لاستمرار ما تسميه بالإرهاب، وتمنع الثورة عليه كما في محاولة
سفيان الغريري؛ فهي تكرهه ولكنه خير وسيلة لاستمرار الإرهاب المحمود،
وأحسن الطرق لاستثمار المنطقة.
إننا لم نشهد الرحمة المسيحية تمتد لنصف مليون طفل مقتول في العراق، ولا
نرى عدل المسيحية يمتد للإنسان، بل نراه سيفاً مسلطاً على المساكين المستضعفين،
وها هو دور المسيحية في البلقان وغيرها لا تخطئه عين. فهل الإنسانية فقط
تعني المسيحي؟ ثم ترسل بعد ذلك إغاثات رمزية، ومساعدات تافهة لذر الرماد في
العيون.
أين الرحمة المسيحية من التحالفات الدينية المسلحة المقدسة ضد المسلمين في
كل مكان، أين المسيحية من الحشود البربرية في البلقان؟ ! أم أنها مشروع انتهى
ونجح وبقي أن تتباكى الكنيسة في أعين الترك المطرودين وبقايا الألبان، وتدعو
العرب أن يحضروا مؤتمرات تسوية ومؤتمرات إدانة، ومؤتمرات سخرية؟ !
إيطاليا أزعجها قتل مبشرين في الجزائر وهو قتل أزعج المسلمين أيضاً، ولكن لِمَ
لا تقف ضد فرنسا وتطالبها بإنهاء احتلال عساكرها للجزائر، لتنتهي المأساة مأساة
القساوسة، ومأساة الشعب الجزائري؟ ! ولكن البابا وإيطاليا وفرنسا تكسب
باستعمارها أكثر من خسائرها بموت عدد قليل.
والرعب والإرهاب لا بد أن يكون إسلامياً، حتى وإن كان في أعمال تحررية
يقرها القانون الدولي؛ فقانونهم الذي أقروه يقول بحق الناس في تحرير بلادهم،
وهذه البلاد قد وافق عليها مجلس الأمن، وقرر أنها للفلسطينيين، فكيف لا يحق
لهم حسب ميثاقهم الذي سنوه أن يواجهوا الغزاة، وأن يوقفوا الإرهاب؟ وكلما قتل
من المسلمين مقتلة قالوا أوقفوا الإرهاب الإسلامي.
من المستفيد من هذه الأحداث:
هناك المستفيدون الأولون من هذه الحرب أو هذه المواجهات، وقد ظهر على
الساحة الأمريكية استفادة اليهود الكبيرة من الحدث، وحاولوا أن يقولوا للناس إنهم
الهادئون الطيبون، المظلومون، واستنفدوا كل الوسائل وأصبحوا الخطباء
والمعلقين والمستشارين، وقد يبدؤوها مرحلة استثمارية جديدة من بيع الإرهاب.
ولكنها مع الزمن ليست لصالحهم؛ فبالرغم من خداعهم للشعوب الغربية
والزعم أن السبب هو أن المسلمين يرفضون النموذج الغربي للحياة وما يمثله، وأن
السبب هو الرفض للغرب، وليس لما حدث علاقة بالإرهاب الصهيوني مما
يحاولون به تبرئة ساحتهم، ولكن من النصارى من يرى في هذه الأحداث رابطاً
بينه وبين الهمجية الصهيونية، والإرهاب الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي.
وأمريكا تحرص على تحالف سريع هادف على المدى الطويل، وتثق من أن
العرب ينسون، ولا يحتملون الصبر الطويل على العمل ولا المشاريع الدائمة،
فسرعان ما ينسون سخطهم، وشروطهم، ويعملون تحت الشروط الجديدة، وقد
نسوا كثيراً في الماضي شروطهم، وسينسون مستقبلاً أكثر.
يتضح من المواقف الحاجة لمزيد من الوجود العسكري في وسط آسيا، وبناء
قواعد عسكرية أمريكية في المنطقة حماية للحكومات الموالية وخوفاً من الشعوب أن
تستقل أو تحكم بلادها. وهناك مخاوف من الصين وعلاقاتها بالباكستان، والقوى
النووية الصاعدة، وهذه تقتضي سيطرة عسكرية وسياسية على الجيش الباكستاني،
وهذا ما يثير قلقاً كبيراً على كل الأصعدة؛ فهو موقف مريب ومخيف في الباكستان
وأمريكا، ومزعج للهند، ولو قامت حرب كبيرة قد لا تقف عند حرب هندية
باكستانية بل قد تصنع عالماً جديداً تماماً يشبه التغيرات بعد الحرب الأولى، إن لم
يستعمل أحد الأطراف قوته النووية.
إسرائيل الغائبة الحاضرة:
لم يتحدث بوش عن إسرائيل؛ لأنه يريد أن يبني تحالفاً عالمياً لمصلحتها
ولمصلحة سياستها وسياسة أمريكا وهي عامل مزعج في الحديث والسياسة؛ إذ لا
يملك رئيس أمريكي مهما تكن شجاعته إن كان حريصاً على انتخابه وعلى مصلحة
حزبه أن يعالج المشكلة الحقيقية وهي النفوذ والسيطرة الإسرائيلية على الكثير من
المواقف السياسية الخارجية لأمريكا، وهي كلمة قالها الرئيس (ترومان) بوضوح:
«معذرة أيها السادة، ولكن ليس ثمة آلاف من العرب بين الناخبين في دائرتي»
فالأمر في خطاب (ترومان) لا يخضع إلا للناخبين الذين إن لم يحقق لهم رغباتهم
صوَّتوا لغيره. وذلك عامل أساس في السياسة الأمريكية. ولكن اليوم هناك عوامل
كبر دورها وليس بإمكان العالم الإسلامي تجاهلها، ومنها: التكاتف الديني بين
الصهيونية وبعض النصارى، والتهويد لمواقف أغلبية البروتستانت في أمريكا
وأوروبا وأستراليا، ثم بروز حقيقة صراع الديانات أو كما سمي: (صراع
الحضارات) ، ثم سقوط المعارضة العالمية للغرب إلا في عالم الإسلام.
إن إسرائيل من أهم المستفيدين من المواجهة بين الغرب والإسلام، وأول
فوائد الإرهاب الأخير أن الانتفاضة وقفت أو كادت تقف.
واليوم يستغلون حادثة نيويورك أبشع استغلال، والاستغلال الأول تمثل في
هجوم كاسح ليلة الحادثة على جنين وأريحا، وقتلوا العشرات، والاستغلال الثاني
الأطول مدى وهو أنهم سوف يستثمرون الحادثة ودماء الأمريكان مالاً ومشاريع
وعقوداً؛ فهذا نتنياهو يبحث عن وظيفة وارتزاق لمحاربة الإرهاب، وقد سارعوا
من قبل لفتح هذه المتاجر التي تدعي مواجهة الإرهاب، ومعاهد السلام، وسوف
ينجلي الموقف عن صناعة الإرهاب كما انجلى عن صناعة الهولوكوست «مذبحة
هتلر» ، وتكتب الكتب بعد زمن عن استغلال اليهود لدماء الأمريكان، ونستمع إلى
حكيم آخر يقول: «إن الإرهاب يباع ولا يعلَّم» .
ولكن إبقاء إسرائيل قاعدة عسكرية لحملات صليبية قادمة أمر مصيري يغرى
به المتطرفون النصارى، والحالمون من اليهود، ويغفل اليهود عن حقيقة مصيرهم
الكئيب، فسيدفع اليهود أنهار دماء ثم يتبين لهم أن النصارى سوف يتركونهم
يواجهون مصيراً وحشياً من شعوب عاشت تحت إرهابهم زمناً لا نعلمه. ومن
اليهود أنفسهم من يتنبأ لهم بمصائر أسوأ من قصص التاريخ السالفة.
أهمية تغيير التركيبة الدولية وهيئة الأمم المتحدة:
يرى كثيرون أن هذه المواجهات هي مواجهات دولية، يسميها الغرب
حضارية، وهي تعديل لكلمة دينية، وليكن ذلك كما يشاؤون، ولكن السؤال: لماذا
تكون المسيحية هي الدين الوحيد المحرك للسياسة الدولية ويحرم العالم من ذلك؟
فمثلاً مجلس الأمن مكون من خمسة أعضاء (دائمي العضوية) أربعة منهم
للنصرانية، وخامس للصين، أما العالم الإسلامي الذي سكانه أكثر من مليار فليس
له ممثل واحد؛ بينما يمثل في المجلس فرنسا وبريطانيا وسكانها مجتمعة أقل من
سكان الباكستان، والمسلمون يزيد عددهم عن خمس البشرية وليس لهم قيمة مقابل
فرنسا أو بريطانيا؛ فهم إلى الآن أسواق فقط.
إيقاظ العملاق:
سيطرة فكرة الصراع الحضاري الإسلامي المسيحي من أسباب الوعي التي
سوف تعم العالم الإسلامي، وسياسة القهر التي سوف تواجه بها أمريكا دول العالم
الإسلامي ومشاريع إفقاره وتجويعه، وجلب السلاح لهلاكه وحروبه الداخلية، قد
تجعله يستيقظ، من خداع طويل دخل في ظلماته ثم لم يخرج منه. لقد دخل العرب
في الحرب العالمية الأولى مع بريطانيا، وقاتلوا الأتراك فكافأتهم بريطانيا
بالاستعمار وإعطاء فلسطين للصهاينة، واليوم تتحول الحرب إلى حرب تدميرية
داخلية أعنف وأخبث من كل حرب عرفها المسلمون في السابق، إنها تقتضي
المزيد من خضوع المسلمين للمستعمرين، وقهر الشعوب وتحويل الثروات للغرب،
إنها سياسة: «أرسلوا أموالكم واقمعوا أولادكم» . إن سارت أمريكا فيما أعلنه
رئيسها في حرب صليبية يحرك بها عواطف الغرب، ويغوي عامته، فسوف يعي
العالم الإسلامي الخطر، وسوف تسقط الحملة على أعتاب الوعي، أما إن كان يريد
كف الخطر عن بلاده فله الحق، وللمسلمين الحق في كف الخطر أيضاً ويعيش
العالم في سلام.
الدور القادم:
إن المسلمين لا يريدون الشر بالناس شرقيين أو غربيين، بل يريدون لهم
الخير والحق والهداية، والدين نزل لسعادة البشر، ويريد الله بكم اليسر ولا يريد
بكم العسر، وإن لم يسلم اليهودي والنصراني فالإسلام يحترم كرامة الناس ودماءهم،
وليس ديناً للدمار والقتل كما توهم الثقافة الغربية وتلزم؛ وذلك بوصم الإسلام
بالقوة حتى يسوِّغوا لأنفسهم العنف تجاه المسلمين وإرهابهم، ومن واجب المسلمين
أن يعملوا على أن يكونوا رحمة للعالمين، وهؤلاء الرحماء يجب ألا يكونوا أغبياء،
ولا الأغبياء يخدعونهم.
