متابعات
استدراك على نقد في المنهج
د. محمد أمحزون [*]
مقدمة:
لا عصمة إلا للرسل فيما يبلغون عن الله - عز وجل -.
إن الذين يفكرون في اتجاه واحد ينظرون إلى المشكلات والقضايا العلمية على
أنها أحادية التركيب، عديمة المنافذ، مستحيلة التجزئة، فلا يمكن التعامل معها
بشكل نسبي، وإنما ينظر إليها على أنها كتلة صلدة لا تقبل التجزئة.
بينما لو نظرنا بتجرد إلى أكثر الأشياء والأحداث والأشخاص لوجدنا أنها
تمتزج فيها الإيجابيات والسلبيات، أو تكمن فيها القابلية لهما؛ فحين يبصر المرء
بشكل كامل فإنه تتشكل لديه العقلية الموضوعية التي ترى مواطن القوة ومواطن
الضعف، والإيجابيات والسلبيات؛ وحينئذٍ فإن أحكامه تكون متزنة معتدلة بعيدة
عن الغلو الذميم والجفاء المفرط.
ومما لا شك فيه أن عقلية البعد الواحد تنتهي في آخر المطاف إلى عقدة
التعصب؛ حيث يعتقد المتعصب أنه قبض على الحقيقة النهائية التي تدفع به إلى
القدح في آراء غيره دون بينة وحجة، وإلى الالتزام برأي معين يقتضي الدفاع
المستميت عنه في وجه كل ما يخدش فحوى ذلك المعتقد.
ومن صور التعصب الممقوتة اعتقاد العصمة في آل البيت وتقديسهم والمغالاة
في حبهم، بينما لا تثبت العصمة إلا للرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
فأهل الحق يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحبون
أصحابه ومن صار على سنته، ويضعونهم في منازلهم التي يستحقونها، ويتبرؤون
من مسلك الروافض ومسلك النواصب فيهم؛ وهو الحب المفرط أو البغض المفرط.
ولقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله: «يهلك فيَّ
رجلان: مفرط في حبي، ومفرط في بغضي» [1] .
وروي عن الحسن بن علي - رضي الله عنه - أنه قال لرجل يغلو فيهم:
«ويحك! أحبونا لله؛ فإن أطعنا الله فأحبونا، وإن عصينا الله فأبغضونا، ولو كان
الله نافعاً أحداً بقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير طاعة لنفع بذلك أباه
وأمه، قولوا فينا الحق؛ فإنه أبلغ فيما تريدون، ونحن نرضى منكم» [2] .
فمن باب العدل والإنصاف إذن أن نفرِّق بين محبة آل البيت واحترامهم
ونصرتهم، وبين وضع أقوالهم ومواقفهم في ميزان الشريعة، فما وافق منها الحق
قبلناه، وما خالفه رددناه؛ لأنهم بشر يصيبون ويخطئون؛ فكل بني آدم خطاء،
ولا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الأستاذ حسن بن فرحان
المالكي صاحب كتاب: «بيعة علي بن أبي طالب في ضوء الروايات الصحيحة،
مع نقد الدراسات الجامعية في الموضوع» [3] ، الذي نشرته مكتبة التوبة في
الرياض عام 1418هـ/1997م، ذهب يطعن في النوايا، ولم يرفع رأساً للنصوص
الصحيحة وأقوال العلماء المشهود لهم بالرسوخ في العلم.
وقد دفعه تعجله وعدم موضوعيته وتظاهره بالانتصار لعلي - رضي الله
عنه - إلى سوء الأدب مع المخالف في قضايا اجتهادية لا تنتقص من مكانة علي
رضي الله عنه وفضله؛ فهو خير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
الخلفاء الراشدين الثلاثة أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -،
إلا أن العصمة للرسل وحدهم في تبليغهم الرسالات.
ينبغي التفريق بين الإمامة العظمى والفتنة:
يقول المالكي في إحدى ملاحظاته: «إن المؤلف وقع في التناقض عندما قال
في موضع:» فتقرر عند أهل السنة والجماعة بالدليل الشرعي أن علياً كان إماماً،
وأن كل من خرج عليه باغ يجب قتاله حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح « [4] .
وقال في موضع آخر:» إن علياً كان أقرب إلى الصواب من مخالفيه في
الجمل وصفين، لكن لم يصب الحق بتمامه وكماله؛ حيث كانت السلامة في
الإمساك عن القتال « [5] .
فمن المعلوم أن لا تناقض بين الكلام الأول والثاني؛ حيث إن الفرق واضح
وجلي بين البيعة بالإمامة لعلي - رضي الله عنه - والفتنة الناجمة عن مقتل عثمان
رضي الله عنه.
ففيما يتعلق بالخلافة قد تقرر عند أهل السنة والجماعة أن علياً هو الخليفة
الشرعي، وأن من خرج على إمامته ولم يبايعه فهو باغ يجب قتاله حتى يفيء إلى
الحق ويصطلح مع الإمام على البيعة.
ولم يثبت تاريخياً أن أحداً من الصحابة الذين قاتلهم علي - رضي الله عنه -
في الجمل وصفين نازع علياً على الخلافة أو دعا إلى بيعة نفسه، حتى معاوية -
رضي الله عنه - الذي تزعم بعض الروايات الضعيفة أنه كان يسعى إلى الخلافة؛
فقد أخرج (يحيى بن سليمان الجعفي) في كتاب» صفين «بسند جيد عن أبي
مسلم الخولاني أنه قد قال لمعاوية:» أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟
قال: لا، وإني أعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان
قتل مظلوماً، وأنا ابن عمِّه ووليُّه أطلب دمه؟ « [6] .
وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن زيد بن وهب قال:» قال علي لطلحة
والزبير: ألم تبايعاني؟ فقالا: نطلب بدم عثمان « [7] فقد فَرَّقا - رضي الله
عنهما - بين البيعة وبين المطالبة بدم عثمان.
أما الخلاف بين علي - رضي الله عنه - ومخالفيه في الفتنة التي وقعت بعد
مقتل عثمان رضي الله عنه فكان خلافاً اجتهادياً مصلحياً تضاربت فيه الآراء بين
الصحابة رضي الله عنهم حيث رأت طائفة من الصحابة وهم طلحة والزبير
وعائشة ومن معهم أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من
القتلة الآثمين.
ورأى فريق آخر من الصحابة وهم: علي والقعقاع وعمار ومن على رأيهم
أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمن، والصبر حتى تهدأ الأحوال
وتستقر الأوضاع، فتؤخذ الحقوق.
ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يحتمل ذلك الحصار الآثم، ولم يمنع
أتباعه المؤمنين من الدفاع عنه إلا حرصاً منه - رضي الله عنه - على ألا تراق
قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين المسلمين، فالأَوْلى بمن بعده أن يؤثِروا العافية،
وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع، وخاصة أن الأحاديث الواردة في هذا الباب تنهى
عن القتال في الفتنة.
وقد كان من كمال فقه الصحابة - رضي الله عنهم - التفريق بين صحة إمامة
علي - رضي الله عنه - ووجوب القتال معه، بل صحة قتال أهل القبلة؛ إذ لا
يلزم من كونه إماماً شرعياً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين صواباً، وحقاً
بإطلاق.
فحين تأخر أكثرهم عن نصرته في حروبه، فإن ذلك لم يكن بسبب رفضهم
لخلافته، وإنما تخوفوا من حرب أهل القبلة، واحتجوا بما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم في القعود عن قتال الفتنة بين المسلمين.
ولذلك لا مجال للخلط بين بيعة علي - رضي الله عنه - وهي بيعة شرعية لا
يسع أحداً من المسلمين نكثها، وبين قتال الفتنة الذي كان الخلاف حوله اجتهاداً
مصلحياً، وكان الإمساك عنه أوْلى وأحوط.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في هذا الشأن:» ولأجل هذه
النصوص لا يختلف أصحابنا أن ترك القتال كان أفضل؛ لأن النصوص صرحت
بأن القاعد فيها خير من القائم (أي الفتنة) والبعد عنها خير من الوقوع فيها،
وقالوا: ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته، ومن المعلوم أنهم إذا لم يبدؤوه
بقتال، فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما وقع من خروجهم عن طاعته، لكن بالقتال
زاد البلاء، وسفكت الدماء، وتنافرت القلوب، وخرجت عليه الخوارج، وحُكِّم
الحكمان، فظهر من المفاسد ما لم يكن قبل القتال، ولم يحصل به مصلحة
راجحة [8] .
ورود أحاديث صريحة في الفتنة الناجمة عن مقتل عثمان - رضي الله
عنه -:
وفي ملاحظة أخرى ذكر الناقد أن الأحاديث التي أوردتها في اعتزال الفتنة
ليست صريحة في هذا الموطن؛ فهي كما يرى أحاديث عامة تُنَزَّلُ عند تقاتل الناس
على المُلك، كما حدث بين بني أمية وابن الزبير وغير ذلك من الفتن التي كان
القتال فيها على المُلك، وفي بعضها لم يكن للمسلمين إمام شرعي، بل كانوا فِرَقاً
ليس فيها خليفة راشدي، ولا بيعة شرعية لأهل الحل والعقد.
أقول - وبالله التوفيق -: إن الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة اعتمدوا -
رضوان الله عليهم - على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها، ومن ذلك:
* ما أخرجه أحمد والترمذي بسند حسن عن بسر بن سعيد أن سعد بن أبي
وقاص - رضي الله عنه - قال عند فتنة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -:
أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير
من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي» ، قال:
أفرأيت إن دخل عليَّ بيتي فبسط إليَّ يده ليقتلني؟ قال: «كن كابن آدم» [9] .
* وأخرج البخاري في جامعه الصحيح عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال:
بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن، فقال: «ابني هذا سيّد،
ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» [10] .
قال الحافظ في الفتح: «واستدل به على تصويب رأي من قعد عن القتال مع
معاوية وعلي، وإن كان علي أحق بالخلافة وأقرب إلى الحق، وهو قول سعد بن
أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة، وسائر من اعتزل تلك الحروب» [11] .
* وأخرج أحمد والحاكم عن عبد الله بن حوالة - رضي الله عنه - عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «من نجا من ثلاث فقد نجا» ، قالوا: ماذا يا رسول
الله؟ قال: «موتي (فتنة الردة) ، وخروج الدجال، وقتل خليفة [12] مصطبر
بالحق يعطيه» [13] .
* وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» بسند حسن عن أبي هريرة - رضي
الله عنه - قال: «أيها الناس! أظلتكم فتنة كقطع الليل المظلم، أنجى الناس فيها
أو قال منها صاحبُ شاءٍ يأكل من رِسْلِ غنمه [*] أو رجل وراء الدرب أخذ بعنان
فرسه يأكل من سيفه» [14] .
وفي هذا إشارة إلى الحديث الصحيح مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «خير الناس في الفتن رجل آخذ بعنان فرسه خلف أعداء الله يخيفهم
ويخيفونه، ورجل معتزل في باديته يؤدي حق الله الذي عليه» [15] .
* وأخرج أحمد والترمذي عن عديسة بنت أبهان بن صيفي عن أبيها رضي
الله عنه: أن عليًّا لما قدم البصرة بعث إليه، فقال: ما يمنعك أن تتبعني؟ فقال:
أوصاني خليلي وابن عمك فقال: «إنه ستكون فرقة واختلاف، فاكسر سيفك
واتخذ سيفاً من خشب، واقعد في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منيَّة قاضية» [16] ،
ففعلت ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* وأخرج أحمد وابن ماجه عن سهل بن أبي الصلت قال: سمعت الحسن
يقول: «إن علياً بعث إلى محمد بن مسلمة فجيء به فقال: ما خلَّفك عن هذا الأمر؟
قال: دفع إليَّ ابن عمك يعني النبي صلى الله عليه وسلم سيفاً فقال:» قاتل به
ما قوتل العدو، فإذا رأيت الناس (المسلمين) يقتل بعضهم بعضاً، فاعمد به إلى
صخرة فاضربه بها، ثم الزم بيتك حتى تأتيك منيَّة قاضية أو يد خاطئة «، قال:
خلوا عنه» [17] . وفي رواية ابن أبي شيبة عن أبي بردة: دخلت على محمد بن
مسلمة فقلت له: رحمك الله، إنك من هذا الأمر بمكان، فلو خرجت إلى الناس
فأمرت ونهيت؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون
فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذلك، فائت بسيفك أُحُداً فاضربه حتى تقطعه ثم
اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منيَّة قاضية» ؛ فقد وقعت (أي الفتنة
والفرقة) [18] وفعلت ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا تعارض المرفوع والموقوف قدم المرفوع:
ويقول المالكي: «كما أنه من المعلوم أن أعلم الناس بالفتن حذيفة ابن اليمان،
وقد أوصى باتباع علي في الفتنة، ولم يأمر بالاعتزال، فكان يقول:» عليكم
بالطائفة التي تدعو إلى أمر علي بن أبي طالب فإنها على الحق «.
لكن منهج الاستدلال الصحيح يقتضي تقديم حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم على أثر الصحابة؛ لأن الحديث مصدره الوحي من الله تعالى، والأثر
المذكور موقوف على الصحابي؛ إذ ليس فيه ما يدل على أنه مرفوع إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وقد أصّل العلماء قاعدة في هذا الباب وهي:» إذا تعارض المرفوع
والموقوف قُدِّمَ المرفوع « [19] .
على أنه ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري -
رضي الله عنه - قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يكونون في أمته،
يخرجون في فُرقة من الناس، سيماهم التحالق - الخوارج -، قال:» هم شر
الخلق، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق «، وفي رواية أخرى:» يخرجون على
فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق « [20] .
تأمل الفرق بين عبارة:» إنه على الحق «وعبارة:» إنه أقرب الطائفتين
من الحق «. فالوحي دقيق في عبارته، وفي ذلك دلالة واضحة أن علياً كان أقرب
إلى الصواب من مخالفيه في الجمل وصِفِّين، لكن لم يصب الحق بإطلاق؛ حيث
كانت السلامة في الإمساك عن القتال الذي كانت نتيجته مؤلمة.
ينبغي التفريق بين قتال الفتنة كما وقع بين الصحابة وقتال الخوارج
المفسدين:
وبعد أن خلط المالكي بين صحة إمامة علي - رضي الله عنه - ووجوب
القتال معه في الفتنة، نراه مرة ثانية في ملاحظة له يخلط بين أمرين آخرين وهما:
قتال الفتنة كما وقع بين الصحابة، وقتال الخوارج؛ حيث ذكر» أن عليّاً لو
اعتزل الفتنة ولم يحارب الخارجين عليه لخالف نصوصاً صريحة من القرآن
والسنة تأمر بقتال البغاة والخوارج (تأمل: لا يفرق بين البغاة المتأولين والخوارج
الحرورية) ، بينما فرق جمهور العلماء بين الخوارج المارقين وبين أصحاب الجمل
وصفين ممن يعدّ من البغاة المتأولين.
وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية - رحمه الله -: «هذا مأثور عن الصحابة
وعامة أهل الحديث والفقهاء والأئمة» [21] ويعتبر - رحمه الله - هذا البغي مجرداً؛
لأن القرآن نص على إيمانهم وأخوَّتهم مع وجود الاقتتال والبغي [22] .
ويقول المالكي أيضاً: «فلو اعتزل علي - رضي الله عنه - القتال ولم
يقاتل أهل الجمل ولا أهل صفين لسنَّ سنة سيئة في ترك قتال من خرج على
الجماعة» .
إن معنى الجماعة هو الاجتماع على إمام على مقتضى الشرع، فهل نقض
هؤلاء بيعة الخليفة حتى يكونوا خارجين على الجماعة! ! إن سبب هذا الموقف هو
العجلة وعدم التروي والتثبت في إصدار الأحكام.
ولذلك أُذَكِّر الناقد بأن قتال الفتنة كما وقع بين الصحابة شيء، وقتال
الخوارج المفسدين شيء آخر، فقد قتل من الخوارج بالنهروان قرابة أربعة آلاف،
فما تألم لهم أحد، وقتل كعب بن سور في موقعة الجمل فتألمت لذلك الطائفتان جميعاً؛
فكيف بطلحة والزبير وعمار - رضي الله عنهم -؟
فالمفسدون أقرب شيء إلى الخوارج ولا يتحرج من قتالهم أحد، ولا يترتب
عليه ضرر أو فرقة، بل فيه حفظ وحدة المسلمين وجماعتهم وأمنهم، وكذا دفع
الصائل المعتدي.
ولهذا جاءت النصوص متواترة في رد عدوان الخوارج والمفسدين في
الأرض، أما أن يكون المرء عبد الله المقتول ولا يكون عبد الله القاتل فذلك
مشروع في الفتنة بين المسلمين المختلفين اختلافاً اجتهادياً مصلحياً.
ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن - رضي الله عنه - لأن
الله - عز وجل - أصلح به ما بين المسلمين وحقن دماءهم [23] ، في حين لم يثن
على قتال أبيه لأهل الجمل وصفين، بل غاية ما وصفه به أنه أقرب منهم إلى
الحق [24] ، بخلاف قتال الخوارج؛ فقد أثنى عليه نصّاً: «فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛
فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم إلى يوم القيامة» [25] .
كما أن عليّاً نفسه فرح واستبشر بقتال الخوارج [26] ، وتألم وتكدّر بقتال أهل
الجمل؛ حيث قال: «إني وددت أني مت قبل هذا بعشرين حجة» ، وفي رواية:
«بعشرين سنة» [27] .
وقال بعد صفين: «لو علمت أن الأمر هكذا ما خرجت» [28] . ونقل عنه
قوله: «لله درُّ مقام سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر (في اعتزال الفتنة) إن
كان برّاً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطأه ليسير» [29] .
نصوص اعتزال الفتنة أغلبها بأسانيد صحيحة وحسنة:
يقول المالكي: «ومن الملاحظات على المؤلف أيضاً إيراده للنصوص التي
تفيد اعتزال أكثر الصحابة الفتنة مع أنها نصوص مرسلة، والمرسل أخو الضعيف،
أو ضعيفة باطلة، أو منكرة مردودة على قائلها، وقد سوّد بها المؤلف كتابه من
ص 167 إلى ص 168» .
هذا غير صحيح، إذ ذكرت في المبحث المذكور عشرين رواية أغلبها بأسانيد
صحيحة وحسنة وحسنة لذاتها، وهي كالآتي:
- ثماني روايات للبخاري في الجامع الصحيح.
- رواية واحدة له في التاريخ الصغير.
- رواية لمسلم في الجامع الصحيح.
- ثلاث روايات للترمذي في السنن.
- روايتان لأحمد بن حنبل في المسند.
- روايتان لعبد الرزاق في المصنف.
- روايتان للحاكم في المستدرك.
- رواية لابن أبي شيبة في المصنف.
وسقت أربع روايات للطبري وابن عساكر وابن كثير عن أبي موسى
الأشعري تتفق في متنها مع الروايات الصحيحة عنه في اعتزال الفتنة [30] .
والروايات القليلة الباقية، وإن كانت ضعيفة في سندها إلا أنها تنسجم مع
الروايات الثابتة في مضمونها.
وهذا المنهج سار عليه علماء الحديث؛ إذ يستشهدون في بعض الأحيان
بأحاديث في أسانيدها ضعفاء، لكنهم غير متهمين بالكذب والوضع عند ثبوت متن
الحديث أو أصل الخبر من غير تلك الطريق، وهذا يعني أنهم نظروا إلى المتن كما
نظروا إلى السند؛ إذ قبول ذلك المتن بذلك الإسناد على ما فيه من ضعف يدل دلالة
واضحة على عمق نظرهم في نقد النصوص، وأن السند الضعيف لا يمنعهم من
قبول المتن الصحيح أو المعروف من طريق آخر.
الروايات الصحيحة هي الميزان المعتبر للحكم على النصوص بالقبول أو
بالرد:
يقول المالكي: «فهو يجمع كل ما يؤيد وجهة نظره سواء كان صحيحاً أو
ضعيفاً أو موضوعاً منكراً. وقد نقل في مبحث البيعة أكثر من عشر روايات
ضعيفة وموضوعة خلطها بالروايات الصحيحة» .
هذا اتهام في غير موضعه؛ فالروايات الصحيحة هي المعيار الذي اعتمدته
في الحكم على النصوص بالقبول أو بالرد [31] . ولو رجع الناقد إلى مقدمة الكتاب
لكفاه ذلك توجيه النقد بغير بينة ولا دليل؛ فقد سطرت فيها منهجي الذي سرت
عليه في الكتاب حيث قلت: إن منهجي يقوم على بيان الحقائق التاريخية مدعمة
بالأدلة من النصوص الصحيحة، وترجيح الروايات التاريخية التي تتماشى في
مضمونها مع معطيات تلك الفترة، وذلك في إطار المبادئ والمفاهيم والقيم
الإسلامية، ومن منطلق دوافع السلوك عند الأفراد والحكام في ذلك العصر، والتي
كانت توجهها العقيدة.
وبناءاً على ذلك انتقيت من تاريخ الطبري النصوص التي تتفق في متونها مع
الروايات الصحيحة، وتنسجم في فحواها مع روح المجتمع الإسلامي وبنائه العقدي
والحضاري، وبالمقابل انتقدت الروايات التي تناقض المسيرة الطبيعية للمجتمع
الإسلامي وفق مجموعة من الموازين والمقاييس ذكرتها في المقدمة.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية يلاحظ عند علماء أهل السنة الجمع بين
النصوص والروايات؛ ففي الوقت الذي يقررون فيه مثلاً رفض رواية ابن إسحاق
إذا عنعن ولم يصرح بالتحديث، ورفض رواية سيف بن عمر؛ لأنه ضعيف في
الحديث، فضلاً عن غيره من الأخباريين الذين ليس لهم رواية في كتب السنة من
أمثال الواقدي وأبي عوانة والمدائني، فإنه يُستشهَد برواياتهم ويُستَدَل بها على
بعض التفاصيل والقضايا، ويُحاوَل الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي
أوثق سنداً.
وهذا يدل على قبولهم لأخبارهم فيما تخصصوا فيه من العناية بالسِّيَر
والأخبار، وهو منهج معتبر عند العلماء المحققين، وإن لم يقبلوا رواياتهم في
الأحكام الشرعية.
ولذلك نجد الحافظ ابن حجر يقول في محمد بن إسحاق: «إمام في المغازي،
صدوق يدلس» [32] ، ويقول في سيف بن عمر التميمي: «ضعيف في الحديث،
عمدة في التاريخ» [33] . كما يقول عنه الحافظ الذهبي: «كان إخبارياً
عارفاً» [34] .
وقلت: إذا كان المحدِّثون يتساهلون في الرواية عن الضعفاء إن كانت
رواياتهم تؤيد أحاديث صحيحة موثقة، فلا بأس إذن من الأخذ بهذا الجانب في
التاريخ وجعله معياراً ومقياساً إلى تحري الحقائق التاريخية ومعرفتها.
ومن هذا المنطلق تُتخَذ الأخبار الصحيحة قاعدة يقاس عليها ما ورد عند
الأخباريين مثل سيف والواقدي وأبي مخنف؛ فما اتفق معها مما أورده هؤلاء تلقيناه
بالقبول، وما خالفها تركناه ونبذناه.
لكن إذا رفضنا التعامل مع منهجهم، فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل
هوة سحيقة بيننا وبين ماضينا، مما يولد الحيرة والاضطراب.
علماً بأن دراسة السند ليست هي الوسيلة الوحيدة للحكم على النص؛ فجهود
علماء المسلمين لم تكن منصبَّة فقط على نقد السند، وإنما كانت منصبة على المتن
كذلك؛ لأن العلة كما تكون في السند قد تكون في المتن. على أنه لا يلزم من
ضعف السند ضعف المتن، وكذلك لا يلزم من صحة السند صحة المتن؛ فقد يكون
السند ضعيفاً والمتن صحيحاً لورود نصوص أخرى تعضده وتشهد بصحته. كما أنه
قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ أو علة قادحة فيه.
ولذلك أصّلوا في هذا الشأن منهجاً علمياً دقيقاً؛ فهم لا يحكمون بالضعف على
كل أخبار راوٍ ضعيف؛ فقد يكون مصيباً أو صادقاً في رواية ما بعينها. وفي هذا
رد للحق؛ إذ قد يصيب الضعيف، ويَهِمُ الصادق.
والأصل هنا مراعاة المقاييس والقواعد المنهجية التي وضعها العلماء في نقد
متون الأخبار في إطار المبادئ والقيم والمفاهيم الإسلامية.
والناقد نفسه يقول: «ولذلك نعلم يقيناً أن في متون الأسانيد الضعيفة بعض
الأخبار الصحيحة، وهذا علم كبير له اتصال بعلم العلل» [35] فكيف يجوّز هذا
لنفسه ويؤاخذ ويعاتب فيه غيره؟ !
أما اشتراط الصحة الحديثية (أي صحة السند) في قبول الأخبار التاريخية
التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه مجازفة وتعسف كثير، وغير ممكن تطبيقه من
الناحية العملية لبناء صورة شاملة ومتكاملة للتاريخ الإسلامي، اللهم إذا أردنا جمع
نتف وشذرات من هنا وهناك لا رابط بينها.
أغلب الصحابة اعتزلوا الفتنة، ومذهب الإمساك في الفتنة هو أقوى
المذاهب وأرجحها:
يقول المالكي: «أيضاً كان على المؤلف أن ينقل الآثار المتصلة التي تثبت
شهود أكابر الصحابة رضي الله عنهم مع علي - رضي الله عنه -، منهم ثمانمائة
من أصحاب بيعة الرضوان، وفي هؤلاء نحو سبعين بدرياً، بينما لم يصح أن أحداً
من البدريين اعتزل إلا اثنان أو ثلاثة؛ فكيف يقال إن أكثر أكابر الصحابة اعتزلوا؟
وكيف يقرر أن هذا مذهب أهل السنة؟
إن ما ذكره الناقد عن الآثار المتصلة التي تثبت شهود كثير من الصحابة
الجمل وصفين مع علي - رضي الله عنه - في ثمانمائة من أصحاب بيعة
الرضوان، وفي هؤلاء نحو من سبعين بدرياً، هي آثار ضعيفة لم يثبت فيها نقل
صحيح.
ففي رواية من طريق أمية بن خالد عن أبي شيبة العبسي عن الحكم بن عتيبة
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال:» شهد صفين من أهل بدر سبعون
رجلاً « [36] .
وفي هذا السند إبراهيم بن عثمان أبو شيبة العبسي، قال صالح جزرة:
ضعيف لا يكتب حديثه، روى عن الحكم بن عتيبة أحاديث مناكير. وقال الترمذي
وأحمد: منكر الحديث [37] .
وفي رواية أخرى من طريق أبي إسحاق الكسائي عن يحيى بن سليمان
الجعفي عن محمد بن عميرة النخعي عن أبي إسرائيل العبسي عن الحكم قال:
» شهد صفين مع علي ثمانون بدرياً، وخمسون ومائة ممن بايع تحت
الشجرة « [38] .
وسند هذه الرواية كذلك ضعيف؛ فيها أبو إسرائيل العبيسي، قال أبو حاتم
عنه: له أغاليط لا يحتج بحديثه، وقال ابن حبان: كان رافضياً شَتَّاماً (يشتم
عثمان - رضي الله عنه -) [39] .
وروى خليفة بن خياط في» التاريخ «من طريق أبي غسان النهدي عن
يعقوب بن عبد الله القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير:» كان مع
علي يوم الجمل ثمانمائة من الأنصار، وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان « [40] .
وفي السند جعفر بن أبي المغيرة قال ابن منده: ليس بالقوي في سعيد بن
جبير [41] . وفيه يعقوب بن عبد الله القمي: صدوق يَهِم [42] .
كما نقل رواية ثانية من طريق أبي غسان النهدي عن عبد السلام بن حرب
عن يزيد بن عبد الرحمن عن جعفر بن أبي المغيرة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن
أبزى عن أبيه قال:» شهدنا مع علي (أي صفين) ثمانمائة ممن بايع بيعة
الرضوان، قتل منا ثلاثة وسبعون منهم عمار بن ياسر « [43] .
وفي سند هذه الرواية عبد السلام بن حرب: ثقة له مناكير [44] ، وعبد الله
بن عبد الرحمن بن أبزى: مقبول حيث يتابع؛ وإلا فليِّن [45] ، وجعفر بن المغيرة:
صدوق يهم [46] .
أما الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة - وهم الأغلبية - فقد ثبت في اعتزالهم
وإمساكهم عن القتال نقل صحيح؛ حيث أخرج أحمد وعبد الرزاق، كلاهما بسند
صحيح متصل عن محمد بن سيرين قال:» هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف، فلم يحضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا
ثلاثين « [47] .
ونقلت كتب الحديث والتراجم روايات ثابتة عمن اعتزل الفتنة من أفراد
الصحابة - رضي الله عنهم -[48] .
وبمذهب اعتزال الفتنة التزم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وبنى عليه
موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية؛ فقد روى عنه الخلال أنه قال:
» هذا عليٌّ لم يضبط الناس؛ فكيف اليوم والناس على هذا الحال، السيف لا
يعجبني « [49] .
وقال سفيان الثوري:» نأخذ بقول عمر - رضي الله عنه - في الجماعة،
وبقول ابنه عبد الله في الفرقة «، وكان يصرح قائلاً:» لو أدركت علياً ما
خرجت معه « [50] .
وعلى مذهب الإمساك في الفتنة كان كذلك الإمام البخاري؛ فإن تراجم أبواب
كتاب الفتن من صحيحه تنطق بذلك، وعلى منواله سار الإمام مسلم وغيره من
المصنفين في الحديث في هذه المسألة.
وقد رجح هذا المذهب وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه
نذكر منها على سبيل الإيجاز ما قاله في» منهاج السنة «عن أئمة العلم في قتال
الفتنة، ومن ذلك قوله:» ومنهم من يقول: كان الصواب أن لا يكون قتال، وكان
ترك القتال خيراً للطائفتين مع أن عليّاً كان أوْلى بالحق، وهذا قول أحمد وأكثر
أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛
وهو قول عمران بن حصين، وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وسعد بن
أبي وقاص، وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - رضي
الله عنهم - « [51] .
على أن هذا المذهب (اعتزال الفتنة) هو أقوى المذاهب وأرجحها بدلالة
النصوص الشرعية وأقوال السلف الصالح، وهو أقوى من مذهب من يرى أن
الصواب هو القتال مع علي - رضي الله عنه - فضلاً عمن يرى أن الصواب هو
القتال مع من حاربه. ومن تأمل مآلات الفتنة ونهاياتها ظهر له قوة دلائله النصية
وصدق نتائجه الواقعية.
وفي الختام يمكن القول:
إن المجتمع الإسلامي يسير على السنن الطبيعية لكل المجتمعات، وهذا حق،
ونحن لا نعصم فرداً أو مجتمعاً من أن تسري عليه هذه السنن إلا أن يكون رسولاً
أو نبياً.
ومن هنا يجب أن نعلم أن الذين صنعوا التاريخ رجال من البشر يجوز عليهم
الخطأ والسهو والنسيان، وإن كانوا من كبار الصحابة وأجِلاَّئهم، إلا أنه ينبغي
إحالة الحوادث إلى الخطأ في الاجتهاد تذكيراً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
» إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله
أجر « [52] .
على أن ما حدث من قِبَل الصحابة - رضي الله عنهم - في تلك الفتنة فإنه
يحمل على حسن النية والاختلاف في التقدير والاجتهاد، كما يحمل على وقوع
الخطأ والإصابة؛ إذ كانوا مجتهدين، وهم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في
حالتي الإصابة والخطأ، وإن كان ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ؛ لأن كل
فئة كانت لها وجهة نظر تدافع عنها بحسن نيّة؛ حيث إن الخلاف بينهم لم يكن
بسبب التنافس على الدنيا، وإنما كان اجتهاداً مصلحياً من كل منهم في تطبيق
شرائع الإسلام.
وينبغي أن نقول كما علّمنا ربنا: [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ]
(الحشر: 10) .
__________
(*) أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة مكناس بالمغرب، له عديد من الدراسات العلمية، من أشهرها رسالته للدكتوراه: (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، من روايات الإمام الطبري والمحدثين) ، طبعت في مجلدين عن دار طيبة للنشر عام (1415هـ) ، واعتنى فيها بتحقيق الروايات التاريخية وفق الموازين النقدية التي اتبعها علماء الحديث النبوي.
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، ج 7، ص 1397، وإسناده قوي.
(2) المصدر السابق، ج 7، ص 1400.
(3) من ص 319 إلى ص 328.
(4) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ج 2، ص 65.
(5) المرجع السابق، ج 2، ص 164.
(6) ابن حجر: الفتح، ج 13، ص 86.
(7) ابن أبي شيبة، المصنف في الأحاديث والآثار، ج 15، ص 287.
(8) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4، ص 441.
(9) أحمد: المسند (بترتيب الشيخ الساعاتي) ، ج 24، ص 12، قال المحقق، حسنه ابن كثير والترمذي، السنن، رقم 2194، ج 4 ص 486.
(10) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الفتن، ج 8، ص 98.
(11) ابن حجر: الفتح، ج 13، ص 6.
(12) وردت عدة أحاديث تبين بأنه عثمان رضي الله عنه، انظر: الترمذي: السنن، كتاب المناقب، ج 5، ص 293، 295، وأحمد: فضائل الصحابة، ج 1، ص 450، وابن شبة: تاريخ المدينة، ج 3، ص 1069 1070، والحاكم: المستدرك، ج 3، ص 99.
(13) أخرجه أحمد في المسند، ج 4، ص 105، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ج 3، ص 101.
(**) رسل غنمه: أي لبنها.
(14) عبد الرزاق: المصنف، ج 11، ص 368.
(15) المصدر السابق، ج 11، ص 368.
(16) أخرجه أحمد في المسند (بترتيب الشيخ الساعاتي) ، ج 23، ص 138 وقال الترمذي في السنن: حديث حسن كتاب الفتنة، ج 3، ص 332.
(17) أخرجه أحمد في المسند، ج 3، ص 493، ج 4، ص 225، وابن ماجه في السنن، رقم 3962، ج2، ص 131.
(18) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ج 15، ص 37، وقال الألباني: فالحديث صحيح بمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة، ج 3، ص 368، 369.
(19) ابن حجر: الفتح، ج 12، ص 72.
(20) مسلم: الجامع الصحيح (بشرح النووي) ، كتاب الزكاة، ج 7، ص 167.
(21) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 35، ص 50، 54، 56، 69.
(22) المصدر نفسه، ج 35، ص 74، 75.
(23) انظر: البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الفتن، ج 8، ص 48.
(24) صحيح مسلم، بشرح النووي، ج 7، ص 167.
(25) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين، ج 8، ص 52.
(26) انظر: مسلم، الجامع الصحيح، بشرح النووي، كتاب الزكاة، ج7، ص 171، 172.
(27) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، المصنف، ج 15، ص 288، وفي المطالب العالية للحافظ ابن حجر: قال البوصيري: رجاله ثقات، ج 4، ص 302.
(28) ابن أبي شيبة، المصنف، بسند حسن لذاته، ج 15، ص 293.
(29) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 4، ص 440.
(30) انظر: الترمذي: السنن، كتاب الفتنة، ج 3، ص 383 وأبو داود: السنن، باب النهي عن السعي في الفتنة، ج 4، ص 100.
(31) انظر: بيعة علي رضي الله عنه تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ج 2، ص 59 92.
(32) ابن حجر: طبقات المدلسين، ص 51.
(33) ابن حجر: تقريب التهذيب، ج 1، ص 344.
(34) الذهبي: ميزان الاعتدال، ج 2، ص 255.
(35) جريدة الرياض، بتاريخ 2/2/1417هـ، عدد 10221، ص 12.
(36) ابن ديزيل: كتاب صفين، نقلاً عن ابن دحية الكلبي في أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهلي صفين، لوحة 8، والعقيلي: الضعفاء الكبير، ح 1، ص 59.
(37) ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج 3، ص 144.
(38) أبو الخطاب بن دحية الكلبي: المصدر السابق، لوحة 9.
(39) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل، ج2، ص 166، وابن حبان: كتاب المجروحين، ج 1، ص 293.
(40) خليفة: التاريخ، ص 184.
(41) ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج 2، ص 108.
(42) ابن حجر: تقريب التهذيب.
(43) خليفة: التاريخ، ص 196.
(44) ابن حجر: التقريب، ج 2، ص 505.
(45) المصدر نفسه، ج 1، ص 427.
(46) المصدر نفسه، ج 1، ص 133.
(47) عبد الرزاق: المصنف، ج 11، ص 357، وابن كثير عن أحمد في البداية والنهاية، ج 7، ص 253 والحديث أخرجه أحمد: ثقة حافظ (التقريب، ج 1، ص 24) عن ابن علية: إمام حجة (الكاشف، ج 1، ص 69) عن أيوب السختياني: ثقة ثبت حجة (التقريب، ج 1، ص 89 عن ابن سيرين: تابعي ثقة ثبت (التقريب، ج 2، ص 169 الثقات للعجلي، ص 405) وأخرجه عبد الرزاق: ثقة حافظ (تذكرة الحفاظ، ج 1، ص 364) عن معمر بن راشد: ثقة ثبت فاضل (التقريب، ج 2، ص 266) عن أيوب السختياني: ثقة ثبت حجة (التقريب، ج 1، ص 89) عن ابن سيرين، تابعي ثقة (الثقات للعجلي، ص 405) .
(48) انظر على سبيل المثال: البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الفتن، ج 8، ص 94، 95، 97، والترمذي: السنن، ج 3، ص 332، وأبا داود: السنن، ج 4، ص 100، وابن ماجه: السنن، ج 2، ص 132 وعبد الرزاق: المصنف، ج 11، ص 359، وابن أبي شيبة: المصنف، ج 25، ص 303.
(49) الخلال: كتاب الإيمان، لوحة 12.
(50) الخلال: كتاب الإيمان، لوحة 12.
(51) ابن تيمية: منهاج السنة، ج 2، ص 219 220.
(52) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الاعتصام، ج 8، ص 137.(162/114)
بأقلامهن
نحو خطوات فاعلة للداعية المسلمة
خولة درويش
قال الله - تعالى -: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ] (التوبة: 71) .
لقد أنصف الإسلام المرأة، وكلفها بمهام مثل مهام الرجل إلا ما تقتضيه
طبيعتها، بعيداً عن الاختلاط وتعرضها لأعين الرجال، والمجال مفتوح أمامها بين
بنات جنسها.
فالدعوة إلى الله ليست مختصة بالرجال وحدهم؛ فقد حملت المسلمة همّ الدعوة
منذ فجر الإسلام. وكفانا قدوة أن المسلمة الأولى التي شرح الله صدرها لهذا الدين،
وساندت نبيه وآزرته هي امرأة، إنها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله
عنها -، ثم إن أم شريك القرشية العامرية، بعدما أسلمت، جعلت تدخل على نساء
قريش سراً فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها
وقالوا لها: «لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا؛ ولكنا سنردك إليهم، وكان أن حملوها
على بعير ليس تحتها شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوها ثلاثاً لا يطعمونها ولا
يسقونها» [1] .
وظلت المرأة المسلمة تقوم بدورها المنوط بها، كما يمليه عليها دينها، فكانت
تعلم بنات جنسها أمورهن الخاصة بهن كالطهارة والعدة ونحوها، وقد حفظت أحكام
ذلك الدين عن طريق الصحابيات - رضوان الله عليهن -.
فالمرأة المسلمة لا تقل عن الرجل في التكليف: والأصل أن أمور الشريعة
شاملة للرجل والمرأة على السواء، إلا ما جاء من أدلة تختص بأحدهما كأمور
القوامة والحجاب والنفقة والعدة ونحوها.
ومن الممكن أن نستعير هنا ما قاله (مراد هوفمان) وهو يصف مكانة المرأة
المسلمة بالنسبة إلى مكانة الرجل أنها: «المساواة في الكرامة مع اختلاف الأعباء،
والمساواة في المنزلة مع اختلاف الأدوار، والمساواة في القيمة مع اختلاف
القدرات» [2] .
فهي تقوم بما يجب على الرجل في المجالات والأنشطة التي يمكن أن يقوم بها
إلا إذا اقتضت طبيعة المرأة خلاف ذلك - كما يحدد الشرع -.
وإذا علمنا مدى ما تعمله قوى الشر؛ حيث تقف مجتمعة لمجابهة هذا الدين
وأهله، وراقبنا عن كثب تفننها في وسائل مقاومته، وابتكارها الطريقة تلو الأخرى
لتبقي الأجيال شباباً وشابات في معزل عن مفاهيم دينهم الحق، أو لتشويه صورته
الناصعة في أعينهم أدركنا أن نشاط أعدائنا لحربنا لا يعطينا مسوِّغاً إلى الركون
والسلبية، كما هو شأن البعض! فالهجمة الشرسة لا تصدها الانهزامية!
إن مما يعصر القلب ألماً: النظرة القاصرة عند البعض التي تتجلى في احتقار
الذات، والشعور بالصغار؛ مما يثبط عن العمل، ويقعد بالهمم.
وعندما تحتقر المرأة نفسها وتشعر بضآلتها وهي تقول: وماذا عسى أن ينفع
كلامي؟ ومن يسمع صوتي الضعيف؟ !
أوَ ما تذكرت أن فرعون كان أكثر بياناً من نبي الله موسى - عليه السلام -
مما جعل فرعون يقول: [أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ]
(الزخرف: 52) .
ومع ذلك ما ضر ذلك موسى - عليه السلام - شيئاً؛ فالله وحده تكفل بنصر
الحق [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ] (الحج: 40) .
إن التخلي عن الواجب الدعوي للمرأة كان له نتاج تخريبي في المجتمع.
لقد رضيت ضعيفات الإيمان - طائعات - أن يكن سمسارات لمبادئ الغرب،
ومن جنود إبليس، وما ذاك إلا لغياب الداعية المواجهة الواعية. وكان حري
بالمؤمنات أن يقرعن الحجة بالحجة، ليظهرن مدى تفاهة الباطل وأهله، ويحمين
الأجيال كيلا تنساق وراء ترهاته وأباطيله.
إن المعركة بين الحق والباطل مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فلا يصح للمسلمة أن تقف موقف المتفرجة، حتى لا تكون هي أكثر
المصابات، إنْ بالثكل أو اليتم، أو أن يصل الأمر إلى انتهاك الأعراض والعياذ
بالله.
أمتنا بحاجة إلى كل عقل مفكر، أو نية طيبة حاجتها إلى العمل المنتج.
والأديان المختلفة بل وجميع المذاهب الفكرية ما انتشرت إلا بالدعوة إليها،
وقد شاركت المرأة الرجل بما يناسب طبيعتها، ونشطت نساؤهم لنشر مبادئهم؛
فالمنصِّرون كانوا وما زالوا يعملون على تخريب الأجيال، ودس الشبهات،
ويسيرون وفق تخطيط دقيق يوزعون فيه الأدوار بعناية وحذق.
تتحمل المنصِّرات (المبشرات) الكثير من الضنك وشظف العيش، وقد
تعيش إحداهن في صحارٍ مقفرة حياة بدائية تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، تخالط
أهل الصحاري والقفار، تدخل إلى القلوب من خلال التعليم أو التطبيب أو الخدمات
الاجتماعية، أو حتى المشاركات الوجدانية.
أوَ ليست المؤمنة الصادقة أوْلى بالنهوض بواجبها والبعد عن التقصير
والتفريط؛ لئلا تكون بتقصيرها عوناً لأعدائها من حيث لا تدري؟ !
أوَ ليس واجبها أن تتحرى ما ينقص مجتمعها من الأمور الفاضلة الخيِّرة، وما
يناسبه من الأمور المشروعة، فتُقْدِم ولا تُحْجِم؛ علّها تحيي سنة وتميت بدعة؟ !
فعلى كل حسب اختصاصها، وحسب إمكانياتها واجب الدعوة إلى الله سواء
بالقول السديد، أو القدوة الصالحة؛ فلا تبدد أوقاتها، ولا تذهب عمرها سدى، ولا
تميت قلبها بالحسرات على أمتها المسلمة دون أن تبذل شيئاً نافعاً ذا بال، بل تنشط
وتنشط، ولا تبالي بعثرات الطريق ولا تأبه بالصعاب؛ لأنها تقوم بواجبها متطلعة
إلى رضوان الله:
ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبَّبُ
فلا تستهيني أختي الفاضلة بجهدك؛ فالحصاة الواحدة وإن لم توقف السيل،
لكنها مع غيرها من الحصى مهما صغرت، قد تكون عائقاً أمامه!
والقشة الصغيرة يحملها الطائر والعصفور هي جزء رئيس لإتمام بناء عشه
الذي يؤويه!
فعلينا ألا نضيِّع الفرصة المناسبة حيث كنا، سواء في المنزل، أو في
المدرسة، حتى في السيارة!
لا تستغربي أختاه، نعم حتى في السيارة! واصغي معي بقلبك إلى حديث
المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه معاذ - رضي الله عنه - حيث قال: كنت
ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عُفير. قال: فقال صلى
الله عليه وسلم: يا معاذ! تدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟
قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن من حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا
يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً.
قال: قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم؛ فيتكلوا « [3] .
فيا أختي الداعية: إن الدعوة إلى الله شرف حباك الله به، ومجالاته متعددة -
فبقدر المنكر يكون الأمر بالمعروف - لكنها تتفق في النهاية السامية.
ومع حسن التخطيط تكون المسلمة على بينة من أمرها: فهي وقد أرادت أن
تحمي المسلمات من الوقوع في شراك العدو الماكر بحيله الواسعة فما عليها (بعد
الاتكال على الله) إلا أن تتعرف على أحابيل العدو لتعلم كيف ينفذ إلى مكره،
وتتعرف على ما في المجتمعات الأخرى من مثالب، وتتعرف على ما فيها - هي -
من مزايا نافعة.
وذلك كله يفيدها في اختيار الأنسب من أساليب الدعوة، فتقدم على بصيرة
وهي تعلم أين تضع قدمها، لتحث الخطى في طريق السلامة، لا كمن تتعثر، فلا
هي تصل إلى غايتها، ولا هي عارفة لمسالك النجاة:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
ونستطيع أن نوجز المجالات الدعوية للمرأة وما ذاك بحصر لها، وإنما هي
نماذج للذكرى:
أولاً: البيت مهمة المرأة الأساسية، ولذا يجب أن يحظى من فيه بنصيب
موفور من خالص دعوتها، كالزوج والأولاد والوالدين والجيران، والأقارب،
والخدم.
ثانياً: تساهم الداعية في تأهيل أمهات المستقبل، فتنشر العلم الواعي المستند
إلى الأسس الشرعية؛ وذلك لصيانة عقول الأجيال وقلوبها من أن تقع في شراك
الأعداء.
وتساهم في تعليم النسوة المهارات اللازمة ليكنَّ صالحات مصلحات، فضلاً
عن زيادة مهارتهن المنزلية، فترقى الأسر المسلمة والمجتمع الإسلامي بأسره.
ثالثا: تساهم في الإعلام والتوجيه وبالضوابط الشرعية وذلك عن طريق
المحاضرات للنساء، وتأليف الكتب والأشرطة والمطويات، والمساهمة في
الموسوعات الثقافية والنشرات العلمية، فضلاً عن استفادتها من معطيات العصر
الحديثة» كالإنترنت «لخدمة دعوتها.
رابعاً: الخدمات الاجتماعية التي ثبت أن المرأة تفوق الرجل فيها، من
مساهمات خيرية في بناء المساجد والمدارس، وتوصيل النفقة لأسر متعففة،
ومساندة الحق في كل مكان، أو تزويج الصالحات.
خامساً: هذا فضلاً عن أعمال أخرى تهم المرأة المسلمة، وتقوم بها
بالضوابط الشرعية كإعداد كوادر مستقبلية للدعوة، وجمع المعلومات وأخبار العالم
الإسلامي، وإيجاد فرص للعمل عن طريق فتح المشاغل النسائية أو المستشفيات
النسائية، ومن نذرت نفسها لله، تبحث عن كل سبيل نافع ومشروع لإيصال
دعوتها إلى بنات جنسها، وتقوم بواجبها على أتم وجه، مما يرضي الله - تعالى -،
ويثير حفيظة الخصوم، ويثلج صدور المسلمات التقيات.
سادساً: تتسابق مع أخواتها المؤمنات إلى تبليغ ميراث محمد صلى الله عليه
وسلم.
وإذا تضافرت الجهود، وخلصت النوايا، وسلكنا لذلك الوسائل الشرعية،
ولم نركن إلى الأحلام والأماني فعند ذلك يتحقق موعود الله بالنصر والتمكين؛ وفي
ذلك الفلاح وأي فلاح: [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 1-3) .
أختي المسلمة:
إن الأجيال الفتية تنتظر دورك المنشود، وما لا يدرك كله لا يترك جُله؛
عسى أن نعوض ما فاتنا من تقصير.
ولا ننسى أن الضوابط الشرعية مهمة في خروج المرأة من بيتها، وخلال
عودتها إليه من استئذان، وحجاب، وعدم اختلاط، وعدم خضوع في القول.
كما أن التقية لا تهمل تربية أبنائها، وحقوق أسرتها بحجة الدعوة العامة؛ فإن
فرض العين أوْلى من فرض الكفاية» ولنعط كل ذي حق حقه «.
نسأل الله - تعالى - أن يجعل راية الإسلام عالية خفاقة، ودعوته منصورة،
ونضرع إليه أن يجعلنا جميعاً من خدام دين الله، وأن يعظم الأجر ويتقبل العمل،
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) الإصابة، 4/446.
(2) كتاب يوميات ألماني مسلم، تأليف مراد هوفمان، ص 214.
(3) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب حق العباد على الله، والردِف: الراكب خلف الراكب، وأصله الركوب على الردف وهو العجز.(162/126)
قضايا ثقافية
الاتجاهات.. تكوينها ومكوناتها
محمد عودة الذبياني
مقدمة:
مع نمو الفرد وتعرضه لعملية التنشئة الاجتماعية تتكون لديه اتجاهات
ومواقف معينة حيال الأفراد والجماعات والمؤسسات والأفكار والمذاهب المختلفة.
وهذه الاتجاهات وتلك المواقف تحتل من الأهمية غايتها؛ فهي في كثير من
الأحيان تتحكم في خط سير الإنسان وتعامله مع ما يحيط به، وهي - فضلاً عن
هذا وذاك - يمكن أن تحفز الإنسان لعمل شيء معين أو تثبطه عن فعله، ولا
يقتصر استخدامها على المجال التربوي فحسب، وإنما تتعدى ذلك إلى المجال
السياسي حيث تحتاجها الحكومات في معرفة اتجاهات الشعوب في بعض الميادين
والقضايا المختلفة التي تهمها، ويمكن للتجار والمنتجين ونحوهم ترويج بضاعتهم
إذا أمكنهم التعرف على اتجاهات العملاء أو المستهلكين، كما أنهم يسعون إلى
تكوين اتجاهات إيجابية عن سلعهم التجارية لدى جمهور المستهلكين، وأهم من ذلك
كله الدعاة والمربون والقائمون على إصلاح المجتمع حيث يتطلب منهم عملهم
الإلمام بشيء عن الاتجاهات حتى يمكنهم تكوين اتجاهات فاضلة لدى الأفراد
والمتربين، وتعديل وتغيير اتجاهات أخرى غير مرغوب فيها.
ولذلك سوف أسلط الضوء في هذا المجال على موضوع الاتجاهات والمقصود
بها، وخصائصها، ومكوناتها، كما سأسلط الضوء على شيء من العوامل التي
تسهم في تكوين الاتجاه وتعديله.
أولاً: المقصود بالاتجاهات:
الاتجاه مأخوذ من وجه واتجه، والجهة والوجهة والتُّجاه: الوجه أو الموضع
الذي تقصده، واتجه له رأي: أي سنح [1] .
ويمكن أن تعرَّف الاتجاهات: بأنها المواقف التي يتخذها الإنسان تجاه
مكونات بيئته سواء أكانت هذه المكونات مادية أو معنوية.
وهناك بعض المصطلحات قد يلتبس مفهومها بمفهوم الاتجاهات لا بد من
بيانها على النحو الآتي:
أ - الاتجاهات والميول: قد يظن بعض الناس أن هذين المصطلحين
مترادفان، فلا تكاد تذكر الاتجاهات إلا ويأتي بعدها الميول؛ حتى إن بعض
المشتغلين في المجال التربوي لا يفرق بين هذين المصطلحين؛ وحتى نفرق بينهما
يمكن القول بأن الاتجاه يتميز بالاستقرار والثبات أكثر من الميل؛ فالميل سريع
التغير؛ وذلك لأنه تغلب عليه المشاعر والعواطف بخلاف الاتجاه الذي يغلب عليه
الجانب العقلي المعرفي الذي يجعل من عملية تغييره وتعديله تحتاج إلى شيء من
الصبر والتأني.
ب - الاتجاهات والرأي العام: العلاقة بين الاتجاهات والرأي العام يشوبها
شيء من اللبس؛ فالرأي العام يستند جزئياً على الاتجاهات التي يحملها الأفراد،
ولذلك يلعب الرأي العام دور الوسيط بين الاتجاهات المختلفة حتى يكوِّن منها رأياً
عاماً [2] ؛ وبناءً على ذلك يمكن القول بأن الاتجاهات أكثر عمقاً من الرأي العام
الذي قد يجنح إلى السطحية إلى حد ما؛ لأن الفرد قد ينساق في خضم الرأي العام
لا عن قناعة واتجاه، وإنما تأثراً بالمحيطين به. وإجمالاً يمكن وصف علاقة الرأي
العام بالاتجاهات بأنها علاقة الكل بالجزء.
ج - الاتجاهات والقيم: من خلال توضيح القيم يظهر لنا جلياً الفرق بينها
وبين الاتجاهات؛ فالقيم هي المبادئ الثابتة التي يؤمن بها المجتمع ويعتز بها
أفراده [3] ، ولذلك نجد أن اتجاهات الفرد تدور وتتمركز - بعد المعتقدات - حول
هذه القيم والمبادئ؛ فهي أساسها الذي تبنى عليه.
ثانياً: مكوّنات الاتجاه وخصائصه:
إن المتأمل في الاتجاه منذ بداية تكونه يجد أنه يمر بثلاث مراحل هي في
نهاية المطاف تشكل مكونات الاتجاه. وقبل الشروع في ذكر تلك المكونات لا بد من
التنبيه على نقطة مهمة هي أنه من خلال معرفتنا بمكونات الاتجاه والمراحل التي
يمر بها نستطيع - بإذن الله - أن نوجد ونكوِّن الاتجاهات المرغوب فيها لدى
المتربين، ونعدل ونغير الاتجاهات غير المرغوب فيها. والمكونات أو المراحل
هي على النحو الآتي:
أ - المكوِّن المعرفي: ويتضمن هذا المكون المعتقدات التي يؤمن بها الفرد،
والقيم والمبادئ التي يحرص على التمسك بها، كما أنه يتضمن الأدلة والأحكام
الشرعية والمعلومات والحقائق الموضوعية حول القضايا المختلفة [4] .
فعلى سبيل المثال إذا أردنا أن نكوِّن اتجاهاً لدى فرد أو مجموعة من الأفراد
حول قضية الاهتمام بأمر المسلمين في شتى بقاع الأرض، أو حول الالتزام بأنظمة
وقواعد المرور مثلاً، فلا بد من الحرص أولاً على إيجاد المكون أو الأساس
المعرفي لديه، فنبين الحكم الشرعي في قضية الاهتمام بأمر المسلمين، والأخطار
المترتبة على التساهل بأنظمة وقواعد المرور مدعمين حديثنا بالأدلة الشرعية
والحقائق والأرقام والإحصاءات التي تضمن اقتناعه العقلي، وتأييده لموضوع
الاتجاه.
ب - المكوِّن الوجداني (العاطفي) : ويتضمن هذا المكون النواحي العاطفية
والوجدانية التي تتعلق بموضوع الاتجاه [5] أو بعبارة أخرى: يشير هذا المكون إلى
مشاعر الحب والكراهية التي يوجهها الفرد نحو موضوع الاتجاه.
ويمكن تحقيق هذه المكون في المثالين السابقين من خلال زيارات لمعارض
جراحات العالم الإسلامي، أو من خلال ذكر بعض القصص المؤثرة لما يعانيه
المسلمون من البطش والجوع والتنصير، أو من خلال زيارات لضحايا حوادث
المرور، أو بأي طريق آخر يضمن لنا تفاعل الفرد العاطفي الوجداني مع موضوع
الاتجاه؛ لأن هذا التفاعل العاطفي هو الذي يؤدي بدوره إلى المكوِّن الثالث وهو
المكون السلوكي العملي؛ فالفرد إذا ما اقتنع بفكرة معينة أو باتجاه معين وتفاعل معه
وجدانياً وعاطفياً أدى ذلك بدوره إلى سعيه الحثيث، والعملي لتحقيق ذلك الاتجاه.
ج - المكوِّن السلوكي: ويتضمن هذا المكوِّن النزعة العملية نحو موضوع
الاتجاه [6] ، فإن كان الاتجاه إيجابياً قادته تلك النزعة إلى الفعل والتمسك والدفاع
عن الاتجاه، وإن كان الاتجاه سلبياً قادته تلك النزعة الفعلية إلى الإحجام والترك
والتحذير. ولعل المتأمل في مراحل التشريع الإسلامي يجد أنه في بدايته كان
التركيز فيه على الناحية الوجدانية العاطفية حتى إذا استحكم الإيمان في القلوب
وتمكن نزلت الأوامر العملية، وفي ذلك تقول عائشة - رضي الله عنها -: «إنما
نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس
إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا:
لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل (لا تزنوا) لقالوا: لا ندع الزنا أبداً» [7] .
وكذلك الأمر بالنسبة لتعديل وتغيير الاتجاهات؛ فمثلاً: لو كان هناك شخص
لديه اتجاه بأن «المرأة في المجتمعات الإسلامية معطلة مهضومة الحقوق» ؛ فإنه
يمكن تعديل وتغيير هذا الاتجاه بنفس طريقة ومراحل تكوين الاتجاه الآنفة الذكر.
خصائص الاتجاهات:
من خلال العرض السابق لمكونات الاتجاهات يمكن أن نستنتج عدداً من
الخصائص التي تتسم بها، ومن أبرزها:
1 - الاتجاهات مكتسبة ومتعلمة، وليست وراثية.
2 - مع كونها تأخذ طابع الثبات النسبي إلا أنه يمكن تعديلها وتغييرها بحسب
طبيعة الاتجاه [8] .
3 - الاتجاه يمكن أن يكون قوياً أو ضعيفاً بحسب درجة اقتناع الفرد به،
وبحسب تقبله لآراء الآخرين.
4 - قد تكون الاتجاهات إيجابية، وقد تكون سلبية كما ذكر في الأمثلة السابقة.
5 - قد تظهر الاتجاهات ونستدل عليها من خلال سلوك الفرد وتصرفاته
وأقواله.
ثالثاً: عوامل تؤدي إلى تكوين أو تعديل الاتجاه:
هناك العديد من العوامل التي تسهم بشكل واضح في تكوّن الاتجاهات لدى
الأفراد؛ كما أنها في نفس الوقت يمكن أن يكون لها دور في تعديل وتغيير
الاتجاهات غير المرغوب فيها، ولعل من أبرز تلك العوامل ما يلي:
1 - العقائد الدينية:
فالعقيدة التي يعتقدها الفرد من أقوى العوامل المكوّنة للاتجاهات، بل يمكن أن
نقول إنها الأساس الذي تبنى عليه الاتجاهات لدى الفرد، وكلما كان الاتجاه الذي
يتخذه الفرد منبثقاً عن عقيدة راسخة كان ذلك الاتجاه قوياً ثابتاً يصعب تغييره
وتعديله، ولذلك نجد أن المسلم المؤمن بالله - عز وجل - يختلف في اتجاهاته عن
غيره من أصحاب العقائد الأخرى. ومن أبرز الأمثلة التي توضح لنا قوة تأثير
العقيدة في تكوين الاتجاهات هو تلك العقيدة التي ترسخت في نفوس أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم والتي تمخضت عنها اتجاهات ثابتة ثبات الجبال في نصرة
المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولعل البطولات التي سطرها أولئك الرجال في
بدر وأحد وغيرها من المعارك من أكبر الأدلة على تلك الاتجاهات الثابتة في الدفاع
عن الإسلام المتمخضة عن عقيدة صحيحة.
2 - الجماعة المرجعية للفرد:
وتُعرَّف (الجماعة المرجعية) : بأنها الجماعة التي يرتبط الشخص بقيمها
وأهدافها ومعاييرها ويتمثلها في حياته [9] ، والإنسان في الغالب قد يكون عضواً في
جماعة معينة [10] ، وتلك الجماعة يكون لها أثر كبير في تشكيل وتكوين
اتجاهاته [11] أو تعديلها وتغييرها إذا كانت اتجاهات غير مرغوب فيها، مع
ملاحظة أنه لا يشترط أن يتشرب كلُّ أفراد (الجماعة المرجعية) الاتجاهاتِ السائدةَ
فيها، وإنما يخضع ذلك لظروف معينة ليس هذا مجال بسطها [12] .
3 - الأسرة:
الأسرة في معظم الحالات من العوامل المؤثرة في تكوين اتجاهات الفرد
وتعديلها وتغييرها؛ فمن الطبيعي أن يكتسب الطفل في بداية نشأته اتجاهات
والديه [13] عن طريق الملاحظة والتقليد؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة
فأبواه يهودانه وينصرانه ويشرِّكانه ... » الحديث [14] ، كما أنه يمكن أن يكون
للأسرة دور في التأثير على بقية العوامل الأخرى التي تكوِّن الاتجاه كالمعتقدات
والمعلومات والحقائق.
4 - المؤسسات التربوية:
تهدف المؤسسات التربوية - وعلى رأسها المدرسة - من جملة ما تهدف إليه
تكوين اتجاهات معينة لدى التلاميذ وإزالة وتعديل اتجاهات أخرى [15] ؛ فالمفترض
أن لا يقتصر دورها من خلال مقرراتها ومعلميها على تقديم المادة العلمية فقط؛ بل
لا بد أن تزرع في طلابها اتجاهات موجبة كالصدق والعفة والدقة في إنجاز العمل
والمحافظة على النظام والأمانة والاعتزاز بالدين، وأن تسعى إلى اجتثاث اتجاهات
سلبية كالتقليد والكسل والانطواء على الذات والهزيمة النفسية.
ونختم هذا العامل بالتأكيد على أهمية دور المعلم باعتباره قدوة لطلابه؛ فهو
من أبرز الشخصيات المؤثرة في حياة الفرد؛ فمن خلال فهمه والتزامه وتمسكه
بمبادئ دينه يمكن أن يؤدي إلى تكوين وتعديل اتجاهات لم تستطع بقية العوامل
الأخرى أن تكونها أو تعدلها.
5 - وسائل الإعلام:
أصبح الكثير من الأفراد في هذه الأوقات على علاقة وثيقة بوسائل الإعلام
على اختلاف أنواعها، ولذلك أصبحت تؤثر بشكل كبير على تكوين وتعديل
اتجاهاتهم حتى أطلق عليها: «وسائل الإيحاء» ؛ ذلك أن بعض وسائل الإعلام
تقدم مواد إعلامية تؤثر في اتجاهات الأفراد عن طريق الإيحاء [16] ، وتتجلى لنا
خطورة هذه الوسائل - والاتجاهات السلبية التي تبنيها - على صغار السن؛ حيث
تزيد درجة تقبلهم واقتناعهم بتلك الاتجاهات أكثر من غيرهم دونما تمحيص ونقد.
6 - المعلومات والحقائق:
إن المتأمل في الكتب التي تحدثت عن العوامل التي تؤدي إلى تكوين وتعديل
الاتجاهات يجد شيئاً من الاتفاق على هذا العامل، ويقصد بالمعلومات والحقائق تلك
المعارف التي تتجمع لدى الفرد من مصادر مختلفة عن موضوع الاتجاه؛ فهذه
المعلومات وتلك الحقائق تؤدي إلى تكوين اتجاهات معينة لدى الأفراد كما أنها
تساعد في تعديل وتغيير اتجاهات أخرى.
وقد ذكرنا سابقاً أن المكون الأول من مكونات الاتجاه [17] هو «المكون
المعرفي» حيث إننا إذا أردنا أن نكوِّن أو نعدل اتجاهاً لدى فرد فإننا نبدأ بإعطائه
معلومات وأحكاماً شرعية وحقائق موضوعية حول ذلك الاتجاه حتى نضمن اقتناعه
وتأييده لموضوع الاتجاه.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة على النحو الآتي:
النقطة الأولى: إن ترتيب العوامل المؤثرة في تكوين الاتجاه لم يكن وفق
أهميتها؛ فأهمية تلك العوامل تختلف من موقف إلى موقف آخر، ومن شخص إلى
آخر.
النقطة الثانية: ليس بالضرورة أن يكون الفاصل واضحاً بين المراحل الثلاث
عند تكوُّن الاتجاه، بل قد تحدث بشكل سريع يشوبه شيء من التداخل، أو قد
تحدث بشكل بطيء جداً لا يمكننا من خلاله ملاحظة تلك المراحل أو المكونات
بشكل دقيق.
النقطة الثالثة: أتمنى أن يكون هذا البحث المبسط مفتاحاً لأبحاث أخرى مهمة
في هذا المجال؛ فموضوع الرأي العام وتوجيهه وتغييره يحتاج إلى بحث ودراسة،
وكل عامل من العوامل المؤثرة في تكوين وتعديل الاتجاه يحتاج إلى دراسة مستقلة،
كما أن دور المعلم في تكوين وتعديل الاتجاهات يحتاج إلى دراسة مستقلة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء
والمرسلين.
__________
(1) لسان العرب، لابن منظور، 6/4775.
(2) دور الاتجاهات في سلوك الفرد والجماعات، أمل المخزومي، ص 26.
(3) المناهج المعاصرة، الدمرداش سرحان، ص 38.
(4) سيكولوجية الفرد في المجتمع، ترجمة حامد الفقي، ص 68.
(5) قراءات في علم النفس، لويس مليكة، ص 48.
(6) قراءات في علم النفس، لويس مليكة، ص 48.
(7) أخرجه البخاري، ح/ 4609.
(8) علم النفس التربوي، عبد المجيد نشواتي، ص 473.
(9) قراءات في علم النفس، لويس مليكة، ص 59.
(10) وتختلف الجماعات التي ينتمي إليها الفرد بحسب عقائدها وتوجهاتها ومبادئها.
(11) علم النفس الاجتماعي، عبد السلام الشيخ، ص 103.
(12) سيكولوجية الفرد في المجتمع، ترجمة حامد فقي، ص 69.
(13) علم النفس الاجتماعي، عبد السلام الشيخ، ص 106.
(14) رواه مسلم، ح/ 4805.
(15) الاتجاهات وأثرها على سلوك الفرد، علي أحمد علي، ص 28.
(16) علم النفس الاجتماعي، عبد السلام الشيخ، ص 107.
(17) وقد يطلق عليها البعض مراحل تكون الاتجاه كما ذكر ذلك سابقاً.(162/129)
اقتصاديات
الصحافة الاقتصادية الإسلامية
د. زيد بن محمد الرماني
نشأة الصحافة الاقتصادية الإسلامية:
إذا كانت الصحافة الإسلامية قد نشأت منذ زمن طويل نسبياً؛ فإن الصحافة
الاقتصادية الإسلامية قد نشأت منذ قرابة ثلاثين سنة فقط، أي من عام 1388هـ
(1968م) ، وكانت البدايات خجولة جداً إلى حد أنها تمثلت في المقالة القصيرة
والرؤية المحدودة والدراسة المقارنة، ولم تكن خطوط الصحافة الاقتصادية
الإسلامية في تلك الفترة واضحة المعالم، ولا محددة الهوية؛ في الوقت الذي كانت
الصحافة الاقتصادية الغربية، وكذا العربية تشهد ازدهاراً وتألقاً، وكان لها كتّاب
ومحررون وصحفيون مستقلون اكتسبوا من خلال عملهم التجربة والخبرة والدراية
والحنكة الصحفية.
أما اليوم فإننا نرى نهضة قوية، ونسمع صوتاً واضحاً، ونقرأ صحافة
اقتصادية إسلامية، ونشهد معالم هذه النهضة واضحة في كثير من الدول؛ ففي
الكويت هناك مجلة «النور» الاقتصادية التي تصدر عن بيت التمويل الكويتي،
وفي مصر هناك مجلة «البنوك الإسلامية» التي تصدر عن الاتحاد الدولي للبنوك
الإسلامية، وفي الإمارات العربية المتحدة هناك مجلة «الاقتصاد الإسلامي» التي
تصدر عن بنك دبي الإسلامي، وفي المملكة العربية السعودية هناك مجلة «أبحاث
الاقتصاد الإسلامي» الصادرة عن المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي،
ومجلة «دراسات اقتصادية إسلامية» الصادرة عن المعهد الإسلامي للبحوث
الاقتصادية والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة، وفي المغرب هناك
صحيفة «اقتصادنا» الصادرة عن الجمعية المغربية للاقتصاد الإسلامي، وفي
بريطانيا هناك مجلة «الدولية للاقتصاد الإسلامي» الصادرة عن الجمعية الدولية
للاقتصاد الإسلامي.
وإضافة إلى ما سبق هناك الصحف والمجلات المتخصصة في الشؤون
الإسلامية التي تهتم بأخبار العالم الإسلامي، وتعالج المشكلات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية معالجة إسلامية مستنيرة، والتي تفرد في صفحاتها أبواباً خاصة
بالفتاوى والأحكام الفقهية، والرد على أسئلة القراء واستفساراتهم فيما يتعلق بأمور
دينهم وقضاياهم الاقتصادية، وعلى سبيل المثال هناك مجلة الإصلاح (الإصلاح
الاقتصادي) ، ومجلة المجتمع (المجتمع الاقتصادي) ، ومجلة الدعوة (الملحق
الاقتصادي) ، ومجلة الوعي الإسلامي، ومجلة الخيرية، ومجلة منار الإسلام،
ومجلة المستقبل الإسلامي، ويمكن أن نضيف أيضاً المجلات الاقتصادية
المتخصصة الأخرى مثل: مجلة تجارة الرياض، ومجلة الأسواق، ومجلة الأموال،
ومجلة اقتصاديات السوق العربي، ومجلة البيئة، وصحيفة المؤشر، وصحيفة
الاقتصادية، حيث تفرد هذه المجلات والصحف مجالاً رحباً للمساهمات الاقتصادية
الإسلامية، وتُجري بعض الحوارات واللقاءات والتحقيقات حول القضايا الاقتصادية
الإسلامية الحساسة.
وهناك جمعيات اقتصادية إسلامية تسهم بشكل بارز في مسيرة الصحافة
الاقتصادية الإسلامية من حيث عقد الاجتماعات السنوية، وإقامة المؤتمرات
والندوات والمنتديات وحلقات النقاش الفكرية الحوارية الاقتصادية، وإصدار
مجموعة من المجلات والصحف والنشرات والمطبوعات والكتب والسلاسل
الاقتصادية من مثل: الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي، والجمعية المغربية
للاقتصاد الإسلامي، وجمعية الاقتصاد الإسلامي، ونادي الاقتصاد الإسلامي،
والجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، وجمعية الاقتصاد السعودية.
كما أن وجود أقسام علمية أكاديمية تحمل لواء الاقتصاد الإسلامي أسهم في
نهضة الصحافة الاقتصادية الإسلامية من خلال أقلام أكاديمية متخصصة تشارك
بكتابة الزوايا والأركان والرؤى الاقتصادية، وتُشخِّص الواقع الاقتصادي، وتطرح
بعض وسائل المواجهة والعلاج للمشكلات الاقتصادية الراهنة؛ فهناك على سبيل
المثال: قسم الاقتصاد الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقسم
الاقتصاد الإسلامي بجامعة أم القرى، وشعبة الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر،
وشعبة الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز.
ويسهم إلى جانب ما سبق - في مسيرة الصحافة الاقتصادية الإسلامية - أيضاً
ما يلي:
1 - مراكز البحوث الاقتصادية الإسلامية مثل: وحدة بحوث الاقتصاد
الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود، ووحدة بحوث الاقتصاد الإسلامي بالمعهد
العالي للفكر الإسلامي، ومركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز،
وشعبة الدراسات والأبحاث بمجموعة دلة البركة، والمعهد الإسلامي للبحوث
الاقتصادية والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية.
2 - المصارف والبنوك الإسلامية، بما تضمه من هيئات رقابة شرعية، وما
تصدره من مطبوعات ونشرات ومطويات ومطبوعات، وما تقيمه من ندوات
ومؤتمرات، وما تحويه من إدارات متخصصة في شؤون الفتوى والتدريب ودراسة
القضايا المصرفية الإسلامية ومستجدات العصر، مثل: بيت التمويل الكويتي،
بنك دبي الإسلامي، البنك الإسلامي للتنمية، شركة الراجحي المصرفية للمعاملات
الإسلامية، مجموعة دلة البركة، الشركة الإسلامية للاستثمار، مصرف فيصل
الإسلامي، دار المال الإسلامي، والاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.
3 - الغرفة الإسلامية للتجارة والصناعة وتبادل السلع بكراتشي؛ ومجهوداتها
في التنسيق بين غرف التجارة والصناعة في الدول الإسلامية وكذا بين رجال
الأعمال المسلمين، وإصداراتها ومطبوعاتها ونشراتها، أسهمت بشكل طيب في
ميدان الصحافة الاقتصادية الإسلامية.
كل ذلك، وغيره، يعتبر معالم هداية، وإشارات بارزة ذات دلالة على وجود
صحافة اقتصادية إسلامية جيّدة ومنافسة وفاعلة وإيجابية لها روادها المتميّزون،
وإسهاماتها البارزة، ومشاركاتها الفاعلة، وأهميتها الواضحة، وهمومها الخاصة،
وتحدياتها وآثارها ومستقبلها المشرق.
خصائص الصحافة الاقتصادية الإسلامية:
نعرض فيما يلي بعضاً من خصائص الصحافة الاقتصادية الإسلامية وسماتها
المحدِّدة لهويتها المميِّزة لمنهجها، المبيِّنة لملامحها، الموضحة لمعالمها الأساسية،
وذلك بشيء من الاختصار والإجمال، على النحو الآتي:
1 - رفع لواء «الإسلامية» والدعوة إليه.
2 - المناداة بشعار «الشرعية» فيما يحرر.
3 - الهدوء والسكينة فيما يُناقش.
4 - الرويّة والتحري فيما يُعرض ويُنشر.
5 - التوثق والتبيّن فيما يُكتب.
6 - المصداقية، والواقعية، والتشويق الهادف، والإثارة المعتدلة وهذه من
أهم سمات الصحافة الاقتصادية الإسلامية وأهدافها.
7 - تغطية أخبار العالم الإسلامي الاقتصادية.
8 - متابعة الأحداث الاقتصادية المهمة المختلفة.
9 - الاعتدال عند عرض مجهودات الباحثين ونتاجهم.
10 - كشف الأباطيل والشبهات والمغالطات والرد عليها، وتفنيد افتراءاتها
وأكاذيبها، وتقديم البديل المناسب.
معوقات الصحافة الاقتصادية الإسلامية:
تجابه الصحافة الاقتصادية الإسلامية مجموعة من العقبات والعوائق،
وتعترض طريقها بعض الصعوبات والمشكلات، وعلى سبيل المثال:
1 - غياب التنسيق المشترك فيما بين المجلات الاقتصادية المتخصصة.
2 - عدم تبادل الأخبار والأحداث الاقتصادية بين المجلات المختلفة.
3 - افتقاد مركز معلومات موحّد للمجهودات والنشاطات المشتركة.
4 - البعد الجغرافي الذي صعّب عملية التبادل والتعاون.
5 - قصور الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، وربما محدودية نطاق أعماله
ومشروعاته.
6 - ضعف المنافسة بين الصحافة الاقتصادية.
7 - حاجة الصحافة الاقتصادية الإسلامية إلى المصداقية أكثر.
8 - افتقاد عنصر التشويق في الصحافة الاقتصادية الإسلامية.
9 - غياب عنصر الإثارة الصحفية المنضبطة في الصحافة الاقتصادية
المختلفة.
10 - ضعف التغطية الإخبارية لأحداث العالم الإسلامي الاقتصادية.
استشراف المستقبل:
أتحدث هنا عن استشرافٍ مستقبلي للصحافة الاقتصادية الإسلامية من خلال
محاور ثلاثة:
أ - محور الخبر الصحفي.
ب - محور الحدث الاقتصادي.
ج - محور الانتشار الإعلامي.
- فبالنسبة لمحور الخبر الصحفي فإني أتطلع مستقبلاً إلى طرح صحفي
اقتصادي متميز يستفيد من خبرات الآخرين ونتاجاتهم، وينتهج أسلوباً إسلامياً
شريفاً سليماً من الانتقادات والملاحظات؛ بحيث يتقبل النقد والتقويم، ويقدِّم البدائل
المناسبة، ويفتح الباب للنقاش الهادئ، والحوار الهادف، ويقدم للصحافة
الاقتصادية محلياً وعالمياً أنموذجاً مثالياً واقعياً رائداً.
- وبالنسبة لمحور الحدث الاقتصادي فآمل أن توليه الصحافة الاقتصادية
الإسلامية عناية مناسبة واهتماماً خاصاً، من حيث جودة التغطية، وحسن التحليل
والتوصيف، ومناقشة الأبعاد المختلفة لكل حدث اقتصادي، واستشراف الأسباب
والآثار والمشكلات والعقبات والصعوبات، ومن ثم تقديم الحلول والمعالجات
المتناسبة مع كل حدث، وصولاً إلى رؤية شمولية تكاملية مستهدفة.
- أما محور الانتشار الإعلامي فإنه يتوقف على المحورين السابقين؛ فكلما
كان الخبر الصحفي الاقتصادي الإسلامي قوياً ورائداً، وكلما كان الحدث الاقتصادي
خاضعاً لمعايير تحليلية علمية كان الانتشار الإعلامي والقبول الفكري متطابقاً، من
أجل توافق حقيقي مع مستجدات العصر وقضايا الساحة.
ولأني لا أحب النظرة السوداوية المتشائمة فإني أنظر إلى الصحافة الاقتصادية
الإسلامية في المستقبل من خلال نظرة متفائلة رحبة؛ وخاصة أن مؤشرات النجاح
والانتشار لتلك الصحافة تتقدم خطوة خطوة، وتزداد مع الزمن وضوحاً وقبولاً،
وكفاءة وكفاية، وفعالية وفاعلية.(162/135)
المنتدى
اللدغات الخفية
سعود الصاعدي
حاولت كثيراً أن أتوقَّى خطره، وأهرب من لدغاته، ولكن أنَّى لي ذلك؟
وهو ينام في جحر فمي، وسُمُّه يسيل مع لعابي، وقلَّما خرج وما لدغ!
إنني أشعر بلذة أثناء سريان سُمِّه في عروقي، ولكنَّها لذةٌ مؤقتة تعقبها آلامٌ
وندامة، فهل يجدر بي أن أقدم لذة قصيرة تزول في لحظات لأخسر عقب ذلك لذة
الإيمان الدائمة مع لذة الصمت الهادئة الوقورة؟
إن الإنسان يظنُّ أن سعادته في كثرة حديثه؛ فتجده يحصد بمنجل لسانه
الأخضر واليابس، ويلتقط الكلمات دون حساب وبلا مراقب من نفسه أو من
ضميره؛ فتكثر سقطاته وتزيد عليه عثراته، وقلَّما سلم إنسانٌ من عثرة لسانه.
حقاً؛ فاللسان ثعبانٌ يلدغ صاحبه وإن لم يشعر بذلك، وسُمٌّ يسري فيملأ القلب
حتى يميته، ولهذا فإن أكثر الذين ماتت قلوبهم هم أولئك الذين يتحدثون كثيراً بلا
رقيب، وأولئك الذين يقعون في أعراض الناس فينهشون لحومهم في غيبتهم.
إن جل الناس لإن لم يكن كلهم في هذا الزمان يرتاع ويَفْرَق إذا ما رأى ثعبانا
يزحف على الأرض يسيل من نابيه لعابه القاتل متجها نحو فريسته , بل إن الحديث
عن عالم الثعابين والحيَّات وكل الزواحف القاتلة تبعث في النفس اضطرابة ما تلبث
أن تزول، وفي القلب فزعاً لا يطول، ولكنَّهم يغفلون عن تلك الثعابين التي تنطوي
على سمومها في أفواههم، ولا يفرقون أو يرتاعون أو يفزعون؛ وهم يَفْرُونَ لحوم
الناس ويلوكون بها كل حديث ينال الأعراض الغافلة، ويمسُّ النفوس التي يغطُّ
أصحابها في غفلة عن منتديات الناس ومجالسهم.
قد لا ندرك خطر اللسان أثناء الحديث؛ لأن تلك الحلاوة المؤقتة التي تشعرنا
بالبهجة أثناء الحديث تكون غطاءاً سميكاً لا نُبصر من خلاله الخطر الذي ينتظرنا
عاقبة لذلك الحديث الذي اختلط سُمُّه بدسمه، ولكن الحقيقة هي أن كل كلمة تمثل
لدغة سامة؛ إما أن تكون قسوة في القلب، أو ظلمة في القبر.
إننا عندما نتصور أن كل كلمة سيئة إنما هي نهشة أو لدغة في أجسادنا تكون
حقيقتها عند ضجعة الموت؛ فإن ذلك من شأنه - كل الشأن - أن يبعدنا عن حصاد
الألسن المذموم حتى وإن تلذذنا أثناء ذلك المخدر الذي يصبه إبليس في قلوبنا عند
معمعة الأحاديث وفي خضم الجلسات الساهرة في لحظة من لحظات الإقبال؛ تلك
التي تستفزُّ القلب، وتحلق به في فضاء الأخلاق؛ عقدتُ العزم أن أتوقَّى خطر
لساني، ولا سيما خطر الغِيبَة التي أصبحت مثلبة منتشرة في المجالس، فكانت
النتيجة أنه لم يمض يومٌ واحد فقط حتى أزَّني أحدهم إلى الحديث الآثم أزّاً!
فأنت عندما تَسْلَمُ بنفسك فإنك لا تَسْلَمُ من صديقك الذي يدفعك للحديث بكل قوة!
وعندما تسلم من صديقك فإن سمعك لا يسلم - أيضاً - من سماع الغِيبَة، وأنفك لا
تغيب عنه روائحها المنتنة؛ فاللهم لطفك!
ربما تخجل وتشعر بمرارة أو ألم إذا ما صدَّك أحد أصدقائك عن غِيبَة أحد؛
ولكنك ستحمده فيما بعد؛ لأن من صبر على الدواء العلقم كان له بلسماً وشفاءاً.
وأخيراً ...
هل نقف أمام هذا السيل الهادر من غثاء الألسنة؟ !
وهل نتنبّهُ لتلك اللدغات القاتلة التي لا نعيرها اهتماماً كما يهتمُّ أحدنا
بالاحتراس من لدغة ثعبان، أو لسعة زنبور أو عقرب؟
احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنَّك إنَّه ثعبانُ
كم في المقابر من قتيلِ لسانهِ ... كانت تهاب لقاءه الشجعانُ(162/138)
المنتدى
من مكايد الشيطان
الربيع بن إبراهيم مليحي
إن المتأمل لكتاب الله - جل وعلا - ولسنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم
ليجد التحذير الشديد من كيد الشيطان ووسوسته وسائر خططه في إضلال البشر
وغوايتهم.
قال - تعالى - مبيناً شدة عداوة الشيطان لبني آدم: [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف: 16-17) . وقال صلى الله
عليه وسلم كما روى سبرة بن أبي الفاكه: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطراقه،
فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتُسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه
فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مثل
المهاجر كالفرس في الطِّوَل فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تقاتل
فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟ فقاتل فعصاه فجاهد» [1] .
ومع النصين السابقين تلتقي بقية النصوص المحذرة من كيد الشيطان ليتبين
من خلال ذلك أن الشيطان لن يترك طريقاً للشر إلا سلكه مزيِّناً له ومرغباً فيه،
وكذا لن يترك طريقاً للخير إلا سلكه مقبِّحاً له ومنفراً عنه.
وللشياطين في غواية الخلق وصدِّهم عن الصراط المستقيم مكايد كثيرة يعجز
عن إدراكها العقل، ويكلُّ عن عدِّها الحصر، تتجدد بتجدد الزمان، وتتلاءم مع
الظروف والمكان؛ فتحبب إلى القلوب المريضة الكفر والفسوق والعصيان، ولا
حول ولا قوة إلا بالله، ومنها: «الشيطان يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه»
قال ابن القيم - رحمه الله -: «ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده
وأوليائه فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر؛ وهذا من
أعظم كيده بأهل الإيمان؛ وقد أخبر الله - سبحانه وتعالى - بهذا فقال: [إِنَّمَا ذَلِكُمُ
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:
175) .
المعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه، قال قتادة: يعظِّمهم في
صدوركم. ولهذا قال: [فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:
175) ، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف
إيمانه قوي خوفه منهم» [2] .
لقد ربط ابن القيم - رحمه الله - من خلال نظره في الآية بين الإيمان
الصادق والخوف من الله - تعالى - حيث يدل كل منهما على قوة الآخر، بمعنى
أن قوة الإيمان دليل واضح على شدة الخوف، وشدة الخوف دليل واضح على
صدق الإيمان، وهي معادلة إيمانية أشارت إليها الآية الكريمة، وفهمها السلف
الصالح واستفادوا منها في بناء صرح الإيمان في قلوب الناشئة مما كوَّن لديهم جيلاً
مؤهلاً لقيادة الأمة فقادوها خير قيادة؛ حتى إذا انقرض ذلك الجيل الذي يستنير
بنور الوحي، وحانت ساعة الصفر لبداية العد التنازلي انهارت القيم والقمم تبعاً
لانهيار الإيمان، فخلف من بعد أولئك خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات،
فجرَّتهم جاذبية المال وبريق المناصب إلى متاع زائل، فأخلدوا إلى الأرض؛ فهم
يلهثون وراء ملذاتهم وشهواتهم قد بسطوا أيديهم يحرسون أباطيل المجرمين،
ويسوِّغون شطحات المنافقين ينتظرون عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين، قد باعوا
دينهم بدنيا غيرهم؛ فهم سفلة الناس. انسلخ هؤلاء من لباس التقوى فخافوا غير الله
ففقدوا إشراقة الوحي فعاشوا بين الناس بميزان مقلوب، يرون النجاةَ في الكذب
والهلاكَ في الصدق، شعارهم في الحياة: (نافق تعش) وحكمتهم المأثورة:
(توزيع الظلم على الناس عدالة) الجبن عندهم حكمة، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر تأليب، والنقدُ البنَّاءُ سخرية، والنصيحة فضيحة، وهكذا صعد هؤلاء سلم
الشهرة على أكتاف الآخرين عندما نصّبوا أنفسهم خصوماً لدعاة الإصلاح،
فصدُّوهم عن قول الحق بعد أن كبلتهم مقامع الدينار؛ فهم الذين يبخلون جبناً
ويأمرون الناس بالبخل صدّاً. فما أقبح صنعهم وقد جمعوا بين منكرين عظيمين يوم
سكتوا عن المنكرات وصدُّوا غيرهم عن تغييرها! فإلى هؤلاء سرت صرخة ذلك
الشاعر الغيور يوم خاطب أمثالهم قائلاً:
أقلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدُّوا المكان الذي سدُّوا
__________
(1) مسند الإمام أحمد، (3/483) .
(2) إغاثة اللهفان، 1/110.(162/139)
المنتدى
قلوبٌ سماوية
خالد بن أحمد الشاجري
إلى اللقاء وفي الجنات لقيانا ... شوقاً إليك وأرجو الله رضوانا
أودعته الرمس والأخرى أسير بها ... تبكي عليك وتأبى عنك هجرانا
سألتها وسياط القلب حارقة ... والعين ترمقها شوقاً وتحنانا:
ماذا البكاء؟ أليس الله خالقها ... والله يقبلها فضلاً ورضوانا؟
فكفكفتْ دمعها والوجد يخنقها ... وأنشدت ألماً شعراً وأوزانا
سرنا جميعاً لنشر الحق في زمنٍ ... الكفر أفسده ظلماً وطغيانا
فكم جبالٍ صعدناها وقد لبست ... من الثلوج سرابيلاً وأردانا
وكم قفار نخوض الموت نرصده ... فيها، ثباتاً وتصديقاً وإيماناً
وكم إلى البيت سرنا ليس يدفعنا ... إلا الثوابُ ... وكم شدت مطايانا
وكم سعينا إلى ثكلى وأرملة ... تريك من همها المدفون أحزانا
وكم وقفنا بجنح الليل يؤنسنا ... آيُ الكتاب وعينُ الله ترعانا
وكم عهودٍ قطعناها بأن نبقى ... على الطريق أحباءاً وإخوانا
ثم انقضى بعد هذا نحبها أترى ... سأحفظ العهد؟ أم حان الأسى حانا(162/140)
المنتدى
أمة في سُبات
عبد الله موسى بيلا
أسدل الليل ثوبه مثل تُرسٍ ... حجب النور بين يومي وأمسي
ظنَّ أنّي سأجتدي منه فضلاً ... لأرى الدرب والسبيل لنفسي
فجثا الهَمُّ فوق قلبي.. وأمسى ... يزرع الشّجوَ في مراتع أُنسي
أدركوني فإنَّ همِّي ثقيلٌ ... ! ... كيف أنجو من اضطهاد وحَبسِ؟
كيف أسمو إلى العلا؟ والمعالي ... لا تَسَنَّى سوى لطالبِ قعسِ
حازم الفِكرِ ... إن أشارَ برأيٍ ... وافقَ الشرع، لا يُعَلُّ بلَبْسِ
إن دهى الحربَ أضحت الحرب نهراً ... أحمرَ اللونِ قانياً مثل وَرْسِ
ذاكَ نرجو لِعِزَّةِ الدين دهراً.. ... بَلْسَم الجُرْحِ ذي ولاءٍ ونُطْسِ
أُمة العزّ ... إنَّ مجدك باقٍ ... ليس يُمحى ولا يزول بِطَمْسِ
قد صَنَعْنا بأمسنا صَرْحَ مَجْدٍ ... لبس الدهرُ فيه أحسن لِبسِ
ذلَّت الرومُ يوم كان وخارت ... قُوَّة الشرِّ من صليب وفرسِ
بدَّل الخلق دينهم بحُطامٍ ... من متاعِ الحياةِ ... رِجْزٍ وبَخْسِ
فَلكَمْ وُلِّيَت أمورٌ لِقومٍ ... آثروا النوم ... تِلك همة جِبْسِ
ارتضوا الذُّلَّ والهوانَ فأضحوا ... تَبَعاً للعَدُوّ تحت الدِّرَفْسِ
أمتي ... هل أصاب منك وعيدي؟ ... هل سَمِعْتِ الصُّراخ مِنِّي وهمسي؟
توّج الله أمتي تاج حُكمٍ ... وَوَقارٍ يُضيء ليلة غَلسِ
أمة المجد.. إنَّ نصراً سينفي ... كلَّ غاوٍ.. وزاهدٍ فيكِ نِكْسِ
نَقِّلي الطَرْف في طلولِ الخوالي ... من قرونٍ ... فذاك أعْظَمُ دَرْسِ(162/140)
المنتدى
أخي الحبيب.. هل أعذرنا إلى الله؟ !
رضا محمد فهمي
كثير أولئك الذين يتألمون لواقع أمتهم فيغشاهم الإحباط كلما سمعوا خبراً هنا
أو هناك، ومنهم الذين ألقوا التبعة عن كاهلهم وكأنهم قد أعذروا إلى الله. وقليل
أولئك الذين يَعدُّون أنفسهم من أسباب ما حلَّ بأمتهم من بلاء - كل حسب موقعه وما
هو عليه من ثغر - فقاموا ونهضوا، والأمل يملأ قلوبهم في التغيير والإصلاح.
قلت لأحدهم - وقد أطال الدعاء بعد ختم الصلاة -: ماذا تفعل؟
قال: وهو مسبل عينيه الدامعتين: أستعين بالصبر والصلاة (الدعاء) .
قلت له: علامَ؟
قال - وهو مستنكر لسؤالي -: على التبعة الملقاة علينا؛ فقدري وقدرك أننا
أتينا في زمنٍ الكلمةُ فيه كثيراً ما تكون لغير أهلها، يريد الله أن يتوب علينا،
ويريد الذين يتبعون الشهوات أن نميل ميلاً عظيماً، وقد خلقنا ضعافاً فلا بد أن
نستعين.
قلت: وما عساك أن تفعل؛ فهم يجنون الثمار وما لنا خيار؟
قال: أَعْذِر إلى الله.
قلت: في لهفة: وكيف يكون الإعذار؟
أخذ يستنشق الهواء ويقول: ما أطيب نسيم الفجر وضياءه بعد الظلام!
تسألني: كيف يكون الإعذار؟
نزيل الغبار عن غايتنا في هذه الحياة، ونجعلها نصب أعيننا منذ بداية العام،
وغايتنا هي: رضا الله - عز وجل - والفوز بالجنان.
قلت له: وهذه أيضاً غايتي، ولكنها تنجلي في رمضان بالصوم، وكثير
القيام.
قال: اسمعني؛ فما عدت أجيد المراء! ألم يُلعن بنو إسرائيل لأنهم لم يتناهوا
عن منكر فعلوه؟
قلت: بلى!
قال: فلنتناهَ عن المنكر ولنأتمر بالمعروف، ولنتناصح في مجالسنا وزياراتنا
وتلاقينا وتهاتفنا؛ وإلا فنحن سبب من أسباب محنتنا. ألم نؤمر بوقاية أنفسنا
وأهلينا من النيران؟
قلت: بلى!
قال: والثقة - والتصميم ينبعان من عينيه -: فلنقم بواجبنا في بيوتنا توجيهاً
وتعليماً ببرامج محددة وخطة منظمة لا إفراط فيها ولا تفريط، نكون قدوة في
تنفيذها، وإلا فسنندم عندما يسبقوننا إليهم، ولات حين مندم.
ألم ينهنا ربنا عن الظلم حتى لمن نبغض؟
قلت: بلى! قد قال ربنا: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
قال: فلنزن الناس بمبادئ ثابتة يمليها علينا الحق بعيداً عن سوء الظن
والأهواء، ولنلفظ الوشاة خاصة إذا ولينا أمراً للمسلمين، وإلا كنا سبباً من أسباب
محنتنا.
بذلك - والقرآن خير معين - نعذر إلى الله، ولنستعن: [بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]
(البقرة: 45-46) .(162/141)
المنتدى
وما أسمعت..
ضياء عبد الخالق ثروت
ظلام الليل يمضي بعد حينٍ ... وليل ظلامنا بالظّلم يترى
ودمع أنيننا يسري رنيناً ... دماء جراحنا تنسال نهرا
ويا ويلٌ، ويا ويلاهُ منّا ... غَدوْنا بالأسى حجراً وصخرا
ونحن كأمةٍ صرعى ضياعٍ ... تشتت شملنا سِرّاً وجهرا
فصمتاً يا يراع الحقّ صمتاً ... وصبراً يا أنين النبض صَبرا
وما أسمعت إن ناديت حيْاً ... سقى آذانه صمَماً ووقرا
وتباً للجبان إذا توارى ... وقُبحاً للشجاع يصيرُ فأرا
وبئساً للحياة بغير بأسٍ ... وتعساً للوجود سُدىً وحَسرى
عسى الرحمن يهدينا لفجرٍ ... ويشرق نوره في العُسْرِ يُسْرا(162/142)
المنتدى
ردود
* الإخوة والأخوات: محمد بن غازي الطيب، أمين نعمان الصلاحي،
يوسف الصديق، عبد الله بن حسين الغنام، أبو عبد الملك، الأخت أم أحمد:
وصلتنا اقتراحاتكم وملاحظاتكم وثناؤكم. والمجلة تقدر لكم تواصلكم الكريم،
وترجو الله أن تكون عند حسن الظن، وما أبديتم من ملاحظات واقتراحات محل
الاهتمام والتقدير، بارك الله فيكم.
* الإخوة والأخوات: أحمد حسبو، حفيظ الدوسري، أبو بكر عبد القادر
سيسي، محمد القرني، عثمان بن عبد آل عبد الله، الزبير مهداد، محمد
الحسناوي، عبد الله الطنطاوي، عبد الله عيسى السلامة، صالح علي العمري،
إسماعيل عمار، عبد الله عزام المطيري، محمد الصادق مفلس، هاني عبد الله آل
ملحم، خالد الوقيت، إبراهيم فهد المشيقح، محمد بن صالح السويد، د. عبد
المحسن عبد العزيز العسكر، سليمان بن عبد الله الطريم، وفاء بنت عبد الله، أم
أسامة: سعدنا بتواصلكم الكريم، ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجازة للنشر، آملين دوام
التواصل.
* الإخوة: عبد الحميد بريكة، غازي المهر، محمد بن صالح اليوسف،
محمد بن ذعار العوفي، محمد الباشا، ممدوح القديري، خالد الهديب، أحمد بن
حسن الشقبيل، أسامة أنور عيسى، عبد الحميد بن حمد، عبد السلام كامل عبد
السلام، علي بن محمد آل بواح، وليد مصطفى، بدر بن مرزوق العضياني:
وصلتنا مشاركاتكم، ونشكر لكم تواصلكم الطيب مع مجلتكم، ونفيدكم بأنها مجازة
للنشر في المنتدى.
* الإخوة والأخوات: محمد محمد بدري، عبد الرحمن الهادي العمري،
محمد القرني، إسماعيل ابن سعد آل إسماعيل، حسين سالم الخلاقي، سعود
الصاعدي، رأفت يوسف، حسن عبد الحفيظ أبو الخير، حسين إدريس حامد،
تركي محمد الحميداني، العنود بنت عبد الله: نرجو التكرم بإفادتنا بوسيلة اتصال
خاصة حتى نتمكن من مراسلتكم.(162/142)
الورقة الأخيرة
من ينهض بالإعلام؟
د. أحمد بن عبد الرحمن الشميمري
إن من يتتبع تاريخ نشأة الإعلام في بلادنا العربية يتبين له جلياً أن البدايات
كانت على يد الغرب المستعمر الذي سخر الوسائل الإعلامية المتعددة والأساليب
الإخبارية المختلفة لخدمة أهدافه، وتعزيز سيطرته، وفرض نفوذه وسلطته،
واستمر الحال على هذا المنوال حتى بعد أن استقلت تلك المنابر الإعلامية،
وصُبِغَت بالوطنية والمحلية لكنها لم تبرح تقلد الغرب وتحاكيه وتسير على نهجه
وطريقته، ولم تكن منطلقات الإعلام وأهدافه يوماً ما تَمُتُّ بصلةٍ لخدمة قضايا
الأمة، وتحقيق أهدافها، أو ترتبط بتراثها الأصيل وثقافتها السامية.
وعلى هذا فقد بُني الإعلام العربي في الغالب لخدمة الغرب ومبادئه، وغلب
عليه الانفصام بين الدين والدنيا، والبعد عن الأصالة، والإيغال في التقليد الأعمى،
وسرى هذا الداء إلى أغلب الوسائل الإعلامية من إذاعة وتلفاز ومسرح وسينما
أبدعت في تشتيت هوية الأمة، وإهدار فكرها، وتمزيق وحدتها، وإفساد أخلاقها.
وإذا نظرنا إلى جهود المصلحين الغيورين على مستقبل أمتهم نجدها بدايات
متواضعة واجتهادات بسيطة لا ترقى إلى ما وصلت إليه جهود الدعوة من تنظيم
وإمكانات هائلة تمكنها من الاضطلاع بمهام إعلامية أكثر تأثيراً، وأوسع انتشاراً.
إننا لم نزل نعتمد على وسائلنا التقليدية القديمة، ولم ننفك نقدم الأساليب نفسها
في العرض والتقديم، بل لم تبرح بعض فئات الخير تتساءل عن مدى شرعية
بعض الوسائل ومدى قبولها أداة لنشر الخير والدعوة إليه، كما أننا لا نزال نحلم
بميلاد صحيفة إسلامية المنطلق والمحتوى والتوجه، ولم نبرح ننتظر (أعمالاً فنية)
تغرس في نفوس الشباب مبادئ الفضيلة وحب الخير، ولم نفتأ نحلم بقناة إذاعية
تعكس هموم الواقع المسلم وتنقل أخبار المسلمين بكل شفافية وتجرد، وأخشى أن
نظل نحلم طويلاً بقناة فضائية تكون سحابة خير في هذه السماء التي لوثتها قنوات
الهدم والإسفاف.
إن الأمة لا تفتقر إلى متخصصين، ولا ينقصها مؤهلون لكن الذي يكبلها
ويقتل الإبداع والطموح والإنجاز في مجتمعاتها أمران ظاهران:
أولهما: أن أهل الخير والمحسنين لا يزالون يعتقدون أن أبواب الإنفاق
والتصدق والبر ينبغي ألاَّ تخرج عن مصارفها التقليدية التي اعتادوا عليها وألفوها،
وأن دعم العبارة المكتوبة، والكلمة المسموعة، والصورة المرئية، في الوسائل
الإعلامية الحديثة لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى مصاف أعمال البر العظيمة
ووجوه الإنفاق الخيِّرة..!
أما العائق الثاني: فإنه يكمن في حجب الثقة والنظرة المتواضعة لقدرات أبناء
هذه الأمة وشبابها، وأول المسؤولين عن هذا الإحباط أولئك المتنفذون والمسؤولون
عن المؤسسات الإسلامية والمشرفون على وضع خططها وبرامجها الذين لا يزالون
يعتقدون أن الوصاية تقتضي قياس قدرات الناس بحسب توجهاتهم ودرجة ولائهم؛
وما عدا ذلك من قدرات فإنها مدار شك ومجال استفهام، وإلى أن نتجاوز هذين
العائقين سنظل نحلم ونبقى نحلم في إعلام إسلامي فعَّال!(162/143)
ربيع الأول - 1422هـ
يونيو - 2001م
(السنة: 16)(163/)
كلمة صغيرة
تغيير الصورة بالفعل لا بالقول
نشرت الصحف مؤخراً خبراً عن الحكومة الأمريكية حول رغبتها في تحسين
صورتها في العالم، وذلك عن طريق تطويل بث (صوت أمريكا) لأربع وعشرين
ساعة. والحقيقة أن الصورة التي وصلت إليها الولايات المتحدة الأمريكية في العالم
بعامة، والعالم العربي والإسلامي بخاصة بلغت الحضيض بسبب الموقف العدواني
الذي تقفه من أمتنا سواء بالممالأة لعدونا الصهيوني وتأييده في عدوانه المستمر
والدفاع عنه في كل الأحوال، أو بالموقف المعادي للإسلام سواء بجعله والمنتمين
له قرين الإرهاب، والعمل على الإيقاع بالمنتسبين إليه ولو كانوا يحملون الجنسية
الأمريكية بأساليب ملتوية ليس أقلها استخدام الأدلة السرِّية ليدان بها الفرد بمجرد
الظن؛ مما جعل المسلمين في أمريكا محل الاتهام الفوري والمطاردة عند طروء أي
حادث على سطح المعمورة، وقبل أي تحقيق أو ظهور أدنى دليل.
ومعاناة المسلمين من هذه النظرة القاهرة والسياسة الخرقاء جعل أمريكا محل
كره أمتنا ومقتها لها بعامة، وهذا ما أشار إليه الإعلام العربي في الآونة الأخيرة
بدون استثناء داعياً لتغيير تلك الصورة النمطية، وهذا بلا شك - وحتى إن لم
يتغير للأحسن - سينعكس على أمريكا بالخسران حينما تقوم الشعوب بالمقاطعة،
وهذا مطلب شعبي حيال تلك المواقف غير المسؤولة.
وفي نظرنا أن إصلاح تلك النظرة ليس بزيادة البث الإذاعي ولا حتى
التلفازي؛ بل بالموضوعية في الرأي واحترام المشاعر الإسلامية، وتقدير الكم
الهائل من العرب والمسلمين الذين دفعتهم الظروف للانتماء لذلك البلد، وبوقوف
أمريكا موقفاً محايداً على الأقل حيال التصرفات العدوانية للصهاينة الذين استبدوا
وأفسدوا وعربدوا بالحماية الأمريكية ليس إلا، وكذلك بالخروج من دائرة التناقض
حيث تدَّعي أمريكا الديمقراطية، وإيمانها بحق تقرير المصير للشعوب، وحماية
حقوق الإنسان، وهي بمواقفها تدوس على تلك القيم وتضرب بها عرض الحائط؛
فهل يعي الأمريكان تلك الحقائق، وهم أحرص الناس على مصالحهم، أم يضنون
بها؟ ثم ماذا يبقى من مصداقيتهم المزعومة؟(163/1)
الافتتاحية
«الخسار» الاستراتيجي! !
من الأمور النادرة أن تتفق كلمة الدول العربية على قضية ما؛ فهم برغم
عوامل الوحدة ونقاط الاتفاق التي تجمعهم، إلا أنهم أبعد الناس عن الاتفاق والتوافق،
لا على مستوى القضايا التي ترتبط بدول غير عربية، بل فيما بين الدول العربية
ذاتها.
ويتفق الجميع على أن هذه الظاهرة لا خلاف عليها، فلا التشريعات واحدة،
برغم أن دينهم واحد، وهو الإسلام، ولا المناهج التعليمية أو الثقافية واحدة رغم
وحدة اللغة، ولا الرؤى والتصورات السياسية متقاربة رغم وحدة المكان والمصير
المشترك! ! بل لقد تحولت الأمة العربية إلى كيانات متباينة خارج كيان «جامعة
الدول العربية» التي لم تستطع أن تجمع بينهم في أي قضية، وأصبح لكل كيان
منها أنظمته وسياساته المستقلة التي لا تتفق مع الكيان الآخر لا في أنظمته ولا
سياساته! !
رغم ذلك لم تكن حالة التوافق العربي حالكة السواد؛ بل إن هناك بارقة أمل
في أن يكون شيء ما يتم الاتفاق عليه، وقد اتفقوا عليه حقيقة، وتواصوا به؛ بل
لقد صار شعاراً ورمزاً على الاتفاق العربي! !
فقد اتفقت الدول العربية على أن «السلام» مع الكيان الصهيوني يمثل:
«الخيار الاستراتيجي» الذي لا حيدة عنه ولا يُرضى بغيره بديلاً؛ فهو الأكثر
أمناً وطمأنينة على الأراضي - غير الفلسطينية طبعاً - والأرواح والأموال
والمتاع.. والكراسي! !
وفي كل اجتماع أو مناسبة خطابية يُرفع ذلك الشعار «السلام هو خيارنا
الاستراتيجي» ، ولن ننجر إلى ساحات المعارك مرة أخرى مهما «جر الشكل»
شارون أو غيره. أُعلن ذلك الخيار في قمة عمان الأخيرة ولم يكن موقع انعقادها
يبعد إلا بضعة كيلو مترات عن المكان الذي تنتهك فيه الحرمات الفلسطينية كلها! !
كانت المسافة قريبة جداً بين المكانين لا تفصل بينهما بحار ولا قفار ولا فيافٍ حتى
يعتذر القوم بطول الشُّقة وقلة الزاد وضعف الراحلة! !
ولهذا لن نذكِّر القوم بالمعتصم ولا بصلاح الدين ولا بقُطُز ولا حتى بشهامة
العربي في الجاهلية الأولى؛ حيث إن التذكير بأولئك يكون «لمن كان له قلب» ،
أما وأن ذلك مفقود، فلا أمل في التذكير.
ما نراه اليوم من هذه الغطرسة اليهودية، والاستماتة العربية الذليلة على خيار
السلام مع معطياته البائسة ليذكرنا ببدايات الانتكاسات الرهيبة في التعامل مع اليهود
بالحجة ذاتها «الخيار الاستراتيجي» ؛ ففي الوقت الذي جرت فيه مفاوضات فض
الاشتباك في حرب عام 1973م، اشترطت رئيسة وزراء إسرائيل (جولدا مائير)
لوقف إطلاق النار ستة شروط نقلها كيسنجر إلى السادات، وهو غير متفائل بقبول
السادات شيئاً منها، وفوجئ كيسنجر بقبول السادات الشروط كاملة؛ لأنه يريد
السلام! ! عاد كيسنجر إلى مائير وأخبرها بقبول الشروط الستة، وعندها قالت
مائير: أما أنا فغير موافقة! !
الحالة اليوم هي هي منذ ما يزيد على ثلاثة عقود؛ فمن يومها إلى يومنا هذا
لم تخرج عن تلقي الضربات والصفعات الثقيلة بوجوه مبتسمة لعدسات الإعلام
الدولي، والعنتريات الكاذبة وتشدقات من أفواه يملؤها الهواء الملوث بكذب
الادعاءات، وكل المحرمات تستباح في الأبواب الخلفية و «تحت» طاولة
المفاوضات.
استنسر البغاث اليهودي، وتحولت مساعيه من الحفاظ على كيانه
المغصوب - من مجرد المحافظة - إلى وضع الشروط التي لا تقبل التفاوض،
حتى يسمح بالتفاوض ويقبل ببدء مباحثات السلام مع الجانب العربي، وتحول من
سعيه إلى طلب الاعتراف العربي به إلى أن أصبح الجهة التي يُسعى إلى رضاها
والسير في ركابها.
وحتى يحافظ العرب على خيارهم ووحدتهم واتفاقهم الوحيد تحولت
«العصابات اليهودية» إلى «الكيان الصهيوني» ثم اعترفوا بـ «الدولة
اليهودية» ، وبيعت الأرض مقابل «الخيار الاستراتيجي» ، وعقدت اتفاقيات
السلام، وأقيمت السفارات والقنصليات، ومن لم يفتح سفارة أقام مكتب «تمثيل»
تجاري، وحقيقة كم هو «تمثيل» ! ! ومن لم «يمثل» علانية، قام بالتدرب على
التمثيل خلف الكواليس حتى يتقن الدور جيداً ... وانساب اليهود يعبثون في أمتنا
المستباحة بحرية وأمان وبحماية السلاح العربي.. «المستورد» ! ! ، وانقلب
الحال، وصار من بين العرب من يسعى لإدخال الدولة الجديدة في المنطقة إلى جامعة
الدول العربية، حتى تستقر المنطقة، وذلك حين تطمئن إسرائيل على وجودها
عضواً في الجامعة؛ حيث لا يعتدي عضو فيها على آخر، وحيث لا مجال
وقتها للخوف اليهودي من إزالتها من الوجود؛ إذ كيف يقطع المرء جزءاً منه! !
كل ذلك حتى يعم السلام ويتحقق «الخيار الاستراتيجي» .
لقد جر هذا «الخيار» على أمتنا «الخسار» والذل والهوان، وبمراجعة
حسابات لا تحتاج إلى حسابات يتضح حجم الخسائر الفادحة على كافة المستويات،
الهوان والذل مستمر، التنازل الذليل مستمر، ضياع الأرض مستمر، انتهاك
الحرمات مستمر، تدفق الدماء مستمر، أما ما جاء دين الإسلام للمحافظة عليه من
حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل؛ فكل ذلك مهدر، كل ذلك إلى خسار،
ولا عجب في ذلك، حيث الخيار من البداية خسار! !
ثم تحولت السلطة الفلسطينية من كونها المدافعة عن الحقوق الفلسطينية،
وأنها «الممثل» الوحيد للشعب الفلسطيني، وحاملة راية الكفاح المسلح، والتي
تقف في وجه العدوان الصهيوني البشع والنازية الجديدة والإرهاب المتغطرس،
تحولت إلى إدانة نفسها في سعيها للمحافظة على «خسارهم» ، فما معنى أن
يصرح عرفات أنه أمر بوقف أعمال «العنف» وحل لجان «المقاومة» ؟ ! ماذا
يعني غير الاعتراف الصريح والموافقة على كل الاتهامات اليهودية للفلسطينيين من
أنهم أصحاب «عنف» ؟ وما معنى أن تتضمن المبادرة الأردنية المصرية في أحد
بنودها الرئيسة مطالبة الفلسطينيين بوقف «العنف» ؟ !
بل ماذا يعني تحذير إحدى «دول الجوار» التي كانت من «دول الصمود
والتصدي» لعرفات بإمكانية عودته إلى تونس إذا لم يوقف «العنف» ؟ !
أما على الصعيد الفلسطيني الداخلي وعن التنسيق الأمني والاجتماعات السرية
الداخلية منها والخارجية، في الدول العربية أو الأوروبية، برعاية أمريكية أو غير
أمريكية فحدث ولا حرج؛ حيث إن القوم ما سكتوا ولا تحرجوا من أفعال لا تدعو
إلا إلى الحرج.
اجتماعات أمنية وتنسيق أمني، وسط قصف الأحياء «السكنية» وعالم
«الأحياء» كله بالطائرات والصواريخ، في الوقت الذي يسعى فيه قومنا
إلى المحافظة على أمن اليهود، وفي الوقت الذي يسعى فيه اليهود إلى إبادتنا، كل
ذلك من أجل «الخيار الاستراتيجي» ضُرب الوفد «الأمني» بعد عودته من
محادثات «أمنية» برعاية أمريكية «أمينة» ؛ وذلك للتأكيد على أن الأمن
لليهود فقط.
تحول قومنا في سعيهم الحثيث في المحافظة على العهود والمواثيق وصدق
الكلمة العربية إلى محافظين على أمن وأمان الدولة اليهودية، بأن يُعطى لشارون
الفرصة حتى يصدق مع شعبه ويحقق شعاره الذي جاء به «الأمن» ، يُعطى
شارون الفرصة حتى نرى صدق الرجل، ولعله تغيّر بعد هذا العمر، تُعطى له
الفرصة حتى يفوتوا عليه فرصة الحرب.. يعطونه الفرصة حتى يضطر أمام هذا
الكرم للإعلان عن بدء مباحثات السلام وتحقيق الخيار.
يدرك شارون جيداً أن السلام «خسار» وليس «خياراً» لكن لفرط تفاؤل
القوم فقد غلَّبوا الجانب «الإيجابي» لأن فيه «ياء» الخيار، وتركوا الجانب
«السلبي» لأن فيه «سين» الخسار! !
وكما كان خيارهم مع اليهود واحداً، فقد كان كذلك مع الولايات المتحدة،
فكانت راعياً وحيداً للسلام.
ويستمر العجب حين يُسمعوننا كل يوم الاتهامات لأمريكا بالانحياز الأعمى
للجانب الإسرائيلي، وأن أمريكا ترى بعيون إسرائيلية، وأن الدعم السياسي
والمالي الذي تقدمه أمريكا لإسرائيل لا مثيل له.. إلى آخر هذه القائمة التي نعلمها.
وإن كان ذلك كذلك، فلماذا هذا الانجرار الأعمى وراء الراعي الأمريكي؟
ولماذا هذه الاستماتة لأجل أن يبقى راعياً؟ ولماذا كل هذا التوسل والرجاء لأجل أن
تعيد الولايات المتحدة النظر في سياستها الجديدة التي نأت بها عن العملية السلمية؟
ماذا يتوقع القوم بعد أن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو»
لرفض قرار مجلس الأمن الذي قضى بإرسال «قوة مراقبة لحماية الفلسطينيين»
أليس أولئك مسلمين كذلك مثلما تدخلت أمريكا بنفسها في الصومال، وفي البوسنة،
وفي كوسوفا، «لحماية المدنيين» أم أن المصالح الأمريكية هنا غير التي هناك،
أم الرضى اليهودي مطلب أمريكي أكثر إلحاحاً؟ !
وقد هددت الولايات المتحدة بعض الدول - مثل كولومبيا - على موافقتها في
مجلس الأمن على إرسال هذه القوة وتوعدتها بأنها سترى عواقب هذه الموافقة! !
لم يجلب الراعي الأمريكي لأمتنا إلا «الخسار» ؛ فمنذ «مبدأ أيزنهاور»
إلى «مبادرة روجرز» إلى «سياسة الخطوة خطوة» لكيسنجر مروراً بمبادرة
كارتر «كامب ديفيد الأولى» ، ووصولاً إلى كلينتون ومبادراته الكثيرة «وادي
عربة» و «أوسلو الأولى والثانية» و «كامب ديفيد الثانية» و «شرم الشيخ» ،
وكلها مسلسل واحد إلى الدركات العربية، والتنازلات الرهيبة التي ما حصلنا منها
على «الخيار الاستراتيجي» حتى الآن! !
أيها السادة: «خياركم» لم يكن فيه خير لأمتنا، «خياركم» خر بأمتنا إلى
مستنقع الهوان، «خياركم» خرب البلاد وحطم العباد، «خياركم» خاوٍ من أي
عقلانية أمام ما يُفعل بالمسلمين، «خياركم» خال من أي شرعية أو مصداقية.
وإن كان هذا «خياركم» فأخبرونا عن بلايين من أموال الأمة تدفع ثمناً
لآلات صماء خرساء لا تتحرك تسمونها سلاحاً وعتاداً! !
في ديننا أيها السادة «خيار استراتيجي» وحيد مع اليهود ... إنه الجهاد ...
والسلام! !(163/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
جهود علماء الدعوة السلفية بنجد
تجاه النوازل والأحداث
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
مقدمة:
التعامل مع النوازل والمستجدات يحتاج إلى رسوخ في العلم، وبصيرة بالأدلة
الشرعية، واستيعاب لمقاصد الشريعة وقواعد المصالح والمفاسد، كما يحتاج إلى
توصيف صحيح، وفقه دقيق لتلك الواقعة، ليتسنى تنزيل الحكم الشرعي الملائم
لتلك النازلة.
ولم يكن علماء نجد بعيدين عن قضايا واقعهم ومستجدات عصرهم، بل كان
لهم تأثير بارز ودور رئيس في حل النوازل والحوادث، فكانوا أصحاب المواقف
الشجاعة إزاء تلك القضايا، وأرباب القرار الصحيح تجاه النوازل والمستجدات؛
ولا غرو في ذلك؛ فقد أنعم الله - تعالى - عليهم بالفقه في دين الله، وفهم تلك
الوقائع والأحداث، ونعرض جملة من تلك الجهود في هذا المقام:
1 - لما هجمت جيوش إبراهيم باشا على نجد في أواخر الدولة السعودية
الأولى وقصدوا استئصال الدعوة السلفية وأتباعها، ساعدهم جماعة من أهل نجد من
البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم وانتصارهم، فعندئذ ألَّف الشيخ سليمان بن
عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رسالته القيّمة: «الدلائل في حكم موالاة
أهل الإشراك» [1] .
ففي هذه الأوضاع المضطربة والفتن المتقلبة يبرز دور العلماء الربانيين،
العالمين بالله - تعالى - وبأمره؛ فقد صنف الشيخ سليمان رسالته في زمن فتنة،
وفي أحوال مشوبة بالخوف والهلع من جيوش إبراهيم باشا، ولا يخفى ما يؤول
إليه حال بعض الخاصة فضلاً عن العامة زمن الفتن والهلع من الذهول والحيرة
والانتكاس. وصنَّف الشيخ سليمان هذه الرسالة في وقت زاغت فيه قلوب،
وانساقت إلى مظاهرة المشركين وموافقتهم، فقرر الشيخ وبالأدلة الكثيرة أن مَنْ
ظاهَرَ الكفار وتولاهم فهو منهم، كما قد وقع فيه أولئك الخونة، يقول الشيخ سليمان
بن عبد الله في هذه الرسالة:
«الدليل السادس عشر [2] : قوله - تعالى -: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ
عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ
الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] (الحج: 11) . فهذه الآية مطابقة
لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة يعبدون
الله على حرف، أي على طرف، ليسوا ممّن يعبُد الله على يقين وثبات، فلما
أصابتهم هذه الفتنة، انقلبوا عن دينهم وأظهروا موافقة المشركين، وأعطوهم
الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين.
هذا مع أن كثيراً منهم في عافية، ما أتاهم عدو، وإنما ساء ظنهم بالله فظنوا
أنه يديل [3] الباطل وأهله على الحق وأهله، فأرداهم سوء ظنهم بالله [4] » .
2 - ويعيد التاريخ نفسه؛ حيث هجمت العساكر التركية على بلاد نجد -
سنة 1253 هـ - وساعدهم من ساعدهم حتى استولوا على كثير من نجد، فصنّف
الشيخ حمد بن عتيق - رحمه الله - رسالة قوية سماها: «سبيل النجاة والفكاك من
موالاة المرتدين وأهل الإشراك» [5] .
فكانت هذه الرسالة سبباً في تحقيق عقيدة الولاء والبراء واستقرارها بعدما
كادت عواصف الفتن أن تزحزحها.
ونقتطف من تلك الرسالة السطور الآتية:
«أخبر - تعالى - أن الذين في قلوبهم مرض أي شك في الدين وشبهة
يسارعون في الكفر قائلين: [نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] (المائدة: 52) ، أي:
إذا أنكرت عليهم موالاة الكافرين قالوا: نخشى أن تكون الدولة لهم في المستقبل،
فيتسلطوا علينا، فيأخذوا أموالنا ويشردونا من بلداننا، وهذا هو ظن السوء بالله
الذي قال الله فيه: [الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (الفتح: 6) » [6] .
3 - وفي سنة 1265هـ وقعت معركة «اليتيمة» بين جيوش فيصل بن
تركي وبين أهل القصيم بقيادة أمير بريدة عبد العزيز بن محمد آل أبي عليان،
واشتد القتال بين الفريقين، وانهزم أهل القصيم وقتل الكثير منهم، وفرّ أميرهم إلى
عنيزة، ولم يدرِ ما يفعل. فأتى إليه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين [7]-
وكان قاضي بلدان القصيم - فقال له: يا هذا اتق الله، واربأ بنفسك؛ فإن البلاد
ليست لك ولا بيدك، وأمرها بيد أهلها، وليس لك فيها أمر ولا نهي، وهم يريدون
إصلاح أنفسهم مع الإمام فيصل، فإن أردت أن تكون كذلك فافعل.
ثم إن رؤساء بلد عنيزة أتوا إلى الشيخ عبد الله أبي بطين وقالوا: إن هذه
الأمور التي منا وقعت، والحوادث التي منا صدرت لا يصلحها إلا أنت، ولا يزيل
غضب الإمام فيصل غيرك.
فقال لهم: إنكم تعلمون أني لست من أهل بلدكم ولا من عشيرتكم، ولا يحسن
مني الدخول في هذا الشأن الذي أوله إلى آخره من تسويل الشيطان؛ فأعفوني
ودعوني، وأرسِلوا في هذا الأمر غيري.
فقالوا: إن هذا الأمر تعيّن عليك والصلح لا يصلح إلا على يديك، فركب
الشيخ عبد الله إلى الإمام فيصل - وهو في بلد المذنب - فأكرمه وأجابه إلى كل ما
طلب من العفو والصفح عنهم، وأعطاهم الأمان [8] .
4 - لما توفي فيصل بن تركي سنة 1282هـ، وتولى الحكم من بعده ابنه
عبد الله، حصل شقاق واختلاف بين عبد الله وأخيه سعود، فوقعت حروب طاحنة،
وفتن متلاطمة بين عبد الله، وأخيه سعود.
وكان للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن - رحمهم الله - دور
ظاهر في الإصلاح، وجمع الكلمة وحفظ الدماء، ودرء الفتنة، ودفع الشر والفساد
بحسب الطاقة.
لقد أوتي الشيخ عبد اللطيف قوة وبصيرة، وحكمة وعلماً، ونصحاً وإشفاقاً
على الراعي والرعية.
وقد سطّر الشيخ عبد اللطيف رسائل كثيرة [9]- أثناء تلك الفتنة الطويلة [10]
تضمنت عرضاً شاملاً، وتحليلاً وافياً لتلك الأحداث الجسام، وموقفه من تلك
النوازل.
ونختار إحدى هذه الرسائل:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين: زيد بن محمد،
وصالح بن محمد الشثري [11] ، سلمهما الله - تعالى -.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل أوصلكم
الله إلى ما يرضيه، وما ذكرتموه كان معلومًا، وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد
قدوم عبد الله [12] وغزوه من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في
أمرنا والمراء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع من
ذكر تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض
ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انتهكت وهتكت في ذات الله أعدُّها
لديه - جل وعلا - ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها، والقصد بيان ما أشكل
على الخواص والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك
مفارقة سعود لجماعة المسلمين وخروجه على أخيه، وقد صدر منا الرد عليه
وتسفيه رأيه ونصيحة ولد عائض [13] وأمثاله من الرؤساء عن متابعته والإصغاء
إليه ونصرته، وذكرناه بما ورد من الآثار النبوية والآيات القرآنية بتحريم ما فعل
والتغليظ على من نصره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة [14] ، فثل
عرش الولاية وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله
شاردًا وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه وصيته بالاعتصام بالله وطلب النصر
منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة [15] .
ثم قدم علينا سعود بمن معه من العجمان والدواسر وأهل الفرع وأهل الحريق
وأهل الأفلاج وأهل الوادي ونحن في قلة وضعف وليس في بلدنا [16] من يبلغ
الأربعين مقاتلاً، فخرجت إليه وبذلت جهدي، ودافعت عن المسلمين ما استطعت
خشية استباحة البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القرى من يحثه على ذلك ويتفوه
بتكفير بعض رؤساء أهل بلدتنا، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد
صلح وعقد، وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع [17] ، وليس الكلام
بصدده وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده، وصارت له ولاية بالغلبة والقهر تنفذ
بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادم
الأعصار ومر الدهور، وما قيل من تكفيره لم يثبت لديّ، فسرت على آثار أهل
العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف وترك الفتنة وما توجب من الفساد على
الدين والدنيا، والله يعلم أني بار راشد في ذلك، ومن أشكل عليه شيء من ذلك
فليراجع كتب الإجماع كمصنف ابن حزم ومصنف ابن هبيرة وما ذكره الحنابلة
وغيرهم، وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى تحصيل وممارسة، وقد قيل:
سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم.
وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له كما تقدم أشد النصح، وبعد مجيئه لما
أخرج شيعة عبد الله سعودًا وقدم من الإحساء ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله
وحقه، وإيثار مرضاته والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك
والكفر البواح، وأظهر التوبة والندم، وأضمحل أمر سعود وصار مع شرذمة من
البادية حول المرة والعجمان، وصار لعبد الله غلبة ثبتت بها ولايته على ما قرره
الحنابلة وغيرهم كما تقدم أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة.
ثم ابتلينا بسعود وقدم إلينا مرة ثانية، وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد
الله وجنوده، ومر بالبلدة منهزمًا لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعجلت
إلى سعود كتاباً في طلب الأمان لأهل البلدة وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي
مدافعة الأعراب مع شرذمة قليلة من أهل البلدة ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل
البلدة وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود والحكم يدور مع علته،
وأما بعد وفاة سعود [18] فقدم الغزاة ومن معهم من الأعراب العتاة والحضر الطغاة،
فخشينا الاختلاف وسفك الدماء وقطعية الأرحام بين حمولة آل مقرن [19] مع غيبة
عبد الله وتعذر مبايعته بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله أفيحسن أن
يترك المسلمون وضعفاؤهم نهباً وسبياً للأعراب والفجار؟ وقد تحدثوا بنهب
الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو أشر من عبد الرحمن وأطغى ولا يمكن
ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أنى وأمثالي أستطيع دفع ذلك مع ضعفي وعدم
سلطاني وناصري فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلاً وتصوراً، ومن عرف قواعد
الدين وأصول الفقه وما يتطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد لم يُشكِل عليه
شيء من هذا، وليس الخطاب مع الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر
القضاة والمفاتي والمتصدرين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت
بيعته وانعقدت وصار من ينتظر غائبًا لا تحصل به المصالح فيه شبه ممن يقول
بوجوب طاعة المنتظر وأنه لا إمامة إلا به.
ثم إن حمولة آل سعود صارت بينهم شحناء وعداوة والكل يرى له الأولوية
بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا وخرج ابن
جلوي من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في
الصلح وترك الولاية لأخيه عبد الله، فلم آلُ جهدًا في تحصيل ذلك والمشورة عليه
مع أني قد أكثرت في ذلك حين ولايته ن ولكن رأيته ضعيف العزم لا يستبد برأيه،
فيسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام أنه وافق على تقديم عبد الله وعزل نفسه
بشروط اشترطها بعضها غير سائغ شرعًا، فلما نزل الإمام عبد الله ساحتنا اجتهدت
إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه، ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه وأهل
البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام
عليه وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي ومن معهم من المنافقين يستأذنونه في نهب
تخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس، ومن عامل الله ما فقد شيئاً،
ومن ضيع الله ما وجد شيئاً، ومن ضيع الله ما وجد شيئاً، ولكنه بعد ذلك أظهر
الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا، وبئس مطية الرجل زعموا،
وتحقق عندي دعواه التوبة وأظهر لدي الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على
كتاب الله وسنة رسوله.
هذا مختصر القضية، ولولا أنكلم من طلبة العلم والممارسين الذين يكتفون
بالإشارة وأصول المسائل لكتبت رسالة مبسوطة ونقلت من نصوص أهل العلم
وإجماعهم ما يكشف الغمة ويزيل اللبس، ومن بقى عليه إشكال فليرشدنا رحمه الله،
ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا أو يخالفه وصارت المذاكرة لانكشف
الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة من كان عنده
علم، واغتر الجاهل ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية وتكلم بغير علم،
ووقع اللبس والخلط والمراء والاعتداء في دماء المسلمين وأعراضهم، وهذا بسبب
سكوت الفقيه وعدم البحث، واستغناء الجاهل بجهله واستقلاله بنفسه، وبالجملة
فهذا الذي نعتقد وندين الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم المعتدي حِسابنا
وحسابه إلى الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر يوم
يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور.
وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة مما نسب في حقي إليكم فالأمر سهل
والجروح جبار، ولا حرج ولا عار، وأوصيكم بالصدق مع الله واستدراك ما
فرطتهم فيه من الغلظة على المنافقين الذين فتحوا للشرك كل باب، وركن إليهم كل
منافق كذاب، وتأمل قوله بعد نهية عن موالاة الكافرين: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] (آل عمران: 30) [20] .
يظهر من إيراد هذه الرسالة ما كان عليه العلامة عبد اللطيف من رسوخ في
العلم الشرعي، وفهم للوقائع وتحقيق مناطها؛ حيث بيّن - زمن الفتنة العمياء -
مشروعية ولاية المتغلب وأن الإمامة تثبت بالغلبة والقهر، لذا أمضى ولاية سعود
بن فيصل، ثم أمضى ولاية عبد الله بن فيصل - بعد تغلبهما -.
كما نلحظ انهماك الشيخ عبد اللطيف بالإصلاح ودرء الفساد ما استطاع إلى
ذلك سبيلا، فكان يباشر بنفسه مدافعة المفسدين مع ضعفه وقلة حيلته، وكثرة
المحن والأخطار.
ويتجلى فقهه للمصالح والمفاسد وتقديرها (فسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم)
فإن ثوبت ولاية المتغلب الظالم أحسن حالا من الفتنة. كما نلمس ما عليه الشيخ
عبد اللطيف من الوصية بالصدق مع الله والتذكير بالبعث والنشور، (يوم يبعثر ما
في القبور ويحصل ما في الصدور) فإن خير ما يعصم العبد من الفتن هو اللجوء
إلى الله - تعالى - والاستعداد للقائه.
5 - وفي سنة 1308هـ انهزم أهل القصيم أمام محمد بن رشيد في واقعة
المليداء، وقتل منهم ألف رجل، ولما ظفر ابن رشيد ذلك الظفر انتقل من معسكره،
ونزل بالقرب من بريدة، وكان قد غضب على أهل القصيم وحلف بالطلاق أن
يبيحها، وهابه أهل القصيم مهابة شديدة، فجعلوا يتوقعون ماذا يحله بهم من
العقوبات، فخرج إليه الشيخ العلاَّمة محمد بن عبد الله بن سليم [21]- رحمه الله -
وذكَّره بآيات العفو، وحضَّه على المسامحة والصفح، وقال له: يا ابن رشيد!
اذكر قدرة الله عليك، واعلم أنه من فوق الجميع، فبكى محمد بن رشيد وقام مستوياً
على قدميه يقول: اللهم إني قد عفوت، يشير بيده إلى بريدة ويكررها، ثم جلس
وقد سكن غيظه، وانكسرت حدته، فأكرم الشيخ وسأله عن يمينه بالطلاق فأفتاه
الشيخ [22] .
6 - وفي عصرنا الحاضر عصفت رياح التغريب ببلاد المسلمين، فظهر
تيار جارف من الأفكار المستوردة، وكمٌّ هائل من النوازل والمستجدات، ولقد كانت
القوانين الوضعية بمختلف صورها وأنواعها من أشنعها جرماً وإثماً، وأخطرها
ضرراً.
وقد تصدى علماء نجد لتك القوانين، فكتب بعضهم [23] لولي الأمر - آنذاك -
نصيحة جاء فيها:
(ثم آلت بك الحال - هداك الله - وأخذ بناصيتك إلى الوقوع في أمور كثيرة
هي من أسباب زوال تلك النعمة، ومن موجبات التغيير وحلول النقمة،: [إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) , منها إلزام الناس أن
يظلم بعضهم بعضاً، وأن ترفض الطريقة النبوية الجارية في أسواق المسلمين
وبياعاتهم، وأن يقام فيها القانون المضارع لقوانين الكفار الجارية في أسواقهم؛
فإن لله وإنا إليه راجعون، ولك هو إلزامكم بحجر الناس على مقدار
من السعر في الصرف لا يزيد ولا ينقص، وهذا من أعظم الفساد في
الأرض والتعاون على الإثم والعدوان، وأكل الناس بعضهم أموال بعض
بالباطل) [24] .
وحذر الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - من التحاكم إلى الطواغيت،
فكان مما قاله: «إن كثيراً من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون
إلى عادات آبائهم، ويسمون ذلك الحق بشرع الرفاقة كقولهم: شرع عجمان،
وشرع قحطان، وغير ذلك، وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر الله باجتنابه.
فمن فعله فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه
في قليل ولا كثير» [25] .
وأما الشيخ العلاَّمة محمد بن إبراهيم - رحمه الله - فقد كان بصيراً بخطر
تلك المؤسسات الوضعية، ومن ثم اتخذ موقفاً حازماً تجاه أي هيئة أو مؤسسة ذات
حكم وضعي [26] .
وألَّف رسالة عظيمة بعنوان: «تحكيم القوانين» قرر فيها - بالأدلة
الشرعية - وجوب إفراد الله تعالى بالحكم، وذكر الحالات التي يكون فيها الحكم
بغير ما أنزل الله - تعالى - كفراً أكبر أو كفراً أصغر.
وكتب الشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمه الله - مؤلفاً في ثلاثة أجزاء
بعنوان: «الحق أحق أن يتبع» في الرد على القوانين الوضعية [27] .
7 - وأما العلاَّمة عبد الرحمن الناصر السعدي (ت 1376هـ) فهو أبرز
علماء نجد في علاج القضايا والنوازل، حيث كان أنموذجاً متميزاً في هذا الباب،
فكان مدركاً لمستجدات عصره ومتغيراته، ويتجلى ذلك فيما يلي:
أ - مناداته بأهمية التعرف على السياسة الدولية ومقاصدها؛ حيث يقول:
«قد عُلِمَ من قواعد الدين أنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الوسائل
لها أحكام المقاصد، ولا يخفى أنه لا يتم التحرز من أضرار الأمم الأجنبية
والتوقي لشرورها إلا بالوقوف على مقاصدهم ودرس أحوالهم وسياساتهم،
وخصوصاً السياسة الموجهة منهم للمسلمين؛ فإن السياسة الدولية قد أسست على
المكر والخداع وعدم الوفاء، واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد؛ فجهل
المسلمين بها نقص كبير وضرر خطير، ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها
التي ترمي إليه نفعه عظيم، وفيه دفع للشر أو تخفيفه، وبه يعرف المسلمون كيف
يقاتلون كل خطر» [28] .
ب - وكتب العلامة السعدي رسالة رائعة إلى الشيخ محمد رشيد رضا سنة
1346هـ[29] يقترح عليه أن تُعنى مجلة المنار بالردّ على الملاحدة والزنادقة.
ويظهر من خلال هذه الرسالة ما كان عليه السعدي من سعة الاطلاع، وبُعد
الأفق، ورحابة الصدر؛ حيث طالع مجلة المنار، وأثنى عليها خيراً، وأبدى شيئاً
من مآثرها في نصرة الإسلام والمسلمين، مع أن المجلة تكاد تكون مفقودة في نجد
آنذاك، بدليل أن محمد رشيد رضا - في جوابه على رسالة السعدي - يقول:
«كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطَّلع علماء نجد على المنار، ويفتح بيني
وبينهم البحث والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقداً لينجلي وجه الصواب
فيها، وقد كنت كتبت إلى إمامهم [30] بذلك، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من
كل جزء ليوزعها على أشهرهم، وفعلت ذلك عدة سنين، ولكن لم يأتني منه
جواب، ثم ترجَّح عندي أن تلك النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سنيّ
الحرب وما بعدها» ، بل إن الشيخ السعدي كما في هذه الرسالة قد طالع تفسير
«الجواهر في تفسير القرآن» لطنطاوي جوهري، وكشف عن مزالقه، مع
أن السعودية قد منعت هذا الكتاب ولم تسمح بدخوله إلى بلادها؛ لما تضمنه من
انحرافات [31] .
كما ألمح السعدي إلى ما نسب إلى مجلة المنار من تأويلات فاسدة فقال بكل
تؤدة وأدب: «وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك، وإلى
الآن ما تيسر لي مطالعته، ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل [هذه] الأمور
إلا [من] وجه الردّ لها والإبطال، كما هي عادتكم في ردّ ما هو دونها بكثير» .
ج - ومن جهود العلامة السعدي في علاج النوازل الحادثة أنه حرر مسألة
«زراعة الأعضاء» تحريراً بليغاً [32] ، فكان مما قاله في مطلع هذه المسألة:
«جميع المسائل التي تحدث في كل وقت سواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب
أن تُتَصور قبل كل شيء؛ فإذا عُرِفت حقيقتها وشُخِّصت صفاتها، وتصورها
الإنسان تصوراً تاماً بذاتها ومقدماتها ونتائجها، طُبِّقت على نصوص الشرع وأصوله
الكلية؛ فإن الشرع يحل جميع المشكلات، مشكلات الجماعات والأفراد» .
وأخيراً: فإن جهود هؤلاء الأعلام تجاه النوازل كثيرة سواء كانت جهوداً
علمية أو عملية، ولعل هذه الأمثلة المذكورة تكون حافزاً لطلاب العلم وأهله في
السعي إلى بيان المسلك الشرعي تجاه المستجدات؛ فما أكثر الأحداث والنوازل في
هذا العصر التي لم تحرر علماً وتحقيقاً، وما أكثر المستجدات التي تحتاج إلى
مواقف عملية واضحة؛ فالتنصل والانزواء ليس حلاً ولا تبرأ به الذمة، والله
المستعان.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الرياض.
(1) انظر الدرر السنية، 7/310.
(2) من الأدلة الشرعية على تحريم موالاة الكفار.
(3) من الإدالة وهي الغلبة.
(4) الدلائل، ص 47، 48، باختصار.
(5) الدرر السنية، 7/310.
(6) سبيل النجاة والفكاك، ص 17، 18.
(7) ولد الشيخ أبو بطين في روضة سدير سنة 1194هـ، ودرس على كبار علماء نجد، وجلس للتدريس، تولى القضاء في عدة مناطق، ولقب بمفتي الديار النجدية، له مؤلفات توفي في شقراء سنة 1282هـ، انظر: مشاهير علماء نجد، ص 235، وعلماء نجد، 2/567.
(8) انظر تفصيل ذلك في عنوان المجد، 2/262 269، وتذكرة أولي النهى والعرفان، 1/126، 127.
(9) انظر الدرر السنية: 7/183، 245، 247، 250.
(10) عاش الشيخ عبد اللطيف إحدى عشرة سنة بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي.
(11) الشيخ زيد بن محمد آل سليمان والشيخ صالح بن محمد الشثري من تلاميذ الشيخ عبد اللطيف، وكانا في الحريق جنوب الرياض، انظر: ترجمة للشيخ صالح الشتري في كتاب: إتحاف اللبيب في سيرة الشيخ عبد العزيز أبو حبيب، ص 49.
(12) عبد الله بن فيصل بن تركي.
(13) يقصد: محمد بن عائض رئيس قبائل عسير وأميرًا بها.
(14) كانت وقعة (جودة) بين عبد الله بن فيصل وأخيه سعود، عام 1287هـ، قد هزمت جيوش عبد الله بن فيصل، وقتل الكثير من رجاله، وسجن أخوه وقائد جيشه محمد بن فيصل في القطيف.
(15) الدولة التركية.
(16) الرياض.
(17) دخل سعود الرياض دون مقاومة، واستولى عليها، ونهبت جنوده الرياض، وعاثت فيها فساداً.
(18) توفي سعود سنة 1291هـ.
(19) آل مقرن هم آل سعود.
(20) الدرر السنية، 7 / 252 - 253.
(21) ولد الشيخ محمد بن سليم في بريدة عام 1240هـ، وطلب العلم على كبار علماء نجد، وجلس للتدريس وتولى القضاء، وكان صاحب وقار وسمت، توفي في بريدة عام 1323هـ , انظر: علماء آل سليم، 1/20، وعلماء نجد، 3/872.
(22) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/286، وعلماء آل سليم، 1/19.
(23) كتب هذه الرسالة مجموعة من علماء آل الشيخ وهم: محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف،
ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الله بن عبد اللطيف - رحمهم الله -.
(24) الدرر السنية، 7/ 386.
(25) الدرر السنية، 8/272، 273، باختصار.
(26) انظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، 12/250، 252، 254، 255، 264، 265، 267، 268، 269، 270، 468.
(27) انظر: موقف الشيخ الدوسري من القوانين الوضعية ودفاعه عن الشريعة في رسالة (حياة الداعية الدوسري) ، للطيار رسالة ماجستير غير مطبوعة، ص 326 - 329.
(28) رسالة وجوب التعاون بين المسلمين، ص 13.
(29) مجلة المنار، مجلد 29، ج2، ص 47.
(30) الملك عبد العزيز آل سعود.
(31) انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، لفهد الرومي، 2/638 678.
(32) انظر: الفتاوى السعدية , ص190 , ومجموع الفوائد للسعدي، ص89 -97.(163/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإصلاح التشريعي في مصر
من التأصيل المتعثر إلى الجموح العلماني ثم عودة
التأصيل نماذج النجاح والإخفاق
(3)
عبد العزيز بن محمد القاسم [*]
azalgasem@hotmail.com
استقرت الشريعة الإسلامية مرجعاً للقضاء في مصر منذ الفتح الإسلامي،
وكان أول انحراف منظم قد جاء مع تحكيم المماليك لبعض قوانين التتار [1] ، ومن
التحولات المهمة في تاريخ التشريع في مصر تعيين الظاهر بيبرس لأربعة قضاة
يمثلون المذاهب الأربعة [2] ، وقد أسهم ذلك في تشتيت القضاء، واستمر ذلك إلى
سنة 1516م حين حكم العثمانيون مصر، فعينوا قاضياً عثمانياً يشرف على القضاة
الأربعة [3] ، ثم صدر في عهد سليمان القانوني تنظيم قضاء الولايات العثمانية تحت
قضاة العسكر الذين يعينون نوابهم في الولايات على مذاهب أهلها، ثم صار القضاة
يُنصَّبون بإرادة سلطانية بعد انتخابهم من شيخ الإسلام بما فيهم قاضي مصر الذي
ينصِّب قضاة مصر [4] .
وفي آخر ولاية محمد علي صدرت إرادة سلطانية بتخصيص الفتوى والقضاء
بمذهب أبي حنيفة [5] ، ولما احتل نابليون مصر سنة 1797م وخرج لغزو الشام
خرج قاضي القضاة في مصر وانضم إلى أمير الحج في مقاومته للاحتلال الفرنسي،
فأمر نابليون بقطع صلة القضاء المصري عن الخلافة العثمانية، وطلب من
أعضاء الديوان والعلماء اختيار عالم شرعي يتولى القضاء، فاختاروا الشيخ أحمد
العريشي سنة 1214هـ/1799م، وكان الديوان عبارة عن محكمة ويتكون من اثني
عشر تاجراً نصفهم من الأقباط والباقي من المسلمين، وقاضيه الكبير قبطي ينظر
الديوان في أمور التجارة والمواريث والدعاوى، لكن هذا الديوان أخفق في مهامه،
فأعيدت ولايته إلى القاضي الشرعي، وكان مما قرره نابليون أنه: «سوف تكلف
القوة العامة بتطبيق القانون؛ لكنها سوف تكون تابعة على نحو صارم لقرارات
القضاة الشرعيين» [6] .
وبعد هزيمة الفرنسيين على يد القوات العثمانية والبريطانية في معركة أبي
قير وانسحابهم تولى محمد علي بعد اضطرابات شعبية انتهت باختياره وتوليته،
فمضى يعزز حكمه، وقد نصَّ الفرمان العثماني الصادر سنة 1841م الذي جعل له
ولاية مصر ولورثته على وجوب تطبيق القوانين والإجراءات الإدارية العثمانية
بمصر، ثم عدل ليكون التطبيق بما يتناسب مع أوضاع مصر، وقد صدرت سلسلة
من التعديلات على نظام الملكية والضريبة الفلاحية منذ بداية فترة محمد علي بما
فيها ملحق جنائي لقانون الفلاحة الصادر سنة 1830م، ويتضمن بعض المخالفات
الشرعية فيما يتعلق بالسرقة، وفي سنة 1839م صدر قانون السياسة الملكية
المتعلق بعقوبات موظفي الدولة.
وكان أكثر قوانين محمد علي ابتعاداً عن الشريعة القانون الصادر سنة 1844م
المسمى: (جمعية حقانية) ، وفي سنة 1845م أنشئت بالقاهرة والإسكندرية
محاكم خاصة للفصل في القضايا التجارية بين المصريين والأجانب، وفي سنة
1856م طبق في تلك المحاكم قانون التجارة العثماني المقتبس من القانون الفرنسي،
وفي سنة 1861م وسع سعيد باشا القضاء المختلط، فأسَّس مجلساً مدنياً مختلطاً
يضم سبعة أعضاء يرأسهم مصري ومعهم أجنبي وأرمني ويهودي، ويحضر
مندوب من القنصلية الأجنبية عند رغبته، واستفحل أمر القضاء المختلط حتى
بلغت الدول التي تطبق قوانينها في القضاء المصري المختلط 17دولة، ولم يكن
عدد رعايا تلك الدول مجتمعة يتجاوز ثمانين ألفاً. وتشمل القوانين المطبقة في
القضاء المختلط أنواع القوانين المحلية للدول الأجنبية، ويتحصل من ذلك كمية
هائلة من القوانين واجبة التطبيق؛ فكانت الفوضى قد بلغت منتهاها بهذا التنظيم،
كما كان الأجانب في المجال الجنائي في حصانة تامة أمام المحاكم المختلطة [7] ،
وكانت الشرطة لا تملك حق تفتيش منازل الأجانب مما أعطاهم نفوذاً كبيراً في
المجتمع، وأراد والي مصر إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي المتوفى سنة
1312هـ/ 1895م بمشورة من وزير خارجيته نور باشا أن يصلح تلك الفوضى،
فأسس المحاكم المختلطة سنة 1875م بعد أخذ موافقة خمس عشرة دولة أجنبية
لتتولى سلطة المحاكم القنصلية، وكان غالب قضاة المحاكم المختلطة أجانب، ففتح
الباب لتغلغل النفوذ الأجنبي في سلطتي القضاء والتشريع، فكان مشروعه إصلاحاً
عكسياً تدهورت معه مؤسسات القضاء والتشريع المحلية وخضعت للتغريب
الشامل [8] ، فطبقت تلك المحاكم القانون المدني الذي وضعه المحامي الفرنسي
مونوري مستنسخاً باللغة الفرنسية من القانون المدني الفرنسي استنساخاً
مخلاً [9] .
وفي سنة 1880م تألفت لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية على غرار
المحاكم المختلطة، ومن بين أعضاء اللجنة محام إيطالي وهو قاض في محكمة
الإسكندرية المختلطة، وقامت اللجنة بوضع لائحة لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة
صدرت سنة 1881م، وقامت اللجنة نفسها بوضع قوانين هذه المحاكم، فصيغت
على مثال القوانين المختلطة، ووضع (موريوندو) التقنين المدني الوطني
المصري، فنقله نقلاً شبه حرفي من القانون المدني المختلط، فصدر في سنة
1883م باللغة الفرنسية، ثم ترجم إلى العربية، ثم تتابعت القوانين في الصدور،
ولم يكن باعث إصدارها على النماذج الغربية هو الحاجة التحديثية بقدر ما كان
ناشئاً عن ضغوط أوروبية؛ ففي التقنينات الجديدة من العيوب والخلل والارتجال ما
يُجزَم معه بعدم منافستها للمدوَّنات الفقهية المقننة وعلى رأسها (مرشد الحيران)
الذي طبعته الدولة سنة 1890م [10] ، وقد كان بديلاً لمجلة الأحكام العثمانية التي
رفض الخديوي إسماعيل تطبيقها لما يوحي به ذلك من هيمنة الدولة العثمانية
عليه [11] .
ولننظر نموذجاً يبين ضعف الاستنساخ؛ فهذا أكبر القوانين التي وضعت وهو
القانون المدني الصادر سنة 1883م الذي يعتبر عمود التشريعات لاحتوائه على
تنظيم الالتزامات والعقود، وكبرى النظريات، فقد تضمن من الخلل ما يخل
بجوهر وظيفته. يقول السنهوري رغم تأييده لتحديث التقنين: «وأول ما يعيب
هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسي العتيق، فجمع بين عيوب التقليد
وعيوب الأصل الذي قلده؛ فهناك مسائل ذات خطر كبير.. ولا نجد لها أثراً في
التقنين الفرنسي.. فمبدأ التعسف في استعمال الحق ونظرية الاستغلال.. وحوالة
الدَّيْن والإعسار المدني كل هذه المسائل الخطيرة لا نعثر على نص واحد فيها لا في
التقنين الأصيل ولا في التقنين المقلد، وحتى فيما احتواه هذان التقنينان من
النظريات والأحكام منها فقد ورد ناقصاً مبتوراً.. ففي تقنيننا القديم فضول
واقتضاب، وفيه غموض وتناقض، ثم هو يقع في كثير من الأخطاء
الفاحشة..» [12] .
وأثناء الاحتلال البريطاني حاول البريطانيون توطين المفاهيم القانونية
البريطانية في النظام التشريعي المصري؛ فعين البريطانيون مفتشاً عاماً للرقابة
يدعى: (ماكسويل) ، ومديراً عاماً للإصلاح يدعى: (كليفورد لويد) وحاولا:
«ما بوسعهما لمراعاة المفاهيم القانونية البريطانية الأساسية في القوانين الجديدة،
فقاومهما وزير الحقانية آنذاك نوبار باشا، ثم حققوا نجاحاً جزئيا عندما فرضوا
مستشاراً بريطانياً لوزير العدل المصري سنة 1888م،:» وكانت هذه طريقة
البريطانيين في التأثير التدريجي غير الراديكالي حتى لا يثيروا اعتراضات
قوية « [13] ، وحين حاول البريطانيون إحداث تغيير كبير فيما عرف بمشروع
قانون» إصلاح الأخطاء والشواذ «كما سمَّاها (وليم برونيات) مستشار وزير
العدل قاومه المحامون ورجال القضاء بقوة فسقط، ونقل لتطبيقه في
العراق وطبق فيه [14] ، وكان ذلك آخر مراحل التغريب التشريعي
تقدماً وجذرية.
ثم بدأت موجة العودة للشريعة الإسلامية تدريجياً، وكان أول خطواتها صدور
القانون المدني الجديد سنة 1948م الذي صحح جوانب من الانحرافات السابقة، ولا
زالت المسيرة في تقدم على مستوى التأصيل والدراسة وفي جوانب من التطبيق،
لكن طريق العودة طويل وخاصة في جوانبه السياسية كما سيأتي.
ويتبادر إلى الذهن تساؤلات كبيرة عن تفسير حدوث هذه التغيرات الشاملة في
مدة متقاربة، وما الباعث إليها؟ وأين المؤسسات العريقة في مصر؟ أين الأزهر
والقضاء الشرعي؟ وأين الزعماء الوطنيون؟ وهل حدثت مقاومة لهذا التغريب
الهش المقفر من وجوه عديدة؟ وأين البدائل الشرعية؟ أليست الأمة الإسلامية رائدة
الحضارة الفقهية؟ والسؤال الأخير: ما تفسير استقبال أوروبا والعالم لثورة تنظيم
القوانين، والتحول من النظام العرفي ونظام السوابق إلى نظام التقنين؟
سأبدأ بالسؤال الأخير فأمهد به لمناقشة هذه القضايا.
ثورة التقنين في العالم وعلاقتها بحملة نابليون على مصر:
إن دراسة الظروف التي اقتحمت فيها القوانين الوضعية مجتمعاتنا واستخلاص
القدر المشترك بينها وبين واقعنا اليوم يقدم الأساس المتين لفهم التحولات وأسبابها
وخطوات ملء المنخفضات ومواقع الطلب التطبيقي التي تتسلل إليها النظم الحديثة
دون تصحيح ومعالجة، وما أشبه الليلة بالبارحة! فالدراسة تظهر أن الأخطاء
تتكرر برسمها وروحها وتفاصيلها تقريباً، ولتكون تلك الأخطاء هي الذرائع لتنحية
شريعة ربِّ العالمين، وفقه خيار الأمة لتحل محلها النظم والمراجع والثقافات
الوضعية بكل آفاتها الفلسفية والعقائدية، ويظهر بيقين من عبر التاريخ التي يأتي
على نماذج منها هذا المقال أن المبادرة والتحفز العلمي والفكري والعمل الإيجابي
البنائي لكفيل بحول الله - تعالى - أن يحصر التحول في الوسائل واستخلاص
مزايا الجديد دون تفريط بمفاهيم الشرع ومقاصده ومصادره، وهذا ما يدعو إلى
بيان ظروف الاحتلال التشريعي كما يسميه السنهوري في كتابه: (نظرية العقد)
الصادر سنة 1935م وتدارسها وإظهار خطوات العمل مما يستطيعه المتخصصون
في الدراسات الفقهية والفكرية والمحتسبون وأهل التخصصات القانونية، وتمهيداً
لذلك فلننتقل إلى ظروف الثورة التقنينية في أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص.
ظروف هيمنة حركة التقنين في أوروبا: ...
أدوات الهيمنة وانتهاك الحقوق:
استحكمت حلقات الهيمنة والاستغلال والظلم والتعدي على الحقوق على
الشعوب الأوروبية من قبل ثلاث سلطات وهي: الكنيسة، والإقطاع، والنظم
الإمبراطورية. وقد كانت الكنيسة تحتكر المعرفة بما في ذلك المعرفة القانونية
وتقاتل دون شيوعها وانفلات زمام السيطرة عليها من يدها، فحرمت كل من يخالف
اتجاهاتها وقراراتها، وقامت في سبيل ذلك بحملات التفتيش الهائلة على مدى قرون
طويلة، وأصدرت قرارات بعقوبات عظيمة ضد من يتجرأ على مخالفتها؛ وذلك
لحماية امتيازاتها الدينية والمادية التي كانت تهيمن عليها؛ فقد بلغت سلطتها إلى
مستوى توجيه سياسة أوروبا بكاملها، وقد أصدرت قرارات الحرمات ضد سلاطين
كبار مثل هنري الرابع. أما نفوذها المادي فيوضحه مراجعة خريطة أملاك الكنيسة
في أوروبا؛ حيث بلغت في مناطق وأزمنة عديدة ما يتجاوز ثلث الملكية العقارية؛
ونعلم ما تعنيه الملكية العقارية في أوروبا حيث الخصوبة وضيق المساحة وكثافة
السكان؛ ففرنسا على سبيل المثال في أول القرن التاسع كان يقطنها ثلاثون مليون
نسمة، وندرك مقدار النفوذ الكنسي المترتب على ذلك إذا قارنا ذلك بمصر التي لا
يصل سكانها في ذلك العهد إلى ثلاثة ملايين نسمه، أما التنظيم الإقطاعي فقد كان
تنظيماً شرساً لاستغلال الشعوب الأوروبية بنظام السخرة أي العمل بمجرد الغذاء
والمأوى دون ملكية أو حقوق معتبرة؛ فالتقاضي في الإقطاعية يخضع لسلطة السيد
خضوعاً مطلقاً عبر آليات متعددة منها ملكية النبلاء ونظام رق الأرض ليجعل
الإنسان:» في منزلة الحيوانات «.
ولنعلم فداحة ظلم التنظيم الإقطاعي فسنعرض لبعض الأمثلة؛ إذ كان يخضع
للنظام الإقطاعي في روسيا مثلاً أربعة أخماس السكان، وفي بولونيا يخضع سبعة
ملايين ونصف المليون من السكان لعشرة آلاف نبيل [15] ، ومع ظهور المفاهيم
والنظم السياسية الجديدة التي حلت محل السلطة الإقطاعية بشكل متتابع في أوروبا
لم يفقد النبلاء والكنسيون نفوذهم وامتيازاتهم المقننة بقوانين عرفية وكنسية جائرة،
وقد تكاملت مفاهيم ونظم الإقطاع والنظم السياسية التالية مع النظم والطموحات
الإمبراطورية ليتكون من تلك التجمعات مراكز القوة في القارة تصطرع من أجل
الهيمنة والنفوذ لتلتهم مقومات القارة البشرية والمادية في فترات حروب طويلة
يتخللها فترات سلم قصيرة أضنت الشعوب الأوروبية وهيأتها للثورة والتحول،
وكان من أخطر وسائل الثورة والتحول الطباعة وما تقدمه من إمكانيات التواصل
الذي لم يعرف من قبل.
حركات مقاومة نظم الهيمنة القديمة وتشريعاتها:
لقد مهدت عمليات التنظير المتواصل للحقوق، وكشفت المظالم الكنسية
والإقطاعية ونشوء المدن التجارية السبيل لمقاومة الجور القانوني الهائل الذي يلف
القارة عبر النظم المختلفة، حتى تجسد ذلك مع الثورة الفرنسية التي حولت الأفكار
النظرية إلى تجسيد يطابق بعض الأفكار حيناً ويهدمها أحياناً أكثر، لكنها كانت
الحركة الأعمق أثراً في مسيرة التحول نحو تحرير الحقوق.
لنقرأ بعض ملامح ذلك الصراع الفكري؛ ففولتير مثلاً تولى الحملة على
الكنيسة مردداً العبارة التي عرف بها:» لنسحق الشائنة «، يعني بها الكنيسة،
وتلك كانت نزعته طيلة حياته، واعتقد الجمهور:» أن محاربة الإكليروس طبقة
رجال الكنيسة قد تكفي لتقويم الحكومات ولجعل المجتمعات كاملة وللإيصال إلى
السعادة «فانتشر الإلحاد في كل مكان، وقدم رجال الكنيسة تنازلاتهم في محاولة
لمقاومة الاجتثاث، ونادوا بالمتدين المستنير الذي يجمع العلم مع التدين المسيحي،
ولم يوقف هذا تلك الهجمات وانتصاراتها، ولم تكن هذه الحال قاصرة على الكنيسة
الكاثوليكية؛ بل أدركت الكنائس البروتستانتية المنفتحة فنزلت بها:» مصائب
مماثلة.. - قادت إلى - نزعة عامة إلى المذهب العقلي والدين الطبيعي
والأخلاق « [16] . وعلى الجانب الآخر خلخلت دعوات المساواة ثقافة الإقطاع؛
ففي سنة 1754م نشر جون جاك روسو كتابه الأشهر:» خطبة في منشأ وأسس
التفاوت بين البشر «، ثم تبعه العقد الاجتماعي ليؤسس العلاقة في الشراكة
الاجتماعية تأسيساً قانونياً [17] باحثاً عن العدل المفقود في النظم الأوروبية، فقال
بمبدأ العدل والفضيلة المطبوعة في أعماقنا، فيلتقط (عمانوئيل كانط) ذلك
وينطلق ليؤسس لقواعد الأخلاق بما فيها العدل في فلسفته النقدية، وليقدم تأصيلاً
فلسفياً بدرجة ما للمحافظة الاجتماعية خلافاً لاتجاه الفلسفة الفرنسية المتشدد.
لم تقف المعاقل القديمة أمام الفكر الإصلاحي المنادي بإزاحة الظلم الاجتماعي
بأنواعه المختلفة، واشترك في المعركة فلاسفة الأرستقراطية المحافظة وعلى
رأسهم في المجال التشريعي (مونتيسكو) صاحب المدونة الشهيرة (روح الشرائع)
فحاول أن يثبت أن الدساتير السياسية ترتبط بنواميس طبيعية توجدها كظروف
الإقليم والتربة وطبيعة الشعوب وأخلاقها متخذاً من ذلك الحجة لئلا يمس الدستور
الفرنسي وطبقة الأشراف الفرنسية بحجة حق الفتح، وينتهي إلى أن العدل والحق
قيمة يحددها الواقع ليضفي المشروعية بذلك على النظم القائمة وما فيها من ظلم
طبقي وتشريعي [18] .
الثورة الفرنسية.. نفوذ وثقافة تبحث عن رسالة:
في ظل هذه التحولات الكبيرة في عقل القارة وضميرها ونظمها اشتعلت
الثورة الفرنسية، وأجهزت على نظام الإقطاع، والكنيسة لتنطلق طاقة الثورة
وتندلع آثارها في أرجاء أوروبا، فزلزلت أنظمتها ومراكز قواها وأفكارها التقليدية،
وكان من أنفذ وسائل الثورة والتحول المضامين الثقافية والحقوقية.
في هذه الأثناء كان التنافس الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا في ذروته،
وكان أهم مراكز النفوذ البريطاني الداعمة لاقتصادها المستعمرات البريطانية في
الهند باعتبارها مصدر المواد الخام وسوقاً كبيرة للمنتجات البريطانية، وقد أدرك
الاستراتيجيون الفرنسيون أهمية مصر لخنق الاقتصاد البريطاني بتضييق الطريق
الرابط بين بريطانيا والهند [19] ، وكان للمذكرة التي قدمها رئيس الجالية الفرنسية
في مصر ويدعى: (مجالون) سنة 1798م لوزير الخارجية الفرنسي (تاليران)
أثر حاسم في تغيير استراتيجية فرنسا تجاه مصر، قدم على إثرها تاليران لحكومته
تقريره مبيناً فيه الظروف الاستراتيجية المواتية لاحتلال مصر ومن ذلك سوء إدارة
المماليك وعجزهم عن المقاومة، وفي سنة 1798م صدرت أوامر الحكومة
الفرنسية لنابليون بأن يجهز الحملة لاحتلال مصر. وبالفعل احتل نابليون مصر،
واستعدى ذلك بريطانيا فتحالفت مع العثمانيين وهزموا الأسطول الفرنسي في معركة
أبي قير، فانسحب نابليون وخلَّف وراءه القائد الفرنسي كليبر الذي قتل، ثم
انسحبت القوات الفرنسية تنفيذاً لاتفاقية دولية بين فرنسا من جهة والعثمانيين
والبريطانيين من جهة أخرى.
نابليون يصدر قانونه المدني بعد عودته من مصر:
في هذا المناخ الثقافي والسياسي التنافسي المتوتر بزغ فجر تحول تاريخي
عالمي عظيم في المجال التشريعي استهلته فرنسا بإصدارها القانون المدني الفرنسي،
وهو أول قانون مدني يصدر في أوروبا، وقد صدر بدعم كبير من نابليون حيث
عارض الجمهوريون المشروع، فرفض المجلس التشريعي الأبواب الأولى منه،
فسحب نابليون المشروع ثم كرَّ بحركة بوليسية تمكن بها من السيطرة على المجلس،
فوافق على القانون في مارس سنة 1804م وذلك بعد أقل من خمس سنوات من
عودة نابليون من مصر [20] ، ثم تبعه قانون المرافعات المدنية الفرنسي، والقانون
التجاري الفرنسي سنة 1807م، وقانون الإجراءات الجنائية الفرنسي سنة 1808م،
وقانون العقوبات الفرنسي سنة 1810م.
وقد أدت حركة التقنين الفرنسية هذه إلى جدل فكري أوروبي عريض شارك
فيها الفلاسفة ورجال القانون؛ ففي ألمانيا مثلاً كان أبرز معارضي التقنين (سافيني)
أحد أنصار المدرسة القانونية التاريخية التي تعتقد أن القانون ثمرة الحركة
الاجتماعية، وأن تقنينه يؤدي إلى الإخلال بوظيفته بحسب هذه المدرسة [21] . وفي
المقابل كان (تيبو) من أبرز مؤيدي التقنين، وأصدر رسالته في هذا المعنى سنة
1814م، وقد تراجع معارضو التقنين. وبمساعدة من الظروف الطبقية
والاجتماعية والفكرية والثورية التي تقدَّمَ إيجاز لملامحها اكتسحت حركة التقنين
أوروبا والعالم كله حتى قيل بأن:» أهم الخصائص المميزة لهذا العصر الحركة
العامة للتقنين في أوروبا وأمريكا وكذلك في بعض دول آسيا وأفريقيا « [22] وكان
هذا التحول أحد أوجه التأثير الحركي العالمي للثورة الفرنسية، ومن المفارقات
الظاهرة هنا العلاقة الخفية بين الثورة الفرنسية الغازية المنتصرة على مصر - قبل
تدخل العثمانيين والإنجليز - والتحولات التشريعية في فرنسا. وبعبارة أخرى:
هل كانت مصر والفقه الإسلامي في عزلة عن هذا التحول التشريعي في فرنسا
والعالم من ورائها؟
إن الإجابة على هذا التساؤل يفرض قدراً من الحذر لتحقيق الموضوعية في
هذه المسألة، فلا يجوز الإبحار في أوهام حالمة تربط كل حركة في أوروبا بتراث
المسلمين؛ لكن في الوقت نفسه لا يجوز الصمت أمام النقل غير المشكور من ثقافة
المسلمين الذي تمارسه أوروبا وقد اكتشف في مجالات عديدة تتبعها بعض مؤرخي
الفكر.
علاقة قانون نابليون بالفقه الإسلامي:
لقد حققت أوروبا تقدماً في مجالات الفكر السياسي والقانوني، وتطور عبر
حقب من الزمن إثر علاقاتها مع العالم الإسلامي ونشاطات مفكريها، وهذه مسألة
تاريخية معروفة [23] ، غير أن ما يهمني هنا هو العلاقة المباشرة بين حملة نابليون
على مصر وصدور التقنين المدني الفرنسي المعروف بقانون نابليون.
تكشف حوادث تاريخ الحملة الفرنسية أن نابليون قد تعامل مع علماء الشريعة
في مصر، وتعرَّف على جوانب من أحكامها، وقد حاول أن يهيمن على توجهاتهم،
فواجهته عقبة الصمود الفقهي وجعلته يتراجع في حالات كثيرة أبرزت أمامه
مفهوم الشريعة وقدسية أحكامها ونفاذها، وكان نابليون يعلم بمشورة المستشرقين
عمق علاقة المسلمين بأحكام الشريعة، ويسمي الأزهر: (سوربون الشرق) ،
وعلماؤه هم:» الذين يصوغون الرأي العام، ومن ثم فإن عليه ربط السلطة
الفرنسية ربطاً وثيقاً برجال الدين هؤلاء « [24] وقرر أن تُحْكَم القاهرة عبر ديوان
مؤلف من تسعة أشخاص معظمهم من العلماء، ثم قرر في سنة 1799م أن الجرائم
التي تقع في مصر إنما يرجع اختصاص النظر فيها بشكل طبيعي إلى المحاكم
الإسلامية ما عدا ما يهدد الأمن العام وما يخص الفرنسيين [25] .
وقد درس علماء الحملة الفرنسيون الشريعة ضمن مكونات الثقافة المصرية
الإسلامية برعاية مباشرة من القائد الفرنسي كليبر الذي أمر بتكوين لجنة لدراسة
مصر الحديثة تتكون من مجموعة من العلماء المقربين من كليبر، وذلك قبل سنة
1799م، ليبدأ برنامج دراسة مصر في المجالات الحضارية والطبيعية المختلفة،
وكان في صدارتها التشريع، لاحظ هذا في نص تاريخي عن الحملة يقول:» إن
جميع جوانب مصر الإسلامية واردة في البرنامج: التشريع، الأعراف المدنية
والدينية، الإدارة، الشرطة، الحكم والتاريخ.. «، [26] . لم تكن الهمة العلمية
باهتة أو هامشية؛ لقد كانت واضحة المعالم جلية الأهداف، ولنترك الناشر الذي
كلفه الجنرال كليبر بالمهمة ويدعى (الألزاسي) يوضح ذلك؛ فقد كتب مخاطباً
حكومة بلاده عن علماء الحملة بقوله:» إن الذين يملكون هذه المجموعة مستعدون
لأن يجعلوا عملهم متاحاً للجميع تحت إشراف الحكومة.. هذا المشروع الذي سوف
ترحب به كل حكومات أوروبا.. إن الأبحاث المتعلقة بالحالة الراهنة والحديثة
لمصر إنما تقدم موضوعاً مهماً للفلسفة وللسياسة. فالقوانين والعادات والتاريخ
والحكم والصناعة والتجارة.. تستحق دراية أشمل بها لا يمكن انتظارها من الرحالة
الفرنسيين أو الأجانب الذين سبقونا، وقد جمعت الأشخاص الذين بدوا لي أكثر
ملاءمة للتنافس في هذا العمل، ومنحتهم كل السلطة والإمكانات التي يحتاجون
إليها « [27] .
لقد كان هؤلاء العلماء يدركون أنهم أمام ثروة عظيمة، فاستعصى عليهم
التعامل فيما بينهم استئثاراً من بعضهم بما أدرك من تلك الكنوز. يقول ناشر العمل
الموسوعي ذاك:» إن هؤلاء العلماء الذين انهالت عليهم الغنيمة التي كانوا معتزين
بها عن حق كانوا يحيون في حذر متواصل أحدهم من الآخر، وكانوا يرفضون
تبادل بحوثهم فيما بينهم.. والحال أن الجنرال كليبر قد جمعهم عدة مرات عنده دون
أن يتمكن من التوصل إلى شيء حاسم، وفي نهاية الأمر خطر له أن يقترح عليهم
أن أكون ناشراً لهذا العمل المهم، وقد وافقوا على ذلك، وأرسل الجنرال في
طلبي.. وقد وقَّع الجميع على هذا الاتفاق « [28] . وبذلك يعتبر بعض
المؤرخين الفرنسيين أن:» التركة الأساسية لحملة مصر هي تركة علمية
وإيديولوجية ونحن ندين لها بهذا الأثر المهم (وصف مصر) وهو عمل يثير
الإعجاب، ويكمن في أساس أية معرفة علمية عن مصر أكانت مصر القديمة أم
مصر الإسلامية « [29] .
ولم تكن البحوث المباشرة لعلماء الموسوعة في وصف مصر هي المصدر
الوحيد لتأثير الفقه الإسلامي على قانون نابليون، بل يمكن تتبع مصادر أخرى،
منها ما ذكره بعض المؤرخين عن اصطحاب نابليون لمجموعة من كتب الفقه
والأحكام حين انسحب قافلاً من مصر. ولاحظ هنا أنه انسحب في ظروف هزيمة
عسكرية وتدهور سياسي خطير للموقف الفرنسي في أوروبا بعد هزيمة الجيوش
الفرنسية أمام التحالف الأوروبي في جنوب القارة. يقول المؤرخ محمد فريد بك
المحامي:» وكذلك فعل نابليون الشهير حينما دخل مصر في أوائل القرن الثالث
عشر من الهجرة؛ فإنه أخذ كثيراً من كتب الفقه وأحكام الشريعة الغراء « [30] .
من خلال هذه الحقائق يمكن أن نستنتج بوضوح اكتشاف الفرنسيين للفقه
الإسلامي، ودوره الكبير في المجتمع المصري المسلم، وبهذا سيكون من الصعب
افتراض المصادفة المحضة حين يُصدِر نابليون القانون المدني بعد عودته من مصر
بأربع سنوات وبضعة أشهر، وتتحول هذه القرائن التاريخية إلى أدلة واضحة على
العلاقة بين قانون نابليون والفقه الإسلامي مع المقارنة الموضوعية وتتبع أحكام
الفقه الإسلامي المخالفة لأحكام القانون الروماني السارية قبل قانون نابليون. وقد
حاول الشيخ سيد عبد الله تتبع أحكام الفقه الإسلامي المدرجة ضمن هذا القانون في
كتابه: (المقارنات التشريعية) المطبوع قبيل صدور القانون المدني المصري سنة
1948م.
وما يهمنا في هذا السياق هو تفطُّن نابليون للوظيفة الاجتماعية التي يقوم بها
الفقه المدوَّن ذو المعالم الواضحة المستقل عن الطبقات والسلطات في المجتمع
المصري، وجوهر عملية التقنين لا تتجاوز هذا المفهوم؛ إذ هي في الواقع
الحضاري عبارة عن ضبط عادل للحقوق مفصل وواضح المعالم يعرفه الجميع
بيسر وسهولة، ويستعلي على التغيير بالهوى والممارسة الفردية أو الطبقية، وهذا
بالضبط ما كانت تتشوَّف إليه أوروبا في حالتها الحقوقية في تلك الحقبة، ويمكن أن
نلخص حالة فقدانه الشائعة في أوروبا بأنها حالة منخفَض حقوقي جذبت بقوة هائلة
هذا المفهوم من الفقه المصري الذي عرفه نابليون بحسه المرهف النفاذ المعروف
عنه.
إن ما نستنتجه من هذه الملاحظات هو الدور الكبير الذي صنعه الفقه
الإسلامي في التحول العالمي نحو التقنين، وبذلك يمكن أن نعتبر موجة التقنين من
ثمرات تفوق الفقه الإسلامي التي التقطتها الحركية المتدفقة للثورة الفرنسية وجعلتها
واحدة من أهم وسائلها في تغيير العالم وتحويله نحو ثقافتها، في الوقت الذي يغط
فيه أصحاب الثقافة الأصليين في سبات يفقدون به التأثير على حركة العالم ونظمه،
فضلاً عن امتلاك زمام المبادرة في نظمهم وتشريعاتهم، وما ذلك إلا من ثمرات
التردد والانكفاء والضعف الحضاري.
مواجهة الاحتلال التشريعي في مصر:
طرحنا فيما تقدم التساؤل عن أسباب تمكن حركة التقنين في مصر الموصوفة
في صدر هذا المقال؛ مع أن واقع الفقه في مصر كان من أهم وسائل تحريك
التقنين في فرنسا نفسها، وهل استسلمت مصر للتشريعات الفرنسية المصبوغة
بالثقافة الفرنسية والأوروبية الوضعية وتقبلتها؟
لقد كانت الآثار المباشرة للحملة الفرنسية محدودة [31] ، لكنها خلفت آثاراً غير
مباشرة لا زالت نتائجها تصبغ المجتمع والثقافة المصرية، وكان من أهم تلك
النتائج كسر العزلة الدولية والحضارية التي فرضتها الدولة العثمانية على المجتمع
المصري والعربي، فتحطمت تلك الحواجز فجأة، وتركت الأبواب مشرعة أمام
الاتصال المباشر بالعالم الخارجي وبخاصة أوروبا، فانطلق محمد علي بعد استتباب
الحكم له يتصل بإيطاليا، فأرسل لها بعثة سنة 1813م لدراسة العلوم العسكرية
وبناء السفن والهندسة وغيرها، ثم تحول إلى فرنسا، فأرسل لها أول بعثة علمية
كبيرة سنة 1826م.
ومن آثار الحملة الفرنسية اكتشاف مكانة الأزهر، ومقدرته القيادية في
المجتمع؛ فقد واجه الفرنسيون ثورتين شعبيتين قادهما الأزهر، كما قاد الأزاهرة
ثورة ضد الأمير المملوكي عثمان البرديسي فهرب من القاهرة، ثم قادوا مع الزعيم
الشعبي عمر مكرم ثورة ضد خورشيد باشا وولوا محمد علي باشا بشروط سُمِّيت:
(المشروطية) كانت في وقت مبكر بمثابة الدستور وذلك سنة 1220هـ /1805م،
ثم قرر الباب العالي عزل محمد علي، لكن العلماء قادوا حركة شعبية ثبتته من
جديد [32] ، وكان سليمان الحلبي قاتل القائد الفرنسي كليبر تلميذاً أزهرياً أعدم ومعه
ثلة من شيوخ الأزهر، فوجه محمد علي جهوده لتكبيل الأزهر، فحاصر موارده
الوقفية، وأعمل الدسائس بين شيوخه مما أسهم في تحطيم دوره السياسي الذي كان
يقوم به في أزمان المحن:» فمن سنة 1809م 1815م بدأ محمد علي بتصفية
الأوقاف، وألحق جرايات المساجد والعلماء بالدولة؛ وكان ذلك جزءاً من بدء
معركته ضد العلماء، وهو ما سيترك آثاره السلبية لاحقاً على مجمل مشروع محمد
علي، ويكون سبباً رئيساً من بين أسباب عدم قدرته على مواجهة الدول الكبرى،
وقد فقد تأييد العلماء « [33] ،» لقد دفع محمد علي ثمن هذا الخطأ غالياً عندما
أحاطت به جيوش الغرب، وأنزلت به عسكرياً الضربة القاضية؛ فالاعتماد على
الجيش والدولة بعيداً عن مشاركة فعلية للشعب وقياداته لا تنفع عند مواجهة جيوش
متفوقة.. أما عندما يدخل في الحساب مقاومة المجتمع والشعب وتكون المعركة
دفاعية فإن مواجهة مثل تلك الجيوش تصبح ممكنة بل قابلة للانتصار، كما حدث
في مثال تجربة محمد علي عام 1807م « [34] .
كما حطم محمد علي الروابط المهنية لأرباب الحرف، والتجار، وتعامل معهم
كما تعامل مع المجندين لخدمة الجيش؛ فتحطمت الصنائع والحرف، واضمحلت
طبقة التجار، وخسر بذلك طبقة وسطى كان يمكن أن تقود إلى مجتمع صناعي
مستقر، واشتغل بتسخير المجتمع المصري وموارده لتحقيق طموحاته العسكرية،
فاستنزفها في مغامرات لم يكتب لها النجاح، وقد أدى ذلك فيما بعد إلى تحول
المجتمع المصري إلى حطام لا يملك الحد الأدنى من وسائل التماسك والثبات للدفاع
عن مقوماته الاقتصادية والثقافية، فأضعف ذلك الحكومات المصرية المتوالية في
وجه الدول الكبرى، ومهد السبل لاستفحال الفساد دون قدرة على المحاسبة والإنكار،
فغرقت الدولة في الديون حيث تجاوزت ديون مصر في عهد الخديوي إسماعيل
126مليون جنيه بريطاني، وعجزت عن القيام بالتزاماتها؛ مما أدى إلى التدخل
الأجنبي بشكل خطير؛ حيث اشترت الحكومة البريطانية أسهم الحكومة المصرية
في قناة السويس سنة 1875م، ورهنت أراضي مصرية لأسرة روتشيلد مقابل
ديون الحكومة، وكانت الخطوة الثانية للتمكين الأجنبي بسبب الإسراف وسوء
التدبير المالي هي تأسيس (صندوق الدَيْن) ليرأسه أربعة أجانب يتولى استلام
المبالغ المخصصة للديون من المصالح المحلية، واستفحل التدخل بإصدار الخديوي
إسماعيل لمرسوم يفرض الرقابة الأجنبية على واردات ومصروفات مصر، ثم
فرضت بريطانيا وفرنسا على الخديوي التنازل عن الحكم المطلق وثروات أسرته،
وشكلت الحكومة بوزيرين أجنبيين أحدهما فرنسي والآخر بريطاني، ثم أخفقت هذه
الحكومة لفسادها المالي، فشكلت الوزارة الأوروبية الثانية، ثم خلع الباب العالي
الخديوي إسماعيل بتدخل من بريطانيا وفرنسا وعيَّن محمد توفيق خلفاً لوالده،
فانساق للتوجيه الغربي مما شحن مصر وهيأها للثورة العرابية الشهيرة التي انتهت
بالاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م، وكانت سياسة بريطانيا هي التمكن من
(النفوذ الفعلي في مصر) [35] ، وقد نتج عن ذلك انتقال:» السلطة الفعلية في
مصر بطريقة مستترة إلى ممثل إنجلترا في مصر، أو القنصل البريطاني وأعوانه
من المستشارين الذين عينوا في الوزارات المختلفة « [36] ، ثم عينت الحكومة
البريطانية رجل الاستعمار البارع اللورد كرومر سنة 1883م، وهكذا ترسخ نفوذ
المستعمر، وبدأ تطور الفكر الوطني وكانت قضيته الكبرى تحقيق الاستقلال من
الهيمنة العسكرية، ووجد هذا التيار في الخديوي عباس الثاني الذي خلف والده
رمزاً وطنياً تواقاً إلى التحرر من نفوذ الإدارة الاستعمارية، فالتف حوله الوطنيون
وعلى رأسهم مصطفى كامل الزعيم الشاب الذي درس في المدارس الأميرية وتابع
تعليمه في فرنسا؛ لكنه كان ممن ورث الفكر السياسي لدى جمال الدين الأفغاني:
» فكان قوي العقيدة الدينية ورأى أن الدين والوطنية توأمان متلازمان، وأن الرجل
الذي يتمكن الدين من فؤاده يحب وطنه حباً صادقاً « [37] وكان يؤمن بالجامعة
الإسلامية، وأسس الحزب الوطني في مواجهة حزب الأمة الذي يمثل كبار الملاك.
أما حزب الأمة فقد أسسه أعضاء شركة صحيفة (الجريدة) ، وهم من أتباع
محمد عبده بعد تحوله عن طريق شيخه جمال الدين وانتهاجه لمسلك التغيير
ومواجهة الاحتلال عبر التربية والتعليم بعد عودته من منفاه إثر الثورة
العرابية [38] ، وكان من أبرز أتباعه الوطنيين سعد زغلول، وهم باتجاههم
التربوي الذي صُبغ بفكر محمد عبده يخالفون مسلك مصطفى كامل الذي رفع شعار
الجلاء الكامل، وقد انضم إلى حزب الأمة فيما بعد كبار اللبراليين المصريين
المؤمنين بالتغيير الاجتماعي المتابع للغرب من أمثال طه حسين، ومحمد
حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق [39] .
وبعد سنوات من المقاومة والمواقف خضع الخديوي عباس الثاني لسلطة
الاحتلال منذ سنة 1899م، وكانت قضية ذلك الجيل هي الاستقلال وتأسيس المدنية
لمقاومة الهيمنة الأجنبية، كما أن ذلك الجيل من الوطنيين قد:» تأثر..
بالاتجاهات الغربية واختلف عن أولئك الذين تتلمذوا في الأزهر وتأثروا بالبيئة
الدينية، وحدث تصادم بين الفكر التقليدي والفكر المتأثر بالغرب، وانعكس ذلك في
برامج الأحزاب السياسية التي ظهرت في مصر فيما بين عامي 1907 - 1914م.
استمر الحزبان في عملهما، واستحوذا على عقول المصريين تحت ضغط
هيمنة المستعمر [40] ، وراجت عاطفة الحزب الوطني لتبنيه للجامعة الإسلامية،
فاستقطب المؤمنين بالعمل بوضوح لتحقيق الجلاء، ولم يهتم الحزب بالجوانب
الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن التشريعية لتركيزه على التحرير، وكان يدعو
إلى التحديث: «غير أن هذا لا يعني أن على مصر أن تقلد أوروبا تقليداً أعمى؛
إذ يجب أن تبقى وفية لمبادئ الإسلام المفسرة تفسيراً صحيحا» [41] ، وأما حزب
الوفد - الذي أسسه تلاميذ محمد عبده - فقد أخذ اتجاهاً علمانياً مخالفاً لتوجه محمد
عبده فكانت فيه: «فئة ممن احتفظوا بالولاء الفكري لمعلمهم، غير أنهم أخذوا
يعدُّون العدة لمجتمع علماني يبقى الإسلام فيه محترماً، لكنه لا يكون الموجِّه للقانون
والسياسة» [42] ؛ فقد عمَّقت صحيفة الجريدة لسان حزب الأمة التي يرأسها لطفي
السيد ذو التوجه اللبرالي المتأثر بالنصارى اللبنانيين وعلى رأسهم بطرس البستاني،
وشبلي شميل، وأنطون فرج التوجه نحو الثقافة الغربية خاصة في مجال
الدستور والعلوم السياسية والديمقراطية؛ فالانطباع: «القوي الذي تتركه فينا
قراءة تلك المقالات هو الاندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام في تفكير
رجل تتلمذ على محمد عبده.. لم يكن الإسلام هو المبدأ المسيطر على تفكيره؛ فهو
يهتم كالأفغاني بالدفاع عنه لكنه لا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى
مركزها كأساس خلقي للمجتمع» [43] كما يقول حوراني.
وبعد الحرب العالمية الأولى أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وهي مرتبة
بين الضم والاحتلال. وبعد انقضاء الحرب العالمية الأولى انعقد مؤتمر الصلح في
باريس، واستيقظت الحركة الوطنية، وتوجه زعماء وطنيون على رأسهم سعد
زغلول إلى دار الحماية يطالبون باستقلال مصر والسماح بسفرهم لبريطانيا لعرض
القضية الوطنية على مؤتمر الصلح؛ فألقت السلطات القبض على الوفد، ونفتهم في
اليوم التالي إلى مالطا، فانفجرت الثورة الشعبية، فواجهها الاحتلال بالعنف؛ مما
فجَّر الجمهور بفئاته المختلفة وفي الأقاليم كافة، وحدث تحول جديد حيث تحركت
المرأة المصرية: «فنزلت لأول مرة في حياتها إلى ميدان النضال السياسي مسجلة
الخطوة الأولى في أخطر تطور اجتماعي في تاريخ البلاد؛ ففي يوم 6مارس - من
سنة 1919م - قامت السيدات والآنسات بمظاهرة كبرى مكونة من عدد يربو على
الثلاثمائة من كرام العائلات.. ولقد وجدت المرأة المصرية في الثورة الناشبة
فرصة العمر لتؤكد وجودها في المجتمع المصري» [44] ، وكان هذا التحول من
أبرز المتغيرات الاجتماعية التي استجابت لدعاوى التحرير الليبرالي للمرأة، وكان
ارتباط تلك الحركة بمطالب الاستقلال قد منحها زخماً سياسياً ووطنياً كبيراً، وكان
ذلك يدعم المفاهيم التي تحميها القوانين المستغربة، فأوجدت الصلة الجماهيرية
الحية مع القيم المودعة في تلك القوانين.
ولنلاحظ هنا أثر الظروف الثورية المتوقدة التي حدث فيها هذا التحول
وصلتها بالاستقلال، وخاصة أن قاسم أمين قد انطلق في كتابه من أن انحطاط الأمة
الإسلامية سببه زوال القوة المعنوية بسبب الجهل، والجهل يبدأ من العائلة؛
فالعلاقة بين الرجل والمرأة وبين الأم والولد هي أساس المجتمع، وقوة العائلة هي
القوة التي تنتشر في المجتمع؛ فجوهر القضية الاجتماعية هي قضية المرأة، وتبدأ
قضية المرأة، بتعليمها وإزالة حجابها لتتمكن من دورها في المجتمع، هكذا توهم،
ومضى بالأمة خطوة على طريق التآلف مع الأخلاق القادمة لتتفاعل هذه الخطوة
فيما بعد مع مؤثرات أخرى تمهد لتحلل الأخلاق، خاصة عند تفاعلها مع الزخم
الوجودي الذي شاع بعد الحربين العالميتين.
أدرك سعد بملاحظته لحركة الثورة أن وراءه قوة شعبية تحميه في مواقفه؛
فدفعه ذلك إلى مزيد من التشدد؛ فقد سرت في نفسه آثار الحركة الاجتماعية التي
أجبرت بريطانيا على إطلاق سراحه، ومن هنا ندرك بعداً وطنياً مهماً يتمثل في
زخم الشرعية التي انتزعها حزب الأمة الليبرالي بوصفه محركاً وطنياً ينافح عن
الاستقلال ويصوغ الثقافة والمواقف.