__________
(1) الأمين العام للتجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية والمقال بالتنسيق مع خدمة مجلة العصر الإلكترونية.(168/88)
المسلمون والعالم
الإرهاب المسكوت عنه والمحمي بالدستور
أحمد العويمر
الإرهاب ليس كلمة حديثة كما يقوله أحد الباحثين؛ بل كلمة قديمة ذكرها
القرآن الكريم في أكثر من آية منها: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ
الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60) بمعنى تخيفون به عدو الله
وعدوكم. والإرهاب حديثاً كما جاء في المعجم الوسيط: وصف يطلق على الذين
يسلكون سبل العنف لتحقيق أهدافهم السياسية، ومنه ما يقوم به بعض الأفراد
والجماعات والدول بالقتل وإلقاء المتفجرات والتخريب، والحكم الإرهابي نوع من
الحكم الاستبدادي يقوم على سياسة الشعب بالشدة والعنف بحجة القضاء على
النزعات وحركات التحرير والاستقلال [1] .
هذا الإرهاب الذي أقض مضاجع العالم، وكثيراً ما تحدثت عنه وسائل
الإعلام، ولا يكاد يعرفه الناس إلا منسوباً لأناس من العرب والمسلمين؛ حتى
أصبح ذلك السلوك نمطاً سلوكياً لا ينفك الأعداء عن وصفنا به وإلصاقه بنا زوراً
وبهتاناً.
بينما هناك إرهاب لا يقل قسوة ولا وحشية وهمجية عما يعرف بالإرهاب
النمطي المعروف في منطقتنا، ومنه الإرهاب المتمثل في جماعات وفئات إرهابية
متطرفة، وهذا ما سأوضحه للقارئ الكريم ليعرف هذا النوع المسكوت عنه من
الإرهاب.
قد يخطر على بال القارئ الكريم أني سأتحدث عن الإرهاب الصهيوني الذي
يتمثل في العصابات الصهيونية الحاكمة في (الدولة العبرية) ، والمتمثلة في حكام
وضباط ورجال الأمن (الصهيوني) ، وهذا معروف للجميع، لكني أقصد:
(الجماعات الإرهابية الأمريكية المتطرفة، والمتمثلة في قطاع كبير من اليمين
الأمريكي) بمنظماته وميليشياته المسلحة بما فيها الجماعات العنصرية التي تعتبر
أن العرق الأبيض يمثل (إسرائيل الحقيقية) ، ومنهم جماعة (كوكلوكس كلان)
التي ما زالت موجودة بعد أكثر من مائة عام كمثال لمنظمات الكراهية والعنصرية
التي تحدث عنها مؤلفو كتاب: (جنود الله: اليمين العنصري والديني المتطرف في
أمريكا) [2] .
وفي الكتاب مقابلة مع (شارلزلي) الذي ظل عضواً في الجماعة ذاتها ثم
انضم إلى جماعة (التنين العظيم) التي انبثقت عنها قال: (أنا نصراني الهوية،
أعتقد أن النصارى هم فقط من سلاسلة آدم، ولم أعتقد أبداً في أن تختلط بذرتنا مع
الأعراق الأخرى) . و (جماعة الهوية النصرانية) تضم آلاف المنظمات التي
تتعدد في أشكالها وخطاباتها السياسية والفكرية، ومنها (المقاومة الآرية البيضاء) ،
و (التحالف القومي) و (الأخوة الآرية) ، و (جماعة حليقي الرؤوس) ،
و (العذارى البيض) ، و (نساء من أجل الوحدة الآرية) ، وتتفق هذه الجماعات
على أن العرق الأبيض هو العرق الأسمى بين كل الأعراق على الأرض،
واختلاط الأعراق كما يرون يلوث العرق الأبيض؛ ومن ثم يدمر هذه السلالة؛ فهم
يقاومون التعددية الثقافية داخل المجتمع الأمريكي. وإلقاء نظرة على القسَم لدى
(جماعة الأمم الآرية) يكشف عن ذلك الالتزام، ونص القسم: (نقسم بأن واجبنا
المقدس هو أن نقوم بكل ما هو ضروري لتحرير شعوبنا من اليهود! وتحقيق النصر
الكامل للعرق الآري، وأننا نتعهد بدمائنا ونعلن أننا في حالة حرب كاملة) .
وبغضهم لليهود راجع لاعتقادهم أنهم هم (شعب الله المختار) وليس
اليهود.
وهذه الجماعة الإرهابية المتطرفة تعتقد أن المساواة بين الأعراق (أسطورة) ؛
فهناك فئات منها تعتقد (أن الحرية الفردية في أمريكا هي أسطورة أخرى) ،
وتسوغ (العنف ضد الحكومة الفيدرالية) التي تطاولت على حريات الأفراد، أو
على الأقل (الانعزال) عن الحكومة، ويسوِّغ القس: (بيتي بيترز) راعي كنيسة
(المسيح في لابورت: كلورادو) أن الأمريكين يجري استعبادهم بترخيصات
وموافقات وضرائب وقيود وأوامر ونواه مقابل حريات أساسية تخضع لأهواء
الحكومة الفيدرالية، ويقول (جولد بي) عضو إحدى الميليشيات في تكساس: (إن
الأمريكيين قلقون من فقدان حرياتهم، ويجب أن يقلقوا؛ لأنه لم يعد لدينا إلا قليل
من الحريات، إننا نعيش في ظل الديكتاتورية) ، وفي اعتقاد تلك الجماعات الدينية
المتطرفة أن الحكومة الفيدرالية هي عدو ماسوني! وتهديد للحريات الأمريكية مثل
الحرية الدينية وحرية التعبير، وتهديد لحق الدفاع عن النفس وحق تقرير المصير!
وكان وراء هذا الاعتقاد المتطرف اتجاه إرهابي تمثل في ثلاثة أحداث أو عمليات
إرهابية خلال عقد التسعينيات وهي:
1 - الحادث الإرهابي الأول عام 1992م، وعرف بحادث (روي لايدج)
ويرتبط الحادث بحصار فريق إنقاذ الرهائن التابع لمكتب المباحث الفيدرالية
لشخص يدعى (راندي ويفر) وزوجته وبناته الثلاث وصديق العائلة؛ حيث كان
(ويفر) وعائلته من (الانفصاليين) أتباع الهوية النصرانية، وكانوا يعتقدون أن
الحكومة الفيدرالية هي (معبد الشيطان) ، وأنهم نصارى بيض منشقون على
الحكومة الفيدرالية وجرى اشتباك بالنيران بين (ويفر) ورجال المباحث الفيدرالية
الذين أرادوا تفريق المجموعة المتهمة بتخزين الأسلحة وتوزيعها على الأعوان
لمواجهة الحكومة.
2 - الحادث الإرهابي الثاني عام 1993م، وعرف بحريق (الديفيديين) في
واكو، ويقترن الحادث باسم (ديفيد قورش) وهو زعيم جماعة يدَّعون أنهم فرع
من نسل داود، وهي جماعة انعزالية نشأت في واكو بتكساس، وأقامت مجمعاً على
مساحة 375 هتكاراً أطلقت عليه اسم: (جبل الكرمل) ، وزعيمهم انضم إلى
الجماعة عالم 1981م وهو (فيرمون واين هاول) راعي الكنيسة السبتية في تايلور
بتكساس ثم أصبح رئيساً للجماعة وغير اسمه عام 1990م إلى (ديفيد قورش) ،
وكان هو وجماعته يعتقدون أنهم يمثلون فرع داود، وسيحولون اليهود إلى
النصرانية ليشملهم ما يزعمونه من (خلاص المسيح) وأن (قورش) هو المسيح
المنتظر، وكانوا يجمعون الأسلحة في انتظار المعركة الكبرى مع حكومة الشيطان
(الفيدرالية) ، ولما أطلقت الشرطة الفيدرالية النار على المجمع في 28/4/1993م
حدث تبادل لإطلاق النار أدى إلى قتل 3 من رجال الشرطة وأربعة من الجماعة؛
ولذا حاصرتهم الشرطة الفيدرالية لمدة 51 يوماً بهدف استسلام الجماعة وزعيمها؛
لكنهم رفضوا وهدد زعيمهم بإحراق الشرطة والمجمع ومن فيه، وأخفقت محاولات
الضغط العصبي عليهم بقطع الكهرباء وإغراق المجمع بالماء، ورد عليهم الزعيم
المتطرف بأنه يتبع مشيئة الرب الواردة في (الكتاب المقدس) فأحرق المجمع؛
مما أدى إلى قتل 74 من أنصاره بما فيهم (الزعيم) و (21 طفلاً، تسعة منهم
تقل أعمارهم عن 15 سنة! !) .
3 - الحادث الإرهابي الثالث: عام 1995م، وراح ضحيته 168 قتيلاً
وحوالي 500 جريح حينما دمر (المبنى الفيدرالي) في أكلاهوما في
19/4/1995 م، وهو اليوم الذي يتوافق مع الذكرى السنوية من إحراق مجمع
(فرع الديفيديين) في واكو، وفي ليلة ميلاد الزعيم النازي (هتلر) . وقد سبق
أن ألصق الحادث بالمسلمين زوراً وبهتاناً، ونال المسلمون من الأذى والمضايقات
الكثير جداً، حتى بانت الحقيقة بأن مفجر المبنى المتطرف الإرهابي (تيموثي
ماكفي) الذي يتبع أفكار (سمو العرق الأبيض) ، وأن الحكومة الفيدرالية
(شيطانية) ؛ فقد كان عضواً في ميليشيا (متشيجان) ، وكانت تربطه علاقات
بجماعات ومعسكرات المتطرفين في (ألوهيم سيتي) على الحدود بين أركنساس
وأوكلاهوما، كما تأثر (ماكفي) بكتاب (تيرنر) الذي ألفه الدكتور (وليام بيرس)
تحت اسم مستعار هو: (أندرو ماكدونالد) والكتاب عبارة عن كراس روائي
سياسي يصف فيه المؤلف مجموعة من الأشخاص المتشددين الذين ينفِّذون
عمليات تفجيرات ذات دوافع سياسية ضد منشآت فيدرالية، وبين تلك العمليات
هجوم بقنبلة مصنعة من أسمدة كيماوية ضد مقر مكتب (المباحث الفيدرالية) في
واشنطن، وهو يشبه في صورة ملفتة حادث تفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما،
وقد وُجدت نسخة من الكتاب في سيارة (ماكفي) الذي ألقي القبض عليه، وبينت
التحقيقات معه أنه قام بتوزيع أعداد من نسخ الكتاب المذكور.
جماعات النصرانية اليهودية:
تعتقد جماعة (الهوية النصرانية) أن العرق الآري ليس (اليهود) هم
(إسرائيل) الحقيقية، ويتعلق من ينحدرون من هذا العرق كما يزعمون من الناطقين
الأوائل باللغة (الهندأوروبية) ، وتحدد جماعات التفوق الآري منذ مرحلة هتلر
الشعوب الآرية في شعوب (الإنجلو ساكسون) و (الجرمان) ، و (الغال) ،
و (الاسكندنافيون) ، و (التيتونيون) ، ويزعمون أن عرقهم متفوق وأنهم (شعب
الله) ! وذلك الارتباط بما يعنيه من (معاداة السامية) صاحَبَ نشأة أمريكا منذ
هاجر إليها الإنجليز والبيورتيانيون (التطهريون) وحملوا معهم عقيدة
(الإسرائيلية البريطانية) أو (الإسرائيلية الإنجلو ساكسونية) ، ويزعمون أنهم
أسلاف القبائل الإسرائيلية المفقودة بمعنى أنهم (شعب الله المختار) ! !