كما ظهرت في هذه الفترة آثار الجور الذي مارسه المستعمر، فأدى إلى تطور
الرؤية الشعبية لمجموعات من الحقوق المنتهكة، وتحققت بذلك المقدرة على تكوين
مواقف فئوية تطالب بالحقوق المنتهكة المتراكمة عبر حقب من الزمن، ولنضرب
مثالاً لذلك بحقوق العمال؛ فقد تعرضت هذه الطائفة إلى تجاوزات مستمرة على
حقوقهم وصلت إلى مستوى السخرة في بعض الأحيان، وقد أدى الاتصال بالثقافة
الجديدة إلى الوعي بالحقوق والمفاهيم التي تحميها؛ فظهرت الدعوات للمطالبة
بتعويضات العمل ونهاية الخدمة والأجور العادلة والعمل النقابي وغيرها، وقد كان
لاستغلال الاستعمار الوحشي لمجموعات العمال والفلاحين أثر بالغ في تطوير
الوعي بالحقوق العمالية؛ وذلك إبان الحرب العالمية؛ حيث نقلوا بالعربات
العسكرية إلى جبهات القتال للقيام بالأعمال المدنية في الجبهات وطرق الإمداد
كالطرق ونقل المؤن والذخائر والحفر والردم؛ فقد ساقت السلطة المحتلة من
الفلاحين مائة وخمسة وثلاثين ألف رجل للجبهة السورية لوحدها، فنشطت الحركة
العمالية بعد الحرب حتى أسفرت جهودهم عن ميلاد وثيقة تاريخية نشروها بعنوان:
(مشروع قانون حماية العمال) سنة 1919م قبيل الثورة الشعبية، وهكذا ولدت
آلية جديدة من رحم الثقافة القانونية لحماية حقوق العمال التي غاب عنها الفقيه
الشرعي بحركته الحية المعهودة في عصور ازدهار الفقه والاجتهاد؛ فحلَّ البديل
الأجنبي وسدَّ الفراغ الإصلاحي [45] .
__________
(*) قاض سابق، ومستشار شرعي حالياً.
(1) دخول القوانين الوضعية في مصر، إبراهيم السنيدي، رسالة ماجستير، قسم الثقافة الإسلامية، كلية الشريعة بالرياض 1/28.
(2) رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين 1/57.
(3) دخول القوانين، مرجع سابق 1/28.
(4) درر الحكام في شرح مجلة الأحكام 4/612.
(5) دخول القوانين الوضعية، مرجع سابق 1/29.
(6) الحملة الفرنسية، ص 535 544.
(7) الإصلاحات القانونية في مصر، ج أندرسون، بحث منشور بمجلة الاجتهاد، العدد الثالث،
ص 267.
(8) الخلف بين النخبة والجماهير، طارق البشري، ضمن أوراق ندوة القومية العربية والإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 281.
(9) الوسيط في شرح القانون المدني، عبد الرزاق السنهوري، دار النهضة العربية 1/12.
(10) تاريخ الفقه الإسلامي، محمد أحمد سراج، أحمد فرج حسين، ط 1999م، ص 158.
(11) الاجتهاد والتقليد، محمد الدسوقي، ط دار الثقافة قطر، 1407هـ، ص 189.
(12) الوسيط، مرجع سابق، 1/14 15.
(13) أندرسون، مرجع سابق، ص 273.
(14) أندرسون، مرجع سابق، ص 273.
(15) تاريخ الحضارات العام، مجموعة مؤلفين بإشراف موريس كروزيه، منشورات عويدات، بيروت، 5/508.
(16) المرجع السابق، 5/90 95.
(17) المرجع السابق، 5/ 95 98.
(18) تاريخ الحضارات، مرجع سابق، 5/ 101 102.
(19) فرنسا والإسلام، جاك فريمو، ترجمة هاشم صالح، دار قرطبة للنشر والتوثيق، قبرص،
ص 33، 20.
(20) النظرية العامة للقانون، سمير عبد السيد تناغو، توزيع منشأة المعارف بالإسكندرية،
ص 367، أصول القانون، د عبد المنعم فرج الصدة، ط دار النهضة العربية، 1978م، 117.
(21) النظرية العامة للقانون، مرجع سابق 368، أصول القانون، مرجع سابق، ص 117.
(22) النظرية العامة للقانون، مرجع سابق، ص 369.
(23) ذكر المستشرق الشهير (جوزف شاخت) نماذج لتأثير الفقه الإسلامي في قوانين التجارة الدولية وفي الحياة القانونية في الأندلس والبحر المتوسط وروسيا وفي القوانين الكنسية واليهودية، تراث الإسلام، ترجمة د حسين مؤنس وزميله، سلسلة عالم المعرفة، 2/ 106.
(24) الحملة الفرنسية في مصر، بونابرت والإسلام، تأليف هنري لورنس وآخرين، ترجمة بشير السباعي، ط سينا للنشر، 1995م، مرجع سابق، ص 154.
(25) المرجع السابق، ص 302.
(26) المرجع السابق، ص، 438.
(27) المرجع السابق، ص 439.
(28) المرجع السابق، ص 508.
(29) المرجع السابق، ص 625.
(30) تاريخ الدولة العثمانية، ص 208.
(31) دراسات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، د عمر عبد العزيز عمر، ط دار النهضة العربية، بيروت 1990م، ص 138.
(32) تجربة محمد علي الكبير، منير شفيق، ط دار الفلاح، بيروت، ص 9 11.
(33) المرجع السابق، ص 15.
(34) المرجع السابق، ص 49 50.
(35) دراسات في تاريخ العرب الحديث، عمر عبد العزيز عمر، مرجع سابق، ص 347.
(36) المرجع السابق، ص 349.
(37) المرجع السابق، ص 366 367.
(38) في بداية القرن صدر كتاب: (مصادر تفوق الأنكلوسكسون) اشتهر آنذاك يقرر أن سبب التفوق البريطاني هو مناهج التربية التي تبني في الفرد روح المبادرة، وقد قارن بين المنهجين التربويين في فرنسا وبريطانيا، وكان له أثر بالغ في انتشار مفاهيم الإصلاح من خلال التربية، فتلقفه الوفديون، وكان له تأثير في المناخ الثقافي بشكل عام راجع ألبرت حوراني، الفكر العربي،
ص 189.
(39) دراسات في التاريخ العربي الحديث، ص 386 - 387.
(40) الفكر العربي، ألبرت حوراني، ص 205.
(41) المرجع السابق، ص 208.
(42) المرجع السابق، ص 177.
(43) المرجع السابق، ص 180.
(44) المرجع السابق، ص 427.
(45) دراسات في تاريخ العرب، مرجع سابق، ص 435.(163/16)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الحكم الظاهر على أهل الكبائر
ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي
لا شكَّ أن العبودية لله - تعالى - تتفاوت بين العباد «ذلك أن ألوهية الله
متفاوتةٌ في القلوب على درجات عظيمة تزيد وتنقص؛ ولذا كان تفاضلهم في
العبودية كبير لا ينضبط طرفاه» [1] ، كما قال الله - تعالى -: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32) ، فدل ذلك على أن العباد
المصطفين ليسوا درجةً واحدةً؛ بل ثلاثاً كما هو ظاهر الآية الكريمة:
- أدناها: الظالم لنفسه: وهو الذي يظلم نفسه بارتكاب المعاصي والآثام التي
هي دون الكفر [2] .
- أوسطها: المقتصد: وهو الذي يقيم الفروض، ويجتنب الكبائر وكثيراً من
الصغائر، وحظه من النوافل قليل؛ فهو غير مجتهد في عبادة ربه [3] ، بل عمله
في ذلك قصدٌ [4] .
- أعلاها: السابق بالخيرات: وهو المبرِّز [5] الذي تقدَّم المجتهدين في طاعة
ربه، وأداء ما لزمه من فرائضه [6] .
فهؤلاء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية هم الذين «تقربوا إلى الله بالنوافل بعد
الفرائض؛ ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات» [7] .
فالعباد إذن متقلبون في هذه الدرجات، متفاوتون في نصيبهم منها، وهذا لا
يعني أن أحدهم معصوم من الذنوب مطلقاً؛ فالمسلم ذو خطأ وهو غير معصوم،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطَّاءٌ وخيرُ الخطائين
التوابون» [8] .
والحديث هنا سيكون عن صاحب الدرجة الأولى: وهو الظالم لنفسه لا غير،
وهو: صاحب الكبيرة من أهل التوحيد الذي لا يتورع عن فعل المعاصي
والمحرمات، وهذا له أيضاً ثلاث حالات: الأولى: أن يفعل الكبائر مستتراً بها،
والثانية: أن يجاهر بها، والثالثة: أن يزيد على المجاهرة الدعوة إليها، وهذه
أشرُّها حالاً؛ عياذاً بالله.
ومن خلال ما تقدَّم لا بد من ذكر أمرين مهمين وهما:
الأول: أن علماء المسلمين - رحمهم الله - قديماً وحديثاً قد تكلموا وكتبوا
كثيراً عن أحكام أهل الكتاب - اليهود والنصارى - وحذروا منهم، وكذا عن أهل
الأهواء من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة، لا سيما أهل المذاهب
المعاصرة كالماسونية، والعلمانية، والحداثية وغيرها. أما موقفهم وحديثهم عن
المجاهرين بالكبائر فلم يكن كبير همِّهم أو حديث وقتهم؛ بل تأتي أحكامهم تبعاً لأن
أهل الكبائر لم يكونوا يجرؤون على المجاهرة بمعاصيهم آنذاك فضلاً على أن يدعوا
إليها؛ وما ذاك إلا لقوة الإيمان وظهوره، ومتابعة السلطان وأهل الحسبة. أما اليوم
فانتكست المفاهيم، واضطربت الموازين؛ يوم أصبح أكثر المجاهرين بالكبائر هم
أهل الرأي وصناع القرار في كثير من بلاد المسلمين، ولذا اجتهدت ولله الحمد في
كتابة بعض الأحكام الشرعية نحوهم، وهي كثيرة تربو على ثلاثين حكماً.
الثاني: لا شك أن الكبائر كثيرةٌ جداً، وهي: كلُّ ذنبٍ ترتَّب عليه وعيدٌ في
الآخرة، أو حدٌّ في الدنيا، أو غضب [9] ، مثل الزنا، والخمر، والربا، وشهادة
الزور، والغيبة، والرشوة، والكذب، والغناء والمعازف ... إلخ، والأدلة على
تحريم ما ذكرناه كثيرة جداً، فمن أرادها فدونه كتاب «الزواجر عن اقتراف
الكبائر» لابن حجر الهيتمي.
وبعد هذه المقدمات العلمية، أقول: لا شك أنَّ لأهل الكبائر المجاهرين - إذا
ماتوا على فسقهم - أحكاماً شرعية كثيرةً، استخلصتها من كلام أهل العلم تبصرةً
للصَّالحين، وتحذيراً للعاصين؛ فهاك بعض أحكام من يتصف بهذه الصفات على
اختصار:
1 - أنه مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، عاصٍ بمعصيته، داخلٌ تحت مشيئة الله -
تعالى - إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، وأهل السنة لا يشهدون لأحدٍ بجنةٍ ولا
نارٍ إلا من شهد له الشرع بذلك.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: جواز الشهادة لمن اتفقت
الأمة على الثناء عليه، أو الإساءة به [10] .
2 - أنه لو مات على ذلك فخاتمته خاتمة سوء، عياذاً بالله، وهذا لا يعني
أنه كافر، ما لم يستحلها!
3 - أنه إذا لم يتبْ منها فيُبغَض على قدر ما معه من المعاصي؛ لأن قضية
الحب والبغض - الولاء والبراء - من أصول هذا الدين؛ ولذا وجب على المؤمن
أن يكون حبُّه وبغضُه لله - تعالى -، فيزداد حبُّه لأولياء الله، وبغضه لأعداء الله،
وربما يجتمع في العبد الواحد حبٌّ وبغضٌ؛ بحيث يُحَبُّ من وجهٍ ويُبغَضُ من
وجهٍ وذلك بحسب ما في الشخص من خصالِ الخير والشر!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرٌّ
وفجور، وطاعة ومعصيةٌ، وسنةٌ وبدعةٌ: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه
من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في
الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا ... هذا هو
الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة» [11] .
والحكم للغالب؛ ولذا قد لا تظهر آثار الحب على الجوارح إن كانت خصالُ
الشرِّ في الشخص طاغيةً على خصال الخير إلا عند وجود المقتضي لذلك، أما
أصل المحبة والبغض فموجودان في القلب لا يلغي أحدهما الآخر؛ ما كان أصل
الإيمان موجوداً في الشخص [12] .
4 - أنَّ من جاهر بمعصيةٍ كبيرةٍ ولم يتبْ منها؛ فإنه إذا مرض لا يُعاد
هجراً له، وزجراً لغيره إذا كان ثمَّة مصلحةٌ راجحةٌ في ذلك.
وقد نصَّ بعض الأئمة على ذلك بقولهم: «يَحرمُ عيادة مجاهرٍ بمعصيةٍ إذا
مرض، بل يسنُّ هجرُه ليرتدع ويتوب» .
ونقل حنبلٌ: «إذا علم من رجلٍ أنه مُقيمٌ على معصيةٍ؛ لم يأثم إنْ هو جَفاهُ
حتى يَرجعَ، وإلا كيف يبينُ للرجلِ ما هو عليه إذا لم يرَ مُنْكِراً عليه! ولا جَفوةً
من صديقٍ» [13] .
وهو قول شيخنا العثيمين - رحمه الله: - «وأمَّا الفاجرُ من المسلمين بكبيرة
من الكبائر، أو بصغيرة من الصغائر وأصرَّ عليها: ففيه تفصيل أيضاً، فإذا كنَّا
نعوده من أجل أن نَعرضَ عليه التوبة، ونرجو منه التوبة فعيادتُه مشروعةٌ، إما
وجوباً، وإما استحباباً، وإلا فإن الأفضل ألا نعوده» [14] .
5 - أنه إذا مات لا يُصلِّي عليه وَلِيُّ الأمر، وإمامُ كلِّ بلدٍ، وأئمةُ الدِّين،
والوجهاءُ من عِليةِ القوم، وأيضاً لا يُدعى له؛ زجراً لغيره إذا كان ثمَّة مصلحةٌ
راجحةٌ في هذا الترك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «ولا يجوز لأحدٍ أن يترحَّمَ
على من مات كافراً أو من مات مُظهراً للفسقِ مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر.
ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مِثلِ فعله كان حسناً،
ومن صَلَّى على أحدهم يرجو رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحةٌ راجحةٌ؛
كان حسناً، ولو امتنع في الظَّاهرِ ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان
أوْلى من تفويت إحداهما» [15] .
قال المرداوي: «واختار المَجْدُ أنَّه لا يُصَلَّى على كلِّ من مات على معصيةٍ
ظاهرةٍ بلا توبة. قال في» الفروع «: وهو مُتَّجَهٌ» [16] .
وقال صاحب المطالب: «ولا يُسنُّ للإمام: الإمامِ الأعظم، ولا إمام كلِّ
قريةٍ وهو واليها في القضاء الصلاة على غَالٍّ نصاً ... لأنَّ النبي صلى الله عليه
وسلم امتنع من الصلاة على رجلٍ من المسلمين؛ فقال:» صَلُّوا على صاحبِكم «؛
فتغيرت وُجُوه القومِ، فقال:» إنَّ صاحبَكم غَلَّ في سبيلِ الله «ففتشنا متاعَه
فوجدنا فيه حِرزاً من حِرزِ اليهود ما يُساوي درهمين» [17] ، ولا على قاتلِ نفسه
عمداً؛ لما روى مسلمٌ عن جابرِ بن سمرة «أنَّ رجلاً قتلَ نفسَه بِمَشَاقِصَ؛ فلم
يُصَلِّ عليه» [18] ، وفي رواية للنسائي قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَّا أنا
فلا أصلي عليه» [19] ، فامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغالِّ،
وقاتل نفسِه، وهو الإمامُ، وأمر غيرَه بالصلاة عليهما، وأُلْحِقَ بهما ما سوى ذلك؛
لأنَّ ما ثبت في حَقِّه ثبتَ في حقِّ غيره، ما لم يَقُم على اختصاصه به دليلٌ « [20] .
وقال العثيمين - رحمه الله -:» ولو قال قائلٌ: أفلا ينبغي أن يُعدَّى هذا
الحكمُ إلى أميرِ كلِّ قريةٍ، أو قاضيها، أو مفتيها، أي: من يحصل بامتناعه النَّكال،
هل يتعدى الحكمُ إليهم؟ الجواب: نعم يتعدى الحكمُ إليهم؛ فكلُّ من في امتناعه
عن الصلاة نكالٌ فإنه يُسَنُّ له أن لا يُصلي على الغالِّ، ولا على قاتلِ نفسه «،
وهذا قول ابن تيمية وغيره من أهل العلم [21] .
وقد سُئل الشيخُ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: هل
تُكره الصلاةُ على غير الغالِّ، وقاتلِ نفسه؟ فأجاب:» الصلاةُ تُكره على غير
الغالِّ وقاتلِ نفسه، مثلِ المجاهرِ بالفسقِ والكبائرِ «، وقال أيضاً:» والمراد
بكراهةِ الصلاة على أهل الكبائر للإمام خاصةً، أو لأهل العلم والدِّين المقتدى
بهم « [22] .
وكذا يقول الشيخ الألباني - رحمه الله -:» الزاني ومدمن الخمر، ونحوهم
من الفساق؛ فإنه يُصلى عليهم؛ إلا أنه ينبغي لأهل العلم والدين أن يَدَعوا الصلاة
عليهم عقوبةً وتأديباً لأمثالهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم « [23] .
6 - أنه إذا مات على معصيته دون توبة فإنه يبعثُ يوم القيامة عليها.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:» يُبعثُ كلُّ عبدٍ على ما مَاتَ
عليه « [24] ، وفي رواية:» مَنْ مات على شيءٍ بَعثَه الله عليه « [25] ، فهكذا؛
الحاجُ يبعثُ ملبياً، والشهيد يبعثُ وجُرحُهُ يتفجَّرُ دماً، والسكرانُ يُبعثُ مخموراً،
والمغني يُبعثُ مغنِّياً!
7 - أنَّه إذا مات وهو مجاهرٌ بالمعصية، وظهر لغاسله شرٌ فله أن يُظْهرَه
ولا يَسْتُرَه ليرتدعَ غيرُه، ويعتبرَ مقلِّدُوه.
قال صاحب الكشاف وغيره:» وعلى غاسلٍ سَترُ شَرٍّ رآه؛ لأنَّ في إظهارِه
إذاعةً للفاحشة ... ثمَّ قال: «قال جمعٌ محققون: إلاَّ على مشهورٍ ببدعةٍ، أو فجورٍ
ونحوه ككذب، فَيُسنُّ إظهارُ شَرِّه، وسترُ خيرِه ليرتدعَ نظيرُه» [26] . وقال
المرداوي: «وقال جماعةٌ من الأصحاب: إن كان الميتُ معروفاً ببدعةٍ، أو قلةِ
دينٍ، أو فجورٍ ونحوه؛ فلا بأس بإظهارِ الشَّرِّ عنه، وسترِ الخيرِ عنه لتُجتنبَ
طريقتُه» [27] .
8 - وللمسلمين إساءةُ الظنِّ بمن مات مجاهراً بمعصيته. قال البهوتي وغيره
«ولا حرجَ بظنِّ السوءِ بمن ظاهرُه الشَّرُّ» [28] .
وقال العثيمين - رحمه الله -: «وأمَّا من عُرف بالفسوق والفجور، فلا
حرج أن نُسيءَ الظَّنَّ به؛ لأنه أهلٌ لذلك» [29] .
هذا ما تيسر إيراده، وبالله التوفيق.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (2/384) .
(2) المرجع السابق.
(3) انظر: جامع البيان، للطبري، (12/137) ، وروح المعاني، للآلوسي، (22/348) .
(4) انظر: فتح الباري، لابن حجر، (11/355) .
(5) المبرز: الذي برز على الجميع بسبقه لهم.
(6) انظر: جامع البيان، للطبري، (12/137) ، وزاد المسير، لابن الجوزي، (6/490) .
(7) انظر: الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان، لابن تيمية، ص (558) .
(8) أخرجه أحمد، (3/198) ، وإسناده حسن.
(9) انظر: شرح الطحاوية، لابن أبي العز (371) ، وشرح مسلم، للنووي،.
(2/85) ، والزواجر، للهيتمي (1/9) ، أحكام القرآن، للقرطبي، (5/160، 161) .
(10) انظر: الاختيارات، لابن تيمية، ص (86) ، وكشاف القناع، للبهوتي، (2/121) .
(11) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (28/209 210) .
(12) انظر: شرح الطحاوية، لابن أبي العز، ص (434) أمَّا قضيةُ الولاء والبراء هذه الأيام فلا حول ولا قوة إلا بالله فقد ذابت، وتلاشت عند أكثر المسلمين؛ حتى إنك تجدُ بعضَهم يصرِّحُ عبر الصحف بأنه يحبُ من يُحبُّ من الناس لأجل معصيته! فهل سمعتم معاشر المسلمين بعد هذا: بأنَّ حبَّ المعصيةِ وأهلِها ولاءٌ يُشكرُ عليه، أو قولٌ يُحمد عليه؟ ! .
(13) انظر: الإنصاف، للمرداوي، (6/10) ، والكشاف، (2/60) ، ومطالب أولي النهى، للرحيباني، (1/829) .
(14) انظر: الشرح الممتع، للعثيمين، (5/305) .
(15) انظر: الاختيارات، ص (131) ، والمغني، لابن قدامة، (3/504) .
(16) انظر: الإنصاف، (6/186 187) .
(17) أخرجه النسائي، (4/52) .
(18) أخرجه أبو داود، (3/206) (3185) .
(19) أخرجه النسائي، (4/66) .
(20) انظر: مطالب أولي النهى، (1/892) .
(21) انظر: الشرح الممتع، (5/442) ، والاختيارات، (87) .
(22) انظر: الدرر السنية، لابن قاسم، (5/83 84) .
(23) انظر: أحكام الجنائز، للألباني، ص (83) .
(24) أخرجه مسلم (2878) .
(25) أخرجه أبو يعلى (2269) .
(26) انظر: كشاف القناع، للبهوتي، (2/121) ، والمطالب (1/865) .
(27) انظر: الإنصاف، (2/506) .
(28) انظر: كشاف القناع (2/121) ، ومطالب أولي النهى (1/866) .
(29) انظر: الشرح الممتع، (5/380) .(163/29)
دراسات في الشريعة والعقيدة
تعظيم الآثار رؤية شرعية
(2 - 2)
محمد بن عبد الله الهبدان
في الحلقة الأولى عرَّف الكاتب الآثار لغة واصطلاحاً، ثم تحدث عن منهج
الرسول صلى الله عليه وسلم ومَنْ بعده وموقفهم من الاهتمام بالآثار، وبيَّن أن
الاهتمام بالآثار من عادة غير المسلمين، ثم عدَّد أسباب الافتتان بالآثار التي أدت
إلى انتشار الاهتمام بها في بلاد المسلمين، وفي هذه الحلقة يتابع الكاتب الجوانب
الأخرى من الرؤية الشرعية لتعظيم الآثار.
- البيان -
عواقب التعلق بالآثار:
كوننا مأمورين بالسير في الأرض، والنظر في خلق الله، والاعتبار بمصائر
الأمم السابقة، لا يعني تقديس آثار السابقين أو المحافظة عليها، ومما يوضح ذلك
أننا نُهينا عن البقاء بديار الأمم الغابرة التي هلكت، وأُمرنا إذا مررنا بآثارها أن
نكون مسرعين باكين؛ فكيف نعدها من التراث الثمين والأمجاد؟ !
ولو كان للناس في تتبع هذه الآثار من مساكن ونحوها مصلحة دينية أو
معاشية لأرشدنا الله إليها، ولما خفيت على الخلق كثير من تلك الآثار والمساكن
والقبور.
وقد أنكر الله - تعالى - على قوم عاد إطالة البناء وجودته، فقال سبحانه:
[أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ]
(الشعراء: 128-129) ، قال ابن كثير - رحمه الله -: [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ
آيَةً تَعْبَثُونَ] (الشعراء: 128) أي: مَعْلَماً بناء ًمشهوراً. [تَعْبَثُونَ]
(الشعراء: 128) أي: وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه؛ بل لمجرد
اللعب وإظهار القوة؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم - عليه السلام - ذلك؛ لأنه تضييع
للزمان؛ وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في
الآخرة [1] . فإذا كان هذا يقال في بناء المساكن؛ فكيف يكون الحال إذن في
الاهتمام بأماكن الآثار وتحسينها؟ ! ألا إن الأمر أشد والخطب أعظم.
المبحث الأول: الشرك:
من مفاسد إحياء الآثار أنه يؤدي إلى الشرك الذي هو أعظم الذنوب عند الله -
تعالى - والذي قال الله فيه: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَاءُ] (النساء: 116) .
أما كيف يؤدي إلى الشرك؟
فإن ذلك يحصل - بإحدى حالتين:
الأولى: التمسح بها والصلاة عندها، وطلب كشف الكربة والشفاعة منها:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: «إن العناية بالآثار على
الوجه الذي ذُكِرَ [2] يؤدي إلى الشرك بالله - جل وعلا -؛ لأن النفوس ضعيفة
ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها، والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس
لا يدركها، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة
يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها، وما فيها من أشجار أو أحجار، ويُصلُّون
عندها، ويدعون من نُسبت إليه ظناً منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه ولحصول
الشفاعة، وكشف الكربة. ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية
في نفوسهم ممن يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم حتى
يحصلوا بسبب ذلك على بعض الكسب المادي، وليس هناك غالباً من يخبر زوارها
بأن المقصود العبرة فقط بل الغالب العكس.
ويشاهد العاقل ذلك واضحاً في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة
وأصبحوا يعبدونها من دون الله، ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها
أولياء؛ فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم! ! كما أن
الشيطان لا يفتر في تحيُّن الأوقات المناسبة لإضلال الناس. قال الله - تعالى -
عن الشيطان إنه قال: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
المُخْلَصِينَ] (ص: 82-83) ، وقال أيضاً - سبحانه - عن عدو الله الشيطان:
[قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ] (الأعراف: 16) » [3] .
الحالة الثانية: تقديس أمكنة الأنبياء والصالحين وآثارهم، وتعظيمها:
وقد كان أصل حصول الشرك وعبادة الأصنام في الأرض بسبب تعظيم
الموتى الصالحين.
روى ابن جرير الطبري - رحمه الله - عن بعض السلف في تفسيره لقوله
تعالى: [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً] (نوح: 23-24) أن هذه أسماء رجال صالحين من بني
آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم:
لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا جاء
آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقَوْن المطر،
فعبدوهم. وروى ابن جرير أن هذه الأصنام كانت تُعبد في زمان نوح - عليه
السلام -، ثم اتخذها العرب بعد ذلك [4] .
وأيضاً: فإن اللات التي هي من أكبر أوثان العرب في الجاهلية كان سبب
عبادتها تعظيم قبر رجل صالح والعكوف عليه.
وبهذا تبين أن سبب عبادة الأصنام هو المبالغة في تعظيم الصالحين. وقد رد
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - على مقال نشر بعنوان: (رميم
بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحريملاء) وذكر صاحب المقال أن الإدارة العامة
للآثار والمتاحف أولت اهتماماً بالغاً بمنزل مجدد الدعوة السلفية الشيخ محمد بن
عبد الوهاب - رحمه الله - في حي غيلان بحريملاء؛ حيث تمت صيانته وأعيد
ترميمه بمادة طينية تشبه مادة البناء الأصلية.. إلى أن قال: وتم تعيين حارس
خاص لهذا البيت.. إلخ. يقول الشيخ - رحمه الله -: «وقد اطلعت اللجنة
الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية على المقال المذكور،
ورأت أن هذا العمل لا يجوز، وأنه وسيلة للغلو في الشيخ محمد - رحمه الله -
وأشباهه من علماء الحق والتبرك بآثارهم والشرك بهم، ورأت أن الواجب هدمه،
وجعل مكانه توسعة للطريق سداً لذرائع الشرك والغلو، وحسماً لوسائل ذلك،
وطلبت من الجهة المختصة القيام بذلك فوراً، ولإعلان الحقيقة والتحذير من هذا
العمل المنكر جرى تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه» [5] .
المبحث الثاني: الابتداع:
الاهتمام بالآثار وإحياؤها ابتداع في الدين ليس عليه دليل من كتاب الله -
تعالى 0 ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله السلف الصالح - رحمهم
الله تعالى -، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. يقول الشيخ عبد العزيز ابن باز -
رحمه الله -: «ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» من أحدث
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد «أخرجه الشيخان، وفي لفظ لمسلم:» من عمل
عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد «، وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه -
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة:» أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر
الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة «، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذه
الآثار التي ذكرها الكاتب كغار حراء، وغار ثور، وبيت النبي صلى الله عليه
وسلم، ودار الأرقم بن أبي الأرقم، ومحل بيعة الرضوان وأشباهها إذا عُظِّمت
وعُبِّدت طرقها وعملت لها المصاعد واللوحات لا تزار كما تزار آثار الفراعنة،
وآثار عظماء الكفرة، وإنما تزار للتعبد والتقرب إلى الله بذلك، وبذلك نكون بهذه
الإجراءات قد أحدثنا في الدين ما ليس منه، وشرعنا للناس ما لم يأذن به الله؛
وهذا نفس المنكر الذي حذر الله - عز وجل - منه في قوله - سبحانه -: [أَمْ لَهُمْ
شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] (الشورى: 21) ، وحذر منه
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:» من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه
فهو رد «.. ولو كان تعظيم الآثار بالوسائل التي ذكرها الكاتب وأشباهها مما
يحبه الله ورسوله لأمر به صلى الله عليه وسلم أو فعله، أو فعله أصحابه الكرام -
رضي الله عنهم -؛ فلما لم يقع شيء من ذلك عُلم أنه ليس من الدين، بل هو من
المحدثات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، وحذر منها أصحابه - رضي
الله عنهم -، وقد ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
أنه أنكر تتبع آثار الأنبياء، وأمر بقطع الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه
وسلم تحتها في الحديبية لما قيل له إن بعض الناس يقصدها، حماية لجناب
التوحيد، وحسماً لوسائل الشرك والبدع والخرافات الجاهلية» [6] .
المبحث الثالث: الوقوع في أنواع من الكذب [7] :
إن من مفاسد الاهتمام بالآثار لجوء أصحابه إلى الكذب، من أجل الاستدلال
على شرعية ما ذهبوا إليه، أو لغرض تعيين موضع أو تحديد مكان، ولهذا وقعوا
في عدة أنواع من الكذب، تلك الخصلة الذميمة الممقوتة، ويمكن بيان أنواع الكذب
التي وقعوا فيها بسبب الاهتمام بالآثار فيما يأتي:
الأول: الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم: لا شك أن أشد أنواع
الكذب هو الكذب على الله - تعالى - أو على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر - عليه الصلاة والسلام - من الكذب عليه بقوله: «من كذب عليّ
متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» [8] .
ويتنوع الكذب هنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد يكون في أقواله
للاستدلال على شرعية زيارة أماكن الآثار وهذا هو الكثير، وقد يكون الكذب في
آثاره صلى الله عليه وسلم.
ومن نماذج الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله ما يأتي:
1 - الأحاديث الموضوعة في فضل زيارة قبره صلى الله عليه وسلم.
2 - الأحاديث المكذوبة في فضل الصخرة بالقدس.
3 - أحاديث في فضل الجامع الأموي بدمشق ومضاعفة الصلاة فيه.
أما الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في آثاره فإن المقصود به ما قد
ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً - لا سيما في العصر الحاضر - من
آثاره الحسية كشعراته مثلاً، وكذا دعوى وجود موطئ قدم النبي صلى الله عليه
وسلم على بعض الأحجار.
الثاني: الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم، كالكذب على
الصحابة - رضي الله عنهم - أو التابعين رحمهم الله، وغيرهم من الصالحين.
وهذا الكذب عليهم قد يكون في الأقوال، مثل ما ينسب إليهم من الروايات
المكذوبة في ذكر فضائل بعض الأماكن، وقد يكون الكذب عليهم في الأفعال كادعاء
حصول الخير عند بعض القبور مثل ادعاء أن الشافعي كان يدعو عند قبر أبي
حنيفة إذا نزلت به شدة فيستجاب له.
الثالث: الكذب في تعيين موضع الأثر [9] :
ويكثر هذا النوع في تعيين مواضع قبور بعض الصالحين من الصحابة
وغيرهم وكذا المساجد والموالد.
فمن ذلك مثلاً: مسجد يسميه البعض مسجد الكوع؛ لأن الرسول صلى الله
عليه وسلم وضع عليه كوعه ملتمساً شيئاً من الراحة عندما اشتد عليه أذى
القوم! ! [10] .
ومسجد الراية يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركز رايته يوم الفتح عند
هذا الموقع! ! [11] .
وتحديد مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم [12] .
الرابع: ادعاء بركة بعض المواضع دون مستند شرعي:
ومن النماذج على ذلك: زعمهم أن دار خديجة - رضي الله عنها - بمكة أفضل
المواضع بعد المسجد الحرام، وأن الدعاء يستجاب فيها.
ومنها كثرة ادعاء استجابة الدعاء عند بعض المقابر أو الجبال أو المساجد
المحدثة المبنية على آثار الأنبياء والصالحين.
المبحث الرابع: التشبه بالكفار:
ومن مفاسد الاهتمام بالآثار أن فيه مشابهة للمشركين الذين يهتمون بمثل هذه
الجوانب؛ كما تقدم أن عصبة الأمم قد نصت في صك انتداب بريطانيا على
فلسطين على الاهتمام بالحفريات، وذلك في المادة (21) التي تنص على: «أن
تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً
خاصاً بالآثار والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية..» . والنبي صلى الله عليه
وسلم يقول: «من تشبه بقوم فهو منهم» [13] . وقد تقدم أيضاً أن المسلمين عاشوا
دهوراً وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً، ولا يتحدثون عنها
حين يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة، لا يثير الحديث
عنهم شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم، وظل المسلمون على هذه الحال حتى
بدأ الغربيون بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها، فهي عادة غربية ونحن
مأمورون بمخالفة المشركين وعدم التشبه بهم. يقول الشيخ عبد العزيز بن باز -
رحمه الله -: «أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى [14] فإن الله - جل وعلا -
أمر بالحذر من طريقهم؛ لأنه طريق ضلال واتباع الهوى، ولا يجوز التشبه بهم
في أعمالهم المخالفة لشرعنا وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما
جاء به أنبياؤهم؛ فلهذا ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك
طريقهم» [15] .
المبحث الخامس: إضاعة السنن:
ومن مفاسد الاهتمام بالآثار إضاعة السنن؛ وهذا من خصائص البدع، ذلك
أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن [16] .
ولهذا جاء في الأثر: «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم
مثلها» [17] .
ولا شك أن السنن تموت إذا أُحييت البدع «لأن الباطل إذا عُمل به لزم ترك
العمل بالحق، كما في العكس؛ لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين» [18] .
ثم إن من لم يعطل الفرائض والسنن فستضعف عنايته بها على الأقل بسبب
تعلقه بالبدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند سياقه مفاسد البدع: «ومنها
أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد
الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن،
حتى كأنه يفعل هذه عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس
الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة
والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد، وإن لم
يفته هذا كله فلا بد أن يفوته كماله» [19] .
هذا ومن الأمثلة على ما يؤدي إليه الاهتمام بهذه الآثار من إضاعة الواجبات
والسنن ما يأتي:
1 - ما يفعل عند القبور من العكوف عندها والمجاورة، ونحو ذلك من
المظاهر المبتدعة يشغل عن كثير من الفرائض والواجبات والسنن المشروعة في
الدين. بل بلغ ببعض الغلاة إلى تفضيل زيارة المشاهد التي على القبور على حج
البيت الحرام، وإلى اعتقاد أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل
من حج البيت [20] .
2 - قصد المساجد المحدثة المبتدعة، وتتبع آثار الأنبياء والصالحين وبعض
الجبال والمواضع، في مكة والمدينة وبلاد الشام وغيرها، لأداء العبادات فيها
كالصلاة والدعاء.. وفي ذلك تعطيل لأداء العبادة المفروضة أو المسنونة في
المساجد الثلاثة الفاضلة، وسائر المساجد الأخرى التي شرعت العبادة فيها.
المبحث السادس: اقتراف المعاصي:
إن من مفاسد الاهتمام بالآثار الوقوع في المعاصي والمنكرات، ومن الأمثلة
على ذلك ما يلي:
1- صرف النفقات الباهظة المحرمة على بناء القباب والمزارات وكسوتها
بالأقمشة وتزيينها بالمصابيح، وتحبيس الأوقاف على ذلك، وبناء المصاعد على
الجبال، وإضاعة المال عن طريق النذور التي تقدم لصالح الأموات، ويأكلها
السدنة.
2 - اختلاط الرجال بالنساء، وما ينتح عن ذلك من الفتنة والواقع في الدول
الإسلامية خير شاهد على ذلك.
3 - ما يحصل عند بعض المزارات من تبرج وسفور فيحصل فيها من الفتن
ما الله به عليم.
وسائل مقاومة الافتتان بالآثار:
بعد عرض أسباب الافتتان بالآثار وسلبياته لا بد من بيان وسائل مقاومته
للقضاء عليه، والحد من انتشاره بين المسلمين، ويمكن حصر ذلك في عدة وسائل
مهمة، وبيانها فيما يأتي:
المبحث الأول: نشر العلم:
لا يشك أحد في فضل العلم، ورفعة منزلته، وفضل طلبه وفضيلة العلماء،
والمراد بالعلم هنا: العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر
دينه، في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله تعالى وصفاته، وما يجب له من القيام
بأمره وتنزيهه عن النقائص [21] .
ومن لوازم تعلم العلم: تبليغ العلم، ونشره بين الناس، وتعليمهم إياه، كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [22] ،
وكما قال صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه في الحج: «ليبلغ الشاهد
الغائب» [23] .
فعلى العلماء بذل العلم ونشره بين الناس على أوسع نطاق، وعدم كتمان العلم
ولا سيما عند شيوع الجهل وظهور البدع، حتى يعرف الناس الحق من الباطل،
ويعبدوا ربهم على بصيرة وعلم.
وبما أن أهم ما يتضمنه العلم الشرعي بيان أصول الدين - المسمى أحياناً بعلم
العقيدة - فإن ذلك يعني بيان العقيدة الصحيحة، عقيدة السلف الصالح التي تقوم
على اتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بما كان
عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
ومن المعلوم أن الاهتمام بالآثار لون من ألوان البدع المحدثة كما سبق؛ ففي
نشر العلم الشرعي - المتضمن بيان عقيدة أهل السنة والجماعة وما يضادها -
وقاية من الوقوع في مثل هذا الاهتمام، كما أن في ذلك أيضاً مقاومة له بعد حصوله.
المبحث الثاني: الدعوة إلى المنهج الحق:
ومن الوسائل المهمة لمقاومة الاهتمام بالآثار وبعثها من جديد الدعوة إلى
المنهج الحق، وأعني بهذا دعوة من ابتلي بشيء من هذا الاهتمام حتى يرجع إلى
الحق وإلى منهج الشرع القويم.
وتحقيق ذلك داخل ضمن مبدأ عظيم من مبادئ الدين، ألا وهو مبدأ الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
فعلى هذا يجب على من عنده علم واستطاعة إنكار المنكرات التي أعظمها
البدع المحدثة في الدين، ومنها بدعة الاهتمام بالآثار.
ويمكن دعوة من يفعل ذلك إلى المنهج الحق باتباع الوسائل الآتية:
1 - تبصير الناس بالمنهج الحق الذي كان عليه سلف الأمة الأبرار، وتحذير
الناس من الابتداع والإحداث في الدين، وسد الذرائع المفضية إلى ذلك.
2 - على الدعاة إنكار جميع ما يقع من مطالبات لإحياء هذه الآثار والاهتمام
بها.
3 - على العلماء مناقشة الشبهات التي يتمسك بها مؤيدو إحياء هذه الآثار
والرد عليها، عن طريق المؤلفات، وشتى الوسائل المختلفة المناسبة.
4 - وضع مرشدين من طلبة العلم عند بعض المواضع التي يكثر طَرْقُها من
قبل عامة الناس للتوعية والإرشاد بشكل دائم.
5 - كتابة النشرات الإرشادية المناسبة على لوحات، ووضعها عند الأماكن
التي يُعتقد فيها كالمقابر والمشاهد، والجبال، والمساجد المحدثة.
6 - صدور فتاوى من كبار العلماء في هذا الموضوع، وينص بمنع أصحاب
الأقلام في الصحافة ونحوها من الكتابة والمطالبة فيه.
7 - توعية الأدلاَّء الجهال أو من يسمون (المزوِّرين) الذين يصطحبون
الحجاج أو الزوار إلى المزارات المشروعة، وعقد الدورات العلمية لهم لتوجيههم،
واشتراط أن يكونوا متعلمين، ومن المعروفين باتباع السنة.
ولقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن حكم عمل القُوّام عند
القبور أو غيرهم الذين يأمرون زوار القبور بالبدع ويرغبونهم فيها، ويأخذون على
ذلك جُعلاً، وعن موقف ولي الأمر من ذلك.
وكان مما أجاب عن ذلك قوله - رحمه الله - بعدما أبان حرمة هذا العمل:
«ومن أمر الناس بشيء من ذلك، أو رغبهم فيه، أو أعانهم عليه، من القُوّام أو
غير القُوَّام، فإنه يجب نهيه عن ذلك، ومنعه منه، ويثاب ولي الأمر على منع
هؤلاء، وإن لم ينته عن ذلك فإنه يُعزر تعزيراً يردعه، وأقل ذلك أن يعزل عن
القيامة، ولا يترك من يأمر الناس بما ليس من دين المسلمين» .
وأفاد - رحمه الله - أن «الكسب الذي يكسب بمثل ذلك خبيث، من جنس
كسب الذين يكذبون على الله ورسوله ويأخذون على ذلك جُعلاً، ومن جنس كسب
سدنة الأصنام الذين يأمرون بالشرك ويأخذون على ذلك جُعلا» [24] .
المبحث الثالث: إزالة وسائل الغلو ومظاهر الاهتمام:
من الوسائل الفعلية النافعة في مقاومة الاهتمام بالآثار: إزالة وسائل الغلو في
الأنبياء والصالحين وغيرهم؛ والأصل في إزالة المنكر قوله صلى الله عليه وسلم:
«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..» [25] . وتغيير المنكر وإزالته باليد ونحوها
أعلى مراتب التغيير، ولا يجوز العدول عن هذه المرتبة إلى ما دونها إلا عند عدم
الاستطاعة.
وتأمل في قصة وفد ثقيف عندما أسلموا ووفدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فإنهم فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية - وهي
اللات - لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فما
برحوا يسألونه سَنَة سَنَة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى
عليهم أن يدعها شيئاً مسمَّى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يَسْلَموا بتركها
من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروِّعوا قومهم بهدمها، فبعث المغيرة
بن شعبة وأبا سفيان بن حرب لهدمها [26] .. فتأمل - يا رعاك الله - المصالح التي
ذكروها.. فهم حدثاء عهد بإسلام فيحتاجون إلى التأليف.. وخافوا من سفهاء
قومهم.. وأرادوا تأليف قومهم وعدم ترويعهم حتى يدخلوا الإسلام.. ومع ذلك كله
فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن المصلحة في دك حصون الشرك وقلع
قواعده وهدم صروحه، ولم يلتفت إلى تلك المصالح الموهومة مطلقاً.
قال ابن القيم - رحمه الله - في فوائد قصة ثقيف هذه: «ومنها: أنه لا
يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً
فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع
القدرة البتة» [27] ويقول أيضاً: «ومنها: هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً
للطواغيت وهدمها أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات
والمواخير، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويُشرك
بأربابها مع الله لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها، ولا يصح وقفها ولا
الوقف عليها» [28] .
وهناك نماذج عديدة لإزالة المنكر الظاهر على مر العصور من قبل الأنبياء
عليهم السلام وغيرهم، كخلفاء المسلمين.
فقد كسر إبراهيم - عليه السلام - أصنام قومه، يقول الله تعالى: [وَتَاللَّهِ
لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] (الأنبياء: 57) ، [فَرَاغَ إِلَى
آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ]
(الصافات: 91-93) ، وأحرق موسى - عليه السلام - العجل الذي عُبد من
دون الله. يقول الله - تعالى -: [وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ
ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً] (طه: 97) ، وكسر النبي صلى الله عليه وسلم
الأصنام لما فتح مكة [29] ، وهدم عليه الصلاة والسلام مسجد الضرار بالمدينة،
وحرق بعض الخلفاء أمكنة الخمر، وأتلفوا المغشوش مما يباع في أسواق
المسلمين، وقطع عُمَرُ - رضي الله عنه - الشجرة التي بويع النبي صلى الله
عليه وسلم تحتها.
إلى غير ذلك من الأمثلة الأخرى، وما أجمل ما قاله محمد إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب ... فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها ... كنزاً وصاغ منها الحلي والدينارا
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/342) .
(2) من ذلك تحقيق المواقع التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الذي سلكه في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة، ووضع شواخص تدل عليها كمثل خيمتين أدنى ما تكونان إلى خيمتي أم معبد، مع ما يلائم بقية المواقع من ذلك وتسهيل الصعود إلى أماكن تواجده (بدأ بغار حراء ثم ثور، والكراع حيث تعقبه سراقة بن مالك) .
(3) مجموع فتاوى ومقالات متفرقة (3/334) .
(4) تفسير الطبري 29/98، 99.
(5) مجموع فتاوى ومقالات (7/425) .
(6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/401) .
(7) انظر: في هذا المبحث: التبرك أنواعه وأحكامه، د ناصر الجديع، ص 490- 492 بتصرف.
(8) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، رقم 110، ومسلم، المقدمة، رقم 3.
(9) انظر: تاريخ مكة للأزرقي (2/198) وتلحظ أن كل الأماكن التي يذكرها يقول فيها: يقال
كذا! ! .
(10) انظر: دراسات في آثار المملكة العربية السعودية (1 /101) تأليف د محمد أحمد بدين
وعبد الرحمن بكر كباوى.
(11) المرجع السابق (1/92) .
(12) المرجع السابق (1/95) .
(13) أخرجه: أبو داود (4031) وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء: إسناده جيد.
(14) حيث استدل الدكتور فاروق أخضر في مقاله المنشور في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3354 في تطوير الأماكن الأثرية بأن «السياحة الدينية في المسيحية في الفاتيكان تعتبر أحد الدخول الرئيسية للاقتصاد الإيطالي، وأن إسرائيل قد قامت ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا على اعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس! !» .
(15) مجموع فتاوى ومقالات (3/338) .
(16) الاقتضاء 2/740.
(17) أخرجه الدارمي، رقم 99، من قول حسان بن عطية.
(18) الاعتصام للشاطبي 1/114.
(19) الاقتضاء 2/611، وانظر: 2/741.
(20) الاقتضاء 2/793.
(21) فتح الباري 1/141.
(22) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن، رقم 5027.
(23) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، رقم 104.
(24) انظر: مجموع الفتاوى (27/106 111) .
(25) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم 49.
(26) انظر: الطبقات لابن سعد (5/505) ، تاريخ الطبري (2/180) .
(27) زاد المعاد (3/506) .
(28) المرجع السابق (3/601) .
(29) الحديث في الصحيحين.(163/33)
قضايا دعوية
الحاجة إلى نشأة فرع جديد في علوم الدعوة
د. جمال أحمد بادي [*]
مقدمة:
يلاحظ الدارس للعلوم الإسلامية المختلفة مرورها بمراحل متدرجة وتطورها
وتجدد فروعها بناءاً على الحاجة الداعية لتلك المراحل والتفريعات لتخدم آفاقاً جديدة
لفن من الفنون، أو لتعالج مشكلة، أو لتستجيب لتحد من التحديات الظرفية التي
يمر بها ذلك الفن. وقد يكون الفرع الجديد في الفن قد نشأ بوصفه مرحلة طبيعية
لتطور ذلك الفن. ومهما كانت الأسباب وتعددت فإننا لا نكاد نجد فناً من الفنون إلا
وقد تطور وتفرع ليلبي احتياجاته، وكلما ازدادت العناية بالفن وعظمت مكانته
وجدنا ظاهرة التخصصات الفرعية أو تفرع جزئيات ذلك الفن واضحة وبارزة.
انظر على سبيل المثال إلى: «علوم القرآن» كيف بدأت بمجموعة محددة
ومحصورة من القضايا والجزئيات إلى أن فاقت الثمانين فرعاً من العلوم
والدراسات , والأمر نفسه والظاهرة ذاتها تتكرر في داخل فروع الفن نفسه؛ خذ
على سبيل المثال أنواع التفاسير التي تتالت وتلاحقت وتجددت ليدخل فيها: التفسير
اللغوي، والفقهي، والتفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي، والتفسير الإشاري،
والتفسير التحليلي، والتفسير الموضوعي، وغيرها.
وانظر إلى علوم الحديث التي فاقت المائة تفريعاً وتجديداً لخدمة هذا العلم
الجليل، وقارنها بمبتداها تبدُ لك الحاجة إلى تجديد كل فن من الفنون لخدمته
وتطويره وتحقيق أهدافه وطموحاته، وليواكب المستجدات والتحديات، وليكون
فاعلاً مؤثراً.
ومعلوم أنه كلما ازداد التخصص الدقيق في العلم الواحد بازدياد فروعه كان
تطوره نحو الأفضل والأحسن.
وإذا ما قارنا علم الدعوة الإسلامية بغيره من العلوم نلاحظ ضعف هذه
الظاهرة: أي ظاهرة التفريع في جزئيات هذا الفن. فرغم العناية الفائقة بالدعوة
التي أولاها العلماء والمفكرون المتأخرون عنايتهم إلا أن جزئياته بقيت محدودة
ومحصورة: تاريخ الدعوة، أصول الدعوة، مناهج الدعوة، طرق الدعوة،
أساليب الدعوة، ثقافة الداعية، فقه الدعوة، فقه التغيير، عوائق الدعوة، عالمية
الدعوة، الحسبة أو الاحتساب، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل
آخرها فيما أعلم علم النفس الدعوي.
توطئة للفرع الجديد من علوم الدعوة:
لقد قطعت الدعوة الإسلامية مراحل مباركة من مسيرتها تراوحت بين المد
والجزر، وبين الإيجاب والسلب، وبين الإنجاز والتقصير، وبين الإفراط
والتفريط، وبين التدارك والغفلة، وبين الإعداد والتخبط وغير ذلك من الأمور.
وفي أثناء هذه المسيرة واجهت عراقيل وتحديات داخلية وخارجية ولَّدت
مواقف متباينة، ونتج عنها تطورات مختلفة على مستوى: القرارات، والمفاهيم،
وردود الأفعال، والآراء.
هذه المواقف والتطورات في حاجة إلى الرصد والدراسة والتحليل والتعليل
والتقويم والمقارنة والحكم عليها ونقدها نقداً بنَّاءاً للخروج بالدروس والعبر من جهة،
ولدراسة الآثار المستقبلية لتلك الأمور الآنفة الذكر لتفادي سلبياتها وتكميل
إيجابياتها، وللتخطيط والبرمجة لتطوير مناهج الدعوة ووسائلها وأهدافها، ولهندسة
الحلول والخيارات الممكنة لتفادي ما يجب ويمكن تفاديه من تحدياتها وإشكالياتها أو
التواؤم والتكيف - في ما لا مفر منه - مع الأوضاع الجديدة التي فرضت عليها.
الإعلان عن نشأة «علل الدعوة» فرعاً جديداً من علوم الدعوة:
يتكون لدى أصحاب السبق العلمي والتربوي والتجربة والخبرة في مجال
الدعوة ما يمكن تسميته بـ «المقاييس» و «المعايير» الخاصة، لتقويم المواقف
والأحداث والآراء بناءاً على سبقهم المذكور وبوصفه تراكماً طبعياً ينشأ عن تفاعلهم
مع الدعوة وعيشهم بها ولها فكراً وإحساساً، وعملاً وتنظيراً، واهتماماً ومتابعة،
وغيرة وحباً، وتأثراً وتأثيراً. كل ذلك مما يوجب عليهم بمقتضى: [وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3) أن ينبهوا إلى مواطن الخلل الدعوي،
ومواضع القصور، وزوايا النقص والاضطراب، وتحديد معالم الأدواء الظاهرة
والخفية فيما لهم فيه مقدرة بشرية وفق منهج منضبط، ونية مسبقة مرتكزة في عالم
الشعور والوعي.
المقصود بالعلل بوصفه مصطلحاً:
يقصد بمصطلح العلل هنا أمران هما:
1- الإشكاليات والتحديات التي تواجهها الدعوة الإسلامية على المستوى
الذاتي الداخلي، وكذا المستوى الخارجي.
2 - مواطن الخلل والضعف في الدعوة.
أهداف هذا الفرع الجديد من علوم الدعوة:
بتعريف «العلل» تعريفاً اصطلاحياً يتبين أهم الأهداف التي يسعى هذا الفن
لتحقيقها وأهمها:
1 - إيجاد الحلول الممكنة لأهم المشاكل والإشكاليات التي تواجهها الدعوة
الإسلامية.
2 - رسم وتصميم الاستراتيجيات الممكنة لتجاوز العقبات والتحديات
المعاصرة التي تعترض الدعوة الإسلامية.
3 - وضع خطط الانطلاق للدعوة الإسلامية بعد نوع من المراوحة والتحرك
البطيء، وفتح آفاق جديدة للعمل الدعوي الناضج تتواءم مع المستجدات، وتتكافأ
مع متطلبات العصر.
الملامح المنهجية العامة للفن الجديد:
يجب أن يكون هذا الفن مؤسساً - كغيره من علوم الشريعة - على نصوص
الكتاب الكريم والسنة الصحيحة الثابتة، منضبطاً بأصول الشريعة وقواعدها الغراء،
محققاً لمقاصدها النبيلة، مراعياً اللغة التي جاءت بها. وحيث إن جزءاً من هذا
الفن يتعلق بالاجتهاد فإنه يستفيد من كل الأدلة المقررة في باب الاجتهاد التي نالت
القبول من الأئمة الفحول. هذا من حيث منهج الاستدلال، أما من حيث منهج
البحث فيمكن لهذا الفن أن يفيد من: المنهج التاريخي، المنهج الاستقرائي التحليلي،
والمنهج النقدي؛ كما يمكن الإفادة من دراسة الحالة، والدراسات الميدانية،
والمسحية، والاستبيان، والملاحظة العلمية، وغير ذلك بحسب ما يقتضيه
الموضوع.
القضايا والموضوعات التي يمكن أن يتناولها
هذا الفن الجديد من علم الدعوة:
1 - التأكد من التزام التوازن في الطرح الدعوي:
أ - من حيث أسلوب الخطاب وما يستدعيه من حكمة وتقدير لمآلات الأقوال
على المدعوين، وتغليب التفاؤل والأمل وإن كثرت جراح المسلمين ومشاكلهم في
خطاب الدعاة.
ب - من حيث التوازن بين التنظير والتطبيق.
ج - من حيث «المحتوى» فلا يكون التركيز على شيء سبباً في إهمال
غيره.
د - في ردود الأفعال من الأحداث، وفي المواقف المختلفة التي تواجهها
الدعوة في مسيرتها المتتابعة.
2 - استظهار صور التحزب الجلي والخفي، والذي قد يتولد نتيجة الرتابة
والعمل، وقد ينتج عنه الوقوع في التفرق المذموم دون شعور أو قصد.
3 - انحراف المفاهيم بسبب ظروف الزمان والمكان، ومن المفاهيم التي
تحتاج إلى «كشاف» هذا الفن:
أ - مفهوم الجماعة، حيث اصطبغ المفهوم الشرعي للمصطلح في أحيان
كثيرة بظروف مكان ما أو بلد ما أو «جماعة ما» نظرت إليه من خلال تجربتها
ثم أعادت صياغته في قالب التجربة، ثم أرادت حمل الآخرين عليه، وقسم
«مشفق» يريد لَمَّ الشمل ويحاول إرضاء جميع الأطراف، فجاء المفهوم تركيباً
أو تلفيقاً لكل ما هو موجود. ولا يعنينا هنا الذين كتبوا ضد المفهوم سلباً إما
إرضاء لطرف ما أو جهة ما، وإما أن يكون من حاقد على الإسلام لا يريد له
قائمة، وكذا الذين تأثروا بمواقف الجماعات السلبية.
ومما يتبع له أن مفهوم الجماعة قد اتخذ مفهوماً اصطلاحياً حادثاً في زماننا
هذا؛ حيث تعيش الأمة حالة استثناء. وهنا يأتي القياس ولكن هل يتم القياس على
الأصل؟ أو على استثناء مثله؟ وفي حالة الاختلاف حول علة الاستثناء؛ ما هو
مقياس أو معيار استنباط العلة وترجيحها؟ فقد لجأت بعض مدارس الدعوة إلى
القياس على إمارة السفر مع إعطاء أمير الجماعة حقوق الخليفة، وأخرى على
جماعة الحسبة، وثالثة على العهد المكي، والبعض قال ببدعية الجماعات نتيجة
الخلط بين أفراد المفهوم، ولجأ البعض إلى قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به! فأي هذه
الأقيسة أقرب إلى الصواب؟ هل الجماعة منهج أم قيود؟ أم تجريد وهمي وانتساب
صوري؟ هل هي تميز؟ وما حد هذا التميز؟ وهل هو مطلق ودائم؟ وما هو
الموقف من الآخرين في حال التميز؟ هل الجماعة انتساب؟ وإلى من؟ وأي
الأسماء ينتسب إليها؟ وماذا عن الظلال السلبية وما ارتبط بالأسماء من تصورات؟
وماذا عن تعدد التفسير والفهم لتلك الأسماء؟ وهل هي غاية أم وسيلة؟ وماذا عن
التحديدات والقيود التي وضعت على المفهوم: الاسم، الأمير، البيعة، التعاليم
والأصول، ونحو ذلك؟
والحقيقة التي قد لا ينتبه إليها كثير من الدعاة أن مفهوم الجماعة الضيق كان
سبباً ولا يزال في حصول الخلافات والشقاقات بينهم، بل هو من أسباب الفرقة
ومانع من الألفة وتحقق الأخوة التي يتساءل المتسائلون عن أسباب صعوبة قيامها،
وبيان ذلك: هل المقصود بالجماعة جماعة المسلمين، ومن خرج عنها فقد خلع
ربقة الإسلام من عنقه؟ (حيث هناك جماعات تدعي لنفسها ذلك) ، أم هي جماعة
من المسلمين؟
وإذا كانت جماعة من المسلمين؛ فهل هي الجماعة الأم التي ينبغي للجماعات
التي تفرعت عنها أو تأثرت بها الرجوع إليها والانضواء تحت لوائها؟ فهناك من
الجماعات من تدعي هذا الحق لنفسها.
أم هي الجماعة الأصل وغيرها طارئ وحادث مبتدع؟
أم هي الجماعة التي وحدها تتبع الحق وتحمله، والتي فهمت الدين فهما سليماً
صحيحاً وهي بذلك الفرقة الناجية وما عداها فمبتدع ضال مضل، أو زنديق يتلبس
لبوس الإسلام؟
ونلاحظ في بعض الثنائيات السابقة الربط بين الجماعة بمفهومها الشرعي،
والجماعة بمفهومها الاصطلاحي العرفي الحادث.
ومن الثنائيات المطروحة على خلاف في وجهات النظر: هل الجماعة تعاون
شرعي، أم تجمع تنظيمي حزبي؟
هل التعدد في الجماعات مأذون به وأمر صحي؟ فهناك من يرى ذلك.
أم أنه ظاهرة مَرَضية سلبية لا يرتجى منها خير؟
ب - مفهوم (الهجر والتميز) ، أو غير ذلك مما له ارتباط به كالمفاصلة عند
بعض المدارس الدعوية؛ حيث تتأثر بالمواقف وردود الأفعال والنظرة الحزبية
الضيقة.
ج - هناك مفاهيم تحتاج إلى إعادة نظر في مدلولها من حيث التعميم
والتخصيص؛ وخذ على سبيل المثال مفهوم (داعية) نفسه؛ فالاتجاهات الدعوية
المعاصرة تميل إلى حصره وتضييقه وتخصيصه بفئة محددة، ونشأ تبعاً لتضييق
المفهوم تكاثر الظباء على خراش الداعي، أو بلغة الدعوة تكاثر الأعباء الدعوية
على الداعية الذي أصبح من مهماته المسؤولية عن كل شيء! !
هل يمكن توسيع دائرة هذا المفهوم ليشمل الأمة كلها؟ كل فرد حسب موقعه،
ويتحدد دور كل من خلال تخصصه أو وظيفته؟ مع بقاء بعض المهام الخاصة التي
تكون من شأن الدعاة أصحاب العلم والخبرة والكفاءة!
4 - «الأَسْر» بصوره المختلفة والتي تربو على عشرين، ومن أهمها:
أ - المتابع لأدبيات الدعوة من خلال «المجلات» و «الكتيبات» ،
و «الأشرطة المسموعة» بشكل ما قد ينتج عنه «خارطة ذهنية معينة»
ينظر صاحبها إلى العالم والمواقف والناس من خلالها، ويفسر الأحداث وفق
تعاريجها وتموجاتها، بل ينظر إلى المستقبل خلف ظلالها وبانعكاس
ألوانها.
ب - قد يجتهد بعض الدعاة في وضع أصول للعمل الدعوي فيتابعه عليها
غيره ممن اقتنع بها مدة من الزمن، ثم تتحول تلك الأصول الاجتهادية إلى منهج
لازم يجب على جميع الدعاة التزامه. قارن هذه المسألة باعتقاد وجوب بعض السنن
غير اللازمة عند التزامها والمداومة عليها وإظهارها مما قد يوقع صاحبها في البدعة
الإضافية.
ج - الاجتهاد في وضع البرامج العلمية والتربوية بصورة ما فتلتزم مدة
طويلة من الزمن دون مراجعة أو إعادة نظر الأمر الذي قد ينتج عنه «صورة
ذهنية معينة للموضوعات المطروحة» وقد تكون خاطئة أو تحتوي على أخطاء
لكن دون تفطن لحصول «الأَسْر» .
ولا شك أن وضع أي حدود أو تحديدات على القضايا الشرعية والتي لم تثبت
بالوحي والنص، ولم يدل عليها دليل منه فهي مردودة. وهناك أنواع أخرى كثيرة
من الأَسْر نحو: أَسْر المصطلحات، أَسْر العوائد، أَسْر المواقف، وغيرها مما لا
يتسع المقام لبسطه.
5 - التأكد والتثبت في الانتقال من مرحلة دعوية إلى غيرها، والتبين من
عدم الاستعجال في ذلك، فهناك «السراب الدعوي» ، وهناك التقديرات الخاطئة،
وهناك مثيرات الاستعجال من «الإشارات الخادعة» ، وهناك المحفزون
المتحمسون، وسوى ذلك من المعجلات.
6 - هل يصلح «القياس الدعوي» ؟ وإذا نجحت وسيلة ما أو تجربة دعوية
ما في بلد ما أو زمان ما فهل يمكن تعميمها والقياس عليها؟ وما هي حدود إعماله؟
ومتى وكيف؟
فهناك القائلون بالقياس على تجربة إيران، بل محاولة ذلك، وهناك المانعون
وهناك القائلون بالقياس على تجربة أفغانستان، بل حصل بالفعل، ودفع الدعاة
والمسلمون عموماً الثمن باهظاً في عدة دول مسلمة. وهناك القائلون بالقياس على
تجربة السودان على تحفُّظ فيما تلا أحداث الانشقاق الأخيرة.
7 - فقه المحن.. والذي يصلح أن يكون فرعاً لهذا الفن الجديد.
8 - حصر مسائل الخلاف الدعوية المهمة، ثم دراستها والبت فيها نحو:
الوسائل الدعوية بين الاجتهاد والتوقف، الاشتراك في المؤسسات السياسية
المعاصرة.
9 - تقويم التيارات الدعوية والفكرية المعاصرة وخاصة المنحرفة منها
والجانحة، وبيان الخلل فيها، وما لها وما عليها، ودحض شبهاتها، وتفنيد
مزاعمها.
10 - مقاييس نقد الدعوة.
11 - فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، وحيث إن هذا الموضوع نال
بعض الحظ على مستوى التنظير إلا أنه لم يحظ باهتمام كاف في جانبه العملي
التطبيقي المعاصر.
12 - تأصيل المفاهيم الدعوية الأساسية.
13 - قواعد الترجيح في المسائل الخلافية الدعوية.
14 - علم اجتماع الدعوة الذي يصلح أن يكون فرعاً آخر من علوم الدعوة.
إرهاصات الفرع الجديد:
لقد صدرت مجموعة من الدراسات والكتيبات في مجال الدعوة في العقدين
الأخيرين قد تؤخذ على أنها إرهاصات لنشأة هذا الفن وإن غلب عليها النظرة
الأحادية في الجملة، والتعميم في الطرح، وبعضها لا يخلو من صبغة ردود الأفعال ,
من هذه الدراسات:
* بعض كتابات عادل الخنساء أو الحسون، ومن مؤلفاته: نواقض الحركية.
* مشكلات الدعوة والداعية لفتحي يكن.
* أعذار المتقاعسين للشيخ يحيى اليحيى.
* نظرات في مسيرة الحركة الإسلامية للدكتور عمر عبيد حسنة.
* عنوان مماثل للدكتور عبد الله النفيسي وآخرين.
* مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية لعبد الحميد البلالي.
* كتابات بعض أفراد الجماعات والاتجاهات الإسلامية في بيان عيوب
مخالفيهم يمكن أن يعتبر في هذا المقام، مع الأخذ في الاعتبار أنها قد تكون ردود
أفعال لا تخلو من المبالغة والتجاوزات والتعدي بل والتطاول والبغي؛ فيستفاد منها
بحذر.
يسَّر الله بفضله ومنِّه لدعاة الإسلام أن يقطعوا خطوات إلى الأمام؛ للتقدم
بسفينة دعوتهم الماخرة الزاخرة في بحر وإن تلاطمت أمواجه وكثرت شعبه
المرجانية إلا أن ساحل الأمان قد لاحت في الأفق أنواره الباهرة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين.
__________
(*) دكتوراه في أصول الدين من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أستاذ مساعد في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.(163/41)
قضايا دعوية
نحو إدارة دعوية واعية
محمد يحيى بن يحيى
كثير هم المخلصون الذين وفقهم الله لخدمة دينهم بسد شيء من الثغرات
العلمية والتربوية والدعوية، أو ثغرات العلوم الطبيعية والإدارية ونحوها , ويهمني
هنا الحديث في مجال الثغرات الإدارية، لا لأشير إلى أهمية هذا المجال أو تطور
علم الإدارة ونقد النظريات الإدارية، ولكن لأشير إلى تأخر الجانب التطبيقي
للمفاهيم الإدارية العامة - أو قل المسلَّمات الإدارية - من الواقع الدعوي، مما قد
يؤخر ثمرات الجهود فترات طويلة في بعض الأحيان. وأكتفي هنا بالحديث عن
واحد من أهم المفاهيم الإدارية التي ينبغي أن تظهر بالشكل المطلوب في الأوساط
الدعوية آملاً أن يكون فاتحة للحديث في مفاهيم أخرى تنقص الساحة الدعوية.
تحديد الهدف بدقة ووضوح قبل التفكير في رسم الخطة:
قد يقول مدرس حلقة القرآن: نحن نخطط ليتم الطالب حفظ كتاب الله في
ثلاث سنوات.
ويقول مسؤول النشاط الصيفي: نخطط لاستيعاب ضعف العدد الحالي بعد
عامين.
وقد تسمع من مسؤول مركز خيري: نخطط لإصدار مجلة تزيد من شهرة
اسم المركز.
فإذا ما سألت كل واحد منهم عن الهدف الذي يرغب تحقيقه كرر العبارة
نفسها.. في خلط واقعي بارز بين مفهومي الهدف والخطة، نتج عنه ما يمكن أن
يسمى: (الخطة الهدفية) أو (الهدف التخطيطي) الذي يعني القيام بالعملين في
حين واحد.. وحديثنا فيما يلي يعنى بعمل وضع الهدف، وهو أساس الخطط
المتكاملة.
إن وجود هدف واضح محدد لجميع العاملين في أمر ما بات مسلَّمة إدارية لا
تقبل النقاش لصنع نجاح جماعي في أقصر وقت وبأقل جهد وتكاليف. وهذه مرحلة
يشهد الواقع بتجاوز الكثير من العاملين في حقل الدعوة لها، وإن كان الواضح أيضاً
أنه ما زال يشوبها شيء من العلل القادحة الخفية الآتية:
1 - الاكتفاء برسم الأهداف قصيرة المدى التي تنتهي دورة العمل فيها خلال
فترة زمنية قصيرة مثل تحديد أهداف نشاط صيفي أو موسم خيري لعام واحد.
2 - غياب كثير من الأهداف بعيدة المدى عن أكثر العاملين ذوي المسؤوليات
على اختلافها أي عدم معرفتهم بها تحديداً (مثل الأهداف التي يسعى النشاط
لتحقيقها على مستوى المنطقة بعد خمس سنوات) .
3 - عدم إشراك كثير من المسؤولين عن العمل في صياغة الهدف؛ مما قد
يسبب تعارضاً منشؤه اختلاف الأولويات المرحلية، ويبرز هذا عند من لا يدرك
الأهداف العامة البعيدة.
4 - عدم الاكتفاء بتغيير الخطط التي يفترض أصلاً فيها المرونة، وإنما
تغيير الأهداف بنسب متفاوتة؛ وهذا نتاج طبيعي لظاهرة (الخطة الهدفية) ،
ومثال ذلك تغيير هدف الاستقطاب الدعوي إلى هدف التركيز التربوي والعلمي بناءً
على مستجدات من نوع ما.
تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من الأهداف قد يتعذر تحقيقها أو تتحقق بنسب أقل
بكثير مما أريد لها، وعند التدقيق نجد أن العاملين قد بذلوا جميع الأسباب الشرعية
والمادية مما يحدث حيرة حقيقية في طبيعة ما حدث!
والواقع أن الخلل قد حدث منذ البداية بسبب إغفال عمل تحليل لظروف العمل
ودراسته دراسة منطقية مناسبة، وهذا التحليل حتى يكون متكاملاً فإنه ينبغي أن
يشمل جملة من العناصر يمكن إجمالها فيما يلي:
- حصر الأصول التي نملك استثمارها في هذا العمل ودراسة مقدار الاستفادة
منها (بمعنى معرفة نقاط القوة: مثل عدد العاملين، وتوفر المال اللازم) .
- تحديد وتحليل المشاكل الداخلية التي نواجهها حالياً ويستلزم ذلك معرفة
أسبابها ونتائجها (معرفة نقاط الضعف مثل عدم وجود طاقات قيادية مؤهلة أو عدم
وجود المكان الملائم لإقامة النشاط) .
- دراسة الفرص والبدائل المتاحة على ضوء معرفة الواقع وتحديد نقاط القوة
والضعف (هل نفتتح عدة لجان خيرية تشغل جميع الطاقات، أم نرجئ بعضها
ويشتغل البعض بإعداد طاقات جديدة؟) .
- وأخيراً تحديد المشاكل والتهديدات المتوقعة مع كل من البدائل والفرص،
ووضع الخطط المناسبة لتلافيها مبكراً أو تجاوزها عندما تقع بعيداً عن التأثر
بعنصر المفاجأة.
يمكننا الآن تحديد الهدف المناسب أيّاً كان حجمه المرحلي مع ملاحظة إشراك
العاملين في صياغته، وهو ما يضمن - بإذن الله - حدوث نوع من الحماس
والمسؤولية الجماعية تجاه هذا الهدف، ومن ثم يكون بالإمكان الانتقال لرسم الخطة
المناسبة لتحقيقه.
إن من أعظم الآمال المنعقدة على استخدام هذه الطريقة في وضع الأهداف
انتقال المؤسسات الدعوية لوضع أهداف دقيقة واضحة عملية عظيمة النتاج بإذن
الله؛ فحلقات تحفيظ القرآن الكريم التي تكتفي - عادةً بوضع هدف عام هو أن يُتم
كل من يلتحق بالحلقة حفظ القرآن، ستستطيع بإذن الله صياغة الهدف ليكون: أن
يُتم كل من يلتحق بالحلقة حفظ القرآن وإتقانه في ثلاث سنوات. ثم تضع خطة
زمنية سنوية لإتمام عشرة أجزاء بإتقان، ومن ثم تقوم بتقسيمها دورياً على أساس
مراعاة كل شخص وقدراته، واعتبار البرامج والانشغالات الأخرى.
كما أن المراكز الصيفية التي تهدف لشغل وقت الشباب بالنافع المفيد سيكون
هدفها أكثر تحديداً مثل: استيعاب شباب الحي أو المنطقة السكنية وتربيتهم خلال
سبع سنوات، ثم ترسم الخطة السنوية لاستقطاب نسبة محددة ثم نقلهم إلى خطط
المتابعة التربوية، كذلك الحال في أنشطة المجتمعات المغلقة مثل سكن الشركات أو
المراكز الإسلامية أو الطلابية، سيحدد الهدف لتغطية السكن خلال فترة زمنية، ثم
توضع الأهداف والخطط المرحلية بنسب مناسبة للتوسع المتدرج.
إننا ينبغي أن ندرك أن بذل الوقت والجهد للاهتمام بوضع الأهداف بشكل
دقيق وواضح قبل التفكير في الخطط سيساعدنا بإذن الله على تجاوز كثير من
العوائق، واستثمار كثير من الأوقات والجهود بشكل أفضل بإذن الله تعالى، إضافة
إلى أن مساراتنا ستكون أكثر وضوحاً وثباتاً عند رسم الخطط التنفيذية أو تغييرها
وفق ما يتطلبه الحال، والله أعلم.(163/46)
تأملات دعوية
الحواجز المصطنعة
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
كثيراً ما نضع حواجز نصنعها بأنفسنا فتحول بيننا وبين فئات من الناس، أو
بين مجالات وميادين يمكن أن يكون لها أثر بالغ، فتعوقنا عنها هذه الحواجز التي
صنعناها بأنفسنا.
وتأثير هذه الحواجز لا يقف عند مجرد التعويق عن العمل، بل إننا حين
نعمل ونحن نعيش تحت وطأة هذه الحواجز فإننا نعمل بروح منهزمة تنتظر
الإخفاق , وفرص النجاح للذين يعملون بهذه النفسية أقل بكثير ممن يعمل وهو
ينتظر النجاح , فالأول لا يؤدي العمل كما ينبغي، ولا يضع النجاح الذي
يتحقق في إطاره الطبيعي، ويُحمِّل نفسه تبعات الإخفاق الذي لا يتحمله، بل هو
نتاج عوامل خارجة عن إرادته.
ومن هذه الحواجز المصطنعة: تقويمنا للناس؛ فقد نصدر أحكاماً قاسية على
بعض الناس، وقد نصف بالانحراف طائفة ممن ليسوا كذلك، فسيطرة الأفكار
المنحرفة والآراء المخالفة للشرع تدفع بعض المسلمين إلى التأثر بها وتبنيها والدفاع
عنها، وإن كان هؤلاء لا يدركون أبعادها ومراميها، ومن ثم نصنف هؤلاء ضمن
إطار التيار العلماني، ونقف موقف الرفض والقطيعة لكل من سمعنا منه شيئاً من
ذلك , وقد يكون لدى هؤلاء خير كثير، وبيننا وبينهم قواسم مشتركة فنخسرهم
لأجل هذا التقويم الخاطئ.
ومن الحواجز ما نفرضه بيننا وبين المجتمع؛ فثمة شرائح كثيرة في المجتمع
بينهم وبين الدعاة والخيِّرين قطيعة ونفرة، ولا يزالون ينظرون إلى الدعاة وطلبة
العلم على أنهم يمثلون تياراً تقليدياً متخلفاً. ونحن نتحمل المسؤولية الكبرى نحو
إزالة الحواجز مع هؤلاء، ولو سعينا لذلك لانفتحت أمامنا ميادين واسعة من العمل،
وساحات كبيرة من التأثير.
وثمة حواجز نفسية تعوقنا عن العمل أو الانطلاق فيه.
ومن ذلك: الخوف من الإخفاق، فكثير منا يسيطر عليه الشعور بالإخفاق قبل
أن يبدأ في العمل، وتسبق احتمالات الإخفاق لديه احتمالات النجاح، وهذا الحاجز
يعوق عن أعمال كثيرة طموحة ومنجزة، وحين يندفع صاحبه للعمل فإنه يعمل
بروح محبَطة، والمحبَطون قلما ينجحون.
ومن الحواجز النفسية: تضخيم الأعداء، إما بالمبالغة في تصوير قدراتهم
وإمكاناتهم، أو النظرة إليهم على أنهم ليس لهم شأن ولا أمر يشغلهم سوى الكيد
والتآمر علينا نحن، وقد أثبتت الوقائع القديمة والمعاصرة أن قدرة هؤلاء محدودة،
ولم يفلحوا في مواقف وتجارب عدة، وهذا حين ننظر بالحسابات المادية القريبة؛
فكيف حين نضع في حسابنا أن قدرة الله فوق كل شيء، وأنه لا غالب لأمره ولا
راد لقضائه؟
ومن الحواجز النفسية: احتقار الذات، وإعطاء النفس أقل من حجمها، سواء
على المستوى الشخصي والفردي، أو على مستوى قدرات وإمكانات الصحوة؛
فنحن في كثير من المواقف نُهوِّن من الإماكانات المتاحة لنا، ونقلل من مساحات
التأثير التي نستطيع التحرك من خلالها، وهذا لا بد أن يترك أثره على تخطيطنا
وممارستنا.
ومن الحواجز النفسية: الأوهام التي تسيطر على بعضنا، فتعوقنا كثيراً، أو
تحبط كثيراً من المشروعات الطموحة.
إن اعتدالنا في الحديث عن المشكلات وتصويرها بحجمها الطبيعي، وعدم
الخلط بين التواضع واحتقار الذات، وسيطرة روح التفاؤل والإقدام، والتفريق بين
تقويمنا لأنفسنا وما ينبغي أن نكون عليه وبين تقويمنا للآخرين.. إن هذه الأمور
مما يعين على تجاوز هذه الحواجز وتخطي هذه العقبات.
ولنتذكر دوماً أن المتشائمين لا يعملون، وإن عملوا فعطاؤهم محدود، وأننا
لن نخسر شيئاً بالتفاؤل المتزن غير المتهور.(163/48)
حوار
حوار مع فضيلة الشيخ عبد المجيد الزنداني
جاءنا صندوق النقد الدولي بالجوع والربا وتحطيم الإنتاج
أجرى الحوار: عبد الرحمن بن عبد القادر الحفظي
ضيفنا في سطور
* ضيفنا عالم وداعية سلفي جليل، تميز - حفظه الله - بسلامة المنهج،
وسعة الأفق، وقوة التأثير.
* له مكانة بارزة في العمل الإسلامي عموماً، وبخاصة في بلاد اليمن
خصوصاً.
* نذر نفسه لنشر الدعوة الإسلامية والعلوم الشرعية، وأسس جامعة الإيمان
في صنعاء.
* له جهود مشكورة في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وواجه بذلك كثيراً من
العلمانيين والماديين.
البيان: تمر الأمة الإسلامية في هذه المرحلة من تاريخها بتغيرات فكرية
وسياسية واجتماعية عديدة؛ ففي ضوء هذه التغيرات كيف يُقوِّم فضيلتكم دور
الصحوة الإسلامية بشكل عام؟ ثم ما السبيل إلى النموذج الأمثل في العمل
الإسلامي؟
* أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
نحن في فترة شخَّصها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يوشك الأمم
أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟
قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» [1] . هذه الحالة السائدة في
أمتنا، هي الغثائية، والغثاء هو الزبد الذي يعلو السيل، وهو خليط غير متماسك
من أوراق وتراب وبعض أخشاب يعلو على السطح ويحركه التيار من أسفل، هكذا
تيار السياسات الدولية هو الذي يجرفنا ويحدد مواقفنا، وترانا نتمزق ونتصدع عند
الاصطدام بأي مشكلة من المشاكل وأي عائق من العوائق، غثاء كغثاء السيل ليس
فيه تماسك أو ترابط.
«ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم» ، اجتمع العرب، وأمريكا
ترفع يدها ضد ما اجتمع العرب من أجله، يطلبون من الغرب حماية للفلسطينيين
الأطفال والنساء، وكان الواجب أن يقوموا هم بالحماية ولكن لضعفهم وللغثائية التي
أصابتهم يطالبون الكفار ويطالبون الدول الأجنبية أن ترسل القوات لحماية الأطفال
والنساء والعجزة ولحماية البيوت! ! ومع ذلك فإن أمريكا هي التي تعطل هذا في
مجلس الأمن وتقول: لا لإرسال قوات.. اتركوهم، اتركوا اليهود ليفعلوا ما
يشاؤون , هل خافت منا أمريكا؟ هل عملت لنا حساباً؟ هل خاف اليهود وهم
يهددون ويعتدون؟ وقادتنا يقولون صبراً صبراً! ! المسافة قليلة بين مكان الاعتداء
على إخواننا وبين مكان اجتماع القمة! هذا مظهر من مظاهر الغثائية التي أصابتنا.
«ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن
فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» .
حب الدنيا، لماذا نحب الدنيا؟ روي أن عمر بن عبد العزيز سئل هذا السؤال
فأجاب: «لأننا خربنا الآخرة وعمرنا الدنيا؛ فنخشى أن ننتقل من أرض العمران
إلى أرض الخراب» , وأنا أقول إن الأمر أكثر من ذلك؛ فلقد ضعف اليقين
بالآخرة، والدنيا مشاهدة مزينة فتعلقنا بالذي استيقنا به، وخفنا أن ننتقل إلى عالم
ليس لنا به يقين قوي، فضَعُف اليقين، وإلا لو قيل لك: انتقل من كوخ إلى قصر
فهل تتردد؟ لا والله! فضعف الإيمان هو المرض الذي أوجد حالة الغثائية التي
أخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأننا إذا كرهنا الموت لا يأتي! بل
سيأتي كرهنا ذلك أم أحببناه.
وهذا يدل أيضاً على أن العلة الحقيقية هي ضعف الإيمان؛ وعليه فإن الله -
سبحانه وتعالى - إذا أراد بأمة خيراً وأراد أن يحييها فإن البداية تكون بإرسال
الرسول، وتكون أول قضية يحملها الرسول هي تعريف العباد بربهم وحقه عليهم
في العبادة، وتعريف قوم الرسول بصدقه، وتقديم حججه من أدلة وبراهين على
صدقه حتى يستيقنوا ويطمئنوا ويعلموا أنه صادق.
ثم بعد ذلك يعرِّفهم بصفات الله وما يليق به - جل وعلا - وبدين الله الذي
ارتضاه لهم، ويحذرهم مما يكون سبباً في خسرانهم في الدنيا والآخرة، ويبشرهم
بما أعد الله - جل وعلا -، وينذرهم بما توعد الله به؛ فتتعلق القلوب بالله - جل
وعلا - بعد أن استيقنت صدق الرسول، واستيقنت أنه لا إله إلا الله، وأنه
المستحق للعبادة وحده، ثم يأتي بعد ذلك الاستسلام لأمر الله - جل وعلا - ,
الصحابة هكذا غيّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنفس المنهج غيّر الصحابةُ
التابعين، وعلى المنهج نفسه سار من تبعهم في تغيير الأمم والشعوب التي لاقتهم،
ما جاؤوا بتدريس منطق ولا فلسفة ولا تأملات؛ لأن التأملات والنظرات أقصى ما
تكون أنها تأمل قد يُعارَض بتأمل، واحتمال قد يعارضه احتمال، وفلسفة قد تقابلها
فلسفة. نحن أمام منهج قطعي؛ هذا رسول الله وهذا دليل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، هذا رسول من الله وهذا برهان صدقه صلى الله عليه وسلم. ثم هذا كلام
رب العالمين وهذا المنهج الذي يريد الله أن نسير عليه، [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] (النحل: 44) لتبين للناس بياناً بكلام واضح وجلي ليس
فيه لبس أو إشكال.
هذا المنهج هو الذي جعل الصحابة - رضوان الله عليهم - يُقبلون، ويُقَدِّمون
كل شيء ولا يخافون من شيء؛ فغيروا وجه الأرض. هذا المنهج هو الذي أحيا
الله به الأمة، وهو الذي به تحيا في عصرنا وبعد عصرنا كما حييت به قبل
عصرنا، [وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: 23) . فإن وجد الجيل المستيقن
في إيمانه الذي يعرف ربه ويعرف رسول ربه، ويثق بوعد الله ووعيده، ويطمئن
أنه على حق وعلى هدى حدث التغيير. لكن الصحوة الإسلامية المعاصرة كانت رد
فعل للهجمات الاستعمارية ولثقافة الاستعمار، كما أنها كانت رد فعل أيضاً
لانحرافات عهود الانحطاط التي أبعدت الأمة عن الدين وغلب على جوِّها الخرافة
والجهل.
والاستعمار جاء يريد استئصال الدين من أساسه، ويريد محو المسلمين
والسيطرة على ديارهم؛ فقامت الصحوة الإسلامية ردَّ فعل ضد هذين الخطرين،
وضد الوجود الاستعماري والتهديد الاستعماري المادي. وقليل من رجال الصحوة
ودعاتها وعلمائها من اهتم بهذا المنهج الذي أقوله لك: البداية بتجديد الإيمان واليقين
وتثبيتهما , وأكثرهم اعتبروا أن ذلك من الأمور المسلَّم بها، وأنه من تحصيل
الحاصل، وساروا على ذلك في دعوة الناس ولكن بقي الداء الحقيقي في كثير من
القلوب، وبقي ضعف اليقين في كثير من النفوس، وما أن يتعرض بعضهم لابتلاء
وامتحان حتى تراه يسقط، وتراه يضعف وينكشف، ورأينا قول الله - تعالى -:
[وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ
انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] (الحج: 11) .
لهذا نجد بعض الضعف في البناء الإيماني الذي ينعكس على جوانب التدين
كلها، ولذلك فإني أقول: الأصل ألا ننطلق من رد الفعل، وإن كان الفعل المخالف
للدين يجب أن نقف في وجهه، ويجب أن نرد عليه، ويجب أن ندفعه وأن نكشفه،
ولكن الأصل أن ننطلق من الكتاب والسنة، من المنهج القرآني، والمنهج القرآني
يبدأ بـ: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ] (محمد: 19) ، [أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ
كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] (الرعد: 19) يبدأ بالشهادتين، ثم
الإيمان بالله ورسوله، ثم بسائر أركان الإيمان، ثم ينطلق إلى ميدان التطبيق
العملي، وربط العبد بربه بالعبادة والذكر؛ ولكن مع ذلك فالذين يجاهدون في سبيل
الله، والعاملون في الصحوة الإسلامية قد أكرمهم الله ولم يخيبهم؛ لأن الله قال:
[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] (العنكبوت: 69) .
فالذي عزم على أن يجاهد في سبيل الله ويعلي كلمة الله - جل وعلا - لا
يضيعه الله وإنما يأخذ بيده، فأنت ترى حال الصحوة الإسلامية يزداد صفاءً ونقاءً
مع مرور الأيام، ويزداد تخلصاً من بعض آثار ثقافة عهود الاستعمار وعهود
الانحلال التي ربما أصابته ضمن المجتمع الذي يعيش فيه؛ ولذلك فإن تقديري أن
الصحوة الإسلامية وإن كانت قد جاءت ردود أفعال لكنها جاهدت في الله، والذين
جاهدوا في سبيل الله أخذ الله بأيديهم إلى السبيل بقدر التوجه إلى الله - سبحانه
وتعالى -.
البيان: للتيارات العلمانية في كثير من الدول الإسلامية دور كبير في تغريب
الأمة ومسخ هويتها وتغييب تاريخها، وتختلف جرأة العلمانيين من بلد لآخر.. فمن
خلال رؤيتكم الواسعة للواقع الإسلامي وتجربتكم في اليمن وفي غيرها، ما الطريق
الصحيح لمواجهة تلك التيارات، وهل تعي الحركة الإسلامية مستقبل هذه المدافعة؟
* هذه التيارات لا تتسلل إلينا ولا تهجم علينا من مجال واحد؛ بل تدرس
واقعنا دراسة لا أريد أن أقول دقيقة، لكنها دقيقة في منظورهم، ويرصدون لهذه
الدراسات جيوشاً من المنصِّرين والمستشرقين، بل للأسف الشديد أن من أبنائنا
الذين يطلبون شهادات عليا لديهم مَنْ يطلبون منهم أن يقدِّموا بحوثاً هي في الحقيقة
تقارير عن أوضاع مجتمعهم، فإذا ما درسوا هذا الواقع، ورسموا سياستهم في
ضوء تلك الدراسة فلا تجد مرتكزاً من مرتكزات القوة إلا وهاجموه ورسموا الخطط
ضده.
فهم يبحثون عن مرتكزات القوة لدينا ثم يوجهون سهامهم؛ فهم عرفوا أن
حصننا الحصين هو الإسلام فهاجموه بالشبهات، وهاجموه بتغيير مناهج التعليم في
المدارس، هاجموه بالمدارس التي تتبعهم، هاجموه بالأساتذة، هاجموه بتغيير أفكار
ومعتقدات من يذهب من أبنائنا للدراسة لديهم، وسلطوا عليه الأضواء، هاجموه في
شريعته فشوهوا الشريعة ودفعوا المجتمعات إلى التخلي عن تطبيق الشريعة،
هاجموه في أخلاقه وقيَمه ومُثُله، هاجموه في أجهزة الإعلام، وفي ثقافته
الاستعمارية المعادية التي تنتشر بين أبناء المسلمين والتي تنتشر بين أبنائهم هم،
فهم يشوهون الإسلام بتشويهات شديدة.
ثم لم يكتفوا بذلك بل وجهوا العداء للمؤسسات الإسلامية التي تخدم الإسلام،
وللشخصيات الإسلامية والهيئات الإسلامية ولكل قاعدة تخدم الدين؛ فاليوم الذين
يمارسون العمل الخيري يقيمون مسجداً أو يعينون يتيماً صاروا يُقدَّمون للناس على
أن هذا إرهابي يساعد إرهابيين، ما تركوا شيئاً إلا حاربوه ورسموا له الخطط على
كافة المستويات. أقنعونا بأن الأصولية هذه عيب وعار.
الأصولية عندنا شيء ممدوح وليس بشيء مذموم، فنقول: أصول الفقه،
أصول الدين، أصول التفسير، ونقول: هذا ابن أصول؛ لكن شنوا علينا حملة
حتى صدقنا أن هذا الشيء الأصلي باطل، وهم يقصدون بالأصولية هؤلاء الذين
يتمسكون بأصول الدين وأساسه من الكتاب والسنة ليجعلوا التمسك بالأصل عاراً
ومذمة ومسبة؛ فهم يحاربون الإسلام في كل جانب من جوانبه، ويبحثون كيف
يثيرون الشبهات بين أبناء المسلمين.
ثم بذلوا الجهود لتحديد جيوشهم؛ فهم يفرضون علينا ألا تزيد الجيوش عن
عدد معين، ويفرضون علينا ألا نتسلح بالأسلحة الاستراتيجية لنبقى عرضة
لضربهم متى شاؤوا بها، فيجيئون لقصفنا متى شاؤوا ونحن لا نستطيع الرد ,
فنقول: امنعوا إسرائيل معنا! فيقولون: لا؛ أنتم تمنعون فقط؛ أما هم فلا ,
يقيمون حرباً على الاقتصاد؛ انظر كيف يعبثون بسعر البترول؛ لأنه هو
السلعة الوحيدة التي عندنا، وهو مقياس لباقي السلع، ومعظم الخامات من الثروات
المعدنية في العالم هي عند المسلمين؛ إذ تبلغ 65% مما في الأرض، ولكنهم
يبخسون السلعة لدينا ويغلون علينا سلعتهم.
ويقيمون حرباً على الأخلاق: فينادون بزعمهم بحقوق المرأة حتى كادت
المرأة المسلمة تصدقهم أن الإسلام ظلمها، وأن هؤلاء المفسدين والمدمرين لها
ولأسرتها وكيانها ومجتمعها يريدون بها رحمة، وهم يريدونها لقضاء الشهوات
والملذات والعبث بها، ويريدونها أَمَةً تعرض جسمها لكل طالب، فيحطمون أسرتها ,
وقد ضمن الإسلام النفقة للمرأة فلا تخشى مسألة المال، ولا تخشى عَيْلة؛ فهي
في أمان من العَيْلة في النفقة؛ فإن عجز الولي فبيت المال يكفلها , لكن هكذا
يدفعونها للخروج للعمل، وإن كانت مريضة فهي المسؤولة عن نفسها وإلا ماتت ,
وباسم المرأة يفسدون الشباب ويفسدون الشابات، ويحطمون الأسر،
وينشرون الأخلاق السيئة، ثم يروجون بيننا كل ما يبيح الانحلال والفساد ليوصلونا
إلى ما وقد وصلوا إليه هم، وقد وصلوا إلى ما حذرنا منه الدين، الدين حذرنا من
أن الانحرافات سوف تحطم النسل، بل إن علماءنا قالوا إن مقاصد الشريعة خمس،
ومن هذه المقاصد حفظ النسل. اليوم الشعوب الأوروبية تشكو الانقراض، تتناقص
أعدادهم؛ لأن عدد الوفيات أكثر من المواليد، فيقولون: إذا استمر هذا التناقص
فسوف يأتي وقت من الأوقات نموت فيه وننقرض وتنقرض شعوبنا، وتتغلب على
الأرض هذه الشعوب التي تتناسل.
فلماذا تنقرضون؟ لأن النساء تأبى أن تلد. لماذا تأبى المرأة أن تلد؟ لأن
الرجال تخلوا عن النفقة وتخلوا عن المشاركة في تربية الأولاد. ويُسأل الرجل:
لماذا تخليت؟ فيقول: لأنني أشك أن المولود ولدي. ولماذا تشك؟ لأن الزنا سلعة
متداولة أراها في كل مكان من حولي. ولماذا هذا؟ لأن التبرج والاختلاط يسَّر هذا
الأمر؛ فالبداية تبرج واختلاط أدىا إلى الانقراض.
الإسلام عالج وحذَّر ولكنهم يريدون جرَّنا إلى حيث ساروا لنصل إلى ما
وصلوا إليه؛ فهم يحطمون أُسَرَنا وأخلاقنا، ثم يحطمون عقولنا بنشر المخدرات
وتكوين عصابات لنشر المخدرات، وإسرائيل تحمل في ذلك الراية لنشر المخدرات
في بلاد العرب، وهناك عصابات متدربة ومرتبطة بأجهزتها الاستخباراتية
والعسكرية لنشر المخدرات بين الجيوش العربية وبين شباب العرب لتحطيم العقول
إلى جانب الإعلام المشوش الذي يقلب الحقيقة.
أذكر مرة كنت أسمع إذاعة لندن وكانت تذيع برنامجاً عن الكمبيوتر في بدايته
منذ سنوات عديدة، وإذا بالمحلل يقول: الكمبيوتر الآن في بداية صناعته
ونصيحتنا للدول العربية أن لا تصنِّعه؛ فهذا يكلف كثيراً؛ ولكن عليها أن تحصل
على الكمبيوتر بسعر رخيص جداً! ! سبحان الله، هكذا يريدون صرفنا عن أسباب
القوة؛ فهم يحاربون الدين، يحاربون الجيوش، يحاربون الاقتصاد، يحاربون
الأخلاق، يحاربون العقول، ثم يحاربون الوحدة السياسية بين المسلمين.
من قبل كان اجتماع العرب شيئاً صعباً جداً، وكان زعماء عرب كلما قيل لهم
اجتمعوا قالوا: لم يحن الوقت بعد، لم يحن الوقت بعد! تمزيق الأمة وتفريقها
وتشتيتها وهي أمة واحدة وربها واحد، وتتمتع بأعلى مقومات الوحدة وهي وحدة
الدين , هم يقولون: إن الوحدة الدستورية هي أعلى صور الوحدة، الوحدة
الدستورية هي عدد من النقاط التي تتفق عليها الشعوب، هذه الوحدة الدستورية
نحن عندنا أكثر من ذلك: الوحدة التشريعية، الوحدة الإيمانية، الوحدة العقائدية
هذه التي تجعل الأمة موحدة. هم يضربون بسهامهم لتفكيك عرى هذه الوحدة حتى
نصبح دويلات صغيرة بكيانات ضعيفة يسهل ابتزازها، ويسهل تهديد كل كيان من
هذه الكيانات، ويسهل احتلاله إذا أرادوا، ويعجز هو عن الدفاع عن نفسه أو أن
يستقل بالدفاع عن نفسه، فيبتزون هذه الكيانات كياناً كياناً. فالواجب علينا بعد
تقوية إيماننا أن نسعى للحفاظ على الدين، والحفاظ على الأخلاق، والحفاظ على
الاقتصاد، والحفاظ على الجيوش والعقول، والحفاظ على الوحدة السياسية أيضاً،
ويهددون الأمن في البلاد فيوزعوننا إلى أحزاب وطوائف وفئات، ويثيرون
الاختلافات فيما بيننا؛ فهذه الطائفة ضد هذه الطائفة، وحزب ضد حزب، وفريق
ضد فريق، وجماعة، ضد جماعة، ثم إذا لزم فدولة ضد دولة، ونشتغل ببعضنا
كل واحد منا خائف من أخيه، من صاحبه، من جاره وهم يشتغلون ضدنا أجمعين؛
فعلينا أن نعي هذه المخططات، وأن نجعل من أبناء أمتنا من يتصدى لهذه
المخططات في كل مجال من المجالات.
البيان: حدث لغط كثير في اليمن حول ما نشرته بعض وسائل الإعلام في
(سبِّ الذات الإلهية) ، وقد تباينت مواقف الإسلاميين تبايناً كبيراً إزاء هذه الهجمة؛
فبعد أن هدأت الزوبعة ما تقويم فضيلتكم لهذه المواقف أولاً، وثانياً هل هناك رؤية
استراتيجية مدروسة لمواجهة ما قد يستجد في وسائل الإعلام من هذه الأمور كسبِّ
الله أو الدين أو الاستهزاء ببعض ما جاءت به الشريعة؟
* إن سبَّ الله الذي حدث في اليمن قد سبقه شيء من هذا في مصر وفي
الأردن وفي الكويت؛ فهي ظاهرة تأتي في وقت واحد تدل على أن هناك من
يخطط وراءها، وسبحان الله كادت أن تسير وفق ملامح واحدة مما جعل عدداً من
المفكرين المسلمين يقولون: إنهم يريدون أن يهاجموا أغلى ما لدينا من المقدسات،
ويحاربوا أعلى أمر لدينا حتى إذا استسلمنا في هذا سهل لهم بعد ذلك أن يحطموا
باقي مقدسات الأمة ويُجرِّئوا كل معتدٍ، ويقتحموا كل حمى لهذه الأمة.
وتباينت ردود الأفعال. نعم! فبعض العلماء جزاهم الله خيراً وأهل الغيرة
وزنوا الأمور بميزان الشرع، ووجدوا أن سبَّ الله ليس هناك منكر أغلظ منه ولا
كفر أشد منه، وقد توعد الله الذين يؤذون الله ورسوله باللعنة والعذاب الأليم ,
والصحابة - رضوان الله عليهم - اعتبروا ذلك كفراً صراحاً؛ فإن من سبَّ الله فقد
كفر، والله - تعالى - يقول في هذا: [وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ]
(التوبة: 65-66) . فذهبوا ووقفوا وقفة طيبة عظيمة، وأخذوا يجمعون
التوقيعات، ووقف الخطباء في المساجد وتكلموا في هذا كلاماً.
بعض الإسلاميين قالوا: نسلك طريق القضاء، ونقدم شكوى وننظر ماذا يأتي
من القضاء، فاتجهوا في هذا الطريق، ولكن العلمانيين عندما رأوا أن الإسلاميين
توجهوا إلى القضاء، وأصبح القضاء يطلبهم للمثول بين يديه تكاتفوا وتناصروا
وأصدروا البيانات، وطالبوا بالاعتصامات ليرهبوا القضاء من أن يتخذ الموقف
الصحيح في هذا الباب، واشتدت الهجمة على الذين تصدوا ضد هؤلاء الذين
يسبُّون الله.
وكما تابعتم وعرفتم ركزوا عليَّ وعلى جامعة الإيمان، ولكن سبحان الله!
رأينا إخواننا من أهل الدين والغيرة يلتقون مع إخوانهم في هذه النقطة، فوجدنا
الشيخ عمر أحمد سيف وهو في حزب المؤتمر كالأسد الهصور، ووجدناه لا يتردد
في إعلان كلمة الحق فجزاه الله خيراً هو وغيره من العلماء، وأصدر العلماء
«صرخة علماء اليمن» ، وهو شريط تكلموا فيه بحرارة وبقوة.
وبعض الإخوة من الإسلاميين أرادوا أن تمضي المسألة بهدوء ومن دون إثارة
لأنهم يحسبون حساباً للأعداء الخارجيين، ويظنون أن الإثارة هذه تؤلب ... وكذا
وكذا، ولكن نفع الله بهذه المواقف وأحيلت القضية للقضاء، ثم أعيدت الآن بعد
ستة أشهر إلى نفس المحكمة بعد أن ارتفعت إلى أعلى وأمام الجهة المسؤولة،
ونرجو إن شاء الله أن يتخذ القضاء الحكم الشرعي فيها.
البيان: هل هناك استراتيجية لما يستجد حول هذه القضايا؟
* لا شك في ذلك، وأبشرك أن شعبنا ورجالنا وجيشنا حتى إن بعض
الوزراء عندما سمع الشريط أرسل لي عن طريق مرافقيه يشكرني ويدعو لنا،
وقف الناس وقفة واحدة لم يتخلف عن هذا سوى العلمانيين الصرحاء، أو شخص
خائف هُوِّل الأمر عليه وخاف أن يبدي شيئاً أو كذا، ولكن الصحابة - رضوان الله
عليهم - قدموا أنفسهم فدية للإسلام، وقد طُلب من بلال - رضي الله عنه - أن
يقول كلمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُعذَّب فأبى، وعرَّض نفسه
للموت رضي الله عنه.
البيان: يضغط صندوق النقد الدولي على بعض البلدان الإسلامية الضعيفة
اقتصادياً أو البلاد النامية بغرض فرض بعض الثقافات والرؤى التغريبية عليها؛
فما دوره في اليمن؟ وإلى متى تستمر هذه التنازلات في الدول الإسلامية؟
* هذا حدث، وهو ما نعيشه اليوم ونعيش مرارته؛ فالبنك الدولي هو يد من
أيدي الأمريكان واليهود، يسلط على الدول الفقيرة ويستغل فقرها وحاجتها؛ كما أن
أمريكا تضغط على هذه الدول ضغطاً شديداً كي تقبل شروط هذا البنك الدولي ,
صندوق النقد الدولي له فلسفة معروفة في العالم كله، ومعظم شعوب العالم عرفت
خطورة ذلك، وأصبحت تنتقدها حتى الدول النامية غير الإسلامية تشكو من هذا
وتصرخ؛ لأنه أراد أن يعيد بناء الاقتصاد في تلك الدول ليكون اقتصاداً تابعاً
للاقتصاد الأمريكي وللاقتصاد الرأسمالي الذي يتحكم فيه اليهود، ويضرب مقومات
تلك الدول ويفقر الشعوب ويزيدها فقراً، ويفلسف ذلك فلسفة. لكن الوقائع والنتائج
تأتي مكذبة لهذه النتائج وتلك الفلسفة؛ فنحن هنا جاءنا بالجوع وجاءنا بالربا باسم
أذونات الخزانة. جاء بتحطيم الإنتاج؛ لأنه رسم سياسات كثيرة، فأفْقَرَ الشعب،
وسحب رأس المال من الأغنياء إلى البنوك الحكومية التي تدفع رباً لمن جمد ماله
عن العمل، ويدفع الشعب قيمة ذلك الربا من ميزانيته وثروته العامة. وهدفهم الذي
يقصدونه والذي وضعوه في كثير من الدول أنه كلما ازدادت الشعوب فقراً تحدث
ثلاث ظواهر:
الأولى: اندفاع النساء إلى طريق غير سوي تحت ضغط الفقر والحاجة.
الثاني: اندفاع الرجال إلى الجريمة والحصول على ضرورات حياتهم بالقوة
وعبر العصابات فتزداد الجريمة.
الثالث: عبث الموظفين بنظام الدولة وحقوق المجتمع عن طريق الرشوة؛
فالكل محتاج فقير يحتاج أن يسد ضروراته، فتنتشر مثل هذه الحالات في
المجتمعات. البنك الدولي لا يُقاوَم إلا ببنك إسلامي وبدائل إسلامية، وتنبُّهٍ من
المفكرين والدعاة إلى الله - جل وعلا - حتى لا يقعوا أسرى لهذه المخططات.
البيان: للتيار المتدثر بدثار العقلانية وجود ظاهر في بعض مواقع الصحوة
الإسلامية، ويصوَّر هذا التيار في كثير من الأحوال بأنه التيار المعتدل، والمستنير،
والواقعي ونحوها من الصفات، ويصوَّر غيرهم من التيارات المتمسكة بالكتاب
والسنة بأنهم بسطاء أو سذج أو بدائيون أو دراويش؛ فما تقويم فضيلتكم لهذا التيار
العقلاني؟ وما الطريق لاستصلاحه، وترشيده داخل الفصائل الإسلامية؟
* صدقت، هذه الظاهرة ليست موجودة من الآن بل موجودة عبر التاريخ،
فعندما تأتي هجمة من الأعداء تهاجم المسلمين ويكون المسلمون في حالة ضعف
باليقين؛ فإنهم يحاولون دفع هذه الهجمة بأساليب وطرائق يظنونها أكثر عقلانية
وأكثر استقامة مع العقل. وأعجبني الوصف الصحيح لهم بأنهم ليسوا بعقلانيين،
وأنهم في الحقيقة أتباع أهواء؛ لماذا؟ لأن الابتعاد عن الكتاب والسنة لا يكون
نتيجته إلا اتباع الهوى. إذا ابتعدت عن الوحي وعن الحق؛ فماذا يبقى غير الانقياد
للهوى! ! أما العقل فهو ممدوح لدينا، والقرآن نزل فقط لقوم يعقلون ما نزل
للمجانين. والذين يعقلون الأمر عقلاً حقيقياً يعلمون أن الوحي جاءنا بعلم من عند
الله هو علم كامل شامل، وإنَّ علمَنا مهما بلغ فهو محدود [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ]
(يوسف: 76) ، وإن العقل الصحيح يوجب أن يتَّبع قليل العلم ومحدود العلم
من له علم واسع كامل، وهو العلم الإلهي الواسع الكامل، هذا هو العقل الصحيح؛
ومثال ذلك أن المريض إذا أراد أن يعرف مرضه ودواءه فماذا يفعل؟ يذهب
للطبيب، يجتهد بعقله: من هو الطبيب الممتاز؟ فإذا عرف الطبيب الممتاز سلَّم
نفسه إليه. يقول له الطبيب: افعل كذا وكذا، قف، اجلس، ثم تناول الدواء قبل
الأكل، تناول الدواء بعد الأكل، يأتمر بأمره ولا يجادل؛ لأنه يعلم أنه أعلم منه.
ولو قال شخص: أنا أفهم من الطبيب، هذا الطبيب لا يعرف شيئاً، ما
علاقة الدواء بقبل الأكل وبعد الأكل؛ فإن الناس يستهجنونه. فدور العقل هو أن
يعرِّفك بمصدر العلم الصحيح، وقد جاءنا العلم من الله عن طريق الرسل - عليهم
الصلاة والسلام - فدور العقل هو أن يتعرف على النبي الصادق ثم يسلم له بعد ذلك؛
لأن النبي جاء بعلم الله الذي أحاط بما كان وما يكون، وبما هو ظاهر وبما هو
باطن؛ فمرد هذه الظاهرة هو ضعف اليقين، ولو كان هناك يقين لكان هناك
استسلام بدون تردد لما جاء في كتاب الله والله يقول: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً]
(النساء: 65) .
فأقول في هذه المسألة: العلاج لذلك تقوية اليقين، وتعليم الناس، ونشر العلم
الشرعي الصحيح، وللأسف فإن كثيراً من أبناء الصحوة الإسلامية ينقصهم العلم
الشرعي وهم متصدون لمواقع تفرض عليهم تحديد مواقف يومياً، وهذه المواقف
اليومية لا يسعفهم علمهم ولا معرفتهم في استخلاص الموقف الشرعي الصحيح،
ومن ذلك يتخذون موقفاً ويدافعون عن هذا الموقف ثم يحاولون تسويغ هذا الموقف،
وفي بعض الأحيان يصل إلى أن يُضعَّف الحديث ليس لأنه في سنده شيء، بل
لأنه اختلف معه في موقف قد رآه! ! فعلاج هذا في قول الله - تعالى -: [وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام: 153) ، [قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ]
(المائدة: 15) .
فإن تتبع مرضاة الله تكون في اتباع كتاب الله - سبحانه وتعالى -: [يَهْدِي
بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ
إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (المائدة: 16) فهذه وصيتي؛ فالمطلوب أن نستعمل العقول
فلا نجمد، ولا نُعرِض عن تفهُّم النص ولا المجالات التي يتناولها النص، وسنرى
لنا في النصوص ومجالاتها الواسعة مخارج عظيمة؛ فالمطلوب أن نستعمل عقولنا،
ولكن بعد التأهُّل بآلية الاستنباط والعلم اللازم الذي يلزم من أراد أن يستنبط الهدى
والحق , أما أن يسير الناس وفق ما تقرره عقولهم؛ فما الفرق بين الإسلاميين
والعلمانيين إذن؟ لا يبقى هناك فارق إذا كان المنطق في السير هو أننا نمضي
حيث تدلنا العقول؛ لأن هذه حجة العلمانيين الذين يقولون: عقولنا دلتنا على طرق
الأحكام وهو الأنسب , الفرق بين الإسلاميين والعلمانيين أن الإسلاميين يتمسكون
بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحتاج هؤلاء الإسلاميون إلى تذكير
ونصح في أصولهم وقواعدهم والأمر الذي تصدوا له، والله يقول: [وَإِذَا جَاءَهُمْ
أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً]
(النساء: 83) .
البيان: الواقع الفكري والاجتماعي السائد في كثير من الدول الإسلامية فرض
من حيث يشعر بعض الإسلاميين أو لا يشعرون - أنماطاً جديدة من التدين،
وانهزم بعضهم أمام هذا الطوفان من التغريب وفقهاؤنا لم يكونوا بمعزل عن تلك
الانهزامية التي تجلت في بعض الفتاوى التي تُعرض أحياناً باسم التيسير والمصلحة
الشرعية أو المصالح المرسلة ونحو ذلك؛ فما أسباب هذه الانهزامية؟ وهل يمكن
أن تربى فصائل الصحوة الإسلامية على الأخذ بالكتاب بقوة بعيداً عن هذا الواقع
المفروض؟
* لا شك أن معطيات العصر كثيرة وجديدة، وتأتي ولها ضغطها السياسي
والاقتصادي والاجتماعي والواقعي، وهذه المعطيات يتوجب علينا مواجهتها بمجامع
فقهية يحتشد فيها العلماء المجتهدون القادرون على الاستنباط مع الخبراء بهذا الواقع،
ووالله لو فعلنا ذلك وشيدنا مثل هذه المجامع كما بدأت والحمد لله لوجدنا أن الخير
للبشرية حتى الكفار سيجدون أن الخير لهم في اتباع هذا الدين، في اتباع هذا الحق،
في اتباع هذا الهدى لو وجد البحث الدقيق والبحث الصحيح.
أذكر مثلاً الإيدز: كنت في أستراليا فجاءت ثاني صحيفة في أستراليا
لتحاورني بعد أن علموا أنني أعمل في الإعجاز العلمي؛ فقالت الصحيفة: ما
عندكم؟ قلت: عندنا السبب؛ ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم بيان في هذا
المرض والعلاج له، فاندهشوا. قلت لهم: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي
لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا» [2] فهذا ظهر عندكم عندما تباهت
البرلمانات عندكم أنها أباحت الشذوذ وأباحت الزنا وأباحت وأباحت. بعد 15 سنة
من هذه الإعلانات ظهرت هذه الأمراض وهذه النتائج الخطيرة. فنشرت الصحيفة
في اليوم الثاني: «المسلمون يتسلقون جبل العلم» . أقول إن الدراسة الصحيحة
المتعمقة واستنباط الأحكام الشرعية في ضوء هدى الله سوف تخرج بنتائج تفيد
ليس فقط بلاد المسلمين بل البشرية كلها بدلاً من التخبط في الظلام
والضلال.
فهو جهل بالوقائع وجهل بالأدلة الشرعية، وفي بعض الأحيان قد يتصدر لهذا
الأمر عالم من العلماء مشهود له بالعلم، ولكنه مزدحم لا يتيسر له البحث ولا
المراجعة ولا التحقيق، كما قد تغيب عنه أحياناً جزئية من الجزئيات وهي مهمة
جداً في توجيه الحكم، ومهمة جداً في بيان الحكمة؛ ولذلك: يجب علينا أن ننادي
بمجامع الفقه وضبط هذه الفتاوى وردها إلى هذه المجامع الفقهية التي تتحرر من أي
ضغط من الضغوط سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، والتي
تتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن مع ذلك فالمعصوم هو
الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أخطأ فيجب أن نضمن الحرية للعلماء الآخرين
في بيان موضع خطئه. وبهذا يستقيم الناس ويسيرون في الطريق الصحيح،
والعصمة في النهاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم بالوحي، أليس
أبو بكر - رضي الله عنه -، وهو خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «إذا رأيتموني على خير فأعينوني، وإذا رأيتموني على خطأ
فقوِّموني» ؟ فقدم لهم إمكانية أن يخطئ وهو يبدأ خلافته؛ فإن كان هذا هو أبو بكر
فماذا بعد؟
البيان: وماذا عن استغلال بعض هؤلاء للفضائيات؟
* ذكرتُ الحكم الذي يجب أن يكون، أما الوسائل فتتبع ذلك الحكم؛ فعلى
الناس أن يستخدموا كل وسيلة متاحة ليبينوا كلام الله ويوضحوه، وبخاصة في مثل
هذا الجو الذي نحن موجودون فيه؛ وإذا ظهرت فتوى غير صحيحة فيجب أن
يتصدى لها العلماء ويقولوا إنها غير صحيحة في موضوع كذا وكذا حتى لا تمضي
دون بيان. ولكني أقول بموضوعية وبقصد البيان لا بقصد التشهير والتجريح
والانتقاص؛ فإن هذا يولد في القلوب حزازات وعداوات، ويأتي بردود أفعال
أخرى ويبعُد بنا عن الطريق.
البيان: لا يخفى على فضيلتكم ما يحدث من تقاطع وتدابر بين بعض الدعاة
في الفصائل الإسلامية المختلفة؛ فهل هناك من سبيل للتعايش السلمي بينهم؟ هذا
أمر والأمر الآخر ما الطريق لإحياء مبدأ التناصح المخلص والنقد البنَّاء في وسط
هذه الفصائل الإسلامية؟
* أولاً اليقين؛ فإنه يثمر الإخلاص، فمن أيقن بأن ما عند الله خير مما في
هذه الدنيا لا يضيع الآخرة بمتاع الدنيا، وتبقى غايته ما عند الله - سبحانه وتعالى-،
فيحرص على ما يقربه إلى الله، والتذكير بذلك , ومن أحسن ما كتب فيما
عرفت في معالجة هذه القضية كتب الأستاذ صلاح الصاوي جزاه الله خيراً؛ فقد
أفاد وأجاد وقدم جهداً مشكوراً جداً، ولذا أدعو أبناء الصحوة الإسلامية إلى قراءة
كتب هذا الشيخ الشاب الذي محض النصح لفصائل العمل الإسلامي بتجرد
وموضوعية، وهو ليس بمعصوم، ولكنه من أحسن من كتب في هذا الباب.
ومما كتبه أنه قال: علينا أن ننظر إلى القضايا الخلافية فنصنفها؛ فهناك
قضايا خلافية في الأصول والعقائد وما أجمع عليه المسلمون وهذا لا يحتمل الخلاف
فيه , وهناك خلاف في الفروع والمستجدات من الوقائع في الحياة، وهذه قد تختلف
فيها الآراء، وقد اختلف فيها الصحابة، وقد اختلف فيها الأئمة الكبار الأربعة
وغيرهم، وربما تكون رحمة.
وأنا وجدت في الحج هذا العام شاهداً على ذلك رأينا بعض علماء الحنابلة
الذين كانوا يتشددون في أنه لا يصح الرمي إلا بعد الزوال يأخذون برأي الأحناف
الذين يجيزون الرمي قبل الزوال. هذه الخلافات في بعض الأحيان قد تكون رحمة
للأمة، وقد تكون باباً من أبواب التيسير للأمة فلا نقف بها بعداء بل بتضافر
وتسامح، ولكن يجب أن يكون اجتهاداً سائغاً؛ فلا يكون على هوى وعلى جهل؛
بل أن يكون مضبوطاً بضوابط الاجتهاد. وفي المستجدات من المواقف العملية:
كيف نتصدى لليهود؟ كيف نتصدى للحرب الاقتصادية؟ كيف نتصدى للانحرافات
والبدع والجهالات؟ وهذه تختلف فيها الأنظار بين صاحب عزيمة وصاحب
رخصة، وصاحب نظرة بعيدة ونظرة قريبة، وهذه يسعنا فيها الاختلاف ولا
نتخاصم حولها. وإذا سرنا بهذه المنهجية فسنجد أننا قد اتفقنا على المجمَع؛ فهناك
اتفاق بين أبناء الصحوة الإسلامية، وخاصة أن الجميع ينطلق من أنهم من
أهل السنة والجماعة، فأصولهم ثابتة وهم متفقون على معظم الأمور في
الأصول.
لكن أهم من ذلك هو البغي: بغي شخص على شخص، وبغي فئة على فئة
[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي
مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (البقرة: 213) كلٌّ يريد أن ينتقص من الآخرين ,
إنه الكبر، والكبر هو بطر الحق وغمط الناس، والمتكبر يصعب عليه أن
يعترف لأخيه أنه على حق، يصعب عليه أن يعترف أنه على أمر عظيم وجاد،
وهذا من البغي الذي سبب هذا التفرق، وإننا بحاجة إلى إشاعة الفقه الذي أشرت
إليه في كتب الشيخ صلاح الصاوي، وإشاعته في وسائل تعليمنا وإعلامنا، وبين
أبناء الصحوة الإسلامية وبين أبناء الجماعات الإسلامية، وأن نعمل في الأمور التي
ليس بيننا فيها خلاف. كم من القضايا التي ليس بيننا فيها خلاف يمكن أن نحولها
إلى برامج عملية، ونضع لكل مجموعة مجامع تعبر عن دورها في هذا المجال
بالأسلوب الذي تراه، ونتزاور ونتهادى فيما بيننا، وأن نترك الغيبة والنميمة،
ونتخلق بأخلاق الإسلام وأخلاق العلماء من سلف هذه الأمة في معالجة القضايا
الخلافية، وأن نحاول أن نقيم مشاريع مشتركة لخدمة الإسلام، مشاريع ضخمة
كبيرة نتعاون فيها جميعاً. اليوم حلف الأطلسي لا يكتفي بأنه قد حشد أكبر قوى
الأرض، لكنه يريد أن يتوسع أكثر، ونحن لم نفقه أهمية الاتحاد والاجتماع بين
جماعات إسلامية تريد ما عند الله.
البيان: ولكن كيف نحيي روح التناصح بين الفصائل؟
* التناصح مهم، ولا شك أن العصمة ليست لأحد منا؛ فإن الخطأ وارد من
كل أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم وضح أهمية النصيحة؛ فوصفها بأنها
الدين «الدين النصيحة» ، لكن هناك فرق بين النصيحة والفضيحة، النصيحة أن
ترى في أخيك شيئاً فتذهب إليه.. الأوْلى أن تذهب وحدك وبحب وتقدير وبعبارات
طيبة وتقول له: يا أخي! فتنثي على جهده، وتشعره بأنك لست مُبدِّعاً ولا مُفسِّقاً
ولا مُشهِّراً، وأنك ناصح تريد له الخير في الدنيا والآخرة، [وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا
الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ] (الإسراء: 53) فمتى نقدم له النصيحة؟
فإذا لم يتسير اللقاء المباشر وصعب تحقيقه فيمكن إرسال رسالة ولو بدون توقيع،
فديننا أغلى علينا من الناس جميعاً، والمهم أن يعرف أنه خالف الأمر؛ ربما لا
يسمع منك، ولا يسمع من فلان، وربما يسمع من فلان آخر وهو أقرب إليه؛
فتذهب إلى ذلك الآخر وبطريقة أخرى، ولكن إذا أبى ولم يسمع فلا تترك الأتباع
والناس يسيرون وراء أخينا هذا وهو بعيد عن الهدى والحق، فنتحدث للناس جميعاً
عن الموضوع بلا ذكر أشخاص، وبأسلوب: «ما بال أقوام يفعلون كذا
وكذا؟ !» والقرآن نزل كثير منه في قريش وبقية الكفار ولكنك لن تجد أسماء
ناس في القرآن أو أسماء قبائل بل هي أوصاف، أوصاف المنافقين: هم الذين
كذا، هم الذين كذا، فينبغي أن نعرض القضية مجردة من الأشخاص حتى لا يغضب
الأتباع لقيادتهم، وحتى لا يغضب الأشخاص لأنفسهم ويكابروا وكذا، وبهذا نهزم
الباطل وندقه دقاً بعيداً عن الأشخاص المنتمين إليه، فيندس برأسه صاحب هذا
الباطل أثناء عرض الموقف ويقول في نفسه: لست أنا؛ لا يقصدونني، بل هو
يحاول التخلص من هذا.
ومن خيرة العلماء الذين عرفتهم في حياتي في مواجهة هذه الأمور الشيخ عبد
العزيز بن باز - رحمه الله - كان يقف معلقاً ومعقباً على المعلمين وعلى
المحاضرين ثم لا يترك مسألة فيها مساس بالدين دون بيان لكنه لا يُجرِّح ولا يذم،
فيبدأ في الثناء عليه، وذكر الجهد الذي قام به حتى يشعر أنه من أنصاره، وأنه من
أعوانه، ولكنه ربما فاته كذا، ويستل الباطل وحده بعيداً عن الشخص ويدقه دقاً -
رحمه الله - كان عَلَماً، وكان نجماً من النجوم في المؤتمرات التي تجمع العلماء ,
فأقول: مثل هذه المنهجيات والتزاور والتناصح والوقوف ضد أعداء الإسلام
والتصدي لهم تكون سبباً للنصر إن شاء الله.
البيان: يتنامى الوجود الرافضي في اليمن بشكل مطَّرد، ويجد من يعينه من
الداخل والخارج؛ فهل هذا التنامي حقيقي أو هو تلفيق من وسائل الإعلام؟ وما هو
دوركم إزاء ذلك؟
* اليمنيون جميعاً لهم موقف واحد من مسألة الرفض؛ ولو قلت ليمني:
يارافضي. لاعتبرها سبة وهاجمك؛ فهو يرفض أن تصفه بالرفض، ولكن بعض
التيارات السياسية التي تريد أن تثبت مواقعها السياسية تتستر بحب آل البيت
والتشيع لآل البيت والموالاة لآل البيت، ولجرِّ الناس شيئاً فشيئاً إلى محاربة السنة
والصحابة رضوان الله عليهم، ويأتي هنا التيار الإثنا عشري الذي بدأ يضع قدمه
في اليمن مدعوماً من إيران. وعلماء الزيدية الآن - وليس من قبل فقط -
يرفضون الإثني عشرية ويحذرون منهم ويكتبون الرسائل في الرد عليهم، وهم
يأخذون في أمور الفقه بما ذهب إليه أهل السنة، ولا يختلف عامة الزيدية معنا إلا
في مسائل محدودة، ويحتجون بالبخاري ومسلم وغيرهما. عندنا الزيدية غير
الشيعة الأخرى أو الفرق الباطنية، ولكن الإثني عشرية وفي ظل الأجواء المفتوحة
وهذه التيارات المسموح بها بدأت. ولكني أقول إنه يقاوَم من علماء الزيدية أنفسهم،
بل هم أشد الناس مواجهة لها الآن. في «صعدة» هناك تيارات بدأت تظهر
لهؤلاء الذين ينتمون إلى المنهج الإثني عشري، وأول الناس مهاجمة لهم هم علماء
الزيدية هناك، فأقول: العلم مرة ثانية وثالثة، والتعليم، والناس عندما يعرفون
الأمر ولا شك أنهم لا يرضون لأنفسهم أن يسُبُّوا من وثَّقهم القرآن: [وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ
وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ]
(الحجرات: 7) .
فالذين يسبون الصحابة لا أدري ماذا يقولون؟ وأين يذهبون وهم يقرؤون
كتاب الله وهو يثني على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمدحهم المدح
العظيم؟ فالجواب هو في العلم والتعليم.
البيان: يثار حديث كثير حول السياحة في اليمن، وهناك دعوة للانفتاح
السياسي والاقتصادي والفكري مستظلة بمظلة السياحة؛ فما هي المخاطر المتوقعة
من هذا الانفتاح؟ وما السبيل لدرء فتنة السياحة؟
* يصعب أن تغلق بلادك عن الناس؛ لأن الناس يريدون أن يزوروا بلادك؛
فماذا تقول لهم؟ أتقول: لا؟ ! ولكن لو كنت رجل حق وصاحب رسالة لفرحت
بمجيئهم، ووضعت لهم برنامجاً سياحياً يعرِّفهم بالإسلام، ويدعوهم أن يحترموا
قانون البلد، وأن قانون البلد لا يسمح بتعري النساء. فقل له هذا قانون البلاد، ولو
وضعته في مسارات وفنادق ورجال وجهات مأمونة، وتضمن فيها نشر الدعوة
الإسلامية ونشر الإسلام بينهم ويتمتعون بالمناظر الجميلة، ويرون معاملة حسنة؛
فهذا سَبْقٌ في الدعوة إلى الله - جل وعلا - ولكن للأسف ضعفُنا هو الذي يجعل
السياحة وسيلة لنشر فسادهم، بل لنشر الإيدز والأمراض الخبيثة الأخرى الجنسية
والفكرية التي يعرضها هؤلاء القادمون عمداً لتدميرنا، بل طريقاً للجواسيس أيضاً؛
فالجاسوس يأتي للبلاد بغرض السياحة؛ فهذا خطر يحتاج إلى دفعه، ولكنه يحتاج
أن تكون الأمة أمة رسالة، والدولة دولة رسالة، والشعب شعب رسالة.
البيان: من المعضلات في بعض مواقع العمل الإسلامي ضعف العلم والفقه
الشرعيين مما يؤدي أحياناً إلى إهمال النصوص الشرعية، والتقدم بين يديها، بل
يصل الأمر عند بعض الفصائل أن تقدم الأمر التنظيمي على النص الشرعي؛ فماذا
يرى فضيلتكم في ذلك، وهل من علاج لمثل هذا الداء؟
* أنت لو كلمت أي إسلامي وقلت له: أنت تقدم الأمر التنظيمي على الأمر
الشرعي فإنه يقول: أعوذ بالله؛ ما هذا الذي تصفني به؟ وإن كان في الحقيقة
يقول ذلك فشأنه كشأن المقلد للمذاهب، فتقول له: يا أخي! أنت تخالف النص،
هذا النص بين يديك. يقول لك: علماؤنا فهموا هذا النص، وقد فهموا الرد عليه،
وفهموا كذا وكذا. أنا أرى أن من أحسن الوسائل في مثل هذا مطالبة هذه الفصائل
الإسلامية أن يبرزوا لنا علماءهم الذين يتبعونهم؟ وما هي حججهم؟ وما هو دليلهم؟
وأن نربي المجتمع على احترام النص الشرعي، واحترام كلام رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأنه لا أحد يؤخذ بقوله إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وحقيقة أن الذي يمارسه مخالف للنص؛ وهو يتوهم أنه قد جاءه فهم للنص
من جهات موثوقة ومن علماء هم عنده محل ثقة. الواقع أن علاج ذلك هو دعوة
هذه الجماعات الإسلامية إلى أن تخبرنا بهؤلاء العلماء: من هم حتى نتناقش معهم،
نتحاور معهم؟ وأن تخبرنا بهؤلاء المتبوعين حتى نناقشهم ونتحاور معهم، وأن
يخبرونا بأدلتهم وحججهم، وأن نشيع بين صفوف الإسلاميين جميعاً عدم التقديس
لأحد إلا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو المعصوم الذي يؤخذ قوله وحده، أما
الآخرون فيؤخذ من أقوالهم ويترك.
البيان: ما دور العلماء الربانيين في تصحيح المسيرة الدعوية، وكيف يفعَّل
دورهم في وسط الفصائل الإسلامية؟
* أولاً: أن لا يبتعدوا عن هذه الفصائل؛ لأن الذي يبتعد كيف يدل قافلة وقد
غاب عنها؟ بل عليهم أن يشاركوا هذه الفصائل الإسلامية ويعاونوها على الخير،
ويجتهدوا في المعاونة على ذلك، ثم يبصروها ويحذروها من الخطأ. عندما أراك
تدلني على الحق فسأحبك وأتلقى منك الخير، ثم تقول لي: هذا خطأ، أستجيب
لمثل هذا، [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (المائدة: 2) ، فإذا تقدم هؤلاء العلماء وأعانوا الجماعات
الإسلامية ودعاة الإسلام على ما هم عليه من الحق ونبهوهم إلى ما هم عليه من
الخطأ فذلك أرجى في القبول.
ثانياً: ألا يصحب ذلك بغي على الناس أو غمط لهم أو استصغار لهم
ولدورهم وشأنهم أو احتقار لهم؛ فأنت عندما تبذل الجهد وتريد أن تصل لأعلى
الدرجات، ويأتي آخر يقول لك: هذا الذي تفعله لا قيمة له ولا وزن، وهو لو فعل
عُشْر معشاره لتطاول به؛ فيجب أن نترك الكبر، ونربي الصفوف على هذا، وأن
نحقق الأخوة الإسلامية فيما بيننا [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (الحجرات: 10) .
فصائل العمل الإسلامي كل منهم ينظر إلى الآخر أنهم من المؤمنين؛ فنحن
نطالبهم بحقيقة الإيمان، وحق الإيمان هذا منه حق الأخوة، وحق النصرة، وحق
المحبة، وحق النصح والعون والتأييد والدعم؛ أما أن لا أجد منك غير نقد وسب
وتجريح واتهام وإمساك ومنع وتأنيب، وتريدني أن أسمع نصيحتك؛ فلا، ولا
أقصد بذلك فصيلاً من الفصائل، بل أقصد الكل، قل الحق يا أخي، انصر أخاك
بما هو عليه من الحق، شجعه على ما هو عليه من الخير، فسيقبل منك. إذا رأى
في نفسه شيئاً من الخطأ قال: أنا على خطأ. وأقول: إن وسائل الإعلام المتاحة لنا
من صحف ومجلات وأشرطة يجب علينا أن نشيع فيها هذه الروح، وهذه الدعوة
بين الناس إن شاء الله.
البيان: كان لفضيلتكم ولا يزال جهود مشكورة في الإعجاز العلمي في القرآن
الكريم؛ فكيف يسهم الإعجاز العلمي في مقاومة الأفكار والمذاهب الباطلة
ومناهضتها؟
* سأذكر لك قصة تدلل لك على الأمر، كان اسم عبد المجيد الزنداني عند
الاشتراكيين يساوي مجامع الجهل والعصبية والخوف والإرهابية والرجعية،
وأشرطة عبد المجيد الذي هاجم بها الدستور العلماني كانت أخطر أشرطة ولا بد أن
تحارب، ولكنهم نتيجة الوحدة وجدوا أنفسهم مرغمين على سماع عبد المجيد
الزنداني، فاجتمعنا مع رئيس الوزراء يومذاك «العطاس» ، وبدأنا الجلسة،
فحضرت من أوائل من حضر قبل موعد الاجتماع السياسي، وانتظرنا المتأخرين،
فقلت: أستفيد من الوقت، فبدأت أحدثهم عن الإعجاز العلمي، وإذا بهم يصغون
مندهشين، ثم قالوا: يا شيخ ما يكفي هذا؛ نحن نريد جلسة خاصة بهذا. فحددنا
موعد جلسة خاصة بهذا. فقلت: لهم عندي شريط اسمه: «إنه الحق» وهو
مقابلة بيني وبين أربعة عشر بروفسير حول هذا الموضوع، وجلسنا وتحدثنا،
وحدثتهم عن الشريط، قالوا: أين هذا الشريط يا شيخ؟ قلت لهم: في الاجتماع
الثالث سوف أعطيكموه إن شاء الله. ثم في الاجتماع أعطيتهم الأشرطة، ثم في
جلسة أخرى سألتهم، فقال رئيس الوزراء: يا شيخ! أصبحنا نوزع أشرطتك في
الحزب.
وفي مرة التقت التنظيمات الثلاثة في ذلك الوقت: المؤتمر، الإصلاح،
الاشتراكي , ودار النقاش حول قضايا سياسية ساخنة؛ هذا يشد من هنا، وهذا يشد
من هنا، فقال رئيس الوزراء: يا شيخ يا زنداني كلِّمنا عن الظلمات في البحار ,
فهذا أثر في المسلمين الذين اغتالتهم الثقافة الاستعمارية وأسرتهم في حبالها وفي
سجنها , أما الغربيون أنفسهم، أما رجال الفكر، فهؤلاء الواحد منهم إن لم يُسلم
يُسلِّم، لا تجده إلا بين مُسلم أو مُسلِّم لأنك تواجهه بشيء هو يعرفه، ويعرف كم
بذل من مجهود في الوصول إليه.
البيان: ما الذي يود أن يقوله فضيلتكم لأبناء الصحوة الإسلامية في ختام هذا
اللقاء؛ مع إلقاء الضوء على رؤيتكم لمنهجية الإصلاح والتغيير من خلال خبرتكم
الدعوية؟
* يقول الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم
مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] (الصف: 10-11) .
فلو تعمقتم في العلم لعلمتم أن الخير لكم في الإيمان والجهاد، ولا يصدق إيمان
شخص إلا إذا تحلى بهذين الأمرين. قال - تعالى -: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ] (الحجرات: 15) .
فأما الإيمان بالله ورسوله فهو لا بد أن يقوم على علم ليصل إلى اليقين ليكون
بعد ذلك الاستسلام والتسليم، وعندما يوجد هذا الإيمان واليقين في القلب فسينطلق
كل فرد نحو كل خير، وسيمتنع من داخل نفسه من كل شر، ونستطيع أن نجد
اللبنة المسلمة الصالحة للبناء الإسلامي، وبغير هذا تكون اللبنة ضعيفة ولا تتماسك
في البناء، ولا يقوم عليها بناء قوي، والإيمان هو اعتقاد ويقين جازم، وهو دعوة،
وبلاغ وشهادة، وهو استسلام وانقياد وخضوع لأمر الله على مستوى الفرد،
وعلى مستوى الأسرة والمجتمع، وعلى مستوى الدولة؛ وبهذا يتحقق الإيمان بشُعَبه
الثلاث التي ذكرت أو أسسه الثلاثة:
- اليقين بالقلب والشهادة.
- والدعوة والبلاغ باللسان.
- والانقياد والإسلام في العمل.
وهذا كفيل بإصلاح الأفراد والمجتمعات الإسلامية، لكن هذا لا يكفي مع
الأعداء؛ فمن يقنع لنا شارون؟ ! أتقول له: اتق الله يا شارون؛ فإنك خالفت
الكتاب والسنة! شارون لا ينفع معه ذلك أو مع غيره من الأعداء إلا أن نهتف في
أمتنا لتكون أمة مجاهدة؛ فما الذي أخرج الروس وحطم الاتحاد السوفييتي في
أفغانستان؟ الجهاد. وما الذي أبقى على بقية من المسلمين في البوسنة؟ الجهاد ,
وما الذي أخرج الأمريكان من الصومال؟ الجهاد. نحن هنا في اليمن حاولنا أن
نتفاهم مع الشيوعيين، وأن نتحاور معهم، وأن نأتي بالحلول السياسية، وفي
النهاية ما نفع غير الجهاد؛ فهذه هي وصية الله لنا. والجهاد يحتاج قوة وإلى وحدة
الصفوف بين المسلمين [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ
مَّرْصُوصٌ] (الصف: 4) . فيجب أن ننادي في أمتنا أن توحد صفوفها.
لو اتحد العرب على موقف صحيح فهل ينال منهم اليهود؟ لا، لن ينالوا. لو
اتحد المسلمون، واجتمعوا على كلمة واحدة؛ فهل ينال منهم الأمريكان؟ لا، ولا
غيرهم.
فوحدة صفوف الأمة ابتداءً من الفرد والجماعة الصغيرة في القرية وفي الحارة
وتربية الأمة على الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (آل عمران: 103) . نعم وحدة على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم؛ وحدة على منهج الله - جل وعلا - وليس على الأهواء ولا
على الشهوات ولا على ما يخالفه من ذلك.
- الثاني إعداد العدة: يجب أن نهتف بأمتنا في إعداد العدة؛ فالباكستان لولا
أنها أعدت العدة بالقنابل الذرية فهل كان يمكن أن تبقيها الهند؟ كانت الهند تزمجر
وترعد، فما الذي كان بعد أن فجَّر الباكستانيون القنبلة الذرية؟ بعد ذلك رحبت
الهند بالحوار معهم. فيجب أن نهتف بالأمة أن تعد العدة. ومن رحمة الله أنه أمرنا
بإعداد ما نستطيع، وتكفل سبحانه بما لا نستطيع، فقال - تعالى -: [وَلاَ
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ] (الأنفال: 59) . [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60) ،
فعلينا أن نهتف بالأمة أن تعد العدة، ونهتف بجيوشنا الإسلامية على كل
مستوياتها أن تعد العدة، ثم لا بد من نشر الشورى؛ فإن الرسول صلى الله عليه
وسلم أكثر ما كان مشورة في أمور الجهاد، يشاور الناس، حتى نحاول أن نحيي
في أمتنا مؤسسات نتشاورر فيها أولاً على مستوى الأفراد، ثم على مستوى
الجماعات والهيئات داخل الأقطار، ثم على مستوى الدول، ثم على مستوى الأمة
كلها، ثم لا بد أن يكون لنا أمر جامع وطاعة؛ لا بد أن يكون لنا كيان واحد،
فننادي بإحياء ميثاق الدفاع العربي، وندعو لإحياء أي صيغة من صيغ الاجتماع
على مستوى المسلمين جميعاً للدفاع عن الأمة الإسلامية، وكذلك الحركات الإسلامية
والجمعيات الإسلامية يجب أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها أمام هجمات
العلمانية في تلك الأقطار وتتترس، وأن يكون هذا كله موضوع دراسة وبحث , هذا
أهم ما يتسع له الوقت وفي كل هذا تفاصيل.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، رقم 21891، وأبو داود في كتاب الملاحم، رقم 4297، واللفظ له.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، رقم 4019.(163/50)
الإسلام لعصرنا
ثبت بطلان الجبرية (الجينية)
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
قبل بضع سنوات نظم المنحرفون من الرجال والنساء مظاهرة كبيرة في
واشنطن تداعوا لها من بلدان العالم، بدأ على إثرها نقاش طويل عن هذه الظاهرة،
فكان مما قاله بعض المبتلين بها أنهم لا يلامون عليها؛ لأنها شيء ولدوا به؛ فهو
في جيناتهم الوراثية. وقلنا لإخواننا المسلمين يومذاك: إن هذه الدعوى لا يمكن أن
تكون صادقة لأسباب ينبغي أن يسلِّم بها كل مؤمن بوجود الخالق معترف بصفتين
من صفات كماله هما: العدل، والحكمة:
فالخالق العادل الحكيم لا يمكن أن يغرس في فطرة الإنسان سلوكاً لا مفر له
منه، ثم يجعل ذلك السلوك محرماً عليه، بل يعاقب عليه أشد العقوبات.
والخالق العادل الحكيم إذا غرس شيئاً في فطرة الإنسان هداه إلى أحسن السبل
لإشباع رغبته منه. فهو لما جعل الحاجة إلى الطعام في خلق الإنسان أمره بأن يأكل
ويشرب ولا يسرف، وأحل له الطيبات وحرم عليه الخبائث. ولما جعل في الناس
ميلاً جنسياً هداهم إلى الزواج وحرم عليهم الزنا، بل فصَّل لهم أحسن الطرق
للمعاشرة. فلما حرم فاحشة الشذوذ تحريماً مطلقاً، علمنا أنه ليس لها في الفطرة
أصل، ودعك أن يكون الإنسان عليها مجبراً.
ثم إن هذه الفاحشة فاحشة إباحية لا خطام لها ولا لجام، بل إن من شأن
أصحابها المستحلِّين لها (لا أقول من كان من أصحابها المؤمنين الذين يعلمون أنها
ذنب كبير رغم ابتلائهم بها) أن يغصبوا الناس عليها حتى لو كانوا أطفالاً كما كان
قوم لوط يقطعون السبيل ويعتدون على المسافرين، وكما أرادوا أن يعتدوا على
ضيوف نبيهم حين ظنوهم بشراً. فهل يقول صاحب هذه الفاحشة إن الله - تعالى-
جعل في جيناته أن يفعلها مع كل من تميل إليه شهوته من أبناء جنسه؟ إن الميل
إلى الجنس الآخر ميل طبيعي، لكنه مع ذلك يمكن كبحه وضبطه، ولا يجوز
العدوان فيه، فلماذا يجوز في هذا الميل المنحرف؟
والمسلم المؤمن بكتاب ربه يقرأ فيه قوله - تعالى -: [أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا
سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ] (الأعراف: 80) . ومن المعلوم أنه قد سبقهم
إلى هذه الدنيا أجيال وأجيال من البشر؛ فلماذا لم تفعل الجينات في جيل أو جماعة
أو حتى فرد منهم ما فعلت بهؤلاء؟ وممن ورثوها إذا لم يسبقهم إليها أحد من
العالمين؟
قلنا ذلك أو قريباً منه قبل بضع سنين، واليوم يأتينا علماء الأحياء بحجة
تقطع دابر دعوى أولئك المنحرفين المجاهرين، وتلجم أفواه دعاتهم. لقد تبين أن
الجينات لا سلطان جبرياً لها على سلوك الإنسان، بل ولا على كل ما يتعلق حتى
بحياته البدنية.
أنا لست من الذين يبتهجون لعجز العلم الطبيعي عن تفسير ظاهرة من
الظواهر، أو الذين يعدون كل إخفاق للعلم الطبيعي انتصاراً للدين. كلاَّ؛ فإن ديننا
هو دين الحق، فلا يضره، بل ينصره كل اكتشاف علمي. لكنني أبتهج حين يخذل
التطور العلمي الملحدين والماديين فيثبت بطلان ما تعللوا به من دعاوى وتفاسير
ونظريات ينصرون بها عقائدهم الباطلة وأهواءهم الضالة، أو ينالون بها من حقائق
الدين المنزل من عند رب العالمين. فليس المقصود من هذا المقال إذن إنكار وجود
الجينات أو عملها أو التهوين من أمر دراستها؛ فإنها من جملة آيات الله -
سبحانه - في خلق الإنسان. لكن المقصود هو أن لا تفسر هي ولا شيء من
خلق الله - تعالى - تفسيراً يتناقض مع الحقائق القاطعة المقررة في دينه،
والمقصود أيضاً أن توضع هي وغيرها من الحقائق في وضعها الطبيعي وحجمها
الحقيقي الذي تدل عليه الحقائق الطبيعية والتوجيهات الإلهية. وإليك الآن بعض
ما نشر من حقائق في هذا الصدد بمناسبة ما سمي بفك شفرة الجينوم.
و «الجينوم البشري ذو حجم في غاية الضآلة توجد نسختان منه مضغوطتان
في نواة كل خلية من الخلايا البشرية، والخلية هي نفسها من الضآلة بحيث لا يمكن
رؤيتها بالعين المجردة لكنه هائل في ما يحوي من معلومات ... بحيث إنها لو
طبعت طباعة عادية لملأت 75490 صفحة من صفحات هذه الجريدة» [1] .
كان كثير من الناس يظنون أن هذه المعلومات التي هي بمثابة أوامر لصنع
الأشياء الحية هي التي تحتم طبيعة أجسامنا وسلوكنا. لكن الذي ثبت الآن أن
الجينات ليست هي وحدها التي تؤثر في طبيعة أجسادنا وسلوكنا، ودعك أن تحتم
تلك الطبيعة.
«.. يجب أن تستنتج الآن أن البيئة أهم مما كان يفترض في صياغتها
للإنسان» .
«إن الجينات لا تتحكم في حياتنا. لكنها مهمة»
من الحقائق الطريفة التي أظهرتها هذه الدراسة الحديثة أنه لا فرق كبير بين
الإنسان وأضأل المخلوقات من حيث عدد الجينات. فجينات الإنسان تقدر الآن
بثلاثين ألفاً بينما تقدر جينات الذبابة بعشرة آلاف. ولا تزيد جينات الإنسان على
جينات الفأر إلا ببضع مئات. ثم إنه لا يكاد يوجد فرق يذكر بين إنسان وإنسان من
حيث الجينات؛ إذ إنه لا يعدو الواحد من الألف.
ما الذي يجعل الإنسان إنساناً إذن؟ سأل أحد علماء الأحياء نفسه هذا
السؤال [2] ، فقال ساخراً: ما كنا نظن الإنسان إنما هو ثلاث ذبابات، أو فأر
وجزء من الفأر. ثم أجاب بأن الذي يميز الإنسان إنما هو وعيه. لكنه خبط خبطاً
طويلاً في تفسير كيفية نشوء الوعي من الدماغ.
أما الذي لا يشك فيه المسلم هو أن أهم ما يميز الإنسان إنما هو الروح التي
نفخها الله فيه، والتي كان الوعي من آثارها أو أعمالها. لكن المسلم يقول أيضاً:
إن الإنسان إن كان لا يتميز كثيراً عن الحيوانات من حيث عدد الجينات، فمما لا
شك فيه أنه يتميز عنها حتى في جسده تميزاً مشهوداً: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ] (التين: 4-5) . وصدق الله ربنا رب
العالمين.
__________
(1) (عدد 11 فبراير/ 01 من جريدة النيويورك تايمز) .
(2) (انظر جريدة واشنطن بوست، صB1، تاريخ 18 فبراير من هذا العام) .(163/64)
نص شعري
معاذ الله ما كانوا أباة!
مروان كُجُك
أَضَاعُونَا أَضَاعُوا نِصْفَ قَرْنٍ ... مِنَ الأَيَّامِ قَدْ ذَهَبَتْ هَبَاءَا
وَلَمْ يَرْعَوْا لَنَا حَقّاً صِغَاراً ... وَقَدْ سَدُّوا الْمَسَالِكَ وَالْفَضَاءَا
وَحَالُوا بَيْنَنَا وَاللُّعْبَ حَتَّى ... غَدَوْنَا لا نُطِيقُ لَهُمْ بَقَاءَا
وَقَالُوا سَوْفَ نُبْرِئُ كُلَّ جُرْحٍ ... زَمِينٍ أَعْسَرَ الدُّنْيَا شِفَاءَا
وَهَذِي الأَرْضُ نَزْرَعُهَا انْتِصَاراً ... عَلَى قَوْمٍ يُصَافُونَا الْعَدَاءَا
وَنُرْسِي فِي جَوَانِبِهَا حُصُوناً ... تَقِينَا مَكْرَ أَكْثَرِهِمْ دَهَاءَا
وَنَقْتَلِعُ الْيَهُودَ وَمَا بَنَوْهُ ... مِنَ التَّخْرِيصِ بَدْءًا وَانْتِهَاءَا
وَنَغْسِلُ عَارَ فُرْقَتِنَا وَنُنْشِي ... لأُمَّتِنَا الْخَوَارِقَ وَالْعَلاءَا
* * *
مَعَاذَ اللهِ مَا كَانُوا أُبَاةً ... وَلا عَرَفُوا الْكَرَامَةَ وَالإبَاءَا
أَذَاعُوا بَيْنَنَا شَرًّا وَبِيلاً ... وَكَانَ الْيُسْرُ عِنْدَهُمُ عَنَاءَا
وَكَانَ النَّصْرُ مِزْمَاراً وَطَبْلاً ... وَرَاقِصَةً غَدَوْا مِنْهَا إمَاءَا
أَطَالُوا اللُّعْبَ بِالأرْقَامِ حَتَّى ... غَدَتْ صِفْراً وَحَاصِلُهَا خَوَاءَا
وَأَلْقَوْا بَيْنَنَا خُلْفاً وَقَالُوا: ... دُعَاةُ مَحَبَّةٍ أَلِفاً وَيَاءَا
وَعَاثُوا بِالْحِمَى سَلْباً وَنَهْباً ... وَمَا حَفِظُوا لأُمَّتِهِمْ وَلاءَا
وَكَانَ كَبِيرُهُمْ أَشْقَى رِهَاناً ... وَأَسْوَأَ طَالِعاً وَأَمَرَّ دَاءَا
تَمَادَى فِي الأَذِيَّةِ لا يُبَالِي ... وَأَمْعَنَ فِي الْخَدِيعَةِ كَيْفَ شَاءَا
وَلَمْ يَعْبَأْ بِمَا فَعَلَتْ يَهُودٌ ... وَمَا عَرَفَ الصِّيَانَةَ وَالْحَيَاءَا
يُوَرِّي بِالنِّضَالِ بِغَيْرِ سَيْفٍ ... وَيَكْذِبُ أَهْلَهُ صُبْحاً مَسَاءَا
عَلَيْنَا كَبْشُ أَكْبَاشِ اللَّيَالِي ... وَحِينَ الْبَأْسِ يَلْتَمُّ اخْتِفَاءَا
وَيَصْطَنِعُ التَّأنُّقَ والْمَعَالِي ... وَيُطْلِقُ فِي الْفَضَا وَعْداً هُراءَا:
غَداً نَلْقَى الْعَدُوَّ إذَا أَرَدْنَا ... وَلَوْ شِئْنَا نُؤَجِّلُهُ مِرَاءَا
وَيَوْمَ نُرِيدُ نَمْلَؤُهَا ضِرَاماً ... سَعِيراً عَاصِفاً مَحْضاً وَبَاءَا
وَلَوْ شِئْنَا لأَسْكَنَّا عِدَانَا ... قِرَابَ سُيُوفِنَا فَغَدَوْا هَبَاءَا
نُطَاعِنُهُمْ إذَا ضُمِنَ انْتِصارٌ ... لَنَا أَوْ قِيلَ قَدْ صَدَقُوا النِّدَاءَا
* * *
فَيَا للهِ كَمْ سَالَتْ دِماءٌ! ... وَيَا للهِ كَمْ بَاعُوا دِمَاءَا!
وَيَا للهِ كَمْ غُصَّتْ سُجُونٌ ... بِأَطْهَارٍ بِلا ذَنْبٍ تَرَاءى!
سِوَى الإعلانِ أَنَّ الْمَجْدَ صِرْفاً ... لأُمَّتِنَا بِهَذَا الدِّينِ جَاءَا
فَلَمْ يَحْمِلْهُ خَوَّارٌ سَفِيفٌ ... وَلا خَلْفٌ إذَا وَعَدَ اسْتَقَاءَا
فَإنَّ اللهَ يَنْصُرُ نَاصِرِيهِ ... عَلَى أَعْدَائِهِ كُلاًّ سَوَاءَا
وَمَهْمَا قِيلَ إنَّ النَّصْرَ سَيْفٌ ... وَإنَّ النُّجْحَ أَنْ تَطَأَ الْفَضَاءَا
فَإنَّ اللهَ يُنْبِئُ عَابِدِيهِ ... بِأَنَّ النَّصْرَ يَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَا
* * *
أَضَاعُونَا وَفِي الإيعَادِ كَانُوا ... لَنَا صُدُقاً وَلِلأَعْدَا صَفَاءَا
أَقَامُوا بَيْنَهُمْ عَهْداً وَثِيقاً ... وَوَعْدُهُمُ لَنَا كَانَ افْتِراءَا
فِلَسْطِينَ التِّجَارَةِ قَدْ دُهِينَا ... وَحِيفَ بِحَقِّ أَكْثَرِنَا بَلاءَا
وَلَمْ يَسلَمْ لَنَا إرْبٌ وَصِرْنَا ... أُسَارَى الذُّلِّ يَحْزِمُنَا احْتِوَاءَا
وَبَاتَتْ سِيرَةُ الْعُرْبَانِ عَاراً ... عَلَى الأَعْرابِ نَبْعاً وَانْتِمَاءَا
وَذَاكَ بِأنَّهُمْ صَرَفُوا قُلُوباً ... عَنِ التَّوْحِيدِ وَاخْتَارُوا الْجَفَاءَا
فَهَذَا نَحْوَ شَرْقٍ قَدْ تَوَلَّى ... وَذَاكَ لِقَيْصَرٍ حَمَلَ اللِّوَاءَا
يَسُوسُ لَهُ خُيُولَ الْقَهْر فِينَا ... وَيَنْتَظِرُ الْعَطِيَّةَ وَالإنَاءَا
وَبِتْنَا لا نَرَى فِي الدَّارِ إلا ... ظلاماً دَامِساً مَلأَ الْفَضَاءَا
وَمَا تُلْقِيهِ أَمرِيكَا عَظِيماً ... يُسامِي الْحَقَّ أَوْ يَعْلُو السَّمَاءَا
فَيَا مُلْقُونَ أُمَّتَهُمْ بِنَارٍ ... لَقَدْ صِرْتُمْ لِجَذْوَتِهَا شِوَاءَا
أَمَا تَدْرُونَ أَنَّ النَّارَ تَأْتِي ... عَلَى مَنْ كَانَ أَضْرَمَهَا غَبَاءَا؟
* * *
سَيَبْقَى الْحَقُّ حَقّاً، واللَّيَالِي ... سَيَرْحَلُ وَفْدُهَا وَنَرَى الْبَهَاءَا
نِضَالُ الْحُرِّ صِدْقُ الْعَزْمِ طُهْراً ... وَلَوْ لَمْ يَمْتَلِكْ ذَهَباً وَشَاءَا
وَمَهْمَا قِيلَ قَدْ ضَاقَتْ دُرُوبٌ ... بِسَالِكِهَا، أَوِ اعْتَلَّتْ هَوَاءَا
وَسِيمَ النَّاسُ خَسْفاً وَالْمَبَادِي ... غَدَتْ حِكْراً لِشَارِحِهَا امْتِرَاءَا
فَسَوْفَ يَعُودُ لِلدُّنْيَا حَدِيثٌ ... عَنِ الْحَقِّ الْيَقِينِ وَلَوْ تَنَاءَى
وَسَوْفَ تَعُودُ أَسْرَابُ الأَمَانِي ... إلَى جَنَّاتِهَا زُهْراً وِضَاءَا
سِرَاعاً حُرَّةً مِنْ كُلِّ قَيْدٍ ... سِوَى مَا زَادَ عُصْبَتَهَا اهْتِدَاءَا
وَيَوْمَ النَّصْرِ لا تَبْغِي دِماءً ... وَلا أَعْرَاضَ مَنْ قَتَلُوا النِّسَاءَا
فَإنَّ الْعَفْوَ صِنْوُ النَّصْرِ قَدْراً ... وَأَنْبَلُ خُطَّةً وَأَثَرُّ مَاءَا
سَلُوا الطُّلَقَاءَ يَوْمَ الفَتْحِ لَمَّا ... أَزَاحَ رَسُولُنَا عَنْهُمْ عَنَاءَا
سَلُوا الأَيَّامَ هَلْ شَهِدَتْ كَرِيماً ... يَرَى لِعدُوِّهِ هَذَا الْبَرَاءَا
فَكَانَ الْفَتحُ أَعْظَمَها انْتِصَاراً ... وَكانَ الْعَفْوُ أَنْبَلَهَا عَطَاءَا(163/66)
البيان الادبي
قِمَّةُ التَّمَرُّدِ
عبد الله عطية الزهراني
اقتضتْ سُنَّةُ الله في هذه الحياة أنَّ لكلِّ أمرٍ قد بدأ نهايةً حتميَّةً لا بُدَ منها؛ قال
الله - تعالى -: [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ]
(الرحمن: 26-27) .
الأعمارُ تنتهي، والكائناتُ تفنى، والطبيعة تتغير، والأزمان تمضي..
كم من جبلٍ كان شاهقاً يطاول أعنان السماء بقمته جعله الله محطماً فأضحى
أثراً بعد عين! وكم من نَهَرٍ كان يسيل بالمياه أضحى اليوم يشكو الجفاف! وكم من
حديقةٍ غنَّاء كانت شديدة الخضرة، مترعةً بصنوف الأزهار والورود، أمست اليوم
أشجارُها كالعصفِ المأكول، فلا خضرة ولا رُواء، ولا ماء، ولا ظل ظليل!
وكم من إنسانٍ كان يعيش حياةً حافلةً بالنشاط والحيوية، وكان يعيشُ صحةً
في جسمه، وذكاءً في عقله، وبهجةً في وجهه، وقوةً في بصره وجميع حواسه
وهو اليوم كالزهرة الذابلة؛ ذهب بصرُه، ونحُلَ جسمُهُ، وتقوَّسَ ظهْرُهُ، وكساهُ
الزَّمَانُ شعراً أبيض وتجعدات في وجهه، وهكذا.
إنها سُنةُ الله في هذه الحياة التي نعيشُ أيامَهَا ولياليَها، ونشاهد أحداثها
ومواقفها، ولله درُّ القائل:
كل أمرٍ قد ابتدا ... سترى فيه خاتمة
ومثل ذلك نرى صروف الليالي والأيام ... قبل وقت من الزمن كان عُمْرُ
الواحد منَّا لا يتجاوز بضع سنوات، كان يعيش في كنف أمه وأبيه، يلعب مع
أترابه وزملائه، يقفز هنا وهناك، يبتسم كثيراً، ويمتلئ قلبه بالأفراح، لا يعرفه
الهمُّ ولا يعرف الهمَّ، يتقلب في هذه الحياة التي لا يعرف لها سِرًّا ولا يحمل فيها
مسؤولية.. وما هي إلا أيامٌ معدودة فإذا بالسنوات قد تضاعفتْ، وأعلنت الأيامُ
تمردها على الإنسان، فكثُرتْ المشاغلُ وازدادت الهمومُ، وكبُرَ الوالدُ والوالدةُ،
وتفرق الأحبابُ والأصحابُ، وتبدَّلت الدِّيارُ، وأصبح الهمُّ مركباً، وما أصدق
القائل:
ربَّ يومٍ بكيتُ فيه فلمَّا ... صِرْتُ في غيره بكيتُ عليه
عند ذلك يستيقظ من أراد الله به خيراً من غفلته، ويعود إلى رشده، ويعلم
علم اليقين أن هذه الدنيا بزخارفها وبهرجها لا تساوي شيئاً، وأن الفرحَ فيها مؤقت،
والسرور سحابة صيف عن قليل تَقَشَّعُ.
والسعيد في هذه الحياة مَنْ عمل فيها عملاً ينفعه هناك حيث توضع الموازينُ
القسط ليوم القيامة، ويحصِّل العامل ما عمل.
وفاز بالسَّبْق مَنْ قد جَدَّ وانقشَعَت ... عَنْ أُفْقِهِ ظلماتُ الشَّكِّ والرِّيَبِ(163/69)
دراسات تربوية
كيف نتعامل مع الألفاظ المجملة
أكرم مبارك عصبان الحضرمي [*]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه،
وبعد:
فإنَّ من يتأمل كتاب (سِيَر أعلام النبلاء) للإمام الذهبي يجده بحمد الله قد
حوى درراً مبذولةً لأصحابها، وثماراً سافرة النقاب لأربابها تتمثل في مواقف مفيدة
لأساطين وجهابذة تشرفت الأمة بهم، تبوؤوا مقاعد العلم والدعوة فكانوا مثلاً عملياً
لما يحملونه من هدى وتقوى، وقد تخيرنا خيرة من فوائده، وانتخبنا موقفاً من
فرائده، يحمل في طياته دروساً بالغة من مجالس السلف تكون نافعة لو رعاها
الخلف حق الرعاية، أردت بإيرادها محض النصح والخير.
وهذا الدرس يعتبر نوراً كاشفاً لظاهرة متعلقة بالتعامل مع الألفاظ من حيث
إطلاقها، ومزلة نسبة القائل إلى عثرته، أو لمزه بها وتصنيفه تحت دائرتها،
وغيرها من الأمور التي تُشكِّل بمجموعها عقبة تكبح امتداد الصحوة.
ذكر الذهبي أن ابن الخاضبة [1] كان يقول لابن الفاعوس [2] : الحَجَري؛
لأنه كان يقول: «الحجر الأسود يمين الله حقيقة» ، ثم قال الذهبي معقباً: «هذا
أذى لا يسوغ في حق رجل صالح، وإلا فهذا نزاع في إطلاق عبارة ما تحتها
محذور أصلاً ... » [3] إلى آخر كلامه.
وقبل أن نلج إلى ساحة الموضوع، ونخوض غمار البحث، يحسن بنا أن
نقف وقفة قصيرة عند عبارة ابن الفاعوس التي أصلها حديث: «الحجر الأسود
يمين الله» ؛ إذ ليس هذا غرض بحثنا وإنما المقصود ما وراء ذلك كما سيأتي إن
شاء الله.
فاعلم - علَّمك الله - أن هذا الحديث لا يُثبته أهل الحديث [4] ، وقد حكم
ابن الجوزي وابن العربي بأن الخبر باطل، وآفة هذا الحديث (الكاهلي) وهو
ممن يرغب العلماء عن روايته. ولذلك لا نحتاج إلى تأويله كما فعل الخطابي
والمحب الطبري [5] وكذا ابن رجب؛ لأن التأويل فرع من الثبوت والصحة , وقد
جمع شيخ الإسلام ابن تيمية بين هذين الأمرين أعني الحكم بتضعيفه وتفسيره
بناءاً على رواية ابن عباس الموقوفة بعد أن قال بأن الحديث لا يثبت إسناده عن
النبي صلى الله عليه وسلم: « ... فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس
من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل..» [6] .
والآن نأتي إلى المقصود، بعون خالقنا المعبود، إلى الكلام حول ما أجْلَته
مخيلة الموقف الذي قمنا بإيراده آنفاً من صيِّب الدروس النافعة والعبر التي مفادها
في هذه المعالم:
تفصيل المعاني المحتملة للألفاظ المجملة:
إن ما أطلقه ابن الفاعوس من قوله: «حقيقة» عقب الأثر يتطرق إليه
الاحتمال لاشتماله على رداء الإجمال، والمسلك الصحيح في التعامل مع الألفاظ
المجملة هو ألاَّ نقبلها مطلقاً، ولا نردَّها مطلقاً، بل لا بد من تفصيل معانيها تفصيلاً
شافياً يزول به اللبس، ليستبين الحق فيتبع، ويتضح الباطل ويهجر.
إذن فلا يجوز النظر إلى مجرد العبارة بل علينا أن نغوص في حقيقة الكلام
وما يحمله من معانٍ مختلفة، موضحين ما له وما عليه فإن معظم زلات الناس من
الألفاظ، قال ابن القيم: «ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت
الألفاظ من الحق والباطل ولا يغتر باللفظ كما قيل:
تقول هذا جني النحل تمدحه ... وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير» [7] .
ومن هذه الزاوية نظر الإمام الذهبي في قول ابن الفاعوس فقال: «وهو
كقولنا: بيت الله حقيقة، وناقة الله حقيقة، وروح الله ابن مريم حقيقة، وذلك من
باب إضافة التشريف ونحو ذلك، وما يقول من له عقل قط أن ذلك إضافة
صفة ... » [8] .
نعم ينبغي على المسلم أن يجتنب تفسير الآثار بهذه الألفاظ؛ لأنها قد وردت
بنص «فلا تعدل عن ألفاظه؛ فإنها معصومة وصادرة عن معصوم» [9] .
حمل اللفظ على أحسن معانيه:
إن من ينظر في الألفاظ المجملة يجب عليه أن يحملها على أحسن محمل لا
سيما عندما تكون صادرة عن عالم موثوق، ويتأولها على أجمل تفسير وأصوبه،
ما وجد إلى ذلك طريقاً؛ فإن هذا سبيل المنصفين، وقد بنى ابن القيم كتابه القيم
(مدارج السالكين) على هذا المَعْلَم؛، فكان كثيراً ما يقول بعد إطلاق الهروي:
«ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه» [10] .
كما يجب على الناظر أن يتجردَ من ثوب الميل لموافقيه، والنفور من مخالفيه
وينظر بإنصاف وعدل، «فإن المحب يسامح بما لا يسامح به غيره، ويعفي
للولي ما لا يعفي لغيره» [11] .
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
وعلى وفق هذا التقرير الذي بيناه في هذا المَعْلَم من حسن التفسير قال ابن
رجب الحنبلي: «ويُتأول ما روي عن ابن الفاعوس الحنبلي أنه كان يقول:
الحجر الأسود يمين الله حقيقة، بأن المراد بيمينه أنه محل الاستلام والتقبيل، وأن
هذا المعنى هو حقيقة في هذه الصورة وليس مجازاً، وليس فيه ما يوهم الصفة
الذاتية أصلاً» [12] .
ولذلك ذكر بعض الفقهاء شروطاً للمعترض تسوِّغ له الاعتراض، ومنها:
- كونه قاصداً للصواب فقط.
- كون ما اعترضه لم يوجد له وجه في التأويل إلى الصواب.
كما ينبغي أيضاً - في هذا المقام - مراعاة وجود مواضع أخريات فيها
تفصيل ما أجمله، فيحمل هذا على تلك؛ والله أعلم.
عدم التكلف لتصويب الباطل:
أما ما بان فيه الخطأ، واتضح فيه الغلط، وكانت الطرق إليه مسدودة،
وتعذر المسلك السابق لا سيما إذا احتفت به قرائن تؤكد ذلك، فلا نتكلف في
تصحيح ما نعتقد بطلانه، ولا تصويب ما نراه خطأ؛ فإن هذا من أشنع الأمور
وأبشعها، وعلامة على التعصب؛ فكلٌ منا يُقبل من قوله ويترك إلا المعصوم،
وإماطة الأذى واجب.
كلامك الفاسد لست أتبع ... حَدُّ الكلام ما أفاد المستمع
إذن فالزيغ لا يقرُّه منصف، ولا يرضاه اللبيب مذهباً، فضلاً عن أن يدافع
عنه، بل لا بد أن يكشفه دونما أي غضاضة، والسكوت عليه أشد من المرِّ
مضاضة، وما أحسن أن يُدَعْدعَ العاثر.
لحى اللهُ قوماً لم يقولوا لِعاثرٍ ... ولا لابنِ عمٍّ ناله العَثرُ دَعْدعَا [13]
قال الإمام الذهبي - في تعقيبه الذهبي بعد حسن التفسير -: «ولكن الأَوْلى
في هذا ترك الخوض في حقيقة أو مجاز، فلا حاجة لنا إلى تقييد ما أطلقه السلف؛
بل نؤمن ونسكت، وقولنا في ذلك: حقيقة أو مجاز؛ ضرب من العي واللكن،
فنزجر من البحث في ذلك، والله الموفق» [14] .
وهكذا نَسْلم في هذا الموضع الذي زلت فيه جماعتان:
أولهما: لا تُقِرُّ بالخطأ لمن تحبه، بل تحاول جاهدة البحث عن تأويلات
سمجة تنفر منها الطباع، ابتغاء الوصول إلى الكمال في نظرها.
والثانية: تفرحُ بأي زلة لتذيعَها، وتطير بها كل مطار، وتجعل من ذلك
مطية للإزراء طلباً للتنقص.
والسلامة: العافية من الطرفين إلى الإنصاف، عافانا الله من الزلل.
ونراعي في هذا المقام عدم الاستعجال، ولا نبادر بالتخطئة بادي الرأي، قال
الأخضري:
وأصلحِ الفسادَ بالتأملِ ... وإن بديهة فلا تبدلِ
إذ قيل كم مزيفٍ صحيحاً ... لأجلِ كونِ فهمه قبيحاً
لا يتخذ الخطأ ذريعة للتنقص:
فمن كان معه فضلُ علم فليعد به ويتصدق ببيان الزلل؛ فإن عليه ما عَلِم حتى
يؤديه دون بخس ولا نقصان، ولكن لا يتخذ ذلك ذريعة للحطِّ والنيل من صاحبها؛
فإن نفراً ممن يسافرُ في بطون الكتب يمرون على رياضها بسلام؛ فإذا وجد عثرة
ألقى عصا الترحال واستقر به النوى، فلا ينبغي التحلي بهذه الخصلة الذميمة؛
فإنها شعار للمتعصبة.
«فلا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام - أبي إسماعيل الهروي - إهدار
محاسنه وإساءة الظن به؛ فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق
السلوك المحل الذي لا يجهل، وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم
صلوات الله وسلامه عليه، والكامل من عُدَّ خطؤه» [15] .
ومن هنا قال الذهبي في مقامنا الذي استرشدنا به - لما فاه ابن الخاضبة بقوله
الحجري -: «هذا أذى لا يسوغ» [16] .
ومن لم يَرْعَوِ وتجاوز الحد في العلماء قيَّض الله من يتجاوز الحد فيه عياذاً
بالله من ذلك، والجزاء من جنس العمل كما رد الأذرعي والبلقيني والعماد بشدة
وغلظة على الأسنوي؛ وهذا كان مذهبه مع الشيخين الرافعي والنووي مع مراعاة
أن هدفهم هو بيان الحق.
ارضَ للناس جميعاً ... مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعاً ... كلهم أبناء جنسك
فلهم نفس كنفسك ... ولهم حسُّ كحسِّك [17]
وأما الذين يجحدون الصواب والإحسان لأجل هفوة أو نقصان؛ فإنهم على
غير الجادة، وهذا منطق حمقى النساء وليس بمسلك للحكماء، وهو مذهب فيه
شطط، «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما أحسنتَ
قط» [18] .
لأهل الفضل ما قدَّموا:
لكلٍّ مقام معلوم؛ فأرباب الدرجات العلية، والمنازل الرفيعة من الراسخين في
العلم ليسوا كغيرهم؛ فإن هفواتهم المعلومة مغفورة في بحر ما قدَّموه في العلم،
والعبادة، والدعوة، والدفاع عن السنة.
وابن الفاعوس رجلٌ صالحٌ كما وصفه الذهبي [19] قد أتى بهذا اللفظ المطلق
«وإن كان فيه قلق وسوء تعبير يَجبُره حسن حال صاحبه وصدقه وتعظيمه
لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له» [20] .
والغبن في العلم أشجى محنة عُلِمَت ... وأبرح الناس شجواً عالم هُضِمَا
قال السبكي مؤدباً ابنه:
وإذا أتتك مقالة قد خالفت ... نص الكتاب أو الحديث المسندِ
فَاقْفُ الكتاب ولا تمل عنه وقف ... متأدباً مع كل حبر أوحدِ
فلحوم أهل العلم سمّ للجنا ... ة عليهم فاحفظ لسانك وابعدِ
مزلة تلقيب العاثر:
والآن نأتي إلى آخر المعالم وأهمها، وهو عدم نسبة الإنسان لعثرته، وتلقيبه
بها، بل يُرَد على من فعل ذلك، ولا يقف هذا الأدب عند الإنسان بل يتعداه إلى
الحيوان؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين هذا الخُلُق لصحابته حين
خرجوا في سفر عبادة قاصدين البيت الحرام، حتى إذا كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالثَّنِيَّة التي يهبط عليها بركت راحلته، فقال الناس: حلْ حلْ [21]
فألحت فقالوا: خلأت القصواء [22] ، فقال: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها
بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل» ، قال الحافظ في الفتح فيما يستفاد من الحديث:
«جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره؛ فإذا
وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويُرَدُّ على من نسبه إليها،
ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله» [23] .
وهنا وإن كان ابن الفاعوس قد أساء في عبارته من وجهة نظر ابن الخاضبة
رحمهما الله «فإن قصده وصدقه يصلح فساد عبارته، ومن الناس من لم يفهم هذا
كما ينبغي فلم يجد له ملجأ غير الإنكار، والله يغفر لكل من قصده الحق واتباع
مرضاته؛ فإنه واسع المغفرة» [24] .
ولكن عبارة ابن الفاعوس ما تحتها محذر أصلاً [25] فلا يؤاخذ بها فضلاً عن
أن ينسب إليها، وعليه فتكون شكاة الحجري ظاهر عنه عارها.
يُعيِّرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
ويعتبر هذا التلقيب من التنابز الذي نهى عنه ربنا في كتابه: [وَلاَ تَنَابَزُوا
بِالأَلْقَابِ] (الحجرات: 11) ، واللقب كما قال ابن العربي اسم مكروه عند
السامع، فإذا ذكرت صاحبك بما يكرهه من اللقب فقد آذيته، ولا تجوز أذية المسلم
بمثل هذا إلا ما غلب عليه الاستعمال فإنه مستثنى عند بعضهم، قال ابن العربي:
«وقد ورد لَعَمْرُ الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه كقولهم في صالح جزرة [26] لأنه
صحَّف: (زجره) فلُقِّب بها ... » [27] .
إن ثمرة التصنيف ولمز المرء بهفوته سيئةٌ؛ لأنه يوجب التنفير عن الملقَّب
ممن يقف عند عتبة اللفظ، ولا ينفر من الحق لأجل هذا التصنيف أو التسمية
الباطلة إلا خفافيش البصائر كما أطلق عليهم ذلك ابن القيم. وهكذا نجد أن ذلك
يعتبر بوابة يدلف عَبْرها قالة الأذى بتصنيف الناس لا سيما حين يطوى بساط
الورع.
وقطع هذا الأذى أوْلى من قطع شجرة كانت تؤذي المسلمين؛ والعلة تدور مع
معلولها. فرحم الله امرأ قام بقطع هذه الظاهرة؛ لأنها ذات أسباب جالبة للفرقة
ودوافع مفسدة للألفة؛ فكم ظُلِمَ بسببها عالم، وكم زهَّدت عن الحق قاصد، وكم رُدَّ
من قول أو عمل صحيح بسبب إطلاق عليه قبيح.
والله أسأل التوفيق والسداد، والهداية والرشاد، والإخلاص والقبول والصفح
عن الخطأ، مما زلَّ به القلم، وأن يتجاوز عن جميع ما عثرت به القدم، إنه غفَّار
الذنوب وستار العيوب.
__________
(*) كاتب من اليمن - حضر موت.
(1) هو المحدِّث الحافظ أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي الدقاق كان ورعاً تقياً زاهداً.
(2) هو الفقيه الزاهد أبو الحسن علي بن المبارك البغدادي الإسكاف كان عابداً ورعاً.
(3) السير: 19/522.
(4) انظر السلسلة الضعيفة للألباني، 223، 1/258.
(5) الفتح لابن حجر، 3/591.
(6) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 6/398.
(7) مفتاح دار السعادة.
(8) سير أعلام النبلاء، 19/522.
(9) المدارج، 3/104.
(10) 2/38، وانظر مثيلاته، 2/260 437 521، 3/163 182.
(11) مدارج السالكين.
(12) ذيل الطبقات.
(13) أصلها (دَعْ دع) كلمة يدعى بها للعاثر، انظر لسان العرب.
(14) السير، 19/522.
(15) مدارج السالكين، 1/219، وانظر: 2/41.
(16) السيرة، 19/522.
(17) قالها الإمام الخطابي.
(18) أخرجه البخاري، ح/ 29، مسلم، ح/ 907.
(19) السير، 19/522.
(20) مدارج السالكين، 3/157، وانظر كذلك، 1/219 499، 2/54 91.
(21) حلْ حلْ: زجر للناقة لتسير.
(22) خلأت: بركت من غير علة.
(23) فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، 5/420.
(24) مدارج السالكين، 2/ 108.4
(25) من عبارة الذهبي السابقة.
(26) هو صالح بن عمر بن حبيب محدث المشرق، لقب بذلك اللقب جزرة قيل بسبب تصحيف خرزة كما ورد في السير، وقد كان صاحب دعابة ولا يغضب إذا واجهه أحد بهذا اللقب.
(27) هو صالح بن عمر بن حبيب محدث المشرق، لقب بذلك اللقب جزرة قيل بسبب تصحيف خرزة كما ورد في السير، وقد كان صاحب دعابة ولا يغضب إذا واجهه أحد بهذا اللقب.(163/70)
المسلمون والعالم
إندونيسيا بين أمل الصعود وخطر التفكك
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
لا شك أن إندونيسيا تقف اليوم على مفترق طرق سيكون له دور كبير في
تحديد مستقبل هذه الدولة، وهل ستتجه إلى البروز والاستفادة من قدراتها وثرواتها
الهائلة، أو أنها سترتمي في أحضان أعدائها الذين سيوردونها المهالك، وتتجه نحو
التفكك والزوال بعد المرور بمخاض عسير جداً من النهب المنظم للثروات وانتهاء
بالحروب الدموية التي قد تؤدي إلى تقسيم البلد إلى دول متنازعة تسهل إدارتها من
بعيد؟
تعتبر إندونيسيا أكبر دولة إسلامية؛ حيث يبلغ عدد سكانها نحواً من 225
مليون نسمة، ونسبة المسلمين فيهم أكثر من 90% حيث تتفاوت التقديرات بين
88 % و 95%، وهذا التفاوت ناتج عن محاولة تضخيم عدد النصارى الذين
يقدرون بـ 7%، وقد نقصت نسبتهم كثيراً بعد انفصال تيمور الشرقية،
وحوالي 2% هندوس، 1% بوذيون، وحوالي 1% ديانات أخرى وثنية. أما
المجموعات العرقية فهي تتوزع بين الجاويين 45% والسندان 14%، وماليزيين
ساحليين 5,7%، ومادوريين 5,7% وجميعهم مسلمون تقريباً.
وتتكون إندونيسيا من أرخبيل [1] يمتد في المحيطين الهندي والهادي لمسافة
خمسة آلاف كيلو متر من الشرق إلى الغرب، وحوالي ألفي كيلو متر من الشمال
إلى الجنوب، ويتكون من حوالي 17000 جزيرة، ويعيش نصف السكان تقريباً
في جزيرة جاوا (5% من مساحة إندونيسيا) ، أما الثروات الطبيعية فهائلة؛ فهي
بالإضافة للمنتوجات الزراعية والسمكية تحتوي على كميات كبيرة من النفط والغاز
الطبيعي والقصدير والنيكل والنحاس والذهب والفضة والفحم والبوكسايت
والأخشاب.
إن توفر الطاقة البشرية والثروات الهائلة المتنوعة والموقع الاستراتيجي
يؤهل إندونيسيا للعب دور إقليمي كبير بل تتعداه إلى إمكانية البروز عالمياً؛ لكن
مع ذلك تقف إندونيسيا في طابور الدول النامية وتتأرجح بين المقدمة والمؤخرة،
واستمرار الأحوال المضطربة قد يؤدي إلى استقرارها في ذيل القائمة، وهو جل ما
يتمناه الحريصون على البقاء في المقدمة والذين يريدونها بقرة حلوباً وسوقاً مفتوحة
ولا يتحملون بروزها عسكرياً واقتصادياً؛ فيا ترى ما هي أسباب تخلُّف إندونيسيا
عن الريادة؟ وما هي طبيعة العوائق الحالية والمتوقعة؟ مع العلم أن كثيراً من هذه
العوائق هي عينها في كثير من الدول الإسلامية المشابهة. إن الإحاطة بالمشكلات
والعوائق غير ممكنة ولكن يمكن ذكر أهمها، وهي كما يلي:
أولاً: أزمة الهوية:
إن محاولة مسخ هوية هذه الأمة ومحاولة تغييب هويتها الحقيقية هو أهم
الأسلحة التي حرص الأعداء على استعماله وتفننوا في الإبداع فيه؛ فهو يظهر تارة
بصورة قومية عربية أو طورانية أو فارسية أو حتى فرعونية وبربرية،
و..وأحياناً بصورة أحزاب مستوردة المناهج والأفكار من اشتراكية أو ماركسية بائدة
أو فرانكفونية أو ليبرالية أو حتى علمانية مجردة من كل فكر عدا عداوة
الإسلام «أتاتوركية» ، وأحياناً تظهر بصورة تحطيم القيم الاجتماعية
والتركيز على قضية المرأة، على جبهتي تشجيع التفلت ومحاربة الالتزام، وأن
السماح بتكوين الأحزاب بشرط ألا تقوم على أساس ديني يصب في هذا الاتجاه؛
فهو من جهة يشجع على الولاء لأي مبدأ وفكر ما عدا الفكرة الدينية. ويا ترى ما
هو الدين الذي سيقوم على أساسه حزب ديني في تركيا مثلاً؟
إن عملية مسخ الهوية في إندونيسيا قد اتخذت أشكالاً عديدة تتناسب مع
خصوصية هذا البلد؛ فقد تعرض البلد لحملة تنصير توجت بمحاولة فرض عقيدة
موحدة لإندونيسيا وبالطبع سيكون الخاسر الأساسي في تبنيها هم المسلمين!
التنصير بين الماضي والحاضر:
لقد تعرض الوجود الإسلامي في جنوب آسيا لعملية تصفية منظمة على يد
القوى الصليبية؛ فقد كان الإسلام هو الغالب على ما كان يسمى: «جاوا» ، وهي
المنطقة التي تشمل الآن الفلبين وإندونيسيا، ولم يكن هناك أي وجود نصراني؛ فقد
زار ابن بطوطة الرحالة المغربي المنطقة، وتجول في هذه الجزر، وسكن فيها،
وتزوج، وقابل الملوك؛ ومع تغلب المسلمين في عصره وظهورهم على عدوهم فقد
ذكر وجود ممالك للكفار الوثنيين، ولم يرد في كتابه أيُّ ذكر لوجود نصراني،
وذلك في القرن الثامن الهجري، ولكن مع مجيء الاستعمار الأسباني والبرتغالي ثم
الهولندي والإنجليزي وجدت بؤر للنصارى بل تمكن الأسبان من فرض النصرانية
على جزر الفلبين، وتراجع المسلمون جنوباً، وما زالت الحرب مستمرة في الفلبين
إلى اليوم، ومع ذلك فإنه يلاحظ مثلاً أن الفلبينيين من أكثر الشعوب استجابة
للإسلام عند دعوتهم، ومن العوامل المشجعة على ذلك إحساسهم بأن أصولهم
إسلامية، ولا يزال المسلم الذي قتل ماجلان قرب مانيلا يعتبر بطلاً قومياً في
الفلبين.
أما بالنسبة لإندونيسيا فقد ركز الاستعمار وجوده في جزر الملوك الغنية
بالتوابل التي تعتبر السلعة الاقتصادية الرئيسية في المنطقة، وقد تمكن المستعمر
من تكوين بؤر نصرانية في المنطقة، ولكن هناك ملاحظة مهمة وهو أن الاستعمار
الهولندي الذي حل محل الاستعمار البرتغالي هو اقتصادي في أساسه، وهو بهذا
يختلف عن الاستعمارين الأسباني والبرتغالي اللذين يغلب عليهما أسلوب التنصير
الإجباري، ومن ثم فرضت النصرانية في الفلبين ومناطق الاستعمار البرتغالي في
إندونيسيا مثل تيمور الشرقية التي استقلت عن البرتغال عام 1975م وضمتها
إندونيسيا أيام سوهارتو برضى ضمني من الغرب؛ ولكن سرعان ما فرض
انفصالها عن إندونيسيا.
لقد كان التنصير رأس حربة للاستعمار، وكان الاستعمار الهولندي حريصاً
على تكوين جاليات نصرانية محلية مضمونة الولاء. ومع خروج المستعمر عام
1945م استمر النشاط التنصيري، واعتمد على التحالف مع النخبة العلمانية
الحاكمة التي تسلل إليها النصارى، وقد تميز النشاط التنصيري بسعة انتشاره؛ فقد
حاول اختراق صفوف المسلمين، وتمكن من استمالة بعض ضعاف النفوس الذين
ارتدوا عن الإسلام، وحاولوا التأثير على المسلمين عن طريق تقديم الخدمات
الطبية والمادية واستغلال انتشار الجهل بحقيقة هذا الدين بين العوام نظراً لانتشار
خرافات الصوفية، وقد وصلت وسائل التدليس على البسطاء إلى حد نشر أشرطة
للإنجيل مرتل باللغة العربية للإيهام بأنه من سور القرآن. ولا شك أن تميع
الصوفية في قضية التوحيد يساهم في ضعف الحساسية تجاه التنصير، ولا يخفى
حالياً رفع النصارى لشعار وحدة الأديان وتوزيع البابا للاعتذارات.
لقد بلغ من توسع النشاط التنصيري في إندونيسيا واستعماله طاقات هائلة من
الطائرات والسفن أن طرحت الكنائس شعار إندونيسيا نصرانية عام 2000م، ولكن
يمكرون ويمكر الله؛ فقد انحصرت النجاحات التنصيرية في أوساط الوثنيين
البدائيين، وكان هذا الانسداد دافعاً لمطالبة النصارى بالانفصال كما حدث في تيمور
الشرقية، وكما يحدث الآن في جزر الملوك، وكان أسلوبهم المعتاد والوحيد هو
القيام بحملة تصفية للوجود الإسلامي في مناطقهم، وقد قتل في البداية مئات
المسلمين في مساجدهم وبيوتهم، وقد استمرت الحرب الآثمة مع تعتيم إخباري شبه
تام، وكانت الأخبار تكتفي بذكر الحرب الطائفية في جزر الملوك، ولكنها لا تفصِّل
في: من هو الضحية، ومن هو الجلاد؟ ومع ذلك فقد بارك الله بجهود المخلصين؛
حيث أدت هذه الأحداث ونشر صور المجازر التي ارتكبت بحق المسلمين إلى
تأجيج المشاعر وقيام حركة جهادية مباركة ساهمت في حفظ الوجود الإسلامي في
تلك الجزر، وإذا تجاوزنا محاولة مراكز القوى النصرانية في الجيش والأمن
مساعدةَ النصارى والوقوفَ في وجه المسلمين فإن النتيجة الأهم هي تأجج مشاعر
المسلمين ضد النصارى في مختلف أنحاء إندونيسيا مما سيكون له أبلغ الأثر في
الحد من النشاط التنصيري؛ والله غالب على أمره.
البانكاسيلا:
بدلاً من تبني الإسلام دين الغالبية الساحقة في إندونيسيا ونظراً لغياب القومية
الواحدة في إندونيسيا وقيام حركات مقاومة الاستعمار في إقليمي (بساندا)
و (أتشي) بالمطالبة بإقامة دولة إسلامية؛ فقد طرح سوكارنو وهو أول
رئيس بعد الاستقلال دستوراً مصاغاً بعناية؛ بحيث يتم استبعاد الإسلام،
وفرض عقيدة هجين تسمى (البانكاسيلا) تقوم بزعمهم على «الإيمان
الكامل بالوحدانية الإلهية، والتعامل الإنساني العادل والمتحضر، ووحدة
إندونيسيا، والديمقراطية القائمة على الحكمة والتشاور، وأخيراً مبدأ العدالة
الاجتماعية» واعترف بأربعة أديان على قدم المساواة وهي: الإسلام،
والنصرانية، والهندوسية، والبوذية , وتساوى هنا التوحيد مع الشرك
وأصبح (90 = 10) ! وضنوا على المسلمين حتى بنصِّ «أن دين الدولة
الإسلام» المجرد.
إن فترة سوكارنو قد تميزت بكثير من حركات التمرد سواء في الأقاليم
الإسلامية أو في المناطق النائية مع فتح المجال للتنصير وانتشار نفوذ الحزب
الشيوعي الإندونيسي، وكانت محاولة الشيوعيين السيطرة على الحكم واغتيالهم
لبعض القادة المسلمين في الجيش قد أدى إلى استلام الجنرال سوهارتو للحكم والقيام
بحملة تصفية دموية للشيوعيين قدر عدد ضحاياها بنصف مليون وسط ابتهاج
غربي، وقد استمر سوهارتو في تبني عقيدة (البنكاسيلا) مع تحالفه مع
النصارى والصينيين، وتكوَّن حزب الحكومة «غولكار» مع تزيينه لاحقاً
بحزبين أحدهما الحزب الديمقراطي النضالي (1976م) ممثلاً للاتجاهات
اليسارية، وحزب التنمية المتحد (1973م) ممثلاً التوجه الإسلامي، وقد أصدر
سوهارتو قانون «التنظيم الجماهيري» عام 1985م؛ فرض بموجبه عقيدة
(البانكاسيلا) على جميع التنظيمات السياسية. وهنا نتساءل: إذا كان هذا النظام
العقائدي قصد منه الحفاظ على وحدة إندونيسيا واجتماع الجميع على هذه العقيدة
الوضعية؛ فهل حققت أهدافها أم أن الأصل في الحقيقة هو تجاوز مبادئ الأكثرية
وتفريغ الأمة من مصدر قوتها؟ والجواب هو واقع الحال؛ فقد أصبحت هذه العقيدة
الفارغة تمثل الإطار الفكري لمسؤولي النظام وناشطي الأحزاب الحكومية
ومفكري السلطة، وفي المقابل انتشرت الحركات المسلحة المطالبة بالانفصال
أو الحصول على بعض الحقوق، ولم تكن هذه الحركات مقتصرة على المسلمين،
بل تعدتهم إلى النصارى في جزر الملوك وسكان بورنيو وإريان جانا الوثنيين،
وعلى ذلك فقد كانت هذه العقيدة ظاهراً مصدر وحدة وهي في الحقيقة لا تعني
شيئاً سوى للنفعيين الذين هم على استعداد لاعتناق أي مذهب في سبيل مصالحهم
الآنية، ولكن الثمن الغالي هو فقدان الشعب لقوة دافعة عظيمة كانت الأساس في
قيام الشعوب المسلمة في إندونيسيا بمقاومة الاستعمار واستمرارها في مقاومة
السلطة التي قدمت لهم شعارات الوحدة والديمقراطية والعدالة وهم يشاهدون ثرواتهم
تنهب وحرماتهم تنتهك، وخير مثال على ذلك شعب (أتشي) الذي كان له دور
كبير في مقارعة الاستعمار ولم تتغير أحواله كثيراً بعد الاستقلال.
إن المسلمين لا يمكن أن يجتمعوا على غير الإسلام إذا فرقتهم العصبيات،
وأي دولة إسلامية متعددة الأعراق والعصبيات محكوم عليها بالتفكك إذا لم تربط
الناس بالرباط الوثيق ألا وهو هذا الدين، وخير مثال على ذلك باكستان التي أنشئت
لتكون وطناً لمسلمي الهند، وسرعان ما تفككت إلى جزأين هما باكستان الحالية،
وبنجلاديش بعد حوالي عقدين من الزمن، وكان السبب الرئيس هو رفض
المشروع الإسلامي، ومن ثم الحكم بالإعدام على الشيخ أبي الأعلى المودودي
لمطالبته بتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية التي هاجر من أجلها من موطنه
في الهند إلى بلاد الأطهار «معنى باكستان» .
إن رفض المشروع الإسلامي قد أدى إلى ظهور العصبيات وإحساس البعض
بالغبن، وهذا ما حصل من البنغاليين الذين انجروا مع دعايات حزب (عوامي)
المدعوم من الهند، وتم فصل البنغال الشرقي عن باكستان وتسمى ببنجلاديش. إن
أكبر ضامن لوحدة إندونيسيا هو تبني الإسلام جامعاً للمسلمين ومظلاً غيرهم بظله
الوارف.
ثانياًَ: فساد النخبة الحاكمة:
بعد خروج الاستعمار تحكمت بالبلاد نخبة من العسكريين من جاوا وبعض
النصارى مع الارتباط مع الأقلية الصينية التي تتحكم بأكثر من 70% من الثروة،
وقد نتج عن ذلك التحالف وضع شاذ يتمثل بإحساس المسلمين من غير جاوا
وخاصة سومطرة بسيطرة الجاويين. أما الجاويون فيحسُّون أن حقيقة الحكم هي بيد
زمرة من العسكريين مع رموز الجالية الصينية التي ارتبطت بشبكة علاقات مع
السلطة الجديدة بعد الاستقلال، ومارست النهب المنظم لثروات الأقاليم؛ ولا يبعد
أن لهم أصبعاً في عملية إفقار الجالية الحضرمية التي كانت تنافسهم اقتصادياًَ
وإبعادها بعد إصدار سوركانو قرارات ظاهرها التوزيع العادل للثروة وحقيقتها
التخلص من منافستهم، وفي آخر عهد سوهارتو برزت روائح فساد الدائرة القريبة
منه، وبرزت أسماء أبنائه وبناته في مجال الأعمال واستغلال السلطة، ولم يسلم
حتى الرئيس الحالي وحيد من الاتهامات بالفساد المالي.
ثالثاً: الظلم الاجتماعي وعدم العدالة في توزيع الثروة:
يبلغ معدل دخل الفرد بالنسبة لإجمالي الناتج القومي 2800 دولار أمريكي
للفرد، وهذا لا يعكس حال الفرد الإندونيسي؛ حيث يعيش الكثير منهم تحت خط
الفقر، ويسيطر 4% من السكان من أصل صيني على 70% من الاقتصاد، ولا
يتجاوز الدخل الحقيقي لـ 80% من السكان 350 دولار في السنة، وقد تفاقم
الوضع بعد تدخل لرؤوس الأموال الغربية إلى البلد، ومن ثم كانوا السبب في
الأزمة المالية عام 1997م وانهيار الاقتصاد بسبب خارجي بحت، وكانت
الاستجابة لنصائح البنك الدولي وراء تفاقم الأزمة، وتم إيقاف المشاريع الضخمة
مثل صناعة الطائرات والصناعات الحربية.
رابعاً: التدخلات الأجنبية:
لقد كان التدخل الأجنبي مباشراً في أحداث تيمور الشرقية، ولا يبعد العامل
الأجنبي في طبيعة تعامل الحكومة مع أحداث جزر الملوك؛ حيث ترك المسلمين
لمصيرهم لأكثر من سنة قبل تدخل الحكومة. أما عملية مجازر قبائل (الداياك)
الهمجية للمسلمين (المادور) فلا ينتهي العجب من وقوف قوات الحكومة تتفرج
على المذابح التي تُمارَس بالأسلحة البدائية، وكان دور الحكومة يقتصر على تيسير
سبيل المغادرة، ولا أستبعد أن عملية إخلاء المنطقة من المسلمين النشطاء اقتصادياً
يقصد منه إحلال قوى اقتصادية أخرى مكانهم؛ حيث إن (الداياك) لا يتعدى
دورهم أن يمثلوا أداة تفريغ المنطقة انتظاراً للسيد الجديد؟ ولنترقب جميعاً القادمين
الجدد لمقاطعة (بورنيو) الغنية، وقد بلغ مدى التدخل الأجنبي السافر مدى بعيداً
دفع المتظاهرين إلى المطالبة بطرد السفير الأمريكي الذي بدأ يتصرف كأنه الحاكم
الفعلي لإندونيسيا.
خامساً: قوة العسكر وضعف السياسيين:
لقد عانت إندونيسيا من عقود متطاولة من عسف العسكريين وفسادهم ومع ذلك
فقد شهدت البلاد تطوراً اقتصادياً وصناعات متطورة معتمدة على الثروات الهائلة
واحتكار السلطة لها، وكان هذا من أسباب تداعي الاقتصاد؛ لأنه بيد فئة قليلة،
ولم يتم استثمار هذه الثروات في تنمية المناطق الغنية، بل يلاحظ أن أهل المناطق
الغنية هم أفقر الناس؛ مما فاقم حالة الغليان والإحساس بالغبن؛ ولذلك فإنه لما
وقعت الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها المضاربون اليهود «كما جاء في
تصريحات رئيس وزراء ماليزيا» فإن العسكريين انسحبوا من الساحة، وحل
محلهم مؤقتاً زعامات حزبية وجدت نفسها فجأة في مراكز السلطة بعد استبعاد طويل.
ملاحظات سريعة على الأحزاب:
إن عدد الأحزاب التي شاركت في الانتخابات يبلغ 48 حزباً، وإذا استثنينا
27 حزباً علمانياً واثنين نصرانيين فإن البقية ترفع شعارات إسلامية، ولكن الكبيرة
منها تتخذ الإسلام منهجاً وتأخذ منه برنامجها؛ وتكتفي من الإسلام بالزعامة الروحية
التي يتمتع بها زعيمها بين الجماهير، ويمكن أن نقول إنها أحزاب طرقية تشبه إلى
حد كبير زعامة المهدي والميرغني في السودان.
إن الوضع السياسي في إندونيسيا مضطرب بسبب كثرة الأحزاب وضعف
الزعامات الحزبية وعجزها؛ فما أكثر صور الرئيس وحيد وهو يغط في نوم عميق
أثناء الاجتماعات الرسمية، ويبدو من شدة تمسك المتحزبين له بوجوده في السلطة
أن هناك مجموعة تحكم باسمه تذكرنا بأيام يلتسن.
إن إندونيسيا بحاجة ماسة اليوم لزعيم قوي يجمع بين الحزم والعدل، وإلا فإن
الوضع السياسي المضطرب سيقود إلى حالة شبيهة بالباكستان التي تتنازعها القوى
السياسية والعسكرية ويدفع ثمنها البلد غالياً.
__________
(*) أستاذ مشارك في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.
(1) الأرخبيل: مجموعة من الجزر.(163/76)
المسلون والعالم
جذور التيارات الفكرية في الحياة السياسية الإسرائيلية
حسن الرشيدي
قبل عدة أشهر لم يكن أحد من المراقبين يتوقع صعود نجم شارون مرة أخرى
هذا العجوز المتهور الذي يمتلئ تاريخه بالمجازر والوحشية والدماء. ولكن مع
تطورات الانتفاضة وصمود الشعب الفلسطيني في وجه آلة الحرب الإسرائيلية
العاتية بدأت ظاهرة شارون تعود وتأخذ مكانها تدريجياً داخل النظام السياسي
الإسرائيلي، وتوج ذلك التوجه بفوزه بأغلبية ساحقة في انتخابات رئاسة الوزراء
الإسرائيلية.
هذا التحول في مجرى السياسة الإسرائيلية يدفعنا إلى محاولة استكشاف طبيعة
النظام السياسي الإسرائيلي والأسس الفكرية التي يقوم عليها، ودراسة التيارات
والقوى المختلفة التي تتحكم في عملية صنع القرار السياسي داخل مستويات الإدارة
اليهودية.
هذه الدراسات تفيدنا بلا شك في سبر غور تفاعلات المجتمع اليهودي وما
يشوبه من صراعات ومنازعات، وما يزخر به من جماعات وفئات مختلفة الأصول
العرقية واللغوية، والمليء بالتناقضات المذهبية والدينية، ومعرفة نقاط الضعف فيه
ونقاط القوة.
كما تبدو هذه الدراسة سبيلاً لإدراك أبعاد الفكرة الدينية التي قامت عليها
إسرائيل وتطور هذه الفكرة وفهم جزئياتها؛ وخاصة ما يتعلق منها بهدم الأقصى
وإقامة الهيكل على أنقاضه كما يزعمون.
وبتتبع تاريخ اليهود والمراحل التي مرت بها الدولة اليهودية قبل نشأتها وحتى
الآن نجد أن السياسة الإسرائيلية تأثرت بثلاثة تيارات فكرية مختلفة كانت هي
الغالبة والمتحكمة في الحياة السياسية الإسرائيلية وهذه التيارات هي:
أولاً: التيار الصهيوني السياسي:
تُنسب الصهيونية إلى جبل صهيون وهو أحد الجبال الأربعة التي أقيمت عليها
مدينة القدس. والتوراة تضفي هالة من القداسة على جبل صهيون خاصة؛ ففيه
يقيم (يهوه) إله اليهود فيما يزعمون، وفي رحابه يظهر المسيح المخلص الذي
ينتظره اليهود. وقد اشتق الكاتب الألماني اليهودي (ناثان برنباوم) في القرن
التاسع عشر من لفظ صهيون كلمة الصهيونية ليصف بها الاتجاه السياسي الجديد
آنذاك بين يهود أوروبا، ولقد استغل هذا الكاتب تلك اللفظة بهدف استثارة الحمية
الدينية لدى الجماعات اليهودية للانضواء تحت لواء هذا الاتجاه الجديد.
وظهرت الصهيونية السياسية بوصفها برنامج عمل في القرن التاسع عشر
على يد الصحفي النمساوي تيودور هرتزل، وهي تستند إلى فكرة رئيسية تقول إن
ثمة مشكلة يهودية تتمثل في تشتت اليهود وتعرضهم للمطاردة والاضطهاد أينما
وجدوا برغم أنهم يشكلون أمة واحدة وشعباً واحداً، وأن الحل الوحيد لهذه المشكلة
هو عودة هذا الشعب لأرضه المقدسة، وهي أرض الميعاد بغية إقامة دولة خاصة
به.
وفكرة العودة تلك ليست فكرة جديدة؛ فقد آمن بها عامة اليهود على مر
العصور بهدف إعادة بناء هيكل سليمان وإقامة مملكة إسرائيل وذلك تحت قيادة
المسيح المنتظر. غير أن الجديد لدى دعاة الصهيونية السياسية هو تميز دعوتهم
عن الدعوات السابقة لها بهدف سياسي هو إقامة دولة يهودية في فلسطين وبوسائل
سياسية تتمثل في الاعتماد على العمل اليهودي الذاتي، وليس انتظار المسيح
المنتظر.
ولكن لماذا حدث هذا التحول من فكرة الانتظار إلى فكرة العمل الذاتي؟ كان
ذلك لعاملين أساسيين:
أولهما: تأثر اليهود بحركة التحرر الأوروبي من الدين، فنشأت بين اليهود ما
يعرف باسم حركة (الهسكالاه) وهي كلمة عبرية تعني التنوير، وأخذت هذه
الحركة تدعو اليهود إلى الاندماج في المجتمعات الأوروبية، وذلك عن طريق فصل
الدين عن حياة اليهود في المجتمعات الأوروبية. وقد انتقدت الحركة سيطرة
الحاخامات على الديانة اليهودية وتفسيراتهم للتوراة مما أدى إلى مراجعة فكرة
الخلاص وانتظار المسيح كشرط للعودة، وظهور فكرة التخطيط والعمل على العودة
لأرض الميعاد. وهذه الحركة أحدثت هزة عنيفة داخل المجتمع اليهودي الذي ظل
لقرون عديدة منعزلاً على نفسه معتقداً أنه شعب الله المختار المتميز.
أما العامل الثاني الذي أدى إلى ظهور فكر العمل الذاتي للوصول إلى أرض
الميعاد فهو حركة العداء للسامية، وهي تعني كراهية الشعوب المسيحية الأوروبية
لليهود وما تبع ذلك من عمليات مطاردة واضطهاد، وأخذ اليهود يعمقون الشعور
بهذا العداء، وادعوا أنه يأخذ أبعاداً ثلاثة:
- البعد التاريخي: منذ السبي البابلي لليهود، وحتى الشتات الروماني في
العصر القديم وحياة الجيتو، ثم اضطهاد العصور الوسطى، ثم اضطهاد النازي في
العصر الحديث.
- والبعد الجغرافي: أي أن العداء يشمل اليهود في جميع أنحاء العالم.
- والبعد الكيفي: أي أن ما وقع لليهود لا يعادله أي اضطهاد وقع على سواهم
في أي زمان ومكان.
ومن هنا كان ادعاء الحركة الصهيونية أن الحل الوحيد والناجع لهذه المسألة
هو أن يكون لليهود وطن خاص بهم، وراحت هذه الحركة تبث أفكارها حول أربعة
محاور رئيسية وهي:
- فكرة الوعد الإلهي الذي قطعه إله بني إسرائيل على نفسه لليهود بتملك
الأرض المقدسة.
- فكرة أن اليهود هم شعب الله المختار.
- فكرة المسيح المخلص.
- الادعاء التاريخي أن فلسطين هي الموطن الأصلي لليهود.
ودعاة تيار الصهيونية السياسية كان معظمهم من الملاحدة الذين لا يعيرون
الدين أي اهتمام؛ فكان اهتمامهم منصباً على العودة إلى فلسطين لأسباب كثيرة منها
المال والثروة والغايات الأخرى التي سبق الكلام عنها مثل التحرر من الجيتو
الأوروبي. ويقول هرتزل في هذا السياق: «إن اليهود يؤمنون بفكرة المسيح
المخلص في الأوساط الدينية فقط، أما في دوائرنا الأكاديمية المستنيرة فليس لمثل
هذه الفكرة من وجود» ، ومن أقواله أيضاً: «سوف يلقى المتسلطون المتدينون إذا
حاولوا التدخل في إدارة شؤون الدولة مقاومة عنيدة وشديدة من جانبنا» . وكان
هرتزل قد تعمد أثناء زيارة له للقدس انتهاك العديد من الشعائر الدينية اليهودية؛
فضلاً عن أنه لم يقم بختان ابنه الوحيد الذي تنصَّر فيما بعد. وحينما كان يقرأ
خطابه الذي ألقاه في المؤتمر الصهيوني الأول بالعبرية تبين أن الحروف التي كتب
بها الخطاب كانت باللاتينية.
وبرغم ذلك لم يتجاهل هرتزل أهمية الدين في بناء دولته، وأن الفكرة في
الأساس هي فكرة دينية تقوم وتترعرع على أرض الميعاد والمسيح المنتظر، فاهتم
بدعم الحاخامات ورجال الدين لدعوته؛ حيث اعتبر الدين أداة من أدوات توحيد
صفوف اليهود خلف فكرته , ولكن فكرة العودة عند هذا التيار - الصهيوني
السياسي - هي خلاص دنيوي وقومي وملاذ لليهود من الاضطهاد والشقاء.
ولم يكن هرتزل بمفرده صاحب هذا المنهج أي المنهج العلماني؛ فقد كان
هناك بن جوريون أول زعيم لليهود على أرض فلسطين الذي قال: «لو تركت
حياة اليهود لحاخامات اليهود لظلوا حتى الآن كلاباً ضالة في كل مكان يضربهم
الناس بالأقدام» , ومثله حاييم وايزمان الذي تزعَّم المنظمة الصهيونية العالمية،
والذي كان يتلذذ بمضايقة الحاخامات بشأن الطعام المباح في الشريعة اليهودية،
وبرغم ذلك فقد كان يسير وفقاً لمبدأ سابقيه في رؤية الدافع الديني كمقدرة لا
يستعاض عنها في إيقاظ طاقات الشعب اليهودي.
وتبلور هذا التيار في اتجاهين:
الأول: الاتجاه الاشتراكي الذي كانت آخر صوره حزب العمل.
والاتجاه الثاني: هو الاتجاه الليبرالي أو ما يعرف باليميني الذي يمثله حالياً
تكتل الليكود.
ثانياً: التيار الأرثوذكسي، اليهودية الأرثوذكسية:
لفظة (الأرثوذكسية) ذات أصل يوناني ومعناها: العقيدة القويمة أو
المستقيمة , ولقد تقبل اليهود المتدينون هذا المصطلح الذي أطلق منذ بداية القرن
التاسع عشر على التيار الأرثوذكسي في الفكر اليهودي، وهو امتداد لليهودية
القديمة القائمة على التوراة المحرفة والتراث الشفهي للحاخامات , ومع بداية القرن
التاسع عشر وظهور الأفكار التحررية وسط أجيال اليهود هبَّ رواد اليهودية
الأرثوذكسية مدافعين عن فكر الانعزال والانغلاق رافضين أي تغييرات
تجاري مقتضيات العصر، وبلغت ذروتها في عام 1912م؛ حيث أسس هذا التيار
حركة دينية أرثوذكسية مناوئة للأفكار الصهيونية التي قد بدأت تنتشر في أوساط
اليهود تمييزاً لهم عن المتدينين الذين اعتنقوا الفكر الصهيوني، وسميت هذه
الحركة: (أغودات إسرائيل) أي رابطة إسرائيل، وأطلق على هؤلاء الأرثوذكس
المعارضين للصهيونية: (الحريديم) ، ولفظة الحريديم تعني المتقين. ينطلق
هذا التيار من عدة مبادئ:
1 - إن الحركة الصهيونية حولت فكرة الشعب اليهودي ذات المفهوم الديني
من جماعة دينية تستمد هويتها عن طريق التقيد بتعاليم الشريعة في كل أمور الحياة
العامة والخاصة إلى فكرة لا تقدس التوراة ولا شعائرها، وترى الشعب اليهودي
كغيره من الشعوب الأخرى؛ فالرب في نظرهم اصطفاهم وجعلهم شعبه المختار
لكي يقوموا على خدمة الجنس البشري كله؛ فالعودة واجب من 613 واجباً في
الشريعة اليهودية؛ فلماذا يُهتم بهذا الواجب بالذات، بينما لا يلتزم أحد بالواجبات
الأخرى؟ ولهذا فهي حركة قومية علمانية تستغل المفاهيم الدينية والتوراتية في
صياغة أفكارها وأهدافها.
2 - إن الحركة الصهيونية استبدلت الخلاص الدنيوي البشري بالخلاص
الإلهي؛ وذلك بدعوتها اليهود إلى العودة إلى الأرض المقدسة دون انتظار المسيح،
وهو ما يعد خروجاً على الإرادة الإلهية وتعاليم التوراة! أما النظرة الأرثوذكسية
المتشددة فترى أن مصير الشعب المختار لا يحدده إلا خالقه؛ وذلك تبعاً لمقدار
تمسك ذلك الشعب بتعاليم الشريعة اليهودية؛ وما الشتات إلا قضاء من الرب
وعقاب، ولن يتم الخلاص إلا بإرسال المسيح المخلص.
3 - إن الحركة الصهيونية تعتمد على الإرادة الحسنة للأمم الأخرى (الأممية)
فهذه الأمم هي التي تسمح لليهود بالعودة والاستيطان في أرضها، وذلك عن
طريق مراحل مختلفة: «وعد بلفور، التقسيم، الدولة ... » ؛ وهذا لا يتلاءم مع
طبيعة الشعب اليهودي ولا مع الوعد الإلهي لهم بتملك أرض الميعاد.
4 - إن المتدينين الأرثوذكس يرون أن علاقة اليهودي بأرض الميعاد هي
علاقة روحية، وأن نفي اليهود منها هي من الأوامر الربانية التي لا يمكن مخالفتها؛
وعلى اليهودي أن يستمر في صلواته حتى يستجيب له الرب ويأمر بعودته مع
المسيح؛ ومن هنا يرفض هؤلاء الدعوة الصهيونية وادعاءها بأنها تحمي أمن اليهود
وتنقذهم من الشتات.
5 - إن الحركة الصهيونية معادية للسامية؛ ذلك أنها تخلق لليهودي مشكلة
ازدواج الولاء، وتعمل على دعم الاتهامات المعادية للسامية، ولأنها تزدهر
بازدهار معاداة السامية؛ فهي تعمل على الترويج لها عن طريق العمل على تقويض
وضع اليهود أينما وجدوا حتى تدفعهم إلى الهجرة.
6 - إن الحركة الصهيونية جعلت من اللغة العبرية لغة الحديث اليومية
والرسمية لليهود؛ وذلك برغم أنها لغة دينية مقدسة يحرم استعمالها إلا في الشؤون
الدينية.
وقد كان طبيعياً أن يرفض الحريديم الدولة التي أقامتها الحركة الصهيونية؛
لأنها دولة علمانية تقوم على هوية وثقافة علمانية وتتجاهل هوية اليهود وقيامهم
وتعاليم دينهم , وفي الإجمال ثمة رأيان اثنان داخل صفوف الحريديم تجاه دولة
إسرائيل:
الأول: يرى أن قيام هذه الدولة عمل مناقض لفكرة المسيح، ومن ثَمَّ فهي
دولة آثمة. وبديهي أن هذه المعارضة للدولة لا تعود إلى علمانية الدولة وقوانينها
ومؤسساتها وإنما إلى طبيعة نشأتها وخروجها على الإرادة الإلهية والتعاليم التوراتية؛
ومن هنا فأنصار هذا الرأي يرون أنهم في منفى، وأن سبب هذا النفي هو وجود
الدولة ذاتها ولهذا لا يسعى هؤلاء إلى مراعاة الدولة ومؤسساتها، بل ينفصلون عن
المجتمع سياسياً واجتماعياً؛ ومن ممثلي هذا الرأي جماعة (ناطوري كارتا) .
أما الرأي الثاني: فيعترف أنصاره بالدولة حقيقة واقعة؛ وذلك دون منحها
الشرعية؛ وهم يعتبرون أنفسهم في منفى أيضاً؛ غير أنهم يتعاونون مع الدولة
ومؤسساتها وكأنهم في بلد أجنبي، ويحددون موقفهم منها بمقدار اقترابها من التوراة
وتعاليمها، ويمثل هذا الرأي في إسرائيل حركة (أغودات إسرائيل) التي
تعرضت - مثلها مثل سائر أحزاب إسرائيل - للانشقاقات. ويوجد في
إسرائيل اليوم قوتان رئيسيتان تمثلان هذا التيار، هما: (شاس) أو حراس
التوراة الشرقيين. و (يهدوت هيتوراه) أو يهود التوراة.
ويتضح أثر هذا التيار السياسي في عام 1947م عندما جاءت لجنة التحقيق
التابعة للأمم المتحدة (أونسكوب) وهي اللجنة التي أدت توصياتها إلى صدور قرار
التقسيم؛ فقد حرص قادة الوكالة اليهودية على أن يظهر اليهود جبهة واحدة أمام
اللجنة؛ وطلبوا من ممثلي اليهودية الأرثوذكسية المتشددة عدم معارضة إقامة دولة
يهودية في فلسطين أمام اللجنة؛ حيث كانت أفكار هذا التيار في ذلك الوقت تدعو
إلى إطالة أمد الانتداب أو حتى إقامة اتحاد يهودي عربي؛ ولكن - حفاظاً على
وحدة إسرائيل - حرص بن جوريون على إعداد وثيقة أو اتفاقية تسمى: (الوضع
الراهن) - لا تزال قائمة حتى الآن - تحدد العلاقة بين التيار الأرثوذكسي والتيار
الصهيوني العلماني، وتعهد التيار العلماني بالاستجابة إلى مطالب المتدينين من
حيث يوم العطلة، وتوفير الطعام المخصص لليهود، وقوانين الأحوال الشخصية
والتعليم. وقد وقَّع بن جوريون الوثيقة بنفسه، ووقَّع إلى يمين توقيعه الحاخام
(فيشمان) زعيم التيار الصهيوني الديني حينذاك، ووقَّع إلى يسار توقيعه
(إسحق غرينبويم) وهو من أشد اليهود مناوأة للدين يومذاك دلالة على ضمان
أن الجهات الأكثر تطرفاً في مناهضة الدين والجهات الملتزمة به أنها جميعاً قد
تعهدت بذلك.
ثالثاً: التيار الصهيوني الديني:
انطلقت مفاهيم هذا التيار الأساسية من إنكاره فكرة انتظار المسيح المخلص
لقيادة جموع اليهود، والدعوة إلى العودة لفلسطين لإقامة مملكة إسرائيل، والإيمان
بالجهود البشرية لليهود أنفسهم عن طريق تهجيرهم من أوطانهم وتوطينهم في
فلسطين. وقد استند رواد الصهيونية الدينية إلى نصوص توراتية واصطلاحات
تلمودية تعتبر الاستيطان في أرض إسرائيل وصية من الوصايا الدينية اليهودية
تمهيداً لقدوم المسيح المخلص؛ فتربة فلسطين تربة طاهرة، وأورشليم مدينة الله
وموطن إقامته، و «هي مركز الأرض، والمكان المناسب والوحيد لتأدية الوصايا
الدينية» عند الحاخام بن نحمان.
و «شراء الأراضي في أرض إسرائيل هي فريضة مقدسة ورَّثها النبي يعقوب
لنسله من بعده» كما قال الحاخام القلعي.
وخلاص اليهود لا يمكن أن يتم بمجرد مراعاتهم الوصايا الدينية في بلدان
شتاتهم؛ وإنما كما قرر الحاخام كاليشر -: «في الاستعداد له بالاستيطان والعمل
المقدس في الأرض المقدسة» .
وليس ثمة أمة - عند الحاخام (لانداو) دون أرض ولا دولة يهودية دون
الجمع بين الدين والدولة حسبما جاء في كلام بار إيلان.
وعند الحاخام (كوك) : الصهيونية هبة إلهية، وروادها ينفذون تعاليم الدين
فهم يد الإله في تنفيذ وعده، ومن هنا يجب توحيد جميع أبناء صهيون المتدينين
منهم وغير المتدينين وراء هدف استيطان فلسطين كما رأى الحاخام (موهليفر) ،
بل يجب التساهل مع العلمانيين والتعاون معهم على حد قول كوك.
والصهيونية الدينية - بأفكارها تلك - قدمت الشرعية لمطالب الدعوة
الصهيونية (المتمثلة في تهجير اليهود إلى فلسطين لإنشاء دولة لهم) كما أضفت
عليها طابعاً دينياً ذا صبغة توراتية ورداء تلمودي قلَّ أن تتمتع به أي حركة سياسية؛
ولهذا مثَّل الدين مَعِيناً لا ينضب ودعماً لا يحيد في يد الحركة الصهيونية تعوِّل
عليه، وتستمد منه تأثيرها ونفوذها تجاه الجماعات اليهودية في سائر أنحاء العالم
ولا سيما في شرق أوروبا حيث كان يقطن اليهود المتمسكون بالتقاليد والعادات
الدينية؛ فضلاً عن أن مواجهة أفكار الحاخامات اليهود الإصلاحيين بالأفكار
الصهيونية الدينية مهد الطريق لكبح الأفكار الأولى، واحتواء الثانية، وإفساح
المجال أمام هيمنة الحركة الصهيونية.
هذا وقد أفضى قيام دولة إسرائيل إلى إعطاء دفعة قوية لأفكار الصهيونية
الدينية وأهدافها؛ حيث عززت دعواها في جعل أرض إسرائيل مركز حياة اليهود
في العالم ولا سيما أن قيامها جاء بعد فترة قصيرة من المذابح النازية لليهود من
جانب، وأعقبها انتصارات عسكرية بلغت ذروتها في حرب يونيو (حزيران) من
عام 1967م من جانب آخر، وهذا ما دفع دعاة الصهيونية الدينية إلى دعم الدولة
رغم علمانيتها والتعاون معها، وقد كان من دعاة الصهيونية الدينية البارزين بعد
قيام الدولة الحاخام (زفي يهودا كوك) ابن الحاخام كوك.
ويجدر بنا قُبيل الانتهاء من الحديث عن الصهيونية الدينية أن نشير إلى أن
أنصار الصهيونية الدينية - أخذوا - يتحدثون منذ نهاية الثمانينيات ومطلع
التسعينيات عن ضرورة فك عرى التحالف مع الدولة العلمانية وزعمائها. لقد ازداد
شعور الصهيونية الدينية بقوتها في السنوات الأخيرة؛ حيث مارس حاخاموها نفوذاً
كبيراً في الشارع الإسرائيلي، وتبوأت الأحزاب والحركات الدينية الصهيونية موقعاً
مرموقاً في عملية صنع القرار السياسي سواء ما كان من خلال مشاركتها في
الائتلافات الحكومية أو من خلال تأثيرها على سياسات الحكومة؛ إلى جانب سيطرة
الصهيونية الدينية على دار الحاخامية الرئيسية، والحاخامية العسكرية، والمدارس
الدينية الصهيونية، وجامعة بار - إيلان، ومنظمة بني عقيبا الشبابية وغيرها من
المؤسسات الاجتماعية.
ولهذا بدأ حاخامات الصهيونية الدينية ومؤسساتها في تحدي سياسة الدولة
ومؤسساتها، ولعل أبرز صور هذا التحدي ما حدث في أغسطس (آب) 1995م
حينما أصدر (1500) حاخام - وهم من الحاخامية الرئيسية، وعلى رأسهم
الحاخام أبراهام شابيرا - فتوى نادت بتحريم إخلاء القواعد العسكرية الموجودة في
الضفة الغربية وقطاع غزة وتسليمها إلى غير اليهود، وطالبت الجنود بعدم طاعة
أوامر الانسحاب؛ وذلك رداً على اتفاق أوسلو؛ لأن الانسحاب المقترح في الاتفاق
يعرض حياة السكان إلى الخطر، بل ويهدد وجود الدولة وينذر بوقوع فتنة بين
الجيش والشعب كما جاء في الفتوى، بل ذهب بعض الحاخامين إلى أبعد من ذلك
حينما رأوا أن الحكومة نفسها تفتقد الشرعية، ولذلك فإن أوامر الجيش غير شرعية ,
وإلى جانب هذا ارتفعت أصوات عدد من الحاخامات التابعين للصهيونية الدينية
تطالب بالانفصال عن العلمانيين؛ لأنهم يرفضون التراث والتقاليد اليهودية،
ويظهرون العداوة للمستوطنين، ويعلنون أن الدولة لكل مواطنيها وليست للشعب
اليهودي فقط، بل يحاولون تقنين أفعال تخالف التوراة كاللواط، كما دعا أحد
الحاخامات إلى تغيير النشيد الوطني للدولة وهو نشيد الحركة الصهيونية في الأساس
واستبداله بالمزمور رقم (26) من مزامير التوراة، بل راحت بعض الكُنُس تغير
من الدعاء في الصلاة الذي يطلب من الله حفظ زعماء الدولة ليصبح نص الدعاء
هو: «أن يحفظ الله اليهود من زعماء الدولة» . وقد وصل هذا الأمر إلى ذروته
حينما أقدم شاب من صفوف الصهيونية الدينية على قتل إسحق رابين في نوفمبر
(تشرين الثاني) 1995م.
ومن الأحزاب الممثلة لهذا التيار الحزب الديني القومي (المفدال) والأحزاب
المنشقة عليه، ويتميز هؤلاء القوميون الدينيون عن الحريديم أو أتباع التيار
اليهودي الأرثوذكسي بلبسهم القلنسوات على رؤوسهم.
وكما نرى فإنه برغم تشرذم هذه التيارات وتحزبها فإن العقلية والنفسية
اليهودية القائمة على البراجماتية ولغة المصالح هي التي تتحكم في النهاية في
مسارات هذه المجموعات، وعلى ضوئها تتعامل هذه التيارات بعضها مع بعض
وتخاطب العالم الخارجي.(163/82)
المسلون والعالم
بركان البلقان والدور الأمريكي المشبوه
(2 - 2)
عبد العزيز كامل
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية ماضية قُدماً في مشروع السيطرة الكاملة
على أهم المواقع الاستراتيجية في العالم، ويبدو كذلك أننا نحن المسلمين دولاً
وشعوباً قد وقع الاختيار على أراضينا لتكون أحد مرتكزات هذه السيطرة وأهم
أدواتها المسخرة لخدمة هذا المشروع الكوني التسلطي السافر.
إن الولايات المتحدة تواجه منافسيها في العالم، وليس بينها وبين أكثر هؤلاء
المنافسين حدوداً مشتركة؛ ومع ذلك فهي تخوض الغمار إليهم لتُنازِلَهم في عقر
ديارهم انطلاقاً من قعر دورنا في أكثر من مكان.
إن للولايات المتحدة تطلعات حالية ومستقبلية للتسلط والتنافس في مناطق
عديدة من العالم بدءاً من الصين والقارة الهندية، ومروراً بآسيا الوسطى وروسيا،
ووصولاً إلى شرق أوروبا ووسطها؛ ثم انتهاء بالشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
وإذا كانت الأطماع ليست قاصرة على بلداننا الإسلامية، فإن من الواضح أن
كثيراً من تلك المشروعات التسلطية تقع في أماكن تماس على الأقل مع بلدان
وشعوب إسلامية يفضل الأمريكان أن يتخذوا منها ظهوراً وطيئة للركوب توصل
للمطلوب بأقل مجهود وأثمن مردود؛ وعند ذلك فهي إذا احتاجت لقواعد فمرافقنا
جاهزة للقعود، وإذا رغبت في أحلاف فمنا منافقون لا يرون غضاضة في
(التحالف مع الشيطان) بدعوى حماية الأوطان ... وإذا أراد الأمريكيون جنوداً
فجيوش بعض بلاد المسلمين مجهزة لافتداء أعداء الخفاء - دون أن تعلم - ولو
بتحويل الدماء إلى ماء!
لن نحتاج إلى ضرب أمثلة كثيرة على هذا الواقع المكرور، ولكن لدينا مثالان
ماثلان للعيان: أحدهما: من أفغانستان، والثاني: من البلقان. فما حدث في
أفغانستان في الثمانينيات ضد الاتحاد السوفييتي السابق، ترشيح للتكرار في
التسعينيات ضد الاتحاد اليوغسلافي السابق، غير أن التجربة الأمريكية في
أفغانستان أجهضتها للآن على الأقل ظاهرة طالبان؛ حيث جرت رياح التغيير على
غير ما يشتهي شياطين واشنطن.
تطلعات الولايات المتحدة وأطماعها في البلقان لا تقل عن أطماعها في آسيا
الوسطى، وهي لا تنحصر بالضرورة في الشؤون الاقتصادية المتعلقة بالثروات
والمقدرات، بل تتخطاها إلى ما يخدم مخططات واستراتيجيات عسكرية، أو برامج
للهيمنة السياسية أو الحضارية.
إن الأخطبوط الأمريكي يلف الآن ببطء بذراعه العسكري (الناتو) ، وذراعه
السياسي (الأمم المتحدة) ، وذراعه الاقتصادي (صندوق النقد الدولي) إضافة إلى
أذرعه الأخرى المتنوعة؛ يلف على العديد من المناطق الحساسة في العالم، ليدخلها
في سلاسة، أو يحشرها بشراسة داخل قوقعته الضخمة الفخمة المسمَّاة بالعولمة،
حيث الاستسلام أو الموت.
ومنطقة البلقان - كما ذكرت - مثال يضارع مثال آسيا الوسطى، وإن كانت
الأمور في آسيا الوسطى لم تتبلور بعد؛ حيث خسر رهان الأمريكان على أفغانستان
لتكون منطلقاً لبسط السيطرة على بلدان آسيا الوسطى، وإن كنت أعتقد أن
الأمريكان لن يَدَعوا طالبان تفسد الطبخة. أما في البلقان فالذي يظهر أن الولايات
المتحدة تراهن على مسلميها من الألبان وغيرهم لتضع يدها من خلالهم على منطقة
البلقان، مستغلة ضعفهم وحاجتهم واضطرارهم لالتماس المساعدة من أي طرف في
العالم؛ فما البال إذا كان هذا الطرف هو أمريكا، سيدة البر والبحر والجو في زمان
هوان المسلمين؟ !
للولايات المتحدة الآن سيطرة محسوبة بدقة على أجزاء مهمة من منطقة
البلقان؛ فهي التي فرضت حلاً يناسبها في البوسنة والهرسك، وهي التي وجهت
الأحداث في كوسوفا، وكلتا المنطقتين تداران الآن بإدارة دولية هي في حقيقتها
إدارة أمريكية؛ فماذا تريد أمريكا من البلقان؟
إنها تريد أن تحقق أهدافاً عديدة، منها تمهيد طريق للتحكم في شرق أوروبا
أو شرق المتوسط والوجود الدائم فيه؛ حيث القرب المباشر من الخليج والقوقاز،
وهما منطقتا التنازع المستقبلي بين الولايات المتحدة، وغرمائها، وتريد أمريكا
أيضاً أن تمكن لنفسها وتؤمِّن موقعاً مستقراً ومستقلاً في القارة الأوروبية التي تجد
نفسها في انحسار مستمر لصالح القوة الأمريكية المتفردة، والولايات المتحدة تريد
كذلك أن تحرم - وإلى الأبد - روسيا من أحلام العودة إلى مصاف القوى العظمى،
حتى تتفرغ هي - يعني أمريكا - لمواجهة التنين الصيني الأصفر الذي يرسل
الإشارات تلو الإشارات بأنه سيحتل موقع الدب الروسي الأحمر في التسبب
للأمريكان بالصداع الدائم والأرق المزمن.
ثمة بُعد ديني أيضاً - وإن كان غير منظور للكثيرين - يمثل إحدى الخلفيات
الرئيسة للصراع المستقبلي القريب حول البلقان؛ فإضافة إلى حرص النصارى بكل
طوائفهم على القضاء نهائياً على أي أمل في قيام كيان إسلامي في أوروبا [1] ؛
فهناك تنافسات وعداوات محمومة بين الهويات الدينية والعرقية لنصارى أوروبا،
وهي ليست وليدة العصر بالطبع، ولكنها قديمة قِدم عصيان النصارى وخروجهم
على هدي الرسالات المنزَّلة؛ كما قال - سبحانه -: [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا
نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى
يَوْمِ القِيَامَةِ] (المائدة: 14) .
وهذه العداوة والبغضاء بين طوائف النصارى، وإن كانت تحجبها أحياناً
العداوة الأكبر للمسلمين، إلا أنها عداوات تظل أحد الأمور الأساسية التي تحرك
سياسات الدول - في أوروبا وغيرها - انطلاقاً من خلفيات عقدية مذهبية تمثل على
كل حال فروقاً جوهرية بين ثقافاتها المتنافسة فيما بينها إلى حد الصراع.
فروسيا الأرثوذكسية وأخواتها في الديانة من الصرب واليونان والبلغار
والرومان، لن يكونوا على وفاق مع الكاثوليكية الفرنسية والإيطالية والإسبانية
والبولندية والبرتغالية. وهؤلاء الكاثوليك لن ينسجموا أبداً مع ألِدَّائهم الدينيين من
البروتستانت في إنجلترا وألمانيا، وما يقال عن هذه الطوائف داخل أوروبا يقال
عنها في أنحاء العالم.
ومما يُذكر هنا أن تلك العداوات تتنامى بتنامي المد الديني الذي أصبح ظاهرة
تميز أكثر المجتمعات في العالم؛ حيث أصبح البحث عن هوية للعودة إلى الجذور
ينطلق في الأساس من الانتماء الديني والمذهبي الذي تتفرع عنه بقية مظاهر التميز
عن الغير.
بركان البلقان.. هل سيهدأ؟
ينتمي أكثر نصارى منطقة البلقان إلى المذهب الأرثوذكسي الذي يحظى
أتباعه على الدوام بتعاطف الروس الذين يشاركونهم في الديانة والمذهب.
والذي يراقب مواقف الأطراف الدولية مما يحدث في البلقان يستطيع أن يلمس
تأثر تلك الأطراف بمذهبياتها المختلفة. وقد تقدم في الحلقة السابقة استعراض بعض
أوضاع المسلمين الألبان في ظل السياسات الإقليمية والدولية، والمعروف أن آخر
حلقات التفاعل في منطقة البلقان هو ما تشهده جمهورية مقدونيا في هذه الآونة؛
حيث لا يكاد المراقب للتطورات هناك أن يجد ما يستند إليه في أن بركان البلقان
يمكن أن يهدأ قريباً بعد أن استُفز للثوران.
وكعادة الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، فإنهم لن يَدَعوا الأمور
تمضي دون توظيفها لتحقيق طموحاتهم الخاصة؛ فشركات (استثمار المصائب)
عندهم جاهزة على الدوام للصيد في الماء العكر، وهي تراقب الأحوال عن كثب
لكسب النصيب الأوفى من أثمان بيع الحقوق المنهوبة والممتلكات المغصوبة.
إن الولايات المتحدة وإن كانت تتفق مع الأوروبيين في ضرورة قلع الإسلام
من أوروبا، إلا أنها تختلف معهم في تحديد مصير تركة الاتحاد اليوغسلافي السابق؛
حيث سقطت الشيوعية في أوروبا الشرقية، وحطمت أمريكا أحلام الصرب
الأرثوذكس في إعادة هذا الاتحاد على أسس نصرانية أرثوذكسية بالتعاون مع
روسيا، وكان من الطبيعي أن يؤيد أمريكا على ذلك الكاثوليك والبروتستانت في
أوروبا، والآن يُفتتح فصل جديد في المسلسل الأمريكي الرامي إلى بسط
السيطرة على البلقان عن طريق الضرب على وتر الوقوف مع الطرف الضعيف،
بشرط أن يظل ضعيفاً، وأن يبقى حليفاً حتى يُستعمل عصاً لكسر المناوئين، ثم
تُكسَر هذه العصا إذا أرادت أن تستعصي على حاملها يوماً من الأيام، وهذا أو
قريب من هذا هو ما دار في الماضي القريب في أفغانستان، وهو نفسه ما دار وما
يزال يدور في البلقان استغلالاً لمسلميها من الألبان وغيرهم. إن كثيراً من
قادة الألبان السياسيين [2]
والعسكريين يتحدثون عن أمريكا وكأنها الأمل الذي تنعقد عليه الآمال في
الخلاص، ويرون حلف الأطلسي وكأنه (حلف الفضول) الذي ينصر
المستضعفين ويثأر للمظلومين!
وقد وُضِعُوا في مواقف تجعلهم مضطرين لاختبار عسير واختيار صعب بين
السيئ والأسوأ، بين الصرب والغرب، بين هجمة الصقور ونجدة النسور!
وتأتي أحداث مقدونيا حلقة جديدة بعد تطورات البوسنة وكوسوفا في هذا
الصدد.
مقدونيا وحيف الضعفاء:
يتوق مسلمو مقدونيا كغيرهم من ألبان البلقان إلى التلاقي مع إخوانهم من
المسلمين الألبان في الدول المجاورة التي تم تقطيعها أشلاء بعد حرب البلقان الأولى
عام 1918م، وهم يطالبون الآن بتحصيل أدنى الحقوق المتعارف عليها بين
شعوب العالم، وهي المشاركة في إدارة شؤونهم التي ينوب عنهم فيها غيرهم قسراً
وجبراً. إن شركاءهم في سكنى أرض مقدونيا أقل عدداً، ولكنهم أوفر حظاً في
التحكم في إدارة البلاد ومقدراتها؛ فمقدونيا يسكنها مليونان و 400 ألف نسمة،
والألبان المسلمون يمثلون ما يتراوح بين 40 إلى 45%من مجموع السكان، وتصل
نسبتهم إذا أضيفت بقية المسلمين من الألبان إلى 50% من السكان، بينما يمثل
النصارى الأرثوذكس ما نسبته 33%، أما البقية من السكان فهم خليط من الأتراك
والبلغار والكروات والروم والصرب والبوشناق، وبالرغم من أن المقدون
الأرثوذكس لا يزيدون على ثلث السكان إلا أن بأيديهم السيطرة الفعلية على مقدونيا
منذ أن استقلت عن يوغسلافيا عام 1991م.
وكبقية بلدان أوروبا الشرقية، ارتَدَت مقدونيا المستقلة حُلل الديمقراطية
الغربية بعد أن خلعت عنها أحلاس الشيوعية الشرقية، وتحوَّل (الرفاق)
الشيوعيون أنفسهم إلى ديمقراطيين، بعد أدخلوا تعديلات ديكورية ديكتاتورية على
«القيم» الديمقراطية، ولأن في الديمقراطية نفسها من الزيف أكثر مما فيها من
الأصالة؛ فقد تمكن النصارى الأرثوذكس في مقدونيا من تزييف الوقائع من خلال
تلك الديمقراطية، فإذا بهم يحوِّلون أنفسهم إلى أغلبية حيث أمعنوا في تقزيم نسبة
الألبان المسلمين لتصل نسبتهم بعد التخفيض إلى 23%! وتعامل النصارى مع
الأكثرية واقعاً على أنهم أقلية افتراضاً، لا بل غرروا بهم ليتيهوا مع مطالبهم في
سراديب ودواليب الديمقراطية التي لا يَعْدم أصحابها حيلة في قلب الحقائق وليِّها.
ومن خلال النظام الهجين الجامع بين جور الشيوعية وزيف الديمقراطية،
صدرت النظم والمراسيم التي حولت الأرثوذكس إلى أغلبية بنصٍّ من الدستور،
وبدأ التعامل مع الأغلبية المسلمة على أنهم من مخلفات العهد العثماني؛ فلا حق لهم
في التعليم بلُغَتهم أو وفق مناهجهم، ولا حق لهم في المشاركة العادلة في شؤون البلد
الذي يمثلون الأكثرية فيه، بل لا حق لهم في التوجه الذاتي لسد ما يحتاجون إليه
من المشروعات التي ترفضها الحكومة الأرثوذكسية؛ فعندما أراد المسلمون تأسيس
جامعة أهلية عام 1944م لتدريس الألبانيين بالألبانية، ولتخريج قطاعات غير
متنكرة لهويتها ودينها؛ رفضت الحكومة المقدونية ذلك وأرسلت قوات من الجيش
والبوليس لإغلاق الجامعة بالقوة، واعتقلت المسؤولين عنها؛ مع أن الجامعة أقيمت
في مدينة (تيتوفا) التي يسكنها الألبان والتي تعد أكبر مدنهم [3] ، وهذه المدينة
نفسها، نصبت السلطات الحكومية الأرثوذكسية فيها صليباً طوله 12 متراً في العام
الماضي ضمن الاحتفالات الألفية، وهو واحد من عدد من الصلبان التي زرعت في
أنحاء البلاد، كان أكبرها صليب بطول 200 متر على قمة أعلى جبل صُمِّم بحيث
يضيء في الليل ليراه الجميع! ولكن الذين رفعوا هذا الوثن ولوثوا به الهواء
والفضاء ضاقت صدورهم بمآذن أحد أعرق المساجد في مقدونيا، فصدرت الأوامر
بإغلاقه ومنع إقامة الشعائر فيه، وهكذا تكون (التعددية) وقبول (الآخر) في ظل
الديمقراطية المختلفة التفسيرات!
لألبان مقدونيا مطالب معلنة، لا يملك من يطلع عليها إلا أن يتعاطف معها؛
لأنها من جهة تمثل أدنى الحقوق المفترضة لأكثرية من المواطنين في وطنهم؛
ولأنها من جهة أخرى جرى الإلحاح بتقديمها سلمياً عبر ما يسمى بـ (القنوات
الشرعية) وهذه المطالب تشمل:
1 - تغيير دستور الدولة بحيث يضمن للألبان التمثيل بنسبتهم الحقيقية من
عدد السكان.
2 - الاعتراف بالإسلام ديناً رسمياً؛ حيث إن الدستور الحالي ينص على أن
دين الدولة هو النصرانية الأرثوذكسية.
3 - منح الجنسية المقدونية لنحو ربع مليون مسلم ألباني يعيشون في ألبانيا
ولا يحملون جنسيتها، ولا يمنحون جواز سفر يحدد هويتهم ويضمن حقهم في
المشاركات الانتخابية.
4 - السماح للألبان بالدراسة والتدريس باللغة الألبانية.
5 - الاعتراف بالجامعة الأهلية التي أنشأها الألبان في مدينة تيتوفا.
6 - إجراء مسح سكاني جديد تحت رقابة دولية لتحديد النسب الحقيقية
للأعراق المختلفة ومنهم الألبان [4] .
إن تلك المطالب التي طال تعثرها في المسالك الديمقراطية الحكومية،
صادفت نفاد صبر لدى شريحة من شباب الألبان، وجدوا أنه لا بد من تجريب
طرق أخرى غير الطرق التقليدية التي استمرت عقداً كاملاً دون جدوى، وقد
شجعهم على سلوك هذا السبيل أن الحكومة المقدونية القائمة رغم تجبرها وجورها
حكومة ضعيفة لدولة صغيرة وشبه محتقرة من أكثر جيرانها؛ فالجيش المقدوني
الرسمي لا يزيد عن 15 ألف جندي مسلحين تسليحاً هشاً بأسلحة قديمة، إضافة إلى
أن منهم 40% من المسلمين الألبان. أما الطليعة التي تكونت من الشباب الألباني
فقد استطاعوا أن يكوِّنوا - بحسب مصادر قريبة منهم [5]- جيشاً من نحو عشرة
آلاف جندي، وهو الذي أطلقوا عليه اسم: (الجيش الوطني لتحرير مقدونيا) ،
فإذا علمنا أن هذا الجيش تتمركز وحداته في المناطق القريبة من حدود كوسوفا
المرشحة للتوتر مرة أخرى، رأينا أن المنطقة صارت مجهزة لصراع وشيك يبحث
عن صاعق تفجير. وقد جاءت بسرعة أكثر مما نتصور اللحظة التي أضيفت فيها
القشة التي قصمت ظهر البعير.
عطاء من لا يملك لمن لا يستحق:
كانت السلطات المقدونية قد أقدمت على إجراء اتصالات مباشرة مع السلطات
الصربية في شهر فبراير 2001م لإعادة ترسيم الحدود بين البلدين، والحدود هنا لم
تكن قاصرة على حدود صربيا مع مقدونيا، بل شملت حدود مقدونيا مع كوسوفا! !
فما الذي أدخل صربيا في موضوع يخص كوسوفا؟ ! هذا ما حصل؛ فقد قامت
السلطات الصربية بالفعل بالتباحث نيابة عن شعب كوسوفا الواقع الآن تحت
«الاحتلال» الأطلسي! ودون أن يحضر المباحثات السياسيون الألبان
المشاركون في الائتلاف الحكومي! وأثار هذا التصرف الأرعن الألبانيين كافة
حتى السياسيين الرسميين المتعقلين منهم، وطالبت الأحزاب الألبانية في البرلمان
المقدوني الحكومة بأن تشركهم فيما يدور بشأن بلدهم، وأن تبحث الشأن
الكوسوفي مع مسؤولين كوسوفيين، إلا أن الحكومة المقدونية التي تعلم بعدم وجود
(مسؤولين كوسوفيين) الآن من الناحية الواقعية بسبب (الانتداب) الأطلسي؛
أرادت أن تنتهز الفرصة وتنتهي مما تريده مع الصرب قبل حدوث أي تغيير
محتمل في كوسوفا مستقبلاً، وأتبعت السلطات المقدونية خطوة الاتفاق مع
الصرب على حساب الكوسوفيين بأن أرسلت قوات للسيطرة على بعض القرى
المسلمة على الحدود بين مقدونيا وكوسوفا، بعد أن قدمها لهم الصرب (هبة)
لا ترد باتفاق موقَّع! وهنا أُشعل فتيل الصدام، وبدأ الأهالي الكوسوفيون
بالتناوش مع القوات المقدونية، وتطور الأمر إلى تدخل وحدات عسكرية من
الشباب الألباني من مقدونيا، واشتبكت مع القوات الحكومية، وتداعت الأحداث
إلى المدينة الألبانية الكبرى في مقدونيا وهي مدينة (تيتوفا) ، وبدأت صدامات
بين جيش التحرير الوطني وقوات الحكومة المقدونية التي بدت مذعورة من
رد فعل المقاتلين الألبان على خطوتهم الممعنة في الاستهانة بهم.
وبعد تدخلات دولية وتفاعلات داخلية تقرر إيقاف القتال الذي بدأ في (شهر
ذي الحجة الماضي) حتى تُعطى الفرصة لمحاولات الحل السلمي عن طريق
التفاوض بين ممثلي الألبان في الحكومة المقدونية، وبين تلك الحكومة، ولكن وكما
كان متوقعاً لم توصل المفاوضات السلمية إلى حل؛ لأن الحكومة المقدونية ركبت
رأسها وظلت على عنادها لمطالب ألبان مقدونيا؛ ولهذا اشتعلت الأحداث مرة أخرى
ابتداءً من (7/2/1422هـ) ، الموافق (1/4/2001م) .
الحكومة المقدونية ومنذ بداية الأحداث وُضعت في مأزق صعب، إلى درجة
أنها اتهمت حلف الناتو بأنه تواطأ عليها بتسهيل عبور المقاتلين من كوسوفا! إنها
حكومة ضعيفة وفي الوقت نفسه لا تجد لها حلفاء ضد المقاتلين المسلمين، وهناك
من يراهنون على تقسيمها، وهي منذ أن أعلنت الاستقلال عن يوغسلافيا عام
1991م، لم تجد من يعبأ بها من دول الجوار؛ فبلغاريا تعتبر المقدونيين فصيلاً من
القومية البلغارية، وترفض الاعتراف بهم شعباً مستقلاً، واليونان لم تعترف حتى
الآن بشيء اسمه مقدونيا؛ فهم ينازعون الشعب المقدوني في النسبة إلى الإسكندر
الأكبر المقدوني المتوفى عام (323) ق. م. فبينما ينسب المقدونيون أنفسهم إليه،
يرى اليونانيون أنه كان يونانياً من أبناء إحدى قرى اليونان التي تسمى:
(مقدونيا) ، أما روسيا فهي أيضاً غير راضية عن الحكومة المقدونية؛
لأنها سمحت لحلف الأطلسي أن يضرب الصرب في كوسوفا عام 1999م انطلاقاً من
أراضيها، والصرب بطبيعة الحال يمقتون هذه الحكومة التي رأوها صنيعة
للغرب منذ أن استقلت عن الاتحاد اليوغسلافي، ولكنهم يحاولون الاستفادة منها
بعد تغير نظام ميلوسوفيتش.
ولكن روسيا بالذات نظرت للتطورات في مقدونيا نظرة ريبة؛ من جهة أن
الأمور فيها تتجه إلى تبلور (شيشان) أخرى بلقانية؛ فخروج مقاتلين إسلاميين
جُدد من مقدونيا بعد المقاتلين الذين كانوا في كوسوفا ومن قبل في البوسنة، ينذر
بتطور لن يكون في صالح روسيا ولا حلفائها المتبقين في شرق أوروبا، وقد أعرب
وزير خارجيتها (إيجور إيفانوف) إبان أحداث ذي الحجة الماضي عن قلق بلاده
الشديد من تطور (الإرهاب الدولي) في البلقان وغيرها، ودق ناقوس الخطر من
(طالبان) جديدة في البلقان!
وتأتي الولايات المتحدة في وسط كل هذا التصعيد متظاهرة بالحياد والمراقبة
من بعيد؛ فقد رفضت التدخل في مقدونيا سياسياً أو أمنياً بدعوى أن الوضع يمكن
أن يهدد (عملية السلام) في كل من البوسنة وكوسوفا. ومع هذا فقد طالبت
الحكومة المقدونية القوات الدولية الأطلسية أن ترد لها جميل السماح بضرب
الصرب من أراضيها، بأن تقوم تلك القوات بضرب المقاتلين الألبان في مقدونيا
وفي كوسوفا أيضاً!
قد يتوقع بعض المراقبين أن تقوم القوات الدولية بذلك، ولكن المترجح أن
الولايات المتحدة لا تريد استقراراً أو قوة للنصارى الأرثوذكس في منطقة البلقان؛
لأنها لا تستطيع الاعتماد عليهم في تنشئة وضع جديد هناك يخدم هدف السيطرة
الأمريكية على تلك المنطقة، ولأن الأرثوذكس خاضعون تقليدياً للتوجهات الروسية،
ولا يعني هذا أن الولايات المتحدة تريد لمسلمي البلقان أن يكونوا بديلاً في التمكن
في هذه المنطقة، ولكنها قد ترى أنه يمكن الاعتماد على فصائل منهم مستقبلاً في
خدمة الأهداف الأمريكية في شرق أوروبا.
الألبانيون بدورهم - في مقدونيا وكوسوفا وغيرها - يشعرون بأن هناك
عملية كبرى للتغيير في البلقان، وهم - من وجهة نظرهم - يريدون أن يكونوا
طرفاً فيها، بحيث لا يكتفون بموقف المتفرج، وهنا موضع الأهمية البالغة لموقفهم
وموضع الخطورة أيضاً؛ فمن المهم ألا يظل المسلمون دائماً في موقف الحاضر
الغائب في وقت التحولات الكبرى المتعلقة بمصائرهم، ولكن الأهم ألا يتخذوا
مجرد أدوات لإدارة تلك التحولات، فلتكن لهم حساباتهم الخاصة والدقيقة وبخاصة
في ظروف الأخطار المحدقة.
وفي أزمنة الغربة وعصور الوهن ينصح الرسولُ صلى الله عليه وسلم
المؤمنَ بأن يكون فيها كابن اللبون: لا لحماً يؤكل، ولا ظهراً يُركَب.
لهذا ننصح إخواننا الألبان - مبكراً - بألاَّ يُفْرِطوا في حسن الظن بالنصارى
من الأمريكان أو غيرهم، ولْتكنْ ثقتهم بالله - تعالى - أعظم من الثقة بأي
أحد، واعتمادهم على قوة الله - تعالى - أكبر من الاعتماد على قوة أحد.
فالنصارى أعداء سواء كانوا من الأرثوذكس أو الكاثوليك أو البروتستانت؛
فلنطلب النصرة عليهم ممن أعلمنا بعداوتهم، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِياًّ
وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً] (النساء: 45) .
__________
(1) يبدو أن هذا الحرص ناتج عن تصور أن ما يسمى بـ (العقلية الأوربية) يمكنها أن تنهض بالإسلام في العالم كله لإذا أقيم لها كيان إسلامي معترف به في أوربا؛ حيث يمكن أن تقدم نموذجاً إسلاميا معاصراً وناجحاً يغري بالتقليد والاتباع , ويقضي على المراهنة الدائمة على إخفاق الإسلاميين في إقامة نموذج حضاري ناجح.
(2) ومن هؤلاء (هاشم تاتشي) الذي كان زعيماً لجيش تحرير كوسوفا , ثم حل نفسه نزولاً على رغبة أمريكا وتحول إلى (قوات شرطة) .
(3) في مقدونيا جامعتان للأرثوذكس، يكاد القبول فيهما يكون خالصاً للنصارى , حيث لا يقبل فيهما من بقية المواطنين - بمن فيهم الألبان - إلا نسبة 10 %.
(4) إعلامنا (اليقظ) يطلق على أصحاب هذه المطالب (المتمردون) .
(5) اتحاد الطلاب الالبان في الخليج.(163/89)
المسلون والعالم
تطورات الأحداث في مورو
محمد علي طه
شنَّت الحكومة الفلبينية النصرانية بقيادة الرئيس المخلوع جوزيف أسترادا،
وبالتعاون مع وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان الحاقدين على الإسلام والمسلمين،
شنَّت حرباً شاملة على الجهاد الإسلامي ممثلاً بجبهة تحرير مورو الإسلامية،
مستهدفة استئصالها وإبادة قادتها وأفرادها، وتدمير المعسكرات والقواعد التابعة لها،
وبدأت الحرب الشاملة في منتصف إبريل (نيسان) 2000م.
وقد حشدت الحكومة لتحقيق هذا الهدف ما يُقارب نسبته 80% من قواتها،
واستعدت لذلك بشراء الأسلحة وطلب العون الخارجي من أمريكا والاستعانة
بالطائرات المقاتلة (F16) ، وأشركت كل أنواع الأسلحة برية وجوية حتى
البحرية لقصف المواقع القريبة من المياه.
استطاعت الحكومة تحقيق بعض النجاح، فاستولت على مساحات مختلفة من
المناطق والمعسكرات التي كان يستولي عليها المجاهدون، كما قتلت العديد من
المسلمين الأبرياء، وأحرقت ودمرت عدداً كبيراً من المنازل والمزارع والمساجد،
وحولت آلافاً من المسلمين إلى لاجئين.
غير أنه لم يتحقق لها ما تريد وما خططت له من القضاء التام على الجهاد
والمجاهدين؛ إذ إن أجزاءً هامة وكبيرة من المعسكرات والقواعد وبخاصة الأجزاء
الجبلية والغابية (غابات) لا تزال بيد المجاهدين ولم يتجرأ الجيش على دخولها
واقتحامها، ومن ذلك أن معسكر أبي بكر الصديق الذي يُعد المعقل الرئيس
للمجاهدين ومقر إقامة قيادتهم المركزية حيث يتواجد الشيخ هاشم سلامات [*] قائد
المجاهدين، هذا المعسكر الكبير احتل منه جيش الحكومة ما نسبته 40 %، وهو
ما كان يشمل مراكز التعليم والتدريس، ومصحة علاج مدمني المخدرات وتأهيلهم،
ومنازل المجاهدين والأسواق، وتم هذا الاحتلال بعد قصف الطائرات والأسلحة
بأنواعها.
والحال نفسه ينطبق على معسكرات عمر بن الخطاب وبُشرى وبلال التي
أخذ منها جيش الحكومة أجزاءً، وبعضها لم يحتل منه سوى نقاط مرور أو أجزاء
بسيطة.
ومع ذلك فإن الجيش النصراني الحاقد لم يحقق ذلك إلا بعد خسائر فادحة في
الأرواح والمعدات؛ فقد بلغ عدد القتلى من الجيش أكثر من ألفي قتيل من ضمنهم
قيادات عسكرية ذات رتب عالية، وجرح أكثر من ثلاثة آلاف جندي، ودمرت
العشرات من المدرعات والسيارات، كما أصيبت بعض الطائرات التي كان لها
الأثر الأكبر - كما يقول قادة الجيش - في تحقيق 80% من الإنجازات
والانتصارات.
أما الخسائر المالية فهائلة؛ إذ إن الحرب كانت تكلف الخزانة ملايين
البيسوات يومياً، مما أدى إلى انخفاض سعر البيسو وارتفاع الأسعار، وحدوث
الضائقات الاقتصادية. ومقابل خسائر الجيش الفادحة استشهد من المجاهدين ما
يربو على مائتي مجاهد، بينما جُرح ما يزيد على خمسمائة مجاهد.
غيَّر المجاهدون إثر هذه الأحداث أسلوب قتالهم، فتحولوا من القتال شبه
النظامي والدفاع عن المعسكرات والقواعد، إلى التركيز على حرب العصابات
والهجوم المباغت لاستنفاد قوى العدو وإقلاق هدوئه وتكبيده الخسائر، ولا تزال
المناوشات في مواقع التَّماس مستمرة. وللعلم فإنه يوجد لدى المجاهدين (45)
قاعدة ومعسكراً، وقد زاد تعدادهم بعد الأحداث الأخيرة، وناصرهم إخوانهم
بالانضمام إليهم، وقد وصل تعداد المقاتلين تحت قيادة الجبهة الإسلامية (M. I.
L. F) إلى عشرات الآلاف، وقد تم تسليح نسبة كبيرة منهم تسليحاً جيداً من
الغنائم التي خسرها الجيش في المعارك، أو مما يتم شراؤه من الضباط والجنود
لانتشار الفساد بين أوساط الجيش.
نسبة كبيرة من المسلمين في مورو تناصر الجبهة وتؤيدها، ويصرح قادة
الجبهة أن نسبة 80% من شعب مورو يقف معهم.
الإطاحة بالرئيس أسترادا:
بعد نهاية الأحداث الكبرى من الحرب الشاملة فإن الرئيس الفلبيني الذي أعلن
الحرب ضد المسلمين، والذي تلطخت يداه بدمائهم، قد أصابته نقمة الله ودعوات
المظلومين، وطُرد طرداً من القصر الرئاسي.
كان الرئيس الفلبيني (جوزيف أسترادا) قد أخفق في إدارة أمور البلاد، لعدم
توفر الكفاية فيه لهذا المنصب، إضافة إلى ولعه الشهير والشديد باللهو ومعاقرة
الخمر، ثم أضاف إلى ذلك الاختلاسات المالية وأخذ الرشوات والمشاركة في تجارة
المواد المحرمة، وكانت المعارضة تتلقط سقطاته وأخطاءه، وتضرب على وترها
لإثارة الرأي العام ضده، والمطالبة باستقالته.
لجأ الرئيس وأعوانه في قيادة الجيش إلى أسلوب صرف الأنظار، فأعلن
الحرب الشاملة ضد المجاهدين، لكن السحر انقلب على الساحر كما يقولون فزاد
الطين بلة والأمر علة، وكانت الخسائر البشرية والمالية الهائلة سبباً آخر في اشتداد
حركة المعارضة ضده، فخرج الشعب في مظاهرات يطالب باستقالته، ثم
تضافرت الأدلة على فضائحه المالية مما أقنع الدوائر التشريعية بإحالته إلى
المحاكمة، فكانت تلك المحاكمات التي شُغل بها الإعلام العالمي فترة من الزمن،
تبعها استقالات عديدة من شخصيات وزارية وعسكرية، ثم تخلى عنه حليفا الأمس
ضد الإسلام: وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان اللذان شاركا المعارضة في
مهرجاناتها، وأدى ذلك كله إلى أن يُخرَج عنوة من القصر الرئاسي أمام عدسات
الكاميرات وتشفي المعارضة والمسلمين.
الذي حدث للرئيس المخلوع جوزيف أسترادا كان قد حدث سابقاً للرئيس
الطاغية (ماركوس) وهما (ماركوس، أسترادا) الوحيدان اللذان أعلنا الحرب
الشاملة ضد المسلمين، فباءا بغضب من الله وعقابه.
في الأيام القادمة يُنتظر أن يتم تقديم الرئيس السابق - أسترادا - للمحاكمة
رغم محاولاته المتكررة واستجدائه أن لا يحدث ذلك، وقد حاول أن يحصل على
اللجوء السياسي في دول الجوار غير أن طلبه قوبل بالرفض، وعلى الباغي تدور
الدوائر، وما هي من الظالمين ببعيد.
جماعة أبي سياف:
أبو سياف هو لقب مؤسس الجماعة، واسمه: عبد الرزاق الزنكلاني، وهو
من مسلمي الجنوب من جزيرة باسيلان، درس العلم الشرعي في جامعة أم القرى،
وتخرَّج فيها، ثم التحق بمراكز التدريب التابعة لجبهة مورو الوطنية في ليبيا،
وتلقى هناك تدريبات عسكرية وقيادية، بعدها عاد إلى منطقته جزيرة باسيلان في
جنوب جزيرة ميندناو جنوب الفلبين وهي عبارة عن جزيرة كبيرة منعزلة فيها
أكثرية مسلمة، لكنها تعاني من اضطهاد النصارى القادمين من الشمال الذين دفعت
بهم الحكومة وساعدتهم لتغيير الخارطة السكانية في الجنوب المسلم، وحرضتهم
على قتل المسلمين وسلب أراضيهم، بل كونت منهم جماعات مسلحة لتحقيق هذا
المطلب، ومن ذلك جماعة الفئران وجماعة الأخطبوط.
موقع الجزيرة المستقل، ومعاناة المسلمين في باسيلان، شجعا أبا سياف على
تأسيس جماعة مستقلة، ونشط في أوساط الشباب هناك، ثم اتخذ له قاعدة في الغابة
للتأهيل والتدريب الدعوي والجهادي؛ إذ إنه أراد أن تكون جماعته دعوية جهادية:
دعوية لتعليم المسلمين دينهم، وجهادية للوقوف ضد النصارى المدعومين من الدولة
والدفاع عن المسلمين.
بدأ أبو سياف وجماعته أعمالاً عسكرية ضد النصارى الذين يقتلون المسلمين
أو الأجانب الذين يساعدونهم أو يأتون للتنصير في صفوف المسلمين [1] ، مما
أدخله في الصراع مع الحكومة ممثلة بالجيش وقوات الأمن؛ وقد كان يتلقى
مساعدات مالية وتدريبية من شخصيات إسلامية.
كثير من الذين عرفوا أبا سياف يصفونه بأنه كان صاحب عقيدة سليمة وفكر
سوي، وأنه عُرف بكثرة العبادة؛ إذ كان صوَّاماً قوَّاماً.
قُتل أبو سياف في عام 1998م في إحدى المواجهات مع قوات الحكومة،
وتقول إحدى الروايات إنه كان في زيارة دعوية لإحدى القرى معتكفاً يقوم الليل في
أحد المساجد، فحاصرته قوات الحكومة واشتبك معها فقُتل شهيداً نحسبه كذلك رحمه
الله.
تولى القيادة بعده أخوه الأصغر (قذَّافي الزنكلاني) ، إلا أنه ليس مثل أخيه
علماً ورجاحة عقل، إضافة إلى سنِّه الصغيرة، ولذا لم يُجمَع على قيادته، فبدأت
الجماعة تتشظى إلى مجموعات.
بدأت الجماعة سبيل اختطاف الأجانب والسيَّاح واتخاذهم رهائن، للحصول
على المال والمساعدة في الإنفاق على الجماعة، ومن جهة أخرى لتدويخ الحكومة
وأجهزتها الأمنية، وإحراجها أمام العالم الخارجي، وهناك من يغلِّب الظن أن بعضاً
من جماعاتها قد تم اختراقه من قبل أجهزة الأمن الحكومية للاستفادة من ذلك في
تشويه سمعة الإسلام وتلويث مقاصد الجهاد في الجنوب، وأن المجاهدين لا يسعون
لنيل حقوق مشروعة بقدر ما يسعون لإرضاء طموحات شخصية وجمع الأموال،
إضافة إلى أن الحكومة استفادت من ذلك في إيجاد المسوِّغ للقيام بهجوم وحشي على
المناطق المسلمة التي يتواجد فيها أعضاء الجماعة، فقتلوا المسلمين ودمروا
منازلهم، وأحرقوا مزارعهم ونكلوا بهم تحت دعوى ملاحقة أعضاء جماعة
أبي سياف.
حاولت الجماعات الإسلامية الموجودة في الساحة تقديم النصح لقيادات هذه
الجماعة بالتخلي عن أسلوب اختطاف الأبرياء واستخدامهم رهائن للحصول على
المال، كما وضَّحوا لهم عدم مشروعيته وأثره السيئ واستغلال الإعلام المحلي
والعالمي له، غير أن قيادة الجماعة تظن أنه أسلوب مناسب، ومن ضمن من قدم
لهم النصح قائد جبهة تحرير مورو الإسلامية الشيخ هاشم سلامات الذي ينقل قواده
ونوابه أنه يبارك وجود الجماعة؛ لأنها تشترك مع جبهته في الهدف، لكنه لا
يرضى عن أسلوبها. لا يزال عدد من الجماعة حياً مع قيادته رغم محاولات
الحكومة المستمرة استئصالهم، غير أنها لا تشكل جماعة كبيرة إذ يبلغ عدد مقاتليها
ما يزيد قليلاً على مائتي مقاتل، ومناصروها كذلك قليلون.
موقف الرئيسة الجديدة:
اسمها (جلوريا وكابا جل أرويو) ، وهي ابنة رئيس سابق للفلبين، عُرف
بتعاطفه مع الفقراء، وكذا موقفه المتعاطف مع المسلمين، والواضح من خلال
تصريحات ابنته أنها متأثرة به كثيراً؛ إذ إنها غالباً ما تستشهد بمقولاته ومواقفه،
ولذا فقد أعلنت بُعَيد تنصيبها رئيسة للفلبين وقف العمليات العسكرية ضد المناوئين
للحكومة، ومنهم جبهة تحرير مورو الإسلامية.
إلا أنها حين سئلت: هل يعني توقف العمليات العسكرية انسحاب الجيش من
المواقع التي أخذها من أيدي المجاهدين؟ ردت بالنفي، ودعت إلى الجلوس مرة
أخرى على مائدة المفاوضات لإحلال سلام عادل وكريم.
وهناك مساعٍ حثيثة ووساطات لبدء الحوار من دول مجاورة، إلا أن
المجاهدين يشترطون ما يلي لبدء المفاوضات مع الحكومة الجديدة:
1 - عقد المفاوضات خارج الفلبين (في دولة إسلامية أو عربية) .
2 - اشتراك منظمة المؤتمر الإسلامي أو دولة إسلامية عضوة فيه.
3 - إعلان الحكومة وقف إطلاق النار من جانب واحد.
4 - انسحاب قوات الحكومة من معسكرات وقواعد المجاهدين.
والمجاهدون يناشدون إخوانهم المسلمين دعمهم المادي والمعنوي، ويذكرونهم
أن ما يحدث لهم وما يفعله بهم النصارى سببه أنهم مسلمون! !
__________
(*) شيخ المجاهدين هاشم سلامات كانت الحكومة قد رصدت لقتله مع بعض القيادات ملايين البيسوات (العملة الفلبينية PISO) ، كما أشاعت أنه قد هرب إلى الخارج أثناء الأحداث، وطلب اللجوء السياسي في بلاد الجوار، إلا أنه بفضل الله لا يزال حياً يرابط مع مقاتليه.
(1) شملت هذه الأعمال العسكرية القتل والاختطاف، والهجموم على مؤسسات حكومية.(163/97)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
نداء «الإيجور» الحزين! !
إخوتنا في العقيدة! بوسعنا أن نبكي؛ وهل البكاء يكفي؟ هل هناك من مسلم
لا يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى» ، أو أننا جميعاً نعلم ذلك ولكننا للأسف الشديد لا نبالي بالمصيبة في ديننا؟
يا أولي العزم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم البدارَ البدارَ؛ فقد استنجد
إخوانكم المسلمون في التركستان الشرقية بكم لإنقاذهم من محنتهم، إنهم يضعون
ثقتهم فيكم، ويأملون في عونكم؛ فهلاَّ مددتم الأيدي إليهم ونصرتموهم بعد أن
استنصروكم؟ إن شعبنا اليوم في أصعب مراحل تاريخه وجهاده ضد الاحتلال
الصيني، ويمر بكل صنوف الضيق والحرمان من الموارد والإمكانيات؛ فدولة
الصين تقوم كل يوم بعمل معاهدات وصداقات مع كل الدول بما فيها الدول
الإسلامية والعربية، ثم تضغط على هذه الدول للاعتراف بما أسمته بوحدة الحدود
الصينية، وتعني بذلك عدم السماح لأية دولة أخرى بالنظر في أمر التركستانيين
الشرقيين أو مساعدتهم على الاستقلال، بل أبعد من ذلك فهي تطالب هذه الدول
بإعادة كل لاجئ تركستاني استطاع الهرب من جحيم الحكم الشيوعي الظالم فأصبح
لا حق لشعبنا في اللجوء! ! وهو حق معترف به لكل الأمم ما عدا شعبنا المظلوم.
إننا في هذه المرحلة غير قادرين على تنظيم حركة عسكرية مضادة للصينيين بسبب
تلك الأحوال، ولا نجد أي دعم من أية حكومة على وجه الأرض. ونتساءل في
حيرة وحرقة: لماذا شعبنا فقط يحرم من دعم الحكومات الحرة في العالم، وكل
الشعوب الأخرى قد وجدت من يسند حقوقها الشرعية في الحرية والاستقلال؟ هل
تيمور الشرقية مثلاً تتميز عن شعبنا بشيء حتى تهبَّ كل الحكومات لنجدة شعبها،
وتطالب باستقلالها وتدعم ناشطيها علانية؟ ما الذي يدعو إخواننا في العقيدة في
الحكومات العربية والإسلامية إلى تجاهل قضيتنا تماماً والانخراط مع الصين في
علاقات متميزة في كل المجالات؟ والتسليم لها بحقها في التهام أرضنا وخيراتنا
واغتصاب كل حقوقنا الإنسانية التي اعترف بها العالم كله لبقية الشعوب الأخرى؟
وكيف استطاعت الصين إقناعها بأننا صينيون ولسنا أتراكاً مسلمين؟ ! ، ونبكي
بحرقة ونتألم ونشكو إلى الله وحده حالنا؛ فهو الأرحم بنا منهم، ثم نشكو إليكم
ياإخواننا في العقيدة! ونحن نعلم أنكم بإمكانكم المساعدة المالية لدعم الأنشطة
الإعلامية والإنسانية للإيجور، وكذلك الدعم الروحي بالدعاء المتواصل لنا بالنصر
والعودة لبلادنا وتحريرها من ربقة الاستعمار الصيني البغيض، في الليالي المظلمة،
وفي أوقات التهجد، بالخير والنصر والسؤدد آمين ادع يا أخي المسلم لنا! وكلك
ثقة في الاستجابة؛ فدعاء المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب مقبول عند الله، كما
أخبر به الصادق المصدوق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
موقع إيجورستان الحزين
www.uyg urs.com
فلنقارن.. مجرد مقارنة
أعرب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن قلقه لأوضاع طاقم طائرة
التجسس التي كانت قد أصيبت فوق الصين، وكان أول تعليق له: لماذا ليس لديهم
نسخ من الكتاب المقدس؟ هل لنا أن نرسل لهم نسخاً منه؟ هل يحبون أن تكون
لديهم نسخ منه؟
[مجلة نيوزويك العربية، 24/4/2001م) ]
هكذا يكون الاستعداد
بدأت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية بتوسيع المقابر في المناطق
الفلسطينية بعد أن أصبحت المقابر غير قادرة على استيعاب العدد المتزايد من
الشهداء إضافة لحالات الوفيات الطبيعية، وطرحت الوزارة الفلسطينية عطاءات
رسمية لهذا الغرض. من جهة أخرى شرعت إسرائيل في البحث عن أماكن
لاستعمالها مقابر جماعية، وذلك ضمن استعداداتها لنشوب حرب شاملة مع
الفلسطينيين.
وكانت الحاخامية العسكرية الإسرائيلية قد شرعت في توسيع المقابر التابعة
لها بزيادة عدد الوحدات العسكرية التي تعمل على دفن الموتى.
وستخصص هذه المقابر لدفن الموتى بصورة مؤقتة في حال نشوب حرب
شاملة حين لا يتوفر الوقت الكافي للتعرف على الموتى من العسكريين والمدنيين.
كما تسعى الحاخامية الإسرائيلية إلى إيجاد أماكن لدفن الموتى من غير اليهود
الذين يحتمل أن يسقطوا في الحرب، بحيث تضاف هذه الأماكن إلى موقعين
جاهزين الآن يوجد أحدهما في غور الأردن، والثاني بالقرب من جسر بنات
يعقوب.
[مجلة المجلة، العدد: (1106) ]
الألماس.. والحاجة الماسة
ورد في جردة صدرت عن دائرة المحفوظات الأمريكية أن الرئيس الأمريكي
السابق بيل كلينتون لم يقدم بعد لائحة بهدايا خاصة كان قد تلقاها هو وزوجته من
شخصيات بالداخل والخارج، ومنها ما تلقياه من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات،
من هدايا خاصة حددت الجردة قيمتها بحوالي 12 ألف دولار، ومما ورد في الجردة
سوار من ذهب مطعم بالماس مع توابعه من حلق ودبوس زينة قدمته السيدة سهى
عرفات، عقيلة الرئيس الفلسطيني، لهيلاري كلينتون، وقيمته 7400 دولار،
بالإضافة إلى 8 هدايا أخرى من الرئيس الفلسطيني وزوجته إلى نظيريهما
الأمريكيين، وجميعها من ذهب مطعم أحياناً بالماس المبروش، لكن قيمتها لا تزيد
على 5 آلاف دولار. وفي الجردة حاشية تشير إلى أن الرئيس الفلسطيني قدم
دبوس زينة ذهبياً مطعماً بالماس لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين
أولبرايت، قيمته 17 ألفاً و 400 دولار أيضاً.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (816) ]
بوابة جديدة
أعلنت جامعة «كورنيل» الأمريكية أنها ستنشئ فرعاً لكلية الطب بدولة قطر
التي وافقت على إنفاق مبلغ 750 مليون دولار أمريكي على هذا المشروع خلال
فترة 11 عاماً، بما في ذلك رسوم تدفع للجامعة الأم.
وصرح هنتر رولينجز، مدير جامعة كورنيل، أن فرع كلية الطب بقطر
سينتهج سياسة تقوم على أساس عدم التمييز المتبعة في الجامعة الأم، كما تستقبل
الكلية اليهود وحتى الإسرائيليين طلاباً وأعضاء في الكلية. من جهة أخرى، صرح
المدير الإداري لمؤسسة قطر التي تمول المشروع أنهم سينتهجون من جانبهم سياسة
عدم التمييز ويحترمونها تماماً، وأضاف أن القبول بالكلية سيخضع لجامعة كورنيل،
وأن لا صلة له بالجنسيات، مؤكداً على ترحيب الكلية بكل من هو مؤهل لدخولها.
وقال رولينجز إن بعض الأمناء اليهود للجامعة والخريجين أبدوا مخاوف،
لكن عندما علموا أكثر عن قطر وطموحاتها أيدوا المشروع.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8169) ]
هموم جزائرية.. نهاية الوئام
1 - قال المستشار الألماني جيرهارد شرودر إن ألمانيا والجزائر اتفقتا على
ضرورة التعاون بينهما لمحاربة «الإرهاب» الذي يعصف بالجزائر منذ عام
1992م، وقال شرودر في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الجزائري
عبد العزيز بوتفليقة في برلين: «فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب هناك اتفاق على
أن البلدين يجب أن يتعاونا في هذا المجال» .
وأضاف شرودر: «أما إن ذلك يجب أن يتم في إطار نظامنا القانوني
والمعاهدات الدولية فهو أمر بالنسبة لنا شديد الوضوح» ، وعادة ما يستخدم مسؤولو
الجزائر كلمة «الإرهاب» لوصف عقد من العنف السياسي الذي عصف بالبلاد منذ
أن ألغت الحكومة التي يدعمها الجيش انتخابات كان الأصوليون متقدمين فيها،
وعند سؤال شرودر عن سجل حكومة الجزائر في حقوق الإنسان فيما يتعلق
بمحاربة الأصوليين قال شرودر إن حكومته تؤيد التعليقات التي أصدرها الرئيس
الألماني (يوهانز راو) خلال اجتماع مع بوتفليقة. وقال (راو) إن الأصوليين
الدينيين لا تجب محاربتهم بالأساليب العسكرية فقط بل أيضاً من خلال استعادة ثقة
الشعب، وبناء دولة يحكمها القانون والنظام، وتُحترم فيها حقوق الإنسان، ويشجع
التقدم الاقتصادي.
[جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8163) ]
2 - اتهم وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري غلام الله أبو عبد الله
رجال الكنيسة في الجزائر بمحاولة «تهديد الوحدة الوطنية والاستقرار العام» ،
وذكر في تصريحات صحافية أن «الكثير منهم (رجال الدين) إن لم نقل أغلبيتهم
كانوا يشتغلون داخل أجهزة أمن بلادهم، وهناك من كانت لهم رتبة عسكرية سامية
في الجيش» .
وحذر الوزير الجزائري مما أسماه بـ «خطر» رجال الكنيسة البروتستانتية
الذين قال: «إن لهم نية مبيتة على خلفيات استعمارية بهدف خلق بلبلة دينية وفتنة
سياسية؛ ليتسنى لهم بعد سنوات الهيمنة على المنطقة» وتابع: «إن التبشير
المسيحي البروتستانتي يشكل خطراً دينياً محدقاً؛ لأنه مرتبط بأطروحات استعمارية
تستدعي منا الوقوف أمامها من خلال التوعية الدينية» .
ويلاحظ أن تصريحات الوزير جاءت بعد رعاية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة
لملتقى دولي عن شخصية القديس الجزائري أوغسطين هو الأول من نوعه منذ
الاستقلال، وأفاد أبو عبد الله أن «القائمين على عملية التبشير المسيحي كلهم
أجانب من دول أوروبية مختلفة ولا يملكون الجنسية الجزائرية» ، وعبر عن
رفضه «أن تستغل الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها بعض الجزائريين من
قبل المشرفين على التبشير المسيحي لنشر مبادئ المسيحية» .
[جريدة الحياة، العدد: (13897) ]
3 - حال العاصمة الجزائرية وولايتها القريبة، حمامات دم تطال الأبرياء
وبارات آمنة تسهر حتى الصباح، يلتقي فيها الجزائريون من كل الطوائف
والطبقات، ويتوقف الحديث عن الإرهاب، وتنطلق موسيقى الراي في بارات
الأحياء الشعبية، بينما بارات الفنادق حافلة بالفرق الغربية التي تعزف موسيقى
الروك.
«من أراد الأمن في الجزائر فعليه بالبارات» كلمة قالها أحد السكارى قبل
لحظات قليلة من شروق شمس الجمعة، لكنها كانت الحكمة، وربما أحياناً يمكن أن
تخرج الحكمة من أفواه السكارى وليس المجانين، لكن هل توقف الناس للبحث عن
إجابة السؤال: لماذا يذبح الأبرياء وتتعرض المساجد لأعمال عنف بينما الحانات
آمنة، وصناعة النبيذ في الجزائر مزدهرة؟
[مجلة الأهرام العربي، العدد: (212) ]
التغريب المستمر
بدأ الغرب الهجوم على بنجلاديش هذا البلد الإسلامي عن طريق المنظمات
غير الحكومية، ودفعت ملايين من الدولارات لتغيير المسلمين ولتغيير هويتهم
الإسلامية؛ ونتيجة هذه المحاولات فقد تنصر أكثر من مليوني مسلم خلال السنوات
الماضية، وكذلك فقد انتشرت الفواحش والمنكرات في المجتمع ويعتبر الحكم الذي
صدر بمنع إقامة حد الزنا في العاصمة «دكا» من المحكمة العليا تأييداً لنشر
الفواحش والزنا والإباحية في أرجاء بنجلاديش المسلمة، وبهذا السبب ترى
المنظمات غير الحكومية أن وراء تشجيع الحكم من المحكمة والمناورات الحكومية
ضد الإسلام والمسلمين من قبل حكومة رئيسة الوزراء (حسينة واجد) وهي تمنع
دعم المسلمين للمدارس الإسلامية، وكذلك لا تؤيد المهاجرين من بورما وقد اعتقلت
القادة من مسلمي البورما، وهناك ضغط شديد على المهاجرين من قبل السلطات
البنجلاديشية! ! المطلوب من كل هذه المحاولات أن ترضي (حسينة واجد)
الغرب وخصوصاً الحكومة الأمريكية. الاشتباكات الحديثة كانت من قبل المسلمين
للرد على المحاولات الحكومية والمنظمات غير الحكومية التي تعمل حسب البرنامج
الغربي؛ لتدمير البنية الأخلاقية والدينية في هذا البلد الإسلامي.
[مجلة سياحة الأمة الكشميرية، العدد: (38) ]
ولا عزاء «للمرابطين»
تظاهر مئات الألوف من الموريتانيين احتجاجاً على قرار الرئيس الموريتاني
(معاوية ولد سيدي طايع) اعتبار يوم السبت يوم عطلة أسبوعية بجانب الجمعة
معتبرين هذا القرار يصب في اتجاه التقارب مع الكيان الصهيوني.
وقام طلاب جامعة نواكشوط بترديد شعارات معادية لحكم الرئيس (معاوية
ولد طايع) ولـ «إسرائيل» من بينها «لا للتقرب من قتلة أبنائنا في فلسطين»
و «السبت لليهود والأنجاس وليس لنا» ، وقد أدى تدفق المظاهرات أمام مبنى
جامعة نواكشوط إلى اصطدام مع قوات الأمن التي ألقت قنابل مسيلة للدموع على
المظاهرين، وقد رد الطلاب برمي قوات الأمن بالحجارة. وقد عبرت مظاهرات
طلاب موريتانيا عن موقف شعبي رافض للقرار الذي أصدرته الحكومة باعتبار
يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع يومي إجازة رسمية. وعلى ذات الصعيد
نددت القوى السياسية الموريتانية من خلال عدة بيانات بقرارالحكومة المتعلق
بالعطلة الذي يشكل استمراراً لعملية التهويد مطالبة الأحزاب والتنظيمات الموقعة
على هذه البيانات الشعب بالاعتراض عليه لكونه يحمل أبعاداً دينية وسياسية خطيرة.
وكان عدد من أئمة المساجد قد أدانوا خلال خطب الجمعة قرار عطلة السبت،
ووصفوه بأنه اتباع لليهود وتودد لهم، وذهب بعضهم إلى حد القول إن موريتانيا
أصبحت محمية إسرائيلية، وإن عطلة السبت تأتي بأوامر من السفارة الصهيونية
في نواكشوط.
وكانت الحكومة الموريتانية قد حظرت في العام الماضي نشاط حزب
المعارضة الرئيس (اتحاد القوى الديمقراطية) بسبب دعوته للتظاهرات ضد الكيان
الصهيوني.
ويذكر أن موريتانيا تعد الدولة العربية الثالثة التي أقامت علاقات رسمية مع
الكيان الصهيوني على مستوى السفارة بعد الأردن ومصر، وذلك منذ يوليو 1999م،
وقد لاقى ذلك معارضة شديدة من العالم العربي وخاصة المغاربي على وجه
الدقة.
[جريدة السبيل، العدد: (377) ]
اقترب الفجر
ذكرت مصادر عسكرية روسية بشمال القوقاز أن حجم الخسائر البشرية
للشيشان منذ الغزو العسكري الروسي لها في أكتوبر 1999م بلغ أكثر من 10 آلاف
مقاتل شيشاني، وقال رئيس أركان الجيش الروسي لشمال القوقاز: إن العمليات
التي نفذتها ما أسماه بـ «قوات مكافحة الإرهاب» ضد الشيشانيين قد أسفرت عن
استشهاد نحو 10720 مقاتلاً شيشانياً في الـ 17 شهراً الأخيرة، مشيراً إلى أن
الشيشانيين خسروا أيضاً نحو 9 دبابات، و32 عربة مسلحة، و6 نظم مدفعية،
بالإضافة إلى 555 قاعدة عسكرية، و 4435 منشأة من منشآت تكرير البترول في
الشيشان، ويلاحظ أن التصريحات الروسية تتحدث عن مقاتلين شيشانيين وليس
قتلى مدنيين، على الرغم من أن المنظمات الحقوقية الأوروبية أصدرت عشرات
التقارير تشير فيها لقتل المدنيين، بَيْدَ أن الروس يتحدثون عن المقاتلين باعتبارهم
إرهابيين يجوز قتلهم وليسوا مدنيين! !
[مجلة الإصلاح، العدد: (439) ]
من مآسي الأكراد
قد وجدت المنظمات النصرانية الفرصة سانحة في كردستان فانتشرت منها
148 منظمة في مختلف المناطق تحت أسماء ونشاطات تنصيرية، مستغلة في ذلك
الجوع والمرض والجهل بين السكان لنشر العقائد النصرانية، خاصة بين قطاع
الشباب، مسخِّرة في ذلك إمكاناتها الكبيرة المادية والإعلامية.
وفي مقابل ذلك لا يوجد من المنظمات والهيئات الإسلامية إلا ثلاث، وهي:
الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، والرابطة
الإسلامية الكردية، وتعمل جميعها لمساعدة فقراء المسلمين الأكراد والدفاع عن
الإسلام من خلال جهودها، وحسب إمكاناتها المتواضعة التي لا تقارن بإمكانات
المنصِّرين الكبيرة. وتصب جهود المنظمات والهيئات الإسلامية الثلاث في
المجالات الدينية والثقافية والتعليمية والاجتماعية.
[مجلة الكوثر، العدد: (18) ]
كرامات التنصير الفاتيكاني! !
يشكو سكان روما الذين يعيشون في المنطقة القريبة من حاضرة الفاتيكان،
من إذاعة الفاتيكان التي يقولون إنها تسبب لهم إصابات بسرطان الدم (اللوكيميا) .
الشكوى سببها هوائيات الإرسال الضخمة التي تستخدمها الإذاعة التي تعتبر
صوت البابا إلى مختلف أنحاء العالم. وقد وافقت الحكومة الإيطالية سكان المنطقة
على أن هذه الهوائيات تصدر إشعاعات مغناطيسية عالية تسبب خطراً على الصحة
العامة. وهدد وزير البيئة في إيطاليا باتخاذ إجراءات ضد المحطة منها قطع
الكهرباء عنها إذا لم تخفض ساعات البث. ومع أن الفاتيكان دولة تتمتع بصفة
السيادة ولا تخضع لقوانين الحكومة الإيطالية فإن وجودها في قلب العاصمة روما
يلزمها بالخضوع للقوانين التي تمس حياة المقيمين حولها. وقد وافقت الإذاعة
بالفعل على تخفيض ساعات البث إلى النصف بعد الحملة الأخيرة ضدها.
[مجلة المجلة، العدد: (1106) ]
ولا بعد خمسين سنة! !
س: كيف يمكن التوصل إلى حل للخلاف الناشئ، وحل للصراع عموماً؟
ج: سأقول لك أمراً غير مألوف، برأيي أنه خلال فترة جيلنا نحن، وعلى
مدى الخمسين عاماً المقبلة، لا يبدو لي أنه سيكون هناك سلام، هذا يعني أن
الطرفين يتساومان، ولا يبدو لي أن هناك استعداداً لدى الجانب الفلسطيني ولا في
الجانب الإسرائيلي، لإجراء تسوية. اليوم لا توجد أي إمكانية من جانب أحد في
إسرائيل للموافقة على إقامة دولة فلسطينية.
[أهارون دومب، رئيس الجهاز الإعلامي للمستوطنين اليهود، مجلة المجلة،
العدد: (1105) ]
اعتذر.. ولن يعتذر! !
1- عندما قام بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني بزيارة أثينا في أول زيارة له
إلى اليونان، قام لدى وصوله بطلب الصفح للكاثوليك الذين يمثلهم بسبب ما سماه
بالخطايا التي ارتكبت بحق الأرثوذكسية في الماضي والحاضر.
وقوبلت زيارته لليونان برغم اعتذاره باحتجاجات من قِبَل أتباع الكنيسة
الأرثوذكسية، وقد أعرب بعض القساوسة عن الاحتجاج، وهددوا برفع أعلام
سوداء وقرع أجراس الكنائس حداداً. وقد وُصِفَ البابا بعدوِّ المسيحية، ووزعت
ملصقات معادية له في أنحاء العاصمة اليونانية، لكن زعماء الأرثوذكس قبلوا
الزيارة على مضض، وذلك باعتبارها حج.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
http://bccarabic.com
2- عندما قام بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني بزيارة سوريا في زيارة
تعد تاريخية استقبله الرئيس بشار الأسد، وقام بزيارات للأماكن المسيحية في
سوريا، وأقام قداساً في «ملعب العباسيين» ، وعقد اجتماعاً كبيراً يضم
الإكليروس المسيحي في عموم سوريا، وزار المسجد الأموي وقابل المفتي
كفتارو، وسئل المطران اليسيدور بطيخة النائب البطريركي لكنيسة الروم
الكاثوليك في دمشق: هل سيقدم البابا عندما يزور قبر صلاح الدين، اعتذاراً عن
الحروب الصليبية في دمشق؟ فأجاب: لا! ! هذا غير صحيح، ثم لمن يقدم
الاعتذار عن حروب الفرنجة؟ أنا أعتقد أن الاعتذار يجب أن يقدم أولاً من
مسيحيي الغرب لمسيحيي الشرق! ! ومن كان معهم، وثانياً إن الحروب كانت
حروب عقليات ولم تكن حروب ديانات! !
[مجلة المجلة، العدد: (1108) ]
شاهد من.. بطونها! !
س: هل تعتقد أن النخبة الثقافية الخليجية غير مؤثرة في مجتمعاتها بالدرجة
التي تدفع في اتجاه تغيير أنماط السلوك التي رسخت الصورة السلبية عنهم؟
ج: للأسف معظم هذه النخب غير مؤثرة في مجتمعاتها، وتعيش في تجمعات
منعزلة أقرب إلى «الغيتوهات» أي إن المثقفين يخاطب بعضهم بعضاً من دون
قدرة على إيصال أفكارهم إلى الناس. ربما لأنهم لم يعرفوا بعد المتلقي الذي
يتوجهون إليه، وبالتالي فهم يتحدثون عن مشكلات ليست ملحَّة بالنسبة إلى الناس،
والوعي بها لا يتجاوز حدود أفكار هذه النخبة. هذه أزمة النخبة العربية بشكل عام،
ولكن درجتها تختلف من بلد إلى آخر.
[د. تركي الحمد، مجلة الوسط، العدد: (479) ]
نمور على المسلمين
يعاني المهاجرون المسلمون في سريلانكا معاناة شديدة حيث يفتقدون أبسط
متطلبات الحياة، فمساكنهم من القش ومخيماتهم مكتظة، بعد أن فقدوا ما يملكون،
ولا يجدون فرص عمل تعينهم على حل مشكلاتهم الاقتصادية.
أما مؤسساتهم التعليمية فقد دمرت تماماً، ولا يجدون فرصة لتعليم أبنائهم في
شتى المراحل، وانتشر بينهم الفقر والجوع والجهل، وكل ذلك على مرأى ومسمع
من الحكومة التي تتجاهل أبسط حقوق مواطنيها. أما المساعدات الإنسانية الخارجية
فهي شبه معدومة ولا تسد العجز والعوز رغم قيام بعض الدول الإسلامية بتقديم
مساعدات عينية مقطوعة لكنها لا تسد الرمق.
وقد سعى المسلمون للعودة لديارهم ولكن قوات «نمور التاميل» ترفض
عودتهم بل تسعى للقضاء على البقية الباقية منهم.
[مجلة المجتمع، العدد: (1442) ](163/101)
الباب المفتوح
دمار الحياة.. أم حياة الدمار؟ !
أحمد عبد الله السعد
من كان يظن في يوم من الأيام أن تصبح اليابان رائدة التقدم وراعية النهضة
الصناعية بعدما تعرضت للدمار الشامل بسبب قنبلة (هيروشيما) التي حولتها في
لحظة إلى مقبرة جماعية في مدينة أشباح، وغابة من الأنقاض موحشة ظلت تعيش
فيها اليابان دمار الحياة ردحاً من الزمن؟
ومنذ تلك اللحظة وحتى الآن يعيش أبناء اليابان روح التحدي والعزيمة؛
ليصنعوا من دمار الحياة حياة جديدة، ومن المقبرة الجماعية جنة مشيدة!
ولا غرو أن تستمد أمة من دمار حياتها الحياة، ومن ذلها وهوانها ذخيرة
المجد والسؤدد؛ فرُبَّ ضارة نافعة! !
ولكن الأغرب من ذلك وأعجب أن تصنع أمة من مدخرات خيرها ونعيمها
حياة الدمار لا دمار الحياة..!
فحين تسترخص الأمة أعز مقوماتها في القيم والمبادئ، وتنتقض فيها
الأخلاق والمثل انتقاض اللآلئ من العقد البالي؛ فقد عاشت - واللهِ - حياة الدمار!
وحين تتحول نواة الخير في قلوب شباب الأمة وفتياتها إلى مجمع للشر الهادر
والشهوانية المقيتة، فيغدو الرجل بلا رجولة، وتصبح ربات الخدور والطهر
يمشين في الأسواق وأماكن اللهو، كأنهن في أرض مسبعة بلا أب ينهر أو راع
يبصر، فحينها وحينها تعيش الأمة حياة الدمار!
وحين تهمّش عقول المجتمع - بكل طبقاته - فينظر إلى ماجن الأفلام،
ويسمع لساقط الكلمات في الفضائيات والإذاعات، وتنفق لذلك الأموال وتهدر له
الأوقات، فتُسلَب كرائم المروءة، ويُستكثر حياء مَنْ في قلبه ذرة حياء، فعندئذ
تعيش الأمة حياة الدمار!
وحين تُضيَّع كوادر المستقبل، فلا يرعى الآباء أبناءهم بالتربية والإصلاح،
والنصح والإرشاد، ويُتركون هكذا يتأثرون بمعطيات البيئة، ويختلط فيهم ذكاء
الفطرة بخبث المراهقة، فقد زرعوا في أرض الأمة نباتاً شيطانياً، وقدموا لها
معولاً هدَّاماً يقوِّض بناءها.
إنه نداء صادق من عمق أعماق الفؤاد، أنقله باللسان وإن ملّ، وأكتبه بالبنان
وإن كَلّ، وأردد صداه في نفسي ثم فيك أيها اللبيب! كما يتردد خفق الجنان في
صدري فأقول:
أيها العقلاء! أناشدكم باسم سلائق العروبة وخلائق الإسلام! أوقفوا حياة
الدمار؛ فإنني أخشى أن تنقلب موازين الخير فينا كما انقلبت في الأولين؛ فتصبح
معالم الخير شراً! ويغدو الطهر عهراً، وحماية الذمار وصمة عار، فيقال فينا كما
قيل فيهم: [أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] (النمل: 56) .(163/107)
الباب المفتوح
صورتان
عبد الخالق القحطاني
في زمن الغربة تمر على الإنسان لحظات يود فيها أنه لم يكن شيئاً مذكوراً،
أو أنه مات قبل أن تمر عليه تلك اللحظات فكان نسياً منسياً.
والإنسان الذي يملك شيئاً من قلب - ولا أقول يملك قلباً - لَيذوب كمداً
وحسرة عندما تمر عليه مناظر البؤساء في هذا العالم الظالم. هذا إذا كان إنساناً؛
فكيف بالمسلم صاحب الرسالة والهمِّ لهذا الدين؟ !
صورة وقع عليها بصري عندما كنت أتصفح عدداً ماضياً من أعداد مجلة
التايم الأمريكية. التقطت تلك الصورة لطفلة في الشهر الثامن من عمرها، ترقد في
وسط أحد الأحراش في غابة من غابات أوروبا الخضراء، كانت الطفلة ترتدي
معطفاً بنفسجي اللون، ويستطيع الناظر أن يرى بوضوح قلادة مميزة تتدلى من
رقبة الطفلة، أو بالأصح: تتدلى من بقايا رقبة الطفلة! عيناها مغمضتان بإطباق
تام. كانت أشبه بالدمية منها بطفلة، وكأنما جمعت براءة الأطفال كلها لتكون ذلك
الوجه الجميل. لقد احْتُزَّتْ تلك الرقبة النحيلة الهزيلة بيد سفاك محترف.. وحول
جسد الطفلة ترى أجساداً مبعثرة هنا وهناك، وهي ليست إلا أجساد عائلة الطفلة!
لقد كانت العائلة المسلمة تحاول الفرار من جحيم كوسوفا نحو الحدود إلى
مأمن، ولكن بضعة كلاب صربية تنبهت للعائلة واستطاعت اللحاق بها، وبكل
همجية.. أراح كل وغد منهم ذبيحته! وكذا كان مع تلك الطفلة.
عجبت لتلك الصورة.. تُرى ماذا كان شعور تلك الطفلة عندما مرر المجرم
سكينه على رقبتها؟ ! هل كانت تتألم؟ ! ربما لم تتألم؛ لأن الجرح الذي أصابها
وذويها من خذلان مسلمي العالم لهم كان كافياً لأن يفقدها وأهلها كل حس بالألم
والوجع.
وها هنا صورة أخرى لطفل فلسطيني اسمه محمد نشرتها دورية واشنطن
ريبورت.. ومحمد عمره سنتان.. كان محمد يرتدي سروالاً أصفر عليه رقعة
بارزة - دلالة على النعمة! قدماه مغبرتان حافيتان قد غاصتا في أكوام من الحجارة
والأخشاب المحطمة، وقد بدت وراءه كذلك أرتال أخرى من الحجارة والأخشاب قد
ارتفعت برؤوسها المدببة فوق قامتها التي لا تجاوز الذراعين. كان محمد جامعاً
يديه إلى بعضهما ويبكي بحرقة.. حُرقة الطفل الذي كان نائماً مع أمه وأبيه وإخوته
وإذا به يستيقظ على أصوات أناس معهم بنادق يطرقون عليهم الباب بشدة.. ينفتح
الباب.. تبدأ أمه بالصراخ والعويل بجانبه، ويرتفع صوت أبيه هناك محاولاً
التفاهم مع الجنود ولكنهم يدفعون الجميع ويقذفونهم إلى خارج المنزل.. تحين من
الصغير التفاتة إلى منزل عائلته.. ويستطيع أن يرى جرَّافة كبيرة تتقدم بسرعة
نحو جدار منزلهم. ما هذا؟ ! ! سوف تصطدم بالجدار! ! إنها تصطدم به فعلاً..
ثم تعود إلى الوراء وتصطدم به أخرى وثانية وثالثة ورابعة، ومحمد لا يفهم ما
الذي يجري! ! غير أنه لا يزال يُميز صوت بكاء أمه وإخوته وسط هدير محرك
الجرافة.. وفجأة، لا يرى محمد بيتهم، كل الذي تستطيع عيناه أن تراه.. حطام
المنزل المتراكم. الآن فهمت! ! يقولها الصغير في نفسه، لقد نسي لعبته داخل
المنزل، وهكذا فقد ذهبت اللعبة! وانطلق الصبي في بكاء مرير، هو يبكي لعبته
المحطمة، وعائلته التي تبكي منزلهم المدمر.. إن عقل الصغير لم يكن يعي أنهم قد
تحولوا إلى مشردين بلا مأوى، وبذلك انضموا إلى قافلة المنسيين.
عذراً يا قمر كوسوفا الحزين! كم تُذبَحُ كل ليلة ونحن عنك مشغولون!
بـ.... وعذراً يا محمد! فأنت كذلك يجب أن تفهم على الأقل لمرة واحدة أن
أشغالنا هامة ولا تقبل التأجيل. إننا مشغولون بتقليب صفحات «الإنترنت» ،
و «القنوات اللبنانية» ، والبطولات (....) ! !
فاللهم اربط على قلوب إخواننا، وارزقهم نصراً مؤزراً من عندك، ولا
تؤاخذهم بما يفعل كثير منا، والله المستعان.(163/108)
مصطلحات ومفاهيم
الشريعة
د. عثمان جمعة ضميرية
- 1 -
الشريعة - في اللغة العربية - مأخوذة من الشين والراء والعين، وهي أصل
واحد، يدل على شيء يُفْتح في امتدادٍ يكون فيه؛ وإلى هذا الأصل ترجع
استعمالات ما يُشتقُّ من هذه المادة اللغوية، فيقال:
(شَرَعَ) الواردُ شَرْعاً: تناول الماء بفيه. وشرع المنزلُ: دنا من الطريق
وشرع فلان يفعل كذا: أخذ يفعل. وشرع الدِّينَ: سَنَّه وبيّنه ... ويستعمل هذا
الفعل مضعّفاً فيقال: شرَّع، وهو مبالغة في «شَرَع» .
و (الشَّارع) في الشيء: البادئ فيه. والشارع: سانُّ الشريعة. والشارع:
الطريق الأعظم في المدينة.
و (الشَّرْع) أصله: نهج الطريق الواضح. والشَّرع أيضاً: ما شرعه الله
تعالى. ويقال: الناس في هذا شَرْع وشَرَعٌ: سواء. والشرع مصدرٌ ثم استعير
للطريق النهج كما سبق فقيل: شَرْع وشريعة وشِرْعة.
و (المَشْرعة) : شريعة الماء، وتُجمع على مَشَارع.
و (الشِّرْعة) : الطريق، والمذهب المستقيم. وهي أيضاً: مَوْرد الشَّاربة
الماء.
و (الشريعة) هي أيضاً: مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها
ويسقون. ولا تسمى شريعة حتى يكون الماء عِدّاً لا انقطاع فيه، ويكون ظاهراً
مَعِيناً لا يسقى بالرشاء (الحبْل) . واشتق من ذلك: الشرعة في الدين.
و (المشروع) : ما سوّغه الشَّرْع [1] .
- 2 -
وقد عُني علماء التفسير وعلماء الاصطلاح ببيان معنى الشريعة، كما عني
بذلك علماء اللغة العربية؛ ولذلك يحسن أن نقتطف بعض ما جاء عنهم في ذلك.
قال ابن مَنْظُورٍ في «لسان العرب» : «الشريعة والشِّرعة: ما سنَّ الله من
الدين وأمر به، كالصوم والصلاة والحج والزكاة وسائر أعمال البِرّ. مشتقٌ من
شاطئ البحر. ومنه قوله - تعالى -: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا] (الجاثية: 18) ، وقوله: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً]
(المائدة: 48) . وقيل في تفسيره: الشِّرعة: الدين. والمنهاج: الطريق.
وقيل: الشرعة والمنهاج جميعاً: الطريق. والطريقُ - هنا -: الدِّين،
ولكن اللفظ إذا اختلف أتى به بألفاظ يؤكِّد بها القصة والأمر ... وقال ابن عباسٍ:
[شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) : سبيلاً وسنَّةً. وقال قتادة: الدين واحدٌ
والشريعة مختلفة» .
وقال الرَّاغبُ الأصفهانيُّ في «المفردات في ألفاظ القرآن» : «الشرع:
نهج الطريق الواضح. يقال: شرعتُ له طريقاً. والشرع مصدرٌ، ثم جُعِلَ اسماً
للطريق النهج فقيل: شِرْع وشَرْع وشرعة. واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ,
قال تعالى: [شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) ، وذلك إشارة إلى أمرين:
(أحدهما) : ما سخَّر الله - تعالى - عليه كلَّ إنسان من طريق يتحرّاه، مما
يعود إلى مصالح العباد وعمارة البلاد، وذلك المشار إليه بقوله - تعالى -: [أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ]
(الزخرف: 32) .
(الثاني) : ما قيَّض له من الدين وأمره به ليتحرّاه اختياراً، مما تختلف فيه
الشرائع ويعترضه النسخ، ودلَّ عليه قوله - تعالى -: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ
مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا] (الجاثية: 18) .
وقوله - تعالى -: [شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ] (الشورى: 13) : إشارة إلى
الأصول التي تتساوى فيها المِلَلُ، فلا يصحّ عليها النَّسخ، كمعرفة الله - تعالى -
ونحو ذلك ... » .
وقال أبو البقاء الكَفَويُّ في «الكليَّات» : «الشريعة: اسم للأحكام الجزئية
التي يتهذَّب بها المكلَّف معاشاً ومعاداً، سواء كانت منصوصة من الشارع أو راجعةً
إليه.
والشرع كالشريعة: كلُّ فعلٍ أو ترك مخصوص من نبيٍّ من الأنبياء،
صريحاً أو دلالة؛ فإطلاقه على الأصول الكليَّة مجازٌ وإن كان شائعاً بخلاف الملَّة؛
فإن إطلاقها على الفروع مجاز. وتطلق على الأصول حقيقةً؛ كالإيمان بالله
وملائكته وكتبه وغير ذلك؛ ولهذا لا تتبدل بالنسخ ولا يختلف فيها الأنبياء، ولا
تطلق على آحاد الأصول» .
وقال التَّهانَويُّ في «كشاف اصطلاحات الفنون» : «الشريعة: ما شرع
الله - تعالى - لعباده من الأحكام التي جاء بها نبيٌّ من الأنبياء صلى الله عليهم
وعلى نبينا وسلم سواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية وعملية،
ودوِّن لها علم الفقه؛ أو بكيفية الاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية، ودوِّن لها
علم الكلام.
ويسمى الشرع أيضاً: الدِّين والملَّة؛ فإن تلك الأحكام من حيث إنها تُطاع:
دِينٌ، ومن حيث إنها تُملى وتكتب: ملَّة، ومن حيث إنها مشروعة: شَرْع.
فالتفاوت بينها بحسب الاعتبار، لا بالذات، إلا أن الشريعة والملة تضافان إلى
النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وإلى الأمة - فقط - استعمالاً، والدين يضاف إلى الله
تعالى أيضاً. وقد يخصّ الشرع بالأحكام العملية الفرعية» .
- 3 -
ومن هذه النصوص والتعريفات التي نقلناها عن أهل اللغة، وعمَّن كتبوا في
المصطلحات العلمية، ومن استقراء النصوص القرآنية الكريمة قبل ذلك: نتبيَّن أن
الشَّرْعَ والشِّرعة والشريعة كلماتٌ مترادفة تعود إلى أصل واحد؛ وأن الشريعة
مشترك لفظيّ يطلق على معان متعددة [2] ، ويفهم معنى الكلمة ومدلولها من سياق
الكلام أو النص. وفيما يلي إشارة إلى أشهر هذه المعاني والإطلاقات للشريعة:
1 - الشريعة هي كلُّ ما أنزله الله تعالى على نبيٍّ من أنبيائه، وهي تشمل
الاعتقاد والأحكام العملية الفرعية والأخلاق؛ فهي ما شرعه الله - تعالى - من
الاعتقاد والعمل، كما في قوله تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (الجاثية: 18) . وهي بذلك ترادف كلمة
الإسلام بمعناه العام؛ فإن الإسلام هو دين جميع الأنبياء - عليهم السلام - الذي
يعني استسلام العبد لله - تعالى - والإخلاص له والخلوص من كل مظاهر الشرك،
وهي أيضاً ترادف كلمة الدِّين.
والدين أو الإسلام يتضمن جانب العقيدة وجانب الشريعة أو الفروع العملية؛
وهنا يقال: الإسلام عقيدة وشريعة. وقد يقال في تفصيل أكثر: عقيدة وشريعة
وأخلاق، وهي كلها كلمات متلاقية المعنى متقاربة.
فالشريعة هي ما شرع الله - تعالى - لعباده من الدِّين. وهي أيضاً: كتاب
الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالدين كله راجع إليهما، ويلحق
بهما مصدران آخران هما الإجماع والقياس. ومرة أخرى نؤكد أن هذا ليس اختلافاً
في المعنى بين الدِّين والشريعة والإسلام، ولكنه اختلاف في التعبير.
2 - وتطلق الشريعة كذلك على كل ما خصَّ الله تعالى به كلَّ نبيٍّ من الأحكام
العملية الفرعية، وما سنَّه لأمته، مما يختلف من دعوة نبيٍّ لآخر؛ من المناهج
العملية وتفصيل العبادات والمعاملات ... إلخ؛ فإن الشرائع مختلفة في الأوامر
والنواهي؛ فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً، ثم يحلّ في الشريعة الأخرى،
وبالعكس، وقد يكون خفيفاً في شريعة فيزداد بالشدة في الشريعة المتأخرة عنها،
وقد تختلف طرق العبادة نظراً لاختلاف الناس وطرق تعليمهم باختلاف استعداداتهم
وظروف بيئتهم في مختلف العصور والأزمان، كما تختلف الشريعة أيضاً في
شمولها لبعض الأحكام مما لم يكن منصوصاً عليه في شريعة سابقة؛ لأن كلَّ شريعة
لاحقة إنما جاءت مكمِّلة أو موضِّحة لشريعة سابقة أو مصححة لما وقع فيها من
انحراف.
وإلى هذه المعاني جاءت الإشارة في قول الله - تعالى -: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أوْلى
الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لِعَلاَّت، أمهاتهم شتى
ودينهم واحد» [3] .
وهنا نقول: إن الدين في أصله واحد، والشرائع متعددة. ويقال: وحدة
الرسالات وتعدد الشرائع [4] .
3 - وتطلق الشريعة أحياناً على ما شرعه الله - تعالى - لجميع الرسل من
أصول الاعتقاد والبِرّ والطاعة، مما لا يختلف من دعوة نبيٍّ لدعوة نبيٍّ آخر. كما
في قوله - تعالى -: [شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ]
(الشورى: 13) .
وكأن هذا الإطلاق أو المعنى يقابل المعنى الثاني السابق، إذ إنَّ معنى الآية
الكريمة: أن الله تعالى شرع لكم ولمن كان قبلكم إقامة الدين، وتَرْكَ الفُرْقة،
والاجتماعَ على اتباع الرسل، وهو - سبحانه - الذي شرع لكم ما أمر به إبراهيم
وموسى: أنْ أقيموا الطاعة على ما شرع، ولا تتفرقوا فتُشرِّعوا خلاف ما شرع.
4 - وتطلق الشريعة عند بعض العلماء بمعنى رابع؛ حيث يطلقونها بخاصة
على العقائد التي يعتقدها أهل السنة والجماعة من الإيمان مثل: اعتقادهم أن الإيمان
قولٌ وعمل، وأن الله - تعالى - موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفه به
رسوله صلى الله عليه وسلم دون تأويل أو تحريف أو تعطيل أو تشبيه، وأن القرآن
الكريم كلام الله غير مخلوق، وأن الله خالق كل شيء ... ونحو ذلك من اعتقاد أهل
السنة؛ فقد سَمَّوْا أصول اعتقادهم: شريعة.
وهي - في هذا - مثل كلمة «السُّنَّة» ؛ فقد يراد بها ما سنَّه وشرعه النبيُّ
صلى الله عليه وسلم من العقائد، وقد يراد بها ما سنّه وشرعه من العمل، وقد يراد
بها كلاهما.
وهذا المعنى الأخير للشريعة - أي الاعتقاد - كتب فيه بعض العلماء كتباً
مفردة، مثل كتاب «الشريعة» للآجُرّي المتوفى سنة (360هـ) ، وهو خاص
باعتقاد أهل السنة والجماعة، ومثله أيضاً «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية»
لابن بطة العكبري المتوفى سنة (387هـ) [5] .
- 4 -
وإذا كانت تلك المعاني إطلاقات عامة للشريعة فإن بعض علماء الفقه وأصوله
يطلقونها بإطلاقات خاصة، وفيما يلي بعض هذه الإطلاقات والمعاني الخاصة:
أ - قد يطلق (الشَّرع) على القضاء، أي حكم القاضي. وعندئذ تكون هذه
الألفاظ الثلاثة: (القضاء، والشرع، وحكم القاضي) مترادفة، تقابل كلمة
«الديانة» التي تعني عند الفقهاء: التنزُّه، أو ما يكون بين العبد وربه تبارك
وتعالى. ومثال ذلك: لو علَّق رجل طلاق زوجته طلقةً واحدة بولادة ذكر، وطلقتين
بولادة أنثى، فولدت ذكراً وأنثى، ولم يُدْرَ الأول منهما: طلقِّت زوجته طلقة واحدةً
قضاءاً، فيحكم القاضي بوقوع طلقة واحدة، وثنتين تنزُّهاًَ، أي ديانةً، يعني فيما
بينه وبين الله تعالى، فيفتيه المفتي بوقوع طلقتين احتياطاً.
ب - وقد يطلق (الشَّرعيُّ) على ما يجزم العقل بإمكانه ثبوتاً وانتفاءً، ولا
طريق للعقل إليه. بمعنى أن العقل لا يحكم بعدم إمكانه وليس له سلطة الحكم فيه؛
فهو ما يتوقف على الشرع أو النص الشرعي، فلا يُدْرَك لولا خطاب الشارع
كوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وأمثالها. ويقابل الشرعيَّ بهذا المعنى:
العقليُّ.
ج - ويطلق (الشرعيُّ) أيضاً على ما ورد به خطاب الشرع. أي: ما ثبت
بالشرع. سواء كان موقوفاً عليه الشرع أو لم يكن موقوفاً عليه؛ فيتناول وجوب
الصلاة وأمثاله ... كما يتناول الإيمان بوجود الله تعالى وقدرته وكلامه ... ؛ لأن
ذلك ورد به الشرع، وثبت بالشرع، وإن كان لم يتوقف على الشرع لمعرفته
بالعقل إجمالاً.
د - ويطلق (الشرعيّ) أيضاً: على ما يقابل الحسّيِّ. فالحسيُّ: ما له
وجود حسيّ فقط، والشرعيّ: ما له وجود شرعي مع الوجود الحسيّ؛ كالبيع فإن
له وجوداً حسياً، فإن الإيجاب والقبول للبيع موجودان حسّاً، ومع هذا: له وجود
شرعي؛ فإن الشرع يحكم بأن الإيجاب والقبول الموجودين حساً يرتبطان ارتباطاً
حكميا، فيحصل معنى شرعي يكون المِلْكُ أثراً له؛ فذلك المعنى هو البيع، حتى
إذا وجد الإيجاب والقبول في غير المحلّ: لا يعتبره الشرع.
هـ - و (الشرعيّ) أيضاً: ما لا يستند وضع الاسم له إلا من الشرع،
كالصلاة ذات الركوع والسجود، فإنها بهذا المعنى والكيفية معنى شرعي جاء به
الشرع.
و وقد يطلق (الشرع) على المندوب والمباح، فيقال: شرع الله الشيءَ،
أي أباحه. وشَرَعَه، أي: طَلَبَه وجوباً أو ندباً. وبهذا يظهر أن المشروع لفظ
يشتمل على الواجب والمسنون [6] .
- 5 -
وفي الصلة بين المعنيين: الشرعي واللغوي لكلمة «الشريعة» يقول
الراغب الأصفهاني: «قال بعضهم: سُمِّيت الشريعةُ شريعةً تشبيهاً بشريعة الماء
من حيث إنَّ مَنْ شرع فيها على الحقيقة والمصدوقة: رَوي وتطهَّر، قال: وأعني
بالرِّيّ ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى، فلما عرفت الله تعالى رَوِيتُ
بلا شرب.
وأعني بالتطهُّر ما قال - تعالى -: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] (الأحزاب: 33) [7] .
ويمكن أن نلمح بسهولة ويُسْرٍ أن المعاني اللغوية التي سلفت الإشارة إليها كلّها
ملاحظة في المعنى الاصطلاحي للشريعة، وبخاصة بالمعنى الأول لها:
أ - فالشريعة سنّها الله - تعالى - وابتدأها وبيّنها وأوضحها. وقد ألمحنا إلى
أن معنى شَرَعَ الدين: بيّنه وسنَّه، والشارع في الشيء: البادئ فيه.
ب - والشريعة كذلك نهج واضح بيِّن ميسَّر؛ فقد جعل الله - تعالى - القرآن
الكريم الذي هو مصدر الشريعة: واضحاً ميسّراً للذكر، وجعل النبيَّ صلى الله
عليه وسلم مبيِّناً للوحي المنزَّل. وهذا أيضاً من المعاني اللغوية للكلمة.
ج - كما أن الشريعة تَسَعُ الجميعَ؛ حيث يَرِدُها الناس جميعاً فيصدرون عنها
وقد وسعتهم جميعاً بأحكامها وتكاليفها، وهي أيضاً دعوة عامة للجميع؛ وبذلك يتفق
هذا مع معنى الشريعة التي هي مورد الشاربة التي يكون الماء فيها عِدّاً لا انقطاع له
وظاهراً يؤخذ بسهولة.
د - وكذلك يتفق المعنى اللغوي والاصطلاحي في ملمحٍ رابع، وهو أن
الشريعة قريبة المأخذ، سهلة التناول، ميسَّرة للفهم والعمل، دانية من المرء
بمصادرها، كما أن معنى شرع المنزلُ: دنا من الطريق.
هـ - والشريعة مستقيمة، وهي مذهب مستقيم، ولا استقامة لحياة الإنسان
في الدنيا إلا بها، وطريق الإسلام هو الطريق المستقيم، كما أن الشرعة في اللغة
هي الطريق والمذهب المستقيم.
و والناس أمام الشريعة سواء؛ لأنها خطاب عام للمكلَّفين، يستوي الجميع
أمامها دون تفريق، ولا يجوز لأحدٍ الخروج عنها أو عليها. وهو نفس المعنى
اللغوي لكلمة شَرْع وشَرَعٌ. أي سواء.
- 6 -
وأما إذا بحثنا عن الصلة بين مصطلح» الشريعة «ومصطلح» الفقه «؛
فقد نجد بينهما مطابقة في المعنى، وقد نجد بينهما عموماً وخصوصاً. وهذا الأمر
يقضي أن نبيِّن أولاً معنى الفقه في اللغة وفي الاصطلاح. ونوجز ما نستخلصه من
كتب اللغة والاصطلاح بأمرين:
(أولهما) : أن الفقه في اللغة هو الفهم والعلم بالشيء. أو هو فهم غرض
المتكلم خاصة، ومنهم من يجعله خاصاً بفهم وعلم الأمور الخفية الدقيقة التي تحتاج
إلى النظر والاستدلال.
(والأمر الثاني) : أن العرف قد خصَّ الفقه بعلم الدين، أو العلم بأحكام
الشريعة كلِّها. وهذا المعنى الشرعي العام هو الذي كان معروفاً عند السلف في
العصر الأول قبل أن يخصَّه المتأخرون بمعرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة
من أدلتها التفصيلية كما هو المشهور عند الفقهاء والأصوليين.
وعلى هذا المنهج في عموم معنى كلمة» الفقه «جاء التعريف المنقول عن
أبي حنيفة رحمه الله بأنه» معرفة النفس ما لها وما عليها «أي ما تنتفع به النفس
وما تتضرَّر به في الآخرة، أو ما يجوز لها وما يجب عليها وما يحرم. وهذا
يتناول الأحكام الاعتقادية والأحكام الوجدانية الأخلاقية والأحكام العملية. ثم فصَّل
العلماء في هذا فجعلوا للأحكام الاعتقادية مبحثاً أو اسماً هو» الفقه الأكبر «
وخصُّوا الأحكام العملية بـ» الفقه « [8] .
* وعلى هذا: إن العلاقة بين الشريعة بمعناها العام الذي يعني الدين أو
الإسلام، وهو المعنى الأول الذي ألمحنا إليه في لغة القرآن وفي اصطلاح العلماء،
وبين الفقه بمعناه العام عند السلف الذي يعني علم الدين، أو العلم بأحكام الشريعة
كلها ومعرفة النفس ما لها وما عليها، هي علاقة تطابق تام يلتقي فيها المصطَلحان،
ويدلّ كلٌّ منهما على معنى الآخر؛ مع ما يجدر التذكير به من أن مصطلح
» الفقه «كان أسبق ظهوراً وأكثر استعمالاً في الصدر الأول.
* وأما الشريعة بالمعنى الثاني وهو ما خصَّ الله - تعالى - به نبينا محمداً
صلى الله عليه وسلم من الأحكام العملية الفرعية، وما سنَّه لأمته فيها، فهو يدل
على الفقه عندما خصَّه المتأخرون بمعرفة الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية.
* وأما المعنى الثالث للشريعة، وكذلك المعنى الرابع فيما سبق فإن بينهما
وبين الفقه بمعناه الخاص عند المتأخرين، تبايناً في الموضوع؛ فهما يبحثان في
أصول الاعتقاد، وهو يبحث في الفروع والأحكام العملية.
* بينما نجد عموماً وخصوصاً بين معنى الشريعة الأول ومعنى الفقه عند
المتأخرين؛ فالشريعة بهذا المعنى تشمل الاعتقاد والأخلاق والأحكام العملية؛ بينما
الفقه يختص بهذه الأخيرة، وإن كان يستمد من المصادر الأصلية التي هي الكتاب
والسنة، وقد تقدم أن الشريعة هي الكتاب والسنة [9] .
- 7 -
وعند العلماء المعاصرين نجد استعمال كلمة الشريعة ظاهراً ومنتشراً،
يريدون بها أحياناً معناها الأول؛ فهي ترادف الدين، أو الإسلام، أو الكتاب والسنة؛
بينما نجد بعضهم يستعملها بمعنى الفقه الذي هو معرفة الأحكام العملية ... وإذا
تصفحنا كثيراً من المؤلفات المعاصرة التي عنونها أصحابها بـ» المدخل إلى
الشريعة «أو» المدخل لدراسة الشريعة «أو» تاريخ الشريعة «أو» تاريخ
التشريع «نجد أنها تُعنى بدراسة تاريخ الفقه الإسلامي وأطواره وأهم النظريات
والقواعد الفقهية رغم أن بعضها يبني كلامه أولاً، أو يقيم فكرة الكتاب على المعنى
الأول الذي ألمحنا إليه، ولكنهم ينتهون إلى ما درج عليه آخرون؛ حيث جعلوا
للموضوع نفسه عنواناً آخر هو» المدخل الفقهي «أو» المدخل إلى الفقه
الإسلامي «أو» تاريخ الفقه الإسلامي «.
وهذا يعني أنهم يريدون بالشريعة: الفقه، أو الأحكام العملية من عبادات
ومعاملات وما يتصل بهما. وكذلك في مجال الدراسات الجامعية: نجد كثيراً من
الكليات الجامعية التي تحمل اسم» كلية الشريعة «تُعنى بالدراسات الفقهية وأصول
الفقه ... إلخ في مقابل كليات» أصول الدين «التي تختص بدراسة العقيدة
والمذاهب الفكرية والأخلاقية، وغالباً ما نجد هذا التمييز في الجامعات الإسلامية
التي احتضنت كليات متعددة تختص كلُّ واحدة بالعناية بجانب من جوانب الدين
أكثر من الجوانب الأخرى، وهنا نجد أن الفقه بمعنى الشريعة؛ أما في كلياتٍ
أخرى فقد لا نجد هذا فيها واضحاً.
أما على صعيد الدعوة إلى الإسلام وتطبيق الشريعة في البلاد التي غزتها
القوانين الوضعية - كما سيأتي - فإن معنى كلمة» الشريعة «لا تقتصر على
جانب الأحكام الفرعية العملية، وإنما تعني الدين بأكمله: عقيدةً وعبادة ومنهج حياة
وأخلاقاً وسلوكاً؛ لأن الشريعة كلٌّ متكامل لا يقبل التجزئة.
- 8 -
وقد ألمحنا فيما سبق إلى أن الشرع هو ما شرعه الله - تعالى -، ومعنى
شَرَعَ الدين: سنّه وبيّنه، والشارع في الشيء: البادئ فيه. ونزيد هذه النقطة
إيضاحاً وبياناً، فنقول بإيجاز: إن الذي بيده حق التشريع، وله سلطة التشريع
والتحليل والتحريم هو الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه المتفرِّد بالخلق والإيجاد؛
فهو إذن المتفرِّد بالأمر والنهي قال الله - تعالى -: [أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ]
(الأعراف: 54) ، وقال: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ]
(يوسف: 40) ، ولذلك كان من يزعم لنفسه حق التشريع مدعياً للشركة مع الله،
وكل من شرَّع من تلقاء نفسه فهو مدّعٍ للألوهية: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] (الشورى: 21) .
ولذلك اتفق العلماء على أن الحاكم هو الله - سبحانه وتعالى - وأنه لا أحد
يستحقُّ أن ينفذ حكمه على الخلق إلا من كان له الأمر والنهي الذي له الخلق والأمر؛
فإنما النافذ حكمُ الله؛ لأنه لا مالك إلا الله، والواجب طاعة الله تعالى وطاعة من
أوجب الله - تعالى - طاعته. وتفرَّد الله - تعالى - بالطاعة لاختصاصه بِنِعَم
الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي؛ فما من خير إلا هو جالبه،
وما من ضرٍّ إلا هو سالبه، وليس بعض العباد بأن يكون مطاعاً بأوْلى من البعض؛
إذْ ليس لأحد منهم إنعامٌ بشيء مما ذُكِر في حقِّ الإله [10] .
وبهذا يتبين أن العلماء المجتهدين والفقهاء لا يشرعون الأحكام، ولا يقولون:
هذا حلال وهذا حرام من تلقاء أنفسهم، وإنما هم يستنبطون الأحكام ويبيِّنون ولا
يشرّعون؛ فليس لهم سلطة التشريع، وكذلك عملهم في دائرة الأمور المباحة وفي
التنظيمات التي تحتاجها الأمة في كثير من جوانب الحياة. ومن التجاوز أن يطلق
على هذا اسم التشريع.
- 9 -
ومنذ عهد الدولة الإسلامية الأولى كانت الشريعة الإسلامية هي السائدة
الظاهرة، أي لها وحدها السيادة، وكانت تُظِلّ الجميع حكاماً ومحكومين، ورغم ما
قد يقع من انحراف أو تقصير في بعض جوانب الحياة عند بعض الحكام، لم يكن
ببال أحدٍ أن يحتكم لشرع غير شرع الله - تعالى -، حتى بدأت الأمور تتغير في
القرن الثالث عشر (التاسع عشر الميلادي) وبدأت القوانين الوضعية تزاحم
الشريعة شيئاً فشيئاً حتى حصرتها في بعض البلاد الإسلامية في دائرة ما يسمونه
بـ» الأحوال الشخصية «وهي المتعلقة بأحكام النكاح والطلاق والإرث والأهلية،
وليت هذه الأحكام - أيضاً - تكون بمنجاة من الهجموم والتآمر والتحريف.
وكان إدخال القوانين الأجنبية الأوروبية قد بدأ في الدولة العثمانية بفضل نظام
الامتيازات التي حقَّقت القوى الغربية عن طريقه لرعاياها القاطنين في الشرق
الأوسط أن يحتكموا إلى قوانينهم الخاصة، كما أرغمت أوروبا الخديوي إسماعيل
على الأخذ بالقوانين الغربية كما صرّح هو بذلك لرفاعة الطهطاوي فيما يذكره محمد
رشيد رضا في» تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده « [11] . وبهذا يسقط ما يزعمه
بعضهم من أن إدخال القوانين الغربية إنما جاء بسبب اختلاف علماء الفقه وتعصبهم
لمذاهبهم، أو بسبب عدم اتفاق الفقه الإسلامي أو الشريعة الإسلامية مع متطلبات
العصر، ونحو ذلك من الأسباب أو الدعاوى الساقطة!
ولا يتسع المقام هنا لعرض التطور التاريخي لهذه القضية في البلاد الإسلامية
كتركيا ولبنان وسوريا ومصر والعراق وغيرها، ولكن حسبنا الإشارة إلى أن
مبادئ الفقه والشريعة تأتي في المرتبة الثالثة بعد أحكام القانون الوضعي والعرف
في استمداد القوانين المدنية (المعاملات) مثلاً، وأن القانون المدني المصري مثلاً
يرجع في أصوله إلى عشرين تقنيناً أوروبياً كما ذكر ذلك وبيَّنه الدكتور عبد الرزاق
السنهوري؛ وهي التقنينات اللاتينية قديمها وحديثها فالقديم يأتي على رأسه: التقنين
الفرنسي، والإيطالي القديم، والتقنين الأسباني، والتقنين البرتغالي، والهولندي.
والتقنينات الحديثة تشمل التقنينات اللاتينية الحديثة مثل التقنين التونسي،
والمراكشي واللبناني، والمشروع الفرنسي والإيطالي الجديد، وتشمل التقنينات
الجرمانية وأهمها: الألماني والسويسري والنمساوي ... ثم البولندي والبرازيلي،
والصيني، والياباني.... إلخ؛ وهكذا في سائر البلاد العربية والإسلامية، إلا قلة
قليلة من البلاد كالجزيرة العربية، وأفغانستان قبل حكم الشيوعيين، والله
المستعان [12] .
- 10 -
ولئن طالت هذه المقالة وجاوزت ما قُدِّر لها من صفحات، فإن هذا يجعلنا
نشير إشارة فقط إلى أمرين آخرين يتممان البحث في هذا المصطلح:
(أولهما) : أن البحث في خصائص الشريعة ومميزاتها قد استوفاه من كتب
في هذا الجانب، ويأتي في مقدمة تلك الكتابات:» التشريع الجنائي الإسلامي «
للأستاذ الفقيه القانوني عبد القادر عودة، و» خصائص التصور الإسلامي «
للأستاذ سيد قطب، و» الثبات والشمول في الشريعة «للدكتور عابد السفياني،
وغيرهم من العلماء والباحثين ممن أوْلَوْا هذا الجانب عناية طيبة.
(ثانيهما) : أما المقارنة أو الموازنة بين هذا المصطلح وبين ما يقابله في
الشرائع الأخرى، وفي القوانين المعاصرة، لبيان فضل الشريعة الإسلامية؛ لأن
الأشياء تتميز بضدّها؛ فإن هذا الجانب أيضاً له دراسات متخصصة يحسن الاطلاع
عليها لمن أرادها [13] . والله الموفق.
__________
(1) انظر:» معجم مقاييس اللغة «لابن فارس: 3/262،» الصِّحاح «للجوهري: 3/1236 1237،» ترتيب القاموس المحيط «: 2/698 699،» المعجم الوسيط «إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة: 1/479.
(2) المشترك: هو ما وضع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة، ويدل على ما وضع له على سبيل البدل، ولا يدل على المعنيين معاً مثل لفظ:» العين «وضع للعين الباصرة، ولعين الماء النابع، وللجاسوس، والميزان انظر:» تفسير النصوص في الفقه الإسلامي «لأستاذنا العلامة الدكتور محمد أديب صالح، 2/132 146.
(3) أخرجه البخاري، ح/ 3443، مسلم، ح/ 2365.
(4) انظر:» حجة الله البالغة «للدِّهلوي: 1/285 وما بعدها،» مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 19/112 113، «الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى» عثمان ضميرية، ص (35 41) .
(5) انظر: «الثبات والشمول في الشريعة» الدكتور عابد السفياني ص (48) وما بعدها، «مدخل لدراسة العقيدة» عثمان ضميرية، ص (114) وما بعدها، «الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي» ، للأزهري، ص (420 421) .
(6) راجع: «كشاف اصطلاحات الفنون» : 4/129، «الكليات» : 3/56 57، «النظم المستعذب» لابن بطال الركبي: 1/56، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم: 1/42.
(7) «المفردات» ص (450 451) ، وانظر: «بصائر ذوي التمييز» للفيروز آبادي: 3/ 310، «لسان العرب» : 8/176، وما بعد، «عمدة الحفاظ» ص (264) للسَّمين الحلبي.
(8) انظر إن شئت معنى كلمة الفقه وتطور استعمالها وشواهد ذلك في «مدخل لدراسة العقيدة» ، عثمان ضميرية، ص (75 - 84) وفيه طائفة من المراجع الأصيلة.
(9) قد لا يرتضي بعض العلماء تكييف هذه العلاقة أو النسبة الأخيرة؛ لأن الفقه هو آراء المجتهدين انظر: «الثبات والشمول في الشريعة» للشيخ الدكتور عابد السفياني، ص (95 - 96) .
(10) انظر: «المستصفى» للغزالي: 1/83، «قواعد الأحكام» للعز بن عبد السلام: 2/273 274 بتحقيق د نزيه حماد، عثمان ضميرية، «مجموع فتاوى ابن تيمية» : 1/97 98.
(11) 1/620.
(12) انظر: «الوسيط» للدكتور السنهوري: 1/62 وما بعدها، «فلسفة التشريع في الإسلام»
د صبحي محمصاني ص (926) وما بعدها، «في تاريخ التشريع الإسلامي» تأليف ن ج كولسون، ترجمة محمد أحمد سراج، ص (299) ، وما بعدها واقرأ «الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية»
د عمر الأشقر، «نظرية السيادة» د صلاح الصاوي.
(13) انظر مثلاً: «تاريخ التظم القانونية والاجتماعية» لمحمد بدر، «المدخل إلى القانون»
د حسن كيرة، «دائرة المعارف» لبطرس البستاني: 10/449 وما بعدها، وعامة كتب المدخل لدراسة الشريعة والفقه.(163/110)
في دائرة الضوء
ماذا يُراد بأمتنا العربية والإسلامية؟
الاستعمار النفسي في ثوبه الجديد
د. ماهر عباس جلال [*]
galalmaher@hotmail.com
مقدمة:
عرف العالم منذ القرن الخامس عشر الميلادي ما يُسمى بالاستعمار الغربي،
وكان يعني في ذلك الوقت: «إخضاع جماعة من الناس لحكم أجنبي، ويسمى
سكان البلاد المحتلة بالمستعمَرين - بفتح الميم، وتسمى الأراضي الواقعة تحت
الاحتلال البلاد المستعمَرة - بفتح الميم» [1] . والآن ونحن على مشارف القرن
الحادي والعشرين يشهد العالم نوعاً جديداً من الاستعمار يمكن تسميته
بـ (الاستعمار النفسي) .
مفهوم الاستعمار النفسي وأهدافه:
إن الاستعمار النفسي استعمار جديد يعمد إلى استعمار النفوس والعقول والأفئدة
بدلاً من استعمار الأرض؛ وذلك أن السيطرة على النفوس والعقول والأفئدة يعني
السيطرة على كل شيء، فتكاد هذه النفوس ألاَّ ترى إلا بعينه، ولا تسمع إلا بأذنه،
ولا تفكر إلا بعقله، تكره ما يكره، وتهوى ما يهوى، وتفني حياتها في سبيل
رضاه، ثم ليتها تحظى به؛ فربما كان نصيبها النقمة والازدراء! !
وإذا قِيسَ الاستعمار القديم بهذا الاستعمار النفسي فإنه يعد استعماراً ساذجاً؛
ذلك أن الاستعمار النفسي أشد فتكاً، وأعظم ضراوة، فهو شديد المراوغة والخداع،
سريع التطوير لخططه الخبيثة، وطمعه لا تحده حدود؛ فهو لا يقنع بامتلاك
الأرض واستغلال ثرواتها فحسب، بل يريد الأرض ومن عليها، وكأن لسان حاله
يقول:
لنا الدنيا ومَنْ أمسى عليها ... ونَبْطشُ حين نبطشُ قادرينا [2]
أستغفر الله من زلة القلم، فهذا هدف يعد متواضعاً في حقه؛ فهو يريد الكون
بأسره، فلا يكتفي بغزو الأرض حتى يتسابق إلى غزو الفضاء، ويعد برامجه
لحرب الفضاء [3] .
خطره على الأمة العربية والإسلامية:
وأمتنا العربية والإسلامية مستهدفة من هذا الاستعمار لما فيها من طاقات
متنوعة وثروات طبيعية هائلة، ولما تحمل في عقيدتها ودينها من مقومات الصمود
أمامه؛ فلم ينس هذا الاستعمار هزيمته النكراء أمامها يوماً ما [4] ؛ ولذا طور خططه،
ووسع دائرة أهدافه، ونوَّع وسائله، وغيَّر خطابه؛ فهو يريد هذه المرة ألا يُفلت
أحد من قبضته ولا يحيد عن سلطانه قدر أنملة، يريد أن يسبِّح الجميع بحمده،
ويتغنى بمآثره، ويعشق ثقافته، ويتمنى رضاه، ويكون طوع هواه.
الهزيمة النفسية:
إن الاستعمار النفسي يهدف - أول ما يهدف - إلى هزيمة أمتنا هزيمة نفسية
تشعر معها بمرارة العجز والقهر [5] واليأس، وتزول لديها أية بارقة أمل في نهضة
حضارية ومستقبل مشرق واعد، وإذا تمكن من تحقيق هذا الهدف فإن ما سواه
أهون؛ فالأمة المهزومة نفسياً ليس لها - في ظني - إلا خياران: إما أن تنتحر
وتفنى، أو تلقي بنفسها في أحضان هذا المستعمِر - بكسر الميم، وتمكّنه من نفسها
يعبث بها كيفما يشاء، وتدين له بالتبعية والولاء التام، فيتحقق له ما أراد من
السيطرة عليها ثقافياً وسياسياً واقتصادياً ... إلخ؛ فالهزيمة النفسية أقسى أنواع
الهزائم البشرية؛ بحيث تفقد الأمة معها كيانها، وتشعر بالتخبط والاختلال، وتسلم
قيادها وهي مخدرة إلى هذا المستعمر ليوجهه كيف شاء، وأين شاء، ومتى شاء.
الاستعمار عن بعد:
وهذا إن دل فإنما يدل على مدى ذكائه وضرواته، فقد رأى أن الاستعمار
العسكري - بمفهومه التقليدي - استعمار ساذج لا بد أن يُقضى عليه يوماً ما،
وحينئذ يخرج منهزماً منبوذاً وقد تكبد خسارة مادية ومعنوية وعسكرية فادحة. أما
الاستعمار النفسي فيحقق جميع أهدافه ومكاسبه بمفاتيح التحكم عن بعد، وبأقل جهد:
يأمر فيطاع، ويطلب فيلبى طلبه؛ فالعقول مخدرة، والنفوس أشبه ما تكون نائمة
بفعل التنويم النفسي.
وسائل وأقنعة:
يلجأ هذا الاستعمار إلى وسائل خبيثة وفتاكة أدمنها ضحاياه، ويتخذ من
بعضها قناعاً يخفي تحته أهدافه الحقيقية، فإذا ما اكتشفت حقيقتها أسفر عن وجهه
الحقيقي المرعب، وأبرز أنيابه المخيفة الحادة يغرزها في جسد ضحاياه، مطبقاً
عليهم من كل جانب، متلذذاً بأنينهم وصراخهم، ثم تطفر من عينيه دمعة عليهم،
فتكون المساعدات الاقتصادية، وإغاثة هيئة الصليب الأحمر؛ فيا له من استعمار
رحيم مرهف الإحساس! ! !
ومن أهم هذه الوسائل والأقنعة:
1- وسائل الإعلام:
لقد أدرك هذا الاستعمار أهمية وسائل الإعلام في عصر من يمتلك فيه هذه
الوسائل يمتلك العالم [6] ، فلا عجب إذن إذا علمنا أن هناك حوالي (120) وكالة
إعلام دولية في العالم [7] منها (30) وكالة أمريكية لها قرابة (200) فرع توكيل
في العالم العربي، وميزانية هذه الوكالات وحدها تعادل الميزانية المخصصة للتعليم
في البلاد العربية [8] ، والإعلام الغربي عامة يمثل أكثر من (90%) من الإعلام
العالمي [9] .
سيطرة اليهود على الإعلام الأمريكي:
والجدير بالذكر أن اليهود يسيطرون على الإعلام الأمريكي، سواء فيما يتعلق
بالشبكات التليفزيونية، مثل شبكة (CNN) وشبكة (ABC) ، وشبكة
(CBS) ، أو فيما يتعلق بالصحف؛ حيث يمتلك اليهود أكبر ثلاث مؤسسات
صحفية أمريكية مؤثرة هي: (نيويورك تايمز) ، و (واشنطن بوست) ،
وصحيفة (وول ستريت جورنال) ، أو فيما يتعلق بالمجلات الأسبوعية؛ حيث
يمتلك اليهود أهم هذه المجلات وهي: مجلة (التايم) ، ومجلة (نيوزويك) ،
ومجلة (يو إس نيوز) [10] .
التبعية الإعلامية:
وإذا تساءلنا: ما دور وكالات الأنباء العربية والإسلامية في الساحة الإعلامية؟
فالإجابة تبدو مخزية؛ وذلك أن هذه الوكالات العربية والإسلامية تعمل من الداخل
لصالح وكالات الأنباء الأجنبية، خاصة الوكالات الخمس الكبرى التي تحتكر
الأخبار والمعلومات بنسبة (80%) ، وهي: (رويتر) ، و (أسوشيتد برس) ،
و (يونايتد برس إنتر ناشيونال) ، ووكالة الأنباء الفرنسية، ووكالة (تاس)
الروسية [11] ، ولا تجد وكالات الأنباء العربية والإسلامية أمامها إلا أن تعتمد عليها
في نقل الأخبار وتغطية الأحداث [12] . هذا فضلاً عن أن المسلسلات والبرامج
الدرامية في الفضائيات العربية تقريباً (70%) منها أمريكية، علماً بأن القنوات
الفضائية الأمريكية لا تعرض أكثر من (2%) فقط من المسلسلات والبرامج غير
الأمريكية، ولا يخفى على كل ذي بصيرة أن أمريكا لا تصدر إلينا إلا إنتاجها
الثقافي الرديء الذي يحمل في طياته قيماً تتعارض مع منظومة قيمنا وتقاليدنا
العربية والإسلامية [13] ، وفي ندوة (همر شولد) الدولية التي عقدت في نيويورك
عام (1975م) ، أكد المتحدثون «أن أنظمة الأخبار والحكومات والمصالح
العسكرية والتجارية الغربية تقوم - عمداً - بالتلاعب بتدفق الأخبار العالمية
لصالحها، وذلك بهدف الإبقاء على العالم الثالث في حالة تبعية» [14] .
2 - ثورة المعلومات:
استطاع الاستعمار أن يتخفى تحت قناع ثورة المعلومات، ويدس لنا السم في
العسل، فمثلاً الإنترنت (شبكة المعلومات الدولية) لا يخفى ما لها من أهمية،
لكنها تعد مصدر خطورة لنا، وذلك أننا نستخدمها دون فكر يديرها، كما تحوي هذه
الشبكة معلومات ومواقع تروج لثقافة الغرب، فكل فكر متأثر بثقافة المنشأ، فهذه
الشبكة تكرس إذن ثقافة الغرب ولغته، فتقريباً (88%) من المادة المعروضة فيها
باللغة الإنجليزية وحدها، و (90%) بالألمانية، و (2%) بالفرنسية [15] ؛ فأين
نصيب اللغة العربية؟ !
وللأسف فإن الاستعمار النفسي بزعامة أمريكا استغل ثورة المعلومات لهتك
حريات الآخرين والتلصص عليهم معرفياً وتقنياً، والتنصت على الأفراد والدول،
فها هو (إريه بن منشه) ضابط الاستخبارات الإسرائيلي، يعترف في كتابه
(غنائم الحرب) بأن إسرائيل تمكنت من اختراق الشيفرة الإيرانية أيام
الشاه [16] ، وكشفت تحريات صحفية عن وجود شبكة ضخمة للتجسس
الإلكتروني شمالي إنجلترا صممتها وتشرف عليها وكالة الأمن القومي الأمريكي
(NSA) ، ويطلق على هذه الشبكة اسم: (Echelon) . وهذه الشبكة
صُممت للتجسس على الحكومات والشركات والأفراد، دون مراعاة لحرمة
أحد [17] . إنها ديمقراطية الاستعمار النفسي، وأساليبه الخبيثة الدنيئة؛
فالغاية عنده تسوغ الوسيلة.
3 - قناع الاقتصاد والسياسة:
ويعمد هذا الاستعمار إلى تنفيذ أهدافه رغباً أو رهباً، فيعد بالامتيازات
الاقتصادية تارة، وبخلق فرص مناسبة للاستثمار الاقتصادي تارة، وبحبوب
المعونات الاقتصادية تارة أخرى، وكأن العلاقة بينه وبين المستعمَر - بفتح الميم -
أشبه ما تكون بين الطيور الداجنة وربها (صاحبها) يلقي إليها الحبوب حتى إذا ما
سمنت انتفع ببيضها أو تلذذ بلحمها، فإن أبت أن تلتقط الحب وثارت لكرامتها،
كانت الضغوط السياسية والاقتصادية، وتحركت ثعالب المليارات اليهودية العملاقة
في العالم لتكتم أنفاس هذه الطيور الأليفة وتؤدبها، فإما أن يعود إليها رشدها وتأكل
لتسمن وتدر عليه فوائد الديون بشروطه الخاصة، أو أن تموت خنقاً، وينهار
اقتصادها كما حدث مع النمور الآسيوية.
لغة الاستعمار النفسي:
وقد خيل إلى هذا الاستعمار النفسي لجبروته أنه سينتصر بالرعب [18] ،
فيتحدث إلى أفراد مستعمرته بلغة الاقتصاد تارة، فتكون العقوبات الاقتصادية
المجحفة، والحصار الاقتصادي الكافر بكل معاني الإنسانية والرحمة، وما الذي
فعله بالعراق وليبيا والسودان منا ببعيد، ولا أحد يستطيع أن ينبس ببنت شفة،
فالجميع ملتزم به حتى إخوتهم في العروبة والإسلام، ومن حاول كان مصيره
التشرد والضياع. ونذرف الدموع عجزاً وهلعاً حينما نسمع وزارة الصحة العراقية
في شهر مارس الماضي تعلن وفاة أكثر (9000) عراقي في فبراير من العام نفسه
بسبب الحظر الاقتصادي، ليرتفع بذلك عدد القتلى منذ بدء هذا الحصار إلى
(1283118) شخصاً من بينهم نصف مليون طفل عراقي [19] ! ! .
ويستخدم لغة السياسة تارة أخرى، فيكون الوعيد والتهديد، والحملات
الشعواء، والتقارير المزيفة، والاتهامات برعاية الإرهاب، والتحذيرات للشعب
الأمريكي والرعايا الأجانب من دخول هذه الدولة أو تلك؛ لأنها تدعم الإرهاب،
وتكبت الحريات، وتضطهد الأقليات، فليحيَ إذن قانون حماية الأقليات! !
4- الرعب العسكري والنووي:
فإن لم تُجْدِ لغتا الاقتصاد والسياسة نفعاً برزت لغة الرعب العسكري والنووي
وتحركت الأساطيل البحرية وحاملات الطائرات، والقنابل الذكية، وصواريخ
(كروز) ، والغواصات النووية، فنراه يرسل لشعب العراق صواريخه ساعة
المنام، ليشاركهم الاحتفال بشهر الصيام، ويتأسى لأحوال مرضى السودان وقلة
الدواء، فليكن وجهة الصاروخ مصنع الشفاء! ! !
وإذا كان البابا يوحنا بولس الثاني قد استغفر لمن مات من اليهود في المحرقة
المزعومة، خلال زيارته بيت لحم يوم الأربعاء (22/3/2000م) [20] ؛ فمن
يستغفر للأطفال الرُضَّع، والشيوخ الرُكَّع، والنساء المغتصبات في كل من العراق،
وكوسوفا، والشيشان، وتركستان؟
يا رب قد عجز اللسان! وإذا كان الحاخامات لم يرضوا بما صنعه البابا،
فنحن يكفينا الصمت، ونستلذ العجز، وليكن تجاوبنا الاحتجاج أو الشجب! فهذا
التصالح بين الصهيونية والصليبية لصالح من؟ وضد من؟
5 - غفلة الأمة الإسلامية:
ومما شجع هذا الاستعمار على بسط نفوذه، وأعانه على تحقيق أهدافه - غفلة
الأمة العربية والإسلامية؛ فنحن أمة نكاد لا نستوعب دروس الأحداث الماضية،
نعتمد على العاطفة دون أن تساندها خطط مدروسة وتحليلات علمية متأنية،
وبعضنا يدير ظهره للماضي، ويرضى بالواقع، ويسقط المستقبل من حساباته،
ومن وخزه ضميره فإنه يهرب من واقعه بالنكت تارة، وبالمباريات تارة،
وبالأغاني والأعمال الدرامية تارة أخرى، حتى يظن من يشاهد قنواتنا الفضائية أننا
أمة لا تعرف الهموم، وترفل في النعيم، وتبسط نفوذها على العالم أجمع!
عمليات غسيل المخ:
أضف إلى هذا سذاجة بعض أبناء الأمة حين ينبهرون بأقنعة الاستعمار،
فيحسبون أنه قد جاء بالخير للبشرية بهذه العولمة، ويتحمسون لها، ويدعون إليها،
لما يصاحبها من أحلام وردية، وقد يعذر هؤلاء؛ فقد عمد الاستعمار إلى إجراء
عملية (غسيل مخ) لعقولهم، ثم أخذ يعيد صياغتها وفق أهدافه ومبادئه، فلا
عجب حينئذ أن نرى من يحتفلون بذكرى الحملة الفرنسية على مصر، لما لفرنسا
الصديقة في زعمهم من فضل إحداث نقلة حضارية بمصر تستحق عليها الشكر
والتقدير، ولا غرابة أن نجد بعض العائدين من الدراسة بالغرب يثورون على
مبادئهم الإسلامية والتقاليد العربية الراسخة، ويُروِّجون لأفكار الغرب دون تمييز
بين الغث منها والسمين.
وقفة تأمل قبل فوات الأوان:
إن الأمر جلل، وإن الخطب لفادح، وما أحوج أمتنا إلى وقفة متأنية لتتفقد
أحوالها، وتشخِّص أدواءها، وتتعرف أسباب كبوتها وضعفها! ! فالأمراض
النفسية من أشد الأمراض خطراً على صحة الأمة؛ لأن المريض النفسي قد لا
يشعر أنه مريض لخفاء مرضه، ومن ثم يترك المرض يستفحل ويستشري حتى
يتمكن منه، وساعتها لن يجدي معه دواء، ولكن قبل أن نبحث عن الدواء فعلينا
أولاً معرفة أسباب الداء؛ إذ «الوقاية خير من العلاج» ، فنحن أمام استعمار داهية
يجعل الحليم حيران، والقوي عاجزاً، والغافل عبرة للتاريخ، ومن هنا يقفز سؤال
مهم إلى الذهن: ما أهم آليات هذا الاستعمار وخططه الاستراتيجية التي يحقق بها
أهدافه الخبيثة؟
أساليب الاستعمار النفسي:
إن الاستعمار النفسي استعمار منظم الفكر عظيم الطموح؛ ولذا يتخذ أساليب
ناجعة، ويرسم خططاً استراتيجية هادفة لتحقيق أهدافه المرجوة، واستغلال وسائله
المتاحة أفضل استغلال.
من أهم أساليب الاستعمار النفسي:
1 - الدعاية: والدعاية باختصار هي «استخدام أي وسيلة إعلامية عامة أو
شعبية، بقصد التأثير في عقول أفراد جماعة معينة أو في عواطفهم، من أجل
تحقيق غرض عام معين، سواء كان هذا الغرض عسكرياً أو اقتصادياً، أو سياسياً،
وذلك في إطار خطة موضوعة منظمة» [21] والدعاية أنواع؛ والذي يعيننا هنا
منها الدعاية الرمادية التي تفسر الأحداث باللون الذي يناسبها ويخدم أغراضها [22]
والدعاية السوداء هي التي تتخفى وتتنكر دون أن تعلن عن مصدرها الحقيقي [23] .
وهذان النوعان دعاية هجومية تهدف إلى إقناع الآخرين والتأثير فيهم لكي يسلكوا
اتجاهاً معيناً أو سلوكاً محدداً تحت تأثير الأفكار الدعائية، ويقبلوا وجهات نظر
أصحاب هذه الدعاية، ويعتنقوا آراءهم وأفكارهم ومعتقداتهم [24] .
2 - غسيل المخ: وهو «العملية التي يقصد بها تحويل الفرد عن اتجاهاته
وقيمه وأنماطه السلوكية، وتبنّيه لقيم أخرى جديدة تفرض عليه» [25] ، وتعتمد
العملية على عدة أسس نفسية وفنية لضمان نجاحها، مثل: الإيحاء، والإنهاك
الجسدي بغية إضعاف القدرة الفكرية، والتعذيب العقلي والبدني، وزرع الشك،
وتدمير الذات بالإذلال والتحقير [26] .
3 - إثارة الرعب والفوضى في البلاد: بغية السيطرة الكاملة على الشعوب
والتغلب عليها [27] .
4 - افتعال الأزمات: لتؤثر في نفسية الخصم وتشتت أفكاره، وتظهر عجز
الحكومات عن صيانة الأمن في البلاد، وإقناع الرأي العام العالمي بوجود معارضة
شعبية لها [28] .
5- الشائعات: وهي من أهم أساليب الاستعمار النفسي، وقد استخدمت قديماً
وحديثاً [29] ، وتعد عاملاً مهماً من عوامل الحرب النفسية التي تستخدم بكفاءة الآن
من قبل هذا الاستعمار النفسي، كما أنها بمثابة ترمومتر (مقياس) لمدى الاستقرار
النفسي والاجتماعي للشعوب [30] ، وتعتمد على «الترويج لخبر مختلق لا أساس له
في الواقع» [31] . وقد تكون الشائعات في صورة أحاديث متداولة بين الناس، أو
أغان شعبية، أو أعمال درامية، أو دعايات، أو نكت، أو رسوم كاريكاتيرية [32] .
خططه الاستراتيجية:
1 - إشاعة روح العجز والاستسلام واليأس: حتى لا تقوم للشعوب قائمة [33]
وبهذا يهيئ النفوس والعقول لتقبل أفكاره، ثم الترويج لها والدفاع عنها، وأعانه
على نجاح هذه الإشاعة تلك الضربات الموجعة والإبادة الجماعية التي تعرضت لها
بعض البلدان في العالم الإسلامي، ثم تقف بقية الشعوب الإسلامية عاجزة عن رد
العدوان عنهم، أو بلغة أخرى: لا يسمح لهم بالتدخل لنجدة إخوانهم؛ فالمفتاح
السحري لهذه الأزمات في يد الاستعمار النفسي فقط، هذا الاستعمار الذي تؤازره
قوات حلف الأطلسي [34] .
ومن الطبيعي أن يخلق هذا الصمت أو العجز لوناً من التشاؤم والإحباط لدى
الأمة العربية والإسلامية، مما يدفع بعضهم إلى الاستهزاء بالوضع العربي الراهن،
والسخرية من الانتماء لهذه الأمة، حتى غدت بعض الصحف العربية تتحرق
شوقاً إلى نتائج الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية عساها أن تسفر عن حكومات
تنصف قضايانا المصيرية.
2 - تشويه صورة العربي المسلم: عمدت الدعاية الغربية إلى تشويه صورة
الفرد العربي والمسلم في وسائل الإعلام بصورة فجة، وجعله رمزاً للتخلف
والإرهاب، والأمثله لا تعد ولا تحصى، منها ما عرضته إحدى القنوات المتلفزة
الأمريكية في عام (1975م) ، في إعلان لها عن أحد المنظفات الصناعية، حيث
يبدأ الإعلان بصوت المعلن: «إن هذا الصابون ينظف أي شيء حتى العربي» ،
وتستمر المهزلة فيظهر شخص في زي عربي متسخ، وتحاول إحدى الفتيات
تنظيفه بالمنظف الجديد، وينتهى الإعلان بقول الفتاة: «لقد بذلنا كل ما وفي
وسعنا» ، وعندئذ يقول المعلن: «إن تقارير المختبرات أثبتت أن عدم نظافة
العربي لا يرجع إلى عدم وجود المنظفات، ولكن لأن العربي لا يمكن أن يصبح
نظيفاً أبداً» [35] .
كما شُوّه الحق الشرعي للبلاد العربية في الدفاع عن أرضها ومقاومة الاحتلال
الإسرائيلي، فتوصف المقاومة اللبنانية - على لسان رئيس وزراء فرنسا ليونيل
جوسبان - بأنها عمليات إرهابية [36] ، وتوضع أربعة دول عربية (سوريا، ليبيا،
السودان، العراق) في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وذلك في التقرير السنوي
لوزارة الخارجية الأمريكية، ويشير التقرير أن الأمل الوحيد لسوريا في رفعها من
هذه القائمة هو الإذعان لمطالب إسرائيل والتوصل معها إلى تسوية سلمية [37] .
3 - تشويه التاريخ والرموز العربية والإسلامية: لا يحسد تاريخنا العربي
والإسلامي على ما أصابه من تشويه وتحريف على أيدي أعدائه؛ فقد تعمدوا
تشويهه، وتصوير الإسلام على أنه دين إرهابي انتشر بحد السيف، وأنه يكبل
حرية الفكر، وصوروا قادته على أنهم لم يكونوا إلا أصحاب نزوات ومطامع لا
أصحاب مبادئ ورسالة، من هؤلاء هارون الرشيد، وصلاح الدين الأيوبي،
وغيرهما، والحضارة الإسلامية ما هي إلا حضارة زائفة عاشت عالة على غيرها
من الحضارات التي سبقتها؛ كالحضارة اليونانية والرومانية والهندية [38] .
وامتد التشويه إلى بعض الرموز العربية والإسلامية المعاصرة، من قادة
ومصلحين ودعاة، بغية أن يفقد أبناء الأمة الثقة في ماضيهم وحاضرهم، ويدب
اليأس في نفوسهم، فلا أمل في تغيير الواقع، وتنصرف الجهود عن التخطيط
للمستقبل، فتقع الأمة في نهاية المطاف فريسة شهية لهذا الاستعمار.
4 - الغزو الفكري والثقافي: وهو من أخطر خطط الاستعمار النفسي،
ويعتمد بشكل رئيس على الإعلام الغربي وما سار في فلكه من الإعلام
العالمي [39] ، وعماد هذا الغزو الفكر والثقافة، وشعاره التنوير والتمدن، وهو لا
يحدث فجأة بل يمر بمراحل متدرجة بخفاء ومكر شديدين، بدءاً من الصدمة الفكرية
الثقافية؛ حيث تسبح الشعوب العربية والإسلامية في تيار من هذا الغزو يومياً بغرض
إحداث عملية (غسيل مخ) للأفكار والثقافة العربية والإسلامية، ثم يتدرج إلى
الاحتواء الثقافي بتلقين هذه الشعوب أصول الثقافة الغربية ومبادئها، وشيئاً فشيئاً
تحدث عملية ذوبان للثقافة العربية والإسلامية في الثقافة الغربية، وحينئذ يحدث لها
نوع من الانحراف الثقافي عن أصولها وجذورها العربية والإسلامية، ومع
تعاقب الأجيال تصير ثقافتهم غربية الملامح والنزعة [40] .
التسلط الثقافي في وسائلنا الإعلامية:
والحق يقال؛ فإن الاستعمار النفسي لا يألو جهداً في سبيل إنجاح هذا الغزو؛
فالإغراءات يسيل لها اللعاب؛ ولا عجب حينئذ أن نرى بعض الفضائيات العربية
تعرض ثقافة الجنس، وتروِّج لصداقة الجنس الآخر، وتدعو إلى التحرر الفكري
والانفتاح على الثقافة الغربية بمدلولها الشامل: من لغة، ودين، وطرائق حياة،
وسلوك، وقيم أخلاقية [41] ، مما يعني الثورة على الثقافة العربية والإسلامية،
والانفصال عن جذورنا، وهذا التسلط الفكري الثقافي [42] واضح للعيان؛ فقد وصل
الأمر إلى حد عرض برامج لتعليم الرقص الشرقي، ومسابقات ملكات جمال العالم
(2000م) ، ناهيك عما تطفح به بعض المسلسلات والأعمال الدرامية في بعض
قنواتنا الفضائية من العري والانحلال الأخلاقي.
5 - علمنة المجتمعات وإضعاف الوازع الديني: أدرك الاستعمار النفسي
قديماً سر قوة المسلمين وصمودهم في وجهه، وهو الدين الإسلامي، فوضع على
عاتقه رسم الخطط الكفيلة بالقضاء عليه، أو على الأقل إضعاف أثره في
المجتمعات الإسلامية، وفصله كلياً عن الدولة على غرار ما فعله في تركيا
الحديثة [43] ، وكان له في ذلك عدة خطوات منها تقليص المناهج الدينية وجعلها
خواء [44] ، وتشويه صورة رجل الدين إعلامياً، وبث الشائعات حول الشخصيات
الإسلامية [45] ، والربط الجائر بين الإسلام والإرهاب، وبذل جهوداً مضنية
لصرف الناس عن دينهم وعن خططه اللعينة، فأنفق الأموال الطائلة في
تنظيم الدورات والمهرجانات الرياضية والفنية في العالم، وصار يصور الفنانين
والرياضيين على أنهم صفوة المجتمع ونجومه الجديرين وحدهم باقتداء
غيرهم بهم.
6 - إضعاف اللغة العربية: وفي سبيل نجاح مخططه السابق في النيل من
الدين الإسلامي كان لا بد له من إضعاف اللغة العربية، ومحاولة القضاء عليها بكل
سبيل ممكن؛ إذ إن اللغة العربية لا تعد وعاء للفكر العربي والإسلامي، ولا تمثل
الهوية العربية والإسلامية فحسب، بل هي شعيرة من شعائر الإسلام؛ فقد ورد عن
الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية؛
فإنه يورث النفاق» [46] ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «فإن
اللسان العربي شعار الإسلام وأهله» [47] .
فاللغة العربية والدين الإسلامي كلٌّ لا يتجزأ. ومما يدمي القلوب أن نجد
الغرب يهتم بالدراسات العربية والإسلامية في جامعاته، وبمراكز البحوث
الاستشراقية، مادياً ومعنوياً، على حين تبدو مثيلاتها شاحبة في عالمنا العربي
والإسلامي لا تجد الدعم المادي ولا المعنوي اللازمين لها، حتى صارت عبئاً على
مجتمعاتنا العربية، ودأبت وسائل الإعلام على تشويه الفصحى، والربط بينها وبين
تخلف الأمة حضارياً اليوم [48] . ويزيد الطين بلة تلك الدعوات المسعورة إلى
استخدام العاميات العربية بديلاً عن الفصحى، مما سبب لطلابنا وباحثينا نوعاً من
ازدواجية اللغة، حتى في المدارس والجامعات، فشاع اللحن، وأعرض الطلاب
عن تعلم الفصحى إلى تعلم اللغات الأجنبية التي استشرت في بلادنا العربية.
7 - تفتيت وحدة الأمة: ورأى الاستعمار النفسي ضرورة تفتيت وحدة
الأمة [49] عملاً بالمثل السائر: «فرِّق تَسُدْ» فحقق شيئاً مما أراد، إما عن طريق
إحياء القوميات، أو عن طريق إشعال فتيل النزاع بين الدول العربية والإسلامية
على الحدود تارة، كما هو الحال بين اليمن وإرتيريا، وبين مصر والسودان،
وبين الكويت والعراق، وبين الإمارات وإيران، وبين الهند وباكستان
وغيرها، أو عن طريق النزاع حول مصادر المياه. وقد تسبب هذا النزاع في
اتساع هوة الخلاف بين الأشقاء ودول الجوار، فقامت بعض الحروب بينهم،
وصارت كل دولة تتربص بأختها شراً، ويحذر كل فرد مكائد أخيه، والتبس
على الكثيرين معرفة العدو من الصديق، منشغلين عن العدو الحقيقي الذي يتربص
بالجميع ليفتك بهم ويستأصل شأفتهم.
سياسة الكيل بمكيالين:
كما أخذ الاستعمار النفسي يشجع الحركات الانفصالية في الدول الإسلامية
بزعم «حق تقرير المصير» مثلما حدث في تيمور الشرقية، ومثلما يخطط
للصحراء الغربية في المغرب، ولفصل جنوب السودان، وتقسيم العراق، على
حين يقوم بقمع أية حركة تحريرية تكون من قِبَل الأقاليم الإسلامية التابعة لدول غير
إسلامية متجاهلاً حق تقرير المصير، رافعاً شعار: «سيادة الدول» وعدم التدخل
في شؤونها الداخلية، كما هو الحال في البوسنة والهرسك، وكوسوفا، وتركستان،
والشيشان، وكشمير.
8 - استنزاف الطاقات: ورأى ضرورة استنزاف الطاقات العربية
والإسلامية، وحرمان العالم العربي والإسلامي منها، ليسلم له أمره، ويسقط سريعاً
أمام هجماته، ولكي لا تبقى لديه طاقات فكرية أو اقتصادية أو عسكرية وبشرية
لتقاوم مخططات هذا الاستعمار، فعمد إلى تدمير الاقتصاد في ماليزيا وإندونيسيا،
وضرب الحصار الاقتصادي حول العراق والسودان وليبيا وسوريا، وقام بسرقة
المياه والاستيلاء عليها عنوة من الأردن وسوريا والعراق، ودبر الخطط لاستنزاف
الطاقة النفطية، ويتآمر على تدني سعر برميل النفط، وحينما تتوحد الجهود
لإجهاض هذه المؤامرة فإنه يُرغي ويُزْبد ويزأر من أجل زيادة الإنتاج ووقف ارتفاع
الأسعار، وإلا فالويل والثبور لأية دولة تتسبب في ارتفاع سعر البرميل
النفطي [50] ؛ وتلك آية التجبر!
ولم ينس بالطبع تفريغ الدول الإسلامية عامة والعربية خاصة من عقولها
المفكرة والمبدعة، فوضع أمامها العراقيل، وفي المقابل لوَّح لها بالإغراءات في
بلاده، فهاجرت لتسهم في فقر بلادها وتشييد صرح حضارته هو، وماذا تصنع أمة
بلا عقول مفكرة أو مبدعة؟ ! أضف إلى ذلك ما فعله بالطاقات العسكرية، فأشعل
فتيل الحرب بين الدول تارة، وهاجم بعضها عسكرياً تارة، فمن ثم سارعت هذه
الدول إلى شراء أسلحته بكرائم أموالها، مما أثر على اقتصادها، وعوّق مسيرة
النهضة الحضارية فيها.
أمة بلا شباب أمة بلا مستقبل:
أما طاقة الشباب أمل المستقبل، فقد حازت نصيباً أكبر من جهوده متمثلة في
نشر المخدرات وتزيين الانحراف الخلقي والعلاقات المحرمة؛ فأمة بلا شباب هي
في الحقيقة أمة بلا مستقبل.
هذه أهم مخططات الاستعمار النفسي؛ إذ في جعبته الكثير؛ فذراعه طويلة،
وخزائنه تكاد لا تنفد، وعزيمته لا تفتر، وقلبه لا يرحم، ومن العجيب أنه لا يمل
ولا ييأس، لكن هيهات هيهات، فأمتنا أمامها الفرصة سانحة بما تملك من مقومات
مادية ومعنوية - إذا أرادت بإخلاص وثبات - لترد غروره، وتقتل صلفه، وتحبط
مخططاته، وتأمن بوائقه، والمهم التخطيط الجيد، والتذرع بالصبر والأمل والحذر،
واليقين في نصر الله بعد تحقيق أسبابه.
__________
(*) جامعة الإمارات العربية المتحدة.
(1) الموسوعة العربية العالمية: مادة (استعمار) ، 1/683.
(2) البيت لعمرو بن كلثوم من معلقته.
(3) بدأ مشروع (حرب الفضاء) فعلياً في مطلع سنة 1984م، وذلك بعد خطبة ألقاها الرئيس (رونالد ريجان) في 23 مارس عام 1983م راجع: حرب الفضاء: دراسة تحليلية لأسلحة واستراتيجيات حرب الفضاء، تأليف: أقطاب العلماء الأمريكيين، ترجمة أد محمد أسعد عبد الرؤوف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م، ص 51، 52.
(4) كما حدث في الحرب الصليبية، وفي حروب التحرير من الاستعمار الغربي في القرن العشرين.
(5) القهر (لغة) : الغلبة والتغلب انظر: لسان العرب، مادة (قهر) ، وبمعناه العام: «كل تأثير خارجي أو داخلي يعوق حرية الفرد» انظر: المعجم الفلسفي، د جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1973م، 2/200، 201.
(6) انظر: مقال (الإعلام الغربي وتشويه حقائق الصراع) ، د باسم خفاجي، مجلة البيان، العدد (126) ، ص 56.
(7) انظر: الإعلام العربي أمام التحديات المعاصرة، علي محمود العائدي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، سلسلة دراسات استراتيجية (35) ، أبو ظبي، طبعة أولى 1992 م،
ص 103.
(8) هذا ما أكدته الدكتورة عواطف عبد الرحمن في محاضرتها (الإعلام والعولمة في القرن الحادي والعشرين) التي ألقتها بجامعة عجمان، فرع العين بدولة الإمارات، بتاريخ 27/2/2000م، انظر: جريدة الاتحاد، الإمارات، العدد (9003) ، 28/2/2000م، ص 7.
(9) انظر: مقال (الإعلام الغربي وتشويه حقائق الصراع) ، مجلة البيان، العد (126) ، ص 56.
(10) انظر: مقال (الإعلام الغربي وتشويه حقائق الصراع) ، ص 58، 59.
(11) انظر: الإعلام العربي أمام التحديات المعاصرة، ص 17.
(12) تعد الدول العربية والإسلامية دولاً مستهلكة للإعلام ومستوردة لوسائل الاتصال ضمن مفهوم السوق , انظر: الإعلام العربي أمام التحديات المعاصرة، ص 79.
(13) انظر: محاضرة (الإعلام والعولمة في القرن الحادي والعشرين) ، جريدة الاتحاد، الإمارات، العدد (9003) ، ص 7.
(14) دليل الصحفي في العالم الثالث، ألبرت ل هيستر، ترجمة: كمال عبد الرؤوف، الدار الدولية، 1988م، ص 67.
(15) انظر: محاضرة (الإعلام والعولمة في القرن الحادي والعشرين) .
(16) انظر: جريدة الاتحاد، الإمارات، العدد (9033) ، 29/3/2000، ص 13.
(17) جريدة الخليج، الإمارات، العدد (7628) ، 7/4/2000م، ص 4.
(18) إثارة الرعب والفوضى من أهم أساليب الاستعمار النفسي الحاسمة، انظر: الحرب النفسية والشائعات، د معتز سيد عبد الله، دار غريب، القاهرة، 1997م، ص 129.
(19) جريدة الخليج، الإمارات، العدد (7635) ، 24/3/2000م، ص 1.
(20) جريدة البيان، الإمارات، العدد (7219) ، 24/3/2000م، ص 1، وكانت أول وثيقة رسمية أعلنها البابا (يوحنا بولس الثاني) في شأن محرقة اليهود المزعومة هذه بتاريخ 16/3/ 1998م، وذلك تحت ضغط مجموعات يهودية كشرط لتحسين العلاقات بين الكنيسة واليهود.
(21) أحمد نوفل، الإشاعة، دار الفرقان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1403هـ، ص 324.
(22) صلاح نصر، أضواء على الحرب النفسية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، د ت، ص 123.
(23) المرجع السابق، ص 327.
(24) انظر: د معتز سيد عبد الله، الحرب النفسية والشائعات، دار غريب، القاهرة، 1997م،
ص 67.
(25) المرجع السابق، ص 98.
(26) انظر: المرجع السابق، ص 99، وما بعدها، وأحمد بدر، الاتصال بالجماهير والدعاية الدولية، دار القلم، الكويت، 1974م، ص 225، 226.
(27) انظر: د معتز سيد عبد الله، الحرب النفسية والشائعات، ص 129، وموسوعة علم النفس الشاملة، 7/58.
(28) انظر: د معتز سيد عبد الله، الحرب النفسية والشائعات، ص 129، وموسوعة علم النفس الشاملة، 7/58.
(29) انظر: حامد عبد السلام زهران، علم النفس الاجتماعي، عالم الكتب، القاهرة، طبعة خامسة، 1984م، ص 396 وما بعدها، ومحمد خضر الداقوقي، الإشاعة والحرب النفسية، منشورات المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، 1410هـ، ص 353، وما بعدها.
(30) د معتز سيد عبد الله، الحرب النفسية والشائعات، ص 162.
(31) محمود السيد أبو النيل، علم النفس الاجتماعي، دراسات عربية وعالمية، الجهاز المركزي للكتب الجامعية والمدرسية والوسائل التعليمية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1978م، ص 293.
(32) انظر: د معتز سيد عبد الله، الحرب النفسية والشائعات، ص 166 168.
(33) انظر: موسوعة علم النفس الشاملة، 7/58.
(34) مثلما حدث في البوسنة والهرسك وكوسوفا، ومثلما يحدث للعراق الآن من حصار وحرب استنزافية، وكذا الشيشان.
(35) زياد أبو غنيمة، السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية، دار عمار، الأردن،
1989م، ص 123.
(36) كانت تصريحاته هذه أثناء زيارته لإسرائيل وأراضي السلطة الفلسطينية يوم الخميس
24/2/ 2000م، انظر: جريدة الاتحاد، الإمارات، العدد (9003) ، 28/2/2000م.
(37) انظر: جريدة البيان، الإمارات، العدد (7257) ، 1/5/2000م، ص 2.
(38) انظر: د محمد سيد محمد، الغزو الثقافي والمجتمع العربي المعاصر، دارالفكر العربي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1415هـ 1994م، ص 233 235.
(39) هناك وسائل أخرى للغزو الفكري والثقافي، مثل: التعليم، والمنظمات من علمانية وماسونية واستشراقية إلخ، انظر: المرجع السابق، ص 51 وما بعدها.
(40) انظر في تعريف (الصدمة الثقافية الاحتواء الثقافي الذوبان الثقافي الانحلال الثقافي) : سامي خشبة، مصطلحات فكرية، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1994م، ص 351، 42، 72، 80 على الترتيب.
(41) انظر: سامي خشبة، مصطلحات فكرية، تعريفه (التعامل الثقافي) ، ص 73.
(42) انظر في تعريفه: موسوعة علم النفس الشاملة، 5/213.
(43) قد تم ذلك في تركيا على يد (مصطفى كمال أتاتورك) بعد أن ألغيت الخلافة العثمانية رسمياً في شهر مارس عام (1924م) ، انظر: د محمد سيد محمد، الغزو الثقافي والمجتمع العربي المعاصر، ص 141.
(44) انظر: المرجع السابق، ص 126، وما بعدها.
(45) مثلما أشيع عن بعض الشخصيات الإسلامية الداعية عن عدم التزام بناتهم ونسائهم باللباس الشرعي والخلق الإسلامي، انظر: أحمد نوفل، الإشاعة، دار الفرقان، عمان، 1403هـ،
ص 87، 88.
(46) رواه الحافظ السلفي بسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.
(47) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت
د ت، ص 203.
(48) انظر: د محمد سيد محمد، الغزو الثقافي والمجتمع العربي المعاصر، ص 233، 234.
(49) انظر: المرجع السابق، ص 241 وما بعدها.
(50) انظر: جريدة الخليج، الملحق الاقتصادي، الإمارات، العدد (7617) ، الجمعة
27/3/ 2000م.(163/119)
بأقلامهن
وإذا مرضت فهو يشفين
فاتن بنت سعد الصويلح
تتقلب صفحات الحياة وتتعدد الأحداث التي تمر على الإنسان، فينال منها ما
ينال و «هل تجيء الأيام بما نحب؟ ما أكثر العواصف التي تهبُّ علينا، وتملأ
آفاقنا بالغيوم المرعدة، وكم يواجَه المرء بما يكره، ويُحرم ما يشتهي» [1] . ومن
تلك الأحداث والعواصف التي تواجه الإنسان «المرض» فلا يكاد يخلو إنسان من
عارض يمر به، فيصاب بمرض أو يوجد عنده من يمر بمرض من الأمراض التي
لا يملك داءها ودواءها إلا الله - سبحانه وتعالى -: [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]
(الشعراء: 80) .
ومن منا في هذه الحياة لم يصب بغالٍ أو حبيب؟ ومن منا في هذه الحياة لم
يتجرع آلام من يراهم أمامه يتقلبون تحت جمرة المرض؟ ولكن السؤال: «هل
أدينا أنا وأنت حقاً من حقوق هذا المريض؟» منا من عرف واجبه فأدَّاه، ومنا
هداهم الله من لا يهتم فيترك مرضاه أسرى الهموم والغموم والأحزان. وكم من
المرضى من عرف حقيقة من هم حوله فبكى بكاءاً مراً لضياع عمره معهم. وقد
تطول ساعة المحنة على ذلك المريض، وقد تشتد ويزداد الظلام، وتتلبد السماء
بالغيوم لتمتد إلى ساعة يعلن فيها المريض عن انتهاء رحلته من الحياة وقد ودعها،
وهناك من فرَّط وأهمل في حق هذا المريض. ثم ماذا؟ يأتي ليسكب الدموع الحارة
أسفاً وحزناً على تقصيره في حق ذلك المريض، وقد كان لديه متسع من الوقت،
ولكنه كان يسوِّف في حق مريضه، كان يسوِّف حتى في الكلمة الطيبة والابتسامة
الصادقة والدعاء له في ظاهر الغيب.
وكلماتي لأولئك الذين لديهم متسع من الوقت ليعيشوا مع المريض ولو لدقائق
معدودة سواء كانوا أقرباء أم أطباء أم إخوة في الله، ثم كلمات لذلك المريض شفاه
الله وعافاه.
إن هذه الكلمات لم تجئ لتدغدع المشاعر، أو لتعزف على أوتار حساسة، أو
لتسطر كلمات لا تتصل بالواقع ولا تعايشه «لا والله» نحن مسلمون؛ والمسلم
يهتم بأمر المسلمين وبكل ما يكدر صفو حياتهم أو يسعدهم، يسعى بقدر ما يستطيع
على أن يساعدهم ويمد يد العون لهم «من حق أخيك عليك أن تكره مضرته وأن
تبادر إلى دفعها، فإن مسَّهُ ما يتأذى به شاركته الألم، وأحسست معه بالحزن. أما
أن تكون ميت العاطفة قليل الاكتراث؛ لأن المصيبة وقعت بعيدة عنك فالأمر لا
يعنيك، فهذا تصرف لئيم، وهو مبتوت الصلة بمشاعر الأخوة الغامرة التي تخرج
بين نفوس المسلمين، فتجعل الرجل يتأوه للألم ينزل بأخيه مصداق قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم:» مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى « [2] ، والتألم الحق هو
الذي يدفعك دفعاً إلى كشف ضوائق إخوانك، فلا تهدأ حتى تزول غمتها، وتُدبر
ظلمتها، فإذا نجحت في ذلك استنار وجهك، واستراح ضميرك» [3] .
والإنسان في هذه الحياة لا يعيش وحده وإنما في مجتمع يضم صوراً متعددة
لأناس سلبيين وإيجابيين، والمسلم يسعى دائماً إلى أن يكون إيجابياً في تعامله
وتعايشه مع الآخرين حتى وإن اختلفت الديانة أو الملة، يحدوه في ذلك ويدفعه حبه
لدينه. وتعايش المسلم مع أخيه المريض ومواساته له جزء من ذلك؛ فهو كالمنقذ
للغريق - بإذن الله - نعم قد لا يستطيع أن يشفيه؛ فالشفاء بيد الله ولكن يستطيع أن
يدعو له، يستطيع أن ينقذ عقيدته من مياه اليأس والعجز والقنوط، ويوقد شعلة
الإيمان في قلبه، يستطيع أن يبذل له ولذويه ولكل من هم حوله ما يستطيع بالكلمة
وغيرها، فلا يقف عاجزاً أو يائساً؛ فمنه بذل الأسباب ومن الله الأجر والمعونة
والشفاء.
كيف تعيش مع مريضك وتغيّر واقعه الذي يعيش فيه؟
يستطيع «القريب من أهل المريض أو الأخ في الله أو الطبيب» أن يتخطى
حواجز المريض وحدوده إذا استطاع أن يشعره بقيمة وجوده وأعطاه الثقة بالله
بالكلمة الصادقة المرجو بها وجه الله يستطيع متى ما ساعد ذلك المريض على رؤية
الأشياء من حوله بوضوح تام خالياً من سحابة الخوف والجزع وظلمة اليأس،
والإنسان كلما ارتقى بنفسه ارتقت همته وصغرت في عينه كل الصعاب وسهلت.
ولا ننكر دور الحالة النفسية للمريض وغير المريض؛ والسؤال: كيف تعيش مع
مريضك وتغيِّر واقعه الذي يعيش فيه؟ وكيف تكسر حواجزه وحدوده؟ يمكن أن
يستحق ذلك بإذن الله بأمور أوجهها إليك، ومنها:
1 - عُدْه، واسأله عن حاله، واسأل أهله عنه:
فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني» [4] ، ولقد عاد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ فعن ابن المنكدر سمع جابر بن عبد الله يقول:
«مرضت مرضاً، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما
ماشيان» [5] وما من شك في أن عيادة المريض تحقق الإيجابيات التي يسعى من
هم حول المريض إلى إيجادها وتحقيقها. وإيجابيات عيادة المريض كثيرة منها:
أولاً: إيناس المريض وامتلاك قلبه وشعوره بقيمته لدى الآخرين؛ وكما قيل:
«الصديق وقت الضيق» .
ثانياً: إحساس الأسرة بمكانتها بين الناس ومدى احترامهم لها وحرصهم على
السؤال عن مريضها.
ثالثاً: الحصول على الأجر والثواب.
وإن تعذرت العيادة ففي مهاتفة المريض أو مكاتبته دور كذلك؛ لكن عيادته
هي أقواها وأحبها إلى نفس المريض، وإن لم تتجاوز دقائق معدودة؛ ففيها عاطفة
صادقة وإحساس بمشاعر غامرة وخلق فاضل وأدب من الآداب التي يتحلى بها
المسلم؛ فعيادة المريض «من الآداب الاجتماعية، وهي حق من حقوق المسلم على
أخيه؛ لأن المريض بحاجة ماسة إلى من يواسيه ويسليه ويتفقد أحواله، ويساعده
إذا احتاج إلى مساعدة، وهذا الأدب يرتبط بخلق العطاء عند المسلم، وهو يعبر
تعبيراً صادقاً عن مبلغ التآخي بين المسلمين ويوثق الصلة بينهم، ويزيد من وشائج
المحبة، وأواصر المودات لا سيما إذا لاحظنا أن حالة المريض فيها من الانكسار
النفسي ما يجعله رقيق الحاشية، فيّاض العواطف مُهيّأ نفسياً للتأثير عليه وامتلاك
مشاعر المحبة في قلبه، والمحبة متى وجدت في طرف سرت غالباً إلى الطرف
الآخر بقوة نفاذها وقوة عدواها» [6] .