ومما يلفت النظر أن حركة (الإنجلو الإسرائيلية) الأمريكية تغلب عليها تيار
معاداة السامية الذي استبعد اليهود المعاصرين من القبائل الإسرائيلية المفقودة، وكان
ضمن هذا التيار (رابن ساوير) الذي اعتبر أن اليهود المعاصرين أدعياء خطرين،
وساهم في تأسيس (الفيدرالية العالمية الأنجلو إسرائيلية) وأصبح أحد قادة منظمة
(كوكلوكس كلان) في (أريجون) ، وكان وراء انتشار تيار معاداة السامية
واعتبار (اليهود أبالسة) لأنهم يحاولون السيطرة على أمريكا.
دعوى (الآريون) أنهم وحدهم نسل آدم: يقول (ريتشارد باتلر) مؤسس
كنيسة (يسوع المسيح) وزعيم جماعة الأمة الآرية فيما بعد: (إن كل الأعراق لم
تنحدر من آدم، فآدم هو أبو العرق الأبيض فقط) ، ويقول: (ديفيد ديفيدسون)
أحد نشطاء الآرية المسيحية أن هناك أعراق قبل آدم لم تنحدر من آدم، وإنما
تنحدر مما يسمونه: (كاين) المنحدر من الشيطان، وهدفهم بهذا الزعم إثبات أن
اليهود المعاصرين لا ينتمون إلى القبائل الإسرائيلية، وإنما يرجعون إلى أصل
آسيوي هو (الخزر) الذين كانوا يعيشون في شرق روسيا وتحولوا لليهودية في
القرن التاسع.
الكوكلوكس كلان الجديدة وإرهابهم:
نشأت هذه المنظمة عام 1866م لترفع لواء حماية النصارى البيض من القهر
والحفاظ على طريقة حياة الجنوبيين الأمريكيين، ومقاومة تحرير العبيد. وبعد ذلك
نجد هذه المنظمة ما زالت مثالاً لجماعات الهوية النصرانية مثل (فرسان الكاميليا
البيضاء) التي تحمل الكراهية للسود، وتوسع نطاق كراهيتها وعدائها ليشمل
المختلفين في العرق والدين. غير أن ما يثير القلق في أمريكا الآن جماعة (حليقي
الرؤوس) والميليشيات الذين لا تخطئهم عيناك فهم شباب يرتدون سترات جلدية،
وشارات نازية، وهم حليقو الرؤوس، يزينون أذرعتهم بالوشم، وهم يرون أنفسهم
أنهم: (الشباب الآري) و (جنود الرايخ الرابع) ، وقد انخرطوا في عمليات
عنف وقتل، ويجاوزوا عداء (الكوكلوكس كلان) السوداء ليوجهوا عداءهم
وكراهيتهم ضد كل الأقليات العرقية والأجانب.
الميليشيات الأمريكية:
تشترك هذه الميليشيات في مضمون (الوطنية النصرانية) من جهة، والعداء
للحكومة الفيدرالية من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة فإنهم للمحافظة على أمريكانية
ونصرانية أمريكا ومواجهة الحكومة، يرون أنه لا بد من تسلحهم للدفاع عن أمريكا
ودستورها، وتبني هذه الميليشيات شرعية وجودها وحركتها على التعديل الثاني
للدستور الذي ينص على أن وجود الميليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أي ولاية
حرة، وأنه لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء أسلحة وحملها، ويعتبرون أن
الدستور الأمريكي وتعديلاته العشرة الأولى في لائحة الحقوق مصدرها إلهام إلهي.
أما التعديلات الباقية من الحادي عشر إلى السادس والعشرين فهي مجرد قوانين لا
قدسية لها، وحسب هذا التصور العجيب بأن النصارى البيض وحدهم هم
المواطنون العضويون الذين وهبهم الله مقوماتهم حسب الدستور ولائحة الحقوق،
أما غيرهم فيتبعون التعديل (14) الذي يسمى قانوناً إلهياً، وتتسم هذه الميليشيات
بالنزعة الانفصالية عن غير البيض ومن الحكومة الفيدرالية؛ فميليشيات (مونتانا
مزيمين) أسست محاكم مواطنين، وأعلن رجالها أنهم أمة منفصلة، وأن الرب
كلفهم بمهمة حمائية في مواجهة الأعداء خاصة الحكومة والمباحث الفيدرالية،
وميليشيا (فايبرر) في أريزونا تدرب رجالها على القيام بتفجيرات في الصحراء
انتظاراً للمواجهة مع الحكومة، وميلشيا (ميتشجان) أعلنت أن هناك مؤامرة كونية
تشارك فيها الحكومة لإخضاع الشعب الأمريكي وتشكل فكرة المؤامرة الكونية على
الشعب الأمريكي لمصلحة حكومة عالية تديرها الأمم المتحدة بما يستوجب التسلح
الذي هو فكرة مشتركة بين كل الميليشيات.
الإنجيليون العسكريون:
وهم يؤمنون بأنه لا بد من محرقة نووية (هرمجدون) تحضّر لعودة المسيح،
وأنه لا بد أن يذوب في هذه المحرقة كل أولئك الذين ينكرون المسيح من الملحدين
والشيوعيين والنصارى العلمانيين والنصارى غير الإنجيليين والمسلمين! ، ولعل
هذا وراء قرار إضعاف العرب والمسلمين وضرورة تعزيز القوة العسكرية لـ
(إسرائيل) وراء حتمية الاستجابة إلى جميع مطالبهم بالدعم المالي والسياسي
والعسكري، وهم يقومون بالكتاب المقدس وبخاصة (أسفار الرؤيا، وحزقيال،
ويوحنا) ، وتضم هذه الحركة أكثر من 40 مليون أمريكي، منهم رئيس أمريكا
السابق (رونالد ريجان) ، وهذه الجماعة فضحتها الكاتبة (جريس هالسل) في
كتابها: (النبوءة والسياسة) ، وحاورت قادتها وفلاسفتها، وذكرت في دراستها
أسماء شخصيات ومنظمات ومؤسسات وكنائس، هذه المنظمات الإرهابية التي
تعمل من أجل مصلحة (إسرائيل) لا حباً في اليهود بالضرورة ولكن للمساعدة على
تحقيق النبوءات التوراتية التي تمهد لعودة المسيح، وهذه المؤسسات المتطرفة تعمل
داخل أمريكا، وتعطي صورة واضحة عن كيفية عمل هذه الحركة الدينية، وتقدم
خريطة مفصلة لمواقع نفوذها. يقول أحد المنتمين لهذه الجماعة: (إن الله قضى
علينا أن نخوض غمار حرب نووية (هرمجدون) . وهذا ما يبشر به كبار
المنصرين منهم أمثال: ريتشار دي هان، وسويجارت الذي يقول: (إن
هرمجدون مقبلة، إنها قادمة، إنني لا أكترث بما تسببه هرمجدون من القلق
والمتاعب إنها تنعش روحي) [3] .
الحرب النووية القاتلة لملايين الخلق تنعش روح هذا المنصر البليد، ومن
يقرأ كتاب (النبوءة والسياسة) سيعجب كثيراً من الرؤى المتطرفة والإرهابية
لهؤلاء الصهاينة النصارى الذين يعملون في وضح النهار وبحماية الدستور
الأمريكي، وبالرغم من جرائمهم وعنفهم وبخاصة مواقفهم حيال الحكومة الفيدرالية
ولا سيما تدميرهم المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما فإن مفجر المبنى وهو أحدهم بقي
عدة سنوات يُحاكم ثم أعدم مؤخراً، ولم تؤخذ تلك الجماعات بمواقف متشنجة أو
تستأصل تلك الجماعات من الوجود.
والأعجب أن المسؤولين في الإدارة الأمريكية يقولون دون خجل: إن السكان
المدنيين يمكن أن يقعوا ضحية لضربات وقائية أمريكية في عمليات عسكرية لوحدة
مكافحة الإرهاب التابعة للمخابرات المركزية والتي ذهب ضحيتها الآلاف من
الأبرياء المدنيين في مختلف أنحاء العالم.
ولمعرفة المزيد: انظر: (كتاب الإرهاب العالمي) [4] .
هذا هو الوجه الآخر لأمريكا، وهو إرهاب وعنف وتطرف لكنه مسكوت عنه
من الإعلام الغربي بعامة والأمريكي بخاصة، ومما يؤسِف أن الإعلام العلماني
العربي يتبع أكاذيب الإعلام الغربي ويساعدهم في تشويه صورة الدعاة المسلمين
بزعم أنهم إرهابيون ليبقى التطرف والإرهاب سمة وماركة مسجلة للإسلام
والمسلمين وحدهم، والغربيون بهذا يصيدون عدة عصافير بطلقة واحدة؛ فهم
يحاولون الإساءة للإسلام والمسلمين، ويحاولون إيقاف مد الإسلام والجماعات
الإسلامية بعامة وبدون تفريق؛ حتى تتم لهم النبوءات المزورة؛ وهي في نظرنا
قادمة؛ لكن سيعرف فيها من الرابح ومن هو ذو الخسران المبين.
[إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً]
(الطارق: 15-17) .
__________
(1) الإرهاب والإرهابيون، للأستاذ محمد عبد العزيز السماعيل.
(2) تأليف هوارد بوشارت، وجون كرايج، ومايرابارنيز، والناشر (لنسجنتون بوكس) نيويورك، 2000م، وانظر: عرضاً للكتاب في صحيفة الأهرام الصادرة في 12/4/2001م.
(3) انظر: النبوءة والسياسة، (الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية) ، لجريس هالسل، ترجمة، د محمد السماك.
(4) تأليف: تركي ظاهر، نشر دار الحسام، بيروت، الطبعة الأولى، 1991م.(168/97)
المسلمون والعالم
فليستقل جورج الثالث عشر!
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
عندما كانت رحى المعركة الانتخابية الأخيرة دائرة في أمريكا كانت تصاحبها
معركة إعلامية بين أنصار المرشحَيْن: الجمهوري جورج دبليو بوش،
والديمقراطي آل جور. وكانت تدور على الألسن تهكمات عليهما أطلقها الإعلام
الأمريكي نفسه، أهمها أن هذه المعركة إنما هي تنافس بين (غبي) و (كذاب)
على رئاسة أقوى دولة في العالم، لم يكن كثير منا يأبه لهذه التهكمات أو
(التجاوزات) باعتبار أننا متفرجون على هذه المشاهد وأن الأمر لا يعنينا؛ لأننا في
جميع الأحوال علينا الرضا وطلب الرضا!
ولكن الأحداث أثبتت وما زالت تثبت خطأ هذا السلوك، ولفتت أنظارنا إلى
أهمية الاهتمام بمعرفة وربما البحث عن عدو عاقل الذي هو خير من صديق أحمق.
فالواقع أننا شئنا أم أبينا نعاني من انعكاسات قرارات هذا الرئيس أو ذاك
ومجموعة مستشاريه ومعاونيه وخبرائه، التي يكون من عوامل التأثير فيها أي تلك
القرارات قدرات هؤلاء الأشخاص وميولهم وقناعاتهم وأخلاقهم.