وإذا ما عدت المريض فلا تغفل عن اتباع هدي المصطفى صلى الله عليه
وسلم في طريقة السؤال والدعاء وإيناس المريض. قال ابن القيم - رحمه الله
تعالى - في زاد المعاد: «كان صلى الله عليه وسلم يعود من مرض من
أصحابه ... وكان يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه، ويسأله عن حاله فيقول:
كيف تجدك؟ وذُكِرَ: أنه كان يسأل المريض عما يشتهيه، فيقول:» هل تشتهي
شيئاً؟ « [7] فإذا اشتهى شيئاً وعلم أنه لا يضره أمر به، وكان يمسح بيده اليمنى
على المريض، ويقول:» اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشفه أنت الشافي،
لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً « [8] ، وكان يدعو للمريض ثلاثاً كما قال
لسعد:» اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً « [9] وكان إذا دخل
على المريض يقول له:» لا بأس طهور إن شاء الله « [10] ، وربما كان يقول:
» كفارة وطهور « [11] . وكان يرقي من به قرحة أو جرح، أو شكوى، فيضع
سبابته بالأرض ثم يرفعها ويقول:» بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى
سقيمنا، بإذن ربنا « [12] [13] .
2 - استمع إلى شكواه ورغبه أو ادفعه للتعبير عن نفسه وما يعاني منه:
وشكوى المريض إذا لم تكن على وجه السخط والضجر أو رد القضاء والقدر
فهي ليست مذمومة؛ فربما عبر لك عما يعانيه وهو يرجو منك كلمة تخفف مصابه
وتهون عليه وقع الألم أو يرجو منك دعوة في ظاهر الغيب وخاصة إذا كنت من
المقربين إليه. والرسول صلى الله عليه وسلم عندما شكى له أصحابه الحمى التي
أصابتهم لم ينكر عليهم شكواهم» استأذنت الحمى على النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: من هذه؟ قالت: أم مِلْدَم. قال: فأمر بها إلى أهل قباء، فلقوا منها ما يعلم
الله، فشكوا ذلك إليه، فقال: ما شئتم، إن شئتم أن أدعو الله لكم فيكشفها عنكم،
وإن شئتم أن تكون لكم طهوراً. قالوا: يا رسول الله! أو تفعَل؟ ! قال: نعم.
قالوا: فدعها « [14] ، ووجه الدلالة منه أنه لم يؤاخذهم بشكواهم، ووعدهم بأنها
طهور لهم [15] .
ومن حق المريض على الطبيب خاصة إذا شكى له أن يبث روح الأمل في
نفسه ويعده بمساعدته حتى ولو كانت الحالة ميئوساً منها؛ فالله لا يعجزه شيء،
وأن يراعي التدرج في إخبار المريض عن طبيعة شكواه، وما المرض الذي يعانيه.
وتبلغ أهمية التدرج مبلغها إذا كانت الحالة شديدة أو خطرة وأن لا يتعجل؛
فالصراحة المؤلمة والمستعجلة والخالية من الأمل والثقة بالله تسبب انهيار المريض
نفسياً، وليتذكر الطبيب المسلم أن هذا المريض مزيج من أحاسيس ومشاعر
يستطيع أن يمتلكها كما يمتلك أغلى شيء عنده.
3 - علِّمه كيف يتلقى الأحداث بكل صبر واحتساب، وذكِّره بالأجر،
والثواب:
فعن عائشة - رضي الله عنها - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا
يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة « [16]
وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:» يكفّر عن المسلم حتى بالنكبة،
وانقطاع شسعه، وحتى البضاعة، يضعها في كمه، فيفقدها، فيفزع فيجدها في
صحيفته « [17] ، ورغِّبه - رعاك الله - بالخير العاجل في الدنيا من حصول سعادة
النفس وطمأنينتها ورضاها بما قدر، ووعد الله للصابرين وحبه لهم، وما أعده الله
لهم في الدنيا والآخرة [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 146) .
4 - إذا رأيت منه خوفاً أو جزعاً فأثنِ عليه:
بذكر أعماله الفاضلة - مهما قلَّت - ليذهب خوفه، وليحسن ظنه بالله، وحتى
لا يضعف كذلك توكله على الله سبحانه وتعالى.
5 - للقصة أثر كبير على حياة الإنسان [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي
الأَلْبَابِ] (يوسف: 111) يأخذ منها العظة والعبرة؛ فلا تغفل عن هذا الجانب
وأهميته:
وينبغي أن يكون ذلك مع مراعاة دقة الخبر وصحة النقل، وخير القصص ما
كانت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم» ومتى أيقن العباد أن ما
يتلى عليهم من قصص القرآن وما بلغهم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
كله حق وصدق، فإنه سيكون له أثر عظيم في تقويم نفوسهم، وتهذيب طباعهم،
وأخذهم العبر والعظات من هذه القصص « [18] ، وكذلك قصص السلف ومدى
صبرهم، والمعاصرين من أهل العلم وغيرهم.
6 - ذكِّره بالتوبة من الذنوب والمعاصي ورد الحقوق والمظالم:
وتجديد التوبة مأمور بها المريض والمعافى» لأن التوبة مطلوبة في كل
حال « [19] ، وتذكيره يمكن أن يكون بالتصريح أو بالإشارة غير المباشرة أو
بالقصة وغير ذلك.
7 - لا تغفل عن أهمية تبصيره بالأحكام المتعلقة بالمرضى:
كالصلاة والطهارة وغير ذلك فإذا» كان المريض من ذوي العلم الذين
يعرفون، فلا حاجة أن تذكِّره؛ لأنه سيحمل تذكيرك إياه على إساءة الظن به، وأما
إذا كان من العامة الجُهال فهنا حين أن يبين له « [20] وعلى الطبيب أن لا يغفل
عن أهمية وجود» التراب «للتيمم لمن يعجز عن الماء، وتنبيه إدارة المستشفى
في ضرورة توفيره في الأقسام التي يحتاج فيها مرضاها إلى استخدام» التراب «
للتيمم.
8 - حاول قدر استطاعتك في جعله يشترك معك في اهتماماتك وأعمالك:
حتى يخرج من الدائرة المغلقة التي يعيش فيها، وحاول أن تستشيره في
بعض الأمور، واجعله يساعدك ولو بأقل القليل» وذلك راجع لمقدرة المريض
وتقديرك أنت لحالته، والوقت الذي يستطيع فيه المساعدة أو المشورة «.
وختام هذه الأمور: يا أيها القريب - أو الأخ أو الطبيب - سل الله العفو
والعافية، واحمد الله على نعمه التي لا تحصى. وقبل أن أختم هذه الأمور قد يقول
قائل: كيف يمكن للطبيب أن يفعل كل هذا؟ يستطيع أن يفعل إذا قصد ابتغاء
الأجر؛ فكما أن العبادة قد تنقلب إلى عادة فكذلك العادة تنقلب عبادة إذا قصد بها
وجه الله.
إلى من ذاق حرارة المعاناة.. إلى المريض!
هل تعاني وتقاسي؟ .. هل قلبتك صفحات الحياة وأرتك وجهاً غير الوجه
الذي أنت تعرفه؟ وهل خضت التجربة وقست درجة حرارة المعاناة والألم؟ وهل
أيقنت أنك لست أنت الوحيد في هذا العالم الذي يعاني، هناك من هم مثلك يسيرون
على نفس دربك يلتمسون الخطا علَّهم يجدون دواءاً شافياً، هل علمتك التجربة
» تجربة المرض «أن تصبر وترضى وتسلم علَّ ذلك يثقل الميزان ويمحو شيئاً
مما كان؟ هل عرفت قيمتك عند من هم يهتمون بأمرك ومن هم يتمنون لو أن
الصحة والعافية تهدى لأهدوك ما تفتقد منها في زمن قلَّ أن تجد من يعيش معك
آلامك وأحزانك، ولا أبخس الطيبين من عباد الله حقهم.
تذكر يا من ذاق حرارة المعاناة أن» الإنسان في حياته يكون أقرب إلى الله
حين يمرض؛ ذلك أنه يحس بنعمة الله، وكلمة (آه) التي يقولها الإنسان وهو يتألم
كلمة فطرية يفزع بها الإنسان إلى خالقه؛ لأنه هو الذي وهبه وهو الذي يستطيع أن
يشفي؛ فإذا ما استرد الإنسان صحته استرد معها افتراءه ونسي النعمة؛ لأن
الإنسان يفقد الأثر بالنعمة ما دامت هي موجودة وهي ممنوحة له من الله دون أن
يتعب أو أن يجهد. إذن فقيمة الأحداث التي تصيب الإنسان في نفسه أو تحيط به
من نعم إنما هي تذكرنا بالخالق - سبحانه وتعالى - الذي أعطانا هذه النعمة؛ ولولا
تلك الأحداث والأزمات لمضينا في حياتنا أو لمضى الكثير منا في حياته وهو لا
يحس بنعم الله عليه « [21] ، ونعم الله - عز وجل - كثيرة ومتعددة ثم بعد ذلك هل
يمكن أن تدوم هذه النعم؟ وهل يمكن أن تكون الأيام بكل ما فيها لنا ومعنا دائماً؟
بالطبع لا؛ وهذا محال، وهل يمكن أن تكون كلها مسرات؟ لا؛ فقد يصاب
الإنسان في نفسه أو في ماله أو في دينه ولكنه يصبر ويحمد الله على كل حال
ويتعامل مع مصائبه تعاملاً خاصاً.
اكتشافات ينعم بها المريض:
- المرض نعمة: من حيث إنه يعرفك بقيمة نفسك ويبصرك بعيوبك وأنك
مخلوق ضعيف لا تستطيع رد ما أنت فيه؛ فأنت ضعيف أمام قدرة الله قد خارت
قواك وأصبحت في حال غير الحال التي كنت عليها؛ تلك الحال التي ربما قد
طغيت فيها أو تكبرت واستعليت، فجاء هذا المرض وإن قلَّ ليعرفك بقيمة نفسك.
قال - تعالى -: [كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى] (العلق: 6) .
- المرض نعمة: حيث إنه يعرفك بمعادن الناس الأوفياء ومدى حبهم
وإخلاصهم لك وما يبذلونه لك من النصح والتذكير بالله وإرشادك إلى طريق العلاج
المشروع، وربما حظيت بدعوة في ظاهر الغيب يرددونها ليل نهار؛ فهم كالذهب
لا يصدأ.
- المرض نعمة: من حيث أنه يذكرك بالله ويلجئك إليه؛ فمن ذا الذي دعاه
فرده؟ ومن ذا الذي سأله ولم يعطه وكل شيء بيده - سبحانه -؟ : [وَإِن يَمْسَسْكَ
اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] (يونس: 107) .
- المرض نعمة: من حيث إنه كالنار التي تنقي الذهب مما علق به والتصق
تُكفر به خطاياك، وتُمحى به ذنوبك، وترتفع به درجتك» إن الرجل لتكون له
عند الله المنزلة العالية، فما يبلغها بحسن عمله، فلا يزال الله يبتليه بما يكره،
حتى يبلغه إياها « [22] .
- المرض نعمة: من حيث إنه يذكرك بإخوة في الله من المسلمين يعانون
مثلما تعاني، وربما أشد وأقسى من قتل وتشريد وتعذيب واضطهاد، وربما يبحث
الواحد منهم عن دواء أو حتى ماء يسد به رمقه فلا يجده؛ ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
كيف تتعامل مع مرضك؟
1 - ضع نصب عينيك أن الابتلاء لا بد منه؛ ولكن تعاملنا نحن مع هذا
الابتلاء يختلف من شخص إلى آخر قال - تعالى -: [وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ
الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ] (البقرة: 155-157) ، يقول الشرباصي في هذه
الآية:» أنتم جميعاً ستبتلون بشيء من هذا الابتلاء، أو ذاك، أو ذاك ولكنكم لن
تكونوا سواء في تحملكم التبعات والمسؤوليات في هذا الابتلاء؛ فمنكم من يصبر،
ومنكم من لا يصبر، ومنكم من يسترجع، ومنكم من لا يسترجع. إن الابتلاء نازل
بكم جميعاً، ولكن صنفاً خاصاً منكم هو الذي يستحق الثمرة الطيبة: [وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ] (البقرة: 155) وكأن هذا إيحاء إلى الإنسان بأنه ما دام سيتعرض
للابتلاء، وما دام سيصيبه ما قدر له من لون أو ألوان هذه الابتلاءات، فمن الخير
له أن لا يجزع ما دام الابتلاء واقعاً سواء رضي أم أبى، وما دام سينال أجر
الابتلاء وافق أم لم يوافق، فخير له أن يكون من الصنف الطيب [وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ] (البقرة: 155) « [23] .
2 - أبعد التشاؤم عنك، ولا تغمض عينيك حتى لا ترى سواداً حالكاً من
الهموم والأحزان؛ فتعيش منطوياً على نفسك بعيداً عن أنظار الآخرين تتوقع في
كل لحظة الموت والمصير الأخير، ولا تترك أيها المريض هذه الأوهام والأحزان
تسري إلى قلبك وتغطي عقلك لتترك مجالاً لوساوس الشيطان وتسبب لك أمراضاً
أخرى وهمية ناتجة عن ضعفك وتشاؤمك. يقول السعدي - رحمه الله -:» ألم
تعلموا أن ضعف القلب وكثرة أوهامه هو الداء العضال، وقوة القلب مع التوكل
على الله صفة أقوياء الرجال؟ فكم من أمراض خفيفة صيرتها الأوهام شديدة؟ وكم
من معافى لعبت به الأوهام فلازمه المرض مدة مديدة؟ وكم ملئت المستشفيات من
مرضى الأوهام والخيالات؟ وكم أثَّرت على قلوب كثير من الأقوياء، فضلاً عن
الضعفاء في كل الحالات؟ وكم أدت إلى الحمق والجنون. والمعافى من عافاه من
يقول للشيء كن فيكون؛ فصحة القلوب هي الأساس لصحة الأبدان، ومرض
القلوب هو المرض الحقيقي « [24] .
أنا لا أنكر أن الإنسان يمر في مرضه بحالة نفسية تضيق أمامه الدنيا ولكنه
متى ما ترك لنفسه المجال في التفكير أدى ذلك إلى ضيق وتمنٍ للموت، بل يصل
الحال عند البعض إلى أن يُقدِم على الانتحار. قد يتمنى الإنسان الموت لضغوط
يمر بها ويَدعو على نفسه ولا يدري» ربما يموت إلى عقوبة وعذاب قبر، وإن
بقي في الدنيا فربما يستعتب ويتوب ويرجع إلى الله فيكون خيراً له « [25] والرسول
صلى الله عليه وسلم قال:» لا يتمنَّين أحدكم الموت من ضر أصابه؛ فإن كان لا
بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً
لي « [26] .
3 - فتش في نفسك عن سبب مرضك وعالجه من الناحية» المادية «
بالوسائل المشروعة، ولا تهمل ذلك، وابحث عن الدواء؛ فلكل داء دواء إلا
الموت، واحرص على اختيار الطبيب المسلم التقي إن قدرت، وإن قدر لك وكان
طبيبك غير ذلك فاحذر ذلك الصنف منهم الذي بكلماته تضعف النفس ويقوى هاجس
الخوف من المرض، ولا أبخس الأطباء حقهم ولكن» لكل قاعدة شواذ «؛ فلقد
وجد من هم على غير الإسلام يتمثلون أو يمثلون ذلك الصنف.
ومن الناحية» المعنوية «حاسب نفسك وكن منصفاً، وإياك أن تجاريها أو
تخدعها» فينبغي إذن لمن أصابته ضراء أو مسته بأساء أن يبحث أولاً عن سبب
ذلك في نفسه ويحاسبها ويعاتبها، قال - تعالى -: [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ] (النساء: 79) ، وقال - تعالى -: [وَمَا
أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ] (الشورى: 30) فإن غُمَّ عليه ولم يعرف
لذلك سبباً، فلا تجعل للحزن عليه سبيلاً إلى قلبه، بل يرجع إلى السياسة الإلهية
العليا، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه « [27] . ثم
إياك وتلك العبارات التي تعبر عن سخط وضجر كقول القائل:» يا ربي ماذا فعلت
حتى تفعل بي هكذا؟ ! «فأنت لا تدري ما الحكمة من وراء هذا المرض.
يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:» إذا أصيب الإنسان بمرض فالله
لم يرد به الضر لذاته، بل أراد المرض، وهو يضره، لكن لم يرد ضرره، بل
أراد خيراً من وراء ذلك، وقد تكون الحكمة ظاهرة في نفس المصاب، وقد تكون
غير ظاهرة في غيره، كما قال - تعالى -: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (الأنفال: 25) ، فالمهم أنه ليس لنا
أن نتحجَّر حكمة الله؛ لأنها أوسع من عقولنا، لكننا نعلم علم اليقين أن الله لا يريد
الضرر لأنه ضرر؛ فالضرر عند الله ليس مراداً لذاته، بل لغيره ولا يترتب عليه
إلا الخير « [28] .
4 - أكثِرْ من الذكر والاستغفار. قال علي - رضي الله عنه -:» ما ألهم
الله سبحانه عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه « [29] ، وقال - تعالى -: [وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] (الأنفال: 33)
فأخبر أنه لا يعذب مستغفراً؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب،
فيندفع العذاب، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» من لزم
الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث
لا يحتسب « [30] وقد قال - تعالى -: [أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ
وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى
وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ] (هود: 2-3) . فبين أن من وحَّده واستغفره، متعه
متاعاً حسناً إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيراً زاده من فضله» [31] .
5 - عليك بالضراعة والدعاء بقلب خاشع وعين باكية في أن يشفيك الله،
واحرص على تحري أوقات الإجابة، وأقبل على الله وأثن عليه وناجه بأسمائه
الحسنى «ويستحب أن يقدم بين يدي دعائه صدقة، من طيبات رزقه، وأحب ماله
إليه» [32] .
6 - إن المرض لا يعني انتهاء دورك في الحياة؛ فإن كان الله قد أخذ منك
شيئاً فقد ترك لك أشياء؛ فالمؤمن في حركة دائمة لا يتوقف وإن عرض له عارض
عالجه وأكمل المسير. وخير مثال على ذلك حَبْرُ الأمة ابن عباس - رضي الله
عنه - عندما فقد عينيه؛ فماذا قال؟ لقد قال:
إن يأخذِ اللهُ من عينيَّ نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نورُ
قلبي ذكي، وعقلي غير ذي دَخَلٍ ... وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثورُ [33]
7 - حافظ على الفرائض ولا تفرط فيها: «بقدر استطاعتك، مع سؤال
أهل العلم فيما أشكل عليك» وأكثر من أنواع البر والإحسان، وإن وجد من يقوم
بذلك عنك فدله عليه، وابتعد عن كل ما يضر العقيدة كالذبح لغير الله، وتعليق
التمائم والاستعانة بالجن، والذهاب إلى السحرة والمشعوذين.
8 - حاول أن تشغل نفسك «وقت هدأة مرضك» بما ينفعك وبقدر
استطاعتك «وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه،
فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود» [34] ، فإن في إشغال نفسك ولو بأقل القليل
دفعاً للوساوس والهموم الناشئة عن كثرة التفكير في المرض.
9 - تذكر دائماً أيها المريض أن هذه الوصايا هي من صميم الواقع ولم تأت
خارجة عنه؛ فكم من أناس عانوا المرض ولكن بقوة الإيمان وأخذ الأسباب عَلَت
هممهم فأصبح المستحيل قابلاً للتطبيق.
يقول أحد الأطباء: «في يومٍ جاءني جريح مصاباً بلَغَم في قدمه، وقد حمله
المجاهدون من منطقة بعيدة واستمروا ما يزيد عن يومين يحملونه على أحد البغال
وسط الجبال حتى جاؤوا به، فوجدت جرحه متعفناً وبحاجة إلى إجراء عملية
سريعة لتلافي حدوث مضاعفات أخرى، واحترت في الأمر فلم يكن عندي بنج
يصلح لإجراء العملية في هذا المكان، ولاحظ مرافق الجريح حيرتي، فقلت له: لا
بد له من إجراء عملية بتر الآن حتى لا تحدث مضاعفات والطريق لا زال أمامكم
طويل إلى كويته [35] ، حيث توجد المستشفى الكبير، لكن لا يوجد عندي بنج
لإجراء العملية، فالتفت إلى الجريح وتحدث معه في الأمر ثم فوجئت بالجريح
يطلب مني إجراء عملية البتر بدون بنج فقلت له كيف؟ قال: كما أقول لك! فقلت
له: وكيف تقوى على تحمل الألم؟ فنظر إليّ بإشفاق ولم يتكلم وإنما أشار إليّ بأن
أبدأ في عملي» .
إلى أن قال: «استغرقت العملية ما يزيد عن ساعة ما خرجت فيها من فم
المجاهد الجريح تأوهة واحدة؛ بل كان يلهث بذكر الله طوال الوقت. أنهيت
إجراءاتي وأغلقت الجرح، ثم نظرت إلى وجه الجريح، فابتسم، وما لبث أن دخل
في نوم عميق، أحسست بعد ذلك أني لم أكن أتعامل مع إنسان أو بشر، وأدركت
أن الله قد خلق أناساً يرتقون بأنفسهم فوق طبائع البشر ليثبتوا للعالم أن غير الممكن
يصير ممكناً لو ارتقى الإنسان بنفسه إليه» [36] .
وفي آخر المطاف:
ستظل الكلمات عاجزة مهما عبرت، وستقف حائرة مهما حاولت، ولكنه جهد
مقل لعله يكون فيه عون لمرضانا على طاعة الله، شفى الله مرضى المسلمين،
وفرَّج كربهم، وأعلى درجتهم في جنانه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) جدد حياتك، محمد الغزالي، ص 47.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم 6011، ومسلم، كتاب البر، باب تراحم المؤمنين، رقم 2586، واللفظ له.
(3) خلق المسلم، محمد الغزالي، ص 179.
(4) رواه البخاري، كتاب المرضى، باب، وجوب عيادة المريض، رقم (5649) ، فتح الباري،
ج 10/112.
(5) رواه البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة المغمى عليه، رقم (5651) ، فتح الباري،
ج 10/114.
(6) الأخلاق الإسلامية، الميداني، ج 2/ 207.
(7) أخرجه ابن ماجه، رقم 3441، وضعفه النووي في (الأذكار) ، ص 207.
(8) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 5743.
(9) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب: وضع اليد على المريض، رقم 5659، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، رقم 1628.
(10) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب: ما يقال للمريض، وما يجيب، رقم 5662.
(11) أخرجه أحمد في المسند، (3/250) .
(12) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب: رقية النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 5745.
(13) زاد المعاد، ج 1/ 496.
(14) أخرجه أحمد في المسند، رقم 13984.
(15) البخاري، فتح الباري، ج 10/110.
(16) الزهد، للإمام الزاهد هناد بن السدي الكوفي، تحقيق محمد أبو الليث، ج 1/508.
(17) المصدر السابق، ج 1/ 511.
(18) صحيح القصص النبوي، عمر الأشقر، 14.
(19) الشرح الممتع على زاد المستقنع، ابن عثيمين، ج 5/ 312.
(20) الشرح الممتع على زاد المستقنع، ابن عثيمين، ج 5/ 299.
(21) معجزة القرآن، محمد متولي الشعراوي، 7.
(22) الزهد، للإمام الزاهد، هناد بن السري الكوفي، ج 1/ 488.
(23) يسألونك في الدين والحياة، الشرباصي، ج 3/ 271.
(24) الفواكه الشهية في الخطب المنبرية، السعدي، 253.
(25) شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين، ج 1/ 186.
(26) رواه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت رقم الحديث 5671، فتح الباري
ج 10/127.
(27) مجلة المسلمون، العدد الثاني، ص 37.
(28) القول المفيد على كتاب التوحيد، 342.
(29) إحياء علوم الدين، الغزالي، ج 1/ 313.
(30) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، رقم 1518، ابن ماجه، كتاب الأدب، رقم 3819.
(31) الفتاوى، ابن تيمية، ج 8/ 163.
(32) فتاوى العلماء في علاج السحر والمس والجن، نبيل محمود، 80.
(33) سير أعلام النبلاء، ج3/ 357.
(34) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، السعدي، 17.
(35) مدينة باكستانية.
(36) امرأة من أفغانستان، أحمد منصور، ص 24.(163/129)
مسابقة اللجنة التعليمية في المنتدى الإسلامي
لعام 1422هـ
تعلن اللجنة التعليمية بالمنتدى الإسلامي عن إجراء مسابقة بحوث وفقاً لما يلي:
1 - يكتب الباحث في أحد الموضوعين الآتيين:
الموضوع الأول: التعليم الإسلامي في إفريقيا.
الموضوع الثاني: التعليم الإسلامي في إحدى الدول الإفريقية (يختار
الباحث دولة معينة يجري عليها البحث) .
2 - تشمل أهم عناصر البحث ما يلي:
نشأة التعليم الإسلامي، المؤسسات القائمة عليه، حجمه، دور خريجيه،
اتجاهاته المذهبية، مواطن القوة، مواطن الضعف، المعلمون والمناهج، مستقبل
التعليم الإسلامي وكيف ننهض به.
3 - يراعى في البحث الاعتماد على المنهج العلمي، وتوثيق المعلومات،
والبعد عن الاعتماد على الآراء الشخصية.
4 - الاعتناء بالإحصاءات والأرقام المهمة.
5 - يرسل البحث إلى صندوق بريد المجلة في الرياض 11496 ص. ب:
26970، أو بواسطة البريد الإلكتروني (com.albayan@hotmail) ، أو
يسلم لأحد مكاتب المنتدى أو المجلة.
6 - آخر موعد لتسلُّم البحوث هو نهاية شهر جمادى الثانية 1422هـ.
وسوف يصرف للفائزين الجوائز الآتية:
* الفائز الأول: 1000 دولار، وجميع مجلدات مجلة البيان.
* الفائز الثاني: 750 دولار، وجميع مجلدات مجلة البيان.
* الفائز الثالث: 500 دولار، واشتراك لمدة سنتين في مجلة البيان.
* الفائز الرابع: 400 دولار، واشتراك سنوي في مجلة البيان.
* الفائز الخامس: 300 دولار، واشتراك سنوي في مجلة البيان.
* من الفائز السادس إلى العاشر: 200 دولار، واشتراك سنوي في مجلة
البيان.(163/138)
المنتدى
أفلا يتدبرون القرآن
سالم فرج سعد
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (العقيدة الواسطية) : «من تدبر القرآن طالباً
للهدى منه تبيّن له طريق الحق» .
الحياة مع القرآن لها طعم خاص، وإحساس خاص، لا يدرك حقيقة تلك
الحياة القرآنية إلا من أنار الله بصيرته فوفقه للتأمل في آياته، والتفكر في كلامه
المنزّل على خير خلقه، وصفوة رسله صلى الله عليه وسلم.
إن تدبر القرآن عبادة حثنا الله عليها لما تشتمل عليه من حِكَم وفوائد تربي
المسلم وتأخذ بيده لالتماس الخير واقتباس الدروس والعِبَر.
فمن حِكَم التدبر:
- أنه يدفعك للعمل بقناعة ويقين.
- يجعلك مرهف الذوق رقيق الحسّ.
- يفتح لك أبواب البيان وسبل الإبداع في العمل والدعوة.
وحين تتدبر القرآن الكريم وأنت تتلوه في هدأة الليل وصفاء الكون تأتيك
حقائق، وتنكشف لك أسرار تزيدك إيماناً بأنه كلام المولى - تعالى - منه بدأ وإليه
يعود، وتضيء لك أنوار الحق، وتنبثق أفكار الهداية وأنت تقرأ فيه قصص
الأنبياء والأمم السابقة، تكون لك عوناً على الثبات والدعوة والجهاد.
ومن فوائده أنه ميسّر لكل تالٍ وحافظ [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن
مُّدَّكِرٍ] (القمر: 17) ، ويربطك بالحياة ويعالج مشكلاتها: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] (النحل: 44) ، ويهبُك فطنة وذكاءً وسرعة بديهة
[إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]
(فاطر: 29-30) .
ألا ترى معي إلى ذلك الصبيّ وهو يترنم بآيات من الكتاب العزيز يتلوها
ويستظهرها في حِلَق التحفيظ ولمَّا يصل سن البلوغ بعدُ، وقد استظهر آيات تتعلق
بأحكام الطلاق والنكاح، وأخرى بالغنائم والقتال.. ونحو ذلك مما قد يُشكِلُ عليه
فهم معانيها لكنه ميسّر له حفظها وتلاوتها.
إنه أمر يدعو إلى التأمل في عظيم هذا الكتاب المعجز، والحث على العيش
مع آياته وتوجيهاته بتدبر وتفكر، وقد قال أحد محفِّظي القرآن من باكستان مرة:
«والله ما تدبرنا القرآن وتذوقنا حلاوته حتى تعلمنا العربية والتفسير» .(163/139)
المنتدى
إن الجهاد إلى الإله مُحبَّبُ
محمد محمد صديق
قلبي على نار الأسى يتقلّبُ ... ومدامعي بغزارةٍ تتصبّبُ
لَهَفى على الأرض المقدسة التي ... قد دنِّست! وجراحُها تتلهبُ
قد بحّت الأصواتُ، حيث دماؤها ... أضحت على أرض المهانة تُسكبُ
فدعت بصيحةِ غارقٍ في حزنه ... يا أمتي! حربُ المروءة تَنشبُ
يا أُمّتي! حِيَل اليهود تنوّعت ... فمتى إلى استرداد نصرٍ ندْأبُ؟
إن الدناءة في اليهود سجيّةٌ ... وَهُمُ إلى طمْس الفضيلةِ أقربُ
أين السّلام وقد مضت سَنواته ... عبثاً؟ وفينا فرقةٌ وتحزّبُ
هبّوا إلى نيْل المعالي كلِّها ... إن الجهاد إلى الإله مُحبَّبُ
فالبسْنَةُ الخضراءُ أُحرق زرعُها ... حقداً، ومن كأس المذلة تشربُ
وقضيةُ الألبان جَرحٌ نازفُ ... ظهرت لنا، وعلى الجبين تقطُّبُ
أَوَ ندَّعي شرفَ العلا بكرامةٍ ... مهدورةٍ وعن التفاخر نخطبُ؟
أنَّى لمن فقد الشجاعةَ وثبتةٌ ... أنَّى له خيلٌ أصيلٌ يرْكبُ؟
إنِّي لأرجو أن تعودَ عزيمةٌ ... مفقودةٌ وإباؤها المترقّبُ(163/140)
المنتدى
راية واحدة لا رايات
محمد بن سعيد الغامدي
روى البخاري ومسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: «غزونا مع
النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثار معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من
المهاجرين رجل لعّاب فكسع أنصارياً، فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى
تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجر: يا للمهاجرين، فخرج
النبي صلى الله عليه وسلم فقال:» ما بال دعوى الجاهلية «ثم قال:» ما
شأنهم؟ «فأخبر بكسعة المهاجري للأنصاري فقال:» دعوها فإنها
خبيثة « [1] .
وهذه القصة ذكرها بعض أهل السير في أحداث غزوة بني المصطلق في
السنة الخامسة أو السادسة للهجرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» فهذان الاسمان (المهاجرون والأنصار)
اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة، وسمَّاهما الله بهما، وانتساب الرجل إلى
المهاجرين والأنصار انتساب محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي
يقصد به التعريف فقط، ثم هذا لما دعا كل واحد منهما طائفته منتصراً بها أنكر
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسمَّاها دعوى الجاهلية « [2] .
لقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم صرح الإسلام العظيم على هذا الإخاء
الراقي حتى أصبح الناس في زمنه أمة واحدة ينصر بعضها بعضاً تحت راية واحدة
هي راية الإسلام لا غير.
ولقد آن للمسلمين اليوم أن يرجعوا إلى ما بناه نبيهم محمد صلى الله عليه
وسلم، وأحق من يفعل ذلك هم الدعاة إلى الله - تعالى - إن راموا العز والنصر
والتمكين؛ فإن الفرقة لن تجلب نصراً وإنما هو الخذلان. قال - تعالى -:
[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 46) .
__________
(1) رواه البخاري (3518، 4905، 4907) ، ومسلم، (2584) .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم، لشيخ الإسلام، ص 71.(163/140)
المنتدى
درب النصر!
أحمد العجلان
لنا الرحمنُ مولانا معيناً ... ووجهتُنا له في كل آنِ
بهدي كتابِهِ نمضي أباةً ... ونصرُ اللهِ للتالين دانِ
ونصرُ اللهِ لا يؤتى لقوم ... أعَدُّوا للعدا سِرْبَ الأماني
أَعِدُّوا للعدا صدقاً وعزماً ... وصبراً في اللقا عِنْدَ الطعانِ
أعدوا للعدا جَمْعاً وحَزْماً ... لنرميَهم ونُفْنيَ كلَّ جاني
لنا إخوانُنا في الله ذخراً ... أخي في الله من أسمى المعاني
على درب الإله سموا بحب ... وهذا الحب درب للجنانِ(163/141)
المنتدى
من رسائل القر اء
مجلة البيان:
عفواً.. عفواً على التقصير
حقاً كم نحن بخلاء! !
خمسة عشر ربيعاً وعطاؤك أيتها الأمينة الصادقة يزيد خصوبة وينعاً..
خمسة عشر ربيعاً ونحن جلوس على مائدتك نلتهم منها ما لذّ وطاب حلالاً
طيباً مباركاً.. أقام فينا صلب المعتقد والفكر والخلق.. ومع ماذا..؟ !
مع تقصيرنا تجاهك ... نعم نحن مقصرون!
ولئن كانت النفس تسوّغ - وهذا حقاً - بأنها ليست أهلاً للعطاء الفقهي
والفكري و.. و.. فإنها اليوم ومع مواجهة افتتاحية العدد (161) ومع تجديدكم
العهد؛ لم يعد ذلك العذر سائغاً؛ وأبواب المشاركة والمساندة مُشرعة ومنَّوعة:
ولذا فها نحن - أخواتٌ لكم وقارئات لبيانكم - نعتذر منكم عما سلف،
ونحدث لكم عهداً بأن نتكفل بفتح مائة نافذة للبيان؛ لتطل من خلالها على المسلمين
في المشارق والمغارب.
وهذه الوقفة المتواضعة المتأخرة مع صوت الحق تبدأ من شهر الله المحرم
(1422هـ) وتجدد كل عام بإذن الله.
أخواتكم/ قارئات البيان بالنيابة: أم مجاهد
* * *
الأستاذ الفاضل/
رئيس تحرير مجلة البيان الغراء
تحية من عند الله مباركة طيبة أبعث بها إليكم عبر تلك الصفحة معبراً عما
يدور بخاطري نحوكم من شكر وامتنان على ما بذلتموه من إعداد وتقديم مجلة البيان
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. وبعد:
فبادئ ذي بدء أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقكم ويوفق جميع العاملين
بمجلتكم الغراء لما بذلتموه من جهد لإخراج عمل إسلامي مميز ألا وهو مجلة البيان
لما تحويه من كلمة صدق في خدمة الدعوة وخدمة المسلمين بعد أن كثرت على
الساحة الصحف والمجلات الهابطة التي تفسد ولا تصلح، وتهدم ولا تبني، وكم
سعدت بهذه المجلة بعد أن أهداها لي صديق وقمت بقراءتها وقلت في نفسي: لماذا
أنا متأخر عن قراءة مثل هذه المجلات؟ الأمر الذي استوقفني أن أمسك القلم وأكتب
أقلَّ ما يمكن أن يقدم إليكم ألا وهو كلمة شكر لكم وللعاملين بمجلتكم، سائلاً المولى
عز وجل أن يوفقكم لما يحب ويرضى، وأن يبارك لكم في عمركم، ولكم مني فائق
الشكر والتقدير.
أخوكم / ماهر سعد(163/141)
المنتدى
ردود
* الإخوة الكرام الذين لكثرتهم لم نستطع ذكر أسمائهم كلها لإعجابهم باللقاء مع
المجاهد الشيخ أحمد ياسين، ومطالبتهم بالإكثار من مثل هذه اللقاءات مع رموز
الدعوة والجهاد في عالمنا الإسلامي، نعدهم - بإذن الله - بأن يكون للبيان لقاءات
قادمة مع العلماء والدعاة والمجاهدين لتسليط الأضواء على أعمالهم وجهادهم، وفي
هذا العدد حوار مع فضيلة الشيخ عبد المجيد الزنداني وفَّقَه الله، وندعو إخوتنا ذوي
الاختصاص بالتفاهم معنا عند إجراء أي حوار مع أولئك الرموز ليتسنى التعاون
بيننا لما يعود بالخير والتكامل لمصلحة القارئ الكريم، جزاكم الله خيراً، وبارك
فيكم.
* الإخوة الذين أرسلوا ثناء على مقالَيْ: «الدعوة بين الاحتساب
والاكتساب» ، و «طالبان وعاصفة الأوثان» ، بُلِّغت تحياتكم للكاتبين
الفاضلين، ويبادلانكم تحية بمثلها، والله نسأل للجميع التوفيق والسداد.
* الأخ سعد عبده محمد: المشاركة التي تقول إنها أرسلت للمجلة منذ زمن
بعيد، لم تصلنا حتى الآن، ومرحباً بك وبمشاركاتك.
* الأخوين: محمد الحاتمي، سعد جبر: نرجو التكرم بإعادة إرسال
المشاركات، حيث وصلت إلينا ناقصة، وجزاكم الله خيراً.
* الإخوة: د. سيد بن حسين العفاني، صلاح الخليفة أحمد الحسن، محمد
بن يحيى مفرح، فهد التميمي، حسن محمد الغزواني، خالد الوقيت، عبد الله
العزام، ساير بن هليل المسباح، خالد عبد الحميد: نشكر لكم تواصلكم الكريم مع
مجلتكم، ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجازة للنشر، بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً.
* الإخوة: أحمد أبو طالب زربان، محمد بن علي العكيبي، محمد
عبد السلام الباشا، عادل أبو خير المراغي، أبو بكر عبد القادر سيسي، وليد بن
أديب صالح، حمدي محمد الجارجي: سعدنا بتواصلكم الكريم، وسوف تنشر بإذن
الله في المنتدى، وجزاكم الله خيراً.
* الإخوة والأخوات: أشرف سعيد، محمد مفتوح، خالد عبد الحميد السيد،
خالد الحمد، عبد الرحمن البشر، خالد بن محمد، إبراهيم مبرك المبرك، رقية
المحمد الكريداء: نرجو التكرم بإفادتنا بعناوين لمراسلتكم.(163/142)
الورقة الأخيرة
هل ما يقوم به الفلسطينيون عنف؟
د. عبد الله بن هادي القحطاني [*]
هل ما يقوم به الفلسطينيون للتعبير عما يعانونه تحت وطأة الاحتلال
الصهيوني الجائر إرهاب أو عنف؟
إن الجواب هو بأن هذا الحق مشروع لهم لينتبه «العالم الحر!»
و «المحب للسلام» لقضيتهم، والمسارعة لنجدتهم، أو ربما لإيقاظ إخوانهم
في أرجاء الأرض من حلم السلام الموهوم الذي عاشوا تحت كوابيسه لعقد من
الزمان، وأن الانتفاضة «انتفاضة الأقصى» بيان جماهيري حي يعلن للعالم أجمع
بما فيهم بنو صهيون بأن أرض الأنبياء التي ما زال يدنسها يهود تحوي «أطفالاً»
قادرين على التضحية بدمائهم التي ضن بها إخوانهم في شتى أنحاء المعمورة من
أجل أرض النبوات والأنبياء الأطهار الذين قتلهم بنو صهيون ظلماً
وزوراً.
إن ما يجري في القدس وغزة والخليل وبيت لحم ردة فعل طبيعية للضغوط
الصهيونية الإرهابية لابتلاع الأرض الفلسطينية والهوية الإسلامية لشعب خذله أهله
وتجرأ عليه أعداؤه، يُحرَم حقه المشروع في التعبير عن الظلم والجور الذي يكابده،
وينظر أولئك العاجزون إلى دماء الأطفال الزكية بأنها تهوُّر في مواجهة الأعداء
الغاصبين الذين يواجهون بالحجارة الرصاص والطائرات والدبابات والمدافع،
والصهاينة مع ذلك يَدَّعون السلام، هذا ليس «سلام الشجعان» بل سلام الجبناء،
وخاصة أن راعي السلام قد أضحى ذئب السلام الذي لم يكبد نفسه عناء التخفي
والانزواء، بل على العكس تماماً فهو كل يوم يكشر عن أنيابه في مجلس الأمن
وينهش رعيته «السلام» ؛ فويل لقطيع السلام إن كان راعيه ذئباً كاسراً وثعلباً
ماكراً.
لقد أصبحت حقيقة لا مراء فيها أن السلام مع أعظم أهل الأرض خيانة -
الذين خانوا الله وأنبياءه - ليس له عندهم أمانة ولا عهد ولا ذمة. إن الأمم المسلمة
على ما فيها من فرقة وتمزق قد وعت حقيقة أن شعوبها قد ملت هزلية السلام الذليل،
ونفرت من حياة الذلة والصغار، وعلمت أن فلسطين أرض مقدسة دنسها يهود
ولا بد من تحقيق وعد الله ووعد رسوله فيها وإن طال الزمان، وما من شك أن تلك
السواعد الغضة، والوجوه الفتية، ودماء الأطفال الأبرياء الزكية، قد غيرت
الانحراف الذي أخل بموازين القضية الفلسطينية؛ فقد ساهم دهاقنة السياسة العالمية
في تحويلها من قضية أمة مسلمة كاملة حتى صوَّرها للعالم كله بأنها قضية رجلٍ
واحد، هو صاحب القرار الأخير فيها، إلا أن انتفاضة الأقصى أعادت في
سويعات قليلة القضية برمَّتها لساحتها الحقيقية إلى قلوب ومشاعر الأمة المسلمة في
كل جنباتها، بل إن جراحها في العالم كله تألمت لجرح فلسطين، وتنهدت لدموع
الأقصى، ولقد كشفت الغطرسة الصهيونية لِمَنْ اغتر بنرجسية السلام، وتغنى
بمكاسب التطبيع أن بني صهيون وإن تعددت مشاربهم لا يمكن أن يحققوا أطماعهم،
وينفذوا مخططاتهم في جو السلام؛ فالسلام ليس خياراً استراتيجياً لهم أين ما حلوا
وحيثما ارتحلوا، أمة لم تعرف السلام مع نفسها ولا مع ربها ولا مع أنبيائها، كيف
يمكن لها أن تحققه مع أعدائها؟
بل إن مَنْ وصموهم بحلفائهم وأصدقائهم كانوا أول أهداف حقدهم ومكرهم،
ولن تأخذهم في مؤمن إلٌّ ولا ذمة أبداً؛ فهم لا يتورعون أن يُسحق في طريق
تحقيق أهدافهم كل مبدأ، وتُرتكب كل خيانة؛ فإن كنا في حالة ضعف وركون فإنها
تحملنا على الاستعداد للجولة القادمة بعد أن هُزِمنا في جولة السلام. إنه قدر مكتوب
على هذه الأمة أن تنهض من كبوتها، وتعي رسالتها، وتوحد صفوفها تحت راية
واحدة، وشعار واحد: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» .
إن الإعداد يبدأ بالصدق مع الله، والرغبة فيما عنده، وعدم الركون إلى هذه
الدنيا الفانية وإلى أعداء الله فيها، والمسارعة لنصرة الله - عز وجل -: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) .
وبذلك يتم النصر والتمكين وفقاً للسنَّة الربانية الكونية الجارية.
__________
(*) أستاذ مشارك في قسم اللغة الإنجليزية، جامعة الملك خالد أبها.(163/143)
ربيع الآخر - 1422هـ
يوليو - 2001م
(السنة: 16)(164/)
كلمة صغيرة
قليلاً من النُّصرة!
مأساة إنسانية يتقلَّب على لظاها الشعب الأفغاني؛ فبعد الحرب الضروس التي
دارت رحاها بين الأحزاب الأفغانية، وما خلفته من دمار شامل أتى على البنى
التحتية، وحطم المنازل والمدارس والمستشفيات والطرق؛ ها هو ذا الجفاف
يجتاح مناطق واسعة من شرق البلاد وجنوبها، ويُخلِّف مجاعة تهلك الحرث
والنسل؛ فقد غارت الآبار، وجفَّت الأنهار، وماتت الزروع، ونفقت الماشية..!
الفقر يشمل عامة الشعب الأفغاني حتى أصبح 90% من الناس يعيشون
تحت خط الفقر، والمرض نتيجة سوء التغذية وانتشار الأوبئة وقلة الأدوية يفتك
بالأطفال والنساء والشيوخ، حتى أصبحت المستشفيات دوراً للمعاناة والألم، ولا
تُعرف إلا بوجود المرضى فيها، أما الأطباء والأدوية والأجهزة فلا أثر لها على
الإطلاق إلاَّ ما ندر..!
وعادت جحافل المهاجرين المنهكة تشرِّق وتغرِّب، وتتيه في صحارى مقفرة
بحثاً عن طعام أو شراب أو كساء، فلا تخرج من مسغبة إلا لتقع في مسغبة أخرى
تزيد من آلامها وجراحاتها. ولك أن تتصور حجم المعاناة التي يدور في رحاها
الأطفال والعجزة والمقعدون!
وزاد من حجم المأساة الحصار المحكم الذي تطوِّقه الأمم المتحدة ومنظماتها
الإنسانية (!) على أفغانستان بوصاية أمريكية، ولك أن تعجب أشدّ العجب من
إعراض المسلمين وإدبارهم عن إخوانهم على الرغم من معرفتهم بهذه المأساة..! !
والأفغان في هذه الأيام أحوج ما يكونون إلى قليل من النُّصرة والتأييد والعون،
فـ «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله» .(164/1)
الافتتاحية
حقوق الإنسان لمن؟ !
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فلقد كفل الدين الإسلامي للإنسان كرامته وإنسانيته؛ وهذا ما توصلت إلى
بعضه القوانين والنظم الوضعية بعد قرون وبعد إعلان هيئة الأمم المتحدة لحقوق
الإنسان عام (1948م) ، ولا نعلم بأن تلك الحقوق لفئة من الناس بذاتها أو لأمة
من الأمم بعينها؛ غير أن ما يلمسه المتابع لقضية الصراع مع الصهاينة (ما يسمى
بالصراع العربي الإسرائيلي) يجد العجب العجاب؛ فالحقوق كلها للصهاينة،
ودفاع الشعب الفلسطيني الأعزل بالحجارة والبنادق أمام الصواريخ والقنابل
والطائرات الحربية أصبح ذلك في نظر عميان رعاة السلام وأصحاب المبادرات
المشبوهة أصبح عنفاً وإرهاباً! ! فماذا يفعل شعب مغلوب على أمره، اعتدي عليه
في مصادرة أرضه، ومحاربته في وسائل عيشه، ومحاصرته بكل الوسائل غير
الشرعية؛ إن لم يدافع عن كرامته بكل ما يستطيع؟
إن معاناة الشعب الفلسطيني المجاهد منذ نكبته بقيام دولة العدو منذ وعد
(بلفور) الذي أعطى من لا يملك من لا يستحق، فجاء شذاذ الآفاق اليهود لبناء
دولتهم على أنقاض فلسطين السليبة، فكانوا سرطاناً خبيثاً في جسد الأمة الإسلامية،
ولم تحسن الحكومات العربية التعامل مع تلك الجريمة المرسومة والمدعومة من
الغرب والشرق منذ قيامها، فاستمرت أمتنا تتخبط في حروب عقيمة حتى سقوطها
في فخ ما يسمى بعملية السلام المزعوم. بينما العدو مستمر في تحقيق ذاته وبناء
دولته بدعم الغربيين الذين طالما أيدوا حق كل شعب في تقرير مصيره، وطالما
دعوا إلى احترام سياسات حقوق الإنسان وقاوموا أي تساهل بتلك الحقوق؛ فكيف
بخرقها على رؤوس الأشهاد؟ بل وأعلن الغرب الحرب على من خرق تلك الحقوق
كما حصل مؤخراً مع طاغوت الصرب (ميلوسوفيتش) حيال حربه الهمجية في
البلقان ضد المسلمين وبخاصة مع مسلمي كوسوفا.
لكن هذه السياسة أصبحت وسيلة مكشوفة للابتزاز يرفعها الغرب بكل صلف
ضد الدول المخالفة لنهجه السياسي، وبخاصة ما تقرره أمريكا من قوائم سنوية
لدول تعتبرها إرهابية أو مساندة للإرهاب عن طريق وسائل موجهة مثل ما يسمى
بـ (لجنة الحريات الدينية) بالكونجرس الأمريكي، حتى بلغ الأمر حدَّ التدخل
وبشكل سافر في الشؤون الداخلية للدول، كما حصل في إندونيسيا دفاعاً عن حقوق
(النصارى) ، وأخيراً في مصر للدفاع عما زعم من انتهاكات لحقوق الأقباط.
ومما يؤسف له أن تواطؤ الغرب ضد إندونيسيا وتهديدها بحجب الإعانات
عنها، وخوفها من فرض الحصار عليها مما جعلها تتساهل في مشكلة (تيمور
الشرقية) ، وتقرر وبكل انهزامية الموافقة على التدخل الدولي الذي تبعه التصويت
بحماية هذا التدخل ليتقرر فصلها.
أما في مصر فلقد جوبه التدخل فيها باحتجاجات شعبية سفهت تلك التدخلات
بما فيها رفض بعض النصارى أنفسهم لذلك التدخل والوقوف ضده؛ فإلى متى تبقى
الحقوق الإنسانية لغير المسلمين وحدهم؟ ! فأين الجمعيات الدولية والإقليمية؟ !
وأين ما يسمى بجمعيات الحقوق وغيرها وغيرها؟ !
أين هؤلاء من تلك الأعمال الهمجية والانتهاكات المتوالية لحقوق الإنسان
المسلم سواء في فلسطين أو الشيشان أو كشمير أو الفلبين..؟ وأين أولئك
المراقبون لمعاناة المسلمين من القتل والتشريد والتدمير لمقدرات بلدانهم مما تنشره
وسائل الإعلام ليل نهار؟
لقد عانى الشعب الفلسطيني وبشكل خاص من قهر العدو الصهيوني له بالحديد
والنار مما يتنافى مع أبسط القيم الإنسانية ولا سيما في عدوانه الأخير حيث ضرب
براجماته وطائراته حتى (إف 16) الأمريكية المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية،
ولم تسلم من عدوانه السلطة الفلسطينية المتواطئة معه في عملية السلام المزعوم!
مخالفة بذلك كل الاتفاقات المحمية بالاتفاقات ذاتها.
وبعدَ لأْيٍ شكلت اللجنة الأمريكية المعروفة بلجنة (ميتشل) ، وجاء تقريرها
الهزيل بشكل مغاير للحقيقة حتى لا يدان العدو دولياً على إجرامه ضد الشعب
الفلسطيني؛ حيث ساوى التقرير بين القاتل والضحية، وتأتي قمة المأساة حينما
دُعي مجلس الأمن لاتخاذ قرار لتوفير الحماية للشعب الفلسطيني بإرسال مراقبين
دوليين في الأرض المحتلة فتسارعت (أمريكا) بإعلان (الفيتو) بدعوى تأجيل
مناقشة الموضوع! ! ولا ندري إلى متى؟ هل لينفذ (شارون السفاح) برنامجه
الانتخابي لضمان الأمن لشعبه بقتل كل من يقف في وجهه بجبروته وعدوانه؟ أم
لكون الشعب الفلسطيني من الفئة التي لا تستحق الحياة لمجرد أنهم مسلمون؟ !
حيث تعرضوا لمذابح وحشية كما حصل في قرية دير ياسين وقرية ناصر الدين
وكفر قاسم؛ حيث تم قتل آلاف الفلسطينيين وتشريدهم مع أن جزءاً من هذا الشعب
(نصارى) نالهم ما نال المسلمين من القتل والعدوان.
ولا يعجزنا السبب في وقوف الحكومة الأمريكية وعلى مر السنين مع العدو؛
لأنها عادة ما تكون صنيعة اللوبي الصهيوني، فتأتمر بأمره وتسير وفق هواه حتى
لو خالفت كل القوانين والقيم، بالرغم من أن هذا اللوبي وقف ضد الحكومة
الأمريكية الحالية بتأييدهم الحزب الديمقراطي المنافس والذي أخفق في الوصول
لسدة الرئاسة لأسباب شتى يعرفها المتابعون، إلا أن الكونجرس ما زال متميزاً
بأغلبيته الديمقراطية وجلهم يهود صهاينة أو موالون لهم من النصارى المتصهينين.
ومن العجيب أن تتخلى الحكومة الأمريكية حتى عن آداب اللياقة مع
الحكومات العربية ذات العلاقات الوطيدة معها والتي تربطها بالفلسطينيين علاقات
العقيدة والأخوة والدم، لكنها لم تكترث بذلك، بينما تقف مترددة وتتجنب الإساءة
لدول أخرى مراعاة لمصالحها كما هو الحال في موقفها مع الصين مع ما عرفت به
من انتهاكات لحقوق الإنسان سواء مع المسلمين في (تركستان الشرقية) أو مع
المعارضين لها كما حصل في مواجهاتها الدامية معهم في ساحة (تيان مين) .
إنَّ الخلفية العقدية والفكرية التي يتعامل بها الغرب مع الحقوق الإسلامية هي
التي توجه مساره وتجعله يتعامل معها بتشنج واستكبار، ويشرح (انجمار كارلسون)
هذه الخلفية بقوله: (إنَّ الإحساس بالخوف من الدين الذي يسود مجتمعنا العلماني
والتجاري بصفة عامة قد امتد وشمل العالم الإسلامي كله ككتلة واحدة، وكنتيجة
طبيعية لهذا الإسقاط أصبحت نظرتنا إلى أي عمل من أعمال العبادة والتقوى
وممارسة الشعائر سلبية؛ نظراً لأنها ترمز إلى التطرف والتعصب حتى ولو كانت
هذه الأعمال تقتصر على أداء الصلوات في المساجد ... ويبدو أننا نفتقر إلى اليقين،
وإلى الإحساس بالأمن والطمأنينة، وليس لدينا الثقة الكاملة بنظمنا الاجتماعية،
وبذلك فنحن نفتقد الإمكانات الموضوعية للنظر إلى الأصولية الإسلامية نظرة
معقولة، وتناولها بأسلوب نقدي طبيعي؛ ولذا نعتبر الغرب الحديث مرادفاً للعقل،
بينما نرى في الشرق عالماً متخلفاً يمشي على حافة الجنون، ويستحيل عليه
مشاركتنا في الحوار والسجال على قدم المساواة؛ فالمسلمون كانوا في الماضي،
وسيبقون في المستقبل خطرين، ويصعب سبرهم، وينبغي تجنب أية مناقشة
معهم..! !) [1] .
إن العالم الذي ساءه سياسة الكيل بمكيالين في مسألة حقوق الإنسان لم يعد
يجهل أن أمريكا نفسها تنتهك حقوق الإنسان: ليس بتأييدها جرائم العدو الصهيوني
فقط، بل لأن سجلها الأسود في حقوق الإنسان وانتهاكاتها له بما لا يخطر على بال
أحد لم يعد مجهولاً بعد أن كشفته الحكومة الصينية في تقرير معروف نشر مؤخراً
أمام العالم ولا يتسع المقام لذكر بعض صوره البشعة؛ (انظر إلى التقرير المذكور
مما نشرته مجلة المجتمع الكويتية، العدد 1441 و 1442) ولذا وجدنا العالم ممثلاً
في هيئة الأمم يقرر بمحض إرادته تنحية (أمريكا) عن لجنة حقوق الإنسان التي
طالما اتخذت من هذه المسألة شماعة لها تستخدمها ضد المخالفين لها ولتوجهاتها.
إننا نعتقد أن أمريكا ستبقى ألعوبة في يد الصهيونية تستخدمها لصالحها،
وسيبقى الفلسطينيون محل الإدانة والقتل والاستئصال، ولم يعد أمامهم أي وسيلة
لرفع الظلم عنهم بعد إخفاق أساليب السلام المزعوم واتفاقياته المعروفة سوى الجهاد
والمقاومة، وإنزال القتل باليهود ذلك الشعب المحارب الذي يتساوى فيه الجيش
بالشعب.
إن إنزال القتل بالعدو هو الوسيلة الوحيدة التي يفهمونها، وليعلم يهود مدى
العذاب الذي نال الشعبَ الفلسطيني، وحينها سيضطر اليهود الجبناء الذين قال الله
فيهم: [لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] (الحشر: 14) ،
سيضطرون أمام هذه الإرادة الصلبة إلى إعادة النظر في مواقفهم الإجرامية
وسياساتهم الهمجية لما لها من انعكاسات سلبية ضدهم حتى يأذن الله بنصره المؤكد
بعز عزيز أو بذل ذليل؛ إذ لا يفلُّ الحديدَ إلا الحديدُ.
وحين يكون لأمتنا مكانتها وقوتها وقدراتها، ولها مصداقيتها التي يخشى
الغرب والشرق فواتها، حينها سنراعَى مثلما تراعى الصين وغيرها. ثم كيف
يكون لنا هذا الشأن ونحن غير صادقين مع ربنا وغير مقتدين بسنة نبينا وغير
متآخين فيما بيننا؟ ! وكيف يصلح حالنا ونحن في جل ديارنا لا نحكم بشرع الله
ونوالي أعداء الله ونحارب أولياءه، ونعمل كل الوسائل المفتعلة لتهميشهم وإبعادهم
عن التأثير في المجتمع؛ بينما يتاح المجال لغيرهم من الكفار والعلمانيين وأهل
الأهواء؟ !
إن قوة أمتنا في دينونتها لربها وتآزرها وكونها يداً واحدة على من سواها،
وبخلاف ذلك سنكون أذلة، وستكون الحقوق لغيرنا حتى ولو كان هو الظالم وهو
الجاني وهو المعتدي.
وصدق الله العظيم: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
(الرعد: 11) .
والله المستعان.
__________
(1) الإسلام وأوربا تعايش أم مجابهة؟ (ص 28) ، ترجمة سمير بوتاني.(164/4)
خير الهدي
مكفرات الخطايا
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
للتربية الصالحة أثر كبير في بناء الرجال وتهذيب النفوس وتزكيتها، ولذا
كان الفلاح كل الفلاح في تطهير القلب من الأهواء والشهوات التي تهوي بالعبد
بعيدًا عن جادة الصراط المستقيم. قال الله - تعالى -[قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ
خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: 9-10) .
وتزكية النفوس أحد المقاصد العظيمة لإرسال الرسل - عليهم الصلاة والسلام-
قال الله - تعالى -[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ]
(الجمعة: 2) .
وإذا سرى نور الإيمان في القلب، ورسخت معالمه في النفس، أثمر ذلك في
الجوارح عملاً خالصًا زكيًا، وأصبحت حياة المرء كلها في مرضاة الله تعالى.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا بأمته، مشفقًا على أصحابه -
رضي الله عنهم - يحوطهم بنصحه وتوجيهه، ويربيهم على الإقبال على الله تعالى،
ويدلهم على أبواب الخير، ومعاقد البر. ومنها ما رواه أبو هريرة - رضي الله
عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو به الخطايا
ويرفع به الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله: قال: (إسباغ الوضوء على
المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط،
فذلكم الرباط) [1] .
وهذا حديث عظيم يُعَدُّ من جوامع الكلم، قال عنه الإمام ابن عبد البر
القرطبي: (هذا الحديث من أحسن ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في
فضائل الأعمال) [2] .
وللنصوص الشرعية الواردة في الترغيب والترهيب أثر عظيم في تزكية
النفس وتربيتها، وحثها على فعل الصالحات والحذر من الموبقات، ولهذا كان
الأئمة يحرصون على جمعها وروايتها، فها هو ذا الإمام وكيع ابن الجراح يُصنف
خاصًا في هذا الباب سماه: كتاب الزهد، ومثله الإمام أحمد بن حنبل، والإمام
عبد الله بن المبارك، في جمع كثير من أئمة الإسلام.
وإن العلماء والدعاة وطلاب العلم من أحوج الناس للتربية والتزكية،
والواجب عليهم أن يربُوا أنفسهم وطلابهم على دلائل الكتاب والسنة، وثمرة العلم
العمل به. وما أجمل قول عمرو بن قيس: (وجدنا أنفع الحديث لنا ما نفعنا في
أمر آخرتنا: من قال كذا، فله كذا) [3] .
وتحقيقًا لهذا الغاية العظيمة رأيت أن أنفع نفسي وإخواني بشرح هذا الحديث
لعل الله - تعالى - أن يجعلنا من أهله. وأن يستعملنا في طاعته، وقد انتظم
شرحه في الفوائد الآتية:
الفائدة الأولى: شواهد الحديث:
للحديث شواهد كثيرة، منها:
الشاهد الأول: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا، ويزيد به في الحسنات؟
قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى
المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) [4] .
الشاهد الثاني: حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (إسباغ الوضوء على المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد،
وانتظار الصلاة بعد الصلاة، يغسل الخطايا غسلا) [5] .
الشاهد الثالث: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: وهو حديث (اختصام
الملأ الأعلى) الطويل، وفيه: (قال يا محمد؟ فقالت: لبيك ربِّ وسعديك! قال:
فِيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الدرجات والكفارات، وفي نقل الأقدام إلى
الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن
يحافظ عليهن عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه) [6] .
الفائدة الثانية: من منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعلم العلم:
كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم توجيه المسائل إلى الصحابة -
رضي الله عنهم - للفت انتباههم وتشويقهم، وحثهم على التركيز والتفكر،
ليستجمعوا أفهامهم، ويستحضروا أذهانهم وهذا منهج تعليمي تربوي في غاية
الأهمية يبني الفكر، وينشط الذهن، ويسترعي الانتباه.
ونظائر ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة منها: قوله صلى الله
عليه وسلم هل تدرون من المفلس؟ ! [7] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون
ما الغيبة؟) [8] ونحوهما.
ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العلم: حرصه على ابتداء
أصحابه - رضي الله عنهم - بالفوائد، قال ابن عبد البر القرطبي: (في هذا
الحديث: طرح العالم العلم على المتعلم، وابتداؤه إياه بالفائدة، وعرضها عليه) [9]
الفائدة الثالثة: تزكية النفس:
تأمل هذه التربية النبوية الكريمة لذلك الجيل العظيم، فهم الصحابة - رضي
الله عنهم - الذي يتربون عليه هو: (محو الخطايا، ورفع الدرجات) . وهذا
مطلب عظيم يتطلب إقبالاً صادقا على الله تعالى وحرصًا جادًا على فعل القربات.
ومن المعلوم أن غاية وجود الإنسان في هذه الدنيا هي عبادة الله - تعالى -
والتقرب إليه قال الله - تعالى -: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]
(الذاريات: 56) . ولكن الضعف البشري صفة ملازمة لجميع الناس، والوقوع في
الخطأ سنَّة لا يسلم منها أحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم
خطّاء، وخير الخطائين التوابون) [10] .
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على معالي الأمور
ومكارم الأعمال، ولهذا نراه في هذا الحديث يستحث أصحابه على تطهير قلوبهم
من العطايا، ويُعلي من هممهم للترقي في مدارج العبودية ومسالك الطاعات،
وكلما ازداد إقبال العبد على ربه، وأخلص قلبه في ذلك؛ انفتح له من أبواب
الطاعات ما لا يخطر على بال. قال الإمام ابن القيم: (صِدْقُ التأهب للقاء الله هو
مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله،
ومنازل السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإنابة، والمحبة، والرجاء، والخشية،
والتفويض، والتسليم، وسائر إعمال القلوب والجوارح فمفتاح ذلك كله: صدق
التأهب، والاستعداد للقاء الله) [11] .
والأعمال التي تمحو الخطايا وترفع الدرجات هي الأعمال الخالصة التي
يستحضر فيها العبد تعظيم الله تعالى، وتعظيم شعائره، ولهذا قال الإمام ابن القيم
في بعض النصوص الواردة في تكفير الخطايا: (التكفير بهذه مشروط بشروط.
وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه، فإن علم العبد أنه جاء بالشروط
كلها، وانتفت عنه الموانع كلها؛ فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو
شملت أكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه ولبه ولم يوف حقه، ولم يقدره حق
قدره، فأي شيء يكفر هذا العمل..؟ !
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل،
إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه) [12]
الفائدة الرابعة: من فضائل الوضوء: وحكمه:
قال أبو بكر بن العربي: (الوضوء أصل في الدين وطهارة المسلمين
وخصيصة لهذه الأمة في العالمين) [13] .
الوضوء من الأسباب العظيمة التي تكفر السيئات وترفع الدرجات. قال الله -
تعالى -[مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (المائدة: 6) .
قال ابن رجب الحنبلي: قوله: [لِيُطَهِّرَكُمْ] (المائدة: 6) يشمل طهارة
البدن بالماء وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة يحصل بمغفرة
الذنوب والخطايا وتكفيرها، كما قال الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم:
[لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً
مُّسْتَقِيماً] (الفتح: 2) ، وقد استنبط هذا المعنى محمد بن كعب القرظي) [14] .
والنصوص النبوية الدالة على فضائل الوضوء وأنه من القربات التي تمحو
الخطايا كثيرة جدًا اكتفى بذكر ثلاث أحاديث منها:
الحديث الأول: عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه خرج من وجه كل خطيئة نظر
إليها بعينيه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل
خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل رجليه
خرجت كل خطيئة مشتها رجلا مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - حتى يخرج
نقيًا من الذنوب) [15] .
الحديث الثاني: عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من
تحت أظفاره) [16] .
الحديث الثالث: عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال: قلت:
يانبي الله، فالوضوء حدثني عنه؟ قال: " ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض
ويستنشق فينثر إلا خرت خطايا وجه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى
المرفقين إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى
الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلى فحمد الله
وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئة
يوم ولدته أمه " [17] .
وللإمام ابن القيم كلام متين في محاسن الوضوء وحكمه، قال فيه: " تأمل
محاسن الوضوء بين يدي الصلاة وما تضمنه من النظافة والنزاهة ومجانبة الأوساخ
والمستقذرات، وتأمل كيف وضع على الأعضاء الأربعة التي هي آلة البطش
والمشي، ومجمع الحواس التي يتعلق أكثر الذنوب والخطايا بها ... فلمًا كانت هذه
الأعضاء هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي، كان وسخ الذنوب ألصق بها وأعلق
من غيرها، فشرع أحكم الحاكمين الوضوء عليها لتضمن نظافتها وطهارتها من
الأوساخ الحسية، وأوساخ الذنوب والمعاصي " [18] .
الفائدة الخامسة: المقصود بإسباغ الوضوء وفضله:
قال ابن عبد البر القرطبي: الإسباغ: الإكمال والإتمام في اللغة من ذلك قول
الله - عز وجل -[وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] (لقمان: 20) ، يعني:
أتمها وأكملها، وإسباغ الوضوء: أن تأتي بالماء على كل عضو يلزمك غسله
وتعمّه كله بالماء وجر اليد، وما لم تأت عليه منه فلم تغسله بل مسحته ومن مسح
عضوًا يلزمه غسله فلا وضوء له، ولا صلاة حتى يغسل ما أمر الله بغسله،
حسبما وصفت لك " [19] .
وقال ابن رجب: " إسباغ الوضوء: هو إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية
كالثوب السابغ المغطى للبدن كله " [20] .
وقد جاء الحث على إسباغ الوضوء في نصوص عديدة اكتفي بذكر ثلاثة منها:
الحديث الأول: عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشي
إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس - أو مع الجماعة أو في المسجد - غفر الله
له ذنبوبه " [21] .
الحديث الثاني: عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " إسباغ الوضوء شطر الإيمان " [22] .
الحديث الثالث: عن لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن
الوضوء، قال: " أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون
صائمًا " [23] .
الفائدة السادسة: احتمال المكاره:
تعظيم أوامر الله - تعالى - وشعائره علامة من علامات تقوى القلب كما
قال الله - تعالى -[ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ]
(الحج:32) . ومن دلائل العبودية الصادقة تقديم محبوبات الله - تعالى - على
محبوبات النفس، وتحمل المصاعب والمكاره التي قد تعرض المسالك في طريقه إلى
ربه، " فمن امتلأ قلبه من محبة الله - عز وجل - أحب ما يحبه، وإن شق على
النفس وتألمت به " [24] .
والشيطان يحرص على تثبيط الإنسان عن الطاعات. مستغلاً المكاره التي
ربما تقترن ببعضها، فيدفعه لاستثقالها. ثم إلى تركها.
والنفس البشرية تحتاج إلى مجاهدة وترويض يهذبها ويقسرها على الطاعات
قسرًا، فالحرص على إسباغ الوضوء على المكاره آية من آيات تعظيم شعائر الله
تعالى، وطريق لبناء النفس وتهذيبها، وسبيل من سبل دفع الشيطان ومراغمته
ودحره.
قال ابن عبد البر: القرطبي في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" إسباغ الوضوء على المكاره ": قيل: أراد البرد وشدته، وكل حال يُكره المرء فيها
نفسه، فدفع وسوسة الشيطان في تكسيله إياه عن الطاعة والعمل الصالح " [25] .
وقال الباجي: " المكاره على أنواعهن: من شدة برد، وألم جسم، وقلة ماء
وحاجة إلى النوم، وعجلة وتحفز إلى أمر مهم، وغير ذلك " [26]
وقال ابن رجب: " ولا ريب أن إسباغ الوضوء في شدة البرد يشق على
النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنبوب وإن لم يكن
للإنسان فيه صنع ولا تسبب، كالمرض ونحوه، كما دلت النصوص الكثرة على
ذلك. وأما إن كان ناشئًا عن فعل هو طاعة لله فإنه يُكتب لصاحبه به أجر. وترفع
به درجاته، كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله - عز وجل -
[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً
يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ
أَجْرَ المُحْسِنِينَ] (التوبة: 120) . وكذلك ألم الجوع والعطش الذي يحصل
للصائم، فكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر على الألم بذلك فإنه
حصل به رضي فذلك مقام خواص العارفين المحبين " [27] .
الفائدة السابعة: شريعة التيسير والاعتدال:
من الأصول العامة المعررة أن الشريعة الإسلامية هي شريعة التيسير
والاعتدال، ورفع الحرج والمشقة عن المكلفين، وتواترت النصوص الشرعية
لتقرير ذلك وبيانه، حتى جزم الإمام الشاطبي أنها بلغت مبلغ القطع [28]
قال - تعالى -[وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ]
(الأعراف: 157) .
فليست المشقة في التكليف الشرعية مطلوبة في ذاتها ولهذا قال الله - تعالى -
[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] (البقرة: 185) ، وقال الله تعالى
[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78) . ولكن الشارع الحكيم قد
يُكلف عباده ببعض العبادات التي لا تخلف من مشقة. ولكنها مشقة محتملة،
كأمرهم بالجهاد، والوضوء على المكاره، والصيام في الحر.. ونحوها، ليبلوهم
أيهم أحسن عملا. قال الإمام ابن القيم: الله - سبحانه - لم يبتل العبد ليُهلكه،
وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته؛ فإن لله - تعالى - على العبد عبودية في
الضراء، كما له عبودية في السراء، وله عليه عبودية فيما يكره، كما له عبودية
فيما يحب وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون. والشأن في إعطاء العبودية
في المكاره، فيه تفاوتت مراتب العباد وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى،
فالوضوء بالماء البارد من شدة الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها
عبودية، ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، وهذا الوضوء بالماء البارد في
شدة البرد عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف
من الناس عبودية. ونفقته في الضراء عبودية. ولكن فرق عظيم بين العبوديتين،
فمن كان عبدًا لله في الحالتين قائمًا بحقه في المكروه والمحبوب، فذلك الذي يتناوله
قوله - تعالى -[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] (الزمر: 36) .
فإذا تبين أن المشقة ليست مطلوبة لذاتها، فإنه لا يصح التقرب إلى الله -
تعالى - بالمشاق فإذا تيسر تسخين ماء الوضوء البارد ليتوضأ العبد بإسباغ وسكينة
بلا مشقة فإن ذلك أولى من الوضوء بالماء البارد. قال العز بن عبد السلام: " لا
يصح التقرب بالمشاق لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى وليس عين
المشاق تعظيمًا ولا توقيرًا " [29] .
وقال الشاطبي: " الشارع لم يقصد إلى التكليف بالمشاق والإعنات فيه " [30] ،
ثم ذكر أن الدليل على ذلك أمور:
أحدهما: النصوص الدالة على ذلك كقوله: [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ
الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] (الأعراف: 157) . ولو كان قاصدًا للمشقة لما كان مريدًا
لليسر ولا للتخفيف. ولكان مريدًا للحرج والعسر وذلك باطل.
والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، وممّا
علم من دين الأمة ضرورة؛ كرخص القصر والفطر والجمع ... ولو كان الشارع
قاصدًا للمشقة في التكليف لما كان ثمّ ترخيص ولا تخفيف.
والثالث: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف وهو يدل على عدم
الشارع إليه. ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف. وذلك منفي
عنها؛ فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها
موضوعة على قصد الرفق والتيسير، كان الجمع بينها تناقضًا واختلافًا وهي
منزّهة عن ذلك " [31] .
أنواع المشاق:
تختلف المشقة باختلاف التكاليف، وباختلاف المكلفين، وقد بيَّن العز بن
عبد السلام أن المشاق على ضربين:
" الضرب الأول: مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبًا:
مثل مشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات (*) وكمشقة إقامة الصلاة في
الحر والبرد ولا سيما صلاة الفجر وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار..
فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات، ولا في تخفيفها، لأنها
لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات في جميع الأوقات أو في غالب الأوقات،
ولفات ما رُتب عليها من المثوبات الباقيات ما دامت الأرض والسموات [32] .
الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالبًا، وهي أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف
ومنافع الأطراف فهذه مشقة مجوبة للتخفيف والترخيص.
النوع الثاني: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع أو سوء
مزاج خفيف، فهذا لا لفتة إليه ولا تعرج عليه، لأن تحصيل مصالح العبادة أولى
من دفع هذه المشقة التي لا يؤبه لها.
النوع الثالث: مشاق واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفة والشدة، فما
دنا منها من المشقة العليا أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا لم يوجب
التخفيف إلا عند أهل الظاهر " [33] .
وقد بين الإمام الشاطبي الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة، والتي تعد
مشقة، فقال: " إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه،
وإلى وقوع خلل في صاحبه: في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله فالمشقة هنا
خراجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة
مشقة، وإن سميت كلفة. فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار، في أكله وشربه
وسائر تصرفات تحت قهره، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات، فكذلك
التكاليف، فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف، وما تضمن من المشقة " [34] .
الفائدة الثامنة: كثرة الخطا إلى المساجد:
قال الإمام الباجي: " كثرة الخطا: يكون ببعد الدار عن المسجد، ويكون
بكثرة التكرار عليه " [35] .
والكثرة هنا تعني - والله أعلم - المداومة على الطاعة، والجلد فيها،
والصبر عليها، تقربًا إلى الله تعالى، ومحبة لأمره، وأستشعارًا لفضل الله - تعالى-
على عبده بتكفير السيئات، قال الإمام ابن القيم: " الدين كله استكثار من الطاعات،
وأحب خلق الله إليه: أعظمهم استكثار منها " [36] .
وقد ثبت في فضل الخطا إلى المساجد أحاديث عديدة منها:
الحديث الأول: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: خلت البقاع
حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، بلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: " إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟
" قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك، فقال: " يا بني سلمة، دياركم تُكْتَبْ
آثاركم! دياركم تُكتب آثاركم! " [37] .
الحديث الثاني: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما
غدا أو راح " [38] .
الحديث الثالث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي
فريضة من فرائض الله كانت خطواتاه: إحداهما تحط خطيئة، والآخرى ترفع
درجة [39] .
وأشير هنا إلى مسألتين:
الأولى: أنه قد يتحقق في القرب من المسجد مصالح أعظم من فوات كثرة
الخطا كيُسر محافظة الصغار والشباب على الصلاة، والتزامهم بحلقات العلم
ودراسة القرآن الكريم، وكالبعد عن كثير من الفتن التي قد تعرض للمسلم وهو في
طريقه إلى المسجد.. ونحو ذلك فيكون القرب منه أفضل بحسب المصلحة، كما أن
بقاء بني سلمة في ديارهم كان أفضل لما ترتب عليه من مصالح.
الثانية: أن الحرص على كثرة الخطا إلى المسجد لا تعني أن يتكلف المرء
سلوك الطريق الأبعد لأجل تكثيرها، فلم أجد من كان يفعل ذلك من الصحابة -
رضي الله عنهم - أو الأئمة المقتدي بهم.
الفائدة التاسعة انتظار الصلاة إلى الصلاة:
قال أبو بكر ابن العربي: " انتظار الصلاة بعد الصلاة أراد به وجهين:
أحدهما: الجلوس في المسجد، وذلك يُتصور بالعادة في ثلاث صلوات: العصر
والمغرب والعشاء وفي العبادة في أربع: في هذه وفي الصبح ولا تكون بين العتمة
والصبح، الثاني: تعليق القلب بالصلاة والاهتمام لها، والتأهب لها، وذلك يتصور
في الصلوات كلها " [40] .
إن تعلق قلب العبد بالصلاة من دلائل الإيمان والصلاح؛ فهو وإن اشتغل في
دنياه وتحصيل معاشه والسعي في حاجات أهله إلا أنه يقدر الصلاة حق قدرها، فإذا
سمع المنادي ينادي للصلاة ترك شأنه كله مهما كان، وأقبل على مناجاة ربه بكل
تضرع وإنابة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبعة يظلهم الله في ظله يوم
لا ظل إلا ظله.. وذكر منهم: ورجل قلبه معلق في المساجد " [41] .
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه " [42]
وعن سالم بن عبد الله: أنه نظر إلى قوم من أهل المدينة تركوا بياعتهم إلى
الصلاة، فقال: " هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه: [رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ
عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ] (النور: 37) . [43] .
وهذا النوع من الانتظار هو المتيسر لغالب الناس، وإن كان ينبغي للإنسان
ألا يحرم نفسه من النوع الأول، بين الحين والآخر لما له من أثر على صلته بربه
عز وجل. ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على ملازمة
المسجد، ويبشرهم بعظيم فضل الله - تعالى - عليهم، فعن عبد الله بن عمرو -
رضي الله عنه - قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فعقب
من عقب ورجع من رجع فجاء صلى الله عليه وسلم وقد كاد يحسر ثيابه عن ركبته،
فقال: أبشروا معشر المسلمين، هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي
الملائكة، يقول: هؤلاء عبادي قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى " [44] .
الفائدة العاشرة، مفهوم الرباط:
قال الخليل بن أحمد: الرباط: ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة " [45] .
وقال ابن منظور: الرباط: المواظبة على الأمر [46] .
وقال ابن عبد البر القرطبي: الرباط هنا: ملازمة المسجد لانتظار الصلاة،
وذلك معروف في اللغة، قال صاحب كتاب العين: الرباط: ملازمة الثغور. قال:
والرباط مواظبة الصلاة أيضًا. [47] .
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المواظبة على الأمور المذكورة في
الحديث بالرباط في سبيل الله تعالى [48] ، بل قال أبو سلمة بن عبد الرحمن في
تفسير قول الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 200) ، هذه الآية في انتظار الصلاة
بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط
فيه " [49] .
إن ملازمة الطاعات والمواظبة على فعل الصالحات، هي الدلالة الصادقة
على عظيم الصلة بالله تعالى، وهي الطريق الصحيح لتزكية النفس وتربيتها،
وقد بين أبو بكر ابن العربي أن حقيقة الرباط: " ربط النفس والجسم مع
الطاعات " 50 [.
وقال القرطبي: المرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا يتحل،
فيعود إلى ما كان صبر عنه، فحبس القلب على النية الحسنة، والجسم على فعل
الطاعة، ومن أعظمها وأهمها: ارتباط الخيل في سبيل الله، كما نص عليه في
التنزيل في قوله] وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ [ (الأنفال: 60) ، وارتباط النفس في
الصلوات، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم] 51 [.
الخاتمة:
احتوى هذا الحديث العظيم على فوائد كثيرة جمعها: وجوب حرص العبد
على تزكية النفس من شوائبها، وتطهير القلب من أدرانه بالامتثال لأمر الله
والإقبال الصادق على طاعة الله والتقرب إليه، والمواظبة على تعليق القلب على
الطاعات.
__________
(1) أخرجه: مالك في الموطأ، كتاب قصر الصلاة، باب انتظار الصلاة والمشي إليها، (1/ 161) رقم (55) ، وأحمد في المسند (2/ 303) ، ومسلم في كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (1/ 219) رقم (251) ، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في إسباغ
الوضوء، (1/72- 73) رقم (51) ، والنسائي في كتاب الطهارة، باب الفضل في إسباغ الوضوء، (1/89 - 90) .
(2) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، (20/ 222) .
(3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، (2/111) رقم 1329.
(4) أخرجه: ابن ماجه، في كتاب الطهارة وسننها، (1/ 148) رقم (427) وصححه ابن خزيمة في كتاب الطهارة (1/90، 185) رقم (177، 357) ، ومن طريقه ابن حبان (1/ 110) رقم (402) .
(5) أخرجه: أبو يعلي (1/379) رقم (488) ، والبزار، كما في كشف الأستار، في كتاب الصلاة (1/222) رقم (447) والحاكم في كتاب الطهارة، (1/ 132) ، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وصححه المنذري في الترغيب والترهيب (1/211) والألباني في صحيح الجامع (939) .
(6) أخرجه: الترمذي، في كتاب التفسير، تفسير سورة (ص) ، (5/367) ، رقم (323، 3233، 3235) ، وأحمد في المسند (1/ 368) من حديث ابن عباس، وصححه الألبان في صحيح سنن الترمذي (2581) ، وانظر تخريجه موسعًا في تحقيق مسند أحمد للأرناؤوط ومرشد، (5/438- 442) وقد حكم بضعفه وهذا الحديث هو الذي شرحه الحافظ ابن رجب في كتاب خاص سمّاه: (اختيار الأوْلى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) .
(7) أخرجه: أحمد في المسند (2/303) ، وإسناده صحيح وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، رقم (2581) .
(8) أخرجه: مسلم، في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، (4/ 2001) ، رقم (2589) .
(9) التمهيد (20/ 222) .
(10) أخرجه: الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم (2499) ، ابن ماجة في كتاب الزهد، (2/1420) رقم (4251) وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (2/418) .
(11) طريق الهجرتين، (223) .
(12) الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب، (س 28 - 29) .
(13) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لأبي بكر ابن العربي (1/ 116) .
(14) اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (ص 46) .
(15) أخرجه: مسلم، في كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء، (1/215) رقم (244) .
(16) أخرجه: مسلم، في كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء، (1/215) رقم (245) .
(17) أخرجه مسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة، (1/ 570) رقم (832) .
(18) مفتاح دار السعادة، (2/365) .
(19) التمهيد، (20/ 223) .
(20) اختيار الأولى (ص 50) .
(21) أخرجه: مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، (1/208) رقم
(222) .
(22) أخرجه: ابن ماجة في كتاب الطهارة، باب الوضوء شطر الإيمان (1/102) رقم (280) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (938) .
(23) أخرجه: أحمد (4/33) ، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار (1/99) ، والترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم (3/155) ، وقال:
(حسن صحيح) ، والنسائي في كتاب الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق (1/66) ، وابن ماجة في كتابه الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق (1/142) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع
(940) .
(24) اختيار الأولى، (ص 54) .
(25) التمهيد، (20/ 223) .
(26) المنتقى شرح موطأ الإمام (1/284) ، وانظر: عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لابن عربي المالكي (1/77) ، وحاشية السيوطي على سنن النسائي (1/ 90) .
(27) اختيار الأولى، (ص 51) ، وذكر الحافظ ابن رجب أن الرضى بذلك ينشأ عن ملاحظة أمور: أحدها: تذكُّر فضل الوضوء من حطه للخطايا، ورفه للدرجات الثاني: تذكُّر ما أعده الله - عز
وجل - لمن عصاه من العذاب بالبرد والزمهرير الثالث: ملاحظة جلال مَنْ أمر بالوضو، ومطالعة عظمته وكبريائه الرابع: استحضار اطلاع الله - عز وجل - على عبده في حال العمل له، وتحمل المشاق لأجله الخامس: الاستغراق في محبة من أمر بهذه الطاعة، وأنه يرضى بها ويحبها.
(28) الموافقات.
(29) الوابل الصيب، (ص 18) .
(30) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (1/31) .
(31) الموافقات، (2/121) .
(32) الموافقات (2/ 121- 123) بتصريف.
(33) قال الإمام الشاطبي: " لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة، كما لا يُسمَّى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحريف وسائر الصنائع، لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدُّون المنقطع عنه كسلان، ويذمونه بذلك، فكذلك المعتاد في التكاليف "، الموافقات (1/123) .
(34) قواعد الأحكام، (2/ 7-8) .
(*) السبرات: جمع سَبْرَة، وهي الغداة الباردة وقيل: هي ما بين السحر إلى الصباح، وقيل ما بين غٌدوة إلى طلوع الشمس انظر: لسان العرب، مادة (سبر) .
(35) الموافقات، (2/ 123) .
(36) المنتقى، (1/285) ، وانظر: شرح مسلم للنووي (3/141) .
(37) مدارج السالكين، (1/262) .
(38) أخرجه: مسلم، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد،
(1/148) رقم (662) ، ومسلم، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة،
(1/ 463) رقم (669) .
(39) أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب فضل من غدا إلى المسجد أو راح، (2 /148) رقم
(662) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة (1/463) رقم
(669) .
(40) أخرجه: مسلم، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة، (1/462) رقم (666) .
(41) عارضة الأحوذي، (1/77) ، وانظر: المنتقى للباجي (1/285) .
(42) أخرجه: البخاري، في عدة مواضع منها: كتاب الآذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، (2/142) رقم (660) ، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (2/ 715- 717) رقم (1031) .
(43) فيض القدير للمناوي، (3/ 88) .
(44) تفسير الطبري، (19/ 192) .
(45) أخرجه: أحمد، (11/ 363) رقم (6750) ، وابن ماجه، في كتاب المساجد والجماعات، باب لزوم المساجد، (1/262) رقم (801) وصححه الأرناؤوط في تحقيقه لمسند أحمد، والألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (661) .
(46) تفسير القرطبي، (4/ 324) ، وفتح القدير، (1/ 375) .
(47) لسان العرب، مادة (ربط) ، (5/ 112) .
(48) التمهيد، (20 / 223) .
(49) تفسير القرطبي، (4/ 324) ، وقال القتيبي: " أصل المرابطة: أن يربط الفريقان خيولهما في ثغر كل منهما مُعِد لصاحبه، فسمي المقام في الثغور رباطًا، ومنه قوله: " وذلكم الرباط " أي المواظبة على الطهارة والصلاة كالجهاد في سبيل الله " لسان العرب، مادة (ربط) .
(50) فتح القدير (1/ 475) .
(51) عارضة الأحوذي، (1/77) .
(52) تفسير القرطبي، (4/ 324) .(164/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
العمليات الاستشهادية دراسة شرعية
هاني بن عبد الله بن جبير
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام وقُبّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في
الجنّة، وكما لهم الرفعة في الدنيا فهم الأعلون في الدنيا والآخرة [1] .
وقد أخبر الله تعالى بأن: [وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء: 74) . وأخبر الله أنه: [اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ
أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ] (التوبة: 111) . «فليتأمل العاقد مع ربّه هذا
التبايع ما أعظم خطره وأجلّه؛ فإنَّ الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنّات
النعيم، والفوز برضاه، والتمتّع برؤيته
هناك» [2] .
ولقد نعى الله تعالى على من ترك الجهاد فقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ
إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ] (التوبة: 38) .
عن عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «من اغبرّت قدماه في سبيل الله حَرّمه الله على النار» [3] .
قال ابن حجر: «وفيه إشارة إلى عظيم قدر التصرّف في سبيل الله، فإذا
كان مجرد مَسّ الغبار القدم يحرم عليها النار؛ فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد
وسعه» [4] .
عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل
الله خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرٌ
من الدنيا وما عليها» [5] .
ولا عجب أن كانت هذه منزلة الجهاد؛ فالتغلب على الشهوات والاستعلاء
على المحبوبات من الأزواج والأولاد والأموال، بَلْهَ النفسَ، ليس بالأمر السهل،
وبالجهاد يعرف المؤمن الذي يستعلي على حبّه للحياة.
إنّ أمتنا المسلمة مع طول ما عاشت وعايشت لم تشهد ظروفاً كهذه التي تمر
بها في هذا العصر المتأخر، ولم تُبتلَ قطّ بما ابتليت به الآن؛ فهي مع أنها لم تكن
قط تبلغ ما بلغ عدد المنتسبين إليها الآن، فإنها لم تعانِ ضعفاً ووهناً كهذا.
وهذا مصداق خبر النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم
الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: ومن قلّة نحن يا رسول الله؟ قال: لا؛
بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم
المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا
وكراهية الموت» [6] .
ومع تخاذل الأمة عن النصرة الواجبة فإنا نشاهد من هانت عليه نفسه فباعها
لله مسترخصاً ما يبذل.. يحمله على ذلك شوقه لربه ويقينه بموعوده، فهناك «يلتذ
العبد أعظم اللذة بما تحمَّل من الألم من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره
وابتهاجه بقدر ما تحمّل من الألم في الله ولله» [7] ، ولا تعجب من فعله فإنّه
«ربما غيّبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به. فالشوق يحمل المشتاق
على الجد في السير إلى محبوبه، ويقرّب عليه الطريق، ويطوي له البعيد ويهوّن
عليه الآلام والمشاق» [8] .
ومن ضمن الأعمال الفردية التي نشهدها في هذا الزمن ما يفعله بعض
الفدائيين من عمليات تودي بحياتهم، قاصدين إلحاق الضرر بأعداء الله، وحيث
ظهر أثر هذه العمليات في إرهاب أعداء الله، وزرع الخوف في قلوبهم، فقد كَثُرت،
وتعددت طرقها وأساليبها، إلا أنها جميعاً تشترك في كونها تودي بحياة منفذها
يقيناً.
ولمّا كان في هذه العمليات ملحظان: أولهما: ما فيها من إزهاق الروح وقتل
النفس، والثاني: ما فيها من نكاية في العدو وإضرار به مما يجعلها راجحة
المصلحة وقريبة من حال المجاهد الذي تزهق روحه شهيداً؛ فقد تنوعت آراء من
كتب في هذا الموضوع، ووقفت فيه على آراء متقابلة اجتمعت على عدم تحديد
المراد بهذه العمليات؛ فإن من أشاد بها وجعلها نوعاً من الجهاد استدلّ على
مشروعيتها بمثل فعل البراء بن مالك رضي الله عنه لمّا ألقاه أصحابه إلى داخل
حديقة الموت ليفتح بابها لهم معرِّضاً نفسه للموت، مع أنَّ واقع فعله ليس من جنس
العمليات الاستشهادية المعاصرة؛ إذ هي قتل للنفس، والبراء لم يقتل نفسه، بل
ولم يُقْتل في تلك المعركة! [9] .
وإنَّ الناظر في هذه المسألة لا ينبغي له أن يحمله إعجابه ببذل الفدائي نفسه
وإقدامه على الشهادة، وما لفعله من أثرٍ عن تأمل حقيقة الحكم مستفيداً من واقع
الحال.
وبين يديك أخي القارئ أسطر قلائل حاولت فيها إيضاح هذه المسألة، مع
علمي بقصوري عن ذلك، ولكن لعلها أن تكون خطوة تفتح الباب لأبحاث جادّة
تجلّي الموضوع، وما توفيقي إلا بالله.
أولاً: تعريف العمليات الاستشهادية:
العمليات: جمع عملية.
والعملية لفظ مشتق من العمل، وهو: عام في كل فعل يُفْعل [10] .
ويطلق العمل على المهنة [11] .
أمّا العملية فهي كلمة محدثة تُطلق على جملة أعمال تُحدث أثراً خاصّاً، يقال:
عمليّة جراحيّة أو حربية [12] .
والشهادة هي القتل في سبيل الله [13] .
واستشهد أي تعرّض أن يقتل في سبيل الله [14] .
ولم أرَ من عرّف العمليات الاستشهادية. ويمكن أن يُقال في تعريفها بناء على
ما تقدّم: إنها أعمال يقوم بها المجاهد تعرّضه للقتل.
ويطلق البعض عليها عمليات انتحارية من جهة ما فيها من قتل النفس.
فالانتحار قتل النفس. يقال: انتحر الرجل إذا قتل نفسه بوسيلة ما [15] .
وفي تسميتها بذلك نظر من جهتين:
الأولى: أن المقدم على العملية لا يقصد قتل نفسه، ولو أراد الانتحار لكان له
طرق أخرى.
والثانية: أن المقدم عليها إنما حمله فيما يظهر يقينه بأجر المجاهد وثواب
الشهيد، ولولا ذلك لما أقدم عليها.
ثانياً: مقدمات لا بد منها:
قبل الشروع في تفصيل أحوال هذه العمليات وبيان الحكم المنزَّل على كل
حالة منها بناءً على توصيفها التوصيف المناسب فإنه يحسن أن نُقَدّم بمقدمات تمهد
لها وتجلّي حقائق ينبغي أن يتأملها من أراد إطلاق الحكم عليها.
1 - المبادئ العامة لكيفية القتال:
لا بد في كل عمل جهادي من أن يكون ملتزماً بالمبادئ التي قررها الشرع في
كيفية القتال وأسلوب الحرب وطريقة المقاومة.
فإن «أول عامل يعتمد عليه جيش الإسلام في استنزال النّصر من عند الله
عز وجل: التقوى، وعفة النفس، والوفاء بالعهد، والبعد عن الفاحشة،
والمروءة، واحتساب الأجر عند الله تعالى، وتجنب البغي والانتقام عند الظفر،
واتقاء البطر، ومراعاة الناس في الحرب» [16] .
ومن هذه المبادئ: عدم قتل المدنيين. وهم من لم ينصب نفسه للقتال، وكذا
النساء والصبيان الذين لا يقاتلون ولا يعينون على القتال بنفس أو رأي [17] ؛ فقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان [18] .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اتقوا الله في الفلاحين الذين لا
ينصبون لكم الحرب» [19] .
قال الإمام أحمد: «من أطبق بابه على نفسه ولم يُقاتل؛ لم يُقْتل» [20] .
أما من قاتل من المدنيين أو النساء والصبيان، أو أعان على القتال ولو
بالرأي فإنه يُقتل؛ إذ قد يُشير برأي هو أنكى للمسلمين من القتال.
فقد قتل دريد بن الصمة في حرب هوازن وقد جاوز المائة فلم ينكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم قتله لِمَا كان من رأيه [21] .
وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة امرأة ألقت رحىً على
خلاد بن سُويد [22] .
لكن إذا لم يتوصل إلى قتل المقاتلة إلا بقتل النساء والأطفال ونحوهم، كأن
يتترسوا بهم في الحرب، أو تحصنوا جميعاً في مكان واحد، أو هُجم عليهم ليلاً فلم
يمكن التمييز بينهم؛ فيجوز قتلهم، فقد نصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق
على أهل الطائف ورماهم به [23] .
قال في المغني: «وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم،
ويقصد المقاتلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء
والصبيان؛ ولأن كف المسلمين عنهم يُفْضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم متى علموا
ذلك تترسوا بهم عند خوفهم، فينقطع الجهاد، وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير
ملتحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحيّن بالرمى حال التحام
الحرب» [24] .
عن الصعب بن جَثّامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يُسأل عن الديار من ديار المشركين يُبَيّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم
فقال: «هم منهم» [25] ، ومن هذه المبادئ جواز الإتلاف والتخريب والتدمير مما
تقتضيه الأعمال الحربية، وكان في إتلافه إضعاف للكفار أو إغاظتهم أو النكاية
فيهم [26] .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرَّق
نخل بني النضير وقطع [27] .
قال في تتمة أضواء البيان [28] عند تفسير قوله تعالى: [مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ
أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ] (الحشر: 5) :
«والذي يظهر أن الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي، وهو ما يؤخذ من
عموم الإذن في قوله تعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ] (الحج: 39) ؛ لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة
الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، والحصار نوع من القتال، ولعلَّ من
مصلحة الحصار قطع بعض النخيل لتمام الرؤية أو لإحكام الحصار أو لإذلال
وإرهاب العدو في حصاره، وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله وممتلكاته، وقد يكون
فيه إثارة له ليندفع في حميّة للدفاع عن ممتلكاته وأمواله فينكشف عن حصونه
ويسهل القضاء عليه؛ إلى غير ذلك من الأغراض الحربية التي أشار الله تعالى إليها
في قوله: [وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ] (الحشر: 5) أي بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم
وهم يرون نخيلهم يقطع ويحرق فلا يملكون له دفعاً.
وعلى كل فالذي أذن بالقتال وهو سفك الدماء وإزهاق الأنفس وما يترتب عليه
من سبي وغنائم لا يمنع مثل قطع النخيل إن لزم الأمر، وبهذا يمكن أن يقال: إذا
حاصر المسلمون عدواً ورأوا أن من مصلحتهم أو من مذلة العدو إتلاف منشآته
وأمواله فلا مانع من ذلك؛ وغاية ما فيه أنه إتلاف بعض المال للتغلب على العدو
وأخذ جميع ماله» ، ولهذا أمثلة في السيرة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر بقطع أعناب ثقيف لما حاصر الطائف [29] .
ومنها أن علياً رضي الله عنه عقر جمل حامل راية الكفار في هوازن [30] .
ومن هذه المبادئ: جواز تبييت الكفار ومباغتتهم وقتلهم وهم غارّون [31] .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني
المصطلق وهم غارّون آمنون، فقتل المقاتلة وسبى الذُّريّة [32] .
2 - إيثار العطب على السلامة الممكنة أحياناً:
فقد ورد الشرع في مسائل عدة بتفضيل الصبر على القتل والموت على
السلامة الممكنة الجائزة. ومن هذه المسائل:
أ - أن المكره على الكفر يجوز له إظهار كلمة الكفر لقوله تعالى: [مَن كَفَرَ
بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (النحل: 106)
ومع ذلك فإن الصبر أفضل وأعظم أجراً، قال ابن بَطّال: «أجمعوا على أن
من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار
الرخصة» [33] .
وقال ابن كثير: «والأفضل والأوْلى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى
إلى قتله» [34] .
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء
بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجْعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه
وعظمه؛ فما يصدّه ذلك عن دينه» [35] .
قال القرطبي: «فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السابقة على
وجه المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله وأنهم لم يكفروا في الظاهر
ويبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والهوان
على الرخصة» [36] .
ب - أن المسلمين متى كانوا أقل من نصف الكفار جاز لهم الانصراف؛
لقوله تعالى: [فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] (الأنفال: 66) .
قال ابن عباس رضي الله عنه: «من فَرَّ من اثنين فقد فَرَّ، ومن فَرَّ من
ثلاثة فما فَرّ» [37] . ومع ذلك فإنه يُستحب لهم الثبات ولو غلب على ظنهم الهلاك
لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولِّين [38] ،
وفي قصة غزوة مؤتة شاهد لهذا؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الشام
بعثاً استعمل عليهم زيد بن حارثة وكانوا ثلاثة آلاف، ومضوا حتى إذا نزلوا
(معان) من أرض الشام بلغ الناس أن هرقل قد نزل (مآب) من أرض البلقاء
في مائة ألف من الروم انضمَّ إليهم من لخم وجذام وبلي مائة ألف منهم، فلما بلغ
المسلمون ذلك أقاموا ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا؛ فإمّا أن يمدنا بالرجال، وإمّا أن يأمرنا بأمره
فنمضي له، فشجّع الناس عبد الله بن رواحة وقال: إن التي تكرهون لَلَّتي خرجتم
تطلبون: الشهادة. فمضى الناس وقاتلوا عدوهم [39] .
ج - ما ذكره ابن القيم في حديثه عن الإيثار: «وعلى هذا فإذا اشتد العطش
بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك
جائزاً ولم يُقَلْ أنه قاتلٌ لنفسه، ولا أنه فعل محرماً، بل هذا غاية الجود والسخاء
كما قال تعالى: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] (الحشر: 9) .
وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام وعُدَّ ذلك من مناقبهم
وفضائلهم» [40] .
د - ما ذكره بعض الفقهاء: أنه يجوز لأمير الجيش إذا حض على الجهاد أن
يُعَرّض للقتل والاستشهاد من يرغب فيها ممن يؤثِّر في المعركة بتحريض المسلمين
على القتال حميّة له [41] .
3 - نظرة في المصالح والمفاسد:
إنَّ مبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح ودرء المفاسد [42] ؛ فالشريعة
جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل، ومن تأمل ما فيها من أحكام
شرعية متضمنة لمصالح الخلق تيقن أنها شريعة رب حكيم عليم بمصالح خلقه.
والمصالح قد تكون عامّة أو خاصة، وكذا المفاسد. والشرع جاء لتحصيل المصالح
وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
فإن تعارضت المصالح والمفاسد: فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد
فهو المطلوب، وإن لم يمكن تحصيل المصلحة إلا بارتكاب شيء من المفاسد فينظر
في هذه الحالة إلى الراجح والغالب منهما؛ فإن كان الغالب المصلحة لم ينظر إلى
المفسدة اللاحقة، وإن كان الغالب المفسدة لم ينظر إلى المصلحة [43] .
ويمكن أن يعرف ذلك بالنظر في قيمة المصلحة وشمولها؛ فالمصالح العامة
مقدمة على المصلحة الخاصة، والمصلحة المتعلقة بحفظ الدين مقدمة على غيرها،
وكذلك بالنسبة للمفاسد.
وكل ذلك بعد معرفة حقيقة الواقع، وواقع الحال.
قال الشاطبي لما تناول مسألة ما إذا كان قيام الشخص بالمصلحة العامة متلفاً
لنفسه: «وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ فقد يترجح جانب المصلحة
العامة، ويدل علىه أمران:
أحدهما: قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها.
والثاني: ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وقوله: نحري دون نحرك، ووقايته له حتى
شُلَّتْ يده، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إيثار راجع إلى
تحمّل أعظم المشقات عن الغير، ووجه عموم المصلحة أنه وقى بنفسه من يعم
بقاؤه مصالح الدين وأهله» [44] .
ومن تطبيقات ذلك ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية؛ إذ قال: «وقد روى
مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود، وفيها أنَّ
الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين؛ ولهذا جَوَّز الأئمة الأربعة أن
ينغمس المسلم في صَفّ الكفار وإن غلب على ظنّه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك
مصلحة للمسلمين. فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يُقْتل به لأجل مصلحة الجهاد
مع أن قتل نفسه أعظم من قتله لغيره كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة
الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا أوْلى» [45] .
ثالثاً: حكم العمليات الاستشهادية:
قبل الحكم على هذه العمليات لا بد أولاً من معرفة صورتها؛ إذ الحكم على
الشيء مبني على تصوّره الصحيح.
والحقيقة أن هذه العمليات تتخذ صوراً وطرقاً مختلفة متفاوتة، وقد يظهر في
المستقبل صور أخرى منها. وإن كنت أرجو أن من تأمل ما سيأتي فلن يفوته منها
شيء تصريحاً أو دلالة وتضمناً.
وهذه الأعمال منها ما يتعرّض فيها للقتل بيد أعدائه، ومنها ما يَقْتُل فيها
نفسه، وعلى أساس هذا التقسيم سنسير.
الأول: أعمال استشهادية تعرّضه للقتل بيد أعدائه.
وهذه الأعمال تتحذ صوراً كثيرة منها:
1 - أن ينغمس وحده في الكفار حال القتال فيقاتل وحده العدد الكثير.
عن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة
عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد. والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل
رجلٌ على العدو، فقال الناس: مَهْ مَهْ! لا إله إلا الله يُلْقي بيده إلى التهلكة! فقال
أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا نصر الله نبيه صلى الله
عليه وسلم وأظهر الإسلام. قلنا هَلُمّ نقيم في أموالنا ونُصْلحها. فأنزل الله عز وجل:
[وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] (البقرة: 195) فالإلقاء
بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا نصلحها وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم
يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية [46] .
عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة
يحبهم الله ويضحك إليهم ويتبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله
تعالى؛ فإمّا أن يُقتل وإمّا أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا
كيف صبر لي بنفسه! ... » [47] .
ومن ذلك فعل البراء بن مالك رضي الله عنه في حرب المرتدين من أهل
اليمامة؛ إذ دخلوا الحديقة وأغلقوها عليهم، فقال البراء: يا معشر المسلمين!
ألقوني عليهم في الحديقة. فاحتملوه فوق الحُجُف [48] ورفعوها بالرّماح حتى ألقوه
عليهم من فوق سورها؛ فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون
عليهم [49] .
وأمثلة هذه الصورة كثيرة ذكر جملة منها في (مشارع الأشواق) ،
ومختصره (فكاهة الأذواق) في باب مستقل [50] .
2 - أن يتعرّض للشهادة ويسعى لها: عن أبي ذرّ رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يحبهم الله ... الرجل يلقى العدو في فئة فينصب
لهم نحره حتى يُقْتل أو يفتح لأصحابه ... الحديث» [51] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في الحرب على ألا يفرّوا،
وربما بايعهم على الموت [52] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على
متنه كلّما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانّه» [53] .
3 - أن يُبَادر العدو، أو يحمي إخوانه بنفسه، فيؤْثِر إخوانه بالحياة:
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤْثِرُ إخوانه على نفسه، فيتبادر إلى لقاء العدّو
دونهم.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: فزع الناس ذات ليلة فركب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس
يركضون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لن تُراعوا، لن تراعوا؛ وفي
عنقه السيف [54] .
وقد بات عليٌّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة هجرته إلى المدينة؛
إذ تربّص به الذين كفروا، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار،
وبات المشركون يحرسون عليّاً؛ فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلمّا رأوا عليّاً رَدّ الله
مكرهم [55] .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن عُكاشة الغنمي وقى النبي صلى الله عليه وسلم
يوم أحد يوم اجتمع المشركون وتمالؤوا عليه لقتله حتى ذهب أنفه وشفتاه وحاجباه
وأذناه [56] .
فهذه الصورة وغيرها مما يعرّض المجاهد للقتل بيد أعدائه جائزة بثلاثة
شروط:
1 - أن يكون في عمله مصلحة للمسلمين.
2 - ألا يكون في قتله لو قتل مفسدة عامة، من كسر قلوب المسلمين أو
إضعافهم أو تقوية قلوب الكفار.
3 - أن يتصف بالإخلاص في عمله؛ فبدونه لا قيمة للعمل ولا ثواب ولا
بركة ولا تأثير.
قال شيخ الإسلام: «إنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه
فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين وقد
اعتقد أنّه يقتل، فهذا حَسَنٌ، وفي مثله أنزل الله قوله: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي
نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] (البقرة: 207) . ومثلما كان
بعض الصحابة ينغمس في العدو» [57] .
الثاني: أعمالٌ استشهادية تعرّضه للقتل بيده.
وهذه الأعمال يمكن أن تُقَسّم أقساماً لكل قسم منها حكم مستقل، وإليك
التفصيل:
1 - أن يضرب الكفّارَ فيصيبه سلاحه دون قصد منه:
وهذا شهيد إذا لم يقصد قتل نفسه، وهذا كما لو أراد إطلاق قذيفة فانفجرت
فيه أو أصابته منها شظيّة مثلاً، ويدل لذلك:
ما روى أبو داود عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أغرنا على حيّ من جهينة، فطلب رجل من المسلمين رجلاً منهم فضربه فأخطأه
فأصاب نفسه بالسيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخوكم يا معشر
المسلمين! فوجدوه قد مات فقالوا: يا رسول الله! أشهيدٌ هو؟ قال: نعم، وأنا له
شهيد [58] .
وعامر بن الأكوع بارز مَرْحَباً يوم خيبر فذهب يُسفِل له فرجع سيفه على
نفسه فكانت فيها نفسه [59]
قال في المغني [60] : «فإن كان الشهيد عاد عليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول
بأيدي العدو» .
2 - أن يضرب العدو، ويخاف أن يؤسَر أو يعذّب إن عُرف فيقتل نفسه.
وهذا كما لو فجّر أو قتل أو أنكى في العدوّ وخاف أن يكشف ويؤسر فيعذّب
ويؤذى ويعرِف أنه قليل الصبر، وأنّ لأعدائه من التفنن في التعذيب والقدرة عليه
ما يعجز عنه فيقتل نفسه مع أعدائه؛ وهذا إنما أقدم على قتل نفسه طلباً للتخلّص
من مفسدةٍ مظنونة غير واقعة، وهي لو وقعت لكان مأموراً بالصبر على الابتلاء،
فكيف وهي لم تقع؟ وعلى كلٍّ فقتله لنفسه ليدفع مفسدةً خاصّة مظنونة غير سائغ،
وهو من جنس الذي جذع من الجرح فقتل نفسه.
عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلاً ممن كان
قبلكم خرجت به قرحة، فلما آذته انتزع سهماً من كنانته فلم يرقأ الدم حتى مات.
قال ربكم: قد حرَّمت عليه الجنة [61] .
وحديث الذي جرح جرحاً شديداً في إحدى غزواته مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه فتحامل
عليه فقتل نفسه [62] .
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل له مملوك هرب ثم رجع،
فلمّا رجع أخفى سكينة وقتل نفسه؟ فأجاب:» لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان
سيّده قد ظلمه واعتدى عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن
يصبر إلى أن يفرّج الله. فإن كان سيّده ظلمه حتى فعل ذلك مثل أن يقتّر عليه في
النفقة أو يعتدي عليه في الاستعمال أو يضربه بغير حقّ أو يريد به فاحشة ونحو
ذلك فإنّ على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه في المعصية « [63] .
إلا أنه يستثنى من ذلك القسم الثالث وهو:
3 - أن يؤسر، أو يراد أسره ويكون ممن يعرف أسرار المسلمين فيخشى أن
يفضح المسلمين.
وهذا كما لو علم أنَّ الأعداء معهم من الأدوية ووسائل انتزاع الاعترافات ما
يغلب على ظنّه أنّه سيُخبرهم بحال المجاهدين وخططهم ومخابئهم ونحو ذلك.
وفي هذا القسم أفتى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم [64] ، وأسوق نَصّ تقريره
بتمامه:» الفرنساويون في هذه السنن تصلبوا في الحرب ويستعملون الشرنقات [*]
إذا استولوا على واحد من الجزائريين ليعلمهم بالذخائر والمكامن ومن يأسرونه قد
يكون من الأكابر فيخبرهم أن في المكان الفلاني كذا
وكذا، وهذه الإبرة تُسْكره إسكاراً مقيّداً، ثم هو مع هذا كلامه ما يختلط فهو يختص
فيما يبيّنه بما كان حقيقة وصدقاً.
جاءنا جزائريّون ينتسبون إلى الإسلام يقولون: هل يجوز للإنسان أن ينتحر
مخافة أن يضربوه بالشّرنقة ويقول: أموت أنا شهيد مع أنهم يعذبونهم بأنواع
العذاب؟
فقلنا لهم: إذا كان كما تذكرون فيجوز؛ ومن دليله: آمنا برب الغلام [65] ،
وقول بعض أهل العلم: إن السفينة [66] إلخ، إلا أن فيه التوقف من جهة قتل
الإنسان نفسه ومفسدة ذلك يعني اعترافه أعظم من مفسدة هذا يعني قتله لنفسه
فالقاعدة محكمة، وهو مقتول ولا بُدَّ « [67] .
وبناء على ما سبق، وللأدلة التي ذكرها سماحته فإن من كان يعرف من
أسرار المجاهدين ما في كشفه إضرار عام بهم وقد علم أنّ لدى الأعداء ما يمكنهم
من انتزاع الإقرار منه؛ فإن له أن يقتل نفسه عند مهاجمته لهم ومقاتلته إياهم.
4 - أن يخشى إن لم يقتل نفسه بمهاجمته للأعداء أن يُسْتأصل المجاهدون
ويصطلمهم أعداؤهم.
وهذا كأن يعلم أنه إن تقدم إليهم وقام بعملية ضدهم، امتنعوا عن استئصال
المسلمين الآخرين.
وهو مشروط بأن لا يستطيع ذلك إلا بإتلاف نفسه، إمّا لشدة تحصيناتهم، أو
قوّة مراقبتهم فيحتاج لإخفاء ما معه بداخل جسده أو بين ثيابه، أو نحو ذلك؛
فيجوز له الإقدام؛ إذ قَتْلُ البعض خير من موت الجميع، وهذا متفق مع قواعد
الفقه؛ وذلك أنه متى تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما [68] .
كما أنَّ الضرر الخاص يُتَحمّل لدفع الضرر العام [69] .
قال شيخ الإسلام:» وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن
عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يُقاتلوا فإنهم يُقاتلون
وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم ... وهؤلاء المسلمون إذا قُتلوا
كانوا شهداء، ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيداً، ومن قتل وهو في
الباطن لا يستحق القتل، لأجل مصلحة الإسلام كان شهيداً « [70] .
وفي القسم الخامس زيادة بيان.
5 - أن يقصد النكاية في الكفار بما لا يُمْكن إلا بقتل نفسه.
وهذا هو غالب ما يقع وإن كان القسم الثاني قد يقع أيضاً كثيراً.
وهنا يقصد المجاهد أن ينكأ في العدو بإتلاف شيءٍ من ممتلكاتهم أو قتل بعضٍ
من مقاتلتهم أو أعوانهم فيزرع في جسده أو عربته نوعاً من المتفجرات ويقتحم به
ليتلف ما أراد فتصاب نفسه مع ذلك الإتلاف.
ونحتاج إذا أردنا إيضاح مشروعية هذا العمل وتوصيف حكمه إلى أن نتذكر
مقدمات مبسوطة في كتب الفقه لا بد من استحضارها والتمهيد بها، ولعلنا أن نربط
أعناق تلك الممهدات ببعض لنتوصّل إلى نتيحة:
فمن ذلك:
- أن دفع الكفار واجب.
- وأن المدنيين لا يقتلون إلا إذا أعانوا على القتال بنفس أو رأي، أو لم
يمكن التمييز، أو اختلطوا بالمقاتلة في موضع واحد.
- وأن تخريب أموال الكفار ومنشآتهم وتدميرها جائزٌ، إذا اقتضته الأعمال
الحربية.
- وأن تبييت الكفار ومباغتتهم جائز.
- وأن الموت يفضل على السلامة الممكنة أحياناً، ولا يكون اختياره قتلاً
للنفس. ومن تلك المقدمات أن المصالح إذا تعارضت مع المفاسد نُظر في الأرجح
منهما.
- وفي هذا العمل تعارضت مفسدة قتل النفس بمصلحة الجهاد، وإذا أردنا
الموازنة فإننا نقول:
في الجهاد حفظ للدين ودفع عنه، وفيه حفظ للنفس والنسل والمال مما يلحقها
من تسلط الكفار وغلبتهم؛ فإنه يترتب على تغلبهم من إفساد الدين:
1 - منع المؤمنين من القيام بشعائر دينهم والتضييق عليهم.
2 - وإظهار الأحكام والقوانين المنافية للإسلام.
3 - زهد الآخرين في الدين لما يرون من حال أهله من الذلّة والمهانة [71] .
وقل مثل ذلك من إفساد النسل والاعتداء على الأعراض، وإفساد الأموال
بالاستيلاء عليها أو إتلافها، وإتلاف النفوس مما شهد به الواقع، ونطقت به وسائل
الإعلام ولم يعد خافياً [72] .
يقابل ذلك مفسدة قتل النفس، وهي مفسدة خاصّة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» إذا فعل ما أمره الله، فأفضى ذلك إلى قتل
نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة
للمسلمين ... وقتل الإنسان نفسه حرام بالكتاب والسنة والإجماع كما ثبت عنه في
الصحاح أنه قال: «من قتل نفسه بشيء عُذّب به يوم القيامة» ، وحديث الذي قتل نفسه لما اشتدت عليه الجراحة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنّه من
أهل النار لعلمه بسوء خاتمته.
فينبغي للمؤمن أن يفرّق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو
تسببه في ذلك، وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له كما قال
تعالى: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ]
(التوبة: 111) ... والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة لا بما يستحسنه
المرء أو يجده أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة.
ومما ينبغي أن يُعْرَف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس
وحملها على المشاق ... لا! ! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته،
وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله؛ فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع
كان أفضل؛ فإنّ الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب
حال العمل ... فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد،
وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه
الأعمال إلا بمشقة كالجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم
فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبها من المنفعة ... وأما إذا كانت فائدة العمل
منفعة لا تقاوم مشقته فهذا فساد والله لا يحب الفساد « [73] .
فبعد تبيُّن ما سبق من الدرجات المتعاقبة الممهدة، وما ذكره شيخ الإسلام
نقول: إذا تضمن العمل الاستشهادي من هذا القسم خمسة شروط فهو جائز وهي:
1 - أن يكون فيه مصلحة للمسلمين ونكاية لأعدائهم.
2 - أن لا تحصل المصلحة إلا به بأن لم يمكن زرع اللغم أو وسيلة الإتلاف
إلا بإتلاف النفس.
3 - ولم يقصد خوف الأسر حسبما سبق تفصيله.
4 - ولم يقصد إتلاف من لا مدخل له في القتال على ما سبق تفصيله.
5 - ولم يكن في عمله مفسدة تربو على مصلحة عمله بأن تزيد ضراوة
الكفار ونحو ذلك.
فإن الظاهر أن قيامه بالمصلحة يسوّغ له إتلاف نفسه ولا يكون قاتلاً لنفسه،
فإذا عدم منها شرط لم يجز له الإقدام على عمله. والله أعلم.
وبعد: فإنّ جميع ما سبق إنّما هو تصوير وتقعيد لقضية عصرية ومناقشتها
على ضوء قواعد الشريعة وما ذكره أهل العلم؛ أما تنزيل الأحكام على وقائعها
وتطبيقها وتحقيق المناط فيها، فإنه من عمل أهل الفتوى المعتبرين الذين ينزلون
الحكم الشرعي على كل واقعة بعينها بعد فهم الواقع والحال وتمام تصوّره، ومعرفة
المصالح والمفاسد من خلال ما يعرفه قادة المجاهدين وأهل الرأي والخبرة منهم،
والله الموفق.
__________
(*) قاض شرعي في محكمة محايل عسير، السعودية.
(1) تضمين من زاد المعاد، (3/5) .
(2) تضمين من زاد المعاد، (3/72) .
(3) صحيح البخاري، ج 1، ص 28.
(4) فتح الباري، (6/36) .
(5) صحيح البخاري، ح/ 2892، وانظر جمّاً غفيراً من الأحاديث في فضل الجهاد في زاد المعاد، (3/76 95) .
(6) سنن أبي داود، ح/ 4297، ومسند الإمام أحمد، (5/278) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (2/683) ، برقم 958.
(7) تضمين من زاد المعاد، (3/16، 17) .
(8) المرجع السابق.
(9) الإصابة لابن حجر، (1/412) .
(10) معجم مقاييس اللغة، (4/145) مادة: عمل.
(11) لسان العرب، (11/475) : القاموس المحيط، ص 1339 مادة: عمل.
(12) المعجم الوسيط، (2/628) مادة: عمل.
(13) القاموس المحيط، ص 372، مادة: شهد.
(14) المعجم الوسيط، (1/497) مادة: شهد.
(15) المعجم الوسيط، (2/906) مادة: نحر.
(16) تضمين من كتاب افتراءات حول غايات الجهاد د محمد نعيم ياسين، ص 35، باختصار وفي بعض ما كتبه في كتابه نظر.
(17) السياسة الشرعية لابن تيمية، ص 199؛ الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 43، وللماوردي، ص 90؛ المغني، (13/180) ، وليست هذه المسألة محل وفاق؛ فهناك من يرى جواز قتل كل كافر ليس له عهد ولا ذمة ولا أمان.
(18) صحيح البخاري، ح/ 3015؛ صحيح مسلم، ح/ 1744.
(19) سنن البيهقي كتاب السير، باب: ما جاء في ترك قتل من لا قتال فيه، (9/91) ؛ سنن
سعيد بن منصور، كتاب الجهاد، باب: ما جاء في قتل النساء والصبيان، (2/239) .
(20) أحكام أهل الذمّة، لابن القيم، (1/51) .
(21) صحيح البخاري، ح/ 4323.
(22) السيرة النبوية، لابن هشام، (2/242) .
(23) صحيح مسلم، ح/ 1059، وانظر: زاد المعاد، (3/503) ؛ الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 43.
(24) المغني، (13/141) .
(25) صحيح البخاري، ح/3012؛ صحيح مسلم، ح/ 1745.
(26) فتاوى شيخ الإسلام، (24/269) ؛ المغني، (13/ 145، 146) ؛ تفسير القرطبي،.
(18/8) .
(27) صحيح البخاري، ح/ 3021؛ صحيح مسلم، ح/ 1746.
(28) أضواء البيان، (8/49، 50) .
(29) زاد المعاد، (3/496) ، وذكر من فقه غزو الطائف جواز قطع أشجار الكفار إذا كان يضعفهم ويغيظهم، (3/503) .
(30) زاد المعاد، (3/469) ، وذكر من فقه غزو هوازن جواز عقر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عوناً على قتله، (5/483) .
(31) المغني، (13/140) ؛ زاد المعاد، (3/422) .
(32) صحيح البخاري، ح/ 2541؛ صحيح مسلم، ح/ 1730.
(33) فتح الباري، (12/317) .
(34) تفسير ابن كثير، (2/588) .
(35) صحيح البخاري، ح/ 6943.
(36) تفسير القرطبي، (10/188) .
(37) سنن سعيد بن منصور، كتاب الجهاد، باب: لا يفر الرجل من الرجلين، (2/209) ؛ سنن البيهقي كتاب السير، باب: تحريم الفرار، (9/76) .
(38) المغني، (13/189) .
(39) السيرة النبوية لابن هشام، (4/7، 8، 9) .
(40) زاد المعاد، (3/505، 506) .
(41) الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 43؛ والماوردي، ص 89.
(42) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، (1/9) .
(43) مقاصد الشريعة الإسلامية، لمحمد سعد اليوبي، ص 400 باختصار.
(44) الموافقات، (2/369) .
(45) مجموع الفتاوى، (28/540) .
(46) سنن أبي داود، ح/ 2509؛ سنن الترمذي، ح/ 2976؛ وصححه الحاكم، (2/275) ووافقه الذهبي.
(47) معجم الطبراني الكبير، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، (2/255) رجاله ثقات.
(48) جمع حَجَفَة وهي الترس من جلود.
(49) البداية والنهاية، (5/30، 31) .
(50) الباب السادس عشر، وهذان الكتابان على أهميتهما إلا أن فيهما ما يستحق الملاحظة.
(51) مسند الإمام أحمد، (5/151) ، صحيح الجامع الصغير، ح/ 3074.
(52) زاد المعاد، (3/95) .
(53) صحيح مسلم، ح/ 1889.
(54) صحيح البخاري، ح/ 2820؛ صحيح مسلم كتاب الفضائل.
(55) مسند أحمد، (2/348) ؛ مصنف عبد الرزاق، (5/389) ؛ طبقات ابن سعد، (1/ 227) وحسنه ابن حجر فتح الباري، (7/184) .
(56) الإصابة، (4/441) ، عن ابن السَّكن، وذكر سنده.
(57) مجموع الفتاوى، (25/279) .
(58) سنن أبي داود، (2/20) ، ح/ 2536.
(59) صحيح مسلم، ح/ 1807.
(60) المغني لابن قدامة، (3/474) .
(61) صحيح مسلم، ح/ 113.
(62) صحيح البخاري، ح/ 6606؛ صحيح مسلم، ح/ 112.
(63) مجموع الفتاوى، (31/384) .
(64) مفتي البلاد السعودية رحمه الله، ت 1389هـ.
(*) الشرنقة: ويقال لها في بعض البلاد: (السرنكة) وهي الإبرة التي يحقن بها الدواء، والمقصود هنا ما كان يعمد إليه الفرنسيون من حقن الأسرى من المجاهدين بالدواء المخدر لانتزاع الاعترافات منهم.
(65) يقصد قصة أصحاب الأخدود.
(66) يعني إذا خيف غرقها بالجميع جاز إلقاء بعضهم من هامش الفتاوى.
(67) فتاوى ورسائل سماحته، (6/207، 208) .
(68) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 98؛ الأشباه والنظائر، السيوطي، 178.
(69) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 96؛ شرح المجلة لسليم الباز، ص 31.
(70) مجموع الفتاوى، (28/548) .
(71) مقاصد الشريعة لليوبي، ص 205، باختصار.
(72) انظر جملة من ذلك، مما يدمي القلب وتدمع له العين، ويقشعر منه البدن من مذابح المسلمين في الهند إبان الانفصال، ومذابح المسلمين في يوغسلافيا والجمهوريات الإسلامية، في: ظلال القرآن، سيد قطب، (4/153) ، وانظر ذلك وزيادة عن مجازر اليهود في فلسطين في: افتراءات حول غايات الجهاد، ص 72، وما بعدها.
(73) مجموع الفتاوى، (25/279، 280، 281) .(164/16)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإصلاح التشريعي في مصر من التأصيل المتعثر إلى الجموح العلماني
ثم عودة التأصيل نماذج النجاح والإخفاق
(4)
عبد العزيز بن محمد القاسم [*]
azalgasem@hotmail.com
أشار الكاتب في الحلقة السابقة إلى أن أول انحراف منظم عن الشريعة في
مصر كان تحكيم المماليك لبعض قوانين التتار، وأومأ إلى أن تاريخ الحملة
الفرنسية على مصر يكشف عن تعرُّف نابليون على جوانب من أحكام الشريعة
الإسلامية، ودرس علماء الحملة الفرنسيون الشريعة ضمن مكونات الثقافة المصرية
الإسلامية وأدركوا أنهم أمام ثروة عظيمة. ومن ذلك اعتبار بعض المؤرخين
الفرنسيين أن التركة الأساسية هي تركة علمية أيديولوجية. ويتابع الكاتب في هذه
الحلقة الحديث عن الإصلاح التشريعي.
- البيان -
ازدواج مؤسسات التعليم وأثره على جهود مواجهة التشريع الوضعي:
مؤسسات التعليم من أهم عوامل تشكيل البنية التحتية للتغيرات الثقافية بما
فيها المجال التشريعي، وهذه المؤسسات هي التي أسهمت في تكوين شرائح
المثقفين الذين قادوا الرأي العام، وتمكنوا من التأثير في مسار الحركة الاجتماعية
ومؤسسات المجتمع والدولة؛ فقد كان التعليم في مصر منذ عهد محمد علي يقود إلى
تكوين قطاعين تعليميين: أحدهما: متقدم لكنه منفصل عن العلوم الشرعية،
ويستلهم العلوم الحديثة وهو قطاع المدارس الأميرية التي كان خريجوها يشتغلون
في مؤسسات الدولة، وقد تم ابتعاث كثير منهم إلى مؤسسات التعليم الحديثة في
أوروبا، والآخر: هو قطاع التعليم الديني الذي لم يهتم محمد علي وخلفاؤه بتطوير
مؤسساته وعلى رأسها الأزهر، كما عانى هذا القطاع من الجمود الفقهي أمام
الحاجات الفقهية القائمة؛ فعلى سبيل المثال لما طلب الخديوي إسماعيل من العلماء
تدوين صيغة شرعية من الفقه الإسلامي يواجه بها الضغط الأوروبي لتطبيق القانون
تنازع العلماء وردوا طلبه، فاتجه إلى ما يوافق هواه، فأمر بترجمة القانون
الفرنسي ليصدر بعد سنوات قليلة، وبذلك التقدم في المدارس الحديثة والجمود
والإهمال في التعليم الديني ازدادت قطاعات التحديث، وانتشرت العلمانية،
وهيمنت على الحياة الفكرية، وانزوت المؤسسة الدينية واضمحل تأثيرها الذي
عرفت به في الحياة العامة؛ فقد: «استطاعت الطبقة الجديدة أن تنتزع القيادة
الفكرية وساهمت بالنصيب الأكبر في قضايا التغيير الاجتماعي في أواخر القرن
التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وفي تحرير المرأة والحياة النيابية» [1] .
ولمجرد المقارنة؛ فخلال ثلاثة أرباع قرن من 1878م إلى سنة 1953م
تولى الوزارة في مصر 298 وزيراً من كل الأجناس التركية والشركسية
والأوروبية والمصرية، كان منهم فقط أربعة أزاهرة منهم علي عبد الرازق،
ومصطفى عبد الرازق اللذان جاءت بهما ليبراليتهما، ومدة بقاء زميليهما لم تتجاوز
عشرة أشهر رغم أن وزارتهم ذات صفة دينية خالصة وهي وزارة الأوقاف، وبذلك
يتبين كيف انفرد رجال التعليم الحديث بقيادة أَزمَّة المؤسسات مع ما يُعْوزهم من
معرفة لأصول الشريعة وبخاصة في مجالات العدل والتعليم الحقوقي. وقد كان
يؤسس لذلك ويدعمه انبهار بالغرب لدى خريجي المدارس الأجنبية؛ ويصف ذلك
أحد المؤرخين بقوله: «ثم الحماس للغرب حماساً يبلغ في خريجي المدارس
الأجنبية والمعاهد الخارجية حدَّ فَقْدِ الوعي القومي، ويضطرب فيما عداهم بين
الارتفاع والهبوط، ولكنه يشرك هؤلاء وأولئك في التشويق لهذا الغرب والاقتداء به
وتقديس ما يصدر عنه تقديس عبدة الأصنام أصنامهم» [2] ، وقد تعزز ذلك باتجاه
القوى المستعمرة إلى إقصاء العلماء وعزلهم. يقول المستشار طارق البشري عن
نفوذ خريجي المدارس المدنية وعلاقته بنفوذ المستعمر: «وهو نفوذ يطمئن إلى
فاعليته واستقراره بقدر ما يضمن هيمنته على العقول؛ ويبدو صواب الملاحظة
التي أشار إليها الباحث أنس مصطفى كامل عن أن الدور العروبي الذي لعبته النخبة
المثقفة في اتجاهها المعادي لما أسماه كان يحقق القدر الكثير من الرضاء للسلطة
الاستعمارية الأوروبية التي تحبذ العلمنة..» [3] .
توالي التأسيس لمشروعات تغريب التشريع والأخلاق:
لم يكن التغريب التشريعي هدفاً معرفياً في فجر النهضة؛ إذ لم تتجه الدولة
والمثقفون إلى التشريع الوضعي رغبة في تحصيل علم لم يكن متاحاً، بل تظهر
النصوص التاريخية أن الاتجاه الغالب بعكس ذلك؛ فقد كان محمد علي في أوائل
القرن التاسع عشر مستمسكاً بالشريعة، وحين اقتبس القانون التجاري اقتبس
صيغته العثمانية، وحين أراد وضع تقنين مدني توجه إلى الشريعة، فكلف المفتي
الشيخ محمد الجزائرلي أن يضع قانوناً مدنياً على مثال قانون نابليون يُقتبس من
الشريعة الإسلامية، غير متقيد بمذهب معين، وقد بذل الشيخ جهداً كبيراً لإنجاز
المشروع؛ إلا أن الظروف الدولية أجهضت المشروع [4] ، ويحكي لنا محمد رشيد
رضا الحوار الذي دار بين الخديوي إسماعيل والشيخ رفاعة طهطاوي؛ حيث طلب
الخديوي من رفاعة كتابة قانون مدني مستمد من الشريعة، فتخوف رفاعة من
شيوخ الأزهر واعتذر عن ذلك. وفي سنة 1882م 1300هـ كما ورد في مذكرة
حسين باشا ناظر الحقانية (وزارة العدل) لمجلس النظار: «تراءى للحكومة
وضع قانون مطابق للشريعة الغراء، وأحيل عمله على سعادة قدري باشا، وتشكل
قمسيون آخر لترتيب المجال.. وإذا قيل لا بد من أن يكون القانون المدني مطابقاً
للشريعة فربما يقال من باب أوْلى أن يلزم أن يكون بالجنايات وسير المرافعات
يكون على مقتضى الشريعة» [5] ؛ فمرجعية الشريعة واضحة في تلك الفترة.
ونلاحظ بوجه خاص أولوية مرجعية الشريعة في الجنايات، وهي معيار
أساسي في النظام الأخلاقي، كما نلاحظ مرجعية الشريعة في كتابات علي مبارك
أحد العائدين من البعثة التعليمية في فرنسا وبخاصة المسامرة الثالثة عشرة حين
يتحدث عن رفض الحجاب مستشرق إنجليزي في القصة.
ونلاحظ أن التحول عن المرجعية الإسلامية إلى العلمانية وفصل الدين عن
التشريع يبدأ مع النصارى الشاميين: بطرس البستاني، وجورجي زيدان،
وشبلي شميل، وأنطون فرح، وغيرهم، وروجت تلك الآراء في الصحافة اللبنانية
المصرية مثل المقتطف والهلال، فتبنى هذا الاتجاه بناء النظام الأخلاقي على أسس
العلم التجريبي وأنه: «لا تستمد الشرائع السليمة إلا من العلوم الإنسانية
الصحيحة» [6] ، وقد أسس شبلي شميل التحول إلى مرجعية العلوم الإنسانية متأثراً
بالداروينية التي تبناها وبشَّر بها في معناها الاجتماعي بوجه خاص، وسانده في
ذلك فرح أنطون، وقد كان تصريحهما بالدعوة إلى فصل التشريع والحكم عن الدين
سبباً للمعارك التي نشبت بينهما وبين الشيخين محمد عبده ومحمد رشيد رضا
وقطعت العلاقات بينهم، وكان الشيخان وقبلهما الشيخ جمال الدين الأفغاني هم الذين
تزعموا حركة تأصيل واسعة لبناء المرجعية العليا في المجتمع على أساس الوحي؛
فقد وقف جمال الدين ضد منكري الدين، واعتنى بالبرهنة على أن الدين دعامة
أساسية للبناء الاجتماعي والعمراني، وأن الماديين المنكرين للألوهية والبعث
يفضي قولهم إلى: «تقويض أركان المدنية وإلى نسف بناء الإنسانية وتذريته في
ذيول السافيات، وإلى الرجوع بالإنسان إلى مرتبة الحيوانية العجماء.. كما أنه
ليس غريباً في مقابل ذلك أن يؤدي الاعتقاد الديني إلى الارتقاء بالمدنية وبنظام
الجمعية الإنسانية، وإلى تحصيل أكبر قدر من السعادة المجتمعية.. وبالتمدن إلى
ذرى الكمال العقلي والنفسي [7] ، فكانت دعوات أنطون فرح العلمانية، كما يقول
ألبرت حوراني قد طعنت:» معتقدات محمد عبده في الصميم « [8] ، فنافح محمد
عبده عن تأسيس الدولة على الشريعة، وكان يقول:» إن العقل وحده لا يستقل
بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد إلهي.. كذلك الدين هو حاسة عامة
لكشف ما يشتبه على العقل من وسائل السعادات « [9] ، وكان يرى أن:» فصل
الدين عن الدولة ليس غير مرغوب فيه فحسب بل هو مستحيل « [10] ، ثم يستنتج
محمد عبده اختلال وظيفة تلك القوانين ليقرر بحجج مدنية:» أن القوانين
المستوردة من أوروبا ليست على الإطلاق قوانين حقيقية؛ إذ لا أحد يفهمها، وإذن
لا يمكنه أن يحترمها أو يخضع لها، ومن هنا أوشكت مصر أن تصبح بلداً من دون
قوانين « [11] ، إن هذا النوع من الجدل يبين المعارضة العميقة التي قام بها زعماء
الإصلاح ضد نقل تأسيس أصول التشريع من الوحي إلى العقل الأوروبي.
وقد حدثت تطورات أخرى دفعت بعملية تأسيس تغريب التشريع إلى منتهاها،
وكان ذلك من نتائج الحرب العالمية الأولى وهزيمة دول المحور بما فيهم الدولة
العثمانية، وتمكين الاتحاديين، وعلى رأس تلك التطورات إلغاء الخلافة. وكان
لإلغائها صدى مدوياً في العالم الإسلامي؛ إذ لأول مرة تخلو بلاد المسلمين من
منصب الخلافة وهو الرمز الكبير لوحدة الأمة، فأصدر المجلس الوطني التركي
سنة 1925م رسالة بعنوان:» الإسلام وسلطة الأمة «دفاعاً عن إلغاء الخلافة،
وتبنت الرسالة مفهوم فصل الدين عن الدولة، وأن هذا المنصب هو الذي أضعف
الدولة لتركيزه السلطات بيد الخليفة، وفي السنة نفسها أصدر محمد بركات الله
كتاباً عنوانه: (الخلافة) يدعو فيه إلى تحويل منصب الخلافة إلى رمز ديني
ينحصر في تعيين الأئمة وإمارة الحج ونحوها، أما في سنة 1925م؛ فقد وقعت
المفاجأة، فأصدر هذه المرة شيخ أزهري وهو علي عبد الرازق كتابه: (الإسلام
وأصول الحكم) يدَّعي فيه انفصال خطط الدنيا عن الدين أي فصل الدولة عن الدين،
وأن الحكم والقضاء متروك لحكم العقل، فأسس بذلك لفصل التشريع عن سلطة
الدين، وقدم المشروعية التي كانت عمليات التشريع الوضعي تفتقر إليها، فأدى
ذلك إلى حملة مضادة قوية من الردود، كما أدت إلى محاكمته وفصله من الأزهر،
وقد ردَّ عليه كبار العلماء كالشيخ محمد بن عاشور، والشيخ محمد بخيت المطيعي،
وغيرهما.
وفي جانب آخر من أعمال التأسيس لفصل التشريع عن الدين تأتي كتابات
التشكيك في أصول الشريعة؛ فرسالة منصور فهمي المقدمة إلى جامعة باريس في
العشرينات جاءت عن حالة المرأة في التقاليد الإسلامية، وأساء فيها الأدب مع مقام
النبوة، فنشرت الصحافة المصرية مقتطفات منها أدت إلى ردود فعل كبيرة، وفي
سنة 1922م أعلن محمود عزمي متابعاً أستاذه الفرنسي لامبير أن الفائدة الربوية
هي أصل كل نمو اقتصادي، وأطلق على البند الدستوري الذي ينص على أن دين
الدولة الإسلام اسم:» البند المشؤوم « [12] ، وفي سنة 1926م نشر طه حسين
كتابه: (في الشعر الجاهلي) مستخدماً منهج النقد التاريخي في دراسة النصوص
بما فيها آيات من القرآن الكريم، وفي العام نفسه كتب إسماعيل مظهر يدعو إلى
نفض العقلية الغيبية المخلوطة بشيء من العلم التي تميزت بها الحضارة الإسلامية
وإلى إحلال العقلية العلمية الأوروبية محلها دون تقريب وتوفيق.
وفي سنة 1937م أصدر طه حسين كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) ،
وكانت نظرته للتشريع مرتبطة بمعاهدة سنة 1936م مع بريطانيا، وأن مصر
بموجب المعاهدة تلتزم التزاماً بأنها ستسير:» سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة
والتشريع « [13] ، فكان في مشروعه مبشراً بالتبعية المطلقة التي وصفها بقوله:
» علينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم
شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما
يحمد منها وما يعاب « [14] .
حركة التأسيس التغريبية ورجع الصدى:
استعرضنا نماذج من أعمال التأسيس لفصل التشريع عن الوحي؛ فما علاقة
تلك الاتجاهات التأسيسية بالبيئة المصرية؟ هل أنبتت أرض مصر تلك
الاتجاهات؟ وبصيغة أخرى: هل كانت حركة التأسيس ثمرة واعية لاجتهاد
موضوعي يلائم البيئة التي نبتت فيها تلك الحركات التأسيسية؟ أم كانت صدى
لحركات فكرية أوجدتها ظروف مختلفة؟
إن تتبع تاريخ التحديث بما فيه التحديث التشريعي يظهر أن العوامل الباعثة
على التحديث ترتبط بثلاثة محاور رئيسة:
أولها: ضعف فاعلية الوسائل المحلية، وقد اكتشف الضعف من خلال
الاحتكاك بالنماذج الأوروبية والهزائم العسكرية أمام الجيوش الغربية، إضافة إلى
النقد الذاتي الذي يتحدث عنه العلماء في مواضعه [15] .
ثانيها: رؤية النماذج الأوروبية وكفاءتها العملية في المجالات السياسية
والتقنية.
ثالثها: تطور مفهوم التمدن الغربي نتيجة للعاملين السابقين، وتطلع النخب
الحاكمة والمثقفة لتحقيق نهضة مدنية تتناسب مع مقدرة الأمة وإمكاناتها.
وكان تأثير هذه العوامل يغلب تأثير الاكتشاف الذاتي ونشوء رؤية حضارية
مستقلة يكتشفها المثقف العربي بأدواته المستقلة، وقد نتج عن ذلك استقطاب ثلاثي
الأطراف:
فالتيار الأول: يدعو للمحافظة والتمسك بالواقع تمسكاً بالمكتسبات الراهنة، وعلى
رأس هذا التيار النخبة الحاكمة وأتباعها من المثقفين والعلماء، وكان منهم من
تخوف من التغيير خشية الابتداع أو التعلق بالكفار أو التخلي عن الشرع.
والتيار الثاني: يدعو إلى التغريب المطلق، وقد برز هذا التيار في أواخر القرن
التاسع عشر حين دشنه النصارى العرب داعين إلى تقليد العلمانية المطلقة.
أما التيار الثالث: فهو الداعي إلى التمسك بالوحي والاستفادة من علوم الغرب
ومؤسساتهم، وكان هذا التيار قلة لم يُقدَّر لها النضوج إلا في وقت متأخر؛ فبرز
في المجال العربي مع الشيخ جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد
رضا، وقد أخطأ بعضهم في بعض اجتهاداته لكنهم هم التيار الذي أسس للجمع بين
الدين والتفاعل مع المدنية الحديثة.
ففي فجر التحديث مع عهد محمد علي نلحظ تحديثاً مبنياً على الحاجة فعلاً
ويضعف فيه التقليد المطلق؛ لكن تلك المرحلة سقطت في أخطاء قاتلة خاصة فيما
يتعلق بتحطيم مؤسسات المجتمع، وتأسيس الحديث بشكل مواز للقديم في التعليم
والاقتصاد؛ فلم يتحقق نجاح الحديث وتحطم القديم. وفي هذا العهد نلاحظ التمسك
بالمرجعية الإسلامية بوجوه عديدة؛ ويظهر ذلك جلياً في كتابات أمثال رفاعة
طهطاوي وإن أخطأ في تقريبه وتجاوز الأصول الشرعية عند التأصيل للحديث،
وقد كان واعياً بخطر أخلاق فرنسا ويحذر منه؛ فقد كان:» يشعر بأنها خطر
خلقي؛ فالفرنسيون لا يعتقدون إلا بالعقل البشري. نعم يشتمل دستورهم على مبدأ
العدل؛ إلا أن هذا المبدأ يختلف كثيراً عن أحكام الشريعة الإلهية « [16] .
ومن هنا نلحظ أن تقليد الغرب لم يكن عن متابعة عقائدية بقدر ما نتج عن
الحاجة إلى التطبيقات العملية. وقد امتد هذا العهد إلى الثلث الأخير من القرن
التاسع عشر مع شبلي شميل وأنطون فرح.
فما علاقة تلك التحولات التأسيسية بحركة الفكر الأوروبي وتحولاته؟ وهل
كان تقليد المفكرين للغرب يستند إلى آلية نقدية فاعلة؟ وهل تخلفت عقلية التقليد
عن متابعة تطورات العقل الأوروبي الذي تستنسخ منه المنهجيات والأفكار؟ أم أن
الاستنساخ بما فيه التشريعي والأخلاقي قد مورس بآلية تفتقد المقدرة النقدية
البنائية؟ سأحاول تقريب ذلك بما يتسع له المقام من خلال تقديم عرض موجز
لتطورات الفكر الأوروبي في تلك المرحلة وتراجعاته بل وإخفاقاته، وسنلاحظ
تمسك مفكري النهضة العربية التغريبيين في ذلك العهد بالمذاهب والمفاهيم التي
انهارت وخلفت وراءها الدمار الشامل في الحربين العالميتين، ولم تظهر تحولات
الفكر الأوروبي الجديد في الثقافة العربية بما فيها مجالات التشريع والأخلاق إلا بعد
عقود.
تحولات أصول الأخلاق والتشريعات الأوروبية واهتزاز مثالية الغرب:
تحدثنا في موضع سابق عن تحولات الفكر الأوروبي في مجال الأخلاق
والتشريع، واتجاهها لتأسيس هذه الحقول تأسيساً وضعياً في محاولة لمحاكاة
التطورات في مجال العلم التطبيقي، ونستكمل مؤشرات التدهور في ميدان التأسيس
للأخلاق الوضعية؛ ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر حققت التطورية
الداروينية صيتاً عريضاً أغرى بتعميم نموذجها في المجال الأخلاقي والاجتماعي؛
فإذا كانت العلاقات قائمة على الصراع والمنافسة كما تقرر الداروينية الاجتماعية فلا
بد أن تتراجع الأخلاق باعتبارها قيماً عليا موجهة للنظام الاجتماعي ليصبح الصراع
والمنافسة القيمة العليا، وقد ألهمت هذه النظرية الفكر والسلوك الأوروبيين؛
فالماركسية وصراع الطبقات مصبوغتان بالمفهوم التطوري للداروينية، وقد تحولت
تلك المفاهيم إلى واقع مؤثر في العلاقات الاجتماعية الأوروبية:» فالروح
الداروينية القائلة بأن الصراع والمنافسة والقوة هي قوانين الحياة كانت المنبع
الرئيس لأقوال رجال السياسة وأفعالهم.. والرأي العام كان في معظم الأحيان نزاعاً
إلى الحرب « [17] ، وكانت التطورية الاجتماعية إضافة حيوية إلى الروح
الأوروبية لتنزع الإنسان من قيم الدين، و:» أصبح مصطلح (المذهب الإنساني
العلمي) شائعاً ومألوفاً بسبب الإكثار من استعماله، وكان هذا المصطلح يعني أن
ثمة إمكانية للارتفاع بالجنس البشري إلى ذرى جديدة بواسطة العلم وحده؛ كما
جاهر أيضاً بعدائه الشديد للدين التقليدي، ولكنِ الكثيرون رأوا أن زحف العلم يهدد
البشرية بتجريدها من إنسانيتها « [18] .
مستمر ذلك إلى أن تفجرت الحرب العالمية الأولى، وخلَّفت وراءها دماراً
هائلاً؛ فالقتلى والجرحى زاد عددهم عن الثلاثين مليوناً. وكان من آثارها الثقافية
في العالم العربي فقدان أوروبا بريقها، وتهاوي قوتها التي امتلكتها بسبب (فضائلها
المطلقة) التي عرفها بها العرب، ففقدت:» قوتها الاستهوائية التي كانت تتمتع
بها منذ زمن طويل بفضل قوتها وفضائلها السامية الكامنة أو المعتقد أنها كامنة وراء
تلك القوة؛ فمنظر أوروبا تتمزق وفرنسا تنهار فجأة قد أثار الشكوك حول تلك القوة
وتلك الفضائل؛ فمن يدري فقد تكون أوروبا لا تملك بالحقيقة سر السعادة الدائمة.
وفي الواقع كانت تلك الشكوك في محلها إلى حد ما؛ فوضع أوروبا قد تغير
بالفعل « [19] ، وبدأ تراجع الهيمنة الأوروبية المطلقة على المنطقة، وفي
العشرينات من القرن العشرين، وهي من ذرى الاستلاب الاستغرابي في العالم
العربي صدرت دعوات فصل الدين عن الدولة ونقد الوحي وقيمه، انتشرت في
أوروبا المحطمة بعد الحرب موجه عارمة من الإحباط والتشاؤم، فشاعت الكتابة
التشاؤمية عن الغرب وحضارته تحت وطأة الحرب ونتائجها البشعة
مثل كتابات (أرنولد توينبي) ، و (شبنقلر) ، و (وليم انج) وغيرهم.
وتزامن ذلك مع تحولات معرفية أخرى؛ فقد ازدهرت في هذه الفترة
(الوضعية المنطقية) ليقول بعض رموزها بأن:» القضايا التي أشغلت الفلاسفة
وعلماء اللاهوت والأخلاق فيما مضى كقضايا الله والحرية والروح والغاية
والأخلاق.. إنما كان الخوض فيها هدراً للوقت ومضيعة للجهد « [20] ، ويعلق
(سترومبرج) على هذه المدرسة بأن لنا:» أن نتصور مدى شدة الصدمة التي
نزلت بعلماء الدين؛ فهؤلاء تعوَّدوا فيما مضى على رؤية البعض يقوم بتغليط
آرائهم؛ لكن لم يسبق لهم أبداً أن سمعوا أياً من الناس يقول لهم بأنهم في جميع
مواعظهم وأبحاثهم لا يقولون أي شيء بتاتاً «.
والعلاقة بين الوضعية المنطقية وقضايا التشريع وثيقة؛ فإذا كانت القيم
والأخلاق قضايا لا تعني شيئاً في موازين العقل العلمي، والعالم قد هجر الدين
الكنسي ليتحول إلى الدين والأخلاق العلمية؛ فإننا إذن أمام إعلان انهيار مروع
لأسس الأخلاق والتشريع. يقول (سترمبورج) :» والحق أننا إذا طبقنا المذهب
الوضعي على الأخلاق؛ فإننا سنكون بذلك قد نسفنا أسس القيم جميعاً.. فقولنا مثلاً:
إننا نعتقد بأن الزنا خطأ أو خطيئة. هو من حيث قيمته الأخلاقية تماماً كقولنا:
«أنا لا أستسيغ مذاق الحمص أو الفول. وهكذا وجدت الآن فلاسفة أكاديميين جدداً
يقولون لنا إن الفكر المنطقي عاجز عن تقديم أي وازع للسلوك» ، ويترتب على
مقولات الوضعية المنطقية تحطيم كل معنى سام للأخلاق؛ ويواصل سترومبرج
مبيناً أن: «مساواة الأذواق الأخلاقية بأنواع أخرى من الذوق الشخصي قد تكون
دعوة صريحة إلى الفجور الأخلاقي؛ فاختياري مثلاً لسلوكي وفقاً للفلسفة الجديدة
يتساوى من حيث القيمة مع اختياري لربطة العنق؛ فهذا مرهون بذوقي
الشخصي» [21] .
وفي الفترة نفسها حدث تطور علمي كانت له آثاره الفلسفية المدوية نقلت
الثورة من مجال الأخلاق والفلسفة إلى ميدان العلوم، فزلزلت حصون العلم وهو
وسيلة اليقين الباقية، كان ذلك مع (إينشتاين) والنسبية والفيزياء الحديثة فلم:
«تقف الثورة هيابة أمام أسوار العلوم التقليدية وقوانينها، بل اقتحمتها ونسفت
خلال العشرينيات من هذا القرن قواعدها واليقين بها، وغدت الفيزياء الحديثة
تتصدر أخبار الصحف والإذاعات» ؛ فما آثار هذه الثورة
العلمية؟ لقد وصف شيئاً من ذلك (جوزيف وود كراتش) في كتابه: (المزاج
الحديث) بقوله: «لقد بلغ تغلغل الشك في نفوسنا حداً أصبح من المستحيل معه
على الإيمان أن يطرده من عقولنا ويحل محله؛ فآخر يقين بالعلم قد تناثر وهوى» ،
ويعلق عليه (سترومبرج) بأن: «منجزات أينشتاين و (بلانك) و (هيسنبرغ)
في ميدان العلم كانت كشفاً عن حقائق جديدة رائعة؛ لكن هؤلاء العلماء بدوا في
نظر الجماهير هدامين لحقيقة لم يكن يأتيها الباطل.. وهكذا بدت دائرة الشك، ثم
اكتملت عندما اتضح أنه حتى العلم قد وجد أن الكون غامض ومستغلق أمام الإدراك
والفهم؛ وبذلك أصبح مبدأ اللايقين بمثابة الاكتشاف الصاعق الذي حققه ذلك العقد
من القرن العشرين» [22] .
وبذلك تحطم تأليه العلم، وأوجد ذلك حيرة ميزت تلك الفترة، وأدت إلى
تنشيط وانتشار عدد من الظواهر الثقافية المرتبطة بتدهور طموحات تأسيس
الأخلاق وضعياً، مثل:
أولاً: نشوء ظاهرة العودة إلى الدين؛ فقد «نشأت العودة إلى حظيرة الدين
عن انهيار الاعتقاد الليبرالي بالتقدم الدنيوي» ، ويأتي مأزق هذا الاتجاه مع
أساطير المسيحية؛ فالعودة إلى الدين لم تكن متفقة مع اللاهوت المسيحي: «لأنها
رفضت جميع الأساطير الواردة في الكتاب المقدس» ، واستجابة لأزمة إرساء القيم
اعتبر: «ما ورد في العهدين القديم والجديد صحيحاً من حيث رمزيته لا من حيث
حرفيته» [23] .
ثانياً: انتشار الوجودية وهي فلسفة طورت لتعلن محدودية العقل ولتعيد
تأسيس السلوك الإنساني على الاختيار بعيداً عن المذهبيات الوضعية التي يؤمن بها
الإنسان.
ثالثاً: ظاهرة أدب اللامعقول؛ إذ صور فلاسفة وأدباء اللامعقول حال القارة
خاصة في أجزائها اللاتينية في الثلاثينيات، وحكوا المناخ النفسي والفكري بطريقة
فريدة متأثرين بويلات الحروب والاضطرابات والرعب ومعسكرات الاعتقال
والمدن المحروقة المدمرة، وقد بدا لهم العالَم كأنه عالَم من الكوابيس، وقد صور
ذلك (فرانز كافكا) في كتابيه: (المحاكمة) و (القلعة) ، ويصف ذلك الواقع
(سترومبرج) بقوله: «فالعالم الذي عاش فيه ذلك الإنسان المنكود كان عالماً رهيباً
مجرداً من كل معاني الإنسانية ومفاهيمها، عالماً ركب الجنون ساسته، ووجه
اللامعقول قادته.. ولا ريب أن القضية الرئيسية بالنسبة إلى ذلك الإنسان كانت
قضية القيم» [24] ، وكان ذلك الانهيار من آثار المذاهب الوضعية التي حاولت
تأسيس أخلاق الإنسان وقيمه بأدوات ومناهج العلوم التطبيقية، وبعض المفاهيم
السائدة في القارة التي غذتها الثقافة الجديدة كالتعظيم المتطرف للقوميات على حساب
القيم والأخلاق.. يقول (جبرائيل مارسيل) : «فذاك الخراب المادي لم يكن في
الحقيقة سوى ظاهرة مأساوية للخراب الذي نزل بالأخلاق» [25] ، وقد أدى دمار
الحرب إلى زعزعة التطورية الاجتماعية كمفهوم يفسر حركة المجتمعات باتجاه
حتمي بل صارت: «التطورية بدعة قديمة في أوائل القرن العشرين» [26] .
رابعاً: ظاهرة المعاناة من غياب المعنى ليكشف هشاشة أصول التشريع
الوضعي وغاياته؛ فالغاية والمعنى التي تفتقر إليها الحياة في المجال الأوروبي
تحولت بشكل واضح إلى معضلة فلسفية يحاول العقل الأوروبي معالجتها؛ فالإنسان
يعاني: «أزمة رئيسية تتمثل في شعوره بالحاجة الماسة إلى قيم تعطي حياته
مفهوماً ومعنى» [27] ولم تكن المذهبيات الوضعية لتقدم هذا المعنى؛ فما الذي
يقدمه؟ «مما لا شك فيه أن المنبع الوحيد الذي يستطيع أن يستمد منه قيمه إنما هو
الإيمان الديني بأوسع معانيه» [28] لكن ألا تقدم فضائل السلوك الاجتماعية هذا
المعنى؟ كالكفاح دفاعاً عن العدل الاجتماعي والمساواة؛ يجيب (سترومبرج) عن
ذلك بالنفي؛ لأن: «الأسئلة اللحوحة لا تزال تطالعنا قائلة: الحرية من أجل
ماذا؟ ومستوى عال من المعيشة من أجل أية غاية؟ وهل يمكن للحرية والمساواة
والديموقراطية أن تكون غايات في ذاتها، أم أنها وسائل توفر للإنسان المقدرة على
بلوغ بعض أهداف الحياة وقيمها؟ وإذا كانت الحال هي هذه أفلا يفضي بنا عندئذ
تجسيد الحرية والمساواة والديموقراطية بدون بلوغ أهداف الحياة وقيمها إلى مادية
خسيسة تبني مجتمعاً موفور الثراء واسع الرخاء لكنه يكون مع ذلك مجتمعاً سوقياً
وصحراء روحية من ضواحٍ نشهدها اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية» [29] .
وقد ظهرت تيارات في حقول معرفية غربية عديدة تقوم على استكشاف
الحضارات الأخرى ليس في تراث المسلمين فحسب بل حتى في الحضارات
البدائية، ووسع ذلك بحوث الأنثرولوجيا بحثاً عن المعنى واستكشافاً لمكمن الخلل
في الحضارة الغربية، كتب البروفيسور (إلياد) يقول: «إن الحضارة الغربية
ولا سيما ثقافتها ستكون مهددة بالعقم والتدهور إذا احتقرت أو أهملت الحوار مع
الحضارات الأخرى.. وأن هذه المواجهة بيننا وبين تلك الشعوب ستساعدنا على
فهم أنفسنا.. إن بعض التطورات الحديثة التي طرأت على الفكر الغربي قد أعدت
الغرب للقيام بهذه المهمة» [30] ، ويتحدث (ترومبرج) عن احتمال دخول
الحضارة الغربية من خلال حوارها مع الحضارات في عالم من التوفيق بين
المعتقدات، وأن مثل ذلك الحوار: «قد يسفر عن اكتشاف الغرب لجوهر شخصيته
وتحديد معالم هذا الجوهر تحديداً دقيقاً؛ فهذا الحوار قد يوقظ الحضارة الغربية من
غفوتها، وينقذها من شكيتها المنهكة» [31] .
وقد أدت تلك التوترات إلى انبعاث ظواهر ثقافية قد تبدو غريبة على روح
الحضارة واتجاهها، ومن أهم تلك الظواهر حركات الإحياء الديني، «والحق أن
كلتا الحربين العالميتين قد أنعشتا الاهتمام بالدين.. ولا خلاف على أن الصحوة
الدينية هذه لتمثل حركة على أعلى درجة من الأهمية والمغزى» [32] ، بل «إن
الإنسان لم يشعر أبداً طوال تاريخه بحاجته إلى الدين شعوره بها اليوم» [33] ،
وكان ذلك من عوامل انبعاث الأصولية الإنجيلية لتملأ الفراغ الروحي الذي أوجدته
الديانة الوضعية.
وإذا قارنا هذه التطورات بما نزع إليه مفكرو عصر النهضة من آمال التحول
إلى الفصل الشامل بين الدين والعلمانية، والتحول إلى نوع من البروتستانتية في
الثقافة العربية تؤسس الأخلاق والتشريع وضعياً، أو كما عبر أنطون فرح بأن:
«لا تستمد الشرائع السليمة إلا من العلوم الإنسانية الصحيحة» [34] ، يتبين لنا
كم كانت المسافة بين المقدرة النقدية العربية وبين المقدرة النقدية في المجال
الأوروبي نفسه بل سنستنتج أن الروح النقدية الحقيقية في التعامل مع معطيات
النهضة الغربية لم تتقدم إلا مع الإسلاميين التجديديين وعلى رأسهم زعماء
الإصلاح الإسلامي في أقطار مختلفة، وقد استكمل جهودهم وأصلح عوجها من
جاء بعدهم وحررها مما وقعت فيه من تأويل وتنازل تحت ضغط التيارات
الجذرية كعلمانية نصارى الشام ومقلديهم كلطفي السيد وطه حسين وغيرهما، وقد
امتد تراث التجديد واستلهام النماذج الحديثة بعد إخضاعها لأصول الوحي وصالح
قيم المجتمع مع كتابات المصلحين والباحثين الإسلاميين وغيرهم ممن تأثر
بمناهجهم، وكتبوا مؤلفاتهم في وضع أسس التفاعل مع الحضارة المعاصرة تنظيراً
وتطبيقاً، وعرض أصول النظم الإسلامية في مجالات الحضارة ونقدها والمجتمع
والاقتصاد والسياسة والقانون والتربية والعلوم الاجتماعية، وتحول بعضها
إلى واقع الممارسة كالمصرفية الإسلامية، ومنهجية نقد فلسفة العلوم المعاصرة،
ونقد أصول التشريع الوضعي وتطبيقاته المخالفة لأصول الشريعة، وأصول صياغة
النظم والقوانين من الشريعة، وسأتناول ما يتصل بالمجال التشريعي في الحلقة
القادمة بإذن الله تعالى.
والله الموفق.
__________
(*) قاض سابق، ومستشار شرعي حالياً
(1) دراسات في تاريخ العرب، مرجع سابق، ص 448.
(2) أصول المسألة المصرية، صبحي وحيدة، القاهرة مطبعة مصر، 1950م، ص 219.
(3) البشري، ص 288، وأحال إلى: اغتراب النخبة الثقافية العربية، أنس مصطفى كامل.
(4) الخلفية الفكرية والتشريعية والاجتماعية لاستبعاد تطبيق الشريعة، محمد كمال إمام، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر، عدد 58، ص 67.
(5) الخلفية الفكرية، مرجع سابق، ص 68.
(6) الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، ص 256.
(7) أسس التقدم عند مفكري الإسلام، فهمي جدعان، دار الشروق للنشر، عمان، 1988م،
ص 200- 201.
(8) تاريخ الفكر العربي، ص 260.
(9) رسالة التوحيد، محمد عبده، ص 129.
(10) تاريخ الفكر العربي، ص 264.
(11) المرجع السابق، ص 146.
(12) أسس التقدم، ص 346.
(13) مستقبل الثقافة 1/63.
(14) المرجع السابق، 1/ 41 42.
(15) انظر: مثلاً زغل العلم، للذهبي ينتقد فيه أرباب العلوم الشرعية نقداً مجملاً، وفي مؤلفات الجويني وابن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي جهود نقدية ضخمة للأداء الفقهي والقضائي وفي السياسة الشرعية، يستخلص من مجملها منهاج إصلاحي ضخم لم يقدر له التفعيل إلا في العصر الحديث، ولم يستكمل استكشافه، وإن بلغ مراحل متقدمة.
(16) تاريخ الفكر العربي، ص 92.
(17) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد سترومبرج، تعريب أحمد الشيباني، ط دار القارئ، 1415هـ، ص 560.
(18) المرجع السابق، ص 605- 606.
(19) تاريخ الفكر العربي، ص 352.
(20) تاريخ الفكر الأوروبي، ص 603.
(21) المرجع السابق، ص 602 603.
(22) المرجع السابق، ص 565 566.
(23) المرجع السابق، ص 560 561.
(24) المرجع السابق، ص 607.
(25) المرجع السابق، ص 622.
(26) موسوعة العلوم الاجتماعية، ميشيل مان، تعريب عادل مختار الهواري وزميله، ط مكتبة الفلاح، بيروت، 1414هـ، ص 241.
(27) تاريخ الفكر الأوروبي، ص 652.
(28) المرجع السابق والصفحة نفسها.
(29) تاريخ الفكر الأوروبي 652- 653، وقد ظل فقدان المعنى هاجساً فلسفياً يحيط بروح الحضارة الغربية حيث تجد أثره فيما لا يحصى من منجزاتها ونظمها؛ انظر مثلاً في قطاع الأعمال
وهو ما يبدو أبعد النظم عن المجال الديني فقد تقدمت فيه البحوث الداعية إلى تسوية معضلة غياب المعنى والغاية السامية؛ فستيفن كوفي أحد أشهر الكتاب المعاصرين يعالج بوضوح هذه المشكلة وأثرها على الأداء الإداري والإبداعي ويصرح باستمداد المعنى من الدين، فيقول: «نجد أن هذه المبادئ تنبع من الدين» إدارة الأولويات 71، ويحاول أن يقدم لها معنى شمولياً يستوعب الحضارات الأخرى.
(30) المرجع السابق، ص 661.
(31) المرجع السابق، ص 662.
(32) تاريخ الفكر الأوروبي، ص 653.
(33) المرجع السابق، ص 658.
(34) الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، ص 256.(164/28)
قضايا دعوية
كيف تكسب الناس وتؤثر فيهم
أمين عبد الرحمن الغنام
من الجدير بالاهتمام لمن عرف أهمية الدعوة إلى الله تعالى ولمس الحاجة
الماسة إليها في مجتمعاتنا أن يعرف بعض القواعد التي ينبغي استحضارها وتطبيقها
في واقعنا لتكون دعوتنا مؤثرة ناجحة وتصل إلى مبتغاها. فهاك بعض القواعد
العامة المعينة في الدعوة إلى الله تعالى:
1 - قبل أن ندعوهم لا بد أن نملك قلوبهم:
إن الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا قلب كبير يسع الناس جميعاً
بمختلف أوضاعهم ونفسياتهم وجنسياتهم، ويتعامل معهم برفق، ويقدم لهم أفضل ما
عنده من فنون التعامل، ويتخير لهم أفضل القول وأجمل المنطق مع بذل الندى
وكف الأذى. ولقد كسب النبي صلى الله عليه وسلم قلوب من حوله مع مجانبة
تقليدهم في انحرافاتهم؛ فكانوا يسمونه: (الصادق الأمين) قبل أن يبعث؛ فقد
ملك قلوب الناس بحسن خلقه وسماحته.
قال تعالى: [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم: 4) وقال سبحانه: [لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ] (التوبة: 128) .
2 - عطاء من لا يخشى الفقر:
إن من السمات المميزة للدعاة إلى الله تعالى كرمهم وبذلهم كل خير للناس؛
فيبذلون للناس الخلق الحسن والجاه إن احتيج إليه، ويبذلون ما يستطيعون للناس
من مرتفقات هذه الدنيا؛ ليبينوا لهم أنهم ليسوا طلاب دنيا وأن الدنيا آخر اهتماماتهم،
فيبذلوا الدنيا للناس ليستجلبوا قلوبهم إلى الدين؛ فمنهج رسولنا صلى الله عليه
وسلم هو منهج العطاء والبذل؛ فقد كان الأعرابي يرجع إلى قومه ويقول: يا قوم
أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
3 - احترام الآخرين والاهتمام بقضاياهم:
فإن النفوس تميل إلى من يحترمها ويرفع من قدرها خاصة إذا كان أولئك
أصحاب مكانة في قومهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يُنَزَّل الناسُ
منازلهم.
وإن من أهم أسباب إسلام كثير من الصناديد هو رفع منزلتهم في الإسلام:
كالأقرع بن حابس، وأبي سفيان، وعيينة بن حصن، وثمامة بن أثال.
ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاهتمام بقضايا المسلمين حتى
لقد كان يهتم بأمور العبيد والموالي.
فها هو يشفع لمغيث عند زوجه بريرة لكي ترجع إليه بعدما عُتِقَت وهو عبد،
وغير ذلك كثير من أمثلة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بقضايا أمَّته.
4 - الكلمة التي من القلب لا تخطئ القلب:
إن من أهم الأمور التي ينبغي استحضارها: أن يكون الداعية صادقاً في
كلمته مشفقاً على المدعو، وأن تخرج الكلمات من قلبه بحرارة مباشرة إلى قلوب
المدعوين، ثم تثمر الاستجابة بإذن الله.
5 - قوة الصلة بالله والاستعانة به:
إن أهم زاد للداعية في طريقه لتبليغ دعوة الله إلى الناس هو اتصاله بالله
تعالى واعتماده عليه وتفويض جميع أموره إليه؛ فقلوب الناس بين أصابعه سبحانه
كقلب واحد يقلبها كيف يشاء، ولو شاء لهدى الناس كلهم أجمعين؛ فبالاعتماد عليه
وتفويض الأمور إليه تنفتح الأبواب، ويسهل الصعب، ويقرب البعيد.
ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أروع الأمثلة في
قوة الاتصال بالله تعالى وخاصة عند الأزمات، وعندما يُعرض الناس عن دعوة
الحق. فها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يأتي شاكياً قومه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم وكأنه يستعديه عليهم ليدعو عليهم لما أعرضوا عن دعوته؛ فما كان من نبي
الرحمة إلا أن رفع يديه إلى ربه وسأله أن يهدي دوساً ويأتي بهم؛ فما أن رجع
الطفيل رضى الله عنه إلى قومه حتى استجابوا جميعاً.
6 - عندما نترفع عن دنياهم:
من أهم ما يزين الداعية ويلبسه ثوب وقار، ويجعله أقرب إلى الاحترام ومن
ثم القبول: أن يكون مترفعاً عن ملاحقة كماليات هذه الدنيا؛ فليس يخوض إذا
خاض الناس في الشاء والبعير وأنواع السيارات والحديث عن العقارات، والسباحة
في بحور الأمنيات الدنيوية؛ فهو لا يجيد السباحة في هذه البحور التي لا ساحل
لها؛ بل لا تراه إلا في الدعوة وحولها يدندن.
وليس معنى ذلك أن يهجر الداعية حياته وأصحابه، وأن يكون جاهلاً
بواقعه، كلا، ولكننا نريد ارتقاء بالاهتمامات، وتميزاً في الرغبات، وألاَّ يغيب
عن همِّ الدعوة، كيلا نكون كالهمج الرعاع الذين يجرون خلف كل ناعق.
فإن أهل العلم دائماً يستحقرون هذه الدنيا وإن عظمت صورتها وحقيقتها عند
العامة والدهماء.
اقرأ إن شئت قصة قارون: [فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا
العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ]
(القصص: 79-80) .
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ومن الأمور المهمة أيضاً استغناء الداعية عن الناس قدر إمكانه، وعدم إراقة
ماء وجهه ما استطاع، بل هو الذي يبذل الخير للناس.
7 - اعرف واقعهم وسترحمهم:
إن مما يشد همة الداعية إلى الله لينطلق بقوة إلى الدعوة والإصلاح نظره في
واقع مَنْ حولَه وبُعدهم عن الله تعالى، وعمق الهوة السحيقة التي وقعوا فيها أو
أوشكوا ... فعند ذلك يتدفق من قلبه شعور برحمة هؤلاء، ثم يثمر الرغبة في تغيير
واقعهم كيلا يوافوا الله تعالى وهم على هذا الحال.
8 - تحت الرغوة اللبن الصافي:
نعم! فلا يغرنك المظهر، وكذا في واقع الدعوة؛ فإن الناس وإن وقعوا في
مآثم ومنكرات بل حتى موبقات فإنهم لا يزال فيهم خير ما داموا موحدين.
ومن هنا ينبغي لنا ألاَّ نترفع عليهم ونكشر أنيابنا في وجوههم، بل ينبغي أن
نجلِّي لهم أبواب التوبة المفتوحة، ونرغبهم برحمة الله ولا نقنطهم منها، وأن
نحاول تنمية جوانب الخير عندهم.
ومن الطرائف في ذلك أن بعض الدعاة كانوا في فرنسا، فذهبوا إلى حديقة
مليئة بالناس والمنكرات، فوجدوا شاباً عربياً معه آلات موسيقية ويغني، فما كان
منهم إلا أن ذهبوا إليه ودار الحوار الآتي:
الداعية: مَنِ الأخ.. أعني ما اسمك؟
الرجل: محمد ...
الداعية: ما شاء الله ما شاء الله! هذا اسم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرجل: ولكني لا أصلي.
الداعية: ما شاء الله. الله أكبر. دائماً المؤمن لا يكذب ومنهجه الصراحة.
وأنت كذلك ...
فما كان من ذلك الرجل إلا أن ذهب مع الداعية إلى سكنه، وثم هداه الله
تعالى على يديه.
ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك؛ فها هو
صلى الله عليه وسلم يسمع أبا محذورة يقلد الأذان؛ فما كان منه إلا أن أثنى على
جمال صوته، ومن ثم علَّمه الأذان فصار بعدُ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم.
وها هو يمنع أي أحد أن يتعرض لمن جلده في الخمر بعد جلده ويقول: «لا
تعينوا الشيطان على أخيكم» [1] .
إن بُعدنا عن صاحب المعصية والنظر إليه شزراً على أنه عاصٍ لَهُوَ من
أسباب عون الشيطان عليه ونفرته من أهل الصلاح؛ ولكن عندما نفتح له قلوبنا
ونتعامل مع أخطائه برفق وحنان فسينتج ما لم نره من قبل.
وبقي نقطتان منهجيتان في الدعوة ينبغي ألاَّ يغفلهما الدعاة وإن كانتا ليستا من
طرق كسب الناس والتأثير فيهم:
الأولى: الصبر على ما يصيب الداعية في ذات الله؛ فإنه مأجور فيه، وله
العاقبة بإذن الله إن صبر وثبت على منهجه الحق، وأظن أن عندك أخي القارئ من
الآيات والأحاديث في ذلك ما يربو على ما عندي.
الثانية: أن على الداعية أن يؤدي ما عليه وهو واجب البلاغ، وأن النتائج
ليست إليه ولا يؤخذ بها إذا أدى ما عليه. قال تعالى: [إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ]
(الشورى: 48) .
تلكم كانت إضاءات وخواطر وقواعد دعوية اختلجت في صدري، فأبديتها
ناصحاً نفسي وإخوتي، علها أن تؤدي ثمراتها.
وعلى الله قصد السبيل.
__________
(1) البخاري، ح/ 6781.(164/38)
تأملات دعوية
الصحوة الفكرية
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
تعاني مجتمعات المسلمين اليوم من بساطة في التفكير، وضحالة ومحدودية
في الثقافة، وهذه المشكلة تركت أثرها على جيل الصحوة باعتباره إفرازاً لهذا
الواقع. وأسهم البعد عن المؤثرات، والحرص على عدم الاحتكاك بالآخرين،
والسعي للعزلة عن الثقافة المعاصرة لما يشوبها من انحراف وخلل، أسهم ذلك كله
في تعميق هذه المشكلة لدى جيل الصحوة.
لكن ملامح التغيير بدت واضحة، بل تجاوزت مجرد الشكوى والشعور
بالمشكلة إلى السير في خطوات عملية نحو تجاوز هذه الإشكالية.
ومن مظاهر هذا التغيير: ارتقاء أسلوب الخطاب الدعوي والفكري في
أدبيات الصحوة، وشيوع المَلَل من التناول التقليدي والنمطي للقضايا الدعوية
والفكرية، والاعتناء بالقراءة الواعية المتفتحة، وارتقاء الحس النقدي ونموه ...
إلخ.
وبقدر ما نُشيد بهذا التحول والارتقاء فلا بد من التنبه لبعض المؤثرات
الجانبية التي قد لا يخلو منها أي اتجاه نحو التغيير.
وهذه المؤثرات منها ما قد يكون نتيجة غياب التوازن والإفراط في ردة
الفعل، ومنها ما يكون نتيجة استيراد القالب وأحياناً المضمون الثقافي والفكري من
الآخر، وصعوبة الفصل بين القضايا الشكلية والموضوعية، والافتقار للدقة في
الانتقاء والتمييز.
ومن هذه المؤثرات الجانبية، والمشكلات المصاحبة لليقظة الفكرية:
* الإيغال في الجانب الفكري النظري، والغياب عن الواقع والحياة العملية،
سواء في التفكير ومعالجة المشكلات، أو في السلوك الشخصي، أو البعد عن هموم
الناس ومعاناتهم العملية، وهي شكوى نادى بها طائفة من المثقفين غير الإسلاميين،
فلا نبدأ من حيث بدأ الآخرون. وهذا الأمر الإيغال في الجانب الفكري على
حساب الجانب العملي هو ضمن دائرة القول دون العمل المذموم شرعاً: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ]
(الصف: 2-3) ، وقديماً قال السلف: «الذي يفوق الناس في القول جدير بأن
يفوقهم في العمل» .
* المبالغة في الشكل والأسلوب، وهذا يقود إلى التقعر والتكلف المذموم، وقد
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال
الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها» [1] ، كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم
قوله أيضاً: «إن مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً،
وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدِّقون
والمتفيهقون» [2] ، ويؤدي التشدُّق المذموم ببعضهم إلى الزهد في المصطلحات
الشرعية والبحث عن بديل يتناسب مع الرقي الفكري، ويزيد من رصيد العبارات
التي لا يعيها الحاضرون مما يدل على رقي المتحدث وسعة ثقافته! وما أجمل
الهدي النبوي البعيد عن التكلف، والجامع لأبواب الفصاحة.
* الجرأة غير الموزونة؛ وتبدو في جوانب عدة، منها: الجرأة على الأحكام
الشرعية والقول فيها بالرأي، والجرأة على حديث الشخص فيما ليس من
اختصاصه ولا مما يحسنه، والجرأة على الأكابر وانتقادهم، والجرأة على النقد
عموماً وتحوُّله إلى غاية وسِمَة للشخص الذي كما يقال لا يعجبه العجب ولا الصوم
في رجب.
* غياب التحقيق والتأصيل العلمي للمسائل التي يتناولها المتحدث والكاتب،
والاعتماد على الآراء الشخصية، والأسلوب الأخَّاذ.
* التعالي على الآخرين، والشعور بالتميز عنهم.
إنها مضاعفات وآثار لا بد من الحذر منها، ولا بد من السعي لتلافيها في
مسيرتنا نحو الارتقاء الفكري، ومع ذلك لا ينبغي أن تعوق عن المواصلة في هذا
الطريق والسير فيه، ولا أن تشغلنا عن أهميته؛ فالأمة أمام معارك فكرية، وحين
تفقد النماذج الفكرية الملتزمة فسيكون البديل النموذج المنحرف الضال.
__________
(1) رواه أبو داود، ح/ 5005، وأحمد، ح/ 6507.
(2) رواه الترمذي، ح/ 2018.(164/41)
البيان الأدبي
قراءات في الشعر الإسلاميّ العالميّ مع الشاعر الإسلاميّ التركي
(رجب غريب)
محمد شلال الحناحنة [*]
ما زال المتوجّسون المرجِفون يرون في الأدب الإسلاميّ تقوقعاً نحو الذات،
وخروجاً على غيّهم وظلام كفرهم وإلحادهم، هذا الغيّ والضلال الذي يسمّونه
«تنويراً» إمعاناً في تلبيس إبليس. وليس هذا الشطط غريباً؛ لأنَّ هذا الأدب هو
أدب الثوابت العقدية الإسلامية أمام زيغ الملحدين وتيه العلمانيّين، ومع تلك
الثوابت نرى ذلك التلاحم الجليّ بين القيم الفاضلة في أدبنا الإسلامي وبين جماليّاته
الفنيّة! ومن هنا تأتي هذه القراءة النقدية لتفتح نوافذ مضيئة على أدب الشعوب
الإسلاميّة، فنقف مع الشاعر الإسلاميّ التركيّ (رجب غريب) في قصيدته (أمّاه)
التي نقلها إلى العربيّة الكاتب الإسلامي (شمس الدين درمشّ) ، ونشرها في
مجلة الأدب الإسلاميّ في عددها الخامس عشر، والقصيدة في فضائها العام لا
تخرج عن لوعات وجدانيّة عائليّة ممزوجة بالغربة والحنين؛ وآهات حزينة
مفجوعة بغياب الأهل:
(أين أبي يا أمّاه؟ ...
أعمامي وأخوالي، في أيّ مكان؟ ...
أين كنتم يا إخوتي. ...
بينما كان أولادي يحترقون؟ !)
ومن المظاهر الأسلوبية التي تميّز هذه القصيدة أنها تترع بالمواجع
الاستفهامية المكانية، فتفضي خصوصية المكان إلى مزيد من الأسى لدى شاعرنا
الإسلامي رجب غريب، فنجده يشدو بحرقة وألم:
(قلبي يبكي دمًا ...
والظلام يغطّي ضياء الشفق ...
أين يدايَ ...
وأين رجلايَ ...
أين أبي يا أمّاه ...
أين بيتنا؟ في أيّ مكان؟)
لذا تتصاعد القصيدة إلى ذروتها من خلال نزف استفهامي زاد على اثنين
وعشرين موضعاً، فيعبّر الشاعر عن حزنه الدفين وألمه العظيم لمعاناة أهله وأحبابه
في البوسنة الجريحة، ويمكن ملاحظة عمق المشاعر، ودفق الجراح في الاستعارة
المكنيّة في مطلع القصيدة:
(قلبي يبكي دمًا) ...
كما يأتي لفظ (أمّاه) المنتهي بالهاء المسبوقة بحرف المدّ لتجسيد هذا النداء
الصافي الحزين الخاصّ؛ حيث ينمو ليكون رمزاً عامّاً (للبوسنة) بكلّ جبالها
وسهولها وأنهارها، رمزاً للبوسنة بشهدائها وعطائها ومآذنها، وجراحاتها الإسلامية
المفجعة:
(تعلّمتُ منك البكاء ...
والكلام ...
وعرفتُ الله الذي هو أقرب من حبل الوريد ...
كنتُ أتذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ...
كُلّ أذان ...
والآن أين المآذن ...
ماذا دهاني يا أمّاه؟)
تتنفّس القصيدة لدى شاعرنا التركي رجب غريب عبر أُفُقها الإسلاميّ الذي
يرى أن الإسلام هو الحل مهما تعاظمت الطعنات، وكبرت الجراح، ويزاوج
الشاعر بين الجمل الاسمية والفعلية، ويلحُّ في آخر كلّ مقطع من مقاطع قصيدته
على الاستفهام التعجبي المؤلم:
(ماذا دهاني يا أمّاه؟)
كما يبثّ مواجده الإيمانية، وأشواقه الروحيّة في ثنايا إيقاعه الشعري فنقرأ:
(وعرفتُ الله الذي هو أقرب من حبل الوريد) ...
وتزهرُ القصيدة بحقلها الكونيّ الضارب في أعماق المأساة متكئة على تنامي
الحدث وتفجّره من نبض الأرض وآلام الإنسان:
(أين الدّروب والأنهار؟ ...
لو حمّلتُ السلامَ نسائمَ الأسحار ...
فهل يعودُ أبي يا أمّاه؟ ...
وهل تبرأ آلامي؟ !) ...
كما تنهض الجمل الشعرية في كثير من الأحيان على الصور المتقابلة
المتضادة لاستجلاء الهمّ الإسلاميّ:
(تتنزّل الأمطار بالرحمات ...
كأنَّ وِكاء السماء قد انحلّ ...
قامت القيامة ...
يظهر القمر وسط الظلمات) ...
إذن تُطلّ علينا القصيدة عبر مفارقات مرّة، إنَّ هذا الشعر يدرأ بعقيدة التوحيد
وبالمثل العليا زيغ الباطل والضلال في نفوس الممترين الذين باؤوا بغضب من الله:
(أقبلْ يا فجري بالنّور ...
حلّقي أيّتها الطيور في سمائي)
وينحو الشاعر عبر هذه الومضات منحى مجازيّاً للتعبير عن أشجان
المسلمين أينما وجدوا سواء في البوسنة أو إفريقيا، أو أذربيجان والشيشان:
(يحترقُ شغاف قلبي ...
ويبكي في أوج ربيعه ...
وا أسفاه يا قلبي: فمشاعرك تتفجّر! ...
أسرابُ الحمام لا تطير في الظلمات ...
ترتفع ألسنة اللهب من البوسنة ...
من إفريقيا وأذربيجان والشيشان ...
أين أنت يا أخي؟ ...
ألا تسمع نحيب التراب؟ !)
هكذا يصلنا شاعرنا الإسلاميّ التركيّ رجب غريب بالذاكرة الإسلاميّة،
يرصد أوجاعنا ويسمعنا نحيب التراب ليحشدنا لمزيد من الفعل الإسلاميّ القابض
على طيور الفجر بإذن الله! !
__________
(*) شاعر وناقد إسلامي أردني.(164/43)
البيان الأدبي
سؤال السؤال
حفيظ الدوسري [*]
أمرُّ.. على الظلِّ ...
في شبح الليلِ ...
أسألُ.. ...
عن غدراتِ المكانْ ...
وأسألُ.. ...
عن خطراتِ الأماني ...
لماذا تخالفُ ركبَ الزمانْ؟ ! ...
لماذا الحكايةُ ...
نفس الحكاية ...
لا الشانُ شانٌ ...
ولا الترجمانْ؟ ! ...
لماذا البلابلُ ...
عادت تُغرِّدُ؛ ...
لكن.. بدونِ سماعِ الأذان؟ ! ...
لماذا الرياحُ ...
استحالت سَموماً ...
وعادَ السحابُ.. ...
بغير اتزان؟ ! ...
لماذا العصافيرُ طارت جميعاً ...
إلى غيرِ شيءٍ ... ...
سوى
الطيرانْ؟ !
لماذا العناكبُ ...
تبني علينا ...
خيوط الهوانِ بكل سِنانْ؟ ! ...
لماذا الخفافيشُ ...
تعلو علينا ونحنُ الصقورُ ...
فأين السِنانْ؟ ! ...
لماذا الفراشاتُ ...
يُقضى عليها.. ...
سريعاً.. ...
سريعاً.. ...
بدون أوانْ؟! ...
لماذا الهداهدُ ...
ما عادَ فيها ...
شبيهُ النذير ...
البليغِ البيانْ؟ ! ...
.... ..
(سليمانُ)
آهٍ.. ...
على هدهدٍ ...
فقدناهُ
في معمعات الرهانْ! ! ...
لماذا الغُرابُ ...
سيبحثُ فينا ...
أيدفن فينا ...
بقايا الكلابْ؟ ! ...
لماذا سيلهثُ فينا الترابُ؟ ...
ونحن لهثنا ...
بسفِّ التراب؟ ...
لماذا لعقنا الأصابعَ.. ...
حتى..
تكشّف عَظمٌ
وبانت
حِرابْ؟ !
لماذا شربنا ...
كؤوسَ الرذيلةِ ...
حتى الثمالة ...
دون مِطال؟ ! ...
لماذا هُزمنا ...
لماذا صُعِقْنا ...
لماذا انتحرنا ...
بدون قِتال؟ ! ...
لماذا المآسي ...
أناخت علينا ...
جبالَ المذلةِ ...
في كُلِّ حال؟ ! ...
لماذا.. ...
لماذا.. ...
فقدنا السؤال ...
سؤالٌ كئيبٌ ...
يجرُّ
السؤالْ؟ !
__________
(*) عضو رابطة العالم الإسلامي العالمية.(164/45)
البيان الأدبي
الأدونيسية.. وإرهاصات النهاية
محمد علي البدوي
تظل الحداثة العربية التي بشَّر بها أدونيس وأوقف حياته عليها؛ تظل من
جملة الأسباب التي عمَّقت ثقافة الهزيمة والتبعية، بالرغم من أنها غلَّفت نفسها
بأغلفة برَّاقة من التمرد والتحرر، ولكن على حساب قيم الدين والفضيلة، بينما
ظلت في حقيقتها تابعة ذليلة للمشهد الثقافي الغربي.
وبدءاً من عصابة «شعر» التي انطلقت من بيروت عام 1376هـ 1957م
«التي جعلت قضيتها الكبرى استيراد الآراء النظرية الغربية المتناقضة، وتخدير
إحساس الأمة» [1] ، ودفعها للثورة على مسلَّمات الدين، ومروراً برسالة (الثابت
والمتحول) التي تقدم بها أدونيس النُّصَيْري إلى جامعة القديس يوسف، ونال دركة
الدكتوراه مكافأة له على إسفافه وإلحاده حيث قعَّد فيها لمذهبه وشرحه، وبيَّن منهجه
في حياته العامة والخاصة « [2] ، إضافة إلى ما تقيأه من كتب ورسائل تفوح منها
رائحة الزندقة والجرأة على الله تعالى، وانتهاء بـ (المرايا المحدبة) التي دقت
الإسفين الأخير في نعش الحداثة.
والناظر بعين البصيرة إلى واقع الحداثة اليوم يرى أنها تعيش حالة احتضار،
وذلك لجملة من الحقائق الآتية:
أولاً: الحداثة بتمردها على الدين تظل خروجاً على السنن الكونية التي قضت
بأن ما ينفع الناس فقط هو الذي يمكث في الأرض ويُكتب له الخلود، ولنا في
الماركسية اللينينية خير شاهد؛ فبعد سبعين سنة من حكم الحديد والنار، إذا بها
تصير أثراً بعد عين ... وما الحداثة عنها ببعيدة.
ثانياً:» الحداثة لا تمثل التطور الطبيعي للشعر العربي الأصيل، وإنما هي
حالة هروبية ناتجة عن إحساس بالإخفاق وشعور بالانهزام النفسي تولد عن هزيمة
1967م، وانهيار حلم المشروع القومي، وهو ما أدى إلى انصراف قطاع كبير من
الشعراء إليها، هروباً من الواقع المرير ... « [3] ، والآن بعد أن اتضحت الصورة،
وظهرت بعد الهزيمة الأُمِّ هزائم متعددة ومتوالية فقدت الحداثة مكانتها ورغب
عنها أهلها.
ثالثاً:» الحداثة العربية مستوردة عن النموذج الحداثي الفرنسي الذي نقله
أدونيس حرفياً إلى العالم العربي؛ فهي نبتة غربية وشاذة على أرض عربية، وليته
كان نبتاً جديراً مفيداً، وإنما نفاية من نفايات الغرب المستهلكة تجاوزها الزمن
وتلقفها تلاميذ الحداثة الذين اعتادوا العيش على نفايات الغرب ومخلفاته « [4] ،
وقد» سُئل المستشرق الفرنسي المعاصر «شارل بيلا» في أثناء
زيارة له في أحد البلدان العربية: «ماذا تقرأ: الأدب العربي القديم أم الحديث؟
فأجاب: بل أقرأ الأدب العربي القديم وحده. فسأله محاوره: لماذا لا تقرأ الأدب
الحديث؟ فأجاب: لأنه أدب أوروبي مكتوب بحروف عربية» [5] .
والعجيب أن الغرب نفسه بدأ يتنكر لهذا التحديث المزعوم؛ «فقد طالب
الشاعر الفرنسي الحداثي (رامبو) بإلغاء الشعر ودمجه في النثر» [6] ، بل لقد
انقلب أدونيس على نفسه وأعلن موت الحداثة العربية وأكد «على ضرورة الإفادة
من الإمكانيات الموسيقية والإيقاعية الكثيرة للعروض الخليلية، وقد قرأ نماذج
موقعة ملتزمة عروضياً من شعره الجديد» [7] ، كما أعلن ذلك أيضاً الدكتور
عبد الله الغذامي أحد أبرز رموز الحداثة العربية، وأحد أكبر المنظرين لها في
الخليج العربي؛ حيث قرر فشلها وتراجعها كمشروع ثقافي في الوطن العربي على
وجه الخصوص « [8] .
رابعاً: عصابة (شعر) التي احتضنت أدونيس، ووليدها المسخ» مجلة
شعر «لم يعد يخفى على الجميع أمرها؛ فالعصابة تكونت بإمكانيات مادية غير
طبيعية» على يد شاعر عربي الأصل أمريكي المنشأ والثقافة واللغة والأدب
والهوية عرف بانتمائه لتجمعات أمريكية أدبية «مشبوهة» وحمل من خلال مسخه
هذا وعصابته تلك على كل خصائص الأدب العربي والثقافة العربية، وأخذ يعلن
الثورة على قيم المجتمع، وأديانه والإسلام تحديداً « [9] . وقد فضح زيفها للعالم
العربي أخيراً الشاعر السوري محمد الماغوط الذي كان أحد أفرادها وعضواً في
هيئة تحريرها» [10] .
خامساً: شكلت الصحف والمجلات بملاحقها الثقافية والأدبية، ودور النشر
الكبرى، شكلت في الستينيات والسبعينيات وإلى الآن اللوبي الحداثي الذي أخذ
يصنع العقلية العربية، ويعيد ترسيم الحدود الثقافية، ويمارس سياسة الإقطاع مع
التيارات الأخرى وخصوصاً الإسلامية منها ولكن اليوم فإن الإعلام الإسلامي بدأ
ينضج وإن لم يكتمل ويمكنه أن يقف على قدميه ويشكل الند، بما يكتنزه من
الأسماء الشعرية والأدبية التي تبوأت مواقع مرموقة على خريطة الذائفة العربية..
والبقاء للأنفع.
سادساً: ظلت الحداثة أدب النخبة كما يدعون أو أدب الطبقة البرجوازية التي
تعيش في قصور عاجية وترفض أن تنزل إلى مستوى العامة من الناس فتلامس
همومهم وتبحث قضاياهم، فاكتنفها الغموض وشاعت فيها الطلاسم والأحاجي
والألغاز، وإذا سألت أحدهم: لماذا لا تقول ما نفهم؟ ردد لك مقولة سيدهم وكاهنهم
الأعظم: «ليس من الضروري أن يفهم الناس الشعر» [11] ، ولذلك رفضه
الناس؛ لأنه لا يتكلم بلسانهم ولا يصدر عن معاناتهم.
سابعاً: أخذ أدونيس يشهد انخفاضاً حاداً في شعبيته وهبوطاً مروِّعاً في
حضوره، بل لقد بدأ العد التنازلي لذلك فعلاً؛ فقد قلبوا له ظهر المجن، وتنكروا
لأستاذيته وريادته؛ ويشهد لذلك «ما حدث مؤخراً في القاهرة والمتمثل في ذلك
الاستقبال الفاتر الذي لقيه من قِبَل عدد من تلامذته، والذي فسره عدد من المتابعين
بأنها شهادة رسمية لشعر الحداثة وسادنها» [12] .
ثامناً: صدور كتاب القرن «المرايا المحدَّبة» للدكتور عبد العزيز حمودة
«فتح على الحداثيين العرب أبواباً من الجحيم كانت مغلقة، وأطلق أصواتاً كان
يخرسها الخوف من هيمنة الحداثة على المؤسسات والهيئات الثقافية بطول العالم
العربي وعرضه» [13] . وقد يفتح هذا الكتاب الباب على مصراعيه لغيره من
الكتَّاب في تناول الحداثة ونقدها وبيان خطرها، ولعل كتاب الدكتور كمال نشأت:
(شعر الحداثة في مصر: الابتداءات، الانحرافات، الأزمة) يدور في الفلك
نفسه، ويشكل صفعة أخرى في وجه أرباب الحداثة.
وأخيراً: فإن الأيام القليلة القادمة قد تشهد تعرية للواقع الحداثي مما يؤذن
بنهاية قريبة ومخزية لها ... وهذا ما ننتظره!
__________
(1) مجلة البيان، عدد (146) ، ص 52.
(2) مجلة اقرأ السعودية، عدد (1255) ، ص 32.
(3) مجلة المنار، عدد (31) ، ص 19.
(4) المصدر السابق، ص 13.
(5) أدب الردة، ص 81.
(6) مجلة المجلة، عدد (1052) ، ص 16.
(7) ملحق الأربعاء لصحيفة المدينة السعودية في 27/12/1420هـ، ص 17.
(8) ملحق الأربعاء، عدد (13524) ، ص 28.
(9) أدب الردة، ص 138.
(10) مجلة المنار، عدد (31) .
(11) مجلة المجلة، عدد (105) ، ص 16.
(12) المصدر السابق، ص 16.
(13) مجلة المنار، عدد (31) ، ص 14.(164/47)
البيان الأدبي
الغريب المغترب!
عبد الخالق القحطاني
- أمي! حبيبتي!
... أطلقها بأعلى صوته، وإذا به يجد نفسه محاطاً بالسَّواد من كل جانب..
ما هذا؟ !
... تمتم في نفسه وهو يحاول أن يتلمّس طريقه في الظلام.. تقع يده على
مفتاح الإنارة، يُديرُه، ثم يعود فينطرح على فراشه ...
- آهِ! !
... زفرة يخرجها من أعماق نفسه، ثم يطلق العنان لخياله، يسرح هناك..
بعيداً، بعيداً جداً، إلى ما وراء البحار! !
- لقد كان حلماً إذن! لقد كُنْتُ أُقبِّل رأسها قبل لحظات وكانت تبكي ... أمي
الحبيبة كانت تبكي!
... دمعتان كبيرتان تتحدَّران على خديه..
دمعةٌ استطاعت أن تجد طريقها إلى وجنته إلى أن أوقَفَها الحيِّز الذي بين
شفتيه، والأخرى سقطت على الوسادة التي كان مسنداً إليها رأسه ... يحرِّك لسانه
فيُلامِس بقايا الدمعة على شفتيه..
- كم هي مالحةٌ هذه الدموع! !
... شهورٌ عدَّة مضت منذ أن وضع عبد الله أول قدم له في هذه البلاد..
وعبد الله شابٌّ في مقتبل العمر، جميل القسمات، وضّاء المحيَّا.. جاء إلى هذه
البلاد لإتمام دراسته الجامعية، كعادة كثير من الطلاب الذين يَفِدُون كل عام إلى هذا
البلد من موطنه في جزيرة العرب..
وبخلاف كثير من الشباب، كان عبد الله على حداثة سنّه قد تربى تربية
إسلامية متينة، ونشأ منذ نعومة أظفاره مع شباب لا تربطه بهم سوى الأخوة
الصادقة في الله تعالى.
لا يزال عبد الله يتذكَّر كم كان وداع إخوانه له حاراً ... لقد رتبوا له حفل
عشاء كبير على شاطئ البحر تعبيراً له منهم عن مدى حبهم ...
وما زال يتذكر كلمات أستاذه ومربيه له وهو جالسٌ إلى جانبه في سيارته؛ إذ
يقول له عبد الله:
- هل توصينا بشيء؟ !
الأستاذ: نعم! أوصيك بتقوى الله حيثما كنت.
... ولا ينسى كذلك كلمات أخيه في الله؛ إذ يقول له: (عليك بغض البصر) .
- غض البصر! ! ! وكأنما استفاق عبد الله من نومةٍ أخرى! !
- بالله! لقد نسيت معنى غض البصر! !
لقد كنت أرى المرأة بعباءتها فأغض بصري، والآن ... وما الآن؟ !
الآن أرى اللحم الغليظ فلا أغض طرفي!
أفخاذٌ مكشوفة، صدورٌ بارزة، نحورٌ بادية، رؤوس حاسرة ... لحمٌ، لحم!
... شعورٌ بالمرارة يعتصر قلب عبد الله، إنه يشعر بأنه فقد شيئاً ثميناً..
فقد الإحساس بجرم النظر إلى الأجنبيات السافرات كما لم يكن يفعل من قبل، لقد
أَلِفَ هذا الأمر، ولكن، ماذا عساه أن يفعل؟
المرأة هنا تعمل في كل مجال؛ فهي سائق الباص وساعي البريد
و ... و ... والدكتورة في الجامعة والمديرة في الشركة، ولا يسلم من الاحتكاك بها
في أي مكان كان ...
لكنه يشعر بالذنب؛ لأنه أَلِفَ تلك العادة ولم يعد يتمعَّر وجهه لمنظر ذلك اللحم،
إنه يحسُّ إحساساً شبيهاً بإحساس الفتاة العذراء التي فقدت بكارتها دونما سبب
وجيه!
إذن، هو الآن يصارع من أجل الحفاظ على سلامة الخط الأخير الذي وصاه
به أستاذه ... تقوى الله ...
ولأجل ذلك أخذ يوثق صلاته بمن يعرف من المسلمين القليلين في هذا البلد
الغربي الكافر، وكوّن معهم جماعة يتواصون على أداء الصلاة في وقتها ويتناقشون
همومهم معاً وما استجدَّ من أمور ...
وفي الوقت نفسه يرى الكثير من الشباب ممن جاؤوا من موطنه يتساقطون في
وحل الشهوات، ويذوبون في حمأة الرذيلة التي تعد ممارستها في هذا البلد أسهل
من شرب الماء.
وتأتيه الأخبار كلّ يوم ...
- ألم تسمع عن فلان؟ لقد كان في البار بالأمس! هل تصدق؟ !
- هل علمت أن فلاناً قد اتخذ عشيقة؟ ؟
- ... وفلان لم نعد نراه يصلي معنا. الله المستعان!
أخبارٌ وحوادث تؤلم قلبه عن شباب أتوا من بلادهم ببقايا إيمان فدفنوها في
هذه الأرض.
ويزداد عبد الله حسرة إلى حسرته ... فالمسكين بشرٌ على أية حال يؤثر فيه
ما يؤثر في البشر، ويحرك نفسه الذي يحرّك نفوسهم ...
لقد فرّقت الغربة بينه وبين أهله وإخوانه ... صورة أمِّه وهي جالسةٌ واجمة
على الكرسي العريض في صالة الجلوس بالمنزل، تنظر إليه بعد أن قبَّلها قبلة
الوداع على رأسها وتتبعه ببصرها وهو يحث الخطى مبتعداً عنها للَّحاق بالطائرة،
لا تزال مخيمة على رأسه..
- يا ليت الطائرة طارت ولم أُدْرِكْهَا ... ! يتمتم..
والداه يتصلان به أسبوعياً.
لا تزال كلمات أمه في اتصال أخير به ترنُّ في أذنه..
أم عبد الله: عبد الله حبيبي! لقد صار يوسف يمشي، هل تصدِّق؟ ! بل
يتكلّم!
يوسف! يوسف! تعال كلِّم ... أخوك على السماعة!
... يوسف هو الأخ الأصغر لعبد الله، لقد تركه وهو لا يزال رضيعاً، والآن هو
يمشي ويتكلم! !
يسترجع عبد الله بعض ما دار بينه وبين زميلٍ له اسمه سيف كان قد تعرَّف
عليه في بلد الغربة، وكان سيف قد ذهب لزيارة أهله في موطنه المجاور لموطن
عبد الله، ولما عاد اتصل به ...
سيف: عبد الله! كيف حالك؟
عبد الله: بخير، كيف حالك أنت؟ وكيف الأهل؟
سيف: والله بخير ولله الحمد..
عبد الله: وكيف كان استقبال أهلك لك؟
سيف: حافلاً! ولكن لا أخفيك سراً، لقد شعرت بأني ضيف عليهم!
عبد الله: ماذا تقول؟ ؟ ضيف؟ ! !
سيف: أجل، لم يعودوا يعاملونني كالسابق، الكل يريد خدمتي والحفاظ على
راحتي.. لا تحمل هذا إنه ثقيل، نحن سنحمله عنك! وسريرك، لا ترتبه، أختك
ستقوم بالمهمّة! ! ماذا تحب أن تأكل على الغداء؟ ! ! وهكذا، مما جعلني مُحرجاً
معهم!
عبد الله (في نفسه) : محرجاً معهم؟ ! ضيف؟ سخف! ! أنا لا أريد أن
أكون ضيفاً على أهلي ولا على إخواني! بل أريد أن أكون ابناً لأهلي وأخاً
لإخواني! ! يعاملونني كما كنّا من قبل، معاملة غير منقحة ولا مزيدة!
ثم لماذا نتكلف الأمور؟ ! كل ما في الأمر أنّي ذهبت وغبت ساعة ثم رجعت!
أجل، هذا كل شيء! ! يكفُّ عن التفكير هنيهة، غير أنه يعود فيسأل نفسه:
أهكذا تفعل الغربة بالناس؟
لا والله، لا يكون هذا معي أبداً! سوف أحجز بالطائرة إلى بلدي الساعة! !
أجل، الساعة! ! !
... يتحفّز عبد الله للوثوب إلى الهاتف، ولكنه ينظر إلى ساعة الحائط وإذا
هي الرابعة قبل الفجر! !
لقد نسي أنه استيقظ أثناء نومه، وذهبت به الذكريات كل مذهب..
- الرابعة؟ !
تحين منه التفاتة إلى جدول مواقيت الصلاة المعلق على الجدار، ينظر فيه،
وإذا بينه وبين صلاة الفجر ساعة كاملة.
- يجب أن أنام ... اختبار الغد صعب، ويجب أن آخذ كفايتي من النوم.
... وقبل أن يضع رأسه على الوسادة، تذكر شيئاً! شيئاً نسيه منذ زمن..
تذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن نزول الرب عز وجل في الثلث
الأخير من الليل، وأنه لا يسأله عبدٌ مسألة من خير الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه ما
سأل!
- يا إلهي! منذ متى لم أقم لله عز وجل؟
منذ متى لم أطرق باب أرحم الراحمين؟ ؟
كم أشتكي إلى العبيد وأنسى رب العباد! !
أليس الله عز وجل هو خالقي ورازقي ومصرّف شأني؟ ؟
أليس هو القادر على أن يرفع عني هذا البلاء والهم والغم؟ ؟
بلى! هو وحده الذي يعطي بغير حساب! وهو وحده الذي لا يضيع عنده
السؤال ولا الطلب..
أجل، هو الذي يجب أن أشتكي إليه؛ فهو الذي يقضي والذين من دونه لا
يقضون بشيء.
.... ينهض عبد الله، يتوجه إلى دورة المياه.. يتوضأ وبعد ذلك يلقي
سجادته ... يستقبل القبلة ثم يكبر ...
- الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحي.... . الرحمن الرَّ.... الرَّحمن ...
حاول إتمام السورة.. لكنه لم يستطع، الدمع يجري من مقلتيه بلا عدد!
والآية توقفت في منتصف حلقه! سالت الدموع على خديه، ومن ثم إلى شفتيه،
أمرَّ لسانه على شفتيه، وإذا بطعم الدموع هذه المرة يختلف عن المرات السابقة! !
لم تكن مالحة هذه المرة..
- إنَّ.... .، إنها.... إنها حلوة الطعم! !(164/50)
نص شعري
لك يا سُهَيْل [1]
عبد الملك السليمان
صَلَفُ [2] الأماني يا سُهَيْلُ، يُثيرُ في نَفْسِي الضَّجَرْ ...
نَشَزَتْ لسَانحِهِ السِّنَاتُ [3] ، فَكُنْتُ خِلَّك في السَّحَرْ ...
صَلَفٌ يُشَتِّتُ شَمْلَ أحْلامِ المِئين من البَشَرْ ...
وأتَى على الآمال في آكامِهنَّ، فلم يَذَر ...
أنا لَسْتُ أدري يا سهيلُ، مَنِ المُلامُ، ومَنْ غَدَرْ؟ ! ...
وَمَنِ المُنَاجِشُ، والذي رَهَنَ الحجَارةَ والشَّجَرْ؟ ! ...
وَمَنِ المُرَابِي بالثَّرى.. ومَنِ الذي بَاعَ الغَرَرْ؟ ! ...
صَلَفٌ.. ولَكنْ يا سُهَيْلُ.. يَحُوكُهُ عَزْمُ الخَوَرْ ...
ويحوكه الوَهْنُ الذي في أمره جَاءَ الأثرْ [4] ! ...
إنِّي أبُوحُكَ يَا سهيلُ، وكَمْ رأيت من العِبَرْ! ...
فَتَحارُ ما بَيْنَ الطهُور، ومَنْ تَلَطَّخَ بالقَذَرْ ...
وتَحَارُ مِنْ نَبَأ الدُّجى؛ وَعَنِ النهار خُذِ الخَبَرْ! ! ...
أما الطَّهُورُ، فصاحِب الإرهابِ، مَمسُوخُ الفطَرْ! ! ...
ينوي الرزايا إنْ تَكلَّمَ، أو تَبَسَّمَ، أو بَسَرْ! ! ...
وإذا تنفَّسَ أصبح الأُوزونُ [5] حتماً في خَطَرْ ...
والآخَرُ البَطلُ الذي قاد البلادَ إلى الظَفَر ...
ولَهُ بكُلِّ خَلِيقةٍ مَثَلٌ على أبهى الصُوَرْ ...
ما السِّرُّ في صَلَفِ الأماني.. إنما صَلَفُ البَشرْ ...
__________
(1) اسم نجم تعرفه العرب، وجاء في أشعارها كقصيدة مالك بن الريب على رواية أبي علي القالي في الأمالي.
(2) الصَلَف كما يقول ابن فارس في معجمه: يدل على شدة وكزازة ثم يقول: «وهو من الكزازة وقلة الخير» .
(3) السِّنات جمع سِنَة وهو بداية النوم.
(4) كما في حديث القصعة.
(5) هي طبقة الجو العليا التي يقولون إنها بدأت تتآكل بسبب التلوث.(164/53)
وقفات
صورة أخرى للتبعية
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
عرفنا التبعية الثقافية والفكرية من خلال أطروحات النخب العلمانية المثقفة،
ورأينا كيف يحاصرهم الفكر الغربي أو الشرقي بمدارسه المختلفة من كل اتجاه
فيؤثر على مبادئهم وقدراتهم النقدية، وعلى موازينهم الفكرية، حتى أصبح ذلك
الفكر عندهم هو المرجعية المعصومة التي يستسلمون لها، ويتحاكمون إليها.
ولئن كان من طلائعهم الفكرية من دعا منذ عقود إلى: «أن نسير سيرة
الأوروبيين، ونتبع طريقتهم في خيرها وشرها، حلوها ومرها» [1] ؛ فإن كثيراً
منهم في زمن العولمة! مضى إلى أكثر من ذلك، وراح يصول على أمنها وفكرها
صولة المحاربين، ويتشدق بكل صلف وكبرياء مفتخراً بانتسابه إلى المدرسة
الغربية، وما الاحتفال الحاشد بمناسبة مرور مائتي عام على دخول نابليون إلى
مصر إلا دليلاً قاطعاً على مقدار السقوط المريع لتلك النخب تحت أعتاب الغرب،
ووقوعهم في مأزق التبعية العمياء التي لا تتجاوز ترجمة الفكر الغربي، والانكفاء
المطلق على أدواته المعرفية وأصوله الفكرية..! ! [2] .
ويشرح المفكر الفرنسي الشهير (جان بول سارتر) بوضوح كيفية تربية
التبعية الفكرية بقوله: «كنا نُحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء
والسادة من إفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن والنرويج
وبلجيكا وباريس؛ فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية
الجديدة، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح
والغدو، ويتعلمون لغاتنا، وأساليب رقصنا، وركوب عرباتنا، وكنا ندبِّر لبعضهم
أحياناً زيجات أوروبية، ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية. كنا نضع في أعماق
قلوبهم الرغبة في أوروبا. ثم نرسلهم إلى بلادهم.. وأي بلاد؟ ! بلاد كانت أبوابها
مغلقة دائماً في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة إليهم رجساً ونجساً،
ولكن منذ أن أرسلنا (المفكرين!) الذين صنعناهم إلى بلادهم، كنا نصيح من
أمستردام أو برلين أو باريس: الإخاء البشري! فيرتد رَجْعُ أصواتنا من أقاصي
إفريقيا أو الشرق الأوسط أو شمالي إفريقيا.. كنا نقول: ليحل المذهب الإنساني أو
دين الإنسانية محل الأديان المختلفة، وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم،
وحين نصمت يصمتون، إلا أننا كنا واثقين من أنَّ هؤلاء المفكرين (! !) لا
يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم ... !» [3] .
غير أنَّ اللافت للنظر أن بعض صور هذه التبعية الفكرية وقع في شراكها
بعض من ينتسب إلى الفكر الإسلامي الحديث، وجرفه تيار الهيمنة الغربية ليذوب
في بوتقته الثقافية. ولئن كانت الصدمة الحضارية التي تعرَّض لها الشيخ الأزهري
رفاعة الطهطاوي (1801 1873م) لمَّا سافر إلى باريس إماماً للبعثة المصرية قد
زلزلت قناعاته السابقة وأسقطته في مأزق التبعية للفكر الفرنسي، فراح يُمجِّد
الحضارة الغربية ويدعو إلى السير في ركابها؛ فإنَّ الصدمة الحضارية التي تعرَّض
لها بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين بعد أكثر من مائة عام على صدمة
الطهطاوي قد كشفت عن أنماط فكرية متعددة حاولت أن تفسر نصوص الكتاب
والسنة تفسيراً عصرياً تقدُّمياً (!) يجرِّدها من مقاصدها الشرعية، كما سعت إلى
تفريغ عقول الأمة من فكرها وعقيدتها الصافية التي لم تكدرها شوائب الضلالة،
وحشوها بفكر مستورد يمسخ الهوية، ويقطعها من جذورها الأصيلة، ويدعو إلى
إعادة صياغة القيم والمبادئ الإسلامية لتتلاءم مع واقع العولمة والانفتاح الحضاري
المعاصر.
وبرزت في الآونة الأخيرة أقلام واتجاهات من المتغربين الإسلاميين في شتى
التخصصات الاجتماعية والسياسية والفكرية والفقهية.. ونحوها طوَّفوا كثيراً في
مدارس الفكر الغربي وتأثروا برشاشها، ثم انتحلوا كثيراً من ثقافتها، وانطلقوا
ينشرون أطروحاتهم في فهم الإسلام و (عقدة الغرب) تسيطر على عقولهم باسم
التجديد والإبداع حيناً، وباسم السماحة والتيسير أحياناً أخرى [4] .
نعم! ربما كان كثير من هؤلاء المفكرين لا يريد إلا نصرة الإسلام والذبَّ
عنه، وآلمهم هجمة التيارات العلمانية الشرسة على الأمة، فأرادوا صياغة فكر
جديد وفقه حديث يسد الثغرات زعموا! على هؤلاء المفسدين؛ ولهذا مثلاً كان
المعيار الفقهي الذي استندوا إليه هو (تحسين صورة الإسلام) ! فانهزموا أمام ذلك
الواقع المنحرف، وتأثروا بالضغوط الإعلامية والفكرية، وراحوا يطوّعون
النصوص لتتجارى مع ذلك الواقع، وبدؤوا ينقِّبون في أقوال الفقهاء المتقدمين
والمتأخرين عمَّا يسوِّغ آراءهم..!
إذن لم يكن المنطلق في تحسين صورة الإسلام هو البحث في النصوص
الشرعية المحكمة وتعظيمها والوقوف عند حدودها، بل كان المنطلق هو البحث عن
مخارج فقهية وإن كانت متكلفة لتتوافق مع الرأي الفكري السائد.
صحيح أنَّ التيسير على الأمة، ورفع الحرج عن المكلفين مما تواترت به
النصوص الشرعية، وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار
أيسرهما ما لم يكن إثماً، ولكن التيسير إنما يكون بالنصِّ لا بالهوى، ورفع الحرج
يكون بالدليل لا بمجاراة الناس.
وها هنا تتضح المعضلة؛ فأهم ما يميز هذا التيار هو سقوطه في بحر
الانهزامية، وآفة التقليد الأعمى، واستسلامه لضغط التيار السائد، وجعله حَكَماً
على النصّ..!
والعجيب أنك عندما تتحفظ على هذه الانهزامية تُتَّهم بالجمود والرتابة
والانغلاق، حتى أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً..! وهنا مكمن
الخطر.
__________
(1) طه حسين، في كتابه الشهير: (مستقبل الثقافة في مصر) ، البند (9) .
(2) بدأت الاحتفالات في شهر يوليو سنة 1998م، تخليداً لذكرى الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت في شهر يوليو سنة 1798م.
(3) جان جاك روسو، في مقدمة كتاب: (معذبو الأرض) ، للكاتب الإفريقي: فرانس فانون.
(4) وصف العلامة محمود محمد شاكر مثل هذه المصطلحات وأمثالها: بأنها «ألفاظ لها رنين وفتنة، ولكنها مليئة بكل وهم وإيهام، وزهو فارغ مميت فاتك، توغل بنا في طريق المهالك، وتستنزل العقل حتى يرتطم في ردغة الخبال» ، رسالة: (في الطريق إلى ثقافتنا) ، ص 82.(164/54)
قراءة في كتاب
الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية
المؤلف: الدكتور حامد عبد الماجد قويسي.
الناشر: دار التوزيع والنشر الإسلامية.
حجم الكتاب: 566 صفحة من الحجم الكبير.
عرض: وائل عبد الغني.
هذه الدراسة المنهجية المتخصصة في النظرية السياسية الإسلامية نال بها
الباحث درجة الماجستير من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة.
تنطلق الدراسة من افتراض مفاده: أن النجاح أو الإخفاق على المستوى الداخلي
والخارجي في ممارسة الوظيفة العقيدية للدول أو الأنظمة التي تعاقبت على حكم أمة
الإسلام ما هو إلا اختلاف في الدرجة لا في النوع؛ ومن ثم اتصفت الممارسة بقدر
كبير من الاستقرار والاستمرار.
هذه الوظيفة قد عرفتها الخبرة الإسلامية بدرجة مكثفة دون أن يكون لها
الوضوح الكافي على مستوى الدراسات من قبل، وقد رأى الباحث أن يتم التنظير
لها على ثلاثة مستويات:
1 - مستوى القيم التي تحكم الوظيفة (المبادئ) .
2 - مستوى البناء النظامي (الهياكل والمؤسسات) .
3 - مستوى قواعد الممارسة ونماذجها التطبيقية.
وتسعى الدراسة لبيان قيمة الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية في إطار نظرية
وظائف الدولة الإسلامية وتحديد موقعها منها في إطار من التجريد والعمومية.
ويتقدم المؤلف بين يدي بحثه بفصل تمهيدي يوضح فيه أهمية انطلاق
التنظير من (المنهج المعرفي المستمد من الوحي) بواقعيته المثالية؛ لتلافي آثار
أزمة الانطلاق من المنهج الغربي التي اتضحت معالمها هناك على مستوى: المنهج،
والنظرية، والتطبيق، بالإضافة إلى ما يمكن أن ينشأ من إشكاليات مضاعفة عند
تطبيقه على واقعنا الإسلامي؛ لقصوره عن تفسير كثير من الظواهر التي تنشأ
داخل مجتمعاتنا المسلمة نتيجة لقصور مسلَّماته وجمودها عند حدث معين ولحظة
تاريخية معينة، ولعل هذا يفسر جزءاً كبيراً من إخفاق الأنظمة العربية في تحقيق
أي من أهدافها التي رفعتها غداة استقلالها.
فطبيعة المنهج وضرورة التميز العقيدي تمليان علينا ضرورة البناء العلمي
والتطبيقي على هدي قواعده وأصوله المستمدة من الشرع.
ويحتوي الكتاب إلى جانب المقدمة القيمة التي تصلح لأن ينال على
موضوعها مع شيء من العمق والتوسع درجة علمية بجدارة خمسة فصول، يقطع
في كل منها شوطاً نحو بناء النظرية:
ففي الفصل الأول:
يضع إطاراً لوظائف الدولة الإسلامية، ويبين موضع الوظيفة العقيدية، وفيه
يتناول برؤية نقدية الكتابات التي عالجت وظائف الدولة الإسلامية، ويفرق فيها بين
اتجاهات تقليدية، وتجديدية.. والقديم منها والمعاصر، من أجل استخلاص بعض
النتائج التي تمهد لبناء مفهوم الوظيفة العقيدية لغوياً وأصولياً ليعتمده أساساً للتنظير.
ويرى المؤلف أن الاتجاه التقليدي قد ركز بوجه عام على الإمامة والخلافة
والإمارة باعتبارها تحقق أهدافاً منبثقة من التصور العقيدي العام، وقد ركز على
وظائف الدولة باعتبارها واجبات الإمام واختصاصاته دون اهتمام بواجبات الرعية
والعلماء وأهل الحل والعقد باعتبارهم جزءاً من الحقيقة البشرية للدولة.. وقد قدم
لنا هذا الاتجاه قوائم سردية بوظائف الإمام وواجباته مع خلط وقع بين الوظائف
وأدوات الممارسة.. ويُعَدُّ الماوردي والفراء أبرز من تكلم في هذا المجال، وكثيراً
ما تأثرت كتابات هذا الاتجاه في أسلوب عرضها بالواقع السياسي الموجود سواء في
المذكور أو المسكوت عنه.
أما كتب الفارابي وإخوان الصفا وأمثالهم فلا تنطلق من أنموذجنا المعرفي؛
إذ كتبت في ظروف تعرَّض فيها العالم الإسلامي لموجة تغريب من الحضارتين
الفارسية واليونانية ربما كانت أقسى مما هو مشاهد اليوم من أوْرَبَةٍ وأمْركة، وقد
كانت تلك الكتابات بمثابة نقطة البدء في الفصل بين ما يمكن أن يسمى «وظائف
دينية» و «وظائف دنيوية» .
ورغم الإسهامات الجادة لهذا الاتجاه فإنه لم يقدم لنا مفهوماً واضحاً لوظائف
الدولة، ولم تنضج منهجيته لتقدم لنا حواراً منهجياً فعالاً بين الأوامر المنزلة وبين
قضايا الواقع.
وفي المقابل نجد أن الاتجاه التجديدي قد ركز في كتاباته القديمة على الخطوط
العامة دون خوض في التفصيلات مع أهميتها في كثير من الأحيان، لكنها شكلت
تياراً مستمراً مرتبطاً بحركة الاجتهاد على امتداد الساحة الزمانية والمكانية للدولة
الإسلامية.
وقد قطعت هذه الكتابات شوطاً في التأصيل؛ إذ قدمت نظرة شاملة ومتكاملة
لمضمون وظائف الدولة، وأصَّلت له وربطت مفهومه بمفهمومَيْ: «الولاية»
و «الأمانة» كما جاء في كتابات ابن تيمية، وبـ «الخطط» كما هي في كتابات
ابن خلدون، وكما ربطته بالمقاصد والمصالح الشرعية التي محورها: «حراسة
الدين وسياسة الدنيا به» .
أما الكتابات المعاصرة في الاتجاه نفسه فقد ربطت هذه الوظائف بمفهومَيْ
«الحاكمية» و «الاستخلاف» وبين مفهوم الدولة ووظيفتها وفكرتها وعقيدتها في
نظرة شاملة ومتكاملة، دون أن ترقى لتشكل نظرية في هذا الجانب، كما أنها لم
تستخدم المداخل الاجتهادية (القياس، والاستصلاح، والاستصحاب) في ضبط
الممارسة.
ويرى المؤلف في نظرته التي تأتي امتداداً للاتجاه التجديدي أهمية وجود
تصور واضح عن مفهوم الدولة ونشأتها وتطورها - ووظائفها حتى يمكننا التعرف
على طبيعة الوظيفة العقيدية وبلورة مفهومها في شكل نظرية؛ فيرى أن مفهوم
الدولة: عبارة عن بلورة نهائية لترابط عضوي بين حقيقتين: معنوية (عقيدة
التوحيد) ، وبشرية (أمة إمام أهل الحل والعقد) .
ومن حيث نشأة الدولة وتطورها: يرى وجود رابط سببي وزمني بين نشوء
الدولة وبين مولد الرسالات السماوية، فنجد في القرآن تأصيلاً لهذه النشأة: [كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] (البقرة: 213) ، فهناك مرحلة الأمة الواحدة.. ثم مرحلة
الاختلاف.. ثم مرحلة إرسال الرسل ونشأة الدولة التي نشأت بجهد أتباع الرسل
المسدَّد باتِّباعهم لمنهج الرسل.
أما الوظائف: فيفرق بين مستويات ثلاثة:
- الوظيفة باعتبارها قيمة.
- الوظيفة باعتبارها بناءً مؤسسياً.
- الوظيفة باعتبارها ممارسة وسلوكاً.
ويرى المؤلف أن «الوظيفة العقيدية» و «الوظيفة الاستخلافية» هما
مضمون وظائف الدولة؛ حيث تتبلور كل وظيفة عن قيمة محددة.. ثم تتمحور
القيم لتعبر عن قيمة واحدة هي قيمة «التوحيد» ، وتسعى لإنجاز مقصد واحد هو
«حفظ الدين» ، والذي يرتبط هو الآخر بمفاهيم: العبادة.. والأمانة..
والاستخلاف.
أما الوظيفة الاستخلافية فهي في جوهرها تابعة ومساندة للوظيفة العقيدية،
وتشتمل على وظيفتين يندرج تحت كل منهما وظيفتان:
العمران: ويندرج تحتها الوظيفة الإنمائية والأمنية.
والعدل: ويتحقق ب: الوظيفة التوزيعية والجزائية.
هذه الوظائف تتساند لتشكل الوظيفة الاستخلافية التي تتبع وتساند الوظيفة العقيدية
التي جوهرها التوحيد وتتحدد في ثلاثة أبعاد:
1 - تحديد موقف واضح من العقيدة (إعلان الالتزام) .
2 - بناء وتأسيس الكيان العقيدي بما يحويه من نظم.
3 -القيام بواجب الدعوة من خلال الإقناع.
وهو ما ستوضحه الفصول القادمة.
الفصل الثاني: بناء مفهوم الوظيفة العقيدية:
بدءاً بالدلالة اللغوية للتركيب حيث يشير إلى: «مجموعة الأنشطة والعمليات
الملزمة التي تقوم بها الدولة لتحقيق المنهج الذي ينبثق من العقيدة التي يعتقدها
ويرتبط بها مجتمع من المجتمعات أو نظام من الأنظمة» .
ومروراً بالدلالة الأصولية التي تعني: الولاية الشرعية العامة للدولة
الإسلامية في تنفيذ وممارسة الفروض والواجبات الكفائية المتعلقة بحق الله تعالى
بوجه عام «والتي تخدم كثيراً في صياغة النظرية.
وعلى مستوى النظرية نجد أمامنا ثلاثة مقومات تتشكل منها معاً هذه الوظيفة:
- حقيقة معنوية جوهرها التوحيد.
- حقيقة بشرية تشكل الجسد السياسي للدولة (الخليفة العلماء أهل الحل
والعقد الرعية) .
- العلاقة بين الحقيقتين وهي علاقة إيمان واعتقاد من جانب، وتوظيف
وعمل من جانب آخر.
هذا المفهوم وفق هذه الرؤية يتفرد بسمات الشمول والحركية والواقعية وتعدد
المستويات والأبعاد والأطراف والعموم والتجريد الذي يؤهل لصلاحيته للإنسان في
أي زمان ومكان.
وسيتم تفصيل ذلك في الفصول القادمة.
الفصل الثالث: مضمون الوظيفة العقيدية وأبعادها:
أما من جهة المضمون: فإن وظائف الدولة تعبر في التحليل الأخير عن القيم
الأساسية في المجتمع التي جوهرها التوحيد باعتبارها القيمة المحورية العليا،
والتي تفرض تحديد مقصد الوظيفة التي تعبر عنها، كما تحدد نظام القيم الإسلامي
الذي يتميز بخصائص الشمول والمثالية والواقعية والحكمة في الممارسة والوحدة في
التعامل والطابع الإنساني العالمي، كما يتميز بالجمع بين الجماعية والفردية في آن
واحد.
وتسعى العقيدة من وراء ذلك إلى إحداث التغيير كمّاً وكيفاً من خلال الممارسة
وصولاً إلى المثالية العليا التي تتميز في نموذجنا الإسلامي برؤية واضحة وهدف
محدد هو الفوز الأخروي، وترتبط بوظيفة الاستخلاف على منهاج النبوة.
وبأسلوب أوضح تعد ممارسة الوظيفة العقيدية في الواقع العملي جوهر التطبيق
الواقعي لتوحيد الألوهية وتقترب كثيراً من الصياغة الحديثة لمفهوم الحاكمية، أو
بالتعبير الشهير مقصد (حفظ الدين) ليس بمفهوم الدولة الحارس الذي عرفته
الخبرة الأوروبية والذي يعني الحفاظ على العقيدة في أصولها وإنما بتطبيقها في
الواقع العملي الحيوي بجميع جوانبه وأبعاده والذي لا يتم إلا في إطار كيان سياسي؛
ذلك أنه لا يسع المسلمين أن يعبدوا الله بالمفهوم الشامل إلا حين يغدون رعايا
مخلصين لدولة إسلامية، ولن يتاح لهم أن يعيشوا بما يتفق مع أخلاقيات عقيدتهم
إلا من خلال الانتماء إلى أمة المؤمنين؛ ولهذا فمقصد» حفظ الدين «مقصد سابق
لوجود الدولة التي تفقد مسوِّغ وجودها إذا ما تخلت عنه أو تنكرت له.
وفي هذا الصدد يمكننا أن نتصور حدين في هذا المجال:
حداً أدنى: تغدو به الدولة مسلمة، ويتمثل في إعلانها الالتزام بالإسلام،
وعدم إخلالها بمنطقة المحكمات (المعلوم من الدين بالضرورة) .
وحداً أعلى: تكون به الدولة إسلامية، وهو نموذج أرقى تسعى فيه الدولة
لتحقيق مقاصد الشريعة كلها في إطار المحكم وفي إطار الظني بإعمال الاجتهاد في
مجاله.
وعندما تصل الدولة إلى تحقيق مقاصد الشريعة الخمسة على الأقل في درجة
الضروريات التي تتبلور في مقصد حفظ الدين، فإنها تصبح مسلمة.. وبينها وبين
أن تكون إسلامية مسافة أخرى تشمل الاجتهاد في مساحة الظنيات. والفارق كما
يبدو نوعي وكمي في آن واحد؛ فهي لا تصبح إسلامية دون أن تكون مسلمة؛ كما
يشك بدرجة كبيرة في أن تظل مسلمة دون أن تنجز المقاصد الشرعية من خلال
الانتقال من مجرد إعلان قبول الالتزام العقيدي وحمايته إلى محاولة تحقيقه وبناء
المجتمع العقيدي من خلاله، والتعامل الخارجي انطلاقاً من مبدأ الدعوة، وأن يكون
رجوعها إلى الشرع رجوع افتقار لا رجوع استظهار، ولا يقبل التعلل بالتدرج في
التطبيق؛ إذ الفرق جلي بينه وبين الانحراف؛ فالتدرج لا يمكن من خلاله الإخلال
بمبدأ الاحتكام إلى الله ورسوله من خلال التلاعب بالنصوص لتسويغ الانحراف في
عملية الممارسة.
ويلفت النظر إلى أن مقصد» حفظ الدين «لا يجوز أبداً قصره على المعاني
المباشرة للّفظ؛ بل يعني أيضاً الحفظ الحقيقي المنصرف إلى الكيان البشري الذي
يكوّن الجسد السياسي للدولة، أي حفظ العقيدة مطبقة في الأمة، ويرتبط بهذا مقصد
آخر هو الوحدة.. سواء على مستوى الكينونة الفردية، أو الكيان الاجتماعي على
مستوى الإدراك.. والولاء.. والنظام.
أما من حيث الأبعاد: فنجد أمامنا ثلاثة جوانب رئيسة كبيرة ومتكاملة يؤدي
بعضها إلى بعضها الآخر وهي:
1 - تحديد موقف من العقيدة وحمايتها.
2 - بناء الكيان العقيدي (المجتمع الملتزم بالعقيدة) .
3 - تحقيق غايات البناء من خلال الممارسة (أداء الوظائف) .
ومن الثابت أن الدولة في جميع نماذجها التاريخية كانت تسعى لممارسة عقيدة
معينة ارتبط وجودها المعنوي والحضاري بها؛ ولهذا فإن الموقف من العقيدة لا
يعدو القبول أو الرفض، أما فكرة الحياد التي تدعيها بعض النظم؛ فهي نوع من
القفز على الحقائق؛ إذ لا بد من استبطان عقيدة أو أيديولوجية تسعى لتحقيقها.
ولهذا فإن الموقف الإيجابي بإعلان الدولة التزامها العقيدي يعد أول مستويات
الممارسة.
أما عن الحد الفكري لإسلام الدولة قياساً على الشهادتين بالنسبة للفرد فيتمثل
في الإقرار بأمور هي:
1 - أن الحاكمية لله وحده، وأن الدولة أداة من أدوات الاستخلاف.
2 - أن القانون الأساسي للدولة الإسلامية هو الشريعة الإسلامية.
3- بطلان كل قانون مخالف للشريعة وإلغاؤه.
4 - على الحكومة ألا تتصرف في شؤون الدولة إلا ضمن الحدود المرسومة
في الشريعة لوظيفتها.
هذه الأمور تعد الخطوة الأولى التي لا يقبل دونها؛ لأن إعلان الالتزام
العقيدي يوضح» فكرة الدولة «الأساسية وغاية قيامها.. ويحدد مواطنيها وماهية
حقوقهم وواجباتهم، وعلى أي أساس تُكتسب أو تفقد، والمبادئ التي يسير عليها
جهاز حكومتها المتحكم في سلطاتها الإدارية وقواعد مسؤوليتها وحدود وظيفتها؛
ولهذا يرى البعض أهمية وضع دستور إسلامي يحدد النظام العام، وهو ما تحدده
المثالية الإلهية والعقيدة التوحيدية المنبثقة عنها، ولا يجوز مخالفته ويعاقب كل من
يخالفه أو يحاول الاعتداء عليه.
وأما حماية العقيدة فتكون من كل ما يشكل نقضاً (الردة) أو تحريفاً
(الابتداع) .
وفي مجال الدعوة يبرز المنطق الاتصالي ودوره في إزالة اللبس وسوء الفهم
الذي يمكن أن يحول بين الناس وبين اعتناقهم للإسلام دون إكراه.
أما المستوى الثاني: فهو بناء الكيان العقيدي (أو المجتمع الملتزم بالعقيدة)
والذي يعني بلورة العقيدة على المستوى العملي في كيان عضوي بشري يحقق
غايات المثالية العليا الإلهية والعقيدة الإسلامية، والذي يؤسس حركته على الإيمان
بالله واليوم الآخر، ويؤسس روابطه على عقيدة الولاء والبراء التي تعطي عقد
الولاء للمؤمنين، والذمة لأهل الكتاب، والبراء من الكافرين والمنافقين.
وتتم عملية البناء على مرحلتين: التكوين، ثم البناء والتأسيس.
ثم يأتي المستوى الثالث: تحقيق غايات البناء التي تتبلور حول تمكين الفرد
والمجتمع من تحقيق ذاتيتهما الإسلامية في الواقع التطبيقي والاجتماعي داخلياً.
وتمارس الدولة واجبين في إطار قيامها بوظيفتها العقيدية هما:
1 - الإشراف على إقامة فروض الكفايات وتنظيمها.
2 - مراقبة إقامة فروض الأعيان.
أما على مستوى التعامل الخارجي فنجد وظيفة الدعوة التي تنطلق من رؤية
توحيدية للعالم الذي يتمحور جغرافياً حول القبلة، وإنسانياً حول آدم» الناس بنو
آدم، وآدم من تراب « [1] ، ومن منطلق عالمية الحضارة الإسلامية صاحبة الدين
الخاتم المنفتح على الإنسانية كلها؛ ولهذا نجد التعامل الخارجي يخضع لمجموعة
من الأسس هي:
1 - الاتصال هو محور التعامل الخارجي.
2 - وحدة الانطلاق من القاعدة الثقافية والتعامل الفكري (الإقناع والاقتناع) .
3 - وحدة قيم التعامل حيث إن التعامل الخارجي هو امتداد للداخلي.
4 - الاتصال مع القيادات الحاكمة بصدد الإقناع بالدعوة وعرض الرسالة.
وإلى جانب مسلك الدعوة هناك مسلك مساند هو الجهاد الذي يراه المؤلف أداة
فكرية وحقيقة معنوية تضم مجموعة من المبادئ المعنوية والأخلاقية.
وتوضح لنا الخبرة التاريخية الأدوات التي تمت الدعوة من خلالها؛ كالرسائل
والسرايا والغزوات وعقود الصلح والموادعة والمعاهدات.
الفصل الرابع: الإطار النظامي والمؤسسي للوظيفة العقيدية:
ويعني بها المؤسسات التي تترجم مدارك الأمة ووعيها إلى واقع عملي، وتعد
صلة بين الوظيفة كقيم والوظيفة كممارسة؛ ومن هنا فإن التوحيد بوصفه قيمة
محورية يمكن تحقيقها من خلال قيمتين نظاميتين هما:» الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر «داخلياً، و» الدعوة «خارجياً.
وكلا المبدأين واضح الأبعاد والدرجات والمستويات وفق أسس واضحة محددة
المحتوى والمضمون، مقننة لأشكال نظامية تقوم على تطبيقه وتحويله إلى واقع
حيوي.
أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهو متردد بين الفرضية العينية والكفائية، ولا تسقط عهدته إلا بالأداء أو
العجز، وتتأكد فرضيته في مثل حال المحتسب وأهل الاختصاص في تخصصهم،
وهو من حيث القدرة متدرج يبدأ من التغيير بالقلب بالمفارقة والمفاصلة
الشعورية.. ثم باللسان الذي يمكن لنا أن نُدخِل في إطاره بعض الممارسات
المعاصرة في المجالات التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية.. ثم يأتي المستوى
الثالث: التغيير من خلال القوة التي توسَّع مفهومها اليوم فاستوعبت صوراً
معاصرة يمكن أن تستخدم في عملية التغيير، خاصة في وقت لم يعد المعروف
الأكبر هو التوحيد، كما لم يعد حد المنكر يقف عند المناكير والكبائر الجزئية
والمحلية، بل يتصاعد حتى يصل إلى مناكير السياسة العامة التي يتمثل أكبرها في
التبعية والإذعان لهيمنة القوى الاستعمارية.
ثانياً: الدعوة:
وهي وظيفة خارجية مكملة للوظيفة الداخلية وكلاهما مستمر في الأمة كما
عبَّرت عنه الآية بصيغة المضارعة: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] (آل عمران: 104) ، ولهذا فإن الدعوة تمثل
ممارسة واجبة الأداء على الكفاية لإدخال أمة الدعوة في أمة الإجابة، وهو مبدأ
توظف له الدولة إمكاناتها كافة لتحقيق الهدف الأسمى، وترسم خططها لتحقيق
متطلباته الآنية والمستقبلية وفق منطلقاته الثلاثية: الحكمة.. الموعظة الحسنة..
الجدال بالتي هي أحسن؛ وهي مبادئ تكفل حسن الأداء في ظل تغير الظروف
الدولية والداخلية.
وتفاعلاً مع هذه القضية يطرح المؤلف مدى قابلية النظام الدولي الجديد
لممارسة الدولة الإسلامية واجبَ الدعوة إلى الله.. ويحاول أن يتلمس الإجابة في
ظل وضع دولي محفوف بالمخاطر..! ويقدم ملامح عامة يمكن من خلالها بناء
تصور ما حول الرؤية الواقعية والمستقبلية لهذه الفريضة المهمة.
ويفرق المؤلف بين الدعوة بوصفها وظيفة اتصالية وبين المفاهيم السائدة في
هذا المجال على الساحة الدولية؛ كالدعاية، والحرب النفسية، والتسميم السياسي.
وبعد أن أوضح صورة الإطار النظامي للوظيفة العقيدية بدأ في الاقتراب أكثر
من طبيعة الأداء، فتحدث عن الأشكال النظامية معتمداً على الخبرة الإسلامية.
ويفرق في هذا الصدد بين نوعين من الأشكال النظامية:
أ - أشكال تأسيسية: (تقوم بإنشاء الأشكال المؤسسية) .
ب - أشكال مؤسسية: (أساسية مساندة) .
ويمكن فهم الأشكال التأسيسية في إطار مؤسسات المسجد باعتباره شكلاً نظامياً
تأسيسياً؛ إذ يحوي العناصر التي تقيم الأشكال المؤسسية؛ فيحوي مؤسسة أولي
الأمر وأهل الحل والعقد وهم أهل الاختيار الذين يختارون الحاكم، وأهل الشورى
من أهل العلم والدراية، وأهل الاجتهاد من العلماء الحائزين لشروط الاجتهاد.
أما الأشكال المؤسسية فمنها ما هو أساسي، ومنها ما هو مساند، وتحمل لنا
الخبرة الإسلامية صوراً للأساسي مثل مؤسسة الحسبة، ودور العلم، والمدارس
الإسلامية التي تعالج تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف على مستوى الداخل، إلى جانب
ديوان الرسائل وديوان الجند اللذين يمارسان الدعوة على مستوى الخارج.
كما عرفت الخبرة عدداً من الأشكال المساندة كان أهمها مؤسستي: أهل
الفتوى، وأهل القضاء.
ولكل شكل من هذه الأشكال مبادئه وصوره وقوانينه وأدواته النظامية التي
تحكمه وتضبط عمله بما يحفظ لعملية ممارسة الوظيفة العقيدية الأداء.
وتكشف لنا الممارسة العصرية عن ثلاثة أنواع للأشكال النظامية يجب التمييز
بينها:
1- (أشكال أصلية) ناتجة عن حكم شرعي يوجبها لإنفاذ أحد فروض الكفاية،
ويأتي في حكمها الأشكال الطبيعية الناتجة عن وضع تكويني في مجتمعنا يقره
الإسلام.
2 - (أشكال طارئة) وجدت قبل الاستعمار لكنها مثلت انحرافاً عن الإسلام
3 - (أشكال وافدة) جاءت مع الاستعمار الأوروبي المعاصر.
وقد تم تحجيم النوع الأول، وضربت فعاليته لصالح النوعين الآخرين بما
يعني قطع أي إمكانية لتطوير الأشكال النظامية الأصيلة وتوليدها لأشكال تحقق
التواصل! وقد خلفت هذه المعضلة كثيراً من المشاكل والتعقيدات تحول دون
الاستقلال الحقيقي والتنمية في ظل اغتراب السلطة عن الجمهور وهامشية
المؤسسات الأصلية الموجودة وعدم فاعليتها.
ومن هنا كان لا بد من طرح تساؤلات جادة حول منهجية بناء الأشكال
المؤسسية في الواقع الحالي التي نجد في مدخل الذرائع حلولاً لإشكالاتها.
وينبه المؤلف إلى أن معالجة الوظيفة العقيدية على مستوى التنظير بوصفها
وظيفة لدولة إسلامية قائمة وموجودة بالفعل هو أمر غير واقع الآن، دون أن ينفي
ذلك وجود مستويات لممارسة الوظيفة يقوم بها المجتمع المسلم حتى في ظل غياب
الدولة تنبني على الاجتهاد المرحلي أو الانتقالي، كما ينبه إلى ضرورة الابتعاد عن
النمط الأوروبي المتَّسم بالضخامة والتعقيد والعودة إلى النماذج الصغيرة في
المجتمعات الاجتماعية والسياسية، في ضوء ما يسميه: (تفاعل المقاييس) الذي
يعتمد على الأبعاد المقدارية والوصفية والآماد والمعدلات، بجوار الجوانب
الموضوعية التي يعالجها مدخل الذرائع في فهم الواقع، وإيجاد ما يناسبه من حلول
لمعضلاته.
الفصل الخامس: فاعلية الوظيفة العقيدية في الممارسة:
وقبل أن يعرض المؤلف لنماذج تاريخية تعبر عن صدقية ما بناه في فصوله
السالفة يشير إلى مبدأ علمي مهم هو: عدم جواز الخلط بين الظاهرة باعتبارها
مبدأ، والخبرة باعتبارها معالجة.
يقدم لنا أربعة نماذج تطبيقية متقابلة: اثنين للنجاح.. واثنين للإخفاق..
تجمع الدلالات السلبية والإيجابية بوصفه أمراً علمياً مقصوداً في ممارسة الوظيفة
العقيدية بمستوياتها المختلفة.
النموذج الأول: نموذج الدولة النبوية: من حيث كونه نموذجاً قياسياً للنجاح
يمكن الاحتكام إليه في فهم دلالات أي ممارسة للوظيفة سواء في مرحلة التأسيس،
أو مرحلة الممارسة، بدءاً بإعلان الالتزام العقيدي وحمايته، ومروراً بمستوى بناء
الكيان العقيدي، ووصولاً إلى التعامل الخارجي من منطلق الدعوة؛ هذا النموذج
مع مثاليته المرهفة مثّل واقعاً يمكن القياس عليه والاستلهام منه.
وفي المقابل نجد النموذج الثاني: يتمثل في دولة بني إسرائيل في عهد نبي
الله موسى عليه السلام بدلالاتها الغنية ونتائجها، كنموذج قياسي للإخفاق في أداء
هذه الوظيفة، يمكن أن يمثل عنصر خبرة في فهم أسباب الإخفاق النفسية والإيمانية
والأخلاقية والاجتماعية للنموذج الذي يعد افتراقاً عن إطاره العقيدي في مستويات
الممارسة ويصلح في فهم أي مرحلة تاريخية أخرى.
النموذج الثالث: من النماذج التاريخية نموذج الدولة في عهد عمر بن
عبد العزيز: باعتبارها مؤشراً قوياً على إمكانية التطبيق، ومدى النجاح في
الاقتراب من النموذج القياسي؛ متى ما صحت المنطلقات وتبنت الدولة أداء هذه
الوظيفة، هذا ما تظهره التجربة وتؤكده الدلالات التي يمكن استخلاصها
هنا.
وفي المقابل يأتي النموذج الرابع: ليبرز تجربة دول (ملوك الطوائف)
باعتبارها نموذجاً تاريخياً للإخفاق؛ سواء في الميلاد أو التأسيس أو في الممارسة
التي افترقت كثيراً عن الإطار العقيدي الجامع.
وفي الخاتمة:
يعود المؤلف فيفصّل في قضية التميز المنهجي الذي افتتح بها دراسته القيمة.
- فيمايز بين الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية وبين الوظيفة الدينية للدولة
البابوية التي يقدس فيها الحاكم، وتطلق سلطاته كما هو معروف في الخبرة
الأوروبية وفي النموذج الفرعوني، أما النموذج الإسلامي فيجمع بين إلهية
المصدر، والطبيعة الاجتهادية المنضبطة بالأصول الشرعية - المحتملة للخطأ
والصواب.
- كما يمايز بينها وبين الدولة والحكومة الأيديولوجية التي تقوم على فكرة
إلغاء الدين باسم السياسة، والمجتمع الديني باسم سيادة المجتمع المدني، أما الدولة
الإسلامية فالسياسة في حركتها تصير ديناً، كما يعبر الدين عن الظاهرة السياسية.
- ويمايز كذلك بينها وبين الدولة والحكومة القيادية التي ظهرت في أعقاب
الحرب العالمية الثانية والتي يبرز فيها دور محوري للزعامة السياسية التي تجسد
عقيدة الأمة، وهو نموذج يمكن إدراجه تحت الفرعونية السياسية.
- وكذا الأمر مع الدولة العلمانية التي تزعم خدمة الصالح العام، وتقوم على
الفصل بين ممارسة السلطة والنواحي العقيدية، وبدلاً من المعتقد أو الدين فإنها
تقدس الدستور، ويأتي سن القوانين وفق التأسيس الوضعي للمصالح المشتركة
للمواطنين والتي تحكمها لغة القوة لا الحق.
ثم يُسدل الستار بمجموعة من الدلالات السياسية لممارسة الوظيفة العقيدية في
الواقع المعاصر:
فعلى المستوى النظري:
- يؤكد على أن الوظيفة العقيدية تقدم تنظيراً حقيقياً لمفهوم الدولة ونشأتها
وتطورها، وهو ما زال يشهد أزمة وتضارباً في الفكر الأوروبي.
- كما يؤكد على أهمية الانطلاق من النموذج المعرفي المستمد من الوحي في
التفاعل الموضوعي مع الواقع، وفي تقديم رؤية على درجة عالية من الوضوح
والضبط والتكامل لبناء نظرية الدولة ووظائفها في إطار التنظير السياسي الإسلامي
وعلى المستوى العملي والحركي:
- يؤكد على حقيقة أن وجود عقيدة أو فلسفة سياسية واضحة وحقيقة بشرية
مؤمنة وملتحمة بها، ووجود سياسة عامة نابعة منها هو الذي يحدد للدولة خطوات
ممارستها الحركية، وماذا تريد على وجه التحديد.
- كما أن الوظيفة العقيدية تطرح إجابات معاصرة لقضايا الواقع على مستوى
الأنظمة والمجتمعات العربية والمسلمة، بالإضافة إلى الواقع العالمي.
- كما تقدم منهجاً للتعامل مع الأزمات التي يعاني منها الواقع (دلالات
الحاضر) ، إضافة إلى غناها بالحلول للخروج منها (دلالات المستقبل) .
- وهي تقدم منهجاً لمعالجة الأزمات الثلاث الأساسية التي تواجه الدول
العربية والمسلمة: أزمة التأسيس.. أزمة الهوية.. أزمة الشرعية.
- إلى جانب ما تقدمه من تفسير لظهور حركات التجديد والإحياء الإسلامية
ونموها من جهة، وفهم حركات التبديد من جهة أخرى.
وعلى المستوى الدولي تمنحنا الدلالات الآتية:
- فهم جوانب الاستقرار في الدول المتقدمة.
- تراجع مفهوم العلمانية أو اللادينية في الواقع العالمي المعاصر.
- تقدم تفسيراً لما نشهده من سقوط الأيديولوجية؛ إذ تمثل دراسة الوظيفة
العقيدية مدخلاً مقارناً لتحليل السلوك الداخلي في الأنظمة القائمة في تعاملها مع
شعوبها ومجتمعاتها؛ من حيث علاقة التربية السياسية، والتلقين الأيديولوجي،
والتعبئة السياسية.
- عودة الدين ليمارس دوراً مهماً على الساحة الدولية.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، (2/524) .(164/56)
المسلمون والعالم
الهدف الغامض بين الحرب القائمة والحرب القادمة
عبد العزيز كامل
كل حرب في التاريخ لها هدف ظاهر أو خفي، حقاً كان أو باطلاً، وبهذا
تجري سنة التدافع قدراً وشرعاً، حتى تضع الحرب أوزارها، قال تعالى:
[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) ، وثمة
فساد عريض في الأرض اليوم لا مناص من جريان سنن الله القدرية والشرعية
لاستنقاذ الإنسانية منه، بدفع أهل الإيمان على أهل الطغيان، وإلا فسدت الأرض
أكثر وأكثر.
ولا إفساد اليوم أعلى من إفساد كفار بني إسرائيل، من يهود ونصارى؛ ذلك
أن طوائف من النصارى قد لحقت حكماً باليهود في اعتقادهم وإفسادهم منذ زمان،
بل كادوا يسبقون اليهود في العلو في الأرض فساداً، أولئك هم طوائف الإنجيليين
الصهيونيين النصارى الذين صنعوا على أعينهم الصهيونية اليهودية في القرون
المتأخرة.
هناك عدد من الحقائق الماثلة اليوم تستحق النظر والتأمل فيما يحدث من
تواطؤ وتطابق بين الطائفتين المتزعمتين للفساد في الأرض عامة وفي بلاد
المسلمين خاصة، منها:
1 - نصارى الغرب وبخاصة البروتستانت هم أسبق من اليهود في اعتناق
المذهب الصهيوني في العصر الحديث، وهو المذهب الهادف إلى جعل (جبل
صهيون) [1] مرتكزاً لبعث الفكر الديني الكتابي المرتبط مكانياً بفلسطين وزمانياً
بالحقبة المشتركة بين ألفيتين.
2 - هؤلاء النصارى هم الذين أقنعوا اليهود وذكَّروهم ونظَّروا لهم لكي
يتجمعوا في فلسطين استقبالاً لأحداث آخر الزمان، وهم الذين خططوا ونفذوا
مشروع توطينهم فيها، وتكفلوا بحمايتهم ما بقيت دولتهم.
3 - هؤلاء النصارى منفردين أحياناً، ومشتركين أحياناً أخرى مع اليهود،
هم المسؤولون عن إبقاء الأمة الإسلامية في انشغال دائم بما يُدخلونه عليها من فتن
وحروب ونزاعات بسبب الحدود المصطنعة والعناصر والزعامات العميلة، وذلك
عبر سلسلة طويلة بدأت في العصر الحديث بإسقاط الكيان السياسي العالمي الأخير
للمسلمين (الخلافة العثمانية) ، والحيلولة دون إقامتهم كياناً عالمياً آخر،
باستخلافهم بعد الاستعمار لشرائح من المنافقين في أكثر ديار المسلمين، لضمان
عدم نهوض الأمة بالإسلام مرة أخرى.
والسؤال الآن: ما الذي دفع تلك الطوائف النصرانية للتواطؤ مع الطوائف
اليهودية في كل ذلك؟
إن الجواب عن هذا السؤال وأسئلة كثيرة مشابهة برز فيه اتجاهان مشهوران
لا يزالان يعتلجان في سماء الحقيقة، وسيظلان كذلك حتى تُرجِّح وقائع التاريخ
مصداقية أحدهما على الآخر.
أحد هذين الجوابين يتصدى «للإفتاء» به أنصار التفسير اللاديني للتاريخ
المعاصر؛ حيث يقولون إن القصة كلها مسألة مصالح استعمارية، سياسية أو
اقتصادية أو ثقافية، تنطلق من خلفيات مادية حياتية بحتة لا علاقة لها بالدين [2] .
إن هذا التفسير قد ساد وقاد مدة تفرُّد الطرح العلماني بالساحات الفكرية، حتى
ظل أنصاره يرددون مقولات التفسير المادي للتاريخ بشكل أو بآخر، مستنكفين عن
الاعتراف بأي دور لأي دين في تسيير وتفسير أحداث التاريخ المعاصر.
أما الاتجاه الآخر في الجواب على سؤال: لماذا فعل الغربيون النصارى ذلك
مع اليهود؟ فهو اتجاه مشترك بين بعض أصحاب الاهتمام الديني من اليهود ومن
النصارى ومن المسلمين أيضاً، وقد ظهر هذا الاتجاه وبرز مع بروز الصحوات
الدينية عند أتباع الديانات الثلاث.
فحوى هذا التفسير باختصار: أن العقائد الدينية التي أسهمت بدور رئيس في
توجيه مجمل أحداث التاريخ وصناعتها بقدر من الله في الماضي، لا تزال تصيغ
وتصبغ بدوافعها وتدافعها أحداث التاريخ المعاصر. وما حدث بشأن قضية النزاع
على الشرق الأوسط منذ ما يزيد على قرن ونصف، ما هو إلا فصل جديد معاصر
من فصول هذا الصراع بين العقائد.
إن هذا التفسير يعترف به كثير من الباحثين في الأصولية النصرانية الإنجيلية
في الغرب، وهذا التفسير أيضاً تقول به، بل تنادي به الآن عشرات من الجماعات
الأصولية اليهودية داخل (إسرائيل) وخارجها [3] .
وبما أن الباحثين في الغرب هم أصحاب الشأن في تفسير ما يقوم به قومهم،
فقد لفت هذا انتباه بعض الباحثين المسلمين، فطفقوا يخوضون في بحث أبعاد
القضية من جوانبها التاريخية والسياسية والثقافية، غير أن معظم هذه الأبحاث جاء
مفتقراً إلى مادة شرعية إسلامية تنضبط بها التحليلات والتفسيرات [4] .
ومن خلال مجمل أقوال الباحثين من أتباع الديانات الثلاث، ومن خلال
استعراض نتائج ما كتبوا في هذا الشأن تبينت حقيقة مُجْمَع عليها وهي: أنه كانت
هناك في الغرب فعاليات دينية مؤثرة استطاعت أن تقنع زعامات سياسية وفكرية،
بأن تتبنى فكرة (صناعة التاريخ المستقبل) في ضوء معطيات أهم كتاب للتاريخ
في التاريخ وهو التوراة من وجهة نظرهم وقد نجحت تلك الفعاليات في ذلك،
فنشأت نزعة دينية نصرانية يهودية تدعو لتوجيه ذلك التاريخ، بدعوى أنهم ينفذون
(خطة الإله) في السير بالتاريخ إلى منتهاه.
وتدور برامج هذه النزعة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر حول
عدد من الثوابت التي تنطلق من أن البشرية على مشارف نهاية التاريخ، وأن هناك
تسلسلاً زمنياً في الأحداث هو قدر محتوم، ولكن المشاركة في صنعه هو شرف
لكل من يشارك.
وهناك نقاط اتفاق ونقاط افتراق بين الفريقين اليهود والنصارى في تحديد
نوعية بعض الثوابت؛ فمن جهة طوائف النصارى برزت هذه الثوابت:
1 - لا بد من عودة المسيح عليه السلام ليحكم الأرض ألف عام.
2 - الألفية الثالثة النصرانية تصادف في شطر كبير منها الألفية السابعة
اليهودية التي سيختم بها التاريخ.
3 - عندما يعود المسيح، فسوف يؤمن به اليهود هذه المرة ويكونون من
خلاصة أنصاره، ومن سيكفر به فسيحرق بنيران الحرب العظيمة التي ستأكل كل
أعداء المسيح.
4 - لعودة المسيح المرتقبة ثلاثة شروط:
أ - لا بد أن تكون إسرائيل دولة.
ب - لا بد أن تكون القدس عاصمة لها.
ج - لا بد أن يعاد بناء قبلة أهل الكتاب التي هدمت بعد سبعين عاماً فقط من
ميلاد المسيح [5] .
أما من جهة الطوائف اليهودية التي اشتركت مع النصارى في تلك النزعة،
فإنها قد وافقتهم على مجمل تلك الثوابت باستثناء شيء جوهري وهو تعيين
الشخص المنتظر، فبينما أصر النصارى على أن المقصود في نصوص العهدين
القديم والجديد هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام واصل اليهود إصرارهم
القديم على أن المبتعث الجديد هو نبي أو ملك أو مخلِّص خاص بهم هم.
وتجاوز الطرفان الاختلاف بالاتفاق على العمل في الجوانب المتفق عليها،
مع تأجيل النقاش في الجانب المختلف فيه.
حروب كبرى لأهداف كبرى:
بالتأمل في مسار الأحداث الكبرى في منطقة (الشرق الأوسط) بعد أن
أصبحت محط أنظار المتحالفين المتخالفين من اليهود والنصارى، يستطيع المرء
أن يلمس أن هناك اتجاهاً محدداً يحكم هذا المسار، ليصل به عن طريق الدسائس
السياسية أو الحروب العسكرية إلى تحقيق تلك العلامات الثلاثة المذكورة والتي
أصبحت أهدافاً استراتيجية أبعد في مداها من كل الاستراتيجيات المرحلية الموقوتة،
وذلك وفق برنامج يظهر من تسلسل أحداثه أنه مقسم إلى مراحل زمانية ومكانية
منتظمة، وهو البرنامج الذي تستميت جهات مشبوهة في نزع صفة القصد أو
التآمر عنه حتى يبدو كأنه تسلسل طبيعي لمجريات التاريخ، لقد كان لليهود
وأوليائهم من النصارى دور خطير في إقحام كثير من بلدان المسلمين في منطقة
الشرق الأوسط وما حولها في عدد من الحروب الكبرى، لأجل (أن تصبح
إسرائيل دولة) ، وكانت بداية هذا التوريط ما كان في الحرب العالمية الأولى
(1914م) التي انتهت لتكون إحدى نتائجها البارزة بعد الحرب انتهاء تركيا،
وسقوط الخلافة الإسلامية فيها بعد ذلك بقليل، وليسقط بذلك الكيان الذي كان أكبر
عقبة على طريق توطين اليهود في فلسطين، ولتصدر بريطانيا بعد انتهاء الحرب
بقليل عام 1917م وعدها لليهود بوطن قومي لهم في فلسطين. ثم جاءت الحرب
العالمية الثانية لتكون من نتائجها: إعادة ترتيب المنطقة العربية لاستقبال واقع جديد،
وهو نشوء دولة يهودية بداخلها.
فما أن استقر شكل النظام العالمي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى
أوعز النصارى الإنجليز لليهود بأن يستعدوا لإعلان دولتهم في فلسطين، بعد أن
أمضت بريطانيا ثلاثة عقود في تأهيل اليهود لأن يكون لهم كيان مستقل في فلسطين،
وكان لا بد من أجل القفز إلى تلك المرحلة التأسيسية الخطيرة التي يتحقق بها
شرط: (أن تكون إسرائيل دولة) من تدبير وضع انقلابي جديد بالمنطقة يجعل من
ذلك الشرط أمراً واقعاً وتوجت الحرب جهود السياسة وأنضجتها نيرانها اللاهية.
حرب الهدف الأول: (إعلان الدولة) :
أطلق اليهود على تلك الحرب: (حرب الاستقلال) فقد كان هذا الاستقلال
في شكل دولة معترف بها دولياً هدفاً قديماً، تبلور في شكل مبكر على يد (تيودور
هرتزل) زعيم الصهيونية اليهودية الحديثة في كتابه (الدولة اليهودية) ، وكانت
الطريقة التي تقرر بها إعلان الدولة مستفزة للدول العربية آنذاك، ودافعة لها لأن
تبادر إلى الدخول في حرب لمنع جعل هذه الدولة أمراً
واقعاً، ولكن هذه المبادرة كانت مجرد قرار تعجل به السياسيون دون سابق إعداد
ودون إقرار من العسكريين، فقد نشبت هذه الحرب رغم أنف القيادات العسكرية
التي طلبت التمهل في دخول الحرب حتى تستكمل الجيوش العربية الإعدادات
والتدريبات والتنسيق فيما بينها.
إنه وبرغم الارتجال المتعجل في قبول العرب دخول الحرب دون سابق إعداد
أو استعداد، فإن روحاًَ من الفداء دبت في صفوف الجيوش العربية، حتى كادت
تحقق انتصاراً عسكرياً على عصابات اليهود، وهنا برز تعجل السياسيين مرة
أخرى وعدم حنكتهم، فقد قبلوا بسرعة قرار الهدنة الذي فرضه مجلس الأمن
الدولي، ذلك القرار الذي جاء لإيقاف تقدم الجيوش العربية ريثما يعيد اليهود
استعدادهم ويلتقطوا أنفاسهم! وهذا ما كان؛ فقد تدفق السلاح على اليهود من كل
مكان حتى استطاعوا بعد انتهاء شهر الهدنة من قلب الموازين لصالحهم، وتعجب
الأعداء قبل الأصدقاء من الطريقة التي أضاع الساسة العرب بها فلسطين، حتى إن
مناحيم بيجن كتب بعد ذلك يقول: «إننا لا نعرف حتى الآن كيف ولماذا قبلت
الدول العربية الهدنة، بعد أن كان الموقف العسكري لصالحها تماماً» [6] .
على أية حال، لقد وقع المحذور، وقامت دولة اليهود، وهزمت جيوش سبع
دول عربية أمام عصابات شبه عسكرية، وافتُتح بذلك مسلسل الأداء السياسي
الهزيل أمام العدو الحقير الذليل الذي حشد رغم ذلته مائة وستة آلاف مقاتل
صهيوني في مقابل خمسة عشر ألف مقاتل عربي في الجيوش السبعة.
لقد سُجِّل وصف (النكبة) للحرب في الجانب العربي في مقابل وصف
(الاستقلال) للجانب اليهودي، ونستطيع أن نقول هنا: إن كل ما سبق الحرب
من أحداث وما رافقها من وقائع وما تبعها من آثار إنما كان وبرغم فداحته
وخطورته (مجرد تفاصيل) لا ينبغي أن تشغل النظر عن الملمح الرئيس والهدف
الأساس لليهود في تلك المواجهة الكبرى الأولى، وهو (أن تكون إسرائيل
دولة) ، أما الساسة العرب، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي اضطروا فيها أن
يواجهوا شعوبهم بحصول الهزيمة الجماعية ولسان حالهم يقول: «عفواً ... لم نكن
مستعدين» !
حرب الهدف الثاني ( «تحرير» العاصمة) :
استغل اليهود فرصة الهدوء الذي استمر عقداً بعد حرب السويس
1956م [7] ، لكي يستعدوا لحرب الهدف الثاني التي أسموها (حرب التحرير) أي
تحرير القدس! فقد أظهرت كل الشواهد أن الهدف الرئيس لهذه الحرب كان هو
(أن تصبح القدس عاصمة) وذلك بتخليصها أولاً من العرب. ولأجل الاستفادة من
التاريخ سأستعرض فيما يلي ومضات مهمة من مسار أحداث تلك الحرب ومقدماتها،
التي تشبه إلى حد كبير جداً أحداث الأيام الراهنة التي نعيشها:
* كانت الأحداث قبل حرب 1967م بعام تشير إلى تصعيد إسرائيلي مشبوه؛
فقد شنت دولة اليهود في يوليو 1966م أي قبل الحرب بعام هجوماً جوياً على
سوريا، تحت ذريعة محاولات سورية لتحويل مياه نهر الأردن، وفي نوفمبر من
نفس العام أي بعد أربعة أشهر شنت هجوماً برياً على الضفة الغربية الواقعة آنذاك
تحت سيطرة الأردن بدعوى الرد على أعمال فدائية، وبعدها بشهر هدد (ليفي
إشكول) رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت بإعلان الحرب على العرب،
وهدد بضرب سوريا وغزو دمشق، وإسقاط النظام فيها.
* وفي النصف الأول من عام 1967م، صعدت (إسرائيل) التوتر في
المنطقة ثم أتبعته بشن هجوم آخر على سوريا في السابع من إبريل 1967م
اشتركت فيه نحو 60 طائرة إسرائيلية [8] ، وبعدها هدد إسحاق رابين مرة أخرى
باحتلال دمشق، وخيمت أجواء الحرب الشاملة بعد أن منح الكنيست الإسرائيلي
الحكومة كل الصلاحيات للقيام بما تراه للتعامل مع الموقف [9] وبدأ الإعلان عن
تعبئة بالجيش.
* اضطرت مصر وهي تتزعم وقتها حركة القومية العربية أن تتخذ بعض
الإجراءات العسكرية لإظهار التضامن مع سوريا، وكان الرد الإسرائيلي على
التحركات المصرية المحدودة أن تسلَّم العسكريون زمام السلطة في (إسرائيل)
استعداداً للحرب التي قالوا إن مصر قد أعلنتها بالفعل، حتى إن موشي دايان الذي
عُين بعد ذلك وزيراً للدفاع قال: «إن مصر هي العدو الحقيقي وليست سوريا،
وسنركز عملياتنا على مصر» !
* استكمل الجيش الإسرائيلي استعدادته انتظاراً لذريعة مناسبة تصلح أن تقدم
للعالم لتسويغ بدئها بالحرب، وجاءت تلك الذريعة بتقدم الحكومة المصرية بطلب
إلى قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة المتمركزة في سيناء أن تنسحب انسحاباً
جزئياً، حتى لا تظن القيادة السورية أن مصر ستتعلل بوجود تلك القوات في عدم
دخول الحرب ضد (إسرائيل) ولكن إدارة قوات الطوارئ لم توافق على الانسحاب
الجزئي وقالت: إذا أردتم الانسحاب فليكن انسحاباً كلياً. وهنا أُسقط في يد القيادة
المصرية، وابتلعت الطُعم، ووافقت على الانسحاب الكلي الذي صورته (إسرائيل)
أمام العالم بأنه إزالة للحاجز المانع من الهجوم على إسرائيل.
* أتبعت مصر هذا الإجراء بإجراء آخر وهو: إغلاق خليج العقبة أمام
الملاحة الإسرائيلية؛ لأن القوات المصرية اضطرت أن تحل محل قوات الأمم
المتحدة في كل المواقع التي انسحبت منها، ومنها منطقة شرم الشيخ التي تتحكم في
خليج العقبة، ولم يكن مناسباً وقتها أن تمر سفن إسرائيلية في منطقة تسيطر عليها
القوات المصرية، وكان هذا الإجراء المصري ذريعة أخرى إضافية أثارت بها
(إسرائيل) العالم ضد القيادة المصرية مصورة إياها بأنها تهدد حرية الملاحة العالمية
في أهم المضايق الدولية، ثم جاءت الذريعة الثالثة عندما أعلنت مصر توقيع اتفاقية
دفاع مشترك مع الأردن في 30 مايو 1967م، وعندها شكل (ليفي إشكول)
حكومة حرب، وجعل موشي دايان وزيراً للدفاع من أجل خوض الحرب التي كانت
خطتها جاهزة منذ سنوات.
* كان (سيناريو) إغلاق خليج العقبة واحداً من ستة (سيناريوهات)
وضعتها إسرائيل لجر مصر إلى الحرب واستعمال ذلك ذريعة للتعجيل بتلك
الحرب، وكان للسوفييت دور رئيس في تفعيل هذا السيناريو، عندما سربت
المخابرات الروسية معلومات كاذبة بحشود إسرائيلية على الحدود السورية، مما
عجل بالتحرك المصري الذي استغلته (إسرائيل) ، وهو تحرك كان ارتجالياً من
قيادة سياسية كانت متورطة في ذلك الوقت لشحمة أذنها في حرب فرعية فارغة من
حروب القومية العربية، هي حرب اليمن.
* كانت ميزانية القوات المسلحة المصرية قد وصلت أدنى حدٍ لها عام
1966م، ولهذا أُعلن عام 1967م وهو عام الحرب عام تقشف في القوات
المسلحة، وطال التقشف كل مصروفات التحديث والصيانة والتدريب، حتى مخابئ
الطائرات الحربية التي كان مقرراً تحديثها لحماية الطيران المصري أُلغيت في
ظروف صادفت وقوع أزمة اقتصادية في مصر أدت إلى وقف استيراد المواد
الاستراتيجية اللازمة للاستعمال العسكري، ووصل التخفيض في مخصصات الدفاع
على الجبهة الشرقية المسؤولة عن حماية سيناء إلى 30%، وأصبحت بذلك بوابة
مصر الشرقية بلا حماية كما قال الفريق صلاح الحديدي في كتابه (شاهد على
حرب 1967م) .
* لهذه الأسباب وغيرها كثير كانت مهمة اليهود في إنجاز خطة (ضربة
صهيون) [10] سهلة للغاية، وبالرغم من ضخامة تلك المهمة وخطورتها التاريخية؛
فقد افتتحت الحرب بساعات قلائل حددت شكل نهايتها، ففي صبيحة الإثنين 5
يونيو 1967م أقلعت كل الطائرات الحربية الإسرائيلية عدا 12 طائرة بقيت لحماية
الأجواء الإسرائيلية وسارت تلك الطائرات على شكل أسراب مجموعها 150
طائرة، لتنفيذ المهمات المعدة لها منذ سنوات [11] ، واتجه فريق من الطيارين
اليهود بطائراتهم نحو 19 قاعدة جوية في أنحاء مصر شمالاً وجنوباً، وفريق نحو
القواعد الجوية في سوريا وآخر إلى الأردن، ثم لبنان ثم العراق، ولم تمض خمس
عشرة ساعة منذ بدء الهجوم حتى كان الجنرال (موردخاي هود) يعلن أمام ممثلي
الصحافة العالمية أن (مذبحة الطيران) قد تمت ضد كل قواعد الطيران العربية،
وقال: «دمرنا 416 طائرة للعدو: (309) طائرة قتال مصرية، و (60)
طائرة في سورية، و (39) في الأردن، و (12) في العراق، وطائرة واحدة
في لبنان، ولم تخسر (إسرائيل) سوى 19 طائرة [12] ، ومعظم هذه الطائرات قد
تم تدميرها على الأرض قبل أن تحلق في سماء المعركة!
* أجهضت الضربة الجوية المفاجئة الخطة البرية الدفاعية لمصر، وكان قد
أُطلق عليها (قاهر) وتسبب ذلك في انكشاف الجيش المصري برياً، وتزامنت
المعارك البرية مع بدء الضربات الجوية في صبيحة 5 يونيو، ورغم هول كارثة
الطيران وما صاحبها من إحباط في صفوف القوات البرية التي شرعت تقاتل بلا
غطاء جوي؛ فقد أبلى الجيش المصري بلاءً حسناً في البداية وأنزل بالإسرائيليين
خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، حتى إن الكتيبة الإسرائيلية (54 دبابة)
المكلفة باختراق المحور الشمالي في سيناء كادت تفنى تحت وقع النيران
المصرية، ويقول العسكريون إنه لولا الذهول الذي سيطر على القيادة العسكرية في
القاهرة من جراء الضربة الجوية، لكان بالإمكان إعداد خطة هجومية مضادة، كان
من شأنها لو أعدت أن تغير مجرى المعركة [13] ، لكن هذا لم يحدث [وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً] (الأحزاب: 38) .
* لقد صدرت الأوامر إلى الجيش المصري في سيناء أن ينسحب دون غطائه
الجوي، وظلت الطائرات الإسرائيلية تلاحقه في عراء الصحراء ليلاً ونهاراً أثناء
انسحابه، حتى تم تدمير الجزء الأكبر منه دون أن يفرض مجلس الأمن هدنة كتلك
التي فرضها في حرب عام 1948م إنقاذاً لليهود، وحدثت مذبحة برية بموازاة
المذبحة الجوية، حتى ظن سكان مدينة السويس عندما شاهدوا سحب الدخان الكثيف
تنبعث من الدبابات المصرية المحترقة أن (إسرائيل) ضربت سيناء بقنبلة نووية!
* كان الاستيلاء على سيناء شرطاً مهماً لتأمين عملية الاستيلاء على القدس
ضد أي تحرش مصري ينطلق من غرب الكيان الصهيوني، مثلما كان الاستيلاء
على الجولان والضفة والقطاع إشغالاً لبقية الجيوش العربية حتى لا تفكر في إحباط
المخطط المرسوم سلفاً بإنجاز الغرض الصهيوني اليهودي النصراني الهادف إلى
(أن تصبح القدس عاصمة) ، الذي كان أبرز معْلَم وأظهر حقيقة فيما حدث في
حرب 1967م، أما ما سبق تلك الحرب وما رافقها وما أعقبها فإنه أيضاً ورغم
فداحته وخطورته كان (مجرد تفاصيل) . إذا قورن بذلك المعْلَم الكبير، وكانت
هذه هي المرة الثانية التي اضطر الساسة العرب فيها أن يواجهوا شعوبهم بحصول
الهزيمة الجماعية مرة أخرى قائلين:» عفواً ... لم نكن مستعدين «!
هل آن أوان الهدف الثالث؟
يوجد ما يشبه الإجماع الآن على أن ما يدور في فلسطين منذ أكثر من تسعة
أشهر هو شكل من أشكال الحرب الحقيقية، ويوجد ما يكاد يشبه ذلك الإجماع على
توقع أن تلك الحرب القائمة هي مجرد مقدمة لحرب أخرى قادمة، لن تكون
مقتصرة على الفلسطينيين، بل ستعم أماكن أخرى في المنطقة.
وتأمل معي هذه التصريحات التي قيل أكثرها في زمن متقارب:
* ياسر عرفات: إسرائيل تعد لحرب شاملة، وما مضى جزء منها.
* صائب عريقات (كبير المفاوضين الفلسطينيين) :» إننا في زمن حرب
ولا نملك رد الأذى عن أنفسنا «.
* أحمد قريع (رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني) :» نتوقع تصعيداً
عسكرياً واسع النطاق وليس محصوراً في مناطق السلطة الفلسطينية «.
* موسى عرفات (رئيس جهاز الاستخبارات الفلسطينية) :» نسبة اندلاع
حرب قادمة تصل إلى 60%، والحرب الحالية تهدف لإيجاد قيادة فلسطينية
بديلة «.
* طاهر المصري (رئيس الوزراء الأردني السابق) :» إسرائيل تريد
توجيه ضربة عسكرية إلى بعض الجيوش العربية كسورية ولبنان، لتستريح لفترة
طويلة «.
* الرئيس السوري بشار الأسد: إذا ضربت إسرائيل مرة أخرى فسوف نرد.
* د. جورج جبور (مستشار الرئيس السوري السابق) :» الوضع متأزم
وظروف اشتعال الحرب تزداد لحظة بعد لحظة «.
* بسام العسلي (محلل عسكري) :» قد تكون مزارع شبعا قاعدة للانطلاق
إلى الخط الفاصل بين سوريا والأردن «.
* رفيق الحريري (رئيس وزراء لبنان) :» الإسرائيليون يخوفوننا
بالحرب، ولكن المجتمع الدولي معنا «.
* سليم الحص (رئيس وزراء لبنان السابق) :
» احتمالات الحرب قائمة وليس من مصلحة بلد عربي الدخول في مواجهة شاملة
مع إسرائيل «.
* خليل الهراوي (وزير الدفاع اللبناني) :» احتمال نشوب الحرب وارد
جداً في ظل حكومة شارون «.
* الرئيس المصري حسني مبارك:» با قول لشارون: بلاش جر شكل ...
الوضع في المنطقة يتدهور ويزداد تعقيداً وأخشى أن يصل إلى نقطة اللاعودة «.
* عمرو موسى (الأمين العام للجامعة العربية) :» طائرات إف 16 لا
تستعمل إلا في حرب «.
* الفريق سعد الدين الشاذلي (رئيس هيئة الأركان المصرية السابق) :
» إذا استنفدت إسرائيل كل الوسائل الأخرى يمكن أن تشن الحرب، والدعم الأمريكي
لن ينقطع عنها حتى إذا هاجمت السد العالي أو أعادت احتلال سيناء «.
* د. أحمد عبد الحليم (الخبير الاستراتيجي) :» إسرائيل لا تستطيع
التعامل الآن مع واقع أقل من الحرب الشاملة، ولكن أستبعد خرقها لمعاهدة السلام
مع مصر « [14] .
لاحظ معي أن هذه التصريحات؛ تؤكد في مجملها أن هناك حرباً قائمة وحرباً
قادمة، وبعضها يتوقع أماكن اتساع الحرب. ولكن ألا تلاحظ أن أياً منها لم يتحدث
أو يتساءل عن الهدف من الحرب القائمة أو القادمة، أو المغزى من الحرص
اليهودي والسكوت الأمريكي على افتعال وإشعال واستمرار تلك القائمة لتوصل
للأخرى القادمة؟ !
إن بعض هذه التصريحات تتحدث عن ضرب سوريا أو لبنان، أو هما معاً،
ولكن أليس من المهم أن نتساءل: لماذا ضرب سوريا أو لبنان الآن؟ !
بعضها يتحدث عن التحرش بمصر، أفليس من المناسب أن نتساءل: ولماذا
التصعيد ضد مصر الآن؟ ! تصريحات أخرى تتكلم عن نية شارون في تنفيذ حلمه
القديم عن (الوطن البديل) للفلسطينيين في الأردن، وثانية تتناول في تحليلها عزم
الإسرائيليين على إعادة احتلال المناطق الفلسطينية بعد تفتيت السلطة الفلسطينية،
أو غزو لبنان والمقاومة الشيعية في الجنوب، كل هذه تساؤلات وطروحات معقولة
ولكن: أين التساؤل عن السبب الأساسي القابع وراء كل هذه الاحتمالات والنيات
على الصعيد الإسرائيلي؟ فإذا كانت الحرب يُخطط لها أن تقع، فلماذا تقع؟
إن اليهود لم يكونوا في يوم أكثر أماناً وسلاماً منهم في الأيام والسنوات التي
سبقت قيام الانتفاضة، وقد كان الجميع على وشك التوقيع لها بأن تدخل في عداد
الدول الصديقة أو حتى الشقيقة [15] ، والدول العربية كلها تستبعد خيار الحرب
وتتشبث كالغريق بخشبة (خيار السلام) فلماذا قلب اليهود للعرب ظهر المجن
الآن، ولماذا اختاروا على حين غرة طريق الحرب على طريق السلام بعد أن
صبروا عليه إلى قرب نهايته خلال عقد كامل؟ ! إنه سؤال طلسم كبير، ويحتاج
إلى إعادة التأمل في المراحل الكبرى من مسلسل الصراع الإسرائيلي منذ بدأ وحتى
الآن، وسوف أمر عليه في اختصار سريع:
الهدف الغامض.. محاولة للفهم:
1 - بعد ما أسماه اليهود بحرب (الاستقلال) ثم (حرب التحرير) صُدم
اليهود بما حدث في حرب أكتوبر 1973م، حيث شعروا بخطر حقيقي على توقف
ما أسموه:» تحقيق رؤى أنبياء إسرائيل «.
2 - زال هذا الخطر بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد 1977م، وإعادة سيناء إلى
مصر (منزوعة السلاح) في مقابل خروج مصر بشكل نهائي من حلبة الصراع
العربي الإسرائيلي.
3 - بقيام حرب لبنان 1982م التي غزا شارون فيها بيروت، والتزام مصر
بعدم التدخل، تأكد لـ (إسرائيل) جدية الالتزام في مصر بعدم خوض حرب
أخرى ولو اجتيحت عاصمة عربية وتأكد لـ (إسرائيل) أيضاً أن جبهة الصمود
والتصدي هي أسد من ورق!
4 - برز العراق أو هكذا صُوِّر على أنه قوة إقليمية طامحة إلى حيازة أسلحة
التدمير الشامل، فاختبرت (إسرائيل) استعداده للنزال معها فضربت المفاعل
النووي العراقي، ولم يرد العراق!
5 - ازدادت قوة العراق بعد خروجه منتصراً على إيران في حرب الخليج
الأولى، وأظهر الإعلام الدولي العراق على أنه رابع قوة عسكرية في العالم،
فأظهر الإسرائيليون خوفهم أمام العالم، وبخاصة بعد أن هدد صدام بحرق (نصف)
إسرائيل!
6 - تم التخلص من (ثلاثة أرباع) القوة العراقية قبل أن تلحق أي أذى
بنصف أو ربع أو عشر (إسرائيل) ، وانتهى آخر أمل عربي وفلسطيني بإمكانية
قيام قوة عربية رادعة لإسرائيل لسنوات طويلة مقبلة.
7 - تمهد الطريق بذلك لأن تتجرأ أمريكا وتطلب من جميع العرب أن
يسلِّموا بروح رياضية بسلام» الشجعان «مع (إسرائيل) ، وبدأ ذلك في زفة
(مدريد) الجماعية في حفل عرس أشبه بالجنازة؛ حيث تشعبت من الزفة أو من
الجنازة مسارات منفردة، كان منها المسار الفلسطيني الذي انتهى موكبه إلى
(أوسلو) ، والأردني الذي وصل إلى (وادي عربة) ، وضمنت إسرائيل بذلك
شريكين جديدين، وتطلعت إلى الشريك الرابع بعد مصر وفلسطين والأردن وهو
سوريا.
8 - تشبثت السوريون بمسار واحد مع لبنان، وكاد السابقون أن يتبعهم
اللاحقون عندما قبلت سوريا بلقاء مباشر مع إسرائيل في جنيف [16] برعاية
أمريكية، ولكن هذا اللقاء أو الالتقاء بالذات أَخفَق أو أُخفِق؛ مع أن القيادة السورية
وقتها كانت ذاهبة بروح (إيجابية جداً) !
9 - أُظهرت سوريا وحدها منذ ذلك الحين على أنها الدولة العربية الوحيدة
المستعصية على الاستسلام لإسرائيل، وظهر أن مؤتمر جنيف 1999م كان يهدف
إلى تعجيز السوريين بعرض ما لا يستطيعون قبوله إلا إذا قبلوا اتهام الشعب
السوري لقيادته بالخيانة [17] .
10 - ظهر أن تعجيز سوريا عن قبول السلام الإسرائيلي كان مقصوداً
ومدخراً لوقت لاحق؛ حيث أقبلت إسرائيل على الانسحاب من لبنان لتكشف الغطاء
عن سوريا، وتبطل حجتها في البقاء في لبنان.
11 - حرصت إسرائيل في الوقت نفسه على أن تُبقي على احتلال مزارع
شبعا اللبنانية، لتظل تلك المزارع مصدراً لتكديس الذرائع ضد سوريا ولبنان، عن
طريق اتهامهما بدعم حزب الشيعة اللبناني في الجنوب، وصُوِّر هذا الحزب ولا
يزال يُصور في تضخيم مقصود يشارك فيه الجميع على أنه أخطر ظاهرة واجهت
إسرائيل في تاريخها كله! !
12 - عندما جاء عام 2000م، وجاء معه موعد (الحل النهائي) للقضايا
الأساسية في القضية الفلسطينية، لاحت الفرصة لاختيار ثمرة التدجين الأمريكي
للسلطة الفلسطينية مدة عقد كامل، فحشر كلينتون المفاوضين الفلسطينيين مع
الإسرائيليين في منتجع كامب ديفيد، وقرر حبسهم فيه مدة أسبوعين، على أن لا
يخرجوا إلا باتفاق! اتفاق على ماذا؟ ! على ما يلي:
أ - أن تتنازل السلطة الفلسطينية باسم العرب جميعاً عن المطالبة بالقدس
عاصمة للدولة الفلسطينية، وأن تقبل بقرية (أبو ديس) عاصمة لها، بعد أن يُخلع
عليها اسم (القدس) !
ب - أن تتنازل السلطة الفلسطينية عن المطالبة بحق العودة لأربعة ملايين
لاجئ فلسطيني، وأن تقبل بتعويضهم في وقت لاحق (بأموال من؟) مع قبول
عينات منهم لكي يعودوا ضمن إطار إنساني رمزي تحت مسمى (لَمّ الشمل) !
ج - أن تتعهد السلطة أصالة عن نفسها، ونيابة عن العالمين العربي
والإسلامي بالتنازل عن ملكية ما أسماه اليهود (جبل الهيكل) ، وهو المكان
الذي توجد فيه الساحة المقام عليها المسجد الأقصى ومسجد الصخرة.
13 - انتهى مؤتمر كامب ديفيد الثاني بنجاح مخفق، أو إخفاق ناجح؛ فقد
احتار المحللون في وصف المؤتمر: هل أخفق أم نجح؟ ! وجاء جواب كلينتون
حاسماً؛ إذ صرح بعد ذلك أن مؤتمر كامب ديفيد: نجح في حل ما لا يقل عن 90
% من المسائل العالقة في مفاوضات الحل النهائي! فماذا يعني هذا؟ يعني أنه قد
تم قبول السلطة لأكثر المطالب الإسرائيلية، في مقابل قبول الإسرائيليين لمطالب
فلسطينية، وهذا ما درج باراك على تسميته بـ (تنازلات مغرية جداً) .
14 - لم يكن من هذه التنازلات (المغرية جداً) تنازل عن القدس عاصمة
موحدة أبدية لإسرائيل، ولا كان منها قبول بعودة اللاجئين، ولا منها التنازل عن
شبر من ملكية ساحة المسجد الأقصى، هذا على الجانب الإسرائيلي، أما على
الجانب الفلسطيني، فبشهادة كلينتون، تم الاتفاق على كل شيء باستثناء شيء قليل
جداً (10%) ولكنه خطير جداً بنسبة (100%) !
15 - أظهرت التسريبات والتصريحات والتحليلات بعد كامب ديفيد أن ذلك
الشيء القليل والخطير الذي لم يتم الاتفاق عليه، هو تنازل الفلسطينيين أو
الإسرائيليين عن ملكية ساحة المسجد الأقصى أو (جبل الهيكل) كما يسميه
اليهود، وأظهرت التسريبات أن ياسر عرفات أُلجئ إلى أضيق الزوايا كي يوقع
على هذا التنازل، حتى إن (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية السابقة، أمرت
بمنعه من الخروج وأمرت بإغلاق الأبواب، عندما أراد عرفات أن يخرج احتجاجاً
على هذا الإذلال!
16 - أدرك عرفات وقتها كما صرح بعد ذلك أن أمر التوقيع المطلوب منه
على التنازل عن المسجد الأقصى كان يساوي تماماً طلب التوقيع على إعدامه!
حتى إنه قال بعد كامب ديفيد:» قلت لكلينتون: لو وقعت فلسوف يقتلني أخي
موسى قبل أن يقتلني الشعب الفلسطيني «!
17 - أخفقت كامب ديفيد الثانية إذن، بسبب إصرار الجانبين الإسرائيلي
والفلسطيني على عدم التنازل عن ملكية ساحة الأقصى، ومنذ تلك اللحظة بدأ
الإسرائيليون كما أظهرت الأحداث في الترتيب لتنفيذ المخطط البديل (للحل
النهائي) ، وهو مخطط يستهدف فيما يبدو حل جميع القضايا العالقة معاً.
18 - فجَّر باراك وشارون معاً الأحداث داخل فلسطين، بتدبير قصة زيارة
شارون للمسجد الأقصى، ثم تنحي باراك مخلياً الساحة السياسية لشارون، ولسان
حاله يقول:» تفضل: فالمرحلة الآن لا يصلح لها غيرك «! وتسلم شارون
مفاتيح الشر من سلفه، وشرع بتدشين الحرب القائمة اليوم وعينه على الحرب
القادمة غداً.
19 - من أجل الحرب القادمة بدأ شارون يُدخِل المنطقة كلها في أجواء
حرب شاملة، وهدد بلسانه أو بلسان مقربيه كل الدول المحيطة، هدد مصر بنسف
السد العالي، وهدد الأردن بمشروع الوطن البديل، وهدد سوريا بضربها في
لبنان، وهدد لبنان بتأديبها بسبب حزب الشيعة، وهدد السلطة بتفتيتها إلى
كانتونات، وهدد العراق بعدم السكوت هذه المرة إذا تدخل في أي مواجهة قادمة،
ومع كل هذا فاللغة السائدة الآن أنه لا يوجد أي طرف عربي مستعد لحرب ضد
(إسرائيل) .
ولاحظ الجميع أن ولايات بوش المتحدة علينا، لم تنبس ببنت شفة ولو بلطف
رداً على ذلك الصلف الإسرائيلي، مما يدل على شيء من اثنين: إما أن أمريكا
عاجزة عن كف أذى الربيبة الحبيبة (إسرائيل) أو أنها راضية كل الرضى عن
(معاكساتها الشقية) التي ربما تدمر كل شيء في
المنطقة، بما فيها مصالح أمريكا ذاتها!
وأخيراً: اختلف المحللون، وما زالوا يختلفون: بمن سيبدأ شارون إذا بدأت
الحرب، ومتى سيبدأ؟ وهل سيضرب سوريا على أرضها، أم يكتفي بلبنان؟
وهل يدبر شيئاً ضد العراق الذي يقول إنه حشد ستة ملايين مقاتل لتحرير
فلسطين؟ ! هل سيتحرش بمصر أو (يجر شكلها) ؟ ! هل يعيد احتلال سيناء؟ !
أم هل يصل به الجنون إلى ضرب السد العالي؟ ! كل ذلك لا يستبعد على مستودع
الشر (شارون) .
لكني أصر على القول أيضاً بأن هذه كلها ولو حصل بعضها هي (مجرد
تفاصيل) أمام المعلم الكبير الغامض للآن وراء الحرب القادمة.
وإنني أرى أن كل هذه الاحتمالات، سواء وقع بعضها أو وقعت كلها، لن
تكون أكثر من قنبلة دخان تغطي على الهدف الأساس (الهدف الثالث) ، ذلك
الهدف الذي قد يخالف شارون توقعات الجميع لأجله أيضاً ويعود إلى طاولة
المفاوضات ولكن في حالة واحدة فقط وهي الحال التي يتأكد فيها من وجود من يقبل
التوقيع على التنازل المطلوب.. وبغير ذلك فالحرب ولا شيء غير الحرب؛ هي
طريق شارون أو من يأتي بعد شارون لاستكمال معالم الدولة اليهودية الدينية التي
ستظل جسداً بلا رأس ما لم يُعِد اليهود بناء قبلتهم التي كانوا عليها، والتي ما جاؤوا
إلى فلسطين ولا أقاموا الدولة ولا استولوا على العاصمة إلا من أجل الوصول إليها.
ولا أظن شخصياً، أن شارون أو من سيخلفه في الزعامة، سيفوت فرصة
استثمار الحماس النصراني الدولي الجارف الذي سيحصل، عندما ينظر هؤلاء
بعين العاطفة الدينية الحارة إلى (إسرائيل) أسطورتهم التي صنعوها وهي تخوض
في العام الأول من ألفية المسيح معركة الهدف الثالث أو (معركة الهيكل الثالث)
هيكل المسيح أو منبر المسيح كما يؤمنون وكما يتوقعون.
وبتعبير آخر: أرى صراحة أن هذه الحرب الشاملة لو قامت فستكون حرب
المسجد الأقصى كما أن الانتفاضة القائمة هي انتفاضة الأقصى. وهي الحرب التي
يحلم بها اليهود منذ أيام تأسيس دولتهم؛ حيث قال داود بن جوريون مرة في إحدى
خطبه في أوائل الخمسينيات:» إن شعبي الذي يعيش الآن على أعتاب عهد
الهيكل الثالث لا يستطيع التحلي بالصبر على النحو الذي كان يتحلى به أجداده «!
ويبدو أن صبر اليهود المعاصرين قد أوشك على النفاد، ويحتاج هذا الصبر
الفاجر إلى مصابرة مؤمنة تنسيه أحلامه، وتزجره عن فجوره.
هنا تساؤل أو تساؤلات: ما حال أمتنا وهي بصدد استقبال تلك المتغيرات
الجسيمة: هل يشعر أحد بأن شيئاً قد تغير من أحوالها؟ هل تم شيء من تجهيزها
أو تحفيزها؟ هل تم حشد قواها أو النهوض بمستواها؟ وما حال قادتها وساستها:
هل استعدوا هذه المرة أم سيضطرون كما هو الشأن في كل مرة أن يقولوا: (عفواً..
لم نكن مستعدين) ؟ !
سؤال آخر أهم من كل ما سبق: أين مكان الإسلاميين من كل هذا، وهم
يمثلون في صحوتهم الراهنة روح الأمة المستهدفة وقلبها وعقلها؟ ! أين دورهم؟
وما إمكاناتهم؟ وهل أعذروا إلى الله في التصدي لأعداء الله؟ وهل أدوا ما عليهم
أو شيئاً مما عليهم انتصاراً لحرمات الله؟ !
إنه سؤال المرحلة الذي يجب أن يسأله كل مسلم موحد لنفسه، وهو سؤال
ينبغي أن يُفتح حوله النقاش، وآمل أن يكون ذلك على صفحات عدد قادم بإذن الله.
__________
(1) جبل صهيون هو: الجبل الواقع في الجنوب الغربي من القدس القديمة، وسميت باسمه الحركة الصهيونية التي عرفها القاموس السياسي، ص 117 بأنها:» حركة دينية سياسية تهدف إلى إعادة مجد إسرائيل بإقامة دولة يهودية فلسطينية، فإذا تم لها ذلك استولت على القدس، ثم أقامت موضع المسجد الأقصى هيكل سليمان «.
(2) من أبرز رموز ذلك التيار الآن: الدكتور عبد الوهاب المسيري، ولعل الفرصة تتيسر لمناقشة طروحاته في ذلك على صفحات البيان.
(3) انظر في ذلك: الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل (روجيه جارودي) ، الأصولية اليهودية (إيمانويل هيمان) ، (المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطاتها في دعم إسرائيل (لي أوبرين) يد الله لماذا تضحي أمريكا من أجل إسرائيل؟ (جريس هالسيل) ، النبوءة والسياسة (جريس هالسيل) ، صدام الأصوليات (عاطف عبد الغني) ، نهاية إسرائيل أو نهاية العالم (عاطف عبد الغني) ، إسرائيل الكبرى، (د أسعد رزون) ، العلاقة بين اليهودية والمسيحية (سلوم سركيس) ، تفسير سفر دانيال (القس صايغ) ، إسرائيل من سراديب الجيتو إلى مقاصير الفاتيكان، المسيح اليهودي ونهاية العالم (رضا هلال) ، المسيح المنتظر ونهاية العالم (عبد الوهاب الطويلة) ، الإسلام والمسيحية (إليكسي حورافسكي) ، اختلاق إسرائيل القديمة (كيسي ويكلام) ، الأطماع التي قد تشعل الحرب العالمية الثالثة، صراع الحضارات في القرن الحادي والعشرين (د أحمد شلبي) ، أسباب التحيز الأمريكي البريطاني لإسرائيل (مركز دراسات الشرق الأوسط) .
(4) مثل كتابات محمد السماك، د يوسف الحسن، ورضا هلال، وعاطف عبد الغني وعبد الوهاب الطويلة وغيرهم.
(5) انظر هذه الثوابت والشروط فيما يتيسر لك من المراجع السابق ذكرها، حيث يدور الحديث حولها بشكل أو بآخر.
(6) كتاب الثورة، لمناحيم بيجن، ص 15.
(7) كانت حرب 1956م فاصلة بين حرب 1948م، 1967م، ولكن حرب 1956م لم تكن إقليمية، بل كانت حرباً محدودة الأهداف؛ إذ أراد اليهود منها كما يبدو أن يختبروا قدرتهم على الاستيلاء على
سيناء، وقد استولوا عليها بالفعل، ثم تركوها ريثما تأتي فرصة أخرى تكون سيناء فيها ذات ثمن أكبر.
(8) كانت هذه العمليات تظهرها (إسرائيل) على أنها رد فعل للدفاع عن النفس في وجه عمليات فدائية اتهمت سوريا بدعمها لاحظ وجه الشبه بين ذلك وبين ما يحدث الآن.
(9) وهذا مثلما حدث مؤخراً، عندما فوض الكنيست الإسرائيلي حكومة شارون باستعمال كل ما في الترسانة الإسرائيلية رداً على الانتفاضة الفلسطينية.
(10) هذا الاسم أطلقه اليهود على عملية ضرب الطيران العربي فيما سموه (حرب التحرير) .
(11) اعترف كثير من القادة الإسرائيليين كما ذكر ذلك المؤرخ العسكري (محمد فيصل عبد المنعم) بأن خطة حرب 1967م أو (حرب التحرير) كما يسميها الإسرائيليون كانت معدة قبل تنفيذها بسنوات، حيث ذكروا أنهم كانوا ينامون ويستيقظون على الحلم بتنفيذها.
(12) تاريخ الحرب بين العرب وإسرائيل، تأليف (محمد فيصل عبد المنعم) ، ص 195.
(13) المصدر السابق، ص 215.
(14) هذه التصريحات والكلمات السابق ذكرها مبثوثة في عدد من الدوريات اليومية والأسبوعية،
انظر: مجلة المجلة عدد (1111) (27/5/2001م) ، ومجلة الوسط عدد (486) (21/5/ 2001م) ، وصحيفة الشرق الأوسط (15، 17، 23/5/2001م) ، وصحيفة الحياة (23، 27/ 5/2001م) ، وصحيفة الأهرام (16، 24 28/5/2001م) .
(15) اقترح بعضهم أثناء طرح مشروع (الشرق أوسطية) الراحل؛ أن تُضم إسرائيل إلى جامعة الدول العربية! ! .
(16) كان الاقتراح في الأصل أن يكون اللقاء في كامب ديفيد لمغزىً واضح، ولكن عُدل عنه.
(17) وهو ما حدث مع ياسر عرفات بعد ذلك في كامب ديفيد الثانية.(164/66)
المسلمون والعالم
الأمازيغ بين تآمرالحكم والهيمنة الفرنكفوانية
حسن الرشيدي
«إذا كان العرب في وقت سابق قد وصلوا فوق النياق إلى المغرب العربي،
فأنا سأكون معهم رفيقاً وأعيدهم على متن البوينغ إلى بلادهم الأصلية في الجزيرة
العربية» .
هذه مقولة أحد زعماء الأمازيغ تكشف عما يعتري نفوس بعض أبناء الأمازيغ
من شعور وأحاسيس ليس في الجزائر فقط ولكن في بلاد ما يعرف بالمغرب العربي
(تونس الجزائر المغرب موريتانيا) ، ويبقى النموذج الجزائري له خصوصياته
وتميزه نتيجة لعوامل عديدة.
وتشهد منطقة القبائل في الجزائر الآن مظاهرات وإضرابات وأعمال عنف
يتسع نطاقها يوماً بعد آخر في وضع مستمر وصلت إلى حد حرق كل ما يرمز
للنظام الحاكم من مقرات البلديات ومكاتب الإدارات الحكومية، ومحاصرة مقرات
الدرك والشرطة، وكذا حرق العديد من مكاتب الحزبين الرئيسيين في المنطقة:
(جبهة القوى الاشتراكية) لحسين آيت أحمد، و (التجمع من أجل الثقافة
والديمقراطية) لسعيد سعدي، على حد سواء.
هذا العنف ليس وليد اللحظة الآنية ولكن منشأه تفاعلات طغت على الساحة
الجزائرية منذ فترة طويلة ساهمت فيها عوامل عديدة منها الخارجي والداخلي.
وأي تحليل أو محاولة للاقتراب من الواقع الجزائري لا بد له من الإحاطة
بثلاثة متغيرات متداخلة:
1 - طبيعة النظام في الجزائر وآلية عمله.
2 - الهيمنة الفرنسية على الجزائر مظاهرها وأشكالها.
3 - مظاهر التمرد الأمازيغي.
وقبل أن نتطرق إلى هذه المتغيرات لا بد لنا من معرفة سريعة بالأمازيغ:
الأمازيغ: المنشأ والتاريخ:
الأمازيغ هم الجماعة التي أقامت منذ أحقاب بعيدة في الشمال الإفريقي في
الأرض الممتدة من برقة شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً، وهذه المنطقة أطلق
عليها لفظة المغرب بمدلولها العام.
ويرفض العلمانيون من مثقفي الأمازيغ تسميتهم بالأمازيغ أو البرابرة لكون
الصفة استعملت من قِبل اليونان القدامى لوصف مَنْ لا يتكلم لغتهم على أنهم
متوحشون، ويقول هؤلاء: إن الكلمة المقابلة في اللغة العربية هي الأعجميّ، وهو
ما يطلقه العرب على مَنْ لا يتحدث لغة الضاد، واختلف المؤرخون العرب في
تفسيرها: فالسلاوي ينسب كلمة بربر إلى بر بن قيس، وابن خلدون يرجع الكلمة
إلى ما قاله إفريقي بن صيفي من ملوك التبابعة حين سمع كلامهم فقال: ما أكثر
بربرتكم. فسموا بالأمازيغ، والأمازيغة بلسان العرب: هي اختلاط الأصوات غير
المفهومة. وقال آخرون: كلمة بربر مأخوذة من لفظ برباردس، وتعني الرافضة
للحضارة الرومانية ويبدو أن اسمهم أقرب إلى اللقب منه إلى الاسم الأصيل
والصحيح.
أما الأمازيغ أنفسهم فإنهم يطلقون على أنفسهم اسم أمزيغن أو الأمازيغ أي
الأحرار البيض (ومفرده أمزيغ) ، وذلك تعبيراً عن تعلقهم بالحرية والأنفة التي
هي من مميزاتهم البارزة.
ويختلف المؤرخون في تبيان أصول الأمازيغ؛ فقد ذهب بعضهم إلى ربط
أصولهم إمَّا بسلالة حام وسلالة سام، وأشار آخرون إلى علاقتهم بجالوت ملك
الأمازيغ في فلسطين، كما أنَّ هناك من ينسبهم إلى الجبارين، وهناك مَنْ يرى أنهم
خليط من أقوام شرقيَّة مختلفة، وهناك مَنْ يربط بينهم وبين (أفريقش اليمنيّ) .
وهناك نظريات لها أسانيدها العلمية تؤكد أصولهم العربية: بعض هذه
النظريات يرجع بهم إلى بني حمير، وبعضهم الآخر إلى قبائل قيس عيلان،
ويتفق كثيرون على أن الأمازيغ نزحوا من فلسطين إلى المغرب، وينسب الباحثون
الغربيون الأمازيغ إلى بني حام.
أما ابن حزم فإنه قال: إنهم من بقايا ولد حام بن نوح عليه السلام، وادعت
طوائف منهم إلى اليمن؛ وابن خلدون يذكر أن فلسطين كانت موطنهم الأول،
وابن خردذابة يشير إلى أن مواطنهم الأولى فلسطين.
وينتشر الأمازيغ في خمس ولايات أساسية هي: بجاية تيزي أوزو البويرة
بومرداس الجزائر العاصمة. ويقدر عددهم في هذه الولايات بأكثر من 3 ملايين
مواطن بحسب تقديرات غير رسمية، ولهم نفوذ واسع في مختلف مؤسسات الدولة
بالنظر إلى كفاية هؤلاء وتفضيلهم تلقي تعليم عالٍ في المعاهد الفرنسية.
وتوجد بالجزائر عشر فئات بربرية، وعلى رأس هذه الفئات (الشاوية)
الذين يمثلون أكبر تجمع بربري، وهناك فئة القبائل. وأبناء هذه الفئات العشر عدا
القبائل يرون أن لغتهم هي العربية، وأن الأمازيغية لهجة شفوية يتحدث بها
الأميون منهم. ومن الغريب أن فروقاً كبيرة توجد بين لهجات هذه الفئات العشر؛
إذ يختلف بعضها عن بعض لدرجة يصعب التفاهم فيما بينها. ولا توجد لغة بربرية
أمٌّ منظمة تُعَلَّم. أما فئة القبائل فبسبب التأثير الاستعماري الفرنكفوني حديثاً يطالبون
باعتماد اللغة الأمازيغية لغة رسمية ووطنية في مستوى واحد مع العربية.
يمتاز غالبية الأمازيغ بطبعهم المتشدد، وقد دخلوا في دين الله أفواجاً مع الفتح
الإسلامي، وأبلوا بلاءً حسناً في نصرة الدين الإسلامي منذ الفتح.
ولعبوا أدواراً هامة جداً في التاريخ العربي والإسلامي في شمال إفريقيا
وغربها وكذلك في الأندلس، ويعود أول اتصال لهم مع الإسلام إلى عام 642 هـ
عندما وفد على عمرو بن العاص بعد فتح مصر جماعة من أهالي (برقة) يطلبون
الاحتماء بالإسلام من ظلم البيزنطيين، وعندما نقل ابن العاص طلبهم إلى الخليفة
عمر بن الخطاب أذن له بالاستجابة إليهم، فشكل ابن العاص قوة عسكرية خاصة،
وأمَّر عليها ابن خالته (عقبة بن نافع) الذي تمكن من تحرير (برقة) ونشر
الإسلام بين قبائلها الأمازيغية.
توقف تقدُّم الإسلام غرباً حوالي عشرين عاماً بسبب الفتنة التي قامت بعد
اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وانشغال الخليفة علي بن أبى طالب
بالصراع مع الأمويين، وفي هذه الأثناء كان الضغط البيزنطي يشتد على قبائل
الأمازيغ، وكانت الثورات الأمازيغية تعمّ المناطق التي تعرف اليوم بالجزائر
والمغرب، ولم يستأنف الإسلام تمدده إلا في عام 666 هـ بعد أن استقبل الخليفة
الأموي معاوية وفداً بربرياً كان على رأسه (غناجة) أحد كبار قادة قبائلهم الذي
طلب إليه إنقاذ الأمازيغ من الجور البيزنطي.
كانت الاستجابة الاولى حملة عسكرية بقيادة ابن خديج، ولكن لم يكن لها
نتيجة تذكر، وفي عام 670 هـ جدد معاوية الاعتماد على عقبة بن نافع، وتمكنت
قوات عقبة من تحرير إفريقيا (تونس) من البيزنطيين إلا أنه أدرك أن استقرار
الإسلام في هذه المناطق مرتبط باستقرار العرب فيها وتطبيقاً لهذه النظرية أقام
مدينة القيروان، وبعد عقبة بن نافع عهد بأمر متابعة التقدم غرباً إلى قائد عسكري
آخر هو أبو المهاجر الذي اقتحم جبال الأوراس (في الجزائر) ، وانتصر على
زعيم القبائل الأمازيغية فيها (كسيلة) ، ولما اعتنق (كسيلة) الإسلام أبقاه
أبو المهاجر على عرش زعامته، ودخل الأمازيغ الإسلام زرافات ووحداناً.
ومرة ثالثة تؤول قيادة القوات الإسلامية في شمال إفريقيا إلى عقبة بن نافع
الذي يقود هذه القوات حتى طنجة وسبتة في شمال المغرب، ثم يتوجه جنوباً حتى
منطقة سوس والأطلس المتوسط (منطقة مراكش) ، ولما وصل إلى شواطئ
المحيط الأطلسي ردد عبارته الشهيرة: اللهم إني لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك
لتعلم أني أطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تُعبَدَ ولا يُشرَكَ بك،
اللهم لو كنتُ أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لخضته إليها في سبيلك.
ولكن (كسيلة) هذا لم يعجبه ما أسند إليه من إمارة وتحالف مع قبائل بربرية
وخرج يريد المسلمين، وتصدى له عقبة بن نافع، ووقعت معركة الزاب التي
استشهد فيها عقبة، وانتكست القوات الإسلامية حتى اضطرت إلى الجلاء عن
القيروان إلى برقة.
كان على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أن يعيد تصحيح المسيرة من
خلال حملة عسكرية عهد بقيادتها في عام 684 هـ إلى زهير بن قيس (وهو
القائد الذي كان عقبة بن نافع قد اختاره نائباً عنه في القيروان) ، وقد انضمت إلى
الحملة قبائل بربرية إسلامية عديدة مما مكنها من تحقيق أهدافها بسرعة.
وفي عام 693 هـ توجهت إلى المغرب قوة إسلامية جديدة على رأسها
حسان بن النعمان الذي حقق انتصاراً على قبيلة جراوة في جبال الأوراس التي
كانت تتزعمها كاهنة ساحرة.
وبعد حسان حل محله في عام 704 هـ موسى ابن نصير اللخمي الذي
اشتهر بالعمل على تثبيت الإيمان لدى القبائل الأمازيغية، وكان اعتماده الأساسي
على المسلمين الأمازيغ في فتوحاته الشهيرة؛ فقد شكل منهم قوة خاصة، عهد
بقيادتها إلى القائد المسلم الأمازيغي طارق بن زياد لعبور المضيق من طنجة إلى
أسبانيا، ومنذ عام 711 هـ والمضيق (زهاء ثلاثين كيلو متراً) يعرف باسم
مضيق جبل طارق؛ فقد تمكن طارق بن زياد بقوة من 12 ألف مسلم من الأمازيغ
وثلاثمائة فارس عربي من فتح معظم الأراضي الأسبانية الجنوبية التي أطلق عليها
اسم الأندلس.
ولا يزال طلاب العلم يدرسون حتى الآن كتاب (الآجرومية في مبادئ علم
العربية) لابن آجروم الأمازيغي، وسبقه بقرنين أي في القرن الثاني عشر
الميلادي على طريق علوم العربية زين الدين بن معطي (قبائلي) أول من نظم
قواعد النحو العربي في ألف بيت من الشعر.
ومن شخصياتهم الهامة في التاريخ ابن باديس الذي كان له دور هام في
مقاومة الفرنسيين.
ويشير التاريخ إلى أمر أساسي بدأ منذ دخول الإسلام شمال إفريقيا، وهو
مستمر حتى اليوم، وهو أن الأمازيغ يتمتعون بقدر عال من الأنفة والاعتزاز
بالنفس، وأنهم يتمسكون مع إسلامهم بشخصيتهم القبلية الخاصة.
طبيعة النظام الجزائري:
تعيش الجزائر منذ استقلالها حالة صراع ظل تحت السطح فترة الستينيات
والسبعينيات، وما لبث أن اشتد مع بداية الثمانينيات حتى انفجر في العشرية
الأخيرة التي يسميها أهل الجزائر عشرية حمراء وأحياناً سوداء.
هذا الصراع هو في الأصل أزمة نظام بدأ حكمه باغتصاب السلطة من
أصحاب الحق الشرعيين الذين بذلوا دماءهم في سبيل نيل هذا الاستقلال وثبتوا أمام
جيوش قوة عظمى في ذلك الوقت، وجيَّشوا الشعب الجزائري عربه وبربره تحت
راية العقيدة؛ ولكن الخبث الصليبي كما في كثير من الأقطار أبى أن ينسحب من
المعركة إلا بعد أن سلم السلطة إلى قلة علمانية ونخبة لا تمت للإسلام بصلة إلا في
الأسماء، هذه النخبة الحاكمة نحَّت الإسلام عن حياة الناس، واستبدلت به شرائع
ما أنزل الله بها من سلطان؛ وهكذا كان حال هذه النخب التي تسلمت الحكم في
عامة الأقطار الإسلامية ولكن نخبة الجزائر تميزت بخصائص عن بقية النخب
الأخرى من أهمها:
1 - الدموية والقسوة في تعاملاتهم مع الشعب:
فهذه الطبقة من الضباط دأبت على استخدام أبشع الطرق في تصفية خصومها
السياسيين، والذهاب إلى حد التضحية بالناس كلهم إن أمكن ذلك في سبيل تثبيت
دعائم حكمهم؛ فالمجازر التي وقعت في بني طلحة وغيرها والتي ثبت تورط
هؤلاء العسكر بها سواء على مستوى التخطيط والتنفيذ، هذه المذابح ارتكبت من
خلالها أبشع أنواع الجرائم التي لا يمكن أن يُعتبر فاعلوها من بني الإنسان؛ بل إن
الوحوش لتترفع عن إتيان مثل هذه الأعمال؛ فمن ذا الذي يجرؤ على القيام بقطع
الأعضاء الذكرية في الرجال بعد ذبحهم ووضعها في أفواه الجثث، وكذلك قطعوا
أثداء النساء ورموا الأطفال الرضع في الحوائط وهم أحياء حتى يغرق الرضيع في
بحر من الدماء، وكل ذلك شاهده الصحفيون واعترف به ضباط وجنود ممن
استيقظت ضمائرهم وهربوا إلى الخارج كشاهدين على هذه المذابح والمجازر،
وكل ذلك يحصل حقداً على بسطاء الناس الذين أعطوا أصواتهم للجبهة الإسلامية
للإنقاذ في انتخابات 1991م.
2 - احتراف التآمر والعمل المخابراتي الموجه لأبناء الجزائر:
قبل تسلمهم الحكم وفي منتصف الخمسينيات توجه قادة جبهة التحرير
الجزائرية والتي كانت تقود الشعب الجزائري حينئذ إلى استحداث جهاز للمخابرات،
وتولى تدريبه في بداياته المخابرات المصرية؛ حيث قام بشراء مجموعة فيلات
للسكن حوَّلها إلى مراكز للتعذيب وإدارة العمليات الاستخباراتية. ولم يسلم منه
جهاز المخابرات المصري القوي في عهد عبد الناصر، حيث سعى إلى اختراقه
والتجسس على فتحي الديب المكلف بالملف الجزائري في النظام المصري حينذاك.
وسرعان ما اكتشفت أجهزة الأمن المصرية ذلك وهو ما أثار غضباً شديداً لدى
قادتها؛ ذلك أنها ساعدت جبهة التحرير ولم تبخل عليها بأي شيء؛ فكيف يحاول
أحد قادتها اختراق أصدقائها؟ ! هذه الرواية أوردها فتحي الديب في كتابه:
(عبد الناصر وثورة الجزائر) .
وتطور هذا الجهاز بعد ذلك على يد المخابرات السوفييتية حتى برزت
مجموعة (السجاد الأحمر) أي هؤلاء الذين تدربوا على أعمال المخابرات في
موسكو.
وتنوعت أعماله من قتل المعارضين لقيادة جبهة التحرير قبل الاستقلال
وبعده، واختراق الجماعات الإسلامية والتأثير في توجهاتها وتغيير استراتيجيتها،
كما حدث مع الجماعة الإسلامية المسلحة، كما شارك بالتخطيط والتنفيذ فيما وقع
من مجازر ومذابح.
3 - تدني المستوى التعليمي والسياسي بالنسبة لقياداتها القديمة والتي تُمسك بزمام
الجيش حالياً:
جل القيادات الحالية التي تُحكم سيطرتها على جيش الجزائر حصلوا على
الابتدائية أو ما يعادلها، ثم خدموا بعد ذلك في الجيش الفرنسي، وعند الاستقلال
ولأسباب مجهولة تم دمجهم بالجيش الجزائري. والمستوى التعليمي المحدود كان له
تأثير بلا شك على مستوى ثقافتهم وتعاطيهم مع الشأن الجزائري؛ كما جعلهم أكثر
انقياداً وتأثراً بالتوجيه الخارجي الآتي من فرنسا. يقول عبد الحميد الإبراهيمي
رئيس وزراء الجزائر الأسبق: «في الواقع فإن العسكر والجنرالات منذ أن جاؤوا
بانقلابهم عام 1992م وهم على رأس المؤسسة العسكرية وقد كانوا في الجيش
الفرنسي سابقاً، دخلوه وهم صغار في سن 13، 14 سنة، ومستواهم الثقافي
ضعيف جداً، والعديد منهم لم يحصل حتى على الشهادة الابتدائية، وعندما انتموا
إلى الجيش الفرنسي الذي كان يحتل الجزائر حاربوا في صفوفه حتى اشتركوا في
ضرب ثوار الجزائر، والبعض حارب في الهند الصينية وفي فيتنام، وبعد اندلاع
الثورة أتوا بهم إلى الجزائر، وفيهم عدد كبير من الذين التحقوا بعد ذلك بالثورة،
ليس في الجبال، لكن بالحكومة المؤقتة بتونس ومنهم مثلاً (محمد العماري) هذا
الذي قاد أركان حرب منذ بداية 1993م إلى يومنا هذا التحق بالحكومة المؤقتة
بتونس في نهاية 1961م، وهم ما زالوا بمستواهم الضعيف يعني الثقافي والسياسي
لكنْ وراءهم خبراء فرنسيون وضباط فرنسيون كانوا يعملون في المخابرات تحت
الجنرال إسماعيل العماري نائب الجنرال توفيق رئيس المخابرات ... يعني أن
الفرنسيين هم الذين يشيرون عليه» .
4 - تعدد مراكز القوى والاستقطاب داخل هذه النخبة:
كان من الطبيعي لتهافت هؤلاء العسكر على الحكم أن يحدث بينهم نوع من
التشرذم وتنامي البؤر.
والمتتبع لأحوال النظام الجزائري يجد بداخله قطبين رئيسيين:
الأول: تيار المخابرات بزعامة محمد مدين الشهير بسي توفيق ونائبه
إسماعيل العماري.
الثاني: تيار أركان الجيش بزعامة رئيس الأركان محمد العماري.
وكل قطب من هذه الأقطاب له أدواته ووسائله في السيطرة وإدارة الصراع
سواء مع الناس أو مع القطب الآخر عندما يبرز بينهما خلافات على التكتيك
والأسلوب الأفضل في تقاسم السلطة وذبح الصحوة ومحاربة اختيار الشعب في
العودة إلى الله.
ويأتي بعد ذلك دور رئيس الجمهورية وهو دور واجهة أكثر من أن يكون
طرفاً فعالاً، والمتأمل لفترات الرئاسة للرؤساء السابقين من أيام بن بلة وحتى
بوتفليقة يجد أن هؤلاء الرؤساء كانوا ألعوبة في يد قادة الجيش والمخابرات باستثناء
حكم هواري بومدين، حيث كان ممسكاً بزمام الجيش بنفسه في السابق فسهل عليه
الإمساك بخيوط السلطة في يديه.
لذلك يجب علينا فهم ما تتحدث عنه وسائل الإعلام عن وجود خلاف بين
الرئيس والجيش؛ فالتعبير الدقيق: خلاف بين أحد أقطاب الصراع الذي جاء
ببوتفليقة وبين القطب الآخر اللذين سبق الحديث عنهما.
هذه الخصائص الأربع هي أبرز خصائص الحكم في الجزائر بالإضافة إلى
الخصائص الأخرى الموجودة في أكثر النخب التي تتحكم في بلاد المسلمين مثل
الفساد الإداري والمالي والسيطرة على الاقتصاد والمحسوبية والرشوة والانحطاط
الأخلاقي وغيرها من المفاسد.
لذا كان من السهل تقبل نظرية المؤامرة بالنسبة لأحداث الأمازيغ الأخيرة
نتيجة للعوامل السابقة؛ فقبل اندلاع انتفاضة الأمازيغ برزت إلى السطح
التصريحات والتصريحات المضادة بين مراكز القوى في الجزائر، وهو الأمر الذي
فهم منه كما يقول سياسي جزائري أنّه يشكّل ذروة الاحتقان بين مراكز القوة.
وقد علمتنا الفتنة الجزائريّة أن يكون للاحتقان بين مراكز القوة كباش محرقة
وفداء من قبيل مجزرة هنا ومذبحة هناك وقتل بالجملة هنالك. ومبادرة الرئيس
الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى تشكيل لجنة للتحقيق في الحادث معناه أنّ مشهد
الدم في منطقة القبائل وراءه أيدٍ قد يكون لها امتداد إلى بعض مراكز القوة.
وعندما تحركّت المدرعات العسكرية لردع انتفاضة الأمازيغ كان الرئيس
الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في زيارة إلى نيجيريا الأمر الذي جعله يقطع زيارته
ليلاً ولا يتابع أعمال المؤتمر العالمي حول الإيدز في نيجيريا. وهذا
ما جعل مقربين من الرئيس الجزائري بوتفليقة يعتبرون أنّ ما جرى ويجري هو
أمر دبّر بليل، وأنّ هناك أطرافاً أشعلت النار في منطقة القبائل.
ويظهر أن أحد القطبين في الجيش الجزائري غير راض عن تحركات
بوتفليقة والقطب الآخر متمسك به، وهذا ما يفسر إقدام بوتفليقة على تقديم استقالته
لقيادة الجيش فور وقوع هذه الأحداث.
وتتفق تحليلات قوى سياسية محلية حول ما تسميه «تحريك القبائل»
لتصفية حسابات بين أطراف السلطة المتصارعة إلى حد يمكن توقع أي شيء في
المستقبل القريب. وتعتقد هذه القوى أن سيناريو تفجير الأحداث أعد بإتقان، واهتم
حتى بأدق الجزئيات لضمان اندلاعها؛ فهناك جملة من التساؤلات حول مصادفات
غريبة حدثت من جهات مسؤولة تؤدي حتماً إلى ما آلت إليه الأوضاع في المنطقة.
فمجرد اعتقال شاب أعزل بلا سبب وقتله برشاش كلاشينكوف من قبل رجل من
الدرك داخل الثكنة، أمرٌ كافٍ لأن يثير غضب الناس في أي مكان من الجزائر؛
فما بالك إن كان هذا الشاب من القبائل وقد قتل في قريته من دركي غريب عن
المنطقة ولا ينتمي للسان القبائلي؟ ! لكن أثر حادثة الاغتيال ظل محدوداً في قرية
الضحية وضواحيها، وظلت المطالب هي إعادة الاعتبار للشاب بعد أن اتهمه بيان
الدرك بكونه كان بصدد القيام بسرقة، ولم يثر الحادث ضجة ذات بال. لذلك
«عمدت الأوساط التي أرادت تفجير الوضع إلى افتعال أحداث أخرى باعتقال
تلاميذ من ثانوية أميزور بولاية قبائلية أخرى، ويعتقد بأن أوساطاً في الحكم
تدرك أن الوضع المتأزم في البلاد نتيجة اتساع رقعة الفقر والخطاب الرسمي
الذي يستفز العامة، وكذا النهج السياسي للرئيس بوتفليقة المعتمد على العودة إلى
خدمات» الحرس القديم «الذي سبب المآسي للجزائر في الثمانينيات سيؤدي حتماً
إلى انفجار عام بالبلاد لا تستطيع التحكم فيه شبيه بذلك الذي حدث في أكتوبر من
عام 1988م، وغيَّر مجرى سياسة البلاد، وأدى إلى زعزعة حكم بن جديد. لهذا
عمدت إلى افتعال أسباب انفجار في منطقة معروفة بكونها أكثر مناطق الجزائر
حساسية وقابلية للتحريك. وبهذا فقد سبقت السلطة الأحداث وإن خلفت قتلى
وجرحى وإتلاف الممتلكات فإنها في نظر هذه السلطة أخف الأضرار.
وتساءل الكثيرون عن الأسباب التي دفعت السلطة أو جناحاً منها هذه المرة
لتحريك الوضع في القبائل انطلاقاً من قتل دركي» عربي «شاباً قبائلياً واعتقال
دركيين» عربيين «شباباً من القبائل وضربهم!
الدور الفرنسي:
عندما تعرضت الجزائر للاستعمار الفرنسي في 5 يوليو تموز 1830م كان
أول من رفع لواء المقاومة ضد المستعمر الفرنسي هم الأمازيغ أو الأمازيغ
المسلمون ومن الثورات التي تصدّت للاستعمار الفرنسي ثورة المقراني والمقران
لفظة بربرية تعني الكبير وكان شعار ثورة المقراني الدفاع عن إسلامية الجزائر،
ولم يقاوم المقراني من أجل استرجاع الهوية الأمازيغية للجزائر، وقد أدركت فرنسا
خطورة هذه العقيدة فراحت تنبش في الذاكرة الجزائرية إلى أن اهتدى استراتيجيوها
إلى مبدأ التشكيك في الهوية الجزائرية، وبدأت حملة التشكيك من خلال تكوين
نخبة جزائرية مثقفة مشبعة بالفكر الفرانكفوني، وقد لعبت هذه النخبة المعروفة
جيداً لدى الشعب الجزائري أكبر الأدوار في تمزيق صفوف الحركة الوطنية؛ حيث
تمّ البدء في تصنيف الجزائري بأنه عربي، وبربري، وشاوي، وما إلى ذلك.
وكانت النخبة المذكورة ترى في إرهاصات الثورة الجزائرية على فرنسا
انحرافاً خطيراً باعتبار أن الثورة في مضمونها دعوة للانفصال عن الوطن الأم
فرنسا، ومع اندلاع الثورة الجزائرية فكرت السلطات الفرنسية في مختلف الطرق
التي تؤدي إلى تمزيق الثورة الجزائرية التي تبناها الجزائريون بمختلف مشاربهم
وانتماءاتهم العرقية، فوصلت فرنسا إلى أمرين لتمزيق الثورة الجزائرية من الداخل:
1- الورقة الأمازيغية.
2 - الورقة الجهوية.
فعلى الصعيد الجهوي نجحت فرنسا في إثارة النعرات الجهوية، فبات يسود
آنذاك بين الجزائريين بأن هذا من الغرب، وذاك من الشرق، هذا وهراني
وقسنطيني وقبائلي وهلمّ جراً.
وما زالت الجهوية تلعب دوراً كبيراً في التعيينات الوزارية والرسمية، بل إن
التوازن الجهوي يعدّ أساس الحكم في الجزائر.
وعلى صعيد الورقة الأمازيغية فقد نجحت فرنسا في إثارتها عبر آلياتها
ووسائلها؛ وذلك باتباع وسائل أهمها:
* مضاعفة النشاط التبشيري بين الأمازيغ، وتقديم الخدمات الصحية
والتعليمية وإقامة الكنائس في مناطق تواجدهم الكثيف مقابل منع العلماء المسلمين
من الوصول إليهم لتدريس القرآن الكريم واللغة العربية. ويذكر المراقبون أن هناك
ما يقرب من عشرين منظمة تنصيرية في منطقة القبائل تقريباً، وزعماء الحركة
الأمازيغية لا ينكرون أن الذي أوجد التيار الأمازيغي هم المنصرون المسيحيون
الفرنسيون؛ فقد صرح معطوب الوناس (اغتيل منذ نحو ثلاث سنوات) ، وهو
مطرب من أقطاب حركة الثقافة الأمازيغية بأن الذي علمني هويتي الأمازيغية هو
الأب (شارل ديكيرس) الذي اغتيل من طرف الإسلاميين مع رفاقه الثلاثة في
تيزي أوزو، مع العلم أن الراهب المذكور بلجيكي الجنسية متمرس في العمل ببلاد
القبائل؛ فهو يحسن التحدث بالقبائلية، وسبق أن ضبطه مفتش شرطة قبائل بمدينة
تيزي أوزو في سنة 1976م وهو يجمع في بيته مراهقين ومراهقات ويمرنهم على
ممارسة الجنس تحت عنوان التربية الجنسية، وقد قامت السلطات بطرده مع عدد
من رفاقه في عهد هواري بومدين، ومن الغريب أنه كان مستشاراً في التأهيل
المهني بوزارة العمل الجزائري التي كان يسيطر عليها الشيوعيون، وكان مزدوج
الجنسية إذ يتمتع بالجنسيتين الجزائرية والبلجيكية، ثم جاء الشاذلي بن جديد وفي
إحدى زياراته إلى بلجيكا توسط ملكها لديه للراهب المذكور، فسمح له بالعودة إلى
الجزائر؛ حيث بقي فيها إلى أن اغتيل، وهذا الوناس هو الذي وقف خطيباً أمام
الجماهير في مسيرة نظمت بمناسبة ذكرى ما يسمى بـ (الربيع الأمازيغي) وإلى
جانبه زوجة السيد سعيد سعدي رئيس حزب (التجمع من أجل الثقافة
والديموقراطية) حيث قال بالحرف الواحد:» لو بقيت اللغة الفرنسية رسمية
بالجزائر بعد الاستقلال مثلما كانت قبله، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه «.
* تزييف التاريخ لتعميق الهوة بين العرب والأمازيغ.
* محاولة إضفاء الصبغة العلمية الأكاديمية على دعاوى عنصرية من قبيل
(لاتينية) الأمازيغ، وتمايزهم تماماً: عرقياً، حضارياً، لغوياً، وتاريخياً عن
العرب؛ وصولاً إلى تبني اجتهادات فرنسية/ أمريكية لكتابة مفردات اللغة
الأمازيغية (الشفهية) بحروف لاتينية، في سياق محاولة ربط الأمازيغ بالثقافة
اللاتينية المسيحية.
* توفير حاجة الدعوة الأمازيغية من المؤسسات الثقافية لتكون ممارسة هذه
المؤسسات خارج الدولة الجزائرية، وبذلك يصعب التحكم في مخرجاتها ومنطلقاتها؛
فقد أسست فرنسا في عاصمتها باريس الأكاديمية الأمازيغية التي تولت وضع
معجم للغة الأمازيغية، وتشجيع نتاج الأدباء الأمازيغيين بهذه اللغة، ورعاية الثقافة
الأمازيغية بكل مفرداتها: الأغنية والموسيقى (موسيقى الراي) ، العادات،
والتقاليد، وفنون الأدب الأخرى.
* دعم العناصر المتفرنسة في سعيها لإقامة العقبات أمام مسيرة التعريب بعد
استقلال الجزائر عام 1962م، سواء بدفعهم طابوراً خامساً داخل مراكز صناعة
القرار، أو المؤسسات التعليمية، والتركيز على دعم سياسة الإحياء الأمازيغي التي
تنظر إلى اللغة العربية باعتبارها لغة أجنبية.
* التبني الدعائي لأحداث العنف التي اندلعت في مناطق الأمازيغ منذ بداية
الثمانينيات، ومحاولة الضغط على الجزائر الدولة، باتجاه الاعتراف بحق الأمازيغ
في التمايز الثقافي واللغوي من جهة، ودعم العناصر المعارضة ذات الأصل
الأمازيغي المقيمة في فرنسا من جهة أخرى خاصة عبر توفير المنابر الإعلامية
ووسائل الاتصال بالداخل.
* دعم يهود فرنسا والمنظمات اليهودية فيها كما ذكر البروفيسور رفائيل
يسرائيل في ورقة أمام ندوة لمركز بارايلان بالتعاون مع الخارجية الإسرائيلية
لمطالب الأمازيغ، وتقديم العون المادي والمعنوي لمنظماتهم النشطة في فرنسا،
ويشير (يسرائيل) إلى أن أكثر من نصف مليون بربري يعيشون في فرنسا، مما
ساعد على ظهور، وتشكيل جماعات وهيئات تتولى رعاية قضاياهم، وتؤيدهم في
ذلك المنظمات والمؤسسات اليهودية الأكثر التصاقاً واهتماماً بقضيتهم، ورعاية
مصالحهم وتبني طموحاتهم.
* الإعلان على لسان وزير خارجية فرنسا فيدرين خلال الأزمة الأخيرة أن
بلاده لا تستطيع البقاء صامته أمام القمع العنيف إزاء الاضطرابات في مناطق
القبائل، خصوصاً أن الجالية الجزائرية في فرنسا تضم عدداً كبيراً من أبناء هذه
المناطق ثم تأييد رئيس الوزراء جوسبان موقف وزير خارجيته.
* دعوة آيت أحمد الزعيم الأمازيغي المقيم في سويسرا عبر الإذاعة الفرنسية،
إلى تدويل المسألة الجزائرية، وتوجيهه نداء إلى كوفي عنان الأمين العام للأمم
المتحدة، والمفوضية العليا لمنظمة حقوق الإنسان، والرئيس الأمريكي بوش،
ورئيس الاتحاد الأوروبي، وممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى للسياسة الخارجية،
والأمين العام لحلف الناتو ورئيس الدولية الاشتراكية، باتخاذ مبادرات فردية أو
جماعية لتوجيه تحذير علني للسلطات الجزائرية (لمنع وقوع ما لا يعوض) !
وإعلانه في حديث آخر عبر الأثير (أن شبان القبائل مهمشون بعد مصادرة
ماضيهم وذاكرتهم وحاضرهم) .
وفي الآونة الأخيرة بدا النظام الجزائري أكثر ميلاً للارتماء في أحضان القوة
العظمى الوحيدة في العالم الولايات المتحدة التي يمكن أن يرتكز عليها في صراعه
وتثبيت نفوذه في الجزائر، وقام الأسطول الأمريكي السادس في البحر المتوسط
بعمل مناورات وتدريبات مشتركة مع الجيش الجزائري، وفي هذا السياق أيضا
تأتي الاتصالات السرية بين النظام وإسرئيل التي توجت بالمصافحة بين بوتفليقة
وباراك في المغرب أثناء جنازة الحسن الثاني، وهنا شعرت فرنسا بأن جهودها منذ
ما يقرب من قرنين سوف تذهب سدى؛ فهي التي صنعت على عينها طبقة
الفرانكوفونية وطبقة الأمازيغية وطبقة الضباط التي سلمت لهم الحكم قبل أن ترحل؛
وهاهم الضباط يتمردون، فشجعت، وتحركت لإسقاط الفصيل المتمرد على
هيمنتها ونفوذها وكانت أحداث القبائل فصلاً جديداً من فصول التدخل الفرنسي سبقه
الضجة المفتعلة التي أثيرت حول كتاب الحرب القذرة:
فلماذا في هذا التوقيت تم نشر الكتاب؟
وما سر اهتمام مثقفي فرنسا المفاجئ بمذابح الجزائر وتحميلهم للجيش
الجزائري مسؤولية هذه المجازر.... ..؟
لماذا هذه الأيام بالتحديد.... .؟
هذا الملف فتح منذ عام 1997م في لندن ومدريد على أيدي ضباط كثيرين
لاذوا بالفرار وقالوا الحقيقة، والغريب أن مثقفي فرنسا هؤلاء تراصوا وانفعلوا
واندفعوا يدافعون عن الجيش الجزائري، وشكلوا الوفود لتقصي الحقائق، وخرجوا
بنتيجة أن الإسلاميين وحدهم هم المسؤولون؛ فما الذي تغير؟
إن الإجابة على ذلك تكمن في رغبة فرنسا لجم هؤلاء الضباط المتمردين على
هيمنتها وإعادتهم إلى الحظيرة الفرنسية، وفي هذا السياق يأتي كما أسلفنا دعم
الأمازيغ وتشجيعهم وانتهاز فرصة الاضطرابات لدفع الأمور إلى الأسوأ.
الحركة الأمازيغية في الجزائر:
يتحرك العلمانيون الأمازيغ في الجزائر عبر عدة واجهات منها: السياسية
ممثلة أساساً في الأحزاب الأمازيغية، مثل جبهة القوى الاشتراكية، والتجمع من
أجل الثقافة والديمقراطية، ومنها الاجتماعية: مثل الحركة الثقافية الأمازيغية،
ومنها التيار المسلح للفصيل الأمازيغي: مثل الحركة المسلحة الأمازيغية التي أعلن
عن تأسيسها يوم 2 يوليو 1998م عشية تطبيق اللغة العربية، والتي تهدف حسب
بيانها إلى قتل كل من يطبق اللغة العربية، وكذا كل من يحارب المد الأمازيغي.
كما أن التيار الأمازيغي يتحرك بالمقابل في واجهة حكومية هي المحافظة
السامية للبربرية، والتي نُصّبت كهيئة استشارية للرئيس زروال عقب اتفاق مبدئي
مع ممثلي الرئيس في 22 إبريل 1995م بعد إضراب المحافظة في المدارس
بمنطقة القبائل والذي دام أكثر من 6 أشهر والتي خولت لها مهمة الإسراع بترقية
الأمازيغية.
هذه الهيئة الرسمية أبدت هي الأخرى على لسان ناطقها الرسمي جمال فرج
الله استياءها، ودعت الجمعيات الأمازيغية النشطة والمقدر عددها بـ 6000
جمعية، والتي تعنى كلها بتطوير المسألة الأمازيغية وترقيتها والدفاع عنها من
مجموع 12 ألف جمعية معتمدة في الجزائر إلى التجند لدراسة أشكال جديدة من
النضال لفرض الأمازيغية، التي تنشط منذ بروز» الظهير الأمازيغي «أو ما
سمي بالبيان الأمازيغي للسلطات الفرنسية في 1914م تحت رعاية السلطات
الفرنسية، وقد كللت هذه الرعاية بعقد أول مؤتمر للمكتب العالمي الأمازيغي في
المركز العالمي» بيير مونيسي «بقرية» سان روم دولان «جنوب فرنسا في
الفترة بين 1 و3 سبتمبر 1995م، بحضور 40 جمعية بربرية من (ليبيا،
المغرب، الجزائر، إسبانيا، ودول إفريقية وأوربية) ، وخلال المؤتمر وُزّع على
الحضور لأول مرة النشيد الوطني الأمازيغي، ويحمل اسم:» تورارت ن تيللي «،
وكان مكتوباً بالحرف الآرامي، واللاتيني، وردده الجميع أثناء حفل عشاء، ومن
توصيات المؤتمر:
1 - تدويل الواقع الأمازيغي عبر الهيئات الدولية للأمم المتحدة.
2 - الدفاع عن الثقافة الأمازيغية وصيانتها وتنميتها.
3 - اكتساب الوسائل المادية والمالية والتنظيمية من أجل تحقيق هذه
الأهداف.
4 - إعادة النظر في تاريخ شمال إفريقيا بما يخدم أهداف وطن الأمازيغ
المنشود.
هذه التحركات المشبوهة للجانب الأمازيغي بأجنحته المغاربية، والذي يتحرك
بتطرف كبير في العواصم الأوربية، يزيد الشك في حقيقة النوايا الأمازيغية.
لقد بدأ النضال من أجل الأمازيغية في العشرينيات من القرن الماضي أثناء
تأسيس حركة نجم شمال إفريقيا وتطور مع ظهور وتعدد الحركات السياسية
الجزائرية المطالبة بطرد الاستعمار الفرنسي، وكانت ثورة نوفمبر (1954
1962م) منعرجاً حاسماً في الحركات الجزائرية من العمل السياسي إلى الكفاح
المسلح ضد الاستعمار الفرنسي.
وبعد نجاح الثورة الجزائرية واستقلال البلاد في عام 1962م، واختيار نظام
سياسي يقوم على الحزب الواحد الذي يتمثل في جبهة التحرير الوطني الذي ذابت
داخله كل التيارات السياسية التي كانت موجودة قبل الانتقال من مرحلة النضال
السياسي إلى مرحلة الكفاح المسلح.
واعتبر النظام السياسي آنذاك المسألة الأمازيغية ليست من الأولويات؛ لأن
أهم مطالب الأمازيغ كانت متحققة وهي إبعاد اللغة العربية عن الجزائر، وتم منع
وحظر كل التيارات السياسية التي ترفض العمل من داخل أطر الحزب الواحد من
الاسلاميين (جمعية العلماء المسلمين) ، إلى (حزب الطليعة الاشتراكية) ، إلى
الأمازيغيين (الحركة الأمازيغية) ، لكن هذه الأخيرة وجدت مساندة من طرف
فرنسا، التي قامت عام 1963م بإنشاء ما يعرف بالأكاديميّة الأمازيغيّة وأشرف
عليها الكاتب القبائلي الفرانكفوني مولود معمّري، وقامت هذه الأكاديمية لتكون
المنطلق فيما بعد لتأسيس الحركة الثقافية الأمازيغية (الأمسيبي) .
وفي إبريل عام 1980م منعت سلطات ولاية تيزي وزو المنظِّر الأمازيغي
مولود معمري من إلقاء محاضرة بأحد المراكز الثقافية، فرد التيار الأمازيغي
بالدعوة لإضراب عام في 20 أبريل 1980م، وتفجر الوضع الذي أدى إلى تدخل
عنيف لقوات الأمن، واعتقلت عدداً من الوجوه التي لم تكن معروفة آنذاك، وحكم
عليها بالسجن لمدد مختلفة، هي اليوم من رموز التيار الأمازيغي بشقه الثقافي
والسياسي، ومنها سعيد سعدي، فرحات مهني، جمال زناتي، صالح بوكريف،
وغيرهم ... وأصبح 20 إبريل ذكرى يتم الاحتفال بها سنوياً تحت تسمية:
(الربيع الأمازيغي) .
عرف النضال من أجل ترسيم الأمازيغية تطوراً كبيراً مع دخول الجزائر عهد
التعددية السياسية والانفتاح الديمقراطي بعد أحداث أكتوبر عام 1988م مقارنة
بسنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بحيث أصبحت الحركة الأمازيغية
تتمتع بآفاق ومجالات أوسع للمطالبة بترسيم الأمازيغية في الدستور, بعدما كانت
المرحلة الأولى من النضال الأمازيغي تتسم بالسرية؛ لأن الحديث عن المطالب
الأمازيغية في بادئ الأمر كان يعرض صاحبه للسجن والعقوبات المختلفة؛ ولكن
مرحلة الانتقال من العمل السري إلى العلن حملت معها سلبيات على التيار
الأمازيغي، فانقسمت الحركة الثقافية الأمازيغية التي كانت المرجعية الوحيدة
للمطلب الأمازيغي، مع ميلاد حزبي: (جبهة القوى الاشتراكية) لحسين آيت
أحمد، و (التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) لسعيد سعدي إلى قسمين: اللجان
الوطنية للأمسيبي القريبة من حزب آيت أحمد ويتزعمها جمال زناتي، والتنسيقية
الوطنية للأمسيبي ويتزعمها فرحات مهني، ووصلت الخلافات وحدة الصراعات
ببن الطرفين إلى درجة دفعت التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية إلى التحالف مع
النظام العدو اللدود بالأمس ضد جبهة القوى الاشتراكية التي خرج حزب سعيد
سعدي من صلبها، وأصبحت مواقف الحزبين على النقيض تجاه مختلف القضايا
المطروحة في الساحة السياسية، وازدادت الهوة اتساعاً بينهما منذ بداية أحداث
العنف في الجزائر عام 1992م.
وفي عام 1995م أنشئت المحافظة السامية للأمازيغية بمرسوم رئاسي من
طرف الرئيس السابق الأمين زروال، على إثر الإضراب المفتوح الذي شنته
الحركة الأمازيغية في منطقة القبائل، والمقاطعة الشاملة للعام الدراسي وهو أول
اعتراف من جانب السلطة بالقضية الأمازيغية وتغيير استراتيجية التعامل مع
الحركة الأمازيغية من المواجهة إلى الاحتواء، ومنذ تنصيب المحافظة السامية
قامت بإدخال الأمازيغية في النظام التعليمي الأساسي والثانوي عبر 16 ولاية، إلى
جانب فتح فرع لشهادة الليسانس في الأمازيغية، وتأطير أكثر من 200 أستاذ
جامعي، وتخصيص نشرات إخبارية بالأمازيغية، في التلفزيون الجزائري،
وأصبحت قضية الأمازيغية تناقش داخل البرلمان؛ فقد أودع نواب حزب التجمع
من أجل الثقافة والديمقراطية سؤالاً للحكومة حول العراقيل التي تعترض عملية
تدريس الأمازيغية وتطويرها.
وتسعى الآن الحركة الأمازيغية إلى ترسيم اللغة الأمازيغية من خلال النص
على أنها لغة رسمية في الدستور الجزائري.
ومع انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للجزائر لم تسجل الحركة الأمازيغية
أي موقف بشأن تعاملها مع الحكم الجديد، وفي ظروف مشبوهة شددت الحركة
لهجتها، وشاركت في ملتقيات دولية ونظم بعضها بالجزائر ومن أبرزها الملتقى
الذي عقد بالجزائر في 22 إبريل 2000م ونتج عنه توحيد الحركات الأمازيغية في
تونس والمغرب وجزر الكناري ومالي والنيجر والجزائر، وشاركت بعدها هذه
الحركات في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي خصصت لعشرية حقوق الشعوب.
ولكن بمجرد تشكيل بوتفليقة لحكومته الائتلافية وضمه للتجمع من أجل الثقافة
والديمقراطية إليها خفت صوتها من جديد.
وفي إبريل الماضي بدأت مظاهرات منطقة القبائل من جديد منادية بالمطلب
الأمازيغي، وعندما لم يفلحوا في جر الفئات الأمازيغية الأخرى رفعوا شعارات
البطالة والمعاناة الاجتماعية، وطالبوا الشباب في الولايات الأخرى بالخروج
للشوارع، واضطر سعيد سعدي مكرهاً للانسحاب من الحكومة بعد الأحداث الدامية
التي شهدتها منطقة القبائل منذ 22 من الشهر الماضي للحفاظ على ما تبقى من
مصداقية له في المنطقة التي يستمد منها أساساً شرعية وجوده.
ويبدو أن أكبر حزبين في هذه المنطقة: (التجمع من أجل الثقافة
والديمقراطية) و (جبهة القوى الاشتراكية) بزعامة المعارض حسين آيت أحمد
يؤثران بشكل ما على الأحداث. لكن جبهة القوى الاشتراكية استطاعت أن تحافظ
على كثير من جسور الثقة مع السكان وجمعيات الأحياء والقرى، على عكس
(التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) الذي فقد أنصاره، وتحوّل المحايدون إلى
خصومه منذ انضمامه إلى الحكومة السنة الماضية ومنذ انتشار أنباء عن تواطئه مع
فصيل من قادة الجيش في سياستهم الهادفة إلى الحد من نفوذ الأمازيغ في الدولة.
لقد شجع هذان الحزبان مناضليه في العشرية الماضية على محو الحرف
العربي من الشوارع والطرق، وعناوين المحلات التجارية، ولم يترك سوى
الحرف الفرنسي، وصار هؤلاء يمنعون استعمال اللغة العربية في التظاهرات
الثقافية، ويجبرون المتحدثين على استعمال الفرنسية، فكم من محاضر مغاربي أو
جزائري زار ولايتهم طلب منه أن يتحدث بالفرنسية أو يسكت.
وليست المرة الأولى التي تنطلق فيها مظاهرات تخريبية في منطقة القبائل؛
ففي كل مرة تخرج هذه المظاهرات تخرب المرافق الحكومية والدولة تعيد بناءها
دون معاقبة المخربين؛ وآخرها الحوادث التي جرت كانت بمناسبة اغتيال المغني
معطوب الوناس سنة 1998م؛ لأن هذا الشباب ربته الأحزاب الأمازيغية العلمانية
على كره الإسلام؛ وهذه الأحزاب تعمل منذ عشرين سنة بتوجيه فرنسي على
القضاء على أخلاق الإسلام وخلق شباب لا انتماء لهم قيمياً؛ لأنها ترى أنه ما دام
الإسلام وأخلاقه قائماً فيصعب عليها تمرير خطابها المعادي للعروبة والإسلام.
وزاد من هذا المد اللاأخلاقي عودة المغتربين القبائليين من فرنسا بعد أن تقاعدوا؛
فقد عادوا بسلوك المجتمع الفرنسي وبالأموال؛ فبنوا دارات فخمة حلت محل
بساتين التين والزيتون المشهورة بها هذه المنطقة، وبين كل عشرين دارة تقام حانة
تتحول إلى موقع انحلال ... وهذا هو الذي يفسر لماذا يقوم شباب القبائل الحزبي
في كل مرة بمظاهرات تخريبية؛ لأنه تحول إلى شباب غير منتم دينياً وقيمياً،
يتصرف بحقد على كل ما هو إسلامي.. ومن مظاهر الحوادث المحزنة أن كل
سيارة تحمل رقم ولاية أخرى غير ولايتهم تكسر، بل وصل الحقد القبائلي أن
يُضرَب كل شخص يُكتشَفُ أنه عربي جزائري. وقد شاهد سكان حي الحراش
بالعاصمة شاحنات متوجهة لمسيرة حزب حسين آيت أحمد يوم 3/5/2001م،
تحمل شباباً يرسم إشارة الصليب على صدورهم وجبهاتهم، وظاهرة الصلبان
منتشرة بمنطقة القبائل بتشجيع من الأحزاب ومن الجمعيات الأمازيغية.
وعامل الفقر والبطالة التي تتحدث عنه وسائل الإعلام باعتباره العامل
المحرك للأحداث غير حقيقي.
فتعتبر منطقة القبائل أكثر منطقة جزائرية مستفيدة من الثروة الوطنية: فولاية
تيزي وزو أفضل ولاية بنت فيها الدولة منشآت معمارية، وتمثل البطالة بولايتي
بجاية وتيزي وزو أقل نسبة مقارنة بالولايات الأخرى. كما يمثل القبائل النسبة
الغالبة في الوظائف العليا سواء بالمؤسسات الحكومية أو في شركات القطاع العام.
وحتى في إطار اقتصاد السوق تنشأ ببلاد القبائل مصانع خاصة في صناعة الألبان
والأجبان والمياه المعدنية وغيرها من المواد ذات الاستهلاك الواسع وتوزع في سائر
القطر.
إن الجزائريين العاديين باتوا يشكون من تمييز أهل منطقة القبائل حتى إنهم
يرددون المثل الجزائري: (يأكل الغلة ويسب الملة) ، وأغلبية القبائل ضد هذا
لكنها واقعة تحت إرهاب هذه الأحزاب والجمعيات المشبوهة.
إن تمرد فئة من الأمازيغ لم يكن ليحدث في الماضي زمن تطبيق كتاب الله
وسنة رسوله؛ ففي هذا الزمن كان الناس ملتفين حول هوية العقيدة: الفطرة التي
خلقهم الله عليها، وتلاشت العصبية القبلية المنتنة، وعندما حُجِبَت شمس الشريعة
والآصرة التي كان يتجمع المسلمون عليها سهل عليهم تقبل نعرات وعصبيات
والعودة إلى جاهلية جديدة.
وهكذا تتقاطع مؤامرة أقطاب الحكم في الجزائر مع مصالح فرنسا مع جهود
طائفة متغربة لتصنع أحداثاً وتقلب موائد؛ ليعلم الله وحده إلى أين تتجه الجزائر؟(164/78)
المسلمون والعالم
إلغاء المعاهد الشرعية في اليمن بين الدوافع والأبعاد
عبد الرحيم يحيى قايد
كما كان متوقعاً ألغى حزب المؤتمر الحاكم في اليمن المعاهد الشرعية
ومدارس تحفيظ القرآن الكريم التي وصف الرئيس اليمني طلبتها حين التقى بهم في
أيام خلت بـ (الجيل الطاهر) ، (الجيل النظيف) ، (الجيل المخلص) ،
ووصفهم بأنهم: (درع لحماية الثورة والمبادئ والمنجزات والعقيدة) [1] ، ألغى
حزب المؤتمر المعاهد الشرعية في اليمن والتي تمتاز عن غيرها من مدارس التعليم
العام كما جاء على لسان مصدر مطلع في الحكومة اليمنية بأنها: (تكرس تدريس
المواد الدينية واللغة العربية، ونشر الدعوة الإسلامية، والدفاع عن الدين الإسلامي
من خطر الماسونية والعلمانية والصهيونية والمذاهب والطوائف الإسلامية التي
تتعارض مع المذاهب الأصولية السلفية) [2] ، ألغاها بجرة قلم مثبتاً على نفسه
تناقضاً للمسؤولية تجاه دينه وشعبه، وضيقه الشديد بوجود الآخر، وحمله
التهويل تجاه مؤسسة تعليمية تعطي اهتماماً خاصاً لتربية النشء على الإسلام، وتعنى
بتعليمهم القرآن واللغة العربية، رافعاً شعار: إنهاء حالة الازدواجية الثنائية في
التعليم بما يحقق وحدة أبناء المجتمع، ويمنع من جرهم إلى الفتنة، ويحول بينهم
وبين التطرف والإرهاب، ويمنع من تقويض أسس مقومات بناء الدولة اليمنية
الحديثة [3] ، إلى آخر ذلك من كلمات التضليل والمكايدة والاستخفاف بعقول الكثيرين
من أبناء الأمة مما لا ينطلي إلا على الجهلة والسذج فقط.
ألغيت تلك المعاهد لتصيب مستقبل تعليم الإسلام لأجيال اليمن في مقتل في
الوقت الذي تستمر المعاهد الشرعية في الخليج، والمعاهد الأزهرية في مصر، بل
وحتى معاهد الأئمة والخطباء في الدولة التركية الحديثة! ! في أداء دورها في
ترسيخ الهوية لتكسب قيادته سبقاً في إرضاء أعداء الأمة وتحقيق متطلباتهم.
مستكثرين المبالغ الزهيدة التي تنفق عليها مقارنة بجدواها والرسالة التي
تحملها في الوقت الذي تقبل فيه بريطانيا تمويل مدارس إسلامية على أرضها،
وتنفق فيه الدولة اليهودية بسخاء على المدارس المعنية بتدريس الدين اليهودي.
وفي الوقت الذي يشهد به كل محايد ممن يعرف الواقع اليمني أن تلك المعاهد
الشرعية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم التابعة لها قد قامت بدور مشكور في بث
الوعي الإسلامي ومحاربة الأمية طيلة ما يقرب من ربع قرن في مجتمع عاش ردحاً
من الزمن في غياهب الجهل والتغييب والتخلف، وأسهمت في إذكاء الروح
الإسلامية وإحياء الأخوة الإيمانية في مجتمع عانى طويلاً من الفرقة والتمزق
المذهبي والمناطقي والقبلي، وشاركت بشكل فاعل في محاربة التشوهات الفكرية
المختلفة وحماية أبناء المجتمع اليمني من الزيغ العقدي والتحلل الأخلاقي.
الدوافع الحقيقية للقرار:
يعد قرار حكومة حزب المؤتمر في اليمن بإلغاء المعاهد الشرعية ومدارس
تحفيظ القرآن الكريم التابعة لها خطوة جرئية جداً ومنعطفاً صارخاً وقراراً تاريخياً
يصب في مصلحة طمس الهوية، وتعزيز التغريب، وحرمان النشء من التعليم
الشرعي، والحيلولة بين المجتمع اليمني المسلم والتدين لم يجرؤ على اتخاذه أحد
حتى تلك الحكومات التي ساهم الاشتراكيون فيها؛ فيا ترى ما الدوافع والأسباب
الحقيقية التي كانت وراء إقدام حكومة المؤتمر على تنفيذ هذه الخطوة؟
يمكننا القول بأن استهداف المعاهد الشرعية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم في
اليمن من قِبَل التيارات العلمانية المختلفة والطوائف البدعية المتعددة ليس بجديد،
وقد أخفقوا في كل محاولاتهم السابقة، لكن الجديد في الأمر وهو ما يدركه الكثير
من المتابعين للساحة اليمنية بصورة جيدة تفرد العلمانيين وأصحاب الأهواء داخل
حزب المؤتمر في السنوات الأخيرة بقيادته، وأنهم منذ أن تسنى لهم ذلك وهم
مشمرون عن ساعد الجد في تغيير هوية المجتمع الإسلامية وقيادة العملية التغريبية
داخل اليمن، سواء كان ذلك عبر تشويه الإسلاميين ومحاولة إلصاق تهمة الإرهاب
والتطرف بهم، ومن ثم إيجاد حواجز نفسية بينهم وبين بقية أفراد المجتمع، أو
عبر إغراق المجتمع في بحر الشهوات وإلهاء الشباب بها، واستهداف المرأة اليمنية
بصورة كان آخر تقليعاتها القيام بتجنيدها، في الوقت الذي تم فيه إيقاف التجنيد
الإلزامي للشباب اليمني، وتسريح الكثير من الجند من صفوف الجيش والأمن، أو
عبر ممارسة سياسة الإشغال التي تتم عبر وسائل الإعلام المختلفة ومؤسسات
الإلهاء التي تتستر بالرياضة والسياحة والفن، والسكوت عن الجهات التي تقف
خلف تفشي المخدرات والمسكرات في أوساط المجتمع، أو عبر تشجيع الطوائف
الضالة والفرق المنحرفة من باطنية ورافضة وصوفية من العمل لباطلها ونشر
زيغها وضلالها، أو عبر فتح المجال أمام أصحاب التوجهات المشبوهة التي تتبنى
فتح المدارس الأجنبية والمعاهد والملتقيات الثقافية المختلطة، أو عن طريق محاربة
العمل الخيري واتخاذ خطوات جادة في التضييق عليه، أو من خلال استهداف
تقاليد المجتمع وعاداته المحافظة، والتي كان من آخرها عملية الرقص السافل
والاختلاط الماجن في الاحتفالات العامة التي لو أنفقت ميزانياتها على الطبقات
المسحوقة في المجتمع لأغنتهم.
حين نعلم ذلك ندرك بصورة جلية أن استهداف التعليم الإسلامي في اليمن
والقيام بإفراغه من محتواه سواء عن طريق إقصاء الإسلاميين من مؤسساته، أو
عن طريق تعديل مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية والمواد الاجتماعية بصورة
تساعد على مزيد تجهيل للأجيال بهوية الأمة، وتتفق مع متطلبات التطبيع والعولمة،
أو عن طريق إلغاء المعاهد الشرعية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم ما هو إلا
جزء من مخطط منظم، وخطوة من خطوات التغريب المحكم التي يقوم بها علمانيو
المؤتمر في اليمن اليوم ستتلوها خطوات بدت تلوح في الأفق لن يكون آخرها
استهداف خطب الجمعة والنشاط التعليمي والدعوي داخل المساجد.
ومع عدم الشك في كون القيادة الحالية للمؤتمر والتي تمكنت من التفرد مؤخراً
بقيادة الحزب بعد أن أقصت بصورة عملية كثيراً من القيادات الاجتماعية والوطنية
داخله هي التي تقف خلف عملية التغيير وطمس الهوية داخل المجتمع اليمني بدافع
عقدي فكري مصلحي.. إلا أنه لا يمكن لمتابع للوضع أن يغفل عن العوامل العديدة
التي ساعدت على نجاحهم، والتي يمكن أن يكون من أبرزها:
* وجود خلل بيِّن وشرخ ظاهر داخل الحركة الإسلامية، من أبرز مظاهره:
حالة التمزق والفرقة وعدم قدرة الدعاة على احتواء خلافاتهم فيما بينهم وتجنب
ظهورها على السطح بصورة تكون مخجلة في أحيان كثيرة، من ضيق الأفق
وضعف استشراف المستقبل، فضلاً عن تصدر أهل الأهواء وبعض المحسوبين
على جهات معادية للصحوة للعديد من مواقع صنع القرار داخلها، وضعف الدعاة
المفزع في ممارسة الدعوة العامة والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وهذا في ظني هو العامل الأعظم.
* حالة الضعف الإيماني والخواء الروحي التي يعاني منها كثيرون من أبناء
الشعب اليمني نتيجة الأمية الشرعية، وسياسات التوجيه الدخيلة التي تسعى لطمس
الهوية، وإشغال الشريحة الكبرى من المجتمع بتوفير الحد الأدنى من القوت
الضروري.
* النفوذ البين للسفارة الأمريكية في صنعاء، وتدخلاتها المتكررة في كثير
من الجوانب، وبخاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة، وفتح المجال أمام أنشطة
المؤسسات التنصيرية والجهات الخارجية والداخلية المشبوهة، وتجفيف منابع
الخير تحت مسوِّغات تعزيز التجربة الديمقراطية، وما يسمى بمكافحة التطرف
والإرهاب في اليمن.
* هيمنة صندوق النقد والبنك الدوليين على كثير من السياسات الداخلية
والخارجية عبر قروضه المشروطة، ويعد من أبرز الجوانب التي حققها فيما نحن
بصدده مشاركته في طمس الهوية الإسلامية للمجتمع، وتدعيم الاختلال العقدي
والأخلاقي، وذلك تحت ما يسمى بدعم التجربة الديمقراطية، وتعزيز دور المرأة
في التنمية، ومحاربة الإرهاب والتطرف، ويكفي دلالة على ذلك أن نعلم أن وزير
التربية والتعليم اليمني قد صرح بعد قرار إلغاء المعاهد الشرعية بأن خطوات الدمج
بين المعاهد والمدارس سوف يمول جميع نفقاتها البنك الدولي بشرط أن لا توظف
هذه الأموال إلا في هذه الخطوة، وبأن نعلم بأن البنك الدولي قد قام بطرح مناقصة
لتطوير العملية التعليمية والتربوية وتعديل المناهج في اليمن! ! فازت بها شركة
(A. D. C الأمريكية) .
* نشوة النصر وشعور الرموز العلمانية في المؤتمر بالعظمة الناتج من الربح
المتكرر لمعارك وقضايا متوالية؛ مما ولد لديهم تضخيماً للذات، وجنوحاً جامحاً
نحو السيطرة والاستبداد، واستصغاراً للآخر وتسفيهاً له، والوصاية على الوطن
وامتلاك حق تحديد مصلحته، ومن دلائل ذلك في قضيتنا (محور الحديث) :
الإرهاب القوي لكوادر حزب المؤتمر من أن يصدر من بعضهم مخالفة لتوجه القيادة
وإلا فمصيره الإقصاء والتهميش والاتهام بأنه قد أصبح كما يقال: إصلاحياً (أي:
منتمياً لحزب الإصلاح الإسلاميّ) ، ومن ذلك خطاب الاستكبار، ومصادرة الرأي
الآخر عبر وسائل إعلام الدولة المختلفة، واتهام صاحبه بـ (المخاتلة، وتزييف
الوعي الوطني، وتحويل المعاهد العلمية إلى مناطق بركانية تهدد وحدة المجتمع،
وتقوض أساس بناء الدولة اليمنية الحديثة ومقوماتها) ، وبأنه عامل على (تأسيس
دويلات تنتج مجتمعها الخاص وميليشياتها الذاتية، وتمارس جباية الأطفال وتزرع
فيهم الكراهية، وتجاهد عن طريق توزيع أرواحهم على جبهات القتال في مشارق
الأرض ومغاربها) [4] ، وهذا مخالف للحقيقة في الجملة، ومن يعرف الشارع
اليمني عن كثب يدرك أن الفرقة الحزبية ما أينعت إلا منذ أن تسنمت تلك الفئة
العلمانية إدارة دفة المؤتمر، ومنذ أن عملت على أن تحول ما يفوق 95% من
المدارس والمعاهد والجامعات إلى أوكار لها تمارس فيها إثارة الشهوات والشبهات،
وتعميق الفرقة، وغرس الكراهية لكل ما يرتبط بأصول الأمة وثوابتها، ومع ذلك لم
ترضَ بوجود أقل القليل لدى الآخر يستطيع من خلالها ربط النشء بقيم ومبادئ
الأمة.
أضف إلى ذلك قيامهم بالتلويح بتكرار التجربة التركية، والتهديد باستخدام
القوة، والزج بالجيش والأمن للحيلولة دون قيام الإسلاميين بأي إجراء مهما كان
سلمياً بغرض الاعتراض على هذا القرار الجائر، وذلك عمل استبدادي صارخ،
وتضييق واضح لهامش الحرية المتاحة ولا غرابة؛ إذ الكل فيما يبدو منسجم مع
الديمقراطيات في المنطقة التي تفتح الأبواب على مصراعيها أمام أعداء الأمة
وتوصدها أمام أبنائها الشرفاء! !
* مؤازرة القوى العلمانية والتيارات البدعية خارج المؤتمر للحكومة
المؤتمرية في هذا القرار نتيجة وجود مصلحة مشتركة تجمع بينها في هذا الأمر؛
إذ القرار يصب في دائرة الحيلولة دون وجود جيل عقدي يمنعها من تحقيق شهواتها
ولا تنطلي عليه شبهاتها.
* نجاح القوم بمكرهم الكُبّار في تصوير الصراع على أنه بين حزبين كل
منهما يسعى إلى بسط نفوذه وتحقيق مصالحه على حساب الآخر، وتفريغه من أن
يكون في جوهره صراعاً عقدياً وفكرياً طرفه الأول: هوية الأمة (الإسلام) نفسها
ويقف خلفها القوى الخيرة في الأمة كافة داخل اليمن وخارجها، وطرفه الآخر:
طلائع الغرب وعلمانيو الأمة وجماعة من أهل الأهواء والبدع، والذين تهيأت
لبعضهم الظروف للهيمنة على الدولة اليمنية ومراكز صنع القرار داخلها تحت لواء
حزب المؤتمر، وهذا ما مكنهم من تحييد عامة المجتمع عن الولوج في الصراع،
والدخول في دائرته.
ولعل من أبرز ما دفع بحزب المؤتمر إلى التعجيل باتخاذ هذا القرار وتحمل
تبعاته ثلاثة أمور:
الأول: ما أثبتته الانتخابات المحلية الأخيرة من تنامي شعبية الإصلاح في
الشارع اليمني، وحصوله على قرابة30% من النتائج رغم عملية التزوير المنظم،
والتلاعب الصارخ من قِبَل المؤتمر، حتى إنه لجأ في بعض المواقع للحيلولة دون
فوز مرشحي الإصلاح إلى إنزال العسكر والذين قاموا بسفك الدماء وإزهاق الأرواح
لكي يفوز مرشحو المؤتمر! !
ومرد ذلك إلى أن القيادة العلمانية للمؤتمر فئة نخبوية جمعت بين الفساد
والإفساد، فخسرت بسبب ذلك الشارع اليمني، ولولا الضغط الرسمي والاجتماعي
وضخامة المبالغ المخصصة من قِبَلِ حزب المؤتمر للرشوة وشراء الذمم والعمل
الدؤوب على تزييف الحقائق ما كان لواحد من القوم أن يفوز.
وعندها لم تجد الفئة العلمانية التي تتربع على أمانة المؤتمر من وسيلة
للحيلولة دون تنامي شعبية الإصلاح صاحب التوجهات الإسلامية في الشارع اليمني
إلا القيام بإلغاء المعاهد الشرعية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم باعتبارها الأرضية
التي تتنامى شعبيته داخلها؛ وعليه فجزء من دوافع القرار سياسية هدفها تحسين
موقع حزب المؤتمر والإضرار بخصومه، وليس يعنيه بحال مصلحة الأجيال
ومستقبلها، ولا هو يمت إلى القضية التعليمية والتربوية بأي صلة، وما يقال من
أن دوافعه في ذلك حرصه على إلغاء الازدواجية القائمة في التعليم بين المعاهد
والمدارس والتي يخشى على وحدة المجتمع ومستقبل الأجيال منها، ومن ثم فقد كان
اتخاذها واجباً تفرضه الضرورة الدينية قبل الوطنية [5] دجل ومكايدة سياسية لا
رصيد واقعياً له؛ لأن زيادة حصص مادتي التربية الإسلامية واللغة العربية
المقررتين في المعاهد الشرعية لا يعني وجود ازدواجية ثنائية بينها وبين المدارس
العامة ما دامت الأهداف والسياسات واحدة، بل هو نوع من التخصص كالتخصص
في الطب والزراعة والإدارة والحاسوب، وعلوم ديننا ولغتنا أوْلى بأن تكون لها
المؤسسات المتخصصة في تعليمها والعناية بها من تلك العلوم السالفة على
ضرورتها، ولو كان الهدف الحقيقي هو رفع الازدواجية الثنائية في التعليم خوفاً
على مستقبل الأجيال ووحدة المجتمع لكان القرار صادراً بإلغاء المدارس الأجنبية
والمراكز الثقافية التي تقوم عليها جهات دولية ومحلية مشبوهة معتمدة لمفاهيم
ومناهج تربوية أجنبية تخالف المنطلقات العقدية والفكرية التي تقوم عليها العملية
التعليمية في البلد، ولكن يبدو أن ذلك النوع من التعليم فوق الرقابة، مع أنه يتم
فيها تربية أجيال يمنية متعاقبة من مرحلة الروضة بطريقة غربية صارخة بعيدة
ومتناقضة مع ثقافة الأمة والعادات والتقاليد المرعية.
أما ما يقال من أن دافع القرار هو العمل على محاربة الفساد المالي والإداري
داخل إدارة المعاهد فأمر مضحك يطول العجب منه؛ لأن القرار قد أوكل متابعة
إلغاء المعاهد إلى جهة فسادها يزكم من شدة فداحته الأنوف، والشارع اليمني في
هذا الأمر خير شاهد؛ إذ هو فقط الذي لا يمكنه أن ينسى الضعف الشديد في
مستوى المخرجات التعليمية للجامعات والمدارس، والعبث المالي والإداري في
القطاعات التعليمية والتربوية، والتصفية المتكررة للكفايات المتميزة داخلها،
ومسألة تسريب الامتحانات وبيع الشهادات والتلاعب بالنتائج التي تجاوزت في
السنوات الأخيرة في ظل القيادة المؤتمرية (الأمينة) لمؤسسات التعليم العام
والجامعي حد الظاهرة إلى المشكلة! !
الثاني: تعارض مخرجات التعليم الإسلامي في المعاهد الشرعية ومدارس
التحفيظ مع متطلبات التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي تهرول فيه حكومات
المؤتمر المتتابعة والقرارات التي تنوي قيادة المؤتمر اتخاذها للدخول فيما يسمى
بعصر العولمة بما تحمله في طياتها من تأثير على هوية الأمة، وطعن في
سيادتها، ونيل من كرامتها وعزتها وتقاليدها المحافظة، ولذلك كان لا بد من
الإعداد المسبق للأمر بالقيام بإلغاء ذلك العدد الكبير من المعاهد والمدارس لتجفف
منابع الصحوة طمعاً في أن يتم التمكن من سلبها عناصر قوتها هذا من جهة، ومن
الجهة الأخرى يتم إغراق الشباب ذكوراً وإناثاً في مستنقع الشهوات، وإشغال عامة
الأمة بلقمة عيشها؛ وعلى ذلك فلن يقف أحد حجر عثرة أمام سياسات القوم العابثة
وتحقيقهم لمصالحهم الشخصية الهابطة.
الثالث: أن المعاهد الشرعية أخذت على عاتقها العناية بتعليم الفتاة اليمنية في
معاهد خاصة بها بعيداً عن الاختلاط بين الذكور والإناث، وذلك فيما يبدو من
الأمور المقلقة للقيادة العلمانية المتنفذة في المؤتمر، والتي أخذت على عاتقها إفساد
المرأة اليمنية والمتاجرة بقضيتها.
والخلاصة التي يصل إليها المتابع هي: أن القرار في جوهره وجد بدافع
أيديولوجي تغريبي أصاب الأمة في أعز ما تملك، وهو الدين، مستهدفاً هوية
الشعب اليمني وأصالته، وساعياً إلى الحيلولة بين النشء والتدين، وعاملاً على
تشجيع التغريب وإفساح المجال أمام أعداء الأمة لتنفيذ مخططاتهم وتطبيق
سياساتهم، وهو مما يؤذن بتهديد السلم والوحدة الاجتماعية في اليمن والتي لا يمكن
أن تستمر بحال مع غياب الحرية، وممارسة النافذين لمزيد من الكبت يوماً بعد
آخر، وتنامي الشعور لدى الآخرين بالإحباط والظلم.
أضف إلى ذلك قضاءه على الدور الريادي الذي كان يقوم به اليمنيون في
تعليم الناس الإسلام ودعوتهم إليه؛ وذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فهل يا ترى
يعي العقلاء في اليمن الخطر في ظل هذه التغيرات، وإلى أين تهوي قافلتهم؟ ! !
وإذا تجلى أن الأمر بهذه الخطورة تبين بأنه لا يتعلق بأهل اليمن وحدهم بل
إنه يمس الأمة كلها، ولذا فقد أحسنت جبهة علماء الأزهر صنعاً حين أصدرت بياناً
أوضحت فيه: بأن قرار إلغاء المعاهد الشرعية في اليمن قرار شديد الخطورة هز
مشاعر الأمة، والمقصود الحقيقي منه هو ابتلاع التعليم الديني في اليمن ومحوه،
كما أبان البيان بأن القرار تزامن مع صدور تقرير الاستخبارات الأمريكية الذي
حذر من تنامي التيارات الإسلامية في الدول العربية، ودعا إلى تجفيف منابع الفكر
الديني الذي أفرز الإرهاب والعنف ويسعى إلى اغتصاب السلطة، ولفت البيان
الانتباه إلى أن العلمانيين العرب رسخوا دعوى أن التعليم الديني مسؤول عن
الإرهاب والعنف الذي مرت به بعض الدول العربية حتى أصبح بعضهم يطالب
بإغلاق الأزهر كما يطالب اليهود بإغلاق المسجد الأقصى، ثم أوضح البيان بأن
الإرهاب نتج وينتج عن ضعف العرب وضعف الوازع الديني والثقافة الإسلامية
الصحيحة، وناشد البيان الشعب اليمني وحكومته بحسم قضية المعاهد الدينية
الشديدة الخطورة بما يحقق لليمن هويته الإسلامية التي عرف بها وعاش سعيداً في
ظلها منذ فجر الإسلام إلى العصر الحديث.
كيف يمكن للدعاة مجابهة القرار؟
إذا تجلى بأن القرار بهذا النوع من الخطورة، وأن متخذيه قد أوتوا من
الحنكة والدهاء واستشراف المستقبل وعناصر القوة المادية والخبرة في إدارة
الصراع الشيء الكثير؛ فلا بد من استفراغ الوسع في المواجهة عمقاً وجهداً، وإلا
فإن مصير أمتنا مزيد من الذل والهوان وتتابع الفقدان للمكتسبات وعناصر القوة.
وحين نتحدث هنا عن المجابهة لذلك القرار والمخطط التغريبي الذي ينتمي إليه
فليس المراد وضع خطة لها، بل المراد تذكير من سيضعها ويعمل على تنفيذها من
العلماء والدعاة ببعض القضايا والجوانب الهامة التي لا بد من مراعاتها، والتي يعد
من أبرزها:
1 - ضرورة العناية بالتفسير الشرعي للحدث، والإدراك بأن رموز الأمة
الخيرة ومن يسير في فلكهم من العامة أُتُوا من أنفسهم قبل أن يؤتوا من قِبَل أعدائهم
في الداخل والخارج؛ لأنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وما حلت مصيبة إلا بمعصية،
ولا رفع شيء من ذلك إلا بتوبة، والمظاهر الدالة على ذلك عديدة، من أهمها:
- ضعف الانضباط الشرعي تفكيراً وسلوكاً لدى عدد ليس بالقليل من أبناء
الصحوة نتيجة ضعف الحصيلة الشرعية، ولذا وجدنا ممن يُعَدُّ من الرموز
الإعلامية لحزب الإصلاح مَنْ يَعُدُّ قرار إغلاق المعاهد الشرعية فريضة وضرورة
، مؤكداً بأنه كان ينبغي على الإصلاح أن يدرك هذا الأمر مبكراً ويسارع بنفسه
للعمل على إغلاقها؟ ! ! [6] ، ووجدنا من يوصف بالتيار المعتدل داخل الإصلاح
يعارض بشدة لأي مظاهر احتجاجية سلمية على القرار ويشدد على ضرورة أن يقوم
الإصلاح بتهيئة أنصاره والمنتسبين إلى المعاهد العلمية لتقبل القرار والتعامل معه!
! [7] ، ووجدنا من يستخدم أثناء قيامه بالمواجهة أساليب غير منضبطة شرعاً
كأولئك الذين يرفعون الشعار الوطني بدل الإسلامي، ولا ينطلقون من رؤية
إسلامية جلية في التعامل مع الحدث، كما وجدنا من أبناء الصحوة وقياداتها من
يؤكد بأن الواجب الذي كان على الحكومة سلوكه هو القيام بإغلاق ذلك الغول الجديد
والكارثة المقبلة، وهو ما يعرف بالمدارس السلفية المتشددة بتفرعاتها المختلفة! !
[8] وغير ذلك من المظاهر كضعف الالتزام الذاتي بأحكام الإسلام، وتقديم العقل أو
ما يسمى بالمصلحة على النص الجلي، والولاء للأفراد والجماعات على حساب
الولاء للدين ...
وفي المقابل وجدنا سكوتاً شبه مطبق على القرار من قبل التيارات الإسلامية
خارج الإصلاح، وكأن الأمر لا يعنيهم متناسين المثل القائل: أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور
الأبيض، وفي الظن أن ذلك ناتج من عدم الإدراك الجيد منها لطبيعة المرحلة
والمتغيرات الضخمة التي تتضمنها، ومن عدم معرفتها بالموقف الشرعي الصحيح
الذي يجب التعامل مع الأحداث التي تمر بها البلاد على ضوئه.
- ومنها: تقصير الكثيرين الظاهر وضعف جديتهم في التعامل مع الحدث.
- ومنها: اهتمام كثيرين ممن ولج في الصراع بالأسباب المادية للغلبة،
وضعف عنايتهم بالأسباب الشرعية للنصر من دعاء لله تعالى وانطراح بين يديه،
والتوكل عليه سبحانه، وتفويض الأمر إليه، وتقواه عز وجل، والحذر من
معصيته، والاستعانة بالصبر والصلاة.
2 - ضرورة الالتفاف حول العلماء الربانيين والدعاة الصادقين، وستضمن
الصحوة عندها عدة أمور أهمها: تفعيل كثير من العلماء والدعاة وشباب الصحوة
والطاقات الخيرة، والانضباط الشرعي في التعامل مع الوقائع والأحداث،
وإضعاف أثر الشخصيات الدخيلة على الصحوة، أو من هو من أبنائها ولكنه غير
منضبط بالنصوص والقواعد الشرعية والذين من أبرز علامتهم بالإضافة إلى
انحراف مناهجهم وما هم عليه من زيغ وضلال وحب لمتع الحياة وشهواتها:
سعيهم الدؤوب لتشويه العلماء الربانيين والدعاة الصادقين، وتحذير شباب الصحوة
وعامة الأمة من التلقي والأخذ عنهم، وولاؤهم لأعداء الأمة ورموز الإفساد فيها،
مسوِّغين لانحرافاتهم وساعين لجعل سيئاتهم حسنات، وشرورهم خيرات. كما
ستضمن وقاية أبنائها من الاستدراج إلى معارك جانبية، ومن أن يدفعهم (الآخر)
إلى القيام بردود أفعال غير منضبطة لا تمت إلى المصلحة الشرعية بصلة.