وهكذا شاهدنا حدوث (تحولات) ضمن ثوابت معينة صاحبت كل رئيس
وإدارته، وكان من أبرز مظاهر هذه التحولات في عهد الرئيس الأمريكي الحالي
هو تبنيه خيارات اليمين الجمهوري (الذي هو يمين سياسي أصلاً) المتمثل في
ثالوث: الرأسمالية في أقصى صورها تسلطاً، والقوة العسكرية في أشد صورها
عجرفة، ومنظومة الأمن القومي..
وعلى إثر ذلك رأينا ظواهر لتلك التحولات، مثل: التسارع المحموم في
تبني مشروع (الدرع الصاروخي) الذي استفيد فيه من مشروع الرئيس الجمهوري
الأسبق ريجان والمسمى (بحرب النجوم) والذي أُنفق عليه سابقاً زهاء ثلاثين
مليار دولار، ورأينا أيضاً محاولات الرئيس بوش وإدارته لإلغاء معاهدة الحد من
الأسلحة الباليستية الموقعة مع الاتحاد السوفييتي السابق عام 1972م، التي تشكل
عائقاً أمام المشروع السابق ذكره، وكذلك الجدل الثائر حول اتفاقية كيوتو للحد من
الاحتباس الحراري الناتج عن الغازات الصناعية، والأقاويل التي ذكرت بخصوص
إلغاء حكم تقسيم شركة مايكروسوفت العملاقة، كما رأينا موقف الإدارة الأمريكية
من مؤتمر مكافحة العنصرية بديربان ... إلى آخر الظواهر التي شكلت مظهر
السياسة الأمريكية، وأفرزت معها في زمن قياسي عداوات (أو إزعاجات) متعددة
بين قطاعات كثيرة من الناس في بقاع شتى من العالم.
ولكن ساعد على إشعال هذه العداوات أيضاً: شيوع الأخطاء الناتجة عن
ضعف (دبلوماسية) الرئيس الأمريكي وانخفاض مستوى لباقته (أو لياقته) ،
ويأتي في هذا السياق ما تحدث به في حديقة البيت الأبيض عقب عودته من
مناقشات عقدها مع مستشاريه المقربين في كامب ديفيد يوم 16/9/2001م؛ حيث
دشن إعلان حرب أمريكا على الإرهاب متوعداً «بشن ما سماه حملة صليبية طويلة
الأمد لتخليص العالم ممن وصفهم بفاعلي الشر» [1] .
فهو باستعماله هذا المصطلح أعطى انطباعاً عنه يتجاوز ما هو سائد عن
سلوك راعي البقر الأمريكي الذي يكون زناد مسدسه أقرب إليه من طرف لسانه،
ليلفت النظر إلى أن في القادة الأمريكان من يعيشون أجواء القرون الوسطى، على
ما ينطوي في ذلك من إرث تعصبي ومضامين عنصرية تهدر وتتعارض مع جميع
مواثيقهم الدولية لحقوق الإنسان، بل تصطدم مع القيم التي يعلن قيام المجتمع
الأمريكي نفسه عليها.
إننا لا نرى أن هذا التصريح نشاز في خطاب السياسيين والإعلاميين
الغربيين عندما يكون هذا الخطاب موجهاً للغرب؛ فهو متناغم مع ثقافتهم وخلفياتهم
المشوهة عن الإسلام والمسلمين. ولكن الجديد هو تسرب مثل ذلك إلى مسامعنا،
وأيضاً الجرأة على إعلانه بهذه الصورة الفجة، وهو ما نبهه عليه مستشاروه، فعاد
واعتذر أو أسف.
فقد سبقه إلى هذه الاستفزازات يوم (14/9) كاتب صهيوني يدعى (ريوفن
كورت) في مجلة (Israel Insider) (إسرائيل من الداخل) عندما دعا إلى
الرد على تفجيرات نيويورك وواشنطن التي طالت رموزاً للحضارة الغربية حسب
تعبيره بتفجيرات مماثلة لرموز إسلامية قائلاً: «وبالمثل فإن الغرب يتعين عليه
إيجاد وسائل أخرى لردع الجهاديين، ويجب أن نفعل ذلك من خلال فهمهم وإجابتهم
بمعايير نظام القيم الذي يؤمنون به، لا الذي نؤمن نحن به، فما الذي يجدي قصف
مطار كابول أو قواعد طالبان العسكرية؟ ... ففي مكة يوجد برجان طويلان في
شكل منارتين شامختين تحيطان بعلبة سوداء عريضة! يعبدها المؤمنون! ويتجهون
إليها في حجهم المقدس، وإلى هذا الشيء الرمزي يتجه كل المسلمين في
صلواتهم ... » .
ثم تبع تصريحات بوش تصريحات أخرى لرئيس الوزراء الإيطالي سيليفيو
بيرلوسكوني عندما قارن يوم 26/9 بين (الإرهاب الإسلامي) والحركة المضادة
للعولمة قائلاً: إن الأول حاول استفزاز العالم الغربي لدفعه لرد فعل عنيف، بينما
سعى الآخر لدفع العالم الغربي للشعور بالذنب، معللاً ذلك بأنه راجع إلى سمو
الحضارة الغربية على غيرها من الحضارات؛ لأن الغرب يضمن حقوق الإنسان
وحرية الأديان؛ وهو ما لا وجود له في العالم الإسلامي! .
ورغم محاولته التراجع كما حاول بوش مدعياً أن تصريحاته أسيء تفسيرها،
إلا أنه لم يستطع إيقاف توابع تصريحه التي تتابعت من مسؤولين (حكوميين)
آخرين، فقال وزير الثقافة جوليانو إرباني: «إن الفرق كبير بين أولئك الذين
يقترفون المجازر وأولئك الذين لا يقترفونها» ، وقالت نائبة وزير الدولة للشؤون
الخارجية مارجيتا يونيفر: «ليس هناك من شك بأن هذا التفوق يظهر بقوة في
مجال حقوق النساء..» ، أما وزير الشؤون الأوروبية روكو بوتيليوني فقد قال:
«إن حضارتنا هي حضارة تصون أكثر من غيرها القيم الأساسية التي تجعل الحياة
جديرة بأن تحياها» .
وكان بيرلوسكوني قد تفوه بكلام مماثل لم يثر زوبعة؛ لأنه صدر أثناء
اجتماع (مغلق) خلال انعقاد قمة استثنائية للمجلس الأوروبي في عاصمة بلجيكا
بروكسل يوم 21/9، حتى إن صحيفة (لوفيجارو) الفرنسية علقت ساخرة على
موقف رؤساء الدول والحكومات الأوروبية من تصريحه (الحضاري) الأخير
فتساءلت: «كيف أنهم استمعوا لـ (خطبة) بيرولوسكوني ولم يتجرأ أن يرد
عليه أحد؛ لأن الاجتماع كان مغلقاً، وليقينهم أن كلام الإيطالي لن يسمعه أحد
غيرهم!» .
والحقيقة أن تصريحات مثل هؤلاء ومنهم بوش لا تخرج صريحة إلا في حالة
عبر عنها وزير الشؤون الأوروبية الإيطالي بقوله: «إن بيرلوسكوني يطلق
التصريحات دون أن يزنها، أو بعبارة أخرى: هو يتحدث أحياناً من القلب ولا
يحكم عقله» [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ]
(آل عمران: 118) .
نعود إلى تصريح جورج بوش؛ حيث لم يكتف بهذا التصريح الفج، بل
أطلق تصريحاً لا يقل خطورة عن سابقه، عندما أعلن أن من ليس مع أمريكا في
هذه الحرب فهو ضدها، أو مع الإرهاب، وهي محاولة لإرغام جميع دول العالم
على التورط في الحرب لا محالة، بل هي تهديد صريح لدول مستقلة ذات سيادة،
وفرض سافر على هذه الدول بتبني مفهوم أمريكا للإرهاب، وتبني تحديدها
لأطرافه، وطريقتها لمعالجته، وتحمل عواقب ذلك كله صاغرة ومرغمة؛ فهي
محاولة لإكراه الآخرين على الانخراط في (حملة) أمريكا العسكرية، بعد أن
وضعت نفسها موضع الضحية والمحقق والمدعي والقاضي والجلاد في آن واحد،
وهو منطق شريعة الغاب التي يعلو فيها صوت القوة على الحق.
ثم زاد بوش وأعلن أن أمريكا لن تعلن دليلاً على اتهاماتها، وكأنه يطالب
الأمم (غير الإرهابية) بإغماض عينيها والسير خلفه منقادة بلا نقاش.
إن أمريكا ومعها الغرب في سعيها المحموم للبحث عن عدو بعد سقوط الاتحاد
السوفييتي تشحذ به إرادتها في التحدي الحضاري، وتنفذ من خلال مواجهته
مخططاتها وتحقق من تحت ستار القضاء عليه مصالحها الحيوية ومفهومها
(الواسع) للأمن القومي.. تضع العالم جميعه على شفا حرب عالمية مهلكة، ربما
لم يسبق لها مثيل، بما في ذلك من مخاطر ليس على المسلمين فقط، بل على
البشرية جمعاء، وإذا نظرنا إلى تصريحات رموز الإدارة الأمريكية من أن هذه
الحرب سوف تشمل أكثر من ستين دولة، وأنها قد تستمر أكثر من عشر
سنوات، ومرصود لها 40 مليار دولار (دفعة تحت الحساب) ، وأن زمن
(الحروب النظيفة) قد ولى ... لأدركنا حجم الكارثة التي اشتعل فتيلها من غير
تروٍّ وبالأخذ بالشبهات.
وإذا كان الرئيس الأمريكي جورج بوش يشاع عنه أنه لا تسعفه قدراته إلى
حسن اختيار كلماته، ومن ذلك: زلة الصدق التي أطلقها مؤخراً (الحروب
الصليبية) ؛ فكيف يحسن اختيار قرارات تتوقف عليها إزهاق أرواح آلاف -
وربما ملايين - من البشر، وتدمير لأراض ومنشآت، وخراب لبلدان، وإعادة
رسم لخريطة مناطق بأكملها، بل قد يتوقف عليها مستقبل البشرية؟ .. كيف يُؤمَن
على كل ذلك من يفتقر إلى مثل ذلك؟
إننا في ضوء كل ما سبق نرى أن من حقنا، بل من حق جميع الشعوب
المعنية، لا أن نطالب الرئيس بوش بالشجاعة التي كان يتحلى بها بعض أسلافه من
القادة الصليبيين، وهو الذي أعلن عقب التفجيرات في نيويورك وواشنطن عدم
عودته إلى واشنطن، وذهب إلى لويزيانا ثم إلى نبراسكا ليختبئ في أحد الأقبية
المحصنة ضد الهجمات النووية.. ولكن نطالبه بالتحلي بقدر من الشجاعة الأدبية
تتيح له الجرأة على تقديم استقالته من قيادة العالم نحو الهاوية؛ لأنه كما قيل عنه
ليس على مستوى الأزمة، وعندها سوف يدخل التاريخ السياسي على أنه
(سان جورج) بدل أن يدخله على أنه (جورج الثالث عشر) .
__________
(1) حذف موقع إذاعة (BBC) على الإنترنت فيما بعد كلمة (الصليبية) من الصفحة التي أوردها فيها، موضحاً في رسائل خاصة إلى بعض القراء الذين استفسروا عن ذلك: أن الكلمة التي استخدمها بوش (Crusade) كان أصلها يعود إلى الحروب الصليبية، إلا أن استخدامها تطور مع الوقت ليعني: حملة شعواء، أو حرباً بلا هوادة، وأنها تستخدم في معرض الحديث عن أي حملة تشن، كحملة على الجهل، أو حملة على المخدرات ثم تبنى هذا التوضيح للكلمة بعض الكتاب الذين يريدون دفن رؤوسهم في الرمال ونزع الصفة الدينية عن حملة بوش، ولنا في هذا التوضيح بعض الملحوظات: أولاً: أن تطور معنى الكلمة لا يعني إلغاء معناها الأصلي، ف (Crusade) ما زالت هي الكلمة التي تعبر في الإنجليزية عن (الحروب الصليبية) التي بدأت في القرن الحادي عشر الميلادي، وإضافة المعنى المتطور إلى هذا المعنى الأصلي لا يزيد عن كون الكلمة (محتملة) المعنى، ولعل ذلك ما حدا بمترجم الـ (BBC) إلى عدم وضع بديل لكلمة (صليبية) بعد الحذف مكتفياً بكلمة (حملة) ، مع ملاحظة وضعهم كلمة crusade بين علامتي تنصيص في عنوان الموضوع نفسه على الصفحة الإنجليزية ثانياً: أن كلمة (Crusade) جاءت في سياق حديث بوش عن حملة (حربية) (عسكرية) وليس عن حملة نظافة أو حملة ضد التدخين! ، ولذا: فهي أقرب إلى خلفية معنى (الحروب الصليبية) منها إلى غيرها ثالثاً: فهم (Crusade) على أنها تعني (الحروب الصليبية) محللون ومعلقون سياسيون غربيون، حيث خطّأ أحد كبارهم الرئيس بوش في برنامج (Nighline) الشهير على قناة (ABC) الأمريكية، معللاً ذلك بأن هذه الكلمة (Crusade) مرتبطة في أذهان الغربيين بصلاح الدين وبالهزيمة أمام المسلمين، كما أنها سوف تثير حساسية مع حلفاء أمريكا في العالم الإسلامي والمأخذ نفسه ذكرته صحيفتا (لامرسييز) و (لاكروا) الفرنسيتان رابعاً: لم تكن هذه الكلمة هي الإشارة الوحيدة إلى (الطابع الديني) لهذه الحرب، فمما يذكر أن الاسم الذي أطلقوه على هذه الحملة (النسر النبيل) هو أحد التعابير الواردة في التوراة خامساً: ليس بمستبعد على مثل بوش استعماله لمصطلح ذات دلالة دينية تاريخية في ظل خلفيته الأسرية المتدينة، وفي ظل هاجس الرد على الطرف الديني الآخر الذي يطلقون عليه (الإرهاب الإسلامي) .(168/103)
المسلمون والعالم
أمريكا بعد الكارثة
بين أخذ الدروس وبداية السقوط
إبراهيم بن محمد الحقيل
لم يخطر على بال أحد من البشر أن أجل مركز التجارة العالمي في نيويورك
قد حددت نهايته بيوم الثلاثاء 23/6/1422هـ 11/9/2001م، وأن ذلك المبنى
الشاهق الذي يدل على قوة البشر وشدة بأسهم سيكون حطاماً بعد كان عمراناً، كما
لا أظن أن أحداً من الناس مهما بلغت قوة تحليله للأحداث كان يتوقع أن عملية
ضخمة كهذه العملية الانتحارية تنجح، وأين؟ ! في بلد الأقمار الاصطناعية،
والمخابرات المركزية، ومصدرة الأجهزة التجسسية الدقيقة! !
لا يكاد أحد أن يصدق أن بلداً مثل نيويورك، ودولة كأمريكا ستتوقف فيها
حركة الطيران، وتغلق الأجواء، وهي البلد التي طائراتها إقلاعاً وهبوطاً كسيارات
الأجرة في بلد يزدحم بالسواح، وفي نيويورك تقلع طائرة وتهبط أخرى كل دقيقة
تقريباً.
كما لا يصدق أحد أن المبنى الذي تصدر منه الأوامر العسكرية للتحرك إلى
أي بلد لضربها أو حصارها أو تخويفها قد غزي في عقر داره، وضرب في محله،
ولم يستطع الدفع عن نفسه في لحظة من اللحظات.
كل ذلك كان عند الناس ضرباً من الخيال، وأعجوبة من العجائب؛ حتى إن
شخصاً لو تنبأ بنصفه أو ربعه لوصف بالجنون؛ ولكن ذلك وقع وأدهش العالم،
وصرف اهتمامهم إلى قضيته دون غيرها، واستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام من
مقروء ومسموع ومشاهد حتى إنك لا تسمع ولا تقرأ إلا عن هذا الحدث.
وهذه المقالة تستخلص بعض الدروس والعبر التي قد يغفل عنها كثير من
الناس في خضم أحداث هذه الفاجعة التي فجعت الأمة الأمريكية بخاصة، والغربية
بعامة، والله أسأل التسديد والتوفيق.
الكبرياء لله تعالى وحده:
اتصف ربنا جل جلاله بالكبرياء والعظمة والملك والجبروت كما قال سبحانه:
[فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (الجاثية: 36-37) .
ومن نازع الله تعالى في الكبرياء والعظمة والملك والجبروت كان حقيقاً
بالعذاب، جديراً بالعقوبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه
تبارك وتعالى أنه قال: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحداً
منهما قذفته في النار» ، وفي رواية: «فمن ينازعني عذبته» [1] .
وجاء في حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «ستة لَعَنتُهم ولَعَنَهم الله، وكل نبي مجاب» ، وذكر منهم: «والمسلَّط
بالجبروت ليُذل بذلك من أعز الله، وليعز به من أذل الله» [2] ، وفي حديث آخر
عن فضالة بن عبيد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ثلاثة لا تسأل عنهم ... » ، وذكر منهم: «رجل نازع الله عز وجل رداءه؛
فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز» [3] .
وهذه الأربعة التي هي من خصائص الرب تبارك وتعالى قد نازعه بعض
البشر فيها [4] ، فتجبروا وتعاظموا وتكبروا، وعبّدوا الناس لهم لمّا كان لهم الملك
والقوة والقدرة عليهم؛ ولذا فإن الله تعالى يذكرها يوم القيامة إذا نفخ في الصور،
وهلك خلقه، ولم يبق سواه سبحانه وتعالى لبيان أنه المتفرد بها، والمستحق لها كما
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم
يقول:أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» [5] وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله عز وجل السموات يوم
القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين
المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين
المتكبرون؟» [6] ، وفي رواية قال ابن عمر رضي الله عنهما يحكي صفة النبي
صلى الله عليه وسلم وهو يحدث بهذا الحديث على المنبر: «حتى نظرت إلى
المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ !» [7] .
وهذه الصفة التي ذكرها ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول
هذا الحديث تدل على تعظيمه لله تعالى؛ حتى إنه يهتز على المنبر وينتفض
انتفاضاً شديداً خشي معه ابن عمر رضي الله عنهما أن يسقط المنبر برسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت
والملكوت والكبرياء والعظمة» [8] .
من ينازع الله فيما يختص به؟ !
منازعة الله تعالى في الملك والجبروت والكبرياء والعظمة قد تصدر من
شخص، وقد تصدر من جماعة أو من أمة، ومن صدرت منه هذه المنازعة فهو
مستحق للعقوبة فرداً كان أم جماعة أم أمة، والعذاب قد يؤجل إلى الآخرة كما في
رواية أبي داود: «فمن نازعني واحداً منها قذفته في النار» ، وقد يعجل في الدنيا
فيكون سبباً لتوبة هذا المنازع، وقد يجمع الله تعالى له العذاب في الدنيا والآخرة،
وقد جاء في رواية مسلم: «فمن ينازعني عذبته» ، وهذا يحتمل الدنيا كما يحتمل
الآخرة ويحتمل الجمع بين العذابين؛ إذ الأصل بقاء المطلق على إطلاقه إذا كان
المعنى يحتمله، وهو هنا يحتمله كما هو معضد بتاريخ البشر ومصير المنازعين لله
تعالى في كبريائه في القديم والحديث الذين عذبوا في الدنيا قبل الآخرة.
فهذا فرعون رفض دعوة موسى عليه السلام زاعماً أن قصد هذه الدعوة سلب
الكبرياء والجبروت من فرعون وجنده، لتكون لموسى ومن معه كما قال الله سبحانه:
[قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا
نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ] (يونس: 78) . فاستحق عقوبة الله تعالى، فأهلكه الله تعالى
بالغرق.
وغالب الذين رفضوا دعوات الأنبياء عليهم السلام ويرفضون دعوة
المصلحين في كل عصر ويحاربونها إنما هو لأجل الكبرياء والجبروت واستعباد
الناس وتسخيرهم لهم. وهذا ما فعلته أمريكا منذ أن قامت إلى يومنا هذا؛ فهي ما
قامت إلا على أجساد أكثر من ستين مليون أفريقي أسود كانوا يُجلبون من إفريقيا في
سفن يحشرون فيها حشراً، فيموت أكثرهم، ومن يصل منهم يسخر لخدمتهم؛
ناهيك عما فعلته بأهل البلاد الأصليين الهنود الحمر الذين كانوا يعاملون بالحديد
والنار.
وهذه النظرة الاستعلائية لساسة أمريكا لازمتهم رغم التقدم والتكنولوجيا،
ورغم تطور مفاهيم حقوق الإنسان والحرية وسيادة النظام الديمقراطي الذي يدعون
إليه، ورأى ساستها عقب سقوط المنافس الشيوعي أن نظامهم هو أصلح ما يكون
للبشر؛ ولذلك سعوا لفرضه باستعلاء وكبرياء وبمنتهى الغرور والاعتداد بالنفس
وبحضارة الرجل الأبيض، فأعلنوا عن النظام العالمي الجديد على لسان بوش الأب
عقب انتصار الحلفاء على العراق في حرب الخليج الثانية حينما ألقى خطاباً في
إحدى القواعد العسكرية في 13/4/1991م فقال: «إن النظام العالمي الجديد لا
يعني تنازلاً عن سيادتنا الوطنية، أو تخلياً عن مصالحنا، إنه ينم عن مسؤولية
أملتها علينا نجاحاتنا» ، ثم صرح في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في
23/9/1991م أن أمريكا ستقود العالم [9] .
وهذه القيادة التي أعلن عنها بوش الأب في نظام عالمي لم تكن على الطريقة
الديمقراطية الأمريكية، ولم يكن للآخرين اختيار حيالها؛ بل هي مفروضة على
الجميع، ولذا قال بوش الأب مخاطباً مجلس الشيوخ الأمريكي: «كانت الولايات
المتحدة على مدى قرنين من الزمان هي مثل العالم الأعلى في الحرية والديمقراطية،
وقد حملت أجيال متعددة راية النضال للحفاظ على الحرية وتعظيم المكاسب التي
حققتها ... واليوم وفي عالم يتحول بسرعة شديدة فإن زعامة الولايات المتحدة لا
غنى عنها» [10] .
وهذه الزعامة تنطلق من الشعور الأمريكي بالتفوق على الآخرين، والتميز
عن باقي البشر؛ وهو ما حدا ببوش الأب أن يقول: «لقد أنقذنا أوروبا، وتغلبنا
على الشلل، ووصلنا إلى القمر، وأضأنا العالم بثقافتنا.. والآن ونحن على
مشارف قرن جديد نسأل: لمن سينسب هذا العصر؟ ! إنني أؤكد أنه سيكون
عصراً أمريكياً آخر» [11] .