3 - ضرورة تعميق الثقة وتقوية جسور التواصل والتعاون بين العلماء
والدعاة العاملين، باعتبار ذلك واجباً شرعياً وضرورة حتمية تفرضه متطلبات
الواقع؛ إذ الجميع مستهدف والخطر ضخم لا تقوى فئة دعوية بمفردها مهما بلغت
قوتها على التصدي له، وقد توجد أخطاء وقعت من هذا في حق ذاك أو العكس،
وهذه لا بد من التصارح فيها والتناصح أو التغافر حتى لا تبقى عقبة تحول دون
تحقيق الهدف المنشود.
4 - ضرورة الوضوح في إبانة طبيعة المعركة وأطرافها، وسيكون من ثمار
ذلك: إخراج الصراع من دائرة كونه بين حزبين حاكمين يسعى كل أحد منهما إلى
بسط نفوذه وتحقيق أهدافه وهذا ما يريده العلمانيون في المؤتمر، إلى جعله صراعاً
فكرياً عقدياً بين فئتين: الأولى: هي كل القوى الخيرة في مجتمعاتنا، والتي
يجمعها الحرص على المحافظة على هوية المجتمع اليمني وأصالته الإسلامية
وحريته واستقلاله، والحيلولة دون تمكن أعدائه منه، والثانية: نخبة علمانية
متنفذة في أمانة المؤتمر، هي طليعة للغرب في مجتمعنا، بذلت ما في وسعها
واستماتت في طمس هويتنا وتغيير قيمنا وحرمان أبنائنا من تعلم ديننا والعمل به
تحت شعارات براقة كالتحديث والتطوير والعدالة وتجاوز النظم القديمة والقيم البالية
! ! ! حفاظاً على مصالحها ومواقعها وإرضاء للقوى التي تعمل وتقف من خلفها،
وبهذا الخطاب العقدي يكون العلماء والدعاة قد أوجدوا دوافع المواجهة لدى جميع
أفراد مجتمعنا المسلم، واستطاعوا تجييش قطاع عريض من شرائح المجتمع
لمواجهة مخططات هذا الخطر الداهم والزحف الماكر، بالإضافة إلى أن في هذه
الخطوة الهامة إبانة للحق وتعرية للباطل وإعذار إلى الله تعالى بإقامة الحجة على
خلقه؛ ليختار كل أحد من الأمة الطريق الذي يرضى أن يقف به بين يدي ربه.
وقد يكون الحائل بين بعض أفاضل الدعاة وتنفيذ هذه الخطوة خوفهم من أن
يجر ذلك الصحوة إلى مزيد من الخسائر وفقدان المكتسبات، وفي ظني أن في هذا
قصوراً في التحليل والنظر؛ لأن للقوم مخططاً مرسوماً في تغريب جميع جوانب
المجتمع، وإن أرادوا دليلاً على ذلك فليستمعوا إلى صراخ القوم: اليوم المعاهد
وغداً المناهج وبعده الجامعات والمساجد، ولينظروا في عمليات الإقصاء الهستيري
لكل شخصية خيرية في قطاعات الجيش والأمن والدولة لا تخدمهم في تنفيذ
مخططهم سواء كانت من داخل حزب المؤتمر أو من خارجه، وفي الاستهداف
الصارخ لمحافظة المرأة اليمنية، والعمل الدؤوب لإغراق الجيل في مستنقع
الشهوات والشبهات،.. إلى آخر القائمة التي لا تخفى على متابع.
5 - ضرورة العمل الجاد والمبادرة إلى البدء بالأهم قبل المهم، والواجب قبل
المندوب؛ إذ الظاهر أن من أعظم الأسباب التي أوصلت إلى هذه الحالة هو تقاعس
بعض العلماء والدعاة وغفلتهم عن واجبهم بالكلية، وقيام بعضهم ببذل بعض الجهد
ولكن من دون دراسة لواقع، وتحديد لقصد، وترتيب لأولويات، ولعل من أعظم
الواجبات وأولى الأولويات: قضية الاهتمام بتعليم الناس كافة ذكوراً وإناثاً أمر
دينهم وتربيتهم على العمل به، بدلاً من الاكتفاء بقصر الجهد على أعمال نخبوية أو
سياسية.
6 - ضرورة إعادة العلماء والدعاة النظر في البرامج التعليمية والتربوية التي
يقدمونها لشباب الصحوة وعامة الأمة، والعمل على التجديد في وسائلها بما يتلاءم
والمتغيرات المحلية والدولية المعاصرة، ولعل من أبرز الأمور التي ينبغي العناية
بها: نزول كل قادر على تعليم الناس أحكام دينهم ومبادئ لغتهم إلى الساحة للقيام
بدوره، والعناية بتربية الأجيال على العقيدة الصحيحة، وتعليمهم مفاتيح العلوم،
وآليات البحث والاطلاع والتعلم الذاتي، ومهارات التفكير والإبداع وتحليل الواقع،
والحرص على الموضوعية أثناء تناول القضايا وتبني المواقف وإصدار الأحكام
تجاه الأحداث والجهات والأشخاص.
كما لا بد من تربية النشء على الكيفية التي يستطيع بها التعلق بالآخرة
والآليات التي تعينه على الاعتصام بالله تعالى من فتن الشهوات والشبهات التي
بدأت تموج في المجتمع كموج البحر نتيجة انتقاله من مرحلة المحافظة إلى ما
يعرف بمرحلة التحرر والانفتاح على الآخر في الفكر والسلوك! !
7 - أهمية الموازنة بين الدعوة والتعليم والتربية من جهة، وهي التي تعد
السبيل لحفظ هوية المجتمع وتشجيع قضية التدين داخله، وبين الأعمال الخيرية
والإغاثية من جهة أخرى، وهي التي لا بد منها للتخفيف على الناس في ظل
سياسة الإفقار والتجويع التي تعتمدها الحكومات المتتالية للمؤتمر، وتعد الوسيلة
الناجحة لتخفيف الشرور والمفاسد الأخلاقية والاجتماعية الناتجة عن ذلك،
والطريق الأنسب لتقريب الناس من الخير وتكوين صلات جيدة بينهم وبين علماء
الأمة ودعاتها الصادقين، بحيث يكون هناك اهتمام من قبل الدعاة بالأمرين معاً،
ولا يكون هناك مبالغة بالعناية بجانب على حساب آخر.
8 - ضرورة الاهتمام بتنمية مصادر التمويل الذاتي للأعمال الدعوية
والخيرية؛ لأن من يقرأ في صحف القوم ويستمع إلى تصريحاتهم ويستشرف
المستقبل الذي يخططون له يجد أن التركيز على محاصرة العمل الدعوي والخيري
وتجفيف مصادر تمويله سيكون على أشده في المرحلة القادمة.
9 - ضرورة دراسة العوامل التي مكنت النخبة العلمانية داخل المؤتمر من
النجاح، والعمل على إضعافها من جهة والاستفادة منها من جهة أخرى؛ وذلك لأن
الطريق الأيسر للنجاح يمر عبر تقليد الناجحين.
ولو أردنا أن نحلل عوامل نجاحهم لقلنا بأن أبرزها: وحدة القيادة ودهاؤها،
والتخطيط الجيد المعتمد على رؤية واضحة ورسالة جلية وأهداف محددة، والعمل
الدؤوب، وتراص الصف واجتماع الكلمة، وتسخير قدرات الدولة لصالحهم،
وامتلاكهم لزمام المبادرة وجعل العلماء والدعاة ومن خلفهم القوى الخيرة في المجتمع
في موقف الدفاع دائماً، وقدرتهم على اختراق صفوف الدعاة وتشتيتهم، والتشويه
الإعلامي الضخم للعلماء والدعاة أمام الجماهير، ونجاحهم في إقناع فئات عريضة
من أفراد المجتمع بأن أهداف الدعاة من الصراع سياسية لا عقدية.
وحين نريد أن نجعل الدعاة يستفيدون منها يمكننا أن نقول بأن على الدعاة
لكي ينجحوا في مقارعة القوم ورد خطرهم عن الأمة القيام بأمور عدة من أبرزها:
وضع خطة جلية للمواجهة تتضمن رسالة واضحة وأهدافاً محددة، وبذل الجهد
المتواصل لتحويل الأفكار إلى أعمال والخطط إلى برامج، ورص الصفوف وجمع
الكلمة وفق إجراءات عملية واقعية، وتنقية الصفوف الأمامية من الدخلاء وأصحاب
التوجهات المشبوهة، والتعامل مع الأحداث بعقلية دارسة ومتفحصة بعيداً عن ردود
الفعل المرتجلة، والعمل الدؤوب على امتلاك زمام المبادرة لجعل العلمانيين في
موقف الدفاع لا الهجوم أمام الأمة، ودراسة واقع العلمانيين لدعوة عقلائهم
والقريبين منهم إلى الحق من جهة، ولكي يتم تحديد نقاط الخلاف فيما بينهم ليتم بعد
ذلك استثمارها في تشتيت صفوفهم وتفريق جموعهم من جهة أخرى، والحديث عن
فضائح العلمانيين وصلاتهم بأسيادهم وحجم فسادهم بموضوعية عبر أرقام ووقائع،
وإبانة أن الصراع عقدي مرتبط بهوية الأمة وأصالتها لا سياسي مصلحي كما يريد
القوم أن يصوروه للناس.
10 - ضرورة ثقة العلماء والدعاة ومن خلفهم من القوى الخيرة بتحقيق
النصر والتمكين؛ وذلك لأن الله تعالى وعد أولياءه بذلك متى تهيؤوا للأمر وأعدوا
له عدته، ولأن غير الواثق بالأمر لا يناله؛ لأنه لا يبذل جهده ولا يستفرغ وسعه
في تحصيله، ولأن كيد الشيطان كان ضعيفاً مهما أجلب بخيله ورجله، ولأن
مقومات النصر المعنوية والمادية التي يملكها الدعاة الصادقون مع الله تعالى تفوق
الحصر ولا تكاد توصف.
وأخيراً: فنهيب بالخيِّرين من أبناء الأمة في أصقاع المعمورة أن يقوموا
بواجبهم تجاه إخوانهم في اليمن في هذه المرحلة العصيبة بكل ما يستطيعون من
نصح ومؤازرة، سائلين الله تعالى أن يحمي اليمن وأهله من مكايد أعدائه في
الداخل والخارج، وأن يحفظ علماءه ودعاته المصلحين، وأن يجنبه القلاقل والفتن،
ويحفظ عليه أمنه واستقراره؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
__________
(1) صحيفة الثورة اليمنية: 18/10/1982 م.
(2) صحيفة الحياة: العدد 13937.
(3) طالع الافتتاحية المتشنجة التي كتبها د الإرياني رئيس الحكومة اليمنية السابق والأمين العام لحزب المؤتمر لجريدة الميثاق: العدد 1010.
(4) طالع كلمة د الإرياني في صحيفة الميثاق، العدد 1010.
(5) طالع افتتاحية جريدة الثورة: العدد 13329.
(6) طالع ما كتبه نصر طه مصطفى في صحيفة الثورة، العدد: 13329.
(7) طالع على سبيل المثال ما صرحت به مصادر في الإصلاح لجريدة الحياة، العدد: 13937.
(8) طالع صحيفة كل الناس اليمنية، العدد: 46، والتي تعد لسان حال ما يعرف بالتيار المعتدل داخل الإصلاح.(164/90)
المسلمون والعالم
ماذا وراء زيارة البابا لسورية؟
مروان كُجُك
على خطى (شاؤول) اليهودي الذي انتحل النصرانية وتسمى باسم (بولس)
ودعاه النصارى (رسولاً) فقاد أبرز تحريف وقع للنصرانية على مدى العصور
على تلك الخطى توجه الركب البابوي لـ (يوحنا السادس) نحو دمشق في الرحلة
التي حملت الرقم (84) لهذا الرجل الذي يعد الأنشط بين بابوات الكنيسة
الكاثوليكية على مدى عمرها الذي يتكوَّن من سلسلة طويلة من البابوات بلغت
(264) رئيساً. ولسنا ندري إن كان البابا يوحنا ذو الأصل البولندي الذي عانت
بلاده ما عانت من لهيب النظام الشيوعي وذاقت من مرارته ما ذاقت لسنا ندري إن
كان يستحضر في ذاكرته خلال هذه الرحلة صورة حاكم روما (فيليب العربي)
الذي ولد في سوريا توَّجَهُ الرومان إمبراطوراً عليهم؛ إلا أنه بلا شك قد فوجئ
بتقديم الرئيس السوري له تمثالاً لذاك العربي الذي حمل تاج روما على رأسه
وهمومها على عاتقه، وما تحمله هذه الهدية من مغزى لا نظن أن حبر روما وعظيم
كنيستها يجهل ما تعنيه وتشير إليه.
وبمناسبة هذه الهدية التي تحتمل أكثر من معنى كتب مراسل صحيفة الحياة
في دمشق: «عُرِفَ (فيليب العربي) الذي ولد في (شهبا) جنوب سورية عام
200م بالقضاء على العبودية في روما، والعفو عن المعتقلين السياسيين، وعودة
المنفيين، والاعتماد على الشعب، ومبدأ سيادة القانون» [1] ، ولسنا ندري إذا ما
كان حبر روما رضي أن يحمل رسالة من منظمة صحافية عالمية إلى الرئيس
(بشار العربي) متذكراً (فيليب العربي) ، وفي طيات الرسالة طلب بإطلاق سراح
الصحفي السوري المعتقل (نزار نيوف) الذي تم إطلاق سراحه فعلاً بعد تسلُّم
الرئيس بشار الأسد الرسالة من البابا، ويا ليت البابا قد مارس التزوير هذه المرة
فأضاف إلى الرسالة بضع كلمات تقضي بـ (العفو عن المعتقلين السياسيين،
وعودة المنفيين، والاعتماد على الشعب، ومبدأ سيادة القانون) ، ولا نظن أن هذه
الكلمات - لو رأى حبر روما إضافتها - تستطيع إعنات الرئيس الأسد؛ فهي لا
تدعو إلى إضافة شيء إلى الميزانية، ولا تكلف خزانة الدولة ما لا تطيق؛ ولا
تفتقر إلى نقد نادر ولا إلى عملة صعبة، ولا تستدعي جهداً عضلياً ولا أطناناً من
الحبر والورَق؛ فهذه الطلبات وإجراءات تنفيذها لا تستلزم أكثر من «جرة قلم!»
من الرئيس السوري لا «جرة ذهب» .
وقبل زيارة البابا لسورية كان في زيارة لليونان لقي فيها ما لقيه من الازدراء
والمقاطعة من الأرثوذكس الذين يرون أن الكنيسة الكاثوليكية قد أجرمت بحقهم
واضطهدت آباءهم وأجدادهم؛ وعلى الرغم مما قدمه لهم من اعتذار إلا أنهم لم
يجدوا في اعتذاره ما ينسيهم شيئاً من تاريخ حافل بشتى صنوف القهر الذي مارسته
الكنيسة الكاثوليكية؛ إلا أن ما لقيه في سورية من الحفاوة الرسمية الحارة،
والتفاعل الشعبي العام الفاتر لعله مما هدأ من روع البابا، وأعاد الطمأنينة إلى
نفسه، فاستمرت زيارته إلى سورية أربعة أيام حتى غدت من أطول رحلات حبر
روما بل لعلها أطولها.
فما الذي جاء بالبابا إلى سورية؟ وما الرسالة التي يحملها؟
إن كثيراً من الناس تصور أن رحلة البابا تهدف في الدرجة الأولى إلى تهدئة
الأوضاع في المنطقة، وخاصة في هذه المرحلة التي يتعرض فيها الفلسطينيون
لأعتى صنوف الهمجية اليهودية؛ وإذا كان كثير من العامة من أهل الأديان لا
يدركون ما تحمله الأديان في أصلها من معاني العدل والإنصاف والرحمة فإن رجال
كل دين وأحباره وعلماءه هم الأوْلى بفهم مرامي الدين تلك، والأقدر على الصياغة
العملية لها؛ فهل سبق للبابا قبل وصوله إلى دمشق أن ندد بالعدوان اليهودي على
شعب مهيض الجناح يُذَبَّحُ أبناؤه وأطفاله وشبابه ونساؤه وشيوخه، وتستباح حرماته
وفي مهد المسيح عليه السلام، وفي ظلال نخلة مريم؟ غير أنه ولسان حاله ومقاله
شاهد عليه لم يكن يعنيه من ذلك شيء إلا أن يرسل عبارات إنشائية فاترة لا تؤثِّم
المعتدي ولا تطلب رفع الحيف عن المظلوم؛ على الرغم من أن بابا الألفية الثالثة
والقرنين الأخيرين وهو يحيا عصر تسجيل التاريخ لحظة بلحظة بالصوت
والصورة يعلم أن اليهود محتلون معتدون وضعوا أنفسهم في مقام المظلوم الذي لا
يتحرك إلا لرد العدوان عن نفسه؛ وليت شعري متى كان المحتل الغاصب صاحب
حق؟ وهل نحن الذين دعوناهم من أقطار الدنيا لنقتلهم هنا، أم أنهم هم الذين
تداعوا من آفاق الدنيا وقفارها، وتجمعوا من كل حدب وصوب على شعب أعزل،
فقتلوا منه من قتلوا، وهجَّروا من هجَّروا، وأبقوا من أبقوا لخدمة مصالحهم
والشغل في مزارعهم ومصانعهم، وإعمار مغتصباتهم، وكنس شوارع اليهود
وأزقتهم؟
لقد بشرتنا الحضارة الغربية - والبابا أحد أهم رموزها - في آخر صرعاتها
بالنظام العالمي الجديد المتمثل بعولمة الأقوياء لـ «تنعيم المسحوقين» وذر
رمادهم في حقولها المترامية الأطراف لتكون سماداً يهِيجُ به زرعُهم ويدرّ
ضرعُهم، وتتضاعف أموالهم، وتفتح عليهم أبواب كل شيء - بشرتنا أنها
ستنصف المظلوم، وتفك العاني، وتعين على نوائب الدهر؛ ولكنها ويا للأسف
استطاعت ترجمة دعواها إلى ظلم أرخى سدوله على العالم الثالث وجزءاً من العالم
الثاني وطرفاً من العالم الأول؛ وهذا ما رأينا التعبير عنه جلياً في المظاهرات
الصاخبة الدامية التي قامت في عقر دار أهل العولمة؛ لأنها تمس بشواظها فئات
كثيرة منهم؛ هذه العولمة التي تريد أن تحكم العالم من منطلق «القرية الصغيرة»
لم يعلن باباها ولا كنيسته ما يحذر من غلواء القائمين عليها، ولم يتوجه إليهم
بالنصح للرفق ببني الإنسان؛ فكيف يرتجى مثلُه بعد ذلك للقضية الفلسطينية، أو
لمثلها في العالم وخاصة إذا كان أهلها مسلمين؟
إن زيارة البابا لسورية لم تكن للمساهمة في إحقاق الحق وإبطال الباطل؛
فليس الحل الذي يسمونه: «سلمياً» مما تحتجن دمشق أوراقه؛ بل هو في
مواطن أخرى إن أخطأها أحد فلن يخطئها البابا الذي يعلم وكاءها وعفاصها، ولكن
البابا ككثير غيره من النصارى فرحون لما يجري في فلسطين؛ فما يجري في
نظرهم ليس إلا مقدمة لعودة المسيح واعتناق اليهود للنصرانية؛ فكيف يكون لهؤلاء
وأمثالهم كلمة جادة في رفع الحيف والظلم والتقتيل عن المسلمين في فلسطين؟ !
ومما يؤكد أن البابا لا يعنيه هذا الأمر من قريب ولا من بعيد ما أكدته صحيفة الحياة
حين قالت: (وناشد الشيخ أحمد كفتارو مفتي سورية ناشد البابا اتخاذ مواقف أكثر
من الصلاة والأدعية إزاء المجازر الصهيونية، والعمل مع الكنيسة الكاثوليكية
والحكومات المسيحية للضغط على إسرائيل لإيقاف عدوانها؛ لكن البابا ركز على
الحوار بين الأديان) [2] .
ولا غرابة في هذا المبتغى من هذه الزيارة؛ فالشيخ أحمد كفتارو سلخ شطراً
من حياته وأوقفه في سبيل دعوة «الحوار بين الأديان» مستجيباً وداعياً، وكم
حملته الطائرات شرقاً وغرباً إلى تلك المؤتمرات الزائفة لكنه لم يَعُدْ من ذلك كله
حتى بخفي حُنَيْن، أو بـ «سمبريرة الحمداني» [3] .
وكما أن ما ينادي به اليهود من السلام ويعنون به الاستسلام؛ فإن ما ينادي
به النصارى من الحوار بين الأديان هو الدعوة إلى التسليم بانحرافهم واعتباره حقاً
وصراطاً مستقيماً يوازي الإسلام إن لم يزد عليه، أما الحوار الحقيقي الذي دعا إليه
الإسلام قبل أن يتفطَّن إليه أحد فهو حوار آخر صريح واضح المعالم والمعاني
ومعلن الأهداف؛ فقد كان ذلك والدعوة الإسلامية ما تزال في مهدها ولم تكد تجاوز
الحجاز أو بعضاً من جزيرة العرب؛ فقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:
[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) ، فالحوار على أساس تحقيق العبودية لله؛ فلا
يُشرَك معه صليب ولا صنم ولا طاغوت [4] .
هذه مادة الحوار وهي واضحة جلية ولا تحتمل مساومة ولا تخضع إلى
مراوغة، وهي سهلة التبليغ والإعلان وخاصة أننا في عصر يلتقي فيه الناس
بالصوت والصورة مهما نأت بهم المسافات أو حظرت لقياهم الأنظمة؛ أما ما يهم
أمر الدنيا مما لا يتعارض وأمور الدين فالحوار فيه ينحو كل منحى؛ كما لو اجتمع
مسلمون مع يهود أو نصارى لدرء أخطار سيل أو جراد أو وباء أو مخدرات؛ فهذا
وما جرى مجراه مما ليس فيه بأس.
وإذا ما جاء البابا ليشعر نصارى العرب أنه إنما تحمل ما تحمل من مشاق
السفر ووعثائه، وقطع ما قطع من أجواز الفضاء، وتعرض لما تعرض له من
المطبات الهوائية وخضِّ البدن؛ فإنما هو لأجل عيونهم، ولرفع الحيف والضيم
والظلم عنهم؛ فإن واقع ما يحياه نصارى بلادنا من المعاملة العادلة يبطل هذا
الهدف؛ لأنه يخالف الواقع، فلم تشهد بلادنا اضطراباً طائفياً ذا بال إلا ما كان من
حوادث عام 1860م في جبل لبنان حيث امتدت إلى دمشق، وكان مُشعل فتيلها
الإرساليات النصرانية الغربية التي كانت تعمل يومئذ على تقويض دعائم الخلافة
الإسلامية العثمانية برغبة صليبية جامحة، وبتحريض خسيس من اليهود الذين رأوا
في دولة الخلافة والسلطان عبد الحميد الثاني صخرة شماء عاتية تقف بصلابة في
وجه أطماعهم في فلسطين المعلن منها والمستتر؛ فعملوا على تفتيتها وإذهاب
ريحها بالتعاون مع أهل الصليب؛ فكانت جائزتهم وعد بلفور المشؤوم وتمكينهم من
اغتصاب الأرض التي بارك الله حولها. ولم يعرف المشرق العربي مثل تلك
الجرائم التي لا نقرها ولا نؤيدها؛ لأنها قتل في غير ساحة الحرب حتى جاءت
الحرب (اللبنانية اللبنانية) ، فأعادت إلى الذاكرة الإنسانية صورة محاكم التفتيش؛
ففي الحرب اللبنانية هذه أقدمت الأحزاب النصرانية على ما عرف بـ «القتل على
الهوية» ، فما من مسلم عبر الطريق بين بيروت والشمال اللبناني ماراً بمنطقة
مسيحية وخاصة (جونية) إلا قتل فور الاطلاع على هويته والتأكد من أنه مسلم
سواء كان لبنانياً أو سورياً أو فلسطينياً أو من أي تابعية أخرى.
إن ما يروِّج له الغرب اليوم من الدعوة إلى حرية الأديان المترافقة مع دعوى
الاضطهاد الديني في بعض البلدان التي لم ينج منها حتى المملكة العربية السعودية
التي تخلو من أية ديانة أخرى سوى الإسلام إن ذلك الترويج هو أحد آليات السياحة
البابوية في أقطار الأرض لا ليدعو إلى راحتها وتآلفها ككل الدعوات الغربية التي
تطلق بين حين وآخر فلا تأتي للشعوب إلا بالتعب والضنك والجوع، وما الحروب
الأهلية التي دارت وما تزال تدور في أنحاء شتى من العالم إلا ثمرة من ثمرات
النظام العالمي الجديد بصلفه وكبريائه ووقاحته. وقد كان الغرب قديماً في أنظمته
التي استعمر بها العالم كأنما ينطلق من المثل: (رمتني بدائها وانسلَّت) فكان
التآمر سرياً؛ أما اليوم فلسان حال العولمة يقال فيه:
(رمتني بدائها ومكثت) فلا حياء ولا خوف ولا إنسانية؛ فوحشية الأخلاق غلبت،
وخلا الجو لأشقياء الكاوبوي ليعيثوا في الأرض فساداً ويتيهوا غطرسة وكبراً.
إن الإسلام لا يقسر أحداً على اعتناقه؛ وما سريان أحكامه العامة في سلطانه
على غير المسلمين بقسرٍ لهم على اعتناق الإسلام، وهذا أمر واضح لكل من أراد
الوصول إلى الحق؛ وعلى سبيل المثال فإن من يقيم في بلدٍ مَّا عليه الالتزام بأنظمة
ذلك البلد من غير أن يعني ذلك منحه جنسية ذلك البلد أو إرغامه على اتخاذها
تابعية له؛ كالصيني وغيره الذي يقيم في بريطانيا فإنه يظل صينياً على الرغم من
خضوعه طيلة مقامه بين أظهر الإنكليز للأنظمة الإنكليزية وليس لأحد أن يقحمه
على التعبد في الكنيسة البروتستانتية؛ فهل في ذلك ما يدعو إلى التململ
والاستغراب؟ كما أن على الإنكليزي الزائر للصين أو المقيم فيها أيضاً الالتزام
بالأحكام العامة للصين من غير أن يعني ذلك انتقاصاً من حقوق الإنكليزي الزائر أو
المقيم أو إرغامه على الصلاة في معبد بوذي.
وقد تركت الدولة الإسلامية لغير المسلمين على أرضها التحاكم إلى ما في
كتبهم ومللهم من أحكام في الأحوال الشخصية، فلا تتدخل في شؤونهم الدينية ولا
قضاياهم التعبدية؛ فلهم دينهم ولنا ديننا، وقد أثبت المسلمون عملياً قضية التعايش
الإسلامي الكتابي في شتى أنحاء الوطن الإسلامي إلا ما نُصَّ عليه؛ فقد أورد مسلم
في صحيحه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: «لأُخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع
إلا مسلماً» [5] .
وفي هذا السبيل يتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن واقع اعتقادي
تنظيمي فيقول: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن تُخرج اليهود
والنصارى من جزيرة العرب، وهي الحجاز، فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي
الله عنه من المدينة، وخيبر، وينبع، واليمامة، ومخاليف هذه البلاد، ولم
يخرجهم من الشام؛ بل لما فتح الشام أقر اليهود والنصارى بالأردن، وفلسطين،
وغيرها، كما أقرهم بدمشق وغيرها» [6] .
وبموجب هذا الأمر التشريعي التنظيمي تعايش المسلمون وأهل الكتاب على
أرض واحدة في عقر دار الإسلام؛ فلم تكن إقامة الكتابيين بين أظهر المسلمين حقاً
لليهود والنصارى اكتسبوه في حرب، ولا نتيجة اجتماعات بين أطراف متنازعة
تمخضت عنها معاهدات واتفاقات، وإنما كانت إجراءاً تشريعياً تنظيمياً أمر به الذي
لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
ومما جاء له البابا هو تدعيمٌ للادعاءات التي كثرت في هذه الأيام من أن
النصارى في ديار المسلمين يتعرضون للاضطهاد؛ إلاَّ أن شواهد الواقع تدحض أي
ادعاء؛ ففي مصر على سبيل المثال عاينتُ الواقع فيها من خلال إقامتي الطويلة
على أرضها فوجدت أن النصارى هناك ليسوا أقل حصولاً على حقوقهم من
نصارى سورية في سورية؛ بل إنهم يحصلون على حقوق المواطنة كاملة؛ إضافة
إلى بعض المسائل التي قد يفوقون بها حقوق المسلمين؛ ومع ذلك تجد في الغرب
وفي أمريكا خاصة رهطاً من الأقباط يزيفون الواقع ويجدون لهم آذاناً صاغية في
محافل معروفة بدأبها على ترويج مثل هذه الشائعات بين حين وآخر، وكانت إحدى
هذه الحملات ما سبق زيارة الرئيس المصري الأخيرة إلى واشنطن لتهنئة بوش
الابن بملء منصب بوش الأب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ولم تكن هذه
الحملة الجديدة إلا ضرباً من الخزعبلات التي لا يتورع قائلوها ومن على شاكلتهم
عما أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن مما أدرك الناس من
كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت!» [7] .
إن زيارة البابا لمسجد دمشق الكبير لتذكرنا بزيارة عمر بن الخطاب رضي
الله عنه للقدس فاتحاً مع الفارق الذي لا يدع مجالاً للمقارنة بين الرجلين؛ فما بينهما
من اختلاف في المعتقد وسمات الرجولة والجرأة على النفس يلغي المقارنة؛ ولكن
الشيء بالشيء يذكر، وهو ذلك التألق الحسي الباهر، والتطلع الاستشرافي العظيم
الذي نظر به مُحدَّثٌ كريم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم دعاه النصارى
في القدس إلى الصلاة في كنيستهم فأبى ذلك وصلى خارجها خشية أن يأتي
المسلمون من بعده فيقولون: هنا صلى عمر، فيدَّعوا أحقيتهم بالمكان، فيأخذوه من
أصحابه؛ فهل ستجعل صلاة البابا في المسجد الأموي لغلاة النصارى حائطاً جديداً
كحائط البراق الذي يسميه اليهود جدار المبكى؛ وخصوصاً أن المسجد كان معبداً
رومانياً ثم كنيسة نصرانية؟
وإذا كانت دعوى اضطهاد النصارى في بلاد المسلمين يُعْمَلُ لها على قدم
وساق من قِبَلِ أوساط صليبية ويهودية، فلا نستغرب أن يمتح من بئرها من يشاء
ممن استهوتهم الدعوى؛ فها هو الكاتب اللبناني النصراني (فيكتور سحاب) يضع
كتاباً بعنوان: (مَنْ لنصارى لبنان؟) فلف ودار طويلاً واستقر به النوى عند
الرئيس الراحل حافظ الأسد أنه من ينعقد عليه الأمل في حفظ نصارى الشرق،
وغاب عن (فيكتور) التاريخ وحقائقه المتواترة في أن الرئيس الأسد وُلِد ونصارى
المشرق العربي ينعمون في طمأنينة منحهم إياها الإسلام لا الحكام؛ فهم أهل ذمتنا
والذين نُهينا عن أذيتهم أو استغلالهم أو إرغامهم على التخلي عن دينهم أو الجلاء
عن أرضهم، وقد جهل كثير من الناس معنى الذمة وأداروها شرقاً وغرباً ونأوا بها
عن معانيها الطيبة الخيرة؛ فهي تعني المسلم قبل أن تعني النصراني أو اليهودي؛
فمعناها وقوع المذمة على المسلم إن هو أخل بعقد الذمة فظلم أهلها أو جار عليهم؛
وهكذا تتبدى لكل ذي عينين وراءهما بصيرة نيرة وعقل منصف أن المذمة تلحق
بالمسلم لا بالكتابي الذي عقد له الإسلام عقداً، وشرع لأجله شرعاً لم يأت نتيجة
لنضال أو تجنباً لاحتجاج أو تصفيق جماهير الكتابيين للحاكم المسلم؛ فنحن نعرف
حقوقهم ونقرُّها بتعريف الله ورسوله لنا هذا الحق وإقرارنا ورضانا به، وجعله
أمانة وذمة في أعناقنا يقوم بها أعلانا وأدنانا؛ ولكن ماذا يفعل المرء وقد غدا
التلاعب بالألفاظ وإخراجها عن معانيها التي وضعها لها العرب وهم أفصح الأمم
حتى غدا العالم تحت وطأة مسميات حُقِنت بمعانٍ كاذبة، كما أن معاني سيئة
ألبسوها أردية تزيف حقيقتها وساروا بها في الأمم. ألا فليستمع المسلم والكتابي معاً
إلى هذا الوعيد الشديد الذي يتوجه به النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلم لا إلى
الذمي المعاهد فيقول:
«ألا مَنْ ظلمَ مُعاهداً، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير
طِيبِ نَفْسٍ فأنا حجيجه يوم القيامة» [8] .
إن الذي حفظ النصارى هو مفهوم الذمة، ولولاه لما كان لهم الآن وجود ولا
حضور في بلاد العرب خاصة وبلاد المسلمين عامة؛ فروح الإسلام وتعاليمه تأبى
على أهله إلا أن يكونوا رحماء بالناس لا يغمطون أحداً حقاً؛ فهم عدلاء في قوتهم
وضعفهم، كرماء في غناهم وفقرهم، يحسنون جوار من جاورهم، ولا يعرفون
الخدعة إلا في الحرب، وأما في السلام فهم أهله وذووه وحفَّاظه.
أما دخول بابا الكاثوليك رحاب مسجد بني أمية الكبير فيوضح الموقف منه ما
ذكره ابن كثير من شأن وفد نصارى نجران عندما جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم في المدينة المنورة أنهم دخلوا المسجد في تجمُّل وثياب حسان، وقد حانت
صلاة العصر فقاموا يصلون إلى المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«دعوهم» [9] .
وبعد زيارة بابا الكاثوليك الفاتيكاني لدمشق لم يطب التمهُّل للبابا شنودة الثالث
بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فشد
رحاله نحو سورية يوم 28/5/2001م لتهنئة الرئيس السوري بانتخابه رئيساً
للجمهورية والتي جاءت بعد عام تقريباً من المناسبة؛ ولعل الذي هيَّج هذا البابا
على زيارة سورية ليست التهنئة التي غدت (بائتة) وإنما هي زيارة بابا روما لها
وما لقيه من الحفاوة والاهتمام؛ حيث أقام قداساً في القنيطرة على أنقاض كنيسة
للأرثوذكس التي لقي من أتباعها في اليونان في طريقه إلى سورية ما لم يسره. ولا
يُستبعد أن يعمد شنودة بدوره إلى مثل هذا القداس في الكنيسة ذاتها لمحو آثار حذاء
البابا التي وطئت تراب كنيسة شرقية! ولإعادة الاعتبار لأرثوذكس سورية الذين
يشكلون أغلبية بين الطوائف المسيحية فيها، وهم يرون أن من أهداف رحلات بابا
روما في أنحاء الأرض كثلكة النصارى وهرطقتهم!
ومما كشفت عنه زيارة البابا من المخبوء مدى ما كُبِّلت به البلاد من جراء
اتفاقية فك الاشتباك المعقودة بين سورية ودولة العصابات اليهودية كما كان يدعوها
الخطاب الإعلامي في سورية قبل رفع شعار: سلام الشجعان إذ بيَّنت أن القنيطرة
المحررة لا يشمل تحريرها سوى الأرض؛ أما ما يعلو الأرض من فضاء فخاضع
لليهود؛ وهو ما يشبه مقترحات اليهود الأخيرة بشأن السيادة على المسجد الأقصى
من أن الحل لهذه المسألة يتجلى في سيطرة الفلسطينيين على ما فوق الأرض؛
بينما تكون السيطرة لليهود على ما تحت أرض المسجد! وهذا ما أشارت إليه
صحيفة الحياة حيث قالت: (وكانت زيارة البابا للقنيطرة مناسبة لتحليق ثلاث
طائرات سورية فوق الجولان للمرة الأولى منذ عام 1974م، عندما أنجز وزير
الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر اتفاقاً لفك الاشتباك بين سورية وإسرائيل
تضمَّن إجراءات أمنية وانتشاراً محدوداً للجيش باستِثناء تحليق الطائرات العسكرية.
وأمكن تحقيق هذه السابقة عبر «قوات الأمم المتحدة لفك الاشتباك» (بوندوف) .
وقال نائب رئيس القوات الجنرال البولوني (كواليستشك) لـ «الحياة» : إن
السلطات السورية أجرت اتصالات معنا قبل أيام، وقمنا بدورنا مع الإسرائيليين
بترتيب تحليق ثلاث طائرات مروحية خاصة بالإجراءات الأمنية والتغطية
التلفزيونية والإسعاف الطبي. وزاد: تلقينا تأكيداً بالنسبة إلى ذلك من جانب
الإسرائيليين يوم أول من أمس) [10] .
وغادر البابا سورية ليبدأ الرحلة التي تحمل الرقم (85) التي حملته إلى
مالطا ليسمع الأذان هناك؛ متابعاً رحلاته حتى يُتمَّ رأسُه الرحلة إلى قدميه، فيبصر
عندئذ مصيره ومآله [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]
(طه: 55) . وعندها يدرك أن ما التمسه في يد اليهود كان صفراً وسراباً.
ويمكن للمراقب أن يلحظ أن رحلات هذا البابا على مستوى العالم ليست سوى
رحلات تنصيرية تنطلق من هدف واحد ذي شقين:
1 - كثلكة النصارى.
2 - تنصير الشعوب.
إلا أن رحلات البابا تبدو غير خالصة لوجه الكنيسة، وقد فضح ذلك إلغاؤه
زيارةَ العراق وتخليه عنها؛ رغم إدراك الجميع أن صدام حسين كان قادراً على
توفير الحماية له بطريقة يفتقر لمثلها في حاضرة الفاتيكان نفسها؛ إلا أن إشارات
ذات اعتبار كشفت أن عملاق روما عضو فعال في اللعبة الاستعمارية تذكرنا بكتاب
قرأه كثير من المثقفين عنوانه: (التبشير والاستعمار) للدكتورين: عمر فرُّوخ،
ومصطفى الخالدي.
وفي النهاية لا يسعنا إلاَّ أن نقف مع الكتاب العزيز نقول بما قال ونؤمن به
كله: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] (المائدة: 82-83) .
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(1) صحيفة الحياة (6/5/2001م) .
(2) صحيفة الحياة (7/5/ 2001م) .
(3) الحمداني - رحمه الله - من أهل بلدنا كان هاجر إلى أمريكا في بداية القرن الماضي وعاد بعد مدة من الاغتراب، فذهب أهله لاستقباله ولم يكن يحمل معه إلا ما خف وزنه وثقل ثمنه، فأصيب بعضهم بالإحباط، إلا أن صرخات منه بعثت فيهم الأمل وأسالت اللعاب حين هتف: " السمبريرة السمبريرة " فتقاطروا عليه يستوضحون أمر السمبريرة، فقال: لقد نسيت السمبريرة في المركب، فطاروا إلى المركب زرافات ووحدانا وقد امتلأت مخيلاتهم بصور شتى لهذه " السمبريرة " تحوم كلها حول الثروة والمال وتحويشة العمر، ولما وصلوا إلى السمبريرة وجدوها " برنيطة ".
(4) وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير - رحمه الله -: " هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال ههنا، ثم وصفها بقوله [سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] (آل عمران: 64) أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله [أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً] (آل عمران: 64) ولا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل ثم قال - تعالى -
[وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] يعني: يطيع بعضنا (آل عمران: 64) بعضا في معصية الله [فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فأشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم " اهـ.
(5) صحيح مسلم: 33 - كتاب الجهاد، حديث 1767، والترمذي في السير، حديث 1606، 1607.
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية، 28/630.
(7) أخرجه البخاري، ح/ 6120.
(8) رواه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، حديث رقم 3052.
(9) تهذيب سيرة ابن كثير، ص 558، نشر وتوزيع دار طيبة في الرياض والبيهقي في الدلائل (5/383) ، وابن سعد (1/357) .
(10) صحيفة الحياة (8/5/2001م) .(164/100)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
نسأل الله لهم الثبات
في مقال له في صحيفة هآرتس يعترف الكاتب الإسرائيلي والخبير في
الشؤون الفلسطينية بحقيقة مُرة دأب الساسة والقادة الإسرائيليون على عدم الاعتراف
بها طوال أشهر الانتفاضة الماضية يلخصها روبنشتاين بقوله: إنه لا يوجد
مؤشرات إرهاق في أوساط الفلسطينيين، بل إن العكس هو الملموس مع التطورات؛
إذ إن معنوياتهم عالية رغم عدم وصول الدعم العربي والشعور لديهم بأنهم قد
حققوا توازناً معيناً مع إسرائيل. ويشير روبنشتاين إلى وسائل الإعلام الفلسطينية
التي نقلت أقوال وزير الدفاع بنيامين بن إليعيزر الذي قال: «إن السؤال هو مَنِ
الذي سيتعب أولاً من بين الجانبين؟ ومن ثم أضاف: ولسنا نحن الذين سنتعب أولاً»
الفلسطينيون من جانبهم ردوا بالمثل قائلين: لسنا نحن الذين سنتعب أولاً.
ويضيف روبنشتاين: «مجريات الأمور في الضفة وغزة تعطي الانطباع
بعدم وجود مؤشرات للإرهاق أو الانكسار عند الفلسطينيين، بل على العكس تماماً،
رغم كل الصعوبات والضائقة يبدو أن الفلسطينيين يستطيعون الصمود ومواصلة
الانتفاضة لفترة طويلة أخرى.
نعم إن مستوى الحياة قد انخفض لدرجة كبيرة جداً، والاقتصاد مشلول جزئياً
أو على الأغلب، ولكن المال القليل الذي تستلمه السلطة يكفيها لدفع الحد الأدنى من
رواتب 200 ألف موظف في إطار السلطة والبلديات والمؤسسات العامة الأخرى
في المناطق، إنهم يتدبرون أمورهم بطريقة ما. لا يوجد جوع، والمعنويات عالية
بدرجة كافية. خلال الأشهر التي مرت منذ نهاية أيلول لم يظهر أي فلسطيني يدعو
لوقف الانتفاضة لأنها تكلف الشعب ثمناً باهظاً. الجميع يدعون لمواصلتها. مرور
بضعة أيام من الهدوء أو استئناف لقاءات التنسيق الأمني مع إسرائيل لا تترك
تأثيراً على أحد، ولا تدفع أي واحد أيضاً للتحدث عن تنازلات فلسطينية» .
... ... ... ... ... ... [جريدة السبيل الأردنية، العدد: (382) ]
تأملون.. أم تدافعون؟ !
س: ما هي تصوراتكم للدور الأمريكي في التسوية السلمية في عهد إدارة
الرئيس بوش؟ هل تتوقعون منها أن تقوم بدور أكثر فاعلية في المستقبل بعدما بدا
أنها تعطي مسألة العراق أولوية على موضوع السلام؟
ج: نحن نعتبر أن الولايات المتحدة تلعب دوراً مركزياً في عملية السلام
بالاشتراك مع الأطراف الإقليمية والدولية المهتمة بأمن المنطقة واستقرارها،
وأعتقد أن الإدارة الأمريكية الحالية ملتزمة بالمساعدة في تجاوز الأزمة الحالية
بهدف مواصلة البناء على ما تم تحقيقه من خلال مفاوضات السلام، وليس صحيحاً
أن الاهتمام الأمريكي بالموضوع العراقي يلغي الاهتمام بعملية السلام، خصوصاً
أن للولايات المتحدة مصالح في المنطقة لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن المحافظة
على أمن واستقرار الدول فيها. أعتقد أن بوش وفريقه المسؤول عن الشرق
الأوسط سيُظهرون تماسكاً وانسجاماً أكبر في التعامل مع قضايا المنطقة مما فعلت
الإدارة السابقة.
... [رئيس الوزراء الأردني، جريدة الحياة، العدد: (13923) ]
ويسمح له بالكتابة! !
من مَعِين الكاتب التونسي: العفيف الأخضر:
1- حجة أعداء السلام المركزية في إسرائيل هي أن السلام العربي
الإسرائيلي سيقود في بدايته إلى حرب أهلية بين يهود إسرائيل وفي نهايته إلى
«دمج إسرائيل ثقافياً بالعالم العربي» إذن لنجعل من هذا الدمج بنداً مركزياً في
مشروع السلام العربي، ونعد يهود إسرائيل والعالم بقبول إسرائيل عضواً في
الجامعة العربية كما اقترح القذافي في مؤتمر القمة الأخير، وهو اقتراح بعيد النظر
نزل على العقيد في لحظة إلهام نادرة وغير منتظرة منه، وهو ما طالبتُ به على
أعمدة «الحياة» غداة انتخاب باراك مع مبادرات أخرى ضرورية لكسر الحاجز
النفسي الإسرائيلي العربي وبناء الثقة المتبادلة بين اليهود والعرب. دمج إسرائيل
في العالم العربي، عبر ضمها للجامعة العربية، هو لبّ التطبيع الشامل معها أي
قبولها اقتصادياً، سياسياً، ثقافياً، ونفسياً. هذا التطبيع كفيل بأن يكون أهم ضمانة
ضد عدوانية المؤسسة العسكرية بتجريدها من سلاح تخويف اليهود من الخطر
الوجودي على الدولة لتعبئتهم للحرب. وهو على أي حال أكثر نجاعة من الركض
المجنون وراء تكديس الأسلحة بما فيها أسلحة الدمار الشامل التي دمر بها العرب
اقتصادياتهم وسمعتهم في الإعلام العالمي. أما إسرائيل فتمتلك ضدها فضلاً عن
ضربة الانتقام ترسانة من الأسلحة المضادة.
ضم الدولة اليهودية إلى جامعة الدول العربية سيؤدي على الأرجح إلى نتيجة
مماثلة لضم ألمانيا إلى «الجامعة» الأوروبية في بروكسيل. تضمين مشروع
السلام وعداً بضم إسرائيل إلى الجامعة العربية بكل ما يمثله ويرمز إليه، كفيل
بجعله مشروعاً يأسر العقول وأسر العقول هو لبُّ فلسفة الإعلام المعاصر لتلبيغ
الرسائل الاستثنائية لأنه يقدم ليهود إسرائيل والعالم ضمانة متينة ضد هاجسهم الأول
عن مصير الدولة الذي طالما شلَّ منطقهم وقادهم إلى اختيارات انتخابية كارثية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، العدد: (13923) ]
2 - سيد شيمعون بيريز منذ أوسلو اعتبرناك أنت وإسحاق رابين استثناء
من النخبة الشرق أوسطية المأزومة التي لا تكاد تضم بين صفوفها اليوم إلا
نموذجين سائدين: صدام، وعرفات. أنت من تجرأ على اقتحام مغامرة السلام
مقتنعاً بأنه لا بديل لإسرائيل عن إعادة الأراضي العربية التي احتلتها في حرب
1967م للوصول إلى سلام تعاقدي مع جيرانها. بُعد نظرك جعلك لا تكتفي بسلام
يكون هدنة بين حربين، بل ناضلت ضد الشُّكَّاك اليهود والعرب من أجل سلام دائم
يفترض حكماً اندماج إسرائيل سياسياً واقتصادياً وثقافياً في شرق أوسط جديد تتعاون
فيه شعوبه ونخبه على دعم الخدمات وتجديد البنية التحتية لجذب الاستثمارات
الخارجية والتكنولوجيا المتقدمة وتجنيد الموارد الطبيعية والبشرية لمحاربة الفقر
والبطالة والتعصب والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان وإقصاء المرأة والأقليات من
حقوق المواطنة، ويقتنع فيه الجميع، عرباً ويهوداً، بضرورة الإنفاق على التعليم
الحديث بدل الإنفاق على صناعة القتل، وكنت حكيماً عندما وعيت أن الطريق إلى
شرق أوسط جديد يمر حتماً بتنازلين جوهريين متبادلين: تنازل إسرائيل عن
الأراضي العربية التي احتلتها في حرب الأيام الستة، وتنازل العرب عن رفضهم
لشرعية وجود إسرائيل كدولة يهودية مستقلة. كنا ننتظر من تلميذ (بن غوريون)
أن يقدم مشروع سلام يحمل اسمه إنقاذاً لعملية السلام التي هو رائدها منذ أوسلو بدلاً
من تسويق فانتازمات شارون موفاز الهاذية. ما زلنا ننتظر منك مشروع سلام
يتضمن عروض باراك ومقترحات كلينتون وتفاهمات طابا. قد يرفضه عرفات
الذي ربما لم ينس شيئاً ولم يتعلم شيئاً من أخطائه وخطاياه. عندئذ تكون الكرة
في الملعب الفلسطيني ويكون على النخبة الفلسطينية أن تخرج من شللها الذهني
للبحث عن قيادة جديدة من جيل جديد حتى تكون بمستوى المهام التاريخية
المطروحة على شعبها. كتبت لك هذه الرسالة الصريحة حرصاً على السلام
ولأني اعتبرك منذ أوسلو أفضل سياسي شرق أوسطي وأتمنى أن تبقى كذلك سواء
بدفع حكومة شارون دفعاً إلى السلام أو بالخروج منها للنضال من أجل السلام.
... ... ... ... ... ... ... ... [جريدة الحياة، العدد: (1393) ]
أفسد إن صدق! !
في خطوة غير متوقعة أجرى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة
اتصالات مع جبهة الإنقاذ الإسلامية المحظورة في محاولة لتعديل ميزان القوى
عقب انسحاب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية من الحكومة، وقالت مصادر
حسنة الاطلاع في الجزائر إن بوتفليقة كلف وزير الدولة للخارجية عبد العزيز
بلخادم بمهمة استقطاب قيادات جبهة الإنقاذ عدا عباسي مدني وعلي بلحاج
الموضوعين تحت الرقابة والسجن العسكري.
وذكرت أن بلخادم اتصل بالفعل مع قيادي بالإنقاذ يدعى كماقمازي كان من
بين المعتقلين في يونيو 1991م أثر الاضطراب السياسي الذي تحول إلى عصيان
عم كل الجزائر. ورغم سرية هذه الخطوات رجحت المصادر أنها تهدف لتعديل
ميزان القوى بالبلاد بعد الضربة التي تلقاها الائتلاف الحاكم عقب انسحاب التجمع
من أجل الثقافة والديمقراطية احتجاجاً على أزمة القبائل واحتمال انسحاب أحزاب
إسلامية أخرى شكلت جبهة ضد إصلاحات الرئيس الجزائري في القطاع التعليمي.
وتقول مصادر مقربة من الرئاسة إن بوتفليقة لا يزال يؤمن بأن الإنقاذ لا تزال
مؤثرة في المجتمع، وهو يريد أن يسبق الأحداث، ويطوع قياداتها للتعاون معه
وكسب القوة التي تمكنه من إدارة دفة الحكم.
... ... ... ... [جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7642) ]
الورطة الشيشانية
في أول اعتراف صريح بـ «ورطة» روسيا في الشيشان أقر مسؤول رفيع
في الكرملين أن الحرب في الشيشان كانت أطول مما كان متوقعاً أساساً معترفاً في
الوقت نفسه بانتهاكات لحقوق الإنسان ارتكبها الروس، وقال المسؤول خلال لقاء
مع صحافيين أجانب أعتقد أننا لن نتخلص من هذه المشكلة قبل وقت طويل.
ونفى المسؤول أن يكون الجنرالات الروس وعدوا فلاديمير بوتين بنهاية
سريعة للحرب في الشيشان غير أنه أقر أن الرئيس كان يأمل أن ينتهي النزاع في
حين أنه متواصل منذ 20 شهراً، وقال لقد واجهنا مشكلات غير متوقعة عندما
أنجز القسم الأكبر من العملية العسكرية، وأقر المسؤول أن العسكريين ارتكبوا
تجاوزات عديدة، وقال فيما يشكل اعترافاً نادراً من جانب مسؤول روسي رفيع:
من الواضح أن هناك انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان ارتكبت خلال الحرب، لا
ننوي القول إن هذه المشكلة غير موجودة.
وأعلن بوتين في يناير خفض عدد القوات الفيدرالية المنتشرة في الشيشان
غير أنه تم سحب 5000 جندي فقط حتى الآن من أصل حوالي 80 ألف عنصر
بحسب الأرقام الروسية.
... ... ... ... [جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7645) ]
سؤال مؤلم! !
- الأموال العربية في دول السوق الأوروبية المشتركة (650) مليار دولار
أمريكي.
- في الولايات المتحدة (975) مليار دولار أمريكي.
- مجموع الأموال العربية داخل وخارج البلاد العربية (2275) مليار
دولار أمريكي.
- زكاة الأموال العربية سنوياً (56. 875) مليار دولار أمريكي.
أي أن الزكاة السنوية على هذه الأموال هي «ستة وخمسون ملياراً وثمانمائة
وخمسة وسبعون مليون دولار أمريكي» ؛ فهل سيبقى فقير على وجه الأرض لو
أخرجت زكاة هذه الأموال؟
... ... ... ... ... ... [مجلة الكوثر، العدد: (19) ]
عندما يصبح الرئيس.. نبياً! ! !
كشف مصدر مقرب من الأوساط الحكومية أن (صابر مراد نيازوف)
«الرئيس مدى الحياة» لتركمانستان الجمهورية السوفييتية السابقة، يريد إعلان
نفسه «نبياً» بشكل رسمي. وقال المصدر نفسه إنه جرت مناقشة إطلاق حملة في
هذا الاتجاه قريباً في أوساط المواطنين التركمان، وجاءت هذه المعلومات عقب
نشر جريدة «توترالني تركمانستاني» الرسمية مقالاً للناطق باسم رئيس
الدولة (كاكامورا بالييف) بعنوان: «مقولات نبي النبي صابر مراد» . وقد
حاول كاتب المقال «إثبات» أن نيازوف «نبي وطني بعث إلى الشعب
التركماني للألفية الثالثة» ، وأوضح أنه ليس لديه أدنى شك في «الكرامات الإلهية»
و «القدرات الربانية» للرئيس التركماني. وأضاف (بالييف) أن «النبي
هو شخص يأتي بالجديد. وجديد (صابر مراد) مضمن في كتابه العظيم
» الذي يقارنه محبوه بالتوراة والإنجيل أو القرآن ويريدونه مرجعاً لتعاليم
الحياة الروحية موجهة إلى مواطنيه، ويضيف الناطق باسم الرئاسة بحماسة في
مقاله أن هذا الكتاب «سيصبح منارة ونوراً وضاء في الألفية الثالثة تضيء
الأرض انطلاقاً من آسيا الوسطى وستمثل نور النبي صابر مراد» .
وكانت حملة مماثلة سبقت إسناد البرلمان لقب «رئيس مدى الحياة»
لنيازوف، ويلقب رئيس تركمانستان أيضاً بتركمانباش أي أبو كل التركمان، وهو
اللقب الذي يحب (نيازوف) أن يسمي نفسه به.
وحكم نيازوف، الذي يسيطر على مختلف أجنحة الحكومة وعلى وسائل
الإعلام، تركمانستان منذ سنة 1985م حين أصبح السكرتير الأول للجنة المركزية
للحزب الشيوعي التركماني، وفي سنة 1990م تم انتخابه رئيساً للبلاد التي تضم
5. 4 ملايين نسمة.
موقع: ميدل إيست أونلاين الإخباري
www.middle-east-online.com
حلول رئاسية ناجعة! !
قال الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد أحمد الطايع إن هناك ثلاثة حلول
للخروج من الفقر الذي تعاني منه مناطق مختلفة من موريتانيا، واعتبر ولد الطايع
أن كرة القدم والمسرح والرسم هي حلول ناجعة للانتشال من الفقر المدقع. ودعا
سكان قرية (هامد) وسط الصحراء الموريتانية أن يجربوا «تدريب أبنائهم على
كرة القدم، وفي حالة الخروج ببطل أو اثنين سينتهي الفقر» ، واعتبر ولد الطايع
أن الرسم أيضاً قد يكون حلاً ناجعاً «يمكن للمرء أن يبدأ بالرسم، وحين يتوصل
إلى رسم لوحة قد تباع بأموال كثيرة تخرجكم من الفقر» .
وأشار ولد الطايع إلى أن المسرح له دور كبير، فيمكنكم تشكيل فرق
مسرحية تطوف البلاد ويكون ريعها كبيراً بحيث تتغير أوضاعكم جذرياً «.
وطلب ولد الطايع من سكان هذه المناطق العمل بدون انتظار المعجزات من
الحكومة لأن المال» لن يهبط عليكم من السماء «، وطلب ولد الطايع من مواطنيه
الاهتمام بالتقنيات الجديدة وخصوصاً الإنترنت، باعتبار أنها قد تشكل الارتباط
الحقيقي مع العالم» مشيراً إلى أنها «قد تعرِّف الكثيرين بالمنتوجات التي
تصنعونها هنا وبالتالي فقد تجر لكم زبائن من مناطق مختلفة من العالم» .
... ... ... ... [جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8193) ]
وكيل جديد
1 - إن محاولات قطر للعب دور في عملية السلام يجعلها تطرح أحياناً
أفكاراً أو دعوات غير مدروسة جيداً مصيرها الفشل، وقد فعلتها من قبل في الأزمة
السودانية وفي عدد من المشكلات الإفريقية وحتى في المشاكل داخل باكستان،
وسعيها لأي دور في الوساطة على صعيد الأزمات الإقليمية والدولية، ورغم الفشل
الذي يلاحق الجهود القطرية إلا أن الدوحة لا تكف عن طرح هذه المبادرات وفي
حين تشير بعض الدوائر الخليجية إلى دور أمريكي من وراء الستار إلا أن حمد بن
جاسم قد نفى أنه يحاول أمركة قطر، ولكنه أكد أن هناك علاقة طاحنة تجمع بين
الدوحة وواشنطن، وأن هناك تنسيقاً بينهما في العديد من القضايا في الشرق
الأوسط.
فالدوحة قبلت بأفكار أمريكية تسعى للتطبيع القطري مع إسرائيل في إطار
عملية (خذ وهات) بين الدوحة وواشنطن، وما تعطيه قطر هو التطبيع وتنفيذ
بعض المشاغبات السياسية المطلوبة ضد بعض الدول العربية أمام ما تأخذه، فهو
تضخيم الدور القطري والقيام بدور الحارس الأمين على أكبر قاعدة لتخزين
المعدات العسكرية الأمريكية خارج الولايات المتحدة. وعلى الرغم من العرض
القطري باستضافة قمة فلسطينية إسرائيلية جاء بعد لقاء بيريز وحمد بن جاسم إلا
أن إسرائيل تجاهلت هذا العرض تماماً ولم ترد عليه انتظاراً للرد العربي الذي جاء
سلبياً.
... ... ... ... ... [مجلة الأهرام العربي، العدد: (216) ]
2 - ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية أن موظفين إسرائيليين ما زالوا يعملون
سراً في المكتب التجاري الإسرائيلي في قطر رغم إعلان السلطات القطرية إغلاق
هذه البعثة في نوفمبر الماضي.
وفي اتصال هاتفي أجرته وكالة الصحافة الفرنسية طلبت التحدث إلى رئيس
البعثة إيلي أفيدار أو نائبه ميخائيل أفيف، فردت موظفة قائلة: إن «الرجلين
لديهما مواعيد خارج المكتب» ، وأضافت: إنهما «قد يعودان خلال ساعة أو
ساعتين» وفي اتصال هاتفي ثان بعد ساعات، طلبت الموظفة نفسها من وكالة
الصحافة الفرنسية الانتظار بضع دقائق قبل أن تعلن أن أفيف الذي عاد إلى المكتب
لا يستطيع التحدث معه.
وتابعت بصوت مضطرب أن «المكتب مغلق» ، وأعلنت قطر في التاسع
من نوفمبر الماضي إغلاق المكتب الإسرائيلي عشية انعقاد القمة التاسعة لمنظمة
المؤتمر الإسلامي. وقال دبلوماسي في الخليج إن «الإسرائيليين في المكتب
التجاري لم يغادروا في الواقع قطر» .
... ... ... ... [جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7627) ]
المتأرجحون مع الماركسية! !
س: ماذا عن المنهج الماركسي اللينيني هل يمكن التخلي عنه؟
ج: التوجه العام في الحزب هو التخلي عن أجزاء كثيرة من الماركسية التي
أثبتت التجربة بطلانها وعدم صحتها، والإبقاء فقط على ما صار جزءاً من العلم
فيها وأثبتت التجربة صحته، مثل المنهج الجدلي الماركسي (في التحليل) .
وسيكون الحزب مفتوحاً على كل المدارس والمناهج الفكرية والإرث السوداني
والإفريقي والعربي والإسلامي، نأخذ منه ما يخدم قضية الثورة السودانية، ومن
ضمن الإرث العالمي هناك الماركسية التي ستكون جزءاً من تكويننا النظري ولكن
بالطريقة التي شرحتها سابقاً.
س: معنى ذلك هل يمكن أن تختفي كلمة «الشيوعي» من واجهة الحزب؟
ج: هناك اقتراحات قوية جداً بـ «إخفاء» أو «التخلي» عن اسم
«الشيوعي» ، وهناك اقتراحات أخرى تطالب بالتمسك به.
[الشفيع الخضر، ممثل الحزب الشيوعي السوداني، جريدة الشرق الأوسط،
العدد: (8188) ]
أما لديكم غير الجعجعة؟ !
نحن في سورية لا نخشى من الحرب، وكعسكريين هذا قدرنا وخيارنا، فإذا
خفنا من الحرب نكون قد أعطينا العدو مكسباً من دون مقابل، ومع الوقت نلاحظ
أن العداوة تترسخ بيننا وبينهم، فنحن مع تأجيج الصراع إذا هم أرادوا ذلك، ونحن
جاهزون لصد العدوان ليعرف العالم أنهم شعب ضد السلام ومتطرف أكثر من
النازية.
[وزير الدفاع السوري، مصطفى طلاس، مجلة المجلة، العدد: (1108) ]
وهذه العنترية! !
س: التصريحات الأخيرة لجماعة الإخوان المسلمين السورية في الخارج
عبرت عن مواقف إيجابية تجاه سياسة الحكومة السورية في الإصلاح العام، كيف
تنظرون لهذه التصريحات؟
ج: إذا أتونا كأفراد فأهلاً بهم لكن أن يأتوا كتنظيمات مسلحة فهذا مرفوض،
وإذا جاؤوا بأخلاق جديدة، فأهلاً بهم لكننا لا نقبل من أحد آخر تسلُّم الحكم في بلدنا
بالقوة، أهلاً بهم في جو ديمقراطي لكن لا حكم لهم لأننا أصحاب الحق؛ ولن نقبل
أن ينتزع أحد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة البندقية ونحن أصحابها، لقد قمنا
بحركات عسكرية متعددة ودفعنا دماءنا من أجل السلطة، وللأسف كانوا يعملون
سابقاً في الخط الذي تريده أمريكا، والآن استيقظوا وعادوا لصوابهم، أهلاً لكل من
يريد العودة للوطن وللفضيلة.
[وزير الدفاع السوري، مصطفى طلاس، مجلة المجلة، العدد: (1108) ]
ماذا تريد أمريكا؟
وصف وليام أركين مراسل الشؤون العسكرية لصحيفة واشنطن بوست
إسرائيل بأنها عاصمة القواعد السرية للجيش الأمريكي في العالم للمناورات
المشتركة وحفظ المعدات الطارئة. وتم الاتفاق على قضية وضع معدات عسكرية
أمريكية في إسرائيل وأعلن عنها في سنوات الثمانينيات، ورغم ذلك فإن إسرائيل
والولايات المتحدة تمتنعان عن كشف تفاصيل القضية. وحسب وصف أركين
تُخزن ذخيرة وقطع غيار ومعدات عسكرية للولايات المتحدة بقيمة نصف مليار
دولار في ثلاثة مواقع سرية في إسرائيل، هي: مواقع 51، وموقع 53، وموقع
54، وفي ستة مواقع أخرى خزنت سيارات أجهزة ومستشفى يتسع لـ 500
سرير لاستخدام طارئ للطيارين، وجنود البحرية، ورجال القوات الأمريكية
الخاصة.
وبالنسبة للمناورات المشتركة كتب أركين قبل نحو شهرين: تدربت ثماني
طائرات حربية أمريكية هذا العام والعام الماضي على القصف في مجالين لسلاح
الجو في النقب، وهذه المناورة مهمة على نحو خاص بسبب الخلاف المتزايد في
الولايات المتحدة حول استخدام الذخيرة الحية في المجال العسكري في شاطئ
بورتوريكو.
... ... ... ... ... ... [جريدة الاتحاد، العدد: (9437) ]
والحمى الأفغانية والشيشانية و ...
تبرع صاحب السمو الشيخ نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم
دبي بمبلغ مليون جنيه إسترليني مساهمة من سموه في التخفيف من خسائر
المتضررين جراء إصابة حيواناتهم بمرض الحمى القلاعية في بريطانيا.
... ... ... ... [جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7624) ](164/108)
الباب المفتوح
إتحاف الأمة بمؤلفات علماء السنة
محمد علي شامخ
إن من أعظم نعم الله عز وجل على هذه الأمة أن جعل محمداً صلى الله عليه
وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين منها، كما قال تعالى: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ
إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل عمران: 164) ، فحمل المصطفى
عليه الصلاة والسلام مشعل النور والهداية حتى فاضت روحه إلى بارئها تاركاً
لأمته الهدى والنور كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم، وورَّث العلم لمن بعده؛
فكان العلماء العاملون هم الورثة له، فأخذوا إرث النبي صلى الله عليه وسلم
فتعلموه وحفظوه ودونوه، وصنفوا فيه المصنفات الكثيرة التي انتشرت في البلاد
وبين العباد، «وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء فإنهم أيضاً ورثوا قدراً لائقاً بهم من
الاعتبار والمكانة في الشريعة، فكان واجباً على الأمة من بعد طاعتهم في طاعة الله
وموالاتهم واحترامهم والسعي إليهم والأخذ منهم» [1] وبذلك تعتبر عملية أخذ
الموروث العلمي الذي خلفه هؤلاء العلماء من مصنفات وشروحات ومقالات وفتاوى،
وحفظها والعناية بها وتقديمها للأمة هو أقل ما يمكن أن نقدمه رداً لمعروفهم تجاه
أمتهم.
ونظراً لِمَا حَبَا الله هذه الأمة من وفرة في عدد علمائها، وازدياد مصنفاتهم
وتفرقها وانتشارها في مختلف أصقاع المعمورة «برزت الحاجة الملحَّة إلى أدوات
علمية ومنهجية لتوثيق وحصر هذا الرصيد الفكري العلمي وتنظيمه وحفظه ثم
استرجاعه لتيسير وصوله إلى الباحثين والدارسين بسرعة» [2] ، وهو ما يطلق
عليه عند علماء المكتبات الببلوغرافيا. والببلوغرافيا تعني «قائمة كتب لمؤلف
معين أو طابع معين أو بلد معين، أو عن فكرة معينة أو أدب موضوع معين» [3] ،
وهذا العلم ليس بدعاً على المسلمين بل هو موجود منذ العهد الإسلامي الزاهر،
ومن الأدلة على ذلك كتاب (الفهرست) لمحمد بن إسحاق النديم، الذي ألَّفه في
القرن الرابع الهجري، وقد ذكر في مقدمته: «فهذا فهرست كُتُب جميع الأمم من
العرب والعجم، الموجودة بلغة العرب وقلمها، في أصناف العلوم، وأخبار
مصنفيها، وطبقات مؤلفيها وأنسابهم» [4] ، ويعتبر هذا الكتاب أول ببلوغرافيا
للمصنفات الإسلامية. ثم تتابعت بعد المصنفات في هذا الفن؛ فهذا كتاب: (مفتاح
السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم) لطاش كبرى زاده عام 1561م،
وكتاب: (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لحاجي خليفة المتوفى
1657 م، ولا يزال التصنيف في هذا المجال إلى وقتنا الحاضر.
ومع بواكير هذه الصحوة الإسلامية الراشدة أصبح «المشروع الإسلامي اليوم
هو صاحب الكلمة، وصاحب الحضور الجماهيري الواسع، والرموز الفكرية
الإسلامية القديمة والجديدة هي صاحبة الجاذبية والتأثير في حركة الثقافة الفعلية في
أوساط الشباب أو القطاع الأوسع منهم» [5] ؛ فأضحت هناك ضرورة ملحَّة للقيام
بعملية إعداد ببلوغرافيا لعلماء أهل السنة والجماعة لتعريف الأمة بالمصادر
والمراجع المناسبة لهم، وخاصة في خضم هذه الصراعات الفكرية والمذهبية
الموجودة في الساحة اليوم، إننا لا نستطيع أن ننكر كثرة وجود مساجد ضرار في
الساحة ودعاة على أبواب جهنم يُسخِّرون كافة الإمكانيات للسيطرة الفكرية على هذه
الأمة، ومن أعظم الأمور التي يسعون من خلالها دس السم في العسل هو الكتاب؛
ولذلك «فلا بد من تلقي العلم عن مصادره الأصلية من القرآن والسنة ومصنفات
أهل السنة ومن كتب العلم الموثوقة في العلوم الشرعية؛ فلا ينبغي للمسلم أن يقرأ
مما هب ودب، بل عليه أن ينتقي نوع القراءة ونوع الكتاب المقروء، وأن
يستشير» [6] فيمكننا القول إذن: إن الببلوغرافيا هي تقديم المشورة للقارئ فيما يقرأ،
وهو ما يحقق هدفاً من أهداف الرسالة الإعلامية الإسلامية التي «تتعدى إلى
مجالات متنوعة دون التقيد بحيز ضيق؛ حيث إن الدعوة الإسلامية هي دعوة
للإيمان، مقترنة بالدعوة إلى العلم والعبادة والعمل والفكر» [7] .
كما لا يفوتنا التنبيه إلى العجز الكبير في مكتبات أهل السنة لمثل هذا النوع
من أوعية المعلومات، ومع أن العلوم الشرعية لها تفرعات كثيرة إلا أن الأدلة لكل
قسم منها قليلة جداً؛ فعندنا «مجال الفقه الإسلامي مثلاً ما زلنا نفتقر إلى عمل
ببلوغرافي يحصي المؤلفات الفقهية في كل مذهب من المذاهب منذ ظهورها على
مسرح الحياة حتى الآن؛ بل إننا نفتقر إلى إعادة نشر أمهات الكتب الفقهية نشراً
حديثاً يتيح للباحثين الوصول إلى ما يريدون منها بسهولة ويسر؛ ففي كل باب من
أبواب الفقه تتشعب المسائل وتتداخل وتتعقد بحيث يجد الباحث مشقة وعسراً في
الوصول إلى ما يريد؛ وخاصة إذا كان يبحث عن مسألة فرعية دقيقة يمكن أن تتوه
وسط أكوام المباحث الفقهية في بابها» [8] بخلاف ما يسببه ذلك من هدر لأوقات
الباحثين وتكرار جهودهم.
مصادر تجميع الببلوغرافيا:
وهي المصادر التي تمكننا من الوصول إلى المراجع المطلوبة من أجل إعداد
هذه الببلوغرافيا، وتأخذ عدة طرق:
1- الببلوغرافيا الوطنية الصادرة في كل بلد والتي تتضمن النتاج الفكري
لهذا البلد.
2- فهارس المكتبات العامة.
3- الأدلة التجارية الصادرة عن دور النشر للتعريف بإنتاجها.
4- الكشافات الدورية؛ حيث يتم من خلالها الوصول إلى مساهمات ذلك
العالم في ثنايا صفحات تلك الدورية.
5- المكاتبة الشخصية مع العلماء والاستفسار منهم شخصياً عن مؤلفاتهم
ومؤلفات المشايخ الآخرين الذين توفوا؛ وهذه من أنجح الوسائل.
فئات المواد:
تشمل: الكتب، والرسائل المطبوعة، والمقالات في الدوريات، والرسائل
الجامعية.
ترتيب الببلوغرافيا:
ويقصد من ذلك تنظيمها بما يتناسب مع أهداف هذه الببلوغرافيا، ويكون على
عدة أوجه منها:
1- الترتيب الهجائي:
أ - بحسب المؤلف: فيتم إدراج جميع مصنفات الشخص بواسطة مدخل
باسمه شخصياً، وترتب مصنفات المؤلفين ترتيباً هجائياً.
ب - بحسب العنوان: فيتم ترتيب العناوين ترتيباً هجائياً.
ج - بحسب الموضوع: فيتم إدراج المؤلفات بحسب موضوع كل مؤلف
ومن ثم ترتب هجائياً.
2- الترتيب الزماني:
فيتم إدراج مؤلفات كل فترة زمنية على أساس سنة الطبع، أو إدراج مؤلفات
علماء وُلِدُوا في فترة زمنية معينة.
3- الترتيب المكاني:
فيتم إدراج مؤلفات بحسب مكان صدورها.
وختاماً:
فلا شك أن هذا المشروع كبير جداً، وقد يقول البعض باستحالة تحقيق ذلك،
ولكن لو قام كل شخص من موقعه بجهد لتحقيق ذلك فسوف نرى في القريب العاجل
بعون الله الكثير من الأدلة لمؤلفات عالم أو مجموعة علماء تتزين بها مكتباتنا.
__________
(1) قواعد في التعامل مع العلماء، عبد الرحمن اللويحق، دار الوراق: الرياض، ط 1.
(2) كشاف الدوريات العربية 1876م - 1984م، عبد الجبار عبد الرحمن، مركز التوثيق الإعلامي لدول الخليج العربي بغداد، ط 1.
(3) المدخل إلى علم الببلوغرافيا، الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع، أبو بكر الهوش، طرابلس، ط 1.
(4) كتاب الفهرست، محمد بن إسحاق النديم.
(5) جهادنا الثقافي مواقف وإشارات، جمال سلطان، مركز الدراسات الإسلامية.
(6) من قضايا الصحوة، ناصر عبد الكريم العقل، دار مسلم للنشر: الرياض.
(7) الإعلام من المنطلق الغربي إلى التأصيل الإسلامي، أحمد حسن محمد، مجلة البيان، العدد 110، شوال 1417 هـ.
(8) دراسات في الكتب والمكتبات، عبد الستار الحلوجي، مكتبة مصباح، جدة.(164/114)
قضايا ثقافية
الحصاد العقدي للعلمانية
د. محمد يسري
من المسلَّم به أن دخول العلمانية إلى بلاد المسلمين كان في فترة من الضعف
العام والانكسار الشامل والهزيمة النفسية والعسكرية على حد سواء.
ومع كل الركام الهائل من الأسباب والملابسات الداخلية والخارجية فقد صمد
العالم الإسلامي طويلاً، وحفظ التاريخ مواقف الثبات في الذود عن ثوابت العقيدة
ومحكمات الشريعة، كتلك الصرخة الجريئة التي أطلقها الشيخ الشرقاوي في وجه
نابليون حين قال له: «لو كنتَ مسلماً حقاً كما تدعي، لطبقت الشريعة الإسلامية
في بلدك فرنسا، بدلاً من تنحية الشريعة هنا، ووضع القوانين الوضعية» [1] .
ثم لم ينصرم قرن من زمان الكيد والمكر حتى أدخل الخديوي إسماعيل
القانون الفرنسي إلى بلاد المسلمين سنة 1883م، وحفظ التاريخ وللأسف فتاوى
ومقالات وكتباً لأمثال محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وعلي عبد الرازق،
كان لها أسوأ الأثر في تقويض سلطان الشريعة في البلاد، وتوهين عقيدة الولاء
والبراء في قلوب العباد، واجتراء المتربصين على ثوابت الملّة ومحكمات الشرع،
وتمهيد الطريق أمام مكايد العلمانية الخبيثة لتمتد بجذورها الفكرية والسياسية
والقانونية إلى أرجاء العالم الإسلامي الكبير، وإذا أرَّخْنا للمحاولات الجادة لعلمنة
الشرق المسلم بأواخر القرن الثامن عشر فنحن الآن أمام حصاد نكد وثمرة خبيثة
لشجرة مبتوتة الصلة بأمة الإسلام تاريخاً وعقيدة وشريعة.
مظاهر الخلل العقدي:
إن إلقاء الأضواء على الحصاد العقدي، والإشارة إلى التطبيقات العلمانية
المعاصرة التي تمس الأمة في عقيدتها وثوابتها، هو ما ينبغي التركيز عليه في هذا
الموضوع، على أنه ينبغي ملاحظة أن الخلل العقدي والانحراف الفكري ينتج
ويثمر ما لا ينحصر من فروع الخلل العملي في أرض الواقع؛ ومن ثم فإننا نركز
على أبرز تلك الأصول العقدية التي طرأ عليها الخلل على النحو الآتي:
أولاً: زلزلة موقف الأمة من ثوابتها العقدية والفكرية:
ما أكثر تلك الرماح التي وجهت إلى نحر العقيدة الإسلامية عبر القرون، من
خلال تلك المذاهب المنحرفة التي شوَّهت صفاء الاعتقاد، وفي أنواع شتى من
الصراعات والمعارك التي خاضها الفكر الإسلامي منذ فجر الإسلام. غير أن
الملاحظة الجديرة بالاهتمام أن معظم هذا الباطل ساد ثم باد، وأن حالة الالتباس في
المفاهيم لم يصاحبها اندراس لمعالم العقيدة الحقة، وأن وجه الحق خرج من هذه
الفتن مستعلياً متلألئ القسمات، لم يهادن ولم يتدنس بالالتقاء في منتصف الطريق
مع غيره، فلما جثمت العلمانية على صدر الأمة، وضربت في أرض الإسلام
بجذورها ونصبت شباكها، وتربت على موائدها أفكار وعقول، ونطقت باسمها
أفواه وأقلام، كان من المنطقي أن تواجه الأمة هذه الفتنة كما واجهت غيرها من
فتن البدع والأهواء.
إلا أن شيئاً لم يكن بالحسبان قد وقع حين تصدت طائفة من أهل الإسلام
والدعوة لهذا الكيد بنَفَسٍ إسلامي، فما لبثت أن كلّت، وطال عليها الطريق فملّت،
واشتدت وطأة الباطل على حرياتها فانحرفت، وذلك حين أرادت أن تجمع بين
الضدين، وهما لا يجتمعان العلمنة والإسلام؛ وطائفة أخرى ساءت طويتها فخابت
وخسرت لمَّا اعتقدت أن الإسلام دين علماني، وعملت كلتا الطائفتين على أسلمة
العلمانية أو علمنة الإسلام، ومن هذين الاتجاهين تشكَّل تيار فكري توفيقي تلفيقي
يوالي الإسلام ولا يتبرأ من العلمانية، يقبل الشعائر، ولا يحرص على الشرائع،
يتزين بالإطار والشكل، ويعبث بالمضمون والمحتوى، يُظهر التمسك بثوابت الملَّة
ومحكمات الأدلة، ثم يعمل على إعادة صياغة موقف المسلم من ذلك كله، يرفع
راية القرآن والسنة، ثم ينزع القداسة عن نصوصهما، ويقيم العقل عياراً عليهما،
وينصب شَرَك التعارض بينهما، ويعقد المناظرة على سبيل المخاصمة بين أهل
الفقه وأهل الحديث، وبين النص ومقاصد التشريع، وبين مُحْكَمات الأدلة
والمصالح المرسلة! !
وتناسى هذا التيار أن التناقض بين معسكري الإسلام والعلمانية حقيقة جذرية،
وأن اللقاء بينهما يكاد يكون ضرباً من الخيال إن لم يكن ضرباً من المحال.
ولأجل ذلك الوهم تأسست المعاهد، وأُصدرت المجلات، وصنعت المنابر، حتى
نما زرع الباطل وعلا واختلط الحابل بالنابل؛ فتشعبت المسالك وضاعت المعالم،
فمفاصل الإسلام قد ذابت، وحدوده قد اشتبهت، وشرائعه قد التبست بـ (نسبية)
مزعومة، أو بـ (تعددية) في الحق والثوابت موهومة، أو (بتجديدية) مشبوهة
في التعامل مع الأصول.
ووقفت الأمة في برزخ من الشك حيرى بين نظرة إلى إسلاميين التقوا
بالعلمانية في حل وسط، تعرف الصحوة لهم نسباً وصهراً، وتربطهم بها وشائج
القربى، ثم تُنكِرُ منهم إسلاماً في ثوب التجديد، كثرت فيه رقع التلفيق، واختلطت
فيه خيوط الحق بألوان التزويق.
ثم تنظر الأمة تارة أخرى إلى علمانيين تدثروا بدثار الإسلام ولا يزال عليهم
شعار غيره، تُنكِر منهم الأمة أكثر مما تعرف، وعلى أي حال ولهذا السبب وغيره
فإن فصاماً نكداً بين الدنيا والآخرة قد تأصل، وخللاً في مفهوم العبادة قد طرأ
وتجذّر، وبعدت الشقة بين العقيدة والسلوك، وشعائر النسك وشرائح الحكم،
وزادت الهوة بين الماضي والحاضر، وتلك علمانية معدّلة أو إسلام ممسوخ، وهذه
الجولة من معركة الإسلام والاستنارة لم تنحسم بعدُ، وهي حرب ما تزال قائمة
مشبوبة.
ثانياً: بروز صور الشرك السياسي والقانوني في الأمة:
«اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس» تلك صيحتهم في ثورتهم الفرنسية،
وكانت علمانيتهم تتويجاً للكفاح ضد طغيان الكنيسة في المجال الفكري، وكانت
ديمقراطيتهم تتويجاً للنضال ضد طغيان الحكام في المجال السياسي، وكانت نظرية
السيادة تتويجاً للصراع ضد نظرية الحكم بالحق الإلهي المقدس!
حقاً لقد كانت العلمانية الأوروبية في قوالبها الفكرية والسياسية والقانونية
تحطيماً لأغلال القلوب والعقول وتحريراً للحريات الخاصة والمقدرات العامة لتلك
الأمم والشعوب؛ حيث قامت حكومة علمانية ديمقراطية تمتلك فيها الأمة سيادة
مطلقة، تدَّعي (العصمة من الخطأ) وتحمي الحقوق والحريات، ومع التسليم
تنزلاً في الحوار بأن هذا أفضل ما كان بحضرتهم؛ إذ لا يملكون عقيدة صحيحة
كما لا يملكون شريعة أصلاً؛ فهذا شأن يخصهم ولا يخصنا، وميراث بغي وتسلط
وجهل يتعلق بهم ولا يشغلنا، إلا أن سدنة العلمانية في بلادنا وصنيعة التغريب
والاستعمار في ديارنا أبوا إلا اتباع كل ناعق من همج العلمانية الغربية؛ فأنظمة
علمانية في الجانب الفكري، وديمقراطية في الجانب السياسي، ثم هي ترد الأمر
إلى الشعب في الجانب القانوني. وعلى الرغم من أن القرآن يهيمن على الكتب
السماوية فإن علمانيي بلادنا يجعلونه أهون من أن يهيمن على الدساتير الأرضية
والأنظمة الوضعية.
ومع قيام الأدلة الشرعية المستفيضة والبراهين العقلية المضيئة بأن لا حاكم
إلا الله ولا سيادة إلا لشرع الله، ولا إيمان إلا بعد الرضا بالله رباً حاكماً ومشرِّعاً،
وبالإسلام ديناً مهيمناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً خاتماً، إلا أن
النعيق العلماني الذي يتردد في الإعلام عبر السنين الماضية قد أثار الغبار حول
قضية مسلَّمة، وشوّش على مسألة من الدين محكمة، فكان من حصاد السنين
التفاف فئام من الأمة حول أحزاب الخراب العلمانية، وما سبب اندفاع بعض العوام
إليها إلا لأنها تلوِّح بلعاعة من الدنيا، أو تَعِدُ بما يملأ جوعة البطون أو يواري
عري الأجساد.
وكان من الثمرات النكدة لهذا الشِرْك السياسي المستعلن بالكفر بمرجعية
الشريعة في الدماء والفروج والأموال ورد ذلك كله إلى غير شرع الله، أن تناول
بعضهم هذه القضية في إطار جزئي مبتور الأطراف، مشوه الحقائق، فنزلت رتبة
هذه القضية الناقضة لأصل الدين إلى رتبة المسائل الجزئية، والانحرافات
العَرَضية، فلم تبلغ مبلغ الثوابت المحكمات، ولا المسائل المهمات، فاعتراها
التشكيك، ودخلتها المساومة، وحكمتها المصالح والأهواء، وترتب بناءً على ذلك
من الوهن والتخاذل في نصرة الشريعة ما قرت به عيون دهاقنة العلمانية، بل إن
المرارة تبلغ ذروتها وللأسف حين تتأرجح مواقف بعض الإسلاميين من هذه القضية
فتنطلي عليهم الحيل وتقذف في قلوبهم الشُّبه، أو تنحرف ببعضهم السبل في
مواجهة هذا الشرك الصراح، ولذلك صور وألوان؛ فمن الدخول تحت مظلة تلك
الأحزاب العلمانية تارة؛ إلى التحالف معها ثانية؛ وهكذا تتغير خريطة الولاء
والبراء بتذبذب المصالح، وفي أثناء ذلك يغيب الهدف الذي سوَّغ لبعضهم الاشتغال
بالسياسة من تطبيق الشريعة وإقامة الحجة، واستفاضة البلاغ، والحيلولة دون
مزيد من المفاسد والانحرافات.
إن مكافحة هذا اللون من الشرك السياسي والقانوني حقٌّ لا ريب فيه، وجدٌّ لا
هزل فيه، وهو معترك بين الإيمان وضده، وحد فاصل بين التوحيد ونقيضه،
وليست محاربة شرك القبور والأضرحة بأوْلى من محاربة شرك الحكم والتشريع.
ثالثاً: نشوء المذاهب العقدية والفكرية الباطلة:
إن فكرة كالقومية العربية أو مبدأ كزمالة الأديان ما كان لأيها أن يولد في بلاد
الإسلام أو أن يلقى قبولاً، لولا أنهما ولدتا في محاضن العلمانية، وفي كنف من
اللادينية التي تنظر للدين على أنه قاصر على جانب شعائر التعبد ومسائل الاعتقاد،
لا يتجاوز حدود القلب وحنايا الصدر، هذا إذا كان للدين مكان واعتبار عند
أرباب العلمانية، ولقد تمهد طريق إسقاط (دولة الإسلام) المتمثلة في الخلافة
الإسلامية بإحياء النعرات القومية، وإذكاء العصبيات العرقية، والأواصر والروابط
الأرضية، ليجتمع الناس حول راية عِمِّيَّة لا تحفل بالدين ولا تقيم لروابطه وزناً،
ويكفي أن يُعلَم أن القومية العربية ولدت في دار المندوب السامي البريطاني، وكان
ذلك على يد نصارى لبنان وبلاد الشام [2] .
قال برنارد لويس: «فإدخال هرطقة القومية العلمانية، أو عبادة الذات
الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط» [3] .
والقومية العربية تتجاهل قروناً متطاولة من حضارة الإسلام العريقة التي
انصهرت في بوتقتها حضارات عديدة سادت ثم بادت، والقومية حين تنبش الأرض
لتستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ليست تطمح كما يقول أحد المستشرقين في أن
يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام؛ ولكن يكفيهم أن يتذبذب ولاء المسلم بين
الإسلام وتلك الحضارات؛ فالفرعونية لمصر، والفينيقية للبنان، والآشورية
والسومرية والبابلية في العراق، والكنعانية في فلسطين، والبربرية في المغرب،
وأخيراً الطورانية في تركيا.
وهكذا دخل الفكر القومي ليحل محل الرابطة الإسلامية الجامعة، فكان هذا
من أهم أسباب إضعاف دولة الخلافة والتعجيل بسقوطها سنة 1924م، وانعقد
اجتماع المسلمين على أساس من الأعراق والقوميات واللغة والتأريخ، وكان وجود
الفكر العلماني الذي يعطل الدين أن يعمل ويؤثر هو البيئة الصالحة لنمو القوميات
العربية وغير العربية، حيث يتعين على القومي المسلم والقومي اليهودي
والنصراني والملحد أن يجمع بينهم رباط الأرض واللغة والعشيرة؛ إذ الدين لله
والوطن للجميع، وهذا يفضي ولا بد إلى النتيجة التي يرمي إليها الفكر العلماني
على مستوى الأمة، وهو نبذ الدين وأحكام الشرع الحنيف، «فالتكتل حول راية
القومية يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين
لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية
تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام» [4] .
ولقد خدعت جموع المسلمين لفترات طويلة بهذه القومية الأكذوبة حتى ظهرت
حقيقتها خواء من كل فائدة، فليت الرابطة القومية العلمانية جمعت القلوب،
ووحدت الصفوف، والْتألمت بها الصدوع، إلا أن الأمة استبدت بها الفرقة،
وسرت فيها روح التقاطع، والواقع خير شاهد، وصدق الله تعالى: [لَوْ أَنفَقْتَ مَا
فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ] (الأنفال: 63) .
رابعاً: وهن عقيدة الولاء والبراء:
العلمانية دين يجمع ويؤلف على أساس من المصلحة؛ فحيثما لاحت المصلحة
فثمة الرابطة العلمانية، مع قطع النظر عن أي معنى آخر. والإسلام دين قوامه
التوحيد، فكلما تحقق التوحيد فثمة الرابطة الإيمانية العالمية التي تذيب فوارق
الأنساب واللغات والألوان، فتجمع رحم التوحيد أبناء الإسلام تحت شعار: [إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) ، ويقوم بناء الأمة الاجتماعي على أساس من
قوله تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (التوبة: 71) .
ويتبلور الموقف من أهل الكتاب في نحو قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ] (المائدة: 51) .
وإذا كانت عقيدة الولاء والبراء من التوحيد بمكان الركن؛ فلقد حرص دعاة
العلمانية على إضعاف هذا المفهوم في حياة الأمة، وكسر الحاجز النفسي بين المسلم
والكافر، وبحث قيم جديدة، ومفاهيم غربية للموالاة بين الأمم، فمن الإنسانية إلى
زمالة الأديان، ومن التقارب الإسلامي النصراني إلى تطبيع علاقات الأمة مع
شراذم أحفاد القردة والخنازير.
ولقد أدى الكيد المنظم على مستوى الأفراد والشعوب والدول إلى تذبذب هذه
العقيدة في القلوب، وتحيّر كثير من المسلمين بين إعلام ينشر الوعي المزيف،
وعالم سلطة يعانق ويهنئ ويشيد بحاخام وقسيس، وسياسة لاهثة وراء شرق ملحد
أو غرب كافر، وفكر مذبذب، لا يدين إلا بالمصلحة ولا يحالف إلا المنفعة حيث
كانت، وأقلام مأجورة من صنائع التغريب ودعاة التقدم وسدنة «الوحدة الوطنية» .
ولا يخفى أن بقاء الإسلام خارج دائرة التأثير في ولاءات الأمة، وخارج
نطاق معركة البراء من أعداء الملّة، من شأنه أن يسلم قياد الأمة إلى أعدائها
يتخبطونها من كل جانب، ويمحون عنها كل هوية، ويجرونها إلى كل هاوية، ولا
تخطئ عين المتأمل عمالة السياسة العلمانية تجاه قضية فلسطين أو البوسنة أو
كوسوفا، كما لا يخفى على مُطَّلع تواطؤها في شأن العراق أخيراً.
وبعد عرض هذه النتائج والتطبيقات العقيدية للعلمانية، تجدر ملاحظة بعض
الأمور:
- إن هذا الكيد المنظم والمكر الدائب لو وُجه إلى أي نِحْلة أو ملة غير
الإسلام لعفت آثارها من قديم، ولكن الحق أصيل والباطل دخيل.
- إن آثار هجمة العلمانية على بلاد المسلمين وإن تنوعت أشكالها وألوانها
فإن تفاعل الأمة معها وقبولها لها ونفوذها في أعماق المجتمع المسلم لا يزال محدوداً،
ولا تزال الديمقراطية وقضاياها وأحزابها حبيسة داخل ما يسمى بالنخبة المفكرة؛
ففي دراسة أجريت عام 1980م جاء الاهتمام بقضية الديمقراطية في المرتبة
السادسة ضمن قائمة تشمل سبعة هموم رئيسية للرأي العام العربي، وبلغة الأرقام لم
تذكر الديمقراطية بوصفها أحد الهموم الرئيسية سوى 5. 4% فقط من عينة شملت
عشرة أقطار عربية، وفي عام 1990م أجريت نفس الدراسة على ثمانية عشر
قطراً عربياً فجاءت المسألة الديمقراطية في المرتبة السادسة ضمن ثماني تحديات
رئيسية، وبلغة الأرقام أيضاً لم يذكر المسألة الديمقراطية سوى 11% فقط من أفراد
العينة، وهي على كل حال نسبة متواضعة للغاية [5] ، «فالديمقراطية تجد
أصداءها في مجال الشعار السياسي والدعوة الفكرية أكثر بكثير مما تعكسه
مجتمعاتنا من استعداد فعلي لاعتناق هذا الشعار والانتماء إليه» [6] .
- وأخيراً: فإن عين المتأمل لتلحظ وعياً متنامياً، ويقظة إسلامية، بين
طوائف الأمة عامة، وتبصراً بكثير من الحقائق التي عَلَتها غاشية من الغبش
والتزييف، وتوجهاً نحو الفكرة الإسلامية والنهج الإسلامي، وهو بلا شك مؤشر
صحة وعلامة خير.
والله غالبٌ على أمره، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، د جميل المصري، ص 105.
(2) مذاهب فكرية معاصرة، ص 585.
(3) فكرة القومية، د صالح العبود، ص 274 بتصرف.
(4) فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن فكرة القومية، د صالح العبود، ص 268.
(5) الأنظمة العربية والحركة الإسلامية، حامد عبد الماجد، ص 59، 60.
(6) ديمقراطية الإسلاميين وإسلامية الديمقراطية، عبد المحسن الأمين، جريدة الحياة اللندنية، 7/1/1992م.(164/117)
في دائرة الضوء
لا صوت يعلو فوق الحوار
أ. د. محمد يحيى [*]
فُرِضَت على ساحة الفكر والفعل الإسلامي في بعض البلدان الغربية في
السنوات الأخيرة قضية أسماها أصحابها: «الحوار» من حيث إنه وصف عامٌّ،
وتراوحت التسميات الفرعية من حوار الحضارات إلى حوار الثقافات، ومن الحوار
مع الآخر إلى حوار الأديان. وتحولت هذه القضية إلى أولوية مطلقة عند بعض
الشخصيات والمؤسسات تختفي إلى جانبها سائر أولويات الفكر والفعل الإسلامي
الأصلية والراسخة في الدعوة، وتعميق الهداية والمعرفة الإسلامية وتوسيعهما،
والتمكين للدين في دنيا الثقافة وحياة المجتمعات.
وشهدنا المؤتمرات والندوات والاجتماعات تتوالى وتتكاثر بسرعة غريبة على
كل المستويات وفي شتى البلدان تحت راية تلك القضية التي رفعت إلى مصاف
أوجب الواجبات على الأمة، وتابعنا بدهشة تحولت إلى ريبة وشكوكٍ النشاطَ
الدائب في إنشاء إدارات ودوائر ومنتديات الحوار هذا بأشكاله هنا وهناك وتولية
أمورها لشخصيات منهم من أفنى العمر في خدمة شتى المذاهب العلمانية، ومنهم
من لم يشتهر بشيء سوى بالعمالة لجهاز استخبارات أو آخر من دول الغرب، أو
بالتبعية لمؤسسة أو أخرى من مؤسسات الكنائس والدول الغربية.
ومع تواصل طرح أو فرض القضية وتأسيسها في هيئات وتجمعات تغيرت
لغة الخطاب بالتدريج لنصحو على لهجة أقل ما يقال فيها إنها غريبة حيث ينغمس
مشايخ للإسلام في الحديث عن تعاليم «الأديان» ولا يقولون الإسلام، وحيث
تتغير المفاهيم الشرعية وحتى العقدية بحجة كبرى هي عدم جرح حساسية الآخر،
أو عدم إغضاب أو إثارة الأطراف المشاركة في الحوار من الملل والنحل المتنوعة
وأبرزها إن لم يكن أوحدها مسيحية الغرب ويهودية إسرائيل.
ومع تراكم مظاهر تلك القضية صحا الناس على وضع غريب؛ فالدعوة إلى
الحوار بين الأديان والعقائد والثقافات والحضارات يفترض فيها (حسب مفهوم
«الحوار» ذاته) أن تدور في جو من الديمقراطية والحرية والشفافية والوضوح لا
أن تفرض فرضاً وبقوة سلطات الدول على طرف دون آخر. ولقد وصل الأمر إلى
حد أن من يريد أن يراجع المسألة وينقدها أو يبين خلفياتها يوصف ابتداءاً بأنه من
رافضي التعقل ومن أسرى الجمود، ومن دعاة الانغلاق والحروب والتوترات.
وأصبحت الصورة أن «الحوار» هو عقيدة أيديولوجية جديدة تفرضها بعض
الدول على مؤسساتها الدينية بالذات كما كانت تفرض عليهم في الماضي أن يتحدثوا
عن اشتراكية الإسلام أو تحبيذ الإسلام للقومية العربية، أو مباركة الإسلام لنهج
الحرية الاقتصادية الرأسمالية.
وهناك فارق جوهري بين «الحوار» بوصفه عملية تجرى لها ظروف
وشروط وسياقات معينة (أياً كانت، وأياً كانت الخلافات حولها) ، وبين «الحوار»
بوصفه مذهباً ومفهوماً جامداً يطرح على الناس من باب الفرض والتلقين، ويطلب
منهم الإذعان لمقتضياته وأوامره كما تحددها لهم وبشكل صارم ونهائي سلطات
سياسية (بل حتى أمنية) قاهرة. إن الحديث عن «الحوار» في هذه الحالة
(وهي مع الأسف الحالة الغالبة والسارية في العديد من الدول العربية) يصبح
ضرباً من السخرية الفاضحة، ولا نقول العبث الفكري اللا معقول.
والأدهى أن هذه القضية تدور كما يعرف ويعترف الجميع في سياقٍ عامٍّ شامل
أصبح يعرف في السنوات الأخيرة بأسماء متعددة من النظام العالمي الجديد إلى
العولمة، وما بينهما من مصطلحات أخرى كالعالم الواحد، والثورة المعلوماتية،
والتعددية الشاملة وما أشبه ذلك. وهذا السياق الشامل كما يعرف الجميع لا يعني إلا
فرض النمط الحضاري الغربي (بكل أبعاده الدينية والثقافية والقيمية والفكرية
والاجتماعية) على سائر أرجاء العالم والحضارات والثقافات الأخرى بعد إلباسه
بالباطل ثوب العمومية والعالمية، والشمول والصلاحية المطلقة لكل العصور
والأزمان. بل إن حديث هذا النظام الجديد عن التعددية يعني فقط التعددية المحكومة
والمضبوطة داخل إطار من الحضارة الغربية تذوب فيه التعددات بعد فترة
وتصطبغ بصبغته.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تتسق دعوة الحوار مع ما يعترف به
دعاتها في أنها تدور في ذلك السياق الخانق والحاكم؟ قد يقال إن الحوار ربما
يخفف من وطأة العولمة وضغوطها الجارفة ويوازنها ويعادلها ولا سيما في وجود
طرف آخر يواجه الطرف الغربي؛ لكن الممارسة الفعلية لمسألة الحوار تكذب هذا
القول؛ لأن هذه المسألة تحولت عند الطرف العربي الإسلامي (ولنقصر الحديث
هنا على الجانب الديني) إلى خليط عجيب يضم شتى النواحي إلا ما يمكن أن
يوصف بالحوار على الأقل حسب المفهوم الفلسفي أو حتى الدارج للكلمة. فالحوار
عند الغالبية من ممارسيه ودعاته أصبح يعني جلسات المجاملة والتودد للأطراف
الكنسية المشاركة معهم فيه، وبعض منهم يقول إن هدف الحوار هو تحسين صورة
الإسلام التي أصبحت سوداء في أوروبا (على حسب زعمهم) من جراء أفعال
المتطرفين المسلمين، وآخرون لا يرون في الحوار سوى أنه أداة ووسيلة لتجديد
الإسلام (مرة أخرى على حسب زعمهم) بالاحتكاك بالثقافات الغربية المتقدمة،
وبالفكر الديني الغربي (المسيحي أساساً) المستنير كما يرونه.
ومن الواضح أن كل هذه التصورات للحوار عند ممارسيه من الجانب
الإسلامي لا تفيد أكثر من التبعية والانهزامية أمام الجانب الحضاري الغربي (أي
نفس التوجه السائد في بعض الدوائر منذ ما يقارب القرن والنصف الآن) ، وهو ما
يعني أن الحوار وفق هذا التصور والممارسة والذي يدور في سياق العولمة الطاغي
يكرس تلك العولمة، ويوافقها، وييسر ويذلل تحقيق أغراضها، ولا يوازنها أو
يعادلها أو يخفف من وطأتها. وأن الحوار هنا يتحول إلى عملية تمكين وتغلغل
وتكريس لسيطرة الفكر؛ والحضارة الغربية تتستر وراء كلمة «الحوار»
بمضامينها البراقة، ووراء الإيجابية، وتتوسل بذلك إلى تسكين وتخدير الوعي
والحذر أو اليقظة الإسلامية التقليدية. والحوار هنا حسب مفهوم أصحابه أنفسهم
عن «تحسين الصورة» والتعلم من الغير والاندماج في «مسار الحضارة العالمية»
والانفتاح عليها والمشاركة فيها لا يعني أكثر من تطويع الإسلام لتصورات
ورؤى الحضارة الغربية التي يراها بعض من «الحواريين» غالبة وعالمية مما لا
يقدم بديلاً عن التوافق والتمشي معها، والتكيف والتغير مجاراة لها؛ حتى لو كان
هذا التغير والتعديل يمسُّ ثوابت الدين نفسه وتراثه وتاريخه بل هدفه وأولوياته.
قد يكون هذا هو المفهومَ الجديدَ للحوار؛ لكنه ليس ما تعارف الناس عليه
تحت مسمَّى: (الحوار) مما يعني أنَّا نواجَه بعملية خداعية من التمويه الفكري لا
تختلف في قليل أو كثير عما تعودنا عليه منذ عقود طويلة عندما درج سماسرة
التغريب والعلمنة على تسريب مذاهبهم وأفكارهم إلى داخل الجسد الإسلامي تحت
مسميات التحديث والعصرية، بل الاجتهاد الإسلامي نفسه، والتقدم والاستنارة
والعقلانية والإصلاح وما شابه ذلك، ولعل أهم ما يكشف حقيقة هذه الخدعة هو أن
الحوار عند الطرف الغربي وبالذات الكنسي الديني لا يلغي أولويات هذا الطرف في
طرح عقيدته والترويج لها (عملية التنصير مثلاً) وفي التمكين لمذاهبه وترسيخها
والعمل لها كما هي بلا تعديل ولا تكيف أو مجاراة مع الإسلام ولا غيره (باستثناء
عبارات للمجاملة تنتزع انتزاعاً وتقال بحساب دقيق) .
أما الطرف الإسلامي الممثل ببعض الرسميين في العادة فقد وصل الحد به في
بعض الدوائر إلى تحويل مسألة الحوار كما قلنا إلى الأولوية الطاغية على ما
عداها، والمهيمنة على الخطاب، والمعدلة للطرح الإسلامي نفسه على حساب
نشاطات الدعوة ذاتها، وهي أساس وجود تلك الدوائر ومسوِّغه. فالعملية قد
تحوَّلت عند هؤلاء إلى انجراف في تيار معين بل إلى جريان واسترسال مع الآخر
ينتفي معه كل حديث عن التوازن والمعادلة بل عن «ذات» تواجه آخر. ويصل
بنا هذا المفهوم أو تلك الممارسة «للحوار» إلى إلغاء مفهوم الحوار ذاته كما قلنا
وتحويله إلى الضد!
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(164/122)
مؤتمرات
مؤتمر الدين والدولة في العالم العربية
توافق أم صراع! !
صلاح الدمنهوري
كثيرة هي الأسئلة العصرية التي تطرح باسم العلم دون تحقُّق مدى صلتها
بالعلم فكرة وأسلوباً. فحين يطرح تساؤل جوهري حول قضية مهمة فذلك شأن قد
يسترعي الانتباه.. أما حين يحمل التساؤل تخييراً بين جوابين فذلك أمر جدير
بالتأمل؛ إذ قصر السياق على أحد احتمالين لا ثالث لهما.. وإذا ما خدم السياق
طرفاً على حساب آخر فتلك إشكالية التحيز المثارة بكثافة في محافل العلم اليوم! أما
إذا اكتشف أن الانحياز ضد الدين فهذا أمر يثير الاشمئزاز إذا كان هذا الدين أي
دين إلا أن يكون الدين المتهم في كل المحافل وبكل الاتهامات تقريباً؛ لأنه مدان
على أي حال! وإن كان ثمة احتمال ثالث أو رابع فلن يخرج في حقيقته عن حتمية
الاحتمالين السابقين.. ذلك باختصار لب المنهجية العلمية المتبعة اليوم في بعض
من محافلنا العلمية فيما يخص الدراسات التي تمس من قريب أو بعيد الإسلام.
هذا بعض ما أثاره التساؤل المطروح عنواناً للمؤتمر الذي عقد في المجلس
الأعلى للثقافة بالقاهرة، وبدعوة من جمعية الدراسات التاريخية، وما طرحته
السطور وما جاء بين السطور أمر جدير بالتأمل؛ فالدين في حالة التوافق مع
السلطة إما أن يكون ديناً استبدادياً يقهر، وإما أن يكون موائماً ينافق، وفي حالة
الصراع فهو دموي ثوري. أما السلطة فإن كانت قديمة فغالباً ما يُلتمس لها الأعذار
ويُحسن بها الظن أو تخضع في أسوأ الأحوال لنظرية الاحتمالات التي تخفف من
وزن الجريرة التاريخية! وإن كانت معاصرة فالأغلب أن يغض الطرف ويخفت
الصوت ويساق الحكم إن جاء في صورة دعابة.. ذلك بعض ما تتسربل به ذهنية
البحث العلمي في بعض محافلنا.
وكما قال الشاعر:
والناس من يغلب قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الخبل
ذلك بعض ما أثاره مؤتمر (الدين والدولة في العالم العربي توافق أم صراع؟)
الذي عقد في القاهرة من (28 - 30) أبريل 2001م، وقد قدم المؤتمر عدة
أفكار لم تكن المرة الأولى التي تقدم فيها لكنها الأقوى في التصريح وكثافة الطرح.
وقد رأينا معاني (تحديثية) لأخلاقيات البحث؛ فباسم الموضوعية مثلاً تُحَمَّل
الدولة العثمانية الأخطاء التي وقعت في تاريخها كله ما ارتكبته وما لم ترتكبه،
وباسم التجرد والفرار من القداسة الزائفة تُسقَط المهابة عن «مشايخ» الإسلام
وعلمائه وعن أعيان الأمة بل التاريخ ويُنال من أعراضهم، ومن حرمات الإسلام
متمثلة في أشخاصهم من باحث مبتدئ معروف بمناصرة الفكر النسوي في
المجتمعات الذكورية على حد تعبيره هو أو كاتب مسرحي يُفصّل النص التاريخي
وفق أهواء الاتجاهات المعاصرة التي يخدمها، وباسم احترام التخصص تسند
معالجة اتجاهات الصحوة الإسلامية الفكرية والتاريخية في القرن العشرين إلى اثنين
من المستشرقين الأمريكيين، وباسم التواصل الحضاري يشارك ستة من
المستشرقين من الشرق والغرب تخدم أوراقهم الخلفية الفكرية التي يراد لها أن
تستقر مستقبلاً عن طبيعة العلاقة بين أخطر مكونين في حياة الشعوب عموماً
وشعوب المنطقة العربية على وجه الخصوص «الدين والسياسة» ، وباسم
الديمقراطية وحرية التعبير يقذف بالإسلاميين المتأسلمين تطرفاً إلى الجحيم،
ويمارس ما يمكن أن يسمى اصطلاحاً «التكفير السياسي» ، وباسم احترام النظام
تصادر الردود.
وقد ألقت ثنائيات الفكر الغربي بظلالها على التساؤل المطروح عنواناً للمؤتمر
«الدين الدولة» ، «الصراع التوافق» ، مع أن فكرة الصراع بصوره المختلفة،
وبالذات بين المقدس والزمني مأخوذة من الفكر الأوروبي الذي اقتبسها بدوره من
الفكر اليوناني القديم.
والمتأمل يلحظ أن الجدلية المثار حولها الكلام في حقيقتها تدور بين الدين
الإسلام وبين العلمانية التي تتقمص قميص السلطة، ولكنها رأت أن تتسمى تلوناً
كعادتها بالدولة لتكتسب سطوتها ورهبتها وسلطانها! حتى تضفي على نفسها صفة
الشرعية.
ومن الظاهر أن الأوراق التي طرحت تجاهلت تماماً فترات الصحة التي لا
نقول لعب فيها الدين دوراً مهمّاً، بل نقول التي خدمت فيه الدولة أو السلطة الدين
فقويت وازدهرت، وعزَّت به وعزَّ بها.. والدارس لتاريخ مراحل التجديد
والنهوض يدرك أثر العامل الديني في هذا النهوض.
ومع أن الجدلية المطروحة على مائدة البحث الممتدة من موسكو شرقاً إلى
كاليفورنيا غرباً تتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة مما سمح للتفسير المادي للتاريخ،
والتفسير السلطوي، والتفسير الوطني، والقومي، والليبرالي، والاستشراقي،
والإصلاحي أن يشارك في وضع رتوش الصورة التاريخية للعلاقة إلا أنه لم يُدع
َمن يعبّر عن الإسلام الشعبي أو حتى الرسمي على حد تعبير بعض المشتركين مع
استبعاد مشاركة ممثلة لاتجاهات الصحوة حتى من المخيلة؛ مع أن الأمر يخص
هذه الاتجاهات ويمسها من بعيد ومن قريب، ولا ندري أكان ذلك لحاجة في نفس
يعقوب الذي يظلم كثيراً باستدعاء اسمه في التمثيل في مثل هذه الظروف؟ في
الوقت الذي عجز المؤتمر عن تعريف المفاهيم وتوصيف الظواهر والعلاقات
وتفسيرها تفسيراً صحيحاً.
ولهذا فمن غير المعقول أن يتناول مؤتمر يشترط فيه القائمون عليه العلمية،
وهو يعالج العلاقة بين مكونين أو ظاهرتين أو علمين دون أن تطرح قضايا
التناسب أو التمايز على المختصين من كلا الجانبين وهذا ما نلاحظه هنا؛ إذ لم
تأخذ القضايا الشرعية حقها من التوضيح فضلاً عن الدراسة، خاصة في ظل ما
سمعناه من تساؤلات أشبه ما تكون بالاتهامات حول: عن أي دين نتحدث؟ عن
دين المشايخ؟ أم عن دين الدولة؟ أم الدين الشعبي؟ عن دين الأزهر، أم دين
الصوفية، أم دين الجماعات الإسلامية؟ وكأن هناك أكثر من دين. ولم تخلُ
صورة من صور التدين هذه من اتهامات صريحة أو مقنعة. ومن الملاحظ أن هذه
التعبيرات هي نفس التعبيرات التي استخدمها المستشرقون في مشاركاتهم.
ولسنا ندري ما الذي يصنع التوجهات ويرسخ ما يظن أنه قناعات: أهو
التمويل أم هو التوجه الفكري المسبق أم ضغط الواقع، أم التتلمذ الحميم على
المدارس المادية؟ ربما كان السبب خليطاً من الأسباب السرية والسحرية، دون أن
نجزم بأيها الأعمق أثراً والأعظم خطراً في واقع مقلوب متماوج متعدد الاتجاهات.
التحامل على الخلافة العثمانية:
كان من الواضح تركيز عدد كبير من المؤتمرين على التناقضات التي وجدت
في الدولة العثمانية؛ فقد جاء الهجوم على الدولة العثمانية شديد الضراوة؛ بينما لم
ينل الاستعمار بمختلف جنسياته ما نالها من تعدٍّ!
وقد جاء الخلط في التعامل مع التاريخ العثماني وحقائقه جلياً؛ فمرة على
سبيل المثال يساق تساهل الدولة العثمانية مع أهل الذمة (الأقليات الدينية) وإصدار
الخط الهمايوني على أنه ضعف في العقلية الإسلامية، ومرة أخرى تتهم الدولة
العثمانية باضطهاد الأقليات الدينية، ومرة يقال إن العثمانيين استغلوا الدين في
احتلال العالم العربي، ومرة يقال إن الدولة لم تعلن عن أن دينها الرسمي هو
الإسلام إلا في منتصف القرن التاسع عشر لمواجهة الحملة الثالثة من التدخلات
الأجنبية في شؤون الدولة! ولو أجرينا مقارنة صغيرة بين الطريقة التي حُللت بها
شخصية نابليون ودوافعه في غزو مصر، وبين ما قيل عن الاجتياح العثماني على
حد تعبير المؤتمرين للبلاد العربية لأدركنا حجم الكارثة باستبعاد المدخل الإسلامي
في التحليل لحساب المدخلين الوطني والقومي المتلبسين بالحداثة والشعوبية
المخترقين من الاستشراق.
ولم يقف الأمر عند حد الدولة العثمانية؛ بل رأينا التأكيد والاستماتة في إثبات
إخفاق التجربة الإسلامية بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة، بل لم يسلم حكم عثمان
وعلي رضي الله عنهما من طعن وغمز.
وقد رأينا سطحية وربما جهلاً شنيعاً في التعامل مع القضايا الشرعية مثل ما
حدث من أحد الباحثين واعتراضه على تغير فتوى بعينها لتغير الظروف بمرور
نصف قرن، فرأى في ذلك إدانة للعلماء ونوعاً من التملق للسلطة ولعباً من السلطة
بالمشايخ!
وهذا يكشف إلى أي حد سيطر المنظور السلطوي المادي في مؤتمر من
المفترض أن يعالج العلاقة بين الدين والدولة! وقد قال هذا المتحدث تعليقاً: أنا لا
أفهم لماذا يُدعى شيخ الأزهر للبرلمان ليؤخذ رأيه في مسألة تمس الاقتصاد! بينما
قال آخر نقلاً عن زكي نجيب محمود: أنا أفهم معنى أن يعلن الإنسان عن دينه؛
لكن الذي لا أفهمه أن تعلن الدولة عن دينها وتنص عليه في الدستور! مع أن هذا
غير مستغرب على دولة مثل إيطاليا أو أسبانيا!
وما قاله هذا قد لمسنا مثله تصريحاً أو تلميحاً سواء في حق مشايخ الأزهر أو
مشايخ الصوفية أو هيئة كبار العلماء أو غيرهم؛ ومن ذلك ما قيل عن البكري
والميرغني وصلتهما بالاستعمار، وما قيل عن أحمد الرجبي وصلته بمحمد علي،
وفتاواه المخالفة لفتاوى علماء الأزهر في إسباغ الشرعية على إجراءات محمد علي
أو التطورات الفكرية والحركية التي مر بها الشيخ حسن البنا أو عز الدين القسام أو
أمين الحسيني أو رشيد رضا ومحمد عبده والأفغاني؛ فالمستمع للكلام حول
هؤلاء يجد أن المتهم دائماً معروف.
لقطات عابرة:
ومع أن الفكر السياسي الحديث قد تجاوز مفهوم الدولة الوطنية والقومية،
ومع أن هذا الفكر ليس بعيداً عن رعاة المؤتمر كمثقفين طرحاً أو تبنياً؛ نجد أن
العلاقة جاءت بين الدين والدولة؛ ومعنى أن تجيء الفكرة متأخرة ربع قرن على
الأقل على حد تعبير أحد المشاركين له دلالته ليس من جهة الدين كثابت أقر الجميع
على رسوخه، أو من جهة الدولة كمفهوم هلامي آخذ في التطور والتغير طبقاً
لمتغيرات الفكر والسياسة في العالم، وإنما من جهة المثقف كأزمة كامنة أو ظاهرة
يفرض نفسه باسم السلطة!
وقد وقع المدخل الوطني في مأزق له دلالته حول تساؤل طرحه أحد
المؤرخين النصارى حول إشكالية العلاقة بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي
لجنوب لبنان، والفرق بين هذه العلاقة وبين العلاقة بين الموارنة والتواجد السوري
في لبنان؛ هل يمكن أن نسمي كلا النموذجين صراعاً بين الدين والدولة أم صراعاً
مع الاستعمار؟
وما الفرق بين استعمار إسرائيلي وآخر سوري؟ !
مع أن التساؤل غاية في الوهن إلا أن أكثر الأوراق لم تقدم لنا إجابة واضحة
حول التساؤل المطروح.
بين التأسلم وفكر الخوارج:
جاءت مشاركة جيف كيني - أمريكي - حول (خطاب الإسلام السياسي في
مصر المعاصرة) ليجعل من الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما خلافاً
سياسياً بالدرجة الأولى ساهم في ظهور فكر الخوارج الذي يدَّعي كذباً أنه تطور
فكراً وحركة، وامتد حديثاً ليشكل الإطار العقدي للخطاب السياسي للجماعات
الإسلامية في العالم العربي بدءاً من حسن البنا إلى عمر عبد الرحمن! هكذا قال!
وهو بهذا يحاول أن يزيح شرعية طرف لحساب آخر من خلال تسييس الخلاف
لتذوب الفوارق المنهجية بين الفريقين! وكم كانت المفاجأة عندما أشار أحد
الحاضرين إلى خطورة ما جاء في هذه المشاركة، وطلب ترجمة مختصرة تعرِّف
الحاضرين بمضامينها، فلم يتمكن من ذلك أي من الحاضرين حتى الأستاذ الدكتور
التونسي الجنسية الذي أدار الجلسة والذي هز رأسه كثيراً إعجاباً بالكلمة أثناء إلقائها!
أما مشاركة د. سامي صلاح أستاذ السينما فكانت عن (التأسلم تطرفاً
اتجاهات الصحوة والتأسلم مهادنة) يعني بذلك طه حسين حين كتب (على هامش
السيرة) ، وهيكل حين كتب (حياة محمد) ، والحكيم حين كتب مسرحية (محمد)
بعد طعنهم في الإسلام مهادنة للإسلاميين وقد جاءت مشاركته تلك هجوماً على
الفريقين تطرفاً أو مهادنة، ولفظ المهادنة له ظلاله ودلالته الخطيرة؛ وكأن الرجل
من خلال هجومه غير راضٍ حتى عن ذر الرماد في عيون الشعب الغاضب من
نيل هؤلاء لمعتقداته ومقدساته، وكأنه رأى في ذلك نوعاً من إعطاء الدنية في
التغريب!
وكانت هناك مشاركة ثالثة من رئيس تحرير صحيفة (آرتف) المتحدثة باسم
الأرمن في مصر عن طائفة (الأرمن) في مصر، جمع فيها المتحدث كل ما يمكن
أن يقال في مزايا طائفة كان لها أثرها في عالم السياسة دون أن يشير من بعيد أو
قريب لدور الأرمن في إسقاط الدولة العثمانية، والتمكين للأجنبي في مصر حين
تكلم عن دورهم المؤثر في عالم الدبلوماسية والاقتصاد في البلاط العثماني وفي حكم
محمد علي!
وجاءت المشاركات عن الحركات الإسلامية: الإخوان المسلمين.. حركة عز
الدين القسام.. الحركة المهدية في السودان.. ثورة عرابي ... إلخ باهتة دون أن
تُسلِّط الضوء على العامل الأجنبي في تشويه هذه الحركات، وليست المشكلة في
ذكر بعض الملاحظات سواء التي هي من قبيل الرأي أو من قبيل الملاحظات
المتفق عليها على بعض هذه الاتجاهات، لكن المشكلة في ضيق نظرة أحادي
الجانب أو المخالف الذي يلتقط الزلات التي لا يسلم منها أحد وربما يضخمها
ويتوقف عندها كثيراً، بينما يغفل الدواعي والدوافع والعوامل الخارجية التي يغتفر
من أجلها اليوم ما تقدم من ذنب النخب الحاكمة وما تأخر، سواء على مستوى
التلاعب بالوقائع والتآمر ضد المصالح بنفس القدر الذي تم فيه التلاعب في تسجيل
تلك الوقائع وتحليلها والحكم عليها.
وقد احتوت غالب المشاركات على قدر من الاختزال والانتقاء سواء من جهة
اختيار عينة البحث أو من جهة اختيار الأحداث والوقائع داخل العينة.. فالدراسات
إن لم ندَّعِ أنها اختيرت لتخدم اتجاهاً معيناً، لكنها على الأقل جاءت لتخدم الاتجاه
ذاته، ولهذا لم نر نموذجاً ناجحاً للتوافق بين الدين والدولة؛ مع أن تاريخنا القديم
والحديث مليء بتلك النماذج، بل حتى النماذج التي احتواها المؤتمر والتي يمكن
أن تمثل جانب التوافق جاء سياقها مبتوراً غير منسجم؛ إذ ركز على أحداث
هامشية أو شخصية مع تفسيرات ذاتية للباحث لا تسلم من التناقض أحياناً.
تساؤلات:
وعلى الرغم من ذلك فإن في مجمل المؤتمر فوائد؛ إذ قدم عينة عشوائية
لطرائق البحث التاريخية الموجودة داخل العقل العربي يمكن من خلالها لأي باحث
جاد أن يرصدها ليناقشها جملة وتفصيلاً، كما جاءت كثير من التعقيبات غنية
بالملاحظات المنهجية والجوهرية التي كانت أنفع في بابها من كثير من المشاركات
الأساسية وكان منها أنه من المفترض في المؤتمر أن يبدأ من تساؤل محايد حول
طبيعة العلاقة بين الدين والدولة؛ غير أن كثيراً من الأبحاث تبنت فكرة الصراع
منذ وقت مبكر، وهي فكرة دخيلة على تراثنا الإسلامي.
كما أن المؤتمر لم ينطلق من تصور واضح للمفاهيم محاور التساؤل: الدين
هل هو الإسلام، أم النصرانية، أم اليهودية؟ ومن ثم كثر التساؤل من المعلقين:
عن أي دين نتحدث؟ وكذلك مفهوم الدولة والصراع والتوافق.
ذكر أحد الباحثين أن الدولة في العصر الحديث كثيراً ما استغلت الدين
ووظفته لخدمة مصالحها وتحقيق مآربها، لكن متى ما تعارض الدين مع مصالحها
ضحَّت بالدين؛ لأن السلطة في اعتقادها لا تقبل القسمة على اثنين.
لكن السؤال الآن: هل العداء الآن من قِبَل بعض الأنظمة؟ هل لحقيقة أن
الدين في خصومة معها أم لأمر آخر؟
كان ينبغي الإشارة إلى أن الصراع الحالي في الحقيقة ليس مع الدولة بوصفها
دولة بقدر ما هو صراع مع العلمانية من اعتبار أنها عقيدة تحاول أن تتبناها الدولة،
أو تحاول هي أن تسخر الدولة عن طواعية أو عن كره لخدمة مآربها.
ومن هنا يمكن الجزم أن الدولة الإسلامية لم تعرف فكرة الصراع التي عرفتها
أوروبا في عصور الظلام، والتي تمخض عنها فكرة الإقصاء الكلي للدين التي لم
تطبق في أوروبا إلا شذراً ويراد لها أن تشكل الخلفية التطبيقية في بلادنا.(164/125)
متابعات
وجهة نظر: حول ظاهرة أسلمة علم الاجتماع
صلاح الخليفة أحمد الحسن [*]
استطاع علم الاجتماع الغربي بمناهجه وفروضه ونظرياته ومفهوماته
وتصوراته وتفسيراته المناهضة في كثير من جوانبها للعقيدة الإسلامية أن يُنشئ له
امتدادات سرطانية في معظم جامعات العالم الإسلامي، وقد وصل إلى تحقيق كثير
من مقاصده في غيبة الوعي الإسلامي عند القائمين بأمر الجامعات، فتكونت جبهة
عريضة من أعضاء هيئات التدريس من المسلمين تشبعت بمضامينه، وسعت بقوة
إلى الدفاع عنها ونشرها بين الطلاب كمسلَّمات علمية لا يجوز عليها النقض.
وحين جاءت الصحوة الإسلامية إلى الجامعات من خارج أسوارها، وانتقدت
بقوة مقولات علم الاجتماع، ودعت إلى دراسة المجتمع وفق منهجية أصولية قرآنية،
وجدت هذه الدعوة إهمالاً وسخرية وتسفيهاً باعتبار أن (قواعد المنهج في علم
الاجتماع) تدرس الإسلام كغيره من الأديان بوصفه ظاهرة اجتماعية، كما أن
(علم الاجتماع الديني) له منهجية محددة في بيان نشأة الأديان وتطورها ووظائفها
في النسيج الاجتماعي.
وقد رفض بعض الباحثين في العالم الإسلامي مقولات علم الاجتماع الغربي
جملة وتفصيلاً باعتباره مناقضاً للعقيدة الإسلامية. وقد قام أحمد إبراهيم خضر [1]
وهو من أساتذة علم الاجتماع ليبرهن صحة هذا الرأي، وانتهى في كتاباته المتعددة
الموثقة من الناحية العلمية (التي رجع فيها إلى المصادر الأصلية لأساطين علم
الاجتماع الغربيين) إلى أنه لا حاجة بالمسلمين أصلاً إلى علم الاجتماع، وأنه ليس
هناك مسوِّغ موضوعي لبذل أي جهد لاستنقاذ أي علم نافع منه؛ لأنه ببساطة لا
يحوي علماً نافعاً [2] .
وفي العدد (151) من مجلة البيان كتب أحمد إبراهيم خضر مقالاً بعنوان
وجهة نظر: (حول ظاهرة أسلمة العلوم) توصل فيه إلى أن هناك اتجاهات ثلاثة
تؤصل لمشروع أسلمة العلوم:
أ - الاستعانة بالقواعد الفقهية والمنهجية والأصولية وتطبيقاتها في العلوم
الاجتماعية، وعرض نتائج العلوم الاجتماعية على علماء الدين وإقامة جسر بينهما.
ب - يغلب على الاتجاه الثاني صفة السطحية والوصولية.
ج - الاتجاه الثالث تطرق إلى الحد الذي دعا فيه إلى نقد التراث ومراجعة
الدراسات التي بنيت على القرآن والسنة وتجديدها مع استبعاد مفاهيم الحق والباطل
والإيمان والكفر.
ويقرر أحمد إبراهيم خضر في مقاله المذكور بأن هذه الاتجاهات جميعها تعتقد
أن مستجدات العصر قد أحدثت خللاً في الأبنية الاجتماعية، ومشكلات لم تكن
قائمة في الصدر الأول؛ مما يستوجب مواجهتها بالعلوم الاجتماعية العصرية، مع
مراعاة اتساق ما يؤخذ منها مع الكتاب والسنة.
كما يقرر أحمد إبراهيم خضر أن هذا المشروع برمَّته لا يخرج عن كونه
هوى متبعاً، وتبدُّعاً، وتنطعاً، وخروجاً على الصراط المستقيم؛ وذلك لأن
الطرائق في الدين تنقسم إلى ما له أصل في الشريعة وما ليس له أصل فيها. ومن
الأهداف الحقيقية لهذا المشروع إضفاء الشرعية على علوم أوروبية الصنع ليست
حيادية كالعلوم الطبيعية، وإنما ذات موقف خاص من الدين. وينطلق أصحاب هذا
المشروع في سعيهم إلى أسلمة العلوم من المفاهيم والمصطلحات الغربية بالبحث عن
أصول لها في القرآن والسنة ولو تعسفاً، وهم يعملون على تحويل المقولة القديمة
لزكي مبارك إلى واقع ملموس، وهي التي يقول فيها: «قد نزعنا راية الإسلام
من أيدي الجهلة ويقصد بهم علماء الدين وصار إلى أقلامنا المرجع الأول في شرح
أصول الدين» .
وإذا تتبعنا بعض الدراسات التي عملت على أسلمة علم الاجتماع نجد أن فيها
دراسات ذات (نظرة جزئية) لم تستطع الفكاك من أسر علم الاجتماع الغربي، وقد
مثلت عائقاً منهجياً في مضمار أسلمة علم الاجتماع، ويصدق عليها في كثير من
جوانبها ما رآه أحمد إبراهيم خضر حول (أسلمة العلوم) ، كما أن هناك دراسات
ذات (نظرة كلية) قدمت جهوداً جادة ومتعمقة في مضمار أسلمة علم الاجتماع.
ف (أحمد الخشاب) يرى أن علم الاجتماع الإسلامي هو علم تقريري،
وصفي، بنائي، تركيبي، تكاملي، وهو يعتبر فرعاً من فروع علم الاجتماع شأنه
في هذا شأن علم الاجتماع العائلي، وعلم الاجتماع الصناعي، وعلم الاجتماع
التربوي، وعلم الاجتماع الأخلاقي ... إلخ [3] .
وفي كتابه (علم الاجتماع الإسلامي) يقرر (زيدان عبد الباقي) بأن علم
الاجتماع الإسلامي يمثل فرعاً متخصصاً من فروع علم الاجتماع العام. وكذلك
ترى (سامية مصطفى الخشاب) في كتابها (علم الاجتماع الإسلامي) أن علم
الاجتماع الإسلامي يدور في فلك علم الاجتماع العام. وحين حللت الباحثة الدين
اعتمدت في تحليلها على المنظور الغربي الذي يرى أن الدين ظاهرة اجتماعية
مجردة عن أصلها الإلهي [4] . وترى (سامية الخشاب) أن قيام علم الاجتماع
الإسلامي سوف يكشف لنا أن المصادر الإسلامية بما انطوت عليه من مادة علمية
كانت مراجع للنظريات الاجتماعية المعاصرة! !
وفي كتابه: (نحو علم اجتماع إسلامي) يقرر (زكي محمد إسماعيل) تبعية
علم الاجتماع الإسلامي لعلم الاجتماع الغربي من حيث إنه فرع من فروع علم
الاجتماع العام.
وتقيداً (بقواعد المنهج في علم الاجتماع) يردد (زكي محمد إسماعيل)
دعوى الموضوعية ومفهوم العلمية، ويحذِّر من المعيارية وفق مواضعات المدرسة
الفرنسية في علم الاجتماع.
كذلك يتوصل (علي عبد الرازق جلبي) في مؤلفه: (قضايا علم الاجتماع
المعاصر) إلى تسمية علم الاجتماع الإسلامي بـ (علم المجتمعات الإسلامية)
محدداً له نطاقاً جغرافياً معيناً يتمثل في حدود العالم الإسلامي، وهو يرى عدم
وجود أي فروق منهجية بين منهج علم المجتمعات الإسلامية وعلم الاجتماع الغربي.
ويرفض (علي عبد الرازق جلبي) تسمية (علم الاجتماع الإسلامي) بهذا الاسم؛
لأنه انقضى الوقت الذي كان يضفي فيه الباحثون صفات على العلم، مثل قولهم
علم الاجتماع الأمريكي أو الاشتراكي بعد أن أدركوا أن اتباع هذه الطريقة في
تسمية العلم قد تنطوي على تحيز وتمسُّك بقيم وتوجهات لا تستقيم مع موضوعية
المنهج العلمي [5] أما (عبد الباسط محمد حسن) فقد توصل إلى أن علم الاجتماع
الإسلامي يمثل أحد الفروع المنبثقة من علم الاجتماع الديني [6] .
أما (عبد الرؤوف الجرداوي) فيقرر في كتابه (دراسة في علم الاجتماع
الإسلامي: الإسلام وعلم الاجتماع العائلي) أن قيام علم الاجتماع الإسلامي ضرورة
باعتباره فرعاً مستقلاً من فروع علم الاجتماع اعتزازاً من المفكرين العرب،
وتقديراً للفكر والتراث الإسلامي الذي ساهم في حضارة العالم وفي العلوم والمعارف
الإنسانية [7] ؛ وقد تبنى الباحث رؤية علم الاجتماع الغربي في المسائل التي طرحها
عن الأسرة وسمات الظاهرة الدينية كما يسميها. كما اتسم طرحه للمسائل
الاجتماعية التي تناولها من منظور إسلامي بالسطحية دون أن يعقد مقارنات ويجري
تحليلات وصولاً إلى تفسير اجتماعي عميق وفق منظور الإسلام.
وقد ألف (سيد عبد الحميد مرسي) كتاباً بعنوان: (الفرد والمجتمع في الإسلام)
ربط فيه بين بعض آراء العلماء المسلمين الأوائل وبين آراء بعض علماء الاجتماع
الغربي المعاصرين في صورة إسقاطية تلفيقية واضحة.
ونجد أن (محمد أبو القاسم حاج محمد) [8] قد تطرق إلى الحد الذي دعا فيه
إلى محاكمة النصوص الشرعية إلى المنظومة الفكرية الغربية باعتبارها تمثل إطاراً
مرجعياً لكل المفاهيم والتصورات والمبادئ في كل زمان ومكان؛ إذ إن علماء
السلوك الاجتماعي من الغربيين قد وضعوا معايير علمية عامة يقاس بموجبها تأثير
المجال على حالة الإنسان بكل أبعادها العقلية والسلوكية، ولا مجال لأن يرتاب أحد
اليوم في بعض النتائج التطبيقية لهذا الفرع العلمي الهام. وإذا تتبعنا مراحل التطور
في التفكير الإنساني على ضوء فرضيات (جون ديوي) و (آرثر بتلر) فإننا
نستطيع أن نميز خصائص السلوك الفكري الغربي في تلك الآونة بانتمائه إلى
مرحلة الحركة الذاتية (self action) ، وهي مرحلة تتميز خصائصها بمحاولة
الإنسان تفسير كل ظاهرة من ظواهر الكون بمعزل عن غيرها من الظواهر. فلم
يكن الإنسان في تلك المرحلة قد أدرك ما بين ظواهر الكون جميعاً من علاقات.
وقد أطلق رجال علم الأجناس على تلك المرحلة: الإحيائية (animistic
stage) ، وبغضِّ النظر عن حقيقة التطورية أو بطلانها؛ فإن المهم أن التطورية
بمدارسها المختلفة غير الداروينية الآن هي جزء في الدماغ المعاصر وتتضمن
إسقاطاته النظرية على كل المواضيع بما فيها آيات الكتاب [9] .
ويرى (طه جابر العلواني) [10] أن هذه الأمة تميزت بأنها أمة الجمع بين
القراءتين؛ فأي انحراف عن منهجية الجمع بين القراءتين سواء بإهمال القراءتين
والانصراف إلى منهجية أخرى، أو بالاقتصار على إحداهما سيؤدي إلى هلاك
محقق وكارثة مؤكدة. ومن أبرز من أعادوا بناء هذه (المنهجية) من المعاصرين
وبلورتها في إطار السقف المعرفي الراهن (محمد أبو القاسم حاج حمد) حيث
شرحها وأوضحها وبنى عليها كثيراً من الأفكار الهامة في كتابه: (الإسلامية
العالمية الثانية) . وعلى هذه القاعدة المتينة تقوم عملية (إسلامية المعرفة) وبناء
نظرية التطور الحضاري الإسلامي في مستواها الراهن [11] .
إذن فإن (طه جابر العلواني) يثمن جهود (محمد أبو القاسم حاج حمد)
ويراه من الممثلين الحقيقيين لأسلمة العلوم والرواد المعاصرين في هذا الصدد؛
على الرغم من دعوته الصريحة إلى محاكمة النصوص الشرعية إلى المنظومة
الفكرية الغربية والنتائج التلفيقية التي يتوصل إليها من جراء منهجيته (غير
القرآنية) هذه.
ويقرر (طه جابر العلواني) في كتابه (إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات
والعقبات) أن الفرق جد كبير بين التلفيق الذي هو محاولة تفسير الإسلام من خلال
المقولات الفكرية الغربية، وانتقاء ما ينسجم من تراثه مع طروحاتها المقررة
مسبقاً، والتوفيق الذي يخضع لمقياس حضاري واضح يمكن من الأخذ والترك في
ضوء منظومة فكرية واضحة الضوابط والمقاييس. وهذه العملية تبدو خطورتها في
ممارسة عملية التغريب وفق لغة تدَّعي قراءتها للتراث وتدعي فهمه والوعي على
سياقه التاريخي، وتطبيق مناهج غربية حديثة على الإسلام ومصادره. والحقيقة
أنه لا بد من بيان الفساد المنهجي لهذه الدراسات التلفيقية رغم ما يبدو عليها في
الظاهر من رصانة ومنهجية؛ لأنها في الحقيقة لا تملك من المنهج إلا صورته
وشكليته وخداعه، لا أصوله وجوهره، كما أنها تتخطى مجموعة من التناقضات
الأساسية بين الإطار المرجعي الإسلامي من ناحية، والإطار المرجعي الغربي من
ناحية أخرى؛ ولذلك فهي لا تصلح ابتداء للدراسة، كما أنها تهمل في الوقت نفسه
أصولاً منهجية استقرت للإنتاج الفكري والمعرفي في التراث الفكري الإسلامي،
مثل علم أصول الفقه، وأصول وآداب البحث والمناظرة ... إلخ [12] .
إذا كان رأي (طه جابر العلواني) كذلك فكيف قام بالتقديم لكتاب (الإسلامية
العالمية الثانية) مع تقريظه الشديد له وهو مضاد لرؤيته التي طرحناها آنفاً في
أسلمة العلوم؟
وقد أصاب (طه جابر العلواني) كبد الحقيقة حين قال: «فأخطاؤنا نحن
الذين نذرنا أنفسنا لحمل القضية والقيام على شأنها، هي من أشد المعوقات إضراراً
بها. ومن أبرز الأخطاء الذاتية التي يمكن أن نقع فيها وأهمها: عدم الوصول إلى
رؤية مشتركة وقاعدة فكرية واحدة في المنطلقات والأهداف، وهو ما يؤدي إلى
اختلاف الأطروحات في مبادئ القضية ومقاصدها من جانب القائمين عليها، وهو
أمر يجب الوعي به وبحقيقته وحدوده؛ ذلك لأن الأطروحات المتناقضة والمختلفة
في هذه المجالات، قد تعني عدم وضوح الفكرة بالشكل الكافي لدى أصحابها ...
وإذا كان تنوع الخطط، والوسائل الاجتهادية قد ينشأ عن تنوع القائمين على القضية
وخلفياتهم الثقافية وتنوع أجهزتها إلى حد ما؛ فإن الاختلاف في المبادئ والمقاصد
يؤدي إلى اهتزاز القضية قبل رسوخها والعجز عن توصيلها، وإثارة الاهتمام
وروح التعاون لدى الآخرين [13] .
وإذا تناولنا (النظرة الكلية) في علم الاجتماع الإسلامي فنجدها تعي في
طرحها أن علم الاجتماع الغربي بشقيه الرأسمالي والماركسي ينطلق من مذهبين
رئيسيين بينهما كثير من (الأشباه والنظائر) في الخصائص والمعايير والمنطلقات.
كما أن للإسلام مذهبيته الربانية ذات الخصائص والمعايير والمنطلقات التي
تختلف تماماً عن الرأسمالية والماركسية.
وتستمد المذهبية الإسلامية رؤيتها الشاملة للكون والمجتمع والإنسان من
الكتاب والسنة المطهرة، ومن بقية مصادر الشريعة الإسلامية رؤيةً وتحليلاً
وتفسيراً. فقد حدد الإسلام لمعتنقيه القيم والمعايير التي تنظم حركة المجتمع في
مجال الأسرة، والتنشئة الاجتماعية، والتربية، والعلاقات الاجتماعية، والاقتصاد،
والسياسة، والقانون، والضبط الاجتماعي، وغير ذلك من نظم المجتمع. وقد
اتخذ من الوسائل والضوابط ما يجعل هذه القيم والمعايير تطبق في الواقع
الاجتماعي. ألا يدل ذلك على أن للإسلام مذهبيته الخاصة في الاجتماع الإنساني؟
أليس لجميع ما ذكرناه من قيم ومعايير أصولاً في الشريعة الإسلامية؟
والمذهبية الإسلامية في علم الاجتماع لها مفاهيم ومصطلحات لا تجدها في أدبيات
علم الاجتماع الغربي إطلاقاً منها: الكفر الإيمان النفاق البدعة الاستخلاف التسخير
الشرك الشورى الوسطية السنن الربانية حتمية الميعاد حدود الله التوبة التقوى
الحلال الحرام فرض عين فرض كفاية فسوق فطرة عمل صالح المؤلفة قلوبهم
الآخرة استغفار أمة الدعوة أمة الإجابة أهل الذمة أهل الحل والعقد أهل السنة
والجماعة الطاغوت الهجرة الجهاد العفة ... إلخ.
والمذهبية الإسلامية في علم الاجتماع لها جوانب تطبيقية؛ إذ تعمل على
دراسة المشاكل الاجتماعية، والانحرافات والبدع العقدية، ومعوقات الدعوة
الإسلامية، والأمراض الاجتماعية وفق المنظور الإسلامي على نطاق الأمة
الإسلامية وعلى النطاق العالمي حتى تشارك بفعالية في عملية البلاغ المبين للدعوة
الإسلامية.
والمذهبية الإسلامية بعبارات أستاذنا (أحمد إبراهيم خضر) تعمل على
مواجهة تغيرات العصر بحلول مستنبطة من الخطوط العريضة للشريعة، أو بإقامة
مصالح الدنيا بالرجوع إلى التعاليم المتضمنة في القواعد الكلية للشريعة، وإنزال
الوقائع المتجددة التي تعرض الأفراد والجماعات عليها وفحص ما يترتب عليها من
المصالح والمفاسد [14] .
فهذا الذي ذكرناه أخيراً عن المذهبية الإسلامية في علم الاجتماع يمثل مفهوماً
كلياً لم يتطرق إليه مقال (أحمد إبراهيم خضر) . ونحسب أن هذا المفهوم الكلي
يتمثل في كتابات بعض المتخصصين في علم الاجتماع أمثال: محمد المبارك
(نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع) ، وبشارات علي (الفلسفة الاجتماعية
الإسلامية) ، وعلي شريعتي (المفكر ومسؤوليته في المجتمع) ، ومصطفى محمد
حسنين (المدخل إلى المدرسة الإسلامية في علم الاجتماع) ، وإلياس با يونس
وفريد أحمد (مقدمة في علم الاجتماع الإسلامي) ، وأحمد المختاري (نحو علم
اجتماع إسلامي) ، ومحمد محمد إمزيان (منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية
والمعيارية) ، ومنصور زويد المطيري (الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع:
الدواعي والإمكان) ، وعبد اللاوي محمد (إشكالية العلوم الاجتماعية في العالم
الإسلامي: وضعيتها وآفاقها) ، والتيجاني مصطفى محمد صالح (لماذا الصياغة
الإسلامية لعلم الاجتماع) ، وطارق الصادق عبد السلام (الضبط الاجتماعي في
الإسلام) .
وكما تفضل (أحمد إبراهيم خضر) فإن العلوم الإنسانية تشتمل على الحق
والباطل، ويلتبس فيها الحق بالباطل. فالمذهبية الإسلامية في علم الاجتماع ذات
النظرة الكلية لها موقفها الواضح في بيان نقائص قواعد المنهج في علم الاجتماع
الغربي. وتعمل على وزن مقولات هذا العلم بميزان الكتاب والسنة لتميز الخبيث
من الطيب فتحذر من الخبيث وتكشف عواره.
ولها أن تستفيد من الطيب باعتبار الحضارة الغربية متتالية حضارية تتسم بما
تتسم به من سلبيات وإيجابيات [15] .
ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية القائل:» والمقصود أن هذه الأمة ولله الحمد
لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده؛ وهم لما هداهم
الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأياً ورواية ... « [16] . ويقول في
معرض حديثه عن المنطق:» وأيضاً فإن صناعة المنطق وضعها معلمهم الأول:
أرسطو صاحب التعاليم التي لمبتدعة الصابئة يزن بها ما كان هو وأمثاله يتكلمون
فيه عن حكمتهم وفلسفتهم التي هي غاية كمالهم. وهي قسمان: نظرية، وعملية.
فأصبحت النظرية وهي المدخل إلى الحق هي الأمور الحسابية والرياضية. وأما
العملية: فإصلاح الخلق والمنزل والمدينة. ولا ريب أن في ذلك من أنواع العلوم
والأعمال التي يتميزون بها عن جهال بني آدم الذين ليس لهم كتاب منزل ولا نبي
مرسل ما يستحقون به التقدم على ذلك، وفيه من منفعة صلاح الدنيا وعمارتها ما
هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل.
ومنها أيضاً من قول الحق واتباعه والأمر بالعدل والنهي عن الفساد: ما هو
داخل في ضمن ما جاءت به الرسل « [17] .
ومن هنا لا يعارض (ابن تيمية) الصياغة العربية لعلوم الآخرين والاستفادة
منها فيقول:» لهذا تجد الذين اتصلت إليهم علوم الأوائل، فصاغوها بالصيغة
العربية بعقول المسلمين جاء فيها من الكمال والتخفيف والإحاطة والاختصار ما لا
يوجد في كلام الأوائل، وإن كان في هؤلاء المتأخرين من فيه نفاق وضلال (ولكن)
عادت عليهم في الجملة بركة ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من
جوامع الكلم، وما أوتيته أمته من العلم والبيان الذي لم يشركها فيه أحد « [18] .
والمطلوب فيمن يتصدى لأسلمة العلوم أن يجتهد وسع طاقته في اكتساب
العلوم الشرعية، وفهم ما تقصد إليه العلوم الاجتماعية الغربية.
ولا مناص من اجتهاد جماعي شوري، يجمع إلى المجتهدين الفقهاءِ جماعةً
من العدول أولي علم بشؤون الاجتماع والاقتصاد. ويقول ابن تيمية رحمه الله
تعالى:» كنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: إذا
أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّونى في اليمِّ؛ فوالله لئن قدر الله عليّ
ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين ... ففعلوا به ذلك. فقال الله له: ما حملك
على ما فعلت؟ ... قال: خشيتك ... فغفر له.
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرِّيَ، بل اعتقد أنه لا يعاد.
وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن
يعاقبه، فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول
صلى الله عليه وسلم أوْلى بالمغفرة « [19] .
وقد توافرت نصوص الكتاب والسنة على أن الله عز وجل لا يقبل من
الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وموافقاً للمنهاج النبوي، ولا بد لمن
يتصدى لأسلمة العلوم أن يلاحظ ذلك.
وإننا نأمل أن تتضافر جهود المشتغلين بتأصيل علم الاجتماع وفق رؤية
منهجية معرفية قرآنية واضحة [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2) .
__________
(1) دكتوراه في علم الاجتماع الإسلامي - جامعة أم درمان الإسلامية 1421هـ - 2001م (1) أحمد إبراهيم عبد الرحمن خضر: حصل على درجة الماجستير في علم الاجتماع من كلية الآداب بجامعة القاهرة، وحصل على الدكتوراه في علم الاجتماع العسكري من الولايات المتحدة الأمريكية - وله عدة مؤلفات منها: علم الاجتماع العسكري علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام.
(2) د إبراهيم عبد الرحمن رجب مجلة المسلم المعاصر العدد 80 منهج التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية ص 26، 27.
(3) د أحمد الخشاب، التفكير الاجتماعي، ص 168 وما بعدها.
(4) محمد محمد إمزيان، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، ص 230.
(5) د على عبد الرازق جلبي، قضايا علم الاجتماع المعاصر، ص 253.
(6) د عبد الباسط محمد حسن، اتحاد الجامعات العربية، الندوة الأولى للدراسات الإسلامية، جامعة أم درمان الإسلامية، علم الاجتماع الإسلامي ووضعه في الجامعات العربية، ص 792.
(7) د عبد الرؤوف الجرداوي دراسته في علم الاجتماع الإسلامي: الإسلام وعلم الاجتماع العائلي، ص 11.
(8) محمد أبو القاسم حاج حمد: سوداني، عمل مستشاراً للرئيس الإريتري، وأنشأ حزباً سياسياً وفقاً لقانون التوالي بالسودان، ثم عمل على حله، له عدة مؤلفات منها: (الإسلامية العالمية الثانية) ، وقد قدمت رؤية نقدية لهذا الكتاب نشرت بمجلة البيان العدد 151.
(9) محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، 2/153، 2/486، 2/491.
(10) اد طه جابر العلواني: كان رئيساً للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن ثم انتقل إلى رئاسة جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بولاية فرجينيا بأمريكا.
(11) اد طه جابر العلواني، ابن تيمية وإسلامية المعرفة، ص 22- 23.
(12) اد طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات والعقبات، ص 71- 72.
(13) المرجع السابق، ص 92، 93، 94.
(14) د أحمد إبراهيم خضر، مجلة البيان العدد 151، وجهة نظر حول ظاهرة أسلمة العلوم،
ص 126.
(15) د عبد الوهاب المسيري، مجلة إسلامية المعرفة، العدد الخامس، الفكر الغربي، شروع رؤية نقدية، ص 131.
(16) الفتاوى، 9/ 26.
(17) الفتاوى، 9/ 26.
(18) الفتاوى، 9/ 26.
(19) الفتاوى 3/231.(164/131)
المنتدى الإسلامي
تدوين التجارب
محمد اللعبون
اليوميات، المذكرات، السير الذاتية، نماذج من طرائق تدوين التاريخ،
ونقل التجارب، وتبادل الخبرات؛ لها كثير من المزايا والخصائص، والآثار
العلمية والنفسية.
إلا أن الملاحظ قلة وجود تلك النماذج في كتابات العلماء والدعاة المسلمين
المعاصرين مقارنة بغيرهم رغم ما تحفل به حياتهم من تجارب، وما في أعمالهم
من إنجازات وإخفاقات، وما عاصروه من أحداث وأشخاص، ورغم حاجة الأجيال
اللاحقة لتراكم الخبرات.
وهنا نتساءل عن السبب في العزوف عن الكتابة في هذا المجال، والذي أدى
إلى قلة الإنتاج:
ألم يذكر الله لنا في كتابه الكريم نماذج نستفيد منها من أعمال الرسل وحياتهم
عليهم الصلاة والسلام وبعض الصالحين؟
ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث أصحابه كثيراً: «كان فيمَنْ
قبلكم» ؟
بل ألم يحدِّثهم صلى الله عليه وسلم عن الأحداث التي مرت به قبل البعثة؟
ألم يحدِّثنا الصدِّيق رضي الله عنه عن الهجرة، وما فيها من الأحداث
والعظات؟
ألم نأخذ عشرات الفوائد والدروس والعبر من رواية كعب بن مالك رضي الله
عنه لقصة تخلُّفه عن غزوة تبوك؟
وكذا رواية سلمان الفارسي رضي الله عنه وقصة رحلته من الضلال إلى
الهدى؟
وبمراجعة سريعة لكتب المناقب والسير والتراجم والرحلات نقف على شواهد
كثيرة.
إذن لماذا نحجم عن هذا الميدان؟
لا شك أن كتابة المذكرات أو السيرة الذاتية، ونحوها تحفُّ بها بعض
الملابسات والإشكاليات الشرعية والذاتية والاجتماعية؛ إلا أن هناك مخارج كثيرة
وحلولاً عديدة، لكل تلك الإشكاليات. وإذا وصلنا إلى قناعة بأن التدوين حق من
حقوق الأمة، وعمل من أعمال الدعوة والإصلاح، وسهم في ترشيد المسيرة
وتطويرها، وعلم ينتفع به؛ فلا ريب أننا سنرى نتائج مشجعة ومبهجة في التنفيذ،
وفي الأسلوب والمضمون. ولكن متى ذلك؟(164/138)
المنتدى
كثرة الإمساس تضعف الإحساس
أحمد الخرجي
هذا المثل له حظ كبير من الواقع، ولا يقتصر الأمر هنا على الجانب الحسي
فحسب، بل للجانب الفكري والنظري من ذلك نصيب؛ فكثرة الاحتكاك بالفكرة
وملامسة الذهن والوجدان لها يورث اعتياداً وتأقلماً عليها. وما أود الإشارة إليه هنا
هو التحذير من استغلال وسائل الإعلام لتخفيف رفض الناس لبعض الأفكار،
وتهيئة الجو لتقبلها شيئاً فشيئاً. وسائل الإعلام اليوم بأنواعها المختلفة أضحت
جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، يقرؤها ويسمعها ويراها المتعلم وغيره، ولن تجد
وسيلة لطرح الأفكار ونشرها أسرع وأوصل من وسائل الإعلام، وهنا مكمن
الخطر؛ فعندما تنتشر بعض الأفكار وتطرح بشكل متكرر تضعف العاطفة الدينية
تجاهها، وربما أدت في النهاية إلى تقبلها أو على الأقل عدم الرفض لها، وتأمل
الواقع تجد بعض الأفكار المرفوضة تماماً أصبحت تطرح في المجالس كما يطرح
أي موضوع دون أدنى رفض أو اعتراض! وهي تتلون تلوناً عجيباً في طرحها،
فتارة بصورة خبر محض، بل قد تطرح أحياناً مشوبة بشيء من الإنكار أو
الاستهجان، وأذكر هنا بعض الصور التي نراها خصوصاً في الصحف:
1 - طرح صور النصارى والقسس والباباوات وأخبارهم، وإظهار
الاحتفالات بأعياد الميلاد ونحوها.
2 - طرح بعض الأفكار المنحرفة مثل العلمانية والاعتزال والحداثة
ونحوها، وهذه تطرح أحياناً بصورة حوار عن هذا المذهب، وأحياناً عن طريق
مقابلة بعض أصحابه.
3 - إذابة وتمييع عقيدة الولاء والبراء بإبراز الكفار ونحوهم والإشادة بهم.
4 - وللجانب الفني من ذلك نصيب لا يخفى.(164/139)
المنتدى
أيها الشيشان يا عطراً شذي
عبد الرحمن بن عبد الهادي العمري
أيها الشيشان يا عطراً شذيْ ... فاحت الأرجاء بالدم الزكيْ
اكتبي سر إباء شامخ ... ما ارتضى الذل ولا الشيء الدنيْ
اكتبي سر بطولات بها ... كتبٌ حفلت وأخرى ترتويْ
قولي للأكوان والدنيا معاً ... رغم جرحي إنَّ روحي تنتشيْ
تنتشي الروح بإيمان سُقي ... من مياه الذكر العذب النقيْ
أيها الروس أيا رمز الشَقا ... كم بصرتم لكن القلب عميْ
كم دخلتم ثم عدتم من لظى ... قد أُهنتم مثلما لص بغيْ
إنني الشيشان عدتُ للتقى ... ذاك نهجي لست عنه منتحيْ
كم قطفت منه أثمارَ المنى ... أتحف الدهر من النهجِ البهيْ
سأعود راشفاً ماءَ الهدى ... أغسل الأوطانَ من رجسِ الشقيْ
في (الكرملن) سوف تعلو كلمةٌ ... كلمة التكبير والدنيا تعيْ
سوف أمحو كل حمراء طغت ... وسيأتي بعدها الدرب السويْ
ما أبالي لا أبالي بالذي ... يجعل الضعف إلى الحال القويْ
إنني يا قوم والأمر يقينٌ ... أن بعد الليل صبحاً سرمديْ
أيها الروس ومن شابههم ... آن صبحٌ دائمٌ لا ينتهيْ(164/139)
المنتدى
صرخة العفاف
عبد الوهاب حسين الأمير
من هناك.. من بين الموت وأنقاض الحياة، من الأرض المسلمة الأبية، من
الشيشان، صرخت بي.. بك.. بنا.. بكل مسلم غيور، صرخت وملء صوتها
إباء الأرض التي تنتمي إليها وكبرياؤها، صرخت قائلة:
وأخاطب فيك الإنسانا ... بل ألهب منك الوجدانا
أفؤادك حيٌّ أنشده ... أم أنسج صوتي أكفانا؟
أمي قد رفعت أيديها ... لم تنزل إلا جثمانا
وأبي حملوه بلا نعش ... كم عانى منهم كم عانى
وأخي كم يحمل مديته ... ليقاوم قصفاً.. نيراناً
وأنا.. كم نزفت أحداقي ... من رعبٍ حلَّ فما بانا
وشريدٌ ينصب خيمته ... فيقضُّ القصف الأركانا
قد فرت منه نظرته ... عيناه.. ينبش جدرانا
يبحث عن دار تعرفه ... صارت قيعاناً.. قيعانا
وصبيٌ يمسح دمعته ... ما جاوز عشراً.. جوعانا
عرياناً والثلج يدثره ... مشدوهاً يمضغ حرمانا
ودموع ترسم مهجته ... في الدرب هموماً أحزانا
صيحات تزرع محنته ... لكن لم تحصد آذانا
أفؤادك حيٌ يبصره ... أم صار الثلج الأكفانا؟
إنسانٌ أبغي يسمعني ... وأظنك تحوي إنسانا
لولاك ولولا محنتنا ... ما كنت طلبت الإحسانا(164/140)
المنتدى
يا حادي الرَّكبْ
سعود بن حامد الصاعدي
ما هزَّ قلبيَ لا وَجْدٌ ولا غزلُ ... ولا رمته بألحاظ الهوى مُقَلُ
فدع هواها وصغ للمجد قافية ... فالمجد يطلبه الضرغامة البطلُ
وانقش لنفسك في الأيام محمدة ... إنَّ المحامد في درب الهدى سبلُ
لكنَّ في أضلعي شوقاً أكابده ... وليس تسعف إلا الشاعر الجملُ
يا حادي الرّكبْ في درب العلا شرفت ... بك المعالي ودرب الدين متّصلُ
سِرْ في رحابٍ إلى الرحمن ما بقيت ... بك السنون وما أبقى لك الأجلُ
سِرْ واطّرح كل أرزاء الهوى فلنا ... يلوح في سبسب الديجورة الأملُ
وإنْ تبدَّت لك الأضواء في بلدٍ ... به الحطيم فقل: يكفيك يا جملُ
وإن رأيت شعاع البيت مؤتلقاً ... يفيض بالنور والأرواح تبتهلُ
يا حادي الركب ما كلت عزائمنا ... ولا تولَّت بنا الأهواء والمللُ
فليس إلا هدى الرحمن غايتنا ... وليس إلا الذي قالت لنا الرسلُ
جئنا نلبّي نداء الحق تسبقنا ... قلوبنا فهي للرحمن تمتثلُ
يا قاصد البيتِ طب نفساً برؤيته ... ويا حجيج بلاد الله فابتهلوا
تعطّلت لغة الأقوالِ فانهمري ... بالدمع عند مقام الركن يا مقلُ(164/140)
المنتدى
كل منا على ثغر
محمد صالح القطيشي
يفهم كثير من المسلمين أن العمل للإسلام، وإعلاء شأنه في ميدان الحياة،
ودعوة الناس إليه كل ذلك مقصور على الدعاة أو العلماء أو أرباب المناصب
والولايات دون غيرهم من أفراد الناس؛ مما أدى إلى تعطيل دائرة العمل وبث
روح التواكل حتى آل الأمر بالمسلمين إلى ما نرى ونشاهد، في حين أن المجتمع
الأول الذي رفع الإسلام لأول مرة لم يكن فهمه للمسؤولية بمثل فهم أهل زماننا، بل
كان المجتمع بأسره يشارك في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام؛ فهذا يسهم في نشر
العلم وتفقيه الناس في دينهم، وآخر يشارك في ميدان القتال مدافعاً ومناضلاً،
وثالث يعمل مراسلاً يحمل رسائل النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمها إلى من
أرسلت إليه يداً بيدٍ، وهذه قائمة على تربية أبنائها وتهذيبهم لتخرجهم في يوم ما
أشاوس يقارعون البغي ويكسرون شوكته بالحجة والبيان أو بالسيف والسنان،
وهكذا كل في ميدانه يبذل فيه وسعه وطاقته، والجميع يصبُّون في مجرى واحد هو
العمل للإسلام حتى أشرقت أنوار الرسالة، وعمَّت أرجاء المعمورة في مدة قصيرة
بالنسبة لحجم العمل وضخامته، رغم قلة عدد المجتمع آنذاك بالنسبة لمجتعمات
المسلمين في هذه الأيام.
إننا حين نفهم أن العمل للإسلام ليس مقصوراً على الدعاة مثلاً، ولا على
العلماء، ولا على أجهزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحسب دون بقية
الناس، بل كل من هؤلاء له دوره وعليه مسؤوليته حتى أطفال الأمة وشيوخها
مطالبون بأداء دورهم على قدر استطاعتهم ووسعهم وليسوا هم خارج نطاق العمل،
إننا حين نفهم ذلك بهذا الفهم ثم نبادر بالعمل على مقتضاه، فلنعلم أننا بدأنا خطوة
السير بعد وقت طويل من التوقف، وإذا بدأنا بالخطوة فقد وصلنا إلى الهدف بإذن
الله تعالى.
إنني أطالب أفراد الأمة عامة على جميع مستوياتهم بأن يبعثوا روح العمل في
قلوب الأمة جميعاً، ويرفعوا الطموح، ويلهبوا المشاعر، ويؤازر بعضهم بعضاً
حتى ينخفض مستوى العجز والكسل والتواكل؛ ومن ثم تبدأ الفاعلية تحيا بعد
الذبول، ويخضرُّ ورقها وتُجنى ثمارها يانعة بإذن الله تعالى.
أسأل الله - تعالى - أن يقر عيوننا بنصر عاجل للإسلام والمسلمين.(164/141)
المنتدى
ردود
* الأخ: ساير بن هليل المسباح، الأخت أم ياسر: نشكر لكما تواصلكما
الكريم مع المجلة، كما نشكر لكما حرصكما على إبداء الملاحظات والمقترحات،
سائلين الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى.
* الأخوين: أحمد علي ممادي، سعاي نور الدين: نرجو التوجه بالأسئلة
المرسلة إلى مجلة البيان إلى جهات الفتوى المختصة، بارك الله فيكم وجزاكم خيراً.
* الأخ: صاحب مشاركة: العالم الإسلامي ومشكلات التبعية، نرجو التكرم
بإفادتنا باسمكم.
* الإخوة: علي جبريل أمين، أحمد بن صالح السديس، محمد علي شماخ،
محمد مكين عبد العليم صافي، يوسف بن عبد الرحمن المحمود، نجاح عبد القادر
سرور، عبد الرزاق المبارك، سامي بن محمد العبود، موسى شداد الطارقي،
محمود البنغالي، مدى الفاتح، محمد بوراس، قاسم بن علي قبعان العصيمي:
وصلتنا مشاركاتكم، جزاكم الله خيراً، ونفيدكم بإجازتها للنشر.
* الإخوة: عبد الله بن سليمان العتيق، يحيى الغامدي، عاطف عبد الهادي،
أبشر خليف علمي، عبد الله العزام المطيري، موسى بن راجح الرحيلي: نشكركم
على تواصلكم الكريم مع المجلة، ونفيدكم بأن مشاركاتكم مجازة للنشر في المنتدى.
* الإخوة والأخوات: جبران علي، عبد الله بن شبيب الدوسري،
عبد الوهاب الزميلي، عبد الرحمن الحكامي، محمد المصلح، أحمد عبد الله،
عبد الله بن مبروك الصيعري، أسعد التهامي، نجوى الدمياطي، رقية محمد
الكريواء: نرجو التكرم بإفادة المجلة بعناوين مراسلة لكم، وجزاكم الله
خيراً.(164/142)
المنتدى
من رسائل القر اء
... ... ... ... الحسين أراج - المملكة المغربية
إلى الإخوة المسؤولين عن مجلة البيان الغراء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسعدني أن أشكركم جزيل الشكر على مجلتكم البيان الغراء التي يشرفني أن
أكون أحد قرائها المخلصين الذين ينتظرونها بفارغ الصبر رأس كل شهر عربي؛
وذلك لأنها مجلة إسلامية خالصة خالية من البدع والضلالات، وأتمنى لها اهتماماً
أكبر بالعلم الشرعي حتى تكون مدرسة متميزة يجد فيها القارئ ما يحتاج إليه وما
ينفعه في دينه ودنياه.
إنني أيها الإخوة الكرام من حفظة القرآن الكريم والحمد لله، لكن كان حفظنا
بطريقة تقليدية ويمكنني أن أسميها متخلفة؛ وذلك لأننا اعتمدنا في الحفظ على
القراءة الجماعية دون قواعد القراءة ودون تدبر وخشوع، كما كنا نقرؤه جماعة عند
الموتى في المقبرة وفي بيوتهم، ثم إننا حفظنا معه البردة والهمزية للبوصيري،
وكان حفظهما إجبارياً، وكنا نقرأ حزباً من القرآن بعد المغرب وحزباً بعد الصبح
جماعة، وكذلك البردة بعد المغرب والهمزية في الصباح جماعة وجهراً، إلى أن
منّ الله عليَّ بالابتعاد عن هذه البدع والضلالات، وقد رأيت قبل يومين كتاباً من
كتب المنتدى على صفحات مجلة المجتمع، وأحسست من خلال عنوانه أنه مفيد إن
شاء الله، وهو «حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال» .
ألتمس من مكتب المجلة أن يزودني به فإنني في حاجة إليه، كما ألتمس منه
أن يزودني بكتب المنتدى قدر الإمكان، وللإشارة فقد اقتنيت كتاباً واحداً من كتب
المنتدى وهو: «حمّى سنة 2000» وهو الكتاب الوحيد الذي وصلنا هنا. أتمنى
لكم جميعاً التوفيق والنجاح.(164/142)
الورقة الأخيرة
ملتزمة الفتح
د. محمد بن ظافر الشهري
يشهد التاريخ بأن الترف والصلاح لا يكادان يجتمعان، وإذا اجتمعا فلا يلبث
أحدهما أن يغلب الآخر؛ فهذا عيش الأنبياء وهم صفوة البشر كان كفافاً إلا ما ندر.
وهذا سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم كان شأنه مع الدنيا أن يقول: «اللهم ارزق
آل محمد قوتاً» [1] . وربما ظن بعضنا أن الترف قرين الشرف، وليس كذلك؛
فأشرف الناس هم الأنبياء، وخيرهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكُ من
المترفين.
وإذا علمنا أن الأفراد لَبِناتٌ في بناء الأمة الكبيرة، وأن الجِدَّ والجِدَةَ ليسا على
وفاق؛ فسوف ندرك مراد أبي أمامة رضي الله عنه حين قال: «لقد فتح الفتوح
قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة إنما كانت حليتهم العَلابيّ والآنك
والحديد» [2] .
إننا معاشرَ المصنَّفين في عداد الملتزمين بالدين ربما أتى علينا حينٌ من الدهر
يغلب عليه الشظف فتكون القلوب آنذاك مولعة بالآخرة وما يصلحها من تحري
السنن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأنس بالخير وأهله والنفرة
الشديدة من الباطل ودعاته. وربما فُتحت علينا بعد ذلك فما نشعر إلا وقد ضعف
تعلقنا بالآخرة وعظم تنافسنا على الدنيا، فنتكاسل عن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ونفتر عن تعاهد السنن، بَلْهَ تحريها، ونجترئ على المكروهات ثم
المخالفات، فتبدو إذ ذاك مظاهر التحوير والتغيير جلية في مظهر ذَكَرنا، وحجاب
أُنثَانا، وشَعْر ابننا، وثوب ابنتنا، ونغمة هاتفنا، ومكان أحدنا من الصفوف في
المسجد؛ إلى غير ذلك من المظاهر المؤلمة التي تنتشر فينا انتشار النار في الهشيم.
إننا وحالنا هذه ندرك أننا نهدم ما بنيناه قبل زمن «الفتح» . وحتى نجمع
بين الإبقاء على الترف ومظاهره، وحفظ ماء وجوهنا أمام ذواتنا فلا نكون [كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] (النحل: 92) ، فإننا نكثر الدندنة حول
ضرورة تجاوز «الشكليات» ، ونطالب بالبحث في عظائم الأمور التي تكفل
انتشال الأمَّة مما آلت إليه! فيحلو لنا في هذا السياق أن نُنَظِّر للدعوة التي قد نعيش
على هامشها، ونتهرب من الخوض في المخالفات التي نتلبس بها وأهلونا. وإننا
نسرف في الحديث عن الغزو الفكري وخطورته، ولكنا نتجنب الإشارة إلى آثاره
التي لم نسلم منها! وربما نتحدث عن ضرورة «أسلمة» الإعلام في العالم
الإسلامي، ولَمَّا نفلح في تطهير دورنا من سهامه المسمومة!
إن في قصة تخلُّف كعب بن مالك رضي الله عنه لعبرة لنا معاشر المترفين،
ومن فقهه رضي الله عنه أنه قال بعد توبة الله عليه: «يا رسول الله! إن من توبتي
أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم» [3] . ولست
هنا أدعو إلى الزهد؛ فهو خلق فريد لا يجيد الدعوة إليه إلا من كان من أهله؛
ولكنها دعوة إلى عدم الإيغال في طريق سهل محفوف بما تشتهيه الأنفس؛ فإننا كلما
أوْغلنا فيه أَلِفَته أنفسنا؛ وعسر عليها العود إلى طريق الغرباء الذي ارتضيناه من
قبل، وعاهدنا الله على المضي فيه حتى النهاية.
__________
(1) صحيح البخاري، ح/ 6460.
(2) صحيح البخاري، ح/ 2909.
(3) صحيح البخاري، ح/ 4418.(164/143)
جمادى الأولى - 1422هـ
أغسطس - 2001م
(السنة: 16)(165/)
كلمة
منظمة شنغهاي حرب جديدة على الإسلام
عُقد في الشهر الماضي اجتماع لمنظمة (دول شنغهاي) التي تضم ست دول
هي: (روسيا، والصين، وكازاخستان، وطاجكستان، وقيرغستان،
وأوزبكستان) . وعلى الرغم من أن هذه المنظمة أُسست بغرض التحالف الاقتصادي
والسياسي، ومواجهة الهيمنة الأمريكية، إلا أن الاجتماع الأخير غلب عليه:
(مواجهة التطرف الديني في آسيا الوسطى!) ، والقضاء على الحركات الإسلامية
التي بدأت تتصاعد بشكل لافت للنظر.
إن الجامع المشترك بين هذه الدول هو مواجهة الحركات الإسلامية؛ فروسيا
تسحق المستضعفين في الشيشان وداغستان، والصين تضيق الخناق على المسلمين
الإيجور في إقليم (سيكينجانج) غرب الصين، وطاجكستان شنت خلال السنوات
الخمس الماضية حرب إبادة للاتجاهات الإسلامية، وأوزبكستان - التي تشهد أقوى
صحوة إسلامية في المنطقة - تمارس أقسى أساليب القمع والملاحقة للدعاة
والخطباء والمصلحين، وكازاخستان وقيرغستان تضيقان الخناق على الدعاة
والجمعيات الإسلامية.
ولهذا اتفقت هذه الدول على تشكيل وحدة (مكافحة إرهاب إقليمية) مقرها في
العاصمة القيرغيزية: (بيشكيك) ، وتعاهدوا على وقف المد الإسلامي والتضييق
عليه، ومحاصرة أفغانستان وعزلها، حتى لا ينتشر الداء الأصولي في
المنطقة..! !
إن المنطقة مقبلة على مرحلة خطيرة من الحرب على الإسلام وأهله، وهذا
التواطؤ الدولي في آسيا الوسطى حلقة من صراع قديم شن فيه الشيوعيون أشد
أنواع الإبادة، ولكن الشيوعيين الجدد لم يستفيدوا من خبراتهم السابقة؛ فماذا
حصدوا بعد سبعين سنة أو أكثر من القمع والإرهاب؟ هل استطاعوا القضاء على
المسلمين؟ !
إنَّ الإسلام قادم - بإذن الله تعالى - وقوته ولن تقوى هذه الدول مهما أوتيت
من مكر وكيد على صدِّه طويلاً، فإننا نؤمن بقوله - تعالى -: [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (آل عمران: 54) .(165/1)
الافتتاحية
التربية وأثرها على الدعوة
من الاهتمامات المعاصرة في التربية ما يسمى بـ (المنهج الخفي) ، ويُعنى
به: كل ما يمكن تلقيه في المدرسة من تعلم غير مقصود وغير موجود في المنهج
الرسمي.
ويمكن استنباط المنهج الخفي من القوانين واللوائح الداخلية والقواعد
والتنظيمات العامة الموجودة في المدرسة.
ومن العلاقات العامة الموجودة داخل المدرسة كعلاقة الناظر (مدير المدرسة)
بالمعلمين، وعلاقته بالطلاب، وعلاقة كل فئة بالأخرى.
ومن خلفيات هذه الفئات المختلفة: الطبقية، والاجتماعية، والاقتصادية،
والثقافية.
ومن طبيعة بنيان المدرسة والأثاث المستخدم للطلاب والعاملين، وطبيعة
المنافع والمرافق العامة.
ومن شكل المعرفة المدرسية وليس مضمونها [1] .
وثمة حاجة ملحة للاعتناء بهذا الجانب في تربيتنا الدعوية التي نمارسها
في حديثنا مع الناس، سواء في المناسبات العامة كخطب الجمعة والمحاضرات
والندوات، أو فيما هو دون ذلك كحديث المعلم مع تلامذته، والأب مع أبنائه، أو
في الصورة التي نرسمها لأنفسنا في أسلوب حياتنا وطريقة تعاملنا.
فحين نرسم برنامجاً لدعوتنا وتربيتنا، فنحن نأخذ في الاعتبار الصورة
الضيقة المحدودة للبرنامج؛ فما نسعى إلى تحقيقه لدى المدعوين والمتربين، أو
نريد علاجه من مشكلات ندرجه ضمن البنيان المعرفي ونقدمه في قالب متكرر:
المظاهر، الأسباب، العلاج.
وحين نريد مراجعة تربيتنا وتقويمها فنحن نراجعها على ضوء هذه الصورة
المحدودة الضيقة، وحين نكتشف مشكلاتنا نعالجها من خلال التناول المعرفي لها
غافلين عن خلفية وجودها.
ولنضرب على ذلك ثلاثة أمثلة تتعلق بمشكلات رئيسة نعاني منها:
المشكلة الأولى: ضعف المبادرة الذاتية:
كثيراً ما نشتكي من ضعف المبادرة الذاتية في صفوف شباب الصحوة، وأن
كثيراً منهم لا يعمل ولا ينطلق إلا من خلال توجيه محدد، وهذا يدعونا إلى كثرة
الحديث عن المبادرة الذاتية وضرورتها، وإلى كثرة النعي على من يفتقدونها.
ولو تأملنا بصورة أشمل فسنجد أن هذه المشكلة نتاج مناهجنا التربوية التي
ترى أن هذه المبادرة إنما تبنى من خلال التناول المعرفي المجرد والمباشر، وتغفل
عن عوامل مهمة لها أثرها في بناء المبادرة، ومنها:
* تعاملنا مع الاستشارة، والتأكيد دوماً عليها في كل صغيرة وكبيرة.
* طريقة تعاملنا مع الأفكار الجديدة، وانتقادنا اللاذع لكل جديد لا يروق لنا
ولا يتسق مع طريقة تفكيرنا.
* تضييق الدائرة التي يسوغ فيها الاختلاف في الرأي ووجهات النظر،
والسعي للوصول إلى صهر الأفراد في نسيج واحد.
* التركيز دوماً على التوجيه المباشر للعاملين، وعلى إعطاء تعليمات
واضحة ومحددة، ومحاسبتهم على ضوئها.
إن هذه الممارسات وغيرها ننتقدها على المستوى النظري، أما على المستوى
العملي فهي سائدة ومنتشرة.
المشكلة الثانية: السطحية وافتقاد العمق والنضج:
وهي مشكلة كثيراً ما ننتقدها ونشعر أن قطاعات عريضة من شباب الصحوة
تعاني منها، وأحسب أنَّا لسنا بحاجة للإقناع بوجود هذه المشكلة، إلا أن أسلوب
التعامل معها وتحليل أسبابها، ومن ثم اقتراح الحلول لتجاوزها كل ذلك دون
المستوى المطلوب.
إن أسلوب تعاملنا مع المشكلات وطريقة علاجها يسهم في تشكيل عقلية
المستمعين وطريقة تفكيرهم.
فالخطيب الغيور يحدث المصلين عن منكر من المنكرات، وظاهرة من
الظواهر، ويكون هذا الحديث مشحوناً بالعاطفة والتفاعل وارتفاع نبرة الصوت -
وربما تتطلب بعض المواقف مثل ذلك - لكن المصلين لا يخرجون من حديثه إلا
بالشعور بألم المصيبة، وفداحة الخطب، وعظم الخطر.
وحين يتجه الأمر نحو الحل فهي حلول تدور حول إطار محدد، وتعتمد
سياسة إطفاء الحرائق.
لكن لو أن الخطيب ناقش الظاهرة أولاً باعتدال؛ فتحدث عن خطورتها مع
بيان حجمها في المجتمع ومدى انتشارها، ثم انتقل إلى تحليل الظاهرة
والبحث عن أسبابها المباشرة وغير المباشرة، دون التركيز على صورة
الحدث بل على عناصره ومكوناته؛ لكان ذلك أجلى بياناً وأكثر تأثيراً.
فالمظاهر المتعلقة بالشباب مثلاً تتطلب تحليل دور المدرسة التربوي، ودور
الأسرة، ودور وسائل الإعلام ... إلخ. وكيف أسهمت في تخريج هذه الفئة من
الشباب. وهكذا سائر عناصر المشكلة وأركانها.
ثم اتجه بعد ذلك إلى الحديث حول علاج الظاهرة، وجمع في ذلك بين
التعامل الآني مع المشكلة إن كانت تتطلب ذلك، والتعامل المستقبلي، وربط هذه
المشكلة باتجاهات التغير في المجتمع.
ثم تناول دور المستمعين من خلال كافة مواقعهم، وكيف يسهمون في التفاعل
العملي مع هذه المشكلات والظواهر.
وهكذا حين يتحدث المعلم مع طلابه عن حدث من أحداث السيرة؛ فلا يسوغ
أن يقتصر الحديث على سرد الأخبار والمرويات، والإشارة إلى بعض الدروس
والعبر المكررة، فلو قام بتحليل الموقف تحليلاً أعمق، وتناول مواقف شخصيات
الحدث، وطلب من تلامذته أن يقارنوا بين هذا الحدث وواقعهم: فما أوجه التشابه،
وكيف نستفيد منها؟ وما أوجه الاختلاف وهل يمكن أن نوظفها بطريقة غير
مباشرة في حياتنا الشخصية؟
وهكذا الأب حين يناقش أطفاله ... وهكذا سائر المربين.
المشكلة الثالثة: التطرف في الآراء والمبالغة في الحماس لها:
وهي مشكلة تعاني منها مجتمعاتنا وورثناها نحن ضمن أمراض هذه
المجتمعات؛ ففي كثير من المواقف تتسم آراؤنا بالمبالغة والتطرف، ونفتقر إلى
الاعتدال في النظر إلى الأمور.
ولو تأملنا في واقعنا التربوي فسوف نرى ما يمكن أن يفسر لنا جزءاً من هذه
المشكلة، ومن ذلك أنه يسود لدينا الرأي الواحد في ميادين شتى، ولو كان الرأي
الواحد نتاجاً طبيعياً لكان مطلباً، لكنه في الأغلب نتيجة ممارسات غير سليمة،
ونتيجة سعي للقطع بما هو مظنون، والجزم بما هو محتمل. واختلاف الآراء فيما
يسع فيه الاختلاف يؤدي إلى النقاش والحوار الذي يعود على الاعتدال في الآراء
وعدم التطرف فيها.
إن إجابة المعلم عن سؤال تلميذه إجابة قاطعة، وحديثه عن مشكلته بأنه ليس
لها إلا حل واحد، وتعليقه على موقف أو ظاهرة ... إلخ؛ كل ذلك يؤثر في طريقة
تفكير هذا التلميذ، ويصبغها بصبغة التطرف في الآراء والقطع فيها.
وطريقة الداعية في نقاشه لآراء المخالفين والتعامل معها، وفي حديثه عن
الظواهر الاجتماعية وتحليلها ربما أثرت تراكمياً في طريقة تفكير المستمعين له.
إن هذه المشكلات نموذج مما نشعر بوجوده ونتحدث عنه، مع إيماننا بأن
انتشارها وامتدادها يتفاوت من شريحة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر؛ مع إيماننا
بأن اتجاه كثير منها يمضي نحو الانحسار والتلاشي؛ بغض النظر عن سرعة
الاتجاه وبطئه.
والمقصود هنا ليس تحليل هذه المشكلات، إنما بيان مدى صلتها بموضوع
حديثنا، وكيف أن المنهج الخفي [2] له أثره التربوي الذي قد لا نتفطن له.
إننا بحاجة إلى أمور منها:
* أن نعيد النظر في مفهومنا عن المنهج التربوي، ومدى اتساعه أو ضيقه.
* أن نغير نظرتنا التقليدية للتربية، وأنها تتم من خلال العطاء والتوجيه
المعرفي المجرد.
* أن نزيد ثقافتنا التربوية، ونستفيد من نتاج الدراسات الإنسانية والتربوية
المعاصرة.
* تقويم تربيتنا بين آونة وأخرى؛ فالعمل البشري لا غنى له عن التقويم
والمراجعة، والدعاة إلى الله - تعالى - أوْلى بإتقان أعمالهم من أهل الدنيا الذين
يضعون برامج دورية للتقويم والمراجعة.
وحتى يؤتي التقويم ثماره، فينبغي أن يكون شاملاً، وأن نكون جريئين في
مراجعة مناهجنا وبرامجنا، فإلفُنا لكثير منها قد يدعونا لإدراج متغيرات في إطار
الثوابت.
والتقويم الشامل يحتاج إلى أن يركز على المخرجات والنتائج؛ فحين يكون
تقويمنا مقتصراً على الوسائل والبرامج فلن يكشف لنا كثيراً من مواطن الخلل.
ولئن كانت المراجعة والتقويم مطلباً في كل وقت وحين؛ فهي في هذه المرحلة،
ومع المتغيرات المتلاحقة أكثر إلحاحاً ومطلباً.
وحين نتعامل مع المرحلة الجديدة بأساليبنا ووسائلنا ومناهجنا السابقة فقد
يتجاوزنا القطار ونظل في مواقعنا المحدودة نخادع أنفسنا بحيل نفسية تسوِّغ عجزنا
وقصورنا.
__________
(1) انظر: المجلة التربوية، جامعة الكويت، عدد 39، ص (82 83) .
(2) اعتبار بعض ما أشرنا إليه ضمن المنهج الخفي هو تجوُّز، وإلا فالمنهج بمفهومه الواسع يشمل كثيراً مما أشرنا إليه، وليس قاصراً على المحتوى، والمقصود هنا ليس الحديث الأكاديمي المتخصص إنما معالجة هذه الفكرة والمشكلة.(165/4)
دراسات في الشريعة والعقيدة
الإصلاح التشريعي في مصر جهود العلماء والمفكرين والحكومات
لإصلاح التشريعات وفق الشريعة
عبد العزيز بن محمد القاسم [*]
azalgasem@hotmail.com
تقدم في ثنايا الحلقات الماضية إشارات عديدة إلى جهود المصلحين الدائبة
لإعادة هيمنة الشريعة في المجال التشريعي، ويصعب في مقالات كهذه استيعاب
تلك المساهمات الجليلة؛ غير أن ذلك لا يعفينا من ضرب الأمثلة التي تبين أوجه
العمل التي أنجزت للعودة بالتشريع إلى مرجعية الوحي بعد عواصف التغريب التي
تعرضت لها حقول التشريع، وقد تعددت تلك الجهود وتنوعت؛ فمنها أعمال إعادة
تأصيل مرجعية الشريعة بأدلة تستند إلى نصوص الشرع، ومصالح التمدن،
براهين الاستقراء التاريخي. ومن تلك الجهود تأسيس الجمعيات والمؤسسات
الجماعية التي تحقق تعبئة الأمة لصالح مشروعات تحقيق النهضة وفق مرجعية
الوحي، ومنها أيضاً المساجلات الصحفية التي تستهدف توعية الرأي العام وإيقاظه
من غفلته، ومنها نقد النظم الغربية ومؤسساتها لإعادة النظر الواقعي لمنجزات
الغرب بدلاً من القراءة الاستلابية التي تسحق المقدرة النقدية للمفكر كنموذج طه
حسين.
ومن جهود العلماء في مواجهة التغريب التشريعي إعادة كتابة أحكام الشريعة
والفقه الإسلامي وفق هياكل التقنينات الحديثة، ومنها التوجه للدراسات الفقهية
المقارنة التي قارنت أحكام المذاهب بعضها ببعض، كما قارنت أحكام الفقه
الإسلامي بالقوانين الوضعية.
ومن جهود الفقهاء إعادة كتابة الفقه في هياكل حقوقية حديثة، وفي سياق
المواجهة والإصلاح التشريعي تأتي أعمال وضع الموسوعات الفقهية، وتأسيس
المجامع، ودراسة مناهج الاجتهاد والدعوة إلى استئناف الاجتهاد، ومراعاة ظروف
الأمة في تقرير الأحكام الفقهية.
ومن مظاهر الإصلاح إحياء الاجتهاد المقاصدي والمصلحي، وبخاصة في
مواجهة النظم الغربية؛ حيث تضعف أو تنعدم مقدرة وسائل الاجتهاد القياسية
والجزئية، وغير ذلك من الأعمال الجليلة التي يصعب استقصاؤها في هذا المقام،
وفي الفقرات التالية سنستعرض نماذج لتلك الجهود لما في ذلك من استكشاف وسائل
الإصلاح وتحسين أدائها ونقد بعض تجاربها.
1- التأصيل:
يبرز في تاريخ التحولات التشريعية أعمال تأصيلية جليلة جاهدت لتثبيت
الأمة على أحكام الشريعة، ودعت إلى الاجتهاد والتجديد لمعالجة قضايا الواقع
ضمن كليات الشريعة وأصولها، ولا ينقطع هذا الجهد في فترة من الفترات؛
فنلاحظ في فجر النهضة كتابات رفاعة طهطاوي (ولد سنة 1216هـ / 1801م -
وتوفي سنة 1290هـ /1873م) الداعية إلى مرجعية الشريعة وخطل التحول نحو
أخلاق أوروبا وأحكامها؛ فقد: «اعتبر أن من البديهي بقاء سيطرة الشريعة في
دولة مصرية كما في دولة الفقهاء المثلى» [1] .
ويربط رفاعة مرجعية الشريعة بتأصيل مدني فيقول: «وفي كل الأحوال
للتمدن أصلان: معنوي، وهو: التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب، يعني
التمدن في الدين والشريعة وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة التي تسمى باسم دينها
وجنسها للتميز عن غيرها.. والقسم الثاني: تمدن مادي وهو التمدن في المنافع
العمومية..» [2] . ويأتي بعده خير الدين التونسي (1225هـ /1810م 1308هـ/
1890م) مستنهضاً العلماء والساسة والأمة لتحقيق الاجتهاد الذي يرعى نهضة
الأمة في حدود الشريعة فينادي بتذكير «العلماء بما يعينهم على معرفة ما يجب
اعتباره من حوادث الأيام، وإيقاظ الغافلين من رجال السياسة وسائر الخواص
والعوام، ببيان ما ينبغي أن تكون عليه التصرفات الداخلية والخارجية» وذلك من
أجل: «أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقاً ولنصوص الشريعة مساعداً وموافقاً
عسى أن نسترجع منه ما أخذ من أيدينا ونخرج باستعماله من ورطات التفريط
الموجود فينا» [3] .
ويخص الاجتهاد لصياغة التشريعات والنظم باهتمامه فيدعو العلماء للعمل
على: «ترتيب تنظيمات منسوجة على منوال الشريعة معتبرين فيها من المصالح
أحقها ومن المضار اللازمة أخفها ملاحظين فيما يبنونه على الأصول الشرعية أو
يلحقونه بفروعها المرعية.. أن الشريعة لا تنسخها تقلبات الدهور» [4] .
ويستثمر الاستدلال التاريخي ليؤصل مرجعية الشريعة فيقول: «لا شك أن
التطبيق الحريص الأمين للشريعة الإسلامية سيعطي في أيامنا الثمار التي أعطاها
فيما مضى من الزمان.. من الممتنع من حيث المبدأ غرس مؤسسات بلد ما في بلد
آخر تختلف أمزجة أهله وأخلاقهم وثقافتهم وظروفهم المناخية» [5] .
آثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في جهود الإصلاح التشريعي:
كانت دعوة الشيخ - رحمه الله - واضحة ومباشرة، دعوة إلى التوحيد، ونبذ
البدع، ودعوة للاجتهاد، وهذه القضايا تقع في صميم المفاهيم الأساسية لجهود
الإصلاح التشريعي؛ فالتقليد أحد عقبات التجديد لتنزيل الأحكام على الوقائع
الجديدة، وقيوده هي التي منعت بعض العلماء من كتابة تدوين حديث للفقه فأدى
الفراغ التنظيمي - في بداية الاستنساخ - على الأقل إلى نقلة نحو القوانين
الغربية، فكانت دعوة الشيخ إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، وتأثيرها في مناطق العالم
الإسلامي، عبر مواسم الحج قد أسست لنهضة اجتهادية كبيرة قدمت الدعم
المعنوي والوهج العملي للعلماء والمصلحين، ومهدت لتقوية موقف الداعين
للاجتهاد ومعارضي التعصب المذهبي في حواضر العالم الإسلامي وألهمتهم العمل
على تأسيس أعمالهم الإصلاحية رغم معارضة مركز الخلافة والولاة المحليين
والفقهاء المقلدين. ولنقرأ وصفاً لبعض المؤرخين المعاصرين من الجامعة اللبنانية
في بيروت لآثار الدعوة النجدية حيث جاء فيه عن الدعوة النجدية أنها: «كانت
النواة للحركات التحررية خارج جزيرة العرب وحتى خارج الوطن العربي.. اعتنق
بعض الحجاج (المبادئ الوهابية) وحملوها معهم ودعوا إليها في بلادهم فانتقلت هذه
المبادئ الإصلاحية، وكان هدف دعاتها في كل مكان تحل به هو محاربة الفساد
والقضاء على البدع والخرافات وتصحيح العقيدة الدينية، ثم محاولة إقامة حكومة
صالحة على أساس ديني لتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود؛ فقامت الثورات على يد
الدعاة (الوهابيين) ضد الأوضاع السائدة في البلاد التي غزتها الدعوة، وظهرت
نهضات الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي.. في السودان وفي اليمن..» .