وهذا الشعور بالفوقية والاستعلاء جعلهم ينظرون إلى نظمهم وثقافتهم العلمانية
الإلحادية المادية نظرة كمال مطلق، قرروا بموجبها تعميمها على العالم بأجمعه،
وليس تعميمها سيكون عن طريق التبشير بها، والدعوة إليها، وإقناع غيرهم
بصلاحيتها لهم كما كان يحدث في السابق قبل سقوط الشيوعية وإنما سيكون
بفرضها بالقوة على اعتبار أنهم أدرى بمصالح البشر، دون اعتبار لثقافات الآخرين
وأديانهم وأعرافهم، وهذا الفرض تم ربطه بمؤسسات أممية ليكتسب الشرعية
خاضعة للأمريكان، تحت شعار العولمة أو الأمركة أي عولمة الاقتصاد والثقافة
والنظام الاجتماعي؛ ليصبح في كل العالم على النمط الأمريكي أو خاضعاً له،
وهذا جعل جموعاً من الغربيين يناهضون العولمة ويتظاهرون ضدها أثناء
اجتماعات قادتها في سياتل ثم في جوتنبرج ثم في جنوا، منادين بتجارة عادلة
وليس بتجارة حرة كما تريد أمريكا.
ولا شك في أن العولمة أو الأمركة الثقافية والاجتماعية أخطر من الاقتصادية
والسياسية؛ لأنها مسخ كامل للأمم، وتحويل لها من أصل دينها وثقافتها ومنظومتها
الاجتماعية إلى ثقافة أخرى ودين آخر ونظام اجتماعي آخر، ولو نجحوا في
مخططهم ووصلوا إلى ما يريدون فإن ذلك يعني: انتقال المسلمين من الإسلام إلى
العلمانية، لتكون الأسرة المسلمة مثل الأسرة الغربية في تفككها وشذوذها وكثرة
اللقطاء، والزواج المثلي الرجال بالرجال والنساء بالنساء. والخلاصة: إلغاء دين
الإسلام وإقصاء هيمنته على حياة المسلمين في الاقتصاد والسياسة والأسرة، وهذا
من أعظم أوجه منازعة الرب جل جلاله في كبريائه وعظمته وأمره وشرعه الذي
ارتضاه لعباده المؤمنين. فلم يكتف أرباب العولمة أو الأمركة بكفرهم الظاهر،
وإلحادهم الصارخ، وإنما يريدون فرضه بالقوة على جميع البشر بمن فيهم من
يدينون بدين الله تعالى الذي شرعه وأمر به عباده على طريقة فرعون حينما قال:
[مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] (غافر: 29) .
الظلم مبيد الأمم ومقوض الحضارات:
من طبيعة البشر أنهم إذا تكبروا تجبروا، وإذا تجبروا ظلموا، ومن المعلوم
في الأخلاق أن العلو والاستكبار يقود إلى الظلم والعسف، وقلَّ أن تجد عالياً
مستكبراً يقيم العدل في الناس وينصفهم من نفسه، وكيف يكون منه ذلك وهو يرى
أنه أعلى منهم، ويتميز عليهم؟ !
ومن السنن الكونية التي أخبر عنها القرآن، وتكررت في البشر: هلاك
الأفراد، وزوال الأمم والحضارات بسبب الظلم.
والقرآن مليء بأخبار الغابرين المعذبين الذين أرداهم ظلمهم، وأهلكهم علوُّهم،
كما كان الحال مع قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب،
وفرعون وهامان وقارون وغيرهم من أمم الأرض؛ فأين هم؟ ! وأين ممالكهم،
وأين عمرانهم؟ أنزل الله تعالى بهم ألواناً من العذاب، وأحلَّ بهم أنواعاً من
العقوبات، [وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ]
(الرعد: 11) .
وحضارات أخرى سلط الله تعالى عليها جنداً أولي بأس شديد، لا يخافون الله
فيها ولا يرحمونها؛ فاستباحوا ديارها، وأبادوا خضراءها كما حصل لليونان حينما
طغوا وظلموا واستعبدوا غيرهم حتى قال فيلسوفهم أرسطاطاليس: «إن اليونانيين
ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب بما يعاملون به البهائم» [12] ؛ فسلط الله تعالى عليهم
الرومان فغزوهم وذبحوا رجالهم وباعوا نساءهم وأطفالهم وغنموا ثرواتهم [13] ، ولم
تقم للأمة اليونانية بعدها قائمة، وأصبحت آثارها المنقولة في الفلسفات والعقليات
شاهدة على وجودها يوماً من الدهر.
ولم يكن الرومان أحسن حالاً من اليونان؛ إذ سلكوا مسلكهم في الاستكبار
والظلم، فوردوا موردهم في العذاب والهلاك، فسلط الله بعضهم على بعض
فأنهكتهم الحروب والثارات، وسلط الله عليهم الفُرس، ثم سلط الله المسلمين على
الأمتين الفارسية والرومانية في الشرق فأنهوا هاتين المملكتين الظالمتين، ودخلت
شعوبهم في دين الإسلام.
إنها سنة كونية، وآية ربانية جعلها الله تعالى لمن يعتبر من البشر، وذكرها
القرآن العظيم في قصص كثيرة ليستفيد المسلمون من ذلك؛ ففي سورة هود عليه
السلام ذكر الله تعالى قصص الأنبياء، نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب
وموسى عليهم السلام، ثم في آخر السورة عقب انتهاء قصص هؤلاء الأنبياء وما
جرى لأقوامهم قال سبحانه وتعالى: [ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ
وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَتِي يَدْعُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوَهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا
أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 100-102) .
لقد غدا الظلم سنَّة من سنن الله تعالى في إهلاك الأجيال، وتقرر سبباً في
سقوط الحضارات، وإبادة المدنيات، وإزالة الدول والحكومات؛ حتى قال الله
تعالى: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود: 117) ،
وقال سبحانه: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ] (القصص: 59) .
من ألوان الظلم الأمريكي:
1 - الظلم السياسي: فرغم أن أمريكا اختارت النظام الديمقراطي منهجاً
سياسياً على ما فيه من خلل وانتقائية فإن هذا النظام ينعدم في سياستها الخارجية
التي تكرس الظلم والاستبداد، وتقدم مصلحتها على أية قيمة تهتف بها وتدعو إليها،
وكم من نظام مستبد مكنت له وأيدته؛ لأنه ضمن لها مصلحتها ولو كان ذلك على
حساب الديمقراطية، كما فعلت في تشيلي حينما أسقطت النظام الديمقراطي لصالح
نظام (بينوشيه) العسكري الذي جاء على جثث عشرات الآلاف من البشر الذين
يتم اكتشاف بقاياهم حتى اليوم في حفر منتشرة في أنحاء تشيلي. ولقد قال قائل
الأمريكان: «إن دكتاتوراً يرعى مصالحنا خير ألف مرة من نظام ديمقراطي لا
يرعى مصالحنا» ؛ ولو قامت الديمقراطية في العالم الثالث لزالت كثير من
المصالح الأمريكية؛ فهم أعداؤها في البلاد التي ينهبونها.
لسنا من دعاة الديمقراطية، ولا نحفل بها؛ لأنها نظام كفري انتقائي؛ ولكن
نحاول تذكير المنبهرين برعاة البقر أنهم هم أول من يخالف ديمقراطيتهم،
وأخريات ذلك انسحاب أمريكا من مؤتمر (ديربان) حول مناهضة العنصرية؛
لأنه يدين إسرائيل وعنصريتها، مع أن أمريكا من أكثر الدول تشدقاً بالمساواة ونبذ
العنصرية.
وأكثر أمة عانت من ظلمها وعسفها هي الأمة المسلمة، وأكثر شعب اكتوى
بظلمها هو الشعب الفلسطيني؛ إذ وقفت منحازة كل الانحياز مع إسرائيل،
واستخدمت حق النقض (الفيتو) في كل قرار ضد إسرائيل، حتى القرارات التي
تدينها مجرد إدانة، إضافة إلي سياسة التهديد الدائم بمقاطعة هذا ومحاربة ذاك،
وإثارة القلاقل والمشكلات في كل دولة حاولت الاستقلال والخروج عن طاعتها
لإدخالها إلى بيت الطاعة.
2 - الظلم الاقتصادي: أمريكا قارة أنعم الله تعالى عليها بخيرات وفيرة،
وثروات طائلة وأراض خصبة فلم تكتف بذلك حتى مدت ذراعها الاقتصادي لينهب
ثروات الشعوب الأخرى، وكان من المفترض وهي زعيمة العالم أن تنفق على
الدول الفقيرة لا أن تنهب ثرواتها، وترمي فائض زراعاتها وصناعاتها في البحار
حفاظاً على ثبات الأسعار في الوقت الذي يموت فيه أمم بجوارها في المكسيك
وسائر أمريكا اللاتينية من الجوع؛ فضلاً عمن يموتون في إفريقيا؛ وهذا من أعظم
الظلم والبغي والفساد الذي يمارسه الغرب عموماً وأمريكا على وجه الخصوص؛
إضافة إلى تعميمها النظام الرأسمالي القائم على الربا والاحتكار والحرية المطلقة في
الأموال، مما أدى إلى تفشي الربا، وانتشار الفساد المالي، والظلم الاجتماعي،
وازدياد فقر الفقراء، وأضحى 25% من سكان العالم يتمتعون بـ 80% من ثرواته،
و75% من البشر لا يملكون سوى 20% من خيرات بلادهم، والإحصائيات
تذكر أن مليار نسمة من بينهم مئة مليون طفل يعيشون في حالة نقص تغذية ومجاعة
مزمنة، وهم يعيشون لأنهم غير قادرين على الموت طوعاً حسب قول أحد العاملين
في منظمات الإغاثة، ويعترف رئيس البنك الدولي (باربركونابل) بأن البؤس
الذي يسود كوكبنا فضيحة أخلاقية وعار، لا من الزاوية الإنسانية فحسب، بل من
الزاوية الاقتصادية أيضاً [14] .
3 - الظلم العسكري: فأمريكا تملأ مستودعات إسرائيل بكل أنواع الأسلحة
الفتاكة بما فيها الأسلحة النووية، وتمنع جيرانها من امتلاك عُشر ما تمتلكه إسرائيل،
وتلزم الدول بالتوقيع على معاهدة نزع أسلحة الدمار الشامل والتخلص منها وهي
ترفض التوقيع على ذلك، وتحمي إسرائيل من إلزامها بالتوقيع عليها، بل إن
باكستان لما امتلكت السلاح النووي عوقبت بالحصار والتجويع، حتى صار حلالاً
لها ولربيبتها إسرائيل ما هو حرام على سائر البشر! ! وهذا من أبين الظلم،
ناهيك عن الاستفراد بالقرار دون الرجوع إلى المنظمات الدولية التي ارتضتها،
وعينت أمناءها، كما حصل في ضرب مصنع الشفاء في الخرطوم وضرب
أفغانستان، والضرب الدائم للعراق الذي يتضرر من جرائه الشعب المقهور، ولا
يضر صدَّام وحزبه البعثي الكافر.
4 - الظلم الاجتماعي والأخلاقي: لم تترك أمريكا للناس حياتهم الاجتماعية
التي اختاروها؛ فهي تضغط على الدول الإسلامية لإفساد الأسرة وإخراج المرأة من
بيتها، وإقحامها في الميادين السياسية. وجمعياتُها الماسونية المشبوهة تدعم
المنحرفات من النساء في الأقطار العربية بكل سبل الدعم، ورغم أن نظام أمريكا
الديمقراطي يأبى هذه السياسة الظالمة فإنها تمارسها بقوة في البلاد الإسلامية، حتى
رأينا نساءً لا قيمة لهن من الناحية الثقافية والاجتماعية والشعبية يتصدرن المنابر
الإعلامية والثقافية بل والسياسية في كثير من دول الإسلام. ومن الظلم العظيم الذي
تمارسه أمريكا ربط خطوات إفساد المرأة والأسرة في بلاد المسلمين بما تقدمه من
مساعدات اقتصادية، ودعم سياسي؛ مما جعل أكثر أصحاب القرار في دول
الإسلام يصادرون اختيار شعوبهم نظام الإسلام في سبيل إرضاء شرذمة قليلة من
المنحرفين؛ لأن في إرضائهم إرضاءً للعم سام الذي تأتي منه المعونات المنهوبة في
الأصل من بلادهم.
أمريكا لم تحفظ الوصية:
كان المؤسسون للإمبراطورية الأمريكية يعلمون خطر اليهود على المجتمعات،
ويدركون مدى إفسادهم في الأرض التي يسكنونها؛ ولذلك حذروا من اليهود ومن
تغلغلهم في الأمة الأمريكية، يجسد ذلك خطاب بنجامين فرانكلين في المؤتمر المنعقد
لإعلان دستور الولايات المتحدة الأمريكية عام 1789م، فقال في خطابه: «هناك
خطر عظيم يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك الخطر العظيم هو خطر اليهود
أيها السادة: في كل أرض حلَّ بها اليهود أطاحوا بالمستوى الخلقي، وأفسدوا
الذمة التجارية فيها، ولم يزالوا منعزلين لا يندمجون بغيرهم، وقد أدى بهم
الاضطهاد إلى العمل على خنق الشعوب مالياً كما هي الحال في البرتغال وأسبانيا» .
وقال: «إنني أحذركم أيها السادة إنكم إن لم تبعدوا اليهود نهائياً فلسوف
يعلنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم، إن اليهود لن يتخذوا مثلنا العليا ولو عاشوا بين
ظهرانينا عشرة أجيال، فإن الفهد لا يستطيع إبدال جلده الأرقط ... إن اليهود خطر
على هذه البلاد إذا ما سُمح لهم بحرية الدخول، إنهم سيقضون على مؤسساتنا،
وعلى ذلك لا بد أن يستبعدوا بنص الدستور» [15] .
لم يحفظ الأمريكان وصية فرانكلين، وسمحوا لليهود بالهجرة إلى أمريكا [16] ؛
حتى تغلغلوا فيها وسيطروا على الاقتصاد والإعلام، وهذا قادهم إلى السيطرة
على السياسة أيضاً.
والكارثة التي حلت بأمريكا المرجح أن المتسبب فيها اليهود؛ فقد ذكرت
بعض التقارير والتحليلات أن احتمال أن يكون وراءها الموساد اليهودي وارد. فإن
كان المنفدون لها مسلمين، أو عرباً حسبما تناقلته الوكالات الإخبارية وذلك ما لم
يتبين فضلاً عن ثبوته إلى ساعة كتابة هذه المقالة؛ فإن المترجح أنهم ما قاموا بها
إلا انتقاماً من أمريكا على سياستها المنحازة لليهود في فلسطين رغم المجازر التي
ارتكبها شارون وعصبته، ورغم الدمار الذي حلَّ بالفلسطينيين من هدم ديارهم،
وغصب أراضيهم، وإتلاف زروعهم، وقصفهم بالدبابات والطائرات، وتنفيذ
عمليات اغتيال واسعة بالقادة والنشطاء في مقاومة الاحتلال اليهودي، فعلى كلا
الاحتمالين فاليهود سبب رئيس في تلك الكارثة [17] .
فأمريكا بهذا الاعتبار بدأت تجني نتائج احتضانها لليهود ودعمهم رغم ظلمهم
وعلوهم، والمعين للظالم على ظلمه ظالم، وهو مستوجب لغضب الله تعالى ونقمته
وعقوبته؛ مع قدرة أمريكا على إقامة العدل بين الناس ولاسيما أن أمم الأرض
وحكوماتها خاضعة لها، وقد آتاها الله تعالى قوة سياسية وعسكرية واقتصادية،
وليست محتاجة لليهود حتى تنساق وراء ظلمهم، وتدمر قوتها بنفسها.
لا يُقَدّر الله تعالى شراً محضاً:
يرى كثير من المحللين السياسيين والإعلاميين وغيرهم ممن أبدوا رأياً حول
كارثة أمريكا أن الخاسر الأكبر منها المسلمون، ولا سيما أنها نسبت إلى أسامة بن
لادن وتنظيمه، وأن الرابح منها هم اليهود الذين سخروا الإعلام العالمي لتأليب
شتى الأمم ضد المسلمين، وظهرت آثار ذلك على الجاليات المسلمة في أمريكا
وأوروبا، وما واجهته من مضايقات وإيذاء بسبب إسلامها.
وهذه الكارثة تخص أمريكا، وهي التي تتضرر من جرائها، لكن نسبتها إلى
المسلمين جعلهم مشاركين للأمريكان في الضرر الذي حاق بهم، بل أصبح ضرر
المسلمين أعظم كما يراه بعضهم، حتى إن بعض الدول الإسلامية خافت سطوة
أمريكا وشدة انتقامها، وسارعت بالتحالف معها قبل أن تتبين حقيقة الفاعلين.
ورغم هذا الضرر العظيم الذي أصاب المسلمين من جراء نسبة تلك الحادثة
لهم فإن في ثناياهم خيراً كثيراً للمسلمين، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى
لا يقِّدر شراً محضاً، وكل ما يقدره لا بد أن يكون فيه خير بوجه من الوجوه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وأما السيئة فهو إنما يخلقها
بحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه؛ فإن الرب لا يفعل سيئة قط؛ بل
فعله كله حسن وحسنات، وفعله كله خير؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم
يقول في دعاء الاستفتاح:» والخير بيديك، والشر ليس إليك « [18] ، فإنه لا
يخلق شراً محضاً، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون
فيه شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي، أو شر مطلق،
فالرب منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه، وأما الشر الجزئي الإضافي فهو
خير باعتبار حكمته؛ ولهذا لا يضاف الشر إليه مفرداً قط» [19] .
ومن المنافع التي ظهرت لي ما يلي:
1 - أخذ العبرة والعظة؛ فكثير من المسلمين قد لا يتعظ بما في القرآن
والسنَّة من مواعظ بسبب الغفلة ومقارفة الشهوات المباح منها والمحرم، فتوقظه
مثل هذه الحوادث الكبرى.
2 - عدم التعويل على متاع الدنيا مهما كان الإنسان يملك منها؛ إذ قد تزول
في لحظة واحدة كما تهدم بيت المال العالمي.
3 - إظهار حقيقة أمريكا ومدى قوتها للمغترين بها؛ فكثير من مرضى
القلوب قد اقتنعوا بأن أمريكا تدير شؤون الناس، وتدبر الكون، وحاولوا إقناع
الناس بذلك عبر المنابر الإعلامية المختلفة، ودعوهم إلى لزوم الانضواء تحت
لوائها، والقبول بمشاريعها في العولمة، وأنه لا مفر من ذلك، وقد أسهمت
الصناعة السينمائية الأمريكية في تهويل قوتها وقدرتها، وبطولات أفرادها، فإذا
هذه الأسطورة تُضرب في عقر دارها ضربة مؤلمة، إن نجت من تداعياتها فقد لا
تنجو من غيرها.
4 - ما أصاب المسلمين نتيجة إلصاق هذه الحادثة بهم سبَّب ضرراً كبيراً
عليهم خاصة من كانوا في أمريكا وأوروبا لكن في ثنايا ذلك رحمة ومنافع قد لا
ينتبه إليها كثير من الناس، ومن هذه المنافع:
أ - إقبال الغربيين على شراء الكتب الإسلامية، وكتب صِدام الحضارات،
ونحوها، وهذا سيعرِّف على الإسلام الذين لا يعرفونه منهم، ولعلهم يدخلون في
دين الله أفواجاً إذا عرفوا حقيقة الإسلام، وقد نشرت الصحف أن الكتب التي
تتحدث عن الإسلام نفذت من مكتبات أمريكا اللاتينية، وصار عليها إقبال شديد في
أوروبا، وارتفعت نسبة مبيعات ترجمات القرآن الكريم إلى 30% [20] .
وامتلأت المراكز الإسلامية بالذين يسألون عن الإسلام، ويودون التعرف
عليه، وعقدت دروس ودورات يحضرها آلاف للتعريف بالإسلام، واستضافت
كبريات المحطات التلفازية والإذاعية الأمريكية عدداً من رؤوساء المراكز الإسلامية
لعرض سماحة الإسلام وحقيقته لو أنفق المسلمون الملايين لما استطاعوا النفوذ
إلى هذه الوسائل الإعلامية وتأثر الشعب الأمريكي بذلك كثيراً، وتكررت
الحوادث التي يبكي فيها أمريكان من قراءة القرآن ... إلخ.
ب - كثير من المسلمين قد صدَّقوا العلمانيين في مقولتهم بخرافة العداء
الغربي للإسلام والمسلمين، وأظهرت هذه الحادثة حقيقة الغربيين وما يكنونه في
صدورهم من بغضاء، مما نفَّسوا عنها من خلال أقوالهم وكتاباتهم بل ومن خلال
أفعالهم بحرق المساجد والمراكز الإسلامية والاعتداءات المتكررة على المسلمين،
وسقطت المقولة العلمانية.
ج - كثير من المسلمين المقيمين في الغرب قد عزموا على الإقامة الدائمة بين
ظهراني الكفار، مع عدم الضرورة الملجئة لهم، ورغم حرمة ذلك شرعاً، ورأوا
أنهم في بحبوحة من العيش ويقيمون دينهم مما يجعل عودتهم إلى بلادهم أمراً
مستبعداً، حتى انصهر أولادهم في الحضارة الغربية، وتفلتوا من الإسلام شيئاً
فشيئاً، وكثير من المسلمين في البلاد الفقيرة ليس لهم أمنية إلا أن يجدوا سبيلاً إلى
الهجرة إلى أوروبا للتنعم بما فيها من حريات وفرص عمل، حتى إن كثيراً منهم
يغرق في البحر في هجرات غير نظامية من بلاد المغرب العربي، بغية الوصول
إلى الشواطئ الأوروبية، وحُرِمت البلاد الإسلامية من خدمات كثير من أبنائها
المتخصصين في علوم الطب والهندسة والحاسب، وغيرها من العلوم التجريبية؛
لأنهم وجدوا ما يغريهم في بلاد الغرب، وقد ألفت كتبٌ في الأدمغة العربية
التي ساعدت في تسيير الحضارة الغربية وأسهمت في نموها وازدهارها.