ولنقرأ العلاقة بين دعوة جمال الدين وتلميذه محمد عبده والدعوة النجدية؛ حيث
يصفها هذان المؤرخان بقولهما: «وفي مصر ظهر الشيخ محمد عبده وقد ركز أبحاثه
على هذين الأساسين:
1- محاربة البدع وما أدخل على العقيدة من فساد بإشراك الأولياء والأضرحة
مع الله تعالى.
2- فتح باب الاجتهاد [6] ، وكانت آثار دعوات النجديين للاجتهاد في البيئات
المتمدنة في حواضر العالم الإسلامي تستلزم أدوات اجتهادية لم تكن لازمة في البيئة
النجدية حيث بساطة الحياة وغياب مزاحمة النظم الغربية، وقد أدى ذلك إلى
اكتشاف أهمية الاجتهاد المصلحي والمقاصدي، لتبدأ مسيرة التجديد فيه ليتكامل مع
الاجتهاد النصي والقياسي، وسنعود لهذه المسألة قريباً.
ولْنعُدِ الآن إلى جمال الدين الأفغاني (1254هـ / 1838م - 1314هـ /
1897م) فقد أضاف عنصراً جديداً إلى المشروع الإصلاحي هو تحريك جمهور
المسلمين، ورفع وتيرة الخطاب الإصلاحي وضخ الحماسة فيه؛ فقد كان كما يقول
بعض المؤرخين:» يقرع ناقوس الخطر وينبه النيام ويفتق المشاكل ويفجر
الطاقات ويترك بصماته القوية في الأذهان والعقول والإرادات «. يقول الأفغاني
وهو يستلهم براهين التاريخ ويحرك الهمم محذراً من الخضوع للتغريب ودعاته:
» علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين
أطوار غيرها يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم
مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين
قلدوهم واحتقار من لم يكن على مثالهم شؤماً على أبناء أمتهم يذلونهم ويحقرون
أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلت « [7] .
ليؤكد في تأصيله لهوية الأمة على أن:» الدين قوام الأمم وبه فلاحها وفيه
سعادتها وعليه مدارها « [8] ، وينافح عن مرجعية الدين بحجج المدنية نفسها فيقول:
» السعادة الحقيقية التي هي طَلِبَةُ الإنسان الأصلية في حياته على الأرض لا
يجوز أن تُلتمَس إلا في الدين الخالص الذي هو الإسلام.. والدين هو الذي يسمح
ببناء نظام اجتماعي متماسك متحد يسعى لخير المجموع وسعادته داخل إطار التجمع
البشري الخاص والعام على حد سواء. أما التمدن المرادف للمكتسبات العلمية التي
لا يترتب عليها إلا الفائدة والكسب والربح فليس هو التمدن الحقيقي. إن هذه
المكتسبات لا تنتج غير مدن كبيرة وأبنية شامخة وقصور مزخرفة ومعامل.. ونحن
لو جمعنا كل ما في ذلك من المكتسبات العلمية وما في مدنية تلك الأمم من خير
وضاعفناه أضعافاً مضاعفة ووضعناه في كفة ميزان ووضعنا في الأخرى الحروب
وويلاتها؛ فإنه لا شك أن كفة المكتسبات العلمية والمدنية والتمدن هي التي تنحط
وتغور وكفة الحروب وويلاتها هي التي تعلو وتفور « [9] ، وقد وطَّن جمال الدين
نفسه على التدليل على أن الفاعلية الأصلية لعقيدة التوحيد هي فاعلية اجتماعية
تمدينية» [10] ، وأن جحود الطبيعيين للألوهية والبعث يجر معه بالضرورة:
«إفساد الهيئة الاجتماعية وتزعزع أركان المدنية» [11] وبهذا فالأفغاني قد انتهى إلى
أن التمدن ذو بعد أخلاقي إذا تجرد عنه يتعرى عن قيمته [12] . ومع عبد الله النديم
(1261هـ / 1845م - 1314هـ / 1897م) : نجد تأصيل مرجعية الشريعة
وهيمنتها على التشريع باستقراء التاريخ والتمدن الإسلامي ليقرر أن «الدين
الإسلامي كان السبب الوحيد في المدنية وتوسيع العمران أيام كان الناس عاملين
بأحكامه» [13] ثم يأتي محمد عبده (1266هـ / 1849م - 1323هـ / 1905م)
ليواصل الدعوة إلى بناء التحديث على أصول الشريعة محركاً عوامل عديدة
للبرهنة على حتمية سيادة الشريعة ومرجعيتها على النشاط الحضاري؛ ومن ذلك
إحياء أثر الإيمان على تهذيب النفوس وتوجيهها، ويقارن ذلك بفقر المذهبيات
الوضعية في ذلك، فيقول: «إن الأخلاقيين والسياسيين والفلاسفة يعجزون جميعاً
عن إثارة النفس الفردية وطبقات الناس جميعاً من أجل دفعها إلى حالة يغلب الخير
فيها على العمل ويتجه فيها العمل إلى المنفعة العامة فضلاً عن الخاصة وترتفع فيها
الشرور والمضار من عالم البشر إن هذا كله لا يتيسر إلا بالعقيدة الدينية، هذه
العقيدة التي بفضلها وحدها يمكن للعيون أن تبكي، وللزفرات أن تصعد، وللقلوب
أن تخشع» [14] ، كما يعارض دعوات أنطون فرح والنصارى العرب لبناء
التشريع بناءاً وضعياً مقرراً أن «العقل لا يستقل وحده بالوصول إلى ما فيه سعادة
الأمم بدون مرشد إلهي.. الدين هو حاسة عامة لكشف ما يشتبه على العقل من
وسائل السعادات» [15] .
لقد كان تأثير محمد عبده كبيراً في تيارات عصره، ونادى بالاجتهاد ودعا
إليه؛ لكنه لم يستطع بناء رؤية واضحة منضبطة فيه، وكان أبرز منحنيات تفكيره
الشخصي، ومن ثم تأثيره في جيله والأجيال اللاحقة هو اكتشافه لكتاب الموافقات
للشاطبي وهو الكتاب الذي أعاد للفقه والتفكير الفقهي روح النظر في المصالح
والمقاصد محاولاً تأسيس: «علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان» [16] ، وما
يعنيه ذلك من انطلاق واسع نحو مواجهة الغزو بأدوات اجتهادية جديدة هي رعاية
المقاصد ومقارنة الكليات وتأسيس منهجية الاستقراء المعنوي لقواعد الشريعة،
وهذه الأدوات الاجتهادية هي الوسائل التي أثبتت فاعليتها في بناء تفكير كلي بدلاً
عن التفكير الفقهي التجزيئي الذي قاد التقليد الفقهي إلى مضائق المتون ومتناثر
المسائل ليتحول الفقيه من قائد لنظم المجتمع إلى مفت في الجزئيات أو شارح
لمتونها وهو الدور الذي لا يقيم نظماً مضادة للنظم الوافدة؛ كما أن التفكير الجزئي
هو الذي أسهم في إبعاد الفقهاء المقلدين وأتباعهم عن ساحة البناء والتغيير إلى زوايا
العزلة واليأس من الإصلاح.
وتظهر أهمية التحول من التفكير الجزئي إلى التفكير الكلي في أوقات تدهور
الحضارة ونظمها، أو في مواجهة نظم غازية، ولم يكن مصادفة أن يظهر جيل من
المجددين ذوي المناهج الكلية في التشريع كالجويني وابن عبد السلام وابن تيمية
والشاطبي؛ لأن التدهور الحضاري يحفز التفكير باتجاه الكليات في مجالات البناء
الحضاري المختلفة؛ ولنقارن منهجية التفكير الكلي عند هؤلاء الفقهاء أثناء تدهور
الدولة العباسية واضمحلالها ولنقارنه بظهور التفكير الحضري التاريخي مع ابن
خلدون لتتضافر هذه المناهج في توصيف الأزمة وأسباب الخروج منها. يقول ابن
خلدون منتقداً مناهج المؤرخين في تتبع الوقائع وطغيان منهج التجزئة على كتاباتهم
فينتقد إيرادهم: «حوادث لم تعلم أصولها، وأنواعاً لم تعتبر أجناسها ولا تحققت
فصولها» [17] ، ويتجه ابن خلدون إلى منهج جديد لدراسة التاريخ والاجتماع تحكم
فيه: «أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع
الإنساني.. بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الأشياء» [18] ، غير أن تلك
الدعوات لم تلقَ طاقة دفع جماهيري ترفع أداءها إلى مستوى الفعل الحضاري،
لكنها أصبحت وقوداً حياً لحركات اليقظة والتصحيح المعاصر سنقرأ آثاره فيما يلي.
تُظهِر الأعداد الأولى من مجلة المنار تفكير محمد عبده ومحمد رشيد رضا:
تفكيرهما قبل اكتشاف محمد عبده للشاطبي، ثم يظهر تأثير الشاطبي في فكرهما
وفي المجلة بعد ذلك؛ حيث نشرت المجلة موضوعات عن المصلحة وقضاياها،
واصطبغت أفكارهما بهذا البعد الجديد في الدعوة والتفكير فقد «عرف محمد عبده
كتاب الموافقات بعد نفيه من مصر سنة 1882م الذي صار حجة لمحمد عبده في
مسيرته التجديدية في المسائل الكلية في قضايا الحضارة والثقافة، أما تفاصيل
الأحكام فكان المرجع القياس» [19] .
وقد تفاعل العلماء مع هذا الاتجاه التجديدي، فكتب الشيخ محمد الطاهر بن
عاشور كتابه: (مقاصد الشريعة) ، ونشره سنة 1366هـ / 1946م محاولاً
تأسيس نظر كلي للتأصيل في مواجهة التقليد والنظم الغربية الوافدة، كما أصدر
الشيخ علال الفاسي كتابه: (مقاصد الشريعة) ، ونشره سنة 1382هـ، ثم توالت
الأعمال الداعية إلى الاجتهاد الكلي لتأصيل التحديث وتطبيقاته، وبلغت في تأثيرها
إلى التأثير في الفكر الشيعي؛ إذ يقرر محمد باقر الصدر أن على المجتهد:
«أن يستوعب غايات التشريع ومقاصد الشريعة» [20] ، ونلاحظ آثار مفهوم
المصالح ورعايتها لدى كثير من العلماء على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم. انظر
مثلا: الشيخ حسين الجسر (1261هـ /1845م - 1327هـ / 1909م) : ألف
كتابه: (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة الإسلامية
المحمدية) مقرراً: «أن الشريعة المحمدية بل وسائر الشرائع إنما يقصد منها بيان
ما يرشد الخلق إلى معرفة الله - تعالى -.. وإلى الأحكام التي توصلهم إلى انتظام
المعاش وحسن المعاد» [21] والشيخ محمد جمال الدين القاسمي (1283هـ /
1886م - 1332هـ /1914م) : «فالدين هو الداعي إلى سبيل الرشد
وطرق السعادة البشرية ليهتدوا إلى المصالح التي تقوم بها حياتهم» [22] .
لقد أدت جهود التأصيل الإصلاحي هذه إلى توعية كثير من المفكرين، كما
تزامنت مع يقظة نقدية علمانية نسبية أدت إلى بدء تراجع التيار التغريبي الجذري،
رغم أن إدارة الاحتلال البريطاني قد: «.. أفسحت مجالاً واسعاً بصورة خاصة
لحرية التغريب التي وقفت وراءها وشجعتها، وحمت دعاتها من ردود الفعل
الشعبية والتي تجلت خاصة في حملة التغريبيين على القواعد الإسلامية،
والمعطيات الدينية ليس بقصد إصلاحها، وإنما بقصد نبذها نهائياً من أجل إحلال
الثقافة الغربية محلها» [23] .
وكانت جهود التغريبيين وطروحاتهم من التطرف بحيث لاحظ كثير من
المؤرخين للفكر العربي سذاجتها. يقول فهمي جدعان وهو المؤرخ القومي المعتدل:
«الذي يثير الاهتمام لدى الكتاب التغريبيين - من المصريين خاصة - هذا
الانقياد الكامل العجيب للقيم الغربية، وهذا الغياب المطلق لكل روح نقدية بإزاء
هذه القيم؛ فلقد اشتعلت رؤوسهم ذكاء ونقداً للمدنية العربية الإسلامية؛ بينما تقلص
هذا الذكاء تقلصاً كاملاً بإزاء المدنية الغربية التي كانت تلاقي في عقر دارها في
الفترة نفسها انتقادات لا ترحم..» مستنتجاً أن: «المفكرين المسلمين الذين سقطوا
سقوطاً كاملاً في أحضان المنظومة اللبرالية العلمانية التغريبية قد كانوا يفتقرون إلى
قوة في النفوس ونفاذ في الرؤية وبُعد في النظر وحس نقدي على درجة من
التوازن» [24] .
ومن نماذج اليقظة النقدية المتأثرة بحركة الاجتهاد والتأصيل الإسلامي فهمي
منصور الذي بدأ برؤية علمانية متطرفة - وقد أوردنا في حلقات سابقة بعض
آرائه - عاد ليقول: «نحن وفق مقومات فكرنا العربي الإسلامي لا نقبل عيوب
الحضارة الغربية ونواجهها مواجهة الإصلاح والنقد حتى نقارب بين المثل الأعلى
لأمتنا والواقع. والمفكر يجب أن يعيش عصره.. ولكنه مكلف بتحويله إذا انحرف
والتحفظ على اندفاعاته وتعديل المجرى أمامه ليصل إلى الغاية المثلى.. ولا يمكن
أن تنتقل أمتنا العربية من واقعها الذي يقف الآن في مرحلة الجزْر إلا على مفهوم
واضح ببناء أساس فكري روحي سليم يمكن أن يواجه القيم والأفكار القادمة من
الشرق أو الغرب حتى لا تجرف كياننا ولا تجعلنا ممسوخي الشخصية» ، كما كتب
يقول: «إن النفس لتدعوني أن أحتفظ بالخصائص التي أراد الله أن يميز بها أمة
أنا من بينها، وأنا أتمسك بميراث انحدر إلى بلدي منذ قرون» [25] ، ونموذج آخر
هو تحول محمد حسين هيكل رئيس تحرير جريدة السياسة فقد انتهى سنة 1933م
تقريباً إلى ملاحظتين أساسيتين: أولاهما: إدراكه لأزمة الغرب الروحية التي بدأ
الغرب يعانيها منذ سنة1920م ويلتمس علاجها. والثانية: إدراكه لدعم الدول
الغربية للتبشير في البلاد الإسلامية، فكتب في جريدة السياسة سنة 1933م قائلاً:
«حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذها جميعاً
هدياً ونبراساً، لكني أدركت بعد لأْيٍ أنني أضع البذر في غير منبته؛ فإذا الأرض
تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تنبت الحياة فيه. وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد
في عهد الفراعين موئلاً لوحي هذا العصر.. فإذا الزمن وقد قطع بيننا وبينه..
فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر؛ لذلك لم يكن لنا مفر
من العود إلى تاريخنا نلتمس فيه مقومات الحياة المعنوية لنتقي الخطر الذي دفعت
الفكرة القومية الغرب فيه» [26] ، كما نجد اتجاهاً نقدياً جديداً لدى إسماعيل مظهر
صاحب مجلة العصور الليبرالية العلمانية، كتب في المقتطف يقول: «ينبغي لكل
عربي أن يكون في دخيلة نفسه عربياً روحاً ونفساً، مثله الأعلى آداب العرب
وآداب الإسلام، وسياسته الدنيوية سياسة العرب والإسلام» [27] ، ولا زال رموز
العلمانية ينعون تراجع العلمانية المتطرفة؛ ولنقرأ ذلك في كلمات عزيز العظمة
متحدثاً عن قضيتي طه حسين وعلي عبد الرازق وأنهما «محطتان رئيسيتان في
سياق الهجمة الدينية على تعميم (العقلانية العلمانية) .. وكان من نتائجها أن نجح
الدينيون وبمؤازرة السلطات.. بحظر النظر العقلي في أمور النصوص
الدينية» [28] .
لقد تمكن العلماء والمفكرون من تأسيس مرجعية الشريعة في مشروعات
النهضة، وتمكنوا من تكوين تيار عام من شتى طوائف المثقفين العرب يقر بهذه
المرجعية، ويتفاعل معها بشكل أو بآخر، وربما كان من أبلغهم تأثيراً في العقدين
الأخيرين د. محمد الجابري في مشروعه الكبير: (نقد العقل العربي) ، ومن
الخليجيين محمد جابر الأنصاري. وتجد الإقرار بالمرجعية العامة عند طائفة من
الليبراليين الخليجيين، وربما تيسر لهذا الموضوع مراجعة في المستقبل.
2- إعداد مدونات فقهية مقننة مستمدة من الفقه الإسلامي:
لقد أدرك الفقهاء الرواد في زمن مبكر أن مواجهة الانحراف التشريعي لا
تستقيم إلا بالاجتهاد الشرعي وتقديم أحكام الشريعة بدلاً من الأحكام المنحرفة عن
هدي الوحي؛ إذ لا يكاد يوجد انحراف تشريعي إلا وهو متلبس بنوع من التقصير
الفقهي؛ وقد لاحظَ ذلك ابن تيمية في انحراف العباسيين وتقدم كلامه، ولاحظه ابن
القيم في مسألة أحكام السياسة متابعاً شيخه، كما لاحظ الجويني في الغياثي أن
الضعف الفقهي سبب داعم لانحراف أداء أجهزة الدولة، وتقدمت الإشارة إلى ذلك،
ولم يكن التغريب التشريعي حالة استثناء؛ فقد كان الأزاهرة في لجج التقليد حين
دهمتهم قوانين فرنسا، بل كان تقصيرهم سبباً للتغريب في أكثر من حالة، وقد تقدم
من البيان في حلقات سابقة ما يغني عن الإعادة. وإنصافاً لأهل المبادرة لا يفوتني
هنا التنويه إلى سلسلة من المبادرات الفقهية جاءت لتقدم الصياغة الفقهية، لكنها
كانت متأخرة عن وقتها ففات بذلك التأخير على الأمة خطف زمام المبادرة في
لحظات التحول. وقد كان من فضل الله - تعالى - أن أدركت تلك المبادرات
لحظات تأثير وتحول في مواقع أخرى فكانت من أسباب مزاحمة التغريب وقهره،
ونورد في هذا المقام النماذج الآتية ونذكر معها أوجه تأثيرها:
أ - مشروع قدري باشا:
كان قدري باشا ناظراً للحقانية وزيراً للعدل وقد كلف سنة 1882م - 1300
هـ بصياغة تقنين مستمد من الفقه الإسلامي، ثم تعثر المشروع بسبب ضغط
أوروبي تقدمت إشارات إلى بعضه، لكن قدري باشا أنجز المشروع وأصدره في
كتاب شهير بعنوان: (مرشد الحيران) [29] . رتب فيه الفقه الحنفي، في المجال
المدني والتجاري في مواد مستمدة من المجلة العدلية، ولم يظفر بالتصديق الرسمي؛
لكنه كان مرجعاً واسع التأثير في الدراسات القانونية التالية؛ كما استمدت منه
بعض التشريعات العربية وأصبح وثيقة تاريخية في هذا المجال، وطبع طبعات
كثيرة، ويكاد ألاَّ يعثر الآن على نسخ منه لتقادم طبعاته، ودون أحكام الأحوال
الشخصية، في تقنين خاص، وأصدر كتاب العدل والإنصاف في أحكام الأوقاف
وهو تقنين لأحكام الأوقاف.
ب- تقدم بعض العلماء بنموذج لمشروع قانون مدني مستمد من الشريعة في
مسائل نظرية العقد بمناسبة صدور المدني المصري سنة 1948م.
ج- أوصى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث في سنة 1386هـ السلطات ذات
الاختصاص بالعمل على تنقية التشريعات والنظم من كل ما يخالف حكم الإسلام،
وأن ترد التشريعات إلى الكتاب والسنة مستعينة بكل مستحدث صالح من فكر أو
حكم لا يعارض أصلاً من أصول الدين [30] . ثم في سنة 1388هـ أوصى المؤتمر
الرابع لمجمع البحوث الإسلامية في مصر بتأليف لجنة من رجال الفقه والقانون
لتضع الدراسات ومشروعات القوانين التي تيسر على المسؤولين في الدول
الإسلامية الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية في قوانينها [31] .
د - في سنة 1970م صدر الدستور اليمني ونصت المادة 152على وجوب
تقنين أحكام الشريعة المتعلقة بالمعاملات بما لا يخالف نصاً ولا إجماعاً.
هـ - في سنة 1970م وافق مجمع البحوث في مصر على الخطة
المرحلية
لأعمال لجان المجمع ومنها لجنة تقنين الشريعة [32] .
و في سنة 1971م صدر قرار مجلس قيادة الثورة الليبي بتشكيل لجان
لمراجعة التشريعات وتعديلها بما يتفق مع المبادئ الأساسية للشريعة، وصدرت
قوانين الزكاة والربا والغرر والوقف وحدي السرقة والحرابة، وأعدت مشاريع
قوانين حدود شرب الخمر والزنا والردة.
ز - في سنة 1972م صدرت الطبعة التمهيدية لمشروع تقنين مذهب الإمام
مالك عن لجان مجمع البحوث المصري.
ح - في سنة 1972م صدرت الطبعة التمهيدية لمشروع تقنين مذهب الإمام
أحمد عن مجمع البحوث المصري [33] .
ط - في سنة 1397هـ نشر جمال الدين عطية مشروعاً مقترحاً بإنشاء هيئة
تقنين أحكام الشريعة [34] .
ي - وافق مجلس الشعب المصري سنة 1978م على تشكيل لجنة
لدراسة تطبيق الشريعة وتقنينها على أن تستشير اللجنة من تراه من خبراء
القانون والشريعة، فأعدت مجموعات قوانين تم عرضها على الأزهر والجامعات
والقضاء للاستئناس، فرجعت بملاحظاتهم، وتم إكمال الصياغة النهائية، وهي:
مشروع قانون الإثبات في 181مادة. ومشروع قانون التقاضي في 513 مادة
ومشروع قانون العقوبات في 630 مادة. ومشروع قانون التجارة البحرية في
243مادة. ومشروع قانون التجارة في 772مادة [35] .
ك - مشروع القوانين الموحدة بالدول العربية، وتصحيح القوانين الحالية بما
يتفق مع الشريعة، وهو العمل الذي تشتغل به مجموعة من اللجان المشكلة بجامعة
الدول العربية [36] .
ل - القانون المدني الموحد لدول مجلس التعاون الخليجي: «وثيقة الكويت
للنظام (القانون) المدني الموحد لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية»
ويتكون من 1242مادة انتهت إليها لجنة الخبراء: «ووافق عليها أصحاب المعالي
وزراء العدل في اجتماعهم التاسع الذي عقد بالدوحة 1418هـ. ووافق عليها
المجلس الأعلى في دورته الثامنة عشرة التي عقدت في دولة الكويت 1997م
كقانون استرشادي لمدة أربع سنوات» [37] .
وكان قد أقر القانون التجاري الخليجي الموحد مستمداً من القانون التجاري
المصري لسنة 1954م. وقانون جزائي مستمد من الشريعة أدرجت فيه الحدود
الشرعية [38] .
هذه نماذج لأعمال تقنين أحكام الفقه الإسلامي، لم أقصد بها الاستقصاء، كما
تعمدت عدم ذكر مجموعة من القوانين المدنية العربية التي استلهم فيها كثير من
أحكام الشريعة وعدلت لتكون أقرب إلى روح الفقه الإسلامي مثل المدني الأردني،
والعراقي، والسوري، والإماراتي، والتعديل الجديد للقانون المدني الكويتي الذي
اقترحته اللجنة الاستشارية العليا لاستكمال تطبيق الشريعة، وغيرها من الجهود.
3- استثمار المؤتمرات الفقهية والقانونية:
عقدت في بداية القرن الميلادي الماضي سلسلة من المؤتمرات الفقهية
والقانونية العالمية والإقليمية والمحلية، وقد شارك فيها الفقهاء وقدموا فيها
موضوعات فقهية متخصصة، أسهمت في تصحيح كثير من التصورات الخاطئة
عن الفقه الإسلامي التي تركتها حملات التشهير التي قام بها المستشرقون،
والمستغربون من المثقفين العرب، ومن تلك المؤتمرات: مؤتمرات لاهاي المنعقدة
في السنوات 1927م وقد مثل الأزهر ببحثين هامين، ثم توالت مؤتمراته في
السنوات 1932م، و1937م، و1948م، وأسبوع الفقه الإسلامي المنعقد بباريس
سنة 1951م، والندوة الإسلامية الكبرى بلاهور سنة 1953م، وندوات جنيف سنة
1972م وسنة 1974م، وندوة التشريع الإسلامي المنعقدة بالجامعة الليبية سنة
1972م [39] .
وقد كان لتلك المؤتمرات أثر عميق على المفكرين العرب؛ فقد كتب عبد
الرزاق السنهوري في جريدة الإخوان المسلمين: «الشريعة الإسلامية بشهادة فقهاء
الغرب أنفسهم تعد من أكبر الشرائع العالمية؛ فما بال الغرب يعرف هذا الفضل
ونحن ننكره؟ وما بال هذه الكنوز تبقى مغمورة في بطون الكتب الصفراء ونحن
في غفلة نتطفل على موائد الغير ونتسقط فضلات طعامهم؟ والمطلوب أن نأخذ في
دراسة الشريعة الإسلامية طبقاً للأساليب الحديثة» [40] .
وكان من أطرف تلك الملتقيات وأكثره دلالة على وجوب مقاومة الأمة
للتغريب التشريعي ما قرره عمداء كليات الحقوق في الجامعات العربية في ندوتهم
المنعقدة في بيروت وبغداد سنة 1972م ما يلي: «وجوب العناية بدراسة المقارنة
بين أحكام الشريعة وأحكام القوانين الوضعية باعتبارها من أهم أسس التوحيد
القانوني بين البلاد العربية» [41] ، وجاء فيها: «أن من مهمات كليات الحقوق
بالجامعات العربية أن تدرس الشريعة الإسلامية بوصفها مصدراً رسمياً للقانون في
معظم البلاد العربية، مصدراً تاريخياً للقانون في جميع هذه البلاد، كما أصبح
المشرع العربي في معظم البلاد العربية يجعل من الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً
يستمد منه عند وضع التشريع، وهذا كله؛ فضلاً عن كون الشريعة الإسلامية تراثاً
قومياً؛ يجدر بنا أن نلقي عليه الضوء عند دراسة القانون الوضعي» [42] ، وصدر
عن الندوة الثانية لعمداء كليات الحقوق في العالم العربي المنعقدة في بغداد سنة
1974م توصيات مهمة تدعو لاعتماد الشريعة الإسلامية مصدراً أصيلاً للقوانين
العربية؛ لأنه وحده المصدر الأساسي للتشريع وهو الطريق الوحيد لتوحيد الأحكام
والمصطلحات القانونية. ومن أهم توصيات الندوة ما يلي:
أولاً: العناية التامة بدراسة الفقه الإسلامي؛ لأن استكمال الشخصية العربية
يقتضي الرجوع إلى هذه الشريعة والاعتماد عليها كمصدر أساسي للقانون العربي
الموحد.
ثانياً: تدعو الندوة الحكومات التي تنص في دساتيرها على أن الفقه الإسلامي
هو المصدر الرئيسي للتشريع إلى وضع هذا النص موضع التنفيذ عن طريق
الالتزام بالأحكام القطعية، والاجتهاد في المسائل الاجتهادية بما يلائم روح العصر.
ثالثاً: إنشاء مجمع للشريعة والقانون على مستوى العالم العربي، ويختص
هذا المجمع بإعداد دراسات شرعية وقانونية يفيد منها المشرع الوضعي، ولإبداء
الرأي في ما تطلبه الحكومات العربية والهيئات الرسمية وتقديم المشورة إليها
والتنسيق بين عمل المجمع والهيئات المعنية بالشريعة في البلاد العربية) [43] .
في الحلقة القادمة - بإذن الله تعالى - نتابع جوانب من جهود العلماء في
الإصلاح التشريعي. والله الموفق.
__________
(*) قاض سابق، ومستشار شرعي حالياً.
(1) ألبرت حوراني، 200.
(2) مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، ط 2، شركة الرغائب بمصر، 1912، 7 8، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، 120.
(3) أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، ط 1، 1284هـ، 4.
(4) أقوم المسالك، 43.
(5) أقوم المسالك، أسس التقدم 147.
(6) تاريخ المجتمع العربي الحديث والمعاصر، د هند فتال، ود رفيق سكري، ط جروس برس، 1988م، 191 192.
(7) خاطرات الأصالة والتجديد، 192193، أسس التقدم 159.
(8) الرد على الدهريين 131، أسس التقدم 160.
(9) خاطرات الحرب والسلام، 431.
(10) فهمي جدعان، أسس التقدم، 199.
(11) أسس التقدم 199.
(12) أسس التقدم 173.
(13) سلافة النديم 2/108، أسس التقدم 181.
(14) رسالة التوحيد 126 127، وأسس التقدم 204.
(15) رسالة التوحيد 129، أسس التقدم 205.
(16) الموافقات للشاطبي، تحقيق الشيخ عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت ط 1416، 1/70.
(17) المقدمة لابن خلدون، تحقيق درويش الجويدي، بيروت المكتبة العصرية، ط 2، 1416، 12، بواسطة محمد الميساوي، مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، تحقيق ودراسة، 100.
(18) المقدمة، 16، بواسطة الميساوي 100.
(19) انظر د رضوان السيد، المنار وتحولات القرن العشرين، بحث ضمن كتاب التحديث والتجديد في عصر النهضة، مجموعة أبحاث ألقيت في الذكرى المئوية لتأسيس مجلة المنار، هيئة.
تنسيق أعمال الندوة، د. محمد رضوان حسن، ص، 24.
(20) الميساوي، مرجع سابق 73.
(21) الرسالة الحميدية 283 289، أسس التقدم 219.
(22) دلائل التوحيد 116، أسس التقدم 241.
(23) أسس التقدم 328.
(24) أسس التقدم 331.
(25) نقلاً عن: أسس التقدم، 334.
(26) أسس التقدم 336 337.
(27) أسس التقدم، 337.
(28) عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، 234.
(29) طبعته الدولة سنة 1890م، تاريخ الفقه الإسلامي، محمد أحمد سراج، أحمد فرج حسين،
ط 1999م، 158.
(30) دخول القوانين2/435.
(31) المسلم المعاصر، العدد10 سنة 1397هـ ص 51 52.
(32) المسلم المعاصر، العدد10 سنة 1397هـ، 52.
(33) المسلم المعاصر، مرجع سابق 53.
(34) المسلم المعاصر، مرجع سابق 54.
(35) مضابط جلسات مجلس الشعب مفصلة في دخول القوانين، 2/597.
(36) المدخل إلى دراسة الفقه الإسلامي، عبد المجيد الديباني، منشورات جامعة قاريونس،
1994م، 298.
(37) وثيقة الكويت للنظام (القانون) المدني الموحد لدول مجلس التعاون، مجلس التعاون
الخليجي لدول الخليج العربية، الأمانة العامة، ط 1419هـ، ص 3.
(38) وافق عليه المجلس الأعلى سنة 1997م، وصدر عن الأمانة العامة للمجلس سنة 1419هـ، ونظام موحد للأحوال الشخصية نشرته الأمانة العامة للمجلس سنة 1997م.
(39) المدخل للفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، دار الكتاب الحديث، دون تاريخ طبع، 2425
المدخل إلى دراسة الفقه الإسلامي، الديباني، مرجع سابق، 14.
(40) جريدة الإخوان، العدد 41 السنة الرابعة.
(41) المدخل للتشريع الإسلامي، محمد فاروق النبهان، دار القلم، بيروت، 361.
(42) المرجع السابق، 361، وانظر سلسلة ندوات الدراسات القانونية الصادرة عن اتحاد
الجامعات العربية ندوة بيروت 400 401.
(43) المدخل للتشريع الإسلامي، محمد النبهان، 362.(165/8)
دراسات في الشريعة والعقيدة
التفسير الموضوعي
د. عبد الحميد محمود غانم
انصبَّ اهتمام أهل التفسير في القديم والحديث على سبر أغوار السور
والآيات القرآنية بحسب الترتيب المصحفي من جهة المعنى الإجمالي، ورُتب
الإعجاز والطرق المؤدية إلى ذلك دون تتبع ما بينها من روابط موضوعية.
وبرغم تنوع مدارس التفسير واتجاهاته بين نقلي، وعقلي، وفقهي، ولغوي،
وتاريخي، وباطني، وإشاري، وصوفي، وإجمالي، ومقارن، وتحليلي،
وغيرها ... يبقى الاتجاه الذي ينظر للتفسير على أنه فهم للقرآن باعتباره منهاجاً
ربانياً يرشد الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية، ويجعل هذا الفهم القرآني
المقصد الأعلى - يبقى هو أكثر اتجاهات التفسير فهماً لهذا القرآن العظيم.
فحيث جعل المولى - جل جلاله - هذا الكتاب الكريم حجة دينه الخاتم، فإنه
تعالى جعل من معجزته أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم؛ بحيث تقصر
الألباب عن إحصائه، وآلات الدنيا عن استيفائه، بقدر ما جعله محفظة للعلم
والخير ليتناول منه كل عقل على قدر طاقاته في الفهم والاتباع [1] .
يقول الحسن البصري: «أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها في
أربعة، وجمع علم الأربعة في القرآن الكريم» [2] .
وكما جعله الله كتاب معجزة وحجة أبقاه موضع نبراس وهداية؛ في ثناياه
البراهين ما تراكمت الشبهات، وفي إرشاداته برد اليقين ما حاكت في الصدور
الوساوس. ومن يتدبره يدرك وفاءه لحاجات البشر على تجدد الحوادث التي لا عهد
للسابقين بها، وهذا الإدراك إنما يتجلى على صورته الكاملة من خلال منهج التفسير
الموضوعي للقرآن الكريم سوراً وآياتٍ وموضوعات، هذا المنهج الذي يُعنى
بالتعرف على الروابط بين الآيات، والروابط بين السور، وتنسُّم هدايات الذكر
الحكيم، وربط القرآن بقضايا العصر، ومعالجة مشكلاته معالجة تدل على أنه كتاب
الله الخاتم ومعجزته لكل عصر.
وعلى كثرة ما كتب في التفسير الموضوعي فإن القليل من تلك الكتابات قد
نجح في تناول الجانب المنهجي منه في حين اكتفى أغلبها بالدراسات التطبيقية
لموضوع أو سورة، لكن الذي ينبغي التنبيه عليه أنه لا يمكن الفصل بين اتجاهات
التفسير فصلاً يقطع الوشائج بينها؛ إذ المجال بينها واحد وهو كلام الله - تعالى -،
والغاية واحدة وهي الكشف عن مرادات الله - تعالى - فيه.
وإن مناهج هذا الكشف لتتعدد وتتغاير تغاير تنوع وتعاضد، وترادفاً لا تبايناً،
ولا انفصالاً أو تضاداً، بل إن بعض أنواع التفسير يكون أساساً للبعض الآخر؛
فالتفسير التحليلي مرتبط بكل من التفسير الإجمالي والموضوعي والمقارن؛ لأنه
ينصبُّ على معرفة دلالات الألفاظ لغوياً وشرعياً، وإدراك الروابط بين أجزاء
الجملة القرآنية من جهة، وبين الجمل في الآية من جهة ثانية، وبين الآيات في
السورة من جهة ثالثة، كما أن التعرف على أسباب النزول والناسخ والمنسوخ
والقراءات وآثارها في فهم دلالات الآيات، وكذا وجوه الإعراب وأساليب البيان
وسبل الإعجاز ودلالات القصص؛ هي كلها من الوجوه التي تعين على تجلية
المقاصد القرآنية؛ بحيث يلزم للمهتم بالتفسير الإجمالي الإلمام بكل ما تقدم من معالم
التفسير التحليلي.
كما أن من يكتب في التفسير المقارن يحتاج إلى الإحاطة بأقوال المفسرين
عموماً، وبالتفسير التحليلي والإجمالي خصوصاً، أما الباحث في التفسير
الموضوعي فيجب عليه أن يعتمد جملة ما تقدم؛ لأن عمله ثمرة لهذه الاتجاهات
كلها، ومرحلة تخصصية متأخرة عما سبقها؛ فليس ما سبقه إلا لَبِنات عمله ومادته
الأولية التي عليها يقيم بنيانه. وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن المكتبة الإسلامية
تفتقر إلى جملة بحوث ذات صبغة تخصصية في التفسير الموضوعي، وإن
الموجود منه لا يعدو أن يكون نتفاً متناثرة.
وإذا نظرنا إلى مراتب التفسير وجدنا أن أدناها يُبيِّن بالإجمال ما يُشرِب القلب
عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس من الشر إلى الخير، وأعلاها لا يتم إلا بأمور
تتحقق مجتمعة من خلال منهج التفسير الموضوعي وحده، وتلك الأمور هي [3] :
1 - فهم معاني الألفاظ المفردة بحيث يحقق المفسر اللفظ من القرآن بجمع ما
تكرر منه وينظر فيه؛ فلربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ: (الهداية) فيعرف
المعنى المطلوب من بين معانيه؛ فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وإن أفضل قرينة
تقوم على حقيقة معنى اللفظ هي موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة
المعنى، وائتلافه مع المقاصد التي جاء بها الوحي في جملته.
2 - فهم الأساليب والتفطن لنكت القرآن ومحاسنه بقدر الطاقة، ويحتاج هذا
إلى علم الإعراب، وعلوم المعاني والبيان، واستعمالات أهل اللغة باعتبارها آلة
الوحي ومحفظته.
3 - العلم بأحوال البشر؛ فهذا الكتاب آخر الكتب، وفيه بيان ما ليس في
غيره من أحوال الخلق وطبائعهم، والأمم وتبدلها، والسنن الإلهية، وأحسن
القصص، ومناشئ الاتفاق والافتراق، وذلك يحتاج إلى جملة فنون من أهمها علوم
التاريخ، والسنن الإلهية.
4 - العلم بوجوه هدايات القرآن للبشر، وذلك يستلزم الوقوف على ما كان
عليه الناس في عصر الرسالة وقُبَيْلَهُ، وما قبّحه القرآن من طباع الجاهلية؛ فإن
عُرى الإسلام تُنتقض إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ومن جَهِل حال
الناس قبل القرآن جهل تأثير هداياته فيهم.
5 - العلم بالسيرة النبوية وأحوال الصحابة والتابعين؛ فإن هذا العصر هو
أزكى مراحل الاتباع النقي لهدايات الوحي ومقاصده.
كما تتجلى أهمية التفسير الموضوعي في عصرنا أكثر مما تجلت في غيره؛
ذلك أننا نعيش عصر القضايا المتلاحقة وإفرازات النشاط البشري والطارئ
المعاشي، وقد أقر لسان حال الحضارة المادية بإفلاسها في مواجهة تحديات الحياة،
وإنسان عالم السلطة الزمنية، والحضارة الشيئية، والمراهنة الصناعية بحيث لم
يعد هذا الإنسان قادراً على مواجهة المشكلات التي صنعها، فلا هو يقدر على
التخلص منها، ولا هي بالتي تريد تركه؛ ذلك الإنسان الذي يستدعي النشوة
بدمار ذاته، ويستبدل بالدين بدائل وضعية، ويضع تفسيرات للحياة والموت،
ويخترع نظريات وحلولاً يقنع بها نفسه ويلقنها أجياله حتى أصبح العالم بين وثني
إلحادي ومادي نفعي، وجاهل بالدين قد فقد توازنه القيمي، وسلامه الداخلي،
وصفاءه النفسي؛ في تعاند واضطراب حوَّل حياته إلى أرقام، والأرقام لا قلب
لها.
لقد أتى بالمشكلة وعجز عن الحل، فنجح في اختزال الزمان والمكان،
وأصبح منتفخاً بالتقدم الكمي، فاشلاً في تحقيق رصيد يحميه من خواء الروح،
فتحول إلى (العملاق القزم) فهو عملاق في التمدد العلمي واختراع الأسباب، وقزم
في إشراقات الروح وصحة الفطرة ومنظومة القيم، قد ضاع منه انسجام الحياة،
وسلام النفس، واتساق المشاعر، وتوازن النوازع، وحميمية العلاقات فحدثت
التناقضية الهائلة بين المادة الغالبة والروح المغلوبة.
إن الإنسان اليوم بحاجة إلى حل كبير على قدر مأساته، ولما كان الخالق
أدرى بصنعته فإنه لا مفر من رد الصنعة إليه، بعد أن تعددت مشكلات الحياة إلى
حد يُلْزِم بضرورة التدخل لوضع الحلول الشرعية لها، ولن يتم ذلك بغير تنسم
الهدايات الربانية واستنطاق مدلولات الآيات، وإماطة اللثام عن وجوه جديدة
للإعجاز؛ فالنصوص محدودة ومشكلات البشرية لا نهاية لها.
والحق أنه ما من نوع من أنواع التفسير يمكن أن يوفر للباحث رُتَبَ الإحاطة
والدرس الذي تحتاجه مشكلات الحياة مثل ما يوفره التفسير الموضوعي من قدرة
على جمع أطراف موضوع الدراسة والاطلاع على أسباب النزول، وشروط
المرحلة التي تنزلت فيها الآيات وتنزيلها عليها، وتوجيه ما ظاهره التعارض،
والاسترشاد بالدلالات اللغوية والأساليب البيانية، والتفتيش عن أسرار الترتيب
المصحفي والنزولي، واستنطاق إيحاءات الوحي بشروطها، وإماطة اللثام عن
وجوه هداياتها الجديدة.. وجمع ثمرات طرق التفسير جملةً، وتوظيفها لتحقيق تلك
الغاية الشريفة.
الوحدة الموضوعية في اللغة:
أ - الوحدة: تطلق الوحدة لغة على الانفراد؛ فالواحد في الحقيقة هو الشيء
الذي لا جزء له البتة، ثم يطلق على كل موجود [4] وتستعمل الوحدة في معنى
الاتحاد، أي صيرورة الاثنين وما فوقهما واحداً [5] .
ولما كان من شأن التعدد التشتت استعملت الوحدة التي أصلها الانفراد في
الاجتماع الذي فيه الضبط والالتئام [6] .
قال أبو البقاء في «كلياته» : «الوحدة كون الشيء بحيث لا ينقسم، وتطلق
ويراد بها عدم التجزئة والانقسام» [7] .
ب - الموضوع: يطلق لغة على الوضع، وهو جعل الشيء في مكانٍ ما
سواء كان ذلك بمعنى الحط والخفض أو الإلقاء والتثبيت، والوضع أعم من الحط،
ويقال: ناقة واضعة؛ إذا رعت حول الماء ولم تبرح. وقيل: وضعت تضع
وضيعة وكذا موضوعة، والفعل منها يتعدى ولا يتعدى [8] .
وقد استعمل الوضع في القرآن الكريم على عدة معان: منها: الموضع:
[يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ] (النساء: 46) . ووضع الحمل: [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ] (آل عمران: 36) ،
والإيجاد والخلق: [وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ] (الرحمن: 10) ، أي خلقها
وأوجدها. والبناء: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ]
(آل عمران: 96) ، أي بني وخصص للعبادة. كما يأتي الوضع في القرآن
على معنى بث الشيء في النفس قال تعالى: [وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ]
(التوبة: 47) ، أي حملوكم عليها [9] .
والوضع ضد الرفع، ومنه: وضعه يضعه وضعاً وموضوعاً، والموضوع
في الكتب هو ما بحث فيه عن عوارضه الذاتية كالجسم بالنسبة للطلب، واللفظ
العربي بالنسبة للنحو. والموضوعية: مصدر صناعي نسبة للموضوع المأخوذ من
الموضع [10] والموضوعي نسبة إلى موضوع. ومنه موضوع الألوهية، وموضوع
البر والثواب ونحوها، وهذا المعنى ملحوظ في التفسير الموضوعي؛ لأن المفسر
يرتبط بمعنى معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى يفرغ من تفسير الموضوع الذي التزم
به [11] .
الوحدة الموضوعية في الاصطلاح:
الموضوع في الاصطلاح: هو أمر متعلق بجانب من جوانب الحياة في
العقيدة أو مظاهر الكون أو السلوك الاجتماعي تعرضت له آيات القرآن الكريم [12] .
وإذا ذكرت الوحدة الموضوعية من خلال اعتبارها مركَّباً وصفياً فإن معناه: اتحاد
الموضوع الذي ذكر متناثراً بحيث لا يكون فيه تباين أو اختلاف، بل يؤلف وحدة
كاملة، كما نقول: وحدة الموضوع [13] ؛ فالمراد بالوحدة الموضوعية في القرآن
هو البحث عن القضايا الخاصة التي عرض لها الكتاب الحكيم في سوره المختلفة
ليظهر ما فيها من معان خاصة تتعلق بالموضوع العام الذي نبحثه [14] .
ولقد أُضيفت كلمة «تفسير» إلى كلمة «موضوعي» فصارتا عَلَماً على هذا
اللون من التفسير، ثم تُنُوسيت من الأذهان تلك الإضافة. كما تعددت تعاريف هذا
الاصطلاح بين جمهرة الباحثين وإن بدا من أكثرهم اتجاه إلى حصره في جانب من
جوانبه الرحيبة وهو الجانب المتعلق بموضوع ما من موضوعات الحياة، لذلك
ترجَّح عندهم تعريفه بأنه: علم يتناول القضايا القرآنية، من خلال جمع الآيات
المتفرقة لفظاً أو حكماً، ذات العلاقة بموضوع واحد وتفسيرها بحسب المقاصد
القرآنية [15] .
وعلى ذلك فلا يُعد التفسير الموضوعي تفسيراً عاماً بالمعنى الاصطلاحي
المألوف لدى جمهرة المفسرين؛ ذلك أنه لا يتناول كل آيات القرآن على صورة
الترتيب المُصْحفي، وإنما هو جمع للآيات الواردة في موضوع واحد، ثم تصنيفها
بطريقة منهجية تعين على تنسم هداياتها، وتلمس مقاصدها، واستخراج
مكنوناتها [16] .
إلا أن بعض أهل العلم ينظرون إليه على أنه لون تفسيري مستقل يعتمد
المنهجية في النظر إلى القرآن الكريم كمنحة إلهية ذات مقاصد شمولية تشمل
حاجات البشرية في كل زمان ومكان، على مستوى يضمن لها الصلاح والترقي
اللائق برتبة التكريم الإلهي للإنسان.
يقول الدكتور محمد البهي: التفسير الموضوعي ليس تفسير جملة من الآيات،
ولا استخلاص مضمونها في وحدة قرآنية، وإنما هو استخلاص مضمون الكتاب
ككل من نظرة موضوعية شاملة مرة، أو استخلاص موضوع محدد كمنهج القرآن
في تطوير المجتمع، أو موقف القرآن من المادية مرة أخرى، أو استخلاص هدف
السورة الواحدة وما عنيت بإبرازه في إطار الدعوة كلها مرة ثالثة [17] .
ولعل أبلغ مهام التفسير الموضوعي وجل أهميته تتعلق بكون «سر القرآن
ولبابه الأصفى ومقصده الأقصى إنما يكمن في دعوة العباد إلى الله - تعالى -، وأن
معانيه تدور حول أصناف ستة: ثلاثة منها أصول، والأُخَرُ توابع. فالأصول:
تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط، وتعريف الحال عند الوصول إليه.
والتوابع: أحوال المجيبين للدعوة والناكثين عنها، والرد على الجاحدين، ومعرفة
الطريق إلى الله - تعالى -» [18] .
ومن هنا تتجلى أهمية التفسير الموضوعي فيما يلي:
أولاً: تجدد حاجات المجتمعات للهدايات الإلهية، وبروز أفكار جديدة على
الساحة الإنسانية، وانفتاح ميادين ثرية للنظريات العلمية الحديثة يوجب على
الباحث المسلم أن يلجأ إلى هدايات الكتاب وإرشادات السنَّة ليستشف منها الحلول
لمشكلات العصر.
ثانياً: لما كانت المشكلات الإنسانية غير محدودة ونصوص الوحي محدودة
فإن مجابهة تلك المشكلات توجب البحث عن حلولها من خلال آليات الاجتهاد
والسعة الكامنة فيما تحمله آيات التنزيل من قواعد كلية وظنّيات دلالية.
ثالثاً: الدراسة الموضوعية هي أوقع المناهج وأعمقها للكشف عن علل
النصوص ومناسباتها وحكمها وهديها ودلالاتها وظلالها، باستخدام منظار القرآن
نفسه طلباً لإدراك ملكة التعرف على المقاصد القرآنية.
رابعاً: إن هذا النوع من التفسير ينظر إلى موضوع معين في القرآن كله
ليجلّي جوانبه ويحدد ملامحه ويربطه بالحياة، ومن ثم يرتب المجال لكل دارس كي
يربط تخصصه بهدايات الوحي ويصنع الحياة على عينه؛ فالفقيه يجد مَعيِنَهُ في
آيات الأحكام، والمفكر يلتقي بالموارد القرآنية التي يبحث عنها في مظان التدبر
وإعمال النظر، والاقتصادي يقف على آيات المال والإنفاق والثروة والإعمار،
وعالم الكونيات يرى مراداته في آيات الفلك والنجوم وحركة الكواكب والليل
والنهار، والباحث التربوي يلقى ضالته في آيات الإرشاد والوعظ والتوجيه
والاعتبار، والمؤرخ يعثر على أخبار الأمم السابقة ودروس العبر القرآنية
وأحوال الأقوام والدول، وباحث الاجتماع يجمع ثروة هائلة من الآيات الدالة
على سنن الابتلاء والتمكين والاستدراج والزوال، وأحوال العمران.
وكلهم يسوس الحياة كما يريدها الله بعد أن برزت إلى الساحة علوم جديدة
تحتاج إلى من يضبط قواعدها ويؤصل لها، مثل:
1 - الإعجاز العلمي: بغرض الاعتدال في توجيهه بعد أن تعرض لنوع
إفراط عند إدخال الآيات القرآنية ذات العلاقة إلى مجالات العلوم التجريبية التي لم
تقعّد نظرياتها بعدُ كما حدث في علوم الفلك والحياة والفيزياء.
2 - أصول التربية: بعد أن تعددت مدارس علوم النفس والاجتماع حتى
فرضت مناهجها على مجالات الفكر التربوي وتطبيقاته ومعظمها غربي النبتة
والتوجه؛ بحيث أصبح المسلمون بحاجة ماسة إلى علماء راسخين في علوم
الدراسات الإسلامية، وقادرين على استيعاب ثقافات العصر ومناهجه في هذا
المجال وغيره، مع التمتع بملكة الاستنباط والإبداع عن بصيرة.
3 - أصول الاقتصاد.
4 - أصول الإعلام.
5 - أصول التاريخ البشري.
ولا شك أن كل هذه العلوم وغيرها، وما سوف يستحدث منها بحاجة إلى
الكتابة فيها من خلال قراءة الوحي وقراءة العصر، وليس لغير منهج التفسير
الموضوعي القدرة على تلك القراءة، الأمر الذي سيؤدي إلى تأصيل هذه العلوم في
ميادينها.
خامساً: إن التفسير الموضوعي هو الأقدر على أن يُجَلِّي وجوهاً جديدة
للإعجاز القرآني الذي لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَق على كثرة الرد [19] ، وإذا كان
فهم القرآن يتوقف على إدراك ما تدل عليه آياته من طريق العبارة، والتعرف على
مرامي ألفاظه بالإشارة، وإدراك لطائفه ومن ثم بلوغ حقيقته على وجهها، فإن
تَمَثُّلَ أوقعِ طرق فهم القرآن إنما يأتي من طريق التفسير الموضوعي الذي تجتمع
عنده خيوط غيره من فنون التفسير جملة.
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب المقدمة، ص م بتصرف، جواهر القرآن، الغزالي، ص 51.
(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 14/7.
(3) تفسير المنار، محمد رشيد رضا، 1/21 24، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، علوم القرآن، الدكتور عدنان زرزور، ص 409 411، بإيجاز، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الأولى، 1401هـ، 1981م.
(4) مفردات القرآن، الراغب، ص 551.
(5) الوحدة الموضوعية في القرآن، حجازي، ص33، دار الكتب الحديثة، مطبعة المدني.
(6) مجلة الأزهر، عدد رمضان 1377هـ، محمد النجار.
(7) الوحدة الموضوعية في القرآن، حجازي، ص 32.
(8) المدخل إلى التفسير الموضوعي، عبد الستار سعيد، دار الطباعة والنشر الإسلامية، ص 20، 23، مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مصطفى مسلم، ص 15، دار العلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1410هـ 1989م.
(9) مفردات القرآن، الراغب، ص 562 563، الوحدة الموضوعية في القرآن، حجازي، ص 33.
(10) الوحدة الموضوعية في القرآن، حجازي، ص 33.
(11) المدخل إلى التفسير الموضوعي، عبد الستار سعيد، ص 23، دراسات في التفسير الموضوعي، الألمعي، ص 7، مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مصطفى مسلم، ص 15.
(12) مباحث في التفسير الموضوعي، مسلم، ص 16.
(13) الوحدة الموضوعية في القرآن، حجازي، ص 33.
(14) المصدرالسابق، ص 33 34.
(15) التفسير الموضوعي، الدكتور محمد القاسم، ص 7، 8، طبعة القاهرة، 1401هـ، دراسات في التفسير الموضوعي، الدكتور الألمعي، ص 7 9، 17، المدخل إلى التفسير الموضوعي، عبد الستار سعيد، ص 20، مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مصطفى مسلم، ص 16، المناهج الجديدة، الدكتور عبد الغني الراجحي، ص 20، الوحدة الموضوعية في سورة يوسف، الدكتور باجودة، ص 25.
(16) دراسات في التفسير الموضوعي، الألمعي، ص 15.
(17) نحو القرآن، محمد البهي، ص 89.
(18) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 17/114 115.
(19) دراسات في التفسير الموضوعي، الألمعي، ص 16، 17 بتصرف، مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مصطفى مسلم، ص 30 33 بتصرف.(165/19)
قضايا دعوية
من خصائص الدعوة إلى الله عز وجل
إبراهيم بن يوسف آل الشيخ سيدي [*]
توطئة:
بعث الله - سبحانه وتعالى - أنبياءه ورسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون
للناس على الله حجة بعد الرسل، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط،
فبشروا وأنذروا، ونهَوْا وأمروا، ورغَّبوا ورهَّبوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم
لتكون كلمة الله هي العليا.
وكان ذلك كله عين الحكمة في الدعوة إليه سبحانه وتعالى.
ولمَّا كان من سنّة الله - عز وجل - التي لا تتبدل ولا تتحول أن لا بقاء في
هذه الدار العاجلة لأي مخلوق كان، فإنه كتب على أنبيائه أن يلحقوا بالرفيق الأعلى،
ولكنه كتب أيضاً - سبحانه وتعالى - لدينه البقاء إلى خروج الريح الليّنة التي
تقبض أرواح المؤمنين، فيبقى شرار الناس يتهارجون كتهارج الحُمُر، فعليهم تقوم
الساعة.
وإذ كان الأمر على ما وُصف، فإنه لا بد للرسل الذين لم يُكتب لهم البقاء من
ورثة يرثون علمهم ومنهاجَهم، وللدين الذي كتب له البقاء من حَمَلَة يحملونه
ويبلغونه للناس، فكان هؤلاء الورثةُ والحملة هم العلماء والدعاة إلى الله - عز
وجل -؛ إذ لا تتم وراثة الرسل الذين لم يُورِّثوا درهماً ولا ديناراً بالانتساب
الطيني، وإنما بتحصيل العلم الذي جاؤوا به من لدن حكيم خبير، والعمل به ظاهراً
وباطناً، والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي
أحسن.
فمن ورث هذا العلم فقد أخذ بحظ وافر، ومن ترسَّم خطى الرسل في العمل
والدعوة فهو من أتباعهم على الحقيقة والكمال.
ولا يضر من كان هذا شعاره ودثاره أن ينبزه ويصمه بالألقاب مَنْ يهرف بما
لا يعرف، ومَنْ ينبس بما عساه يهوي به في النار سبعين خريفاً، ومَنْ همه التندر
والازدراء، والسخرية والاستهزاء، وإن أخرجه ذلك من ربقة الإيمان، وقيد
الإسلام.
ولا يجدي مَنْ هذا دأبه وديدنه أن يتبجح بالإسلام، أو يدعي أعلى مقامات
الإيمان، فلا يغني عنه ذلك من الله شيئاً؛ ولا يكون من هذا شأنه من أتباع الرسل
حتى يلج الجمل في سم الخياط.
خصائص السبيل:
أ - الوضوح:
إن سبيل الله - عز وجل - واضحة المعالم، بارزة الملامح، لا غموض فيها
ولا التواء.
قال الله سبحانه وتعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .
فنحن أمام سبيل واضح [1] ، وطريق مهْيع، لائح قريب، مُشاهَد، أشير إليه
باسم الإشارة الدال على القرب، حتى لا يجد دعاة الباطل، من شياطين الكهنوت
والأسرار، وأبالسة الشعوذة والخرافات، منفذاً لوصفه بالغيبية، والبعد والانبهام
والرمزية، وأنه خاص بثلة من علماء الطلاسم والألغاز. ومن المعروف أن هؤلاء
يجعلون الفيوضات والإلهامات والكشوفات والمنامات والمواجيد والأذواق
والأحوال، مصادر للدين، ومنابع للاعتقاد والتشريع، ويزعم بعضهم - بناء على
ذلك - أنه لا حاجة إلى الرسل الكرام ولا إلى الكتب المنزلة العظام.
وأحسنهم حالاً من أطلق على علم الأنبياء: علم الظاهر أو علم الرسوم،
وعلى ما عنده من وحي الشياطين: علم الحقيقة، أو علم الباطن، أو العلم اللدنِّي
الذي أوتيه الخضر - عليه السلام -. إن التعبير بهذه الصيغة يقطع عليهم الطريق؛
لأن العامي يفهم منه قُرْبَ هذه السبيل ووضوحها، وسهولة السير فيها واستقامتها،
وأنه مَعْنِيٌّ باتباعها والدعوة إليها: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي] (يوسف: 108) .
فهو كقوله - تعالى -: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ]
(الأنعام: 153) . وكقوله صلى الله عليه وسلم: «قد تركتكم على البيضاء ليلها
كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» [2] .
ثم إن من مقتضيات البيان الذي تكفل الله به في قوله: [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]
(القيامة: 19) وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم: في قوله: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] (النحل: 44) ، أن تكون سبيل الله ورسوله
واضحة المعالم بارزة الملامح، بينة القسمات، ظاهرة لا خفاء بها كالشمس في
رابعة النهار، أو كالبدر ليلة التمام.
بل كيف يكلف الله - تعالى - عباده باتباع طريق لم يبيّنْه لهم غاية البيان،
وهو سيجزيهم ويحاسبهم عليه، وهو - سبحانه - الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال
ذرَّة؟
وكيف يصرّح القرآن بإكمال الدين وإتمام النعمة، مع بقاء أشياء من الدين
ورسوم من الملة لم ترِد في القرآن ولا في السنّة، وإنما ستظهر بعْدُ في شكل
طقوس وهيآت وطرائق أوصى الشياطين بها إلى أوليائهم ليجادلوا أهل الحق؟ !
إن سبيل الله - عز وجل - خالٍ من الأسرار والطلاسم والألغاز، والعلوم
الباطنية، والمُعَمَّيَات والأحاجي؛ ولهذا غابت فيه طبقة الأحبار والرهبان الذين
يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله؛ فلا تجد في هذا الدين من
يدَّعون الوساطة بين العبد والرب، أو يوزعون صكوك الغفران، أو يحتكرون فك
ألغاز الكتاب المقدس، ومن تلبس بشيء من ذلك فليس من الله في شيء.
وكل ما يلاحظ - بعد القرون المزكاة - من هذه البدع الشنيعة والمقالات
الكفرية الفظيعة في العالم الإسلامي، فإنما هو من المحدثات الشركية التي روَّج لها
أعداء الإسلام، من زنادقة وباطنية وملاحدة، ويهود ومجوس، فخدعوا بعض
الأغرار في فترات الضعف والانقطاع عن الوحي، فسرت إلى المسلمين، وجعلها
كثير منهم عماد عقيدته، وملاك دينه، والدين منها براء.
ثم إن إضافة السبيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قضت على كل أنواع
الاحتكار لهذه السبيل والاختصاص بها دون سائر المؤمنين.
بل إنها أضيفت إلى الله تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ] (النحل: 125) ،
وأضيفت إلى المؤمنين عامة، والمنيبين خاصة، كما قال - تعالى -: [وَمَن
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 115) ، وقال سبحانه: [وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ] (لقمان: 15) . فالسبيل مشاع بين جميع المؤمنين والمنيبين.
ولا ينبغي أن يفهم أن المنيبين طبقة خاصة لها أسرار وطقوس معينة كما
يحلو لبعضهم أن يفسر الآية على ذلك الوجه إذ المنيبون بالدرجة الأولى هم الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام، ثم الأمثل فالأمثل، من أتباعهم إلى يوم القيامة.
ثم إن الإنابة فرض على كل المؤمنين، وهي الرجوع والتوبة إلى الله تعالى.
قال - سبحانه -: [وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ] (الزمر: 54) وقال:
[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *] (النور: 31-32) .
فالمنيبون هم التائبون الراجعون إلى الله - تعالى - النادمون على ما فرط
منهم من الذنوب، وبَدَر منهم من السيئات والمخالفات؛ فالإنابة من مقتضيات
الإيمان وكماله.
وغني عن البيان أن نقول إن إضافة السبيل إلى الله - تعالى - هي باعتبار
صدوره منه وتشريعه له، ورسمه إياه لعباده، وإن إضافته للرسول صلى الله عليه
وسلم، هي باعتبار أنه المبلغ له، والمبين لمعانيه بأقواله وأفعاله وتقريراته، وإن
إضافته للمؤمنين هي باعتبار أنهم أهله الذين ترسمَّوه وسلكوه وحملوا الشرع الذي
حدده ونهجه.
ب- ربانية المصدر:
إن هذه السبيل - التي هي عبارة عن الوحي المنزل - لم تكن من وضع
البشر، ولا من بنات الفكر، لم يسنَّها فلاسفة أو مشرعون، وإنما جاءت من
السماء وحْياً محفوظاً مقروءاً باقياً على الدهر، لا يَخْلَقُ على كثرة الردّ، لا يتفه
ولا يتشيَّن، صالحاً لكل زمان ومكان.
قال - تعالى -: [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ]
(هود: 1) . وقال: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]
(الأنعام: 155) ، وقال جل من قائل: [وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] (فصلت: 41-42) .
وقال - سبحانه -: [وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ] (النمل: 6) ،
فهو كتاب سماوي وتشريع رباني، محكم الآيات مفصلها، عجيب الأساليب
معجزها، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون
من المنذرين.
وفي قوله - تعالى - في سياق الآية: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ] (يوسف: 108) من الإشارة إلى ربانية
مصدر هذه الدعوة المباركة ما فيه كفاية للمتأمل، بالإضافة إلى ما تحمله هذه
العبارة من اشتمال هذه الدعوة على تنزيهه - سبحانه - عن الشريك في الخلق
والأمر والحكم والتشريع والصفات والأسماء؛ فقد جمعت من أبواب التوحيد ومعانيه
وتقديس الرب - جل وعلا - ما تعجز عن جمعه المجلدات والأسفار.
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «وقوله: [وَسُبْحَانَ اللَّهِ]
(يوسف: 108) أي أنزه الله وأُجِلُّه وأعظِّمه وأقدِّسه عن أن يكون له شريك أو
نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبة، أو وزير أو مشير، تبارك
وتقدس، وتنزه وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً» [3] .
فإذا عرف أن هذا هو منطلق الدعوة وهدفها وغايتها في آن واحد، وأنه هو
صبغتها وسَمْتُها من بين كل الدعوات عُرف أن مدارها على غرس شجرة التوحيد
المباركة في القلوب، وتنوير البصائر بالتعلق بالواحد الأحد، وإسناد الأمر كله إليه
بعد استشعار عظمته وجلاله، وعمارة القلب السليم بمحبته، وتنزيهه وتقديسه،
والتفويض إليه في كل شيء، والخنوع المطلق لحكمه وأمره، سبحانه وتعالى.
إن هذه السبيل هي حكم الله المنزل؛ فكما أنه - تعالى - منزه عن الشريك
في الأسماء الحسنى [هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ] (مريم: 65) ، وعن الشريك في
الصفات العُلى [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] (الشورى: 11) ، [وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ]
(الإِخلاص: 4) ، وعن الشريك في الملك والخلق والأمر [وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ
فِي المُلْكِ] (الإسراء: 111) ، [أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ] (الأعراف: 54) ،
[لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ] (آل عمران: 128) ، فكذلك لا شريك له في حكمه
وتشريعه [وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً] (الكهف: 26) ، [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ] (يوسف: 40) [أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ]
(الأنعام: 62) . والحكم داخل في مفهوم الأمر قدرياً كان أو شرعياً، وإن كان
المقصود عندنا في هذا المقام هو الحكم الشرعي، وقد انتظم قوله: [وَسُبْحَانَ اللَّهِ]
(يوسف: 108) كل هذه المعاني والعلوم والدقائق، وهي في جملتها خلاصة
العلوم الشرعية.
واتضح من إضافة السبيل إليه - تعالى - في قوله: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ]
(النحل: 125) ، ومن إضافتها إلى رسوله في قوله - عز من قائل -: [قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي] (يوسف: 108) . والرسول لا يتلقى إلا الوحي ولا ينذر إلا
بالوحي، ومن قوله أثناء الآية: [وَسُبْحَانَ اللَّهِ] (يوسف: 108) من التدليل
على ربانية مصدر هذه الدعوة ما لا مزيد عليه؛ مع أن الأمر لا يحتاج إلى مزيد
تفصيل في مثل هذه المقالة؛ لكونه من أصول العقيدة وقطعيات الديانة، والآيات
والأحاديث في هذا المعنى تعد بالمئات، ولا ينكر هذا إلا كافر بالوحي.
فالشريعة الإسلامية نزلت من لدن حكيم خبير، ولا تحتاج إلى زيادة؛ لأنها
كاملة ووافية بمصالح العباد في العاجل والآجل، وكل ما سواها من التيارات
والنظريات والملل والنحل فهو طاغوت يحرم تحكيمه والتحاكم إليه، ويكفر من فعل
ذلك أو دعا إليه، أو اتهم الشرع بالنقص أو التخلف أو الوحشية أو البدائية ونحو
ذلك، أو اتهمه بعدم الوفاء بصلاح القلوب وعلاج النفوس.
ج - مفاصلة المشركين: (وما أنا من المشركين) :
إن دعوة التوحيد الخالص لا يمكن أن تتعايش مع الشرك والمشركين بأي حال
من الأحوال؛ إذ قوام عقيدة التوحيد مبدأ الولاء والبراء: الولاء لله ولرسوله
وللمؤمنين، والبراء من الشرك والمشركين.
وذلك يعني الكفر بجميع الطواغيت والنظم البشرية، ومباينة المشركين
ومقاطعتهم وإعلان البراءة منهجاً: قولاً وفعلاً، وتلقي الهداية من الله وحده، وإسناد
الأمر والحكم إليه، والتعبد له ظاهراً وباطناً بجميع أنواع العبادات التي شرعها في
كتابه الكريم، أو على لسان رسوله الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وقد ألح القرآن الكريم في مواضع كثيرة على هذا المبدأ الأصيل الراسخ في
صلب العقيدة؛ فمن ذلك قوله - تعالى -: [لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ] (المجادلة: 22) .
وقال - سبحانه -: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ]
(الممتحنة: 4) .
وقال - عز من قائل -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] (المائدة: 51) إلى غير
ذلك من الآيات الصريحة في تحريم موالاة المشركين وأهل الكتاب.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» [4] ،
وقال: «أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب» [5] ؛ وذلك لأنها مهبط الوحي
ومنبت الرسالة، وفيها الحرمان: المكي، والمدني. وتبرأ صلى الله عليه وسلم من
مؤمن يقيم بين أظهر المشركين، وقال: «لا تراءى ناراهما» [6] .
وإذا كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بأن يقول: [وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ]
(يوسف: 108) . فمعنى ذلك أيضاً أنه مأمور بأن يقول إنه من الموحدين وأن
يصدع بذلك؛ وفي ذلك من إعلان التوحيد وهدم الشرك والبراءة منه ومن أهله،
وإخلاص العبادة لله وحده وتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد، مما تعجز العبارة عن
وصفه وتلخيصه.
وبهذا كله يتبين أن قوام الدعوة وملاك أمرها التوحيد؛ فلا غرابة في تركيز
الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأتباعهم على العقيدة الصافية ونشر أركانها
ومبادئها، ودعوتهم إلى مفاصلة المشركين ومباينتهم في كل شيء في الاعتقاد
والعمل والمظهر والسلوك؛ لأن التزام الصراط المستقيم يقتضي مخالفة أصحاب
الجحيم.
إن العبادة لا تتم إلا بتحقيق الأصل وهو التوحيد، ولا يجازى الناس
ويحاسبون إلا على أساس المعتقَد.
وتوحيد العبادة هو لب الرسالات السماوية والكتب المنزلة؛ لأن الخلق
مفطورون على توحيد الربوبية، ووصف المولى - عز وجل - بصفات الكمال
ونعوت الجلال.
ومن أجل هذه العبادة القائمة على التوحيد - بكل أقسامه - خُلِق الخلق وبعثت
الرسل ونصبت الموازين [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]
(الذاريات: 56) ، [وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] (الجاثية: 22) ، فأول خطوة يقطعها الداعية على هذا
الطريق، وأول نشاط دعوي يزاوله، بل أول كلمة يتفوه بها هي الدعوة إلى
توحيد العبادة بلا مساومة ولا تدرُّج، ولا تنازل. وليصبر على ذلك عشرات
السنين كما صبر عليه نوح - عليه السلام - أول الرسل إلى أهل الأرض عشرة
قرون إلا خمسين عاماً.
إنه مبدأ لا يقبل التنازل ولا التأخير بحال من الأحوال، ولا ينبغي أن يظن
الداعية أنه يجزئه مجرد الأمر بالتوحيد إجمالاً؛ بل لا بد أن يشرح معنى التوحيد
تفصيلاً حتى لا يظل الناس على شِعْبٍ من الشرك وهم لا يشعرون؛
ومن المعلوم أنه أخفى من دبيب النمل على الصفا!
وصفوة القول أن الدعوة إلى الله - تعالى - هي أولاً:
الدعوة إلى توحيده وما يتبع ذلك من امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن أول
حركة في المجال الدعوي شرح مسائل التوحيد - تفصيلاً - كما جاء في الكتاب
والسنة بعيداً عن حذلقة المتكلمين وثرثرة المتفيْهقين.
وأن المسلم يجب عليه الاستمرار في الدعوة على منهاج الرسول صلى الله
عليه وسلم صادعاً بالتوحيد وتنزيه الرب - جل وعلا - معلناً البراءة التامة من
المشركين والكتابيّين، ومحترساً من التعلق بهم أو موالاتهم أو محاكاتهم أو التشبه
بهم، أو الإعجاب بأموالهم وأولادهم، أو الاغترار بتقلبهم في البلاد.
وإذا تمهد أن الغاية من رسم السبيل ووضع المنهاج هي الدعوة إلى الله وحده
عبوديةً له وطواعية مطلقة علم بذلك أن هذا السبيل جاء نسفاً لطواغيت الأرض
وهدّاً لأركان الوثنية، أياً كان نوعُها، واقتلاعاً لجرثومة الشرك من أصولها،
واجتثاثاً لبذورها وجذورها.
إنه طرح لكل العبوديات وتحرير للعقول والألباب، والأفئدة والنفوس
والأرواح من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد.
إنها دعوة محددة [أَدْعُو إِلَى اللَّهِ] (يوسف: 108) ، [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ] (النحل: 125) ، منضبطة بغايتها، وهدفها، فلا مجال لدعوة أخرى ولا
لطريقة أو مذهب أو شخص أو دستور أو قبر أو وثن ... إنها دعوة إلى الله سبحانه،
وكفى.
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: «يقول - تعالى - لرسوله
صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس، آمراً له أن يخبر الناس أن هذه
سبيله، أي طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة ألاَّ إله إلا الله وحده لا
شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان، هو وكل من
اتبعه.. يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين
وبرهان عقلي وشرعي» [7] .
إنها دعوة إلى إعلان التوحيد في الأرض، والعمل بمقتضاه ظاهراً وباطناً،
يصدع بذلك محمد صلى الله عليه وسلم في حياته، ويضطلع بها من بعده من اتبعه
إلى يوم الدين، كل حسب طاقته ووسعه، وقد غلطت جماعات وتنظيمات إسلامية
معاصرة في عدم تركيزها على التوحيد في خطابها الدعوي، وإن تطرقت إليه ففي
إطار محدود ونطاق ضيق، بل ربما ركزت بعض الطوائف على باب معيَّن
وتركت الأبواب الأخرى.
ومن تتبَّع القرآن المكيّ وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في فجر الدعوة
بمكة المكرمة، ورأى تركيزه طوال ثلاث عشرة سنة على التوحيد، وحرصه على
تجذيره في النفوس وغرسه في القلوب، وراجع سير المرسلين من قبله أدرك مدى
فداحة هذا الخطأ الذي وقعت فيه الجماعات المذكورة.
إن تلك التربية الإيمانية التي ربى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصحابه - رضي الله عنهم - هي التي جعلت إيمانهم بالغيب أقوى من إيمانهم بعالم
الشهادة، وجعلتهم يشتاقون إلى الجنة، فبذلوا نحورهم، ودماءهم الغالية رخيصة
في سبيل الله، لإعلاء كلمته ونشر دينه. وبذلك الإيمان العميق، وتلك العقيدة
الراسخة - لا بالعدة والعدد - دكوا صروح قيصر وكسرى، وبنوا حضارة عظيمة
من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب. ومن تأمل ذلك الفعل الحضاري الفريد في
الدهر أدرك أهمية العقيدة في بناء الأمم وحركة التاريخ.
د - سمو الغاية:
إن الحكمة من وضع هذه السبيل ورسمها للناس واضحة المعالم، وهي
دعوتهم إلى الله - سبحانه وتعالى - دعوتهم إلى عبادته بما شرع لهم امتثالاً
واجتناباً؛ فإذا وحدوا الله وعبدوه دخلوا الجنة، وحل عليهم رضوان الله؛ وذلك هو
غاية المطامح ومنتهى الآمال [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ] (التوبة: 72) .
وبالتوحيد والعبادة يكون القلب موصولاً بالله - تعالى -، مطمئناً مستريحاً من
أكدار الدنيا ونكد الوجود، مغموراً بالسعادة، لا يشعر بتعاسة ولا شقاء ولا حرمان،
يعيش في ظلال وارفة من الإيمان والطمأنينة، والسكون إلى الله - عز وجل -
والأنس بذكره وعبادته، والرضى بقضائه وقدره، وتلك هي الحياة الطيبة التي لو
علم الملوك وأهل الدنيا بما يجد أهلها من حلاوة الإيمان وبرد العيش لجالدوهم عليها
بالسيوف.
وهذه الحياة الطيبة تفضي إلى جنة عرضها السماوات والأرض حيث ينعم
المؤمن في جنات عدن بالنظر إلى وجه الرحمن - جل وعلا -.
سعادة دنيوية موصولة بسعادة أبدية لا تنقطع [عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ]
(هود: 108) ؛ وتلك هي ثمرة العبادة التي خلق الجن والإنس من أجلها،
ودعوا إليها فتحملوا أمانتها بعد أن عرضت [عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا] (الأحزاب: 72) .
ولكي يسعد الإنسان في دار الدنيا وفي دار الآخرة، فإن الله - عز وجل - قد
تولى دعوته، فقال - سبحانه -: [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ] (يونس: 25) ،
وقال - تعالى -: [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ] (البقرة: 221) وقال سبحانه: [قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى]
(إبراهيم: 10) .
ثم أمر - تبارك وتعالى - رسله بالدعوة إليه: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] (النحل: 125) ، [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] (النحل: 36) ، [وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ]
(فاطر: 24) .
وأمر المؤمنين بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال - تعالى -:
[وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل عمران: 104) ، وأنزل - سبحانه وتعالى - الكتب
وبينها للناس لعلهم يتذكرون، وهكذا أقيمت الحجة، [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] (النساء: 165) ، [قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ]
(الأنعام: 149) ، [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ
لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] (الأنفال: 42) .
__________
(*) كاتب موريتاني.
(1) السبيل يذكر ويؤنث فمن قوله - تعالى -[وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً]
(الأعراف: 146) , ومن الثاني: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي] (يوسف: 108) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب العلم , رقم 2676 , ابن ماجه , المقدمة , رقم 44 , واللفظ له.
(3) البدايه والنهاية، لابن كثير , 2 / 477.
(4) أخرجه مالك في الموطأ , الجامع، رقم 1651.
(5) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم 3053، ومسلم، كتاب الوصية، رقم 1637.
(6) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، رقم 95، والنسائي في كتاب القسامة، رقم 26.
(7) تفسير ابن كثير، 2 / 477.(165/25)
قضايا دعوية
تقويم مخرجات العمل الدعوي ضرورة
سليمان الخضير
كان للتوسع في مفهوم (اعمل ... ولا تنتظر الثمرة) أثر في رتابة العمل
الدعوي، واتخاذه أنماطاً تقليدية في قوالب متطورة، أو أنماطاً متطورة في قوالب
تقليدية ... لقد ظل العمل الدعوي زمناً يقوم على المواعظ، ثم حدثت نقلة نوعية
إلى ما يشبه المحاضن التربوية، ثم تطور إلى تفعيلها، وجعلها منطلقات دعوية ...
ثم ما زال العمل على تطوير العمل الدعوي عبر مؤسسات رسمية وقنوات خيرية.
وكان لكل وسيلة دعوية آثار حميدة يعسر أن يسد غيرها مكانها، مع الحاجة
إلى التطوير والتجديد، ولكن من المؤسف أن الوسائل الحالية يغلب عليها التقليد
دون دراسة لجدواها السابقة والحالية والمستقبلية؛ فلا يكاد أحد يبتكر أسلوباً دعوياً
حتى يهرع إليه بقية المهتمين (أو العاملين) في حقل الدعوة، ولا يبارحوه حتى
يبعث الله من يجدد لهم أسلوباً دعوياً!
ولعل في الاستمرار على توزيع الكتيب والشريط مثالاً على التقليد دون النظر
في مصالحه ونتائجه؛ فحتى هذا اليوم: كم طبع من الكتيبات، وكم نسخ من
الأشرطة؟ وكم بيع منها، وكم وزع؟
ولا أنكر كون هذين النوعين وسيلتين دعويتين كانتا ناجحتين في وقت ما،
كما لا أنكر - أيضاً - أن هذين النوعين من مصادر العلم والمعرفة والموعظة،
ولكن الذي أرغب الوقوف عنده:
* ما حجم استفادة المستهدفين بالتوزيع من هذا العمل؟
* وما مدى تأثرهم به؟
* وما مدى إقبالهم عليه؟
* وهل يساوي الجهد والمال المبذولين النتائج المتحققة؟ ! [1]
* وهل استطعنا - فعلاً - خلال برامج التوزيع أن نلبي حاجات الناس إلى
العلم الشرعي والموعظة الحسنة؟
* وهل الناس بمستوى واحد من التفكير وعوامل التأثر؟
* وهل هم بدرجة من القناعة التي يُقبِلون بها على هذا الكتاب أو ذاك
الشريط؟ !
والحق يقال: إني لا أملك إجابة دقيقة ولا تقريبية لهذه الأسئلة لا سلباً ولا
إيجاباً، لكنه يغلب على ظني أن كثيراً من العاملين في حقل الدعوة لا يملكون
الإجابة هم أيضاً؛ ذلك أننا ننطلق في أعمالنا الدعوية وأحكامنا الاجتهادية من
انطباعاتنا الخاصة، ولا نكاد نتجاوز ذلك إلا إلى مستوى ضيق من الحالات الفردية
التي تتناقل أخبارها الأجيال! !
وهل وصلنا فعلاً إلى قلب إنسان يعكف على منكر ما من خلال نشرة سُطِّر
على غلافها: رسالة إلى صاحب ( ... ) [2] ، ثم ملئت بالاستفهامات التي ربما
يجيب عليها - بفعل الغفلة - بكل برود أو استهجان.
المفيد من الكتب والأشرطة - في نظرنا - هو الذي نجد فيه معلومة جديدة أو
غريبة بالنسبة لنا، أو أن لصاحبها (الكاتب أو المتحدث) قدراً من التقدير والثقة
في نفوسنا نحن، مع أن مادة عدد من الأشرطة والكتب من أولها إلى آخرها مليئة
بالمعلومات المفيدة لبعض الناس وجديدة عليهم! ولفلان العالم عندهم من القبول ما
لا نظن، ولفلان الواعظ من التأثير فيهم ما لم نحس به في أنفسنا! !
خذ - كذلك - عنوان الكتاب أو الشريط (أي كتاب أو شريط) وغلافهما:
هل هو يحقق الجاذبية المرجوة؟
(هو جميل وجذاب) لكن بالنسبة لي ولك ... ولكننا ما زلنا لا نعرف رأي
المستهدفين.
بل الأمر - كما يبدو - أبعد من ذلك ... فلسنا - فقط - نجهل رأي المدعوين
في منتج أو برنامج، وإنما لم نتعرف - بعد - على نفسياتهم واهتمامهم، ومدى
شعورهم بالانتماء للإسلام، وما قدر الدعاة والعلماء في قلوبهم، وما أسباب تقصير
المقصر منهم وذنب المذنب كما يرونها هم، وما الفرق - في ذلك كله - بين شبابهم
وشيبهم، وبين رجالهم ونسائهم ... وإنما هي عمومات وحالات فردية، وحسب
الحماسة للعمل والقناعة به! !
ولا أدعي أننا نتعامل مع أناس في كوكب آخر، ولكن الناس في المجتمع
ليسوا وحدة متجانسة القدرة والطباع والميول والاتجاهات، ولا يسوغ أن يعاملوا
على هذا الأساس، ومخاطبة الناس ودعوتهم ليس القصد منهما تحقيق التجانس،
ولكن لاستثمار القوى التربوية لمجموعة متنوعة القدرات والميول؛ فالتنوع الدعوي
ضرورة لنمو المجموعة وحيويتها وتبادل الخبرة، كما أن التأثير الإعلامي الرهيب
الذي يتعرض له الناس قد صاغ أذواقهم لدرجة أنه أصبح هناك فرق بين أذواقهم
وذوق الدعاة [3] ! والملاحظ «أن الذي يسود النتاج الإنساني (الفني) و (الأدبي)
في واقعنا الحاضر هو روح الحضارة الغربية وذوقها وهويتها! ... تتحرك من
جذور أوروبية: إغريقية، مسيحية، وتعبر عن وجدان أوروبي في همومها
وخيالاتها وحسها الفني كذلك ... » [4] ، والعاملون في حقل الدعوة - بفضل الله -
يحتفظون بخصوصياتهم إلى حد كبير.
إن من المهم أن نتعرف إلى الناس في طريقة تفكيرهم وما الذي يحبون؟ وممَّ
ينفرون في دراسات ميدانية دقيقة جادة [5] ؟ فيمكننا - بعدُ - أن نساهم معاً في
استثمار الجهود والأوقات التي نحتاجها للبناء، ونحن مطمئنون إلى معرفتنا المسبقة
بمواطن الزلات والأوهام ومنطلقات القوة و (النقاط المشتركة) بيننا وبين الناس،
وهذا كما أؤمل لا يفهم منه أنها محاولة لشق طريق للتنازل عن المسلَّمات الشرعية
أو الأحكام الراجحة، وإنما هي سبب للاقتراب من المستهدفين أكثر: شباباً وشيباً،
ورجالاً ونساءً، حينئذ نصل بإذن الله إلى أسلوب من التواصل مع الناس من شأنه
تنظيم هذا السيل الهادر من المطبوعات المقروءة والمسموعة.... التي هي في
الميزان الإعلامي (نفخة) أو (تورم) ، وتقريب النافع المفيد، وتجديد العهد برب
العالمين. وأستغفر الله وأتوب إليه.
__________
(1) كأني ببعض القراء يجيب عن هذا السؤال بقوله: المهم العمل، والباقي على الله! ويستدل بقوله- تعالى -: [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] (الأنفال: 17) ، ولا شك أن في هذه الإجابة قدراً واضحاً من البساطة والتسويغ، والله -عز وجل - عندما أمرنا بالعمل وتكفل بالتوفيق؛ أمرنا بالعمل الذي تبذل فيه القدرة وتناط به الاستطاعة، كما أمرنا بالإعداد والاستعداد الذي من شأنه أن يثمر الرهبة لا أي إعداد! ! فهو لم يأمرنا بالعمل الفوضوي والعشوائي.
(2) اسم المنكر.
(3) أفردتُ (ذوق) على التسليم أن للدعاة ذوقاً واحداً! ! .
(4) الغارة على التراث الإسلامي، جمال سلطان: (23) بتصرف يسير.
(5) يتهم بعض الناس نتائج الاستبانات بأنها غير صادقة، ومع عدم التسليم التام بهذا الرأي فإن الدراسات الميدانية لا تقوم فقط على الاستبانات؛ فهناك أساليب متعددة لتنفيذ الدراسات، ولكن [لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) .(165/33)
تأملات دعوية
مع الدعوة في بلاد الأقليات
محمد بن عبد الله الدويش
www. dweesh. com
كنا في زيارة لإحدى بلاد العجم، فأيقظني صاحبي حين سمع الأذان،
ونظرت إلى الساعة فإذا ما بقي من الوقت حتى يحين موعد أذان الفجر أكثر من
نصف ساعة، وبعد نقاش اتفقنا على أن نصلي في الفندق فنحن مسافرون.
وبعد ذلك سمعنا الأذان فعلمنا أن الذي أيقظنا هو الأذان الأول، فانطلقنا إلى
المسجد، وفي الطريق تشنفت آذاننا بسماع صوت الأذان يدوي هنا وهناك، فزادت
سعادتنا واستبشارنا، وحين دخلنا المسجد وجدناه ممتئلاً بالمصلين، فترك هذا
الموقف آثاراً في نفوسنا، منها:
* عظمة هذا الدين، وكيف انتشر في هذه البلاد والأصقاع، فما أن تشرِّق أو
تغرِّب إلا وترى أثراً لهذا الدين، ولا تزال الساحة تستوعب مزيداً من التأثير
والانتشار لو وَجَدَ له رجالاً صادقين يحملونه بجد وعزيمة.
* تأصل الخير في نفوس طوائف كبيرة من المسلمين، وإلا فما الذي يدفع
هؤلاء في هذه البلاد وغيرها إلى التمسك بدينهم والالتزام به، وهم يدفعون من
جراء ذلك ثمناً باهظاً، فيتعرضون لمضايقات ومشكلات، ويبذلون جهداً مضنياً
ومالاً وفيراً في بناء المساجد، ويحافظون على شعائرهم وعباداتهم.
* بدلاً من أن يكون حديثنا يرتكز حول النقد والحديث عن مصادر الخلل
وبيان الأخطاء والمشكلات ينبغي أن نوجه جزءاً من حديثنا للإشادة بالجوانب
الإيجابية في حياة الناس؛ ففي هذا تأصيل وتركيز لها، وفيه تثبيت للناس على ما
هم عليه من الخير، وهذا ما دفع بصاحبنا إلى أن يكون حديثه عن فضل صلاة
الجماعة بعامة، وفضل شهود الفجر مع الجماعة بخاصة. وقد كان صلى الله عليه
وسلم يستخدم هذا الأسلوب في دعوته وخطابه مع الناس؛ فحين أبطأ عليهم في
صلاة العشاء أثنى على ما هم عليه من حال فقال: «إن الناس قد صلوا وناموا؛
وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة» [1] ، ومن ذلك ما روى مسلم في
صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري قال: «صلينا المغرب مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء. فجلسنا، فخرج
علينا، فقال: ما زلتم هاهنا؟ قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب، ثم قلنا
نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم، وأصبتم. قال: فرفع رأسه إلى
السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أَمَنَةٌ للسماء، فإذا
ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي
ما يوعدون، وأصحابي أَمَنَةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» [2] .
* الجوانب الخيرة يمكن أن تستثمر لتدفع الناس إلى المزيد من العمل، وأن
ننطلق بهم من خلالها، وربما آتى هذا الأسلوب ثمرة أكبر، ولهذا كان من حديث
صاحبنا مع الناس: ما دمتم أدركتم هذا الفضل وظفرتم به، فماذا لو أن كل واحد
منكم اصطحب معه إلى المسجد آخر؟ ولِمَ لا تسعون إلى دعوة من لم يذوقوا حلاوة
الإيمان ليدركوا السعادة التي أدركتموها إلى أن يذوقوا ما ذقتم؟
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص عليه عبد الله بن عمر -
رضي الله عنهما - الرؤيا، قال: «نِعْمَ الرجلُ عبد الله لو كان يصلي من
الليل» [3] .
* توجد في تلك البلاد وغيرها جاليات كثيرة من المسلمين قدموا إليها منذ
عقود واستوطنوها، وولد لهم أولاد وأحفاد لم تعد لهم صلة بلغة القرآن، وبعضهم
لا يعرف من الدين إلا اسمه، وقد يرفض الانتساب إليه؛ فكيف يتعلم هؤلاء اللغة
العربية؟ وكيف يتعلمون أحكام الإسلام؟
وحين تلقي نظرة على المدارس التي تعلم الدين الإسلامي واللغة العربية هناك
فسترى في الأغلب نموذجاً بدائياً يفتقر إلى أدنى مستويات الارتقاء والتطوير.
لذا كان من مجالات الدعوة المهمة الاعتناء بإنتاج برامج تعلم الناس لغة
القرآن، وتبسط الأحكام الشرعية وتقربها لهم. وتتيح التقنية الحديثة اليوم إمكانات
هائلة يمكن أن توفر الكثير من الجهد والمال الذي ينفق في هذا السبيل.
إن هذه الميادين من العمل أجدر وأوْلى من كثير مما يُنتج من برامج الحاسب
الآلي أو الأفلام أو الكتابات المكررة الهزيلة.
__________
(1) أخرجه مسلم، رقم 640.
(2) أخرجه مسلم، رقم 2531.
(3) أخرجه البخاري، رقم 1122.(165/35)
ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
إنسان العولمة.. وما بعد البهيمية! !
«إن الأمم المتحدة لا تزال رهينة ما تحمله عدة بلدان من كراهية للإنسان،
ويبقى علينا أن نعرف إن كان العقل سيتغلب على الحقد والأفكار المسبقة المبطنة
بغطاء أخلاقي أم لا» .
هذا ما عقَّب به «سكوت لونج» أحد المسؤولين في اللجنة الدولية لحقوق
اللواطيين والسحاقيات! ! على اعتراض بعض الدول الإسلامية على حضور أحد
أعضاء منظمته إحدى جلسات مؤتمر الأمم المتحدة عن الإيدز الذي عقد مؤخراً في
نيويورك.
لا يجد المرء أمام مثل هذه الظواهر الشاذة لبني البشر، إلا تذكر الفطرة
الحيوانية السليمة! ! فقد ورد في صحيح البخاري عن حصين بن عمرو بن ميمون
قال: «رأيت في الجاهلية قِرْدَةً اجتمع عليها قِرَدةٌ قد زنت فرجموها فرجمتها
معهم» [1] .
والمتأمل في بديهية حياة الحيوان يكاد ألاَّ يقع على حالة زنى خارج إطار
الأسرة الحيوانية، ولم يرصد علماء الحيوان حالات شذوذ بين ذكور الحيوانات أو
إناثها، بل ما زالت الحيوانات محافظة على تقاليد الزواج وأنماطه وعلى شكل
الأسرة الحيوانية.
يتملك المرء العجب حين تجري هذه المقارنة بين بني آدم الذي كرمه الله
وسوَّى خلقه في أحسن تقويم، وأعطاه العقل وأناط به التكليف يتملكه العجب حين
يقارن مع بهيمة، ويرى أخيراً أن البهائم تسامت كثيراً على عالم «إنسان
العولمة» .
سياط العولمة تسوق بعض بني البشر إلى ما دون البهيمية، ولا تسوقه إلى
حظيرة محكمة الأسوار، بل تطلق له العنان ليمارس نحر آدميته وآدمية الآخرين
في الطريق العام.. حيث إن هذا حق من حقوق الإنسان! !
__________
(1) رواه البخاري، ح/ 3849.(165/37)
ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
أي حقوق.. وأي إنسان؟
عبد العزيز كامل
ما أسهل الشعارات عندما تنمق وتنطلق بها الحناجر وترفع بها اللافتات،
ولكن ما أصعب اكتشاف أو استشفاف الحقائق القابعة وراءها والنوايا المستترة خلفها
عندما يكون أربابها دون مستوى الشبهات.
(حقوق الإنسان) ... شعار جميل.. بسيط.. يغري بالأمل، ويبعث على
الاحترام. ولكن هذا الشعار: من يرفعه..؟ ! وفي أي اتجاه يدفعه؟ ! من يحدد
مقومات هذا الشعار، ويرسي منطلقاته أو يضع ضوابطه؟
أسئلة تترادف كلما شن دعاة (حقوق الإنسان) حملاتهم على بعض بلدان
المسلمين مستهدفين نظماً، وأحكاماً قبل الأنظمة والحكومات. فقطع يد السارق في
نظرهم «وحشية» ، وقتل القاتل المتعمد: «همجية» ، وعقوبة المرتد: «ردة
حضارية» ، ومنع الخمور وحظر السفور واتخاذ التدابير ضد الانحراف والشذوذ
والفجور.. كل ذلك «اعتداء سافر» على الحريات الشخصية! !
أما مساءلة (المبدعين) إذا تطاولوا على المقدسات الدينية، أو حتى على
الذات الإلهية، فتدخُّل مرفوض في حرية التعبير والتفكير!
وإذا ما تعدى الأمر إلى إلزام الأقليات الدينية بشيء من النظم المستهدفة
للصالح العام وجمهور الأغلبية، فحري أن ترفع الشكاوى بشأنه إلى المحافل
الدولية، وتدبج بشأنه القرارات وتبدأ التنديدات ثم التهديدات ثم العقوبات. وليت
مساعي دعاة حقوق الإنسان تقتصر على المطالبة بإنصاف المظلومين، ورفع
المعاناة عن المسحوقين، وإرساء قيم العدالة والنزاهة بين الحكام والمحكومين،
إذن لوقفنا جميعاً مع أصحاب تلك الحملات في حملاتهم، ولباركنا جهودهم وسرنا
وراءهم.
إننا نعلم والناس يعلمون أن من يرفعون شعارات (حقوق الإنسان) اليوم،
كانوا ولا يزالون أكثر بني الإنسان قهراً للإنسان من غير بني جنسهم طوال القرنين
المنصرمين، طف بناظريك على أرجاء الخارطة الإنسانية؛ ماذا ترى؟ ! ترى
عالمين: عالماً يضمن لشعوبه قمة العلو والنمو والرفاهية والترف، وعالماً يُضن
عليه بلقمة العيش الكريم، وأدنى مظاهر الحرية والاستقلالية والشرف.
عالم يكاد يملك مقدرات كل شيء ... وعالم لا يكاد يملك أي شيء! حتى
ثرواته لا يملكها.. وأوطانه لا يستطيع حمايتها، سماؤه مستباحة وأرضه غير
مستقرة، مستقبله قلق، وحاضره غير مأمون، يهيمن عالم «النخبة» الذي لا
يزيد
عن عُشْرِ سكان الأرض، على ما لا يقل عن ثلاثة أرباع ثروات الأرض!
شيء يبعث على السخرية، ويدعو للتهكم أن تنبري هذه الأقلية المتسلطة من خلال
منظماتها ومحافلها إلى التحدث عن (حقوق الإنسان) !
أي إنسان؟ !
أي إنسان يريدون إعطاءه حقه؟ أهو إنسان القارة الإفريقية التي سيق
الملايين من شعوبها في الشاحنات البحرية طوال عهود الاستعمار للسخرة والخدمة
تحت أقدام البيض؟ أم هو الإنسان الأصلي من سكان القارة الأمريكية الذي سحق
رعاة البقر القادمون من أدغال أوروبا وجوده ليلقنوا هذه الكائنات البشرية (الهنود
الحمر) الدرس الأول (والأخير) من دروس (حقوق الإنسان) ..؟ ! أم هو
إنسان آسيا الوسطى الذي حُشر الملايين من شعوبها إلى الشمال المتجمد تطبيقاً
لمبادئ (شيوع الظلم) التي تفتقت عنها عقليات غربية تارة باسم الماركسية وتارة
باسم الاشتراكية؟ أم تراهم يتحدثون عن إنسان القارة الأسترالية التي تعاملوا مع
سكانها على أنهم حفريات تاريخية، وبقايا مخلوقات آدمية تصلح فقط لأن تلتقط
بجانبها الصور التذكارية؟ !
أي إنسان يتحدث عنه دعاة (حقوق الإنسان) ؟ أهو الإنسان في فلسطين
المستباحة، أم الإنسان في العراق المحاصر، أم الإنسان المعاقب في بلاد الأفغان،
أم هو الإنسان المهضوم في البلقان، أم المقهور في الشيشان؟ ! غالب الظن أنهم
يتحدثون عن (إنسان) المحميات الغربية التي يقوم على رعاية (حقوق الإنسان)
فيها وكلاء رسميون منذ القدم، يحكمون هذه المحميات باسم الأسياد ولصالح الأسياد
وبشريعة الأسياد!
أي حقوق؟ !
ليتهم يتحدثون عن حق الإنسان في أن يزدهر.. في أن يستقل.. في أن
ينتصر على تحديات عصره أو يتجاوز عقبات التخلف المضروب عليه، ولكن
منظمات (حقوق الإنسان) تعرف أن واقع التخلف الذي يلف أكثر شعوب العالم
النامي أو النائم أو المنوم، إنما هي في جزء كبير منها نتاج ابتزاز اقتصادي،
وحصار تكنولوجي وإفساد اجتماعي تطيل أمده جبرية سياسية وقدرية تشريعية
تفرض على الشعوب أن تدار شؤونها عن بُعد بواسطة الاستعمار الفكري، ولهذا
فإن غاية ما يطنطن به دعاة حقوق الإنسان وقصارى ما يدندنون حوله من حقوق
هذا الإنسان وبخاصة إذا كان من بلاد المسلمين هو حقه في أن يكفر.. حقه في أن
يفجر.. حقه في أن يكون شاذاً أو مثلياً.. أو ملحداً أو وجودياً أو عدمياً! ! حق
إناثه في أن يتساوين بالرجال في كل شيء! .. وحق رجاله في التنازل عن
الرجولة بل عن الذكورة في بعض الأحوال.. ولا بأس أن تزركش المطالبة بتلك
الحقوق، ببعض المطالب الجادة التي تقتصر في الغالب على من ينتقون وبالطريقة
التي يريدون، كأن يطالبوا بنزاهة المحاكمة.. وكفالة حق الدفاع.. أو تجنب
التعذيب، والسماح بزيارة المساجين.. أو نظافة الزنازين!
وحتى هذه المطالب «الجادة» يطاح بها شذر مذر.. وتتحول إلى فكاهة
وهذر
إذا كان المعنيون منها من دعاة لا إله إلا الله المطالبين بشرع الله، وإلا؛ فبماذا
نفسر تهييج العالم من أجل شخص [1] واحد مدان أمام القضاء في مصر مثلاً، في
حين يصمت هؤلاء ويصمون، ويخرسون ويبكمون، عندما يسمعون عن ألوف
مؤلفة من الإسلاميين في سجون العالم يعتقل أكثرهم دون تهمة أو جريرة، ودون
محاكمة أو مساءلة؟ ! إنه النفاق بالحقوق.. في زمن الجحود والعقوق!
في وقت متقارب، وفي غضون شهر واحد، اتُّهم رجلان من مصر: رجل
قيل في حقه أنه مزواج ذو مزاج مزعج لأنه - كما قالوا - اقترن بزوجات عديدات
يبقي منهن أربعة بعد أربعة، ولأن الرجل يصنف إسلامياً، ويبدو من مظهره أنه
من المتدينين، أباحت كثير من المنابر الإعلامية الساقطة عرضه، واستحلت أذاه
في سمعته وشخصيته وخصوصياته، وكأن هذا الإنسان ليس له أي حق من
(حقوق الإنسان) حيث سُلطت عليه ألسنة حداد، من منافقين يهمزون ويلمزون
شريعة الإسلام في شخصه لا لشيء إلا لأنه رجل أعمال ناجح، والنجاح محظور
على الإسلاميين، ولا بد أن يكونوا خائبين متخلفين! وكما هو المعتاد في مثل هذا
السيناريو المكرور والمعاد ... لم تتحرك شعرة داخلية أو خارجية من مشاعر
النجباء الندماء المتحدثين بلسان حق الإنسان في أن يصان في شرفه وعرضه.. ما
دام لم يرتكب جرماً في حكم الله وعرف الناس.
لم تمض أيام حتى تجرأت صحيفة محلية مغمورة على التعرض لشخص رجل
دين نصراني، بشأن سلوكيات نسائية تورط فيها كان قد تم توثيقها بالتصوير
ابتزازاً لضحاياه، وكان فعل الصحيفة لا يقل شناعة وشيناً عن فعل ذلك الراهب
عندما نشرت التفاصيل المصورة لفضائحه، ولكن المستغرب أن الدنيا انقلبت على
الصحيفة بحجة أن صاحب الفضائح يرمز لدين، وهذا الدين لا تنبغي الإساءة إليه!
والسؤال هنا: لماذا كل دين لا تنبغي الإساءة إليه في أشخاص رموزه إلا
الإسلام؟ ! لقد وضح بعد تلك الحادثة أن (الإنسان) و (الحقوق) أنواع، أو
أصناف.. أو فئات عند النافخين في بوق الحقوق، ليس صنف منها مهدراً ومهراقاً
ولا متاعاً مباحاً إلا ما يتعلق بحقوق الإنسان ... المسلم!
إنسانهم وإنساننا:
غاية ما يريده الغربيون الرابضون خلف أسوار الدفاع عن حقوق الإنسان أن
يقولوا لنا: ليكن الإنسان عندكم كالإنسان عندنا.. لتكن الشرائع عندكم كالشرائع
عندنا ... لتكن الأخلاق عندكم كالأخلاق عندنا، لتكن مجتمعاتكم مثل مجتمعاتنا في
كل شيء، إلا ... في الأشياء المحترمة!
فما حال إنسانهم الغربي حتى نعتبره نموذجاً محتذىً لإنساننا الشرقي:
الإسلامي والعربي؟ ! سنضطر هنا أن ننقل على ألسنتهم ووفق إحصاءاتهم لمحات
من واقع حياة الإنسان هناك لنعرف كيف وقعوا في هذا الواقع، ولماذا يريدون منا
أن نقع في مثل واقعهم.
سنقتصر على واقع واحد هو قاع المجتمع الأمريكي وقاعدته العريضة، ليس
شماتة في هذا المجتمع المتطاوس على البشر، ولكن لاعتبارات عديدة أخرى منها:
أنه أكثر المجتمعات إدلالاً بحق الإنسان في أن يكون (إنساناً) ، ومنها: أنه
المجتمع الذي تقود دولته العالم اليوم وتريد أن تعمم عليه أنموذجها الثقافي
والحضاري والقيمي، ومنها: أنه المجتمع الذي تشرئب إلى التشبه به أعناق الذين
لا يفقهون، ومنها: أخيراً: أنه المجتمع الذي يعتبر منظمات حقوق الإنسان في
العالم ماركة مسجلة أمريكية!
لنطل على هذا المجتمع في وجهه الآخر لنرى حقيقة الحقوق فيه، أهي
إنسانية يحياها، أم حيوانية يأنسها؟
(تقدم) مستمر ... في معدلات الجريمة!
تضاعف عدد نزلاء السجون في الولايات المتحدة الأمريكية فيما بين
الثمانينيات والتسعينيات إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه من قبل؛ حيث بلغ عدد
المسجونين 000. 950 نزيل فيما بين عامي (1980، 1993م) وهذا يعني أن
نحو مليون من المواطنين الأمريكيين اتهموا بجرائم تخطت الحجز في مراكز
الشرطة إلى دخول السجون؛ فإذا علمنا أن نسبة ما لا يكشف عنه من الجرائم تكون
عادة أضعاف ما يكشف عنه تبين لنا أن العدد الحقيقي للمتهمين بالإجرام يمكن أن
يمثل شعباً من المجرمين يفوق عدد بعض الشعوب الصغيرة. والعدد المعلن عنه في
التقارير الرسمية قد تضاعف في السنوات الأخيرة؛ حيث ارتفعت معدلات الجريمة
إلى 600%، حتى إن 60% [2] من مجموع الشعب الأمريكي كانوا - كما تقول
الإحصاءات - ضحايا لجرائم كبيرة، و 58% منهم تعرضوا لهذه الجرائم مرتين
على الأقل! [3] .
وإلى مزيد من التفصيل بعد هذا الإجمال:
فوضى الدماء:
يظن البعض أن الإلحاح على إلغاء عقوبة الإعدام للقتلة وغيرهم في الولايات
المتحدة الأمريكية وغيرها من دول الغرب إنما يجيء بسبب الرقة، أو المشاعر
الإنسانية المرهفة التي تنظر إلى عقوبة الإعدام على أنها عمل شرير وغير
حضاري، ولكن الحقيقة تبدو أبعد من ذلك؛ إذ يمكننا أن نتصور السبب في فزع
الأمريكيين وغيرهم من تطبيق عقوبة الإعدام، إذا علمنا المعدل الضخم لقضايا
القتل في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، والتي يفترض أن تطبق على المدانين
فيها تلك العقوبة؛ فهو عدد يحتاج إلى مقتلة سنوية تراق فيها دماء الآلاف؛ لأن
جرائم القتل الموسمية في أمريكا تبلغ سنوياً 25,000 جريمة [4] أي أن هناك
خمسة وعشرين ألف قتيل كل عام، يُطلب للقتل بسببهم أمام العدالة خمسة وعشرون
ألف قاتل! هذا لو افترضنا أن القاتل شخص واحد في كل جريمة، فماذا لو تصورنا
أن كل قتيل يمكن أن يشترك في قتله الواحد والاثنان والثلاثة والعشرة؟ ! وماذا
لو تصورنا إضافة مستحقي القتل بجرائم أخرى غير القتل، كالتجسس
والاغتصاب والخيانة العظمى ونحوها؟
لو أنصف العقلاء من الأمريكيين والغربيين المتباكين على حقوق الإنسان
الضائعة بسبب تطبيق الأحكام في بعض البلدان الإسلامية، لو أنصفوا لقارنوا فقط
بين عدد قضايا القتل عندهم وعددها في البلدان الإسلامية التي تطبق حد الإسلام في
قتل القاتل [5] ، إن واحداً من كل ثلاثة أمريكيين اليوم يؤيدون تطبيق عقوبة
الإعدام في القاتل ويرفضون أن يعاقب بالسجن فقط، ونحن لا نطلب منهم أن يقتدوا
بحكم الإسلام الذي ينقدونه، ولكن نريد منهم فقط أن يكفوا عن الدعوة إلى
تحويل مجتمعات المسلمين إلى مجتمعات فوضى دموية مثل مجتمعاتهم التي لا يكتفي
الناس فيها بقتل بعضهم بعضاً بشراهة دموية؛ بل يعمد المئات منهم سنوياً إلى قتل
أنفسهم بالانتحار [6] .
استباحة الأعراض:
الإنسان إذا استهان بإهدار الدماء المحرمة فلن يتورع عن انتهاك الأعراض
المصونة، وإن شعباً يَلِغُ عشرات الآلاف منه في الدماء المستباحة كل عام، لا بد
أن الملايين منه سيرتعون في الشهوات المحرمة كل يوم. تقول التقارير الرسمية
من هناك: إن النسبة العامة لمعدلات الزنا في الشعب الأمريكي تبلغ 31%، ويذكر
الإحصاء الذي أورد هذه النسبة أنها ليست نسبة الذين يقترفون هذه الجريمة مرة أو
مرتين، وإنما هي نسبة (المنتظمين فيها) ، ويقول الإحصاء نفسه: إن هذه النسبة
هي فقط لجريمة الزنا وحدها بين العديد من الجرائم الجنسية الأخرى؛ حيث إن
جريمة الزنا لا تمثل إلا نسبة 28% من مجموع الجرائم الجنسية الأخرى، هذا من
حيث وقوع حوادث الزنا بالفعل، أما من حيث النظر إلى الفعل حتى ممن لا
يفعلونه، فإن 62% من الأمريكيين يعتبرون أن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج
أمر لا بأس به! !
إن الإحصاءات تقول: إن امرأة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها،
ورجلاً من كل ثلاثة أشخاص يخون زوجته، والاعتداءات على الأعراض لا
تقتصر على البالغين فقط، بل إن واحداً من كل سبعة من الأمريكيين - كما تقول
الإحصاءات - تعرض للابتزاز الجنسي عندما كان طفلاً، أما الكبار فالاعتداء على
أعراضهم يأتي مصحوباً بالاعتداء على أجسادهم وأرواحهم، فنسبة 42% من الذين
تعرضوا لاعتداءات جنسية قالوا إن الاعتداءات عليهم كانت شرسة وقاسية! وتذكر
الإحصاءات أن معدلات الاغتصاب في أمريكا تزيد عن مثيلاتها في اليابان
وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفاً [7] .
إن السبب في هذا التشرد الجنسي لا يقتصر على فساد البيئة المادية فقط، أو
الخواء الروحي فحسب، وإنما يرجع أيضاً إلى فساد المنظومة الأخلاقية التي تخيم
على رؤوس تلك الشعوب الضالة، والتي جعلت من اقتراف جريمة الزنا شيئاً
قريباً من احتساء فنجان القهوة أو تدخين السيجارة، حتى إن 53% من النساء
الأمريكيات قلن بأنهن لن يترددن في خيانة أزواجهن في مقابل خيانة الأزواج لهن!
و20% من الرجال الذين اقترفوا جرائم جنسية قالوا: إن ضحاياهم طلبن منهم
ذلك! [8] .
إن فقدان المنظومة الأخلاقية، مع انعدام الروادع التشريعية والاجتماعية جعل
من الشعوب الغربية اللامعة في مظهرها شعوباً غبراء في مخبرها، حتى إن فتاة
من كل خمس فتيات في الولايات المتحدة يفقدن بكارتهن قبل سن الثالثة عشرة! !
والنسبة تزيد كلما زادت الأعمار!
انفلات الحريات ونفوذ الشذوذ:
كأن الزنا في مجتمعات الغرب لم يعد سلوكاً شاذاً، ولهذا فإن وصف (الشذوذ)
يطلق عندهم فقط على ما تناهى في القبح من الفواحش غير الزنا!
إن للشذوذ الجنسي في حياة الغربيين تاريخاً طويلاً، ولكنه لدى الأمريكيين
عديم المثيل، خاصة في العهد الكلينتوني؛ ففي بداية تولي بيل كلينتون لمنصب
الرئاسة في عام 1993م، تظاهر أكثر من مليون شخص للمطالبة بـ (حقوق
الشواذ) ، وقد صيغت هذه (الحقوق) في ثلاثة مطالب قدمها ممثلو المتظاهرين
إلى المكتب الرئاسي في البيت الأبيض وتضمنت ما يلي:
1 - المطالبة بتعديل القوانين الأمريكية لضمان حقوق الشواذ في المساواة
بغيرهم وإلغاء الإجراءات (العنصرية) التي يمارسها رجال القانون الأمريكي
ضدهم.
2 - رفع الحظر المفروض على الشاذين جنسياً في الالتحاق بالجيش
الأمريكي.
3 - مناشدة الرئيس والكونجرس زيادة الميزانية المخصصة لمكافحة مرض
الإيدز الذي يفتك بالشواذ!
ويبدو أن الرئيس كلينتون قد تأثر وقتها ورق قلبه لتلك المطالب (البريئة)
لأحفاد قوم لوط، فكتب رسالة تُليت على مسامع المحتشدين في التظاهرة الشاذة أمام
البيت الأبيض جاء فيها: «إنني أؤيد الكفاح من أجل المساواة بين كل فئات الشعب
الأمريكي بمن فيهم الشواذ من الرجال والنساء، أنا اعتقد أن الذي يعمل بجد يستحق
أن يكون جزءاً من هذا المجتمع، لنعمل سوياً لنحول هذه الرؤية إلى
حقيقة» ! [9] .
يبدو أن تلك المجتمعات التي لم تهذبها الشرائع الدينية لم تردعها أيضاً للآن
على الأقل السنن الإلهية القاضية بعقاب المجرمين الفجار بالأمراض التي لم تكن في
أسلافهم؛ فمرض الإيدز الذي يضرب منذ عقدين من الزمان تلك المجتمعات، لم
يفلح في ردهم عن مسالكهم الشاذة المنحرفة، وكالعادة تأتي الولايات المتحدة في
طليعة الأمم «المتقدمة» في هذا المضمار؛ فهي تحتل المركز الأول بين الدول
الصناعية في عدد الإصابة بمرض الإيدز، وضحايا هذا المرض الناتج عن
الممارسات الجنسية غير المشروعة وغير الطبيعية قد بلغ في العالم في عقد واحد
فقط (من عام 1981 1991م) مليوناً وثلاثمائة ألف شخص، منهم مائة وثلاثون
ألف أمريكي، وكان متوقعاً أن يصل الضحايا مع نهاية العام 2000م إلى 40 مليوناً
من المصابين بفيروس الإيدز في أنحاء العالم.
إمبراطوريات للسرقات والمخدرات:
هناك قابلية عند الغالبية من الأمريكيين للاعتداء على أموال الغير، وفي
استطلاع أجري على شرائح عشوائية من الأمريكيين تبين أن 75% منهم يعتقدون
أنهم لن يترددوا في السرقة إذا أتيحت أمامهم فرص مأمونة، ومكاسب مضمونة.
أما المخدرات، فهناك إجماع على أن الشعب الأمريكي هو أكثر شعوب العالم
إدماناً للمخدرات، والإحصاءات تقول في ذلك إن 35% يتعاطون مخدر
الماريجوانا، و15% يتعاطون الكوكايين، و 24% يتعاطون أنواعاً أخرى من
المخدرات. وتقول الإحصاءلت أيضاً: إن 75% من الجرائم التي تحدث في
المجتمع الأمريكي تعود إلى سبب رئيس وهو انتشار تعاطي المخدرات [10] .
إن ما سبق ذكره من إحصاءات وأرقام لا يمثل كل الحقيقة؛ لأن الحقيقة دائماً
في عالم الجريمة نصف غائبة، ولهذا يقول (جيمس باترسون) و (بيتر كيم)
وهما مؤلفا الكتاب الذي استقيت منه معظم هذه الإحصاءات: «تثير الإحصاءات
الرسمية للجريمة في أمريكا نوعاً من الشك لدينا، لأن الأرقام التي توصلت إليها
دراستنا في هذا الصدد، تزيد بنسبة 600% عن إحصاءات الجريمة المسجلة
رسمياً لدى الجهات المختصة» [11] .
وكان هذان المؤلفان قد سُبقا بمؤلفيْن آخريْن هما: (فرانك براونج)
و (جون جيراس) اللذان وضعا دراسة بعنوان: (الجريمة على الطريقة
الأمريكية) شرحا فيها في اثنتي عشرة وخمسمائة (512) صفحة أنواعاً
وأشكالاً وطرقاً لارتكاب الجرائم المختلفة: فردية وجماعية، ارتجالية ومنظمة،
سياسية وجنائية، ما كان منها بسبب المال، وما كان بدافع الجنس، وما ينتج عن
الفقر، وما ينجم عن الترف، وما تسببه الاختلافات المذهبية، وما تدفع إليه
الفروق العنصرية، وما يقترفه الشباب، وما يختص به النساء وما يقوم به
الأطفال وما لا يتقنه إلا الرجال، إلى آخر ما في قاع المجتمع الأمريكي وقمته من
صراع وضياع وجرائم متنوعة.
جاء في مقدمة الكتاب: «كانت الأحداث الخارقة التي تقع في
الولايات المتحدة الأمريكية، والقلق الذي خلَّفته قد تركت أثراً كبيراً لدى
المؤلفَيْن؛ فالمخدرات انتقلت من الحواري، لتغزو الضواحي، والجرائم
والاعتداءات أخذت تحتل أخبار الصحافة باستمرار، والغش الذي يقوم عليه
أرباب العمل ظهر في الصحف بعناوين عريضة ... كنا كلما حاولنا رد هذه
الظواهر إلى جدل ثقافي وسياسي كلما شعرنا بأننا مرغمون على سبر جذور
الإجرام الأمريكي، وبالتأكيد، لم تكن المسألة بالنسبة لنا إطلاقاً أن نكب على
تصنيف الجرائم التي ترتكب في أمريكا تصنيفاً موسوعياً؛ لأن عدة مجلدات لن
تكون كافية. لقد سعينا إلى اكتشاف كيف، ولماذا، وبأية آلية تعد بعض الأفعال
الإجرامية؟ من الذي يضع لها تعريفات؟ ولأية أسباب تتغير هذه التعريفات؟
وأخيراً كيف أنتجت أمريكا هذا التخلف الحضاري الذي لا مثيل له في
العالم؟» [12] .
ثم ينتهي الكاتبان بعد دراسة إحصائية واسعة في سبعة وعشرين فصلاً إلى أن
الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية وصلت إلى حد أصبحت فيه سلطة تنافس
السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والنيابية وسلطة الصحافة! حيث قالا:
«ينبغي بالتأكيد، سبر عدد من أقوى مؤسسات أمريكا العامة والخاصة؛ فإن واقع
الشروع وحده في تحقيق كهذا سيؤول إلى معرفة حقيقة حضور الجريمة داخل
المؤسسات الأمريكية، ومن ثم سيقود إلى وجود (السلطة السادسة) التي نعبر عنها
بأعلى صوت فنقول: (السلطة الإجرامية) » ! ! [13] .
إن ما ذكرناه عن شيوع الجريمة في أمريكا زعيمة الانحلال في الغرب لا
يعني براءة روسيا زعيمة الإلحاد في الشرق؛ فالروس في الإجرام كالأمريكان، بل
هم أضل سبيلاً. ويكفينا أن نعلم أن التقارير الواردة من هناك تفيد أن معدل جرائم
القتل وحدها قد زادت إلى ما نسبته 50%، أما الجرائم الأخرى فهناك حسب
الإحصاءات تنافُسٌ فيها بين ثلاثة آلاف عصابة منظمة [14] .
وبين فساد الشرق الإلحادي والغرب الانحلالي، يعيش العالم حقبة من الضياع
تتضاعف آثاره بفعل ما طرأ من مستجدات تفرضها مضاعفات عصر
(العولمة) !
عولمة الجرائم:
العولمة آخذة في جعل الجريمة ذات صفة عالمية؛ فالمجرمون من أكبر
المستفيدين من تخفيف قيود الانتقال عبر الحدود، ومن التقدم في وسائل النقل
والاتصالات، ويتضح ذلك في رواج تجارة المخدرات وعمليات غسيل الأموال
القذرة، وهما مظهران من أوسع مظاهر انتشار النشاطات الإجرامية؛ فطوال عقد
التسعينيات كان يتم غسيل ما يقرب من مائة مليار دولار من تجارة المخدرات بشكل
سنوي في ذلك العقد في أمريكا وأوروبا وحدهما.
وقد عقد مؤتمر في عام 1994م برعاية الأمم المتحدة لوزراء مسؤولين عن
الأمن في كثير من دول العالم، أكد فيه المؤتمِرون أن الجريمة الدولية قد زادت في
السنوات القليلة الأولى من عقد التسعينيات بعد الإعلان عن إجراءات عديدة تتعلق
بالعولمة؛ بحيث فتحت الأبواب أمام سيل من الفرص المتاحة لتدويل الجريمة،
وعولمتها. أما ثورة الاتصالات الإلكترونية فقد أحدثت طفرة في عالم
الجريمة [15] لا يعلم مدى ما ستصل إليه إلا الله - تعالى -.
ملاحظة مهمة وأخيرة: وهي أن ذلك الواقع (النموذجي) لحياة الإنسان في
البلدان التي لا تدين لله بالطاعة إنما هي نتاج النظم التشريعية الخرقاء التي يصر
المبدِّلون على أن يحاكموا إليها شريعة الرحمن، وأن يعدلوا ويغيروا فيها لتستقيم
مع العوج المعهود في شرائع الإنسان ... وصدق الحليم العظيم إذ يقول: [يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ
يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ
اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً] (النساء: 26-28) .
__________
(1) هو أستاذ الجامعة الأمريكية المصري مواطنة، الأمريكي جنسية (سعد الدين إبراهيم) المدعو في وسائل الإعلام الغربية بـ (داعية حقوق الإنسان) ؟ ! .
(2) لاحظ دائماً أن النسب المئوية، يمكن تحويلها بحسبة بسيطة إلى عشرات الملايين مع الوضع في الاعتبار أن الشعب الأمريكي يبلغ تعداد سكانه 263 250 000 مليوناً من البشر.
(3) انظر: كتاب: (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة) تأليف: جيمس باترسون وبيتر كيم، ص 35 ترجمة الدكتور محمد بن سعود البشر.
(4) المصدر السابق.
(5) بحسب تقرير منظمة العفو الدولية نفسها، فإن عدد من نفذ فيهم حكم الإعدام في قضايا القتل وغيرها في المملكة العربية السعودية لم يزد عن 29 شخصاً في الفترة من 1980م 1986م، فأين هذا من الآلاف المكدسة في سجون أمريكا وغيرها، من المتهمين في جرائم قتل فضلاً عن غيرها؟ !.
(6) معدلات الانتحار بين الشباب الأمريكي أكثر من معدلات الانتحار في أوروبا بعشرين ضعفاً، وأكثر من معدلات الانتحار في اليابان بأربعين ضعفاً (انظر: يوم أن أعترفت أمريكا بالحقيقة) ، ص 88.
(7) انظر: (حالات فوضى الآثار الاجتماعية للعولمة) من إصدارات معهد بحوث الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية، ترجمة عمران أبو حجيلة، ص 119، (ويوم أن أعترفت أمريكا بالحقيقة) ، ص 88، 99.
(8) المصدر نفسه.
(9) صحيفة (يو اس، ايه تودي) U S A Today (27/4/1993م) .
(10) انظر: حالات فوضى، ص 138، ويوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة، ص 151.
(11) يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة، ص 141.
(12) الجريمة على الطريقة الأمريكية، تأليف: فرانك بروانج وجون جيراس، ترجمة فؤاد جديد، ص 5.
(13) المصدر السابق، ص 512.
(14) حالات فوضى، ص 114.
(15) انظر: (حالات فوضى) ، ص 19، 114.(165/38)
ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون
محمود بن محمد المختار الشنقيطي [*]
مدخل:
لقد بات موضوع الحديث عن حقوق الإنسان حديث الساعة حتى غدا الاهتمام
به واضحاً من خلال عقد المؤتمرات والندوات، وإبرام المواثيق والاتفاقيات على
المستويَيْن: الإقليمي والدولي؛ وذلك من أجل معالجة جميع الجوانب والظروف
التي تسهم في تعزيز حقوق الإنسان، وتهيئ السُّبل الكفيلة لحمايتها.
وقد أصبح معروفاً أن تطبيق حقوق الإنسان يُعد معياراً لمعرفة مدى التزام
دولة ما بمبادئ العدل والإنصاف وحماية حقوق مواطنيها وحُرّياتهم، كما أنهُ يُعدّ
معياراً لمقياس مدى إدراك ووعي تلك الشعوب بالتمتع بها، بَلْهَ أهم عنصر في
الأنظمة الديمقراطية - كما يقولون - هو رعاية حقوق الإنسان.
وأيّاً كانت أسباب ودوافع الاهتمام بحقوق الإنسان وتناولها، وتباين تقسيماتها،
فيبقى للطرح الإسلامي رَوْنَقُه ووضوحه وعمقه وأصالته، لا لأنهُ ينطلق في
تحليله لحقوق الإنسان من الشريعة الإلهية الربانية فحَسْب؛ بل لأن التأريخ الذي لا
يحابي أحداً يشهد لواقعية الطرح الإسلامي ومصداقية تجرده في مناداته بحقوق
الإنسان.
ولا جَرَم أن المجتمع الإنساني اليوم حين نحَّى شريعة الله وهي الإسلام،
واستظلّ بظلّ النظم الوضعية؛ قد فقدَ السند والنظام الذي يحمي تلك الحقوق ويبقيها
دون تعرّضٍ للتآكل أو حتى التخلي عنها.
ولا أدلّ على ما نقول من أنّ حقوق الإنسان لم توضع قط موضع التنفيذ في
تاريخ الإنسانية إلا حين حَكمَ الإسلام من لَدُن أول حكومة إسلامية في عصر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، واستمرّت منفَّذةً مطبَّقةً مع استمرار هيمنة الحكم
الإسلامي.
حكمنا فكان العدلُ منّا سَجِيَّةً ... ولما حكمتم سال بالدم أَبْطُحُ
ومهما يكن من أمر، فإن حقوق الإنسان من أبرز الميادين التي احتدم فيها
الصراع الفكري بين أهل الإسلام والغرب، وما كان ينبغي لها أن تَصِلَ إلى ما
وصلَتْ إليه لولا جهلهم أو تجاهلهم بتراثنا الفقهيّ، أو عدم بلوغهم حقيقة الإسلام
تجاه حقوق الإنسان، أو حيلولة القوى المعادية للإسلام بين الرأي العام وبين الطرح
الإسلامي للموضوع [1] ، أو نكرانهم أنهم استفادوا شيئاً من الحضارة الإسلامية، أو
أنهم بنوا مدنيَّتهم على علوم اكتسبوها من أهل الإسلام ... إلخ.
وعجباً أن تكون المبادئ التي طالما صَدّرْناها للناس يُعاد تصديرها إلينا على
أنها كَشْفٌ إنساني ما عرفناه يوماً ولا عشناه دهراً.
ونحن نملك تراثاً عامر الخزائن بالمبادئ الرفيعة والمُثل العليا، ونخشى أن
يجيء يوم يصدّر الغرب إلينا فيه غسل الوجوه والأيدي والأقدام على أنه نظافة
إنسانية للأبدان، فإذا قُلْت: ذلك هو الوضوء الذي نعرفه، قال لك المتحذلقون
المفتونون: لماذا لا تعترف بتأخرك وتقدّمه؟ وفقرك وغناه؟
إن الخمول الشنيع الذي ران علينا في القرون الأخيرة جعل تراثنا العظيم نهباً
للآخرين، ثم تُمحى من فوقه كلُّ علامة، وتُوضع عليه علامات المُلاّك الجدد، ثم
يقال: إن العرب ما قدّموا للعالم خيراً قطّ، وإن الإسلام وأهله عالةٌ على الأولين
والآخرين، ألا [لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ] (الأعراف: 44-45) « [2] .
إنَّ في طليعة الحقوق التي يجب على الغرب أن يعترف بها حقاً أساسياً هو
الحقّ في الاختلاف معه، أعني حقّ الشعوب الأخرى، ولا سيما المستضعفة
سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً - أي: المتخلفة عن ركب آلته المتقدّمة - في
أنْ تكونَ لها عقيدتها ولغتها وثقافتها ومختلف مقوّمات هويتها الذاتية والكيانية، ثم
يأتي بعد ذلك حقها في التقدم الذي بلغه العصر في شتى المجالات، والذي يضع
الغرب نفسه الراعي والمتعهد وصاحب الامتياز لحقوق الإنسان! ! يضع عراقيلَ
حتى لا تدرك هذه الشعوب شأواً مناسباً منه، وَيذُودُونَها بسوْط العولمة أو الأَمْرَكةِ
حتى تبقى رهينة تبعيّةٍ مقيتةٍ يتحكمون في صيرورتها، ويجردونها من أدنى
الحقوق وأبسطها، معاشاً وتعليماً وعلاجاً وأمناً.
ولو أنّ المسلمين انطلقوا من ذاتهم ومن مفاهيم شريعتهم لحقوق الإنسان،
لسهُلَ عليهم هضم هذه الحقوق والتفاعل معها، والعمل بها واحترامها حتى في
صيغتها الغربية المشوّهة.
وإن من أوليات هذه الانطلاقة أن يقف المسلمون على ما يتميز به المنظور
الإسلامي [3] لحقوق الإنسان، وما يرتبط بها من مبادئ وقيم؛ ليدركوا الحاجة
الماسّة إلى إعادة النظر في المنظومة الحالية، وينبهوا غيرهم إلى ضرورة هذه
الإعادة، حتى تتناسق هذه الحقوق وتتكامل، وتستحقّ الوصف بالعالمية، مع أنَّ
من نافلة القول أن نقول: إنه ليس ثَمّة وسيلة للإقناع بالطرح الإسلامي لحقوق
الإنسان أفضل من تطبيقنا نحن المسلمين ما جاء به شرعنا الحنيف في هذا المجال،
وعند سعينا لتطبيق حقوق الإنسان تكون هذه الريادة خير ردّ على أيّ اتّهام بخرق
تلك الحقوق.
والحديث عن حقوق الإنسان في شريعة الإسلام متشعّب وأخّاذ؛ بيد أننا في
هذا المقام نوجز الحديث في عنصرين؛ هما: خصائص الإنسان في شريعة الإسلام،
وبعض ما انفردت به الشريعة من حقوق الإنسان.
أولاً: خصائص وسمات ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام:
1 - من أبرز ما يميز حقوق الإنسان في الإسلام هو أن مصدر هذه الحقوق
مبني على أن السيادة والحاكمية لله عز وجل. قال - تعالى -: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ
يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ] (الأنعام: 57) ، وقال - عز وجل -: [أَلاَ
لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ] (الأنعام: 62) . فينظر المشروع الإسلامي
للحقوق بحسب النظرة الإلهية لهذا المخلوق [4] ، ومدى ما يصلحه [5] ، كما قال -
تعالى -: [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً] (الإِنسان: 3) .
2 - الثبوت؛ فلا تتغير بتغيُّر الزمان وتبدل الظروف والأحوال. وتتّضح
هذه الميزة في تعريف العلماء للحق حين عرّفوه بقولهم:» هو الحقّ الثابت الذي لا
يجوز إنكاره « [6] .
3 - مراعاة انطلاق الحقوق من مقام الإحسان؛ فالحقوق في الإسلام تنبع من
المقام الذي يكون فيه العبد تحت مخافة الله - عز وجل -، وهو مقام الإحسان الذي
قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:» أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه
يراك « [7] .
4 - الانسجام والتكامل بين حقوق الإنسان وطبيعة هذا الدين، فالإسلام لم
يترك الحقوق مجردة، بل جعلها في جوّ وإطار الأحكام الشرعية، وفي منظور
المقاصد الشرعية، وقرنها بآدابها وأخلاقها، وجعل الإخلال بتلك الآداب إخلالاً
بهذه الحقوق، وربطها في النهاية بالدين، واعتبر مصدرها إلهياً، فكان بناء
الحقوق في الإسلام بناءً متكاملاً ينسجم مع الطبيعة الربانية لهذا الدين [8] .
5 - تنبثق حقوق الإنسان في الإسلام من أنّ سيادة المجتمع الإنساني فرع
عن سيادة أفراده، وليس العكس، كالحال في النظم الوضعية [9] ، قال - تعالى -:
[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً]
(المائدة: 32) .
6 - إضافة إلى السبق الزمني لحقوق الإنسان في الإسلام على غيره [10] ؛
فإنّ هذه الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان لم تتحقق بعد صراعات فكرية أو
ثورات ومطالبات كما هو الشأن في تاريخ حقوق الإنسان في النظم الديمقراطية
وأسباب نشأتها، كالحال في فرنسا وبريطانيا ... وإنما استقرّت مبادئها وأحكامها
وحياً من عند الله - عز وجل - دون سابق حديث عنها أو تطلّع إليها، أو كفاح في
سبيلها.
7 - أنها واقعية ومرتبطة بالحياة، وتلمس حاجة الإنسان؛ بخلاف الحقوق
في التشريعات الأجنبية فإنها منصبغة بالصبغة الفلسفية. جاء في ديباجة الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان ما نصّه:» لِمَا كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع
أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة، وهو أساس الحرّية، والعدل،
والسلام في العالم.
ولَمَّا كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت
الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامّة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد
بحرّية القول والعقيدة، ويتحرر من الفزع والفاقة.
ولَمَّا كان من الضروري أن يتولى القانون حمايةَ حقوق الإنسان؛ لكيلا
يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم.
ولَمَّا كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكّدت في الميثاق الجديد إيمانها بحقوق
الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقَدره، وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية،
وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن ترفع مستوى الحياة
في جوٌ من الحرّية أفسح.
ولَمَّا كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان
اطِّراد مراعاة حقوق الإنسان، والحريات الأساسية، واحترامها.
ولَمَّا كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا
العهد.
فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه
المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم، حتى يسعى كلّ
فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم إلى توطيد
احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية، واتخاذ إجراءات مطردة
قومية وعالمية؛ لضمان الاعتراف بها، ومراعاتها بصورة عالمية فعّالة بين الدول
الأعضاء ذاتها، وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها.
ثانياً: بعض ما انفردت به الشريعة الإسلامية من حقوق الإنسان:
وقد جاءت هذه الحقوق بمجموعها ضمن الكثير من الوثائق التي صدرت على
المستوى الإسلامي عن حقوق الإنسان [11] .
ومن أهم هذه الحقوق:
1 - حقّ الفضل والكرامة المكتسب من العمل والعقيدة، وجاء في العالمي
بشكل عام في عدة مواد.
2 - حرمة اللجوء إلى فناء النوع البشري.
3 - حقّ الحفاظ على الأفراد البريئين، كالشيخ، والمرأة، والطفل أثناء
النزاعات، ومداواة الجرحى، والحفاظ على الأسرى، وحرمة التمثيل بالقتلى،
وخلا العالمي من ذلك، ولكنه جاء في مواثيق واتفاقات دولية لاحقة، مثل: معاهدة
جنيف، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية،
والحقوق المدنية والسياسية.
4 - حق الإنسانية في عدم إتلاف الزروع، وتخريب المباني المدنية أثناء
النزاعات.
5 - حقّ الأسرة في الحصول على الإنفاق من قِبل الرجُل.
6 - حق الجنين.
7 - حق الأبوين والأقارب على الأبناء، وحقوق ذوي القرابة.
8 - التوسع والتأكيد على حق الفرد في التربية الدينية، والدنيوية، وجاء في
العالمي بمستوى أقل من ذلك.
9 - حق التحرر من قيود الاستعمار، والاستقلال عنه، وجاء في العالمي
بشكل آخر.
10 - حق الكسب المشروع ومنع الربا.
11 - حق الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
12 - حق الفرد في حماية مقدساته من الإهانة، ومنع الإخلال بالقيم، وعدم
إثارة الكراهية.
حقوق الإنسان وسيلة سياسية في أيدي الغرب:
فغيرُ خافٍ عليك أن الطرح الإسلامي في قضية حقوق الإنسان يرتكز على
إثارة الشعور العاطفي بالإيمان بالله - عز وجل -، بخلاف التناولات الأخرى،
ويرتكز على مفهوم تسخير الله - عز وجل - كل ما في هذا الكون لمصلحة الإنسان
وفق انسجام متكامل في منظومة الحياة.
وغير خافٍ عليكَ النزاع الذي باتَ مكشوفاً في انتقادات الغرب لقضية حقوق
الإنسان في الإسلام. وإن الأخبار السياسية اليومية مليئة بالأحداث التي تدل على
أن التأريخ لم يشهد للغرب يوماً من الأيام بتطبيق حقوق الإنسان بعيداً عن المصالح
والاعتبارات والقيود التي تحكم الجانب التطبيقي، وما ترويج الدوائر الغربية لكتاب
سلمان رشدي، وما الخمس عشرة رهينة الذين احتُجزوا في لبنان، وكيف قامت
دنيا الغرب ولم تقعد؛ لأنهم من الجنس الأبيض، بينما أكثر من عشرة آلاف رهينة
من الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يقابلون بوجوم وسكوت مطبق، بل
بتبريكات من راعي السلام أمريكا.. وقديماً قالوا: «رَمَتْني بدائها وانْسَلّت» .
فما كل ذلك عنك - أخي القارئ - ببعيد، ولا نستغرب تصرفات الغرب
حين ينطلق في مجال حقوق الإنسان من نظرته الانتقائية التمييزية [12] .
حقوق الإنسان والرق في الإسلام:
ونسلّط الضوء - ولو بشيء من الإيجاز - على قضية من قضايا حقوق
الإنسان طالما شكّك الأعداء وطعنوا في الإسلام بسبب ضيق فهمهم لموقف الإسلام
منها، وهي قضية الرقّ في الإسلام.
وخلاصة القول: أن نقلب السحر على الساحر؛ فقضية تشريع الرقّ في
الإسلام من أوضح ما يدلُّ على سمو هذا الدين وكماله، وأنه أبعد من المثالب
والمعايب مما وصفه بها أعداؤه.
فمن أنوار التنزيل كانت الحقوق الواضحة البيّنة التي بينها رب العالمين الذي
[يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ] (الأنعام: 57) في شريعة الرق [13] في
الإسلام؛ بيان وإنصاف للإنسان حينما يقال للسيد: أعطِ حقّ المملوك الذي جعله
الله أمانة في عنقك، وأنت مسؤولٌ عنه أمام الله - عز وجل -، ويقال للمملوك:
أدِّ حقَّ سيدك.
في شريعة الرق في الإسلام نظرةٌ كاملة شاملة، ومناداة بالحقوق دون أن
يتقمّصها المنادي لأغراضه الشخصية، نظرة لإيجاد انسجام وترابط وتراحم بين
السيد والمملوك، تتجلى فيها عظمة الإسلام في أبهى صورها وأجمل حللها دون
كذب وافتراء، ودون مبالغة وخداع وتمويه على الناس.
ولنقف - أخي القارئ - على شيء مما دَوَّنَهُ فقهاء الإسلام في أحكام الرقيق:
أولاً: يحرم في الإسلام استرقاق الناس وقد وَلَدَتْهم أمهاتهم أحراراً بناءً على
أجناسهم أو ألوانهم أو مللهم وأديانهم، حتى قال عليه الصلاة والسلام - كما في
صحيح الإمام البخاري - رحمه الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:
«ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وذكر منهم: ورجُلٌ باعَ حرّاً فأكل ثمنه» .
ثانياً: جعل الإسلام سبب الرقّ هو الكفر، فمَن كفر فإنه ينزل عن مستوى
الكرامة والآدمية - ولو كان أجمل الناس صورة أو أعز الناس مكانة وحسباً ونسباً
وجاهاً - إلى مستوى البهيمية أو أضل. قال - تعالى -: [أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أضَلُّ] (الأعراف: 179) ، فالكفر والشرك من أعظم الظلم، قال تعالى:
[إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] (لقمان: 13) . والكافر ظالم، قال - تعالى -:
[وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (البقرة: 254) .
ثالثاً: ليس كل كافر يُسترَقُّ، وإنما الكافر المحارب الذي يقف في وجه
الدعوة إلى الله - عز وجل - يحاربها ويمنع غيره من أن يصل إليه من أنوارها،
ويصبح عقبةً أمام تبليغها، أمّا إذا لم يحارب فإنه يُقَرُّ على ملته ويُعْطِي الجزية،
وتتعدّاه الدعوة إلى غيره.
وإذا حارب ووقف في وجه الإسلام فليس لكل أحد أن يسترق ويأخذ من أسر
ويقول: هذا مملوك لي، إنما ضبطها وحدّدها الحكيم الخبير - سبحانه وتعالى -
حين ربطها بنظر الإمام ووليّ الأمر، قال - تعالى -: [فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً
حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا] (محمد: 4) .
رابعاً: رغب الإسلام في عتق الموالي وفتح لهم أبواب الحرية، فمن ذلك
رتّب كفارة العتق وأوجبها في بعض الصغائر والكبائر، كالقتل والظهار وغيرهما.
ومن ذلك: جواز المكاتبة أن يطلب الرقيق حريته بدفع شيء يكاتب عليه
سيّده، وجعل للمكاتبين نصيباً في الزكاة الواجبة، قال - تعالى -: [وَفِي الرِّقَابِ]
(التوبة: 60) . وأوجدَ الإسلام نظاماً آخر للعتق، عُرف في الفقه الإسلامي
بالتدبير [14] ، وحرّم على السيد استرقاق أمّ الولد أو بيعها ... إلخ.
ورتّب على العتق عظيم الأجر، حتى قال - عليه الصلاة والسلام - لسيد
الجارية حين قال لها: «أين الله؟» ، قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» ،
قالت: أنت رسول الله. قال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» [15] .
ولم يجعل الإسلام مجرّد دخول الموالي في الدين سبباً للعتق؛ حسماً للكذب
وادّعاء اعتناق الإسلام.
خامساً: أوجب على السيد في حقّ مولاه نفقته وكسوته وحمله إذا احتاج
الركوب، وليست النفقة على العمل، وحرّم على السيد أن يكلّفه بعمل يشقّ عليه
ولا يتحمله. قال صلى الله عليه وسلم: «للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلف من
العمل إلا ما يطيق» [16] ، وكذلك حرّم عليه أن يستخدمه في عمل يؤدي بعد ذلك
إلى الإصابة بالأمراض، ويعجز عنه بعد مرور الأيام. وجعل من حقوق المولى
على السيد أن يعطيه ساعات يرتاح فيها من العمل ويصلي فيها. قال الحجاوي -
رحمه الله - في زاد المستقنع: «ويريحه وقت القيلولة والنوم والصلاة» .
وأطفال الموالي لا يُطالَبون بالكسب، بل يُتركون حتى يكبروا.
وجعل الإسلام للمولى الحقّ في أن يتملك ما ملَّكه له سيده في الميراث، قال -
تعالى -: [قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ]
(الأحزاب: 50) . ومقابل الخدمة التي أوجبها للسيد على المولى خفف الشرع عليه
في الواجبات الشرعية، فلا تجب عليه الجمعة ولا الحجّ وغيرهما.
سادساً: جعل سياجاً منيعاً للحقوق المعنوية للرقيق، فحرّم إهانتهم واحتقارهم
وضربهم.
أوردَ الإمام النووي - رحمه الله - في رياض الصالحين تحت باب: النهي
عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي أو زائد على قدر الأدب،
أوردَ حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - الذي أخرجه الإمام مسلم رحمه
الله - في صحيحه، قال: كنتُ أضرب غلاماً لي بالسَّوْطِ، فسمعتُ صوتاً من
خلفي: «اعلم أبا مسعود» ، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني، إذا هو
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود! أعلم أبا
مسعود!» ، قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: «اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر
عليك منك على هذا الغلام» ، فقلت: يا رسول الله، لا أضرب مملوكاً بعده، وقلت:
هو حُرٌّ لوجه الله تعالى، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما لو لم تفعل
لَلَفَحَتْكَ النار أو لَمَسَّتْكَ النار» [17] .
ومن تأكيد الشرع على حقوقهم أن كان آخر ما أوصى به نبي الله صلى الله
عليه وسلم وهو واقف على أعتاب الدنيا يودّع أمّته في مرض موته أن كان يقول:
«الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» [18] .
ولعل هذه الإشارة مما سطّره فقهاء الإسلام في حقوق الرقيق، لعلّ فيها أبلغ
الردّ على شُبهات أعداء هذا الدين، وتثبيتاً لقلوب بعض المؤمنين الذين كادوا أن
ينهزموا أمام هجمات الأعداء، فيتنصلوا من شريعة الرق، وأنها نُسِخت أو شُرعت
للضرورة فقط.... إلخ، غيرةَّ منهم على الإسلام.
كلاَّ! بل ينبغي أن ترفع بها رأساً؛ لأنها من أحكام الله الباقية الخالدة الذي
يحكم ولا مُعقّب لحُكمه سبحانه وتعالى ونحن نؤمن بهذا التشريع الذي يبقى ما بقي
الزمان وتعاقبَ الليل والنهار، رضيهُ من رضيه، وسخطه من سخطه؛ فمَن
رضي فله الرِّضى، ومَن سخط فله السخط، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(*) كاتب وباحث موريتاني.
(1) كثيراً ما يلتقي العلمانيون في تناولهم لحقوق الإنسان في الإسلام مع الغربيين في دعوى أن حقوق الإنسان في الإسلام مجرد نظريات مثالية لا يمكن تطبيقها في واقع الناس، متنكرين للحقيقة ومزوّرين للتأريخ، ومن هذه الدراسات العَلْمانية: - دراسة الدكتور سامي أبو ساحلية، حقوق الإنسان المتنازع عليها بين الغرب والإسلام، مجلة دراسات عربية، العدد 5/6، 1992م - وبحث عزيزة الهيري في مجلة الاجتهاد اللبنانية، عدد 39/40، عام 1419هـ 1998م.
(2) حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - دار الدعوة، الطبعة الرابعة، 1419هـ، ص 6 - 10، بتصرف.
(3) من الدراسات الجادة في هذا الموضوع؛ رسالة علمية بعنوان: (حقوق الإنسان السياسية في الإسلام والمذاهب الوضعية) ، تقدّم بها لنيل درجة الماجستير الأستاذ: محمد عبد الرحمن العمير، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام 1406هـ.
(4) مشروعية الحقوق وآدابها، د عبد الكبير العلوي، مطبعة فضالة، المغرب، (د ت) ، ص 12.
(5) الحقوق والحريات المدنية والسياسية في الفكر الإسلامي والإعلان العالمي، د السيد محمد بحر العلوم، بحث ألقي ضمن بحوث الندوة السنوية لعام 1418هـ، التي عقدها المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، مؤسسة آل البيت في عمان، الأردن.
(6) مشروعية الحقوق وآدابها، مرجع سابق، ص 25.
(7) أخرجه البخاري، رقم 50.
(8) مشروعية الحقوق وآدابها، مرجع سابق، ص 25.
(9) الله أم الإنسان، أيهما أقدَر على رعاية حقوق الإنسان؟ د محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، عام 1419هـ، ص 12 13.
(10) المرجع السابق، ص 21.
(11) للتوسع في تفاصيل هذه الحقوق، يُراجع: (حقوق الإنسان في الإسلام) الدكتور: محمد الزحيلي، و (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة) ، محمد الغزالي، و (حقوق الإنسان والتمييز العنصري في الإسلام) الدكتور: عبد العزيز الخياط.
(12) من الكتّاب الغربيين الذين نقدوا بجرأة موقف السياسة الدولية من حقوق الإنسان، دافيد ب فورسايث في كتابه: حقوق الإنسان والسياسة الدولية، ترجمة: محمد مصطفى غنيم، نشر الجمعية المصرية، القاهرة، 1993م.
(13) من دروس شرح الشيخ محمد المختار لِزاد المستقنع، (بتصرف) .
(14) والتدبير: أن يقول السيد لعبده: أنت حُرّ عن دُبر منّي، قاصداً بعد إدبارهعن الدنيا، فعتقه حينئذٍ لازم بمجرد وفاة سيّده.
(15) أخرجه مسلم، رقم 537.
(16) أخرجه مسلم، رقم 1662.
(17) أخرجه مسلم، رقم 1659.
(18) أخرجه أحمد، (6/290) .(165/45)
ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
حقوق المرأة والطفل بين الحقيقة والادعاء
علي عليوة
بالأمس قيل: «كم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها الحرية! !» وذلك تعليقاً
على هذا الكم الكبير من سفك الدماء والدمار الذي أحدثه الثوار الفرنسيون في حربهم
ضد الكنيسة والملكية التي مهدت لقيام الجمهورية الفرنسية الحديثة، ورأى العالم
مدى التناقض الصارخ بين شعارات الثوار (الحرية المساواة الإخاء) وبين
ممارساتهم المشينة على أرض الواقع، والموجهة ضد خصومهم.
واليوم يمكن إطلاق العبارة نفسها على قضية حقوق الإنسان، والقول
باطمئنان: (كم من المصائب ترتكب باسمك أيتها الحقوق المنسوبة للإنسان! !) ؛
فوراء ذلك الشعار البراق يقوم الغرب بعملية غزو فكري منظم تم التخطيط له بعناية
لضرب منجزات البشرية في المجال الأخلاقي والاجتماعي، ولمحو الثقافات
المخالفة للثقافة الغربية بدعوى العولمة والقرية الكونية الواحدة، ويتخذ هذا الغزو
من حقوق المرأة وحقوق الطفل ستاراً لفرض منظومة القيم الغربية الغازية.
وتتخذ المنظمات النسائية الغربية ذات التوجه العلماني من الأمم المتحدة غطاءً
لها في سعيها لفرض منظومتها الإباحية على العالم، وكانت وراء ذلك الاهتمام
المبالَغ فيه دولياً بقضايا حقوق المرأة. فكان المؤتمر الدولي الأول للمرأة في
المكسيك عام 1975م، ثم كان المؤتمر الثاني في كوبنهاجن عام 1980م، والثالث
في نيروبي عام 1985م، والرابع في بكين عام 1995م، إضافة إلى مجموعة
مؤتمرات أخرى لها صلة بقضايا المرأة مثل مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة
1994م.
وتسعى المنظمات الغربية من خلال الأمم المتحدة إلى فرض منظومة القيم
الغربية في مجالات الحياة المختلفة اجتماعية واقتصادية وثقافية، والخروج بوثيقة
دولية ملزمة لكل دول العالم فيما يسمى بحقوق النساء ضاربة عرض الحائط
بخصوصيات الشعوب وعقائدها. وكانت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز
ضد المرأة (السيداو) هي خلاصة تلك الجهود.
وقامت (السيداو) بدمج حقوق المرأة في حقوق الإنسان مما جعلها بمثابة
إعلان عالمي بحقوق المرأة، ودعت الاتفاقية إلى المساواة التامة في الحقوق بين
المرأة والرجل في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والمدنية. وتعد الاتفاقية
ملزمة قانونياً للدول التي صادقت عليها، وتتعهد هذه الدول بإلغاء كل التشريعات
والقوانين المحلية التي تعتبر تمييزاً ضد المرأة. وتم تشكيل لجان دولية باسم لجان
(السيداو) مهمتها مراجعة ما تم إنجازه في كل دولة عضو في هذا المجال كل عدة
أشهر، وعلى الرغم من أن الاتفاقية تنص على أن يتم تشكيل لجان (السيداو) بما
يعكس التمثيل العادل لكل الثقافات والحضارات والعقائد إلا أن التشكيل على أرض
الواقع لم يعكس ذلك بل كانت الأغلبية في عدد الأعضاء هي لممثلي الدول الغربية
التي تسعى لفرض مفاهيمها ومنطلقاتها الخاصة بحقوق المرأة على باقي شعوب
العالم.
حتمية الصراع:
وتستند اتفاقية (السيداو) على عدة مفاهيم ومنطلقات أساسية تشكل خلفيتها
الفلسفية؛ وأول هذه المفاهيم اعتبار المرأة مخلوقاً متفرداً بذاته وليس كائناً اجتماعياً
له دور من خلال الأسرة، وأن المساواة بين المرأة والرجل هي مساواة مطلقة؛
بمعنى التماثل فيما بينهما واستبعاد أي فروق فسيولوجية أو بيولوجية تميز كلاً منهما
عن الآخر، وأن الوصول لتلك المساواة يتطلب صراعاً دائماً ضد الرجال الذين
يمثلون الخطاب الذكوري الأبوي، وإصرار الاتفاقية على تكريس قيم الفردية
والتماثل التام بين المرأة والرجل والمساواة المطلقة في الحقوق والواجبات.
والصراع بين الرجال والنساء إنما يعني دفع المرأة للتمرد على عقيدتها وثقافتها
وخصوصيتها، وإشعال الفتنة داخل كل أسرة بما يؤدي لتفكيك تلك المؤسسة التي
تشكل اللبنة الأساسية لتماسك المجتمعات وبقائها.
وتتضمن الاتفاقية بنوداً تحقق فرض الفلسفة الغربية من خلال ثلاث مواد هي
المادة رقم (1) ورقم (2) ، ورقم (16) ، فعلى سبيل المثال تقول المادة رقم
(2) بضرورة تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتير الدول الوطنية
أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، كما تنص على اتخاذ التدابير المناسبة بما في ذلك
التشريع لتعديل أو إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات القائمة التي
تشكل تمييزاً ضد المرأة.
وأخطر هذه المواد هي المادة رقم (16) التي تنص على ضرورة اتخاذ
الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة
الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية، وبوجه خاص تضمن على أساس
تساوي الرجل والمرأة نفس الحق في عقد الزواج ونفس الحق في اختيار الزوج
ونفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه، وفيما يتعلق بالولاية
والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم!
وهذه المادة التي تعطي للرجل والمرأة الحق، نفسه في عقد الزواج، وفي
أثنائه، وعند فسخه تتعارض مع قاعدة ولي الزوجة عند عقد الزواج، ومع المهر،
وقوامة الرجل على المرأة داخل الأسرة، وتعدد الزوجات، ومنع زواج المسلمة من
الرجل غير المسلم، وأحكام الطلاق والعدة، وعدة الوفاة، وحضانة الأولاد،
والغريب أن الاتفاقية تحظر على الدول الموقعة عليها أن تتحفَّظ على تلك المادة!
وحيث يتناقض ذلك مع كتاب الأمم المتحدة حول (التمييز ضد المرأة) الذي يعطي
للدول حق التحفظ على بعض بنود الاتفاقية. وإلى جانب أنها تعد تدخلاً سافراً في
سيادة الدولة على قوانينها ودساتيرها؛ فهي تفرض عليها تغيير دساتيرها وقوانينها
التفصيلية بما يتفق مع المفاهيم التي تعرفها (السيداو) حتى ولو تعارضت مع القيم
والعقائد والخصوصيات الثقافية للشعوب؛ باعتبار (السيداو) هي المرجعية
القانونية لكل دساتير الدول وليس الدين أو الثقافة الوطنية.
التهديد باستخدام القوة:
وتفتح هذه المادة الباب على مصراعيه أمام احتمال اتخاذ الأمم المتحدة مستقبلاً
إجراءات لاستخدام القوة أو فرض العقوبات على أي دولة تتضمن تشريعاتها أو
قوانين محاكمها المحلية أي تمييز ضد المرأة وفقاً للمرجعية الدولية في هذا المجال،
وهي اتفاقية (السيداو) التي تريد الأمم المتحدة أن تكون لها السلطة الأعلى على
أي سلطة تشريعية محلية في أي دولة، وأنها (أي الاتفاقية) ناسخة للقوانين
المحلية. والاتفاقية في مجموعها تحارب الخطأ المزعوم بالوقوع في الخطأ نفسه؛
فهي في سعيها للمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة متناسية الفروق التي تميز كل
منهما عن الآخر لا ترى مانعاً من الوقوع في خطأ التمييز ضد الرجل؛ أي إعطاء
المرأة حقوقاً أكثر مما يحصل عليه الرجل في المجال نفسه، وينسى من وضعوا
بنود الاتفاقية أن المساواة بين الجنسين في الخصائص والأدوار الاجتماعية هو الظلم
بعينه، وأن المطلوب هو العدل بين الطرفين.
ويأتي مفهوم الجندر (النوع الاجتماعي) ليشكل الأداة الرئيسية لهدم كل
الثوابت العقائدية والأخلاقية التي تعتز بها شعوب العالم؛ فهذا المفهوم يمثل حجر
الزاوية في اتفاقية (السيداو) ؛ فقد ورد في المادة (5) من الاتفاقية تحت عنوان
(تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لدور كل من الرجل والمرأة) ، فالأمومة ليست
صفة بيولوجية فسيولوجية لدى المرأة، ولكنها وفقاً لهذه المادة هي وظيفة اجتماعية
يمكن أن يؤديها أي شخص حتى ولو كان هذا الشخص هو الرجل نفسه! ! ويفتح
المفهوم الباب لكل من يريد تغيير نوعه من ذكر إلى أنثى أو العكس باعتبار ذلك
حقاً من حقوق الإنسان، ويفتح الباب أيضاً لما تسميه الاتفاقية بالأنماط الجديدة
للأسرة التي تتكون من رجلين أو امرأتين وليس المفهوم المتعارف عليه على مدى
التاريخ البشري للأسرة الذي يتكون من رجل وامرأة يربط بينهما رباط الزوجية
بهدف إنجاب الأطفال والمحافظة على النوع البشري.
وتنص المادة (10) من الاتفاقية صراحة على أن يكون التعليم مختلطاً بين
الشباب والشابات، وضرورة القضاء على أي مفهوم عن دور الرجل ودور المرأة
على جميع مستويات التعليم، وتغيير المناهج الدراسية لتحقيق ذلك، وهذه المادة
تشكل خطراً على الأجيال القادمة التي يراد أن تربى على إزالة أي حواجز أو
فروق نفسية أو اجتماعية أو بيولوجية بين الرجل والمرأة لينتج لدينا أجيال من
الرجال تتشبه بالنساء وتؤدي أدوارهن، وأجيال من النساء تتشبه بالرجال وتمارس
أدوارهم! !
والمادة (12) تطالب بمساواة الرجل والمرأة في الاستحقاقات الأسرية التي
يدخل فيها المساواة في الميراث رغم تعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية التي ارتبط
نظام توزيع الميراث فيها بطبيعة النظام الاجتماعي الإسلامي الذي يعفي المرأة تماماً
من أي التزامات مالية تجاه نفسها وتجاه أسرتها، ويلقي بهذا العبء على زوجها أو
أقاربها إذا لم تكن متزوجة.
عالم جدير بالأطفال:
وفي إطار المحاولات لإصدار وثيقة دولية ملزمة في مجال الأطفال
والمراهقين نقلت المنظمات النسائية الغربية الإباحية نشاطها إلى هذا الميدان
لتستكمل دورها المشبوه المتمثل في فرض منظومتها الثقافية على دول العالم في كل
المجالات، وتحت عنوان: (عالم جدير بالأطفال) تم تضمين هذه المنظومة في
عدد كبير من بنود مشروع الوثيقة المؤقت الخاص بالأطفال تمهيداً لإصدار الوثيقة
النهائية في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بقمة الطفولة في سبتمبر
القادم. وكما فعلت تلك المنظمات في الوثيقة الخاصة بالمرأة من إهمال للواجبات
والتركيز على الحقوق تكرر الموقف نفسه تجاه حقوق الأطفال؛ فهي تتوسع في تلك
الحقوق وتهمل الواجبات المطلوبة من الأطفال والمراهقين تجاه الأسرة والمجتمع،
كما أنها أهملت تماماً الالتزامات المطلوبة من جانب الدول الغربية تجاه رفع الظلم
الواقع على نساء العالم وكذلك الأطفال نتيجة الفقر والنزاعات المسلحة التي يقوم
الغرب بدور بارز في تأجيجها وإثارتها تحقيقاً لمصالحه في مناطق العالم المختلفة
خاصة إفريقيا.
وللأسف تم نقل كل السموم الواردة بوثيقة المرأة إلى الوثيقة المؤقتة الخاصة
بالأطفال؛ فالبند (58ج) والبند (65) من تلك الوثيقة يدعوان لتمكين الطفل
والبالغ ولكن ليس داخل سياق الأسرة الطبيعية وإنما من داخل سياقات أخرى
مختلفة، وكأن المطلوب قطع صلة الطفل والبالغ من إطاره الأسري وعلاقته
بوالديه، وأعطت الوثيقة للأطفال القادمين من علاقات غير شرعية بين الرجال
والنساء حقوق الأطفال الشرعيين نفسها، وكأنه تشجيع على الحمل السِّفاح.
وجسدت المادة (36) من الوثيقة المؤقتة فكرة المساواة المطلقة مقررة
التماثل بين الأولاد والبنات متجاهلة الفروق البيولوجية والنفسية والفسيولوجية
بينهما، كما أنها تنحاز للبنات ضد الأولاد، ويتضح ذلك من المادتين (16، 65)
حيث تقول المادة (65) : «إن إمكانية الحصول على التعليم الأساسي يعد حقاً من
حقوق الإنسان.. ويساعد على وضع أقدام الأطفال لا سيما الفتيات على طريق
التمكين» ، ومن بين ثنايا عشرات البنود لم يتم الإشارة إلى الدين بوصفه عاملاً
فعالاً من عوامل تنمية الطفل إلا مرة واحدة في البند (62) ، وقامت الوثيقة
بإدخال المراهقين ضمن مرحلة الطفولة رغم الاختلاف الكبير بين سمات
وخصائص كل من الأطفال والمراهقين، وربطت بين قضايا النساء والأطفال،
واستبعدت الرجال تماماً رغم أنهم جميعاً يعانون نفس الظروف خاصة عند الحديث
عن تحدي (الصراعات المسلحة) .
وأغفلت الوثيقة المآسي التي يعاني منها الأطفال في العالم الثالث من جراء
الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الأمم المتحدة على بعض الدول مثل العراق وليبيا
وأفغانستان وغيرها، وهو الحصار الذي يتسبب في حصد أرواح المئات من
الأطفال بسبب عدم توفر الغذاء والدواء، كما لم تشر الوثيقة إلى الالتزامات الواجبة
على الدول الصناعية الكبرى تجاه دول الجنوب الفقيرة لرفع مستوى معيشة فئات
المجتمع ومن بينهم الأطفال.
الالتزامات الغائبة:
وتحرم المادة (41) من الوثيقة المؤقتة كل مظاهر وأشكال العنف الموجه
ضد الأطفال، وتطالب بوضع قوانين على صعيد المجتمع المحلي لتعزيز نظم
الوقاية من العنف والحماية منه. والمتأمل في هذه المادة يجد أنها يمكن أن تستخدم
في منع الوالدين من حق تأديب أطفالهم باعتبار أن ذلك التأديب يدخل في باب
العنف الموجه لهؤلاء الأطفال تمهيداً لإعطائهم حق طلب إنزال العقوبة بالوالدين أو
توفير أسرة أخرى لهؤلاء الأطفال أسوة بما يجري حالياً في المجتمعات الغربية.
وحين تتحدث المادة (45) عن «ضرورة إيجاد حلول شاملة لمعالجة
المشكلات التي تدفع الأطفال إلى العمل وإلى العيش في الشوارع، وتنفيذ برامج
وسياسات مناسبة لحماية أطفال الشوارع وتأهيلهم ودمجهم في المجتمع مرة
أخرى» ، لم تلزم هذه المادة الدول الصناعية الكبرى بالتزامات مالية محددة
لمساعدة 250مليون طفل على مستوى العالم يعانون من العيش في الشوارع
والعمل في سن الطفولة.
فالدول الفقيرة التي تعاني من ظاهرة عمالة الأطفال وأطفال الشوارع لا تملك
من الموارد ما يمكنها من تبني البرامج والسياسات التي تطالب بها تلك المادة من
الوثيقة المقترحة مما يوجب على دول الشمال الغني القيام بمسؤوليتها تجاه دول
الجنوب التي يتم استنزاف معظم ميزانياتها لسداد ديونها وفوائدها الباهظة المستحقة
عليها لصالح دول الشمال.
وحين تطالب المادة (46) بـ «تحسين السياسات والبرامج الموضوعة
لحماية الأطفال اللاجئين والمشردين داخلياً، ولرعايتهم ولتوفير الرخاء لهم»
أهملت الحديث عن ضرورة الحفاظ على هوية هؤلاء الأطفال الثقافية والدينية، وما
جرى من محاولات تنصير الأطفال اللاجئين في ألبانيا وكوسوفا والشيشان من
جانب مؤسسات التنصير الغربية لم يعد خافياً على أحد، ولا تشير إليه الوثيقة
باعتباره عدواناً على حق هؤلاء الأطفال في الحفاظ على عقيدتهم وهويتهم.
وتشير المادة (50) إلى «ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع انتقال
فيروس نقص المناعة الإيدز من الأمهات إلى أطفالهن وفيما بين المراهقين» ،
وتتغافل عن الدعوة إلى الالتزام بقيم العفة، وعدم ممارسة العلاقات الجنسية خارج
نطاق الزواج الشرعي؛ باعتبار ذلك الضمانة الأساسية لوقف الإصابة بالإيدز
وانتشاره وانتقاله من الأمهات المصابات إلى أطفالهن، خاصة وقد ثبت أن
إجراءات الوقاية التي تعتمد على الأساليب الطبية وحدها عجزت عن وقف انتشار
المرض.
والوثيقة حين تتحدث عن دور المراهقين في الدعوة إلى السلام العالمي لم
توضح كيف يتم ذلك تجاه الدول التي تقوم باحتلال أراضي الغير بالقوة كما هو
الحال بالنسبة لـ «إسرائيل» ؟ ! وكيف يكون هناك سلام بين الجاني والمجني
عليه؟ ! وأغفلت الوثيقة تماماً الإشارة إلى أن النضال من أجل تحرير الأراضي
المحتلة هو حق مشروع للشعوب كما ينص على ذلك القانون الدولي.
وتعتبر الوثيقة المقترحة الزواج المبكر نوعاً من أنواع العنف ضد الفتيات،
وضرورة منع هذا النوع من الزواج الذي يعتبره الإسلام أمراً مرغوباً فيه لتحصين
الشباب ضد الانحراف. وفي الوقت الذي تعلن فيه المنظمات الغربية العلمانية
الحرب على الزواج المبكر فإنها تدعو إلى حق المراهقين في ممارسة الجنس
وتعتبر ذلك حقاً أساسياً من حقوقهم، وهي بذلك ترفض ممارسة الجنس في إطار
الزواج الشرعي الذي يحفظ حقوق الفتاة، وتبيح هذه الممارسة ذاتها خارج النطاق
الشرعي! !
وتسعى تلك المنظمات الراديكالية إلى أن تكون الوثيقة المزمع التوصل إليها
خلال القمة العالمية للطفولة إلى جعل تلك الوثيقة ملزمة لدول العالم عند وضع
السياسات والاستراتيجيات المستقبلية حول الطفولة، وبذلك تحقق هدفها البعيد في
جعل أفكارها بمثابة المرجعية القانونية لكل الدول، وهي مرجعية يراد لها أن تكون
أعلى وأرسخ من الدساتير الوطنية.
ثم ماذا بعد ذلك؟
والسؤال الذي يفرض نفسه - أمام هذا الاجتياح المنظم لثقافات وخصوصيات
شعوب العالم تحت ستار دعم وإقرار حقوق الإنسان - هو: ماذا بعد؟ وما هو دور
البلاد الإسلامية حكومات وشعوباً في وقف هذا الغزو والاجتياح؟
والإجابة تتطلب تحركاً فاعلاً من جانب الحكومات والمنظمات الأهلية غير
الحكومية داخل بلدان العالم الإسلامي من أجل التواجد المثمر داخل تلك المؤتمرات
الدولية التي تتم تحت مظلة الأمم المتحدة حتى لا يتم السماح بتحويل القيم الإباحية
إلى بنود ثابتة في مواثيق المنظمة الدولية. وفي المرحلة المقبلة تقع مسؤوليات
إضافية على المؤسسات والمنظمات الإسلامية وفي مقدمتها منظمة المؤتمر
الإسلامي، والمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، ورابطة العالم الإسلامي،
واللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل التابعة للمجلس الإسلامي العالمي. وفي
مقدمة هذه المسؤوليات إعداد شخصيات مؤهلة شرعياً وعلمياً للمشاركة في هذه
المؤتمرات لإجهاض كل محاولات تمرير البنود التي تدعو للإباحية وتتصادم مع
الإسلام، وحسناً فعلت اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل التي شاركت
بفاعلية في مؤتمرات الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة، واستطاعت بالتنسيق مع
الوفود النسائية للدول الإسلامية والمنظمات النسائية المسيحية المحافظة إبطال
عدد من البنود الإباحية التي تضمنتها الوثيقة العالمية حول المرأة، ومن المأمول
أن يستمر الدور الإسلامي من خلال اللجنة والمنظمات الإسلامية المماثلة في إسقاط
مخططات المنظمات الغربية الإباحية خلال مؤتمر القمة العالمية
للطفولة القادم.
وتتطلب المواجهة مع تيار الغزو الثقافي الغربي تفعيل دور القنوات الفضائية
المملوكة للعرب والمسلمين في توعية المشاهدين بأخطار منظومة القيم الغربية على
مسيرة الإنسان المعاصر عامة وعلى المسلم خاصة، وكشف الدور المشبوه
للمنظمات النسوية الغربية التي تتستر خلف حقوق المرأة والطفل لفرض قيمها
المنحرفة على شعوب العالم.
وتتطلب المواجهة أيضاً كشف الأوضاع المزرية التي تعاني منها المرأة في
الغرب التي تحولت إلى سلعة في الإعلانات التجارية، وجسد تجني من ورائه
الشركات العملاقة الكثير من الأموال، وضحية للعنف المبالغ فيه ضدها رغم ما
يتشدق به الغرب من دعاوى حقوق الإنسان، فلم يعد مناسباً أن تظل الشعوب
المسلمة في موقف الدفاع عن عقيدتها وهويتها، وآن الوقت لأن تتحول إلى مرحلة
الهجوم وفضح ممارسات الغرب ضد المرأة داخل الغرب ذاته.(165/52)
ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
حقوق الإنسان في المنظور الغربي
علاء الدين صبحي [*]
مدخل:
يظل ملف حقوق الإنسان في معظم دول العالم منتقَداً بصورة مستمرة من قِبلَ
المنظمات والجماعات التي أناطت نفسها بمهمة الدفاع عن حقوق الإنسان. إلا أنه
من اللافت للنظر أن ملف حقوق الإنسان في دول العالم الإسلامي يبقى دوماً الأكثر
عرضة للانتقاد اللاذع من قِبَل هذه المنظمات والجماعات.
المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان:
إن احترام حقوق الإنسان وصيانتها واجب على كل ذي ضمير؛ فدونها
يصبح الإنسان غير آمن على نفسه. لكن يجب أن يتفق الجميع أولاً على ما هو
المقصود بمفهوم حقوق الإنسان؟ ومن ثم العمل على حمايتها وصيانتها.
وقبل أن نبحث موضوع حقوق الإنسان بصورة وافية لا بد أولاً من التعرف
على المنظمات العاملة في هذا المجال، وما تستند عليه في عملها.
على الرغم من وجود بعض المنظمات والجماعات العاملة في مجال حقوق
الإنسان منطلقة من بلدان العالم الإسلامي أو تعمل برؤية إسلامية؛ إلا أننا نجد أن
أثرها غير كبير ولا فاعل على المستوى الدولي، وتبقى المنظمات الغربية العاملة
في هذا المجال الأكثر انتشاراً والأوفر تمويلاً.
وبينما تتعدد هذه المنظمات في الغرب إلا أن أكبر منظمتين هما: (منظمة
العفو الدولية) ومقرها في لندن ولديها فروع في عدد من دول العالم، و (منظمة
مراقبة حقوق الإنسان) الأمريكية المنشأ والمقر.
وتقوم هذه المنظمات بنشر البحوث التي تجريها على مستوى دولي، وتنجح
في معظم الأحيان في استمالة الرأي العام في مختلف دول العالم إلى جانبها، وتقوم
بتعبئة الرأي العام في كل دولة للضغط على حكوماتهم للإصغاء لما تراه هذه
المنظمات انتهاكاً لحقوق الإنسان. وقد أشار استطلاع للرأي أجري مؤخراً إلى أن
عامة مواطني الدول الغربية يثقون بالمنظمات غير الحكومية - ومن ضمنها
منظمات حقوق الإنسان - أكثر مما يثقون بحكوماتهم.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
وعلى الرغم من ترديد منظمات حقوق الإنسان المستمر لاحترامها للعقائد
والأديان المختلفة وأنها محايدة تماماً دينياً وسياسياً، إلا أننا نجد أن المنظور الذي
تتخذه هذه المنظمات الحقوقية هو علماني غربي بحت لا يضع أي اعتبار لأي
عقيدة أو دين أو منظور آخر ولا يقبله. وتبني هذه المنظمات عملها على القوانين
الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
اعتمد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من (كانون الأول) ديسمبر
عام 1948م في وقت كانت فيه معظم دول العالم مسلوبة الإرادة وترزح تحت وطأة
الاستعمار الغربي. ونجد أن عدد الدول التي كانت تتمتع بعضوية الأمم المتحدة
حينذاك هو فقط (58) دولة من أصل (189) دولة التي تشكل عضوية الأمم
المتحدة اليوم، كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أتى في وقت كانت فيه الدول
الغربية التي عملت على صياغة هذا الإعلان وإعداده تقوم بأعمال وممارسات في
مستعمراتها منافية تماماً لمواد الإعلان نفسه.
وإن كانت معظم مواد الإعلان العالمي يقبلها العقل؛ إلا أن بعض مواد
الإعلان أو تأويلها حسب ما تشتهيه المنظمات الحقوقية لا يتوافق مع العقيدة
الإسلامية.
ومن أبرز هذه المواد: (المادة الثامنة عشرة) المثيرة للجدل في أوساط العالم
الإسلامي، حيث إنها تقول: «لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين،
ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو
معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ
أو على حدة» .
ومعنى نص هذه المادة واضح وهو أن أي شخص يمكنه تغيير دينه، وهو
الأمر الذي يتعارض مع الدين الإسلامي، وإضافة إلى ذلك فإن جميع الجماعات
التي تؤمن بمعتقدات شاذة في العالم مثل عبدة الشيطان وغيرهم يمكنهم ممارسة
أنشطتهم وعباداتهم الشاذة أمام الملأ دون أن يلاحَقوا قضائياً.
والسبب في وجود مثل هذه المواد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو كما
أسلفنا أنه في أغلبه صنيع الدول الغربية التي كانت تهيمن على الأمم المتحدة حين
صدور هذا الإعلان؛ ومن ثم فإن الإعلان يستند على المنظور الغربي في معظم
مواده، وإن كانت معظم دول العالم اليوم قد وقعت على قبوله أساساً لحماية حقوق
الإنسان في مختلف أنحاء العالم، إلا أن غالبيتها لم تتح لها الفرصة للمشاركة في
إعداده وصياغته، وهو ما يطرح التساؤل عن مدى مصداقيته وفاعليته!
الخلاف بين الإسلام والغرب على منظور حقوق الإنسان:
إن الإسلام دين طهارة وصفاء، وتدعو أحكامه إلى الطهر والعمل على تزكية
النفس من كل الأحقاد والشرور، ويلزم الإسلام جميع المسلمين باحترام حقوق
الإنسان في العيش الكريم والحرية والعمل على إرساء هذا المفهوم أينما ذهبوا.
وفي نفس الوقت نجد أن الغرب قنن تحت مسمى حقوق الإنسان، للعديد من
الممارسات والمفاهيم الهادمة للأخلاق والمجتمع.
اتجه العالم الغربي في السنوات الماضية إلى ضمان الحق لمن أراد ممارسة
الشذوذ الجنسي، بل وساوى بين الشواذ جنسياً والمثليين وبين الأسرة الطبيعية
المكونة من رجل وزوجة في الحقوق، وأعطى القانون هؤلاء المثليين الحق في
تبني الأطفال. إن المؤلم في الأمر أن كل من يوجه أي انتقاد لهذه الجماعات الشاذة
يعتبر معادياً للمثلية (Homophobic) ويصبح عرضة للملاحقة القانونية.
وتكاثرت الجماعات ذات المعتقدات الشاذة المبنية على السحر والشعوذة
وإباحية الجنس؛ والمدهش أن كل هذه الجماعات الشاذة تحظى بالقبول في الدول
الغربية والدول المقلدة لها، ويسمح لهم بممارسة معتقداتهم بحرية تامة.
وبطبيعة الحال ينظر الغرب لمحاسبة مثل هذه الجماعات أو التعرض لها
قانونياً في دول أخرى على أنه انتهاك لحقوقهم. ويعتبر أفراد هذه الجماعات سجناء
أي إذا ما اعتقلوا أو تم سجنهم؛ كما أن رفض المجتمع المسلم لمثل هذه الممارسات
ومحاربته لها يعتبر في نظر الغرب انتهاكاً للحريات الأساسية والقانون والمعاهدات
الدولية.
الحدود والقصاص:
تنظر منظمات حقوق الإنسان الغربية إلى عقوبة الإعدام على أنها حرمان
الإنسان من حقه في الحياة مستندة في ذلك إلى المادة الثالثة من الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، كما تعتبر هذه المنظمات عقوبة الإعدام عنفاً مقنناً تمارسه الدولة
المطبقة لهذه العقوبة ضد مواطنيها.
ولا تستثني هذه المنظمات أي تطبيق لعقوبة الإعدام حتى وإن كان المحكوم
عليه قاتل معترف بجرمه.
وإن كانت المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على أن
«لكل فرد حقاً في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه» فإن تأويل هذه المادة
ليصبح لصالح القتلة يعني إنكار نصها على القتيل الذي سلبه القاتل حقه في الحياة
والأمان على شخصه.
لم يرفض الإسلام العفو عمن ارتكب جريمة قتل، بل أوجد الدية والعفو من
قِبَل أسرة القتيل، إلا أنه كذلك حفظ حق الضحية بالقانون فأمر بالقصاص من القاتل.
إن إنكار مثل هذا الحق بالنسبة للضحية يكون موالاة للقتلة وإهداراً لدم الضحايا.
ويعتبر العالم الغربي ومنظماته الحدود الإسلامية من جَلْد، وقطع ليد السارق
نوعاً من التعذيب المهين والحط من كرامة الإنسان.
ويستند الغرب في ذلك إلى المادة الخامسة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان التي تنص على أنه «لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة
القاسية أو اللا إنسانية أو الحاطة للكرامة» .
وعلى الرغم من كل هذه الانتقادات للأحكام والحدود الإسلامية لا ترى
المنظمات الحقوقية الغربية نفسها منتقدة للشرع الإسلامي وإن كانت تردد في كل
محفل احترامها للأديان والعقائد، إلا أنها من جهة أخرى توجه أبلغ الإهانات
بصورة غير مباشرة.
كما أن النقطة الهامة هي مدى حياد هذه المنظمات دينياً وسياسياً كما تردد؛
حيث إن العمل المكثف الذي تقوم به هذه المنظمات والذي ينتقد باستمرار أوضاع
حقوق الإنسان في العالم الإسلامي؛ بينما تنتقد الدول الغربية بحياء، يشكك كل ذي
عقل بمصداقيتها. كما أن تقارير هذه المنظمات الدورية تكاد تخلو من الانتقادات
للدول الغربية على الرغم من تفشي العنصرية والمعاملة السيئة للأقليات الموجودة
في هذه الدول.
حقوق المرأة:
إن قضية حقوق المرأة تظل واحدة من أكثر القضايا أهمية في العالم أجمع.
وعلى الرغم من قلة عمل المنظمات الحقوقية الغربية في شأن حقوق المرأة،
إلا أننا نجد أن المرأة فيما يسمى بدول العالم الثالث والمرأة المسلمة دائماً توصف
على أنها مهضومة الحقوق وتعاني من تمييز منظم ومستمر من قِبَل مجتمعاتها،
وتصور على أنها ضحية التقاليد التي يمارسها ضدها مجتمعها الذي تعيش فيه.
وإضافة إلى ذلك ينظر للمرأة المسلمة على أنها تلك التي تعيش في عصور
سحيقة وتلزم بارتداء لباس معين (ويقصد بذلك الحجاب الشرعي) ، وغير مسموح
لها بالتحرك ومغادرة منزلها.
إن تصوير أوضاع المرأة المسلمة على هذا النحو لا يمكن أن يمر على إنسان
مسلم أو غير مسلم إذا عاش في إحدى الدول الإسلامية؛ حيث إن الاحترام الذي
تلاقيه المرأة، مسلمة كانت أو غير مسلمة، في العالم الإسلامي لا يتوفر لأي امرأة
أخرى في العالم أجمع.
ونجد أن الإسلام كفل للمرأة حقوقاً غير موجودة في أي عقيدة أو ديانة أو أي
قانون وضعي.
ومن الغباء أن يعتقد أي شخص أن احتشام المرأة انتهاك لحقها. إن المرأة
المسلمة مطلوب منها أكبر دور في المجتمع المسلم ألا وهو بناء أسرتها وتأسيسها
على التقوى ومخافة الله، وهي تتمتع بالعديد من الميزات التي لا تجدها نظيراتها
في العالم. ومن بين هذه الميزات ضمان الحماية لها من قِبَل أفراد أسرتها ومجتمعها،
وتجد المرأة في المجتمع المسلم في رفقة الرجل من محارمها عزة لا تجدها النساء
الأخريات غير المسلمات.
أما إذا كان القصد بحريات المرأة التي تدعو لها المنظمات الحقوقية والغرب
هو ما ابتليت به المرأة في المجتمع المادي من إباحية واستهتار بالقيم، فسنجد أن
المرأة المسلمة قبل رفض مجتمعها رافضة لهذه الحريات المزيفة.
إن الانحلال والانهيار الأخلاقي الذي تشهده المجتمعات المادية والغربية أصبح
واضحاً للعين المجردة، وقد نشأ في السنوات الأخيرة كثير من الأطفال الذين لا
يعرفون آباءهم بسبب اختلاط الأنساب وتفشي الفاحشة في أوساط المجتمعات
الغربية والمادية.
كما أن نسبة العنف المنزلي والجريمة ضد المرأة في تزايد مستمر،
وأصبحت حالات الانتحار في الغرب مصدر قلق للمجتمعات هناك، ونجد أن نسب
حالات الانتحار تزداد كلما ازدادت نسبة الإباحية والانحلال الأخلاقي.
أصبحت المرأة في المجتمع الغربي والمادي سلعة تباع وتشترى، وقد نشطت
مؤخراً العصابات المنظمة التي تقوم بجلب النساء من دول مختلفة في العالم، ولا
سيما دول أوروبا الشرقية، وإجبارهن على ممارسة الدعارة وغيرها من الفواحش،
ونادراً ما نسمع أي انتقاد يوجه من قِبَل المنظمات الحقوقية الغربية لمثل هذا النوع
من الاستعباد أو للدول التي يقع في أراضيها مثل هذا الانتهاك الصريح لحقوق
النساء والإنسانية.
المادتان (29) و (30) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
على الرغم من وجود عدد من المواد المتضاربة مع القيم والمبادئ الإسلامية
في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تعرضنا لها في موقع سابق في هذا
الموضوع، إلا أنه من الهام جداً التعرض للمادتين (29) و (30) من الإعلان.
تقول الفقرة الأولى من المادة (29) من الإعلان: «على كل فرد واجبات
إزاء الجماعة التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل» .
كما أن الفقرة الثانية من نفس المادة تقول: «لا يخضع أي فرد في ممارسة
حقوقه وحرياته إلا للقيود التي يقررها القانون مستهدفاً منها، حصراً، ضمان
الاعتراف الواجب بحقوق وحريات الآخرين واحترامها، والوفاء بالعادل من
مقتضيات الفضيلة والنظام العام، ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطي» .
ونص هذه المادة يعني أن كل شخص يتوجب عليه احترام حقوق الآخرين
وحرياتهم، والالتزام بالفضيلة والنظام العام. إلا أن الدول التي تحارب أي نوع من
الممارسات غير الأخلاقية والمنافية للفضيلة والقيم بالنسبة لمجتمعاتها تصبح مدانة
بانتهاك حقوق الإنسان بالمنظور الغربي.
إن هذه المادة تمنح الحق للدول في سن القوانين على حسب حاجة مجتمعاتها،
ولا بد للآخرين من احترام خيار كل مجتمع أو دولة حتى إذا اختلفت نظرة تلك
المجتمعات والدول للقيم عن المجتمعات والدول الأخرى في العالم.
وبناء على ذلك فإن على العالم أن يحترم خيار المجتمعات والدول الإسلامية
في حفاظها على الفضيلة وطهارة المجتمع باختيارها المنهج والشرع الإسلامي قانوناً
لها يحكم حياتها.
من ناحية أخرى تنص المادة (30) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على
أنه «ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على
تخويل أية دولة أو جماعة، أو أي فرد، أي حق في القيام بأي نشاط أو بأي فعل
يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه» .
إذن مطلوب من المنظمات الحقوقية عدم تأويل نصوص الإعلان لاستخدامها
ضد الدول والمجتعمات الإسلامية التي تعتبرها هذه المنظمات مخالفة للقوانين
الدولية ومنتهكة لحقوق الإنسان لا لشيء إلا لأنها انتهجت نهجاً إسلامياً.
خاتمة:
على المسلمين أن يعوا خطورة الادعاءات التي تثار حول مسألة حقوق
الإنسان، وإن كان الجميع يتفقون على أن الإنسان لا بد أن تصان كرامته وحقوقه
في الحياة والعيش الكريم؛ فإنه يتوجب علينا التمييز بين حقوق الإنسان والدعوة
إلى الانحلال والتفسخ الأخلاقي في المجتمع.
إن القوانين تسن في كل دولة حسب حاجة المجتمعات الموجودة بها لما يضمن
استقرارهم وأمنهم، ويعلم المسلمون جيداً أنه لا يوجد أي قانون وضعي في العالم
أجمع يسلم من الثغرات والأخطاء، وأكبر دليل على ذلك هو التعديلات المستمرة
التي تطرأ على القوانين الوضعية.
ويجد المسلمون في الاحتكام إلى كتاب الله - عز وجل - السبيل الوحيد
لضمان قوانين عادلة وشاملة لمجتمعاتهم تضمن حق المسلم وغير المسلم.
كما يجب على المسلمين تفحُّص الخطاب المغلف الذي توجهه الجماعات
الحقوقية في الغرب، والتي من ناحية تصر على ضرورة احترام الأديان والمذاهب
وكفالة حرية الممارسة لها، وإن كانت تنفي عن نفسها أي انتماء ديني، ومن ناحية
أخرى تنتقد أحكاماً وحدوداً في صميم العقيدة الإسلامية.
فالعالم الإسلامي يرى أن حقوق الإنسان تصان عندما يحترم الإنسان وأسرته
ومجتمعه ودينه وعقيدته بالإضافة إلى توفير كل السبل للحياة الكريمة والآمنة له،
وليس بفرض القوانين الناشئة المدمرة للأخلاق والفضائل والمجتمع.
ولا بد من الانتباه إلى أن قضية حقوق الإنسان أصبحت ضرورية في الغرب
تستخدم لإخضاع الدول سياسياً إلى جانب الغرب، ويلي إدانة الدول بانتهاكات
حقوق الإنسان فرض حصارات اقتصادية وعسكرية وسياسية وعلمية، وتستمد
الشرعية لذلك بقرارات تصدر عن المؤسسات والهيئات الدولية.
ويبقى من المهم أيضاً أن يجمع المسلمون كلمتهم للعمل بشكل علمي مدروس
من أجل تعبئة الرأي العام الإسلامي والرأي العام الدولي الذي يحتكم إلى العقل
للضغط من أجل ضمان أن القوانين الدولية الموجودة حالياً وتلك التي تسن من جيل
إلى آخر، لا تتضارب مع الأحكام والشريعة الإسلامية، كما أنه لا بد من ضمان
حق الدول الإسلامية في التحفظ على كل ما هو منافٍ للشرع الإسلامي إذا ما
أجيزت هذه القوانين بغالبية الدول الأعضاء في المنظمات الدولية، وأن يكون هذا
التحفظ ضماناً بعدم إلزام الدول الإسلامية بتطبيق المواد والقوانين المخالفة للشرع
الإسلامي.
كما أنه لا بد أن يعمل المسلمون من أجل ضمان أن لا تكون قضية حقوق
الإنسان سبباً في التدخل في شؤون بلادهم، وما يتبع ذلك من فرض لشتى أنواع
الحصارات والعقوبات.
ويجب أن يعمل المسلمون على تكوين منظمات إسلامية لحقوق الإنسان تعمل
بأسلوب علمي تقوم برصد ما يقع من انتهاكات لحقوق الإنسان في العالم من منظور
إسلامي بالإضافة إلى مساندة الأقليات المسلمة التي تعاني من انتهاكات لحقوقها في
أي بقعة من بقاع الأرض، وبذل الجهود لكي تحتل هذه المنظمات الإسلامية مكانة
في مواقع صناعة القرار الدولي كما هو الحال الآن بالنسبة للمنظمات الغربية.
__________
(*) صحفي سوداني مقيم في بريطانيا.(165/57)
ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
حقوق الإنسان والخدعة الجديدة
أ. د. محمد يحيى [*]
أصبحت قضية حقوق الإنسان في طرحها في البلاد العربية والإسلامية
تجتذب الاهتمام لا من حيث مضامين الأفكار الواردة فيها؛ وإنما من حيث الأهداف
والتحركات السياسية المتنوعة المرتبطة بها وبمن يطرحونها. فالجماعات
والجمعيات والفئات الكثيرة التي نشأت على مدى العقد الماضي مروِّجة لما يسمى
بمسألة حقوق الإنسان أضحت نفسها مسألة منفصلة من ناحية توجهات أفرادها،
ومصادر تمويلها، وأساليب عملها، وأهدافها السياسية القريبة والبعيدة والظاهرة
والباطنة، وعلاقاتها وخلافاتها مع الأنظمة ومع التيارات الفكرية والاجتماعية
والسياسية الأخرى ولا سيما الحركات الإسلامية.
ومن المعهود الآن أن نجد التفاصيل الضافية والكاشفة لمصادر تمويل هذه
الجماعات من الهيئات والسفارات والمؤسسات الأجنبية ومنها الكنسية،
والاستخباراتية والمصالح المالية والاقتصادية الكبرى ودوائر السياسات الخارجية
في أوروبا وأمريكا. وأصبح من المعروف أن القائمين على هذه الفئات ليسوا ممن
هم فوق مستوى الشبهات، وأن جُلَّهم يتألف من العلمانيين الكارهين للإسلام، أو
بقايا اليسار الذين يبحثون لأنفسهم عن دور جديد، وتبين أن الهدف الأسمى الذي
تعمل معظم تلك الروابط والجمعيات لأجله يتعلق بأي شيء آخر إلا حقوق الإنسان
بمعنى حقوق وحريات وكرامة الأفراد العاديين الذين يشكلون سواد المجتمع.
فالمقصود بحقوق الإنسان عند تلك المجموعات هو حقوق إنسان بعينه أو
مجموعات محددة دون غيرها، كما أن المقصود حقوق وفق مبادئ معينة (علمانية)
دون مبادئ أخرى، وهكذا فحقوق الإنسان عند هذه الجمعيات تعني حقوق
اليساريين والشيوعيين والعلمانيين فقط أو حقوق الأقليات غير المسلمة في بلاد
المسلمين التي يزعمون على عكس الواقع أنها انتهكت، أو حقوق مجموعات قليلة
تشذ عن سواء السبيل تحت مزاعم التحرر الاجتماعي والتقدم الفكري أو حقوق من
يستغلون الفكر أو الفن لترويج الكفر والإباحية أو حقوق النساء (في زعمهم) دون
حقوق الرجال أو حقوق مجموعات إقليمية أو جغرافية أو مهنية أو لغوية في مواجهة
الأغلبيات.
ولا يقف الأمر عند حد طرح مفاهيم محدودة وفئوية ومنحازة حول حقوق
الإنسان تخلو من عموم الانطباقية التي يتصورها من يسمع عبارة حقوق الإنسان؛
بل إن الخطورة تكمن في المراد والمقصود من هذا المفهوم.
إن عبارة «حقوق الإنسان» لمن يسمعها تعني حقوقاً بديهية واضحة مبدئية
تشمل كل البشر ويتفق عليها الجميع، وهذا المعنى هو مصدر الجاذبية في ذلك
الشعار لدى أفراد المجتمع ولا سيما المثقفين. ولكن الاقتراب التحليلي منها حسب
ما يروج في أوساط الفكر والثقافة يبين أن المعنى المحتوى في تضامين وأفرع
«حقوق الإنسان» ليس من العمومية والإطلاق المتصور، بل هو معنى مؤسس على
مبدأ وعقيدة معينة هي الفكر العلماني الغربي الحديث منذ نشأته في القرن الثامن
عشر الميلادي وحتى الآن.
إن مفاهيم «حقوق الإنسان» التي تروج الآن على تنوعها وتفاصيلها ليست
سوى التجسيد الأمني للفكر العلماني الغربي في فرديته وماديته وكراهيته للدين
والألوهية والشرائع السماوية، ونزوعه نحو أفكار آلية رتيبة عن المساواة والحق
والكرامة والسعادة.
والخدعة الكبرى التي نواجهها في هذا المجال هي أن ذلك الفكر المتسربل
بدعاوى العمومية والشمولية والإطلاق يخفي وراءه حقيقة أنه ليس سوى التعبير عن
عقيدة بعينها نسبية وجزئية وتاريخية تصطدم مع العقائد الأخرى وبالذات الإسلامية،
وهذا الفكر يروج بيننا على أنه صالح لكل زمان ومكان، وبصرف النظر عن
اختلاف الأديان والمفاهيم، بل إننا نجد توجهاً عند بعضهم لإيجاد مزاوجة بين هذا
الفكر وبين تعاليم وشريعة الإسلام.
فالشائع الآن ولا سيما عند من يرفع شعار «الاستنارة» و «التقدمية»
في الدين القول بأنه لا تعارض بين فكرة «حقوق الإنسان» وبين الإسلام، بل
إن الإسلام - حسب هذا الزعم - هو الذي وضع أسس هذه الفكرة، وأن الدعوة
إليها هي من صميم مقاصد الإسلام، وأن ترويجها والدفاع عنها هو في حقيقته
ترويج للدين ودفاع عنه.
والخدعة الجديدة هذه تعتمد على تعتيم متعمد على الطابع الجزئي النسبي
التاريخي المرتبط بالعلمانية الغربية في مفاهيم حقوق الإنسان التي تروج في البلاد
الإسلامية، ثم على زعم خاطئ بأن هذه المفاهيم عالمية شمولية «إنسانية» مما
يعني عمومية انطباقيتها. ومع تصديق هذا الزعم من جانب البعض في المجال
الإسلامي تبدأ عملية ترقيع واسعة النطاق هدفها إثبات أن كل ما تنطوي عليه تلك
المفاهيم يقبله ويباركه الإسلام إن لم يكن قد جاء به وأسسه.
ومن الأمثلة البارزة على هذه الحيلة الفكرية ما يحدث في القضية المسماة بـ
(حقوق المرأة) والتي أصبحت الآن مفروضة وبقوة السلاح على كل المجتمعات
الإسلامية بدون استثناء، والتي يراد لها أن تطبق المفاهيم نفسها السائدة الآن في
الغرب بالنسبة لأوضاع المرأة، «وهي ليست المفاهيم الوحيدة هناك، بل هي فقط
سائدة لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا» بحجة أن هذه المفاهيم عالمية الانطباقية
فوق أنها «عصرية» و «حديثة» تَجُبُّ ما ساد قبلها من أفكار رجعية لبست ثوب
الإسلام! والذي يحدث الآن هو أن البعض على الجانب الإسلامي يتقبل هذا الزعم،
ويروح يجهد النفس ويلوي عنق الشريعة لكي يخرج «باجتهادات» عصرية تثبت
أن الإسلام وشريعته يباركان ويدعوان لنفس وضع المرأة الذي تدعو له الآن مفاهيم
حقوق الإنسان. وتحت هذا المسمى الاجتهادي الجديد أخذ المجتهدون يؤكدون أن
«صحيح الدين» الإسلامي لا يعترف بتعدد الزوجات، ويرفض أن يعطى الرجل
حق تطليق الزوجة، ويرفض قوامة الرجل على الزوجة والأسرة، ويسمح بل
ويدعو إلى اشتغال المرأة بالأعمال كلها ولا سيما الشاقة، ويبارك اختلاط الرجال
والنساء في الحياة العامة. . . إلخ مع سائر ما تبشر به مفاهيم «حقوق الإنسان» .
وبصرف النظر عن ضعف وتهافت هذه «الاجتهادات» فإن نقطة الخطورة
فيها هي أنها تنطلق من تقبل أهوج لمزاعم العالمية والشمولية لمفاهيم دعوى
«حقوق الإنسان» ، وتتأسس من ثم على نفس أسس تلك الدعوى وهي العلمانية
الغربية بدلاً من أن تنطلق من أسس الإسلام نفسه وأصول شريعته، ومن هنا نجد
في جوهر الخدعة الجديدة أن الإسلام يعاد تفسيره أو بالأصح يساء تفسيره، لكي
يتمشى مع مفاهيم حقوق الإنسان ذات الأسس العلمانية بل لكي يتمشى مع تلك
الأسس نفسها ويلغي وجوده.
وإنهاء الخدعة الجديدة لا يكون بالقول بعدم وجود حقوق للإنسان في الإسلام،
بل بالقول بوجود حقوق للإنسان عامة، وليس لجنس أو عنصر أو فئة دون أخرى،
وبوجود حقوق الإنسان تتأسس على مفاهيم وتعاليم وعقيدة الإسلام، وليس على
شتى مذاهب العلمانية، وبوجود حقوق وواجبات إسلامية وليس علمانية، وإذا قبلنا
هذا الرأي وأسقطنا خدعة التخفي وراء مزاعم العالمية لفكر علماني غربي تاريخي
النشأة نسبي الوضع فلن نخجل أو نخشى من أن نرفض مفاهيمَ لحقوق الإنسان
تروج الآن بيننا، ونضطر تحت ابتزاز أو إرهاب أصحاب طرح حقوق الإنسان
أن نقبلها ونلوي عنق الإسلام ونزيف شريعته لكي نخرج بتقبلها خوفاً من تهمة
الرجعية أو الاستبداد.
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(165/62)
ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
الحركات الإسلامية وحقوق الإنسان
أحمد فهمي
نستطيع القول إن أهم إشكاليات العمل الإسلامي في السنوات الأخيرة هو ما
يمكن تسميته بظاهرة: هلامية الثوابت، وقابليتها للتشكل وفق متغيرات الواقع
ومستجدات الأحداث.
ويأتي الالتزام بالتأصيل الشرعي الدقيق لعمل الحركة الإسلامية وخطابها
الدعوي والسياسي على رأس قائمة الثوابت التي تعرضت للهلامية.
وإلى حد كبير يمكن إرجاع التباين في مواقف الحركات الإسلامية من قضية
مثل: حقوق الإنسان إلى منهجهم في التأصيل الشرعي للعمل الإسلامي، ومدى
التقيد به.
والأزمة تتضح باكتشاف أن التأصيل الشرعي بات شكلياً في أحيان كثيرة،
ولم يعد الفاعل الأساس في بلورة موقف ثلة من التيارات الإسلامية من مفردات
الواقع.
هذا الضعف في دور التأصيل الشرعي - أو بعبارة أخرى الاحتكام لعموميات
الشرع واعتبار المقاصد مع إهمال النظر في الأدلة الثابتة - يؤول في معظمه إلى
حالة الاهتزاز الفكري والنفسي التي طالت العديد من رموز الفكر والعمل الإسلامي،
جرّاء تزايد الهوة الفاصلة بين ثوابت الإسلام ومقتضيات الشرع كما تعرضها
بوضوح نصوص الكتاب والسنة، وبين متغيرات الواقع العلماني، وإفرازاته
المتلاحقة على المستويين المحلي والعالمي. لقد أصيب الكثيرون بالارتهان الفكري
للغرب، والذي يعبر عنه علماني عربي بقوله: «منذ زمن طويل ظل الغرب هو
الحاكي وعالمنا يصدر الصدى، الغرب يفعل الأشياء وعالمنا ينفعل بها، الغرب
يضع الآلة والأفكار وأنماط السلوك ويصدرها جميعاً، وعالمنا يستوردها للاستهلاك.
إذن فالغرب يرتب الدنيا برؤاه، وعالمنا يترتب وفق مقتضيات تلك الرؤى،
وبعبارة واحدة: الغرب يطلق التحدي وراء التحدي، وعالمنا يلهث ليستجيب» [1] .
وإن كانت تلك الشكوى علمانية، فلنا أن نعجب حينما نجد في الطرف المقابل
أصحاب الدين الخاتم - المؤهل وحده لمقارعة زيف الحضارة الغربية، وإثبات
إخفاقها، وكشف أوهامها - ينزلق طائفة غير محدودة منهم ليصابوا بهذا الارتهان
المخزي لمنتجات الغرب الفكرية والسياسية والاجتماعية، والذي إن تمثلت بوادره
في تناول قضايا مثل تحرير المرأة والديمقراطية، فلن تكون نهايته قضية الإرث
الحضاري وتماثيل بوذا في أفغانستان.
وتأتي قضية حقوق الإنسان في مقدمة القضايا التي حاكها الغرب، وكان على
عالمنا أن يستجيب ويرجع الصدى، وعادة ما يتبدَّى نمط الاستجابات في انقسام
الرأي العام الإسلامي إلى ثلاث شرائح: التأييد المطلق، الرفض المطلق، شريحة
التوفيقيين الذين يريدون أن يفسحوا لبعض المفاهيم الغربية مكاناً في النسيج الثقافي
الإسلامي بدعوى عدم تعارضها مع الإسلام.
الحركات الإسلامية وحقوق الإنسان:
على مستوى التيارات الإسلامية نستطيع استبعاد شريحة التأييد المطلق، فلا
يمكن تصور حركة تقبل نتاج الغرب بعُجَره وبُجَره ثم تدَّعي كونها إسلامية بل
وتنتمي إلى فصائل الصحوة.
وبذلك يتوزع الإسلاميون بالنسبة لموقفهم من حقوق الإنسان إلى اتجاهين عامين:
اتجاه الرفض، واتجاه التوفيق.
اتجاه الرفض:
وباعتبار الاتجاهات العامة لمناهج التغييز المطروحة: الاتجاه العلمي السلفي،
واتجاه العمل السياسي، واتجاه العمل الجهادي، نقول: إن اتجاه الرفض يتمثل
غالباً في الاتجاه العلمي السلفي، وهذا أمر بديهي ناتج من اعتماد منهج شرعي
واضح في الحكم على المستجدات، كما أن هذا الاتجاه بطبيعته بعيد إلى حد ما عن
ضغوط المواجهة السياسية أو العسكرية مع أي من الأنظمة القائمة، وهو ما يحفظ
له رؤيته الشرعية ثابتة، مع مراعاة تفاوت الرؤى والاجتهادات.
أما اتجاه العمل الجهادي، وإن كان يصنف من مجمله ضمن اتجاه الرفض،
إلا أن ظروف المواجهة الناتجة عن طبيعته ومنهجه في التغيير، تُحوج رموزه
وأتباعه إلى الاحتجاج بحقوق الإنسان لدفع أو تخفيف آثار التعذيب والاعتقال
ونحوها، خاصة أولئك المقيمين أو اللاجئين في الدول الغربية، بيد أن الاتكاء على
بعض حقوق الإنسان في هذا المجال قد يترتب عليه مع الاستمرار والتراكم أن
تتحول إلى ثابت يصعب تجاوزه أو الخروج عليه خاصة في الخطاب العام،
وفي الواقع يُعتبر هذا الباب (استخدام حقوق الإنسان في مواجهة قضايا
التعذيب والاعتقال) مدخلاً هاماً لترويج وتسريب مفاهيم حقوق الإنسان وإكسابها
القبول لدى الإسلاميين، وهو ما يدعو إلى الانتباه لدفع خطر هذا التسرب، وسيأتي
الكلام عليه بتفصيل أكثر إن شاء الله.
ويمكن أن يدرج في قائمة الرافضين بعض الاتجاهات والرموز التي ترفض
في العموم مفاهيم حقوق الإنسان، وإن كانت تستخدم في أدبياتها وكتاباتها هذا
المصطلح في سياق الدلالة على سبق الإسلام في طرحه وبسطه بما لا يدع مجالاً
لتفوق الغرب فيه، ومن أمثلة هؤلاء: الشيخ أبو الأعلى المودودي، وكتابه:
حقوق الإنسان في الإسلام.
ونحن نرفض هذا الأسلوب في تناول القضية؛ لأننا لا نحتاج أن نعيد ترتيب
أحكامنا الشرعية ومبادئنا الإسلامية وفق سياقات غربية، حتى إن اقتصرت على
استخدام المصطلح، أو الشكل دون المضمون، فلا فائدة ترجى من ذلك - والله
أعلم - لأن المسلم يكفيه دينه، أما الغربي فما نبرزه نحن على أنه حق، قد ينظر
إليه هو على أنه سلب لحق، كما في الحقوق المتعلقة بحرية الدين، والمساواة بين
الرجل والمرأة، وغيرها، ولا شك أن هذا الاتجاه - الرفض - في عمومه يمثل
الموقف الصحيح الواجب اتخاذه في هذه القضية.
ويتضح ذلك بمعرفة أنه يصدر عن عدة مبادئ:
أولاً: التناول الشرعي الدقيق لبنود وفقرات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
الذي هو شرعة المنادين بها والداعين لها.
ثانياً: استغناء الإسلام بربانيته وكماله وتمامه عن نتاجات البشر وأطروحاتهم
الخائبة، وما أطرف ما قاله باحث إسلامي - تهكماً - في مناظرة حول حقوق
الإنسان من أنه لا يجد في بنود الإعلان العالمي ما يتوافق مع الإسلام إلا ما يتعلق
بالحق في تحديد ساعات العمل والأجور [2] .
ثالثاً: الاعتقاد الجازم بأن هذه الشرعة المزخرفة إنما تمثل قمة هرم تنطوي
قاعدته المخفية على تآمر وخداع وأوهام.
شريعة التوفيقيين:
أو كما يحلو لهم التسمي والاتصاف بـ (الوسطية والاعتدال) . وينبني
المنهج التوفيقي لهذه الشريحة على عدة نقاط:
أولاً: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فيه من الخير ما فيه، وفيه كذلك من
الشر، فهو ليس خيراً محضاً أو شراً محضاً.
ثانياً: ما يتوافق من هذه المبادئ مع الإسلام ولو بصورة عامة فلا بأس به،
وحتى إن كان هذا التوافق لن يتحقق إلا بإضفاء فهم خاص لهذه المبادئ - لا
يرضاه واضعوها أصلاً - فلا بأس كذلك.
ثالثاً: استخدام هذه المبادئ وهذا الإعلان للضغط على الحكومات والأنظمة
نحو مزيد من الحرية خاصة في ممارسة العمل السياسي.
رابعاً: الحذر من الاتهام بالتطرف أو التشدد أو الإرهاب من أطراف داخلية
أو خارجية - بنسب متفاوتة - وسهولة التأثر بالضغط المتضمن لمثل هذه الاتهامات.
وهذه الشريحة بذاتها تنقسم إلى اتجاهات شتى تقترب في أحد طرفيها من
الرفض لمبادئ حقوق الإنسان بينما تدنو في الطرف الآخر من القبول التام بها،
ويغلب على هؤلاء الانتماء إلى: جماعات العمل السياسي، أو رموز الاتجاه
التنويري الذين لا يتبعون لجماعة معينة.
فبالنسبة لجماعات العمل السياسي يتفاوت منهجها التوفيقي فيما يتعلق بحقوق
الإنسان، وتمثل جماعة الإخوان المسلمين تيار الوسط في هذا التوجه، وإن كانت
التعقيدات الداخلية والخارجية التي تمر بها الجماعة خاصة في مصر فيما يتعلق
بكينونتها وتماسكها ونشاطها الدعوي والسياسي، تجعل هناك تعددية في الخطاب
يصعب معها تحديد موقف دقيق للجماعة، وإن كانت هذه التعددية تندرج بكاملها
داخل الاتجاه التوفيقي، سواء في هذه القضية أو في غيرها من القضايا المشابهة.
أما حزب جبهة العمل الإسلامي الأردني (الممثل للإخوان المسلمين)
المسلمين فقريب منه، حيث يقول أمينه العام د. إسحق الفرحان في بيان عن
الحزب الوليد وقتها إنه «سيلتزم في أدائه الاستراتيجي والتكتيكي بالثوابت الشرعية
الإسلامية، وبالدستور والقانون والميثاق الوطني، وبالوسائل الديمقراطية السلمية،
والحوار العقلاني» [3] .
ويأتي في قاعدة هذا الاتجاه: الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، خاصة
فيما يصدر عن رموزها السلفية مثل الشيخ علي بلحاج.
وعلى قمة الاتجاه التوفيقي يتربع الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة
التونسي، ومعه الشيخ حسن الترابي والاتجاه الذي يتزعمه (الجبهة القومية سابقاً،
المؤتمر الشعبي حالياً) .
ونركز قليلاً على موقف الغنوشي وحزب النهضة لخطورته وقابليته للتطور،
والتي يتحدث عنها قائلاً: «وكان من مظاهر ذلك التطور، تحول النظرة إلى
النظام من مجرد نظرة عقائدية تركز على تكفيره، إلى نظرة اجتماعية عقائدية
شاملة تدين ديكتاتوريته وعمالته واستغرابه» [4] ، وهذا الكلام يتعلق بفترة حكم
الحبيب بورقيبة الذي كفَّره علماء المسلمين.
ويذكر أيضاً من معالم التطور: «قبول الحركة منذ 1978م الجلوس
جنباً إلى جنب مع أحزاب شيوعية وعلمانية والحوار معها من أجل دعم
الحريات» [5] ، ويفتخر بتفرد حركته باتخاذها موقفاً «مدافعاً عن حق كل
الأطراف السياسية على اختلاف أيديولوجياتها في التعبير والتنظيم، حتى ولو كانوا
يمثلون النقيض العقائدي مثل الشيوعيين، بل تعلن الحركة استعدادها لاعتبار
حكمهم شرعياً إن اختارتهم أغلبية الشعب في استفتاء ديمقراطي» [6] ، وفي
الطريق يعترف بمكانة المرأة وأنها «أصبحت ممثلة حتى في المؤسسات العليا
للحركة» [7] .
أما ما يتعلق برموز الاتجاه التنويري، فرغم أننا لا ننكر جهود بعضهم في
خدمة الإسلام، ولا نطعن في نواياهم إلا أن الواقع يشهد بكونهم عاملاً أساسياً في
تشويه كثير من ثوابت الإسلام وتمييعها.
ونأخذ مثالاً واحداً منهم هو الأستاذ فهمي هويدي الذي يتضح من كتاباته مدى
تغلغل مفاهيم حقوق الإنسان في فكره فيما يتعلق بمجالات معينة؛ ففي سياق تعليقه
على اغتيال فرج فودة يرفض أقوال الرجل، ثم يقول: «لكن تلك الإدانة ينبغي ألا
تسقط من جانب أمرين: أنه إنسان له حقه في الحصانة، والكرامة، ثم إنه يمارس
حقاً مشروعاً في الاختلاف ينبغي أن نقر له به» [*] [8] ، وفيما يتعلق بحرية
العلمانيين في تكوين حزب يدعو إلى الفصل بين الدين والسياسة يقول: «فعلى
الرغم من أننا نعارض هذا الرأي تماماً، إلا أننا نعتبره حقاً مشروعاً من الاختلاف
يتعين إفساح المجال له في ساحة التعبير والعمل السياسي، ونذهب في ذلك إلى أنه
ليس موقفاً ضد الدين في الأغلب» [9] ، وعن حقوق الأقليات يقول: «فالمسيحي
الملتزم القابض على دينه نموذج مطلوب تماماً كالمسلم الملتزم، وشيوع ذلك
الالتزام الديني هو فرصتنا المنشودة لإشاعة المحبة والتراحم والدفاع عن مختلف
المثل العليا والقيم النبيلة التي بشرت بها الديانات السماوية» [10] .
مآخذ على التوفيقيين:
الذين يتبنون المنهج التوفيقي في التعامل مع مبادئ حقوق الإنسان يخطئون
من أوجه:
أولاً: تعاملهم السطحي مع تلك المبادئ دون النظر إلى الفلسفة والتصورات
التي انبعثت منها، وهذا الاجتثاث للمبادئ عن الفكر الذي أنبتها يجعلنا نتعامل مع
ألفاظ ومصطلحات مجردة مجهولة المقصد.
ثانياً: التصور الإسلامي الصحيح لا نحتاج معه إلى إعادة هيكلة أو قولبة أو
صياغة مفاهيم ومبادئ إسلامية بصورة تتناسب مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
أو تحاكيه.
ثالثاً: هذا التكلف الساذج لمحاكاة أو موافقة حقوق الإنسان لا يعود بأي فائدة
تذكر على الإسلام أو المسلمين في عالم الفكر أو الواقع، فمروِّجو الإعلان العالمي
ومؤيدوه لا يحتفون كثيراً بإثبات توافق أي دين أو تطابقه مع مبادئهم، اللهم إن كان
ذلك خطوة على طريق استبدال شرائع الدين بقوانين حقوق الإنسان، وعلى ذلك
تمثل جهود هؤلاء التوفيقيين خطوة للوراء في عالم الأفكار، بينما تدفع أنصار
حقوق الإنسان خطوة للإمام في عالم الواقع.
رابعاً: في حين يبدي التوفيقيون استعداداً - متفاوتاً - للعبث في مقررات
وثوابت إسلامية للتقريب بين الإسلام وحقوق الإنسان، لا يبدي دعاة الحقوق تجاوباً
مماثلاً للعبث بمبادئهم وثوابتهم.
خامساً: هذا الموقف المائع رغم إفادته لدعاة حقوق الإنسان، إلا أنه لا يزيد
غالباً من خطوة متخذيه ومكانتهم عندهم، ويتبين ذلك بجلاء من استعراض كتابات
بعضهم خاصة الصريحين منهم في مجال موقف الإسلاميين من حقوق الإنسان،
وبين أيدينا نموذج عبارة عن بحث لعلماني سوداني هو (الباقر العفيف) من
ناشطي حقوق الإنسان، يصنف ويحلل فيه موقف الإسلاميين من حقوق الإنسان،
فينتهي إلى تحديد مناهج يتبعها الإسلاميون بمختلف توجهاتهم في التعبير عن موقفهم
من هذه القضية، من أهمها:
المنهج الإخفائي ويذكر فيه محمد عمارة والترابي، والمنهج الاعتذاري،
والمنهج المراوغ، والمنهج الملتوي ويذكر فيه فهمي هويدي، والمنهج الانتقائي،
والمنهج الصريح [11] .
تسرب مفاهيم حقوق الإنسان:
بعيداً عن المواقف المعلنة والرسمية المكتوبة والمسموعة، فإن التداخل
والتشابك فيما يتعلق بمشروعية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - في ظل الارتهان
الفكري للغرب - قد أحدث لغطاً وفوضى فكرية عارمة نتج عنها تسرب كثير من
هذه المفاهيم بمعناها ومضمونها بعيداً عن أَسْر الألفاظ والمصطلحات، وهو ما يمكن
أن نلحظه بقوة في خطاب كثير من الدعاة، بل والعلماء؛ حيث ظهرت تعبيرات
وتوصيفات لم نسمع بها من قبل على ألسنة العلماء، وإن لم تنسب مباشرة إلى
مبادئ حقوق الإنسان، إلا أنها لا شك ناتجة ومتسربة عنها، فتسمع على ألسنتهم
مصطلحات مثل: الحرية الشخصية، المواطنة، الإرث الحضاري العالمي،
التراث الإنساني. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي في لقاء
جماهيري متلفز من أن مصطلح: (أهل الذمة) أصبح يثير كثيراً من اللغط
والضيق، فلا بأس باستبداله بمصطلح: (المواطنة) ، واستشهد بأن عمر -
رضي الله عنه - قد أسقط من قبلُ مصطلح الجزية! هكذا [12] .
قسمة القرد:
تقدم شرعة حقوق الإنسان منهجاً كاملاً لتوزيع تلك الحقوق وصيانتها بما
يحسبونه عدلاً ومساواة، وهم لا يرضون في سبيل ذلك بتطبيق جزئي أو نسبي،
بل يعتبرون أن الاعتراف ببعض الحقوق والإعراض عن أخرى «ينطوي على
فوضى عقلية، قبل أن ينطوي على فوضى أخلاقية وعملية» [13] .
وهم يدخلون في «صراع فكري صارم مع كل الأفكار الشمولية الدينية منها
واللادينية، وتلك التي لا تخدم أصلاً حقوق الإنسان وحرياته أو تنتقص منها» [14] ،
فهل من الممكن أن يصل هؤلاء الحقوقيون إلى ما يريدون؟ حقيقة لا نجد في
تمثيل واقعنا وموقف الغرب منا ومن حقوقنا في ظل إعلانه العالمي أفضل من تلك
القصة الرمزية التي تحكي عن قرد (الغرب) اختصم إليه فأران في قسمة قطعة
من الجبن، فادَّعى مطلق العدل والمساواة في قسمتها، وكان ذلك بأنه ظل يأخذ من
قسميها سعياً لتساويهما في الوزن، حتى انتهى الأمر بانتهاء الجبن، وضياع
الحقوق!
__________
(1) حقوق الإنسان في فكر الإسلاميين، الباقر العفيف، ص 10، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
(2) برنامج تلفزيوني (الاتجاه المعاكس) ، وهو محمد الغزازي، كاتب إسلامي، مغربي.
(3) إحقاق الحق، فهمي هويدي، ص 127.
(4) حركة الاتجاه الإسلامي في تونس، بحوث في معالم الحركة، راشد الغنوسي، دار القلم الكويت، ص 39.
(5) المصدر السابق، ص 38.
(6) المصدر السابق، ص 117.
(7) المصدر السابق، ص 117.
(*) ويمكن طرح السؤال: وهل من حقه سب الصحابة، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة؟ ! والجميع يعلم أن فرج فودة فعل هذا وأشد منه.
(8) إحقاق الحق، ص 24.
(9) المصدر السابق، ص 28.
(10) المصدر السابق، ص 37.
(11) حقوق الإنسان، الباقر العفيف، ص 15 29.
(12) قناة اقرأ الفضائية.
(13) مقدمة لفهم منظومة حقوق الإنسان، ص 27.
(14) حقوق الإنسان، ص 101.(165/65)
ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
التفسير الغربي لحقوق الإنسان
شرور المواءمة ومقتضيات المفاصلة
محمود سلطان
يثير طرح موضوع «حقوق الإنسان» بصيغته المعترف بها دولياً الآن على
العالم الإسلامي حزمة من التحديات والإشكاليات التي تمسه مساً مباشراً في ثقافته
وسمعته وسيادته، ولعل أبرز هذه الإشكاليات حضوراً، والتي من المفترض أن
يدرجها العقل المسلم على رأس قائمة أولوياته هي إشكالية «المرجعية» : بمعنى أن
السؤال عن المعايير والضوابط والأحكام التي تقرر ماهية «الحق الإنساني» من
عدمه، يظل هو السؤال الذي من الواجب شرعاً أن تكون إجابته واضحة ومحددة
سلفاً، قبل الانسياق وراء أية دعاوى عن حقوق الإنسان، تكون صادرة عن
«اجتهاد بشري» ، علماني أو لا ديني، فالمرجعية في مثل هذا الموضوع، أو
في غيرها بالنسبة للمسلم ليست ترفاً فكرياً أو سفسطة فلسفية، وإنما هي قضية
تمس عقيدة التوحيد في جوهرها.
وفيما يتعلق بالتفسير السائد الآن لـ «حقوق الإنسان» ، والمفروض علينا منذ
نصف قرن تقريباً، فإن الموقف منه لا يحتمل التردد، وإنما يحتاج إلى ما يشبه
«المفاصلة» معه، دونما اكتراث بعبارات التوبيخ التي عادة ما يطلقها العلمانيون
لإرهاب خصومهم فكرياً وثقافياً: [وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] (الأحزاب: 48) ؛ إذ إن المرجعية المعتمدة الآن
عالمياً، في تأطير نمط «الحق الإنساني» المشروع، وتقرير ما هو دون ذلك،
هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة منذ خمسين عاماً
تقريباً. هذا «الإعلان المرجعية» ، هو في واقع الحال: وثيقة غربية متحيزة،
استجابت فقط لرغبات وشهوات الإنسان الغربي، وتبنت تفسير الأخير لـ «حقوق
الإنسان» الذي ينظر إلى الإنسان باعتباره مخلوقاً نفعياً، مبلغ همه في الدنيا تحقيق
أقصى درجات «اللذة والاستمتاع» ! ! وهو منحى ينزل الإنسان منزلة تجعله أكثر
قرباً من «الحيوانية» التي أدانها القرآن الكريم في قوله - تعالى -: [وَالَّذِينَ
كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ] (محمد: 12) ، وفي
الوقت نفسه فهي شديدة التناقض في كثير من جوانبها مع الرؤية الإسلامية التي
تنظر إلى الإنسان بوصفه مخلوقاً صاحب رسالة، ومكلفاً بإعمار الأرض والدفاع
عن الحق والفضيلة؛ فضلاً عن أنها تأسست على مبدأ «النسبية» الذي يرفض
الاعتقاد بثبات القيم والأخلاق والعقائد الدينية؛ فما يراه الناس اليوم بأنه «غير
أخلاقي» قد ينال غداً اعتراف الجماعة الغربية به على أنه «أخلاقي» ، وما كان
بالأمس عملاً تدينه التقاليد والأعراف بل والقوانين السائدة قد يتحول بمضي الوقت
في العالم الغربي إلى عمل مشروع، وقد يمسي حقاً من «حقوق الإنسان» التي
يوفر لها الغرب المشروعية بل الحماية الدولية أيضاً؛ فعلى سبيل المثال كانت
ممارسة الجنس قبل الزواج تواجه معارضة شديدة وقوية في الغرب حتى فترة ما
بعد الحرب العالمية الثانية، كما كان هناك قوانين تحظر مثل هذه الممارسة مع غير
الزوج؛ أما اليوم فقد أصبح الجنس قبل الزواج أمراً شائعاً بموافقة المجتمع
والوالدين أيضاً. وفي هذا الإطار فإن أفعال الشذوذ الجنسي بين الذكور كانت تعتبر
جريمة في بريطانيا العظمى حتى الستينيات، على الرغم من أن الشذوذ بين الإناث
(السحاق) لم يكن ممنوعاً قانوناً. أما الآن فقد أصبحت مثل هذه الأفعال بين
البالغين والتي تتم برضاهم، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً قانونية في معظم دول
الغرب؛ بل باتت غالبية العالم الغربي ترى أن القوانين الصادرة ضد الشذوذ
الجنسي ما هي إلا انتهاك لـ «الحقوق الإنسانية» للشواذ من الرجال أو النساء!!
بل إن الكنيسة في عدد من الدول الغربية أباحت «الزواج» المثلي بين
الشواذ، وسنت القوانين والتشريعات التي تحفظ «الحقوق» المترتبة على عقد
الزواج في النفقه والميراث وتبنِّي الأطفال وغير ذلك..! ! ومنذ ثلاثة عقود
مضت اتخذ المجتمع الغربي موقفاً مشدداً إزاء عملية إنجاب أطفال من نطفة
مجهولة النسب، واستند في ذلك إلى أن هذا المنحى يعد عملاً غير أخلاقي يخلِّف
مشكلات اجتماعية ونفسية بالغة القسوة للأطفال الذين يجري إنجابهم على هذا النحو؛
أما الآن فقد بات من «الحقوق الإنسانية» - بل القانونية - للمرأة أن تلجأ إلى
إحدى بنوك الحيوانات المنوية المنتشرة هذه الأيام في طول البلاد الغربية
وعرضها، وتقوم بعملية تلقيح صناعي تنجب على إثره أطفالاً لا يعرف بالتحديد من
هم آباؤهم، والتفسير الغربي لحقوق الإنسان الذي يتبناه الإعلان العالمي المشار
إليه فيما تقدم تتسع مظلته لحضانة كل ما يفرزه تصور الإنسان الغربي
بنسبية القيم العليا للمجتمع، من تحولات أخلاقية وما شابه؛ وهو على هذا
النحو يتعارض تعارضاً جوهرياً مع ما يعتقده الإنسان المسلم بكمال مصدري
التشريع الأساسيين وقداستهما: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا تتجلى لنا المخاطر والمحاذير من التعاطي مع المرجعية الغربية
لحقوق الإنسان على النحو الذي: إما أن يرفعها إلى مرتبة التقديس (الرؤية
العلمانية العربية التي تعتقد «كمال» الغرب و «عصمته» ، لتفوقه المادي
والعسكري على العرب والمسلمين، وإما مواءمة المفاهيم الإسلامية في ذلك الشأن
مع الطرح الغربي لحقوق الإنسان (الاتجاهات التوفيقية داخل التيار الإسلامي التي
تجتهد في إطار المواءمة بين الوافد والموروث) . ولعل المنحى الأخير يعد أكثر
الخيارين خطراً على نقاء وصفاء البنية العقدية والفكرية للإنسان المسلم. فالأول
صادر عن التيار التغريبي الذي يستدعي مجرد ذكر اسمه معاني الشكوك والريبة في
روع الإنسان المسلم بسبب الارتباط الروحي والنفسي والفكري لهذا التيار بالغرب؛
ولهذا السبب فهو أقل خطراً من الثاني الذي يتحدث باسم الإسلاميين، إن لم يكن
باسم الإسلام؛ إذ لوحظ أن كثيراً من «الاجتهادات» التي تصدر بدعوى «تطوير
الفقه» تارة وباسم «التنوير» تارة أخرى من داخل هذا التيار التوفيقي (أو التلفيقي)
كما يطلق عليه منتقدوه قد دأبت على القيام بعمليات مواءمة بين مفاهيم إسلامية
وبين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يعني أن تلك الاجتهادات تستبطن بلا وعي
منها الطرح الغربي لحقوق الإنسان، وتعتقد اعتقاداً خفياً بثباته وعصمته، وهو
منحى قد ورط أصحابه بالفعل في تقديم سلسلة من التنازلات على حساب دينهم
ابتغاء مرضاة الغرب أو أذياله من العلمانيين أو اللادينيين في العالمين العربي
والإسلامي، أو ابتغاء التجمل بمظاهر الحداثة والاستنارة، ولقد بلغ الأمر بأحدهم،
أن زعم بأن شهادة الرجل لا تعدل شهادة امرأتين إلا في حال إثبات واقعة الزنى
فحسب! وزعم أيضاً أنه ليس في كل حالات الميراث يكون «للذكر مثل حظ
الأنثيين» ، وأنه - بحسب زعمه - في حالات أخرى يتساوى حظ الأنثى مع حظ
الذكر. وأن الأولى قد تفوق حظ الأخير في حالات لم يسمها أيضاً..! ! ولبيان ما
سوف تجلبه المواءمة على المسلمين من شرور، ومعصية لله ولرسوله صلى الله
عليه وسلم فلنتأمل هذين المثالين:
الأول: تقر وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن من «الحق الإنساني»
للمرأة أياً كان دينها أن تتزوج ممن تحب بغض النظر عن دين الزوج. ونظير ذلك
فإن الإسلام يحرم على المرأة المسلمة الزواج من الرجل الكتابي (نصرانياً كان أو
يهودياً) ، أو من غير المسلم بصفة عامة، ومن ثم فإن هذا التحريم يعتبره
«الإعلان العالمي» والغرب من ورائه «تعدياً» على أحد الحقوق الإنسانية للمرأة
المسلمة! !
المثال الثاني: في مسألة تزويج الإناث، فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
لا يعتد بأية شروط في هذه المسألة، ويعطي للمرأة الحق في تزويج نفسها بنفسها
دون اشتراط الولي لصحة عقد الزواج، ومن ثم وبغض النظر عن الخلاف الفقهي
بين الجمهور والأحناف في هذه المسألة فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح
إلا بولي» ، وقوله: «أيما امرأة نكحت (أي تزوجت) بغير إذن وليها فنكاحها
باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من
فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» [1] .
سيعتبر هذا الحديث الشريف - من وجهة نظر الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان - إكراها وتعدياً على حرية المرأة، وعلى حق من حقوقها الإنسانية حال
إقدامها على الزواج! !
ولعلنا نتساءل الآن: كيف يمكن المواءمة بين الرؤيتين (الغربية والإسلامية)
في المثالين المشار إليهما قبل قليل؟ !
إن المواءمة هنا مسألة بالغة الصعوبة إن لم تكن مستحيلة، إنها تضعنا أمام
خيارين لا ثالث لهما: إما التمسك بثوابتنا الدينية، وإما التخلي عنها نزولاً على ما
يراه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولذا فإن قولنا في مستهل هذه المقالة بأن هذه
القضية تحتاج إلى ما يشبه المفاصلة لم يكن مشوباً - في اعتقادي - بالمبالغة أو
بالشطط، وإنما كان من أجل ضبط موقفنا من المرجعية الغربية في ذلك الشأن؛
فمن الثابت بالنسبة لنا نحن المسلمين أن المرجعية العليا والمهيمنة على ما عداها من
المرجعيات، ولها سلطة الأمر والنهي، ولا نعصي لها أمراً، ولا نقبل بأي حال
من الأحوال أن تكون موضوعاً للمواءمة أو التسوية السياسية أو الفكرية مع الغرب
هي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا قالت الآية: [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنثَيَيْنِ] (النساء: 11) فلا خيار لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا امتثالاً
لقوله تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً]
(الأحزاب: 36) .
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي.(165/71)
نص شعري
الفجر الصادق
أحمد عبد الله محمد العاطفي
ليلٌ يمد رواقه ويهمهمُ ... والفجرُ يخنقه الظلامُ الأَسْحَمُ
ليل طويل كم تُعَذّبُ أمتي ... بالقيد أُثقِلَ جيدُها والمِعْصَمُ!
ليل طويل كيف يسفر فجرنا ... وزمامنا بيَد العميل مُسَلَّمُ؟ !
فإلى متى يا أمتي وحديثنا ... ألَمٌ وأنكاد وهمٌّ أبكمُ
سيف الأعادي سُلَّ فوق رقابنا ... وسيوفنا يا أمتي تتثلَّمُ
يا أمتي هذي الدموع هواتن ... فمتى وربك يستفيق النُوَّمُ؟
بالأمس كوسوفا الحزينة تشتكي ... ظلماً يباركهُ الدعيُّ المجرمُ
واليوم داغتسان ينبض جرحُها ... ألماً ونحن على الأرائك ننعم! !
شتان من يبكي ويخضبُ عَنبراً ... والآخر الباكي يُخَضِّبُهُ الدَّمُ
* * *
كانت سيوف الحق تَقْرَعُ والقنا ... ما بالُها في الساح لا تتقدمُ
كانت صواعقَ مرسلاتٍ في العِدى ... فتحيلُ ليلَ الظلم فجراً يَبْسمُ
كانت تكلَّمُ حين تَحْمَرُّ القنا ... ما بالُهَا سكتت فليس تكلَّمُ
كانت معالمنَا معالِمَ عِزَّةٍ ... لكنها اندرستْ وضاعَ المعْلَمُ
هذي مآتمنا وقصةُ أُمةٍ ... ضلت، وليلٌ عابسٌ متجهِّمُ
هي قصة مكتوبة ومدادها ... دمع الفؤاد وسفرها لا يختمُ
هي قصة ممزوجة بمشاعري ... أحكي بها ألَم الفؤاد وأنظمُ
هي قصة لغة الظلام حديثها ... وقصيدةٌ مجروحةٌ تتألمُ(165/75)
البيان الأدبي
صرخة مسلمة دعوا في هدأة عرضي
سالم الرزيق
خذوا مالي
خذوا كنزي
خذوا الأرض التي
من إرث أجدادي
* * *
خذوا الملبوس
من جلدي
خذوا زادي
خذوا القرطاس
مكتوباً بأحرف نوره
أمجاد أمجادي
* * *
خذوا الدرهم
خذوا الدينار
خذوا المقطور
والقنطار
خذوا التفاح
والرمان
خذوا الكادي
مع الريحان
* * *
خذوا - إن شئتمُ - الألوان
من ثوبي
خذوا الأنهار تسقي
في الحمى دربي
خذوا الأزهار تذكي
في السهى حبي
خذوا الأطيار تحكي
في السما خطبي
خذوا الأنوار تهدي
في السرى قلبي
* * *
أخا الطغيان
ما في القلب من رحمة
أما لك في الورى
أهلٌ ولا بنت
ولا أخت ولا أمة
أما لك يا سليب العار
من حرمةْ؟
* * *
أخا الطغيان
إن لي أهلاً ولي ولدا
ولي زوجاً وراء سلاحكم
فُقِدَا
ولي إخوة
وراء البحر
تحمي وحدة الأمة
ولي ثروة
أما تخشى جحافلهم
وصولتهم وجولتهم
فتغدو هاهنا خاسر
وما لك في الورى
ناصر
ويمسي السحر في
الساحر
* * *
خذوا مالي
خذوا كنزي
خذوا الأرض التي
من إرث أجدادي
خذوا ما شئتمُ
ما شئتمُ
ودعوا في هدأة
عرضي(165/76)
نص شعري
خففي اللوم
عبد الرحمن بن معيض عبد الله الغامدي
مليحة زيّن الرحمنُ صورتها ... جاءتْ إليّ تبث الهمّ والكدرا
دنتْ وقالتْ بصوت هدّه نَصَبٌ: ... يا شاعري ما أطقتُ البعدَ والسفرا
غريبةٌ في بلادِ الله راحلةٌ ... زادي جراحٌ ومجدٌ كان مفتخرا
أُحدِّثُ الناس عن مجدٍ يسير معي ... عن الرَّسولِ وعن بدرٍ وعن عُمَرا
أُحدِّثُ الناسَ والآذانُ مُطْرِقةٌ ... لعازفٍ يُرقِص الأجسامَ والوترا
يا شاعري قومُنا في حالهم عَجَبٌ ... من حالنا يا أَنِيسي تُبصرُ العِبَرا
دماؤنا دونَ كلِّ الناس مُهْدرةٌ ... وبؤسنا يا صديقي يُنْطِقُ الحجرا
شبابُنا من بلاد العُجْم قدوتُهم ... فلستَ تسمع قولاً أو ترى أثرا
فكيف نضحك والأعماقُ مُجْدِبةٌ؟ ... ماذا نقول بيوم يجمع البشرا؟
يا شاعري يكتب التاريخُ مَهْزَلةً ... فالذئبُ يحكمُ غابَ الليثُ أو حضرا
اليوم نُسبى فقل لي أين معتصمٌ؟ ... إني أُسائل عنه الشمس والقمرا
من أنت؟ سائلتها، قُولي؛ فبي وَلَهٌ ... ما بال قلبك بالأحزان قد عُصِرا؟
ماذا دهى السُّهْدَ في عينيك مضطجعاً؟ ... لِمَ التشاؤم يغزو الحال والخبرا؟
أما قرأت أحاديثاً لنا حُفظت ... عن سيد الخلق من صلّى ومن شكرا
من يبتغ العزَّ، والإسلامُ منهجُه ... فسوف يحظى بعزٍ يحصُد الدُرَرا
فخففي اللَّوْمَ يا حسناءُ واصطبري ... «لن نبلُغ المجدَ حتى نَلْعَقَ الصَبِرا»
غداً ستشرق شمسُ الأمس زاهيةً ... ستُنِبتُ الأرضُ يغدو الذلُّ محتضرا
غداً سيظهرُ جيلٌ دينهم عملٌ ... فعالهم يا سميري تَعْقُب النُذُرا
غداً نَرَدِّدُ في الآفاق في دعةٍ ... الله أكبرُ؛ طال الدهرُ أم قصُرا!(165/78)
المسلمون والعالم
الولايات المتحدة تخطط للقضاء على الانتفاضة
أنت السيف والحكم! !
عبد الملك محمود
مقدمة:
بينما كان المصورون يلتقطون الصور التذكارية للدبلوماسيين في قاعة
المؤتمرات في (واي بلانتيشن) قبل انطلاق مباحثات السلام بين الفلسطينيين
واليهود منذ ثلاثة أعوام تقريباً، كان مدير المخابرات الأمريكية اليهودي (جورج
تينيت) ومدير مكتب الوكالة في تل أبيب بعيدين عن الأنظار في الطابق العلوي في
انتظار خروج المصورين والصحافيين للانضمام إلى المباحثات دون لفت
الانتباه [1] . لا يبدو الأمر غريباً؛ فهذا هو الدور المعتاد للمخابرات ذات الطابع
السري. والمخابرات الأمريكية - كما هو معروف - منذ نشأتها عام 1947م ارتبط
نشاطها بالمؤامرات والدسائس، وولغت في الحروب عالمياً خاصة تجاه شعوب العالم
الثالث - وعامة بلاد المسلمين منها - وحركات التحرر الوطني التي لا تخضع
للإرادة الأمريكية. وقد كانت مؤامرات المخابرات الأمريكية وحروبها تتسم
بالسرية أو تجري وراء الكواليس. غير أن ما حدث مؤخراً من ظهور علني
في قضية الصراع مع اليهود يعتبر شيئاً جديداً؛ فما الذي تغير فدعا الإدارة
الأمريكية إلى أن تخرج عن طورها وتزج بمدير مخابراتها بصورة علنية مكشوفة،
وتتدخل بقوة في قضية أمن اليهود ودولتهم المسخ بخطة تحمل اسمه ويشرف هو
عليها شخصياً بل ويتابعها في المنطقة؟
الواقع أن دور المخابرات الأمريكية في هذا الصراع لم يكن غائباً؛ فقد ظهر
بوضوح مع الانتفاضة الأولى قبل سنوات، ومع وصول عرفات وقيادته إلى
الأراضي الفلسطينية والإدارة الأمريكية حاضرة وحريصة على إنجاح مساعي تأمين
سلامة اليهود، فأنشأت في قطاع غزة مكتباً للمخابرات الأمريكية للمتابعة ووضع
الخطوط الحمراء والخضراء ورصد وتجميع التقارير التجسسية عن الشخصيات
المؤثرة والفاعلة في المجتمع، والقيام بمهمة التنسيق بين السلطات اليهودية
والفلسطينية فيما يتعلق بالخطط الأمنية.
لسنا بحاجة إلى كشف حجم وطبيعة العلاقة بين الكيان اليهودي والحكومة
الأمريكية؛ فكل المؤشرات العلنية والسرية تؤكد أن المشاريع الأمريكية الحالية في
المنطقة هي حماية الشعب اليهودي ودولة اليهود.. سواء ظهر ذلك على صيغة
اتفاقات دولية كشرم الشيخ، أو جاء على هيئة تعليمات أو اتصالات أمنية،
أو حمل أي مسمى آخر. ولكن لعل من المناسب الإشارة إلى الأهداف القريبة
للاتصالات والمشاريع الجديدة.
التحركات الأمريكية الجديدة وأهدافها:
مضى الآن عشرة أشهر على هذه الانتفاضة المباركة وهي لا تزداد إلا
إصراراً، ولا شك أنها كما هو الحال في الانتفاضة السابقة قد أفرزت واقعاً ضخماً
في التأثير على العدو بصورة بالغة دعته إلى الاستنجاد وطلب العون من حلفائه
وأوليائه في الغرب - خصوصا الأمريكان - حيث لم يستطع الجيش اليهودي إيقافها،
وكذلك الأمر بالنسبة للسلطة؛ حيث صدرت الأوامر أكثر من مرة بضرورة وقف
(أعمال العنف!) . وقد استشاط السفاح (آرييل شارون) غضباً من عدم قدرة
عرفات على ذلك، وصرح أكثر من مرة بأن عرفات قاتل ومجرم وخائن لعملية
السلام. كما انتهت مدة الـ 100 يوم التي وعد المجرم (شارون) بها لإنهاء
الانتفاضة حيث مارس خلالها أشنع الجرائم.. واستعمل فيها كل أنواع الأسلحة
حتى طائراتF16.. ولم يتبق من الأسلحة التي لم تستعمل سوى الأسلحة النووية
فقط.
ظهرت أفكار عجيبة للقضاء على الانتفاضة - أو في أقل الأحوال - الحد من
آثارها على الكيان الصهيوني كعمل جدار إلكتروني فاصل بين المستوطنات
ومناطق الفلسطينيين، وفكرة تقسيم المناطق إلى 4 كانتونات، والتفاوض مع
كل منها على حدة.. فضلاً عن عمليات القتل والإصابات بالمدافع والدبابات
بل والقصف بالطائرات.
وكما نتج بعد الانتفاضة الأولى من مؤتمرات واتفاقات (مدريد)
و (أوسلو) و (شرم الشيخ) واستقدام منظمة التحرير من تونس لإخضاع
المجاهدين أو اعتقالهم، كذلك اضطرت هذه الانتفاضة الثانية المباركة إن شاء
الله اليهود وحلفاءهم إلى الضغط لاعتقال المجاهدين ومحاولة القضاء على
الانتفاضة.
وها هي الولايات المتحدة تكشر عن أنيابها، ويظهر مدير مخابراتها
(ذو الأصول اليهودية البلقانية) [2] والمتخصص في موضوعات من نوع
حماس والجهاد الإسلامي، على هذا المستوى من العلنية فيما يعطي دلائل واضحة
على خطورة الأوضاع مما لم تحسب لها حسابات في الخطط السابقة خصوصاً بعد
عجز السفاح شارون عن تطبيق وعوده في أمن المستوطنين بل وأمن اليهود داخل
الخط الأخضر، وبعد تصاعد العمليات والنقلة النوعية فيها، فبدأت خيوط
مؤامرة جديدة تحاك لإجهاض الانتفاضة والقضاء على النشاط الإسلامي برمته،
وقد صرح (تينيت) بذلك بصفاقة.
وخطة (تينيت) ليست أولى الخطط في جعبة الإدارة الأمريكية وربما لا
تكون آخرها؛ خصوصاً ونحن نراها تترنح حالياً تحت وطأة العنف والاعتداء
الصهيوني، وقد ذكرنا في مقال سابق [3] خطة (كلينتون) في آخر أيامه في البيت
الأبيض، والجهود التي بذلت فيها الإدارة الأمريكية السابقة عصارة خبراتها،
وركزت كامل جهودها.
وها نحن نشاهد في عهد بوش الثاني زيادة التمادي في الظلم، فتتوقف
الإدارة عن الخوض أو التدخل، وترفض استقبال عرفات للضغط عليه حتى يساهم
في قمع الانتفاضة بصورة كبيرة ويقوم باعتقال الإسلاميين ومن يساهم في تحريك
الانتفاضة، ولإعطاء الفرصة لـ (شارون) ليقوم بما بدا له. وتكثف الولايات
المتحدة حجم تحركاتها، وترسل عدة مبعوثين من أبرزهم وزير الخارجية
(كولن باول) أكثر من مرة، وفي هذا السياق جاءت مبادرة مدير المخابرات الذي
وصل إلى المنطقة في 6/6/2001م (بعد ذكرى هزيمة حزيران 1967م
بيوم واحد) .
من جهة أخرى فبعد شهور طويلة من اللف والدوران تمخض المسعى
الأمريكي تحت الضغط في تقرير لجنة السناتور (ميتشل) «لتقصي الحقائق»
وبعد شهور عجاف من تضييع الوقت جاء التقرير المشوه المجحف، وأمام الظلم
الفادح الواضح فإنه أظهر في ثناياه بعض الحقيقة وألقى باللوم على اليهود، وهذا ما
دفعهم إلى رفض التقرير.
مع تصاعد وتيرة الانتفاضة والنقلة النوعية فيها كاستعمال مدافع الهاون،
وكثرة العمليات البطولية مثل عملية مرقص تل أبيب التي نفذتها كتائب القسام حيث
أسفرت عن مقتل 21 شخصاً وإصابة أكثر من 120 حسب المصادر اليهودية،
ومع دور بعض كوادر فتح فضلاً عن دور حماس والجهاد الإسلامي ... سقطت
أسطورة النظرية الأمنية لدولة إسرائيل، وصار كثير من المستوطنين يتدهور نفسياً
وأمنياً [4] .. بل إن بعضاً ممن تملكهم الرعب أصبح يفكر في الهجرة خارج فلسطين،
والصحف الإسرائيلية التي صدرت عقب الانفجار الأخير تحدثت عن نزوح عدد
من قطعان المستوطنين إلى البلاد التي قدموا منها، والقصص حول آثار الانتفاضة
عموماً على الشخصية اليهودية كثيرة وليس هذا مكان الحديث عنها [5] ، هذا فضلاً
عن الآثار الاقتصادية الضخمة التي أظهرتها التقارير عن أثر الانتفاضة. في هذه
الأجواء جاءت التحركات الأمريكية الأخيرة التي تسارع كالعادة في إنقاذ الحليف
اليهودي، مما يذكرنا بالجسر الجوي الأمريكي لإسرائيل في حرب رمضان عام
1393هـ (أكتوبر 1973م) لإنقاذ دولة اليهود.
يرمي المشروع الأمريكي الجديد إلى أهداف صغيرة داخل الهدف الأساسي،
مثل:
1 - إيقاف الانتفاضة والعمليات النوعية التي أحدثت تغييرات ضخمة في
الشارع الفلسطيني والإسلامي عموماً.
2 - جمع الأسلحة خصوصاً أسلحة الهاون التي برزت مؤخراً، وقد جن
جنون اليهود عند ظهورها وبعض مسؤوليهم صرح تصريحات هستيرية بسببها.
3 - إشعال فتيل الحرب بين الفلسطينيين بالتحريض على اعتقال المجاهدين،
خصوصاً بعدما تبين أن جزءاً من كوادر فتح متعاطفون مع الإسلاميين أو أنهم
سئموا من سياسات عرفات الخيانية.
وخطة المخابرات الأمريكية وضعت لتحقيق هذه الأهداف وهي لا تعدو أن
تكون صورة من مطالب شارون الثلاثة التي من بينها اعتقال النشطين الذين أفرجت
عنهم السلطة. وفي تقريره الذي قدمه مدير المخابرات الأمريكية إلى مجلس النواب
الأمريكي قبل بضعة اشهر حذر «تينيت» من مخاطر الانتفاضة وآثارها حتى
على الشارع العربي عموماً [6] ، وبالطبع فإنه وضع خططاً للقضاء على الانتفاضة
منذ فترة طويلة؛ فهي ليست خطة جديدة إلا في توقيت تطبيقها فقط.
الشرق الأوسط يعج بالوفود:
نود الإشارة أولاً إلى الجو المحموم الذي اكتنف المنطقة؛ حيث أصبحت تعج
بالوفود والمراسلين من شتى بقاع العالم؛ فعلى صعيد المساعي الغربية مثلاً رأينا
وفوداً كثيرة جابت المنطقة.
وطوال أشهر الانتفاضة لم تحرك عمليات القتل والقصف والهدم والإصابات
اليومية كوامن الإنسانية الغربية، ولكنها تستيقظ عند قتل أي يهودي.. فتتحرك
الإنسانية الحانية و.. بعد عملية تل أبيب تحرك الغرب كله، فازدحمت المنطقة
بالوفود والمبعوثين من أمريكا وأوروبا.. خافير سولانا المتعصب، وموراتينوس،
وبيرسون.. ودبلوماسيين من روسيا، ثم مبعوث جديد هو أندريه فدوفين.. حتى
ألمانيا الباردة عادةً تحركت فأرسلت وزير خارجيتها يوشكا فيشر ثم مدد زيارته إلى
المنطقة [7] .. وفود أمريكية كثيرة ترسل فيها أمريكا أكبر شخصياتها: مثل وزير
خارجية أمريكا كولن باول والمبعوث الخاص وليام بينز، وأخيراً مدير المخابرات
CIA، ولم تكتف الإدارة الأمريكية بذلك فقررت أيضاً إدخال رئيس أعلى منظمة
دولية في العالم كوفي عنان الذي يسير حسب المطلوب.
فلماذا جاء هؤلاء يتوسطون؟ أمن أجل دمائنا وأطفالنا؟ هل آلمهم قتل
العجائز والأطفال؟ أم حركتهم صور محمد الدرة وإيمان حجو والعشرات من
الأطفال؟ أم أحزنتهم صور الشيوخ والعجائز الجالسين على ركام بيوتهم المهدمة
بفعل الجرافات الإسرائيلية؟ الحقيقة التي يعرفها كل الناس أنه لم يحركهم لا هذا
ولا ذاك.
لا بد من وقفة هنا: ما هو الأمر الذي دعا الإدارة الأمريكية إلى التدخل بهذه
الصورة الصارخة، بحيث يقوم مدير مخابراتها الذي يفترض في طبيعة عمله
السرية التامة والمحكمة إلى الظهور هكذا والتدخل في الترتيبات الأمنية لليهود؟
نعود الى موضوعنا لنتابع بعض تحركات الإدارة الأمريكية التي تتحرك كلها
برئيسها ووزرائها ومندوبيها وسفرائها في المنطقة، ونعطي صورة عن مدى
التحالف اليهودي الأمريكي.
خطة (تينيت) بوصفها نموذجاً عملياً:
هُرِعَ مدير المخابرات الأمريكية إلى المنطقة راكباً حمار بطرس الناسك،
ومكث فيها أسبوعاً كاملاً، فالتقى المسؤولين الأردنيين أولاً، ثم توجه إلى
الأراضي الفلسطينية وعقد لقاءات مع المسؤولين اليهود؛ حيث تم تدارس الخطة،
ثم التقى القيادة الفلسطينية في رام الله، ثم توجه بعد ذلك إلى القاهرة حيث التقى
الرئيس المصري وأبلغه بها أيضاً [8] . الجدير بالذكر أنه لم يصرح أي مسؤول
مصري أو أردني أو غيرهم بالاعتراض على الخطة، بل على العكس فإن الأخبار
تؤكد أنه كان هناك اتفاق على الضغط على الفلسطينيين لقبولها وإلقاء القبض على
مقاتلي حماس والجهاد ومن يسمونهم بالإرهابيين، وقد حمل (تينيت) في جعبته
قائمة بأسماء اكثر من 300 شخص من المطلوب القبض عليهم [9] ممن لهم علاقة
بالتخطيط لعمليات استشهادية أو بعض الأسماء البارزة في الجناح العسكري لحماس
مثل محمد ضيف قائد الجناح العسكري في غزة ومحمود أبو الهنود القائد في
الضفة [10] .
وقد أشارت بعض الصحف إلى التقارير الدالة على أن ضغوطاً عربية
مورست على الفلسطينيين لقبول الخطة كما ذكرت ذلك صحيفة جيروزاليم
بوس [11] واتفقت معها صحيفة الحياة (بنفس التاريخ) على المضمون ذاته. وقد
سبق ذلك ضغوط مماثلة لقبول تقرير (ميتشل) [12] ، وهو أسلوب متبع طوال
الأعوام السابقة.. ضغوط هائلة لقبول كل تنازل جديد. ولا يعني هذا بالطبع تبرئة
عرفات ورجاله مطلقاً، وهذا له حديث آخر طويل؛ فالقيادة الفلسطينية مثلاً ساهمت
بشكل مباشر في رسم الإطار السياسي لمسيرة الأحداث، والمنظمة ليس لديها
خطط واضحة، بل تصريحات فضفاضة بدون معالم، كما أن سوابق المنظمة
في اعتقال الإسلاميين والتعاون الأمني مع إسرائيل لا تخالف هذا النهج.
قراءة لبنود الخطة (المكيال الأمريكي) :
النقاط الأساسية لخطة وقف إطلاق النار التي توصل إليها الفلسطينيون
والإسرائيليون مع رئيس وكالة المخابرات الأمريكية، يبدو أن الصحافة الإسرائيلية
هي أول من نشرها، ثم نقلتها عنها الوكالات والصحف، وقد نشرت تفصيلاتها
البي بي سي [13] وصحيفة الحياة وغيرها. ولا يتسع المقام هنا لذكر تفاصيل
الخطة، ولكن هذه بعض البنود باختصار:
- التزام الطرفين بوقف لإطلاق النار وجميع أعمال العنف [الذي يدافع عن
نفسه أمام الدبابة والبندقية ماذا يسمى عمله؟ عنف أم دفاع عن النفس؟ قتل خلال
الانتفاضة نحو 600 شخص، كم جندي إسرائيلي تم القبض عليه؟ أم أن كل
القتلى كانوا يرتكبون اعمال عنف؟] .
- يستأنف الفلسطينيون والإسرائيليون على الفور (! !) التعاون الأمني،
مع مسؤولين أمنيين أمريكيين، يليه عقد اجتماع كل أسبوع (! !) . [لاحظ
صيغة الفورية، والعجلة، والحرص الأمريكي على الحضور حتى في التفاصيل
للاطمئنان] .
- يعمل الجانبان على منع الأفراد والجماعات من شن هجمات من مناطقهم أو
الهرب إليها بعد تنفيذ أي أعمال عنف [المقصود بالطبع الفلسطينيين، وإلا فإن
اليهود يأتون على هيئة جنود] .
يمد كل طرف الطرف الآخر والمسؤولين الأمريكيين بأي معلومات (! !)
عن وجود تهديدات بشن هجمات إرهابية، وأن يجري التعامل فوراً معها، وتبلغ
لجنة التعاون الأمني بجهود إجهاض تلك التهديدات ونتائجها [الأمريكان حاضرون
هنا أيضا للاطمئنان، ولا تكتفي الخطة بتزويد المعلومات بل الإبلاغ أيضاً عن
جهود إجهاض المحاولات الإرهابية ونتائجه أيضاً] .
- يحدد الطرفان قائمة بمناطق وقوع المصادمات، وتطبق آلية لجعلها مناطق
عازلة يحظر فيها قيام المظاهرات (! !) .
إعادة تفعيل دور مكاتب الارتباط المحلية، والوصول إلى مستوى التعاون
الذي كان قائماً قبل الانتفاضة، وتزال جميع معوقات التنسيق بين الجانبين، بما في
ذلك الحواجز، ويبدأ تسيير الدوريات المشتركة [مطلوب من الفلسطينيين أن يكونوا
حراساً مشاركين في أمن إسرائيل وسجانين لشعبهم] .
- توضع إجراءات محددة لضمان أمن وسلامة المسؤولين الأمنيين عند
انتقالهم إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرتهم، على أن تزود الولايات المتحدة
الجانبين بدوائر تلفزيونية مغلقة لتيسير الاتصال [من صور الكرم الأمريكي] .
- في غضون أسبوع واحد (! !) من استئناف التعاون يتفق الطرفان على
جدول زمني لعودة القوات الإسرائيلية إلى مواقعها قبل اندلاع الانتفاضة [هذا هو
أهم الإنجازات التي سيحصل عليها الفلسطينيون] ويتفق الطرفان على جدول زمني
لرفع الحصار عن المناطق الفلسطينية وفتح الطرق الداخلية وجسر اللَّنبي ومطار
وميناء غزة والمعابر الحدودية، وتقليص عدد نقاط التفتيش المقامة على الطرق.
- وبعد مضي 48 ساعة (! !) من الأسبوع الأول ينبغي البدء في تنفيذ
إجراءات عملية، ويتواصل التنفيذ أثناء فترة التفاوض حول الجدول الزمني.
- على الجانب الفلسطيني أن يعتقل فوراً (! !) منفذي العمليات الإرهابية
في الضفة الغربية وقطاع غزة [قرار لا يحتمل التأخير] .
- يقدم المسؤولون الفلسطينيون قائمة بأسماء هؤلاء المعتقلين وبالإجراءات
المتخذة ضدهم [! !] .
- يتعين على أجهزة الأمن الفلسطينية مصادرة مدافع الهاون وكافة الأسلحة
غير القانونية، ومنع أنشطة تهريب الأسلحة [يبدو أن المخطط نسي منع سكاكين
المطبخ، حيث إن المطلوب أن يكون الضحية مجرداً من أية وسيلة للدفاع عن نفسه
أمام الدبابات والمدافع الإسرائيلية] .
- يجب (! !) على السلطة الوطنية الفلسطينية أن تدعو المسؤولين الأمنيين
للتوقف عن تحريض الفلسطينيين أو تمكينهم من تنفيذ هجمات ضد الأراضي
الإسرائيلية أو المستوطنات [لاحظ صيغة الأمر: يجب] .
- على القوات الإسرائيلية أن تكف عن مهاجمة قوات السلطة الوطنية
الفلسطينية ومنشآتها المدنية ومراكز قيادتها، وأن تتوقف عن شن عمليات عسكرية
ضد المدنيين الأبرياء [يلاحظ أن التركيز فقط على الحفاظ على السلطة ومنشآتها] .
- على القوات الإسرائيلية أن تستخدم أسلحة غير قاتلة في تفريق المظاهرات
[لكم أن تفسروا هذا البند بما تعرفونه، يعني ما هو حكم استخدام طائرات إف 16
مثلاً؟ أو الرصاص الذي يتفجر داخل الجسم؟ أو أن لا يموت الشخص على الفور
وإنما يتوفى في المستشفى بعد يومين؟ هناك تشكيلة واسعة من الأسلحة يمكن
استخدامها حتى لا تسمى الأسلحة بأنها قاتلة، يكفي أن تؤدي الإصابة إلى عاهات
مستديمة كالشلل مثلاً أو كسور أو عمى] .
- يجب على السلطات الإسرائيلية أن تتخذ إجراءات ضد المواطنين
الإسرائيليين الذين يشنون هجمات انتقامية على الفلسطينيين، أو يحرضون على
إيذائهم.
- على السلطات الإسرائيلية أن تحقق (! !) في حوادث قتل الفلسطينيين
الذين لم يتورطوا في أعمال إرهابية أو مواجهات مع الجيش الإسرائيلي. [ولِمَ هذه
التكاليف الباهظة؟] .
- ينبغي أن تطلق إسرائيل سراح السجناء الفلسطينيين غير المتورطين في
أعمال إرهابية [ما حكم الأشخاص الذين اعتقلوا بسبب إلقائهم الحجارة على الجنود
الإسرائيليين] .
من مجمل البنود.. لعل القارئ الكريم لاحظ حجم ما هو مطلوب من الجانب
الفلسطيني.. ومدى إجحافها بل إجرامها.. كما يلاحظ صيغ الأمر الفوري الذي لا
يحتمل التأجيل.. مثل صيغ: فوراً.. فوراً.. و48 ساعة.. والأسبوع الأول..
وتحت ذريعة «وقف التحريض» فإن على السلطة اتخاذ كل الإجراءات للقضاء
على الانتفاضة، فهي إذن ما يطلبه شارون.
وأترك للقارئ قراءة ما وراء السطور، والتأمل مرة أخرى في الخطة
وأهدافها.
وكما أشرنا سابقاً فقد وافق عرفات بصورة تدعو إلى الاشمئزاز على بنود
الخطة التي ذكرت بعض الأنباء أن فيها بنوداً سرية لم تكشف أيضاً، ولم يبد إلا
اعتراضات بسيطة مثل النص الذي يدعو إلى إقامة مناطق عازلة بين إسرائيل
والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م. واعتراض آخر حول النص الذي
أشار إلى أن السلطة الوطنية ستلقي القبض على من يشتبه في أنهم شاركوا في
هجمات وقعت في السابق [14] ؛ لأن هذا في الواقع سيسبب له إحراجاً بالغاً في هذه
المرحلة. وربما أبدت القيادة الفلسطينية ملاحظات على استمرار خطة شارون في
بناء المستوطنات، ولكن السلطة عودتنا منذ بداية الانتفاضة على أن أكبر مطالبها
أشياء أخرى مثل موضوع الأموال التي تحتجزها إسرائيل من مستحقات السلطة.
ودعت قيادة السلطة عناصر فتح وغيرهم إلى الالتزام بخطة المخابرات
الأمريكية لوقف إطلاق النار وعدم القيام بأية إجراءات تحدث خللاً في الوضع العام.
وذكر بيان اللجنة المركزية لفتح بعد اجتماع طارئ في رام الله مساء 15/6/
2001م في إطار تسويقه لخطة المخابرات الأمريكية: بأن التفاهمات التي توصل
إليها جورج (تينيت) في المجال الأمني خطوة مهمة وأولية لتنفيذ تقرير (ميتشل)
وتفاهمات قمة شرم الشيخ، ويتوجب الالتزام بما ورد فيها وتطبيقه بكل مسؤولية.
ولم ينس البيان وضع كليشة المنظمة المعروفة: دعوة أمريكا وروسيا والاتحاد
الأوروبي ودول عدم الانحياز وكافة الدول والأطراف المحبة للسلام في العالم
للضغط على إسرائيل للعودة إلى طاولة المفاوضات. كما رحبت اللجنة المركزية
ببيان القمة الأوروبية الأمريكية الذي صدر في نفس اليوم.
وفي اليوم نفسه شهدت كافة المدن بعد صلاة الجمعة 15/6/2001م مسيرات
حاشدة بدعوة من لجنة التنسيق الوطنية والإسلامية (تمثل 13 تنظيماً) للتعبير عن
رفض الخطة. ولو أن عرفات أجرى استفتاء حقيقياً لوجد أن غالبية الشعب ترفض
الخطة وتشعر بالمرارة لما يحاك من مؤامرات لإجهاض الانتفاضة. ويتساءل المرء
بدهشة عن هذا الخنوع والتنازل السريع ونسيان الجرائم اليهودية البشعة طوال
الفترة الماضية وعن دماء الشهداء وإصابات آلاف الجرحى.. هل تمحى هكذا بدون
ثمن؟ تستطيع المنظمة أن تكون في موقف أقوى من هذا بكثير.
من ناحية أخرى فقد كانت حماس وفتح قد أعلنتا قبل ذلك عن وقف مشروط
لإطلاق النار بحيث تقبل إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967
م. وذكر أحد قياديي حماس إسماعيل أبو شنب للبي بي سي أن القرار يهدف إلى
حمل الشارع الإسرائيلي على دعوة حكومته لوقف العمليات ضد الفلسطينيين
والانسحاب من الأراضي الفلسطينية [15] .
الصف الفلسطيني:
لسنا من أنصار ما يسمى بالوحدة الوطنية، أو التحالف مع العلمانيين..
ولكننا نقدر اجتهادات إخواننا في حماس تجاه المواجهة مع السلطة وعدم فتح جبهات
جديدة ضدهم. ومن هذه الرؤية فإننا نعتقد بأن الخطة اليهودية الأمريكية حريصة
على وجود شرخ بين الفلسطينيين وهو مسعى إسرائيلي قديم، وقد كتب أحد
المسؤولين اليهود يقول: سترون خلال أيام أننا نجحنا في إشعال حرب أهلية بين
الفلسطينيين. والتاريخ الطويل لليهود يثبت أنهم يتقنون هذه الصناعة الحقيرة من
زرع العداوات والأحقاد في الأمم. وقد ذكر د. عبد العزيز الرنتيسي: أن مدير
الـ CIA سوف يخفق في إجهاض الانتفاضة، وأن جورج (تينيت) يحاول
تحويل الصراع إلى صراع فلسطيني فلسطيني من خلال تحريض السلطة
الفلسطينية ضد شعبها، معتبراً أنه سوف لن ينجح في ذلك؛ لأن السلطة لن تخضع
لضغوطه [16] .
هذا التماسك الفلسطيني أغاظ شارون وبيريز واليهود وحلفاءهم، ومطلوب
فلسطينياً من الوطنيين الذين لا يسيرون في ركاب عرفات (وهم في تزايد) تفويت
الفرصة، ومراجعة أنفسهم ومعرفة واجبهم تجاه دينهم؛ فالإسلام ليس وقفاً على
جماعة أو حزب، بل هو همُّ كل مسلم؛ فهي فرصة لمراجعة النفس وتحديد المسار
الذي يرضي الله سبحانه.
لا نعتقد أن اليهود والسفاح شارون سيلتزمون باتفاقات وعهود، بل سرعان ما
سينقضون الاتفاقات، وقد سبقها الكثير، ولن يلتزموا منها إلا بمقدار ما تحقق
مصالحهم، وسيلجؤون إلى أساليبهم في الاحتيال والغدر ونقض العهود.. إنها
أبرز خصائصهم التي اخبرنا عنها ربنا - سبحانه وتعالى -. وقد أوضح
وزير الحكم المحلي صائب عريقات أن تحريك الدبابات الإسرائيلية تم فقط أمام
كاميرات التلفزيون، لكن لم يتغير شيء على الأرض.. وأشار في17/6/2001م
إلى عدم التزام إسرائيل بالاتفاق، وان الوضع كما كان عليه قبل 10 أيام. كما
قامت الجرافات الإسرائيلية بتدمير بعض المباني في غزة قرب الحدود المصرية
مع وصول (تينيت) [17] .
والاتفاق لا يُعنى بالحلول وإنما يهتم فقط بآلية حماية اليهود وعدم تعرضهم
للأذى، ولا تتحدث الخطة عن أي شيء آخر: لا القدس ولا اللاجئين ولا المعتقلين
ولا وقف بناء المستوطنات ولا قضية المياه ولا ... لا شيء مطلقاً؛ فهي خطة
أمنية ولا شيء غير ذلك كتطبيق للبند الأول في تقرير ميتشل لتهدئة الأمور
والتمهيد للعودة إلى طبخة الحصى القديمة (طاولة المفاوضات) .. وفقاً لصيغة
التنازلات الجديدة في تقرير لجنة السناتور الأمريكي ميتشل بعد 6 أسابيع من بدء
تطبيق خطة (تينيت) .
كانت مطالب السلطة أن يكون هناك تدخل دولي، فاستعملت أمريكا حق
النقض (الفيتو) ، ثم رتبت مؤتمر قمة شرم الشيخ بالتواطؤ مع إسرائيل والاتحاد
الأوروبي وأطراف أخرى لإنهاء الانتفاضة، وضغط على عرفات جماعياً، وعند
نهاية الاجتماع كان سقف المطلب المطروح فلسطينياً قد هبط من مستوى
«قوة مراقبة دولية» الى مستوى «لجنة دولية للتحقيق» ليستقر أخيراً إلى «لجنة
دولية لتقصي الحقائق» . وما أن غادر الزعماء شرم الشيخ حتى فاجأ كلينتون
العالم بانفراد واشنطن بتشكيل «لجنة تقصي الحقائق الدولية» ومن هنا
جاءت لجنة السناتور الأمريكي جورج ميتشل لجنة أمريكية تنتهي
مرجعيتها إلى الرئيس الأمريكي لا غير [18] . والسلطة الفلسطينية وافقت على
تقرير ميتشل وهي تعلم يقيناً هزاله، وكيف أنه قزَّم القضية حتى عما تريده السلطة
من أفق دولي وصراع ضخم في المنطقة إلى مجرد ملف تابع للمخابرات
الأمريكية التابعة لليهود!
أما تقرير ميتشل ومساواة الضحية بالجزار ولم يسجل التقرير أية إدانة
لإسرائيل على أنها دولة محتلة، كما أنه يسعى إلى وضع نهاية للانتفاضة والمقاومة.
وبعد ذلك جاء مدير المخابرات الأمريكية للنزول درجة أخرى ولقمع الانتفاضة
ميدانياً تمهيداً للبدء في ورقة ميتشل ... وأمريكا هي السيف والحكم. ويعود باول
وزير الخارجية الأمريكية مرة أخرى - وهو لم ينقطع باتصالاته وتحركاته منذ
زيارته الأولى - ليطالب عرفات بإلقاء القبض على العناصر التي يمكن أن تقوم
بتنفيذ هجمات مسلحة على اليهود، وطالب عرفات بأن يقرن الأقوال بالأفعال [19] .
دور عرفات والسلطة:
لقد أجرمت السلطة في حق قضية فلسطين بما لو كتب فيه مجلدات لكان قليلاً،
وكان من أبرز ما ارتكبته الإبعاد المتعمد للطابع الإسلامي للقضية.. والسير في
مسيرة تنازلات للأعداء بما لا نهاية مما لا يقبله أي حريص على وطنيته فضلاً عن
دينه.
صورة قبيحة كالحة يمثلها عرفات الذي يراهن على أعداء الله من اليهود
والنصارى، مراهنة على سراب بيريز الداهية، وعلى الدور الأمريكي الحاقد..
فهل هناك أعجب من هذا؟ ! وإلى متى يصر عرفات على المراهنة على الدور
الأمريكي الحيادي (!) ؟ وهل بقي شيء لدى الحكومة الأمريكية لم تفعله في
عداوتنا؟ هل يوجد مثلاً قرار صوتت فيه أمريكا لمصلحة حق المسلمين على
حساب باطل اليهود منذ نشأة هيئة الأمم المتحدة؟
قام شارون بزيارة واشنطن مرة أخرى لينسق مع الإدارة الأمريكية سبل
القضاء على الانتفاضة والإسلاميين؛ بينما ترفض هذه الإدارة محاورة السلطة أو
استقبال عرفات، وعرفات لا زال يراهن بصورة غريبة على الدور الأمريكي ...
ثم ها هو بوش في استقباله لشارون يثني على صبره (! !) في التعامل مع
الفلسطينيين [20] ! وترفض الإدارة فكرة محاكمة شارون باعتباره مجرم حرب؛
لأنه زعيم منتخب بطريقة حرة لدولة ديمقراطية (! !) . وتشير مصادر البيت
الأبيض إلى أن محادثاتهما كانت (منفتحة وجدية) وأن الجو كان (دافئاً) واتسم
بـ (الصداقة) لأن الرجلين (يكنان الإعجاب أحدهما بالآخر) [21] ، ولا ندري ما
سبب إعجاب (بوش) بالسفاح (شارون) ؟ غير أننا نتعجب من عرفات الذي لم
يَصْحُ بعدُ أمام هذه الوقاحات الأمريكية واللكمات التي تكيلها الإدارة في واشنطن
للعرب صباح مساء وتقلب الحق باطلاً والباطل حقاً!
ونحن هنا ذكرنا مثالاً على موقف عرفات في مسلسل التنازلات وهو قبوله
بخطة (تينيت) والتي سارت الجماهير الحاشدة من الشعب الفلسطيني بفصائله
المختلفة معترضة عليها. إنها صورة جديدة للسير في مؤامرة تحاك للقضاء على
الانتفاضة والتراجع عن كل المكتسبات والتضحية بدماء الشهداء وآلام الأطفال
والعجائز، أبعد هذه المسيرة الهائلة من التضحيات يصل الأمر إلى تضيع كل ذلك
في سبيل مكاسب تافهة للسلطة والرجوع إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل شهور؟ !
لقد أصبح الآن الطموح هو تطبيق بنود تقرير ميتشل فقط.. إنها صورة مكرورة
لمسلسل التنازلات التي مشت فيها قيادات المنظمة العلمانية منذ سنوات طويلة.
فمتى يستيقظ الغافلون الذين يحسنون الظن بهذه السلطة؟ ونحن لا نتخيل أن
عرفات سيتعظ ويرجع، كما أن من ورائه طائفة منتفعة لا يهمها شيء إلا مصالحها
الآنية ولا يرجى أن تسعى لمصالح الشعب الفلسطيني. هذه الطائفة مارست كل
صور الموالاة والمداهنة الخطيرة للكفار مثل طاعتهم في حرب دين الله والمتدينين،
والتآمر مع الكفار على مصالح الأمة والسير في تنفيذ مخططاتهم، وبعضهم تكشف
الكثير عن علاقاته بالموساد.
ونقول لإخواننا في الأرض المباركة: إن هذه التحركات والمؤامرات بشرى
خير، لقد أخفتم أعداء الله وأرعبتموهم على مسيرة شهر وشهرين.. فهي معركة
إسلامية صادقة إن شاء الله.. ليست من أجل أرض أو تراب بل من أجل دين الله
وبيته المقدس.. إنها معركة الإيمان في مواجهة الباطل وأعداء الله، بل أشد أعداء
الله اليهود وأعوانهم.
ماذا سيحدث لو أن المعركة تطورت قليلاً أو كان هناك جيش مسلم ولو
صغيراً في مواجهة هؤلاء الجبناء؟
وختاماً: فإنها دعوة لكل مسلم حتى يساهم في تفويت مخططات الأعداء،
ويساهم في نصرة إخوانه المظلومين، ويساهم في النكاية في العدو ... فإن هناك
طرقاً عدة لهذه الأهداف ومنها تفعيل عقيدة الولاء والبراء ومن مفرداتها سلاح
المقاطعة.
__________
(1) مجلة تايم الأمريكية، ترجمة سليمان عوض، صحيفة البيان الإماراتية، 30/10/1998م.
(2) صحيفة البيان الإماراتية 15/6/2001م، الملف السياسي.
(3) مجلة البيان العدد: 160، ذو الحجة 1421هـ.
(4) إحدى الشركات الإسرائيلية أصبحت تبيع خرائط خاصة للمستوطنين الذين يتنقلون عبر أراضي الضفة الغربية وغزة تسمى: «خريطة الحياة» ، حيث قتل أكثر من 30 مستوطناً أثناء سيرهم على الطرق منذ بدء الانتفاضة (بي بي سي 27/6/2001 م) .
(5) جاء في صحيفة معاريف في 23/5/2001م بقلم جولد شنانيني: نحن محبطون جداً لأننا انجررنا وراء العديد من الأوهام، وغاضبون لأن القادة المتسرعين وعدونا ثانية وثالثة بإنهاء عهد الحروب وأن إسرائيل ستقوم على أرضها بأمان، وأن ليس ثمة خطر خارجي يهددها؛ وبدا ذلك وهماً عابثاً، وأمنية لم يكن لها أساس في الواقع.
(6) انظر تقرير تينيت أمام الكونجرس عن تهديدات عام 2001، موقع وزارة الخارجية الأمريكية باللغة العربية على الإنترنت. http://usinfo.state.gov/arabic
(7) بي بي سي 5/6/2001م.
(8) بي بي سي 12/6/2001م.
(9) ذكر ذلك بعض الصحف العربية، وإذاعة العدو اليهودي يوم الأربعاء 13/6/2001م.
(10) أفرجت السلطة عنه عندما نجا من محاولة اغتياله إثر قيام طائراتF16 الصهيونية بقصف سجن جنيد في نابلس حيث كان معتقلاً.
(11) جيروزاليم بوست 14/6/2001م.
(12) صحيفة القدس العربي اللندنية 14/6/2001م.
(13) موقع بي بي سي على الإنترنت 14/6/2001م بتصرف يسير.
(14) موقع إسلام أون لاين بتاريخ 16/6/2001 م.
(15) موقع بي بي سي على الإنترنت 5/6/2001 م.
(16) صحيفة السبيل الأردنية العدد 388، وكلام الدكتور - حفظه الله - بخصوص السلطة ربما كان سياسياً فقط، فهو أول من اكتوى بنار السلطة ويعرف أنها لا تمانع في سجن كل أعضاء حماس وغيرهم إذا اقتضت مصالحها ذلك.
(17) بي بي سي 7/6/2001 م.
(18) صحيفة البيان الإماراتية، 13/6/2001م.
(19) وكالة الأنباء الفرنسية، 5/6/2001م.
(20) الوكالات في 27/6/2001 م.
(21) صحيفة الحياة 28/6/2001م.(165/80)
المسلمون والعالم
الطالبان بين تطبيق الشريعة وبناء أفغانستان
د. سامي محمد صالح الدلال
طالبان والتمكين:
من رَحِمِ المدارس الشرعية في قندهار، وبفتوى من علماء «منطقة مايوان»
خرجت طالبان يوم الجمعة 15 محرم 1415هـ الموافق 24/6/1994م إلى
ساحة الصراع التغييري، وكانت نواتها بضعة عشر طالباً شرعياً يقودهم الملا
محمد عمر، ثم التحق بهم كثير من الطلاب الذين تخرجوا من الجامعة الحقانية في
بيشاور الباكستانية. وفي جمع غفير ضم 1500 من علماء أفغانستان تم اختيار
زعيم حركة الطالبان ومؤسسها الملا محمد عمر أميراً للمؤمنين، وشرعت حركة
طالبان تفتتح الولايات الأفغانية الواحدة تلو الأخرى مبتدئة بولاية روزجان بجيش
قوامه 313 رجلاً، اتسع فيما بعد شيئاً فشيئاً، ولا زالت على ذلك حتى استولت
على معظم الولايات، فانهزمت أمامها كافة الفصائل والأحزاب التي كانت قد
تصارعت فيما بينها منذ اندحار الروس عام 1989م وهزيمتهم، وقد أتمت حركة
الطالبان ليومنا هذا الاستيلاء على حوالي 95% من مجمل الأراضي الأفغانية، ولا
تزال المعارضة بقيادة أحمد شاه مسعود تسيطر على أجزاء من المنطقة الشمالية
تشكل مساحتها حوالي 5% من أفغانستان.
وقد أعلنت حركة طالبان أنها ستطبق الشريعة الإسلامية في كافة الأراضي
التي تحت سيطرتها متخذة من كابل العاصمة التي استولت عليها في 27/9/1996م
قاعدة لحركتها السياسية، ومن قندهار مقر أمير المؤمنين قاعدة لحركتها التشريعية
والتنظيمية؛ حيث تشمل الدائرة التشريعية «مجلس شورى العلماء» الذي يضم
سبعة علماء مهمتهم الإفتاء في القضايا الشرعية، وتشمل الدائرة التنظيمية «مجلس
شورى الوزراء» الذي يضطلع بالجوانب العملية التي تتعلق بدورالطالبان في
تطبيق الشريعة الإسلامية والنهوض بأعباء الخدمات من خلال إعادة بناء البنية
التحتية التي دمرها الروس عن بكرة أبيها، وزاد طينتها بلة الصراع بين الأحزاب
حتى اتسع الخرق على الراقع.
أما حركة الجيوش الطالبانية على مختلف الجبهات القتالية فإنها تلقى اهتماماً
كبيراً لدى أمير طالبان حيث يضطلع بنفسه بكافة شؤونها واحتياجاتها وتحركاتها
على مدار الساعة. غير أنه بات من المعروف أن المناوشات العسكرية في أطراف
الشريط الشمالي لم يعد لها أي أثر على سير الحياة الطبيعية في سائر الأراضي
الأفغانية.
أهداف طالبان:
لم تكن طالبان قبل عام 1994م شيئاً مذكوراً، بل كان المذكور على الألسنة
وأجهزة الإعلام هو ما يدور من صراع مسلح تستخدم فيه كافة أصناف الأسلحة بين
فصائل كثيرة من أبرزها:
* الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني ومسؤوله العسكري أحمد شاه
مسعود.
* الحزب الإسلامي بقيادة حكمت يار.
* حزب الاتحاد الإسلامي بقيادة عبد رب الرسول سياف.
* حزب الوحدة الشيعي بقيادة عبد العلي مزاري.
* حزب النهضة القومية بقيادة عبد الرشيد دوستم.
وجماعات أخرى صغيرة، وكان «الكل ضد الكل» مما أدى إلى إشاعة
الخوف والرعب في مجمل الأراضي الأفغانية، وقد استغل ذلك ضعاف النفوس
فراحوا يفرضون الضرائب والإتاوات على جميع الناس، وانتشرت الدوريات
تجوب الشوارع الداخلية والخارجية تجمع المكوس بالقوة من المارين بسياراتهم،
وصار لكل فصيل من تلك الأحزاب جباة يمارسون هذا النوع من «ألمافيا» ،
فشاعت الجرائم بشتى أنواعها، وخاف الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم
وممتلكاتهم؛ فبقي من بقي وهاجر من هاجر، وتفاقمت الأزمة، وتوسعت
المخيمات، وازدادت الآلام، وتلاشت الآمال، وقد استمر هذا الحال عدة سنوات،
وأصاب الناس اليأس من الانفراج؛ إذ لم يكن ثمة بصيص ضوء في الأفق، ولا
قبس أمل في الصدور، بل ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وليل بهيم شديد
السواد يخيم على أفغانستان، ينوء بكلكله على صدور أبناء ذلك البلد المسلم الذي
أنهكته الحرب وقضمته بأنيابها الحادة، فبات كمضغة تلوكها ألسن الحاقدين، أو
كرة تتقاذفها أرجل المجرمين.
وعلى حين غرة، وبغير تخطيط من أحد من البشر، جاء الفرج من الله
تعالى، فبرزت الطالبان على سطح الأحداث بأفراد قياديين قلائل، وأعداد عسكرية
ضئيلة لتقول لجميع هؤلاء: كُفُّوا أيديكم وانسحبوا من الميدان، وأفسحوا المدن
والميادين والطرق والساحات، سلماً أو حرباً، ففعلوا راغمين صاغرين.
وفي زمن قياسي سادت الطالبان أراضي أفغانستان كلها تقريباً (ما عدا
الشريط الشمالي الذي نوهنا عنه) معلنة أهدافها الآتية:
1 - تحقيق السيادة الشاملة على أراضي أفغانستان لطالبان.
2 - تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً شمولياً.
3 - نشر الأمن والطمأنينة في جميع ربوع البلاد الأفغانية.
4 - الاضطلاع بالمهام الدعوية لإعادة التأهيل الجماهيري إسلامياً.
5 - إعادة بناء وتشييد البنية التحتية في كافة المرافق في جميع أصقاع البلاد
الأفغانية.
6 - أن تتبوأ أفغانستان مكانتها اللائقة بها في منظومة العالم الإسلامي
والساحة الدولية.
أَخْرَجُوا أضغانهم:
لقد بذلت دول الكفر قاطبة، ومن ورائها طوائف الحاقدين على الإسلام
والمسلمين من منافقين وعلمانيين ومبشرين، من يهود ونصارى وشيوعيين
ووثنيين، وغيرهم من أصناف المفسدين بذل هؤلاء كلهم جميع إمكاناتهم
ووظفوا جل طاقاتهم، وأنفقوا خزائن أموالهم، وأحكموا أمكر خططهم، وشحذوا
عزائم هممهم ليُبقوا أُوار صراع الأحزاب في أفغانستان مشتعلاً، ولهيب المعارك
ملتهباً، ليأكل المسلمون في ذلك البلد المنكوب بعضهم بعضاً، فلا تقوم لهم بعد
ذلك قائمة، فتتعاظم المجاعات، وتتتالى المناحات، وتخيم الأحزان، وتهجر
الأوطان.
هكذا أرادوا أفغانستان أن تكون، هكذا فقط أو لا تكون! ! غير أن الله -
تعالى - أراد بفضله ومنّه وكرمه أن يفسد على هؤلاء آمالهم ويبطل مكرهم
ومكائدهم، ويكرم دماء الشهداء الذين روَّوْا بها البلاد وخضبوا بها أعالي الجبال
وامتدادات الوهاد، فأخرج لهم هؤلاء الطلبة الذين لم يكن أحد يحسب لهم أي حساب،
فقالوا للجميع: أتيناكم بكتاب الله، وجئناكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
فأقلِعوا عما أنتم عليه من الفساد والإفساد، فما أن تفوَّهوا بهذا الكلام، واستعلنوا
به بين الزحام، حتى فض الله - تعالى - الناس عن أولئك الأحزاب وجمع قلوبهم
على هؤلاء الطلبة الكرام فاتبعوهم من كل الأصقاع، وبادروهم بالطاعة والاحترام،
فخضعت لهم في أفغانستان الأرض، فأمن الناس على النفس والمال والعرض.
فما أن حصل ذلك حتى هاج أعداء الله - تعالى - في كل قطر وبلد وماجوا،
فأخرجوا أضغانهم، وسددوا سهامهم، لعلهم يصيبون الطالبان في مقتل، أو
يقزمونهم على الأقل، فابتدؤوهم بتوجيه التهم الآتية:
1 - الخروج بأفغانستان من نور الحضارة الباهر إلى ظلام الشريعة الغامر
بزعمهم.
2 - منع المرأة من التعلم والتعليم وإغلاق أبواب البيوت عليها للحيلولة دون
خروجها إلى المدارس والجامعات.
3 - منع المرأة من العمل أو ممارسة المهن.
4 - فرض الحجاب على المرأة.
5 - منع تعاطي الخمور في كل أفغانستان.
6 - منع الموسيقى والغناء على المسارح أو الأفناء.
7 - إيواء الإرهابيين وتدريب جموع المجاهدين.
8 - استزراع المخدرات ثم تصديرها لمختلف الجهات.
9 - عدم الخضوع للقوانين الأممية والأعراف الدولية.
10 - الوقوف مع القضايا الإسلامية وخاصة انتفاضة الأقصى الفلسطينية.
وهذه التهم، كما تلاحظ - أخي القارئ - قد خلطوا فيها الحق بالباطل،
وتلاعبوا فيها بالألفاظ بين مُحْجم وصائل؛ فمعظم التهم المذكورة ليس لأي منها
أساس من الصحة، بل هي كذب محض وافتراء رخيص، وكثير منها إنما هو
إكليل غار على جبين الطالبان يشع بالأنوار! !
أما الجهات التي وقفت وراء تلك التهم فهي:
- الولايات المتحدة الأمريكية.
- الاتحاد الأوروبي.
- روسيا الاتحادية.
- الجمهوريات الإسلامية التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
- الهند.
- الكيان اليهودي في فلسطين.
- معظم دول المنظومة الإسلامية.
- الأمم المتحدة.
- العلمانيون في جميع البلدان، وذلك من خلال الصحافة والمجلات والكتاب
والإذاعة والتلفزيون والإنترنت والفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام والتأثير.
وبعد مرور حوالي خمس سنوات على حكم الطالبان لأفغانستان لم تعترف بها
سوى ثلاث دول هي باكستان، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية
المتحدة.
لقد اجتمعت توجهات تلك الجهات التي ذكرناها على إسقاط حكم الطالبان مهما
بلغ الثمن، ومهما تفاقمت بين شعب أفغانستان المحن ونزلت به الإحن.
فأبرزوا أحقادهم، واستتروا بمظلة الأمم المتحدة، فأعلنوا الحصار الشامل
الكامل على أفغانستان الطالبان، وضربوا عليها أسوار التكبيل والتنكيل براً وجواً،
ليقتلوا الشعب الأفغاني جوعاً وقهراً، ثم يقولوا بعد ذلك: قتلته وقهرته الطالبان! !
وأما في الداخل فقد بثوا جماعاتهم التنصيرية تجوب مجمل الأراضي الأفغانية
بحجة إنقاذ الشعب الأفغاني الذي أحكموا تجويعه وترويعه ثم جاؤوا له منقذين،
كالثعلب في لباس الصالحين.
وقد بلغت أعداد المنظمات التنصيرية العاملة حالياً في أفغانستان والتي ورثت
الطالبان وجودها من العهود السابقة حوالي مائتين وأربعين منظمة، منها ستة
وخمسون منظمة تعمل في حقل التعليم فقط، هاكم أسماؤها:
1- AFRANCE (Amite France - Afghan Aide Numanitareted information) .
2- AG-TTP (Afghan - German Techincal Training programme) .
3- AICF (Action Interantional control firm) .
4- AMI-A (Alde Medical Interntional- Afghanistan) .
5- ANH (Afghanistan Nothilfe) .
6- ARC (Austrian Relief Committee) .
7- AVICEN (Afghanistan - vaccination and Immunization Centre) .
8- BAT (British Afghanistan Trust for education and development) .
9- BEFARe (Basic Education for Afghan Refugees) .
10- CARITAS (CARITIAS - Afghan Refugee Programme) *.
11- CAWC (Central Afghanistan Welfare Committee) .
12- CHA (Coordination of Humanitarian Assistance) .
13- CI (Care International) *.
14- DACAAR (Danish Committee for Afghan Refugee) .
15- DS (Darus Salam) .
16- ECAR (Eye clinic for Afghan Refugee) *.
17- ERU (Emergency rellief Unit) .
18- GAF (German Afghanistan Foundation) .
19- GP (Global Partners) (UK) .
20- HAF (Help the Afghans Foundation) .
21- HCI (Human concern International) .
22- HG (Help Germany) .
23- HI (Handicap International) .
24- HT (Halo Trust) *.
25- IAM (International Assistance Mission) *.
26- IFRCS (International Federation of Red Cross and Red Crescent Societies) .
27- IMC (International Medical Corps) *.
28- IOC (International Orphans Care) .
29- IRC (Interantional Rescue Committee) .
30- JAMS (Japan Afghan Medical Service) .
31- JIFF (Japanese International Welfare Foundation) .
32- JWMM (Jacobs Well Medical Mission) .
33- LRO (Lifeline and Relief Organization) .
34- MADERA.
35- MCI (Mercy Corps International) .
36- MDM (Medicines Du Monde) .
37- MERLIN (Medical Emergency Relief International) *.
38- MRCA (Medical Refresher Courses For Afghan) .
39- NAC (Norwegian Afghan Committee) *.
40- NCA/NRC (Norwegian Church Aid/ Norwegian Refugee Council) *.
41- NPO (Norwegian Porject Office) .
42- ORA (Orphans Regugees and Aid International) *.
43- OV (Ockenden Venture) .
44- OXFAM.
45- PSF (Pharmaciens sans Frontieres) .
46- RBS (Radda Barnen) .
47- SAA (Swiss Aid for Afghanistan) .
48- SC-Us (Save the chicldred - USA) .
49- SCA (Swedish Committee for Afghan istan) .
50- SCF-UK (Save the children Fund - UK) .
51- SERVE (Serving Emergency Relief And Vocational Enterprises) .
52- SGAA (Sandy Galls Afghanistan Appeal) .
53- SNI (Shelter Now Internatinal) *.
54- TDH (TERRE DES HOMMES) .
55- TODAI (a Japanese Christian Organization) *.
ملاحظة: العلامة (*) تعني أن المنظمة المذكورة تعمل في حقل التنصير
إضافة إلى حقل التعليم.
وقد أوردت صحيفة «فرينتير بوست» الصادرة في بيشاور باللغة الإنجليزية
في عددها الصادر في 10 ديسمبر 1997م أن منظمة «NGO Men» قد نجحت
في تنصير «مائة ألف» أفغاني خلال سبعة الأعوام الماضية (أي منذ عام 1990
م وحتى عام 1997م) .
إن هذه المنظمات لها أهداف كثيرة منها:
1 - بذل الجهد لبث عقائد النصارى بين أفراد الشعب الأفغاني.
2 - تطعيم التعليم بما هو مناف للعقيدة الإسلامية.
3 - تشكيك الطلبة، بل والشعب كله، بصلاحية الشريعة الإسلامية للحكم أو
التحاكم.
4 - التجسس على الطالبان.
5 - معرفة أفغانستان عن كثب لوضع الخطط لإدامة الكيد لها.
6 - إقناع الشعب الأفغاني بأن سعادته مرتبطة بأمريكا والغرب.
7 - أن الكوارث التي حلت بالشعب الأفغاني إنما سببها تطلعه للاحتكام
للإسلام.
8 - أن الحصار المضروب على أفغانستان سببه الطالبان.
9 - تفريغ أفغانستان من الكفاءات العلمية والمهنية؛ وذلك بإغرائهم برواتب
عالية ومجزية ليتركوا البلاد ويعملوا في الخارج.
10 - ربط مشاعر المساكين من المهاجرين والمشردين، القاطنين في
المخيمات أو المعسكرات، بالنصارى الغربيين الذين يسهرون على راحتهم ويقدمون
لهم الطعام ولأولادهم الهدايا، وينثرون بين أيديهم الدواء والعلاج، ولسان مقالهم
وحالهم: ها نحن الذين ننقذكم، فأين منكم المسلمون؟ ! ! وأين هم من معاناتكم
وسوء أحوالكم؟ ! !
وخلاصة القول أن أهداف التهم الموجهة للطالبان هي:
1 - الحيلولة دون قيام دولة إسلامية في أفغانستان تحتكم إلى الكتاب، والسنة.
2 - ادعاء مسوِّغات لإبقاء الحصار على أفغانستان.
3 - إشغال الطالبان عن خوض معركة البناء بإبقاء حالة الصراع مستمرة مع
أحمد شاه مسعود ودوستم ومن في فلكهما.
4 - بذل الجهد الدولي والعالمي لإسقاط الطالبان.
5 - إرجاع الحكم في أفغانستان إلى مظلة العلمانية.
6 - استخدام أفغانستان بعد ذلك رأس جسر لتحقيق المصالح الأمريكية
والغربية في منطقة آسيا الوسطى.
لكن هل حققت هذه التهم وتلك التوجهات أهدافها وفعلت في طالبان أفاعيلها؟ !
الجواب: لا، وسنتبين ذلك من خلال السطور القادمة.
لماذا يخافون من طالبان:
إن القوى الدولية المعادية للإسلام والمسلمين قد بذلت الغالي والنفيس للحيلولة
دون قيام دولة إسلامية حقة تحتكم شمولياً إلى الدين القويم، غير أن طالبان قد
صمدت لتلك الجهود، وأسست دولتها على الكتاب والسنة مجتهدة في تحقيق ذلك ما
وسعها الاجتهاد، ومن أبرز ما يذكر لها بهذا الصدد:
1 - إحياء مؤسسة الشورى بدل الديمقراطية.
2 - إرساء التعامل الداخلي والخارجي على قاعدة الولاء والبراء.
3 - إبطال المحاكم المدنية وإحلال المحاكم الشرعية بدلاً منها.
4 - إقامة الحدود الشرعية.
5 - فرض الحجاب ومنع الاختلاط.
6 - إبطال البنوك والتعاملات الربوية بكافة صورها، وافتتاح البنوك
الإسلامية.
7 - منح المرأة حقوقها الشرعية في كافة المرافق التعليمية والصحية والمالية
وغيرها على وفق ما أقره الإسلام لها وشرعه.
8 - السعي لتأمين فرص العمل والقضاء على البطالة (وقد قطعت الإمارة
الإسلامية الأفغانية شوطاً واسعاً في هذا المجال) .
9 - فرض الأمن واحترام هيبة الدولة.
10 - الاستمرار في مقاتلة البغاة والمرتدين دون هوادة.
11 - تقديم الخدمات الضرورية والحاجية بل وأحياناً التحسينية لكافة
الولايات الأفغانية.
12 - إيجاد مجتمع إسلامي نظيف من الموبقات، تتقاصر فيه المعاصي
والسيئات، وتتعاظم فيه المحاسن والصالحات.
وقد تم بعض ذلك من خلال القضاء على الخمور والخمارات، ومنع زراعة
الخشخاش وأنواع المخدرات، ومنع ألوان الفنون التي يؤديها الخاسرون
والخاسرات، سواء منها ما كان بآلات الطرب أو مختلف الأدوات، فانحسر سوق
المغنيين والمغنيات والراقصين والراقصات، ومن سار على دربهم أو سلك طريقهم
من المفسدين والمفسدات، فما أجمل أن تتجول في مدن الأفغان وقد خلت من ألوان
المعاصي، فلا ترى امرأة إلا وقد تحجبت، ولا رجلاً إلا وقد أرخى لحيته! وتلمح
في أعين الناس قرار الطمأنينة، وفي وجوههم انبساطة الأمن والأمان، فتفرغوا
إلى أعمالهم ونهضوا بشؤونهم، بعد أن كانوا أعداء متخاصمين، وألدَّاء متناكرين.
وصدق فيهم قول الله - تعالى -: [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ] (الأنفال: 63) .
فعمرت المساجد بالمصلين رغم انكفاء بنيانها بقذائف المتربصين، وافتتحت
الأسواق واكتظت الشوارع بالساعين على أعمالهم وبأصناف السيارات ووسائط
النقل وخاصة «التاكسيات» ، ونشطت حركة التبادل التجاري بين كافة المدن
الأفغانية عبر الشاحنات، رغم ما حل في الطرق التي كانت معبدة من تدمير
وإتلاف بواسطة قذائف وصواريخ الروس ودباباتهم ومدرعاتهم المجنزرة.
فلهذه الأسباب التي ذكرتها ولغيرها التف الشعب الأفغاني بكافة قبائله وأعراقه
حول الطالبان سامعين طائعين. واللافت للنظر أن هذا الالتفاف قد أدى إلى تقليص
شديد في دوريات الأمن، حيث يمتثل كافة الناس إلى أوامر أمير المؤمنين حباً
وهيبة، وإذا كان منع التجول في أية دولة لا يتم إلا من خلال بث الدبابات
والمدرعات وكافة ألوية الجيش والشرطة للسيطرة على الشوارع العامة والحارات
فإن شيئاً من ذلك لا وجود له في أفغانستان؛ حيث إن الشعب يمتثل أمر أمير
المؤمنين بالامتناع من التجول ابتداء من العاشرة مساءً إلى الخامسة صباحاً دون
حاجة حتى إلى وضع دورية واحدة في شارع رئيسي، فضلاً عن أي حارة داخلية،
حتى المنافقين كف الله أيديهم بالهيبة الإسلامية والخوف من العقوبة الشرعية.
وحقاً؛ إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
الطالبان تخوض معركة إعادة الإعمار والبناء والتنمية:
أينما حللت، وفي أية ولاية من ولايات أفغانستان نزلت، فإنك سترى مندهشاً
كيف أن الروس قد أحالوا مدناً وقرى إلى أطلال مهشمة، لا تنعق فيها غربان، ولا
تجري بين جدرانها المهدمة جرذان، لعدم وجود أي شيء يستبقي لها ولو حتى
رمق الحياة، لقد أحالوا الأخضر يابساً، والشاهق قاعاً صفصفاً، والمعامل حديد
خردة، وحولوا الطرق المعبدة إلى أكوام من الصخور وبقايا قار، وأمعنوا في
التدمير ونشر الخراب، فتوقفت المصانع، وتهشمت السدود وانطفأت الكهرباء،
واندثرت المشاريع، ويبست الأشجار وتلفت المزارع والزروع وأرهقها الجفاف
والذبول ونشفت العروق الخضراء في الحقول، وانهالت القذائف والصواريخ على
السكان الآمنين من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء الذين هم في بيوتهم قاطنون،
فأحالتهم إلى أشلاء متناثرة، وإلى عظام وأعضاء في جميع الأصقاع الأفغانية
مبعثرة، فكثرت في المدن والقرى المدافن، واكتظت القبور بالشهداء من قتلى
المعارك والأسارى والرهائن، وإذا ما قمت بجولة في أية مدينة أفغانية فيا هول ما
سوف ترى من أعداد المقابر التي ترتفع على شواهدها الأعلام الخضراء التي ترمز
إلى أن المدفون هنا شهيد إن شاء الله - تعالى -.
ثم جاء بعد الروس دوستم ومن معه فحذوا حذوهم، وساروا في التخريب
والتدمير على نهجهم. هذه هي الصورة المؤلمة البائسة التي أخذت طالبان على
عاتقها إعادة رسمها لتكون مشرقة وأغصانها مورقة.
إن معركة إعادة البناء والتعمير لا تقل أهمية عن معركة الجهاد والتحرير،
وإن الفعالية الإسلامية لن تكون مكتملة إلا إذا تحاذت القذتان وتوازنت الكفتان.
لقد ورثت الطالبان إرثاً صعباً مدمراً مهشماً، وأخذت على عاتقها إنجاز
المهمة مع ما يرافقها من تحد وعنت واقتحام.
إن ألوان إعادة التشييد كثيرة جداً، نذكر منها ما يلي:
1 - بناء السدود الجديدة، وترميم السدود القديمة وإصلاح السدود المدمرة.
2 - توفير المياه لري مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي الصالحة
للزراعة.
3 - شق القنوات الطويلة لإيصال مياه الشرب والزراعة إلى كافة الولايات.
4 - تشييد محطات كهرباء جديدة وإصلاح المحطات المعطبة وترميم وإعادة
صيانة المحطات المعطلة.
5 - مد شبكات الكهرباء الرئيسية والفرعية لإيصال الكهرباء للمستهلكين
والمصانع ومضخات المياه في البساتين والحقول.
6 - إعادة بناء المدارس والمعاهد والجامعات التي طالها التدمير والخراب.
7 - إعادة تعبيد آلاف الكيلومترات من الطرق.
8 - مد شبكات الهاتف العادي، وتشييد مقاسم شبكات الهواتف المتنقلة.
9 - إعادة بناء وتعمير كافة الأبنية والمرافق الحكومية.
10 - بناء معامل تكرير النفط.
11 - استخراج البترول والغاز.
12 - استخراج الحديد والنحاس والذهب والمعادن المختلفة، حيث تعد
أفغانستان من أغنى دول العالم بهذه المعادن.
13 - بناء معامل قطاع الخدمات بكافة أصنافها وأنواعها وخاصة الخدمات
الغذائية والصحية والتعليمية وغيرها.
14 - إعادة تجهيز الإذاعة الأفغانية بأجهزة البث الحديثة، حيث إن الإذاعة
الأفغانية ضعيفة البث جداً ولا تكاد تغطي مساحة بثها بعض أراضي الإمارة.
كما أن الوسائل الإعلامية الأخرى من صحافة وغيرها بحاجة إلى تحديث
ودعم.
نداء إلى المستثمرين العرب والمسلمين:
أيها المستثمرون العرب والمسلمون، ها قد بينا لكم احتياجات إعادة بناء إمارة
أفغانستان الإسلامية، فإن كان ركب الجهاد بالنفس قد فاتكم، فإن قطار الجهاد
بالمال واقف في محطته في انتظاركم.
إن فرص الاستثمار المربح جداً في أفغانستان أبوابها مفتوحة على مصراعيها
ترحب بكم، ولكم في ذلك بإذن الله - تعالى - مصلحتان:
الأولى: عاجلة بما ستربحونه من أموال وفيرة وكثيرة.
الثانية: آجلة بما سيثيبكم الله - تعالى - على نية إعمار دولة إسلامية في
القرن الخامس عشر الهجري، الحادي والعشرين الميلادي.
وإننا نخشى إن تخلفتم عن هذا الواجب المؤكد أن يلحقكم إثم التخلي عن دعم
إقامة وتشييد صرح الإسلام في بلاد الأفغان، فلا يخفى عليكم أهمية أن تستظل
دولة هامة كأفغانستان بشريعة الإسلام، حيث إن ذلك ستنعكس آثاره إيجابياً على
مجمل الدعوة الإسلامية في آسيا الوسطى، وليست هذه الدراسة المقتضبة محل
تفصيل ذلك. إننا نهيب بالأغنياء والمستثمرين والمؤسسات والشركات أن تتوجه
جموعهم لإعمار أفغانستان، وأن يستغلوا هذه الفرصة المربحة. وإننا لا نذيع سراً
إذا قلنا إن الشركات الصينية واليابانية والألمانية بل والأمريكية أيضاً سبقتكم إلى
تلك الديار وشرعت في أخذ المشاريع المنوعة، وبينما التنافس بينها شديد، فإن
المستثمرين العرب والمسلمين لا يزالون يعيشون تحت وطأة المخدر الأمريكي
والأوروبي الذي يبث الدعاية في كل أنحاء العالم ضد أفغانستان ليستفردوا هم بها
وبمشاريع إعمارها، فقولوا لي بربكم: ما معنى أن تعلن الولايات المتحدة حصارها
لأفغانستان في الوقت الذي تسمح لشركاتها في الاستثمار في أفغانستان؟ ! !
أيها المستثمرون العرب والمسلمون: ماذا يصرفكم عن الاستثمار في
أفغانستان؟ !
إن مقومات الاستثمار هي:
- الأمن بمعناه الشامل.
- وجود المشاريع.
- وجود القوى العاملة.
- وجود أدوات البناء والإعمار.
- وجود البنوك وإمكانية التعامل بالعملة الصعبة.
إن جميع هذه المقومات متوافرة الآن في أفغانستان بضمانات كاملة وشاملة من
الحكومة الأفغانية، ولولا ذلك لما ذهبت الشركات الأجنبية إلى تلك البلاد
واستثمرت أموالها في إعمارها، وإن المناوشات الحدودية هي سمة كثير من البلدان،
فأوروبا أمنها مهدد انطلاقاً من البلقان، والشرق الأوسط أمنه مهدد انطلاقاً من
الدولة المسخ اليهودية، والخليج أمنه مهدد من حاكم بغداد، وباكستان أمنها مهدد
انطلاقاً من كشمير، وسيرلانكا أمنها مهدد انطلاقاً من التاميل، وإندونيسيا أمنها
مهدد انطلاقاً من تزعزع وضعها السياسي، وهكذا، ومع كل تلك التهديدات فلم يقل
أحد بعدم التعامل مع تلك البلدان بسبب عدم استتباب الأمن، إلا أفغانستان فإنهم
يصدون الناس عنها بهذه الحجة الواهية! !
وقد علمنا أنه قد تشكلت في العاصمة الأفغانية كابل ما أطلق عليها
«المجموعة الإسلامية لإعادة إعمار أفغانستان» حيث إن هذه المجموعة على
صلة مباشرة مع الحكومة الأفغانية، ومهمتها أن تأخذ على عاتقها تنفيذ
المشاريع الإعمارية في كافة الولايات الأفغانية، سواء بصفتها كمباشر في التنفيذ أو
كوسيط في ذلك بين المستثمرين والحكومة الأفغانية.
وقد نمى إلى علمنا أن هذه المجموعة تضم بين أعضائها كفاءات مهنية عالية،
وأنها مؤهلة أيضاً للقيام بالدراسات الميدانية وإعداد التقارير الفنية لأي مشروع
مهما كان نوعه أو حجمه.
إن المؤسسات النصرانية التبشيرية التي ذكرناها تضطلع حالياً بالقيام بأدوار
هامة في خدمة الشعب الأفغاني مقابل استلابه دينه، وإنها لن تخرج من ذلك البلد
إلا إذا أديتم واجبكم، وقدمتم نفس تلك الخدمات أو أفضل منها لتسحبوا البساط من
تحت أقدامها، فتلملم أمتعتها وترحل إلى غير رجعة بإذن الله - تعالى -.
نداء إلى جمعيات ولجان الأعمال الخيرية والتطوعية:
إننا أيضاً نوجه نداءنا إلى جميعات ولجان العمل الخيري والتطوعي كي تقف
مع الطالبان في معركة البناء كما وقفت مع الأفغان في معركة الجهاد، وإن هذا
الوقوف مأجور عند الله - تعالى - محمود عند عباده الصالحين، إن اللجان الخيرية
تستطيع القيام بتمويل كثير من المشاريع التنموية والإعمارية في أفغانستان في كافة
المجالات، مثل:
* الزراعة وذلك بتمويل استصلاح الأراضي الزراعية.
* الري وذلك بتمويل مشاريع شق القنوات وإقامة السدود.
* الصناعة وذلك بتمويل إعادة تشغيل المصانع المتوقفة، وبناء مصانع
جديدة.
* الكهرباء وذلك بتمويل إعادة تشغيل بعض المحطات الكهربائية المتوقفة،
وبناء محطات جديدة ومد خطوط القدرة وشبكات التوزيع في مختلف المناطق
الأفغانية.
* الطرق وذلك بتمويل إعادة ترميم الطرق الرئيسة الموصلة إلى العاصمة
الأفغانية أو شبكة الطرق الرابطة بين مختلف الولايات.
* التعليم وذلك بتمويل إعادة فتح المدارس والمعاهد والجامعات.
* الإعلام وذلك بتمويل تجهيز الإذاعة بالأجهزة الحديثة التي تقوي بثها
وتنهض بمستواها.
فيا أيها القائمون على الجمعيات واللجان الخيرية في مختلف البلاد الإسلامية
هبوا إلى بناء وتشييد وتثبيت مقومات الدولة الإسلامية في بلاد الأفغان، فإن تلك
البلاد ستكون منطلقاً إسلامياً عظيماً تمتد أشعته لتضيئ كثيراً من بلاد المسلمين
والعالم بإذن الله - تعالى -.
نداء إلى العلماء وطلبة العلم والدعاة:
إلى الآن قد لاحظنا:
1 - أن الطالبان تركت منفردة لتواجه دول الكفر والاستكبار.
2 - أن الطالبان تركها معظم المسلمين لتواجه مواقف دولية متعنتة وظالمة
ومتجبرة.
3 - أن الطالبان لم تعترف معظم الحكومات الإسلامية بها رغم أنها هي
الحاكمة في إمارة أفغانستان الإسلامية، وأنها مكتملة الأوضاع الدستورية.
4 - أن الطالبان لم يتحرك أحد من المسلمين لمساعدتها في إعادة تأهيل
الشعب الأفغاني دعوياً.
فأين أنتم يا علماءنا الأجلاء وطلبة العلم النبلاء والدعاة النقباء! !
لسنا نحن من نشير عليكم بما ينبغي أن تقوموا به، فأنتم أهل للاضطلاع
بمسؤولياتكم الشرعية وأداء الأمانة التي قلدها الله - تعالى - رقاب حاملي راية
دعوته والمنافحين عن شريعته ومنهاجه.
غير أننا نود أن نبسط بين أيديكم ما هو عصف ذهني لعله يتفتح عن بعض
الاقتراحات التي نجد أنها جد هامة، أسوقها لكم على النسق التالي:
1 - القيام بزيارات ميدانية متتابعة إلى إمارة أفغانستان الإسلامية، والاطلاع
عن كثب على أوضاعها واحتياجاتها في كافة المرافق، وخاصة التعليم الديني،
مدارسه ومعاهده ومناهجه.
2 - البقاء في أفغانستان لفترات طويلة، سنة أو أكثر، بغية القيام
بالمسؤوليات الدعوية لنشر العقيدة الصحيحة في الربوع الأفغانية ولإبطال البدع،
وبث العلم الشرعي.
ويمكن أن يتم ذلك من خلال التنسيق مع منظمة الوفاء الخيرية العاملة الآن
داخل الأراضي الأفغانية.
3 - توجيه الكتب والرسائل إلى كافة المهتمين في العالم الإسلامي
والتي توضح الضرورة الشرعية لدعم حكومة الطالبان القائمة على تطبيق
الشريعة الإسلامية، والوقوف معها وتأييدها ومناصرتها في كافة المحافل الإقليمية
والدولية.
4 - دعم مجلس شورى العلماء ومجالس الشورى المحلية؛ وذلك بزيادة
أعضاء تلك المجالس من خلال انضمام بعض العلماء العرب إليهم؛ وبغية المشاركة
والمساهمة في ضبط توجيه بوصلة قرارات مجالس الشورى ليكون مؤشرها منطبقاً
على خط مسار ومنحى الصواب المنضبط بالقواعد الشرعية.
5 - كما نتمنى على العلماء وطلبة العلم والدعاة أن تكون لهم صلات مباشرة
مع أمير طالبان الملا محمد عمر، والوزراء، وعلماء أفغانستان، من خلال
الرسائل المتبادلة للاستفادة والتوجيه والنصح.
6 - إن الطالبان لها اهتمامات قوية جداً بعموم مجريات الأحداث في
العالم الإسلامي، وخاصة انتفاضة الأقصى، غير أن العالم لا يسمع شيئاً عن
تلك الاهتمامات وذلك بسبب الصدوع الكثيرة في القدرات الإعلامية لدى
الطالبان والضعف الواضح في إمكاناتها، وهنا يبرز دور العلماء وطلبة العلم
والدعاة في رأب تلك الصدوع، وجبر ذلك الضعف من خلال إيضاح المواقف
الطالبانية إزاء تلك القضايا عبر المنابر الإعلامية المتوفرة في دولهم.
وبعد: فلقد قمنا بجولة ميدانية منوعة عبر الشؤون والشجون الطالبانية،
سائلين المولى القدير العلي الكريم أن يبارك بهذه الجولة ويجعلها سبباً من أسباب
ازدهار دولة الإسلام الطالبانية على الربوع الأفغانية.(165/90)
المسلمون والعالم
انتفاضة الأقصى مكاسب جلبتها وإخفاقات كشفتها
أمير سعيد [*]
مضت مرحلة انتفاضية أولى قلبت فيها طاولة المفاوضات في وجه المتآمرين
على فلسطين، وأسقطت رئيس وزراء إسرائيل أيهود باراك وأرغمت أنفه في ثرى
فلسطين، ورفعت قادة النضال الحقيقيين إلى مكانهم السامق اللائق، وسمت بأرواح
لتحلق فوق قبة الصخرة فوق سماء القدس المباركة لتعلن بكل ما آتاها الله من عزة
وكرامة أن النصر مع الصبر، ولتُؤْذِن بمرحلة جهادية جديدة يكون الشهيد هو
عنوانها وموقد نورها، ولتضع الأمور في مكانها الصحيح: هذا اختيار الأمة؛
فأين المفاوضون منه، وأين الحكام منه، وأين المطبعون منه؟
إن من أخطر وأعظم ما كشفته انتفاضة المسرى المبارك هو أن مصير العالم
كله أصبح مرهوناً بمصير هذا المسجد وتلك المدينة المباركة؛ فلقد تحرك شارون
خطوات تفصل بين بيته وبين المسجد الأقصى، فما كانت الطامة إلا مجرد خطوات
نقلته بعدها إلى سدة الحكم في (إسرائيل) ، وخلعت عليه لقب (ملك إسرائيل)
حسبما يقول عنه حلفاؤه.. خطوات أطاحت بخصمه باراك - ربما للأبد - وأشعلتها
ثورة عارمة في فلسطين والعالم العربي والإسلامي.
الكثير فعلته وكشفت عنه الزيارة وما استتبعها من انتفاضة لا تزال تدور
رحاها حتى الآن، تدفعنا - لأهميتها - إلى إلقاء الضوء عليها عبر عرض أهم ما
حققته الانتفاضة من مكاسب، وما كشفت عنه من إخفاقات ومن سلبيات.
أولاً: المكاسب التي ساقتها الانتفاضة:
1 - تربية جيل جهادي جديد:
أضحت الانتفاضة من أهم الأسباب التي عملت على تكوين جيل قادر على
حمل الحجر والمقلاع والسلاح والمتفجرات، جيل مؤمن بقضيته إيماناً راسخاً يحيا
لها ويموت في سبيلها. هذا الجيل صاغته انتفاضة الأقصى من جديد، ورسمت
معالمه وأعادته إلى صدر القضية مرة أخرى، وجعلته رقمها الصعب الذي لا يمكن
بحال تجاوزه بشهادة أعدائه قبل المنتصرين له، فباراك مثلاً كان يرى أن عليه
التفاوض مع أطفال الحجارة - الطرف الأقوى فلسطينياً - ليتمكن من وقف
الانتفاضة.
لقد ترسخ لدى هذا الجيل الناشئ من شباب فلسطين وأطفالها أن الله -
سبحانه- قد وضع الأقصى أمانة في أعناقهم وحدهم، وأنهم إن ضيعوه فلن يقوم
مقامهم أحد في الدفاع عنه؛ فما لانت لهم قناة، واسترخصوا أن تزهق أرواح
المئات منهم ليبقى الأقصى قائماً مطهراً.
ولئن كانت انتفاضة 1987م قد أفرزت شباباً مجاهداً وقادة ميدانيين على
مستوى رفيع كيحيى عياش، ومحمد أبو ضيف، وعماد عقل؛ فلقد أضحت
انتفاضة الأقصى هذه مفرخة للعشرات من هذا الطراز، ولعل كثيراً من المحللين
يلحظون الخلفية الدينية التي تبدت ملامحها بصورة أكثر وضوحاً في هذا الجيل
الانتفاضي الجديد مقارنة بجيل 1987م، ومن بين الذين لاحظوا بروز الخلفية
الدينية بشكل لافت في الانتفاضة الأخيرة (داني روبنشتاين) الخبير الإسرائيلي في
الشؤون الفلسطينية الذي أكد أن المتظاهرين الفلسطينيين لم يعودوا يمتثلون للسلطة؛
ملمِّحاً إلى أن أعلام الإسلام الخضراء - على حد وصفه - أصبحت هي التي
تغطي جنازات الشهداء بدلاً من أعلام السلطة الوطنية الفلسطينية.
شباب الانتفاضة هو جيل جديد يستشرف النصر ويرفع شعار الانتفاضة لدحر
الاحتلال دون قيد أو شرط. جيل لا يثق بالسلطة الوطنية وإنما يثق بربه وحده،
وينطلق بعد ذلك مستعيناً بالحجر والمقلاع.
2 - تنامي الوعي بالقضية الفلسطينية لدى شعوب العالمين العربي والإسلامي
وتفاعلهم معها:
أسهمت انتفاضة الأقصى بشكل لافت في تنامي الوعي الإسلامي والعربي
بالقضية الفلسطينية؛ إذ لم يخلُ بلد إسلامي أو عربي بارز من مظاهر ذلك الوعي،
ولقد بدا ذلك جلياً من خلال:
1 - التظاهرات الضخمة المنددة بالعدوان الإسرائيلي على مدن فلسطين
وقراها، والتي عمت معظم الدول العربية والإسلامية، وامتدت إلى الجاليات
الإسلامية في أنحاء العالم.
2 - لجان مقاومة التطبيع التي انبثقت عن النقابات المهنية في غير ما بلد
عربي.
3 - الندوات والتجمعات والمهرجانات التي أقامتها الاتحادات الطلابية
والنقابات المهنية بهدف دعم الانتفاضة والتنديد بقامعيها، وكان جديراً بالاهتمام
شمول المساندة الشعبية للانتفاضة في بعض البلدان العربية لجميع النقابات المهنية.
ورأى الناس في العالم العربي أشخاصاً بعيدين كل البعد عن الهم الفلسطيني وهم
يبكون محمد الدرة وغيره من الشهداء أمام شاشات التلفزيون. وامتد الغضب
الشعبي كذلك إلى المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية التي جاب أبناؤها الشوارع
والميادين في معظم مدن تلك البلاد منددين بالقمع الإسرائيلي. وغني عن القول أن
انتفاضة الأقصى أسهمت بشكل فعال في إسكات أصوات المطبعين مع اليهود،
وضاعفت من حجم الرفض الشعبي للكيان الصهيوني، وأعادت بلورة جزئيات
القضية في قلوب وعقول جيل من العرب والمسلمين على نحو فعال ومغاير للشكل
الذي ارتسمت ملامحه في تلك القلوب والعقول لسنوات طوال.
3 - الخسائر البشرية الكبيرة نسبياً التي لحقت بإسرائيل:
من الصعب على المقاومة الفلسطينية على اختلاف توجهاتها إحصاء عدد
القتلى والجرحى الإسرائيليين التي تخلفها عملياتها الفدائية؛ ولذا فإن أي إحصاء
ولو تقريبي مرهون بإعلان السلطات الأمنية الإسرائيلية عنه، وهو ما تتجنبه هذه
السلطات بشكل مريب خلال تلك الانتفاضة، وقد أثار ذلك الشكوك لدى العديد من
المراقبين العسكريين، ودفعهم إلى الظن بأن إخفاء (إسرائيل) لأعداد قتلاها
وجرحاها لا يستشف منه سوى فداحتها، وهو ما أكده مصدر في كتائب عز الدين
القسام الذراع العسكري لحماس، وتؤكده يومياً الأنباء المتلاحقة عن تعرض
دوريات إسرائيلية ومستوطنات لإطلاق النيران من قِبَل فدائيين فلسطينيين يستبعد
أن تبوء جميع عملياتهم بالإخفاق.
الذي يمكننا تأكيده في هذا السياق أن (إسرائيل) تتعرض لحرب استنزاف
حقيقية أسفرت - بحسب مصادر إسرائيلية - عن مقتل عشرات الجنود
والمستوطنين الإسرائيليين، وعن جرح العديد منهم، وكذلك مقتل عدد كبير من
عملاء (إسرائيل) منذ بدء الانتفاضة في 29/9/2000م، ولعل ما يدعم ذلك
القدرة المتوافرة لهذه الانتفاضة على الصمود في وجه القمع الإسرائيلي، وهي لن
تتأتى إذا استمر نزيف الدم من جانب واحد فقط.
4 - الخسائر المادية والمعنوية التي منيت بها إسرائيل:
لم يكن الفلسطينيون وحدهم الخاسرين اقتصادياً بسبب انتفاضة الأقصى؛
فالإسرائيليون تكبدوا هم الآخرون خسائر فادحة قدرت بأكثر من ملياري دولار منذ
بدء الانتفاضة أصابت العديد من مرافق إسرائيل ومواردها، نشير إلى جانب منها
فيما يلي:
أ - أدى استمرار الانتفاضة إلى انهيار مناطق صناعية للاحتلال مثل منطقة
شمال القدس الصناعية التي أصيبت بالشلل التام.
ب - ارتفعت ميزانية الجيش الإسرائيلي بمقدار 2 مليار شيكل بالإضافة إلى
0. 5 مليار شيكل طلبتها قيادة الجيش الإسرائيلي للسنة الحالية بسبب استمرار
الانتفاضة، وتكبد الجيش خسائر فادحة نتيجة لزيادة عدد أيام الاحتياط فيه بمقدار
مليون يوم مقارنة بالسنة الماضية.
ج - تراجع معاملات الشيكل في غزة نتيجة الانتفاضة.
د - تأثر السياحة الإسرائيلية (مورد أساسي من موارد الاقتصاد الإسرائيلي)
تأثراً بالغاً من جراء تدهور الأوضاع الأمنية؛ حيث قل عدد زوار إسرائيل بنحو
80%.
وإلى الجانب المادي، ثمة جانب يفوقه تأثيراً وهو الجانب المعنوي الذي يمثل
عنصراً هاماً من عناصر الصراع تبدو أوضح ملامحه في اتساع الهوة بين
التنازلات الرسمية الفلسطينية وبين الواقع الشعبي المقاوم لها. وفي السياق ذاته
تأتي الانتكاسة التي منيت بها علاقة (إسرائيل) الرسمية مع الأنظمة العربية حتى
أضحت (إسرائيل) كما وصفت (بلداً داخل بحيرة من الكره) ، وتلقت (إسرائيل)
أقوى صفعة دبلوماسية لها - حسب صحيفة معاريف الإسرائيلية - حينما قررت
مصر استدعاء سفيرها في تل أبيب، وذلك إلى جانب إحجام الأردن عن إرسال
سفير جديد في تل أبيب، وقطع كل من سلطنة عمان وتونس والمغرب علاقاتهم
مع (إسرائيل) ، وإغلاق مكاتب التمثيل التجاري لـ (إسرائيل) في كل من
عمان وقطر.
5 - بروز الإعلام الفلسطيني والعربي عبر القنوات الفضائية، والأرضية،
وشبكة المعلومات الدولية إنترنت، سلاحاً مقاوماً لأول مرة في تاريخ الصراع:
غلامُ أصحاب الأخدود الذي أشار القرآن الكريم إلى قصته حينما جمع قومه
ليشهدوا مقتله على نحوٍ يجعلهم يؤمنون بفكرته، هذا الغلام تذكرته جيداً وأنا أشاهد
مع مئات الملايين غيري مقتل غلام فلسطين محمد الدرة على شاشات التلفزة؛ إذ لم
يُعلم عن غلام في التاريخ الحديث كان لمقتله ذلك التأثير مثلما كان لهذا الغلام.
والحق كما يشهد على ذلك العديد من الإعلاميين العرب البارزين أن مشهد
مقتل محمد الدرة لم يكن بدعاً في تاريخ فلسطين، ولم تكن جريمة قتله هي الأبشع
بين الجرائم الصهيونية الرهيبة على مدى أكثر من نصف قرن؛ بيد أنها كانت
الأبرز والأوضح على مر التاريخ الجهادي؛ حيث التقط مصور عربي وقائعها
وتلقت تسجيلها المتلفز العديد من شبكات التلفزة العالمية ليتم عرضها بعد ذلك على
شاشات العالم بأسره مؤذنة بنقطة غالية جداً يسجلها الإعلام العالمي، ولتفتح الطرق
للإعلام العربي والإسلامي ليدخل في حلبة الصراع بعد أن غيب عنها عشرات
السنين.
لا شك أن الإعلام العربي والإسلامي لا يضاهي الإعلام الغربي في إمكاناته
عالمياً لكنه إقليمياً أصبح قوة لا يستهان بها، وبرغم التحفظات الكثيرة التي تسجل
على الإعلام العربي وفضائياته، إلا أن الانتفاضة بفيضها الدافق أرغمت فضائيات
العرب على احتلال جانب كبير من برامجها مما أسهم بشكل فعال في تعريف
العرب بقضيتهم الأولى، وإلهاب حماس الشباب منهم، وكسب تعاطف الرجال
والنساء والأطفال والشيوخ.
الخبير الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية (داني روبنشتاين) قال من جهته:
إن أحد الفوارق بين الانتفاضة السابقة والحالية وجود عشرات قنوات التلفزة العربية
مضيفاً: أن هناك 22 محطة فضائية عربية جميعها تتناول بالتفصيل أحداث
انتفاضة الأقصى. مشيراً إلى أنه بواسطة انتفاضة الأقصى يكتشف الشباب الذي لم
يسمع شيئاً عن فلسطين من جيل 1948م - الذي لم يعد معظمه على قيد الحياة -
يكتشف الآن المشكلة الفلسطينية مجدداً؛ فالأجيال الشابة من المحيط إلى الخليج
تشاهد الآن برامج عن معاناة الفلسطينيين والمجازر الإسرائيلية مثل مجازر: (دير
ياسين، وكفر قاسم، وصبرا وشاتيل ا) ، ويشاهد كذلك بث برامج عن أوضاع
اللاجئين المأساوية في لبنان وغيرها مما يعيد تعريف النشء العربي بالقضية
الفلسطينية. كما نوه روبنشتاين بالبرامج الدينية التفاعلية في الفضائيات العربية
الداعية إلى الجهاد ضد (إسرائيل) بالسلاح وبالمال عبر التبرع للانتفاضة، والتي
لاقت تجاوباً عالياً خاصة في الخليج العربي.
ولا يفوتنا في هذا الإطار الإشارة إلى عدد كبير جداً من المواقع العربية
والإسلامية على شبكة الإنترنت الداعمة إعلامياً للانتفاضة، والمنددة بالقمع اليهودي
لها، والتي أعطت بدورها بعداً إعلامياً متميزاً للانتفاضة.
6 - النجاح الجزئي لسلاح المقاطعة للبضائع الإسرائيلية:
لاقت الدعوات المتواترة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والأمريكية صدى عالياً
في عدد غير قليل من الدول العربية والإسلامية ما لبث أن خبت حدته بعد ذلك
بسبب اعتمادها على العاطفة وعدم التنسيق بين لجان التطبيع المتناثرة في أرجاء
العالمين العربي والإسلامي؛ ووقوف العديد من الأنظمة حائلاً دون نجاحها في كثير
من الأحيان؛ ورغم ذلك فقد وجهت تلك المقاطعة ضربات موجعة لعدد من
الشركات العالمية في منطقة الشرق الأوسط، مثل مجموعة سوبر ماركت
(سنسبري) ، ومطاعم (ماكدونالدز) و (بيتزاهت) ، وشركات (كوكاكولا)
وإريال وغيرها، ولو لم تقض تلك المقاطعة على الوجود الاقتصادي اليهودي
الأمريكي في المنطقة إلا أنها أرسلت رسالة واضحة جداً تمثل الغضب الشعبي
والإسلامي من ممارسات (إسرائيل) القمعية فهمتها تلك الشركات بحاستها
الاقتصادية بسرعة؛ فراحت تغازل مؤيدي الانتفاضة بمشاركتهم الدعم الصحي
للفلسطينيين، وفهمتها كذلك دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية
و (إسرائيل) من وراء تلك الشركات. وعسى أن تكون تجربة المقاطعة مدعاة
لإحسان تفعيلها عند استخدامها مرة أخرى بشكل يوجع الاقتصاد الأمريكي
والإسرائيلي، ويحد من كبريائهما السياسي والعسكري.
7 - تخفيف وطأة الضغوط التي تمارس ضد المعارضة العربية والإسلامية
واستفادة المعارضة من ذلك:
أعطت الانتفاضة زخماً عظيماً ودفعة هائلة لقوى المعارضة في الدول العربية
والإسلامية لا سيما المعارضة الإسلامية منها لأسباب منها:
1 - أظهرت بُعد نظر تلك المعارضة في عدم جدوى المفاوضات لعدم وفاء
الإسرائيليين بالمعاهدات والمواثيق، وللانحياز الكامل من جانب الولايات المتحدة
لـ (إسرائيل) ، ولأن المفاوضات لم تمنع (إسرائيل) من تنفيذ مخططاتها
الاستيطانية، ولم تعد اللاجئين الفلسطينيين البالغ عددهم أكثر من 3,7 ملايين
فلسطيني إلى ديارهم، كما لم تحد من غلواء العصابات الصهيونية في سعيها
الحثيث لهدم المسجد المبارك، بُعد نظر تلك المعارضة ترجمته بصدق أربع
انتفاضات في مرحلة المفاوضات: (1994م انتفاضة الحرم الإبراهيمي، 1996م
انتفاضة النفق، 1997م انتفاضة جبل أبو غنيم، 2000م انتفاضة الأسرى) ،
وجسدته أعظم الانتفاضات: انتفاضة الأقصى الحالية التي وصفت بأنها جاءت
بمثابة حرق لجثة السلام.
2 - تنعم المعارضة في الدول العربية - لا سيما المعارضة الإسلامية منها -
بهامش حرية أكبر كلما ابتعدت أنظمة تلك الدول عن الارتباط بالكيان الإسرائيلي،
أو كلما أرادت تلك الأنظمة أن تستغل ورقة المعارضة لديها.
3 - تعد قضية الأقصى ببعدها الديني تربة خصبة لأحزاب وقوى المعارضة
تستنبت فيها أيديولوجياتها المختلفة التي ترى وفقها كل منها حلاً للمعضلة
الفلسطينية يتنافر بطبيعة الحال مع رؤية الأنظمة الحاكمة التي لم تستطع أن تقدم
سوى مفاوضات عرجاء لا تتجاسر تلك الأنظمة على الدفاع عنها الآن.
4 - استغلت تلك الأحزاب والقوى السياسية عدم قدرة الأنظمة العربية على
قمع تظاهراتها وندواتها في قضية واضحة المعالم تتمثل في الدفاع عن الأقصى
الشريف وعن حراسه، وهي قضية لا يتناطح علانية فيها عنزان.
8 - زيادة الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية:
تقول صحيفة دي فيلت الألمانية: إن إطفاء النيران المشتعلة في الشرق
الأوسط ليس بالأمر الذي يسمح بتركه للإسرائيليين والفلسطينيين فقط، وتحذر تلك
الصحيفة من مغبة تفجر الصراع في الشرق الأوسط وانعكاساته على العالم بأسره،
مذكرة بتفجير المدمرة الأمريكية كول - مركز التجارة العالمي - سفارتي أمريكا في
نيروبي ودار السلام - الاعتداء على كنيس يهودي في فرنسا - الاعتداء على
سفارة بريطانيا في صنعاء.
لقد شعر العالم بمستوييه الرسمي والشعبي بخطورة تدويل الصراع الفلسطيني
الإسرائيلي، وأحس بذلك - خصوصاً - في الأيام الأولى للانتفاضة، وكادت
الدولة العظمى الأولى تمنى بخسارة عسكرية فادحة جراء تفجير المدمرة كول،
وأغلقت معظم سفاراتها وقنصلياتها في الشرق الأوسط وإفريقيا، ولم تستطع الآلة
الإعلامية اليهودية العملاقة ممارسة التدليس الكامل على شعوب العالم في شأن
القضية الفلسطينية بل أرغمت على بث جانب من الحقيقة المدينة لـ (إسرائيل) ؛
فاكتسبت المقاومة الفلسطينية بذلك تعاطفاً محدوداً في الدول الغربية لم تكن تطمح
إليه سابقاً، ودبت الروح مجدداً في الجاليات المسلمة والعربية في الغرب،
واستشعرت دوراً حيوياً لها في المهجر، فسيرت التظاهرات، وأحيت الندوات،
وجمعت التبرعات. وقد أدى ذلك كله إلى نمو وعي العالم بالقضية الفلسطينية،
وتعاطف البعض معها حتى إن التبرعات التي جمعت في دول أوروبا على
المستويين الرسمي والشعبي بلغت نحو نصف ما قدمه العرب للفلسطينيين.
9 - جسارة حراس الأقصى تقطع الطريق على الداعين لهدمه:
من إيجابيات الانتفاضة الأخيرة أنها أثبتت لليهود أن للأقصى رجالاً يذودون
عن حماه، وأن على متدينيهم ومتطرفيهم التفكير ألف مرة قبل الإقدام على هدمه.
لقد كانت زيارة مسؤول إسرائيلي للأقصى الشريف قمينة بأن تلهب الغضب
في فلسطين، وأن تتدافع الجماهير مسترخصة الأرواح والأنفس للحيلولة دون
تدنيسه فضلاً عن هدمه.
لا ريب أن نزيف الدم كان ضرورياً لحرف جماعات التطرف اليهودي عن
مسارها الشيطاني الهادف إلى هدم المسجد الأقصى، وما ينبغي للعرب أو المسلمين
أن يندموا على دم طاهر أريق على أعتاب القدس أبداً.
10 - الكشف عن مدى فساد السلطة الفلسطينية الأمني والمالي، واهتزاز
ولاء صغار الجنود للزعيم:
فساد السلطة الأمني والمالي هما من أهم ما أماطت الانتفاضة الفلسطينية اللثام
عنه؛ إذ أسقطت به السلطة الفلسطينية أسهماً كثيرة من رصيدها لدى الشعب
الفلسطيني المناضل؛ فحين كان القصف الإسرائيلي الرهيب يمطر قطاع غزة
والضفة الغربية كان محمد دحلان يطلق تصريحه مفاخراً: (دافعنا عن إسرائيل 6
سنوات كاملة) ، وكان جنوده يعتقلون كوادر حماس والجهاد الإسلامي، ومن بينهم
مخططو انفجار الخضيرة الكبير بعد أيام من تنفيذه، وكانوا يحررون ويا لبؤسهم
رئيس مجلس بلدية (بيرتيبالا) من عملية اختطاف، ولا يخفى على ذي عينين أن
الفلسطينيين وهم ذوو حس نضالي رفيع لم ينظروا بارتياح إلى مشهد القادة
والمفاوضين وهم يبتسمون لأعدائهم أمام شاشات التلفزة، ويلوحون للصحفيين وهم
مع الإسرائيليين في مركب واحد وسيارات فارهة.
كشفت انتفاضة الأقصى عن هوة سحيقة بين الجهاد والنضال الذي يمارسه
الفلسطينيون وبين الخيانة التي تقوم بها سلطتهم (الوطنية) ، وفتحت ملفات
حرصت السلطة كثيراً على إخفائها، وهبت القوى الفلسطينية بـ 13 تنظيم
إسلامي ووطني لتوقع على وثيقة تدعو عرفات لوضع حد لكل مظاهر الفساد؛ حتى
إن عرفات تلقى تحذيراً شديداً من داخل حركته (حركة فتح) للقضاء على كل
مظاهر الفساد بالسلطة، أتبعه مقتل هشام مكي مسؤول التلفزة الفلسطينية على يد
منظمة مجهولة تدعى: (كتائب الأقصى) متهمة إياه بالفساد، وتنادت جهات
رسمية وشعبية عربية وإسلامية تدعو إلى منع السلطة من بسط سيطرتها على
أموال التبرعات التي تلقتها منظمة التحرير الفلسطينية منذ إنشائها قبل نحو 35 سنة.
مظاهر الفساد التي كشفتها الانتفاضة حدت بمسؤول أوروبي رفيع إلى التحذير
من انهيار السلطة الفلسطينية منوهاً في الوقت ذاته إلى أن ذلك يعني أن (إسرائيل)
تكون قد فقدت شريكها في عملية السلام مما سيهدد أمنها.
11 - تضامن فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948م:
خرجت جماهير فلسطين 1948م في انتخابات يوم 6 فبراير عام 2001م
لتصوت للانتفاضة لا لباراك ولا لشارون ولا حتى للسلطة الفلسطينية التي دعتهم
صراحة لتأييد باراك لمواصلة ما تبقى من عملية السلام، هبت تلك الجماهير هبة
وثابة إبان الانتفاضة والانتخابات الإسرائيلية لتؤكد بكل حسم ما يلي:
1 - عمق الفجوة بين المواطن الفلسطيني الذي أرغم على الانتماء (ورقياً)
إلى (دولة إسرائيل) وبين هذه (الدولة) وهو ما يعني هشاشة المجتمع الإسرائيلي
الزاعم بأنه استوعب عرب 1948م.
2 - رغم كل محاولات إسرائيل (أسرلة) عرب 1948م إلا أنهم لما رأوا
الخطب عظيماً، وأحسوا بأن القدس في خطر هبوا بكل قوة مشاركين في الانتفاضة
الغراء حتى سقط منهم 13 شهيداً.
3 - أن السلطة الفلسطينية تفتقر إلى الشعبية في صفوف عرب 1948م وقد
باءت دعوتها بالإخفاق لعدم التصويت لصالح شارون إخفاقاً مخجلاً حينما أصر
عرب 1948م على وضع بطاقات بيضاء في صناديق الاقتراع مصرِّين بذلك على
معاقبة باراك لقتل 13 منهم، ومصرِّين في الوقت نفسه على عدم إعطاء أي مزية
للسفاح شارون، لتأكيد أن لا مصلحة لهم في نجاح هذا ولا ذاك.
4 - أن الانتفاضة وما استتبعها من انتخابات إسرائيلية قد أعطت وضعاً فائق
التميز لعرب 1948م داخل المجتمع الإسرائيلي حيث أخذ الساسة الإسرائيليون
يخطبون ودهم ويحاولون استقطابهم؛ لدرجة أن السفاح شارون نفسه عمل على ذلك
قبل وأثناء وبعد الانتفاضة الإسرائيلية، أما الاستخبارات الإسرائيلية؛ فقد بدا عليها
الانزعاج إزاء ما أسمته الطابور الخامس العربي؛ وهو ما يعني مزيداً من القلق
الإسرائيلي.
5 - وحدت الانتفاضة عرب 1948م، وأعادت إليهم هويتهم شبه الذائبة،
وبصرتهم بدورهم الهام الذي ينبغي لهم أن يضطلعوا به، فكانت صرختهم مدوية،
وكان لها مردودها الطيب على الفلسطينيين في داخل فلسطين 1948م، 1967م.
12 - إحراز الفلسطينيين ومحازبيهم تقدماً نوعياً في حربهم الإلكترونية ضد
إسرائيل على شبكة المعلومات الدولية إنترنت:
باستخدام (البت والبايت) إلى جانب الحجارة والرصاص تمكن الفلسطينيون
ومحازبوهم من المسلمين العرب من تحقيق نصر رمزي ومادي على (إسرائيل)
قدر بأكثر من مليون دولار جراء تعطيل واختراق عدد كبير من مواقع (إسرائيل) ،
من أهمها موقع الكنيست الإسرائيلي على شبكة إنترنت، وبالرغم من أن
(إسرائيل) قد داهمت عدداً من المواقع الفلسطينية والعربية والإسلامية إلا أن مجرد
تحقيق تقدم للجانب الفلسطيني في هذا المضمار يعد انتصاراً كبيراً لهم بالنظر إلى
الإمكانات الإلكترونية الهائلة لليهود في العالم.
13 - استخدام الأسلحة بشكل متناغم مع الحجارة في الانتفاضة:
تميزت انتفاضة سبتمبر 2000م عن سابقاتها بتنوع أسلحة المقاومة وتدرجها
من الجانب السلمي (قذف الحجارة) إلى الجانب العسكري (استخدام البنادق
والمتفجرات والهاون) ، حيث تم جر إسرائيل إلى حرب استنزاف تهدف إلى العمل
على إفقاد (إسرائيل) التدريجي لقدرتها على المقاومة، ودفعها إلى اتخاذ موقف
مشابه لمثل الذي اتخذته في الجنوب اللبناني.
14 - الاضطراب السياسي وتعاقب الحكومات الضعيفة في إسرائيل:
بالطبع ليس الأمر مقصوراً على هذه الانتفاضة الأخيرة وحدها؛ وإنما جاءت
انتفاضة الأقصى لتتم عملاً سبقتها إليه سلسلة من الانتفاضات أدت جميعها إلى
اضطراب الساحة السياسية الإسرائيلية، وعدم قدرتها على إيجاد حكومة إسرائيلية
واحدة قوية تستطيع أن ترسم مشاريعها وتنفذها على أرض الواقع، وإذ يعمل كل
رئيس حكومة إسرائيلي وسط فسيفسائية حزبية إن أرضى وزيراً وحزباً أغضب
آخرين؛ فليس بمقدوره أن ينفذ سياسة واضحة المعالم؛ ولقد بدا ذلك جلياً في
شخص رئيس الوزراء السابق أيهود باراك حينما بدأ حكمه بصفة بديل سلمي
لنتنياهو فإذا به ينتهي أسوأ منه؛ فالهدف الأسمى عند أي رئيس حكومة إسرائيلي
أصبح هو أن يبقي حكومته قائمة دون اقتراع برلماني لحجب الثقة عنها فقط.
15 - العالمان العربي والإسلامي في الميزان:
قد كانت شعوب العالمين العربي والإسلامي بحاجة لأن تضع نفسها وأنظمتها
في الميزان لتعلم مدى جديتها في التعامل مع القضايا المصيرية، ومنذ وطئت قدما
شارون أرض الحرم وردود الفعل تتوالى في العالمين العربي والإسلامي، وبدا ما
يلي:
1 - لهث الرسمي وراء الشعبي محاولاً إثبات وطنيته وعروبته وإسلامه؛
لكن لغة السياسة ما لبثت أن فضحته؛ فرد فعله على المستوى الأقصى لم ولن
يتجاوز سقف القرارات الدولية والمؤتمرات والشجب والتنديد.
2 - مثلت غالبية الأنظمة القائمة حاجزاً مريراً يحول بين الشعوب ومناصرة
الشعب الفلسطيني الأعزل.
3 - ظلت بعض الدول العربية - على المستوى الرسمي - مصرة على
السباحة ضد التيار الرافض لـ (إسرائيل) ، ولم تبال بالغضب الشعبي، بل
عملت على إسكاته، ومن هذه الدول الأردن الرسمي الذي لم تهزه الأحداث فراح
يعتقل بعض جرحى الانتفاضة، وأوقف عدداً من مناهضي التطبيع لديه لنشرهم
قائمة بالمطبعين طالت عدداً من المسؤولين رفيعي المستوى، ووجه إلى المناهضين
عدداً من الاتهامات قد تصل إلى الإعدام.
4 - تفاعلت الشعوب العربية والإسلامية على اختلاف تركيبتها مع قضية
الأقصى؛ بيد أن ذلك التفاعل تفاعل عاطفي ما يلبث أن تخبو جذوته بمجرد إزاحة
صور الأحداث عن شاشات التلفزة.
5 - سلاح المال هو السلاح الفعال الأوحد الذي استخدمته الحكومات
والشعوب لدفع الشعور بالتقصير.
16 - بث الرعب في قلوب الإسرائيليين ودفعهم إلى الشعور الدائم بعدم
الاستقرار:
ذكرت مصادر إسرائيلية في جيش إسرائيل أن 18 إسرائيلياً انتحروا منذ بدء
الانتفاضة، وعدد المنتحرين هذا هو ضعف العدد المسجل في العام الماضي كله.
الانتفاضة أصابت 40% من الإسرائيليين بأمراض نفسية، وتضاعف عدد
المتعرضين للكوابيس، والمصابين بالتبول اللاإرادي لدى أطفال اليهود.
المستوطنون ينزلون إلى الملاجئ بكثرة إثر قصف الفلسطينيين للمستوطنات
اليهودية بقذائف الهاون.
الفتيات اليهوديات يرفضن الزواج من مستوطنين أو ممن يصرون على
الاستقرار في المستوطنات.
سيل من الأنباء تقذفها الوكالات كل يوم قاسمها المشترك هو الرعب الشديد
الذي يشعر به الإسرائيليون؛ مما يؤكد أن الانتفاضيين يدفعون الإسرائيليين إلى
الإحساس بأنهم ليسوا في جنة الله الموعودة، وأنهم ببساطة لا يحيون في بلد ينعم
بالاستقرار.
17 - الالتفاف عربياً وإسلامياً حول قضية واحدة:
توافر لانتفاضة الأقصى حجم هائل من التأييد والمؤازرة لم تشهد الأمتان
العربية والإسلامية له نظيراً منذ زمن بعيد، ورُئِيت شعوبنا وهي تنتفض انتفاضة
موازية لانتفاضة الأقصى، وكشفت تلك المحنة عن أن شعبنا العربي لم يمت بعد.
لقد كانت الأمة بحاجة إلى هذه الانتفاضة لتلتف حول قضية واحدة، وليستبين لها
كم تُعادى وكم يُتآمر عليها؟ وكم تثمن في سوق الأمم؟ الأمتان العربية والإسلامية
مريضتان الآن بمرض العولمة، وإنما يرجى لهما العلاج من خلال الصدمات
الكهربية، ولقد كانت انتفاضة الأقصى إحدى هذه الصدمات.
18 - التطور النوعي في أسلحة المقاومة:
شهدت الانتفاضة الميمونة تطوراً نوعياً في أسلحتها واستجلاباً لخبرات
جهادية جديدة؛ حيث لوحظ أن عسكريي الانتفاضة قد استخدموا للمرة الأولى
التفجير عن بعد بواسطة الهاتف، واستخدموا تفجير عربة كارو، وقذفوا للمرة
الأولى أيضاً المستوطنات الإسرائيلية بقذائف الهاون.. إلى غير ذلك من مظاهر
التطور، وقد أدى ذلك التطور إلى توزيع كبير في العمليات العسكرية مكنها من
مضاعفة عددها ليصل في أربعة أشهر إلى أكثر من 80 عملية عسكرية بحسب خالد
مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس.
ثانياً: إخفاقات وسلبيات أماطت الانتفاضة اللثام عنها:
1 - الخسائر الاقتصادية والعوز المالي للفلسطينيين:
ضحى الفلسطينيون بمبالغ طائلة من أجل أن تستمر انتفاضتهم، قدرت بنحو
3 مليارات من الدولارات توزعت على القطاعات والموارد الآتية وفقاً للمركز
الفلسطيني للإعلام:
1 - قطاع الصناعة: تأثر بسبب تدمير الكثير من المصانع وعدم توافر
الخامات للمصانع وصعوبة التسويق.
2 - قطاع الزراعة: خضع للتدمير الإسرائيلي، وتأثر بانشغال رماة
الحجارة عنه، وأسفر عن خسائر قدرت بـ 127 مليون دولار.
3 - قطاع العمالة: أسفرت الانتفاضة عن وجود نحو مليون عاطل عن
العمل.
4 - الصيد البحري: منعت إسرائيل الصيد البحري في المناطق الجنوبية من
فلسطين.
5 - قطاع المواصلات: يمثل 15% من واردات فلسطين، تأثر هو الآخر
تأثراً كبيراً نتيجة للانتفاضة.
6 - قطاع السياحة: أحجم السياح عن زيارة فلسطين فأدى ذلك إلى خسائر
قدرت بـ 100 مليون دولار.
7 - قطاع الخدمات: تأثر بشدة نتيجة الزيادة الكبيرة في غياب الموظفين.
8 - قطاع الصحة: ارتفاع عال في المصروفات نتيجة للاستهلاك المرتفع
للأدوية الطبية.
9 - المدخرات: حدث استهلاك منتظم لمدخرات الفلسطينيين مما قلل من
فرص استثمارهم أموالهم.
10 - الاستثمار: تأثر جداً نتيجة لإحجام المستثمرين عن ضخ أموالهم في
منطقة مهتزة اقتصادياً.
11 - المشاريع التنموية الكبرى: توقفت تماماً.
خسر الفلسطينيون كثيراً ولا غرو؛ فالثورات لم تقم يوماً لتحسين مستوى
المعيشة فحسب؛ وإنما قامت لتحرر الإنسان من ربقة العبودية التي يحكم قيدها
الاحتلال وأذنابه.
2 - كثرة الشهداء والجرحى الفلسطينيين في الانتفاضة:
ليست الشهادة مغرماً ولا سيما إذا جاءت دفاعاً عن الأقصى الشريف؛ بيد أن
المتتبع لأحداث الانتفاضة لا بد أن يلحظ الكم من القتلى والجرحى في صفوف
الفلسطينيين؛ فالحصيلة الأولى المبدئية للشهور الأربعة الأولى للانتفاضة يزيد عدد
القتلى فيها عن 350 قتيلاً، وعدد جرحى أكثر من 10000 جريح، ويتجاوز عدد
الأسرى 6000 أسير فلسطيني. أما القوى الفلسطينية الرئيسة (حماس فتح الجهاد
الإسلامي) فقد فقدت أكثر من 20 من أبرز نشطائها؛ هذه الفاتورة العالية نسبياً
نتجت عن لقاء الشباب الفلسطينيين أعداءهم بصدور عارية وأيد خالية، وليس لهذا
ما يسوِّغه في كثير من الأحيان، ومن غير السديد أن يكون المؤشر على غليان
الانتفاضة وفتورها هو عدد ضحايانا، بل الصواب أن يكون مؤشر ذلك هو بمقدار
النكاية في صفوف اليهود، فنعلم أن الانتفاضة في وضع جيد إذا ما زاد عدد قتلى
اليهود، أو بمقدار إرهاق الجيش الإسرائيلي، وبث الرعب في قلب المجتمع
الإسرائيلي، ولا شك أن لكل هذا ضحاياه، لكن ينبغي ألاَّ تبلغ فاتورة القتلى
والجرحى حد الانتكاسة، فيُرى في الفعل الانتفاضي ذاته خسارة.
3 - اقتصار الدعم الخارجي على الجانب المالي فقط، وخفوت الصوت
الداعم للانتفاضة:
الثورة العربية والإسلامية التي أتت مواكبة للانتفاضة انكفأت على دريهمات
تلقى في يد الطفل المنتفض، وعوض أن تتعدد صور المؤازرة العربية والإسلامية
للقضية الفلسطينية انسحبت على تبرعات مالية وصوت زاعق ما لبث أن خفت
حدته بمرور الوقت، مما يشي بعجز الانتفاضة في أقصى درجات تطورها عن قلب
الاندفاع العاطفي العربي الإسلامي إيماناً صادقاً وصموداً واثقاً وثباتاً دائماً والحق أن
ذلك ليس عيب الانتفاضة، وإنما قدرها أن تأتي لتكون بمثابة العدسة التي تظهر
الصورة البائسة بكل ما فيها من عوار لأمة لم تحرك فيها جلالة المصيبة سوى
الزفرات والدمعات وقليل من الدريهمات.
4 - حالة سلبية مقيتة للتخاذل الإسلامي في حال الإقدام على هدم الأقصى
الشريف:
لقد عُدَّت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي قبل انتخابه إلى المسجد الأقصى
الشريف بمثابة بالون اختبار أريد منه قياس ردود الأفعال العربية والإسلامية داخل
وخارج فلسطين، فجاءت ردود الأفعال من الداخل الفلسطيني مخيبة لآمال
الإسرائيليين، وجاءت ردود الأفعال الخارجية مخيبة لآمال حراس الأقصى على
المستوى الرسمي. ومع هذا لم يحرك العرب لها ساكناً بل مرت الأنباء الآتية عليهم
مرور الكرام:
- نائب بطريريك الكنيسة الكاثوليكية يصرح لأخبار العرب: (هيكل سليمان)
جاهز في أمريكا لا ينقصه سوى النقل والتركيب وينتظر النقل إلى القدس؛ فيما
اليهود منهمكون في مخططهم الإجرامي لهدم الأقصى.
- خطة (إسرائيل) لعزل القدس عن المناطق الفلسطينية.
- قوات مارينز أمريكية تشارك في تدريبات مع الجيش الإسرائيلي في
احتلال الأراضي الفلسطينية، وتشمل تلك التدريبات تدريب اليهود على القنص.
هذه الأنباء ومثيلاتها من ذوات الوزن الثقيل سيقت إبان الانتفاضة ومررها
اليهود على مسامع العرب والمسلمين قادة ومحكومين؛ ومع هذا طاب للأولين أن
يدوروا في ذات حلقاتهم المفرغة.
5 - جرأة (إسرائيل) في قمع الانتفاضة واستخدام أسلحة فتاكة:
كان من الغريب أن تُقدِم (إسرائيل) على إصابة أكثر من 1500 فلسطيني
بقذائف اليورانيوم المستنفذ من غير وازع، وأن تسترسل في قصف قرى ومدن
فلسطين بالدبابات والطائرات والمدفعية من دون أن تلقي بالاً لبث وقائع الانتفاضة
ساعة بساعة على شاشات التلفزة العالمية.
وتبجُّح (إسرائيل) السافر أثناء انتفاضة الأقصى إنما يعني أن (إسرائيل)
لم يعد لديها ما تخشى نشره وإذاعته.
وبعدُ: فالانتفاضة على ما ذكرت قد دفعت من الشر أكثر مما استجلبت من
مآس، لقد كان في صدر برنامج أيهود باراك الانتخابي الذي أسقطته الانتفاضة نقاط
لا تدل إلا على التراجع الإسرائيلي أمام سيل المنتفضين المنهمر، ومن ذلك:
- فك الارتباط الأمني.
- ضم التكتلات الاستيطانية.
- سحب المستوطنات المعزولة.
- إقامة منطقة أمنية في غور الأردن.
هذه النقاط الأربع ترسم الصورة البائسة التي تبدى بها الساسة ومسؤولو
التخطيط الإسرائيلي إزاء عجزهم عن تحقيق مطلبهم الأسمى بالأمن في الأرض
الفلسطينية المحتلة، وبحسب الانتفاضة أنها وحدت الفلسطينيين، ووحدت العرب
على نحو معين، وبصرت الجميع بمن يعمل لمصلحة أمته ومن يخونها، وبثت
الرعب في قلوب اليهود، وعزلتهم سياسياً واقتصادياً في منطقة الشرق الأوسط،
ودفعت أقدام المجاهدين خطوات وثابة في طريق النصر.
__________
(*) صحفي مصري.(165/99)
مرصد الأحداث
يرصدها: حسن قطامش
qatamish100@hotmail.com
أمريكيون أكثر من الأمريكان
مع الأسف أن بعض سياسيينا، حتى المخضرمين منهم، يندفعون وينجرفون
وراء تيار العواطف والخطب العاصفة، وهم أعلم الناس بعدم جدواها، بل
ومضرتها على مصالح الكويت. مؤتمر مقاومة التطبيع مع إسرائيل الذي عقد
مؤخراً في الكويت دليل على ذلك؛ فقد ارتفعت نغمات وانفعالات غير مسؤولة،
وأجزم بأن كثيراً من الكويتيين غير معنيين بها، وتنم عن الغضب العارم بسبب
ممارسات إسرائيل الظالمة والموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية الذي يثير
كثيراً من الحنق، فلولا وقوف أمريكا مع الغطرسة الإسرائيلية وتغاضيها عن
ممارستها الإجرامية لاستطاعت الأمم المتحدة إنقاذ أطفال الحجارة، ولمنعت
الاستيطان، بل وقد تتحرر فلسطين. هناك إشكالية واحدة نرجو وننصح سياسيينا
وخطباءنا الكويتيين ألا تغيب عن بالهم ووجدانهم، وهي أن مصالح الكويت الأمنية
ووجودها تتعارض ومصالح أصحاب الخطب الرنانة، وتمادي بعض البرلمانيين
الكويتيين بالدعوة إلى مقاطعة أمريكا غير مقبول. من حقهم أن يحتجوا ويتذمروا
من سياسات أمريكا المنحازة ضد العرب في قضية فلسطين، عندما وقعت طامة
الغزو وجدنا أنفسنا وحيدين، وقد أنشب صدام براثنه فينا، ولولا فضل الله، وقوة
أمريكا وحلفاؤها لما استطاع هؤلاء المؤتمرون عقد مؤتمرهم هذا في الكويت، ولما
استطاع منظموه الكويتيون الدعوة إليه. مقاطعة أمريكا أسطوانة مشروخة، كنا
نسمعها منذ عقود، لكنه مجرد كلام وشعارات، حتى الاتحاد السوفييتي في أوج
عظمته وخصومته لها لم يستغن عن القمح الأمريكي، الكويت لا تستطيع مقاطعة
أمريكا، لا نريد مقاطعة أمريكا، ولا نريد إغضابها، أمريكا تعلم بذلك، لنكن
واقعيين، هل تريدون التخلي عن الأمن الكويتي من أجل الآخرين؟ لنقاطع
إسرائيل، وليتوقف التطبيع معها، مع أن الكويت غير معنية به، ولتذهب
الصهيونية إلى الجحيم، أما أمريكا فلا أرانا الله بها مكروهاً.
[الكاتب الكويتي: طلال عبد الكريم العرب، جريدة القبس، العدد: (10060) ]
والتفكير الأمريكي
بينما كنت اقرأ عن كل حوادث العداء لأمريكا التي واجهها الرئيس بوش
خلال جولته الأوروبية الأخيرة تذكرت أغنية راندي نيومان التي غناها في
السبعينيات وعنوانها: «العلوم السياسية» ، وكانت أبياتها تقول: «لا أحد مثلنا،
لا أدري لماذا. ربما لا نكون مثاليين، ولكن الله يعلم أننا نحاول أن نكون. ولكن
كل من حولنا، حتى أصدقاؤنا القدامى يحطون من قدرنا. دعنا نلقي قنبلتنا تلك
الأكبر ونرى ما سيحدث، آسيا مزدحمة، وأوروبا هرمة، إفريقيا حارة جداً،
وكندا شديدة البرد، وأمريكا الجنوبية سرقت اسمنا، دعنا نلقي قنبلتنا تلك الأكبر.
فلن يبقى أحد على قيد الحياة ليلومنا» . أغنية نيومان القصيرة هذه تذكر بأن العداء
لأمريكا قديم ولم يبدأ في الظهور مع تولي جورج «دوبايا» الرئاسة.
[الكاتب الأمريكي توماس فريدمان، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8239) ]
الثمن الغالي
الشعب الفلسطيني عاش طوال سنوات الاحتلال الوضع نفسه، وتحمل وقاوم
من أجل وطنه وأرضه، إننا نعيش تحت الاحتلال، والاحتلال أسوأ أنواع الذل،
وحياة الذل لا يمكن أن يتحملها أحد، نحن أصحاب حق، صحيح أننا ضعفاء
عسكرياً أمام عدو مدجج، لكن هذه هي معادلة التاريخ: الضعفاء الذين يقعون تحت
الاحتلال يقاومون ويقاومون ويدفعون ثمناً باهظاً ثم ينتصرون ونحن سنستمر في
المقاومة، والمقاومة ستتصاعد وستبتكر وسائل جديدة؛ فابتكار المادة الجديدة التي
استعملت في العملية الأخيرة أدى إلى قتل عشرين شخصاً. وبدون شك فإن
استمرار المقاومة سيؤدي إلى المزيد من الابتكارات الموجعة للعدو الصهيوني،
يجب ألا يعتقدوا أن الاحتلال درب مفروش بالورود وإنما بالقنابل. ولن تكون
المقاومة بلا ثمن، بل ستدفع ثمناً باهظاً في طريقها، ولكنها الطريق الوحيدة التي
ستصل بنا إلى حقوقنا المشروعة، وهذه المقاومة ستوقظ أمتنا العربية من سباتها،
وإذا حدثت هذه اليقظة فستؤدي إلى خطر داهم على العدو الذي يسخر من أمة
عددها مليار وثلاثمائة مليون مسلم ويغتصب أرضها، نحن دفعنا ثمناً ليس فقط من
أجل قتل العدو وإيلامه إنما أيضاً من أجل إيقاظ الأمة العربية والإسلامية لتقف على
أقدامها من جديد وتدافع عن أرضها المغتصبة وكرامتها وحضارتها.
إن مقاومة الشعوب لا تنتهي في أشهر، فالاتحاد السوفييتي تكوَّن وانهار في
سبعين سنة ويعتبر أنه انهار وهو في سن الطفولة ونحن اليوم لا طريق أمامنا سوى
استمرار المقاومة، وإلا فسنصحو بعد عشرين سنة ونقول: لنبدأ من جديد.
[عبد العزيز الرنتيسي، مجلة الوسط، العدد: (489) ]
سلاح إلهي
ينتاب الخوف والقلق الإسرائيليين ويغلف حياتهم الآن بالهواجس والاكتئاب
بسبب كثرة العمليات الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون لإجبار قوات الاحتلال
الإسرائيلي على الانسحاب من أراضيهم.
وتقول إحدى الإسرائيليات إنها تقوم بعد نهوضها من الفراش بفتح النافذة للتأكد
من عدم وقوع انفجار وأنها تشعر بالخوف من ركوب الحافلة، وحين تستقلها تجلس
فيها وعيناها تدوران حولها لترى ما إذا كان هناك شخص ما يحمل حقيبة كبيرة،
وفي المحصلة تقول إنها لا تشعر بالرغبة في الخروج من المنزل وتفضل الجلوس
داخله. كما تنتاب الحيرة طالبة أخرى حول أي من خطوط المواصلات أفضل من
الناحية الأمنية حتى لا أعود للمنزل دون أيد أو رجل، نحن نشعر بأننا داخل نفق
مظلم، لقد أصبحنا أسرى دواخلنا في انتظار الهجوم القادم، ونفضل البقاء في
أماكننا دون التطلع نحو شيء جديد.
ويقول غسان الخطيب مدير مركز القدس للإعلام والاتصالات: إن العمليات
الاستشهادية داخل الأراضي المحتلة تهدف إلى بث القلق والخوف في نفوس
الإسرائيليين حيث إنها تندرج في إطار رحلة مقاومة طويلة الأمد ترمي في ختام
المطاف إلى هزيمة إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وترك انطباع لدى
الإسرائيليين بأن عليهم دفع الثمن غالياً في حالة عدم السعي إلى إقامة السلام.
[جريدة الاتحاد، العدد: (9465) ]
الحياد الأمريكي
قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية إن وزارة الخارجية الأمريكية
أقرت عقداً يقدم إمدادات نقل، وإيواء قيمتها ثلاثة ملايين دولار للمعارضة
السودانية.
ونقلت الصحيفة عن مصادر حكومية على دراية بالترتيبات قولها إنه في إطار
عقد مع شركة دينكورب للمقاولات الدفاعية ستقدم إدارة الرئيس الأمريكي جورج
بوش التمويل اللازم لإقامة المكاتب ومحطات الإذاعة وتدريب أعضاء التجمع
الوطني الديمقراطي وهو تحالف بين أحزاب المعارضة الشمالية، وحركة قرنق
التي تقاتل في الجنوب.
وأبلغت المصادر الصحيفة بأن هدف الإدارة الأمريكية هو تقوية موقف
التجمع في مواجهة الحكومة السودانية في الخرطوم، وذكرت الصحيفة أن إدارة
الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وافقت على البرنامج الذي سيتكلف ثلاثة
ملايين دولار، وأنه لا علاقة له بمساعدات أخرى قيمتها عشرة ملايين دولار وافق
الكونجرس العام الماضي على تقديمها كمساعدات للنقل والإيواء للجيش الشعبي
لتحرير السودان، وهو أكبر الميليشيات المسلحة التي تقاتل قوات الحكومة
السودانية منذ عام 1983م بزعامة جون قرنق.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (26/5/2001م]
أبناء الشيوعية
يعاني كل الأطفال الروس تقريباً في سن انتهاء حياتهم المدرسية من مرض
مزمن أو أكثر، بينما يتجه كثيرون نحو الإدمان على الكحول طبقاً لتقرير نشرته
وزارة الصحة الروسية. وقالت الدراسة إن طفلاً واحداً من كل عشرة يمكن اعتباره
يتمتع بصحة جيدة، وذلك من بين الأطفال تحت سن السابعة عشرة.
وحسب التقرير الذي أعد لمناسبة يوم الطفل العالمي، فإن الاضطرابات
العقلية بين الأطفال والمراهقين زادت بنسبة 25% خلال السنين الخمس الأخيرة.
ويعيش أكثر من مليونين ونصف المليون طفل تخلى عنهم آباؤهم الذين لم
يعودوا قادرين على تربيتهم، ومن بين مئة ألف طفل، يسجل سبعمائة وستون
كمتعاطين للكحول أو المخدرات، وتظهر الدراسة البلاد بعد عشر سنوات من بدء
الإصلاحات الاقتصادية غير قادرة على رعاية مواطنيها.
موقع هيئة الإذاعة البريطانية
http://bbcarabic.com
رسالة إلى الدعاة
أكدت دراسة أعدتها شركة بارنا لاستطلاعات الرأي في ولاية كاليفورنيا
الأمريكية تزايد عدد مستخدمي الإنترنت، لأغراض دينية أو روحية، حيث إن 8%
من البالغين، و12 % من المراهقين في أمريكا يستخدمونه لهذا الغرض، هذا
بالإضافة إلى 2% ممن شملهم الاستطلاع يستخدمونه كبديل عن الذهاب إلى الكنيسة
كما أشار 66% من هؤلاء أنهم يشتركون في ممارسة بعض الأنشطة الدينية عبر
الإنترنت. ومن بين الأنشطة التي اعتبروها أكثر جاذبية، الاستماع إلى دروس
دينية وأداء صلوات عبر الإنترنت، وشراء منتجات ذات طابع ديني، وتتنبأ
الشركة بزيادة هذه النسب خلال السنوات العشر القادمة ليمارس 10% من سكان
الكرة الأرضية أنشطتهم الدينية عبر الإنترنت.
[مجلة الأهرام العربي، العدد: (219) ]
تسويق التسوية
في رأي بشار الأسد ليس ممكناً أن توقع بلاده قبل أن يصل الفلسطينيون إلى
حل، وهذه مشكلة عويصة، فمن يضمن أن هناك حلاً للموضوع الفلسطيني في
عشر سنين مقبلة؟ ! ماذا لو أن الرئيس الراحل أنور السادات قال الشيء نفسه في
عام 1979م عندما عُرض عليه استرداد كل ما احتل من أرض بما في ذلك بترول
سيناء الثمين وقناة السويس المهمة استراتيجياً ومالياً والأرض المحتلة في شبه
الجزيرة الضخمة؟
هل كان ضرورياً أن ينتظر المصريون إلى عام 2002م مثلاً حتى يصبح
مناسباً أن يوقعوا على سلام ويستردوا سيناء؟ ولا يعقل أن يلوموا سورية، وهي
الصامدة كل هذه السنين الطويلة، لو شاءت أن توقع على اتفاق عادل وإن لم يكن
شاملاً، فأبو عمار نفسه وقع على اتفاق سلام في أوسلو.
ومع تقديري لموقف دمشق، فإن الامتناع السوري لا يفيد الفلسطينيين كثيراً؛
لأن الفلسطينيين أخطؤوا عندما رفضوا اقتراح السوريين بربط المسارين، بعد
إغلاق المسار اللبناني. والسبب أنه كان بإمكان الفلسطينيين استخدام الورقة
السورية للحصول من الإسرائيليين على عرض أفضل. لكن العكس ليس صحيحاً،
أعني أنه لم يعد للسوريين شيء آخر يطلبونه من الإسرائيليين، وليس عند
الفلسطينيين شيء يمنحونه سوى شرعية المشاركة ومباركة أي اتفاق مقبل. فهو
مشروع زواج مناسب لأن سورية عملياً وعدت بما تريد، وما تبقى هو حبر القلم
وستوقع في وقت ما بـ أو بدون الفلسطينيين. لا جدال في أن ربط المسار
الفلسطيني سيكون لصالح الثاني.
[عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط، جريدة الشرق
الأوسط، العدد: (8237) ]
بعض عقاب
يتهافت الإسرائيليون على المهدئات ومضادات الاكتئاب، ويزداد ترددهم على
عيادات الأطباء النفسانيين على ما كان عليه الأمر قبل الانتفاضة التي اندلعت في
28/9/2000م. ويؤكد الطبيب عومير بورات من شركة سوبر فارم التي تملك
عدداً من الصيدليات أن الوضع ملموس في صيدلياتنا التي سجلت زيادة كبيرة في
المبيعات حتى إننا نعجز أحياناً عن تلبية الطلبات على المهدئات. وفي القدس حيث
يرتفع التوتر الأمني سجلت شركة سوبر فارم زيادة بنسبة 100% في مبيعات
المهدئات بالنسبة للعام الماضي في حين تراوحت الزيادة في المناطق الأخرى ما بين
35، 50%.
أما صيدليات نيوفارم المنافسة فسجلت زيادة بنسبة 30% في المبيعات الأدوية
تبعاً لوصفة طبية، لا سيما الشبيهة بدواء بروزاك الذي يستخدم كمهدئ ومضاد
للاكتئاب. وتنتشر حالياً الإعلانات الخاصة بهذه الأدوية على الطرق الرئيسية.
وتقول إن الذين يطلبون المساعدة يرون في الهجمات كوارث قابلة للتكرار تدفعهم
إلى فقدان السيطرة والأمان. وتفرد الصحف صفحات لتحليل الاعتداءات نفسياً،
وتستقبل الإذاعات طيلة النهار ناجين وشهوداً أو أقرباء أو حتى مستمعين خائفين
توصلهم بطبيب نفساني على الهواء، ويؤكد الأطباء النفسانيون أن تقليد الحداد
اليهودي الذي يستمر سبعة أيام (الشيفا) تستقبل خلالها العائلة المعزين من الأقارب
يلعب دوراً إيجابياً في مساعدتها على تخطي الأزمة. وقال طبيب نفسي مؤخراً في
حديث للإذاعة أن الشيفا تتيح لأهل الفقيد البكاء وإفراغ الشعور بالخسارة بمساعدة
الأقارب والأصدقاء قبل العودة إلى الحياة اليومية رغم المعاناة والذكريات.
[جريدة الاتحاد، العدد: (9477) ]
انظروا إلى هولندا! !
1 - أثار قرار «فان هوف» سكرتير الدولة للدفاع بحظر ارتداء الجنود
للأقراط وأنواع الحلي الذهبية كافة، أثار موجة عارمة من الغضب والتذمر بين
أفراد الجيش، وهددت أعداد كبيرة منهم بالاستقالة وترك الخدمة نظير عدم
التضحية بخلع ما يرتدونه من حلي؛ حيث يعتبر نظام التجنيد في هولندا طواعية
وغير إجباري أو ملزم للشباب، الأمر الذي بات يهدد أكثر من نصف الجنود
الهولنديين بالخروج من الخدمة حال تنفيذ تهديداتهم.
وعلى الرغم من أن قرار سكرتير الدولة للدفاع قد استنثى خاتم الزواج من
القرار، ليشمل الحظر الأقراط التي يرتديها نسبة كبيرة من الجنود بآذانهم على
السواء بجانب المجندات، وكذلك الأساور الذهبية والسلاسل والخواتم، إضافة إلى
تزيين مناطق غريبة في وجوههم وأجسادهم بوضع أقراط في الجوانب والأنف
والشفاه وبجلد البطن وغيرها.
[جريدة الوطن السعودية، العدد: (233) ]
2 - أعلن رئيس مجلس النواب بالبرلمان الهولندي السماح للنواب تبادل
السب والشتائم وتسجيلها في محاضر الجلسات الرسمية، على أن يتم الاحتفاظ بها
واطلاع المواطنين على الألفاظ النابية التي يتفوه بها ممثلو الشعب. وأضاف أنه
من حق الجماهير الحالية والأجيال القادمة معرفة كيفية وأساليب الممارسات
الديمقراطية حتى لو كانت خارجة عن إطار الآداب العامة المتفق عليها، كما أنه
اعتباراً من الآن فصاعداً لن يستخدم رئيس مجلس النواب الهولندي حقه القانوني في
منع تسجيل الشتائم، وكذلك إتاحة الفرصة لمحطات الإرسال الإذاعي والبث
التلفزيوني في نقل جلسات البرلمان كاملة دون قيود.
[جريدة البيان الإماراتية، العدد: (7664) ]
الإنسانية الغربية
تكشفت أخيراً فضيحة جديدة حول استخدام البشر في التجارب النووية، حيث
ذكرت صحيفة ساوث تشاينا مورننج التي تصدر في هونج كونج أن العلماء
البريطانيين طلبوا في الفترة من الخمسينيات إلى السبعينيات الحصول على قطع
آدمية من جثث الأطفال من هونج كونج، لإجراء تجارب نووية عليها. وذكرت
الصحيفة أن البريطانيين والأمريكيين استخدموا القطع الآدمية لإجراء اختبار لتأثير
الغبار النووي والإشعاعي الناتج عن التجارب النووية عليها. وأضافت الصحيفة أن
المسؤولين في هونج كونج وافقوا على استخدام جثث الأطفال المتوفين في إجراء
التجارب دون موافقة أهاليهم، وتم إرسال نحو 6 آلاف جثة رضيع من أستراليا
وكندا وهونج كونج وأمريكا الجنوبية، إلى الولايات المتحدة وبريطانيا، لإجراء
التجارب عليها على مدى 15 عاماً.
[جريدة الأهرام، العدد: (41830) ]
اللهم انصرهم
في تصريح للقائد الروسي في شمال الشيشان ذكر أن القتلى وصل عددهم إلى
أحد عشر ألف جندي روسي وهذا في عام ألفين، وقد مضى الآن على هذه
الإحصائية عام، وأتوقع أن تكون زادت إلى عشرين ألف، وهناك مسألة أثارت
ضجة كبيرة في البرلمان الروسي في كثرة الجرحى والمعاقين من الجنود الروس
والذي يصل اليوم عددهم إلى سبعين ألف جندي من جراء الحرب في الشيشان
والجرحى مشاكلهم أكبر من القتلى. فهذه إحصائيات وتقارير عسكرية تخرج من
روسيا؛ فقتلاهم وجرحاهم كثيرون جداً بسبب كثرة عددهم، أما بالنسبة للآليات
فهي كثيرة جداً، فكل يوم يدمر ما بين ثلاث إلى خمس آليات والحساب على من
يقرأ.
القائد خطاب، موقع صوت القوقاز
www.qoqaz.com
أصحاب اليمين.. هم أصحاب الشمال! !
على طريق النازيين الجدد في ألمانيا والمتطرف اليميني الفرنسي جان ماري
لوبان وصعود الحزب اليميني إلى السلطة في النمسا، يعود بيرلسكوني اليميني
المتطرف إلى الواجهة في إيطاليا خلال الانتخابات التي جرت أخيراً، ممثلاً للتيار
الصاعد في أوروبا منذ بداية التسعينيات، مقلداً التجربة التاتشرية في بريطانيا
الثمانينيات عندما وصلت ابنة البقال مارجريت تاتشر إلى داوننج ستريت في
بريطانيا. وبانتخابات بيرلسكوني المتطرف الذي لا يخفي عنصريته ضد الأجانب
في إيطاليا، ورفعه شعار تطهير أوروبا من غير الأوروبيين خاصة العرب
والمسلمين المقيمين في إيطاليا، وبرغم أن بعض المهاجرين العرب منذ عقود
طويلة رشحوا أنفسهم للانتخابات لكسر حدة العنصرية المتنامية، إلا أن هذا لم
يجعل الإيطاليين يغيرون آراءهم ولا ينتخبون بيرلسكوني، وهو ما رحبت به
أمريكا، رغم أنه يمثل طريق موسوليني إبان الحرب العالمية الثانية، لأن
بيرلسكوني سوف يعيد القواعد الأمريكية إلى إيطاليا، بعد أن كانت أحزاب اليسار
قد أخرجتها من قبل، على جانب آخر، أعلن بيرلسكوني أنه لن يلتزم الحياد في
قضايا الشرق الأوسط وسينحاز إلى إسرائيل ضد العرب، وهو ما سيفقد إيطاليا
ميزة الحياد التي اتسمت بها في الصراع العربي الإسرائيلي، وفي هذا الإطار كان
بيرلسكوني قد اختار عدداً من الخبراء اليهود في حملة دعايته للانتخابات، وهم من
أوصلوه إلى رئاسة الوزارة. وقد أدهش المراقبين أن ينتخب الشعب الإيطالي
المتطرف بيرلسكوني خاصة أنه الشعب نفسه الذي أسقطه قبل سبع سنوات بعد
فضيحة تورطه في قضايا رشوة وفساد، وعدم إخفائه نزعته العنصرية ضد كل ما
هو أجنبي، وبعض المراقبين عزا فوزه إلى أن الإيطاليين رغبوا في تغيير
حكومات اليسار غير المستقرة، واختيار طريق اليمين المتصاعد في أوروبا،
خاصة أن اقتصاد إيطاليا أقل من مثيلاتها، في الدول الأوروبية الأخرى.
[مجلة الأهام العربي، العدد: (217) ]
الطبع التركي
مرة أخرى تؤكد تركيا أن التطبع لم يغلب الطبع يوماً، ومرة أخرى تحظر
حزباً سياسياً أثبتت آخر انتخابات برلمانية أنه ثالث قوة سياسية في البلاد، وأن
تياره قادر على إيصال مائة ونائبين إلى البرلمان بتأييد الناخب التركي، وقراره
الحر.
حزب «الفضيلة» الذي حظرت أنقرة نشاطاته، هو الحزب السياسي الثالث
والعشرون الذي يلقى هذا المصير في تركيا بقرار من المحكمة الدستورية منذ
تأسيس هذه المحكمة عام 1962م، الأمر الذي يعني بعملية حسابية بسيطة أن هذه
المحكمة أتمت على مدى الأربعين سنة الماضية مهمة إزالة 23 حزباً تركياً من
الوجود الشرعي. أما الذريعة، فلم تكن يوماً عقبة كأداء في وجه مهمتها
«التنظيفية» : مرة تلغي أحزاباً لأن توجهاتها شيوعية، ومرة ثانية لأنها
محابية للأكراد، ومرة لأنها تبيت مشاعر إسلامية تهدد نظام عراب الدولة العلماني
كمال أتاتورك، وكأن حظر الأحزاب السياسية هوايتها لا مسؤوليتها. تعددت
الأسباب والموت واحد بسيف المحكمة الدستورية.
[وليد أبي مرشد، جريدة الشرق الأوسط، العدد: (8244) ]
هدف السيدة الأولى! !
س: هل تنظرين إلى نفسك كناشطة في حركة المساواة من وجهة النظر
الغربية؟
ج: لا؛ لأن ذلك يعني أنني أريد أن أصبح رأسمالية أو إشتراكية، فأنا
ناشطة في حركة المساواة بين الجنسين وفقاً لأيديولوجية الدولة القائمة على أساس،
بمعنى أن نشاطي وعملي قائمان على أساس معتقداتي كمسلمة، وعلى أساس قبول
الأديان الأخرى الموجودة في إندونيسيا علاوة على ذلك، أناضل من أجل
الديمقراطية والحقوق المتساوية للجميع. هدفي هو المساواة بين الرجال والنساء.
[نوريا واحد، زوجة الرئيس الإندونيسي، جريدة الشرق الأوسط، العدد:
(8208) ](165/109)