أولئك صاروا يعيدون النظر في إقامتهم في أوروبا وأمريكا بعد الإيذاء الذي
تعرضوا له، وأيقنوا أن الأمن دائم والخوف ساعة، وأن القوانين الغربية والنظم
الديمقراطية لن تستطيع حمايتهم على الدوام من كراهية الغربيين لدينهم ولونهم
وجنسهم، وكثير ممن كانوا يفكرون في الهجرة إلى الدول الغربية صرفوا النظر
عن ذلك أو على الأقل أجّلوا ذلك إلى هدوء موجة العداء.
وكل ذلك فيه خير عظيم للإسلام والمسلمين، وحفظ لدينهم من الضياع،
والاستفادة من عقول المتخصصين الذين نفعوا الغرب طيلة السنوات الماضية.
5 - أن العداء للإسلام والمسلمين عقب هذه الحادثة من الغرب عموماً وأمريكا
خصوصاً سيكون سبباً في عودة كثير من الناس إلى دينهم؛ لأنه حينئذ سيصبح
تحدياً بين الحق والباطل، وهذا سيؤدي إلى هزيمة المشاريع العلمانية والتغربية في
بلاد المسلمين؛ لأنه في حال الهدوء والسلم يستطيع العلمانيون خداع الناس وجرهم
إلى مشاريعهم التغريبية، تحت مسميات الإنسانية، وتلاقح الأفكار، وقبول الآخر،
أما في حالة إعلان الغرب العداء السافر للإسلام والمسلمين ولو على المستوى
الشعبي فقط، فإن كل دعوة إلى التآخي والمحبة والإنسانية ونحو هذه الشعارات لن
تجد آذاناً صاغية في أوساط المسلمين، وهذا من أعظم النعم العظيمة من هذه
المحنة الكبيرة، لأن الأمة المسلمة قد عانت من منافقيها أكثر من معاناتها من اليهود
والنصارى.
6 - لو استمر العداء الغربي للإسلام والمسلمين على النحو الذي نشهده هذه
الأيام فإن ذلك كفيل بإحياء شعيرة الجهاد للذود عن حياض الدين، ودفع شر
النصارى واليهود الحاقدين، تلك الشعيرة التي أميتت منذ اتفاقية (سايكس بيكو)
ونشوء عصبة الأمم المتحدة ثم هيئة الأمم المتحدة، وإحياء تلك الشعيرة العظيمة من
أعظم المنافع، وهو كفيل برفع الذلة عن المسلمين؛ لأن الذلة ما ضربت على
المسلمين إلا بعد تعطيل الجهاد في سبيل الله تعالى، كما دلت على ذلك النصوص
الشرعية.
__________
(1) رواه مسلم في البر والصلة، باب تحريم الكبر (2620) ، والرواية الثانية له، وأبو داود في اللباس، باب تحريم الكبر (4090) .
(2) رواه الترمذي في القدر (2154) ، وذكر أن المرسل أصح من الموصول، ووصله الحاكم وصححه وقال: على شرط البخاري (2/525) ، وصححه ابن حبان (5749) ، وفي سنده عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، مختلف فيه، وقد روي عنه مرسلاً.
(3) رواه أحمد (6/19) ، والبخاري في الأدب المفرد (590) ، وصححه ابن حبان (4559) ، والحاكم وقال: على شرطهما ووافقه الذهبي (1/119) .
(4) انظر: فتاوى شيخ الإسلام (8/26) .
(5) رواه البخاري في تفسير سورة الزمر (4812) ، ومسلم في صفات المنافقين (2787) .
(6) رواه البخاري في التوحيد (7412) ، ومسلم في صفات المنافقين واللفظ له (2788) .
(7) هذه الرواية لمسلم.
(8) رواه النسائي في الافتتاح، باب نوع آخر من الذكر في الركوع من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، (2/191) ، وسنده صحيح.
(9) انظر: التقرير الاستراتيجي العربي (1991م) ، ص 31، والنظام العالمي الجديد، ملامح ومخاطر، د شفيق المصري، ص 65، والنظام الدولي الجديد، لياسر أبي شبانة، ص 31.
(10) أزمة الخليج والنظام العالمي الجديد، مارسيل ميرل، ترجمة حسن نافعة، ص 127.
(11) مجلة مستقبل العالم الإسلامي، خريف 1992م عن النظام العالمي الجديد، لأبي شبانة، ص 31.
(12) النظام الدولي الجديد (376) ، وانظر حرب الطبقات عند اليونان في قصة الحضارة، لديورانت، (7/ 69 79) .
(13) انظر: قصة الحضارة (9/178 182) .
(14) انظر: العالم ثلاثة أرباع العالم، لموريس غورنييه (148) ، والعالم وتحديات البقاء، جاك لوب، ترجمة أحمد بلبع، ص 7، وبين النظام المقصود والنظام المنشود، لمحمد خليفة، ندوة العالم الإسلامي والمستقبل (43) ، والنظام الدولي الجديد، لأبي شبانة (22) .
(15) حكومة العالم الخفية، شيريب سبيرد وفيتش، ترجمة مأمون سعيد (29 31) ، والنظام الدولي الجديد (89 90) ، وخطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية، عبد الله التل (209 211) .
(16) يبلغ عدد اليهود حالياً في أمريكا قرابة ستة ملايين نسمة يشكلون نصف يهود العالم تقريباً، يقيم منهم في نيويورك الكبرى قرابة مليونين ونصف، لمدينة نيويورك منهم مليون وربع المليون يهودي، وهي أكبر مدينة يوجد بها يهود في العالم من حيث عددهم، وفي لوس أنجلوس نصف مليون، وفي شيكاغو ربع مليون، إضافة إلى أعداد لا بأس بها في واشنطن وميامي وبوسطن وبالتيمور، وهي هذه المدن المهمة في أمريكا من حيث السياسة والاقتصاد والعلوم وفي عام 1985م أظهر التصنيف المالي لأغنى (400) شخص في أمريكا عدد (114) من اليهود؛ أي أكثر من الربع مع أن نسبة اليهود في أمريكا لا تتعدى (2 5%) انظر: تاريخ النفوذ اليهودي في أمريكا، فيصل أبو خضرا (69 101) ، واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا، فايز سارة (27 49) عن النظام الدولي الجديد (66 68) .
(17) وهذا الاحتمال بناه أصحابه على عدة أمور منها: = = أ - أن المستفيد الأول منها هم اليهود، والخاسر الأكبر منها هم المسلمون ب - أنها حققت تأليب العالم على المسلمين، وصرفت أنظارهم عن قضية فلسطين وممارسات اليهود فيها، ولا سيما أن اليهود قد عجزوا عن إيقاف الانتفاضة ج - أن التفجيرات جاءت عقب مؤتمر (ديربان) المدين لعنصرية إسرائيل، وإخفاق أمريكا في إبطال إدانة إسرائيل بالعنصرية؛ ومن ثم انسحابها من المؤتمر في محاولة لإحباطه، وتضامناً مع إسرائيل د - ما كتبه نتنياهو في صحيفة معاريف اليهودية عقب المؤتمر يدافع فيه عن ممارسات دولته؛ ومن ثم طالب في مقالته إسرائيل بالعمل على إعادة الرأي العام الدولي إلى صوابه حتى لو اضطرت إسرائيل إلى استخدام القوة التي تهز الدنيا! فالمحتمل أنهم نفذوا تلك العملية؛ ومن ثم قام الإعلام اليهودي العالمي بإلصاقها بالمسلمين، واتهامهم بالعداء للحضارة الغربية، على غرار ما فعلوه عام 1954م فيما اصطلح على تسميته بفضيحة (لافون) التي قامت إسرائيل بواسطة عملائها بتفجيرات ضد المصالح الأمريكية والبريطانية في القاهرة والإسكندرية في وقت أزمة الحكومة مع الإخوان المسلمين لإلصاق التهمة بهم، وخلق أزمة سياسية بين مصر وأمريكا وبريطانيا، وانكشفت اللعبة حينما انفجرت قنبلة في جيب أحد عملاء إسرائيل في مصر قبل دخوله سينما ريو بالإسكندرية المملوكة لبريطانيا، وأدى ذلك إلى كشف الشبكة الإسرائيلية في مصر، وتمت محاكمتهم، واعترف رئيس الحكومة اليهودية آنذاك موشي شاريت أمام الكنيست بصلة إسرائيل بتلك العملية، وأنها نفذت بواسطة الموساد، وتحت إشراف وزير الدفاع بنحاسي لافون، وشهد عليه موشي ديان وبيريز هـ أن المتطرف الأمريكي (تيموثي ماكفي) الذي فجر أكلاهوما قد أعدم قبل أن يُعرف من هم شركاؤه؟ وقد اعترف أمام المحققين بأنه ينتمي إلى جماعة ويرفض الإفصاح عنها، والقوانين الجنائية لا تقضي بإعدام الجاني الذي له شركاء إلا بعد اعترافه عليهم، ومن المحتمل أن يكون شركاؤه من اليهود، وأن المتنفذين منهم في المؤسسات الجنائية الأمريكية سارعوا بإعدامه قبل أن تظهر الفضيحة و - ما نشرته إحدى الصحف الألمانية عن تخلف أربعة آلاف موظف يهودي يعملون في مركز التجارة عن عملهم في يوم الكارثة مما يعني أن عندهم علماً مسبقاً بذلك ز - حذر شارون في زيارته الأخيرة قبل الانفجار أمريكا من الإرهاب الإسلامي، وأخبرها بأن الإرهابيين المسلمين سينقلون المعركة من إسرائيل إلى أمريكا ح - ما تناقلته الصحف عن المخابرات الأمريكية من أن الخاطفين كانوا على علم بالشفرات التي بين البيت الأبيض وبين الرئيس، وكانوا يعلمون تنقلاته، وأن طائرة الرئيس بوش كانت من أهداف الإرهابيين مما جعل المسؤولين ينصحون الرئيس بعدم التحرك فور وقوع الحادث، وجزموا بأن للخاطفين مخبراً في البيت الأبيض وهذا يقوي تهمة اليهود بها؛ لأنهم المتنفذون في المؤسسات الرسمية الأمريكية ط - أن مثل هذه العملية بضخامتها وضخامة ما أنفق عليها، لا يمكن أن يقوم به رجال قدموا من خارج أمريكا إليها، ولا سيما أنهم أصابوا أهدافهم بدقة بالغة، ويعجز عن مثله كثير ممن هم داخل أمريكا ممن لم يعرفوا مطاراتها وقدراتها الأمنية والاستخباراتية وتجاوز كل ذلك؛ مما يعني أن الخاطفين ملمون بكل ذلك وقد حسبوا له حسابه، وهذا بعض ما تناقلته الصحف والإذاعات في تحليل هذه الحادثة والله أعلم بالفاعلين، لكن من الواضح أن إلزاقها بالمسلمين مقصود منذ اللحظة الأولى للانفجار أي قبل بدء التحقيق وجمع الأدلة.
(18) رواه من حديث علي رضي الله عنه مسلم في صلاة المسافرين (771) ، وأبو داود في الصلاة (760) .
(19) مجموع الفتاوى (14/266) .
(20) انظر مثلاً: صحيفة الرياض، الجمعة 4/7/1422هـ، عدد (12142) .(168/107)